عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - عبدالمنعم الاعسم

صفحات: [1] 2
1
المنبر الحر / حرب اليمن.. قف!
« في: 11:26 01/03/2015  »

حرب اليمن.. قف!

* عبدالمنعم الاعسم


بوجيز الكلام، ثمة في اليمن حرب اهلية كلاسيكية: الكل يحارب الكل.. الحوثيون يحاربون الجماعة الارهابية المسلحة "القاعدة" وكلاهما يحاربان الدولة التي تحاربهما بوسائل الاستقواء المستعارة من وراء الحدود، لكن الشيء الآخر الخطير الذي تطرحه الحرب اليمنية يتعلق بالحرب نفسها كوسيلة لحل الخلافات، او وسيلة للوصول الى السلطة، في وقت دخل العصر مرحلة بدت كما لو انها فتحت الافاق نحو الطريق السلمي السلمي البديل للعنف، الاحتجاجات. العصيان المدني. المفاوضات. التعبئة الشعبية، كمعبر آمن الى التغيير.
واللافت هنا بان الازمات اليمنية الدورية تنطلق من نقطة غامضة ثم لا تلبث ان تشغل العالم بوصفها قدرا أو كابوسا، لكأن الهدهد لا يزال يخاطب سليمان حتى اليوم "وجئتك من سبأ بخبر يقين" ومعلوم ان فريدريك انجلز سجل ــ عن اليمن ــ منذ ما يزيد على مائة وخمسين عاما في رسالة الى كارل ماركس انه كان "يكفي ان تنشب حرب واحدة حتى يتم اخلاء البلد من سكانه" ووصف ما يحدث من اضطرابات غامضة هناك بالقول "ان تدميرا مباشرا وعنيفا يجري الى درجة لا يمكن تفسيره الا بالغزو الحبشي".
لا جديد في القول ان الحرب اليمنية الجديدة "الكل يحارب الكل" كانت قد دشنت طريقها على نحو واضح في سوريا، ما يحمل المحللون على الاعتقاد ان مثل هذه الحروب " القذرة والمعقدة" ستعم مناطق كثيرة من العالم التي تعاني من اثار  اللاعدالة في نظام العولمة الجديد، والمهم، ان اسباب اندلاع الحروب لا تزال، كما في السابق، موضع دراسة واختلاف، وهناك من يحاول التقليل من أثر البعد الاجتماعي الداخلي لها، مع انه يتجدد في اشكال كثيرة.
في غضون ذلك اكتشف الكثيرون وصفة "سحرية" لتأويل حروب غير عادلة، لا أخلاقية، أو لا داعي لها، وفي الغالب تكون النزعات المغامِرة واجهة للعنجهية والطموحات الشخصية المفرطة والمريضة، لأنها تهيء الاسباب الواهية للكثير من الحروب. كاليغولا، كان يقول: "أريد الحصول على القمر. أغرق السماء في البحر. أمزج الجمال بالقبح. أصدر مرسوما بتعيين حصاني رئيسا لمجلس الشيوخ" أما صدام حسين فانه عدّ الحرب "كونه" يثبت خلالها قوته وتفوقه، وأول اسم تمثّل فيه، كمحارب، هو "محمد الفاتح" الذي نجح في فتح القسطنطينية، لكن التمثيل التجسيدي لصدام وُجد، بوضح، في المركيز دي ساد (أبو السادية) الذي قال: كي يكون المرء محاربا فتاكا، ولا أخلاقيا، فان عليه ليس الانغماس في فعل الشر، بل عدم السماح لنفسه بارتكاب فضيلة واحدة"، وثمة الكثير مَن يتذكر كيف خرج الدكتاتور بعد هزيمته بحرب الكويت وهو يستعرض قوته في احتفال جماهيري معتمرا فوطة سوداء عليها قبعة كالتي يعتمرها رعاة البقر ممسكا بندقيته، فيطلق الرصاص مزهوا بكسب الحرب التي كانت كارثة للبلاد، في واقع الحال.
الاقوال في الحرب كثيرة، واطرفها قول جورج ارويل بان "أ سرع طريقة لإنهاء الحرب هي أن تخسرها" أو قول ويلز " في الحرب يُكثر اللصوص, وفي السلام يشنقون" وحكمة أجاثا كريستي القائلة "الانتصار في الحرب مشؤوم مثله مثل خسارتها" وقول فولتير " ليس القوي من يكسب الحرب دائما، إنما الضعيف من يخسر السلام دائما" والشاعر بول فاليري في قوله "الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض" وحكمة جون مل ستيوارت "الحرب شيء سيئ، لكن الشعور بأن لا شيء يستحق القتال من أجله هو أسوأ بكثير" اما اينشتاين فقد كان يقول "لا أعلم بأي سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكن سلاح الرابعة سيكون العصي والحجارة".
وفي تاريخ هذه المنطقة ثمة سجل ضخم للحروب. اسبابها، ظروفها ونتائجها، وتعد بلاد اليمن بحد ذاتها ارشيفا لحروب في عمق التاريخ حتى ليبدو تاريخ اليمن كسلسلة من الحروب لتغيير السلاطين والحكام من بلقيس ملكة سبأ حتى علي عبدالله صالح، فمن الكثير من المدونات نعلم ان اليمن لم تنعم باستقرار الا ونزلت عليها نازلة الفتن، ولم تنصرف الى البناء الا وأغارت عليها الفيضانات والاعاصير والدوامات، وكانت الدورات الكونية قد منـّت عليها بجنتين "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم"
وفي كتابه رحلة اثرية الى اليمن رصد الدكتور أحمد فخري امجاد اليمنيين اذ فرضوا سيطرتهم على خط القوافل التجارية من الجوف الى الشام، كما انهم فرضوا ثقافتهم وابداعاتهم الصناعية والحياتية في زمن كانت الامم تغط في ظلام دامس الامر الذي عبرت عنه آثار مدن قرنو وقتبانو ووائل حتى القرن العاشر قبل الميلاد، حيث شيدت مملكة سبأ العريقة التي عرفت اعرق ديمقراطية في مجالس المشورة والجدل، وتمثل نقوشها الآن مفاتيح معارف للدخول الى مغاليق تاريخ الشرق وفصوله الأكثر مثاراً للجدل حيث انهارت المملكة اليمانية الاولى تحت سنابك خيول الممالك المجاورة، ورحل ملوك وجاء ملوك غيرهم.
وليس مبالغة في اجماع المؤرخين على ان الظاهرة السبئية من حيث الصعود الى المجد والهبوط الى الخراب استمرت في حقب التاريخ اليمني باشكال مختلفة حتى تحولت هذه البلاد العريقة الى حكمة بالغة الدلالة، فثمة لديها جواب لأي سؤال.. ولديها دواء لكل داء، ولديها حرب لكل سبب.
هذا في الماضي.. أما في الحاضر.. غداة القرن الواحد والعشرين فقد خاضت اليمن ثلاثة حروب أهلية تحت شعار توحيد الأرض وانهاء التشطير.. وحربا رابعة بلا شعارات محددة، عناوينها الارهاب واختطاف السياح وحرية التعبير وانهاء الامبراطوريات القبائلية وترويض الغزال الجنوبي لضمه الى العائلة اليمنية التي طالما ارهقها الحنين الى مملكة سبأ المهيبة الجانب، ثم دخلت حربها الخامسة: جمهورية وراثية، وذلك قبل ان تندلع الحرب السادسة قبل ثلاثة اعوام مع اندلاع حروب الربيع العربي التي شهدتها شوارع المدن  العربية الكبرى، وقد اصبح واضحا بان مطالب  اليمنيين  لم تبتعد عن تلك الصبوات النائمة منذ آلاف السنين: دولة تنعم بالرفاه والعدالة.
لم تكن تلك الحروب اليمنية، والحرب الدائرة الآن، بالنتيجة، غير سيناريوهات لمستقبل يسهل فيه تعريف معنى الحرب.. كسياسة قذرة بوسائل اخرى، اكثر قذارة.
********
  "يمكنك الذهاب إلى مدى بعيد بابتسامة، ويمكنك الذهاب إلى مدى أبعد بكثير بابتسامة ومسدس".
آل كوبوني- رجل العصابات الامريكي



2
المنبر الحر / تعالوا نتمنى
« في: 16:35 05/01/2015  »

تعالوا نتمنى

*عبدالمنعم الاعسم


 في مطلع كل عام نزاول لعبة التمنيات، كجرعة عقار نستقوي بها على حموضة الاحداث ونكد الايام، ثم ندسها في حشوة اضطراباتنا لنجعل منها اسئلة صالحة لحسن الظن، والى احتمالات لا تتعارض مع منطق الاشياء، والى تهانٍ نبيلة ونظيفة مثل دمع العين.
 وفي كل عام، منذ نيف والفين، نعيد قراءة حكمة الطفل النبي، ونشوف منها احوالنا وامتعتنا وسجلاتنا، ونستشرف منها طالعنا وايامنا المقبلة، فنتساءل أي عالم عجيب حل  فينا؟ واية زلازل عصفت بنا؟ وماذا ينتظرنا من عالم واعوام؟ ثم نتواكل على غريزة البقاء بمواجهة تحديات الفناء والردة لنعطي المسيح بعض دين في رقابنا يوم حضنا على المسرات، وان يكون خبزنا كفافا "وعلى الارض السلام".
 وهكذا ارتبطت هذه المناسبة، بالتمنيات زالمستقبل، فلو تأملنا دلالة ان يتمنى الانسان خيرا فاننا سنجد هناك مشغولية في المستقبل، فليس ثمة امنية موضوعة على توقيت الماضي الذي استنفذ اماني كثيرة كنا قد اطلقناها عشية اعوام سقطت من التقويم، عدا عن ان في ماضينا، القريب، روائح غير طيبة.
 تتخذ الامنيات شكل جرعة من عقار مسكّن، إذ نقف على صفيح ساخن، بين ان نستأنف مشوارنا على الخارطة، او ان نستقيل منها الى شراذم، فيما نحن متعددون في الانتماء والعقائد والاديان والملل والمراتب والاجور، وموحدون في الجغرافيا وفصيلة الدم وحنفيات الماء. نقبل بذلك لنربح انفسنا، او نرفضه لنخسر الحياة.
 العام 2015سيكون عام مخاضات عسيرة.. اليست هذه قراءة بلاغية إخبارية مكررة؟ فهل لهذه المخاضات علائم؟ يقولون، نعم، ثمة مؤشرات مسبقة لاحداث وتحولات في تقاويم هذا العام إذ  تسبق بلوغ الاجنة أجَلها إذ بعلامة الانقباض على الرحم والتمرد على مساحته وقدره، ويقولون، لا مفر من الاستعداد لاستقبال الوليد، والسعي الى تغيير معدات المشهد وتجديد مضامينه، وبخلاف ذلك-كما يقولون- فاننا حيال مصير اسود كانت قد سبقتنا اليه امم نسيها التاريخ المكتوب.
 تمنياتنا تتسع الى اغصان زيتون كثيرة، ورطب، لزوم ان نجددها ونتجدد فيها، بوصفها العلامة الدالة على اننا مخلوقات مسالمة، او على وجه الدقة، اننا ولدنا مسالمين قبل ان نتوزع الى اقدار متناحرة: ابرياء وجناة، مثلما توزع اصحاب يسوع الى ملائكة وشريرين .
********
"الى الجحيم.. ألمْ تشبعوا تصفيقا بعد؟".
محمد الماغوط


3

المصالحة.. اشكاليتان على الطاولة*

عبدالمنعم الاعسم
 
دائما يجري التأكيد، عند الحديث عن المصالحة الوطنية، على ضرورة اعتماد مسارين لطيّ صفحة الاحتقانات والمواجهات الاجتماعية والسياسية بين العراقيين(جماعات وأفراد) وهما، اولا، عقد مؤتمر مسبوق بلقاءات موسعة واجتماعات ومشاورات بين ممثلي الفئات السياسية والدينية والعشائرية لتقريب وجهات النظر المتنافرة حيال شكل وهوية وإداء النظام السياسي، وثانيا، اجراء وتكييف وتعديل التشريعات الدستورية والقوانين المعلنة لاستيعاب الشكاوى والمخاوف والتظلمات المختلفة المسجَلة في حافظة السنوات العشر الماضيات.
  الاشكالية الاولى تتمثل في التقليل من شأن المسار الثالث، الاهم، والموصول بمعالجة إنعدام ثقة الملايين العراقية بسلامة النيات  المعلنة، إذْ يتطلب تعبئة مجتمعية استباقية لخيار المصالحة، بوصفها المَعْبَر الى دولة المواطنة والسلم الاهلي، وذلك عبر شبكات الاعلام والمنتديات ودور العلم والتعليم والمساجد والوحدات العسكرية والهيئات والجمعيات الثقافية، وقبل هذا في داخل الاحزاب والمكونات والطوائف، في حملة منهجية منظمة تنأى عن الشعارات والخُطب والاهابات والاعتبارات السياسية والفئوية والشخصية، وتفتح البصائر والعقول على الاعتراضات والتحفظات والخصومات، وتشجع على صياغة الافكار والتعاملات التي تمهد الى المصالحة الناجزة، وبما يساعد على تبديد الصورة السابقة، الاستهلاكية، لمؤتمرات المصالحة الباذخة، والعقيمة.
  اما الاشكالية الثانية، فهي الاكثر تعقيدا، وتتصل بطبيعة وشكل وأحوال التحول السياسي الاجتماعي الذي يخضع لتجاذبات واعمال عنف واضطراب الرؤى ولم يستقر حتى الآن على مسار واضح، وبخاصة ما تعلق منه بالجانب الامني حيث تخوض الدولة حربا شاملة ضد العصيان الارهابي المسلح الذي يبسط سلطته الاجرامية على اراض شاسعة من البلاد، والسؤال التفصيلي هنا: كيف يمكن تحقيق المصالحة قبل ان تُهزم عصابات داعش وتهدأ اصوات المدافع والتفجيرات واعمال القتل اليومية؟ اخذا بالاعتبار ان المصالحة لم تتحقق في جنوب افريقيا قبل ان يتم قبر نظام الابارثيد، ولم تتحقق في تشيلي قبل اسقاط فاشية بينوشيت، اوفي الارجنتين قبل الانتقال الى الاستقرار المجتمعي بعد سقوط دكتاتورية خورخي فيديلا ، وحتى المصالحة اللبنانية وجدت ارضية لها بعد ان سكتت مدافع الحرب الاهلية غداة اتفاق الطائف العام 1989
 بعد هذا، ثمة تشوهات سياسية رافقت وترافق الدعوة الى المصالحة من بينها القول بان الخصومة المجتمعية في العراق (الطائفية والفئوية) ولدت بعد العام 2003 لكن الحقيقة ان عهد التغيير ورث عن نظام صدام حسين ملفا زاخرا بسياسات التنكيل والتمييز واثارة الكراهية والمخاوف بين السكان، وزادته، وكرسته، الطريقة التي اعتمدها الاحتلال في لبننة السلطة (المحاصصة) فيما ساهم الخطاب (والسلوك)  الطائفي للاحزاب المتنفذة، في ترويج مفاهيم مشوشة عن المصالحة الوطنية، فهي مرة مصالحة مع البعثيين، واخرى مصالحة بين العشائر العراقية، وثالثة مصالحة بين الشيعة والسنة، ورابعة مصالحة مع معارضي الحكومة المقيمين في الدول المجاورة وخامسة مصالحة بين عراقيي الداخل وعراقيي الخارج، وسادسة مصالحة مع الجماعات التي تحمل السلاح، وكلها انتهت الى ولائم وشبهات الرشوة والدعاية الانتخابية، على الرغم من العبارات والشعارات والتعهدات التي خرجت بها.. والصور التذكارية التي تداولتها الكاميرات.
******
"لن تجد قوس قزح ما دمت تنظر إلى الأسفل".
شارلي شابلن



4

عيب.. يا سعادة الوزير


*عبدالمنعم الاعسم

 قالت الاعلامية التونسية الاسلامية، كوثر بشراوي، في لقاء تلفزيوني، ما كنت ساقوله، ان شركائها في القضية خذلوها بعد ان اعتلوا الكرسي، فصاروا يتنكرون لكل الصداقات ولكافة اخلاقيات الشراكة، وقالت- ما كنت ساقوله ايضا- انهم خسروها، برغم انها راهنت على جدارتهم، واتضح لها (كما اتضح لي) انها ضيعت عمرا ثمينا في صحبة من لا يستحق ان يوثق بصحبته.
 وكنت قبل سنوات قد كتبت عن سياسي "قريب" ملامة خفيفة بعنوان "أيدناك فخذلتنا" شعورا مني بالخذلان من اصدقاء ينقلبون على اصدقائهم حال جلوسهم على كرسي الوزارة، متوهمين انهم يكبرون على استحقاقات الصداقة وفروضها، فيما هم يتضاءلون في اختصاصات المكانة ورصيد السمعة وقياسات الجاه، ويقبلون-في نهاية الامر- ان يكونوا نموذجا لاولئك الذين جاءتهم الكراسي في غفلة الزمن والاقدار، وجاءهم الجاه في اضطراب الانواء والمعايير.
 هذا لا يخصّ وزيرا بعينه، أو زعيما بذاته، انما هي عاهة ضربت طابورا من وزراء العهد الجديد: يغلقون ابواب مكاتبهم بحراس ومرافقين وابناء عمومة وأصهار ومحازبين لا ترمش لهم عيون، وعندما تريد ان تقابل سيدهم، يدحرجونك بينهم، مثل اية شبهة، ويجرون عليك، بفروسية امنية متغابية، اختبارات اللياقة من حيث اللباس واللغة وسلامة النية ووجاهة طلب اللقاء، ثم يدوّنون رقم هاتفك لكي يبلغونك في ما بعد بالموقف من طلبك الذي كنت قد افضتَ في شرح دواعيه، وابلغتهم ان سعادته يعرفك ولا يجهل حسن مقصدك.
 هذا اذا نجحتَ في اختراق الفتحة الضيقة لبناية الوزارة من بين الالواح الكونكريتية وصف الشرطة ورجال الامن، فان طلبك لمقابلة الوزير سيصطدم بالرد الجاهز بان سعادته لم يصل اليوم الى مكتبه، وفي اليوم الثاني سيقال لك بان الوزير في مهمة خارج الدائرة، وفي اليوم الثالث انه سافر، وبعد اسبوع ستفاجأ من ينصحك بالقول: اخي لا تتعب نفسك، أكتب عريضة بقضيتك ودعها في صندوق الشكاوي.
 اقول، هذا ما حصل لغيري من الاصدقاء والمعارف (وبعضهم كفاءات علمية مهاجرة) ضاعت قضاياهم وحقوقهم وأوراقهم وفرص تعيينهم في شبكات الرشوة والاهمال والبيروقراطية وانعدام الرحمة والانصاف والغيرة، في هذه الوزارة او تلك، فلم يجدوا حلاً إلا بطرق باب الوزير، وبعضهم يعرفونه، وتجمعهم به علاقات عمل أو سياسة أو محن، فيعودوا خائبين.
 كتب لي صديق اعلامي يقول: اتصلت بسعادته على الرقم الذي كنا نتهاتف عليه قبل ان يصبح وزيرا، لطلب اللقاء (15 دقيقة لشأن من اختصاص وزارته ومسؤولية الوزير حصرا) وارسلت له رسالتين على قناة كنا نتواصل عبرها، بل وتركت له على مكتب سكرتيره طلبا للقاء، ولم يكلف نفسا للجواب وكنت سأتفهمه، وحتى للاعتذار وكنت سأقبله.. واختتم الاعلامي رسالته بالقول: آخ من لساني.
*********
"الحقيقة، هي بذاتها، افضل نكتة"
                           برنارد شو


5

المالكي.. تصريحات خارج الصدد

*عبدالمنعم الاعسم

 أقل ما يقال عن التصريحات الاخيرة لرئيس الوزراء السابق، نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي بانها انفعالية، وخارج الصدد، ومُربكة، وذلك في الاصرار على فتح جروح واتهامات وملفات ودفاعات تخص المرحلة السابقة، في محاولة استباقية لتبييض صفحات تلك المرحلة وإلقاء مسؤولية الخطايا والاخفاقات على الآخرين، خلاف ما يُفترض ان يكون خطاب رجل الدولة منسجما مع موجبات التعبئة وتحشيد القوى، كمهمة اولى، لالحاق الهزيمة بالمشروع الارهابي، الخطر المحدق بالبلاد، وحماية وحدة الصف والمواقف حياله.
 فان حديث المالكي حول "مكونات" مسؤولة عن احتلال الموصل وإعفاء ادارة القرار السياسي وكبار العسكريين من ذلك، والاشارة الى "العافية" التي كانت عليها ميزانية الدولة غداة تشكيل الحكومة الجديدة وعدم وجود إهدارات وفساد وسوء انضباط، وعن "رجاحة" الموقف من ملف العلاقات مع الاقليم وشؤون النفط والتصدير والموازنة، ثم، الطعن بسياسة الانفتاح الاقليمي وإطلاقه الريب القديمة ضد دول مجاورة في وقت تجري محاولات ترشيد العلاقات معها، كل ذلك يصلح لوجهات نظر أو تعليقات صحفية عابرة، لا ان تُنسب الى مسؤول مرموق في الدولة.
 لكن المهم، كما يبدو، ان المالكي، يتحسس من اية اشارة الى "اخطاء" الحكومة السابقة، ولا يقبل المساس بتلك السياسات والمواقف التي انتهت الى الخسائر الفادحة في الارواح والثروات والسمعة، وهذا يتعارض مع البرنامج الحكومي الملزم للجميع باعتماد التغيير في السياسات والهياكل، بل ويتعارض مع منطق الاشياء ووظيفة اية حكومة جديدة في تنشيط وتصويب الاداء والتخلص من العقائد والادوات التي أعاقت وتعيق عملية التغيير.
 على ان المشكلة في تصريحات المالكي ليس في افتراقها عن السياسات المعلنة للحكومة وعن فروض التغيير الذي تتطلع اليه الملايين، بل، ايضا،  في منهج اثارة معارك ومخاشنات مع فئات و"مكونات" وشخصيات في ظروف بالغة الحساسية، إذ تلتقطها اصوات من الاطراف الاخرى لتضعها في ماكنة ردود الافعال وطاحونة الاتهامات والشتائم والتعريضات، تتجاوز عما هو شخصي الى ما هو طائفي، بما يقدم خدمة مجانية لعصابات داعش ومشروع الردة والتطرف والعنف، وبما يعيد المشهد الى مشارف المواجهات التي جرب الجميع عبثها ودفع الشعب فواتيرها.
 اقول، قد يجد البعض اسبابا ومبررات وحقوق لدفاع المالكي عن ادارته السابقة، لكن اية اسباب ومبررات وراء تصريحاته التي حملت اعتبارات الشحن الطائفي، كانت قد استُهلكت بما فيه الكفاية.. وحذّر من ايقاظها المحذرون.
*********
"إنَّ أوصلَ الناسِ مَنْ وصَلَ مَنْ قَطَعَهُ".
  الحسين بن علي بن ابي طالب
 


6
تبريد..
على نقطة تماس ساخنة

*عبدالمنعم الاعسم

 الاتفاق المعلن عن لقاء وزير النفط الاتحادي عادل عبدالمهدي ورئيس حكومة اقليم كردستان نيتشرفان بارزاني لجهة حل الخلاف حول واردات نفط، وميزانية، الاقليم خطوة الى تبريد الموقف على نقطة تماس ساخنة ومعقدة، طريقا الى حلحلة جدية على نقاط تماس اخرى، بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان كانت تهدد بأعمدة دخان ومواجهات وحرب مواضع، إذا ما شئنا ان نستخدم اللغة العسكرية الشائعة هذه الايام.
 على نقطة التماس هذه، ونقاط أخرى، لعلعت اصوات كثيرة خارج الانضباط وروح المسؤولية، وأطلقت تهديدات لم تكن لتحصد غير تهديدات مقابلة ومخاوف وتعميق الخندقة واساءة لروابط الشراكة بالوطن الواحد، فضلا عن تدخلات من قوى واطراف ليست وطنية غذّت موقد التوتر بالكثير من الحطب والتأليب والغُل، وبالنتيجة، عادت التوترات والقطيعة وانعدام الثقة بالضرر على الجميع، والاخطر، ان سوء ادارة هذا الملف وتضاعيفة واجواء الافعال وردود الافعال اعطى قوى الارهاب والتكفير والشوفينية فرصة توجيه ضربات خطيرة الى دولة الشراكة ومستقبلها على الخارطة.
 وكان الامر سيزداد تعقيدا، وربما سينجم عن كوارث تحلّ بالجميع، لو استمرت العلاقات بين المركز والاقليم في مسارها المتوتر، على مشارف ما حدث من غزو خطير ومذابح واعمال سبي وتدنيس وتنكيل جماعية ارتكبها العصابات الارهابية، وصارت تهدد الاقليم والعاصمة بغداد بعد ان احتلت مناطق شاسعة من البلاد، وشاءت الكابينة الحكومية الجديدة في بغداد وقيادة الاقليم ان تتداركا المخاطر الجديدة وتفتحا معبرا الى التفاهم بترشيد لغة الخلاف، وإعادة نشاط الجسور والاتصالات المباشرة بين الجانبين، وصار واضحا بان حل المشكلات المستعصية بين المركز والاقليم يتمثل بتقريب الرؤى وتقديم بدائل عن المقترحات والشروط المطروحة، غير المقبولة.
 ويمكن القول ان المبدأ الذي سهل اتفاق عبدالمهدي- البارزاني المستند الى الحوار والبحث في الحلول الوسط المقبولة من الجانبين بصدد آليات تصدير نفط الاقليم يصلح كوصفة لحل بقية الملفات العالقة ذات الصلة بالنصوص والتفسيرات الدستورية وصلاحيات حكومة الاقليم وقضية المناطق المتنازع عليها والشؤون المالية والتعامل مع الثروات وعائداتها، وكلها أشبعت نقاشا وجدلا وقدمت حيالها تصورات ومقترحات، ونقائض، وادخلت في اكثر من مرة في مطابخ الخلافات السياسية والريب التي غذتها، الامر الذي وصل مفترقا حساسا بحيث أصبح كل طرف يعرف هواجس وسقوف الطرف الاخر، والمفترض، ان يكون هذا عاملا ايجابيا لإنهاء الدوامة التي استمرت اكثر من اربعة اعوام، غير ان الافتراض الصحيح وُضع جانبا وحلت محله فروض الهروب من الحل.
 في كل الاحوال، ستسجل خطوة التبريد هذه في رصيد حكومة حيدر العبادي، سوية مع قيادات الاقليم، كونها شقّت واحدة من الطرق غير الآمنة لحلٍ كان يبدو مستحيلا، لتجد نفسها على طرق اكثر اماناً لحلول ممكنة.. وبين ما كان مستحيلاً واصبح ممكناً كانت خسائرنا فادحة.
********
"عجبت لمن يغسل وجهه عدة مرات في النهار، ولا يغسل قلبه مرة واحدة في السنة".
ميخائيل نعيمة

 

7

المؤامرة..
ونظرية المؤامرة

*عبدالمنعم الاعسم


 رفْض نظرية المؤامرة، في الاقل بالنسبة لي، لا يعني الاعتقاد بعدم وجود مؤامرات وراء الكثير من الصراعات، او لا وجود لسياسيين وفئات وقيادات وزعامات دول يتآمرون علينا، وعلى بعضهم البعض، فالمؤامرة وسيلة قديمة لكسر شوكة الخصوم منذ تكون المجتمعات، وفي عمق الموروثات والأخيلة والروايات التاريخية والدينية، اشارات وفيرة الى "المؤامرة": قابيل تآمر لقتل اخيه هابيل. يوليوس قيصر "مسرحية شكسبير صرخ وهو يحتضر: حتى انت يابروتس، شكوى تُردد من تآمر الاقربين.
كما تطورت ادوات تنفيذ المؤامرة من حجر قابيل الى خنجر بروتس، عبر الحربة والسيف والسهم واصابع اليدين والنار والحبال والسكين، ومن التآمر بالسم الى احدث تقنيات القتل والاغتيال واحتلال الدول وإحلال الاقدار. 
المؤامرة في الاصطلاح المدرسي هي "مكيدة" وهى من اصل الفعل "أمَرَ" وتأتى بمعنى التشاور و"الامارة". وأمرَ محمد فلانا بمعني كلّفه بشيء، والقول (القاموسي) انهم تآمروا، يعني انهم تشاوروا حول أحدهم، اي اتفقوا على ايذائه، وفعل الايذاء يعطي للتشاور صفة التآمر، مسبوقة بايحاءات مطَمْئنة للضحية (شخصا أو جماعة) تؤدي به الى الغفلة، وكلما كان الضحية قليل التحسب والحذر واليقظة كان اسهل للوقوع في شباك المؤامرة.
 اما نظرية المؤامرة فهو اصطلاح حديث في علوم السياسة، وقد دخل في الاستخدام منذ العقد الثالث من القرن الماضي على هامش الانشقاق في النظام الدولي بتاسيس الاتحاد السوفيني، وانتشار اعمال الاغتيال السياسي وتراجع الفكر الموضوعي والتحليلي المستقل، وقد اصبح هذا المصطلح منهجا لتفسير الاحداث مع صعود الحرب الباردة، وشمله "قاموس اوكفورد" بالاهتمام فصاغه بالكثير من الحذر بوصفه "محاولة لشرح السبب النهائى لحدث او سلسلة من الاحداث السياسية والاجتماعية او التاريخية على انها اسرار" وغالبا ما يحال الحدث الى عصبة متأمرة.
 الى ذلك، قدمت نظرية المؤامرة (كل حدث وراؤه مؤامرة) خدمات جليلة للذين اختلطت عليهم الامور وصعُب عليهم البحث الصبور الواعي والموضوعي في خلفيات الاحداث، أو الذين ولعوا في توليف الروايات وجمع النتف العابرة من الحقائق لتقديمها كحقائق خافية، كما ساعدت المسؤولين عن الاخفاقات والفشل والنكسات على رفع اللوم عن النفس وإبراء الذمة عنها وإلقاء الخطايا على متآمرين، وفي النتيجة تحولت "نظرية المؤامرة" من رؤيا سياسية لتفسير الاحداث الى مخدر ومثبط للعقول، والى عقار للتعايش مع العجر، باعتبار ان المؤامرة اكبر منّا.. ونحن صغار، لا حول لنا ولا قوة.
********
" إصْبر على كيد الحسودِ فإن صبرَك قاتله".
عبدالله بن المعتز-خليفة عباسي

 

8

إعلام الحكومة..  محامٍ تحت الاختبار

* عبدالمنعم الاعسم

اعني باعلام الحكومة، خطابها اليومي ذات الصلة بالاحداث والحرب ضد تنظيم داعش والموجه لمختلف الفئات والساحات، وليس الخدمة الاعلامية التي تقدمها شبكة الاعلام العراقية، فلهذه حديث آخر، مستقل، ولا يشمل طبعا خُطب وتصريحات رئيس الوزراء، فهي تدخل في باب الخطاب السياسي للكابينة الحكومية الجديدة.. وبمعنى أدق، فان المعالجة هذه تتناول ما يقال عن توجهات اعلامية حكومية جديدة، وما يروّج من بيانات وايضاحات صادرة من المكتب الاعلامي "الجديد" والمواجيز التي تقدمها الجهات الامنية والعسكرية والناطقين عنهما حول آخر مجريات جبهة الحرب.
 يمكن القول، بدءا، بان الاجراء الاداري بتعيين اثنين جُدد من المتحدثين الاعلاميين في مكتب رئيس الوزراء كان سليما من ناحية كفاءة وسمعة الزميلين رافد جبوري وسعد الحديثي، وأيضا بالاستناد الى تصريحات مبكرة لجبوري تفيد بالعزم على بناء إعلام حكومي مهني، واتباع "طريقة مختلفة" في التواصل مع وسائل الإعلام والإعلاميين، والتخلي عما اسماه بـ "الاعلام التعبوي، المشكوك بنجاحه" والمهم هو قوله بان "العراق بلد كبير ومتنوع، وفيه مستويات اجتماعية متفاوتة وبيئات مختلفة تتطلب التواصل معها".
 ويشاء المراقب الموضوعي ان يتوقع حدوث تغيير وانعطافة ملموسة في الاداء الاعلامي للحكومة، وفي مكونات الاعلام المسجل كاعلام للدولة، لا تغييرات طفيفة أو نيات في التغيير، فيما يلاحظ بروز اختلاف في تجهيز الصفة الرسمية للناطقـَين، بين كونهما عن رئيس الوزراء، أم عن مجلس الوزراء، لأنه من الطبيعي بان يكون لكل توصيف وظيفي وصفة وإداء وآليات، كما هو معروف، لكن في جواز استباق الحدث يمكن القول ان تغييرا طفيفا حدث مقارنة مع اعلام الكابينة السابقة للحكومة، موضع الشكوى والنقد، شملَ شيئا من ترشيد اللهجة، والمعلومة، ومحاولات بسيطة في تهذيب الخدمة الاعلامية المتوازنة البعيدة عن المخاشنات الفئوية والشخصية (المتوارثة) وتجانس زوايا النظر والتعقيب، مقابل تحسن في ضبط الخطاب الاعلامي الامني والعسكري الذي توارث منقولات المبالغة وانصاف الحقائق واستعراض القوة الخطابية.
 ويمكن ان يشار، هنا، الى الطريقة الاحترافية والانضباطية التي نقلت الى الرأي العام تصويبا اعلاميا (من المكتب) حول تصريح منسوب لوزير المالية بشأن ميزانية الحشد الشعبي، إذ يتحدث بطريقة تحافظ على هيبة الحكومة وتأكيد التزاماتها ووحدة توجهاتها من دون استطرادات خارج الموضوع، وقبل ذلك، في التعامل مع قضايا الميزانية والنظام الداخلي لمجلس الوزراء وتأشيرات العلاقات مع الاقليم، بين العراق وجيرانه، وكلها التزمت حدا من المهنية والموضوعية.
 على ان ما تحقق، من تطورات، لا يزال في صورة بعيدة جدا عن ايقاعات الاحداث التي يدخل اعلام الحكومة في سباق مع اعلام داعش من جهة والاعلام الموازي، المحلي والاقليمي والعالمي، من جهة ثانية، ومن يتابع المواجيز الاعلامية اليومية للمكتب، من الزاوية المهنية يحبطه الاصرار على تقديم وجه واحد من مجريات الاحداث، الوجه المرضي عنه، الموصول بالانتصارات المسجلة للقوات الحكومية والحشد الشعبي، فيما اعلام العالم يعرض وقائع اخرى سلبية هي من حقائق ما يجري عن الارض، مع وجوب التذكير بان إنكار الهزائم هنا وهناك من شأنه ان يُسقط المصداقية عن اعلام الحكومة، وبالتالي يخفق في ان يكون محاميا ناجحا في الدفاع عن القضية الوطنية الملتهبة، ما يعيد الى الذاكرة قصة القضية والمحامي: فثمة قضية ضعيفة لكن المحامي الذي يرافع عنها ناجح، فكيف إذا ما كانت القضية عادلة مثل قضية حرب العراق على أشنع مشروع للتطرف والارهاب والجريمة؟
 ان عالم اليوم يموج بتياراتٍ مختلفة، ومصالح متعارضة ومعقدة، وارتباطات متداخلة، وقد حول الوظيفة الاعلامية الى صناعة خطيرة، وأداة حرب وتغيير وإقناع ما يضع على العاملين فيها لزوم الوعي بكل هذه الحقائق، واستيعاب الاستحقاقات التي تفرضها، بدل الاغتراب عنها.
  فالارتباط بين هذه  الوظيفة والوقائع على الأرض ارتباط موضوعي مثل الارتباط بين المطبخ وحجرة الطعام، فما يقدم على المائدة هو نتاج لعملية الطهي مهما كانت درجة اتقانه، وقسوة مكوناته.. فلننتظر.
***********
" قوة الإرادة بالنسبة للعقل مثلها مثل رجل قوي أعمى يحمل على كتفيه رجلاً كسيحاً يستطيع أن يرى".
آرثر شوبنهاور- فيلسوف الماني


9
ماذا يعني
انتصار جرف الصخر؟

*عبدالمنعم الاعسم
 بهزيمته في معركة جرف الصخر، ثم الفاضلية، وقبلها في بيجي والعظيم، بدأ تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" في رحلة العد التنازلي، على الارض، وبانتظار الحملة السياسية والاعلامية المنهجية لاستئصال نزعة العنف والتدمير والكراهية الشنيعة التي سوقها الى وسط من الشراذم المحليين، ولمواجهة التطرف الديني والطائفي المجتمعي، وهو الارضية الايديولوجية لمشروع الردة الذي يبشر به هذا التنظيم وسعى ويسعى الى ترجمته الى الواقع العراقي.
 قاعدة جرف الصخر أعدت من قبل الارهابيين، طوال اكثر من عام، كنقطة ربط استراتيجية بين خطوط غرب العراق (الانبار والفلوجة) وشرقه (ديالى..) وبعبارة اخرى، هي الجسر بين الحدود مع سوريا وبين الحدود مع ايران، كما انها أعدت من قبل داعش، وفلول التصنيع العسكري لنظام صدام حسين، كنقطة وثوب الى العاصمة بغداد وخاصرة اختراق للنظام الامني الوطني بعزل مناطق الوسط في ساتر منيع، ويعزز هذا المنظور ما كشف في جرف الصخر من انفاق ومعامل وآليات تدخل في عداد التعبئة الاستراتيجية للارهابيين.
 الى ذلك، فان دروس الحروب والمعارك تحذر من النظر الى "العد التنازلي" للعدو على انه مضيّ ميكانيكي مستقيم الى نقطة الهزيمة، فان المهزوم الجريح عادة ما يرتكب شنائع بكل ما يعترض سبيله، فكيف إذا كان هذا العدو، هو داعش، الذي يعتبر الشنائع جزءا عضويا من مشروعه "الجهادي" وقد ارتكبها في صعوده الى معادلة الامن والسياسة، في وضح النهار، الامر الذي ينبغي على القيادات المعنية، واصحاب الرأي والمراقبين السياسيين ان يتوقعوا ردود افعال داعشية لا سابق لوحشيتها وانفلاتها، وقد تشمل شرائح ومشايخ وزعامات مقربة منها، أو متواطئة معها، او متفرجة على
 ما يجري، في حال من الريبة وانتشار الشكوك، وفي هوس مضاعف للانتقام الاعمى.
 وبموازاة ذلك، فان معركة جرف الصخر سجلت فضيلة الصبر وتحمل الصعاب والتضحيات بالنسبة للمقاتلين، وتجنب المعارك الاعلامية الهامشية التي كانت وصفة قديمة للحرب على الارهاب، الى جانب النأي عن التمضهر البطولي الاستعراضي للعسكريين والقيادات السياسية المعنية.
 مع ضرورة التذكير بان الوقت لم يفت على تصويب اتجاهات التعبئة الوطنية، بعيدا عن الطائفية وقصر النظر ومحذور التكسب السياسي، فكلما جرى ترسيخ هذه المبادئ في المواجهة  سيكون عمر داعش على الارض العراقية قصيرا.. وأقصر مما نظن.
********
"ما يكتب دون مجهود يُقرأ، على العموم، دون استمتاع".
صموئيل جونسون- اديب انكليزي



10
الاعلام المعادي..
قف

*عبدالمنعم الاعسم

 لا احب عبارة "الاعلام المعادي" واحذر كثيرا من استخدامها، ليس لأنها مستهلكة، وقوانة قديمة، ولا لأنها تذكرنا بحملات اعلام صدام على كل اقنية وخدمات اعلامية تنتقد وتفضح سلوك الدكتاتور على انه إعلاما معاديا، بل، ولسبب بسيط، ان لا وجود لإعلام معادٍ في واقع الامر، فكل خدمة اعلامية تعادي جهة او زعامة او سياسة ما، هي معادية من زاوية تلك الجهات، على تناقض مواقعها، واختلاف جنس الخدمة المتداولة في هذا الميدان.
 حتى الاعلام التجاري، فان توصيفه كإعلام معادٍ، يفتقر للدقة الموضوعية، أهذا بالاعتبار ان هذا الاعلام يخدم، عادة، اكثر من جهة، بحسب فاتورة الاتعاب، ويوالي اكثر من طرف، بحسب اشكال الحماية، فهو معادٍ لتلك وصديق لهذه، والنتيجة، ان هذا الاعلام يبيع الحملة عليه (من خصومه) كإعلام معاد، الى أصدقائه، فيرفع سعر العرق الذي يهرقه في الدفاع عن صاحب النعمة، ويسعى الى إثارة خصومات ومعارك مستمرة، ويسرّه ان يتلقى تهديدات او إحالات للقضاء، فإن ثمة جهات تعهدت بشد ازره والذود عنه.
 والشكوى من الاعلام المعادي تظهر، في غالب الاحيان، حين يجد الشاكون انفسهم في موقف الضعف من مواجهة الاعلام الذي يهاجم اداءهم وسلوكهم ومواقفهم، بالحق أو بالباطل، ويعجزون عن تقديم سياق اعلامي منافس وفعّال ومُقنع، ليكون ساترا رصينا يتولى صد اختراقات الاعلام الآخر، والحق، ان لا قيمة للشكوى حين يكسب الاعلام "المعادي" الجولة لأن الشكوى هنا تفاقِم ازمة الشاكي، وفي العام الماضي، القت الشرطة الكولومبية القبض على اكبر مهرب ايطالي للمخدرات، هو روبيرتو بانونزي، ونقلت الصحافة عنه القول .."انا ضحية الاعلام المعادي" فكان ذلك بمثابة مديح
 لأصحاب تلك التقارير الصحفية الاستقصائية التي لاحقت جرائم بانونزي، ومنافذ تحركاته.
 موضوع الاعلام المعادي يشمل قطعا الاعلامي المعادي، وقد صدرت في الاونة الاخيرة قوائم باسماء "الاعلاميين المعادين" جنب "الاعلاميين الاصدقاء" من مصادر مختلفة تبدو في الظاهر انها وهمية أو عفوية، لكن التمعن فيها يُرشد الى حقيقة انها مسربة من جهات تسعى الى تهديد كتاب الراي الذين ينتقدونها، أو إرشاء غيرهم، ومرة، قبل سنوات، وجدت اسمي موصوفا بـ"إعلامي معادي" مع حوالي خمسين من الكتاب والاعلاميين والسياسيين، مع سيل من البذاءات والشتائم والتلويح بالقصاص.. لدرجة اعتبرت هذا الاتهام وساما.. وليس كل اتهامٍ وسام.
***********
"ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ... يَجدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالا"
المتنبي

11
جملة مفيدة
ـــــــــــــــــــــ

هكذا تكلم الزهاوي
قبل مائة عام

*عبدالمنعم الاعسم

 مائة عام بالضبط، ففي مايس من عام 1914 القى شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي خطابا مدويا في مجلس المبعوثان في اسطنبول (مجلس النواب) وكان نائبا منتخبا عن لواء العمارة، بدأه بالسؤال التالي: "لماذا تجبى الضرائب من الفقراء عن دورهم ولا تؤخذ عن قصور ومضيفات (تكيات) أسرة آل عثمان وسائر املاكهم، مع انهم يتقاضون رواتب ضخمة من خزينة الدولة؟" ولم يسبق ان تجرأ خطيب او نائب ان عرض بالنقد امتيازات الحكام وصفوة المتنفذين كما عرضها الزهاوي الذي عرض نفسه، فيما بعد، للتنكيل.
 ثم أردف القول، في قضية اخرى: "لقد أثبت تاريخ الامم انه كلما أشتد تضييق الخناق على أصحاب الاقلام والافكار كلما كان الانفجار عظيما وسريعا وها نحن اليوم نشرع قانونا يرمي الى محاكمة الكتاب والمفكرين قبل محاكمة المجرمين واللصوص".
 ومن المفارقة القول بان الحكومة الحالية، وفي العام 2014 دفعت الى مجلس النواب "مسودة قانون حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي" وهو نفس القانون الذي قدمته الحكومة السابقة، من دون تعديل، واثار استياء واسعا في الصحافة وبعض الاصوات النيابية، بالنظر لما يحتويه من نصوص تكبل حرية التعبير، وتبيح اعتقال المتظاهرين السلميين في عبارات استدراكية مثل "على ان لا تتعارض التجمعات والتظاهرات مع القانون او المصلحة العامة".
 وفي لفتة اخرى قال الزهاوي: "لقد جاء في الآية الكريمة" إن الارض يرثها عبادي الصالحون" فلا يظنن أحد بان القصد من الصالحين هم العُبّاد والنساك، وانما
القصد الصالحون لاعمارهم" وهنا ضج النواب الذين يتخذون الدين وسيلة للاثراء وصاحوا "إنزل يا يا كافرا" وهذه المواجهة تنفع اولئك الذين يبحثون باصول وموارد الغبار التكفيري الذي يهب على العالم، وينفذ اشنع فصوله في محاكم الشوارع التي تعقدها حثالات داعش في العراق ضد كل لا يبايع الردة.
 وفي مناقشة اخرى مسّت، على الخفيف، شبكة فساد المؤسسة العسكرية العثمانية، حيث قدم جنرالات سلاح البحرية اعتراضا على تعطيل "اوقاف" وهمية تُصرف على "دعاة دينيين" قالوا انهم يؤمنون "تسيير البواخر بالادعية" فنهض الزهاوي وقال: "إننا نعرف بان البواخر تسير بالبخار فلماذا لا ننفق تلك الواردات على نشر التعليم ليتقن الناس استعمال البخار مادام هو الذي يسير البواخر." فعاد التكفيريون الى الصراخ وتهديد الشاعر بالقتل، فاضطر، بعد ذلك الى تقديم استقالته والعودة الى العراق، وفي بعض المحاضر ان نوري السعيد كان من بين الذين دافعوا عنه ومنع الهمج من قتله.
********
" نحن نفكر فقط عندما تواجهنا مشكلة".
جون ديوي- الفيلسوف وعالم النفس الامريكي



12

قطر. المانيا.. وداعش

*عبدالمنعم الاعسم

في البداية كانت عبارة من خمس كلمات للوزير الالماني جيرد مولر من على شاشة التلفزيون الالماني سرعان ما أثارت عاصفة من الدخان في بيت المستشارة انجيلا ميركل وجاء الرد اسرع مما كان يتوقعه احد، ولم يكن مثل هذا الرد وحماسته قد حدث سابقا في برلين تحت قيادة المحافظين حتى في أزمة العلاقة مع واشنطن عندما كشف مسؤول الماني كبير عن وجود جاسوس أميركي  داخل وزارة الدفاع حيث اعترف بتسليمه وثائق تتعلق "بالأمن وحماية البيانات الشخصية" الى وسيط امريكي، فاكتفت المستشارة بتطييب الخواطر وردود الافعال بكلمات عن بلدين حليفين يمكن ان يختلفا.
 لقد سؤل الوزير الالماني من قبل محاوره التلفزيوني عن التمرد المسلح في العراق و"لغز" التمويل الاسطوري الذي يتلقاه، فرد قائلا: "إنني أفكر في دولة قطر" وهنا اندلعت اعمدة الدخان وقامت القيامة على ميركل ووزيرها وحكومتها (كيف يمكن لوزير الماني ان يفكر، مجرد التفكير، بالاشتباه في علاقة قطر بالارهاب؟) وبرز على الفور "لوبي" قطري في اروقة السياسة والمال والصحافة الالمانية والاوربية الامر الذي دفع المستشارة الى الاعتذار من الدوحة وتوبيخ الوزير، مع ان التحليلات الاخبارية المهنية اعتبرت تصريح الوزير مولر خال من الاتهام المباشر للدولة القطرية.
 بل ان وزيرا المانيا آخر هو وزير المالية الاشتراكي الديمقراطي سيغمار غابريال اطلق حيرة مدوية على الرأي العام بقوله "أن الأسرة الدولية أمام جدل حول الجهة التي تقوم الآن، وقامت في الماضي، بتأمين الوسائل المالية لتسليح الدولة الإسلامية فلا يمكن أن يتم ذلك بدون أموال" وكان واضحا، كما يقول معلق في صحيفة "بيلد" الالمانية بان اسم قطر كمشتبه في دعمه لداعش على كل لسان، وطبعا، لم يقل المعلق ان ثمة رادع غير معروف يمنع المسؤولين الغربيين من اتهام قطر بالاسم، قبل الوزير مولر.
 الفصل الاخر من هذه المفارقات يمكن ان نطالعه في البيان الذي اطلقه وزير الخارجية القطري خالد العطية ونشر على نطاق واسع في الصحافة واقنية التلفزيون البريطانية وروجت له وكالات دولية نافذة، وأدخل البيان في خدمة التعليقات بالاتجاه الذي يبرئ قطر من ظنة الاتهام بدعم عصابات داعش ومن كونها راعية هذا التنظيم منذ كان صغيرا ومنبوذا في قرية على الحدود السورية التركية، ومما له مغزى، ان يُفرش بيان العطية على اوسع مديات الاعلام في بريطانيا وامريكا فيما احتل حيزا صغيرا وهامشيا في اعلام دولة قطر ويكاد لايُرى بالعين المجردة، ونفس الشيء حدث بالنسبة للصحافة والفضائيات العربية الممولة من الدوحة، او التي تتطلع الى صدقات الدوحة، او التي تخاف الدوحة وتتكفى شرها.
 بيان الوزير العطية عن براءة  قطر من التعامل مع الارهاب عبارة عن نص مسرحي كوميدي يبدأ من القول " ان رؤية الجماعات المتطرفة لا تتفق مع رؤية قطر لشؤون المنطقة" فيما الجمهور يعرف دور قطر وعلاقتها بالجماعات التكفيرية في ليبيا ومصر والصومال وسوريا والجزائر واخيرا العراق، وثمة في الكذب ما يُضحك حتى تدع العيون.. وفيه بعض صلافة.
********
"اذا كنت لا تستحي فافعل ما تشتهي"
حكمة


13
المنبر الحر / خيمة فؤاد معصوم
« في: 18:38 13/08/2014  »
جملة مفيدة
ـــــــــــــــــــــ


خيمة فؤاد معصوم 

/اقطع القول، وعلى مسؤوليتي، ان خيمة فؤاد معصوم لم تكن لتضيق امام رئيس الوزراء، المنتهية ولايته، نوري المالكي، فقد كان للرجل مكان في تلك الخيمة، وفي موسوع صدر رئيس الجمهورية الجديد وسعة مراصده للامور، وكان المالكي سيبقى، على نحو ما، على مسافة قريبة من مركز القرار السياسي ولن يكون بعيدا عن ادارة الدولة والسياسات، بصرف النظر عن "الذنوب" التي يحشدها عليه خصومه، وعن الاعتراضات الوفيرة على خيار "الولاية الثالثة" وعن الاصوات التي تطالب بالقائه خارج المعادلة وتلك التي تطالب بمقاضاته والقصاص منه وفتح ملفات الاعوام الثماني العجاف عليه.
/ولا اتجاوز مهمتي هنا كمحلل، اكثر من الافتراض بان المالكي سيحصد رصيدا طيبا من السمعة والرضا لو انه تفاعل مع نصائح الرئيس في لقائهما (السبت 26 تموز) بوجوب احترام التداول السلمي للسلطة، قولا وعملا، ولو انه قرأ جيدا دلالات وصول معصوم الى هذا المنصب المحوري الخطير من المعابر الضيقة، كردستانيا وعراقيا ودوليا، ومستدلات شخصيته وعقائده الفكرية والسياسية، ولو انه تجنب القراءة بالمقلوب لما يعني بان الرئيس ضامن للدستور وما تعني الكلمات "البرقية" التي اطلقها غداة ادائه القسم بالعمل على تشكيل فريق حكومي على اساس الشراكة الوطنية الواسعة.
/الذين تابعوا عن قرب اراء وتصورات وإدارات رئيس الجمهورية للمهمات و"الوظائف" التي نهض بها يعرفون جيدا نأيه عن منحرفات ومنزلقات وإغواءات فكر الاقصاء والتسقيط والاستعداء، وقد سمعته اكثر من مرة وهو يدافع عن خيار "التوافق" في مرحلة ما بعد الدكتاتورية، وتحذيره من سياسات الاستفراد والاستئثار والتحكم، كما يعرفون انه، حين يكون في موقع المسؤولية والقرار، يفضل السكوت والانتظار على ان يدلي برأي أو تقدير أو موقف يفاقم الخلافات ويؤجج الخصومة، في وقت لعب الكثير من الساسة والمسؤولين هذا الملعب العبثي وحصدوا ما حصدوا، بل وحصدت البلاد جراء ذلك كوابيس وخرابا وبلاءات وطوابير ضحايا لا اول لها ولا آخر.
/على ان الوقت ينفذ امام المالكي لينضمّ الى خيمة الرئيس معصوم ويحظى بوسام "الانسحاب المشرف" إذ الآن يحاول خوض معركة دستورية فقدت عناصر الانتصار والقدرة على إعادة عقارب الساعة الى الوراء، ويّرجح انه سيبقى في الموقع الملتبس بعنوان "الاكثرية العددية المغدور بها" تحت مؤشرات سياسية تتراجع بالاتجاه المعاكس لحساباته، ووابل من النيران الصديقة التي تتزايد على مدار الساعة، وهو مآل كان يتوقعه الكثير ممن تابعوا "سقوط" الزعامات الحاكمة في هذا القوس من خارطة العالم، فمنهم من خسر السلطة ونجا بحياته، ومنهم من خسر السلطة وحياته معا.
***********
"بِذا قَضَتِ الأَيَّامُ ما بينَ أَهلِها ...
                       مَصائِبُ قَومٍ عِنْدَ قَومٍ فَوائِدُ"
 ابو الطيب المتنبي



14
المنبر الحر / عن الوصاية*
« في: 21:49 10/08/2014  »

عن الوصاية*

عبدالمنعم الاعسم

دول كثيرة، في العقدين الماضيين، اخذها منزلق الصراعات الى وصاية دولية مُذلة فوجدت نفسها  (تذكروا يوغسلافيا السابقة) تشحذ الصدقات على ابواب الدول "المحْسنة" بالرغم من ان بعضها يعدّ من دول الكفاية، ثم شاءت بعض "ابواب جهنم" ان تنفتح على اسياد الخراب من السياسيين وذوي الرؤوس العنيدة الذين قادوا دولهم الى هذا المآل ليكونوا مطلوبين للعدالة في قفص محكمة الجنايات الدولية، فيما انتهت دولهم الى تكيات وخيام وكيانات مجهرية، وشعوبهم الى طوابير امام فرق الاحسان الدولية.
 الوصاية الدولية، أو التدويل، كما يعرف خبراء القانون الدولي، ليس مرخص لهما إلا في حالة تشرذم الدولة وفقدان قدرتها على حماية سيادتها، أو، في مفاهيم العلاقات الدولية، حين يصبح النظام السياسي للدولة شأنا دوليا مباحٌ البحث فيه والتدخل في مصائره، وبمعنى أدق، يصبح مستقبل الدولة التي تمر في دوامة الانشقاقات والاضطرابات (وتشكل خطرا على جيرانها وامن الاقليم) تحت التاثير المباشر للقوى والتحالفات الدولية الكبرى التي تقرر شكل الوصاية والتدويل والتدخل ومدياتها.
 والحق، ان  رحلة التدويل (بالنسبة الى العراق) بدأت، في حقيقة الامر،منذ ايلول العام 1980حيث قرر صدام حسين، آنذاك، اجتياح الاراضي الايرانية، وخلق مأزقا اقليميا وفراغا، سرعان ما شغلته الاساطيل الامريكية والغربية، ثم، تكامل التدويل مع مغامرة صدام حسين الثانية باجتياح الكويت، بل كُرّس على الارض وفي قرارات، زادت على العشرين، لمجلس الامن الدولي اجمعت على تحميل العراق المسؤولية عما ترتب على هذه العملية، وكان العراق سينأى عن خطر التدويل والوصاية بعد انسحاب قوات الاحتلال العام 2010 لولا الصراع الفئوي على السلطة واندلاع اعمال العنف والارهاب وسوء ادارة السياسات وملف الارادات، ما اعاد احياء هذا الخطر على طاولة البحث. 
 اقول، كان يمكن احتواء قيود ولوازم وتاثيرات خطر الوصاية، فقط، عن طريق بناء ارضية لدولة مواطنة اتحادية تحترم التنوع ولا تقصي او تهمش (أو تُسلّط) مكونا من مكوناتها، وبمعنى ادق، بناء مرجعية عراقية وطنية مؤهلة، ومفوّضة من مكونات وشرائح وعقائد المجتمع، وتهيئة الملايين لممارسة "تمارين" اولية من الديمقراطية والحريات العامة، وتحقيق تحسينات جدية في سبل المعيشة والدورة الاقتصادية.
 وإذ يشار الى اخطاء ومنزلقات الطبقة السياسية التي ادارت لعبة الحكم ومسؤوليتها في تأثيث المسرح للوصاية والتدويل فان علينا ان لا نقع في التبسيط فنتغافل عن استبصار التأثيرات التي ترتبت على اندلاع دورة العنف والعصيان المسلح والجريمة المنظمة وانتقال البؤرة الارهابية العالمية الى شمال العراق والاعتداءات الاجرامية ضد المسيحيين والايزيديين والمذاهب المختلفة وتدنيسها الحريات والانتماءات وحقوق العبادة والوجود، وتدفق الانتحاريين من كل مكان، حيث خلقت كل هذه المعطيات خطر تدويل المستقبل السياسي للعراق، وقد فاقم ذلك انانية ونفاق وتدخل واطماع شركاء العراق في الاقليم.
 باختصار، يقف العراق فوق برميل من البارود، قد ينفجر فتتناثر اشلاؤه، وتُسبى ملايينه، ويتحول الى استغاثة مدوية ومثيرة للشفقة، فيما اصحاب الادارة السياسية إذنٌ من طين وإذن من عجين.
********
"ليس من الضروري أن تنصح الحكيم، فالحمقى هم من يحتاجون النصيحة".
بل كوسبي-ممثل وناشط امريكي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 



15
جملة مفيدة*
غزاة من فصيلة دم واحدة

عبدالمنعم الاعسم

 من الناحية النظرية، يُفترض ان "المجاهدين" الذي يحتلون الموصل باسم الدولة الاسلامية في العراق والشام"داعش" اعداء طبيعيين لاسرائيل ولحكومة نتنياهو التي تغير بطائراتها ودباباتها على غزة وسكانها الفلسطينيين الآمنين، وان داعش حليفة طبيعية لـ"المجاهدين" الاسلاميين من حماس والجهاد، تقاتل في خندقهم وتتحشد على تماس مع قضيتهم، وتُعدّ لهم ما استطاعت "من رباط الخيل" وتتقاسم واياهم ما قسم الله من بنوك الموصل التي سطت عليها والحراس نيام.
 وللفرضية هذه، طبعا، لوازم حركية وسياسية ودينية، في الموقف، على الاقل، من بيوت العبادة، واحترام دم المسلم وعابر السبيل واصحاب الكتاب، ولها احكام صارمة موصوفة في فقه الجهاد "في سبيل الله" سلوكا وورعا ورحمة وامتناعا عن الولوغ بالدم والجريمة وقتل الناس على هويتهم وانتمائهم.   
 اقول، نظريا تُعد "داعش" عدوة لجيش الاحتلال الاسرائيلي الذي ينفذ خطة تدمير منهجية لمقومات الوجود الفلسطيني على ارض فلسطين، لكن هذه العداوة تنقلب الى تحالف جهنمي غير مكتوب، حين تنفذ داعش الصفحة الاخرى من هذه الخطة بتدمير مقومات الشعب العراقي في العيش على ارضه، وليس تهجير اتباع الديانة المسيحية عن منازلهم وارض اجدادهم غير مثال واحد من بين مئات الامثلة على همجية تتمثلها داعش هي الفرع الآخر من همجيات الغزاة، تمارسها بابداع ايضا قوات الاحتلال الاسرائيلي.
 ثمة من يقع في السذاجة، او لا يرى عناصر التعقيد والتشابه والتداخل في اللوحة فيذهب الى منطوقات سهلة بالقول ان داعش صنعتها "الصهيونية" ويخلط بين صناعة الجهاد الارهابي وبين مصنوعات الالة الاسرائيلية. بين التابع والحليف. بين الحلف المكتوب والتحالف بالوكالة.. وتستسهل هذه السذاجة ابتلاع معلومات نيئة عن حاضنات اقليمية تقوم بالجمع ما بين جيش نتنياهو وعصابات داعش.
 نعم، الغزاة، من كل الاجناس والالوان والرطانات هم متشابهون في الهوية وفصيلة الدم. انهم مختلفون في الجغرافيا ومتشابهون في التاريخ. مكانهم مختلف وبصمتهم  موحدة. متشابون في وسائل القتل الاعمى وتنظيم المذابح واذلال المدنيين واشاعة الخوف، ومتشابهون في ما يتركون من مآسي وخراب وخوف وطوابير القتلى.
 جنود نتنياهو يغسلون ايديهم، بعد كل حفلة من القتل الجماعي للفلسطينيين بماء يستوردونه، كذبا، من عبارات التوراة، وقطعان داعش يتوضأون، بعد كل مذبحة بتراب يزعمون انه من صفحات القرآن، وكأن بين اولئك وهؤلاء عقد باعلان الحرب.. من اجل الحرب.
*********
"مَن لا حِكمة له، لا حُكم له".
ابن عربي





16
تصورات لشخصيات سياسية واكاديمية وثقافية..
حول الاحداث الخطيرة في العراق وسبل مواجهتها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عقدت مجموعة من الشخصيات العراقية المعنية بالديمقراطية والدولة المدنية ومن نشطاء لجنة دعم الديمقراطية في العراق سلسلة من المشاورات واللقاءات لتدارُس  الوضع السياسي والامني والاجتماعي المتفجر في العراق، واجمعت على استثنائية هذه الاوضاع وخطورة الحال الذي وصلت اليه البلاد، وتوصلت الى مجموعة من التصورات تعلنها على الرأي العام والجهات السياسية في العراق والدول والمنظمات الاجنبية منعا للمزيد من التدهور والانشقاقات:

اولا: العراق يمر في مفترق طرق بين ان يبقى دولة موحدة او يتشظى الى دويلات طائفية واثنية وعشائرية متحاربة، بعمل وترحيب جهات اقليمية ودولية عديدة، الامر الذي ينبغي تكوين حركة اجتماعية وسياسية وطنية فاعلة في مستوى هذه الاخطار لقطع الطريق على خطر التقسيم والتفتت، وحرصا على سلامة  الشعب والوطن.
ثانيا: ان العملية السياسية التي تكونت بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتورية على اساس المحاصصة السياسية (شيعة. سنة. كورد) قد فشلت، وجرّت البلاد الى كوارث، واننا إذ ندعو الى إصلاح البنية السياسية للدولة، فاننا نعتقد ان مكونات العملية السياسية وزعاماتها النافذة ارتبطت عضويا بنظام المحاصصة ولن ننتظر منها مبادرة للمراجعة وتصويب الاوضاع، والمطلوب تفعيل دور الشعب ومنظمات المجتمع المدني والكفاءات الوطنية، قدما نحو بناء الدولة المدنية.

ثالثا: ان قوى الوسط الديمقراطي والوطني، ونحن منها، هي الحليف الطبيعي للشعب الكردي وقضيته التحررية وحقه في تقرير المصير ، لكن السياسات الرسمية للاحزاب الكردية المتنفذة حاليا اضعفت هذا التحالف من جانب، واتخذت سياسات ومواقف انعزالية من جانب آخر، ولهذا فاننا، من هذا الموقع، نعارض طرح قضية استقلال اقليم كردستان كورقة  مساومة واستخدامها لتحسين شروط المحاصصة، وفي هذا الملف نأمل ان تبادر جهة موثوقة للوساطة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم للبحث عن حلول مرضية للقضايا موضع الخلاف والتجاذب.

رابعا: ان مواجهة الاعمال الارهابية المسلحة، وذروتها المتمثلة في اجتياح الموصل واعلان الخلافة الاسلامية المزعومة فيها، تستلزم (اولا) اعتماد سياسات وطنية واجراءات عملية لانهاء حالات الاقصاء والتهميش لفئات من المجتمع العراقي، والحذر من معاقبة السكان المدنيين في مناطق تشهد اضطرابات واعمال ارهاب بجريرة الجماعات الاجرامية المسلحة، كما تستلزم(ثانيا) استخدام اقصى الردع العسكري والامني للنشاط الارهابي مع ضرورة بناء قوات مسلحة  وطنية واحترافية ومؤتمة الولاء للوطن، وتستلزم (ثالثا) حل وقطع دابر المليشيات الطائفية المسلحة.

خامسا: اننا ننظر بقلق الى ما تعرض  له مسيحيو الموصل من قبل العصابة الارهابية ونعدها جريمة تطهير عرقي وديني وتطورا خطيرا يضاف الى  التنكيل  باتباع الأديان والطوائف والقوميات، والى اعمال تفجير المشاهد الحضارية والمراقد، كما تقلقنا  انباء انتشار السلاح بعيدا عن مسؤولية الدولة في المدن  والقرى والاحياء على خلفية حملة التطوع، ودخول مجموعات مشبوهة في صفوف المتطوعين، وندعوا الى حملة وطنية واسعة لمعالجة اوضاع النازحين من سكناهم في البلدات والمناطق التي واجهت اعمال الارهاب والعنف والإجلاء تحت السلاح.

سادسا: ان بلادنا تتعرض الى تدخل اقليمي منهجي، ولم يكن لهذا التدخل ان يتم بهذا الشكل السافر والاستفزازي لولا تغطيته  وتبنيه من قبل فئات وزعامات سياسية، في داخل الحكومة وخارجها، ويتم وسط مواقف وسياسات رسمية ارتجالية وانتقائية، من غير نسق وطني او دبلوماسي في مستوى هذا التحدي.

سابعا: وفي هذا الوقت جاء مؤتمر عمان لمعارضي العملية السياسية في العراق ليشكل تبريرا وترويجا للعنف والارهاب وخطوة اضافية في التخندق الطائفي المقيت.

ثامنا: تتضح لنا ضرورة الاسراع بتشكيل حكومة على قاعدة الوطنية والكفاءة، من التكنوقراط والمهنيين ذوي الخبرة والنزاهة، بعيدا عن الاعتبارات الطائفية والدينية والعرقية.
*****************

الموقعون:
غانم جواد (مدير مؤسسة الحوار الانساني)
د. محمد علي زيني (اقتصادي نفطي وباحث)         
د. كاظم الطريحي (أكاديمي)
د. عالية  الحمداني (مهندسة)         
مؤيد الالوسي (مهندس)                 
د. سعد عبدالرزاق (باحث)
فوزية الاعسم (ناشطة نسوية)
محمود شكارة (ناشط)               
د.عبدالحسن السعدي (اكاديمي)       
د. علي حنوش (اكاديمي)             
كريم السبع (مهندس)
د. فاروق رضاعة (طبيب)           
د. كاظم حبيب (باحث علمي)
عبدالمنعم الاعسم (صحفي)
د.توفيق الانصاري - طبيب استشاري
د.خالد ياسر الحيدر - استاذ اكاديمي في الكيمياء العضوية وكيمياء النفط
همام عبد الغني المراني - شاعر وصحفي وسفير السلام في العالم
د.جبار ياسر الحيدر - طبيب جراح استشاري اقدم
د.عاقب الهاشمي - جراح اختصاصي
د. عقيل الناصري (باحث)
د.صادق البلادي (طبيب وكاتب)
د. بلقيس محمد حسن- اكاديمية
منذر عبدالمجيد- مهندس
طالب عواد- ناشط سياسي
د. غالب العاني –طبيب
صلاح النصراوي- ناشط سياسي
د احمد الربيعي- جراح استشاري واكاديمي
عبدالرزاق مهدي الحكيم- ناشط مدني
عدنان حاتم السعدي- ناشط مدني
سمير فريد- رجل أعمال
خالد بابان- مهندس معماري
ناهدة شفيق- مدرسة
وهاب المرعب- خبير ،مهندس
عبد الرزاق توفيق-   مهندس
جاني كساب- اكاديمي
نعمان منى- معماري
طارق الخضيري- اكاديمي
صلاح الدين محمود (مدرس)
عادل حبة- كاتب
ابتسام الظاهر – كاتبة
د. عبدالجليل البدري- باحث جامعي
د. محمد الربيعي- بروفيسور ومستشار علمي
نظير زكي- مهندس
حيدر البدري- باحث طبي
باسمة هادي حسن- اكاديمية
د. علي الاسدي- اكاديمي وكاتب
غسان نجم- مهندس
قاسم محمد غالي- التجمع العراقي الحر
بارق شبر- خبير اقتصادي
فهيم عيسى السليم- مهندس وشاعر
د. مي الاوقاتي- أكاديمية
مثنى الحمداني- رجل اعمال
انور البدري- مهندس


17


صموا آذانكم.. انها ساعة الصفر

 ثمة في اللحظة التاريخية التي يمر بها العراق، على خلفية الاستعصاء الامني والسياسي الخطير،  ما يشبه ساعة الصفر التي تقرر مصائر الكثير من المعارك الجارية، في حلقة الحكم وفي خارجها، وبموازاة ذلك ثمة معبر ضيق (ويضيق) الى السلامة واحتواء الاخطار وتصويب مسيرة العملية السياسية، إذ تتمثل شروط العبور بتغيير سريع في معادلات كثيرة، ابرزها جملة المحاصصات الافقية ذات الصلة بالامتيازات ومحاصيل الوظائف ومقابض سلطة القرار ومفاتيح لي الايدي..   

وباختصار فان ساعة الصفر قد تنفتح على وعي انقلابي ايجابي (اختراق) يعود اللاعبون فيها الى حكمة العقل والتخلي عن "التشبث بالمواقع والامتيازات" او انها تنكفئ الى الكارثة الشاملة، حيث الكل يحارب الكل لتحويل ساعة الصفر الى كنية للحرب الاهلية، وهذا ليس تحذيرا قدر ما هو قراءة لصراعات مستفحلة قد لا يقدر اصحابها النتائج التي تترتب على مفاعيلها.
 
 ساعة الصفر هنا ليست عنوان الفيلم الوثائقي الشهير عن عملية اعتقال صدام حسين، حين داهمته قوة امريكية كانت تستدل الى حفرته بمساعدة مخبر من حراسه في تلك المزرعة السرية على اطراف بلدة الدور، كما انها ليست بحثا فلكيا مجردا في حركة الزمن نحو نقطة افتراق افتراضية بين زلزالين، أو كما تـَرِد، عادة، في الخطط العسكرية او في متابعات الانواء العاصفة، او في خلال الحاجة الى تصفير الوقت او تسويفه او الاحتيال عليه، او في خلال التحضير لمؤامرة، او عملية سطو معقدة، ولا هي تحبيذ لفكرة البطل الذي يقاتل حتى النفس الاخير والمولع بتعيين ساعات صفر كثيرة، او تلفيق لصورة المنقذ  الاسطورة  الذي ارسلته الاقدار لينتشل القارب من الغرق.. انها توقيت جدي لتغيير مؤشرات الصراع وسلوك التعاطي مع الالغام، في وقت لم تعد الساعة تخفي احتقان المشهد، ولم يعد سجل الضحايا يتسع لمزيد من القتلى، وليس في مقدور الوقت ان يتمدد خارج الغليان الذي تتسارع مؤشرات انفلاته.
/من زاوية تحليلية يبدو ان ساعة الصفر تنشق الى ساعات صفر تفصيلية: ساعة الصفر في أعلان مستقبل التحالف الوطني(الاكثرية البرلمانية). ساعة الصفر في اختيار رئيس الوزراء والكتلة النيابية الاكثر عددا. ساعة الصفر في  معركة دحر العصيان الارهابي المسلح في الموصل. ساعة الصفر في  فضّ او تفعيل عقد الشراكة السياسية في ادارة الدولة. ساعة الصفر في تحديد مصير العلاقة مع اقليم كردستان. ساعة الصفر في كشف مستورات مثيرة مطعون بنزاهتها وقد مرت من تحت الطاولات. 
 عندما وقف موسوليني في شرفته ورأى روما في مفترق طرق، وعلى شفير الهزيمة التفت الى الكاردينال شوستر يسترشد فيه الى الخطوة القادمة، قال له الرجل الحكيم: "حانت ساعة الصفر للاعتراف بخطاياك" ومما له مغزى ان طلب الاعتراف هذا جاء متأخرا، فقد كانت روما تعبر ساعة الصفر الى الهزيمة، فالخراب.
*****
"إذا المرء لم يُدَنس من اللؤم عرضه ...
فكل رداء يرتديه جميل"
السموأل بن عاديا- شاعر جاهلي

18


ليست حربا أهلية..
لكن شيئا من هذا يحدث*


عبدالمنعم الاعسم

 لا يهم ماذا يُطلق على احوال امنية وسياسية مضطربة، وانشقاقات في "الوطنية" ومقومات السلام الاهلي، وقتل على مدار الساعة حصة المدنيين منه هائلة ومخيفة، هل انها حرب اهلية، ام منازعات، ام عصيان ارهابي مسلح، مقابل ترخيص منفلت لجماعات مسلحة خارج القانون، ومحاكم شارع تصدر احكاما بالموت والابادة والاستئصال في كل شبر تفرض سلطتها عليه.
 اقول، سواء كان مصطلح الحرب الاهلية الكلاسيكي ينطبق على الاحوال السائدة في العراق، ام ان ثمة مصطلح آخر اكثر تطابقا، فان العراق انضم الى اسرة الدول التي تشهد حروبا داخلية تشترك فيها اكثر من جهة ضد اكثر من جهة، وكان فيلسوف القرن السابع عشر الانكليزي توماس هوبز قد وصف هذا الحال بقوله "ان الحرب الأهلية هي حرب الكلّ ضد الكل".   
 فمنذ حرب الوردتين التي دارت قبل خمسمائة واربعين سنة في انكلترا حول الأحق بالسلطة والعرش بين طائفتي لانكستر ويورك انشغل المؤرخون والمحققون والقانونيون في مفهوم ومصطلح ومحركات الحرب الاهلية، وكان شكسبير الذي اطلق اسم الوردتين على تلك الحرب قد حضّ على احتقار  تبريرات إشعالها في مسرحيته الشهيرة هنري السادس، وبقيت مفردة "أسياد الحرب الاهلية" من السياسيين وزعماء المليشيات والعصابات المسلحة كنية لحفنة من المجرمين الذين ارتبطت اسماؤهم باعمال القتل المجاني للمدنيين الابرياء.
 وإذ اندلعت الآف الحروب الاهلية منذ ذلك الوقت، فقد ضمت صفحات التاريخ كما هائلا من التأويلات المغشوشة لوجاهة القتل الجماعي تحت شعارات دينية وإثنية، وثمة القليل من الانتباهات أخذت البُعد الانساني لهذه الحروب وحدة قياس وحُكم، وشاءت الفوضى الاعلامية المعاصرة ان تختزل المذابح الجماعية للمدنيين الى عناوين تتسم بالرشاقة المغشوشة، مثل اللبننة والعرقنة والصربنة والليبنة، فيما هي ملفات لأشكال مروعة من الصراع السياسي على السلطة الحقت بشعوب لبنان والعراق وصربيا وليبيا افدح الخسائر بالارواح والثروات وبنى الدولة.
 ولم يعد مصطلح "الحرب الأهلية" شائعا في المحافل الدولية المعنية منذ تثبيت ميثاق الأمم المتحدة  منع استعمال القوة في الخلافات السياسية في المادة 2 الفقرة الرابعة، حيث اتخذت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة قراراً بعدم الحاجة  لقانون لمثل هذه الحال طالما أصبحت الحرب محرمة وممنوعة، في حين تكفلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر ترسيم مصطلح الحرب الاهلية عبر سلسلة من المعاينات والمتابعات واستقر على مسمى "نزاع مسلّح غير دولي" والمهم انها وضعت اسسا لملاحقات قضائية لـ"اساد الحرب"  بموجب القانون الدولي.
 وبوجيز الكلام، ومن هذه الزاوية، يصح (وينبغي) بناء هيكلية من الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي تتعامل مع الاحوال السائدة ومضاعفاتها  في التجييش الطائفي والشوفيني  والديني واجراءات الاستئصال اليومي كحرب اهلية غير تقليدية، ومع ابطالها كأسياد تحت طائلة القضاء.. القضاء غير المدجّن.
********
" .. تعددت الأسباب والموت واحد".
ابن نباتة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


19


تقسيم العراق في العقل الظني

*عبدالمنعم الاعسم 

تقسيم العراق الى سيادات (دويلات. امارات..) واحد من الاحتمالات التي يمكن ان يتمخض عنها الصراع القائم، ينحسر أو يتسع، بحسب آثار ومديات الانشقاق في النسيج الوطني، وكذلك بحسب موقف الدول صاحبة الثقل والتاثير في هذا النسيج، وبمعنى آخر، فان تقسيم العراق (ولا نعني الى فيدراليات) تفرضه جملة من المعطيات التي ينبغي (لمن يتصدى للموضوع) ان يمعن النظر فيها، وفي حقائقها. 
 لكن العقل الظني يضع هذا جانبا، ويعلن "لا تتعبوا انفسكم.. العراق سيُقسم، لأنهم يريدونه كذلك" وينصرف الى توليف هذا الحكم على اساس النيات المبيتة للقوى الخارجية، غير المعلن عنها، او جرى الإفصاح عن نقيضها "للتضليل" او جاء ذكرها بين السطور وفي زلّات اللسان، والنتيجة، ان التقسيم هذا (كما يقطع العقل الظني) مشروع سري "جهنمي" يجد طريقه الى التنفيذ بتوقيتات محددة، ولا فائدة من ذمّ هذا القادم الكريه، مثلما لافائدة من ذمّ الشيطان الرجيم.
 موضوعنا يتناول اشكال النظر الى احتمال التقسيم، ومحاولات ترسيم تجلياته (من قبل العقل الظني)على اساس منظور المؤامرة المبيّته للدول المجاورة، او القوى الكبرى، فيما يتأكد للمحلل (المتحرر من هذا المنظور) ان هذه الدول الموزعة في تعاطفها على المكونات السكانية تنظر الآن بهلع الى خيار تقسيم العراق لأنها تعرف بان الدويلات المنبثقة عن الدولة الام ستكون عبئأ عليها، وقد تشكل منزلقا لها الى ساحة حرب لا حدود لنتائجها الكارثية، وأهوالها.
 هذا لا يعني تشجيعا منّا للنظر الى الدول المجاورة كجهات مُحسنة، بل يعني حصرا القول بان هذه الدول (بحسب مصالحها الاستراتيجية) تريد عراقا  مضمون الجانب، كفيلا لنفوذها، موحدا، يكفيها شر الاضطرابات، ولا يصدر لها أزماته وفضلات احتقاناته الطائفية. اما الثروات التي يقال انها مطمع تلك الدول فان دولة عراقية موحدة اضمن لذلك المطمع من ان تكون دويلات تخوّض في حرائق تحول الثروات الى كومة من القش، ثم الى اعمدة دخان.
 العقل الظني مغرم بالحديث عن التاريخ، بطريقة انتقائية، فيقول لك ان "تدمير" العراق وتفتيته الى دويلات حلقة من مسلسل بدأ من الاندلس على يد "الغرب المسحي" حين تزوج فرديناند ملك أراغون من إيزابيلا ملكة قشتالة في القرن الخامس عشر واتحدت المملكتان لتدمير وحدة غرناطة العربية، لكن الرواة  الظنيين لم يتحدثوا عن احزاب الطوائف "الاسلامية" التي فسدت حتى النخاع، وتقاتلت على السلطة حتى في غرف النوم، ثم باعت اوطانها برقائق ذهب اكتشفت انها مغشوشة، لكن بعد عبور البحر.. وفوات الاوان.
*********
"يأتي على الناس زمان لا تـُقرّ فيه عينُ حليم".
لقمان الحكيم

20

سياسة تلغيم المعابر.. الى اين؟

*عبدالمنعم الاعسم

 اتهامات رئيس الوزراء نوري المالكي لادارة اقليم كردستان بايواء الارهابيين، اخذتها الجماعات السياسية المختلفة بعدم الاكتراث وطالب وتشكك بعضها بالواقعة والطلب بتقديم بيّنات على هذا الاتهام، فيما عدّه المراقبون والمحللون المحايدون كمحاولة تصعيد، غير ذي حكمة، على جبهة حساسة  لا تتحمل مثل هذه المخاشنات إلا في حساب تلغيم المعابر الى الحل السياسي لأزمة العراق ومنع تغيير الادوات والسياسات والوجوه التي تسببت في الكوارث الامنية والسياسية التي تعصف بالبلاد.
 وإذ لا يتفهم المتابع الموضوعي جدوى وحصافة بعض التصريحات التي سجلت نفسها على الجانب الكردستاني بصدد التصورات الاستباقية لمستقبل الاقليم، وحول تعاطي اربيل مع الرموز المشجعة للتطرف والعنف والطائفية المضادة، فان الشكوى من هذا الاستطراد إذ تعالج، عادة، وكما ينبغي، في القنوات السياسية والدستورية فهي لا تبرر تزييت ماكنة التهديدات وتبشيع مواقف الاقليم والكرد وزج عقد الشراكة في الوطن وسلطة القرار والمصير الواحد الى شكل من اشكال الفرضية القابلة للإنكار، وسيكون هذا الموقف شديد الخطورة عندما يتبناه الرجل الاول في ادارة الحكومة والدولة.
 اقول، بدلا من تنشيط المعابر المختلفة لحل ازمة الرئاسات بما يعبئ الدولة والمجتمع لدحر الارهاب والعصيان المسلح في الموصل ومناطق اخرى فان التقويم اليومي للاحداث والمواقف يحمل على الاعتقاد بان كابينة رئيس الوزراء تقود المعركة هذه (واكثر من معركة اخرى) خارج ساحاتها الرئيسية، وتنشغل في تسويق مظلومية، مشكوك فيها، من مؤامرة مزعومة ينخرط فيها كل من يرفض الولاية الثالثة للمالكي، ويشاء اصحاب هذه المعارك العبثية ان يوسعوا دائرة الخصوم، بل ويصطنعوا المزيد من الخصوم، بفتح معركة مع الاقليم، مصحوبة بفيض من الريب والشكوك والطعون في جدوى الاخوة  بين العرب والكرد.
 على ان العلاقة بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان لا ينبغي ان تُختزل الى لعبة التلغيم، واستعداء الجمهور وشحنه بالكراهية القومية والتهديد، والتصعيد الاعلامي، والاتهامات المرتجلة، لأن هذه العلاقة لا تتصل بالاعتبارات والصلاحيات الادارية الدستورية فقط بل هي وثيقة الصلة بجوهر هيكلية الدولة العراقية ومستقبلها كدولة متعددة القوميات والعقائد والانتماءات، ويلزم ان يجري التذكير بخطورة البناء على ردود الافعال والمراهنة على الكسب الاعلامي القائم وعلى توليف الشائعات والتسريبات المغشوشة، واعادة انتاجها كحقائق.
 في السياسة، وكذلك في التكتيك العسكري، لا يُعد تلغيم المعابر ضروريا، ونافعا، إلا حين تكون قد اشرفتَ على الهزيمة، أو تصبح الدائرة وهوامش المناورة اكثر ضيقا من حولك، فتسعى الى عرقلة  تقدم "العدو" وتُشاغله ريثما تنجو، او تُحسّن شروط الاستسلام.
 وفي كل الاحوال، يعكس تلغيم المعابر الى الحل هشاشة تقنيات المناورة، وانهيار الدفاعات النوعية، لكن التجارب اكدت ان تلك الالغام "الوقائية" قد تنفجر باصحابها وتلحق بالمدافعين، المنسحبين، افدح الاضرار، وهذا  (كمثال عسكري) ينطبق على تلغيم الملفات السياسية في محاولة لخلط الاوراق واثارة الريب والشكوك والتهديدات، بدل فتحها والاعتراف بالاخطاء والفشل، والبحث عن مفاتيح واقعية لتسوية الخلاف الذي يقال انه لا يفسد للود قضية.. إلا حين يهدد كرسي السلطة.
********
"نظام الفرد الواحد ليس سوى اختراع ابتدعه الشيطان ليخلـّد بين الناس عبادة الأصنام ويروّج بضاعة الوثنية".
توماس بين- كاتب ومخترع انكليزي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 


21

حكومة.. بالتلقيح المجهري

*عبدالمنعم الاعسم

الحديث، يخرج الآن من الكواليس الى الفضاء الاعلامي الطلق، عن حكومة جديدة في العراق ينبغي ان ترخّص لها دول اخرى، او تولد عبر التلقيح المجهري في «انابيب» دقيقة من حوامل خاصة (إملاءات) مستوردة من خارج الحدود لغرض مساعدة السياسيين العراقيين الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد، او في المصطلح الطبي يعانون من «العقم» ويتعذر عليهم «إنجاب» حكومة سليمة العود والهوية والسمعة والأهلية، ثم، لكي يسجلوا سبقا في براءة اختراع، لم يسبقهم له أحد، بعنوان «حكومة الانابيب» اعترافا منهم بهذا العقم، وإعلانا بالعجز (العجز!) في ادارة شؤون البلاد.
حكومة التلقيح المجهري العراقية (انتباه) تفتتح مرحلة اقامة مثل هذه التجارب الجديدة وتضعها امام العلم والعالم والامم، بأخذ بويضات من (الأم) الحاضنة العليلة للازمة السياسية وحيوانات منوية من فحل اجنبي (الأب) له سطوة ومليشيات وقواعد في الخليج ونقـْلها الى حيازات مناسبة في مختبرات وكواليس ودرابين شبيهة بقناة فالوب حيث يتم التلقيح وترتفع الصلوات والتبريكات وتبدأ مرحلة انشطار واعادة تركيب وولادة المشروع- الحكومة الجديدة، هكذا، بالضبط، وُلدت «لويز بوران» التي قصّت شريط اطفال الانابيب قبل 36 عاما، كحلّ لمشاكل الرحم (أكرر: مشاكل الرحم) واستعصاءات الولادة الطبيعية.
لكن العالم البريطاني «روبرت إدواردز» الحائز على جائزة نوبل في الطب عن هذه العمليات الجينية الرائدة يحذر من «أن نمو بويضة الأنبوب في ظرف غير طبيعي قد يتسبب في تشوه ما للطفل فيما بعد» كما تؤكد عالمة الاستنساخ الفرنسية «بريجيت بواسولييه» رئيسة مؤسسة «كلون ايد» ان الكثير من الولادات التي يتم تحقيقها بالتلقيح المجهري لا تحمل بالضرورة صفات امهاتها، بل تنشأ في الغالب غريبة في اطوارها، والمهم، قد تكون عليلة، ضعيفة الارادة.
وبعيدا عن هذا، نحتاج هنا الى فهم المنطق الذي يسوّق هذه الاستعانة المذلة بالاخرين، او الاستخذاء امامهم، او القبول باملاءاتهم لاختيار منصب رئيس الوزراء وتعيين شكل الحكومة ومكوناتها، وذلك بالقول، ان على هذه الدول (هكذا يزعمون) التزامات لا توفيها إلا مع حكومة تذعن الى شروطها وأهوائها ومع رئيس للحكومة لا يخرج على فروض التبعية لسياسات هذه الدول، ولا يتخذ قرارات او يعقد تحالفات لا تحظى بموافقتها، بدل ان يعكف اصحاب الازمة على تشكيل حكومة من كفاءات ورجال علم وخبرة ووطنية ومن الاطياف التي تشكل هوية البلد، وبرنامج وحلول عابرة للمحاصصة والطائفية والفئوية وهوس الزعامة والكسب الحرام.
منطق، عدا عن انه يسيء الى اصحابه، فهو يضع جانبا سيادة الدولة العراقية، ويُسقط جملة من المعايير والاليات ذات الصلة بالدستور والبرلمان والاستحقاق الانتخابي.. وقطرة الحياء.
*********
"أتعس أنواع الحكومات هى التي تفرض عليك أن تذكرها صباح مساء".
همنغواي
14

22
المنبر الحر / سقوط "العربية"
« في: 18:30 21/06/2014  »

سقوط "العربية"


*عبدالمنعم الاعسم

 ثمة امر معروف في المعايير المهنية الاعلامية، ومعلومة، منذ زمن طويل، ان قناة العربية لا تتمتع بالاستقلال الذي يرفعها الى مستوى الاعلام المستقل، ومردّ ذلك الى رعايتها من قبل الاسرة الملكية السعودية الحاكمة، تمويلا وتسهيلات، والى الخطوط الحمر التي تتحرك بها مراعاة لجهة التمويل، فضلا عن التسويق الاعلامي المفروض على القناة وما له صلة بالعلاقات والمحاور التي تلتزمها السياسة السعودية، وقد تزايدت بصمات "الراعي" على إداء القناة وامسك بخناقها، بحيث انتهت، في اكثر من واقعة وخدمة وحدث، الى محض بوق حكومي حالها حال الابواق الحكومية الاخرى، ملتحقة بقناة الجزيرة، الواجهة الاعلامية النافذة لحكومة قطر.
 ولا بد من الاستدراك، للقول، ان القناة حاولت الافلات من الإملاءات الفاقعة للسلطات السعودية، وقدمت خدمات خبرية وتحليلية استثنائية لأحداث  في المنطقة خارج موصوف التبعية والتزامات التابع، وانها بنت بعض (اقول بعض)السمعة والاحترام على اساس تلك الاستثناءات القليلة التي نأت عن الرطانات الفقهية والمذهبية والاتوقراطية لسلطة الافتاء المتحالفة مع الاسرة الحاكمة، واستضافت عددا من الاعلاميين والكتاب والمفكرين المستقلين واصحاب مشاريع التحديث والعلمانية ومناهضة الاستبداد والدكتاتورية.
 ولعل علاقة العربية بالملف العراقي، وحصيلة الخدمة الاعلامية للاحداث والصراعات السياسية في العراق شكلت امتحانا قاسيا لمهنية القناة، إذ حاولت ان تلبي، بشيء من المهارة القلقة، ثلاثة فروضات (او ضغوطات) سياسية، الاول، هو إكساء المواقف السعودية الرسمية من الشؤون العراقية باكبر قدر من المساحيق واللاحرفية، والثاني، منح الحصة الاكبر من الخدمات (برامج. لقاءات. تقارير. دعاية انتخابية) لأحد التيارات العراقية المنخرطة في الصراع السياسي وتبني ارائه وتسويق زعاماته ومشاريعه بعيدا عن التوازن المهني واحترام المشاهد وعقله وحاجته الى التعرف على اراء الجميع، والثالث، ما تقدمه القناة من و"بعض" المواقف المستقلة و"الجمل" الاعلامية الاحترافية، وفي مرات كثيرة اخفقت في اقناع المشاهد والمراقب بصدقية ادائها ورسالتها "العراقية".
 ومنذ احداث الانبار، ثم الفلوجة، وبعدهما الموصل، سقطت الستارة بين "العربية" والموضوعية الاعلامية وصارت اقرب الى الجماعات المسلحة وشعاراتها ومشروعها الاجرامي، حتى من قناة الجزيرة، والاخطر، انها تحولت الى محمول طائفي يفيض بالتأجيج والتاليب، وأدخلت مصطلحات عنصرية وارهابية في حشوة خدمتها الاخبارية والتحليلية فيما تراجع الى مناسيب فقيرة ذلك الهامش من المهنية الاعلامية المتوازنة، تكفي الاشارة الى ان الناطقين باسم داعش والنقشبندية والواجهات التابعة لفلول صدام حسين صاروا ضيوفا دائميين على شاشاتها، ومصدرا لتقاريرها وخدماتها الاخبارية.
 لا حاجة لأن نسأل: مَن دفع "العربية" الى هذا السقوط؟ وما هو عمق البالوعة التي تخوّض فيها.
*********
"من لم يكن حكيما لم يزل سقيما".
سقراط

23
المنبر الحر / الحل السياسي.. كيف؟
« في: 17:43 19/06/2014  »

الحل السياسي.. كيف؟

*عبدالمنعم الاعسم 

يتزايد الكلام عن الحل السياسي لأزمة الموصل والمناطق الغربية، ويتشعب الى سلسلة من التصورات والمطالب تبعا للموقع السياسي الذي تنطلق منه الجهة صاحبة الكلام، وقد دخلت الامم المتحدة على خط البحث، وقيل ان المبعوث الدولي ميلادينوف يتحرك لتشكيل، او لتشجيع تشكيل  "مجموعة حكماء مقررين" لجهة وضع الأولويات العاجلة للحل السياسي، بهدف مواجهة الجماعات الارهابية وانهاء وجودها وتجنيب البلاد المزيد من الانشقاقات والتوترات والحروب.
 
ويأتي كلام الرئيس الامريكي باراك اوباما عن استبعاد التدخل العسكري الامريكي في الازمة قبل وجود "اتفاق بين الفصائل في العراق" وقوله ان "على القادة العراقيين اتخاذ قرارات صعبة والتوصل لحلول وسط للحفاظ على وحدة بلادهم" بمثابة رسالة امريكية لتحبيذ الحل السياسي، فيما يتناوب معارضون (النجيفي وعلاوي..) ومشايخ ورجال دين من المناطق الغربية على اطلاق نداءات الحل السياسي بديلا عن الحملة العسكرية التي تحاول طرد الجماعات الارهابية المسلحة من الموصل وغيرها.

على الارض سقطت آخر بروفات الحل السياسي الصادرة عن كابينة الحكومة بعنوان "المؤتمر الوطني لعشائر الانبار" حيث تقرر عقده في الخامس عشر من الشهر الجاري، وماتت المحاولة قبل ان تر النور، واللافت انه لم يكن مرحب بها من شركاء المالكي في "التحالف الوطني" ولا من الجماعات السياسية والدينية النافذة في الانبار، وبقيت على الطاولة، بدلا من ذلك، سلسلة من بيانات وتصريحات عن الحل السلمي من جميع الاطراف من دون ترسيم لمحتوى واتجاهات هذا الحل، باستثناء المرور على خيار المصالحة الوطنية مرّ الكرام، كجثة مأسوف على حالها.
/اجتياح الموصل من قبل داعش وحلفائها اضاف تعقيدا جديدا على خيار الحل السياسي، فبدلا من ان يعزز موقف المعارضين من الاحزاب والزعامات "الغربية" الموصوفة بالإعتدال والقريبة من العملية السياسية فقد اضعف مواقفها وحجتها وجعلها في موضع الاتهام بالتواطؤ مع المسلحين الارهابيين، وتقلص نفودها الى ادنى منسوب له مع صعود التطرف وشعارات التجييش ومشاعر الخوف والهلع من اندلاع حرب اهلية ضروس.
 
الحل السياسي للازمة يتحول الآن الى لغز او تمنيات لا ارضية لها في ظل طبول الحرب، وتمركز تنظيم داعش الذي، أصلا، لا يؤمن بالحوار (حتى مع حليفه زعيم القاعدة ايمن الظواهري فكيف مع اعدائه) وهناك من يؤكد ان حلا سياسيا متاحا  فقط حين يتخلى رئيس الوزراء عن منصبه وبدء الحوار مع الجماعات المسلحة (أو بعضها) كطريق لاستعادة الحد الادنى من الثقة بين فرقاء الصراع السياسي، والبعض الآخر يروج للحل السياسي ضمن اعادة بناء تجمع (او تحالف) لجميع الفئات والتكتلات المناهضة للارهاب والجماعات المسلحة خلف الحكومة الحالية مع تعليق مشروع الولاية الثالثة للمالكي.. والبعض الثالث يراهن حرب اهلية وتقسيم البلاد على قاعدة "كلما زاد اوارها تنطفي" والبعض الرابع يتحدث عن وصاية دولية مؤقتة تُبطل الصراع الفئوي على السلطة وتضع العالم امام مسؤولياته لمواجهة الارهاب والتمزق، والبعض الخامس يتطلع الى حل لا يمر من خلال هذه الحول والتشكيلات والزعامات السياسية المتصارعة، بل من الشارع، الذي يطيح بالجميع.

الم نقل ان الحل السياسي للازمة لغزٌ او حزورة؟.
*************
بمن يثق الإنسان فيما نواه؟ ...
                                    ومن أين للحرّ الكريم صحاب؟
ابو فراس الحمداني

24
المنبر الحر / الموصل.. قبل وبعد
« في: 20:15 12/06/2014  »
الموصل.. قبل وبعد

*عبدالمنعم الاعسم

كل من يعبر عن استغرابه حيال أحداث الموصل واجتياحها من عصابات الردة لم يكن ليتابع ما كان يجري من مواجهات وصراعات في الانبار، طوال عام كامل، وكيف تنامت قوة هذه العصابة بالطول والعرض، فما حدث في الموصل صباح الثلاثاء الماضي لم يكن اكثر دقة وتعبئة واجراما من عملية اقتحام سجن ابوغريب في تموز من العام الماضي واطلاق ما يزيد على الف من عتاة الارهابيين، وهروب القيادات والحراس، وانسحاب المهاجمين من دون خسائر
 
أقول، قد يصاب احد بالحيرة والاستغراب حيال ما جرى في الموصل، إذا ما كان هذا "الأحد" غير معنيّ بسلسلة الاحداث التي سبقته، او غير منشغل فيها، أو غير ذي صلة بالمسؤوليات او المواقع او الادارة القريبة منها، وقد نتوقع ان مثل هذا “الاحد” موجود في العراق، وهو افتراض ضعيف، لكن الأمر الخطير يتمثل في ان مسؤولين على تماس مباشر بادارة الصراع مع الهمجية المسلحة يقفون الآن مشدوهين في النقطة الرمادية من استيعاب الحدث الموصلي، ويصرون على تجنب المراجعة او الاعتراف بالتقصير او الغيبوبة عن حقائق الارض، بل انهم، ومن مواقعهم ومسؤولياتهم المختلفة، يواصلون اللعبة السمجة في تقاذف المسؤولية على بعضهم واعفاء النفس مما حل بواحدة من اكبر مدن وحواضر العراق.

ثم.. إذا كان اجتياح الموصل من قبل عصابات داعش هو حلقة من مواجهات سابقة بين القوات الامنية وسكان مدن غرب العراق فمن اين، إذن، جاء الداعشيون بهذا العدد الغفير من المتطوعين، المعبئين بالرطانات الدينية وبالكراهية الطائفية؟ بل ومن اين جاءوا بهذه الشحنات والحافلات والاليات اذا كانت قد سُدت عليهم منافذ الاوكسجين ووسائل الاتصال عبر الحدود؟
المشكلة، اولا، انه بدلا من التعبئة الوطنية واعداد النفس والقوة والشكيمة من اجل الحاق الهزيمة بالغزاة الكهفيين في الموصل فاننا نرصد هروبا متعمدا، بالصوت والصورة، للطبقة المسؤولة عن ادارة السياسة والحكم في البلاد من خط المواجهة، ومن ملازم القتال الوطني ووجوب الوقوف مع السكان المنكوبين، سبقهم في هذا الهروب جنرالات الادارة العسكرية والامنية حيث استقلوا طائراتهم واختاروا السلامة في الخطوط الخلفية بدلا من القتال الذي هو وظيفتهم وموصوفهم وسبب وجودهم في المدينة المسبية.

المشكلة، ثانيا، اننا مقبلون على مهزلة اخرى: المهزومون يصبحون ابطالا، بنياشين اضافية، كما حدث بعد مخازي ابو غريب.. وان علينا، مرة اخرى، ان نلقي عليهم الورود.. بدلا من الزبالة.
*********
“يكون البشر أقوياء فقط طالما يمثلون فكرة قوية، وتزول قوتهم عندما يتخلون عنها”.
سيجموند فرويد



25
المرجعة الدولية..
رحيل مبكر

*عبدالمنعم الاعسم

 البصيرة التي تتملى بيان مجلس الامن الدولي حول العراق، الصادر نهاية الاسبوع الماضي، لابد ان تجفل، بحيرة، في مواضع لافتة تتعلق بالرضا المفرط عن "مفوضية الانتخابات" والثقة، الاكثر إفراطا، بالحكومة "وقوات الامن" والجماعات السياسية وما اسماه  البيان"المؤسسات الديمقراطية" والامل المعلق على "ايجاد عملية سياسية شاملة نحو تشكيل حكومة تمثل ارادة الشعب" ولابد، بعد ذلك، إذا ما أرادت البصيرة تسجيل موقف تشكر عليه المرجعية الدولية، ان تعيد قراءة الفقرة ذات العلاقة بكارثة الانبار حيث تخلى العالم والحكومة عن مسؤوليتهم ولم ينفذوا إلا 10 بالمئة من التزاماتهم لمساعدة البشر النازحين هناك في محنتهم الانسانية.
 ومرة اخرى، واخرى، القت الامم المتحدة مسؤوليتها المثبتة في ميثاق العام 1945 جانبا، وتنازلت عن دورها في تسمية الاشياء باسمائها، واكتفت بدور شرطي المرور الذي يعنيه انسياب السيارات، لا انسياب الدم.
 على ان بيان مجلس الامن "الباهت" حيال الانتهاكات والنواقص في مجالات الحريات وحقوق الانسان وعدالة القضاء وشفافية الانتخابات لا يختلف كثيرا عن الدور "الباهت" لممثل الامين العام للامم المتحدة السيد "نيكولا ملادينوف" في العراق، خلافا لقرار مجلس الامن 1546 (2004) الزم بعثة الأمم المتحدة بتقديم المساعدة إلى العراق في مجال "تعزيز حماية حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية والإصلاح القضائي والقانوني من أجل تعزيز سيادة القانون في العراق" واذا شئنا الدقة، فان هذا الموقف لا يختلف كثيرا عن حال "التفرج" والشلل الذي انتهت اليه المرجعية الدولية على مستوى مشكلات العالم والمحن التي تعصف بدول كثيرة.   
  فلم يسبق للامم المتحدة، منذ امينها العام الاول النرويجي تريغف هالفان لي(1946) ان وقفت متفرجة على ما يحدث في العالم من كوارث وانشقاقات وحروب واعتداءات كما هي الان في عهد الكوري الطيب بان كي مون الذي لا يتحمل، طبعا، وزر هذا المآل المؤسف للمرجعية الدولية،ومنذ ايام احصى معهد غربي ما يزيد على مائة وستين مشكلة تعصف بالاقاليم والدول الاعضاء(آخرها مذابح نايجيريا) مما تدخل معالجتها في مسؤولية المنظمة الدولية، لكنها تقف عاجزة عن تقديم اية مساعدة لتلك الاقاليم والدول، إما لأنها لا تملك اموالا كافية، او ان احدا لم يطلب منها التدخل، او ان اطراف الازمات لا يسمعون ما تقوله الامم المتحدة ويفضلون تدخل اعضاء اكثر هيبة وتأثيرا و"فلوسا".
 لنتذكر ان مندوبي الدول الأعضاء اضطروا في سبتمبر من عام 1968 الجلوس على مقاعدهم أربع ساعات كاملة للاستماع الى خطيب واحد سمح له بالاستطراد كل هذا الوقت وسط ذهول مسؤولي الجلسة الذين لم يستطيعوا التدخل، وكان الخطيب فيدل كاسترو لا يمثل في الواقع بلداً مؤثراً على خارطة العالم وليس له ثقل عسكري أو اقتصادي ذو قيمة استراتيجية.غير انه في عام 1995، وفي الشهر نفسه، لم يسمح لكاسترو الا بسبع دقائق ليلقي خطابا لم يلفت نظر أحد، وتلاشى صوته الجهوري في قاعة خلت مقاعدها من كثير من المندوبين، ولم يكن نفسه آسف على مصير هذه المرجعية.
العام المقبل 2015 ستحتفل الامم المتحدة بميلادها السبعين، واغلب الظن سيكرر كي مون الطلب من الدول الاعضاء دعم المنظة لتنهض في مهمة اطفاء بؤر الارهاب والعنف واشاعة اجواء الثقة والبحث الموضوعي لتكوين ارادة السلم والاستقرار، وربما سيوحي بما كان قد اوحى به الامين العام السابق كوفي عنان  لبعض مندوبي الدول التي تطلب النجدة من الامم المتحدة: "لا تحرجونا.. لقد مضى ذلك الزمان" وكأنه يشير الى تلك الأيام الغابرة للمنظمة الدولية، حيث كان كاسترو يتحدث لساعات طويلة من دون مقاطعة، وان يقذف خروتشوف بحذائه الى الصالة.. وسط تصفيق عاصف.
********* 
"ما أحسن تذلل الأغنياء عند الفقراء، وما أقبح تذلل الفقراء عند الأغنياء".
سفيان الثوري- فقيه قديم



26
حكومة جديدة..
كوميديا من ثلاثة فصول

*عبدالمنعم الاعسم

 نحتاج الى علم جديد للسياسة، غير هذا العلم الذي نعرفه وتدرّسه الجامعات والمعاهد، لكي يفكك لنا الغاز واستعصاءات وتشابكات تشكيل الحكومة الجديدة، فهي حكومة واحدة (فقط) لكن لها عشرة اسماء متضاربة قد لا يجمعها جامع: حكومة قوية. حكومة اقوياء. حكومة اغلبية سياسية. حكومة شراكة. حكومة توافق. حكومة اكثرية، حكومة منسجمة. حكومة للمكونات. حكومة اتحادية. حكومة مركزية.
 وللايضاح، فانه من الناحية النظرية ثمة فرق بين حكومة قوية وحكومة اقوياء، فتلك تدخل في مطلوب جميع الحكومات، وهذه تدخل في موصوف الكتل القليلة النافذة التي تمسك بدفة (أو بخناق) القيادة، كما ان حكومة أغلبية سياسية غيرها حكومة اكثرية، فالاولى (هكذا يُفترض) تتشكل من اغلبية نيابية عددية لا يشترط ان تمثل الكتل الكبيرة، والثانية يشكلها المكوّن (الطائفي. الفئوي) الذي نال اكثرية المقاعد في المجلس الجديد.
 العلم الجديد (المطلوب) تُسجل براءة اختراعه لصالح متحدثين سياسيين ومعلقين كُلفوا بمهمة التشويش على المتفرجين، الذين هم نحن، وقد كُتب بيدين، واحدة للاعلام، واخرى للكواليس، وما يجمعهما محاولة تشكيل حكومة تحظى باوسع تمثيل يرخّص لها المرور من البرلمان، وستكون هذه الحكومة (في آخر ما سمعناه) تضم ممثلين لأكثر من ثلاثين كتلة وفريقا وتجمعا، يتطلع الى مقاعد في قطار الحكومة بما يناسب حجمه ونفوذه، وسطوته في الشارع، والثروة النقدية التي يملكها في اكياس الزبالة (غسيل اموال) ومصادر قوته المستوردة عبر الحدود، هذا يعني ان الحكومة قيد الانشاء، وفق هذا السيناريو، يلزمها اكثر من مائة مقعد وزاري يغطي طلبات المشاركين.
 وهذا ليس سوى فصل واحد من كوميديا تشكيل هذه الحكومة، فيما الثاني يبدأ عاصفا ومتوترا في معركة تسمية المرشح لرئاسة الحكومة، إذ تلبس الجهود هنا خوذة  واقية للرصاص، وتتدرع بلغة هجومية تطلق عشرين تهديدا في الزفير الواحد، ويظهر الى الواجهة سياسيون يقولون الشيء ونقيضه، وآخرون يقولون كل شيء باستثناء الشيء المفيد، فتُختزل محنة ثلاثين مليون من البشر، يموت منهم العشرات كل يوم، في عملية تعيين فرد واحد لمنصب واحد، بين من يعتبر الامر (حقا) له  واستحقاقا عليه دون سواه، ومن يعتبره حقا قابلا للتفاهم، او من ينفي فكرة الحق والاستحقاق، او من يروّج لـ"المنقذ" الذي لا أحد غيره سيحل مشاكل العراق، او من يفتي باضحوكة "القيادة الجماعية" التي عفا عليها الزمن، او من يُذكّر بنهاية صدام حسين وموقف سوار الذهب وحكمة حسني مبارك ورعونة القذافي وحكاية الخنفسانة التي قبلت ان تتسابق مع ارنب.. فسبقته.
اما الفصل الثالث من هذه الكوميديا فهو لقطة من مسرحية الكراسي للكاتب الفرنسي يوجين يونيسكو حيث يوجد امبراطور، لكن من غير امبراطورية.
 ستارة.. تصفيق.
 **********
"حين تتعثر مرتين بالحجر نفسه لا تتهم سوء الحظ"
                                                     مثل الماني

 

27
رأيي في التوافق.. بهدوء

عبدالمنعم الاعسم

عض الاصابع ولي الايدي وجس النبض واستعراض القوة والتهديدات والتهديات المضادة، كلها مقدمات لـ"صفقة" يعدها اصحاب معادلات الحكم لابقاء نظام المحاصصة في حشوة المرحلة وقد تتخذ هذه المحاصصة اسما مستعارا انيقا هو التوافق، برغم ان التوافق –في علم السياسة- لا يعني بالضرورة عملية تقسيم المغانم كما جرى، ويراد له ان يجري الآن.
 فمن يعده ضروريا في مرحلة الانتقال التي يمر بها العراق لتجنيب البلاد المزيد من التمزق والصراعات، ومن يراه خطيئة تتعارض مع مبدأ الديمقراطية، ومفرخة للمحاصصات، وبدعة من بدع العهد الجديد والاكثرية الحاكمة.
واحسب ان مناقشة هذا الموضوع تفترض، اولا وقبل كل شي، تحصينه من التبسيط، وتقلّب المواقف، ومزايدات سوق الاعلام، كما تفترض، في المقام الثاني، الاعتراف بان التوافق هو نقطة الوسط في الخيارات المتضاربة، وقد يكون اتفاقا يضم منسوبا متقاربا من المصالح والاهداف، يدرأ فيه المتصارعون خطر الانزلاق الى العنف في ما بينهم، او انهم يضعون فيه الغاما لسينياريوهات حرب واقصاءات ضد جبهات اخرى.
  التوافق، من جهة اخرى، ابن شرعي لعصر التحولات، والاستقطابات الجديدة، لكن المشكلة تتمثل في انه قد يصبح ابنا عاقا حين يُختزل الى صفقات مشبوهة تهدف الى تكريس الدكتاتوريات والمظالم، وقد يخرج هنا من التعريف المدرسي للتوافق الى معنى آخر اقرب الى التآمر.
وبخلاف ذلك فانه لا مفر من التوافق على حلول وسط، متوازنة ومشرفة، بين الفئات والخيارات السياسية العراقية المختلفة وهي تقف عند منعطف تاريخي مفتوح على احتمالات تمتد بين الجحيم والمعافاة، والبديل عنه يتمثل في مواجهات كارثية لن تعود بالخير على ايّ منها، فيما تدخل قضية تشكيل الوزارة الجديدة في مختبر النوايا، وصدقية الالتزام بالعهود، والرغبة في ترجمة شعارات التعايش الى الواقع، على الرغم من ان الكثير من عناصر هذه الازمة مستمدة من ارث السنوات المحاصصية العجاف، وبعضها من فضلات الدكتاتورية الشوفينية.
 التوافق، طبعا، ليس مبدأ للمحاصصة. الاول عملية تقريب وتجسير لوجهات النظر والمطالب والمشاريع والشروط المتباعدة والمتصارعة وفق قواعد سياسية تتسم بالحرص على نزع فتيل حريق قد يشب في اية لحظة وتجنيب البلاد المزيد من الانشقاقات والحروب، والثاني تقسيم للفرص والوزارات والمواقع والنفوذ والوظائف الحكومية وملازم الثروة والجاه على اساس طائفي وفئوي. الاول، ينطوي على تضحيات مبررة ببعض المصالح، والثاني يبرر التشبث، غير المبرر، بالامتيازات. الاول، يتقرب من معالجة حالات التهميش بالنسبة لمكونات او فئات وكفاءات، والثاني يكرس حالات التهميش لمكونات وجماعات وكفاءات.
 الى ذلك فان التوافق كادارة  لمصالح متضاربة، او متجاورة، دخل ويدخل في صلب العلاقات الدولية وفي اساس المعاهدات والمواقف التي تعالج  الازمات الدولية والاقليمية، ويعود له الفضل في تجنيب البشرية الكثير من الويلات، ويعود اليه العقلاء لتسوية صراعات دموية وتداخلات معقدة.. وقد يعود اليه مجانين ركبوا رؤوسهم ردحا من الزمان، فاكتشفوا عبث الاوهام التي يمتطونها.
********
"الهي.. أشكوك.. هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي.."
                                      الحلاج
 

28
رأيي في التوافق.. بهدوء

عبدالمنعم الاعسم

عض الاصابع ولي الايدي وجس النبض واستعراض القوة والتهديدات والتهديات المضادة، كلها مقدمات لـ"صفقة" يعدها اصحاب معادلات الحكم لابقاء نظام المحاصصة في حشوة المرحلة وقد تتخذ هذه المحاصصة اسما مستعارا انيقا هو التوافق، برغم ان التوافق –في علم السياسة- لا يعني بالضرورة عملية تقسيم المغانم كما جرى، ويراد له ان يجري الآن.
 فمن يعده ضروريا في مرحلة الانتقال التي يمر بها العراق لتجنيب البلاد المزيد من التمزق والصراعات، ومن يراه خطيئة تتعارض مع مبدأ الديمقراطية، ومفرخة للمحاصصات، وبدعة من بدع العهد الجديد والاكثرية الحاكمة.
واحسب ان مناقشة هذا الموضوع تفترض، اولا وقبل كل شي، تحصينه من التبسيط، وتقلّب المواقف، ومزايدات سوق الاعلام، كما تفترض، في المقام الثاني، الاعتراف بان التوافق هو نقطة الوسط في الخيارات المتضاربة، وقد يكون اتفاقا يضم منسوبا متقاربا من المصالح والاهداف، يدرأ فيه المتصارعون خطر الانزلاق الى العنف في ما بينهم، او انهم يضعون فيه الغاما لسينياريوهات حرب واقصاءات ضد جبهات اخرى.
  التوافق، من جهة اخرى، ابن شرعي لعصر التحولات، والاستقطابات الجديدة، لكن المشكلة تتمثل في انه قد يصبح ابنا عاقا حين يُختزل الى صفقات مشبوهة تهدف الى تكريس الدكتاتوريات والمظالم، وقد يخرج هنا من التعريف المدرسي للتوافق الى معنى آخر اقرب الى التآمر.
وبخلاف ذلك فانه لا مفر من التوافق على حلول وسط، متوازنة ومشرفة، بين الفئات والخيارات السياسية العراقية المختلفة وهي تقف عند منعطف تاريخي مفتوح على احتمالات تمتد بين الجحيم والمعافاة، والبديل عنه يتمثل في مواجهات كارثية لن تعود بالخير على ايّ منها، فيما تدخل قضية تشكيل الوزارة الجديدة في مختبر النوايا، وصدقية الالتزام بالعهود، والرغبة في ترجمة شعارات التعايش الى الواقع، على الرغم من ان الكثير من عناصر هذه الازمة مستمدة من ارث السنوات المحاصصية العجاف، وبعضها من فضلات الدكتاتورية الشوفينية.
 التوافق، طبعا، ليس مبدأ للمحاصصة. الاول عملية تقريب وتجسير لوجهات النظر والمطالب والمشاريع والشروط المتباعدة والمتصارعة وفق قواعد سياسية تتسم بالحرص على نزع فتيل حريق قد يشب في اية لحظة وتجنيب البلاد المزيد من الانشقاقات والحروب، والثاني تقسيم للفرص والوزارات والمواقع والنفوذ والوظائف الحكومية وملازم الثروة والجاه على اساس طائفي وفئوي. الاول، ينطوي على تضحيات مبررة ببعض المصالح، والثاني يبرر التشبث، غير المبرر، بالامتيازات. الاول، يتقرب من معالجة حالات التهميش بالنسبة لمكونات او فئات وكفاءات، والثاني يكرس حالات التهميش لمكونات وجماعات وكفاءات.
 الى ذلك فان التوافق كادارة  لمصالح متضاربة، او متجاورة، دخل ويدخل في صلب العلاقات الدولية وفي اساس المعاهدات والمواقف التي تعالج  الازمات الدولية والاقليمية، ويعود له الفضل في تجنيب البشرية الكثير من الويلات، ويعود اليه العقلاء لتسوية صراعات دموية وتداخلات معقدة.. وقد يعود اليه مجانين ركبوا رؤوسهم ردحا من الزمان، فاكتشفوا عبث الاوهام التي يمتطونها.
********
"الهي.. أشكوك.. هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي.."
                                      الحلاج
 

29
المنبر الحر / التاريخ..
« في: 19:20 27/05/2014  »

التاريخ..

عبدالمنعم الاعسم

 ماذا سيقول التاريخ عن هذه المرحلة "العراقية"؟ سؤال يطرح نفسه كلما التبست مجريات السياسة، وتداخلت وتشظت ارادات العراقيين، وظهرت على السطح علامات مخيفة عن المستقبل الذي ينتظر هذه الدولة.
 والسؤال التفصيلي، الاكثر اهمية، هو من سيكتب التاريخ الذي نتحدث عنه؟ هناك من يستبعد سلامة المدونات التاريخية المكتوبة من قبل السلطات او منظومات العقائد الدينية او الوضعية فهما معا سيكتبان اساطير وبطولات وحقائق عليلة. وهناك من يرى، ونحن منهم، ان التاريخ الاقرب الى الحقائق يكتبه اولئك المغضوب عليهم، المجلودة ظهورهم، من الشهود والرواة والعلماء والشهداء، الفارّين من الطوائف والعصبيات والولاءات، الذين اشتغلوا على كيمياء الاحداث وسجلوا الوقائع من دون ان ينظروا خوفا الى نوافذ الحاكم، او ينتظروا “عفارم” زبانيته، بل انهم اصحاب فكرة مزبلة التاريخ حين دحرجوا الطغاة وانظمة الاستبداد والمزورين واعداء الحرية الى نهاية تليق بهم.
 غاليلو والكندي واسحاق نيوتن وليوناردو دافنشي وفيكتور هيجو والحلاج، وغيرهم كثيرون قلبوا سياق الكتابة عن التاريخ فلم يرووا لنا اساطير منفوخٌ في ملامحها ولا مكائد القصور ومؤامرات الخلفاء والاباطرة، ولم يكن ليعنيهم مرضاة صاحب النعمة، ومجد اولئك انهم علموا الكتبة من اية زاوية يقرأون الاحداث والوقائع وفي اي مكان يضعونها، لنتذكر المشكلة التاريخية التالية: عندما احترقت روما (هكذا كتب المؤرخون) كان نيرون يعزف، متسليا، بقيثارته، ودخلت هذه المفارقة ( وقل القيثارة) في كراسات المدارس وكتب التاريخ، ثم اكتشف بعد ذلك ان القيثارة لم تكن قد اختُرعت آنذاك في عصر نيرون، ثم، وهذا المهم، لم يعتذر احد من الذين دسوا هذه الكذبة في كتب التاريخ، او في ذاكرتنا.
 بل ان هناك شكوك في سلامة ومصداقية المدونات التي ارخت الثورات، من ثورة سبارتوكوس وثورة الزنج وثورة اكتوبر حتى الثورة العلمية التكنولوجية، وثمة نصف تلك الشكوك ( كما يقول الروائي الامريكي المصلح هيرثورن) يمكن ان يكون صحيحا، ولو عدنا الى رواية “وداعا يا غولساري” لجنكيز ايتماتوف، والى رواية “السيد الرئيس” لاوسترياس سنجد اننا لم نلتقط كفاية تلك الحقائق العميقة في ما بين السطور، يكفي ان نتذكر ان ايتماتوف كان يسأل ثائرا عما دفعه الى الثورة فكان الاخير يجيب “ لا اتذكر” ولكن ايتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقا في كفاحه من اجل الحرية الى ابعد الحدود.
 ان العلوم الحديثة تحذرنا مما يقال على انها حقائق تاريخية، يكفي هنا ان يشار الى حكاية دموع التماسيح، إذ نكتشف ان التماسيح لا تذرف الدموع لسبب بسيط هو انها لا تملك غددا دمعية.
********** 
"لا تسقط التفاحة بعيداً عن شجرتها"
                                              مثل روماني 



30

نتائج الانتخابات..
6 لقطات منهجية

عبدالمنعم الاعسم

1ـــــــــــــــــــــــــــ
كلمة رئيس المفوضية تضمنت، بخلاف المسؤولية المستقلة، إطراء فوق العادة لمجريات الاقتراع ودور السلطات واجواء التنافس، على الرغم مما نعرفه من شوائب وفجوات وشكاوى خلال يوميات التحضير والسباق، وما سجلته المفوضية في وثائقها وبياناتهاعن موظفين مسؤولين في المفوضية تركوا مواقعهم، وآخرين قاموا بمخالفات لصالح جهة نافذة، فضلا عن الطعون حيال اجراءات اتخذتها الجهات الامنية والحكومية حالت دون وصول الالوف من الناخبين الى الصناديق، وكان على رئيس المفوضية ان يحاذر بان تكون كلمته صدى مباشرا لكلمة السلطة.
2ــــــــــــــــــــــــ
لا أعرف انتخابات يكتسح فيها وزير داخلية، او من يقوم مقامه، نتائج التصويت إلا ولاحقته شبهة التلاعب.. هذا في دول لا مجال فيها لتداخل السلطة بالممارسة الانتخابية، فكيف في دولة تعاني من هشاشة التأسيس وسطوة المؤسسة الامنية والسلطات والاموال الاسطورية التي تتحكم فيها وزارة الداخلية في العراق؟
3ـــــــــــــــــــ
من بين المرشحين ثمة من خاضها بفروسية، إذ قدم نفسه وعائلته وممتلكاته وقناعته الى الناخبين بالالوان الطبيعية، ونزل الى الشوارع والمزدحمات من غير حمايات ولا استعراضات ولا "مكرمات" يوزعها يمينا وشمالا، ولا بذخٍ في الدعاية والتعريف، وقد فاز بعض اولئك الفرسان، وخُذل بعضهم.. فلا تباهى اولئك بفوزهم ولا زعل هؤلاء لفشلهم، وعند الجميع، اولئك وهؤلاء، انها معركة واحدة لبناء دولة لا تغدر بابنائها.. تلك هي الفروسية.
4ـــــــــــــــــــــــــ
ثمة القليل من الزعامات من اعلن قبوله بالنتائج "على علاتها" على الرغم من انه سبق وان اكد التزامه بأحكام الاقتراع وحكم الصناديق حتى وإن جاءت بالضد من تمنياته وتقديراته. المشكلة ان اجواء ما قبل الانتخابات استمرت على ما هي عليه حتى بعد إعلان النتائج.
5ـــــــــــــــــــ
لو ان اعلان النتائج يوم الاثنين تأخر يوما آخر لكانت قوائم النتائج قد وصلت الى جميع دكاكين بيع الفواكه والخضرة، ففي صباح الاحد كان جميع اعضاء المفوضية، وهم أتباع كيانات متنافسة وموالون لها، قد سربوا تلك القوائم كاملة الى كياناتهم، وطوال اليوم السابق للاعلان اصبحت تلك النتائج متداولة على نطاق واسع، فيما نشطت صفحات التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة في توزيع تلخيصات كاملة عنها في حين كان ينبغي ان تكون طي الكتمان حتى ساعة اعلانها، وحين اعلنت لم يفاجأ أحد، ولم يكن هذا التسريب ليهم المفوضية نفسها، كما يبدو، وربما اعتبرته من باب الشفافية.
6ــــــــــــــــــــ
لم تعجبني عبارات التشفي في فشل متنافسين.. انها بعض من تراث التخلف وثقافة شفاء الغليل الرثة.
***********
" مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملأهم الشكوك".
برتراند رسل



31

التغيير..
ومصير التغيير

عبدالمنعم الاعسم

لدينا الآن صورة مقربة عن نتائج انتخابات نيسان الماضي: القوى المتنفذة التي امسكت بمعادلات السياسة والامن والاقدار طوال العقد الاخير من عمر "العراق الجديد"عائدة الى موقعها في السلطة، مع تغييرات طفيفة في المناصب والوجوه والسياق الخطابي، مقابل تحسن طفيف في امكانيات ظهور تمثيل للفئات الللاطائفية والمهمشة ودعاة مشروع التغيير النوعي في ادارة شؤون البلاد، وقد لا نكون مفرطين في التفاؤل إذا ما رصدنا ملامح اولية لتحالف (أو تقارب او تنسيق) بين نواب من كتل متفرقة يشكل قوة ضغط واعتراض برلمانية، ليصبح موئلا لحركة الشارع المتطلع الى  التغيير.
 المشكلة الاولى تتمثل في ان شعار التغيير نفسه انتهى الى سلعة اعلامية رخيصة بعد ان تداوله جميع المتنافسين، وتخفى تحت لافتاته عتاة الفاسدين وحُماتهم، وجرى اختزاله الى تعريفات وفروض ومطالب مشوبة بالغموض والمخاتلة، والى سيناريوهات توحي بحلول للازمة السياسية والخروج منها ومعالجة آثارها لكنها في جوهرها تزيد في تفاقم هذه الازمة، لسبب بسيط هو ان اصحاب الازمة وابطالها هم انفسهم يتجهون الى القبض على ادارة القرار وليس ثمة ما يشير، لا في برامجهم وتصوراتهم ولا في أسمائهم المرشحة للولاية المقبلة، الى ان البلاد ستدخل عهد التغيير الجدي.
 والمشكلة الثانية هي ان التغيير الحقيقي لا قيمة له إن لم يتضمن خطوات جدية ومنهجية نحو تحويل الدولة من دولة المحاصصات الفئوية والطائفية الى دولة المواطنة. من دولة المنصب المستعار من الولاء والانتماء السياسي الى دولة المنصب القائم على السجل المشهود له بالكفاءة والعفة والوطنية. من دولة المكونات التي يجب ان تحكم الى دولة المكونات التي يجب ان تتعايش في ظل المساواة واحترام الخصائص، ومن الطبيعي ان لا يقبل(ولا يؤمن) بهذا التغيير اولئك المهووسون بالسلطة والتزاحم على المقامات والذين يعكفون على الوثوب الى ادارة الحكم من معبر الصفقات، ويعرضون، منذ الآن، ملاكات الدولة ومشيئاتها في سوق العرض والطلب السياسي نظير الولاء والترخيص والتحالف.
 على ان التغيير، كخيار تتطلع له الملايين العراقية، ووجد تعبيره في نداءات وتجمعات واحتجاجات في كل مكان سيبقى يحتفظ بزخمه الى حين، وقد يتحول الى حركة فاعلة وناشطة ومهيبة في البرلمان وخارجه، ويمكن، بالمقابل، ان نتهجأ محاولات تضليل المتطلعين لهذا الخيار بتقديم وصفات مغشوشة لفكرة التغيير، ومن بينها قول البعض بان التغيير قد تحقق فعلا  بهذا التنافس الانتخابي المفتوح بين السياسيين وتحالفاتهم، وقول البعض الثاني بان التغيير يحتاج الى سنوات طويلة فلم العجلة؟ فيما البعض الثالث لا يزال يحلم بالتغيير عن طريق الانقلاب العسكري والبيان رقم واحد، ما يتعارض مع دوران عقارب الساعة.
   


32
رأيٌ في.. "الولاية الثالثة"

*عبدالمنعم الاعسم

 لا مستحيل في السياسة، لكن للمستحيلات ثمن باهض، بينها ماء الوجه احيانا، وكان ميكافيلي يقول انك عندما تقدم على التنازل في ميدان السياسة فلا تضع باعتبارك اعتراضات الاخلاق ولا تتمترس عند ما كنت تقوله في وقت سابق، فان المصلحة العليا –يقول ابو البراغماتية- تبرر لك كل شيء.
 لكن اسوء السياسيين، في النتيجة، هم المتقلبون، المنكفئون عن اقوالهم ومواقفهم، ولم تستطع كل تبريرات ميكافيلي انقاذ سمعة سياسي واحد بلا مصداقية.
 في الحديث عن الولاية الثالثة لرئيس الوزراء نوري المالكي- إذ جاء في المرتبة الاولى بين المتنافسين في انتخابات نيسان- تنزل كلمة "التنازلات" منزلة العملة في السوق: لكل خطوة سعر، فيما تنزل مفردات وحدود واشكال التنازلات منزلة البضاعة: هات وخذ.
 وتشاء اللعبة ان تطرح وكلاء ينادون باعلى الاصوات عن وجوب التعجيل بعقد صفقة الولاية الثالثة، أو صرف النظر عنها، قبل ان تصبح البضاعة بائرة ويذهب فوز "الشيعة" ادراج الرياح، وفي غضون ذلك يجري الحديث عن حاجة المالكي، لكي يطيّب خواطر منافسيه، الى التخلص من بعض الوجوه والادوات والاسماء المحيطة به عربونا اوليا للصفقة.
مؤشرات كثيرة على ان المالكي يبحث الآن في تنازلات "ثقيلة" امام منافسين قد يوافقون على الولاية الثالثة، وهو المعبر، باهض التكاليف، اليها، حيث يتوزع المنافسون بين التمنع والتردد والرفض فيما تحيط الشكوك حدود التنازلات المطروحة، لكن لا شك حول تخلي المالكي عن جزء كبير من سلطته ونفوذه وصلاحياته ومواقفه لتحقيق شراكة  الولاية التي يتطلع اليها، وسيكون معروفا بان البيئة البرلمانية والشعبية (في حال تمت الصفقة) ستشهد حركة معارضة اشد مما كانت عليه، وان يد المالكي لن تحتفظ بكفاية من وسائل الردع والادارة، كما كانت عليه في السنوات الاربع الماضية.
المحلل الموضوعي، يقرأ نيات متضاربة حيال محاولات تجسير الولاية الثالثة، ويتهجأ مستحيلات جمة تعترض سبيلها، لكن كابينة المالكي تروج لفكرة "الاغلبية السياسية" من دولة القانون وشظايا الكيانات وبعض الزعامات الطامحة بكثير من التبسيط، وهي، إذا ما تحققت، فهي تنطوي على محاولة زج المشهد السياسي، وكل الدولة، في دوامة جديدة واحتراب مفتوح، بوجود الكتل والمكونات والشرائح السكانية والجماعات الجديدة الفاعلة في صف المعارضة، هذا عدا عن ان القضم من ماعون الاخرين، لن يكون حكرا على كابينة المالكي، ولا  طريقا له وحده، فستستخدم من قبل المنافسين، كما تابعنا وقائعه في الدورة السابقة.
 في هذا نحتاج ان نتوقف عند فكرة مهمة ومفصلية ذكرها نائب رئيس الجمهورية  حول الولاية الثالثة.. قائلا: "كنا نتمنى على السيد المالكي ان ينأى بنفسه عن الولاية الثالثة مصداقاً لتصريحات له في ولايته الاولى".
 انها اكثر من تمنيات.. واقل من نصيحة.
*******
" لا تسل طفلك عما يريده على العشاء إلا عندما يكون هو الذي سيدفع الحساب".
فران ليبوتز- أديبة امريكية



33
المنبر الحر / بين الجد والهزل
« في: 23:47 03/05/2014  »

بين الجد والهزل

عبدالمنعم الاعسم

يبدأ الجد حين ينتهي الهزل، هكذا كان يقول شارلي شابلن، الذي كان يعلن انه لا يحب الجد، لكن الجد، مثل الدم، يجري في عروقه، فلا يمكن للحياة ان تمضي في طريق الهزل واللعب والمقالب الى ما لا نهاية، ولا يمكن لها ان تكون جادة، متجهمة، مُستنفرة على الدوام.
لقد انشغلنا، واستغرقنا، بالهزل زمنا طويلا، واطول مما هومُحتمل، وشاهدنا فنونا من المضاحك والتسليات السياسية فيما بعض الهزل كان كوارث طاحت على رؤوسنا مصحوبة بالعويل والخراب والدماء، وبالمقابل ظهر لهذا الهزل ابطال ومخرجون وجمهور، وتجار خردة عكفوا على ترويج وعي عام مهزوز، وقد حذر على الوردي من اغواءات الجمهور حين يستسلم الى ثقافة مهزوزة.
 ولأسباب معروفة، فان لاعبين كثيرين في ساحة السياسية عملوا، ويعملون، على إطالة شوط الهزل، ومنّوا النفس ان لا يخرج العراق الى فضاء الجد والبناء والسلام،  ومن زاوية يبدو اننا انتجنا سياسيين للهزل اكثر مما انتجنا سياسيين للجد، وهذا يفسر لماذا اطلقت مبادرات التسوية السياسية او التهدئة، كانت اقرب للهزل منها الى الجد.. لنتذكر "ميثاق الشرف" مثلا.
عمليا، ومن الناحية المنطقية، ينبغي ان تتوقف، الان، سيناريوهات الهزل السياسي والمسرحيات التهريجية وتمارين التسقيط ولي الايدي ولغة استعراض القوة ذات الصلة بالحملة الانتخابية، فقد أغلقت الصناديق بعد ان امتلأت بالاصوات، وصار ثمة مرجع معترف به ، هو النتائج، ليقرر مصائر السياسة والسياسيين، ويُفترض (اقول يُفترض) ان يتعامل المتنافسون مع تلك النتائج باعتبارها حكما، او تمثيلا لأرادة الناخبين، او تجربة تخضع للمعاينة والتقييم والاصلاح والاعتراض، وكل ما عدا ذلك يدخل في عداد العناد السياسي. 
 وبما ان الديمقراطية ليست انتخابات فقط، لكن حصيلة تجاربنا في ممارسة الانتخابات تكشف، عن جملة التشوهات، واغتراب الرؤى  بين من يعتبرها خيارا لبناء دولة العدالة والخبز والحريات والمساواة ومن يتعامل معها كجسر الى السلطة والامتيازات.
/بين من يخشى الخروج من الهزل هاربا من استحقاق النقاط والحروف.. وبين مَن يتطلع الى مرحلة الجَدْ، ليضع النقاط على الحروف.
********
"من يجلس فوق مقعدين يسقط بينهما".
                                              حكمة ايرانية



34


تأجيل الانتخابات..
العلن والسر

عبدالمنعم الاعسم

 على واجهات الاعلام والتصريحات، عابرة الكواليس، لا أحد من الكتل النافذة يحبذ تأجيل الانتخابات عن موعدها، الثلاثين من الشهر الجاري. معارضو المالكي (متحدون وغيرهم) يسوّقون التبرير التالي: ان رئيس الوزراء نفسه يفضل تأجيل الانتخابات، لأن ذلك يضمن له تحوّل حكومته الى حكومة تصريف اعمال، ويعني ذلك تحرره من قيود ورقابة ومرجعية البرلمان حيث وصلت العلاقة بينهما الى نقطة المواجهة في اكثر من ملف، واصبح البرلمان-والقول للمعارضة- شوكة في خاصرة المالكي.
 اما كابينة رئيس الوزراء فانها تطالعنا بالقول ان المعارضين يشعرون بالحرج وتراجع وتشتت قاعدتهم التصويتية، لذلك يدفعون الامور الى تأجيل الانتخابات  بانتظار حلول الوقت الانسب لإجرائها، درءا لهزيمة مؤكدة، وهروبا الى الامام-يقول انصار المالكي- قدما حتى اشعال الفتنة الطائفية.
/معسكر المالكي ينفي سعيه الى تأجيل الانتخابات ودفعه الامور الى تعويم السلطة التنفيذية بواسطة حكومة تصريف الاعمال، موحياً، ان الوقت مناسب جدا لكي يحصد إئتلاف دولة القانون نتائج يطمح لها قد لا تتوفر في اي وقت آخر، اما معسكر رئيس مجلس النواب فانه يؤكد ان حظوظه في تحقيق اختراق في المعادلة السياسية والطائفية جيدة، الآن، ولا يريد ان يفرط بها.
 هذه هي الاطر التي تتحرك فيها السجالات بين الجانبين. في العلن، الجميع، الحكومة ومعارضوها، يعلنون التمسك بتوقيتات مفوضية الانتخابات، وان الاخرين يسعون الى عرقلتها، والتآمر عليها، والتهرب منها، وانها بعيدة عن شبهة الحفر من تحت الموعد الدستوري، لكن الذين يتابعون خفايا الاشياء، ونشاطات الكواليس يعرفون ان المعنيين بهذا السجال لا يستبعدون خيار التأجيل، وان هناك خطط وقائية لاحتواء هذا الخيار، بل والدفع سرا لتأجيل الانتخابات وتحميل المسؤولية على الطرف الآخر.
 وفي السر ايضا، يجري الفرقاء حسابات الربح والخسارة من تأجيل الانتخابات، حتى لا يتفجأوا بالمحذور، ومنذ ايام تشابكت خطوط الاتصال والاعتراض، والتقط مراسلون اشارات غامضة عن اتفاق غير مكتوب بين معنيين ومراجع دولية يقرر مصير الانتخابات، واضاق البعض القول، ومصير الحكومة، والعامل الجديد هو مسعى رئيس الوزراء للحصول على صلاحيات استثنائية قد تسهل له تأجيل الانتخابات وتشكيل حكومة طوارئ، فنشر، هذا العامل، الذعر بين المتنافسين، وتحسس البعض رقابهم.
********* 
" الشجرة العاقر لا يقذفها أحد بحجر ".
                                      ليوبولد سنغور


35
تكذبون ايها السادة

عبدالمنعم الاعسم

إنها الحرية، إذ تصبح جسرا الى خطايا اقل ما يقال عنها انها تدنس هذا الرداء الابيض البريء الذي دفعت البشرية ملايين الانفس من اجل تحقيقها، ومنذ اكثر من مائتين من السنين، وكان ذلك في حزيران من عام 1793 حين اطلقت السيدة الفرنسية الشهيرة مدام رولان صيحتها المدوية يوم وقفت امام المقصلة بالقول: “آه ايتها الحرية.. كم من الجرائم ترتكب باسمك”.
وإذ بدأت الملايين العراقية تستنشق نسائم الحرية بعد احتباس (في غيبوبة القمع والدكتاتورية) لعقود وعقود، فقد فاجأتها حيتان المرحلة باستخدام هذا الفضاء الانساني الرحب لتقديم اسوأ نموذج من ممارسة الحرية وصل حد الكذب العلني بالصوت والصورة، باعتباره دعاية انتخابية.
وتشاء الايام القليلة الماضية من بدء الحملة الانتخابية ان تسجل، وبخاصة من على الشاشات الملونة “وصلات” دعائية هي اقرب الى الوصلات الخاصة بحفلات الملاهي، من حيث الاثارة والالوان وعبارات الاقتدار والالمعية، وذلك في تلك الاعلانات الفاقعة المدفوعة الاجر عن “منقذين” ارسلتهم العناية الالهية الى العراقيين الجياع والمعوزين والعاطلين والمهددة حياتهم من الارهاب والكراهيات الطائفية، ولم يكن اصحاب هذه الاعلانات ليتورعوا عن ايذاء ذائقتنا وذاكرتنا بالكذب الصريح عن براءتهم مما حل بنا من نوائب وحرمانات (ولا يزال) على ايديهم او على ايدي اصحابهم، او على ايدي اصحاب اصحابهم.
اما المقابلات والحوارات (مدفوعة الاجر ايضا) فقد بلغ الكذب فيها من الاسفاف بحيث تبدأ المقابلة بكذبة واحدة (اموال الدعاية عراقية مئة بالمئة) ثم تتسلسل الاكاذيب، من غير توقف، حتى تصل الى القول: لا علاقة لنا بدول الجوار. ليس لدينا مليشيات. جيوبنا نظيفة. كنا نريد ان نقدم الخدمات للشعب. لكن الذنب على غيرنا. ضحينا كثيرا من اجل الشعب.
وتشاء الحمية الدعائية ان يدخل الحلبة طرفان يحمّل كل منهما الاخر مسؤولية ما حل بالعراقيين، ويختار كل منهما عبارات منتقاة على هيئة لائحة من الاكاذيب تبرئ النفس، وتزكي السيرة، وتلمّع الرصيد، وترفع الجاه.. لكنها لا تعدو عن “كذب مصفط” برع اصحابه في ..وتذكيرنا بصاحبهم القديم مسيلمة.. سيء السمعة والصيت.
*********

“من كان كلامه لا يوافق فعله ، فإنما يوبخ نفسه”
ابن مسعود
 


36



منازل المسيحيين المهجورة..
مباحة "شرعا"


 الاخبار مؤكدة عن جماعات طائفية مسلحة اجتاحت منازل المسيحيين المهجورة في بغداد ورفعت فوقها بيارغ النصر وصور اولياء وزعامات دينية، واحاطتها بالحراسات. اما السلطات فانها مشغولة عن ذلك، والانشغال هنا محيّر ومريب، ومسجل بحساب الحملة الانتخابية، إذا شئنا الدقة.
 لكن الامر المتعلق باجتياح بضعة منازل غادرها مالكوها المسيحيون، هربا، الى الخارج، ليس سوى فاصلة في مسلسل الاعتداءات المنهجية على "المكون المسيحي" تتقاسمها الجماعات المسلحة الارهابية المرتبطة بالمشروع التكفيري او بالمليشيات المدللة، ويعرف هذا المسيحيون انفسهم، بل انهم يحتفظون بوقائع مرعبة عن اعمال التنكيل والتضييق التي تعرضوا لها طوال اكثر من عقد من الستين في بغداد ومحافظات الجنوب وكركوك والموصل، وقد بُحّت اصوات المنادين بوجوب التحرك لحمايتهم، فلا الحكومة ولا الامم المتحدة ولا غيرهما سمع الاستغاثات.
 طبعا، من السذاجة السياسية التساؤل عن السبب الذي يدفع الجماعات الطائفية المتطرفة الى استهداف المسيحيين في العراق، وغيره، هذا إذا كان التساؤل بريئا وباحثا، بحق، عن اجابة شافية، لكن ثمة من يثير هذا السؤال، وعن قصد، لتعويم المسؤولية في متاهات نظرية المؤامرة، وتصريفها في اقنية ورطانات، ولا يتوانى هذا البعض، الذي يتقن الضجيج واللغو، عن إبداء الشفقة الباردة واللفظية والمغشوشة على المسيحيين، والتذكير المكرر والممل بان الاسلام "برئ" من هذه الاعمال اللاانسانية ليوحي ان المهاجمين ربما من اتباع ديانة اخرى، أو انهم "مدسوسون" من قبل قوى مجهولة، او- في افضل التبريرات نعومة- ان الفاعلين لم يقرأوا كتاب الله جيدا.
 وباستثناء السذج الذين لا يعرفون حقا لماذا يستهدف التطرف الديني المسيحيين وكنائسهم، وكذلك باستثناء الذين "يعرفونها ويحرفونها" فان خطابات شيوخ مساجد التطرف، المكتوبة والمصورة والمسموعة، لا تبقي مجالا للشك في ان استهداف المسيحيين جزء من أحلام الدولة الدينية القائمة، اساسا، على فكرة الحرب بين الاسلام والنصارى. بين دولة الخلافة الجديدة والدول الكافرة. متفرعة عنها حروب تفصيلية اخرى بحسب ما يتاح للجماعات المسلحة من فرص للضرب والتفجير واقامة المذابح واجتياح المنازل المهجورة بما يبقي "حرب التقوى" مستمرة، وحرائقها مشتعلة.
علينا هنا ان نتوقف قليلا عند واحدة من اركان الخطاب الارهابي التعبوي، التجييشي، وهي عبارة "الاحتلال الصليبي" او "التحالف الصهيوني الصليبي" التي وضعها ابن لادن في وقت مسبق وجسدها في بيت من الشعر كان قد ارسله لانصاره في العراق، يقول فيه:
 بغدادُ يا دارَ الخلافةِ ويحكِ ..... ما بالُ طهركِ دنّسَته طُغَامُ
 ترى ما الفرق بين اولئك وهؤلاء؟.
**********
"تزداد الكلاب السائبة دائما، لاننا نرمي بقايا الموائد دائما".
حكمة مترجمة





 

37
المنبر الحر / غوغاء
« في: 18:26 03/04/2014  »

غوغاء

عبدالمنعم الاعسم

 منذ ان حشرتها ماكنة التهريج الاعلامية للدكتاتورية في غير محلها صارت كلمة "الغوغاء" تستفز الذاكرة الشعبية واللغوية، لانهم الصقوها غُلا وصفا مغشوشا لابطال انتفاضة آذار، فيما هي شيء آخر في المعنى والدلالة، بل انها اقرب لموصوف ازلام الدكتاتور نفسه الذين ملأوا الفضاء بالتزوير والغش لكي يتوافق التفسير مع المصلحة، وقد توارثها البعض، سوية مع موروثات بغيضة اخرى.
 يظهر الغوغاء في الانعطافات والاحداث والفواجع، كما يظهرون، اكثر من ذلك، في ظروف السلم والاستقرار، وعلي حواشي الساسة والطامحين والمتآمرين: يجلسون علي الارصفة بانتظار من يصفقون له، ومن يستقوون به، ومن يسعون اليه.. ولا يتورعون عن الايذاء أو المنكر أو العصيان أو شهادة زور، ولا عن معارضة محسوبة بالامتيازات، أو عن ولاء محسوب بالربح.
/والغوغاء نرصدهم في الثقافة مثلما في السياسة، فهم بارعون في المديح متطرفون في الهجاء. يزنون الموقف بالتكسب والمصلحة، ويبيعون (الضمير) بالمفرق والجملة.
 حاضرون في الصخب والفوضي، ومتصدرون في الولائم والفضائيات. يغيرون على هذا من غير دالة، ويدافعون عن ذاك من دون حق. أصواتهم أعلي الاصوات، وشتائمهم أرخص الشتائم. يتقدمون حيثما يكون التقدم مضمونا بالسلامة، وينسحبون حيثما يكون الانسحاب مكفولا بالنجاة:
 في كتاب (العزلة) لأبي سليمان البستي مقاربة عن (الغوغاء) يقول:
/عن ابي عاصم النبيل ان رجلا أتاه، فقال له: إن امرأتي قالت لي "يا غوغاء". فقلت لها: إن كنتُ غوغاء فأنت طالق ثلاثا، فما العمل؟ فسأله ابو عاصم النبيل:
 ــ هل انت ممن يحضر المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك؟
 قال: (لا).
 قال النبيل: هل انت ممن يحضرون يوم يعرض الحاكم الظالم أهل السجون فيقولون فلان أجلد من فلان؟(أي ينافقون)
 قال الرجل: لا.
 قال ابو عاصم: هل انت الرجل الذي إذا خرج الحاكم الظالم يوم الجمعة جلست له علي ظهر الطريق حتي يمر، ثم تقيم مكانك حتى يصلي وينصرف؟
 قال الرجل: لا.
 قال ابو عاصم النبيل للرجل: لستَ من الغوغاء، إنما الغوغاء من يفعل هذا.
 لنبحث عن الغوغاء بين الذين يصفقون للمسؤول لقاء أجر او جاه او منصب، والذين يجلسون على قارعة الطريق ينتظرون مرور أحدهم ليوغلوا صدره ضد الخصوم ، والذين يحضروا حفلات المناطحة بالكباش والمناقرة بالديوك.. وتقديم رشاوي الانتخابات باكياس الزبالة.
******** 
"إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ...
فأهون ما يمر به الوحول"
المتنبي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


38

السعودية هل هي مع الارهاب..
أم ضده ؟

عبدالمنعم الاعسم

 من دون شك، الحكومة السعودية تحارب الارهاب، ومسمّاه القاعدة، وهذا واضح من سلسلة طويلة من المواقف والمواجهات والتفجيرات والمحاكمات، لكنها (انتباه)  تحاربه على اراضيها فقط، وبخاصة حين يستفحل وينشط بالاتجاه الذي يضر بالمصالح التجارية والمالية والسياسية للحكم، فيما تدعمه في مستويين، الاول، في التسهيلات اللوجستية التي تقدمها الى الخلايا والافراد لكي تمارس نشاطاتها الارهابية خارج الحدود، وفي الدول "غير المريحة" للسعوديين حصرا، معبّرٌ عن ذلك في دفاع السعودية عن حمَلة جنسيتها الذين يقبض عليهم من قبل دول اخرى (غوانتانامو. العراق. باكستان. لبنان..) فتسعى بكل الوسائل الدبلوماسية والمالية والاستخبارية الى استعادتهم وفي كتاب وثائقي عنوانه "مقاتل مكة" ثمة وقائع مثبتة عن الاساليب التي كانت تستخدمها السلطات السعودية (بواسطة مشايخ او اجهزة امن) لإقناع الشبان السعوديين المتأثرين بفكر القاعدة بالقتال خارج الاراضي السعودية، بل وتسهل نقلهم وترعى عائلاتهم.
 اما المسار الثاني، فيتمثل بالتمويل المالي السخي الذي تقدمه هيئات دينية ناشطة ومرتبطة بالسلطة الى منظمات الارهاب التي تقاتل في عدد من الساحات، ولم تعد هذه التمويلات شبهة او فرضية او اتهامات لجهة الرياض، بل انها موثقة في مراسلات وكشوفات بنكية وفضائح نشرت على نطاق واسع، ويمكن لفت النظر الى 
وثيقة نشرها موقع ويكلكس وتعود الى السابع من ديسمبر العام 2011 عن برقية لوزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون تؤكد فيها على وجود محاولات لاقناع الجهات السعودية بمعالجة تدفق الاموال من مؤسسات سعودية الى الارهابيين، واضافت كلينتون ان من ابرز الجماعات التي تحصل على تلك التبرعات تنظيم القاعدة، وحركة طالبان، وتنظيم "لشكر طيبة".
 وفي برقية سرية  دعت الدبلوماسيين الامريكيين الى مضاعفة جهودهم لوقف تدفق الاموال السعودية الى الجماعات المسلحة  وذلك عن طريق" اقناع المسؤولين السعوديين بالتعامل مع التمويل الصادر من السعودية على انه اولوية استراتيجية بالنسبة لنا" وفي برقية اخرى ورد فيها ان جمعية خيرية باكستانية، وهي جماعة الدعوة، المتهمة بانها واجهة لجماعة "لشكر طيبة" الارهابية استخدمت شركة سعودية واجهة لها لتمويل نشاطاتها في عام 2005.
 لكن التطور في هذا الملف يمكن ملاحظته في تعليمات زعيم القاعدة ايمن الظواهري في نوفمبر العام الماضي ويتضمن الالتزام بالامتناع عن مهاجمة انظمة دول تقدم "مساعدات" مختلفة لـ"المجاهدين".. ويعني السعودية ومن لفّ لفها.. إذ ردت القاعدة على تحية المملكة بهذا الصدد باحسن منها.
**********
""دعونا لا ننسى أن من نقتلهم اليوم كنا ندفع لهم الأموال قبل عقود"
هيلاري كلينتون

 

39
الولاية الثالثة.. جسور وألغام

عبدالمنعم الاعسم
 
 الدستور، وقد اصبح واضحا للجميع، لا يمنع، بالنص أو بالتاويل، ان يعود رئيس الوزراء نوري المالكي لولاية ثالثة بعد انتخابات نيسان في حال حصل على نسبة من المقاعد تؤهله ان يتصدر التكليف، او في حال تمكن من بناء تحالف برلماني يتبنى ويقبل رئاسته للحكومة لدورة جديدة، وصار من العبث البحث في ما يُبطل حق المالكي هذا، او يحول دون طموحه، الذي صار واضحا، في التمسك بادارة الحكومة للسنوات الاربع المقبلة.
 المشكلة هنا، ليس في الترخيص الدستوري للولاية الثالثة، بل في امكانية المالكي الوصول الى منصب رئيس الوزراء عبر جسر "النصف زائد واحد" من مقاعد البرلمان لحسم التكليف نحو حكومة الاغلبية من دون حليف (كبير) يقاسمه سلطة القرار، الامر الذي يعتبر مُستبعدا، إن لم يكن مستحيلا، في ظل التنافس (الصراع) داخل بيت الاكثرية (التحالف الشيعي) إذ تتوزع قوى هذا البيت التصويتية، عرَضياً، على الزعامات والتجمعات المشاركة في الحكم، ولا يقلل من فروض هذه الخارطة، ومؤشرات توازن القوى، تنامي قاعدة التأييد والولاء لصالح المالكي بنسبة ملحوظة، بل وتزايد القناعة بين جمهور "الاكثرية" ونخبها بعدم وجود بديل مناسب "قوي" يحل محل المالكي من سياسيي هذه الاكثرية المعروفين، وربما، لا بديل من بينهم يمكن ان يحظى بقدرة الادارة، او بالكاريزما، التي يتمتع بها المالكي، او بموافقة دولتين متنفذتين تلعبان دورا معروفا في الشأن السياسي العراقي، الجارة ايران، والولايات المتحدة.
 اقول، ان الفرص ضيقة الى حد كبير امام طموح المالكي نحو حكومة يستفرد بها ائتلاف دولة القانون من دون حليف قوي آخر يقاسمه السلطة، ويقضم من نفوذه، هذا إذا ما نظرنا الى حقائق الوضع القائم في الزمان المحدد بكتابة هذا الاستطلاع، وضمن فرضية ان يستمر هذا الوضع بعناصره المعروفة حتى موعد الانتخابات من غير تغييرات دراماتيكية، وهذا يفتح احتمالات التحالف لأدارة الحكومة بعد انتخابات نيسان على مصراعيها، فان على المالكي ان يبحث عن حلفاء يؤمنون له الولاية الجديدة، وسيكونون في الاغلب من بين خصوم الامس، او من اصحاب الشروط القاسية، اخذا بالاعتبار ان جميعهم (من الكتل والزعامات) يحملون شكاوى حيال المالكي من تجربة الشراكة السابقة، والبعض اعلن العزم على منع المالكي من ولاية ثالثة، وثمة معلومات تفيد بان اتفاقا عقد بين زعماء نافذين بقطع الطريق على ولاية ثالثة للمالكي.
 وفي النتيجة، فانه، في حال نجح المالكي بعقد صفقة مع شركاء غير مريحين، لن يستطيع أدارة حكومة الولاية الثالثة بالطريقة والصلاحيات والادوات التي تتوفر له الآن، وبمعنى ثانٍ، لن تبقى سلطة القرار حكرا له كما هي الآن، وبمعنى ثالث، ان شريك الولاية الثالثة سيكون من نوع "العدو" الذي "ليس من صداقته بد" وبمعنى رابع ان كعكة السلطة لن تكون من نصيب واحد لوحده .. هكذا هي السياسة، وهكذا كانت يوم خاطب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل شريكاه، ستالين، رئيس الاتحاد السوفيتي، وروزفلت الرئيس الامريكي، وهم يبحثون قضية تقاسم النفود لما بعد احتلال برلين: ايها الزملاء، لنترك رغباتنا خارج هذه الطاولة، ولنعكف على تقاسم المانيا في ما بيننا.. انها لن تكون لواحد منا".
*********
"اذا عظـُم المطلوبُ قلّ المساعدُ".
المتنبي
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


40

دول الجوار..
والانتخابات

عبدالمنعم الاعسم

في اكثر من تصريح وتلميح نجد عبارات وبصمات تكشف عن اهتمام دول الجوار بالتنافس الانتخابي في العراق، معبرُ عن ذلك بالاعلام والصحافة واللقاءات التي تجري في عواصم المنطقة بين مسؤولي هذه الدول وسياسيين عراقيين معنيين بالانتخابات، الامر الذي يعدّ مفهوما، ومتوقعا، وحتى مقبولا، إذا ما جرى كل ذلك في اطار البحث عن سبل تطبيع العلاقات بين دول المنطقة وضبط احداثها، والتأكيد على احترام ارادة الناخبين العراقيين، وعدم التدخل في هذا السباق او التحيز لفريق بمواجهة فريق آخر.
بل انه امر طبيعي ان تسعى كل دولة الى ان تكون جارتها مريحة لها، وان لا تشكل مصدرا للمشاكل الامنية والسياسية، او معبرا للتهريب والتأزم واشكال التعدي على السيادة والاخلال بالتوازن بين المكونات، كما انه أمر معروف في احوال الاستقطابات الدولية والمنازعات الاقليمية ان تنظر الدول بريبة وقلق الى استقواء جاراتها ونمو هيبتها وقدراتها العسكرية فتتعامل مع هذه المعطيات بردود افعال قد يكون من بينها (وهنا الخطورة) التعامل بالمثل، ثم بالرد الانفعالي، ما يفاقم التوتر ويخلق الارضية للازمات الحدودية ويضع علاقات الجيرة في مهب الريح.
لكن الامر المثير للاستغراب يتمثل في تحوّل بعض السياسيين العراقيين الى وكلاء للدول المجاورة التي، يعرف الجميع، انها تتصارع على النفوذ في العراق، وتسعى الى تحويل اراضيه الى ساحات لتصفية الحساب، كما تتحول بعض التجمعات السياسية والطائفية الى سواتر مسلحة أو ماكنات دعاية لهذه الدولة او تلك، فلا تتورع عن اعمال التجييش والتعدي والاغتيال والاختطاف مسجلة في حساب دول التمويل والرعاية، فيما تقف الدولة وكأنها شرطي مرور يسهل عبور الفاعلين الى حيث يريدون من دون تأخير.
اما الفصل الاكثر اثارة، فيمكن قراءته في لجوء وكلاء الدول المجاورة الى مهاجمة دولة مجاورة بعينها والتأليب عليها والتشكيك في نياتها حيال المصالح الوطنية  واعتبارها العدو الرئيسي للعراق، وتفيض لغة الهجوم بالروايات المفبركة والتوصيفات الاستفزازية والسيناريوهات الملفقة، وبالحض على المقاطعة والحرب، ولا يحتاج المراقب الموضوعي الى الكثير من الفطنة لرصد خلفيات هذه الحمية و"اجورها" وتأشير اخطارها على العلاقات بين العراق وجيرانه، في وقت احوج ما يكون الى التهدئة وبناء علاقات حسن جوار مع الجميع.
نعم، ثمة على سطح الاحداث العراقية، الامنية والطائفية بخاصة، وقائع لتدخلات الدول المجاورة، تؤدي الى تفاقم الفتنة الطائفية وتأليب الشرائح العراقية على بعضها، وقد ظهرت وتظهر، صارخة، في اجواء الانتخابات، وفي اثار البذخ والنعمة على بعض المتنافسن، وأيضا، في الاستنفار الذي نتابعه في لغة السجالات والاستعراضات، إذ يجري عرض العراق في سوق النخاسة.
***********
" كن حذراً من الرجل الذي صفعته، لا يرد لك الصفعة".
برنارد شو


41
الصدر والتيار الصدري..
بهدوء

عبدالمنعم الاعسم

 من الطبيعي ان تكون تطورات الاوضاع الداخلية للكتلة الصدرية وموقف زعيمها السيد مقتدى الصدر موضع جدل ومناقشات في المحافل السياسية والاعلامية، ومن الطبيعي ان يكون هناك من يسعى الى الانتفاع من هذه التطورات، أو مَن عمل على درء الضرر الذي قد يصيبه منها. كما ان هناك من يمنون النفس بتفتت الكتلة وتشرذمها لتصبح اسلابا للكتل الموازية، بمقابل مَن يرغب بتماسك الكتلة واستئناف دورها السياسي على خارطة الاحداث من اجل حماية التوازن السياسي، وثمة توقعات وقراءات متضاربة لهذه التطورات: البعض يراها مسرحية دعائية للفت الانظار، والبعض الآخر يعتقد انها إفرازات لواقع حال السياسة والاحزاب في العراق.
 بعض الذي حدث في داخل الكتلة الصدرية لم يكن ليشبه ما يحدث في الكتل الاخرى، من زاويتين، الاولى، تتعلق باصرار السيد الصدر على التزام ممثلي الكتلة في مجلس النواب والحكومة ومجالس المحافظات ومواقع الدولة بالتوجيهات والضوابط المركزية الصارمة، وبخلاف ذلك فانه لا مكان في صفوف الكتلة لمن لا يلتزم او لا ينفذ تلك التوجيهات، وقد حدث ان جرى إبعاد دعاة ومسؤولين كبار من الكتلة، علنا، وعوقب اخرون من دون رحمة، فيما شق عصا الطاعة على زعيم الكتلة أتباع ضاقوا بالتوجيهات والمساءلات والعقوبات.
 والزاوية الثانية، هي ان الصدر لم يكن ليسكت او يغطي حالات الفساد المالي في صفوف ممثليه في السلطة او المواقع العامة ذات العلاقة بالمصالح في حال وقعت حقائقها بين يديه، وقد أبعد اكثر من شخص او مسؤول ثبت عليه التورط في مفاسد، الامرالذي يختلف عن الزعامات السياسية الاخرى التي تتفرج او تتواطأ أو تغطي مفاسد اتباعها، وقد تضطر احيانا الى لومهم بالسر، او تهريبهم، مع منهوباتهم، من الساحة  الى مكان آمن"معززين مكرمين" بل ان بعض زعامات الكتل تتحدث عن الفساد المحسوب على الخصوم السياسيين، وتسكت عن فساد اصحابها، والبعض يدير بنفسه، او بواسطة مقربين، ماكنات التعدي على المال العام وانتاج اجيال من المفاسد.
 وإذ نرصد خصوصيات ازمة التيار الصدري وما يميزها عن أزمات الكتل السياسية (الدينية) الاخرى، فانه من الموضوعية الحديث عما هو مشترك في تجليات الازمة السياسية بين الكتل والحركات التي تقوم على قواعد دينية، ومنطلقات تنتمي الى المذاهب، إذ اكدت تجربة السنوات العشر الماضيات مأزق هذه الحركات وتخبطها واستحالة الجمع بين منظورات اقامة دولة دستورية اتحادية، متعددة الاعراق والديانات والقوميات والمذاهب، وبين التزام المقولات والنصوص الدينية وتفرعاتها المذهبية، وتكمن هذه الاستحالة، ليس في فشل ادارة السياسات العامة الذي حصدت وتحصد البلاد نتائجه المرة، بل وايضا في الصراع الشرس بين حركات وزعامات الوسط الديني والمذهبي الواحد، حيث يُضرب عرض الحائط بابسط محذورات العنف والفساد والتسقيط والتكفير، وتطلق (في الممارسات العيانية) كل اصناف الجشع والبهتان والتابعية للطامع الاجنبي وما لا حصر له من المدنسات في عرف الاسلام وجميع الاديان، وقد بدا ان الوازع الديني لا يكفي لتقويم مسؤول يؤتمن على قوت الشعب ومصالحه وثرواته.
 استطيع ان اجزم بان رغبة السيد مقتدى الصدر بان ينأى عن السياسة انطلقت وتنطلق من محصلات تجربة مريرة في الجمع بين ما لا يُجمع في الواقع: السياسة كمعادلات للواقع، والدين كنصوص للعبادات، وقد كان صادقا في التعبير عن المرارة حيال ما يجري من افتراق بين ما هو كائن وما يجب ان يكون، في الممارسة والتأمل، هذا بصرف النظر عما سيتخذ من مواقف في المستقبل.
*********
" للزنابق الفاسدة رائحة اشد فسادا".
شكسبير



42
تمرير قانون التقاعد..
نص كوميدي

وقائع الجلسة البرلمانية التي مُرر خلالها قانون التقاعد الموحد، والملاسنات التالية لها، تصلح ان تكون موضوعا مسرحيا كوميديا، في المعنى الموصول بعملية التصويت نفسها وما رافقها من نفاق مصمم له، وفي المبنى الذي يتصل بالنص والابطال والكومبارس والاقنعة والسيناغروفيا.. لكن، ثمة ما يسمى بالكوميديا السوداء التي تثير البكاء والعويل قدر ما تثير من الضحك والسخرية: منتفعون قليلون ومتضررون بالملايين. هناك حفنة وهنا وطن. ممثلون يضحكون على بعضهم، وجميعهم يضحك على الجمهور.
 توم ستوبارد، كاتب مسرحي بريطاني، كتب نصا ساخرا وآسيا، من الكوميديا السوداء، عن ممثلين وجمهور تحولوا الى حالة من الجنون بعد ان اوصلهم تجار السياسية ووكلاؤها الى انعدام الوزن، بقوة القمع والكذب.
 حسنا ما الذي حدث في قاعة مجلس النواب يوم الاثنين، الثالث من شباط عام الفين واربعة عشر؟ في الفصل الاول، مُرر قانون التقاعد الموحد، لكن المهم هو ما حدث خارج القاعة، وقبل التئام المجلس، إذ تحلّق رؤساء الكتل والماسكين بأواح النواب، من القوى المقررة، حول طاولة رئيس مجلس النواب ووقعوا وثيقة القانون التي تضم المادة 38 موضع الجدل والانتقاد بما تتضمنه من امتيازات مفرطة وغير مقبولة لأعضاء المجلس والرئاسات، ثم اعطي النواب الاشارة الخضراء للتصويت بـ"نعم".
 حتى الآن لا شيء خارج سياقات التصويت الاصولية، لكن الكوميديا تتمثل في ان بعض رؤساء الكتل والكثير من النواب لم يكونوا ليفضلوا ان تُظهرهم الشاشات الملونة وتقارير الصحف والاذاعات باعتبارهم موافقين على القانون وذلك لدواعي الدعاية الانتخابية، وكان مسرح الاحداث، بما يحتفظ به من مرافق (صالة. اجهزة تصويت الكترونية. كافتيريا. ممرات..) قد اعطى النص هامشا للنفاق والضحك على الذقون، فقد كان جميع الحاضرين (باستثناء افراد بعدد اصابع اليد الواحدة) موافقين على تمرير القانون لأنه يؤمن لهم منافع اسطورية، منتزعة من قوت الشعب، لكن البعض منهم اختار الانتظار، وتجنب التصويت  ريثما تتضح مناسيب الـ"نعم" لينعم بالادعاء الزائف بمعارضة القانون إذا ما هبت العاصفة. اما البعض الآخر فقد فضل متابعة المعركة من الممرات او من الكافتيريا ليكون حاضرا وغائبا بحسب الموقف.   
  الفصل الثاني،  ينفتح على مجلس النواب وهو يشرّع  قانون التقاعد الموحد والمادة 38 منه بـ120 صوتا، لكنه يؤشر على بعض النواب المحسوبين علنا على (لا) وهم يصوتون بـ(نعم) والمشكلة ان طريقة التصويت الالكتروني قامت بواجبها في اخفاء الاسماء وتركت المجال امام المهاترات والادعاءات والتخاشن بالكلام والتهديد باللجوء الى القضاء والتسقيط، حتى ان نائبة اضطرت الى اعلان "الاعتذار الى الشعب العراقي" لكنها، وفي نفس الوقت، هاجمت الذين كشفوا عن تواطئها مع مادة الامتيازات وشكت من انها ضحية لمحاولات التسقيط (لماذا اعتذرت إذن؟) وكُشف عن موقف نائب كان يريد التصويت بـ(نعم) لكنه حين رصد وصول الموافقين الى العدد المطلوب لإمرار القانون صوّت بـ(لا) لتسويق معارضته للقانون، في وقت لا قيمة لهذه المعارضة، إلا لخداع الجمهور.
 اما الفصل الثالث، فهو ثيمة المعارك على الشاشات وفي كواليس البرلمان، إذ تتسرب قذائف من الشتائم المتبادلة، تصلح ان تكون مؤثرات صوتية للمسرحية الهزلية التي عرضت، ولا تزال تُعرض، في صالة مجلس النواب الذي يفترض ان يكون مكانا مهيبا ومقدسا، والحق، انه لم تحل قدسية القبة البرلمانية، عبر التاريخ، دون ان تنشب مشادات من العيار الثقيل، فقد شهدت كاتدرائية القديس بارثولوميوس في فرانكفورت العام 1562 عراكا بالايدي والالواح على خلفية تمرير قرار بتتويج احد الاباطرة الجرمانيين.
 المعركة واحدة كونها تجري بين حرامية، لكن ادواتها تختلف.
ستارة.. تصفيق.
*******
"ان اسوأ ما يواجه الانسان من مصاعب يبدأ عندما يتاح له ان يفعل ما يريد".
فلاطون

 



43

8 شباط..
كأنه حدث امس*

 لم أتعوّد ان اكتب للمناسبات السوداء، فكيف لمناسبة تثير شجونا واسئلة ودروسا تحتشد بالمرارة والبغض والاستياء، لم يمحها نصف قرن من الزمان يكفي لتضمّد الامم جروحها وتنس، حتى، امجادها ونكباتها، معا.
 اقول، ايضا، وعلى صعيد شخصي، احاول ان امرّ على يوم 8 شباط  من كل عام، وكأنه حدث امس، وذلك عن طريق ما يُكتب عنه، وما يتذكره الشهود والضحايا و"الابطال" من وقائع أولدته، أو وُلدت في مستنقعه، أو ما يترسب في ذاكرتي من ذلك الحدث، إذْ كنت واحدا من ضحاياه، حين وجدت نفسي في قبضة الانقلابيين الفاشست، ولا أدري حتى الآن، كيف نجوت من رصاصهم الذي كانوا يطلقونه على الاشجار والبشر وصور عبدالكريم قاسم باعتبارهم اعداء، فارسلوني، بدلا من القتل، عامين الى المعتقلات والسجون، ثم اربعة اعوام اخرى من البطالة والتسكع والملاحقة،هي اجمل اعوام شبابي، أو هكذا يُفترض.
 وبهذه المناسبة، أتوقف في العادة عند مراجعات "موضوعية" للحدث، وهي قليلة و"مذمومة" وغالبا ما تحلّ  في زحمة استذكار اسماء الضحايا والابطال الذين سقطوا في الشوارع وبيد الجلادين، وفي ساحات الاعدام، والموضوعية هنا تنطلق من الاسئلة المشروعة حيال هو مثير ومحيّر: كيف يمكن لحثالة انقلابية مغامرة، محدودة العدد والنفوذ، من العسكريين واعضاء حزب قومي يميني، ان تلحق الهزيمة بنظام حكم شعبي وبقوى وتنظيمات واحزاب ونخب عريقة ومؤثرة، وان تغرق البلاد في لجة ظلام وحفلات دموية، ثم، تستطيع ان تقهر شعب تمرّس بالكفاح ضد الظلم والعنجهيات الحاكمة على مرّ التاريخ؟.
 ثم، كيف ولماذا استقبل العرب ودولهم ونخبهم الوطنية انقلاب شباط بالصمت، والارتياح، والتأييد، ولم يكن لتثيرهم اخبار المجازر التي ينظمها الانقلابيين؟ وما هي الثغرات التي نخرت صفوف القوى المناهضة للانقلاب وعيوب الاصطفافات والعلاقات الوطنية، ما يدخل في اسباب الهزيمة امام الانقلاب؟ ولماذا تحالفت (أو تواطأت) قوى قومية عربية وكردية وجهات اسلامية، شيعية وسنية، مع الانقلابيين، قبل ان ينفرط هذا الاصطفاف الى مواجهات بالسلاح؟.
 الحقيقة الاولى التي تثيرها هذه الاسئلة  ان شهداء الثامن من شباط ثابتون في المكان المشرق من صفحات التاريخ، نستذكرهم باعتزاز وانحناء في كل عام وفي كل معبرٍ يلجأ فيه الطامحون الى السلطة لذبح خصومهم ومعارضي منهجهم السياسي،  وبعض الانقلابيين الان من منتسبي العملية السياسية.. والبعض الآخر يتوعدون بتكرار تجربة 8 شباط، وكأن شيئا لم يحدث.
اما الحقائق الاخرى فهي لم تكتب حتى الآن، بانتظار شجاعة المراجعة.
******
" تفرض ممارسات الشر على مرتكبيها حياة صعبة شبيهة بحياة راسماليي مرحلة التراكم البدائي لراس المال".
رياض رمزي


44

"البغدادية"
مع احترامي لها*

عبداالمنعم الاعسم

 لفضائية البغدادية جمهور ومتابعون، ولها بصمة على سطح الخارطة الاعلامية العراقية، وانها، بالاضافة الى ذلك، تحتفظ بسمعة طيبة في خدمتها الاخبارية، وفي بعض برامجها التي تلتزم المهنية والاحاطة والجرأة، والحيادية في الغالب.. اكرر: النشرة الاخبارية وبعض البرامج.
 الى ذلك، فالمتابع لفضائية البغدادية لا يعنيه كثيرا الجهة التي تموّل القناة، و"الفوائد" التي تحققها للممول، ولا الاهداف "الخاصة" التي تسعى الى تحقيقها، طالما ان تلك الفوائد والاهداف لا تدخل (كدعاية) في ثنايا الخدمة، ولا توظف الجملة والصورة في مشروع سياسي او طائفي او شخصي او فئوي او مناطقي، وفي حالة انزلاق (اية فضائية) الى محذور التحيز الى هذه المفردات، فان كل ما تقدمه من خدمة (حتى تلك المفردات المهنية) يصطدم بعدم المصداقية الاعلامية.
 البغدادية، مع احترامي لها، تقع احيانا في هذا المحذور، ويبلغ الامر ببعض فعالياتها الاعلامية الى التصرف كـ"جهة" من الجهات السياسية المتصارعة، ويبدو انها قبلت بهذا الانزلاق، واستهوت اللعبة، حين ظهرت علينا بما اسمته "مبادرة" لحل مشكلة الانبار، تتضمن اجراءات وضمانات وخطوات على الارض، ولم تكتفي بترويج افكار المبادرة بل انها قدمت آليات استباقية، بالضبط، كما يبادر اي حزب او زعيم أو مرجع او طرف خارجي الى التدخل كوسيط لاطفاء الخصومات والتوترات.
 طبعا، من حق أي حريص على تطبيع الحال العراقي وخائف على مستقبل العراق مما يحيط به من اخطار ان يفكر في حلول لأزمة الساحة السياسية وصراعات رؤوسها وحافاتها، ودور الاعلام هنا (وفق ما تعلمناه في المدارس) ان يقدم حقائق الازمة، من زوايا مختلفة، ويحشد اصحاب العقول والكفاءات واصحاب الرأي والجمهور لمنع تفاقمها، وينأى بمسافات محسوبة عن ان يكون محسوبا على جهة او "مكوّن" وينبذ قاعدة "صاحبك دائما على حق" وهي قاعدة تمشي على رجلين في ساحتنا السياسية والاعلامية، لشديد الاسف.
 اقول، ان البغدادية في هذا تتصرف كحزب سياسي، جهوي، وعلىّ ان اشير الى طائفة من المسلكيات الاخرى التي تبعد البغدادية عن وظيفة المشروع المهني الى وظيفة المشروع السياسي حين تعرض علينا جمهورا ملفقا يرفع صور احد مقدمي برامجها، واصواتا  مُعدة على عجل لشباب ورجال ونساء يتحدثون عن البغدادية وصاحبها كمنقذ وملهم و"رحمة" من السماء، كما هو حال التجمعات التي تخصص لتلميع الزعامات السياسية وأسياد الحرب الاهلية، وفي هذا السياق، لا اعرف مدى صحة ما يقال بان البغدادية انخرطت تماما في فريق من الفرق السياسية المتصارعة، لكني اعرف انها، اعلاميا وسياسيا، صارت محسوبة على خط سياسي معين، وابتعدت، في هذا حصرا، عن المهنية الاعلامية.. مع احترامي لها.
********
"عندما اريد ان احقق الفوز الاكيد لفريق ما فإنني أبحث عن لاعبين يكرهون الهزيمة "
                                                                               روبرتو كارلوس

45

خمس ثغرات في نظرية النجيفي..
عن داعش

عبدالمنعم الاعسم

 تقوم نظرية رئيس مجلس النواب اسامة النجيفي على إمكانية انهاء النشاط الارهابي المسلح في مناطق غرب الانبار، لكن "بشروط" مسبقة التنفيذ ، وقال، في ثنايا هذه النظرية، ما نصه: "سنخرج القاعدة من الأنبار خلال أيام إذا أعطيت حقوق ا لمحافظة" ودعا كخطوات استباقية الى "الفصل بين مسلحي العشائر وتنظيم داعش" و "تعويض المتضررين من الأعمال العسكرية".
 الثغرة الاولى في هذه النظرية تتمثل في ان رئيس المرجعية التشريعية يتحدث بلغة اسياد الحرب، إذ يوظف نشاطا اجراميا دمويا، مناهضا للسلام الاهلي والسيادة، ويستخدمه عاملّ ضغط وابتزاز  في الخلافات السياسية التي ينبغي ادارتها بشكل سلمي، وهكذا تسقط نظرية الرئيس النجيفي في وحل التطبيق الكيفي، وظنة التواطؤ مع النشاط المسلح الخارج على القانون.
 الثغرة الثانية في قول السيد النجيفي "سنخرج القاعدة من الانبار" ما يكشف ان وجود هذا التنظيم الارهابي الذي نظم المذابح المروعة لعشرات الالوف من المدنيين الابرياء واشاع العنف والخراب محميّ بعلم ومعرفة رئيس البرلمان، او انه تحت السيطرة، او ان القاعدة تنفذ عمليات لأهداف سياسية "مشروعة" وان النجيفي و"الجماعة" التي تحدث باسمها في دلالة "سنُخرج" تحتفظ بوجود هذه الجماعات المسلحة حتى تتحقق المطالب السياسية.   
 الثغرة الثالثة، نرصدها في دعوة رئيس مجلس النواب الى الفصل بين مسلحي العشائر وتنظيم داعش، وهو اعتراف بوجود مسلحين من عشائر "معروفة لدى الرئيس النجيفي" يقاتلون مع داعش في الانبار والفلوجة، وطبعا في الموصل وحمرين وكركوك، ونفذوا تفجيرات واعمال ترويع وقتل جماعي، لكنهم يستحقون الثواب بدل العقاب عما ارتكبوا من مذابح، وهو الامر الذي لا ينبغي ان يتساهل به رئيس المرجعية الدستورية التي تحمي القانون وتمنع ابقاء المجرمين طلقاء، او إثابتهم.
 الثغرة الرابعة، نتابعها في ما تتضمنه نظرية الرئيس النجيفي المطالبة بتعويض "المتضررين من الاعمال العسكرية" إذ ينقصها التعاطف مع المتضررين من اعمال الارهاب الاجرامية، وهؤلاء مثل اولئك عراقيون وابرياء، وكلاهما، امانة دستورية في عنق رئيس مجلس النواب.
 الثغرة الخامسة في هذه النظرية تدخل في باب الاستدراك غير السليم، مثل قول النجيفي بانه ضد الاعمال الارهابية، لكن..الخ، فان الاستدراك بـ"لكن" ابطلَ ما قبله، مثلما يقول البعض اننا نتعاطف مع محنة اهالي الانبار، لكن..
 النتيجة واحدة: ثمة غش في القول، هنا، بمناهضة الارهاب، وايضا، هناك، في التعاطف مع سكان الانبار.
********* 
"إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته"
                                                                      محمد (ص)


46
الاعلام والحكومة.. تأشيرات اولية*

عبدالمنعم الاعسم

لا اظن بان رئيس الوزراء، او مكتبه، أمر (كما نشر في مواقع) بمنعي من الظهور، ضيفا، من على فضائية العراقية، لكن قرأت نداء منشورا على موقع مقرب من "دولة القانون" يسميني مع ثلاثة زملاء كمناهضين للعملية السياسية، وطلب تدخل السيد المالكي لوقف استضافاتنا، واستطرد النداء الى التحريض على رئيس الشبكة بتهمة الاصرار على "تسويق" اسمائنا وافكارنا، وإلزام اقسام الشبكة بالتعامل معنا، ويربط خائفون على مستقبل حرية التعبير هذا النداء واجراءات ضد النقد الاعلامي  بسلسلة تضييقات على عمل الصحافة الحرة وكتاب الرأي من قبل السلطة التنفيذية.
 اكرر القول، لا أظن ذلك.. وأثق بصحة ما ذكره لي صديق من فريق رئيس الوزراء بلندن "ان المالكي المنغمر في حرب مصيرير بالانبار، لا يملك وقتا، الآن، لمثل هذه الامور، وانه لا صحة لما نشر".
 كما لا اظن ان هناك من يعتقد انني من كتاب الرصيف، والفرص، والتسلق، والترزق بحيث ارمي نفسي امام "مايك" الفضائية العراقية التي اعتبرها، وفق الدستور، مؤسسة عراقية مستقلة، وان علينا ان نعيد لها إدائها الموضوعي، وهويتها الاعتبارية، وحيادها بين التجاذبات والاجتهادات و"المكونات" واحسب ان رئيس الشبكة (وبعض موظفيها) يؤمن مثلي بهذه المنطلقات، وقد حاول تجسيدها في الممارسة.. اقول: حاول.
 ومع ان الموضوع لا يشغلني، ولا احبذ ان يشغل احدا، بجانب مشغولياتنا الكبرى حيال الامتحان الخطير الذي يدخل فيه وطننا، بين ان يبقى على الخارطة، وطنا للشراكة والحرية، او يتوزع على بلاليع طائفية، بحراسة اسياد التجييش والبغضاء، لكن لا ينبغي القبول بانزلاق موازٍ  خطير ايضا، يتمثل في جرجرة صحفيين وكتاب رأي الى محاكم النشر، والشاكي رئيس الوزراء، نفسه، بشخصيته الاعتبارية، والسياسية، بدعوى التشهير وتسويق معلومات ومعطيات ليست صحيحة، وهو خروج على تقاليد يلتزمها زعماء دول بالنأي عن مقاضاة اصحاب الرأي في المحاكم، بل ويحرصون على تشجيع النقد، قدما حتى الى التجريح والسخرية واستطرادات اللغة والقسوة ليتهجأوا من خلال ذلك مجسات الشارع واتجاهات المزاج العام، ورصد اخطاء الحكومة ومناسيب سمعتها. أما اذا ما عبرت الكتابات حدود التعبير السلمي للاراء بالدعوة الى العنف او الكراهية فان هذا من شأن القضاء المستقل وجهات وشخصيات ومراجع غير حكومية معنية بحماية السلام الاهلي.
 وما نعرفه، ان رؤساء الحكومات في دول الديمقراطيات، يتركون ما ينشر عنهم الى تقدير الرأي العام وكتاب الرأي الاخرين ولن يكونوا طرفا في ما يُنشر، ونستطيع ان نشير الى عشرات الامثلة الحية عن زعماء وحتى ملوك، استقبلوا الانتقادات والتجريحات ورسوم الكاريكاتير المهينة والساخرة بكل رحابة صدر، ويوما سُئل رئيس الارجنتين كارلوس منعم ماذا عليه ان يعمل أزاء كاريكاتير نشر عنه وهو يجلس بشكل مهين في حضن الرئيس كلنتون، فقال: ليس عليّ ان اقاضي الرسام، بل عليّ، إن كان ولابد، ان استقيل. 
 ان احالة فخري كريم وثم سرمد الطائي ومنير حداد، من قبل رئيس الوزراء الى محكمة النشر، يحرر كتاب الرأي في العراق من التزام الثقة بمستقبل حرية التعبير في بلادهم، ويضيف دالة اخرى على تخبط ادارة الدولة التنفيذية في مجال الاعلام، الى جانب دالات اخرى، في السياسة وملفات الامن والاجراءات على الارض نتابعها بالألوان الطبيعية، ولا يصح ان نسكت حيالها.
******
"قل كلمتك وامش".
امين الريحاني

47
المنبر الحر / المسؤول عما يحدث*
« في: 18:00 26/01/2014  »
المسؤول عما يحدث*

عبدالمنعم الاعسم
 
 الجملة الاعلامية الجاهزة والمتداولة، بين فرقاء الازمة السياسية، وعلى نطاق واسع تعطينا المعادلة التالية: كابينة رئيس الوزراء نوري المالكي، وحليفاتها الاكثر قربا، تتهم خصومها ومعارضيها (زعماء العراقية ومشتقاتها) وانصارهم وامتداهم الطائفي مسؤولية التدهور الامني، وتغطية المشروع الارهابي، وعرقلة عمل الحكومة ووقف عملية بناء الدولة، وانها ضحية، وعُرضة للتآمر، واستطرادا، تؤكد انها تتمتع بتفويض الشعب في مواجهة هؤلاء الخصوم، وانشطتهم.
 وفي المقابل، يطلق المعارضون والخصوم، بمسمياتهم الحزبية والسياسية، وشخصياتهم النافذة، القول بان المسؤول عما يجري، وعلى جميع المستويات والملفات، هو رئيس الوزراء ومقربوه، بتحيّزه الطائفي، واحتكاره سلطة القرار، وإخضاع الاجهزة المستقلة والجيش والشرطة الى مشيئته، والى لون واحد، وتوجيهها ضدهم وما يمثلون من امتداد طائفي، ومناطق نفوذهم، وهم، كما يكررون القول، يمثلون الاغلبية المتذمرة مما يجري.
 وفيما سعى ويسعى كل طرف الى تسويق حجته وخطابه ومشروعه السياسي بحشوات من التاليب والتهديد والمخاشنة، وبزخم من المعلومات والروايات وأنصاف الحقائق، فان المراقب الموضوعي يجد من المستحيل ان يصدّر حكما عادلا ومتوازنا، وأن يحدد المسؤول عن "تدمير فرص بناء الدولة المستقرة" من دون ان يسجل انتهاكات وممارسات بائنة ولا دستورية يرتكبها الطرفان، بوازع طائفي مكشوف، وتصميم سياسي فئوي اناني، وثمة الكثير من هذه الانتهاكات المتبادلة حدثت في خلال معادلة الفعل ورد الفعل بينهما..
تلك المعادلة الكارثية التي شهدنا واحدة من اخطر فصولها في حادث القبض على حماية وزير المالية رافع العيساوي والتي انتهت اخيرا (في تداعيات الفعل من طرف ورد الفعل عليه من الطرف الآخر) الى اجتياح الانبار والفلوجة من قبل العصابات المتطرفة باسم الدولة الاسلامية في العراق والشام- داعش، فيما كل طرف يبعد مسؤوليته عن هذا المآل.
 اما الظهور بمظهر البرئ، والضحية، والاكثر حرصا وشعورا بالمسؤولية، فانه يسقط في اول خطوة لترجمة هذه الإدعاءات الى الواقع حين يتطلب الامر نوعا من التنازلات المتبادلة بينهما، أو الاستعداد لها، إذ يتمترس الطرفان في خندقة اعمق فاعمق، بل انهما يخوّنان ويشهران بشركاء لهما يدعون الى حكمة العقل وبناء الجسور بين الحكومة وخصومها، ويفضلان معا (وهذا موضع الغرابة) حل الازمة على اساس "صفقة" غير معلنة برعاية طرف خارجي له قوة النفوذ والتأثير والاختراق، وتتحدث الكواليس، هنا، عن دور للولايات المتحدة، واخرى عن دور ايراني، وثالثة عن دور مشترك (لا غرابة في السياسة) لواشنطن وطهران. اما المبادرات التي اطلقتها جهات عراقية (عمار الحكيم. البارزاني..) فقد ارتدّت، بسرعة الى الرفوف العالية.
 في ضوء ذلك، لا يعتبر براءة اختراع القول بان المسؤول عن كل ما حدث لعملية التغيير وبناء الدولة وبسط الامن من انتكاسات وكوارث هو الطبقة السياسية النافذة والشريكة في الادارة بزعاماتها وفئاتها والقوى الدولية التي تقف وراؤها، كل من موقعه، والمساحة التي يتحرك عليها، لكن التحليل الموضوعي، الذي يستشرف الحل، لابد ان يضع المسؤولية الاولى، دستوريا ووطنيا واخلاقيا، على عاتق كابينة الحكم. وإذا ما شئنا الدقة، والتلخيص، فان مسؤولية الحل لإخراج البلاد من حافة الإنهيار والمواجهة المفتوحة تقع على الحكومة، وراسها حصرا.
 وقد يسال سائل عما هو المطلوب لتدارك الانهيار، لينفتح المشهد على خطوة محددة وقائية عاجلة: مباردة حل وطني من رئيس الوزراء، كمسؤول اول في الدولة، عابرة للطائفية والانانيات والامتيازات والخنادق، ومن دون ذلك فاننا قاب قوسين أو ادنى من العاقبة.. وما أدراك ما العاقبة.
********
""ستتعلم الكثير من دروس الحياة أذا لاحظتَ ان رجال اطفاء الحرائق لايكافحون النار بالنار".
    شكسبير


48
ماذا بين السعودية وبعث الدوري؟ *

عبدالمنعم الاعسم
 
 نحتاج، اولا، لكي نقرأ جيدا، وبموضوعية، السياسات السعودية حيال العراق، ان نفسر المصاهرة القائمة الآن بين الرياض وحزب البعث العراقي المنحل بقيادة عزة الدوري، وما يقال (وهو صحيح الى حد كبير) عن اقامة الدوري في الاراضي السعودية، وانه يتلقى العلاج هناك منذ سنوات تحت رعاية الملك السعودي الذي قيل انه حظر على الدوري في البداية الاتصالات والنشاطات والتصريحات، ثم رفع الحظر مع اندلاع التوتر مع العراق، بل ان العلاقات بين الجانبين اخذت منحى وطيدا ومكشوفا في الاونة الاخيرة حينما وصف الدوري السعودية، في تصريح للاهرام المصرية، بانها "تمثل قاعدة الصمود والتصدي للمؤامرات".
 ومع ان المصاهرات في السياسة والحروب ونزاعات الدول لا ينبغي ان تثير العجب، بخاصة في هذه المنطقة حيث تشهد المعايير واخلاقيات السياسة غيبوبة مديدة، لكن مصاهرة مشروعين احدهما اوتوقراطي اقطاعي، وثانيهما قومي ثوري شمولي (سبق ان احتربا وجرا العالم الى خصومتهما) تُعدّ طورا جديدا في انسحاب المناهج والمعايير التقليدية امام منهج واحد، ومعيار واحد، هو المصالح السياسية الآنية للمتحالفين في مواجهة عدو شاخص (ايران او العراق) خلال لحظة تاريخية شديدة التعقيد والتداخل قد يصبح معها العدو حليفا في منعطف آخر، طالما ان المصلحة المتمثلة بالحكم، او السعي اليه، او تحطيم خصومه، هي مفتاح التحالفات والمواقف.
 ونحتاج ثانيا، لكي نرصد خلفيات الموقف السعودي حيال العراق ان نتيقن مما يقال عن البعد الطائفي لهذا الموقف، إذ يتحسس السعوديون من "هوية" الحكم في العراق، ويخشون من تصديرات هذه الهوية الى الداخل السعودي المجاور للعراق، ويعملون على تدميره او تحجيمه او إضعافه عند نقطة تسمح فرض الاملاءات عليه، وطبعا، يمنّي السعوديون النفس بوصول بعث حزب الدوري (الطائفي الفاقع) الى حكم العراق كبديل عن حكم متحالف مع ايران.
 لكن، البعد الطائفي لتحالف السعوديين مع بعث الدوري  ليس سوى شكل مهلهل لتحالفات المصالح الآنية، غير المتكافئة، او التحالف مع الشيطان بين دولة لها موقع محسوب في الاستراتيجيات العالمية وحزب منبوذ فقد دوره وطعمه ومستقبله، فالسعودية لا تتوانى عن تفكيك تحالفاتها، حتى التاريخية (مع اخوان مصر مثلا) حين تفقد تلك التحالفات فائدتها وتصبح عبئا عليها، وقد تتعامل يوما مع هذا الحزب كخرقة مسح لا اكثر.
*تحت بند "العقد مع الشيطان" يحدثنا قاموس جامعة تومبسون عما يسمى في السياسة بـ"التحالف مع الشيطان" استعارة من قصة "فاوست" الالمانية الشهيرة حيث يستعين الشاطر الذكي بالشيطان لكي يحصل عن طريقه ما لا يمكنه الحصول عليه عن طريق العقل والفروسية، لكن المشكلة، في تحالف بعث الدوري والرياض، ان الطرفين يتحدثان عن تحالفهما مع الشيطان للاستقواء على العراق، فاي منهما الشيطان.
*********
" الإنسان هو الكائن الطفيلي الوحيد الذي ينصب مصيدته الخاصة ويقوم بوضع الطعم فيها ثم يخطو داخلها".
جون شتاينبك


49


جنيف 2
عندما لا يكون ثمة بديل عن جثة

 ثاني أعقد مشكلة انسانية، بعد قضية فلسطين، في الشرق الاوسط الآن.. هذا ما ذكره الكاتب والخبير البريطاني في شؤون الشرق الاوسط روبرت فيسك عن الحرب السورية الجارية، فثمة نحو 6 ملايين سوري نازح ممن اضطروا إلى مغادرة بيوتهم بسبب النزاع المسلح، وتمكن نحو 2,3 مليون منهم من عبور الحدود ليصبحوا لاجئين في دول الجوار، فيما نصف هذا العدد الكبير من النازحين هم من الاطفال. اما الحل فقد بات على عاتق المؤتمر الذي ينقعد اليوم الاربعاء في جنيف برقم 2.
 لكن المؤتمر، وهو المبادرة الوحيدة المدعومة من المجتمع الدولي والجامعة العربية، سيبدا على هيئة جثة ميتة بحاجة الى جلسات، وجلسات، لكي تدب في اوصاله الحياة، والسبب، لا يتمثل في تنافر طرفيه الاساسيين، المعارضة والحكم،وعدم اتفاقهما على حل وسط، بل ويتمثل، ايضا، في التنافر العميق والمتفاقم داخل المعارضة، بين الجناحين الاسلامي والمدني، ثم التنافر داخل الجماعة الاسلامية (بين النصرة وداعش) واستطرادا، التنافر في صفوف الائتلاف الوطني المدني مُعبرا عنه في انسحاب 40 من اعضائه عشية انعقاد المؤتمر.
 وفي قلب الصورة لا يظهر الانسجام (والعزم) إلا بين راعيي المؤتمر، الولايات المتحدة وروسيا، وفي خلفية هذا الانسجام وقائع مقلقة لسيطرة المتشددين الجهاديين على المعارضة والارض، وخروج "الثورة" عن الانضباط باتجاه اقامة حكم سوري بديل مسالم، غير ان هذا الانسجام تصدع في نقطتين، الاولى آنية، تتصل بمشاركة ايران في المؤتمر إذ يتبنى الروس دعوتها الى المؤتمر، بخلاف الامريكيين، والثانية، مؤجلة، حول مكان الرئيس السوري بشار الاسد في التسوية السياسية الناجزة، بين انْ يرحل وان يكون جزءا من التسوية.
 على ان الامر الذي يتفق عليه جميع المشاركين في جنيف 2 الدوليين والاقليميين والنظام والجيش الحر، هو إقصاء الجماعات "الجهادية" المسلحة المرتبطة بالقاعدة والارهاب من معادلات الحل، وبخاصة التنظيم الجديد الذي اطلق عليه اسم"الدولة الاسلامية في العراق والشام- داعش) وفصائل متطرفة من جبهة النصرة، وليس في هذا الموقف ما يثير الاستغراب حيث اعلنت هذه الجماعات معارضتها للمؤتمر وعدم استعدادها للالتزام بقراراته، على الرغم من انها مُوّلت واحتُضنت من دول واطراف اقليمية ودولية متحمسة للمؤتمر وحل توفيقي للأزمة السورية، ويلزم، هنا التذكير بان الأطراف المتشددة غالبا ما خرجت عن ممولها وراعيها، كما حدث مع تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، بعد انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، حيث وجه التنظيم بندقيته للجهات التي سلحته ومولته ومدته بالمعلومات والدعم اللوجستي الضخم.
 مؤتمر جنيف 2ولد ميتا لكنه يمكن ان يستيقظ من كفنه بعد ان يدحر قوى التشدد والردة، في العقول وعلى الارض.
******
"" كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوعاً من الجبنة؟" 
شارل ديغول
 

50
المنبر الحر / هل نترحم على صدام *
« في: 11:30 19/01/2014  »

هل نترحم على صدام *

عبدالمنعم الاعسم

 قبيل ان يبدأ غزو العراق في التاسع عشر من آذار 2003 لم يكن احد في العالم يعتقد ان عراقيا واحدا سيأسف على رحيل صدام حسين، فقد ارتبط اسمه ببطش وحروب ومجاعات وعزلة وذنوب وحكم فوق جماجم ما لا يبقي للاسف مكانا، ولم يتصور احد بان الطبقة السياسية الجديدة التي ستتصدر الادارة والحكم  لن تأخذ العبر من تجربة صعود وسقوط  صدام، إذْ كشفت عن انانيات كارثية اكتوت، بنتيجتها،  الملايين الآمنة بعواصف الغبار الطائفية وبتردي الخدمات وانعدام الامن والاستقرار ودفعت الالوف من العائلات ثمنا باهضا من التضحيات والتنكيل في مجرى انتشار الاعمال الارهابية والاستئصال الطائفي والديني، بل وحُشر الراهن العراقي كله في طريق مجهول مثير للقلق والذعر.
 يضاف الى ذلك ان الكثير من السياسيين واصحاب القرار كرروا ممارسات صدام حسين وطريقته في ادارة الشؤون العامة والاستئثار بالسلطة والتصرف بالمال العام، بل واهداره، وتكوين البطانات والحبربشية من ابناء القرية والعشيرة والطائفة، فضلا عن إقامة الانصاب والحداريات والتعالي على المواطن، ومخاطبته من وراء حزام الحراسات السميك، والصارم،  ثم، إبقاء الغالبية الساحقة من القوانين التي اصدرها صدام حسين، والتي شكلت قيدا على حياة الملايين العراقية، قيد التطبيق.
 في هذه المفارقة التاريخية، وتناقضاتها وفجاجاتها، بدا ان الدكتاتور سقط ولم يسقط.. سقط، كنظام سياسي لا رجعة له، لكنه استمر في جانبين،الاول، في ما يتعلق بايتام واتباع بقوا  ينفخون في "امل" انهيار التغيير وعودة السلطة اليهم، والثاني، في استمرار فن الحكم الصدامي، ممارسات واخلاقيات وقواعد حكم، وحتى في ضيق الرؤيا للعلاقات مع العالم والدول المجاورة.
 كان سقوط صدام مدويا، في الزمان والمكان، وكان سيكون اكثر دويا واثرا لولا هوس التسلط المنفلت للاعبي عهد ما بعد السقوط، ولولا نعرات التشفي والانتقام الطائفية وسلسلة المحاكمات، هابطة المضمون والاداء والمستوى، ولولا "خربطات" برايمر ونزقه، وتخبطات جيش الدولة الغازية، وكل ذلك ترك لـ"الساقطين" هامشا يلعبون فيه لإعادة تركيب هزيمتهم الشنعاء باقل ثمن، ولكي يحاولوا احياء ارث عتيق من النحيب على الاطلال وعلى ضياع الاندلس، ثم ليجعلوا منه ذكرى آسفة، او عنوانا لاعادة عقارب التاريخ الى الوراء.
 على انه لم يكن صدام حسين يتصرف، ولا لمرة واحدة، انه سيترجل عن السلطة، بل انه لم يكن يعتقد ان قوة على الارض بمقدورها القائه خارج اللعبة، فقد دس اسمه، صريحا او مؤشرا له، في رقائق وزخارف واحجار دينية وآثارية ترفعه الى مصاف الانبياء، وتختزله الى اية سرمدية من آيات الكون، وثمة عند "جامع ام المعارك" الذي تركه "على العظم" منارات اشبه براجمات الصواريخ، على ارتفاع 43 مترا بعدد ايام القصف الجوي في حرب الكويت فيما عدد المنارات الداخلية الاربع تشير الى شهر ولادته (نيسان) وارتفاعها البالغ 37 مترا يؤرخ العام الذي ولد فيه، فيما الفسقيات البالغ عددها 28 فسقية فهي يوم ميلاده، وهكذا اختصر هذا البناء الذي شاء له ان يكون اكبر جامع في العالم الى مفردة تشكيلية تتحدى القدر، وتنتصر عليه، وعندما كان يزور العتبات المقدسة كان يحرص على سماع رواية انه من سلالة النبي، وفي التاريخ كان الاسكندر الكبير قد فرض على الكهنة الاعلان عن كونه ابنا للالهة زيوس.
 من زاوية معينة بدا لبعض الفئات الجديدة التي تصدرت المسرح السياسي بعد التغيير ان مشكلتها مع النظام السابق ليست سلوكية في جوهرها، بل هي من النوع الذي يتصل بالصراع على السلطة: من هو احق بها من غيره.. وفي هذه النقطة سقطت الستارة بين نمطين من الحكم: نمط قديم، متوحش، لم نتأسف على سقوطه،  ونمط جديد يقتفي اثر سابقه في الكثير من الاخلاقيات.
**********
"وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... فأقمْ عليهم مأتماً وعويلا"
احمد شوقي


51

تذكيرات..
لحكومة الشراكة في الاقليم

عبدالمنعم الاعسم

 اولا، بناء حصانة راسخة حيال تدخل انظمة دول مجاورة في خارطة تشكيل حكومة الاقليم، وحماية القرار الكردي "المستقل" من التجاذبات والصراعات بين الدول ذات العلاقة.
 ثانيا، لا يصح ممارسة الشراكة من خلال المعارضة، ولا ينبغي لأحزاب هذه الحكومة ان تضع رجلا فيها ورجلا في صفوف مناوئيها، ولتكن قراراتها موضع التزام الجميع بصرف النظر عن ملاحظاتهم المتباينة.
ثالثا، لكي تنجح الحكومة في تنفيذ برامجها ووعودها للمواطنين مطلوب ان تعمل كفريق واحد متضامن، وليس كفريق متنفذ وآخر بلا نفوذ، وبمعى آخر الحذر من تسويق الحكومة كحكومة "حجوم" أو كتل مؤثرة وغير مؤثرة، أو كبار وصغار، او وزراء سياديين ووزراء خدمات.
 رابعا، انهاء التنافس الدعائي بين احزاب الشراكة وإحلال التنافس الجمعي على تقديم الخدمات ومعالجة شكاوى السكان، وبخاصة البطالة، محل التنافس على النفوذ والمصالح الفئوية.
 خامسا، التذكير بالاهمية الاستثنائية للخطاب الحكومي لكي يكون موحدا ومقنعا ومطمئنا للمواطنين، وبعيدا عن الوعود غير القابلة للتنفيذ، وضبط إعلام احزاب الحكومة وخطابه لكي يخدم تجربة الشراكة من خلال التنوع الايجابي والتعددية البناءة، والتذكير بالمضار التي لحقت بالاقليم من "إعلام" التشهير واساءة استخدام المعلومات، وتسويد صفحات الماضي.
 سادسا، ادارة الاختلافات بين فرقاء الحكومة ، بحيث تصبح عامل قوة وحيوية وإبداع، بدل ان تكون سببا لاضعاف الثقة بين مكوناتها، الامر الذي يحبط المواطن ويدفعة الى السلبية والشك في الالتزامات المعلنة.
 سابعا ، ينبغي الحذر من تكرار تجربة حكومة  الشراكة الاتحادية في تحويل الوزارات الى تشكيلات خلفية لحزب الوزير، وإغراق الوزارة بالاتباع والمحازبين والانصار والاقارب.
ثامنا، بناء نظام رقابة حكومية جدي، مع التفاعل السليم والمنهجي مع الرقابة الشعبية لمنظمات المجتمع المدني والرقابة النيابية للسلطة التشريعية، بما يخفف الاهدار السائد للمال العام ويكبح بؤر الفساد ويضع الجميع متساوين امام القانون والقصاص والحساب.
تاسعا، انها تذكيرات بتجربة خطيرة، اذا ما فشلت، فشل معها العقل الجمعي الرشيد، وفاز، بالمقابل، خيار الانانيات السياسية الكارثي.
*********   
"الحجر الكبير ليس حجرا للضرب".
مثل كردي



52
منتصرون ومهزومون.. في الانبار

عبدالمنعم الاعسم

 يقع الكثير ممن يتحدثون عن الانتصار والهزيمة في ازمة الانبار في الخلط بين ما يتمناه وما هو في الواقع، وهذه إشكالية بنيوية في العقل السياسي العراقي السائد، إذ نتهرب من رصد الحقائق التي لا نريدها، فيما القاعدة العلمية تؤكد انه لايمكن بناء السياسات والمواقف السليمة إلا بالنظر الى الواقع كما هو، والى النتائج في صورتها الحقيقية، ثم بالاعتراف باحكامها، والعمل على تفكيكها وتغييرها.
 القول بان الطرفين (الحكومة وخصومها) كسبا معركة الانبار والخاسر هو الشعب، كما ورد في إجابات كثيرة، هو الأقرب الى القبول (الحذر) بمعناه الآني، اي في ضوء النتائج المتحققة على الارض في الاسبوع الاول والثاني من "غزوة" داعش الى الانبار والفلوجة، لكن ثمة حاجة للنظر الى الموضوع بالمعنى التاريخي، اي الى التوثق مما اذا ستصمد النتائج عند معطياتها الحالية، والى الاحتمالات (تناسب القوى. التدخلات الخارجية. الاصطفافات أو الانشقاقات السياسية الجديدة) التي يمكن ان تقلب المعادلة الى ضدها فينتهي الامر بخذلان الطرفين و"انتصار" الشعب على إرادة الحرب والتجييش. اقول، الاحتمالات، ولا ارجم هنا بالغيب، فان السنوات العشر الماضيات من الصراع اكدت على ان ثمة محركات (أصابع. قوى. مصالح) تبدو خافية في طور ابتدائي من الاحداث ثم سرعان ما تتحرك لتغيير مسارات تلك الاحداث.
 ينبغي الاستدراك للقول، حتى الآن لم تلعب الارادة الشعبية، إلا جزئيا، كفاعل في لجم الاتجاهات المناهضة للسلام الاهلي والحياة المدنية أو في ترشيد السياسات، وغياب هذا العامل تسببَ في إغواء اسياد الازمة للمضي قدما في تدمير فرص التغيير الديمقراطي للنظام السياسي، وقد دخل الارهاب والفساد وتدخل دول الجوار من هذه الفجوة ايضا.
 اما القول بان احداث الانبار مفتعلة، وقد خُطط لها بغرض تعبئة القوى الطائفية التصويتية، فهو يتسم بالتبسيط الى حدما، وربما بصبح صحيحا اذا ما اعدنا تركيبه على الوجه التالي: حاولت جميع اطراف الازمة توظيف الاحداث (الناجمة عن سلسلة عوامل واسباب كثيرة) في السباق الانتخابي الذي بدأ مبكرا، وثمة عدد كبير من المشاركين حاول التوصل الى هذه النتيجة الصحيحة، وإن بعبارات مختلفة وموجزة.
 نحتاج، هنا، الى التذكير بـ (النسبية) الكامنة في ثنائيات الربح والخسارة. الإنتصاروالهزيمة. الفوز والخذلان. الصعود والنزول، إذْ لم يحتفظ الرابحون والمنتصرون والفائزون والصاعدون، دائما، بمواقعهم ونياشينهم وجدارياتهم.. وبعضهم (للتذكير والاتعاظ) تزحلق الى مزبلة التاريخ.
*********
" أن يصل المرء في الوقت المناسب خير من توجيه الدعوة إليه". 
غابرييل غارسيا ماركيز

53

الانبار..
الرابح والخاسر

عبدالمنعم الاعسم
 
على صفحتي للتواصل الاجتماعي "الفيسبوك" طرحت  على اصدقائي وزوار صفحتي السؤال عمن كسب "سياسيا" معركة الانبار ضد تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) معسكر رئيس الوزراء نوري المالكي، ام معسكر خصومه في داخل العملية السياسية،  القائمة العراقية ومشتقاتها؟ .
اجاب عن السؤال حوالي 300 من المهتمين بالامر، مثقفون وصحفيون وناشطون ومراقبون، وهي عينة تمثل غالبية (اقول غالبية) من مستقلي الرأي، واصحاب المشغولية بقضية الحرية والحقوق المدنية والنأي عن الطائفية، وغير موالية للحكومة وللاحزاب النافذة، وليس راضية عن سياستها ومواقفها، وبحسب المعايير العلمية لاستفتاءات الرأي فان الاجابات لا تتطابق، بالضرورة مع اتجاهات الرأي العام في العراق، انما تعبر عن شريحة، من هذا الوسط، محدودة، فاعلة ومؤثرة، ويُحسب لها الحساب بمقاييس التأثير والنفوذ، وليس بمقاييس الحجم، في بيئة تتسم بالاستقطاب الطائفي والتفتت المجتمعي، وبغياب مؤسسات محترفة لتأشير مواقف الرأي العام.
 في كل الاحوال، فان الاجابات التي حصلنا عليها، وهي تنفرش على مساحة مهمة من التقديرات، يمكن ان تساعد الباحث والكاتب والمنشغل برصد الموقف الضميري لفئة من المواطنين (وانا اول المستفيدين والممتنين للمشاركين) لكي يضيفها الى مكونات المشهد السياسي المأزوم، وصولا الى مقاربة واقعية عن ردود الافعال المجتمعية حيال احداث الانبار وافرازاتها، وعندي، ان مستقبل "الدولة العراقية الاتحادية" لن يفلت مستقبلا من تأثير هذه الافرازات، إذا ما تمعنا في مدلولاتها الطائفية والقومية والعشائرية والحقوقية، فان "غزوة" داعش لم تكن معزولة عن جملة احداث ومواقف وصراعات عراقية، واقليمية، وتتركز اهميتها الاستثنائية في تسليط الضوء على "اهلية" كابينة الحكومة وحسن ادارتها للصراع السياسي-العسكري، إذ وجدت نفسها في امتحان اكبر من شكيمتها، وكذلك، الضوء على اوضاع كتلة الخصوم السياسيين الذين راهنوا على حراك الانبار، واستيقظوا على مدينة صارت، فجأة، جيباً لمشروع ارهابي خطير على جميع المستويات، والطرفان(الحكومة وخصومها) وقفا امام معادلات امنية لم يحسبوا لها الحساب.
 ان غالبية الاجابات، نفت التوصيف "والتوظيف" الوطني للمعركة، أو قللت من طابعها الاستثنائي واعتبرتها صراعا فئويا او طائفيا او صراع زعامات (اسياد الحرب) لكن هذه الغالبية شددت على خطورة مشروع داعش وحبذت القضاء عليه وانتقدت موقف (تواطؤ. مراهنة. احتضان) الكتلة السياسية لخصوم المالكي من هذا المشروع، وثمة ثلث الاجابات، وربما اكثر بقليل ذهبت الى ان كابينة المالكي ربحت المعركة وستقطف ثمارها "الطائفية" في إحراج حلفائها في التحالف الوطني، وفي التنافس الانتخابي، ايضا.
 في ثنايا الا جابات ثمة برقيات وانتباهات وتأشيرات تدخل في باب "اللّـُقـَطْ" التي تفيد في رصد ردود افعال اصوات عراقية مهمشة ومقصية ومتذمرة ويائسة ولم تسعف اللغة اصحابها (ولا المعطيات) لبناء منظور للتغيير، وهو ما تتطلع له بالتأكيد، او الحكم في مَنْ كسب المعركة، المالكي أم خصومة.. وسنحاول الخوض في هذا الوحل لاحقا.
*******
"إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق".
ابن خلدون..


54



8 عناوين فرعية..
لحرب الانبار *

عبدالمنعم الاعسم

اولا، لنتذكر ان حرب الانبار الجارية هي آخر حلقة (وليست الاخيرة) من مسلسل طويل بدأ في 19/12/2012 بازمة حمايات وزير المالية المستقيل رافع العيساوي ولو انها عولجت بالحكمة السياسية، لا الفئوية، لوفرت الدولة والمحافظة والساحة السياسية الكثير من الدماء والخراب والاخطار.

 ثانيا، الاعتصامات الشعبية في الانبار حظيت بالتعاطف، وكسبت معركة المواجهة الدستورية مع الحكومة، وكانت ستحقق غالبية اهدافها المعلنة لولا السباق المحموم بين ممثليات المحافظة السياسية والدينية والعشائرية لتحويلها الى معركة معادلات طائفية مجهولة النتائج.

 ثالثا، كان واضحا عدم رغبة، وانعدام حماس فئات حكومية نافذة، لإنهاء ازمة الاعتصامات وخشيتها من ان تُسجل المعركة نصرا في الحساب الطائفي للمعسكر المعارض، وكان تعنت سياسيي الانبار ذريعة للتنصل من تعهدات الاستجابة لمطالب المعتصمين.

 رابعا، تنامي "مغذيات" التجييش الطائفية  في الجانبين، ففي ساحة الاعتصام تشكلت (واستُوردت) مجاميع مسلحة اراهبية مع انطلاق شعارات الزحف الى بغداد، وفي احياء بغداد وبعض محافظات الوسط والجنوب نشطت مليشيات مدنية مسلحة تمارس الاغتيالات وتلوح بالانتقام الطائفي، مع تظاهرات لاتباع الاحزاب الحاكمة بشعارات التوعد بالانبار والمعتصمين.

 خامسا، كان يمكن ان يستمر الحال (توتر. تهدئة. توتر..) بين الحكومة والانبار حتى انتخابات نيسان، بعد ان تحولت ساحة الاعتصام الى مطبخ سياسي للصفقات والتحضيرات الانتخابية، غير ان الدخول المفاجي للتنظيم الجديد "داعش" عبر الحدود السورية في ايلول من العام الماضي الى ساحة الاعتصام وانتشاره في صحراء الانبار وامساكه بخط الحدود العراقية السورية الاردنية، خلق معادلة امنية جديدة وخطيرة في المنطقة وعلى مستوى العراق، وبدأت على الفور حملة الصحراء العسكرية التي كان لها ما يبررها، إن لم تكن قد تأخرت.

 سادسا، اضطرب المعتصمون وخطباؤهم وسياسيوهم ومشايخهم القبلية، بين ان يسقطوا رهائن في مشروع "الدولة الاسلامية" الكارثي او يتخلوا عن الاعتصام، وظهرت، على نطاق واسع، اتجاهات جادة لنبذ العنف والعودة الى الى التسوية عبر التفاوض، مقابل اتجاه معاكس لبعض السياسيين نحو ركوب مركب الحرب خلف داعش، لكن القوات الحكومية لم تنئ بنفسهاعن حدود مدينة الانبار ولم توفر الفرصة الى مزيد من الفرز المحلي قدما الى إحياء الصحوات لمقاتلة مجموعات الارهابيين.
 
سابعا، لقد الحقت حركة داعش ذات الهوية الطائفية المتطرفة ابلغ الضرر بمصالح محافظة الانبار ومستقبلها، وبسمعة مراجعها، وبمطالب سكانها المشروعة، مثلما اعطت للانتقاميين الطائفيين في الجبهة الاخرى افضل الفرص لتعميق الاحتقان الطائفي، ونشر شعارات الحرب على الانبار وما تمثله.

 ثامنا، جرى ويجري استخدام ملف ازمة الانبار في التأليب والتسقيط والتزاحم على المواقع، وفي التعبئة الانتخابية، وظهر الى العلن سباق بين فرقاء الأزمة على ارتكاب الخطأ نفسه: اهلا بمقاعد البرلمان والامتيازات.. ووداعا للعراق.
********
"ان اخطر فترة في حياة اي كيان سياسي هي الفترة التي يقرر فيها ان يكون واقعيا".
                                                                    محمد حسنين هيكل



55


الاخوان والبعث..
والسلطة


 لا تختلف كثيرا الطريقة والادوات والمقدمات لسقوط الاخوان المسلمين في مصر عن انهيار حكم بعث العراق، فكلاهما ازيحا (بسبب الخطايا والآثام التي ارتكباها)عن طريق قوة عسكرية، من خارج السياسة ومؤسساتها، او من خارج الحدود، بالتحالف مع المعارضة الواسعة، وكان سقوطهما موضع ترحيب من الشارع والملايين المتذمرة.
 كما لا يختلف الطريق الذي سلكه اخوان مصر لاسترداد حكمهم الزائل عن سلوك بعث العراق لإعادة النظام المنهار، فكلاهما كانا قد اختطفا السلطة في غفلة من التاريخ، الاول عن طريق انتخابات "والناس نائمون" والثاني عبر مؤامرة لمجموعة صغيرة من عساكر القصر وفئة سياسية صغيرة مغامرة، والناس يغطون بالنوم.
 وبصرف النظر عن "نوعية" البدائل السياسية التي حلت محل الاخوان والبعثيين، والمسارات التي قطعتها هذه البدائل، ومواقف الراي العام في البلدين من الفريقين الحاكمين، فان الآمر الواضح هو لجوء الاخوان والبعثيين معا الى السلاح وكل اشكال العنف في محاولات لأستعادة سلطتيهما، وبلغت ردود افعالهما الى حد العمل على معاقبة الملايين من المدنيين والسكان الآمنين وتقويض الاستقرار وتدمير الاقتصاد واشعال الحرائق والكراهيات والاحتقانات الدينية والإثنية، على قاعدة "عليّ وعلى عبادي".
 لكن اللافت، والاخطر، والاكثر تشابها في سلوك الاخوان والبعثيين يتمثل في تحالفهما مع المشروع الارهابي الدولي المتمثل في تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية المتطرفة، والاستطراد في هذا المنحدر نحو جملة خطابية تجييشية ارهابية في قطيعة مع موصوف حكمهما وهويتهما، فقد كان اخوان مصر، قبل ذلك، يصنفون انفسهم في خانة الاسلام السياسي المعتدل، الناقد للعنف وجعجعة السلاح والجهاد المسلح، فيما كان بعث صدام حسين يزعم انه تنظيم علماني مناهض لمشروع القاعدة والسلفية المسلحة.
 وأذا ما امعنا النظر في عمق هذا التشابه فاننا سنهتدي الى الخلفية الاستبدادية، اللاديمقراطية، لموروث الحركتين وعلى الساحتين المصرية والعراقية، ففي حافظة الاخوان المسلمين سلسلة من المحاولات التآمرية الدموية للوثوب الى السلطة في مصر، وفي سجل بعث العراق طائفة من الانقلابات واعمال التآمر وتنظيم الاغتيالات طريقا الى السلطة، وكلاهما لم يتورعا عن التحالف مع القوى الخارجية، والاستعانة باستخبارات الدول لتسهيل وصولهما الى الحكم.
 الغريب ان اخوان مصر وبعث العراق، وبعد كل ما حدث، يدعوان معا الى عودة الشرعية.. فيما الشرعية لا تمشي بالعكس من عقارب الساعة.
*****
"تعملت منذ زمن ألا أتصارع مع خنزير أبداً، لأنني سأتسخ أولاً، ولأنه سيسعد بذلك"
                                                                                  برنارد شو 


56

المحذوف ..
من معلومات سورية خطيرة

عبدالمنعم الاعسم

المعلومات التي نقلتها المستشارة السورية بثينة شعبان عن الرئيس بشار الاسد بانه كان قد تلقى من سياسيين عراقيين كبار قبل سنوات رجاءات بوجوب فتح الحدود السورية امام "المجاهدين" تُعد خطيرة بكل المقاييس، على الرغم من انها، بالنسبة لمتابعي احداث السنوات العشر العراقية الماضية عن قرب، ليست مفاجئة، ولا تضيف لمعلوماتهم فاصلة واحدة غائبة عن تورط اولئك السياسيين الذين المحت لهم شعبان، ومعروفة اسماؤهم واحدا واحدا، من الالف الى الياء قبل ان يعلنها الرئيس السوري "في الوقت المناسب" كما قالت المستشارة.
 وخطورة هذه المعلومات تتوزع على مستويين، الاول، انها تستند، بالتأكيد ودون مواربة، الى اتصالات مسجلة، ورسائل قيد الحفظ، وبصمات جنائية بعضها الكثير لدى الجانب العراقي، والثاني، انها تكشف عن خارطة جديدة من الخنادق التي تتقاتل على الارض السورية، فمن كان حليفا للاسد بمواجهة التغيير في العراق انتقل لقتاله بشراسة بالرجال والمال و"رباط الخيل"، ومن كان ضحية له وشيع طوابير متواصله من قتلى الارهاب، عابر الحدود السورية، انتقل الى خندق الاسد لقتال الآخرين، وذلك في انقلاب مثير لمزاد الولاءات الاقليمية.
 من هذه الزاوية، قد يبدو أنْ لا قيمة لخزانة المعلومات السورية اذا ما كشفت، مثلا، ان طارق الهاشمي الذي يقاتل دمشق من موقعي قطر وتركيا كان قد اتصل بالاسد طالبا تسهيل تسلل مقاتلي القاعدة من السعودية وليبيا وفرنسا الى الاراضي العراقية، فالرجل (الآن) في حال لا ينكر معه هذه المعلومات، وربما ينظر لها من باب الأمجاد الشخصية، كما لا تعني شيئا بالنسبة لأقنية إعلامية كانت تغطي من دمشق كل النشاطات الاجرامية لفلول القاعدة والنظام السابق وتكرمها بلقب المقاومة ثم نقلت بندقية الحرب الاعلامية الى الكتف الثاني نحو نظام دمشق نفسه، وهذا الامر يشمل سياسيين عراقيين يتنقلون بين الخنادق والولاءات والتبريرات ولا تعنيهم العملية السياسية إلا بالقدر الذي تؤمن لهم مصالحهم الفئوية الانانية.
 اما الامر الاكثر خطورة في معلومات بثينة شعبان فانها تتمثل في الجزء المحذوف (قصدا) من هذه المعلومات التي سوّقت فجأة الى دورة الاخبار، وهو موقف الرئيس بشار، آنذاك، من رجاءات الساسة العراقيين المعنيين، فهل أمر بتسهيل عبور المجاميع الانتحارية التي القت بها فضلات الدول على حدود العراق لقتل المدنيين والسكان واثارة الفتنة الطائفية بزعم محاربة الاحتلال، وهذا ما حدث فعلا؟ أم انه رفض رجاءاتهم وانبرى الى منع "المجاهدين" وحماية دم العراقيين من هذا الغبار الصحراوي الخانق، وهذا لم يحدث؟.
 نعم.. كان الرئيس بشار سخيا مع "المجاهدين" قبل ان ينقلبوا عليه.. والمحذوف يدين حاذفه، بسوء القصد.
*****
"سامح أعداءك، لكن لا تنس أبدا أسماءهم".
جون كندي


57
المنبر الحر / مشاهير رغم انوفنا
« في: 23:28 09/12/2013  »

مشاهير رغم انوفنا

عبدالمنعم الاعسم

 تزدحم اقنية المعلومات والاخبار بفضائح دورية عن شبهات ومطاعن تحوم حول سلامة اختيار اسماء المشاهير ولا حيادية ونزاهة الجهات المعلنة عنهم.. وإلا كيف يمكن ان نصدق، مثلا، بان امير قطر السابق حمد بن خليفة جاء في المرتبة السابعة من قائمة زعماء العالم "المؤثرين بالاحداث ومصائر الشعوب" ثم يليه في القائمة رجب طيب اردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل ان الامير القطري يسبق الرئيس الصيني "شي جين بينغ" بخمس نقاط؟.
 هذه الفضيحة سجلت وقتها  (انتباه رجاء) باسم كلية "ويلدنبرغ" الدولية وعلى لسان المسؤول في الكلية محمد محمود الجمسي الذي (انتباه ايضا) يحمل الالقاب التالية: المدير الاقليمي لكلية ولدنبرج الدولية. الامين العام المساعد للمجلس الدولي لحقوق الانسان. سفير البعثة الدولية لاحياء السلام العالمي.
 هذه،  ليست سوى عملية تلفيق واحدة لانتاج مشاهير، او دس اسماء في حشوة المشاهير لا شك انها مدفوعة الثمن، أدت فيما ادت اليه، الى سقوط سمعة هيئات محترمة، مثل لجنة جائزة نوبيل، في وحل الطعون بسلامة الاعتبارات والمعايير التي تعتمدها، كما اصبحت نفسها مفتاحا لأعمال النصب بالنسبة لمهووسين بالشهرة،
فقد أجرت الشهرية الفكرية البريطانية "بروسبكت" قبل سنوات استفتاء حول أفضل مثقف في العالم، وكانت المفاجأة أن الذي فاز بالمرتبة الأولي هو التركي "فتح الله غول" الذي اعترف رئيس تحرير المجلة أنه لم يكن قد سمع باسمه من قبل.
 لكن ينبغي هنا الاستدراك لنشير الى ادباء ومفكرين حقيقيين رفضوا تقبل جوائز والقاب تحت موصوف الشهرة، فقد امتنع "برنارد شو" عن قبول جائزة نوبل لأنه كما قال "لم اجد فيها ما يزيدني قدرا" فيما رفض الكاتب الانجليزي الشهير توماس كارليل مطلع القرن الماضي ترشيحه الى لقب "لورد" من قبل رئيس الوزراء دزرائيلي قائلا.."سامحوني لا قبل لي على تحمل هذه المطرقة".
 حب الشهرة والسعي اليها عبر الاستفتاءات والصفقات والرشى يتحول في بعض الاحيان الى نوع من الشعوذة او النصب، إذ نطالع على صفحات الشبكة العنكبوتية اسماء لاشخاص مجهولين يحملون القابا "ثقيلة" لا احد يعرف من اين حصلوا عليها، وظنهم ان الالقاب ترفع من شأنهم، فيما نجد اشخاصا اخرين، علماء ومبدعين ومنتجين للافكار والمآثر يتواضعون حيال منجزاتهم ويتركون تقدير تلك المنجزات الى التاريخ يتحدث عنها بلسان فصيح ومُنصف، ومرة، سمعتُ، ان  استاذا (دكتورا) في جامعة لندن كان يتجول في احد المتاجر فناداه صديق له من بعيد "يا دكتور" فانزعج من ذلك قائلا للصديق"يا عزيزي، اولا، لا يصح إزعاج الاخرين بتمييزي عليهم بلقب الدكتور، وثانيا، الدكتور لقب علمي ينبغي تداوله في مجاله الاكاديمي وليس في سوق الخضرة".

********
" غلبة القدرة تزول بزوالها وغلبة الحجة لا يزيلها شيء".
المأمون



58
هل ماتت الامم المتحدة؟

عبدالمنعم الاعسم
 
احصى معهد غربي قبل فترة ما يزيد على مائة وستين مشكلة تعصف بالشرق الاوسط والدول الاعضاء في الامم المتحدة مما تدخل معالجتها في مسؤولية المنظمة الدولية، لكنها تقف عاجزة عن تقديم اية مساعدة لتلك الاقاليم والدول، إما لأنها لا تملك اموالا كافية، او ان احدا لم يطلب منها التدخل، او ان اطراف الازمات لا يسمعون ما تقوله الامم المتحدة ويفضلون تدخل اعضاء اكثر هيبة وتأثيرا و"فلوسا".
 والحق انه لم يسبق للامم المتحدة، منذ امينها العام الاول النرويجي تريغف هالفان لي(1946) ان وقفت متفرجة على ما يحدث في العالم من كوارث وانشقاقات وحروب واعتداءات كما هي الان في عهد الكوري الطيب بان كي مون الذي لا يتحمل، طبعا، وزر هذا المآل المؤسف للمرجعية الدولية، واغلب الظن، لا يتحمله اي امين عام سابق على تفاوت الجهود والطاقات والمحاولات التي بذلها اولئك الرجال الذين تتالوا على منصب قيادة المجتمع الدولي.
 واللافت ان حماسة زعماء العالم لاستخدام منبر الامم المتحدة تراجع في غضون السنوات الاخيرة خلاف ما كان في السابق حيث اضطر مندوبو الدول الأعضاء في سبتمبر من عام 1968 الجلوس على مقاعدهم أربع ساعات للاستماع الى خطيب واحد سمح له بالاستطراد كل هذا الوقت وسط ذهول مسؤولي الجلسة الذين لم يستطيعوا التدخل، وكان الخطيب فيدل كاسترو لا يمثل في الواقع بلداً مؤثراً على خارطة العالم وليس له ثقل عسكري أو اقتصادي ذو قيمة استراتيجية، غير انه في عام 1995، وفي الشهر نفسه، لم يسمح لكاسترو الا بسبع دقائق ليلقي خطابا لم يلفت نظر أحد، وتلاشى صوته الجهوري في قاعة خلت مقاعدها من كثير من المندوبين، وكان نفسه غير آسف على ذلك.
 وفي الذكرى الخمسين لميلاد الأمم المتحدة عام 1995 تأمل كثيرون في الدور الذي يمكن ان تلعبه في اطفاء بؤر التوتر وتجسير الخيارات المتضاربة بين الدول واشاعة اجواء الثقة والبحث الموضوعي لتكوين ارادة السلم والاستقرار، وتوسيع الفرص أمام الدول الصغيرة لتساهم في صناعة القرارات المصيرية للعالم. غير ان قليلا من المتنبئين توقعوا ان الامم المتحدة سينتهي بها المطاف الى ما هي عليه الان، وكان الامين العام السابق كوفي عنان كثيرا ما يقف حائرا أمام استعصاء الحل للتوترات الناشئة، وكان يوحي لبعض مندوبي الدول التي تطلب النجدة من الامم المتحدة قائلا: "لقد مضى ذلك الزمان" وكأنه كان يحنّ الى تلك الأيام الغابرة للمنظمة الدولية، حيث كان كاسترو يتحدث لساعات طويلة من دون مقاطعة وان يقذف خروتشوف بحذائه الى الصالة من دون عقاب.

*******
" لا يمكنك الارتحال في طريق إلا حين تصبح أنت الطريق".
بوذا

 


59

سوريا، ايران.. والعراق

عبدالمنعم الاعسم

 ثمة الكثير من الترابط بين احوال كل من العراق وسوريا وايران، ولهذا الترابط تجليات في السياسة والحدود والتحالفات غير المعلنة، وشاءت الحرب الداخلية السورية طوال عامين ان تعزز وتعمق هذا الترابط، فيما حاولت اطراف دولية واقليمية ان تلعب على بعض عناصر الاختلاف في الخصوصيات السياسية والتاريخية للدول الثلاث، وانتهى الامر، في هذه الايام، الى نقطة حرجة فرضها تطوران مهمان، الاول، التوجه نحو عقد اتفاق جنيف2 لتسوية الصراع السوري والتوجه الى تكوين نظام سياسي وسطي بين حكم البعث والمعارضة، والثاني، الاتفاق المعلن بين الدول الغربية وايران لإنهاء ازمة البرنامج النووي، وتبعاته ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية.
 هنا، ينبغي ملاحظة ان الكتلة الخليجية، تنظر بعين الريبة الى هذا التطور، فهي وضعت ثقلها المالي والدبلوماسي من اجل اطاحة نظام الاسد وفرض نظام موال لها، وضمنا عارضت عقد مفاوضات جنيف2 للحلول الوسطية، كما سعت بكل جهودها الى استدراج الولايات المتحدة واسرائيل الى توجيه ضربة عسكرية الى ايران تمهد الى تغيير النظام القائم او، في الاقل، الى تحجيمه، ومن الطبيعي ان يكون النفوذ الخليجي في معادلة امن المنطقة مؤثرا، وقد ينجح هذا النفوذ في تخريب عملية التحول الى التهدئة والمفاوضات وسياسة التنازلات التي ابداها كل من الرئيس الايراني روحاني والرئيس الامريكي باراك اوباما ورحبت بها بغداد على لسان رئيس الوزراء نوري المالكي، فيما تتحدث التسريبات الخليجية عن صفقة بين طهران وواشنطن يضحّي كل جانب بأصدقاء او حلفاء له.
 وعلى الرغم من الاعلان الرسمي عن حيادية بغداد حيال الازمة السورية وملف النووي الايراني، فان الاستقطاب الذي تشهده المنطقة وتداخل المصالح والسياسات والاعتبارات المذهبية وضع العراق في المحور السوري الايراني، او، على وجه الدقة، وضعه في حسابات النظام الامني الاقليمي كطرف بمواجهة النفوذ السعودي القطري التركي الاكثر تاثيرا على الاحداث السورية، أخذا بالاعتبار انه ليس بمقدور العراق، في المفترق الذي يقف فيه، والحرب المعلنة عليه من قبل جماعات الارهاب والسلفية التكفيرية، وحساسية علاقاته مع الولايات المتحدة، ان يكون في موقف آخر، لكنه قادر على ان يلعب دورا "مستقلا" وعلى مسافة من أجندات اللاعبين من الجانبين، في تبني خيارات التهدئة وعقد صفقة تاريخية تنزع فتيل المواجهات العسكرية في المنطقة .
 اولا، لأن للعراق مصلحة في منع تحول سوريا الى افغانستان اخرى فسيكون الضحية الاولى للارهاب، وثانيا، ان العراق لا يملك من الثقل العسكري والامني والاهلية الداخلية (الحكم والمكونات والصراعات..) ما يسمح لكي يكون طرفا في فرض معادلات على الارض، وثالثا، ان القوى المتصارعة في المنطقة تريد العراق ساحة لتصفيات الحساب او ورقة للمساومة، وانه يمكن ان ينـْفذ من هذا المصير في حال انحسرت اجواء التهديات العسكرية في المنطقة، وضُيقت الفرص على نشاط الجماعات المسلحة الاجرامية على حدوده الغربية.
 مشكلة العراق هي في جبهته الداخلية، حيث يعاني من فساد وانانية وتناحرات طبقته السياسية، ومن ولاءات وتابعية جهات سياسية متنفذة لقوى اقليمية متصارعة، فثمة من يرتهن نفسه لهذا الطرف، أو ذاك .. اما الكوارث التي جناها ويجنيها العراق من هذه الولاءات فحدّث ولا حرج.
**********
" من الأفضل أن تكون مكروهاً لما فيك، على أن تكون محبوباً لما ليس فيك".
اندريه جيد



60
المنبر الحر / علم نفس الازمة
« في: 22:25 27/11/2013  »

علم نفس الازمة

عبدالمنعم الاعسم

 ليس اكتشافا جديدا، ولا ينطوي على براءة اختراع القول بان الازمة السياسية في العراق التي ابتدأت في ثمانينات القرن الماضي (الحروب) وتفاقمت في العقد الاخير خلقت بيئة اجتماعية مأزومة، بما يعني انتشار اعراض مرضية في مفاصل كثيرة من السلوك العام، لكن الجديد يتمثل في ما يقال عن ضرورة استخدام علم النفس المعاصر في معالجة بعض آثار هذه الازمة، وذلك بعدما اخفقت علوم السياسة في كبح اندفاع عناصر الازمة (بعد سقوط النظام) الى تدمير نفسها وزج المشهد الى الدوامة والاستعصاء.
 موجبات التحليل النفسي للازمة تنطلق من حقيقة انها انتقلت، في طورها الاخير، من خلافات في وجهات النظر حيال السلطة والمستقبل والمصالح الى حالة سلوكية انفعالية، كما تنطلق من الحاجة الى علاج النتائج الكارثية لهذا السلوك وبخاصة لما يجري رصده في عالم الطفولة في البلاد إذ يظهر العنف والتخلف والتشوّه السلوكي في بصمات ومعطيات لا تخطئها العين ولا تعبرها البصيرة التحليلية، والاخطر، انها قد تتحول الى مشكلة سلالية في المستقبل.
 ان البعد السايكولوجي للازمة، واستمرار بقاء المجتمع العراقي رهن تأثيراتها لمدة طويلة سيؤدي الى ان يفقد المجتمع بعض سماته الابداعية التي كسبها عبر التاريخ ويصبح بلا ذاكرة ايجابية، حاله حال النزيل في السجن الانفرادي لمدة طويلة، وقد لاحظنا ذلك في قصة تشارلز ديكنز (بين مدينتين) إذ فقد الدكتور "مانيت" مهنة الطب بعد سنوات من مكوثه في سجن الباستيل.
 لكن اية نظرية من نظريات علم النفس المعروفة يمكن ان تستوعب هذه الاعراض السايكولوجية المرضية وتستطيع تفكيكها؟ هل النظرية السلوكية للعالم جون برودوس واتسون بالتقليل من شأن البواطن والتُقيات وردود الافعال؟ أم النظرية التركيبية  لكارل جوستاف يونج الذي طور استنتاجات دارون حول اللاشعور؟ أم النظرية الترابطية لبافلوف وزميله ثورندايك عن الانعكاسات الشرطية للسلوك؟ ام ان الاعراض الاجتماعية للازمة السياسية التي تضرب سلوك المجتمع العراقي وتهدد بتدمير لوازمة الابداعية والاخلاقية، يلزمها علم خاص بها، ام حزمة من العلوم؟.
/قال لي اخصائي في علم نفس المجتمع، عندما كنت ابوح له بملاحظاتي هذه، نعم، هناك حاجة لامعان النظر في السلوك المضطرب للجمهور الناتج عن الازمة السياسية.. لكن ينبغي البدء باحالة ابطال الازمة نفسها من السياسيين والوكلاء والدعاة والمهرجين الى الكشف في مستشفيات التأهيل النفسي.
 وهكذا دخلنا حقل الالغام.
*******
"نعيب زماننا والعيب فينا ...
              وما لزماننا عيب سوانا".
الامام الشافعي





61
الاتحاد الوطني الكردستاني، مرة ثانية:
إغواء السلطة.. وغدرها

 ينتمي الاتحاد الوطني الكردستاني الى مجموعة الاحزاب الثورية لدول "العالم الثالث" التي قارعت السلطة الغاشمة، واطاحت بها، واستلمت السلطة عنها، مع خصوصيات الحال السياسي والقومي لاقليم كردستان العراق غير الخافية على احد، ومنها ما استقرت عليه قيادة الثورة، وسلطة الاقليم، بين حزبين نافذين، تقاتلا، ثم ائتلفا اخيرا لتقاسم الادارة في لزوميات شديدة الحساسية، وحدود شديدة التعقيد، وتطبيقات شديدة التداخل، تضاف لها الضغوط  والاختراقات والاملاءات الايرانية والتركية، ثم استحقاقات التغيير على مستوى العراق.
 وما كان لمثل هذه الشراكة بين الحزبين النافذين ان تمضي لعقد ونصف من العواصف، ويدخلان بها الى مرحلة التغييرات الدرامية على هيكلية الدولة العراقية بعد الاطاحة بنظام بغداد الدكتاتوري الشوفيني لولا مهارة وحُسن التحسبات التي صاغتها والتزمت بها زعامتا الحزبين، جلال طالباني ومسعود بارزاني، ولن تعتبر ملاحظة خارج الصدد القول بان لمام جلال فضيلة خاصة، معترف بها، على انضباط هذه الشراكة، وحمايتها، قدر الممكن، من سلبيات  وعوارض الانتقال من الثورة الى السلطة.
 ان تجارب انتقال احزاب الثورة الى السلطة غزيرة بالعثرات والانحرافات والصراعات، ويمكن التوقف عند ما حصل في جبهة التحرير في الجزائر، والحركة الشعبية "يونيتا" في انغولا، وغيرهما كثير، إذ استفحل الصراع في الحلقات الثورية القائدة، واستشرى الفساد في مفاصلها وانتهى كل ذلك الى انتكاس برامج التنمية ونمو الفئات الطفيلية بمحاذاة الطبقة السياسية المتنفذة، واندفاع الفوارق الطبقية الى مناسيب خطيرة، عدا عن النتائج السلبية لثقافة العنف (المقاومة) التي كانت مقدسة في مرحلة الثورة، وصارت عائقا في مرحلة البناء.

على ان شيئا من هذا حدث في تجربة الثورة الكردية وفي ساحتها قيد النظر: ادارة السليمانية والاتحاد الوطني الكردستاني، ومن البديهي ان نستدرك القول بان الساحة الثانية (اربيل) لا تخرج عن احكام هذه النتائج إلا في حدود التفاوت في الوقت، وربما في عوامل ذاتية معروفة.
 
احسب ان هذه المطالعة في التشابهات تقربنا من رؤية المعالجة المطلوبة لاوضاع الاتحاد الوطني الكردستاني، طالما ان هذه المعالجة ينبغي ان تتجه الى إصلاح القيادة ثم الى اجتثاث الفساد الذي يضرب مفاصلها ويفتت وحدتها، فالنظر الى مصلحة الشعب الكردي ولوازم حماية ادارة السليمانية تفرضان اجراء مراجعة نقدية صريحة يتخلى خلالها اقطاب "المصالح" عن امتيازاتهم وحيازاتهم التي حصلوا عليها خلال تبوؤهم المناصب غداة تحرر الاقليم (وتوزيعها على الفئات الشعبية الفقيرة) وليعودوا الى صف الشعب برصيدهم النضالي وسجلهم العريق في القتال والافتداء وخبرة السياسة والادارة، وضمان فتح ابواب القيادة امام الشبيبة المبدعة من النساء والرجال.
 بوجيز الكلام، إن إبقاء الحال القيادي على حاله والاكتفاء بالترضيات والتسويات الاخوية لن يبعد الازمة عن حافة الخطر.. ويمكن لاصدقاء القضية الكردية ان يراهنوا على انتصار الحكمة وروح التضحية في صفوف القادة الكرد الذين يديرون قارب الاتحاد الوطني الكردستاني.. والوقت يغري، ويغدر أحيانا.
********
" يمكن للمرء أن يفعل ما يشاء، لكنه لا يستطيع أن يريد ما يشاء".
شوبنهاور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اهمية هذا المقال انه نشر نصا في جريدة (الاتحاد) الناطقة باسم الاتحاد الوطني الكردستاني وذلك يوم الثلاثاء 12/11/2013


62
الاتحاد الوطني الكردستاني..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض ما حدث*

عبدالمنعم الاعسم

 قراءات كثيرة تناولت، وتتناول، دلالات التراجع المثير لتمثيل الاتحاد الوطني الكردستاني في برلمان الاقليم على ضوء نتائج انتخابات ايلول الماضي، وسيكون من السذاجة إفتراض الموضوعية والحيدة وعدم التشفي في جميع تلك القراءات، ومن السذاجة المفرطة القبول بالنظرية القائلة بان "هزيمة" الاتحاد ما كان لها انْ تحدث لولا الغياب الصحي لزعيمه ومؤسسه جلال طالباني، فان التصدعات في بنية الحزب حدثت منذ العام 2006 حين استقال نائب السكرتير، والمسؤول الثاني في الحزب، وبدأ يشيّد مشروعه السياسي الانشقاقي، ثم بدأ التهرؤ في هرم القيادة بعد سنوات  كان اكثرها مثارا للجدل تهديد جملة من القادة الحزبيين تصل الى تسعة بالاستقالة، وقد عولجت جميع تلك الارهاصات بالترضيات والمكرمات، لا بالاصلاح الجدي والجذري.

 سنقول ما يمكن اعتباره امرا معروفا بان وقفا سريعا لتدهور بنى وسمعة الاتحاد استعصت على قيادة مام جلال، الذي عرف بـ"التبصّر في السياسة واستشفاف الغاطس منها" كما قال باحث في الشؤون الكردية، وكان كل ما استطاعت طاقته الفذه هي إطفاء بعض التوترات في صفوف الحزب و"إصلاح البين" المؤقت بين زعاماته المتنافرة، والمراهنة على الوقت لكي يدير الرؤوس المتخاشنة في الحزب عن مدارها، لكن الانتكاسة الصحية للرئيس قلبت مسار المراهنة الى الضد منها وفتحت ابواب المخاشنات على مصراعيها.
 
وإذا ما شئنا تسمية الاشياء باسمائها فانه يجب القول بان ازمة الاتحاد الوطني الكردستاني تتمثل وتتمحور في قيادته السياسية وحلقات النفوذ في صفوف الكادر، وان مظاهر الفساد المالي وصراع المصالح والتنافس على المواقع والامتيازات لم تضرب الصف القيادي فقط، بل وفاقمت الصراع بين اجنحته وزعاماته ايضا، وسيكون مفهوما لأي محلل وجود استقطابات عشائرية وشللية في مثل هذه البيئة الحزبية، وفي مثل هذه التجربة التي تنتمي الى منطقة اقليمية تعاني من تدني مستويات الوعي الجمعي وتقاليد الحياة المدنية الحزبية الديمقراطية، كما تعاني من تغلغل الفساد في اوصالها.
 
والحال، فان المعطيات المتداولة عن الفساد المستشري في الحزب وادارته تفسر ما يؤكده قياديون في الحزب بان الجمهور المؤيد والمناصر له رد بمعاقبته (أو الانقلاب عليه) في الانتخابات الاخيرة حين لم يمنحه صوته، علما ان هذا الجمهور كان قد أطلق رسائل تحذير الى الحزب منذ زمن أبعد تتضمن الاحتجاج على السباق المحموم بين بعض القياديين الذين يشار لهم بالبنان على جني الثروة والقصور وتاسيس الشركات والمتاجر، حتى نُقل عن مام جلال (وانا أثق بمصدره) قبل مرضه الاخير قوله "لم اكن لأصدق يوما اني سأكون عاجزا عن مواجهة هذا الفساد والتخلص من المتورطين فيه".
حتى الآن، نحن ندور في توصيف الحال "المَرَضي" الذي يعانيه الاتحاد، وكأننا لا نقول شيئا جديدا، سوى التفكير في العلاج، وهو الامر المطروح للمناقشة في صفوف الحزب وخارجه، وبخاصة بالنسبة للذين ينظرون الى اهمية وخطورة الدور الذي يضطلع به كردستانيا وعراقيا، وحتى إقليميا، ويأملون اصلاحه ونهوضه على اسس راسخة، اخذا بالاعتبار انه يرث باسم زعيمه الكبير طالباني خبرة وسمعة ومكانة، وتقاليد ادارة، ورؤى موصولة بزخم قابل للتجديد، عدا عن عبقريته في التناغم مع متناقضين في آن واحد.

اما العلاج، والحل، فان المنطق المتفق عليه يؤكد بان العلاج ينبغي ان يستنبط من جنس المرض.. ولهذا حديث آخر.
*******
" الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً.".
اينشتاين



63
الحل..
افكار للنقاش

عبدالمنعم الاعسم
 
 دائما، وفي كل مناسبة تخوّض فيها البلاد في بركة دم كارثية، أو تقف على حافة المواجهة والانفجار، يطرح السؤال "ما الحل؟" على طاولة الحوارات وعلى الشاشات والمنتديات، وعلى عيون المواطن. ودائما، نجد هذا الحل بسيطا ومتاحا في الجملة العمومية التي يقذفنا بها اصحاب الازمة: "الحل بان نجلس جميعا ونتفق!!" فمن (وما) الذي يمنعهم من اللقاء والجلوس، وثم الاتفاق؟ وهنا، فكل "آخر" يلقي بالمسؤولية عن استحالة اللقاء والحل على "الآخر" الثاني، فيتدثر سيناريو الحل بالجلوس المستحيل، ليصبح نفسه مستحيلا.
 
 وفي التفاصيل نسمع منهم ان الحل يلزم نقطة واحدة، لاغير، ان يتخلى "الآخرون الخصوم" عن عنادهم، ويتراجعوا عن منهجهم وانانيتهم و"ارتباطاتهم الخارجية" فيسقط هذا الحل من عالٍ في نفس البالوعة السابقة: "انا على حق، والاخر المذنب" فيما يتبارى فرسان الطرفين في لعبة موازية تتضمن تحشيد الخطايا التي يرتكبها "الاخرون" وتبشيع صورهم وتخوين نياتهم، وانه لا نفع في الانتظار، وآن الوقت لاستئصالهم والالقاء بهم الى المزبلة.. كيف؟ الجواب لا نقرأه ولا نسمعه في طي الكلمات والتصريحات، لكننا نترصده في السلوك الفئوي اليومي والتأليب الطائفي، ومن قراءة النوايا وزلات اللسان والايحاءات والتسريبات، كل "آخر" من موقعه.
 
 من هذه الجدلية، شديدة التعقيد والتداخل، سنكتشف، ونحن نقف على هاوية سحيقة من الاحتمالات المخيفة، اننا لا ينبغي ان ننتظر الحل من فرقاء الازمة، حيث عودونا على ان تكون حلولهم بمثابة حُقن للتهدئة، مرة، وللتجيش على بعضهم مرات، كما انهم (انتباه) لا يرغبون بنسف بيت العملية السياسية على الرؤوس، فهم الآن يقطفون من شجرتها الوارفة المناصب والشرعية السياسية معا، وان سحب بساط هذه العملية سيدفع القارب الى الغرق، وستكون الخسارة (وهنا يتمتعون جميعا بحسن التقدير) مكلفة وشاملة، وسيغرق "الاخرون" من الطرفين جميعا من غير استثناء، وربما خارطة البلاد معهم، ايضا.
 
 علينا ان نضيف لجملة التعقيدات هذه تعقيدا آخر لا يقل شأنا عنها ويتمثل في الصراعات العميقة الموازية داخل الكتل نفسها، فالحل المطروح لا ينبغي ان يسحق او يقلص او يقضم من نفوذ الجماعات والزعامات التي تشكل قوام الكتل.
 وبالنتيجة، فانه لا آفاق لحل الازمة السياسية في البلاد على يد اصحابها الذين، إذ يختلفون على كل شيء، فانهم يتفقون، حتى الآن، على امر واحد هو الحيلولة دون تفليش البيت (بيت الثراء والسلطة والوجاهة)على ساكنية، فيما تطلق البديهيات السياسية سؤالها المشروع "ما هو الحل البديل؟" السؤال الذي يتردد خارج حلبة الصراع بموصوفها، الفئوي والطائفي، ويُناقش في محافل ومنتديات واقنية، على نطاق واسع، ويمكن اجماله بمستويين:
                 
*المستوى الاول، هو الحل الذي يقدم كمقترحات الى اصحاب الازمة لكي يأخذون به، مثل المؤتمر الوطني، او اعادة النظر بالعملية السياسية بالتخلي عن المحاصصة، او الانتخابات المبكرة، او إقامة حكومة تكنوقراط محايدة، او اجراء التنازلات المتقابلة، وطبعا لم يأخذوا باي واحد منها، وينتهي هذا الحل الى شعارات سياسية معلقة على جاهزية الرأي العام لكي يفرضها عليهم، من غير كلفة ولا تكليف.
 
*المستوى الثاني، الذي يناقش بحذر شديد، ويتضمن حل التغيير السلمي في المعادلة السياسية وتركيبة نظام المحاصصة عن طريق حركة احتجاج توحد المجتمع، ريفا ومدينة وعسكرا، وتنخرط فيها قوى من العملية السياسية لكي يلقي باصحاب الازمة خارج المعادلة، وهو الحل الاكثر استجابة لمصالح الشعب ومطلب اقامة دولة العدالة والديمقراطية، وقد جُرب هذا الحل بمجموعة تمارين احتجاجية محدودة، واجهتها السلطات بالقمع والتضييق وتعاملت معها الكتل المتنفذة بالاهمال والتشكيك والتأليب، وانضم هذا الحل، في نهاية المطاف، الى سابقاته بموصوف الشعار، او الحلم.
 
 مشكلة الحل البديل تتمحور، لا في مبرراته وضروراته، بل في ادواته، فلا يصح ان تقترح معبرا للازمة لا تملك عدة كافية للعبور، وهنا يكمن الوجه الآخر لجدلية ومأزق الحل، أخذا بالاعتبار حقيقة ان ليس كل حل للازمة مأمون الجانب، فالبعض يتحدث، مثلا، عن الانقلاب العسكري، كمعبر، وهذا بعيد عن نقاشنا، وقريب من الخيال المستحيل.. الآن في الاقل.
********* 
"علامة العقل المتعلم هو قدرته على تداول الفكرة دون أن يتقبلها.". 
ارسطو   


64

آخر المهازل:
تسييس السياسة 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبدالمنعم الاعسم

 عندما نقول ان السياسة ابتُذلت وتمرمطت وانتـُهكت سمعتها على يد سياسيين ركبوها في غفلة من الزمن، وفي دورة الاقدار ومصادفاتها، فاننا نشير بذلك الى السياسة كعلم من علوم الاجتماع يعني بتوزيع وإدارة القوة والنفوذ في مجتمع ما، او في نظام من الانظمة، له استقلالية وتعريفات ومحددات وتطبيقات، شأن العلوم الاخرى.
 وعندما نتابع كيف يتسابق سياسيو الازمة في  تسييس قضايا لا تمت للسياسة بصلة مثل قضية تبليط شارع في حي مهمل، ونعبر عن احتجاجنا على ذلك العبث، فاننا نقوم برصد مشهد من مشاهد الفظاظة الصوتية للاختلاف بين السياسيين، ومحاولات نقل الصراع من مسار المشكلات ذات العلاقة بخيارات بناء الدولة الجديدة الى مسار التزاحم على كسب ود الناس او على تأليبهم، باساليب بالية وقصيرة النظر، بين مَن يعتبر مبادرة التبليط مِنّة على سكان الحي من الحكومة ومرجعيتها، ومَن يراها "حركة" دعائية مغشوشة لأصحاب الحكومة.
 والنتيجة الصارخة، هي ان الحكومة تشكو من محاولات خصومها (وهم شركاؤها ايضا) عرقلة اي اجراء او مشروع بناء او محاسبة موظف او تغيير ملاك اداري (وهو من حقها بل ومن واجبها) عن طريق تسييسهم الاعتبارات والاعتراضات واثارة الريب من حولها، فيما يشكو الخصوم، الشركاء، من ان الجهات الرسمية توظف كل خطوة او "منجز" يتحقق لصالح المواطن والبلد في الدعاية السياسية لقيادة الحكومة، مع انه التزام دستوري لها.   
 لكن المشكلة، تعدّت حدود القضايا غير السياسية التي تسيّس عن قصد وتدخل في عداد الخلافات والمماحكات والدعاية بين الحكومة وشركائها ، الى قضايا سياسية كبرى لا يصلح ان "تـُسيّس" الى الحد الذي يضيع معه الفاصل بين قضة التهديد الخارجي للبلاد وبين تبليط شارع في حي من الاحياء، او بين قضية الارهاب وبين محاسبة موظف مرتش في البلدية.. حتى بلغ الامر بعقد صفقات على النحو التالي: مرّر لي ميزانية العقد (س) أمرّر لك تبرئة الموظف (س) من العقاب الاكيد.
 قد يقال بان السياسة صالحة للتسييس، او انها تسييس في التطبيق العملي، وهي تبرر استخدام مختلف الاوراق  للوصول إلى تحقيق الأهداف، وذلك هو لب العمل السياسي لذا قيل السياسة فن الحكم و فن إدارة الصراع، غير ان ساحة الصراع السياسي في العراق اضرمت النار في كل المصطلحات السياسية ومعارفها، وبات الامر بالنسبة للملايين العراقية كما لو ان السياسة ضحك على الذقون، او كما انها عادت الى حقلها الاول الذي عرفت بها بالقول ان السياسة هي سوس الخيل. 
  وربما سوس دواب اخرى.
********
" الدجاجة هي أذكى الحيوانات، فهي تصيح بعد أن تضع البيضة".
ابراهام لنكولن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


خبر خاص


رائد حركة التنوير والتجديد والدفاع عن المساواة بين الجنسين 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر الزهاوي.. في ندوة السبت

خاص
يقيم مركز الزهاوي للثقافة والتراث ندوة "الحملة العراقية لاحياء تراث ومكانة شاعر العراق الكبير جميل صدقي الزهاوي" وتشارك فيها وزارة الثقافة العراقية في اطار برنامج بغداد عاصمة الثقافة العرابية 2013 يتحدث فيها مختصون في تراث الشاعر الذي عرف بتمرده ودفاعة عن التنووير والتجديد وتوزع شهادات تقدير لشعراء بالمناسبة..
وذلك في الساعة الرابعة من مساء السبت 2/11/2013 على قاعة دجلة في فندق بغداد الدولي
وابلغ مدير المركز السيد عبد المنعم الاعسم "الاتحاد" ان هذه الفعالية ستكون باكورة فعاليات برنامجية  تستهدف احياء تراث الشاعر الزهاوي وانهاء فترة طويلة من الاهمال والتعتيم، واضاف، ان التركيز سيكون على الدور التنويري للشاعر ومساهمته في الدفاع عن مساواة المرأة بالرجل وتبوئه حركة التجديد والتخلص من الافكار البالية.
وقال الاعسم، ان احفادا للشاعر بادروا الى رعاية صنع تمثال كبير له كان قدد صممه الفنان الكبير الراحل محمد غني حكمت ونفذه الفنان سهيل الهنداوي وان مباحثات تجري مع مسولين في محافظة بغداد بهدف نصب التمثال في احدى ساحات العاصمة.





65
المنبر الحر / أشبه بفيلم كارتون
« في: 19:10 27/10/2013  »

أشبه بفيلم كارتون

عبدالمنعم الاعسم 

 مناقشات قانون الانتخابات تكشف عن فجوة عميقة في العملية السياسية اكثرر مما يتصوره العقل، وحتى الخيال. انهم يخفون انانياتهم طي الكلام عن الشفافية والعدالة والاصلاح، ويذهبون الى تحويل المناقشات الى فوازير تصلح لافلام الكارتون اكثر من أي شيء آخر. فما الفرق بين القانون الجديد قيد الجدل، وبين القانون القديم المنبوذ؟ المهم، ما يتسرب من زلات اللسان، ان المواطن في واد والخلافات المطروحة بين الفرقاء في واد آخر، حتى ان الجبنة التي يتقاتلون عليها سيجدونها قد تعفنت في نهاية المطاف.

 هذه السجالات وقبلها موضوع قانون الاحزاب، وقبل ذلك، ملف الاستجوابات، ومحاربة الفساد، ومناصب الوزارات الامنية، تدور وتدور وتدور ثم ترجع الى نقطة البداية، ثم تنام، وهكذا اصبحت صالحة للكتابة الكوميدية عن احوال السياسة في العراق، وقل مادة مثيرة لفيلم كارتوني مسلّ نتابع امتع مقدماته  ومفاجآته في الحديث عن تحالفات بين خصوم الامس، وطلاقات بين زيجات البارحة، الامر الذي يضع بين يدي كاتب النصوص مادة وفيرة، فسيعثر على كنز ثمين من المفارقات ولقطات المتعة والطرائف والمغامرات، واضطراب الاقدار والحظوظ، وتداخل العناد بالاستفراد بادعاءات القوة الفارغة والفضيلة الزائفة، واستعراض العضلات، مما يستهوي الاطفال ويحملهم على الالتصاق إزاء الشاشات الملونة وعيونهم مفتوحة على وسعها.

 ويمكن لفيلم الكارتون المقترح هذا، ان يجري مجرى المسلسلات التركية المدبلجة الباذخة من حيث غزارة الدموع وقصر التنانير، وفخامة صالات الاستقبال، ووجود اكثر من بطل يجلب الشفقة، لكي يتوزع الاطفال المشاهدين عليهم ويصفقوا لاي واحد يكسب جولة في التنافس، كما يمكن لهذا الفيلم ان يحاكي قصص ارسين لوبين من حيث احتشاده بالبطولات الفارغة والصفقات المفضوحة والتحالفات الفاشلة والنداءات الفضفاضة، وكلها في الاخير تقع في حبائل رجل الشرطة الذي لا يقهر، ولا يقلل من شأن هذه الافكار الكبيرة ان تحملها طيور صغيرة مشاكسة او حيوانات منزلية اليفة، فالصغار المولعون بمثل هذه الافلام يحبذون القطط والعصافير والفئران التي تناقش قضايا كبيرة تهم مصائر بني جلدتها.

 ويستطيع المؤلف الحاذق ان يستخدم تأثيرات صوتية من النوع الذي يجيّش عواطف الصغار. طبول. زعيق خفيف. حفيف اشجار. رعد. وذلك من خلال سيناريو يأخذ بالاعتبار الابعاد المكانية للحدث، مع مراعاة الحبكة والاقناع واللقطات المقربة في ثيمة الفيلم الذي يراد له ان يهيئ الاطفال الى النوم من غير كوابيس.
 ويحسن بكاتب السيناريو ان يركز على الهدف الذي تتصارع عليه، وتتسابق نحوه، جحافل القطط والفئران والطيور، وان لا يثقل رؤوس الصغار المشاهدين بالمقولات الفلسفية مثل السيادي والسيادية، او الوطن والوطنية، او المصطلحات الدستورية مثل الاستحقاق والفراغ، فان مكانة الفلسفة قد تراجعت، وسمعة الدستور قد تردت، وقد يجد بدائل عنها في اغان خفيفة لجوقة من الزرازير تردد اغنية “اللي شبكنا يخلصنا” بصوت كورالي منعش.
 
في احد افلام الكارتون الامريكية كان الهدف هو “جبنة” أخفيت طي سلة ملابس قديمة، فيما يبحث عنها اثنان من القطط كانا يعتزمان العثور عليها ويتسابقان اليها ليستأثران بها، وطوال وقت العرض يقدم مخرج ومؤلف وسيناريست الفيلم مشاهد شيقة، كان آخرها العثور على الجبنة وقد تعفنت.
*******
"البلبل لا يبني عشا في القفص حتى لا يورث العبودية لفراخه".
جبران


 

66
الظواهري والبغدادي.. اين الاختلاف؟

عبدالمنعم الاعسم
 
 رسالة زعيم تنظيم القاعدة العالمي ايمن الظواهري الاخيرة الى “المجاهدين” تُعد طورا جديدا في عمل وفكر وتكتيكات المشروع الارهابي الدولي، يختلف في صراحته (ليس في الجوهر) عن النهج المعلن للتنظيم، وربما ينحى (او يحاول ان ينحى) الى الواقع بتحريك الثوابت المعلنة عن مجاهدة “الكفار اينما كانوا” من خطوطها الحمر الى منطقة المناورة، وترشيد استخدام الرصاص والقتل بحسب الاولويات وعلى وفق التفريق بين عدو مهادن وعدو مقاتل، وحتى الى تحبيذ وقف النار مؤقتا على خطوط تماس بعض الانظمة “الكافرة” تبعا لدرجة عدائها أو لتوقيتات وضرورات الحرب على الجبهة الامريكية التي يصفها بـ “رأس الكفر العالمي”.

يتحدث الظواهري عن الجهاد بلغة المجادلة ويظهر ذلك جليا عندما يشير الى حلفاء امريكا فان قتالهم كما يقول “يختلف من مكان إلى آخر، والأصل ترك الصراع معهم(أي مهادنتهم) إلا في الدول التي لا بد من مواجهتهم فيها” ويتوقف عند الحالة الفلسطينية بقوله “الاشتباك الرئيسي والأساسي مع اليهود، وينبغي الصبر على الحكام المحليين في سلطة أوسلو قدر الإمكان”.

وفي عبارات وجيزة ومهمة وواضحة يرسم الظواهري خطوط التعامل مع الطوائف الاسلامية انطلاقا من تجديده التزامه بـ“اهل السنة” بوصفهم الدين الاسلامي الحقيقي وسواهم “منحرفون” لكنه يدعو بالنص  الى “عدم مقاتلة الفرق المنحرفة مثل الروافض (ويقصد بهم الشيعة) والإسماعيلية والقاديانية والصوفية ما لم تقاتل أهل السنّة” ويقضي “فليكن الرد مقتصرا على الجهات المقاتلة منها، مع بيان أننا ندافع عن أنفسنا، وتجنب ضرب غير مقاتليهم وأهاليهم في مساكنهم، وأماكن عبادتهم ومواسمهم وتجمعاتهم الدينية” وفي هذا يتأكد انه يعني خط زعيم تنظيم دولة العراق والشام الاسلامية ابو بكر البغدادي الذي يزاول كل هذه المفردات الاجرامية.

ويدعو الظواهري  إلى “عدم التعرض للنصارى والسيخ والهندوس في البلاد الإسلامية، وإذا حدث عدوان منهم، فيُكتفى بالرد على قدر العدوان، مع بيان أننا لا نسعى إلى أن نبدأهم بقتال” لكن اوضح صورة للتكتيك الجديد في رسالة الظواهري تظهر في الموقف من الانظمة الخليجية  وايران دون ان يذكرها بالاسم قائلا: “حيثما أتيحت لنا الفرصة لتهدئة الصراع مع الحكام المحليين لاستغلال ذلك للدعوة والبيان والتحريض والتجنيد وجمع الأموال والأنصار فيجب أن نستثمرها لأقصى درجة، فإن معركتنا طويلة، والجهاد بحاجة لقواعد آمنة، وإمداد متصل من الرجال والأموال والكفاءات”. 

يبدو من هذا السياق ان ترشيد الجهاد المسلح وإدخال مبدأ “العلاقات” في اولويات الجهاد يتضارب مع منهج مؤسس التنظيم وملهمه اسامة بن لادن الذي كان يقول “فغير السيف لا يجدي يميناً فتية الجيل” كما يتعارض مع التطبيقات اليومية لتنظيم القاعدة في العراق الامر الذي يطرح سؤالا مهما عما اذا كانت صحيحة التقارير التي تفيد بان ابو بكرالبغدادي انفصل عن الظواهري واتحد بقوى اقليمية وكيلا لها، تحت الطلب، على ارض العراق؟.

***********
“تأبَى صروفُ الليالي أن تُديمَ لنا ...
                       حالا، فصبرا إِذا جاءتْك بالعَجَبِ”.
الطغرائي- شاعر فارسي
 

67
المكالمات.. من يتنصت على من؟

عبدالمنعم الاعسم
تتداول كواليس السياسة والتنافسات كلاما حذرا عن انتشار ظاهرة التنصت "التكنولوجي" على المكالمات الشخصية، ليس فقط من الجهات الرسمية على الساسة وغير الموالين، بل وايضا، من قبل الجماعات السياسية على بعضها، بل ان الامر لا يقتصر على تنصت الكتل والزعامات على بعضها بغرض جمع المعلومات والتجاوز على الخصوصيات بل ويجري داخل التكتلات السياسية نفسها وبين الحلفاء انفسهم، .
 
وكان الموضوع قد اثير في وقت سابق من العام الماضي، والجديد الآن، هو ان معلومات صحافية كشفت عن سوق في عواصم غربية لاجهزة التنصت المتطورة، يرتاده سياسيون عراقية ووكلاء لهم لشراء اكثر تلك الاجهزة كفاءة مع اقتراب الانتخابات النيابية، الامر الذي يدخل في معارك الدعاية والتشهير وكسر العظم والتهديد بافشاء معلومات خاصة.
 
التنصت على المكالمات الشخصية جريمة يعاقب عليها القانون، ويرخص للحكومات ممارستها بقرار من محكمة معتبرة، ولأغراض محددة تتعلق بالامن الوطني وحالات الحروب والتهديدات الخارجية، وهي جريمة نكراء اذا ما استخدمت في الصراع السياسي والتشهير بالاشخاص، وقد قضى بتجريمها الاعلان العالمي لحقوق الانسان (المادة12) والعهد الدولي للحقوق المدنية (المادة 17) وحتى الدستور العراقي في مادته السادسة عشرة حين اكد احترام خصوصيات الافراد"
 
وبصرف النظر عن دقة دقة المعلومات المتداولة ومدياتها، فان تقنيات التنصت على المكالمات دخلت، بالتأكيد في الخدمة الحكومية، ومنها الى ساحة الصراع السياسي، كما ان استخدام هذا الشكل من جمع المعلومات، وتوظيفها ضد الاشخاص كبراهين اتهام يخالف مخالفة صريحة الاخلاق والمواعظ الدينية والكتب المقدسة، فقد حُرم التجسس على الناس  في القرآن الكريم بالقول: "ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا- سورة الحجرات" وذُمّ ذلك من قبل الرسول في قوله: "إذا تناجى إثنان فلا يدخل معهما غيرهما حتى يستأذن منهما- نقله ابن عمر" والسؤال هو على اي فتوى اباح الساسة الاسلاميون لانفسهم التنصت على الاخرين؟ 
 
كثيرا ما نسمع الساسة المتصارعون انهم يملكون معلومات خطيرة "ودامغة" عن خصومهم، وبلغ الامر بتجار اعلام  واصحاب فضائيات ان يبتزوا سياسيين ورجال اعمال برسائل تؤكد انهم يملكون اسرارا "حية" سيمتنعون عن نشر وقائها في حال دفعوا الثمن، لكن بعض الوقائع جريمة..وبعض الثمن قطرة حياء.
*****
" لا تفتش عن عيب الصديق فتبقى بلا صديق".
جعفر الصادق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



68


الدكتاتورية سقطت..
الدكتاتورية لا تزال

عبدالمنعم الاعسم

 استمرار الميل الى "منطق" ولغة وسياسات صدام حسين من قبل المعارضين السابقين الذين يديرون شؤون الدولة الجديدة وينتسبون الى عهدها، وايضا بالنسبة الى  جمهور من الضحايا السابقين، ليس فقط امرا من مضاعفات خيبة الامل حيال حلم التغيير أو رد الفعل على اضطراب الاوضاع وعلى الحلل الذي يضرب مفاصل الادارة وقيم الوظيفة والشعور بالامن، بل هو ايضا اشتقاق من الاثر السايكولوجي العميق لحقبة الدكتاتورية  في الوجدان الجمعي للضحايا، وسيبقى هذا الميل قائما ومُعبرا عنه باشكال مختلفة، طالما يوضع في خانة "المسكوت عنه".
 في التجارب التي سبقت الحالة العراقية عكف المحللون الاجتماعيون على بحث مخاطر الاثار التي تتركها الدكتاتوريات  في سلوك الاجيال التي عاشت الاهوال تحت حكم القمع الطويل ومصادرة الحريات، وبين ايدينا نماذج من الدراسات والحلول القيمة من الارجنتين وجنوب افريقيا واسبانيا، والكثير منها انتج معارف طبية تطبيقية جديدة لمعالجة الضحايا والحيلولة دون ان يمارسوا حياتهم تحت تاثير تلك الحقب السوداء، والاهم دون ان يعاد انتاج ثقافة الدكتاتورية المهزومة. 
 وقبل تلك التجارب بعقود طويلة كانت تجريدات التأثر بالبيئة الضاغطة موضع دراسة طليعية من قبل العالم البايالوجي الروسي إيفان بافلوف في القرن التاسع عشر ونال عنها جائزة نوبل العام 1904 وتقوم على رصد تفاعل الانسان، والحيوان أيضا، مع التأثيرات الضاغطة واستمرار هذا التفاعل مع غياب مصادر التأثير واشكالها (سقوط الدكتاتورية) وكانت تجارب بافلوف على الفئران والكلاب في غاية الاهمية حول تحول المنعكس الشرطي (المظالم) بالتكرار لسنوات طويلة الى منعكس لاشرطي حيث يثير غضب الضحية حالما يتذكر المظالم مرة اخرى، وقد يقع في حالة الاعجاب الخفي بها.
 لكن ابو حامد الغزالي صاحب (تهافت الفلاسفة) لاحظ في إحدى بحوثه طغيان (الروح الخيالي) لدى الانسان مستشهدا بالكلب الذي يهرب بعيدا كلما رأى العصا إذا كان يضرب بها في السابق باستمرار، ما يبقي هاجس الالم قائما في اللاشعور حتى مع ابتعاد خطر العقاب، وقد اعتبر رد الفعل هذا بمثابة حشوة لنظرية ابن خلدون عن لجوء الضحية في حالات معينة الى الاعجاب بجلاده.
 وفي انتباهة لرسول حمزاتوف، يقول، ان أبناء قريته في اقاصي داغستان كانوا قد هجروا نبعا من الماء كان قد شهد مذبحة لعشرين من نسائهم، وكان الجيل الثالث من ابنائهم يرتعبون ذعرا كلما مروا بالنبع، وكان كثير منهم يضطرون للمشي يومين بدل ان يسلكوا الطريق عبر النبع مخافة ان يتذكروا بشاعة المجزرة، وقبل سنوات قليلة قال مراسل اجنبي كان قد التقى العشرات من العراقيين وتحدث اليهم عن مستقبل بلادهم، إن الناس هنا لم يخرجوا بعدُ من الكوابيس، وهم يتصرفون كما لو انهم في زنزانات.. وكدت أعد هذه الصورة فرطا من المبالغة، لولا ان بافلوف والغزالي وحمزاتوف سبقوا المراسل، الى تأويل ما تتركه القسوة في الاعماق.
 الدراسات الحديثة عن اثار الحقب الدكتاتورية على الشعوب تحذر من ميلين خطرين، اولهما، الاستمرار بالخوف من شبح الجلاد ، كما لوانه لا يزال حاكما، وثانيهما، الانحراف الى الاعجاب الخفي بالجلاد، كما لو انه كان بريئا.
*******
" من أَسْرَعَ إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون".
الاحنف بن قيس- صحابي
 

69
الاتحاد الوطني الكردستاني..
نتائج قيد المعاينة

عبدالمنعم الاعسم
 
لم أفاجأ بالنتائج التي اسفرت عنها انتخابات اقليم كردستان، ولم افاجأ، ايضا، بتراجع نصيب الاتحاد الوطني الكردستاني من المقاعد وانتقاله الى المرتبة الثالثة من حيث مناسيب القوى في الهيكل التشريعي للاقليم، لكنه من الصعب عليّ، كمتابع من موقع مستقل، ان اسجل ذلك التراجع على حساب رصيد مام جلال، الزعيم الوطني  والشخصية السياسية النافذة في تاريخ المرحلة، فلا اعده تراجعا في مكانته كردستانيا او عراقيا. ذلك شيء وهذا شيء آخر.
 ومن زاوية التحليل الموضوعي فان مبادرة قيادة الاتحاد بالاعتراف بالنتائج، حتى قبل اعلانها رسميا، والقبول بها على مرارتها، والتأكيد انها "لا تليق بتاريخ الحزب وموقعه ونضاله" تعني التفاعل مع استحقاقات هذه النكسة واستيعابها ، ليس من باب الاستقواء بالسلطة او التحالفات او ادوات التنافس التي استخدمت في السباق الانتخابي، بل بالمراجعة الجدية لمنظومة الحزب، السياسية والفكرية والقيادية، انطلاقا من الحقيقة التي يعرفها الجميع بان هيئة اركان الحزب كانت تقدم نفسها، في غياب مام جلال الصحي، كمجموعة غير متضامنة كفاية، ولا تعمل في نسق منسجم مع متطلبات معركة الانتخابات، في الاقل.
 في علم التعبئة المعاصر، يمكن ان يكون "الصراع" في الحلقة القيادية عامل قوة عندما يجري ادارته كنوع من التعددية في التفكير والمزايا والاختصاصات، بديلا عن الواحدية ومشيئة الفرد، لكن يبدو ان الاتحاد الوطني الكردستاني لم يستطع بناء هذه المعادلة بمهارة كافية، على الرغم من التأكيدات التي طالعناها عن وحدة القيادة ونفي وجود صراعات في صفوفها، وساكون اكثر وضوحا بالقول ان الاتحاد لم يتعامل مع الغياب الصحي لزعيمه الكبير ومع الفراغ الذي حصل بهذا الغياب بطريقة واقعية، ولا بخطوات جريئة، وبقي يدور حول الموضوع في تردد افقده ثقة جمهور واسع، عدا عن اصدقاء كثيرين له.
 وعلى الرغم من ان نتائج الانتخابات "السلبية" ليست الحكم النهائي على اهلية ونفوذ اي مشروع سياسي، ولا تغلق ابواب المستقبل امامه، إلا انها تكون حاكما فيصلا في حال لم توضع موضع المعاينة الصريحة، لكشف الخلل الذي حال دون تجنب التراجع والهزيمة، وبخاصة فيما تعلق بكفاءة القادة والكوادر، وفي المقام الثاني، في كفاءة الخطاب السياسي والتعبوي، وهذا ما تلجأ له الاحزاب العريقة التي تقرر تحويل الاخفاقات الى نجاحات، وبخلاف ذلك، فان إبقاء الحال على حاله، وتسويق التبريرات اللفظية، والتقاذف بالمسؤوليات، سيلحق الضرر بالمشروع  الطموح للاتحاد الوطني الكردستاني.
 وبانتظار المراجعة.
*****
"علمتني التجارب أن أولئك الأنقياء من الخطايا ليس لهم فضائل تذكر".
ابراهام لينكولن



70
المنبر الحر / من ملصقات 31/8
« في: 19:49 03/09/2013  »

من ملصقات 31/8

عبدالمنعم الاعسم

1- امناء بين قوسين
الاجهزة الامنية التي هُزمت في سجن ابو غريب، على نحو شنيع، امام قطعان منفلتة بلحى ودشاديش قصيرة، ارادت ان ترد هيبتها بطريق معكوس، ليس في ساحة المواجهة مع الارهابيين، بل في استعراض القوة و"العين الحمراء" امام متظاهرين يطالبون بحماية ثروة البلاد من التبديد والاهدار والفساد، فامعنت في مخاشنتهم، وايذائهم وتقطيع اوصال الطرق حيالهم، واستعمال العصي الكهربائية لجلد الفتيان واعتقال الناشطين، في واحدة من اختبارات الادعاءات بالتزام القانون والدستور والديمقراطية، وصدقية "التعاطف مع مطايبهم" كما نُسب الى رئيس الوزراء.

2- سيدة لا تخاف
في ساحة الاندلس كان ضابط قوة مكافحة الشغب متوترا ومستوفزا، يذكرني بضباط نظام الدكتاتورية في طريقة تعاملهم مع الناس. دفع سيدة ترفع علما عراقيا لم تكن قد عملت شيئا إلا اصرارها ان لا تتزحزح من الشارع. اقتربتُ منه لاطلب منه مراعاة القانون وحق الناس بالاحتجاج وتذكيره ان التظاهرة سلمية ومتحضرة وعادلة. تركني ليقول للسيدة المتظاهرة باستفزاز: "شتسوين هنا ويّه الزلم؟ انتي مره.. اكعدي ببيتج" احتجت السيدة المتظاهرة بأدب جم وقالت له: هل انت تعرف هؤلاء الزلم؟ انهم اشرف ابناء الشعب العراقي. انهم وطنيون ويحبون شعبهم. انظر لهم.. من منهم يحمل سلااحا او عصى . كلهم يحملون علم العراق وشعارات تطالب باشياء هي في صالحكم ايضا. بعدين.. ليش ما تروحون للارهابيين اللي يفجرون الناس.؟. ليش تعتدون علينا.؟. وهنا اغادر عليها مرافق للضابط بهراوة وضربها، واطاح بها على الارض.

3- جريمة ان تكون متحضرا
وعلى مرمى من هذا المشهد، في شارع النضال، كان شابان من المتظاهرين يجمعان القناني الفارغة من الارض في اكياس كبيرة، هي جزء من التزامات شبيبة التظاهرة ان يحافظوا على نظافة الشوارع والساحات التي يتجمعون فيها. يبدو ان ذلك لم يكن مريحا لصف من قوة "مكافحة الشغب" التي قبضت على احد الشابين، ومصادرة هاتفه، والتحفظ عليه، باعتباره ارتكب جريمة "يعاقب عليها القانون" ومن بين ايديهم كان الشاب يهتف: عاش العراق. لا تقاعد للنواب. لا مكان للارهاب. سلمية. سلمية.. كلهم حرامية. ما نتراجع.. ما نتراجع.. وضاع صوته الراسخ في ما وراء صف القوة السوداء.

4- الحق يتظاهر
هل رأيتم العائلة البصرية.. الأب وزوجته وابناءه.. التي سارت لوحدها في شوارع فرضت الشرطة عليها ما يشبه منع التجوال، متظاهرة ضد المهانة التي تعانيها الملايين، في ظل سلطات الفساد والمحاصصة والنهب واحتكار الامتيازات والخدمات والوجاهات؟ لقد مثلتنا هذه العائلة جميعا في صورة التحدي المُلهم بكفالة حق التظاهر والاحتجاج والتعبير الحر عن الرأي، واقترحت علينا ان نتعلق بأمل ان تقول الملايين كلمتها الفصيحة .. غدا ؟.
*********
"إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء".
خورخي بورغيس- روائي ارجنتيني


71
لم يكن العراق جميلا..
كما كان صباح السبت

عبدالمنعم الاعسم

 في استيقاظة، تحدث دائما في التاريخ، تستطيع الملايين المقهورة والمهمشة والمقصية تغيير اقدارها، وقد تتمكن من زحزحة بلاء يجثم على انفاسها، او، في الاقل، توخز رجل السياسة من موضع غطرسته لتقول له: قف، انت تتمادى.

في تلك وهذه، تجدد الشعوب دورتها الدموية، وتُحسّن صورتها كصانعة لمصيرها، وترفع مضنة القبح التي الصقها بها بعض ابنائها الموغلين بالفساد والغطرسة والتخلف ممن يديرون لعبة السياسة والصراع.
 طوال عقد من السنين توقف العراق عند صورة مستقبحة جرى تسويقها لكل الشاشات الملونة: هنا الفساد بكل اشماله وابطاله. هنا الطائفية بالالوان الفاقعة. هنا الارهاب والانتحاريين وحثالات القاعدة. هنا الموت اليومي الذي يرتكبه محترفون وهواة. هنا نصف الشعب موسر ومسؤولون وحمايات وحرامية ونصفه الاخر مدقع وشحاذ وخارج الصدد. هنا القتل على الهوية وعلى الشبهة وعلى الفراسة والقتل المخطط له بكاتم الصوت. هنا القضاء والعدالة والعقل في اجازة. هنا الثروات والعائدات الاسطورية والبطالة ايضا. هنا الصراعات الفئوية الشرسة علة كرسي او مقعد او مكان على شرفة المستنقع. هنا الوصاية والتدخل والاملاءات من كل دول الجوار وكل استخبارات العالم. هنا احتلال تُرصد بالعين، واحتلات لا ترى بالعين المجردة. هنا الساسة الذين يبيعون سمعة البلاد في اسواق الخردة. هنا وكلاء دول وممثلو مافيات وتجار مخدرات. هنا البلاد في عتمة ولا تصل الكهرباء الى المنازل فيما تستعد الدولة لتصديرها الى الخارج. هنا تباع الوزارات ومقاعد النواب والعقود والوجاهات بادنى سعر لها في العالم. هنا الحكومة والمعارضة والصحافة لا تملك اجوبة عن سؤال واحد: ما الحل؟. هنا الحل رهان ودوخة راس ودعوة مفزعة لجميع اللاعبين في ساحة الازمة السياسية. هنا معامل لانتاج الكراهيات للطوائف والقوميات والعقائد. هنا الذين يفجرون الكنائس والمساجد والحسينيات هم انفسهم يفجرون محلات بيع الخمور. هنا اجيال تولد ومعها حزام ناسف وقذيفة هاون. هنا القُبح، بوجيز الكلام
هكذا تحالفت فرقُ كثيرة، ومن منحدرات متضاربة، لإذلال الوطن، وتسويق هذه الصورة المخزية عنه الى العالم، فيما القى التاريخ مسؤولية تصحيح المشهد على حفنة صغيرة شجاعة من الابناء الذين آمنوا بان خلف تلك الصورة القبيحة المُصنعة لبلادهم خلفية تفيض بالجمال والرقة والعذوبة.. فخرجوا الى الشوارع صباح الامس الاول، الحادي والثلاثين من آب،  بارادة لا تقهر، وصوت كورالي صاف: العراق جميل. نحن هنا لتصويب المعادلة.. ولم يتراجع هتافهم النبيل بمواجهة صف من الشرطة كانت قد هزمتهم، قبل ذلك، حثالة من قطعان القاعدة في محيط سجن ابو غريب.
*******
"من يتصرف بدافع الخوف يظل خائفا".
روجر فريتس- اديب فرنسي





72
صمّوا آذانكم..
دوي في سوريا

 يبدو ان ساعة التدخل العسكري الخارجي في سوريا تقترب بخطوات متسارعة، مع تدفق التقارير عن  المذبحة الكيمياوية المروعة في غوطة دمشق، ويظهر للمتابع، بان العالم وحكومات المنطقة والغرف العسكرية الاستراتيجية منشغلة في حساب حال سوريا وجيرانها بعد الضربة التي يجري الحديث عنها بوصفها زلزالا سيغير الكثير من المعادلات.
فما هي مؤشرات الحرب الخارجية على نظام الرئيس الاسد؟.
*اجتماع عشرة من رؤساء اركان جيوش عربية واجنبية في عمان بغرض بناء تصورات للتعامل مع سوريا.
*تأكيد الرئيس الامريكي باراك اوباما في حديث مع سي أن أن بان الوقت الى "موقف نهائي" حيال سوريا.
*التحاق سفينة رابعة حاملة لصواريخ كروز الى الاسطول الامريكي في البحر المتوسط، والغاء اعادة سفين (ماهان)  العاملة في المنطقة الى قاعدتها في فرجينيا.
* تأكيد وزير الدفاع الامريكي تشاك هاجل على اعداد "خيارات التدخل" في سوريا  ووضعها على طاولة اوباما.
 على ان بغداد وحدها، من بين دول المنطقة، تتصرف كما لو ان الامر السوري لا يشغلها، بالرغم من انها الاولى على قائمة الاطراف التي ستدفع فاتورة التدخل، ففيما الغى اردوغان تركيا وملكا السعودية والاردن عبدالله بن عبدالعزيز وعبدالله الثاني جميع التزاماتهما وانصرفا الى ادارة الترتيبات الجديدة حيال سوريا، ، فان رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حمل نفسه الى خارج العراق في زيارة بروتوكولية الى الهند، في وقت تتزايد التقارير عن تدفق المزيد من النازحين عبر الحدود مع سوريا، ويشار في الاعلام الامني الرسمي الى تسلل مسلحي القاعدة الى العمق العراقي من سوريا، الامر الوحيد الذي يشغل الجهات الامنية.
 وعلى الارض، لا شيء يوحي باجراءات  عراقية وقائية تتناسب مع قادم الاحداث السورية الخطيرة، ما يثير استغراب المراقبين، عدا عن انه يثير تساؤلات حول تقارير مبكرة عن اتصالات بين واشنطن وبغداد لم تسفر عن اتفاقات على الارض، لكن تقارير امريكية تؤكد ارتياح الجانب الامريكي ازاء الموقف العراقي من الملف السوري، وهي تقارير لا تدخل في عداد الحقائق، لان الكثير منها يستهدف جس النبض ومراقبة ردود الافعال.
 في كل الاحوال نحتاج ان نصم آذاننا، فان انفجار سوريا سيكون مدويا، وثمة الكثير من شظاياه سيقع على رؤوسنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ


73
باسم القضية..
المقدسة

عبدالمنعم الاعسم
 
لم يكن برام ستوكر قد تخيل ان هناك مخلوقات تمص دماء البشر قبل ان يلتقي عام 1890 بشكل عابر برجل يمص دماء ضحايا ليخترع من مشهده شخصية دراكولا التي تثير الفزع فرط قسوتها.
ان  ورثة دراكولا يبتدعون قضية مقدسة، صنمية، دينية او قومية او أخلاقية، ثم يستبيحون دماء الناس بذريعة الدفاع عنها، بلا محاكم، او تحقيق، أو اسباب لها ظلال على الارض، ولا يتورعون عن استخدام افظع الاسلحة واشنع الاحكام واتفه المخلوقات لتنظيم مذابح مسلية لهم باسم تلك القضية.
 مجزرة ريف دمشق اعادت السؤال عن سر اعجاب الحكام الطفاة بالسلاح الكيمياوي، وقبلها انفال حلبجة التي اتت على حياة خمسة الآف من القرويين الابرياء في رمشة عين، بين اطلاق الصواريخ وارتطامها بالارض، وقبلهما قرية جيرنيكا التي ارسلت الفاشية الفاجرة الى مزبلة التاريخ، ابطالها جميعا مصاصو دماء اخذوا امتيازات الجريمة من فتاوى ونصوص سوداء.
 اما "قضية" اسامة بن لادن التي ذبح من اجلها عشرات الالوف من العابرين واصحاب الحظ العاثر فهي بسيطة جدا.. تقوية عمود الدين.. بالسيف والتفجيرات والمذابح الجماعية وليس بالانتخابات والتصويت، ويحرص ان ينشد صبيان القاعدة بيتا كان قد الّفه من بحر الرمل، يقول:
 عمود الدين لا يقوى بتصويتٍ وتخذيلِ...........
                  فغير السيف لا يجدي يميناً فتية الجيلِ
 وامس الاول كشفت السلطات البريطانية عن مخالفة تحت طائلة القانون سجلت على الداعية الاسلامي الباكستاني المتطرف (اكاد اقول المنحرف) محمد فاروق نظامي الذي يقدم برنامجا في "الجهاد الشرعي" من اجل الدين من فضائية النور الاسلامية المرخص لها في لندن، وكان  يجيب عن أسئلة متعلقة بالإسلام يرسلها المشاهدون من كل أنحاء العالم، ولم يرمش جفنه وهو يفتي بانزال قصاص الموت بكل من لا يحترم العقيدة الاسلامية.
 "القضية" التي تستباح الدماء من اجلها تصنيع قديم لوحشية سكان الغابات، حين كان القانون الوحيد للبقاء على قيد الحياة هو ان تقتل، وتقتل.. القانون الذي يقول.. اذا لم تقتل فانك ستُقتل..
 والآن يريدون بنا العودة الى الغابة.. هذه هي القضية.
***********   
"لم يكتشف الطغاة بعد سلاسل تكبل العقول".
لورد توماس

74

المالكي..
والخطاب الاسبوعي

عبدالمنعم الاعسم

 القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء نوري المالكي بتقديم خطاب اسبوعي "الى الامة" ينبغي ان ينظر اليه من زاوية الدواعي التي تقف وراء الاتصال الاعلامي بالمواطن، وبهذا الوقت بالذات الذي يسجل فجوة كبيرة بين الخطاب الرسمي (السياسي والامني) والجمهور، وهي دواعي صحيحة في العموم، اذا ما اعتبرنا بان الخطاب الاعلامي لكابينة رئيس الوزراء والسياسيين المقربين منه اخفق في تقديم اجوبة اعلامية مقنعة للاسئلة التي تدور في الشارع، وانه بقي يلهث وراء الاحداث، وتخلف عن الحضور الفاعل وسط الفواجع التي عصفت في اوساط الملايين العراقية.
 
الافتراض بان كابينة رئيس الوزراء تلمست (ثم اقتنعت بـ)عجز وتناقضات وتخلف ماكنتها الاعلامية مشكوك فيه، حتى الآن، فثمة تسويقات توحي بالرضا، والاقتدار، والاطمئنان ازاء الحال الاعلامي الرسمي او الممول من الحكومة، وثمة محاولات تهريب هذا العجز الى خانة الظروف الاستثنائية، او الى الهجمة الاعلامية "التآمرية" الخارجية، وثمة اصرار على التقليل من شأن ضعف وتضارب مكونات هذا الاعلام، وبخاصة السياسيين المقربين من المالكي الذين يطلقون رسائل متناقضة وانفعالية، ويتعاملون بفوضى وانتقائية مع اقنية الاعلام، ويخفقون كثيرا في الوصول الى دائرة مشغولية الرأي العام.
 نعم، هناك حاجة ماسة للاتصال المكثف بالجمهور من قبل الرجل الاول المسؤول عن القرار السياسي، وسيكون هذا الاتصال ناجحا ومثمرا كلما كان بعيدا عن لغة التبريرات وإعفاء النفس من المسؤولية ودفعها الى جهات اخرى، وكلما ارتبطت هذه اللغة بتحسن ملموس في اداء السلطات وتجانسها وبالخدمات التي تقدمها للشعب، وكلما اتسمت بالمراجعة والنقد والشجاعة في تحمل المسؤولية وبالاعتراف بالاخطاء والتقصير، وكلما نأت بنفسها عن ملف الصراع الفئوي والخصومات والمخاشنات بين الكتل واستخدام مفردات التهديد وليّ الايادي، وكلما ارتقت بالجملة الخطابية الى مستوى الوضوح والمباشرة وتسمية الاشياء باسمائها وتجنب الاشارات الموحية الشائعة بالتصريحات الرسمية والصحافة.
 وبكلمة، ننتظر ان لا تكون كلمات رئيس الوزراء الاسبوعية بمثابة تعليقات على الاخبار..وقد شبع العراقيون منها.. ولا هي مبالغات بما تحقق من "انجازات" .. ولا تفخيم لتدخل "نوع" معين من الجيران في شؤون العراق، وليس من شك في ان الرجل يعرف مثل هذه الموجبات، والخشية ان يقع في بروفات مقترحة من محيطين قد لا يقدرون معنى ونتائج النفخ في قربة مثقوبة.


75

فرضيات الهجوم
على المنطقة الخضراء

عبدالمنعم الاعسم

نصف ما قيل عن هجوم يُعدّه تنظيم القاعدة على المنطقة الخضراء لا يعدو عن كونه شائعات ومبالغات، وربما تمنيات ايضا، والنصف الثاني يتصل باجراءات بالغة الافراط  والتوتر لحماية المنطقة التي تضم مباني ومراكز حساسة اخطرها ادارة الحكومة والسفارة الامريكية، وكلاهما اتخذا احترازات استثنائية، فوق الاحترازات التي تتخذها اجهزة الجيش والشرطة في محيط المنطقة ومداخلها.
اما الحقيقة فهي التالية: ان تنظيم القاعدة الذي نجح في اختراق النظام الامني الوطني بعملية اقتحام سجن ابي غريب واطلاق المئات من عتاة الارهابيين والمجرمين صار على مشارف المنطقة الخضراء المحصنة، بل ان الكثير من المراقبين والدبلوماسيين والمحللين العسكريين اعتبروا المنطقة الخضراء ساقطة أمنيا، وان ثمة اكثر من خلية ارهابية منتشرة فيها تسهّل لهجوم استراتيجي يكسر شوكة كابينة رئيس الوزراء في عقر دارها، ويضرب هيبة الدولة في رمزها السياسي.
واللافت ان المواقع القريبة من تنظيم القاعدة على شبكة الانترنيت لم تشر الى عزم التنظيم على اقتحام المنطقة الخضراء، ولم تهدد بذلك، واكتفت طوال الفترة الماضية بترويج "مأثرة" ابي غريب لاثارة حماس مقاتليها وانصارها، في وقت يشهد التنظيم انتكاسات في شمال افريقيا واليمن وتتراجع مناسيب تطوع  الانتحاريين في عدد من دول العالم التي كانت ممولا بشريا للمشروع الارهابي العالمي.
وقد تكون احتمالات هجوم القاعدة على المنطقة الخضراء مبنية على قرار الولايات المتحدة غلق سفارتها في المنطقة بعد ايام من الهجوم على سجن ابي غريب، وايضا على تسريبات استخبارية عراقية عن خطة لهذا الهجوم، لكن واشنطن عادت الى نفي العلاقة بين قرارها وحادث اقتحام سجن ابي غريب، كما ان الجهات الامنية العراقية لم تعد تتحدث عن خطة القاعدة لاقتحام المنطقة الخضراء على الرغم من الاستنفار المضروب من حول المنطقة والذي يتزايد كل يوم.
والسؤال التفصيلي الذي يطرحه المراقب هو: هل تنوي القاعدة حقا القيام باقتحام المنطقة الخضراء؟ الجواب: نعم.. لكن مما هو معروف للمتابعين والخبراء ان هجمات القاعدة تتسم بالمباغتة دائما ولا تهاجم هدفا صار قيد التداول الاعلامي، فهي قد تهاجم المنطقة الخضراء لكنها ستتحكم بساعة الهجوم في الوقت الذي تتراجع اليقظة الامنية الى حد مناسب، وينصرف الساسة الى عراكهم الذي يُشغل الجمهور.
الحل، كما يشير خبراء مكافحة الارهاب، يتمثل في خطة عسكرية، مدعومة من الطبقة السياسية والمجتمع تتجه الى مداهمة اوكار الارهابيين قبل ان يتحركوا لتنفيذ هجماتهم الاجرامية..
وقبل ان يصلوا الى مكاتب الحكومة قبل موظفيها.
********   
"" الإنسان هو الكائن الطفيلي الوحيد الذي ينصب مصيدته الخاصة ويقوم بوضع الطعم فيها ثم يخطو داخلها". 
جون شتاينبك



76
المنبر الحر / قرأت لك: عن الحكام
« في: 12:07 14/08/2013  »
قرأت لك:
عن الحكام

 
عبدالمنعم الاعسم
 
*الحاكم الاكذوبة
“الجاي من العوجة. خيوله مسروجة. الضارب اسرائيل. خله دمها يسيل”.
من اغاني صدام حسين

*الحاكم المخدوع
“حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، فيصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعاني منه الشعب”... “يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه إلى خوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة”.
ابن خلدون- المقدمة

*الحاكم الطاووس
“الإنسان مجبول أن يرى في نفسه الفضل أو الامتياز على أقرانه في أمر من الأمور, فهو إذا وجد الناس يحترمون أحد أقرانه لصفة ممتازة فيه, حاول أن ينافسه فيها, فإذا عجز عن ذلك ابتكر لنفسه المعاذير وأخذ يقول بأن تلك الصفة لا أهمية لها, وأن هناك صفة أخرى أهم منها  وأنفع للمجتمع”.
علي الوردي-
مهزلة العقل البشري

*الحاكم المهووس بالعنف
 أن اللجوء إلى وضع الثقة في أساليب ‫العنف إنما يعني استخدام أسلوب للنضال يتميز الطغاة دائما بالتفوق فيه .تتميز الأنظمة الدكتاتورية باستعدادها ‫لاستخدام العنف الذي تستطيع به سحق الحركات الديمقراطـــــية مهما طال الزمن “.
جين شارب-
من الدكتاتورية الى الديمقراطية

*الحاكم المتآمر
“تحدثت إلى الفلاحين كفلاح. وإلى العمال كعامل. وإلى التجار كتاجر. وإلى اليمينيين كيميني. وإلى اليساريين كيساري. وإلى المزايدين كمزايد. وإلى المعتدلين كمعتدل. وإلى العجائز كعجوز. وإلى الأطفال كطفل ... وقلت لهم أن اتفاق شولتز مثله مثل اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق سيناء وكل الاتفاقات تمت من وراء ظهوركم”
محمد الماغوط-
ساخطون ياوطني
 
*الحاكم العادل
“اهدي الى عمر بن عبدالعزيز تفاح لبناني، وكان قد اشتهاه، فردّه، فقيل له: قد بلغك ان النبي كان يأكل الهدية. فقال: إن الهدية كانت لرسول الله هدية، ولنا رشوة”.
التوحيدي-
البصائر والذخائر
 

جملة مفيدة
ـــــــــــــــــ
قرأت لك

/"حينما ينعم الحاكم في أي دولة بالترف والنعمة، تلك الأمور تستقطب إليه ثلة من المرتزقين والوصوليين الذين يحجبونه عن الشعب، ويحجبون الشعب عنه، فيصلون له من الأخبار أكذبها، ويصدون عنه الأخبار الصادقة التي يعاني منه الشعب"... "يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه إلى خوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة".
/ابن خلدون- المقدمة

/عجز
/"الإنسان مجبول أن يرى في نفسه الفضل أو الامتياز على أقرانه في أمر من الأمور, فهو إذا وجد الناس يحترمون أحد أقرانه لصفة ممتازة فيه, حاول أن ينافسه فيها, فإذا عجز عن ذلك ابتكر لنفسه المعاذير وأخذ يقول بأن تلك الصفة لا أهمية لها, وأن هناك صفة أخرى أهم منها  وأنفع للمجتمع". 
/علي الوردي- مهزلة العقل البشري
 أن اللجوء إلى وضع الثقة في أساليب‬ ‫العنف إنما يعني استخدام أسلوب للنضال يتميز الطغاة دائما بالتفوق فيه .تتميز الأنظمة الدكتاتورية باستعدادها‬ ‫لاستخدام العنف الذي تستطيع به سحق الحركات الديمقراطية مهما طال الزمن ".
/جين شارب- من الدكتاتورية الى الديمقراطية
/"تحدثت إلى الفلاحين كفلاح. وإلى العمال كعامل. وإلى التجار كتاجر. وإلى اليمينيين كيميني. وإلى اليساريين كيساري. وإلى المزايدين كمزايد. وإلى المعتدلين كمعتدل. وإلى العجائز كعجوز. وإلى الأطفال كطفل ... وقلت لهم أن اتفاق شولتز مثله مثل اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق سيناء وكل الاتفاقات تمت من وراء ظهوركم"
محمد الماغوط- ساخون وطني


77
المنبر الحر / بغداد مساء السبت
« في: 23:54 12/08/2013  »

بغداد مساء السبت

 اينما تكون في بغداد هذا المساء، السبت العاشر من آب 2013 الرابع (الثاني. الثالث) من عيد رمضان ستكون على بعد ياردات من احد التفجيرات الثلاثة عشر التي ضربت المدينة، هذا إذا ما كتبت لك الحياة ان تكون سالما(بالصدفة طبعا) حيث وزعتها غرف عمليات "العدو" على ثلاثة عشرة ساحة ومزدحم وتقاطع طرق  وارصفة اوقعت مئات القتلى والجرحى.
 دعونا نبتعد عن اسئلة السياسة حول العدو الذي يعربد في الشوارع بلحى ودشاديش قصيرة ويقود سيارات انتحارية فتاكة، وحول سلطات سقطت في وحل العجز والتبريرات المكررة والاجراءات الوقائية المضحكة، وحول خطط امنية اختزلت الى عمليات اجلاء القتلى والجرحى وتنظيم وادارة الفوضى والهلع، وحول معارضي الصالات والكواليس النيابية الذين عكفوا على تسجيل النقاط على مخاصميهم وحساب مدخولهم السياسي مما حدث ويحدث، وحول ازمة سياسية صمم اصحابها (جميعا) على الحيلولة دون انهائها وعذرهم انها مفيدة لهم لجني الارباح حتى وإن كانت تلك الارباح مغمسة بالدم، وملوثة بالحرام والعلقم.
 ففي لحظات من هذا المساء، وبعيدا عن السياسة أعلاه، انتسبت بغداد الى مسرح الحرب، وسجلت نفسها في قائمة الدول المسبية على مر التاريخ. الممثلون والجمهور والقتلة والحراس يؤدون ادوارا خارج النص. حتى في المشهد الجنوني الغريب الذي تشكل من مواكب سيارات "اعراس" تصعد الى جسر الجادرية، وتنزل منه، وعلى سطوحها، ومن فتحات ابوابها، يمد صبيان اجسادهم وهم يرقصون بانفعال على صوت طبول مبحوحة، تختلط باصوات الانفجارات التي لاتبعد اعمدة دخانها سوى عشرات او مئات الامتار عنهم. حتى العرسان بدوا كممثلين في مشهد ميلودرامي. اما شرطي المرور في تقاجع جامعة بغداد فكأنه لم يسمع اصوات الانفجارات المروعة، فانصرف الى تسهيل مرور سيارات الاسعاف و ناقلات القتلى والجرحى بوجه خال من التعبيرات.
 بغداد لم تحارب، لكنها انهزمت هذا المساء في معركة غير متكافئة، مع قراصنة  متعطشين للدماء ومحترفي جرائم أغاروا عليها من سطور قرآنية فهموا انها تكفر امم، وتبيح القتل والتمثيل بالجثث، وقد رفعوا اشارة النصر فوق بركة دم وكومة اجساد محترقة.
 لقد القت المدينة المسبية بثوبها الذي فقدَ الوانه ولبست رداء يرتديه المهزومون من ساحة الحرب. هالت التراب على رأسها وناحت على موتاها الذين تساقطوا بلا معنى. وفي منتصف الليل، كان موعدها مع ساعات الصمت المخيف، حيث كفت المدينة عن التجوال، ونام ساسة المرحلة وسط حمايات يقظة.. لا يرمش لها جفن.
  بغداد، هذا المساء، ادارت عيونها في فضاء ملبد بالكوابيس.. وكأنها تشد الرحال للنزول من مجدها التليد الى الأسر.
*********
"تأبَى صروفُ الليالي أن تُديمَ لنا ...
                            حالا فصبرا إِذا جاءتْك بالعَجَبِ"

مؤيد الدين الطغرائي

 







78
كابوس في مجلس الوزراء
اسمه: "لجنة التحقق" 


عبدالمنعم الاعسم

 القضية تخص معاملات المفصولين السياسيين في مرحلتها النهائية، إذ اخترعت العقلية العقابية اغرب طريقة لإذلال اصحاب الحق بوضع شروط ومعابر مستحيلة تتزايد تعقيدا وغُلا كل يوم، وتلزم بها اللجان الوزارية التي هي الاخرى تمعن في ترويض صاحب المعاملة الذي القى به حظه العاثر على ابوابها. اما الاستشارية القانونية في الوزارات فانها تحولت من عنوان الاستشارة الى ساطور يقطّع اوصال الحق البائن للضحية على يد موظفين لا احد يعرف من اية مدرسة قانونية تخرجوا، وتشاء الظروف الكوميدية، ان يضطر معارضون سابقون (ادباء كبار ومقاتلون للدكتاتورية وقادة رأي وعلماء واكاديميون- اعرف العشرات منهم بالاسماء والوقائع) الى التخلي عن حقوقهم بمواجهة اجراءات المرمطة والاستهتار في سلسلة طويلة من الدوائر والموظفين المعبئين ضدهم، والبعض منهم شركاء سابقون لكباء مسؤولي الدولة في معارضة النظام السابق، ولم تشفع لهم اسماءهم وامجادهم في تسهيل اعادة حقوقهم ولا اقول تكريمهم بما يليق.. ثلاثة امثلة فقط  اسوقها معتذرا لاصحابها (الشاعر مظفر النواب. السياسي الكبير احمد الحبوبي. عائلة الشهيد صفاء الحافظ) 
 ساقطع مجرى الموضوع لاثارة فاصلتين حساستين، الاولى، لم اكن شخصيا ضحية للجنة التحقق، كما اشار زميلي الكاتب في (المدى) علاء حسن فقد تصبرت بالعناد على مراجعات مذلة ومضنية وماراثونية لثلاث سنوات متواصلة حتى احصل على قرار اللجنة، والثانية، هي حصول عشرات الالاف (وربما اكثر بكثير) على حقوق كمفصولين سياسيين ولم يكونوا كذلك، وقد مرّت معاملاتهم "الملتوية" بسهولة وشفافية من لجان الوزارات والاستشارية القانونية ولجنة التحقق وعليها تواقيع وزراء وموظفين كبار واعضاء لجان، وبعض اصحابها ممن كسب فرصا وامتيازات مطعون بسلامتها في جميع العهود، وبعضهم، حتى لم يراجع دائرة ولم يتحمل شقاء التدافع والمهانات ولعبة "صحة الصدور" سيئة الصيت، ويبدو ان قرارات لجنة التحقق غطّت هذه الحالات بضمير وظيفي بارد، ولا اغامر بالقول: بضمير فئوي او حزبي متواطئ.
 ولعل آخر ما توصلت له اللجنة من فنون التنكيل هو احتساب مدة الفصل من تاريخ اللجوء في بلدان اللجوء واهمال ما يزيد على عشر سنين كان صاحب المعاملة قد ترك وظيفته والبلاد قسرا وموثقة بكفاية من الشهادات.
 لجنة التحقق (ولديّ عشرات الامثلة والحالات والاسماء المعنية لضحاياها) هي جهة شبحية، او هي مقبرة سحيقة لحقوق مواطنين ينبغي تكريمهم ولا تطالهم شبهة التلاعب، وقد قامت برصد الوانهم السياسية، بمهارة انتقائية متناهية، فما إن تقلّب بضعة اوراق من المعاملة حتى تستيقظ لديها مجسات التمييز والتنكيل بهم، حيث لا يكفي ان يقدم اصحاب المعاملات وثيقة واحدة او اثنتين معتبرتين دليلا على حقهم في استرداد وظيفتهم، بل وصلت الى اكثر من عشرة وثائق من مختلف الجهات ومن اطراف الدنيا لتأكيد هذا الحق دون جدوى، فترفض جميعها. اما معاملات الاعتراض على قرارات اللجنة فانها اقرب ما تكون الى مضيعة للجهود والوقت والكرامات وطرق الابواب وهذه مفردات كوابيسية اضافية بالنسبة للمئات من اصحاب الاعتراضات.
لقد علمت من مصادر عديدة اثق بها بان اعضاء لجنة التحقق غير كفوئين (اعتذر عن توصيفات اخرى قاسية) ودون مستوى تحمل مثل هذه المهمة التي تتعلق بكرامات ومقامات وحقوق، وقد اطلعت على "نماين" متفرقة من عسفها والايغال بايذاء اصحاب المعاملات السليمة الوقائع، وسأذكر مثالا واحد، هو اعتراض سيدة (اسمها الكامل معروف عندي) لدى اللجنة على قرارها بشطب نصف مدة فصلها، للفترة من خروجها من العراق (1979) الى تاريخ قبولها لاجئة في بلد اوربي(1990) وذلك بالتشكيك في مغادرتها الاضطرارية للبلاد قبل وصولها الى بلد اللجوء. والمعاملة برقم (19248) بتاريخ(21/7/2013) والوثائق التي تثبت اضطهادها  ومغادرتها وموثقة من جهات رسمية هي الآتية مع تأشيرات اللجنة حيالها:
ــ شهادة اثنين من موظفي دائرتها لازالا في وظيفتهما كونها اضطهدت من البعثيين واضطرت الى ترك الوظيفة عام 1979(غير مقنعة من لجنة التحقق)
ــ كتاب رسمي من وزارة الهجرة والمهجرين بانها غادرت العراق قسرا عام 1979(غير مقنعة للجنة) .
ــ شهادات ميلاد اثنين من ابنائها ولدا خارج العراق في اعوام الثمانينات، موثقة من وزارة الخارجية العراقية(غير مقنعة).
ــ شهادة من حزب سياسي معتمد وعريق بان السيدة كانت عضوا فيه ملاحقة من اجهزة النظام السابق وطلب اليها الحزب الهروب الى خارج العراق.
ــ شهادات موثقة عن عملها خمس سنوات كمحاسبة لدى الحكومة السورية في الثمانينات(غير مقنعة)
ــ اكثر من شهادة تؤكد ان عائلتها تعرضت لتنكيل البعثيين في مختلف العهود بينها استشهاد اثنين من اشقائها واعتقال اربعة اشقاء اخرين. (غير مقنعة للجنة).
وفي الاخير ردت اللجنة برفض التماس اعادة النظر بقرارها.
/تفيد السيدة انها شكت لدى "مكتب شكاوى المواطنين" في مجلس الوزراء فنظر الى شكواها باهمال.. وقالت انها ستطرق باب ممثل الامين العام للامم المتحدة والاتحاد الاوربي ومنظمات حقوق الانسان بعد ان تأكدت بان لجنة التحقق وُضعت لمعاقبتها والاف غيرها.
   

79

سلبية المواطن..
محاولة تحليل

عبدالمنعم الاعسم

عندما يجري الحديث عن اخفاق الخطط والجيوش والاستحكامات الامنية الحكومية في لجم النشاط الارهابي الاجرامي لا يُسـَلط الضوء كفاية على موقف المواطن من هذا النشاط، حيث يحرص الخطاب الامني الرسمي على تسويق جملة اعلامية مبهمة وشكلية وافتراضية وغير موثقة عن التعاون بين المواطنين والجهد الامني، ومقابل ذلك، لم تعالج البحوث والمعاينات واقنية الاعلام والصحافة هذه القضية الخطيرة بالمراجعة والتدقيق والصراحة، فان الكثير من التفجيرات والتحركات المريبة للارهابيين تمر من غفلة المواطن، إذا ما شئنا تسمية الاشياء باسمائها.
نعم، المواطن مسكون بالخوف والقلق والغضب والحقد على المجرمين، لكن جميع هذه المفردات تنصرف بعيدا عن الاستعداد للتعاون مع السلطات، واحيانا تنصرف الى الغليان ضد تلك السلطات.
 علينا ان نثبت حقيقة وجود "إشكالية" في العلاقة بين المواطن واجراءات محاربة الارهاب، على الرغم من ان هذا المواطن هو ضحية لجرائم الارهابين ، بل الضحية رقم واحد لهم، حين تُصمم غالبية الهجمات لتكون مذابح جماعية وانتقامية للسكان والحياة المدنية، الامر الذي يفترض (نظريا) ان تتجه ردود افعال المواطنين الى مزيد من اليقظة والتعاون مع الجهات الامنية وان يصبحوا عينا راصدة للتحركات الارهابية، لكن شيئا من هذا لم يحدث في الواقع، وهو الشرخ البائن في النظام الامني الوطني الذي لا يقوم فقط على التشكيلات العسكرية وخطط الملاحقة والردع والقصاص، بل يدخل تعاون المواطنين مع الدولة في صلب عملية المواجهة، ولعله الاخطر والاهم من الاركان الاخرى لهذا النظام.
  سلبية المواطن حيال الحملة على الارهاب تتسم بالتعقيد، فالبعض الكثير منها يعود الى الموروث التاريخي للخصومة بين السلطة والمواطن وانعدام الثقة بينهما، وقد تكرست هذه الخصومة مع تنامي الشعور بثراء الفئات المتسلطة ورموزها وبذخ حياتها وتوسع امبراطورياتها المالية والعقارية، وتعالي وغطرسة وفساد حلقاتها في السلطة، فمن غير المعقول ان تطلب من المهمش والعاطل عن العمل والمهموم بتردي الخدمات ومصاعب المعيشة ان يتعاون مع سلطات يشعر انهافاسدة، وتذله وتحرمه فرص العمل والعيش الكريم، هذا عدا عما تتركه الخطط الحكومية الفاشلة من احباط بين المواطنين وفتور في الحماس للمراقبة والتعاون مع السلطات.
 على انه ينبغي ان ينظر لسلبية المواطن هذه بجدية وصراحة، وان تخضع للتحليل الموضوعي، على خلفية الانقسام الذي يضرب النسيج الوطني، فان إضرام حمية الانتماء الطائفي من قبل الاحزاب والزعامات السياسية اوجد ثغرات خطيرة في الشعور بالمسؤولية الوطنية إذْ تسلل الارهابيون عبرهذه الثغرات الى تنفيذ اعمالهم الشنيعة من دون اية رقابة مجتمعية، وليس من دون مغزى ان تجد الجماعات الاجرامية قواعد انطلاق لها في مزدحمات سكانية او احياء بعيدة عن حواضنها الريفية والقبلية.
 بوجيز الكلام، لا يمكن دحر المشروع الارهابي الاجرامي بالاجراءات الامنية والعسكرية وحدها، فان المواطن يشكل الركن الثاني في موجبات دحر الارهاب.. المواطن الذي يشعر ان الدولة بثرواتها وخيراتها هي دولته، وان السلطة في خدمته حقا.
******
" رحم الله أمرأ أعان أخاه بنفسه"
 ابو بكر


80

معادلة البارود والانفجار

عبدالمنعم الاعسم

 برميل البارود لا ينفجر لحاله ما لم ينغلق على احتقانات اكبر من طاقة سدّاده، آنذاك  لا بد ان ينفجر.. لهذه المعادلة الفيزيائية تجليات كثيرة:
 فان تحت سطح المأزق السياسي السائر الى المجهول، تتنامى قوى وشرائح، قبلية وحزبية وفئوية ودينية نافذة، تقيم في وضح النهار مستعمرات من المصالح المحمية التي لا يردعها قانون، ولا تصدها عن جشعها وسطوتها سلطة، فيما تمسك بعصب الحياة الاقتصادية وحركة التجارة والكثير من خطوط المال، وتشكل، بالاضافة الى ذلك، مفرخة للفساد والإفساد والجريمة والتهريب وتسميم الحياة السياسية.
 ويتابع المواطنون معالم ومشاهد البذخ الاسطوري والاثراء الفاحش لهذه الطغمة الفاسدة وافرادها، ويتناقلون روايات ووقائع عن النفوذ الذي تملكه في داخل الشبكة الحكومية وخطوط التعامل مع الجهات الاقليمية والدولية، والمفاتيح التي تديرها في السياسات العامة والتوظيف، وشراء الذمم، والواجهات والتشكيلات التي تتستر تحتها، والشركات الموهومة التي تدبر من خلالها اعمال السمسرة والنهب والنصب والتهريب واحتكار قطاعات تجارية ناشطة.
 وليس خاف على الجميع ان بعض ابطال هذه الشريحة الاخطبوطية يتمتعون بحصانة نيابية او سياسية او دينية، وان الكثير منهم يقومون ببيع وشراء الوظائف والتعيينات بما فيها المقاعد الوزارية، ومنهم من يحتكر القنوات المالية للمناسبات والمواسم، ولا يتورعون، مع كل ذلك، عن الظهور كدعاة ومبشرين للفضيلة والعبادة والدين.
 هذا مقابل تزايد افواج العاطلين والمهمشين والمحرومين والارامل والايتام وسكان احياء الفقر الذين يشكلون عالما آخر كأنه ينتمي الى عصور سحيقة او الى بلدان لم تصلها المدنية، بانتظار ان تتصدق عليهم الدولة المتخومة بعائدات النفط المليارية الاسطورية بفتات من فرص التشغيل وبعض المكرمات المغمسة بالاذلال.
 اننا حيال برميل من البارود والاحتقانات والجور، لا احد يعرف نتائج انفجاره، فيما يمضي النهابون في غيهم، وكأنهم لايعرفون معادلة برميل البارود والانفجار.
*******
" إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه ...
                           ثم قالوا لحفاة، يوم ريح، اجمعوه"
ادريس جماع- شاعر سوداني


81

اتهمهم.. من دون استثناء

عبدالمنعم الاعسم
 
المذابح الرمضانية اليومية تنقل دائرة الضوء على وجوه الساسة الذين يديرون لعبة الحكم والمعارضة والتفاهمات والانتقادات والحمايات.
 السادة الذين يواصلون ملاعيب رفع الايدي والتحفظات والتصويت والزعل والتراضي، ثم  يعكفون على التلاعب بالالفاظ، وليّها،  وهم يستنكرون ما يحدث من فواجع.
 اصحاب السياسة والقرار الذين يتعاطفون مع الثكلى من الامهات والابناء والاباء، وتنقبض اساريرهم امام مهرجانات العويل، وضرب الصدور، ونشر التراب على الرؤوس، ويتابعون تجميع اشلاء الضحايا في الاكياس السوداء، ويعلقون عليها في عبارات من نشارة الخشب.
 اولئك الذين يعودن الى منازلهم وقد قاموا بواجبهم في الضحك على الذقون، قبل ان يطووا ملف المذحة في طي النسيان، ويستعدوا ليوم آخر يتشابكون فيه على خرقة مسح اسمها السلطة.
 عليهم، اولا، تدقيق فصيلة دمهم ما اذا تحمل قطرة من الغيرة الانسانية والشجاعة ليعلنوا انهم مساهمون بهذا الكرنفال الدموي، بتسهيل الاجواء والانشغال عن النشاط الاجرامي لقطعان الجاهلية والهمجية والانتقامية لكي تغير على الاسواق والمساجد والارصفة والمقاهي المزدحمة بالمواطنين الآمنين، وليعترفوا (وليعرفوا) ان الاجيال القادمة ستتبرأ من اصرة النسب اليهم.
 وحتى تتطابق الاقوال بالافعال، عليهم ان لا يبتسموا امام الكامرات، وان لا يتبادلوا رسائل التبريكات، ولا يتقبلوا تهاني العيد، ولا يظهروا على الناس بوجوههم وليستعيروا وجوها تصلح لاخفاء قطرة الحياء عن جباههم.
 السادة الذين تخرج فرق الموت والاجرام والطائفية الهمجية والتكفيرية من تحت قنفاتهم، او من مواخير ملحقة بمكاتبهم، او من قنوات للصرف الصحي ترتبط  بهرطقاتهم الدينية، او من عشيرتهم التي لملمت فروعها من سقط المتاع وانصاف المخلوقات الادمية.
 عصابات منظمة تقدم خدمتها لفريق متصارع، لكي يستقوي على فريق آخر، في لعبة  جمهورها هم ضحاياها، تتغير فيها الامكنة واسماء الفرق واهداف الهجمات، ورسائلها.
 السادة الذين تقول بيانات استنكارهم كل شيء، ولا تقول شيئا واحد هو الصحيح، انهم يتحملون مسؤولية هذه الدماء، دماؤنا، التي ليست ماءا، وليست رخيصة، وليست بلا فصيلة دم.
****
"من السهل أن تكون شجاعا عن بُعد".
ايسوب- اديب اغريقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ



82

لماذا تصاعدت التفجيرات؟

عبدالمنعم الاعسم

 عاملان، داخلي واقليمي، وراء التصاعد الخطير في وتيرة التفجيرات الاجرامية، اما الذين يقللون من شأن احد العالمين فانهم إما لا يرون حقائق الاشياء على الارض، او انهم يتقصدون ذلك لتوظيف الموضوع في الصراع السياسي ومحاولة تحميل الخصوم السياسيين المسؤولية عما يجري، فقد خرج علينا ساسة ودعاة يتحدثون عن هذا التصعيد كمؤامرة اعدت في عواصم مجاورة بغرض تفليش الدولة الجديدة وضرب سلطتها، كما خرج علينا من الجانب الآخر من كان يتحدث عن مؤامرة للقابضين على السلطة لغرض خلق معادلات سياسية وامنية تتيح لهم الاستفراد بالقرار والحكم.
 العامل الداخلي مفتوح على التصدع الخطير في العملية السياسية  وتناحر مكوناتها وانخراط الطبقة السياسية في الصراعات الانانية والفئوية وتخليها عن المسؤولية التضامنية حيال الاستقرار واستتباب الامن،بل ولجوؤها الى تشكيل مجموعات ردع مدنية "طائفية" او التواطؤ مع جماعات ارهابية مسلحة والتنسيق معها، يضاف الى ذلك الفساد الذي يضرب ماكنة الدولة وحلقات خطيرة من المنظومة الامنية وعدم كفاءة الكثير من ملاكاتها وغياب الولاء الوطني للكثير من كبار الموظفين، وكل ذلك اعطى قوى الجريمة مساحة كبيرة للتحرك والاختراق واختيار الاهداف والتوقيتات بسهولة  لافتة للنظر، وليس ادل على ذلك من تكرار هروب عتاة المجرمين من السجون.
 اما العامل الخارجي، فانه يتعلق بتعقيدات الحرب السورية وظهور المجاميع الارهابية المسلحة على افضل ما يكون التسليح والدعم، والبعض منها مرتبط بالمشروع الارهابي في العراق حيث وجد ظروفا مواتية (في الجانبين السوري والعراقي) لاعادة بناء قواعده وشراء بعض شيوخ وابناء العشائر وتوجيه ضربات استعراضية للايحاء بان التنظيمات الاجرامية المسلحة عائدة الى القبض على معادلة الاستقرار في العراق، ويدخل في مكونات العامل الخارجي هذا الانشقاق الكبير في النظام الامني الاقليمي على خلفيات الاحداث السورية بين معسكري النظام السوري المدعوم من ايران وحزب الله من جانب، ومعسكر الثورة الذي يدعمه الخليجيون وتركيا من جانب آخر، وتحول الاراضي السورية، وبخاصة الحدودية مع العراق، الى متاريس اسلحة من كل الانواع الفتاكة.
 اللافت ان ادارة الحكومة في العراق تواجه صعوبات جمة في احتواء التداعيات الارضية لهذا الصراع ومستقبله، وتجنب اثارها، أو النأي عن دائرة النار التي تخرج يوميا عن الانضباط ، ويوما بعد آخر يصبح العراق مستوردا رئيسيا لفضلات ومنتوجات البعد الطائفي للحرب السورية، وتصطدم سياسته "الوسطية" المعلنة باستحالات يومية، اخذا بالاعتبار تدفق مقاتلين من العراق الى سورية ليتوزعوا بين قطبي الحرب هناك، وثمة الى جانب ذلك كله، غياب خطة طوارئ وطنية شاملة، تتجاوز الاعتبارات الفئوية والطائفية، وتحشد الطاقات والقوى والارادات لدحر الارهابيين ومنعهم من مواصلة تنفيذ حربهم الاجرامية ضد الشعب العراقي.
**** 
"في لحظات معينة لا تعني الكلمات شيئا، بل النغمة التي تقال بها"   
بول بورجيه- اديب فرنسي   

83
امريكا ..
وقضايا المنطقة

عبدالمنعم الاعسم

منذ زمن بعيد كان كيسنجر ينصح زعماء الشرق الاوسط"اذا ما ارادوا كسب ود العقل الامريكي" بوجوب التمعن في اتجاهات المصالح الامريكية والعلاقة بين تلك المصالح والسياسات التي تطبقها الادارات المختلفة في البيت الابيض، واللافت ان القليل من اولئك الزعماء اخذوا بالنصيحة، والبعض الاخر تعثر بها كما يتعثر الصبيان في اذيالهم، والنتيجة ان شيئا لم يتغير في تلك القاعدة، لكن الذي تغير هو الظروف التي عصفت بالمنطقة وادارت موازين الصراع من استقطاب الى استقطاب، وبخاصة بعد تراجع التحول في مجرى الصراع الدولي لصالح استفراد الولايات المتحدة بتقرير مصائر العلاقات الدولية.

وحين هبت عاصفة الربيع العربي، وُضعت السياسة الامريكية تحت الضوء الساطع، بين من يعتقد ان تلك السياسة تغيرت الى كفة حقوق الانسان والى تحقيق نظام دولي للعلاقات اكثر عدالة باعتبار ان استقرار العالم وانتصار الخصوصيات الوطنية من شانها ان تدحر الارهاب ودورات العنف وان تفتح اسواق العالم للشركات والاستثمارات والاملاءات الامريكية الجامحة.
 وبين من يعتقد انها لم تتغير، كقوة شريرة لصناعة نكبات الشعوب وزج الدول الصغيرة في حروب اهلية، وذهب الكثير من محللي وساسة المنطقة الى اعتبار ان الربيع العربي صناعة امريكية بامتياز، او انها خدعة امريكية انطلت على شعوب المنطقة لاشغالها بالثورات بعيدا عن مشغوليتها التاريخية في استعادة الحق الفلسطيني وتحرير الارادة القومية من الهيمنة الامريكية.
 وإذ اتسعت الهوة بين رؤى المحللين، جاءت الاحداث المصرية، المتمثلة بصعود وسقوط حكم الاخوان المسلمين، لتزيد تلك الرؤى تبعثرا وتباعدا، وكانت الاشارات الحذرة التي اطلقتها ادارة الرئيس اوباما حيال رئاسة محمد مرسي قد عمقت الخلاف في رصد طبيعة وآفاق السياسة الامريكية حيال مشروع الاسلام السياسي، واعاد الكثيرون الاذهان الى ان واشنطن هي من صنع ورعى نشوء الاحزاب الاسلامية في مفتتح الحرب الايديولوجية الامريكية ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعي، وهي نفسها من سهل ودعم وجود تنظيم القاعدة وسلّحه في الثمانينات من القرن الماضي، وانه لاجديد في السياسة الامريكية حين تفصح عن تعاطفها مع اخونة الدولة المصرية.
 
اقول ان جميع هذه الرؤى تصطدم بنصيحة كيسنجر المبكرة، وهي نصيحة جديرة بالقراءة دائما، والآن على وجه التحديد، لان الادارات الامريكية، وإن تضاربت بعض مواقفها، لن تفرط بمصالح بلادها.. وهي إذ رعت التنظيمات الاسلامية الجهادية(مثلا) ثم انقلبت عليها، ثم عملت على ترويضها والحوار مع تيارات منها، ثم دعم بعضها، لم تكن تخذل تلك المصالح، كما اننا سمعنا (في السنوات الاخيرة) من يقول في واشنطن بانه ليس لدى الامريكان ثابت غير مصالحهم، وانهم لا يحتفظون بحلفاء مدى الدهر، بمن فيهم اسرائيل، في حال قررت مصالحهم ذلك.
 امريكا لا تحب شعوب المنطقة.. لكن هذه الشعوب لديها مصالح في ان تكسب الولايات المتحدة الى قضاياها..
 
والحكمة، ان تتكفى شرها.
***** 
"من لم يكن حكيما لم يزل سقيما".
سقراط




84

سؤال ساذج:
لماذا لم يثر العراق كما ثارت مصر؟

عبدالمنعم الاعسم

 ما حدث في مصر، من فعالية مجتمعية- عسكرية لتغيير السلطة "الاسلامية" لا يصلح ان يكون وصفة لمعالجة الازمة السياسية المستعصية في العراق، واحسب ان ثمة تبسيط وسذاجة وراء بعض الكتابات والتعليقات التي طالعتنا في الايام الماضية والتي تحضّ على تطبيق "ثورة" الثلاثين من حزيران المصرية في شوارع بغداد، أو تتمنى تحقيقها، فلا يمكن التعاطف مع هذه "التمنيات" إلّا في جانب تفعيل دور الملايين المهمشة واليائسة والمقسّمة لتصحيح مسار السياسة في العراق والحاق الهزيمة بمشروع العنف والتجييش والمليشيات والطائفية والارهاب.
 في مصر كانت سلطة القرار قد احتكرت من قبل حركة الاخوان المسلمين وعهدت الى رئيس الجمهورية محمد مرسي الذي بدأ تنفيذ خطوات "اخونة" النظام السياسي والقضم في الدولة المدنية العريقة حيث اصطدم بالجدار السميك للمعارضة الاهلية المدنية وسرعان ما تكونت جبهة سياسية واسعة لجهة انهاء حكم الاخوان، اخرط فيها الجيش والازهر والشارع فضلا عن احزاب وقوى المعارضة، الامر الذي يختلف، في عنوانه الرئيس وتفاصيله، عن احوال العراقز
 فليس في العراق سلطة قرار واحدة، ولا يمسك رئيس الوزراء (صاحب القرار من الناحية الدستورية) إلا جزءا من هذا القرار الذي يصطدم، في غالب الاحيان، بمعارضة السلطة التشريعية، وهي الاخرى تقبض على لعبة ادارة السياسة والقرارات من جوانب كثيرة ومتداخلة، زائد ان محاولات و "خطوات" اسلمة الدولة العراقية لا تتم وفق الصيغة الاخوانية، واحيانا تتم عن طريق مليشيات وهيئات وفتاوى بعيدا عن دائرة سلطة القرار، وبعضها يصطدم بعدم رضى اصحاب القرار السياسي.
 الى ذلك، فان المشروع الاخواني لاسلمة مصر اصطدم بمتانة المجتمع المدني(السوق. الجامعات. الثقافة. السياحة. المغتربون. موظفو الدولة..الخ)  وتماسكه وفاعليته، الامر الذي لا يقارن بالمجتمع المدني العراقي الذي يتسم بالهشاشة والضياع والسلبية لاسباب كثيرة اهمها، وابرزها، حالة الترييف الواسعة، المنهجية، التي تعرضت لها مجمعات المدن والحواضر، طوال ثلاثة عقود من الزمن، وجعل من محاولات بناء ركائز (منظمات) للمجتمع المدني عرضة لاختراق وباء الفساد والترزق والتسييس، بل ان الكثير من هذه الركائز تحولت الى عبء على المجتمع المدني.
 اما دور الجيش في في الاستجابة الى ارادة المجتمع المدني وتغيير اقدار السياسة فانه من السذاجة المفرطة التساؤل المقارنة، هنا، بين الحالتين المصرية والعراقية.. واما الذين فتحوا هذا الملف فانهم لم يقرأوا السطور جيدا.
******* 
"اليدري يدري".
مثل عراقي 

85

بعد مصر..
ماذا ينتظر الاسلام السياسي؟

عبدالمنعم الاعسم
 
ما حدث في مصر، الثلاثين من حزيران، دورةٌ ذا مغزى في التاريخ، كان الاسلام السياسي يقدم، حينه،  احدث نموذج تطبيقي له من على ماكنة جامحة، ظهر ان زيتها ليس كافيا للمضي اكثر من عام واحد.

هذا التوصيف لايمت بصلة الى البلاغة السياسية، انما الى بلاغة رد الفعل وقوانينه الفيزيائية (قانون نيوتن الثالث) والاجتماعية (التراكم) على حد سواء، حين يكون الفعل قد عبَر هامش المناورة الى حقل المواجهة، حيث حاول الاخوان إستعجال الغاء الدولة المدنية المصرية وتأسيس بنية دولة الخلافة على انقاضها، فاصطدموا بجدار المعارضة الموحدة، فلم يتراجعوا في الوقت الصح، وعندما تراجعوا بعد حين كانت الفرصة قد نفذت، وجاء حُكم رد الفعل وقراره في سيناريو يتكرر دائما، لكن باشكال مختلفة.

 وبعيدا عن بيانات الترحيب التي تواترت على العهد الجديد، فان الاسلام السياسي الحاكم (والمحكوم) في دول مختلفة اصيب بذهول وخيبة وهو يتابع كيف تتحطم حصون نموذجه المصري الذي بدا كوصفة مشجعة لدولة اسلامية تتحقق عبر "جهاد" الانتخابات، بدل جهاد المعارك  و"رباط الخيل" طالما تتمكن صناديق الاقتراع من تسويق شرعية ديمقراطية تتمدد  الى سلطة وتشريعات واجراءات دينية، وهذه الشرعية كانت آخر ما تبقى في جعبة الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي ليعيد، في اللحظات الاخيرة من حكمه، عقارب الساعة الى الوراء: انا الشرعية والشرعية انا.

 من اسطنبول وطهران والخرطوم جاءت اولى إشارات الامتعاض حيال انهيار حكم الاخوان المسلمين في القاهرة، الامر الذي يدخل في منطق الشراكة الطائفية غير المعلنة  في مشروع حكم الاسلام السياسي، وحتى الرياض، لم تكن بعيدة عن دائرة هذا الامتعاض، ولم يقلل ترحيبها المبكر بمبادرة الجيش المصري من الاضطراب المعبر عنه في مواقف انصارها وإعلامها وأقنيتها الدبلوماسية، هذا فضلا عن اضطراب مراكز الدعوة للاسلام السياسي واحزابه ومرجعياته، وليس من غير مغزى ان يطلق دعاة من باكستان وشمال افريقيا نداء المراجعة لما حدث.
 
وفي هذ المشهد يدخل نعي قوى التطرف والجهاد المسلح والتكفير والتجييش الديني تجربة الانتخابات وصولا الى حكم الخلافة، وهو موقف متوقع، اخذا بالاعتبار حقيقة ان هذا المعسكر (القاعدة وكل مسمياتها) قد فشل، قبل ذلك، في اقامة دولة الاسلام السياسي (افغانستان. العراق) وانتهى الى وصفة للرطانة والجريمة والعنف، ليتشكل، في نهاية الامر، سؤال تفصيلي.. الى اين سينتهي مشروع الاسلام السياسي بعد ذلك؟

انه سؤال لم يتأخر عن اوانه.. وليس سابقا للأوان، فان فشل اخوان مصر في التهيئة لدولة الخلافة قلـَب احشاء هذا المشروع وقذف بها الى كومة العقائد (والخيارات) المأزومة على مستوى العصر الجديد، اخذا بالاعتبار حقيقة ان التجربة المصرية الاخوانية العريقة تشكل محور هذا المشروع ومصدر الهاماته ومفرخة الجماعات والفِرَق التي تتبنى خيار اقامة الدولة الدينية، بما فيها تنظيم القاعدة. وليس سرا ان طلائع المقاتلين الاسلاميين في افغانستان  كانوا من اعضاء تنظيم الاخوان المصريين، وان فتاوى التنظيم بشرعة القتال كانت خميرة تجربة حركة طالبان واقامة الدولة الدينية هناك.
 
ومن منظار موضوعي، ينبغي القول ان مشروع الاخوان لم يُقبر الى الابد، كما لم يبق الباب مواربا امام عودة الاخوان الى السلطة، وقد يحتاجون الى ثمانين سنة اخرى من الجهاد تحت الارض وفي محافل المعارضة لكي يعودوا الى القبض على معادلة السياسة في مصر، ولنلاحظ، ان عاما واحدا من الحكم كشف عن تلك العاهة التي ضربت وتضرب المنظومات السياسية حين تصل الى الحكم فتقوم بطي وعودها التي تقدمها الى الجمهور، فلم يختلف حكم الاخوان من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي (مثلا) عما كان عليه في حكم مبارك، حتى انه دخل وسيطا بين حركة حماس (التنظيم الفلسطيني للاخوان المسلمين) وحكومة نتنياهو في تشرين الثاني من العام الماضي غداة الهجمات العسكرية العقابية الاسرائيلية على غزة.

لقد حاول الاسلام السياسي المصري في عام واحد من الحكم ان يطبق بدائل ادارية حذرة تختلف عما كانت حركة طالبان قد اعتمدته وانتحرت فيه، وايضا عما يقوم به حكم الاخوان في السودان والذي انتهى الى نظام لا طعم له، والى عزلة خانقة وتخبط في السياسة والمواقف، غير ان جملة من الاجراءات والتعيينات الفئوية والاستعراضات الدينية، وطائفة من التأسيسات والتشريعات المبكرة لدولة الخلافة، استفزت القاعدة المتينة والراسخة للمجتمع المدني المصري الذي سرعان ما اتحد لسد الطريق على الاسلام السياسي من ان يحقق اهدافه، وسرعان ما انضمت اليه المؤسسة العسكرية، وثمة القليل من المتابعين من وقف عند مغزى وقوف الجيش المصري حائلا دون مرور مشروع الاسلام السياسي، فان "الجيش العقائدي" وحده مستعد للانخراط في مثل هذا المشروع، والجيش المصري لم يصبح بعد عقائديا في ظل حكم الاخوان.
 
لقد اصيبت عقيدة الاسلام السياسي، بهزيمة حكم اخوان مصر، في مفصلها الرئيس الذي يتمثل في  ترجمة الشعارات والمنظورات الى الواقع عن طريق السلطة "الشرعية" واخصاء المجتمع المدني، وستترك هذه الهزيمة اثارا عميقة في هذه العقيدة، لا يُستثنى منها فرقٌ اسلامية اخرى تجرب اقامة دولة دينية من بوابة صناديق الاقتراع، فان التمرين المصري افتتح العد التنازلي لهذا الخيار.
*****
 "يمكنك الذهاب إلى مدى بعيد بابتسامة، ويمكنك الذهاب إلى مدى أبعد بكثير بابتسامة ومسدس".
آل كوبوني- رجل عصابات امريكي



86
"الدوني" إذا استقوى

عبدالمنعم الاعسم

توقفت عن كتابة القصة القصيرة منذ ما يزيد على الاربعين سنة، قبل ان اتجه الى الصحافة والكتابة السياسية، واتذكر ان آخر محاولة قصصية لي، لم تكتمل، وكانت تتضمن محاولة موظف صغير “عيّن بالواسطة” وترقى بالمصادفة وصار يتحكم بزملائه ويمعن في إذلالهم، لكنه بقي يشعر بالدونية بسبب مؤهلاته المتدنية وكفاءته الضعيفة، بل ان الكثير من زملائه كانوا ينعتونه سرا فيما بينهم بما يشبه الوشوشة بـ”الدوني” فجاء الدوني، وذهب الدوني، وتغيّب الدوني، ويريدك الدوني، وقال لي الدوني..وهكذا، وقد توقفت عن اتمام القصة، عند هذا الحد، بعد ان اخفقتُ في تطوير الحدث وتنمية شخصية البطل قدما نحو الهدف الذي وضعته للقصة، آنذاك، وهو التحذير من الكلب إذا استكلب، ومن الدوني إذا استقوى.
الكثير من الناس المكافحين، الصادقين مع انفسهم، المشهود لهم بالكفاءة والمثابرة والنزاهة والنضال والفروسية، الواثقين من انفسهم، يمكن ان يترقوا، ويصعدوا سلالم الوظائف، او ان يشقّوا طريقهم الى ذرى المواقع الوظيفية او الاجتماعية، وهم يكسون موقعهم الرفيع بالحياء والتواضع ونكران الذات والعفة، ويتصرفون كما لو ان المرتبة العليا قد تزول يوما، وان فلك الاقدار قد يدور على نفسه خارج ما هو متوقع او منظور، فيسقط الاعلون اذلاء، ويرتفع الادنون كرماء، ويحل الحساب بمن تجبّر وطغى، فلم يجد اياما كافية للبكاء، فيما تجازي الحياة مَن عَدِل وعفّ فيجد متسعا من الوقت للحبور والرضى عن الحال والاعتزاز بالنفس. يلوم نفسه الناكر للجميل، الفاتك بالضعفاء، ويقنع بمصيره سليم السيرة نظيف الضمير.
في تلك القصة، التي بقيت عالقة في منتصف الطريق، طوال اربعين سنة، يركب الدوني كل ريح حتى وإن كانت تلك الريح صادرة عن مروحة، وهو يُظهِر لك وجها بشوشا وكلاما ناعما لمّا يكون مغلوبا، ويشهر لك اسنانا وخناجر حين ينقلب غالبا.
تربكه السلطة حين لا تكون في متناول يديه، وتسكره السلطة حين يمسك بخناقها.
يحترمك بافراط لمّا تدوس على رقبته وهو في موقع الضعف، ويبطش بك بلا رحمة حين تطأ ذيل ثوبه وهو في موقع القوة.
مشرع الابواب حين لا نحتاج اليه، وبلا ابواب عندما يعتلي اقدارنا.
ينادينا بالنشامى عندما يريد ان يصعد على اكتافنا، ويسمينا بالنفايات حين ندافع عن حقنا في ان نعيش بكرامة.
القصة التي كتبتُ بدايتها قبل اربعين سنة لم تكتمل، مثلما ترون، كما لو اني اكتبها الآن، إذ يقف "الدوني" بيني وبين الخاتمة.

87

متى يحكمنا الفلاسفة؟

عبدالمنعم الاعسم

 تستعد محافل اكاديمية وهيئات وورش تفكير في العالم للاحتفاء باليوم الدولي للفلسفة الذي سيحل في منتصف تشرين الثاني المقبل، وهو يوم اعتمد قبل تسعة اعوام من قبل منظمة اليونسكو التابعة للامم المتحدة لتشجيع المجتمعات على احياء علوم وادوات الفلسفة في حل مشكلاتها.. وبمعنى آخر تشجيع الناس على التفلسف.
كانت رسالة المديرة العامة للمنظمة، عام 2009 ايرينا بوكوفا  قد اكدت في كلمتها بالمناسبة "تقضي الضرورة أكثر من أي وقت مضى بأن يعاد التفكير في الأسس الحالية التي يقوم عليها التداول الحر للتنظيرات والممارسات".
 إذن تعالوا نتفلسف في ازمتنا، على الاقل بهذه المناسبة، ونقتحم دهاليز الرطانات والاسلاك الشائكة والمواقف المثيرة للاستغراب، والقرف ايضا، فان بامكان الفلسفة، كما تؤكد مديرة اليونسكو في رسالتها "أن تساعد، جنباً إلى جنب مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، في تجديد النقاش بشأن طرائق مزاولة هذا الحوار" ولنُدخِل الاوكسجين الى الغرف المغلقة التي يجري فيها طهي الحصى، وانتاج الصفقات، وتقاسم الغنائم، في وقت، كما تقول بوكوفا "غدت فيه المجتمعات تتعلم أكثر فأكثر العيش في بيئات متعددة الثقافات".. و "بات ينبغي بالفعل أن نستجلي مدى قدرتنا على أن نستفيد معاً من إمكانيات الربط بين ذهنيات جماعية وذهنيات منفردة".
  مرة اخرى، تعالوا نتفلسف قليلا، او نتحاور حول مأزقنا في رحاب الفلسفة وفضيلتها الذهبية ذات الصلة بالعقل ومبدأ الحوار، فان السياسة تأخذنا الى منحدر سحيق، وان بعض اللاعبين يستخفون بعقولنا، وبقدرتنا على ان نتفلسف، وان نقلب الطاولات، ونحتج، ونثير الاسئلة، وكما تشير السيدة بوكوفا فإن "إقامة حوارات فلسفية.. يعني أيضاً وقبل أي شيء آخر، أن توضع قضايا التنوع والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان في صميم جدول الأعمال".
 كان حراس الحلقات الفلسفية الرومانية يمنعون السحرة من المشاركة بالجدال.. وكان اخوان الصفا والمعتزلة، قد سبقونا الى التفلسف في ما كان يستعصي حله بالسحر لنكتشف اننا (في العراق بخاصة) احوج ما نكون الى وصفة فلسفية لحالنا تتأسس على "التأمل" وهي الكلمة التي استهلت بها السيدة البلغارية رسالتها ذائعة الصيت، واضافت لها حشوة دسمة من الفروض، ستكون من عناصرها نصيحة ذهبية: لا ينبغي ان نسلم مقاديرنا لمن لا يعرفون احكام الفلسفة وقيمتها.. احكام استخدام العقل في حل المشلات التي تواجهنا.
فمتى يحكمنا الفلاسفة؟
*******   
" من النادر أن نفكر في ما بين ايدينا، بل نحن نفكر فيما ينقصنا".
شوبنهاور

88
المنبر الحر / لقاء اربيل.. بهدوء
« في: 12:02 11/06/2013  »

لقاء اربيل..
بهدوء

عبدالمنعم الاعسم
 
لا يمكن ان نعتمد على الكلمات الطيبة التي تبادلها رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني، على اهميتها، لبناء مقاربة زاهية عن علاقة جديدة ستبنى بين المركز والاقليم، طالما ان النتائج الحقيقية للقاء ستتحقق، في الواقع، عبر ما تتمخض عنه اجتماعات اللجان المشتركة من تسويات ومعالجات للمشاكل ومن قرارات والتزامات قابلة للتنفيذ.
 وإذ يمكن اعتبار اللقاء بحد ذاته اختراقا لحالة التوتر بين الطرفين، وعودة حكيمة الى طاولة الحوار وامعان العقل في القضايا- الالغام  المعلقة قبل ان تتفجر، فاننا لا ينبغي ان نتجاهل السؤال التفصيلي عن الظروف التي سهلت هذا اللقاء، واضطرت القيادتين الى وقف استطرادات المخاشنة السياسية والامنية بينهما، وايضا، عن حاجة كل منهما الى التهدئة وتغيير المعادلات في الاتجاه الايجابي، في حسابات صحيحة في نهاية المطاف، فيما الظروف ليست دائما ايجابية لتحمي التسويات والاتفاقات من التحديات والاختراقات المضادة.
  فلا بد للمراقب الموضوعي، ان يقرر بان ثمة شعور تنامى في بغداد واربيل، بالخشية من نتائج القطيعة، ومن عقم ادارة الصراع والخلافات عبر الاعلام والتسريبات ولغة التهديد والوعيد واستعراض القوة، في وقت استنفذت هذه الادوات وظيفتها وكفت ان تكون ذي فائدة مضمونة لاصحابها، بل انها الحقت الضرر بهما معا، حيث اضعفت الحكومة الاتحادية والعراق كدولة وعرضت سيادته الى الخطر، وبموازاة ذلك، اضافت للتحديات التي يواجهها الاقليم تحديات اضافية، وهددت بعزلته وإشغاله بصراعات محلية واقليمية كارثية.
 ولعل تأكيد المالكي وبارزاني على الاحتكام للدستور كمرجعية للنظر في المشكلات المختلف عليها بين الحكومة الاتحادية والاقليم انما يضع العلاقة بينهما في السياق السليم، بحيث يمكن التقدم خطوات اخرى، عملية، الى وضع التفاهمات التي تستلهم روح الدستور، وبخاصة ما تعلق بمبدأ الشراكة في ادارة الحكم والقرارات موضع التطبيق، بعد ان ركنت جانبا وكادت ان تطوى، بل وحل محلها جوٌ من الارتياب وضعف الالتزام بموجبات الوحدة الوطنية، ودخل كل ذلك في استثمارات دول الجوار السياسية ومصالحها.
 على ان القول بان العبرة ليس في اللقاء ذاته بل في اهميته والتزام اطرافه بتعهداتهم، صحيح في جميع الاحوال، وقبل ذلك العبرة في ترجمة النيات الطيبة الى اجراءات ومواقف على الارض، وقبل هذا وذاك، فان العبرة من هذا اللقاء تكمن في ما يقوم به الطرفان من احترازات تضمن لجم الجيوب والاصوات التي عملت وتعمل على تلغيم معابر العلاقة بين الدولة والاقليم.. ولن ترم سلاحها، بسهولة، على اي حال.
******
" خير الدروب ما أدى بسالكه إلى حيث يقصد".
ميخائيل نعيمة 


89

الشيء ونقيضه..
في تحالفات المجالس

عبدالمنعم الاعسم

ما اعلن حتى الان عن الاصطفافات لتشكيل الحكومات المحلية، والتجاذبات، والمزاد العلني للمقاعد، يعطي المؤشرات الكافية على ان الشعارات التي رفعتها الكتل التي ادارت وستدير غالبية مجالس المحافظات حول مكافحة الفساد وذمّ المحاصصة والتركيز على الخدمات ليست مطروحة للتطبيق، والمجادلة، والخلاف، وليست من ضمن القضايا الرئيسية التي تحدد المناصب واختيار المسؤولين لها، في حين تتناقل الكواليس معطيات "مسلية" عن صراعات شرسة داخل الكتل نفسها لمن يجري تنصيبه في مواقع الحكومة المحلية، وليس لما ينبغي ان يحققه ذلك المسؤول من مكاسب للسكان والناخبين.
 قال النافذون واصحاب الحظوظ في دعاياتهم الانتخابية انهم سيكرسون جهودهم لتحسين اوضاع محافظاتهم، وسيسعون الى تحريك ماكنة الاصلاحات والعمل والاستثمارات والترميمات واستيعاب العاطلين عن العمل، فظهر، منذ البداية، انهم قالوا الشي، وينفذون نقيضه تماما: المنصب اولا، والمصالح الفئوية والذاتية والحزبية والعشائرية فوق مصلحة المحافظة وامنها واستقرارها، وعاطليها ومرضاها، وبعيدا عن معاناة سكان الاحياء الفقيرة والمهمشة  والمقصية عن المدنية وابسط مستلزمات الحياة.
 فاذا كانت البداية تؤسس لمنهج التحايل على الرأي العام، واستغفاله، والتعامل مع الوعود الانتخابية والتزامات الخدمة العامة كخرقة مسح، او تمارين للخطابة، فانه لا داعي للتساؤل عن النهاية، ومن حق المواطنين (كما اظهرت امرأة من على شاشة التلفزيون) ان يتشكى من شلل الادارات المحلية، وانشغال المسؤولين في توزيع المناصب، واعمال الزجر التي تزايدت على ابوب المسؤولين، وربما عن خيبة امل، اشار لها شاب عاطل عن العمل بقوله لمراسل تلفزيون "صدقنا وعودهم عندما قالوا انهم سيخدمون المحافظة فظهر انهم يخدمون جيوبهم".
 ولم تكن هذه التعريضات والانتقادات المبكرة بمثابة استباق متعجل لما سيحدث، او رجما بالغيب عما ستكون عليه الاحوال، لكنها استشعار مبكر لعلل الحكومات المحلية التي يراد لها ان تقوم على صفقات فئوية لاختيار مسؤولين في مواقع الخدمة بدل ان تقوم على ضرورة تشكيل فريق من الخبراء والاكفاء واصحاب الايادي العفيفة والمجربين في احترافيتهم ومثابرتهم وغيرتهم على مصالح السكان، من داخل الكتل وخارجها، وهو الامر الذي توقعناه..وراهنا عليه.
 ثمة، الى ذلك، مهزلة يجري توليفها بعناية، عنوانها (الاختيارات تجري في المركز) و"التحالفات تقرر في المركز"على الرغم من ان المركز يتخبط في الازمة التي انتجها.. وبضاعة المأزوم معروفة.
*******
"الدجاجة هي أذكى الحيوانات، فهي تصيح بعد أن تضع البيضة." 
ابراهام لينكولن

90


الجريمة هوية صاحبها

عبدالمنعم الاعسم

نحتاج دائما لنحلل شخصية هذا الذي يفجر السيارة المفخخة بمواطنين عابرين(او هؤلاء الذين يقومون بهذا الفعل الشنيع) لاهداف ليست ذاتية او فئوية،على اية حال، وهذا الحال، في رأيي، يدخل في دراسات السادية الاجرامية من اوسع ابوابها، وإن بذات خلفيات تتصل بالصراعات السياسية.
تعتقد كارين هورني مؤلفة كتاب “صراعاتنا الباطنية” الشهير ان القاتل من هذا النوع (الذي يقتل للقتل) يظن بان الضحية تابع لغيره، فيقتله او يروضه (يثير فيه الذعر) مثلما يروض البروفيسور هيجينز شخصية اليزا في رواية “بيجماليون” وتضيف “في تلك الحال تبرز قرون الشيطان اذا عبّر الضحية عن اية اشارة الى انه يرغب في الذهاب في سبيل حاله”.
الموجات المتوحشة التي اغارت على البشرية كانت تبيد شعوبا لا تخاصمها، وتتلذذ في ممارسة هذه النزعة. كان المغول، قبل سبعمائة وخمسين سنة، يتفنون في التنكيل بمن يصدف ان يكونوا في طريقهم، وكان الشر–يقول المؤرخ الالماني بيرتولد شبولر- يتطاير من عيونهم واعطافهم وهم يغيرون على السكان الامنين من غير تحديد، يقتلون ويحرقون ، لكي يجعلوا من ذلك رسالة الى كل من تلقي به الاقدار على طريقهم، وكانت عقيدة المغول بسيطة قدر ما هي وحشية: “اقتل اكبر عدد من البشر ممن تحت متناول يديك لتخيف غيرهم فيستسملون لك” .
وفي النظريات الجنائية يشار الى ان الجريمة من جنس مرتكبيها، وان الاسلوب الذي يستخدم في ارتكاب الفعل الجنائي يُستدل به الى عقيدة المجرم وافكاره، ولعل الكثير من محللي اسباب واحوال ودواعي ارتكاب اعمال الابادة الانسانية يعرفون ان ابشع الجرائم واكثرها فظاعة ووحشية، ولا يجوز التهاون حيالها، هي الجرائم التي يقدم عليها الفاعل بحق انسان يعرف انه بريء، وليس بينه وبين الضحية خصومة او حتى سوء ظن، وان الاقدار والصدف جمعتهما في مسرح الجريمة، وقد توصف هذه الافعال بالجرائم الانسانية، ويوصف مرتكبوها بالمجرمين المحترفين.
المهم، ان ثمة عينات اجرامية بين ايدينا، قد تساعد، اذا ما اخضعت الى معاينة الاخصائيين النفسانيين، في كبح هذه الموجة المغولية قبل ان تكرس نزعتها الاجرامية في التربة العراقية، الى الابد.
**********
“ليست حقيقة الانسان بما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره”.
        جبران خليل جبران
 ـــــــــــــــــــــــــــــــ


91
المنبر الحر / كلام الدم..
« في: 11:48 29/05/2013  »

كلام الدم.. 

عبدالمنعم الاعسم

 ما يجري على الارض هو الدم. بركة دم. اصوات ناقلات الجثث دم. سيارات الاسعاف وعربات الباعة دم. الارصفة دم. سلال الخضروات وحقائب التلميذات وواجهات دكاكين ملابس الاطفال دم.
 من اليمين رجال ملثمون بوجوه صفراء من فضلات البشر، وقد غسلوا ايديهم توا بزيوت الجاهلية وفتاوى اهل الدين الجديد، والغل الطائفي، وتخفوا عن الانظار حال انهيار المباني وتطاير الاجساد.
 من الاقصى، ساسة يكشرون عن افواه تفيض بالدم. يبحثون عن مكان على جلد الضحايا المحترق لتوقيع بيان استنكار يقول كل شيء عن مرتكبي الجريمة ولا يقول شيئا شيئا واحداعن مسؤولية اصحابه في هذه المذبحة.
 في الادنى، ساسة آخرون يتسلون سرا بلوحة بركة الدم. يتبادلون التهاني، ويبحثون في صور هذا المهرجان من الاشلاء عن ديباجة محبوكة يدسون فيها شفاء غليلهم.
 الى الشمال عويل نساء واطفال يكتبون بالدم فجيعتهم، ويتلون بالدم نشيد الاباء والابناء الذين سقطوا توا في المذبحة، ويحملون اسئلتهم الى مجالس عزاءعما جناه القتلى ليكونوا طعما للتفجيرات. 
 على نقالات الجثث دم ضحايا عابرو سبيل. احدهم شاب بنصف جسد  بعينين مفتوحتين في مدينة الحرية، وهناك  امرأة  في حي الصدرية حُملت بلا يد. تمزقت عباءتها ولا تزال لم تمت وهي تنقل الى مستشفى قريبة من الحي. قالت لرجال الانقاذ بصوت خفيض ومتقطع ومكلوم..اعطوني قطرة ماء.. وقبل ان يأتوها بالماء لفظت انفاسها.
 الليلة، السابع والعشرون من ايار، مات كثيرون في هذا المهرجان الدموي، وفقد المئات اطرافا لهم واجزاء من اجسامهم وبعضهم يحتظر مع اسئلته عما جناه، وعمن سفك دمه.
 نامت الملايين  العراقية هذه الليلة على مشاهد مفزعة ومروعة ومخيفة عرضتها الشاشات الملونة..
 ونام القتلة على  حافة بحيرة الدم يتبادلون كلمات الله في القصاص من الكفار والمرتدين.
 ونام اركان اللعبة السياسية متعبين من التفكير في تحويل بركة الدم الى لعبة سياسية.
*******
"المجرمون انواع.. واحد يرتكب القتل بيده.. وآخر يرتكبه بتبرير القتل، وثالث يستغله للحصول على الميراث".
مانديللا


 

92
المنبر الحر / الماضي
« في: 13:57 26/05/2013  »

الماضي

عبدالمنعم الاعسم
 
لا اعرف وصفة ناجعة لتنسيق الماضي. اعرف ان ثمة في الماضي بقع ضوء كثيرة بجانب بربريات كثيرة. واعرف ان موقفين متطرفين يطرحان نفسهما على طاولة الحوار دائما: الاول يحضّ على طيّ الماضي تماما بوصفه كابوسا، او عائقا، والاخر يدعو الى الاقامة فيه ابدا باعتباره ملاذا او ضرورة..تلك هي المشكلة التي تواجه ضمائرنا التي توخزها الاعمال الدنيئة التي ارتكبت باسمنا في معابر خطيرة للتاريخ، وتعترض مستقبلنا الذي نحتاج الى توطيد مسبقاته الرصينة والانسانية..
/في تجارب الاخرين ذات الصلة بهذا الموضع، عثرت على رسالة كان قد بعث بها الشاعر والروائي الالماني، ذائع الصيت "غونتر غراس" الى الكاتب الياباني الاكثر شهرة في بلاده والعالم "كينزابرو- أوي" ويتطرق منها الى الموقف من ماضي بلديهما، اللذان يتشابهان في إشعال حروب التوسع والعنصرية قبل انكفائهما الى الهزيمة النكراء.. يقول غراس:
"عزيزي أوي
قد يحدث لك الشيء نفسه: تتدفق الطلبات من جميع الجهات راجية أن أبجل، بكلمات أو بنص طويل، تلك التواريخ التي شهدت منذ خمسين سنة كيف انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام لا مشروط لألمانيا أولا ولليابان ثانيا. وبما أنني لا أحب أن تكون ردود فعلي تلبية لطلبات متعلقة بأحداث الساعة، فقد ارتأيت أن أكتب اليك، لأنك مثلي، فأنت من الجيل الذي عاش الحرب في سن الطفولة والمراهقة ودمغتنا منذ أبكر سني الصبا. كان علينا نحن الاثنين، إدراك أن ما بعد الحرب قد لا ينتهي أبدا. ومن عقد الى عقد، أصبحنا نحن الاثنين، ندرك أكثر بأن الجرائم التي ارتكبها الألمان واليابانيون تلقي ظلالا بعيدة المدى.
بودي أن أعرف كيف يتعامل الجمهور عندكم في اليابان، مع الماضي. ما الفوائد التي نجدها، عندكم، وراء مطلب - وهو غالبا مطلب عدواني عندنا في ألمانيا- أن توضع نقطة الختام النهائية على هذا الجدل.. فمن الذي يعارض، عندكم في اليابان، فكرة تنسيق الماضي بأقصى سرعة ووضعه في أرشيفات التاريخ؟
في ألمانيا الآن نقاش ساذج: هل ينبغي الإحتفال بالثامن من أيار بصفته تاريخ انتهاء الحرب ام بصفته يوم التحرير: أذكر أننا كنا في السنوات الأول لما بعد الحرب نتكلم بمراوغة عن "الاندحار" إندحار المانيا، وكنا نريد تحويل نهاية الرعب - التي لم تتحقق إلا بقوة السلاح - الى "ساعة الصفر" كما لو أنه كان بمقدورنا الاستئناف مجددا كوردة غضة، وكما لو أنه كان بإمكاننا الخروج من كل هذا بلا عقاب أو عاقبة. من المؤكد أن السؤال غير معقول. صحيح أن ألمانيا واليابان بلدان غنيان، لكن "خزينتهما" الثقافية أصيبت بفقر شديد. وحتى الآن لم يتجاوزا الانقطاع الذي حل بحضارتيهما. وهما لا يزالان مهددين من قبل متطرفيهما،على الأقل، بالعودة مجددا الى البربرية.
وهكذا، يمكن الاسترشاد بما كتبه غراس الى الحقيقة التالية: الماضي دروس.. وكل من يجعل منه تجربة ينبغي ان تُستعاد لا يعرف حكم عقرب الساعة.

93


فاشية حزب البعث.. وتجريمه

عبدالمنعم الاعسم
 
قانون تجريم البعث، الذي حكم العراق بقيادة صدام حسين اكثر من ثلاثة عقود، قيد المناقشة في مجلس النواب، من حيث المبدأ، وقبل الخوض في تفاصيله، امر سليم وصحيح وضروري ومبرر، ليس فقط بالمقارنة مع تجارب دول حكمتها فاشيات  ودكتاتوريات وانظمة عنصرية (المانيا الهتلرية. ايطاليا. اليونان. جنوب افريقيا..) وقضت بتجريم احزاب نظمها الفاشية غداة سقوطها، بل وايضا، لأن حفنة من البعثيين (جلادين سابقين. قتلة. ضباط اجهزة القمع. مقربين من صدام..) لا يزالون ينشطون لأعادة نظام القهر الفاشي بالسلاح والتفجيرات والتجييش واثارة الكراهيات الطائفية والقومية والاجتماعية والتحالف مع اكثر جماعات الارهاب توحشا وهمجية واجراما.
  فمثلما كان القتل والترويع والتمييز القومي والطائفي واستئصال الآخر واثارة الحروب منهجا في اساس نظام الفاشية الصدامية، ومكونا عضويا في سياساته وتطبيقاتها على الارض، فان التشكيلات البعثية، من ايتام صدام حسين، تواصل هذا المنهج، والترويج له، والتشبث به، وهي خارج الحكم، وطوال عشر سنوات من عمر السقوط ارتكبت هذه التشكيلات من جرائم العنف والاغتيالات واللصوصية ما يفرض على الدولة، والمجتمع،  والجماعات السياسية والاعلام التصدي لها وتجفيف مواردها البشرية والمعنوية والعمل على تفكيكها، ويعد التشريع الخاص بتجريم البعث الفاشي واحدا من فروض الوقاية إزاء الخطر الذي يمثله.
 وبموازاة هذه الضرورات، تبرز ضرورة، لاتقل خطورة واهمية عن تشريع قانون تجريم البعث ، وتتصل بالمعايير والمنظورات، ثم الاجراءات، التي تعالج فكرة التجريم والمشمولين بها، سيما ان السنوات العشر الماضية سجلت  وقائع وفيرة عن التخبط واللاعدالة والكيفية والكيدية "وحتى الطائفية" في التعامل مع افراد حزب البعث وكوادره وفي سبل وخلفيات اعادة ضباط ومسؤولي الحكم السابق من اعضائه الى مواقع الحكم الجديد، الامر الذي جعل هذا الملف فاصلة ساخنة في الصراع السياسي بين الفئات المتنفذة، والحق ضررا كبيرا بالمعادلة الامنية، بعد تسلل بعثيين مرتبطين بالمشروع الارهابي الاجرامي الى اكثر شبكات المنظومة الامنية والعسكرية  حساسية، وبالمقابل، جرى التنكيل والعزل لبعثيين سابقين، لاعتبارات طائفية او كيدية، فيما لم تجر مراعاة لاحوال بعثيين مدنيين وعسكريين انقلبوا على الدكتاتورية والبعض منهم حاربها، بل ان الكثير من هؤلاء أبعدوا عن مجالات الخدمة وجرى التفريط بخبراتهم في وقت البلاد احوج ما تكون لها.
 ولعل اكثر صور النفاق السياسي في التعامل مع حزب البعث وفلوله وانصاره برزت في لجوء كتل سياسية الى لغة التعاطف الزائف مع البعثيين، ومع الجمهور المحسوب على النظام السابق لغرض ضمان التصويت لها في الانتخابات، وبلغ بهذه الكتل ان تعارض حتى تجريم صدام حسين، وبعض زعاماتها صار يتمثل شخصية الدكتاتور وخطاباته خلال الحملة الدعائية الانتخابية، وهذا هو الوجه الآخر من النفاق السياسي لكتل وزعامات سياسية اخرى راحت تقرّب البعثيين، بمن فيهم الجلادين السابقين، وتزكيهم، وتدفع بهم الى مواقع حساسة لاعتبارات طائفية او عشائرية او مناطقية.. وثمة حالات رشوة وفساد وسمسرة مرت من هنا.
 غير ان ملف التجريم القانوني يفتح نفسه على ملف آخر اكثر اهمية وخطورة وتتصل بمستقبل ومصير حزب البعث في العراق.. فقد توفرت له فرصة تاريخية للانتقال من صيرورته حزبا فاشيا تحت قيادة صدام حسين الى اصوله كتنظيم سياسي مدني قومي حركي، وذلك حين سقط  الدكتاتور واخذ معه الى المزبلة دولة فاشية، بكل بُناها الايديولوجية والاقتصادية والادارية، وكانت الظروف الجديدة مهيأة لهذا الخيار، فيما كان الحديث يجري عن تغييرات في منهج واسم وقيادات الحزب وحصر مسؤولية جرائم النظام السابق بحفنة من جلاديه، لكن فلول الحزب وما تبقى من انصاره(من تشكيلات اجهزة القمع والسطوة والمنافع) تخندقوا في الالهام الصدامي الكاذب، ومضوا على طريق التجييش والرطانة الثورية والتآمر..
 وهل الفاشية غير سلسلة من عمليات تآمر ونداءات مثيرة للعواطف بغرض الوثوب الى السلطة، كما يعرضها موسوليني في كتابه عن "الفاشية والثورة الاجتماعية"؟.
 وأليس الفاشية غير وصفة،  كما يقول تولياتي "لحزب يدق طبول الحرب بلا كلل ودولة تحارب على الدوام"؟ وتلك هي المصاهرة الابدية بين حزبي هتلر وصدام لتجد تعبيرها في اساليب قهر المواطن ووأد وعيد وتعصيب عينيه، ثم العمل على اخصاء الحياة السلمية والتعددية والليبرالية في المجتمع، واستئصال القوميات والخصوصيات والعقائد ووضع الشعب كله قيد ارادة القائد الفرد الذي لا يُناقش ولا يكشف عن خططه لاقرب المقربين .
 ففي هذا العام 2013 يمرّ ثمانون عاما على صعود هتلر الى السلطة في المانيا (1933) وخمسون عاما على صعود البعث العراقي،لأول مرة، الى الحكم (1963) ولم تختلف اشكال هذا الصعود في الجوهر.. التآمر.. كما لم تختلف(إلا في التفاصيل) سبل بناء السلطة ودور الحزب الحاكم، وسطوة الفرد صاحب القرار الاول والاخير في مصائر البلاد، ومثلما ترك هتلر فلولا فاشية مؤتمنة على افكاره، ومسحورة بقوته و"وبطولته" لكنها صغيرة وهامشية ومنبوذة حيث حوصرت بطوق من التشريعات والثقافة والتعليم والاحتواء المنهجي، فقد ترك صدام حسين حفنة من اتباعه المهووسين باسمه و"امجاده" ممن شاءت ظروف التغيير بعد العام 2003 والسياسات العفوية واللامنهجية والطائفية والارتجالية التي سلكتها حكومات التغيير ان تكون لهم مكانة في المعادلات السياسية والامنية في مرحلة ما بعد سقوط النظام.
 وإذ انفض ملايين من اعضاء حزب البعث عنه، بعد سقوط الدكتاتورية قبل عشر سنوات وظهرت بوادر مراجعة جدية بين قياداته المدنية وبعض مثقفيه لانتقاد وتجريم الحقبة الدكتاتورية القمعية ولجهة تأهيله للانخراط في العمل السلمي والمدني، غير ان تلك البوادر سرعان ما ارتدت الى الوراء، وانتهت الى "صمت" المنادين بالمراجعة وهزيمتهم امام صعود نداءات الانتقام والحرب والمقاومة الارهابية والمضي قدما بقيادة عزة الدوري الى اشكال من الطائفية الهمجية والشعوذة (جيش النقشبندية) واوهام اعادة عقارب الساعة الى الوراء.
 في العام 1933 كان هتلر يقول.. ساجعل العالم ينتحر في هذه الصالة.. وفي العام 2003 كان صدام حسين يكرر ان الحملة عليه ستسقط لا محال.. فمن الذي انتحر؟ ومن الذي سقط؟.
 والمعاينة الموضوعية تكشف ان فاشية حزب البعث الذي حكم العراق ليس في منظومته العقائدية المجردة التي تضم نصوصا ورؤى ولوازم تعالج الشان القومي وقضايا التجزئة والوحدة العربية والنظام الاقتصادي المقترح للدولة، بل في الممارسات والتطبيقات التي جرت في ميدان السياسة والحكم، وفي الوصفة الصدامية للبعث على وجه الخصوص، ولا حاجة للاستطراد كثيرا في الفاصلة الصحيحة التي تقول ان الطغيان السياسي كثيرا ما يستند الى نصوص عقائدية مثالية (أو اجزاء منتقاة منها) يجري ليّها ومطّها وتأويلها لكي تلائم مشروع الاستبداد.
 تكفي الاشارة السريعة الى ان ابن لادن استند في بناء مشروعه الارهابي التكفيري الاجرامي على نصوص في القران والعقيدة الاسلامية، وقبله وظـّف ستالين وماو وبول بوت مقولات لماركس ولينين في بناء حكم الاستبداد والبطش، كما ان الرأسمالية من حيث هي نظرية للحرية ولنظام مجتمعي بديل للاقطاعية الهمجية تمخضت في اطوارها الصاعدة عن اقبح وابشع التطبيقات متمثلة بالاستعمار وسياسات إخضاع الامم وانظمة النازية والفاشية، والامثلة كثيرة على نماذج حكم وادارة وزعامة شرّعت للقهر بالاستناد الى مدونات نظرية للعدالة والمساواة والثورة.
 لقد أنشأت الصدامية نموذجا فريدا وصارخا للدولة الفاشية.. دولة يحكمها فرد واحد مستبد، وتديرها اجهزة مخابرات فوق القانون، وينأى الحزب الحاكم فيها عن موارده العقائدية المثالية ليصبح اداة امنية عمياء لقهر الشارع واستئصال التنوع وتكميم الافواه وسوق الملايين الى ساحات الحرب التي ما إن تتوقف في جبهة حتى تندلع في جبهة ثانية، وكانت حرب القهر القومي للكرد ابشع تلك الحروب، فيما حرصت هذه الدولة على ضبط الولاء لها بقوة الحديد والنار، وعلى ارشاء مواطنيها (او شرائح منهم) بفتات رخاء مؤقته ومكرمات مُذلة، تقدمها بسخاء حين تشعر بخطر التمرد عليها ثم تصادرها حين يبتعد هذا الخطر. اما في مجال الثقافة فقد اغارت الدولة الصدامية الفاشية على مواطن التعددية في الثقافة الوطنية ووضعت غالبية المثقفين الذين لم يتسن لهم الافلات من قبضتها تحت المراقبة والتهديد او الصمت او في صناعة التوصيفات المغشوشة للقائد المستبد.
 ومع حالة الاعداد للحرب، وهي حالة "طوارئ" غطت العقود الثلاثة من صعود الفاشية الصدامية (ولو بقي صدام لاستمرت الى الابد) فان اية معارضة او شبهة للاحتجاج حتى في ابسط اشكال لها تُعد خيانة وطنية تكلف اصحابها حياتهم، وبمرور الايام صارت الملايين العراقية، بالنسبة لصدام،  قطيعا ووجودا نسبيا، او كوسط مريب ينبغي مراقبته وترويضه على الدوام، بل انه (وعلى خطى هتلر) عني بالاطفال والصبيان على نحو استثنائي لكي يشبوا صداميين ووقودا لحرائق المستقبل ومتشبعين بالولاء المطلق له عبر قطعهم عن عائلاتهم وابائهم وحياتهم الطفولية البريئة.
فاشية البعث، في تطبيقاتها الصدامية، ليست تجربة سقطت مع سقوط صاحبها.. انها تظهر الآن في اشكال كثيرة من النوازع والانحرافات، والممارسات التي التي تتكشف في ميادين السياسة والثقافة والمجتمع، وتسعى الى اعادتها عن طريق العنف والتآمر والارهاب فلول منفلتة.
اقول تسعى، وليس كل من يسعى يصل.


94
عودة ممثلي الكرد..
اختبار للجميع

عبدالمنعم الاعسم
 عودة نواب ووزراء التحالف الكردستاني الى مواقعهم تعني اشياء كثيرة من ابرزها جدارة الحوار والاتصال المباشر والمصارحة في ايقاف التدهور في العلاقات بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان عند نقطة ملتهبة، بديلا عن القطيعة واطلاق الشكوك والتهديدات، وعن مخاشنات على الارض، تكاد، في كل مرة، ان تضرم نيرانا لا احد يعرف كيف يتم إخمادها.
 والمهم في هذه العودة، اولا، هو محصول الاتفاق المعلن بين التحالف الوطني، الحاكم، وممثلي حكومة الاقليم وتسمية الخطوات والاجراءات التي من شأنها نزع فتيل المواجهة وتهدئة خطوط التماس ثم الشروع بتنفيذ الالتزمات التي تقاسمها الطرفان.
 وثانيا، في ما ظهر من انضباط اعلامي ساعد ويساعد، اذا ما استمر، في استعادة الثقة عند الحد الادنى من الممكنات، ولجم محاولات التعكير والتجييش والتاليب والترويع، وتطمين الراي العام الى جدية التفاهمات التي تم التوصل اليها.
 وثالثا، في تنشيط فاعلية وعمل البرلمان ومجلس الوزراء والتقدم الى تسهيل عودة المقاطعين الاخرين على اساس التفاهم والحوار والتنازلات المتقابلة، ثم معالجة الملفات المعطلة واستئناف العمل الناشط في اطارات الحكومة بعد شلل وتوتر ضرب مفاصلها بالطول والعرض.
 ورابعا، في تأمين الحد الادنى من فروض ومستلزمات التهيئة للانتخابات البرلمانية التي يقترب موعد اجرائها، على اساس التنافس في الخدمة والوفاء للتعهدات بعيدا عن الخندقة والاثارة والتهميش  والاعتبارات الفئوية ومحاولات الاستئثار بالسلطة والامتيازات.
 معروف في السياسة، ان توقيع الاتفاقات بين فرقاء الازمات اسهل بكثير من ترجمتها الى اجراءات والتزامات وخطوات على الارض، وان الصعوبات تكمن في توفير النيات الجادة لتنفيذ نقاط الاتفاق، وكانت تجارب عقد من السنين العراقية قد اكدت ان الكثير من التفاهمات والاتفاقات التي تم التوصل اليها على طاولات البحث والتفاوض سرعان ما مزقت وطويت، ولم تجد طريقها الى التنفيذ.
 لماذا؟
 بوجيز الكلام، لأن البعض من الموقعين على تلك التفاهمات لم يكونوا مؤمنين بها.. وكانوا يتعاملون معها كقيود يتحينون الفرص للتخلص منها..
 فهل تغير الامر.. لنجرب ان نتفاءل.
*******
" ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي والنكث والمكر" .


95
جامعة كرينج البريطانية تفتح فرعا في جامعة جيهان/السليمانية


صوت العراق:
في خطوة الاولى من نوعها في أقليم كوردستان والعراق تم الاتفاق على برنامج مشترك بين جامعة جيهان/السليمانية وجامعة كرينج البريطانية ( ومقرها في لندن) بموجها يفتح جامعة كرينج فرعا في جامعة جيهان/السليمانية في تخصص:
Business Information Technology
فبعد اتصالات ومراسلات وزيارات متكررة بين الجامعتين استمرت لعدة اشهر قام لجنة متخصصة مشتركة (ووفق متطلبات معايير ضمان جودة التعليم في بريطانيا)  مكونة من 3 اكاديميين  من جامعة كرينج وعضو خارجي من احد الجامعات البريطانية الاخرى وممثل عن ضمان جودة التعليم في بريطانيا بزيارة رسمية الى جامعة جيهان في مدينة السليمانية في 13/04/2013. حيث تم خلال الزيارة عقد لقاء مع السيد رئيس جامعة جيهان/السليمانية الدكتور شيرزاد الطالباني والدكتور محمد صادق (المكلف بالاشراف على تنفيذ البرنامج) والدكتور ماركوس (المكلف ببرنامج تطوير الكوادر) وتم خلاله التداول في تطابق الجوانب الادارية والتنفيذية لهذا البرنامج لدى الجامعتين وأهم الاسباب الموجبة التي دفعت الجامعتين لعقد هذا الاتفاق وكيفية تنفيذ الجوانب الادارية والعلمية...للبرنامج, كما عقد الوفد لقاء مع اساتذة قسم علوم الحاسبات والتداول معهم  في المناهج الدراسية  وشروط ومتطلبات الاشتراك ومعاييرالتحاق الكادر التدريسي بهذا البرنامج وسير العملية التعليمية في  جامعة جيهان/السليمانية بعدها تم اللقاء مع مجموعة من طلبة جامعة جيهان/السليمانية والتداول معهم في الخدمات التعليمية والاكاديمية المقدمة من قبل الجامعة ....وكذالك اطلع اللجنة على الوثائق والاوليات المطلوبة لجميع تلك الجوانب.
بعدها تجول اللجنة برفقة السيد رئيس الجامعة واعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة والاطلاع على القاعات الدراسية والمختبرات العلمية والمرافق الاخرى في الجامعة....
 
وقد صرح رئيس جامعة جيهان/السليمانية الدكتور شيرزاد الطالباني ان تنفيذ هذا البرنامج كان حلمه منذ اكثر من 6 سنوات وحاول جهده انجاحه وتطبيقه وبعد جهود مضنية تحقق الحلم الان حيث يستهدف العمل على خدمة البناء الاكاديمي على مستوى العراق وكردستان. وقال : بامكان الطلبة في جميع جامعات كوردستان والعراق الالتحاق في البرنامج المذكور ومن فئتين:
1-   من الناجحين من المرحلة الاولى في اختصاص علوم الحاسبات وبمعدل 60% فاكثر بعد معادلة المواد التي درسوها مع مواد السنة الاولى (التحضيرية) في جامعة جيهان/السليمانية واكمال باقي المتطلبات في المواد العلمية المطلوبة واللغة الانكليزية خلال العطلة الصيفية قبل بدء الموسم الدراسي في 01/09/2013.
2-    سيتم قبول الخريجين الجدد من الثانويات العلمية من اقليم كوردستان والعراق للعام الدراسي الحالي في هذا البرنامج في السنة التحضيرية في 01/09/2013 حيث يتطلب من الطالب دراسة السنة الاولى التحضيرية واللغة الانكليزية وبعد اكمال السنة الاولى وحصول الطالب على معدل 60% فاكثر سيكمل السنوات الدراسة المتبقية على اساس منهاج جامعة كرينج.



96
بيان عن التيار الديمقراطي العراقي حول احداث الحويجة
 
لا للارهاب والتجييش الطائفي.. لا لأراقة الدماء

 منذ ما يزيد على اسبوع فوجئ الرأي العام العراقي بتصاعد مفاجئ للتوتر بين السلطات الحكومية وحركة الاعتصامات في مناطق غرب العراق وتمركز هذا التوتر في مدينة الحويجة بمحافظة كركوك على خلفية التلكؤ من جانب الحكومة في الاستجابة للمطالب المشروعة للمحتجين والتردد في فتح مسارات الحوار مع مراجعهم الاهلية السلمية، ومقابل ذلك، ظهور انشطة مسلحة في ساحات الاعتصام لعصابات القاعدة وفلول النظام السابق، واطلاق شعارات طائفية متطرفة ودق طبول التجييش والحرب على النظام السياسي من قبل دعاة ورجال دين وسياسيين عبر وسائل الاعلام والمحافل المختلفة.
 كل هذا اضاف تعقيدات جديدة للازمة السياسية المتفاقمة اصلا، وضاعف من مظاهر الانشقاق السياسي في داخل العملية السياسية، لكن التطور الاكثر خطورة تمثل في الانزلاق الى خيار حل مشكلة الاعتصامات عن طريق القوة، فقد لوح معتصمون في الحويجة بالاسلحة والزحف الى العاصمة واطلقوا النار على القوات الحكومية، فيما اتسم رد الفعل الحكومي بالردع المفرط، بدأ بتهديد اجتياح ساحة الاعتصام وانتهى الى مجزرة راح ضحيتها مدنيون غالبيتهم من المعتصمين المسالمين، الامر الذي وضع المشهد على حافة المجابهة المفتوحة بين اهالي وعشائر منطقة الحويجة والقوات الحكومية، مفتوحة على مجابهة اوسع بين الحكومة الاتحادية ومناطق غرب العراق، مع ما حملته هذه التطورات من احتقان طائفي خطير ايل للانفجار في اية لحظة.
 وفي هذا المنحدر الجديد من الازمة السياسية برزت اصوات من طرفي المواجهة تتوعد بكسر الآخر واستئصاله، مهما كلف الامر من دماء وخراب، وتفكيك للسلم الاهلي، وتعرض سيادة ومستقبل البلاد الى الضياع، كما ساهمت اقنية اعلامية متحيزة، وتصريحات سياسية غير مسؤولة، في صب الزيت على النيران وإذكاء الكراهيات بين ابناء الوطن الواحد، وشاركت عواصم اقليمية في تأجيج الصراع باعلان انحيازها الى هذا الطرف او ذاك، فيما اكتفت مرجعيات سياسية واجتماعية بالتفرج على ما يجري،  او باعلان الاستنكار البارد وتقديم النصائح العمومية التي لا فائدة منها.
 ان التيار الديمقراطي العراقي، بقواه وشخصياته، ينظر الى ما جرى في الحويجة باعتباره طورا خطيرا في الازمة السياسية ومنزلقا الى خيار العنف والمجابهة الطائفية، ويدعو الى التعجيل بالعمل في اتجاهين، الاول، تعبئة الرأي العام وقواه ومنظماته وشخصياته في اعمال منظمة لسد الطريق على المهووسين بخيارات القوة والردع والتجييش الطائفي، ومنع زج الجيش في الصراعات الداخلية بعيدا عن مهماته الوطنية، والثاني، احياء وتنشيط مسارات الحوار بين الحكومة وحركات الاحتجاج السلمي في مناطق غرب العراق، واتخاذ الخطوات العاجلة لنزع فتيل التوتر وتحريم اراقة دماء العراقيين.
 
التيار الديمقراطي العراقي-
بغداد 25 نيسان 2013   


97

تمرين للحرب الاهلية

عبدالمنعم الاعسم

ما يجري في الحويجة خطوة اخرى الى الحرب الاهلية المفتوحة. حرب الطوائف ضد نفسها، والعقائد بمواجهة العقائد،والزعامات مع الزعامات، والمراجع ضد المراجع،  والاحياء الفقيرة بمواجهة احياء الموسرين، وباعة البسطات ضد تجار المخدرات ونهابي الثروة الوطنية، والجنرالات الذي تركوا حماية الحدود ودخلوا بدباباتهم الى الحارات ومفارق الطرق ضد الاشباح والملثمين. اما المسرح فهو بلاد تمتد من نقطة في اعلى زاخو يحرسها رجل من البيشمركة الى ساحل في ادنى الخارطة يحمل اسما انثويا، ام قصر.
كل الحروب الاهلية تندلع من شرارة صغيرة في وقت ما قد يكون غير مناسب ولا احد يعرف من الذي اختاره، وفي مكان ما قد يكون مزبلة، لا احد يجهل رائحتها وسمعتها، وسرعان ما تتحول هذه الشرارة الى لهيب عارم تلقمه الافعال وردود الافعال حطبا وضراوة، لكي تنتهي الى حرب الشعب الشاملة مع نفسه.. آنذاك فان الدم لا قيمة له.. ارخص من الماء.
 وفي كل الحروب الاهلية ثمة شعارات ومطاليب تبدو انها مشروعة وعادلة وتستحق التضحية  وضرورية بالمقاييس السياسية (المصلحة العليا. هيبة الدولة. حقوق الانسان. وقف التمييز. تحقيق العدالة. فرض القانون. الكرامة. غسل العار. التغيير السياسي..الخ) لكنها تنسحب من مبرراتها شيئا فشيئا، وتتساقط مفراتها الخادعة يوما بعد اخر حتى تصبح مارشات عسكرية وهوسات ونداءات انتقام وقتل  وطبول حرب، واسياد مدججون بكل نذالات السياسة.
الحروب الاهلية يلزمها تمرين، او سلسلة تمارين، يتدرب فيها المقاتلون على استرخاص الدم، ويختبر فيها الاسياد والوكلاء والدعاة طاقاتهم الخطابية الرنانة،  وتنشط خلالها خطوط التجارة الخلفية عبر الحدود، فترفع فواتير السلاح وحبوب الهلوسة، وتخفـّض، بمقابل ذلك اسعار البشر، فيما تجد مصدر عيش مجزٍ لحفاري القبور وباعة الاكفان وقراء ديباجات توديع القتلى في حفر تعد على عجل.
في الحويجة مسرح اللامعقول لتمرين خطير على حرب اهلية شاملة.. او -في حقيقة الامر- مسرح المعقول في نسخته العراقية: جنرات يهددون بالزحف الى الحويجة، ومهووسون في الجهة الثانية يهددون بالزحف الى بغداد، وفي ساعة الصفر حقق التمرين على حرب اهلية اولى نجاحاته، فقد سال الدم وارتفعت الاصوات بالانتقام.. وبدأت معامل الكارثة بتصنيع جيل جديد من الاصنام، وخارطة للعاقبة.. وما ادراك ما العاقبة.
********
"لا يمكنك مصافحة يد مقبوضة".
انديرا غاندي


98
المنبر الحر / بلاد.. في المزاد
« في: 23:55 11/04/2013  »

بلاد..
في المزاد

عبدالمنعم الاعسم

الصورة مفجعة، لكنها كوميدية ايضا.
 انهم ينتشرون في العواصم في مهمة لبيع البلاد في مزادات السياسة. اللقاء التلفزيوني لوزير المالية السابق رافع العيساوي يكشف هذه المفارقة السوداء. الكل يسعى الى "دولة صديقة" ليجد كرسيا له تحت حمايتها وعطفها، في وقت لم يعد العراق ندا، بالنسبة لجيرانه وشركائه في الامن الاقليمي، او دولة ناجزة الاستقلال والحقوق، وهو حسبهم يحتاج الى الوصاية و"الأرشاد" والحِجر، ولم يعد، مثل بقية الدول الاعضاء في الامم المتحدة، متحكما في مصيره،  وهو "دولة مشاكل" كما كتب عنه صحفي كويتي واضاف "يجب وضعه في غرفة العناية المشددة" او انه كما قالت صحيفة اخوانية مصرية (العدالة) خرج عن الانضباط ، فيما كشف روبرت فيسك كاتب الانديبندنت عن اتصالات تجري بين عواصم الخليج لبحث "تغييرات" في العراق.
 الغيرة على البلاد هي نقطة حياء.. هذا في الاخلاق، أما في المصالح فانها ضمانة  بان العراق دولة مستقلة، وليس ملكا مباحا لتفرض عليه مشيئات من الخارج.
 اقول: في كل الاحوال، وقبل منع الدول المجاورة من ان تدوس بنعليها على ميثاق الاعضاء في الامم المتحدة وتأخذ لنفسها حق الوصاية على بلد مستقل كالعراق، يجب منع اهل العراق من الساسة والمتنفذين واللاعبين واصحاب القرار والكواليس، من الاستطراد في الشحادة باسم العراق، وساكون واضحا بالقول: ان الدول المجاورة تستضعف العراق ليس في حلقات قوته العسكرية او البشرية او الاقتصادية، وإنما في جوانب اخرى تتعلق بالسياسات والصراعات الداخلية التي لم تُرَشّد، وهي نفسها تفتح شهية الدول المجاورة في خيرات العراق.
 وساكون اكثر وضوحا لاقول: نعم، ان العراق ليس ضيعة لأحد، ولا يجوز، في الظروف الطبيعية او في غيرها، ان تتعامل اي دولة، او اية جهة مسؤولة فيها، وكأن العراق معروض للبيع.. لكن (انتباه) سيكون كل هذا صحيحا لوا ان اصحاب الشأن والنفوذ تعاملوا مع العراق باعتباره عراقهم، وليس بلادا معروضة في المزاد.
***
" المنافسة تؤدي إلى أفضل المنتجات وأسوأ الأشخاص".
ديفيد سارنوف- رجل اعمال امريكي

99

دعوات الاقاليم..
هل هي مؤامرة؟

عبدالمنعم الاعسم
 إذا كان الدستور العراقي قد شرع في مادته الـ116 الى "النظام الاتحادي" الذي يتكون  "من عاصمةٍ واقاليم ومحافظاتٍ لا مركزيةٍ واداراتٍ محلية" وانه اعطي الحق لسكان اية محافظة تحويل ادارتها الى اقليم، فلماذا تكون الدعوات التي يطلقها البعض من ممثلي سكان محافظات الانبار وصلاح الدين والبصرة والنجف وغيرها بمثابة "مؤامرة خارجية" او هي محاولة "تقسيم للدولة العراقية" كما يذهب المعارضون، فيما يقول الدستور في مادته الـ119 ان تلك الاقاليم تقام وفق استفتاء مباشر من السكان.
 التناقض هنا يحتاج الى تأمل في خلفيات الاعتراض على اقامة اقاليم دستورية، لكن قبل ذلك ينبغي التذكير بان بعض المعترضين مشاركون اساسيون في وضع الدستور العراقي، في اطار العملية السياسية، وانهم يؤكدون على ضرورة الإلتزام به نصا وروحا، و(الى ذلك) اقسموا على تطبيق الدستور وحمايته من التشويه والتعدي، الامر الذي يحمل على القول ان المعترضين هؤلاء يتعاملون مع الدستور بوصفه قطعة من المطاط، يمددونها من الجانب المناسب لمصالحهم ومعاركهم السياسية، ويضيقونها من الجوانب التي تناسب مصالح غيرهم، وان الحديث عن "مؤامرة" او "تقسيم العراق" لا يعدو عن كونه شعارا في المماحكات السياسية والصراع الفئوي، وإثارة الشارع، بل واستغفاله.
 اننا نتحدث عن معارضين لدعوات الاقاليم من اصحاب العملية السياسية حصرا، اما معارضو هذه الدعوات من عصابات الارهاب وفلول النظام السابق وهيئة علماء المسلمين وجماعات التجييش والقبلية العمياء والاسلام المتطرف، فانه لا حاجة لمناقشتهم وتفسير معارضتهم، اخذا بالاعتبار انهم لا يعترفون بالدستور ولا بالعملية السياسية ولا بالدولة الاتحادية ولا بالتغيير ولا باية مؤسسة من مؤسسات الدولة الجديدة، وليس لديهم اي بديل معلن عن المشهد القائم بل موزعون على خيارات كوميدية، بين اقامة الخلافة، أو العودة الى نظام الحزب الواحد، أو تشييد دولة القبائل والطوائف والحروب.
 طبعا، لا يصح التقليل من شان تدخلات دول الجوار، ولا من الخطر الناجم عن وجود قوى وزعامات تنسق مع حكومات هذه الدول في غير صالح البلاد، لكن لا يصح ايضا تحويل ورقة الاقاليم والمطالبة بها الى مكب للشتائم والصراعات الفئوية.. او الى تمرين على تأليب فئات شعبية ضد خيار يحتاج الى مناقشات دستورية بناءة.. وفضاءات لا تسممها المخاوف المغشوشة على وحدة البلاد.
*******
" أيتها النفس إجملي جزعا ...
          إن الذي تخشين قد وقع"
آوس بن حجر 

100
المنبر الحر / الطائفية.. لغة ايضا
« في: 13:09 27/03/2013  »
الطائفية..
لغة ايضا

عبدالمنعم الاعسم
 
للطائفية لغة خاصة بها. لغة مخاتلة. زئبقية. متآمرة. مشحونة بالتأليب والغل والتعبئة ضد الآخر، لكن بمفردات وعبارات تفيض بالرحمة المغشوشة، والموضوعية الشكلية، وبالاستطرادات المنتقاة بعناية من محضر الانشقاق السياسي الذي عصف بالخلافة والدولة والادارات الاسلامية المتعاقبة.
 والاكثر دقة، انه صار لكل فريق طائفي لغته وايماءاته وتاويلاته وادبه الفقهي–السياسي . يتجه بك من العام المتفق عليه(او هكذا يبدو) الى الخاص المختلف فيه (وهو المهم) لكن عبر انشاءات شديدة التعرج، لنكتشف في النهاية ان (العام) الديني لم يكن عاما، بل ديباجة افتتاحية لحشوة (الخاص) الطائفي الاستئصالي.
اللغة الطائفية ليس سوى جملة تتخذ من الدين رداء (أو هوية) لها.. جملة متكلفة البناء، مشوّهة العرض، متضاربة الترجيع والتنصيص. الاخر بالنسبة  لفريق طائفي  موضع اتهام بالخطل، وهو شخص ما، او جهة، لا يريدان الاعتراف بالحقائق المدعومة بالايات القرآنية الموثقة، وبالاحاديث المتفق عليها. والآخر، نفسه، قد يبدو (لفريق آخر) فكرة مشيدة على الضلال والبُدَع والانحراف والجهالة.
 قد تلجأ الجملة الطائفية الى تسفيه الاخر بواسطة تسفيه طريقة تفكيره، او طريقة التعبير عن قناعاته. تقول لنا: انظروا لهم كيف يجمعون حججهم من قمامات الكتب..او: كيف يتعاملون مع الدين المشترك.. انهم يسيئون له.
 في هذه الجملة لا يبدو الحق (في بعده الطائفي) إلا بوجه واحد، نهائي، شامخ، لا يطاله الشك، ولا يصمد امامه اعتراض، وهو هنا يساجل اضعف حجج الآخر لتدعيم منظوره الطائفي، وليس اقواها او اكثرها قربا للمنطق، ويعكف على ليّ المعاني لتتطابق مع مسطح التحريض السياسي.
الفقه في خدمة المشروع السياسي للطائفية، والسياسة في خدمة المشروع الطائفي للفقه. شيء من الفقه وشيء من السياسة في نسق طائفي. اما التاريخ فانه يبدأ في المساجلات تاريخا واحدا، مدرسيا، لجميع المسلمين لكن سرعان ما يفترق، على يد الجملة الطائفية، الى تاريخين (والدين الى دينين) يخطئ كل منهما الآخر، إذ تقوم هذه  الجملة بواجبها في انتاج البضاعة الطائفية، وفي تدعيم الحجج المتقابلة، من خلال مبان لا أركان لها، ومعان لا اوتاد فيها.
اللغة الطائفية، المعاصرة، بحاجة الى معاينة كيميائية، معرفية، معملية، استقصائية، فهي اخطر من الطائفية، نفسها.

****************
 
 

101
المنبر الحر / الموصل.. لغماً
« في: 17:42 12/03/2013  »

الموصل.. لغماً

عبدالمنعم الاعسم

 لا يصح النظر الى ما يحدث في الموصل على انه إفراز لصراعات جانبية تخوضها اطراف سياسية تتخذ من الطائفية ملاذا وشعارا وهوية لها. فهذا جزء من المشكلة التي تثيرها المواجهات في هذه المدينة، اما المكونات الاخرى من المشكلة فانها تتوزع على مساحة واسعة من التاريخ والخصوصيات القومية والثقافية والاجتماعية فضلا عن التركيبة القبلية الحساسة للمدينة.
 فهي المدينة الوحيدة من بين مدن العراق كانت، في خلال قيام الدولة العراقية المعاصرة في اواخر العقد الاول من القرن الماضي،  موضع جدل في حقيقة انتمائها الجغرافي الى النسيج الوطني العراقي، ومنذ ذلك الوقت شقت المدينة سبيلا مميزا في بناء حاضرها الثقافي والعمراني، يستمد قسماته من تجليات التنوع، حيث كانت مهداً للأشوريين ومحجا للبابليين ومركزا للآراميين سكنها الجرامقة القدماء واقترن اسم  نينوى بامبراطورية الآشوريين في حين سقطت عام 612 قبل الميلاد على ايدي الكلدانيين والميديين فاتجهت الهجرات صوب تل قليعات بالموصل على الطرف الايمن من دجلة،  ثم سيطر الفرس الأخمينيون على المنطقة بعد القضاء على الأمبراطورية الكلدانية عام ( 537 قبل الميلاد) وشجع كورش العرب والفرس علي السكني في هذه المنطقة لما تمثله من أهمية استراتيجية أمام الأغريق وصارت الموصل المعاصرة مدينة ذات شأن بسبب التنوع القومي والديني لسكانها، من عرب وكرد وتركمان وسريان وكلدان وآثوريين وارمن ، سنة وشيعة وايزيدية وشبك ويهود، ويشهد علي هذا الأمر وجود المئات من المآذن الاسلامية وعشرات من الأديرة والكنائس والمزاراتلاتباع الديانات والأقليات.
 ان محاولات تكييف احوال المدينة لتكون حاضرة مسجلة في مشروع سياسي لفريق من الفرقاء المتصارعين اصطدمت دائما بجدار من الاستحالة، وانتهت تلك المحاولات، في الغالب، الى حروب محلية كارثية، لكن سرعان ما يعود ميزان القوى الى حالته الاولى، والى حقيقته الصلدة: لايمكن للمدينة ان تدار إلا من خلال تعايش جميع المكونات ووسطية الحكم، وشاءت هذه الحقيقة ان تعيد نفسها هذه الايام وسط محاولات لتحريك معادلات التوازن عن وسطيتها واخذها رهينة  في مشروع واحدي الى حافة حرب اهلية جديدة.. كارثية بكل المعاني.
والدرس نفسه يبقى ماثلا: الموصل لن تبقى موصلا من دون هذا التنوع.

 على ان السؤال الذي تطرحه احداث الموصل الاخيره هو: من اين انطلقت شرارة الازمة؟ والجواب بسيط جدا: من محاولات فرض نمط معين من الادارة عليها،  والامعان في ايذاء مشاعر ومصالح المكونات، وغياب حكمة التوافق على الحد الادنى من المشتركات السياسية بين تلك صناع السياسة، وعدم مراعاة خصوصيات المدينة وحساسية اوضاعها من قبل بغداد والاغلبية الحاكمة.
 لكن، وعلى الرغم من ان هذا الجواب عمومي، وقد يتجه بالاتهام الى اكثر من جهة، علينا ان نتتبع محركات الاحداث في هذه المدينة من مرحلة ما قبل سقوط الدكتاتورية، حيث اخضعت الموصل الى مشيئة الحزب الحاكم وصارت احدى اهم مصادر شبكاته الضاربة، وانتج ذلك كتلة من المدنيين والعسكريين، من الاغلبية العربية، وبعض المتحدرين من مكونات اخرى، اندمجت بمصائر النظام ودافعت عنه بشراسة متناهية، والنتيجة ان تعرضت المدينة الى نوع من العقاب والتهميش، كرد فعل، أدى بالمقابل الى رد فعل محلي، انكفائي، وفي خلال سلسلة من الافعال وردود الافعال، انحشرت الموصل في برميل آيل للانفجار في اية لحظة فيما أذكت الجماعات المسلحة، من عصابات القاعدة وفلول النظام السابق، شرارة الكراهيات بالحرب التي اعلنتها ضد الكرد والمسيحيين والشيعة والايزيديين والحياة المدنية عموما، ونظمت مذابح واجلاءات ضد هذه المكونات، وخلقت معادلات امنية وسايكولوجية واجتماعية خطيرة.
 لقد تأخرت اعتصامات الموصل عنها في مناطق غرب العراق، ولم تندلع إلا حين برز دور التيار المتطرف في اعتصامات الفلوجة وصلاح الدين وبعض فعاليات الانبار، وقد لاقت شعارات التجييش و"إسقاط الدستور والنظام" صدى واسعا في الموصل الامر الذي تلقفته الجماعات "الجهادية المسلحة" ونزلت بها الى الشوارع، لا لعرض مطالب السكان المشروعة في الخدمات وتأمين فرص العمل للعاطلين وانهاء التمييز والاجراءات الامنية التنكيلية، بل اتجهت الى دعوات الانتقام وطبول الحرب وشعارات النظام الصدامي، قابلتها القوات الحكومية باجراءات تتسم بالتخبط وانعدام التحسب لاستخدام القوة المفرطة، فضلا عن العمليات العسكرية الحدودية الانفعالية التي سجلت نفسها لصالح فريق الحكم في الحرب الاهلية السورية، حيث القى هذا الموقف بظلاله القاتمة على الوضع في الموصل.
/الكثير من المؤشرات تكشف ان الموصل سقطت في اسر التحالف المتطرف "اللاسلمي" الذي يتكون من القاعدة وبعثيي صدام حسين، وهي تخوض معركة معقدة للخروج من هذا الاسر، فلا بغداد تساعدها في احتواء مخاطر اللغم، ولا الحكومة المحلية تنهض بواجب ضبط المعادلة السياسية – الامنية بما يمنع انفجار اللغم.. تلك هي المشكلة.
*******   
" إياك وكثرة الاعتذار، فإن الكذب كثيراً ما يُخالط المعاذير".
  لقمان الحكيم 

 




102

المنقذ.. كذبة قيد التداول

عبدالمنعم الاعسم

 كذبة رائجة بدأت تنتشر مبكرا في الساحة الانتخابية: “واحد ينقذ العراق.. لا غيره” يقال انها جاءتنا من الخارج على هيئة نصيحة، ويقال انها طبخت في غرف مظلمة، ويقال ان المنقذ نفسه صدق الكذبة مثلما صدق اشعب كذبته يوم قال للاولاد ان ثمة وليمة باذخة في منعطف اقصى البيوت، وحين هرعوا الى صوب الوليمة المزعومة ركض وراءهم وهو يردد: ربما الامر صحيحا فانال وجبة دسمة.
 الجدل الدائرحول من ينقذ العراق من الهاوية ينزلق شيئا فشيئا الى التقليل من شأن وجدوى وضرورة وشرط مبدأ الشراكة، والحاجة الى العقول الجمعية، كما يتجاوز حقيقة ان مشاكل العراق الكبيرة اكبر من ان يستوعبها عقل لوحده، أو ارادة شخص واحد، ويلاحظ من بعض التصريحات المراهِقة والكتابات المدّاحة والاعلانات التلفزيونية الفاقعة ترويجٌ متصاعد لخرافة ان هذا المرشح او ذاك هو "المنقذ" الذي سيأتي بالحلول، وبالامن والكهرباء وراحة البال، لأنه الوحيد الذي يعرف فوق ما يعرفه الاخرون، ويعمل ما لا يستطيع ان يعمله غيره، ويخطط ما لم يكتشفه احد من المخططين والاستراتيجيين من الخطط، وانه الذي سوف يجترح المعجزات، و"يمشي فوق الماء".. ولخرافة المشي فوق الماء قصة نأتيها في خاتمة المقال.
 المشكلة، ان الذين جربناهم، والذين لم نجربهم، جاءتهم الفرص المواتية لكي يكونوا منقذين حقا فاخفقوا في ان يكونوا كذلك، ولنقل(للموضوعية) انهم قدموا (على نحو متفاوت) بعض الاعمال والمنجزات والمبادرات بالحدود التي اتاحتها طاقاتهم المحدودة وامكانياتهم وتجاربهم الذاتية، وبالقدر الذي سمحت بها ظروف العراق، مقابل اخفاقات وخطايا وعثرات وتخبطات نجني كوارثها وثمارها المرة على مدار الساعة.
 اما حكاية المشي فوق الماء، فقد جاء رجل من مريدي الصوفي سهل التشتري المتوفى عام 886 ميلادية وقال له: ان الناس يقولون ان بمقدورك ان تمشي فوق الماء، فكان رد سهل بان طلب منه الذهاب الى مؤذن في المدينة معروف بصدقه كي يسأله عن الامر، وحين ذهب المريد الى المؤذن تلقى الجواب الشافي منه إذ قال له: انا لا اعلم إن كان شيخنا سهل يمشي على الماء، ام لا، لكن ما اعلمه هو ان الشيخ الجليل حين قصد حوض الماء ذات يوم بغية الوضوء سقط فيه وكاد ان يموت غرقا لو لم اسارع الى نجدته وانقاذه.


103

جولة المالكي.. بموضوعية

عبدالمنعم الاعسم
 كل جولات رئيس الوزراء نوري المالكي في المحافظات تثير عاصفة من الاعتراضات والشكوك والتعليقات، ثم، وفي كل مرة، يظهر معسكران، واحد يدافع ويبرر، وآخر يهاجم ويتشكك، كما يظهر، في المقابل، متفرجون يديرون وجوههم بين هذا وذاك، فلا يقبلون ولا يرفضون.. وهم بالملايين.
 زيارة البصرة منذ ايام، وما إنْ حط المالكي رجليه على ترابها، انفتحت صالات البرلمان واعمدة الصحف والشاشات الملونة على تعليقات و "اعتقد.. ولا اعتقد.." وقد كان صوت معارضيها والمرتابين في اهدافها هو الاعلى من بين جميع الاصوات، حتى ان المراقب المحايد، بدأ يتساءل (ربما عن موضوعية باردة) هل ثمة ما يمنع ان يقوم رئيس حكومة (اية حكومة) بزيارة المدن التي تقع تحت مسؤوليته وتتبع ادارته؟ واليس من واجب المالكي، مثل كل رؤساء الحكومات، ان يتفقد احوال المدن والمناطق واللقاء بمواطنيها والتعرف على مشاكلها او افتتاح مشاريعها؟ بل، اليس من حق المالكي (وأي رئيس حكومة) ان يدافع عن سياسة و"منجزات" حكومته عبر وسائل الاعلام، او من خلال الاتصال بالجمهور، اعني،  اليس من حقه ان يعمل دعاية لادارته وولايته، طالما لا يزال في منصبه؟.
 اقول، ان هذه الاسئلة موضوعية، وإن اتسمت بالبرودة، واضيف لها السؤال التالي الاكثر اهمية بحسب رأيي: لماذا لم ينتظر المعارضون نتائج الزيارة وحصيلتها في ما يتعلق بشؤون احوال المنطقة، وردود افعال الجمهور حيالها قبل ان يستبقوها بتلك التعليقات الاعتراضية النارية؟ وهو الامر الذي قد يعزز اعتراضاتهم ويعطيها مصداقية ويجنبها شبهة الكيد والخلط بين الموضوعات والملفات والمواقف.
 بوجيز الكلام، كانت زيارة المالكي الى البصرة ولقاء محافظي الوسط والجنوب، مبررة بحدود مسؤوليته الدستورية، وبمنطق الواجب الرسمي عليه.. لكن المشكلة.. ان رئيس الوزراء نفسه لم يُبق هذه الزيارة في حدود تحريك عمليات البناء وشحذ العمل الاداري وحل المشلات التي يعاني منها الملايين من سكان الوسط والجنوب، بل انه أدخل عليها، ومنها، رسائل خلافية تدخل في صلب الدوامة السياسية التي تعصف بالبلاد.. الامر الذي سهّل لمعارضيه القول ان الزيارة مكرسة للدعاية الانتخابية، واضطر حلفاءه في الاكثرية البرلمانية ان يتركوه لوحده في مواجهة الحملة التشكيكية المضادة، بل ويسربون انتقادات للزيارة، وبعضهم اطلقوا عليها النار.
 اما نتائج هذه الزيارة ذات الصلة بملفات الخدمات والمشاريع والامن والفساد، فقد ضاعت تحت نيرانٍ معارِضة.. ونيران صديقة.
******** 
" كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوعاً من الجبنة؟" 
شارل ديغول 


104
الطائفية..
هل تكافحها الشرطة؟

 رئيس الوزراء محق في تحذيره من تداعيات "الكلام بالطائفية" وخطورة انخراط "جهات سياسية" في التأجيج الطائفي، بل انها مسؤوليته، قُدما، حتى استخدام "الردع" لوقف الاستطرادات والشعارات والخطب التي تؤجج الحساسيات الطائفية، واحسب ان هذا الموقف السليم يثير جملة من الاشكاليات، يمكن إجمالها بالآتي:
 اولا: ان الطائفية لا تُستأصل بالشرطة والقضاء، إلا في ما يتعلق بالمخالفات الجنائية المشار لها بالقانون، مثل إجبار السكان على تغيير منازلهم، او التمييز بالتعيين في الوظائف، او التعدي على حق الانتماء للطائفة والمذهب.. وما سواها. انها تحارب قبل كل شئ عن طريق الارادة (والادارة) التي تضع مصدات صارمة للطائفية لكي لا تدخل في شعاب السياسة والصراعات السياسية، وبواسطة الاعلام الهادف والموضوعي والاحترافي، وايضا، من قبل مراجع الطائفة ودعاتها، وهي تحارب بواسطة مناهج التعليم واروقة الجامعات والمدارس، وفي اطار برنامج حكومي واضح ومتوازن يقوم على فروض الادماج وحقوق المواطنة، وهي تحارب (بالاضافة الى ذلك ) من قبل اشخص غير طائفيين.
 ثانيا: ان الجيش ومحافل القضاء العراقي، في ظل الاستقطاب الطائفي وما نتج عن هذا الاستقطاب من صراعات  وهياكل وحروب و"ثقافة" ليس بعيدا عن ممارسة الطائفية، أو عن الترويج لها، وهناك الكثير من الحقائق (إذا ما شئنا الصراحة) عن البعد الطائفي في تشكيل الملاكات الامنية والقضائية، وهي مصدر شكوى اتباع الطوائف الاخرى، وقد يقال بان هذه التشكيلات خاضت معارك ضارية ضد مليشيات الطائفة التي تنتمي لها، وهذا صحيح جزئيا، لكن الصحيح كله ان تلك المعارك كانت سياسية في المقام الاول، اي بين اتجاهات سياسية في داخل الطائفة.
 ثالثا، ان الخطاب (والكلام) الطائفي الذي حذر منه رئيس الوزراء، عن حق، تمرّس في وظيفة الاثارة، وكوّن معابر مخاتلة الى الجمهور، ولغة دينية وفقهية وسياسية غاية في التمويه والغل والمناورة، واساليب (فقهية) ملتوية في الاستعارة والتضمين والتفسير والشرح والتعليق والاعتراض، وهو في وظيفته هذه يجسد مقولة "كلام حق اريد به باطل" اوضح تجسيد، وكل ذلك يمارسه متشددو الطائفتين من دعاة وساسة بابداع ومهارة، بحيث يصبح احيانا "كلمة سر" لا يعرفها غير الاتباع، ولا يمكن رصدها بالمجسات التقليدية، او بمراقبات الشرطة او عيون المحققين، حتى وإن كانت تبيح إهدار الدم وتتبنى الاستئصال الطائفي، وتحضّ على التجييش واعمال الذبح.
 على ان اكثر المخاطر التي تترتب على الخطاب الطائفي  تأتي من الساسة الذين عملوا، ويعملون، على ركوب الموجة الطائفية وصولا الى البرلمان والسلطة.. والى إذلالنا في نهاية المطاف.  
*****  
" واجب الحكومة تجاه الدين ينبغي أن يقتصر على حماية رجاله المؤمنين به، ولست أعرف عملا آخر للحكومة في هذا السبيل".
توماس بين
صحفي ومصلح ومخترع إنجليزي



105
اعتدال في معسكر الانبار

عبدالمنعم الاعسم
 شأن اي حراك اجتماعي فقد ظهرت على سطح الاحداث العاصفة في محافظة الانبار مخاضات اعتدال تتجه الى ترشيد الشعارات والمطالب ووضعها في السياق الدستوري وحمايتها من لغة العنف ونزعات الانتقام والطائفية، وقد حمل الاسبوع الماضي مؤشرات مشجعة للقول ان المخاوف من انزلاق الاحتجاجات الى مشروع للانقلاب على التغيير ووكالة لدول مجاورة بدأت تنحسر.. اقول بدأت.
 ففي وقت واحد ظهر خطباء وشبان مثقفين ووجهاء يتحدثون بلغة مغايرة تؤكد على جدوى وضع الاحتجاجات في سياق بناء يغلق الطريق على التنظيمات المسلحة وفلول النظام السابق وجيوب الطائفية، وذهب احد المتحدثين الى الدعوة لمراجعة مضامين هذا الحراك على خلفية  النتائج التي تحققت حتى الان، والامر اللافت، انه تحدث عن مخاضات وصعوبات لتصويت العملية الاجتماعية للاحتجاجات لكنه كشف عن تزايد قاعدة الشرائح المعتدلة، او الداعية الى الاعتدال.
 ان الدعوة الى الاعتدال في الحكم والتفكير تمليها فروض الحاجة الى عبور المرحلة الدموية  العاصفة  التي انقذفنا اليها ودفعنا عن ذلك طوابير من الضحايا وسلسلة من الاهوال واعمال القتل والاختطاف والتخريب، في وقت صار قادة السياسة يغذون الفتنة الداخلية بزيت الكراهية الطائفية او القومية، ويثيرون الشكوك في جدوى التسامح.
يكفينا ان نمعن النظر في المصادر اللغوية للاعتدال بوصفه فضيلة حماية التنوع والاختلاف فكلمة "العدل" تعني: "تقويم السهم" وفعل "عَدّلَ" معناه "جعل الشئ موزونا" والعدل في قواميس اللغة "ضد الجور والظلم"  و"العدل" غير "الانعدال"  فالاول معناه "النظير. المثيل" والثاني بمعنى "الانحراف عن الطريق".
والغريب في اشتقاقات اللغة ان "العادل" تاتي احيانا بمعنى الظالم، وينقل الرازي في (مختار الصحاح) بهذا الصدد قول امرأة للحجاج تشتمه: "انك لقاسط عادل".. وربما لهذا السبب، يغرم غلاة الطغاة ومهندسو التطرف  والارهاب وزعماء الجريمة المنظمة بصفة العادل فيطلقونه على انفسهم وعلى غلاظ القلوب من اتباعهم، ولهذا السبب ايضا، كما يبدو، تعين الجماعات الارهابية جلادين دمويين بوظيفة(العادل) الذي يشرف على ذبح الضحايا "على الطرقة الاسلامية". 
 هذا الاستطراد مهم حين يتعلق الامر بالنظر الى خطايا التطرف في حياتنا.. التطرف الذي ما زال يعبر عن نفسه في تشكيل جيوش دينية طائفية استئصالية في زمن وضع التاريخ الحروب الدينية في خانة الكوارث.


106
المنبر الحر / تهميش السنة العرب
« في: 00:36 16/02/2013  »
تهميش السنة العرب 

عبدالمنعم الاعسم
لا أحب الكتابة بمنطق.."كنتُ قد قلتُ يوما وقد صحّ ما قلت" ولا بطريقة "هذا ما ذكرته قبل عام ولم ينتبه له أحد".
اقول، لا احب مثل هذه الكتابات والاقوال، لكني هذه المرة ارتكبها, بحذر، وبكفاية من التوثيق، وما له صلة بقضية حساسة لا يكتب فيها الكثيرون، مع انهم يعرفونها جيدا..
للكلام زمن محدد هو 22/11/2012 اي قبل أقل من ثلاثة اشهر، والمكان مدينة السليمانية، والمناسبة هي مؤتمر للدفاع عن اتباع الديانات والطوائف العراقية، والشهود مائة وخمسون من المشاركين في المؤتمر.. والمتحدث هو كاتب هذه السطور.. وهذا ما جرى بالضبط.
كان صديقي الاعلامي جورج منصور يدير الجلسة، فطلبتُ الحديث من ضمن من طلبوا، وقبل ان اتحدث ذكـّرني بالوقت المسموح "لك دقيقتان فقط" قلت: لديّ قضية حساسة. رد: "دقيقتان فقط" فقبلت على مضض، وقلت: "حسنا" ثم اوجزت في الكلام قدر ما املك من موهبة في الايجاز، لأقول "انكم تحدثتم عن جميع الاديان والطوائف التي تعاني من تضييقات وتشعر بالقلق على حقوقها وعباداتها، لكنكم لم تتوقفوا عند اتباع طائفة السنة العرب التي تشعر بالتهميش والضغوط، واظن اننا مقبلون على انفجار ازمة طائفية تتراكم عناصرها بسرعة مخيفة إن لم تتدارك الدولة هذا الخطر..وهناك حقائق على السطح، إذا لم يتجرأ الساسة على طرحها فان هذا المؤتمر معنيّ بالتوقف عندها وعدم إغفالها، واليكم بعض مؤشرات هذه الازمة.. هنا جاءني صوت مدير الجلسة.. "انتهى وقتك استاذ.. متأسفين.. شكرا".
 وما لم يتسن لي الوقت لاقوله آنذاك هو: ان شعور مكوّن عراقي بالظلم والتهميش يستمد مصادره من قناتين، الاولى، سياسات الدولة واجراءات الحكومة لجهة التطبيق الكيفي للقوانين، والثانية، الدور الذي يلعبه سياسيو المكون الطائفي في تأجيج وتأطير هذه المشاعر.. ولكن، بعيدا عن تأثير هاتين القناتين، ينبغي ان ننظر الى الحقائق التي تتصل بشعور (او هواجس) ملايين من السنة العرب انهم مواطنون من الدرجة الثانية، وخطورة هذه المشاعر، سواء كانت مبررة او غير مبررة، بل والحاجة الى التعامل معها بحذر وحكمة، وتحاشي اتخاذ اجراءات تفاقم هذه المشاعر، وتضعها في تصادم مع المكوّن الآخر.
 وما لم اقل ايضا بان "حافات" سياسية ودعوية (محدودة لكنها مؤثرة) لها مصلحة في تسويق فكرة القطيعة (والتقاتل) بين المكونين الطائفيين وتحقيق الطلاق بينهما.. حافات منها تنظر الى الحكم باعتباره ملكا بالطابو لها.. واخرى تنظر اليه باعتباره وديعة ينبغي استردادها.
 اقول حافات.. اما الملايين، ونحن منها، فحالها حال المغلوب على امره، حتى  يستعيد أمره.
**********
" علامة العقل المتعلم هو قدرته على تداول الفكرة دون أن يتقبلها".
ارسطو



107
المنبر الحر / بلد المفاجآت
« في: 21:34 20/01/2013  »

بلد المفاجآت

عبدالمنعم الاعسم

عراق المفاجآت شاء ان يُنبت هاجس المفاجأة في دواخل كل مواطن من مواطنيه، فنسمع دائما من يقول بعفوية "لا ندري ماذا يحدث غدا" أو "لا استطيع ان اتعهد بالتزام انفذه بعد اسبوع .. فما ادراك ما يحدث آنذاك؟" او من يقول لك "خذ ما يتوفر في متناول يديك الآن فقد يستحيل عليك الحصول عليه في وقت آخر" أو "انها فرصة لك.. إقتنصها..فانت في العراق بلد مضيعة الفرص".
 اما التاريخ، فلا شأن به للعراقي الذي يعيش هذه الاحداث العجيبة والتحولات الغريبة بالاقدار، والسياسات، والمصائر، وقد لا تهمه دروس التاريخ اصلا، إلا في حدود مناكدة خصمه السياسي، وكأنه يعرف ويؤمن بما كان  يقوله فولتير من ان التاريخ هو الكذبة المتفق عليها من الجميع.. وقد لا تتفاجأ من العراقي المتعلم، بخاصة، ان يقول لك "عمي، يا تاريخ، دعنا من هذه القوانة" او يقول لك آخر متحذلقا: "يمعود.. لو التاريخ صحيح ما كانوا علموه لنا في المدارس بالعصا" وينقل لك عن سقراط قوله "الصحيح لا يحتاج الى الهراوة لكي تتمثله".
 والغريب ان العراقيين صدروا هاجس المفاجأة الى العالم، فقد كتب صحفي لـ  "بي بي سي" غداة انتخابات 2010 يقول عندما خرج العراقيون من هذه الانتخابات لم يتركوا للعالم فرصة لتحليل النتائج، فسرعان ما فاجأونا انهم ينظرون الى الانتخابات خلاف ما ننظر اليها.. فتركوا النتائج لنا لندوخ بها وراحوا الى الكواليس ليلتفوا عليها ويخرجون لنا بحكومة جديدة، لكن بعد 248 يوما من التصويت واعلان النتائج التي لم يصادقوا على شرعيتها إلا بعد 90 يوما.
 والاغرب ان بعض نشطاءالانتخابات والسجالات الساخنة على الشاشات الملونة من اصحاب شعار اقامة الدولة الدينية في العراق فاجأوا المراقبين، بعد حماستهم للتنافس الانتخابي وتحشيد الاتباع والموالين والمصلين، انهم تحولوا الى التجييش من اجل "حماية الدين المهدد بالضياع" ولسان حالهم يقول:
 عمود الدين لا يقوى بتصويتٍ وتخذيلِ.........
                      /فغير السيف لا يجدي يميناً فتية الجيلِ
 ويبدو ان معدة العراقيين صارت تهضم هذا الحجر القاسي الذي "حطّ من علِ".. وإلا كيف يمكن لشعب ان يتحمل هذه الطبخة النيئة والفاسدة التي تجري امامه، الآن، وبالحشوة الطائفية المسلحة، لو لم تكن معدته من الكونكريت المسلح؟.
 اليست هي مصادفة اخرى؟.
***
"ان الانسان اختراع حديث العهد".
فوكو



108

قانون العفو العام..
تحفظات

العفو العام إجراء سياسي، قبل ان يكون اجراء قانونيا، لجهة ترسيخ السلام الاهلي على قاعدة طي صفحات الماضي وتحقيق اركان العدالة الانتقالية، وبناء مقدمات دولة المواطنة، وهو الى ذلك عقد اعتباري وحقوقي بين الاطراف المعنية به: السلطة والضحايا والجلادين والموالين والمعارضين والفئات السكانية والاجتماعية على حد سواء.
تجارب العفو العام في العالم مختلفة، لكنها جميعا، تتحقق في حال واحدة هي وجود ارادة لتصويب وترشيد البيئة السياسية واحتواء الصراعات السياسية وانهاء اجواء الاحتراب.. هذا ما حدث في جنوب افريقيا والارجنتين (نموذجان جديران بالدراسة) والكثير من الدول التي خرجت من دوامة النزاعات الداخلية واتجهت الى اعادة البناء وتأمين الثقة ومد الجسور بين مكوناتها وفئاتها السياسية والدينية والاجتماعية المتقاتلة او المتنافرة.
 في بعض الدول المستبدة تعلن السلطات عفوا عاما مغشوشا بهدف خداع العالم والراي العام لتجهيز انطباع انها تغير من نهجها وتتجه الى نظام العدالة والرحمة والواقعية وإنهاء التنكيل بالمعارضين، وبعضها تعلن العفو العام كفخ لمناهضيها للايقاع ببعض المطلوبين منهم او لشق صفوف المعارضة وإضعافها، او التعامل مع المشمولين بالعفو كمذنبين عادوا الى الطاعة، وكل هذه البروفات جربها النظام السابق في العراق حتى صار يصدر العفو العام كلما شعر ان سمعته تتدهور اكثر فاكثر..
 وبمعنى ما فان العفو العام ينبغي (لكي يكون راسخا وقابلا للتطبيق والنجاح) ان يكون مسبوقا بارادة ونيات وتشريعات تاريخية تكون قد سجلت نهاية مرحلة مضطربة ومتوترة وعدوانية وبداية مرحلة  اخرى من الشراكة والصفح والبناء والسلام الاهلي والتداول السلمي للسلطة.
 االعراق، الان، احوج ما يكون الى عفو عام، لكن السؤال الاعتراضي الذي يثير اسئلة تفصيلية هو هل سيضمن قانون العفو العام قيد المناقشة في مجلس النواب الانتقال الى مسار جدديد في الحياة السياسية؟ وهل فعلا ستنتهي اعمال العنف، وتتحول الجماعات المسلحة الى تنظيمات مدنية للبناء والشراكة؟ وهل سيخرج المذنبون من السجون الى مزارع ومواقع العمل والحياة الطبيعية؟ ثم، هل ان اصحاب قانون العفو سيقولون ما كان يقوله نلسون مانديلا: علينا نحن الضحايا ان نتعلم ثقافة العفو قبل غيرنا.
***
"لا تنتهي جميع الفرضيات الى الهندسة".
اقليدس


109
لماذا نكتب في السياسة..
بل لماذا نكتب اصلا؟

عبدالمنعم الاعسم
 
هذا السؤال ، كما ترون مركّب، وإشكالي، وله ما يبرره، ومطروح على سطح اهتمامات العصر والكتاب والدراسات المختلفة، فقد اصبحت الكتابة في السياسة مشكلة بحد ذاتها، لانها، من جانب، دخلت في متطلبات السياسة، وشرطها لتزييت ماكنة المصالح حتى في ابشع تطبيقاتها، ومن جهة اخرى، اصبحت مسؤولية لا فكاك منها بالنسبة للكاتب، واداة خطيرة يستخدمها لتصويب مجرى الاحداث ودحر الاغاليط، او خلاصا له مما يحيطه من اسئلة، أو وقاية مما يداهمه من اخطار، او حلّا لاشكاليات التعامل مع الواقع في وقت يزداد هذا الواقع تعقيدا واحتقانا.
عندما حُرمت فيرجينا وولف من الكتابة واجبرت على العودة إلى مصحة الأمراض العقلية بدعوى عدم انسجامها مع المجتمع الذي كان يلزم عقل المرأة بالمشغولية النمطية في مسائل الإنجاب وتدبير المنزل، لم تجد بدًا من الانتحار. فقد جربت دون جدوى تحدي الحرمان من الكتابة، ولم تعد قادرة على مجرد التفكير بالعودة إلى المكان الذي سيسلبها حريتها في ممارسة حرفتها الوحيدة.
وقبل عقدين من السنين فاجأني رجل الامن البريطاني وهو يسجل طلبي للجوء الى المملكة المتحدة، بالسؤال: اذا كانت مشكلتك مع صدام حسين هي الكتابة، وهي مصدر عيشك، فلماذا لم تفكر في تغيير هذه الحرفة الى حرفة اقل خطرا وابعد عن يد الملاحقة؟ فلم اجد جوابا جاهزا للرد، واتذكر اني اجبته بما لم يكن مقنعا، ولهذا فانه وضع امام طلبي علامة استفهام كانت السبب في تعليق حالتي لفترة اطول من فروض الموافقة على طلب اللجوء، لكن المهم، هو انني وبعد اكثر من عقد من السنين، التقيت محاميا متخصصا ليخبرني ان سؤال رجل الامن كان يتعارض مع حقوق الانسان، لان الكتابة مسؤولية، ورجل الامن البريطاني كان يقلل من شأن هذه المسؤولية، بل يعطي للدكتاتورية مبررا في التنكيل بالكتاب الاحرار.
الكاتب البريطاني الشهير “سومرست موم” في كتابه (الخلاصة) يتحدث عن تكاليف الكتابة في زمن المسؤولية التي تحولت الى معنى التضحية من اجل قيم الحياة، وسجل “لقد وجدت نفسي على صفحات الورق، فمن يستطيع ان يرفعني عنها”
وسئل الأديب والكاتب أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل في الآداب هذا السؤال: لماذا تكتب؟ فقال: أكتب لأنني غاضب منكم جميعا.. أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها”.
اقول: نكتب، لان الكتابة لا تزني.. ونكتب في السياسة، لأنها تزني احيانا.
 
****
" من الصعوبة أن تحرّر السذّج من الأغلال التي يبجّلونها".
فولتير

110
المنبر الحر / ما الذي يحدث؟
« في: 14:27 29/12/2012  »


ما الذي يحدث؟

عبد المنعم الاعسم   
 
ما نستمع اليه من توصيفات للأزمة السياسية الجديدة (حمايات العيساوي) على لسان اطرافها، لا تعدو عن انصاف حقائق وإن اَجمَعتْ، اذا ما اعدنا تركيبها على نحو موضوعي، على اسباب تتعلق بعلل ادارة الدولة واللجوء الى الشجن الطائفي وعيب المحاصصة والاستفراد بالقرار والتعدي على استقلال القضاء ودعم الارهاب.
بين ايدينا بيان اطلقه مكتب رئيس الوزراء  بصدد اعتقال حمايات وزير المالية وخطاب القاه الوزير امام تظاهرة الفلوجة الغاضبة، يحاول كل منهما أن يبرئ نفسه مما تمر به البلاد من احتقان سياسي وطائفي، ويلقي بها على الاخر،  ولا يخلوان (البيان والخطاب) من عبارات الوطنية والغيرة على مصالح البلاد ولحمة الشعب، وشتم الفتنة، والتزام الحوار واحترام القانون، كما لا يخلوان من لغة التهديد والوعيد ضد بعضهما ، والايحاء بلا جدوى الشراكة بينهما.
وبين البيان والخطاب بيانات وتصريحات عدة عاينت الازمة من زوايا مختلفة، فقد شدد الصدريون على مسؤولية رئيس الوزراء واتهامه بالدكتاتورية، وحذر التحالف الكردستاني من الفتنة الطائفية ودعا الى التخلي عن سياسات الاستفراد بالقرار السياسي، لكن بيانا للاكثرية الحاكمة (الائتلاف الوطني) كان الاكثر اضطرابا ومدعاة للتأمل، فقد مشى بجوار بيان رئيس الوزراء باثارة الشكوك في سلامة نيات معسكر العيساوي، وجدد تمسكه بالمالكي لكنه افترق عنه في جملة ناعمة لا تخلو من دلالة، وذلك بالدعوة الى “عدم التفرد في أي قرار يتعلق بإدارة الدولة العراقية والشؤون السيادية، انطلاقا من حماية المصالح الوطنية والعمل بمبدأ التوافق الوطني وتحكيم الدستور في حل الإشكاليات القائمة” وهي عبارة تُقرأ كنصيحة موجهة الى رئيس الوزراء بوجوب الادارة الجمعية التوافقية لشؤون الدولة الحساسة.
الحقيقة التي لا يمكن اخفاؤها في هذا السجال ان للازمة حساب في ملف الانتخابات الذي يطرق الابواب، وان الاطراف الفاعلة في المعسكرين تسعى الى اختطاف اصوات الجمهور من اتباع هذه الطائفة او تلك وتوظيفه في اللعبة البرلمانية حتى لو ادى ذلك الى تدمير ما تبقى من اركان الدولة ووحدة مواطنيها، فثمة تكتل يروج لطائفته ان فرصتها للحكم مهددة من الطائفة الاخرى وزعاماتها السياسية، وان عليها شحذ الالتفاف حوله والتصويت له والمراهنة عليه، فيما التكتل الثاني يجهّز للطائفة الاخرى شعورا بالمهانة وضياع السلطة والدولة من بين يديها، وان رأسها مطلوب وشريكها يتمدد خارج ساحته، والحل بتوحيد الصف حول المشروع السياسي  الاعتراضي للتكتل.
المنطق يقول انه من نقطة التماس بين المشروعين تندلع شرارة الفتنة والمواجهة والحرب، لكن ليس كل الاشياء تمضي في انبوب المنطق، فثمة الى جانب ذلك ما يسميه علم السياسية حساب الربح والخسارة.. فالمواجهة تعني الكارثة، والكارثة، كما نعرف ويعرف الطرفان ايضا، عمياء لا تعرف، حين تحلّ، مَن كان على حق، ومَن كان على باطل.. وبين الحق والباطل شعرة واحدة واكاذيب كثيرة.
 ***
"من لم يحمدك على حسن النية لم يشكرك على جميل الفعل".
المأمون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


111


مام جلال..
لم نكمل الحديث.. بعد

عبد المنعم الاعسم  
 
حمّلنا قلبكَ فوق ما يستقوي، وحمّلنا عصاكَ فوق ما تحتمل، والقينا عليهما ظنونا ومخاصمات عمرها عمر الخارطة التي نقيم، فيما نحن ندور حول ذواتنا، ونمسك بتلابيب بعضنا، ونقف معجبين عند آخر شتيمة صريحة قالها فينا التاريخ: امة الشقاق والنفاق.
 نقف طويلا، لا نتقدم ولا خطوة واحدة مخافة ان نسقط من علوّ شاهق الى قاع من الزفت، تلك هي حقيقتنا العذراء، العلقم.     
في هذه اللحظات، وانت بين رمشة حياة واغفاءة ابدية، اكتشفنا مأزقنا: يحاذينا من اليمين منحدر، وتحاذينا من اليسار هاوية. اما شركاؤك فانهم في غيّهم ماضون، وياما حذرتهم مما ينتظرهم من شؤم إن تمادوا في الهروب من الاسئلة التفصيلية وفروض العدالة.
نعرف انك بشر، لك ما لك وعليك ما عليك، ونعرف اننا لسنا ملائكة، ولسنا اول المتعلمين او المتحضرين كما كنا نوحي للاخرين في كراريسنا وشعاراتنا البالية.
الآن، وفي هذا المنعطف يسألنا المستقبل من انتم؟ والى اين ماضون؟ فنرد له جوابا من نشارة الخشب: لا نعرف.
هكذا القت بك التقاويم والاقدار في طريقنا، وهكذا شاءت اعوامك الثمانون ان تخوض المعركة المستحيلة لترشيد السياسات وتقريب وجهات النظر وتطويع حجر العنجهيات حتى آخر ما تملك من حَيْل وحكمة، وبين احشائك فضلة قليلة من العمر.. وانت بشر.. تحاول في كل مرة ان تلوذ بالطرفة، و”آخر نكتة” تصلك من افئدة المحتارين والغاضبين وابناء الحسجة، وانت تعرف ان لا مكان في المقام من هزل، ولا موضع في المقال من جد.. فالمقام والمقال يحتضران بيد لاعبي المرحلة، الماضون في رطاناتهم، في ما بين الجد والهزل.
لم يصدِقك إلا قليلون، اضطر بعضهم الى الصمت، يا للفجيعة.
كانت مشكلتكَ معنا نحن المحسوبون عليك، لا المحسوبين على غيرك.. لقد ارهقناك في ما نختصم، وما نريد، وفي ما نعاني.. وكان لنا الحق.. هكذا كنتَ تقول لنا، وتقول لهم، لكننا كنا نريد حصتنا منك. الست رئيسا لنا ولهم؟. تلك واحدة من التباساتنا معك، وواحدة من المهن التي برعتَ في توليف ابجدياتها، وواحدة من المسارات الخطرة التي قطعتَ وعورتها.
مساء الاثنين، عندما انتقلتَ من مهابة ادارة السياسة الى هيبة استطالة السرير، اوقعتَ الجميع في فضيحة، ربما لن يخرجوا منها قبل ان يهزموا انفسهم بانفسهم، بقطرة الحياء.. اين هي قطرة الحياء؟.
انهض مام جلال. لم نكمل الحديث..فسيذبحون بعضهم.
 ***
“اين هي شجرة الصندل التي تعطر الفأس التي تقطعها؟”.
  سعدي شيرازي




112
المنبر الحر / نائبة
« في: 22:47 12/12/2012  »
نائبة

عبد المنعم الاعسم
 
 
 نائبة برلمانية اختصت منذ زمن باطلاق التصريحات عن الاخطار التي تحدق بالعراق من اقليم كردستان والكويت، وتحرض الحكومة عليهما، وتزايد عليها، مع انها في صف المعارضين  وفي قوام المعارضة. مرة قالت ان الحكومة متواطئة مع اولئك وهؤلاء، ومرة اخرى ظهرت تلوح بملف انتهاكات حدودية مسجلة على الكويت، وشوهد نفس الملف، مرة ثانية، وهي تقلبه وتتحدث تحت قبة البرلمان عن خروج اقليم كردستان على “الانضباط  الوطني”.
لم يرد عليها الكرد، عفة منهم حيال سيدة لها مكانة ما على مقاعد البرلمان، او تقديرا على انها تتشوق الى الرد منهم لتبيعه الى كتلة “ضامنة” على قاعدة رغيف ابيض لليوم الاسود. اما الكويتيون فقد اكتفوا بعمود صحفي هابط المستوى اساء لها ولنا نحن العراقيين، وقيل ان البضاعة الكلامية الكويتية هذه غير صالحة للتسويق لفساد في الطعم والرائحة، وقيل ان زملاء للنائبة زعلوا على استطراداتها إذ اشتمّوا فيها رائحة غير طيبة وبعضهم حشرها في تأويلات وروايات، والجميع متفقون على انها تسعى الى ضمان مقعد لها في القبة القادمة عن طريق اثارة معارك بعضها يثير الشفقة.
قال لي مثقف من المدينة التي انتخبت عنها السيدة النائبة ان ناخبيها نسوها منذ زمن بعيد، فلم يكن احد يعرف انها دافعت مرة (ولو بالخطأ)عن عائلة منكوبة، او تبنت تعيين احد العاطلين، او اعانت ارملة على مشاق الحياة، او قادت عابر سبيل ليصل الى مكان يقصده، او سهلت لحي من الاحياء الحصول على الخدمات، بل ان الوفود التي التقتها وتحملت عناء السفر من البلدة الى العاصمة عادت خائبة بعد ان سمعت من االنائبة كلاما “خارج الصدد” وتساءل هذا المثقف (الذي اكتب هذه الكلمة بطلب منه وبعد تردد مني) عن مسؤولية النائب الدستورية، هل هي اطلاق التصريحات وخوض معارك بالنيابة، ومشاجرة دول(وهي مسؤولية الجهات الدبلومسية الرسمية) ام هي الرقابة على عمل السلطات والسعي الى خدمة اولئك الذين انتخبوها الى البرلمان؟.
على انه قبل عام كانت السيدة النائبة (اكرر: السيدة النائبة) قد انصرفت الى مهاجمة “مؤامرة” ايرانية وجيوش تزحف نحو العراق، ثم ، فجأة اوقفت مدافعها الثقيلة على الجبهة الشرقية لتنقل البندقية من هذا الكتف الى كتف آخر، والتصويب من الشرق الى الشمال والجنوب..
السيدة النائبة، عالية نصيف تجرب ان تعبر نهر المعارضة بدون تكاليف كما عبرت نهر الاجتثاث من دون كلفة.. وآخ من لساني.
 ***
“كل الطرق الآسنة تؤدي الى المزبلة”.
زكريا تامر


113


لا.. يا رئيس الوزراء

عبدالمنعم الاعسم
الخصومة التي يخوضها رئيس الوزراء نوري المالكي مع (والاصح: ضد) شركائه الكرد في الحكم والعملية السياسية، وقبلهما في معارضة الدكتاتورية، محيرة، ومثيرة، وتفتقد الى عناصر الدراية والحكمة والتحسب للاخطار، وهي اكثر حيرة وتعقيدا وخطورة، في منحاها التصعيدي اليومي، وفي اللهجة المتوترة والحانقة والتعبوية التي جميعا تؤثث المسرح لمواجهة، أو “منازلة” مع المكون السياسي والقومي الكردي ربما تخرج عن الانضباط، ولتعيد الاذهان الى تقاويم الحروب الكارثية المسجلة باسم حكومات العراق الملكية والجمهورية والبعثية التي تساقطت تباعا وفي سجلها خطيئة القفز من فوق فروض الشراكة في الوطن، وخطأ استخدام القوة لفرض مشيئة المركز، الذي لم يكن إلا فردا في حقيقة الامر.
لكن الاكثر خطورة، في ادارة السيد المالكي للخصومة مع الشركاء الكرد، يتمثل في لجوئه الى لغة التهديد، في بيئة سياسية ملبدة بغيوم سوء الظن وانعدام الثقة وتحفز المشيئات الاقليمية، وفي وقت يقف المالكي وحيدا في هذه الزاوية إذا ما اخذنا بعين النظر معارضة اقرب حلفائه في التحالف الوطني (التيار الصدري. المجلس. المؤتمر الوطني..) لهذا المنهج فضلا عن الكتل الاخرى التي تشكل قوام حكومته.
كل هذا يفتح السؤال الاستباقي المهم: على من يراهن رئيس الوزراء في حراكه هذا؟ والجواب السهل الذي نسمعه من اركان خيمته يقول ان هذه السياسة تحظى برضى الشارع، او في الادق، بتأييد ابناء الوسط والجنوب من الجمهور الشيعي، وبعض شرائح العرب من سكان كركوك لاسباب تتصل بحساسيات قومية مستعارة من عهد الدكتاتورية، فيما يتشكك كثيرون بصحة (او رسوخ) هذا التأييد.
اما اذا كان  التجييش ضد الكرد يستهدف الى حسم الصراع السياسي على السلطة لصالح المالكي، فهو الاخر منزلق نحو نفق مظلم لا آفاق له في الحسابات الانتخابية المعروفة، وثمنه باهض، فالقوى التصويتية هذه جربت وعود كابينة رئيس الوزراء بتحقيق الرخاء والاستقرار والإدارة الرشيدة، وقد سقطت جميع تلك الوعود في وحل سنتين ونيف من ولايته، الامر الذي يستخدمه منافسوه، ايضا وعلى نطاق واسع، في حملتهم الاعتراضية الانتخابية  كما نشاهد ذلك على واجهات الاعلام، وعلى مدار الساعة، وليس من غير مغزى ان تقف مرجعية النجف الدينية في صف الحسابات الاخرى.
خطوط التماس مع الاقليم، بعد ذلك وقبله، لا تصلح ان تكون ورقة انتخابية، او مفتاحا لزيادة مناسيب الاصوات، او ميدانا لتجريب كفاءة الدبابات.. او حتى التهديد باللجوء اليها..
لا، يارئيس الوزراء.. بالتهديد لا تدار مثل هذه الامور.
 ***
“ ما يسلب بالعنف لا يحتفظ به إلا بالعنف”.
                        المهاتما غاندي
 


114
المنبر الحر / الغطرسة
« في: 23:27 21/11/2012  »

الغطرسة

عبد المنعم الاعسم  

الغطرسة مركب من مركبات السايكولوجية المعتلة تاخذ صاحبها الى ادعاء القوة، او الاستيهام بها. تمثيلها او الشعور بها.
في الحياة العامة، تظهر الغطرسة على شكل سلوك طاووسي. الخيلاء الفارغة. الزهو بالمظهر. الاستعراضية. الانفة. تصغير الاخرين، وإذا ما أمكن قهرهم، وتحفظ الذاكرة الشعبية الفلوكلورية روايات كثيرة عن الفجائع والمفارقات والمعارك المسرحية او الكارثية التي ترتبط بمتغطرسين.
الغطرسة في بعض انحرافاتها جُبن، فليس غير الجبان من يحتاج الى الزعم بانه قوة لاتقهر، ولاتُكسر، ولاتبارى. الفارس يتحدث الاخرون والتاريخ عن مآثره وشجاعته وانتصاراته.
والغطرسة لاتعرف التواضع، ولا الاعتراف بقوة الآخر، ولا حتى بخذلانات صاحبها. انها، في بعض ممارساتها، ذرائعية مقيتة، ولاتتورع عن تسمية الاشياء بنقائضها. الهزيمة انتصارا، مثلا، وحين يُمرغ انف المتغطرس بالتراب، لايشعر بالعار. انها، من زاوية معينة، قناع يتوسل به ضعاف النفوس لاخفاء حقاراتهم وهوانهم واضطرابهم النفسي.
خارج السياسة تترك الغطرسة اثارا مؤذية محدودة قد تقتصر على صاحبها، او على دائرة من المضللين والاتباع، لكنها في السياسة قد تلحق الاذى بدائرة اوسع. اوطان كثيرة وامم دفعت ثمن غطرسة ضربت قادتها، فالسياسي المتغطرس عدو للحسابات الواقعية للامور والقوى والحجوم. عدو للنصيحة والتبصير والاستشارة. عدو للحكمة ودروس الاخرين وخبرتهم.
السياسي المتغطرس يضيق بحكم التغيرات وتقلبات الاقدار واتجاهات الرياح فينزل منزلة دون كيشوت في مقارعة الانواء بسيف من خشب، ويخوض معاركه حتى نهايتها على الرغم من انها خاسرة.
والسياسي المتغطرس مولع بالخطابات والتصريحات. انها توحي له بالقوة الاسطورية الماحقة لـ”العدو” واكثر ما يعنيه من ذلك ان يسمع مديحا لما يقول، ثم يتوهم ان ما يقوله يتحول الى نص ساحر، مقدس، سرعان ما يدخل افئدة الملايين فتذعن له.
اعداء السياسي المتغطرس نشارة خشب، لا قيمة لهم، وهو بخطاب واحد، كما يتوهم، سيجعل كل واحد منهم تحت نجمة.. والنجوم بين يديه.
الغطرسة السياسية، عندما تتحكم بالامور، تبدو كما لو انها عقوبة للامم التي لم تتعظ من التاريخ.

*********
" من يأبى اليوم قبول النصيحة التي لاتكلفه شيئا فسوف يضطر في الغد إلى شراء الأسف بأغلى سعر".
افلاطون


115
المنبر الحر / تاريخ
« في: 13:07 14/11/2012  »
تاريخ
عبدالمنعم الاعسم
 
في عام ما قبل الميلاد  ومضت نجمة في برج الثور، ثم هاجرت الى مدار آخر، غير انها بقيت تومض، وتومض، طوال ثلاث وعشرين يوما قبل ان تنطفئ، والى الابد.
لكن؛ ثمة في عدن من يتحدث عن تلك النجمة بوصفها حصانا من الضوء انشطر الى مسارين، سقط الاول منهما على قلعة صيرة التاريخية في عدن، وحط الثاني في آثار بابل المهيبة في العراق، وذكر الشاعر اليمني الحميم محمد حسين هيثم الذي سمى ديوانه الثاني (الحصان) ان اسطورة النجمة لا ثبت لها في المدونات التاريخية او العلمية، لكن امرأة عدنية نسجتها منذ زمن بعيد وصارت على كل لسان، والاصل ان ابنها هاجر الى العراق ومات هناك فجُنت عليه وتخيلته نجمة على هيئة حصان شارد، وضحك هيثم وهو يروي القصة بيننا، نحن اصدقاؤه المهاجرين من العراق قائلا: قد تُجن واحدة من امهاتكم لتعيد نصف حصاننا الينا.
في مجالس(مقايل) اليمنيين يحضر العراق طالما نكون ضيوفا عليها، وما اكثر ما كنا نشارك اليمنيين، ملاطفة، سهرات القات، وندخل معهم في دورة السجالات والطرف، ومرة قال الصديق الدبلوماسي احمد ابكر الذي يعد نفسه خبيرا في تاريخ العراق: انكم شعب استوطنته الاحزان وصرتم لا تبكون على انسان عزيز فقدتموه فقط، بل وايضا على الجماد، ولكي يعزز رايه فقد استطر الى التأكيد بان ابن الجوزي ذكر في كتاب المنتظم ان عراقيي واسط حزنوا على منارة مدينتهم التي انهارت العام 497 هجرية وكانت قد بنيت في عهد المقتدر وعمّرت مائة وخمسون عاما، ولم يهلك جراء انهيارها احد، لكن اهل المدينة عمهم حزن عظيم وارتفع بينهم عويل استمر سبعة ايام.
غير ان مهاجرا عراقيا اختص في التاريخ اليمني رد بالقول: ان اليمنيين القدامى كانوا يحزنون حزنا شديدا على موت الحيوان، لا الجماد كما هو حال اصحابنا، فقد اورد صاحب المستبصر قبل ما يزيد على سبعمائة عام ان عرب اليمن كانوا يقيمون مجالس العزاء ومناسبات الحزن للغزال الميّت لعدة ايام، وانهم اذا ما وجدوا غزالا ميتا اخذوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه وأقاموا له واجب العزاء، مشققين الجيوب، مقطعين الشعور، ذارين التراب فوق مفارق الرؤوس.
وحين يقول قائل من اليمنيين: انكم ايها العراقيون من بلاد مسكونة بالكوارث منذ القدم، فانهم ينسون انهيار سد مارب الذي جرف المال والحلال وترك البلاد خرابا تنعق على اطلالها الغربان.
***
 " كل شيء يمكنك أَنْ تتخيله هو حقيقي بالنسبة لك".
بيكاسو

116
المنبر الحر / محنة الوزراء
« في: 16:37 13/11/2012  »
محنة الوزراء

عبدالمنعم الاعسم
 
كشفت قضية البطاقة التموينية عن سلسلة من المفارقات العجيبة، لايمكن لها ان تحدث إلا في بلد (ليزعل من يزعل) سقط توا من مجرة بعيدة، او لفقته الصدف على عجالة.
فان رئيس الوزراء، كما قال اقرب مقربيه، لم يكن راضيا او متحمسا لقرار مجلس الوزراء بالغاء البطاقة التموينية، لكن اتضح لاحقا ان جدول اعمال المجلس كان خاليا من فقرة البطاقة التموينية، وقد اقحمت الفقرة بالغاء البطاقة التي تهم معيشة ما يزيد على عشرين مليونا من العراقيين، وجرى التصويت عليها في غضون دقائق من قبل الجميع باستثناء وزير واحد  وأحد المستشارين.
ثم، بعد ذلك فوجئنا بالتراجع “المنظم” بسلسلة من البيانات والتصريحات تنبذ القرار وتتقاذف المسؤولية عنه، وتهاجم “الشيطان” الذي اغوى اصحاب القرار، وذكرنا ذلك بحديث الرسول، بحسب الصحابي ابي سعيد، إذ قال الشيطان “بعزتك يارب، لا ابرح اغوي عبادك”.. وهو من دون غيره وراء هذه المكيدة  التي عادت الى نحرها بقوله تعالى في سورة النساء “إن كيد الشيطان كان ضعيفا” ثم، جرت عملية قيصرية على القرار تحتفظ  بنصف ماء الوجه، ونصف الفضيحة..
كل هذا وضع على وزراء الحكومة مسؤولية كبيرة، وعلى رئيسها مسؤولية اكبر. وعلى الوزارة متضامنة من زاوية ما. المشكلة انه في كل مرة يُلقى باللوم على الوزراء وحدهم، ويقفون منفردين تحت قذائف النقد والتشهير حتى من كتلهم التي رشحتهم الى مقاعدهم، ومن انصار تلك الكتل ايضا.
جميع الوزراء وافقوا على القرار.. ثم انفسهم تراجعوا عنه.. فمن سيحمل الملايين على الثقة بقرارات ستصدر من هذه المرجعية التنفيذية مستقبلا؟ وماذا تبقى من سمعة الوزير؟
الى هذه الحكاية من مستطرف العلوي (ص69):
حدّث ابو الحسين بن عياش (القرن الرابع) قال: رايت في شارع الخلد ببغداد قردا مدربا يجتمع الناس عليه فيقول له (صاحبه) القراد: تشتهي ان تكون بزازا؟ فيومئ القرد براسه: نعم.
تشتهي ان تكون عطارا؟ القرد: نعم.
تشتهي ان تكون ... ويعدد مجموعة من الصنائع والقرد يومئ بالموافقة.
ثم يسأل القرد:
تشتهي ان تكون وزيرا؟
فيومئ القرد براسه: لا! ويردف بالصياح والركض محاولا الهرب!
 
***
"سيبقى الفشل مرا إذا لم تبتلعه".
انيس منصور

117

العراق واوباما.. الثاني

عبدالمنعم الاعسم

الذين يعتقدون بان اوباما في ولايته الثانية هو نفسه اوباما، كما كان، في الدورة السابقة، واهمون، ولا يقرأون إشارات التغيير في خطاباته واجراءاته وتلميحاته كفاية، كما يتجاهلون حقيقة ان رؤساء الولايات المتحدة، يرجئون عادة بعض خططهم المثيرة للجدل  ومعاركهم الحساسة الى الولاية الثانية.
وما دمنا في شأن العراق فقد عُرف عن الرئيس الامريكي انه وضع جانبا خيار “التدخل” في سياقات الازمة السياسية، ونأى عن التحيز الى جانب هذا الفريق او ذاك، وقد تَرجم هذا الموقف خلال تجاذبات سحب الثقة عن رئيس الوزراء، فيما فُهم نأيه عن دائرة الصراع السياسي العراقي، خطأ، بانه معارضة للقاءات اربيل ومفاعيل سحب الثقة.
بل ان ادارة اوباما لم تتخاشن مع بغداد في مواقف حساسة، مثل التعامل مع الاحداث السورية، او التوجه نحو روسيا في التسليح، او في قضايا الاستثمار في الصناعة النفطية، وتركت الامر الى تعليقات الصحافة الامريكية، والى طاولة ما بعد الانتخابات، وعذرها، ان المعركة الانتخابية لا تتحمل عناوين تصعيد في الملفات الاقليمية والدولية، وتجب الاشارة الى محاولات اوباما منع استخدام الخيار العسكري ضد ايران، على الرغم من الضغوط الاسرائيلية والخليجية لجهة كسر شوكة القوة الايرانية الجامحة.
الرئيس الامريكي، بوجيز الكلام، سيجري تغييرات على سياسته العراقية، بعد ان رفع الحذر من دواعي الانتخابات وتحدياتها، اما الجهة التي ستمضي فيها هذه التغييرات فانها ستتركز على البقعة ذات العلاقة بالصراع على السلطة، وعلاقة ذلك بانتخابات العام 2014 فقد تسربت من البنتاغون وبعض حلقات الاستشارة في البيت الابيض نصائح بوجوب “التدخل” من قبل الرئيس في تلك البقعة لمنع صعود قوة “عدوة” للولايات المتحدة الى سلطة القرار واستفرادها بادارته، ودعت مطالعة عسكرية الى استباق انزلاق العراق الى محور اقليمي مناهض بسلسلة من “المعالجات” في حين اكدت مؤشرات بان اوباما ارجأ اقشتها الى الولاية الثانية، والمهم انه ابدى تعاطفا مع تلك التحذيرات، بحسب التقارير المنشورة.
ارتياح الطبقة السياسية العراقية حيال عودة اوباما الى البيت الابيض، كما يبدو، ينطلق من تمنيات، بين السطور، بان يواصل سياسة ولايته الاولى حيال العراق وشؤونه، لكن التمنيات في السياسة مثل اي بالون تطلقه من نافذة الى الفضاء، قد يعود اليك.. وقد لا يعود.

***
" نحن نقدر الصراحة ممن يحبوننا، أما الصراحة من الأخرين فنطلق عليها وقاحة".
اندريه موروا







118
المنبر الحر / الى اين؟
« في: 15:35 08/11/2012  »

الى اين؟

عبدالمنعم الاعسم

إذا قلنا بان وضع العراق يتجه الى التطبيع فاننا سنكون ساذجين، اما اذا صدّقنا اولئك الذين يقولون بان هذا الوضع مرتد الى الخلف ليقع بيد حلفاء السلاح من القاعدة والبعث فاننا سنكون أكثر سذاجة.
اذا لم نتقدم  نحو التطبيع ولم ننكفئ الى مشروع الردة، فما الذي سيحدث؟ او الى اين تتجه سفينة العراق؟
آخر تصريحات رئيس الوزراء نوري المالكي من شاشة السومرية اعطتنا مبرر القول ان بيننا وبين حل الازمة السياسية استحالات كثيرة لعل ابرزها إرادة الحل الذي لا يتحقق من دون تنازلات متقابلة بين اطراف هذه الازمة، ويبدو ان الجميع طووا فكرة التنازل والحلول الوسط.
في بغداد، يقول سياسيون ان الامر بحاجة الى وقت طويل حتى تنكسر بعض حلقات التوازن التي تحكم معادلات الصراع، وبخاصة تلك الحلقات ذات العلاقة بالاحداث السورية، وثمة بينهم من يأمل ان ينتهي  الملف السوري الى شكل من اشكال الحل، وقل الصفقة، بين ايران والولايات المتحدة لكي ينعم العراقيون بعدها بالامن والاستقرار والاستقلال.
ساسة آخرون يتخوفون من فكرة التقارب الآن ويعدونه “مؤامرة” ذات ابعاد اقليمية  تستهدف تقاسم النفوذ، ويقولون بان الرئيس اوباما في حال فوزه سيمضي قدما في هذا الخيار الذي –كما تؤكد التسريبات- سيحظى بترحيب ايراني، وهذا بحد ذاته يضيف بلبلة الى سلسلة البلبلات التي تعانيها عقول الساسة هنا.
“الى أين نتجه؟” قذفنا بهذا السؤال الى استاذ في كلية العلوم السياسية في بغداد، فقال: تعال نبتعد عن الجواب قليلا.. ان الازمة تخترق جميع القوى المتشابكة في العراق. الكيانات السياسية تتفتت وتزداد تناحرا. الحكومة تتبعثر وتمر بحالة استقطاب وتدار من غرفة واحدة محروسة جيدا، وموعد الانتخابات يضرب على الابواب، ويهرع الجميع الى حساباتهم ومسرحياتهم الدعائية. اعتقد اننا-كما قال- نتجه بـ”حكومة الشراكة” هذه حتى انتخابات العام 2014 وسنحتاج الى عشرين شهرا من الصراعات الفئوية الطاحنة.
محلل أكاديمي  ايده وافاد القول: خلال هذه الشهور العشرين ستتكون على السطح قوة شعبية غير طائفية.. انها بدأت تنمو منذ الان، وتظهر في امثلة كثيرة. زميل ثالث رد بالقول: انها قراءة متعجلة. الطائفيون يملكون امكانيات وآليات وامبراطوريات ستعمل جميعا للحيلولة دون ولادة هذه القوة.
الى ذلك تكونت مؤشرات عن سلبية الشارع الحائر بين ارتفاع اصوات الملعب وانخفاض سمعة اللاعبين.
**********
"من سرّه زمنٌ ساءته ازمان".
ابو البقاء الرندي- غفيه اندلسي


119
لماذا لم يندحر الارهاب في العراق؟

عبدالمنعم الاعسم
النظرية التي تقول بان النشاط الارهابي غريب عن المجتمع العراقي، او انه طارئ على بنية الدولة العراقية تحتاج الى مراجعة. العكس هو الصحيح تماما إذا اخذنا بالاعتبار بان اللازمة الاولى لهذا النشاط هو التطرف، وان التطرف، كممارسة مجتمعية وحكومية وتشريعية، له جذور وهياكل في المجتمع العراقي والدولة العراقية على حد سواء.
في الكثير من المنعطفات التاريخية والسياسية يحارَب الارهاب بواسطة ادوات ارهابية، فتستخدم الدولة ونظامها السياسي اساليب مفرطة في القسوة وتطال جمهورا محايدا ومصنفة في خانة “ارهاب الدولة” لقمع تيار يستخدم شكل او اكثر من وسائل العنف، وفي منعطف آخر، تندفع مجموعة مناهضة للسلطة في ترويج العنف والتجييش الارهابي ضد “ارهاب الدولة” القمعية، ومن هذا التقابل (الفعل ورد الفعل) تنشأ، موضوعيا، ذريعة التطرف التي تصنع لوازم النشاط الارهابي في المجتمع، في أي مجتمع.
النتيجة الاكثر وضوحا تتمثل في الاتي: ففيما يتمسك كل فريق متطرف بوجاهة الاسلوب الذي يستخدمه ويدافع عنه بوصفه خيارا وقائيا واخلاقيا، وضروريا للمصلحة العامة، فان المجتمع بمرور الايام سيفقد حصانته ضد التطرف، او في الاقل، سيوفر بيئة مناسبة لتبرير التطرف. الغريب ان المجتمع نفسه يدفع الضريبة الباهضة لهذه النتيجة الكارثية، ومن زاوية معينة، يبدو ان المجتمع هنا كما لو انه يعاقب نفسه بنفسه.
لكن لاينبغي ان يضيع، في هذه المعادلة، حق الشعوب في الدفاع عن نفسها، بالاساليب الوقائية، حيال ارهاب الدولة وحروبها  الداخلية او بمواجهة العدوان الخارجي، كما لاينبغي تحريم استخدام الردع من قبل الدولة للجم قوى الارهاب والجريمة.. وفي هاتين الحالتين ضوابط ومعاهدات وتشريعات تراعى بقدر استيعاب المتصارعين لها وبقدر فاعلية الرقابة الدولية لها، واخلاقياتها.
اقول، اذا ما اعترفنا بان ثقافة التطرف مورست وتمارس في المجتمع العراقي، دينيا وقوميا وسياسيا، فاننا بذلك اعترفنا بوجود واحدة من اهم لوازم الغبار الارهابي الذي هب ويهب على العراق، وهذا الاعتراف يساعد (ولايعرقل) المشروع البديل، مشروع الدولة المدنية السلمية القائم على اشاعة خيار التسامح والمصالحة والشراكة وتكافؤ الفرص واحترام خصوصيات وحقوق المكونات.
فمتى؟.
 *****
“ القطة التي ترتدي القفازات لا تصطاد الفئران”.
 فرانكلين
 **************


120

لقاء المالكي- النجيفي

عبدالمنعم الاعسم

لا يمكن القبول بالقراءات التي تذهب الى ان لقاء رئيسي الوزراء والنواب، نوري المالكي واسامة النجيفي، قد تمخضا عن اتفاق على خارطة طريق لحل الازمة السياسية في البلاد، فأنهما لا يحتكران  قنوات الحل هذه، كما ان المسرح لا يزال عند فصل اللقاء الوطني الذي لم يتحرك من نقطة المشاورات والتجاذبات حتى الآن.
أقول ايضا، ليس صحيحا الاطمئنان الى تسريبات عن “صفقة” بين الرجلين تعيد هيكلة التحالفات وتشطرها الى مكونات جديدة، ولا ينبغي الاستسلام لخيالات معلقين تحدثوا عن تحالف  بين المالكي والنجيفي في سباق مجالس المحافظات  الذي يبدأ في نيسان المقبل، وعلينا ان نهمل القول بأن النجيفي طلّق القائمة العراقية الى الابد، فالقائلون بذلك، من دولة القانون بخاصة، يعبرون عن تمنيات، ليس إلا. اما التقارير التي تحدثت عن اتفاق رئيسي الوزراء والنواب على بعض الإجراءات لتحريك بعض مشاريع القوانين النائمة ولاحتواء ازمة البنك المركزي فانها تتضمن قراءة يمكن تصديقها بحذر.
إذن ماذا حدث بين المالكي والنجيفي؟ وكيف يمكن النظر الى هذا الحدث اللافت؟ وما هي آفاقه؟.
التحليل الواقعي يضعنا امام استنتاج بأن اهمية هذا اللقاء، وأبعاده ونتائجه، تكمن في ذاته نفسه كلقاء بين اثنين من الزعماء السياسيين  المتنفذين بعد قطيعة طويلة وملامات وانعدام ثقة، حتى وإن جرى مجرى الاختراقات السياسية، وبمعنى آخر، يمكن تشبيه هذا المبادرة بإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين دول متخاصمة وقررت انهاء الجفوة بينها كخطوة اولى نحو فتح ملفات الخصومة والتقرب من إمكانيات حلها، وهو الامر الضروري لإيجاء بيئة علاقات نافعة للطرفين، وتأمين خط اتصال مباشر بينهما بدل تحميل الرسائل عبر آليات إعلامية او تسريبات او طرف ثالث.
نعم، تبادل الطرفان العتاب عن تأخر مثل هذه اللقاءات وبعض الامور ذات الصلة بالتشابك بين الوظائف الدستورية للسلطتين التنفيذية والتشريعية، وربما اعتذرا لبعضهما عن محاولات “اسقاط” وسحب الثقة واتهامات بالخيانة والفشل اطلقت منهما او من بعض المقربين منهما، وقد تظهر مؤشرات على تحرك في الجبهتين الحكومية والنيابية نحو تطييب خواطر الرأي العام، لكن المهم هو ان كلا من رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، وجها رسالتين غير مكتوبتين الى كتلتيهما، التحالف الوطني والقائمة العراقية، بانهما يملكان اوزانا اضافية ينبغي الاخذ بها عند حساب الاوزان.
والاوزان هي حصص في نهاية الامر.. وهكذا عدنا الى النقطة التي بدأت منها المصائب: المحاصصة.
 
***
"لا يمكن لمعاهدة أن تدوم إلا إذا انتصر الطرفان".
جيمي كارتر




121

ابطال رياضة
يبيعون الخضار على الارصفة

عبدالمنعم الاعسم

اتحاشى، في كثير من المرات ان اثير موضوع إداء وزارة الرياضة والشباب، لسبب واحد، هو معرفتي لعدد من مسؤولي الوزارة ممن لا أشك في نزاهتهم وحماستهم لتقديم خدمات لهذه الشريحة التي تعد من اخطر شرائح المجتمع واكثرها حساسية وعلاقة بمستقبل اي مجتمع.
ومنذ حين تجمعت لدي الكثير من المعطيات عن اهمال وفساد في شبكات الخدمة التي تقدمها الوزارة الامر الذي لاينال من سمعة اولئك الموظفين النزهاء والمتحمسين، ولايمكن السكوت عليه او العبور من فوقه، وقد فتح لي النائب المهندس شروان الوائلي الباب للحديث عن ذلك بعد ان كشف بان هناك ابطالا عراقيين على المستوى الدولي لايزالون خارج اهتمام وزارة الرياضة والشباب وهم يضطرون الى بيع الخضرة على الارصفة بدل ان يكونوا في اروقة الوزارة وملاعبها، وتأكيده على ان الوزارة لم تلبي طموح شريحة الشباب في دعم الرياضة وانها اخفقت في ادارة بناها التحتية، وان اندية رياضية عديدة وقطاع واسع من الشباب ناشدوه للتدخل لدى وزارة الرياضة للتخفيف من معاناتهم، وقال  ان هنالك رياضيين عراقيين حققوا نتائج عالمية مبهرة لم يجر تكريمهم من الوزارة.
وإذا ما تشككنا في صدقية التقارير المبكرة التي اطلقتها هيئات الرقابة والنزاهة ومنافذ اعلامية حول وجود فساد في مشاريع كبيرة للوزارة فاننا لايمكن ان نتشكك في معلومات موثقة عن حقيقة ما يعانيه الرياضيون وشباب الرياضة من اهمال منهجي لمتطلباتهم واحتياجاتهم، حيث بلغ الامر باطلاق دعوات ونداءات للرياضيين وشباب الرياضة بوجوب  التظاهر احتجاجا على موقف الوزارة، وشللها، على الرغم من الاموال الطائلة التي تحصل عليها من ميزانية الدولة.
احسب ان وزارة الرياضة والشباب من بين اكثر الوزارات العراقية التي تصدر بيانات نفي لما ينشر عن فساد في اروقتها، ما يطرح السؤال الوجيه.. هل كل اعمدة الدخان هذه من غير نار ما؟.
النائب الوائلي على حق في اثارة قضية اهمال الابطال الرياضيين من قبل وزارة الرياضة والشباب، ثم، لا مكان للاعتراض هنا والقول انه لا علاقة بين الفساد والاهمال.. فكلاهما ابناء شرعيون للازمة الشاملة التي تضرب البلاد.

***
"لا تقل القليل بكلمات كثيرة، بل الكثير بكلمات قليلة".
فيثاغورس





122

"القاعدة" هل ستحكم سوريا؟

عبدالمنعم الاعسم
 لاشك في ان الجماعات "الجهادية" المتطرفة (خلايا القاعدة بخاصة) تمكنت من ان تجد لها مواقع مهمة في صفوف الثورة السورية، وان الكثير من اعمال التنكيل "الطائفية" والتفجيرات الانتقامية ضد السكان المدنيين مسجلة باسمها، وقد تتقاسم مسؤولية بعضها مع قوات السلطة وتشكيلاتها المدنية، في لعبة الافعال وردود الافعال الدموية وتكتيكات تحويل الاحياء السكانية الى ميادين مواجهة.
 ولاشك، ايضا، في ان اية ترتيبات سياسية لما بعد الحرب الاهلية ورحيل نظام الحزب الواحد ستفرض وجودا (نفوذا) ما للجماعات الاسلامية المسلحة في تلك الترتيبات، وسيتقرر مستقبل نفوذها على تناسب القوى في صفوف القوى الجديدة التي تقبض على زمام الامور.
 الصورة شديدة التعقيد، وغير قابلة للقطع في ما ستفرزه من صراعات وتدخلات خارجية، سيما وان قوى المعارضة المدنية المعترف بها اقليميا ودوليا (المجلس الثوري) لم تستطع ان تحشد قوى واطياف المعارضة  المدنية وبقيت على مسافة من الحقائق على الارض، كما ان انشطة الجماعات الاسلامية المتطرفة اثارت وتثير مخاوف الكثير من الشرائح الاجتماعية والدينية والقى ذلك بظلاله على التفويض الشعبي للثورة.
 ومن داخل هذه الصورة المعقدة يبرز السؤال: هل يمكن لقوى القاعدة وفلول الارهابيين ان يفرضوا سيطرتهم على سلطة ما بعد نظام الاسد؟ وهل بامكانهم ان يجددوا تجربة طالبان في سوريا؟ وما هو موقف الولايات المتحدة والدول الخليجية وتركيا، آنذاك، بعد ان تهاونت مع نشاطهم وسهلت لهم توسيع النفوذ؟.
 مرة اخرى، من الصعوبة وضع مقاربة عما سيجري في المستقبل، لكن دعونا نتوقف عند احتمال واحد من الاحتمالات، وهو اقامة نظام طالبان جديد في سوريا، الامر الذي يتحدث عنه، بهلع، بعض ممثلي الاسلام السياسي لائتلاف الاكثرية في العراق، ويحاولون إثارة مخاوف وحساسيات الطائفة الشيعية وتعبئتها لمواجهة "دولة عدوة" قد تظهر من جهة الغرب، لكن التحليل الموضوعي هنا يصطدم بحقيقة اعتراضية تفيد بان الجماعات الجهادية المسلحة لا تملك برنامجا، ولا تصورات لاقامة نظام سياسي يتعايش مع جيرانه والعالم، بل ولا تملك خططا (باستثناء محاربة الكفر والكفار) لحل المشكلات السياسية والاقتصادية والامنية للمجتمع السوري، وانها، اغلب الظن، ستصطدم مع نفسها في النقطة التي يتحول فيها الحال السوري من الحرب الى السلم، فهي لا تؤمن بالسلم ولا بالقاء السلاح، ولا باحترام الخصوصيات المدنية السلمية للملايين السورية، ومن المؤكد انها ستفتح من الارض السورية (اذا ما فرضت حكمها الاصولي) الحرب على المنطقة والعالم.
 ثم، هل يمكن للقاعدة ان تقيم حكم الخلافة في سوريا حقا؟.. ذلك هو السؤال.
***
" إن الإنسانية كالجيوش في المعركة، تقدمها مرتبط بسرعة أبطأ أفرادها".
غابرييل غارسيا ماركيز


123
العراق والمحاور السورية

عبد المنعم الاعسم 
يجمع المحللون الموضوعيون على ان محاور الصراع في المجتمع السوري (حكومة وطائفة، مقابل معارضة وطائفة) التي انتقلت الى حرب مكشوفة وشاملة جرّت وتجر معها المنطقة والقوى الدولية الى حالة صدام ومواجهة  لا احد يعرف نتائجها على الارض، لكن التقدير الواقعي  لاتجاهات الاحداث يشير الى تنامي تأثير الجماعة الخليجية في النظام الاقليمي، الامني والسياسي، لأمد معين في مرحلة ما بعد سوريا حتى تنكسر حلقة التوازن في الوقت والمكان للاطاحة بتلك المعادلة.
وإذ لا مفر من سقوط نظام الاسد، على نحو ما، فان اللحظات التاريخية التي تسبق سقوط هذا النظام ستدخل في سلسلة التباسات وتداخلات ومواجهات لا تقل شراسة عما يجري على الارض السورية، وذلك على الرغم من محاولات الدبلوماسية واناملها الناعمة ورسائلها الاخلاقية تلطيف قبح عمليات التدخل الى جانب هذا الطرف او ذاك.
لكن الحقيقة الاولى يجب ان تقال دائما وهي ان جميع تجارب نظام الحزب الواحد (العائلة. الفرد. الطائفة) في حال تستمر (وتتحَمّض) لعقود من الزمن، تحيل البلد الى مثل هذا المآل، وقد تحيله الى الاستقالة من الخارطة، وبين ايدينا امثلة عن بلدان وامم استقالت من التاريخ بعد ان حشرها الاستبداد المفرط في نقطة الانتحار.
الحقيقة الثانية تتمثل في ان محاور الصراع السورية (في الداخل والخارج) اخذت شكل جبهات حرب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فيما تضيق، اكثر فاكثر، فرص المناورة، والوقوف على الحياد، او انتظار ما تسفر عنه الحرب، وبخاصة بالنسبة للدول المجاورة والتجمعات السياسية (والدينية) الاقليمية.
الحقيقة الثالثة ان العراق من بين الدول الاكثر تاثرا بالصراع السوري ونتائجه، ولعل مشكلته تتمثل في ان مصلحته، ولوازم امنه واستقراره وسيادته تفرض (او تفترض) ان يكون محايدا، وعلى علاقات متوازنة مع جميع المحاور، غير انه لا السياسات الرسمية التزمت خط الحياد، ولا الجماعات السياسية ومكونات الراي العام نأت بنفسها عن الحريق السوري، وكل ذلك اظهر حالة الانقسام في المجتمع العراقي حيال الحدث السوري، بل واظهر ما هو اكثر فزعا، وهو ان العراق، كحكومة ومكونات سياسية ودينية وقومية، توزع على محاور الحرب السورية.
الحقيقة الرابعة ان الحرب السورية قدد تتوقف يوما، لكنها ربما ستستمر في العراق، إذا لم يعمل العراقيون على ترشيد مواقفهم من الملف السوري ويضبطوا التفاعل من تطورات الاحداث على اساس من النظرة "الوطنية" الى المستقبل، حتى لايدفعوا ثمنا باهضا للعجالة العاطفية.. كما في كل مرة. 
 
***
" ويبقى العود ما بَقِيَ اللحاءُ".
ابو تمام



124

حكومة الاغلبية..
فرضيات استباقية

عبدالمنعم الاعسم

سنفترض بان  تشكيل حكومة اغلبية بريء من ظنة محاولات “ليّ الايدي” او جس النبض او رصد ردود الافعال، وسنتعامل (مؤقتا) هنا مع  خيار خرج من اعتبارات المناكفة السياسية والدعائية الى حل له ما يبرره للخروج من الدوامة السياسية، وسنفترض، ثانيا، ان النخب السياسية المعنية والممثلة في البرلمان بلغت سن الرشد الان وهي مهيئة لخوض تجربة “حكومة ومعارضة” بلياقة ديمقراطية ناجزة.. اقول نفترض.
طبعا لا غبار دستوريا على  خيار اقامة حكومة اغلبية من تكتلات سياسية تتمتع باغلبية برلمانية، ولا قيمة للقول بانه انقلاب ابيض، او عملية قيصرية، لكن قبل ذلك (حتى يكون هذا الخيار مبررا) ينبغي ان ننعى العملية السياسية للمرحلة الانتقالية التي جاءت بالدستور نفسه وبالكثير من الهياكل والالتزامات والمناصب والحلول وتشييعها جميعا الى مثواها الاخير، بالمراضاة او من دونها، وقد يقال، افتراضا، بان الدستور يبقى صالحا لطور حكومة الاغلبية، لكن ثمة من يعترض هنا بالقول، انه فيما تعذر توصل الكتل البرلمانية الكبيرة، وهي شريكة في الحكم، الى تفاهم لتحويل العشرات من النصوص الدستورية الى قوانين، فما مصير تلك القوانين في حال تفكيك هذه الشراكة وانتقال كتل نافذة الى المعارضة، وحلول المقابلة محل الشراكة؟
قد تكون الحاجة ماسة الى بناء عملية سياسية مصغرة، بديلة، على مقاس حكومة الاغلبية قيد الجدل، وبمعنى آخر، اعادة انتاج قواعد المحاصصة السابقة، سيئة الصيت، وفق حسابات جديدة لحجوم القوى التي تتشكل منها هذه الحكومة، واستحقاقات الشراكة الجديدة، وهو امر واقعي قدر ما هو افتراضي،  ليفاجئنا السؤال التفصيلي الاعتراضي: إذن ماذا فعلنا اكثر من ان شكلنا حكومة اقل تمثيلا والتزامات، مقابل معارضة اكثر تحررا وتحللا، الامر المشكوك في آفاقه وفي الشوط الذي سيقطعه.
على ان الفرضية الاكثر تعقيدا تتمثل في الآتي: حكومة الشراكة لانتخابات العام 2010 كانت قد مثلت “مكونات” قومية وطائفية، وقد آن الاوان (بتشكيل حكومة الاغلبية) كسر هذا التمثيل واحتكار سلطة القرار من قبل “مكوّن” واحد يمثل اغلبية مقاعد البرلمان (طبعا لا قيمة تمثيلية لأشراك افراد او جماعات صغيرة من مكونات مقصية في هذه الحكومة) والنتيجة هي ان الازمة السياسية ستفتح مسارا سافرا لصراع المكونات، بعد ان كان طي سجادة من المجاملات والديباجات الزاهية.
حكومة الاغلبية، اذا نظرنا لها من خارج هذه الفرضيات، ستحقق لاصحابها اجواء حكومية هادئة، لكن الاجواء الهادئة، سياسيا وفيزيائيا، لاتصمد دائما في بيئة مسكونة بالانواء المحلية غير المنضبطة، وبالعواصف.. من كل مكان.
 ***
“حذار.. نحن نبني الكثير من الجدران والقليل من الجسور”.
 اسحاق نيوتن


125
فيلم الاساءة..
اربع زوايا

عبدالمنعم الاعسم
 
الزاوية الاولى في النظر الى الفيلم الامريكي (براءة المسلمين) وما أثاره من ردود افعال، تتعلق بمستوى تقنيات وسلامة البناء الفني والموضوعي، حيث لخصها كاتب سيناريو امريكي (ستيف بلاكون) بالقول:”فيلم اقل من هابط ولايستحق ان يُضم الى تاريخنا السينمائي” والغريب في هذا الامر ان الفيلم عرض في صالات السينما قبل اكثر من ثلاثة اشهر ولم يكن ليلفت النظر او يستقطب الجمهور، وبدا انه سيلحق باصحابه خسارة فادحة، قبل ان تدخل ردود الافعال في حقل التجييش والتفجيرات ونسف السفارات وطبول “الحرب على الغرب” ففي بضعة ايام من هذه التطورات كسب الفيلم ما كسبته اربعة من اشهر الافلام الامريكية.
الزاوية الثانية يمكن ان نقرأها في موضوع الفيلم نفسه إذ يقدم رسول الاسلام بشكل بعيد عن حقيقته وخارج المنصوصات والمدونات وحتى الاستطرادات التي تجمع على عبقريته ورباطة جأشه في ادارة الانقلاب الثوري في مجتمع الجزيرة، وإضرام النار في العلاقات الاجتماعية القبلية المتخلفة، فيما الشخص الذي شاهدناه مهزوزا وصاحب نزعة مصنوعة من الاساءة المتعمدة.
الزاوية الثالثة، وتتعلق بشعارات الحملة الاحتجاجية على الفيلم إذ تراوحت من الدعوة الى حوار الاديان الى الدعوة الى مقاطعة الغرب وشن الحرب عليه، وانزلقت الى مواجعات وحرائق واعمال قتل ضد المبعوثين الدبلوماسيين، وهي، بكلمات وجيزة، لا علاقة لها بالفيلم نفسه، بل بمشاريع سياسية إذ استُغلت من جهات “الاسلام السياسي” لتقديم تمارين في التعبئة لإخضاع الشارع وضبطه على ايقاع الردة عن الربيع الديمقراطي، وثمة اخطر منحى في هذه الزاوية الدعوة الى “إجلاء المسيحيين” من “بلاد الاسلام” وهم اهل البلاد الاصليين.
الزاوية الرابعة، وتتمثل في حقيقة ان الفيلم يعد واحدا من المنتوجات الدعائية للتيار العنصري المتشدد في الولايات المتحدة والغرب، وهو تيار جامح ويستمد اندفاعه من الصورة المتوحشة التي تعرضها الجماعات الجهادية والتكفيرية للاسلام.
من هذه الزوايا يحاول لاعبون كثيرون ان يركبوا الموجة قبل ان تنطفئ وتصير منظرا لايستحق النظر.
 
 ***
“إن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضا”.
                        ابو بكر الصديق
 
 

126



جملة مفيدة
ـــــــــــــــــــ


تفجيرات الاحد
وتسمية الاشياء باسمائها


/هوية تفجيرت الاحد الدموية، طائفية، بالمعنى السياسي والفقهي، والمسؤول عنها عصابات "الجهاد" الاجرامية من تنظيم القاعدة وفلول النظام السابق، بالقدر الذي يوزع المسؤولية عنها على كل الطائفيين وبناة الخارطة السياسية الطائفية وعار المحاصصة، فلو لم تتأثث هذه البيئة الطائفية السياسية في البلاد ما استطاعت شراذم من فضلات هذه المرحلة ان تفتح بركة الدم والاشلاء ومهرجان العويل والاسى لمواطنين عابري سبيل وآمنين.
/هذا في حال سمينا الاشياء باسمائها، فالتفجيرات الوحشية هذه ليست عمليات عشوائية، او محاولات استعراض القوة، او ارهاصات اجرامية عن احتضار تنظيمات القاعدة وفلول النظام السابق كما توحي تصريحات المسؤولين عن الامن، وليست -في كل الاحوال- من صنع جهة بلا امتداد اقليمي، تدخل في سباق محموم مع  سقوط النظام السوري، بل هي تمرين استباقي على تشكيل عراق آخر تتناحر فيه الطوائف وتشترك فيه وتغذيه اكثر من جهة داخلية وخارجية على اختلاف مقرداتها الطائفية.
/اننا لا نحتاج الى عملية “نمذجة” في خارطة ضحايا التفجيرات لنضع ايدينا على حقيقة  ان هذا التمرين الاجرامي  مرسوم بعناية كيميائية مركزة هدفها تمهيد الارض لدولة الحرب الطائفية وذلك بعد ان سقطت الخرقة القديمة عن مقاومة الاحتلال وظهرت معالم مشروع "الجهاد" على حقيقتها كفاصلة للردة، إذ تتولى مشاريع طائفية اخرى بناء استحكامات هذه الردة وتحويل العراق الى ساحة تصفيات وميدان تبادل الرسائل عبر مذابح واعمال تدمير منهجية.
/بعض إدانات التفجير  والتأسي على الضحايا تحمل منشطات للاحتقان الطائفي، إذ تفيض، من جهة، بزيف المشاعر الانسانية، بل وبالتشفي بالسلطات الامنية وشريحة الضحايا، ويكشف بعضها الآخر عن كراهيات تعصبية وانحرافات نحو الانتقام وتوسيع طعون المسؤولية عن الجريمة لتشمل اوسع دائرة من الابرياء.
/على مفترق هذا الطريق ثمة متفرجين يتابعون منافعهم مما يحصل من كوارث.. انهم اصحاب الازمة السياسية.
***
" عجبت لمن يفكر في مأكوله، كيف لا يفكر في معقوله".
الامام الحسن بن علي




127
المنبر الحر / سمعة الحكومة..
« في: 14:36 10/09/2012  »

سمعة الحكومة..

عبدالمنعم الاعسم
 عندما تكون خارج العراق، وتلتقي اشخاصا مهتمين بالسياسة والاحداث من جنسيات مختلفة، ستجد، إذا ما كنت عراقيا، ان سمعة بلادك لا تنفصل عن سمعة حكومتها، بصرف النظر عن بديهيات الاختلاف بين الحكومة والدولة والشعب، وقد تُفجع حين تُفاجأ بان سمعة الحكومة العراقية، سيئة ام جيدة، تنسحب، في نظر الاجنبي، على مكانة وسمعة اي مواطن عراقي ، وقد تجد ما يخفف عليك او يساعدك على تفكيك هذه المعادلة التمعن في المقولة المحمدية البليغة "كما تولّون يولى عليكم" أو بحسب الكناية الشعبية "هذا الرغيف من ذاك العجين".
 على مسؤوليتي، وفي ضوء لقاءات شخصية بسياسيين واعلاميين وقراءات في المدونات والتلميحات والاستبيانات والمعلومات المتداولة بحدود ضيقة، اقول، ان سمعة الحكومة العراقية في الخارج لا تُسر اصحابها، ولا تريح المواطن العراقي الذي تعنيه سمعة بلاده، وله مصلحة بحسُن هذه السمعة، وقد يروي تجار ومهنيون وحتى دبلوماسيين عراقيين قصصا مؤسفة عن "إحراجات" يواجهونها بسبب تردي سمعة الحكومة في المحافل التجارية والديلوماسية والثقافية في هذه العاصمة او تلك.
 في لندن، قال لي إعلامي عربي، ومقدم برامج تلفزيونية، اثق في مصداقيته، انه صار يتردد في الدفاع عن مواقف حكومة بغداد، حتى المواقف التي لا غبار على سلامتها "لأن احدا لا يصدق ما اقول" واضاف "ان اصحاب حكومتكم وممثليها ومبعوثيها السياسيين يقدمون اسوأ انطباع عنها في الخارج" الامر الذي ينعكس في تقارير واستطلاعات تنشر على نطاق واسع "فتأتي سمعة حكومة العراق في طلائع الحكومات الاكثر سوءا في العالم".
 معهد "يبوتايشن اينستيتوت" الامريكي المستقل اجرى العام الماضي استطلاعا لقياس ثقة الناس وتقديرهم، وإعجابهم "ببلد ما"  باعتبار أن قوة البلد وتقدم ترتيبه في الاستطلاع يفيد في جذب السائحين، والاستثمارات الأجنبية المباشرة إليه، وقد شمل الاستطلاع 42 ألف شخص في مختلف أنحاء العالم، وأهتم بقياس مستوى 50 دولة حول العالم، وقد حظي العراق، لشديد الاسى والاسف والمرارة والحزن بصفة الدولة  "الأسوأ سمعة" في العالم بسبب ما يعصف به "من الفساد، واهانة الحريات، وغياب القانون".
 نعم، حكومتنا سيئة السمعة في الخارج.. لشديد الاسف الف مرة.
***
"قل كلمتك وامش".
امين الريحاني




128
المنبر الحر / طبول حرب.. برلمانية
« في: 11:42 03/09/2012  »

طبول حرب.. برلمانية

عبدالمنعم الاعسم
تابعنا هذا الاسبوع تصريحات نارية من تحت قبة البرلمان يعلن فيها نواب (كلٌ من موقعه الفئوي) الحرب المقدسة على دول وكيانات واطراف اخرى، وشاءت ان تقع تحت نيران مدافع هؤلاء النواب دول مثل تركيا والسعودية وايران وامريكا وسوريا كما شملت نيران البعض اقليم كردستان ومناطق غرب العراق وأحياء في قلب العاصمة بغداد.
 وكأننا انتخبنا هؤلاء النواب، لا للرقابة وتشريع القوانين ومراقبة إداء الحكومة (وهي واجباتهم الدستورية)، بل لارسال البلاد، المنهكة من الحروب والصراعات واعمال الارهاب، الى ميادين حروب جديدة.
 على اية حال، يمكن ان نبتلع هذه المهزلة في حالة واحدة هي ان نعتبر هذا البرلمان برلمان حرب، او برلمان تحضير لوقود الحرب، وليس في هذا الامر غرابة او سابقة في التاريخ العراقي، فقبل خمسة الاف سنة، وفي عام ثلاثة آلاف قبل التاريخ، كما يذكر عالم السومريات صموئيل كرومر، التأم اول برلمان في التاريخ على ارض العراق القديم وقد كان هدفه اعلان الحرب طبقا لمشيئة الملك حمورابي، اخذا بالاعتبار ان حرب ذلك الزمان كانت عنوانا للفروسية التي نفتقدها الآن.
 إلا أن الآثاريين كشفوا عن شريعة سبقت شريعة حمورابي في الزمن باكثر من مائة وخمسين سنة، وهي على هيئة قوانين بصدد تنظيم حروب الاجلاء والاستئصال أصدرها الملك (لبت ـ عشتار) الذي اعتبر اول مشرع لقوانين الحرب بوصفها فروسية، او معبرا الى التفوق.
 ومنذ ان استدل المشرعون الاوائل الى "اختراع" تجربة البرلمان، كميدان لتبادل الرأي والمشورة وخبرة الحرب، فقد كان في بالهم إشراك الجمهور في ادارة الحكم، وكان هذا المعنى الاصلاحي المجرد قد دخل في اساس اول برلمان في العصر الحديث انشئ في جمهورية ايسلندة التي لم تكن لتفكر بالحرب مع احد، بل ولم تكن لتملك جيشا آنذاك.
 احد نوابنا دعا الحكومة الى تزويد الجيش بمعدات استراتيجية (ربما يقصد ذرية) وتسليح العشائر والعاطلين عن العمل والمتقاعدين لخوض الحروب المقترحة.. قدما حتى تحرير الاندلس.. تصوروا.
***
" يمكنك أن تحصل بالكلمة الناعمة والمسدّس على أكثر مما يمكنك الحصول عليه بالكلمة الناعمة وحدها."
آل كابوني- رجل عصابات إيطالي أمريكي












129
المنبر الحر / ضمير المدعو "سين"
« في: 23:55 30/08/2012  »
ضمير المدعو "سين"


عبدالمنعم الاعسم


لسنا اوصياء على ضمائر الناس. لكن المشكلة ان الضمير غدا واحدا من الممتلكات القابلة للبيع مثل اية سلعة.

تستطيع ان تشتري ضمير، وتدفع، مثلما تستطيع ان تشتري حذاء وتلبس. والضمير الذي تشتريه يمكن ان يبلى فتلقي به الى سلة المهملات، مثل اي حذاء يعتق فتشمره الى كيس الزبالة.

حتى الان لا حق لنا في ان نمنع عملية بيع وشراء الضمائر، فقط حين نكون ضحايا لهذه العملية، وليس ثمة بيع للضمائر لا يسقط بعدها ضحايا، وقد يكون ضحية ذلك قوت الشعب، او المال العام، او قطرة الحياء، او ساحة للعدالة، وقد يكون الضحية وطن باكمله.

الضمير لايبيعه فقط المحتاجون الى المال او الطامعون بالثروة. ثمة من يدنس ضميره في الاعيب يضلل بها الجمهور لصالح فكرة غاشمة.

 يرتفع سعر الضمائر حسب سوق التداول، وفي السياسة تنتعش هذه السوق، ولها تجار ومافيات وشاشات ملونة.

 المدعو "سين" يظهر في وضح النهار على ابهى ما يكون على اقنية الاعلام واروقة المحافل: داعية للعدالة والفضيلة وحماية حقوق الفقراء وصاحب غيرة على الايتام والثكالى. الارامل. الاطفال. العاطلين عن العمل. المعوقين جراء التفجيرات، ثم لا يتأخر عن التبرع لبناء دار عبادة، او الاحسان الى عابري سبيل.. هذا في النهار. اما في الليل فان المدعو "سين" يُخرج سجل العائدات الحرام ليعيد تنظيمها وتوزيعها، ثم يفتح خط الصفقات والمشاريع عابرة للقوانين والشرائع والضمائر: نهب ممتلكات وحقوق الدولة. تزوير اسماء وشركات ووثائق وصفقات. عقارات قيد التحويل. وساطات مدفوعة الاجر. شراء وبيع اصوات وولاءات وأزلام ودعاة ومهرجين.

الضمير وازع، مانع، رقيب. حين يغيب فانك تخرج عن فضاء القيم الى جاذبية الدناءات. هو قدرتك على التّمييز فيما إذا كنت على خطأ أم صواب، والتفريق بين ما هو حقّ وما هو باطل، وهو الّذي يستدرجك الى الندم عندما تتعارض الأشياء التي تفعلها مع قيم الشرف.

 المدعو "سين" يندم احيانا على فعل مخز، لكنه سرعان ما يندم على انه ندم.

****

"الشرف لا يجب أن يُكتسب، بل يجب فقط ألا يُفقد".

آرثر شوبنهاور-فيلسوف الماني

ـــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد

 

130

الكتابة في السياسية

عبدالمنعم الاعسم
 
يجدر، في البداية، الاعتذار لقرائي مرتين، مرة لأني لم ابلغهم، مسبقا، عن هذا الغياب المفاجئ الذي امتد لاكثر من اسبوعين، ومرة اخرى لأن محرر الجريدة هو الآخر اهمل المسؤولية حيال القارئ الذي يتابع هذه الزاوية، ولم يستبق الغياب بإشعار له ما يبرره.

اقول ذلك تعقيبا على استفسارات وصلت على عنواني الالكتروني من اصدقاء وقراء عن سبب الاختفاء المفاجئ لـ"جملة مفيدة" للمرة الاولى (كل هذا الوقت) بعد ما يزيد على ثماني سنوات من دون انقطاع.
 
الى ذلك فان الكاتب السياسي لا ينبغي ان يشغل قراءه بشؤونه الشخصية. ذلك حقهم عليه، وفرض من فروض امانة الكتابة في الشان العام، حتى وإن أخذت خصوصياته شكل احتجاج على مسار الاحداث، أو زعل حيال استطراد استفزازي في الادارة السياسية، إذ يخشى ان يضع قدمه في الموضع الذي ينتهي الى منزلق، وبالنهاية الى خيانة مسؤوليته.
 
قد يصمت الكاتب، ذلك من حقه، لكن ذلك الصمت يصبح كتابة عندما يكون ثمة ما يضطره، وما يتصل بحساسية المواقف واحتشاد الاخطاء والاغاليط والسباق المحموم لخداع الناس، الامر الذي قد يجعل منه شاهد زور، او في الاقل متواطئا مع الضلالة السياسية. الصمت هنا استراحة للضمير.

الكتابة السياسية مسؤولية لانها تضع عناوين لما يجري من احداث. تحركها. تحيي خلاياها. تحولها الى مصائر، وهي ايضا ذاكرة لانها لا تعيش خارج التقاويم واليوميات والاحداث والمصائر.
 
مرة طلبوا من الكاتب والسينمائي الاسباني الشهير خورخي سيمبرون، الذي عاش حرب الجمهورية الاسبانية عام 1936وحمل شرف الانتماء لها حتى وفاته في مثل هذه الايام قبل عام، ان يتحدث عما يعانية من مواجع، وقد بلغ الخامسة والثمانين من العمر، قال: "الذي يحدث في اجساد المقموعين والضحايا هو ما يوجعني" وشاءت صحيفة البايس الاسبانية الشهيرة ان تصف سيمبرون بالقول انه "ذاكرة القرن العشرين" أما غوستاف غافراس اكبر روائيي العصر فقد قال ان خورخي سيمبرون كان على درجة عالية من "النزاهة الفكرية والسياسية" فيما اعتبر شارل غو رئيس أكاديمية الغونكور الفرنسية أن للرجل "حساسية خارقة" فهو من الرجال الذين جعلهم الألم يتكلمون من غير نطق ويصمتون كلاما.
 
اقول، لقد جرّت الازمة السياسية في البلاد الكاتب السياسي الى مطبّ ضميري حرج، محيّر،عندما جعلت الجميع ينظرون الى المنافع والعوائد الشخصية والفئوية من اية تسوية، وعندما غاب "المثال" الذي يعلن استعداده للتنازل ولو عتبة واحدة عن سقف الشروط والمكاسب التي يتخندق بها، واحسب ان هذه الازمة وضعت الكاتب السياسي في نقطة المراجعة. التأمل. اعادة تنظيم المعلومات.
 
اقول: الكاتب السياسي، وليس المهرج السياسي.
*********

"الطريقة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن هي تخطي هذه الحدود قليلا إلى المستحيل".
آرثر سي كلارك- مؤلف قصص خيال علمي     



131
المنبر الحر / للاسرار حرمة
« في: 08:53 27/08/2012  »
للاسرار حرمة


عبد المنعم الاعسم 



ازدادت حالة تهديد السياسيين لبعضهم بكشف “اسرار نائمة” ستطيح بخصومهم، بل ان بيانا اصدرته كتلة سياسية ضد احد اركانها خرج، في مفردات الاتهام والتخوين والعمالة وسوء الاخلاق، عن كل ما نعرفه من الادب السياسي واصول ادارة الخلافات، وشاءت المهزلة ان يعلن “الضحية” لجوءه الى المجالس العشائرية لاستعادة الاعتبار اليه.

يعيد هذا “الحادث” الى الاذهان تلك الشكوى المريرة  من عدم نضوج بعض زعامات الطبقة السياسية العراقية التي تنزل بالصراع والخلافات السياسية منزلة الابتذال والضحالة، كما يعيدنا (وهو المهم) الى السؤال التفصيلي عما اذا بقيت اسرار خافية حقا حتى الان في العراق.

 قبل سنوات قليلة كتب الصحفي الالماني جيروم هولش الذي زار بغداد “لا اسرار في العراق.. الصندوق مفتوح على مصراعيه” وذلك في نطاق ما سجله عن مشاهداته في “اسبوعية برلين” مؤكدا ان “المعلومات” التي يسعى الصحفيون والمراسلون الوصول اليها في بغداد تتيسر بطريقة سهلة “واحيانا من غير كلفة” أو “من دون ثمن” ويعيد ذلك الى ما اسماه  بقلة تحسب العديد من السياسيين ازاء “امور حساسة” ينبغي ان يكون مكانها “صندوق الاسرار”.

مقابل هذا وقبل هولش باكثر من عشر سنوات كتب مراسل لصحيفة اللوموند الفرنسية من بغداد “ان العراق بلد من دون ارقام” وذلك بعد اعياه البحث عن ارقام ومعطيات تساعد في تكوين قراءة عن احوال العراق، فقد كان يتلقى جوابا واحدا من مسؤولي النظام السابق “الارقام سيادية وغير مسموح تداولها” وهي ذريعة سخيفة تستهدف التعتيم المقصود على المعلومات الخاصة بتحكم الجماعة الحاكمة بثروة البلاد ومسؤوليتها عن تردي الاوضاع،  ولاحظ المراسل باستغراب ان السلطات الحاكمة آنذاك منعت تداول الارقام حتى في  نشرات الانواء الجوية في العراق “كي لا يستغلها العدو” ثم، بعد ذلك، راحت تتلاعب بارقام درجات الحرارة، وتحرف المعلومات الخاصة بالتنبؤات الجوية.

الحقيقة تتمثل في انه ليس ثمة بلد في العالم لا يعنيه حماية “نوع” من الملفات الخاصة بقضايا الامن والمصالح القومية والعسكرية والاقتصادية  واسرار الناس من العبث، وليس ثمة دولة لا تملك صندوقا للاسرار تهتم بحراسته والحيلولة دون الوصول اليه، والسرية هنا لا تخص ظروف الحرب فقط بل انها من لوازم الحماية الوطنية في ظروف السلم ايضا.

اقول، اكاد اصدق ما كتبه الصحفي الالماني عن صندوق الاسرار العراقي المفتوح على مصراعيه، فقد حضرتُ مساجلة قدم فيها موظف سابق”مغضوب عليه” الى محدثيه، ، حزمة من اسرار”خطيرة” عن المرفق الذي كان يديره، وعن ملفات وارقام واسماء وعائلات وصفقات ودول كان قد اؤتمن عليها وينبغي ان تكون في مأمن من التداول، بل وهدد ان يكشف المزيد للاطاحة بخصومه، ويقال ان لاولئك الخصوم سجلات كبيرة من الاسرار تدين المتحدث وقد ترسله الى المقصلة .

**********

 

“ فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفةً

           حَفِظْتَ شَيئاً، وغابَتْ عنك أشياءُ”.

       ابو نؤاس

132
ما أحوجنا الى فرسان

 عبدالمنعم الاعسم

 الحل يحتاج الى قرار شجاع يتقاسمه اركان الازمة، وذلك بعد ان تيقن الجميع ان لا احد قادر على شطب الاخر، ولا باستطاعة فئة ان تهزم فئة اخرى متربعة على ركن من اركان الازمة، وانه لا مصلحة لمنازع في ان يزيح شريكا له من المعادلة، بل ولا ثمة امكانية لتحقيق ذلك.

 المناورات استنفذت قيمتها وفائدتها، والحل يتمثل في كشف الحساب والصراحة والبدء من حيث وصل الجميع الى الحائط.

 ومن غير هذا فان شوطنا الى الاستقرار وراحة البال عسيرا متواصلا، وباهض التكاليف، ونزيفنا متصلا، وستتناسل محننا عن محن، وسيبقى دارنا الطاهر مسكونا بالنحس، ومرابعنا موبوءة بعوارض العنف وسرطانات الشر، وحدودنا مفتوحة للتهريب والغارات والقرصنة، وممتلكاتنا عرضة للنهب والتعدي، وحواضرنا ساحات للفواجع والحروب، فهي، جميعا، من بعض نتائج العقيدة التي طبقت لادارة الازمة، فضلا عما ورثناه من عهد قضى.

 ثلاثة عقود من الزمن قام ذلك العهد الشيطاني باختزال حاضرنا الى بضعة سطور كهنوتية فوق اكاذيب عن معارك "شرف" جاءتنا بطوابير التوابيت والمقابر والارامل والكوابيس، وتولى ذلك العهد تهريب تاريخنا وماء وجهنا الى اسواق العالم الخلفية مقابل كلمات اعجاب متسخة بالرشى.
 والحال، إذن، كما تقول امثالنا: الفاس بالراس، وكما تقول امهاتنا: تدبغت جلودنا.. أو كما يقول المتنبي العظيم:
 فصرتُ إذا اصابتني سهام..... تكسرتْ النبالُ على النبال
 وهانَ فما ابالي بالرزايا   ...... لأني ما انتفعت بان ابالي

 الفروسية هي طريقنا في البحث عن الحل، وهي تلزم- في ما تلزمة- شجاعة المراجعة والاعتراف، فوق شجاعة القول الفصل، وقد جرب الجميع اساليب الغش، فعادت عليهم(وعلينا) بالخراب والفواتير الموجعة.

 الفروسية قتال بالادوات النزيهة. للهزيمة مكان في توقعات الفرسان وللانتصار احتمال في وجدانهم.
 على اصحاب الازمة اختصار الدوامة كما اختصرها ذلك الشيخ في الحكاية القديمة، إذ توقف طويلا تحت ميزاب كان يقطر ماء متسخا فاخذته الحيرة وطاله الوسواس ما إذا كان قد طاله نثار النجس ام لا، حتى إذا اشتدت به الحيرة، واستطالت به المعاناة تقدم ووقف تحت سيل الماء المتسخ، وهو يقول: الآن اصبح الشك يقينا.
اختصار المعاناة يحتاج الى لاعبين  فرسان، لا الى مناورين.. فاين هم؟.

***

"لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى، بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه".

العقاد

133

المغيبون..
الجريمة المسكوت عنها

عبدالمنعم الاعسم

لا تزال الاف العائلات تكابد فجيعة اختفاء ابنائها منذ العام 2003وقد تقطعت بها السبل في البحث عن مصائرهم، او في الاقل، الاسترشاد الى جثثهم لكي تكون لهم قبور مثل قبور الاخرين، واكثر فجائع هذا الملف تُقرأ في ما تركه الغائبون من ابناء صغار كبروا يكبرون على امل عودة ابائهم، وفي امهات يعشن عاما بعد عام تحت جمرة الانتظار الحارقة، وقد قضت امهات واباء تحت لوعة هذه الفجيعة.
 وإذ يعرف المغيبون قبل العام 2003 الجهة التي غيبتهم (حكم الدكتاتورية) فان مغيبي عقد التغيير ضائعون بين جهات عديدة، لا تكشف عن مصائرهم، ولا تعترف حتى بمسؤوليتها عن اختفائهم، وفي هذا يكمن مشهد الجريمة الانسانية بالالوان الطبيعية، بالرغم من ان عائلات الضحايا ويوميات الاحداث الامنية التي مرّ بها العراق توجه اصابع الاتهام الى هذه الجهة(او الزعامة) او تلك ، لتصبح لدينا لائحة اتهام لا تعفي احدا من لاعبي المرحلة من المسؤولية، بل ان القوانين والمعاهدات الدولية تقضي باحالة كل من يشتبه بمسؤوليته المباشرة وغير المباشرة عنها(او يتماهل في واجبه حيالها) الى العدالة حتى تثبت براءتهم، وفي المقدمة منهم المسؤولين عن السلطة التنفيذية.
 ان الامم المتحدة ووفق “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006” تحمل الحكومات المسؤولية المباشرة عن مصائر اولئك الذين اختطفوا وغيبوا، وتضعها تحت طائلة الحساب والمساءلة في حال اهملت هذه المسؤولية او حتى عجزت عن ملاحقة المجرمين،وقد تتولى المنظمة الدولية (وفق معاهدات اخرى) مهمة التحقيق والتجريم بدلا عن الحكومات في حالات لا تستطيع الحكومات القيام بمثل هذه المهمة، وفي السجل الدولي ثمة الكثير من الحالات التي اضطرت فيها حكومات الى الاستقالة في حال لم تتمكن من اقناع الرأي العام بجدية البحث عن المختفين قسريا، ويمكن بهذا الصدد قراءة ملف مختطفي الحرب العالمية الثانية، ثم قضية المغيبين في تشيلي بامريكا اللاتينية
 ففي المادة 12 من الاتفاقية(الفقرة 1) تلتزم الدول الموقعة بالتحرك على وجه السرعة لملاحقة المجرمين بان “تكفل لمن يدعي أن شخصا ما وقع ضحية اختفاء قسري حق إبلاغ السلطات المختصة بالوقائع وتقوم هذه السلطات ببحث الادعاء بحثا سريعا ونزيها وتجري عند اللزوم ودون تأخير تحقيقا متعمقا ونزيها. وتتخذ تدابير ملائمة عند الاقتضاء لضمان حماية الشاكي والشهود وأقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق، من أي سوء معاملة أو ترهيب بسبب الشكوى المقدمة أو أية شهادة يدلى بها” ثم، في (الفقرة 2) تجري السلطات “تحقيقا حتى لو لم تقدم أيةشكوى رسمية” ويشار ايضا الى ضرورة تامين الصلاحيات والموارد اللازمة لسلطات الملاحقة والتحقيق “بما في ذلك إمكانية الاطلاع على الوثائق وغيرها من المعلومات ذات الصلة بالتحقيق الذي تجريه” فضلا عن “سبل الوصول، وعند الضرورة بإذن مسبق من محكمة تبت في الأمر في أسرع وقت ممكن، إلى مكان الاحتجاز وأي مكان آخر تحمل أسباب معقولة على الاعتقاد بأن الشخص المختفي موجود فيه” كما جاء في (الفقرة 4) .
ويعد (موقف التفرج ) من قبل الحكومات على هذه الجريمة (والتباطؤ) في ملاحقة المجرمين بمثابة شبهة تقع عليها او على ركن من اركانها.
 جريمة التغييب القسري لاسباب سياسية شنيعة، ولدينا في العراق ضحايا لها يستيقظون في منازلهم صباح كل يوم، يتساءلون عما حل بقضيتهم العادلة .

***********
"اذا عظم المطلوب قل المساعد".
المتنبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


134

هل الازمة ذكرأ..
أم انثى؟

عبدالمنعم الاعسم

لحسن الحظ، ولسوئه في ذات الوقت، ان اللغة تتكفل احيانا تهريبنا من موقف الحرج، وانها تقدم لنا وجبة دسمة من الخداع في اللحظة التي نحتاج فيها الى من يخدعنا.. وقدرة اللغة في ذلك هي قدرة الساحر الذي يأخذنا الى النهر ونحن عطاشى ويعيدنا الى مكاننا من غير ان نشرب الماء.
ويشاء الجدل حول الازمة السياسية المتفاقمة في البلاد ان يكتشف معبرا سريا الى رطانة جديدة حول ما إذا هي ازمة، ام صراع سياسي، ام احتقان سياسي، ام استعصاء، مشكل، معركة، تعاضض، حرب اهلية، سوء فهم، مخاشنات، أم هي لا هذا ولا ذاك، حيث لا تعدو عن خلافات  عادية بين اهل البيت، او سحابة عابرة سرعان ما تنقشع، ولا يحتاج الامر سوى استبدال عبارات التهديد والتخوين والتشكيك والطعن بعبارات اخرى خالية من التشنج والتعصب والغل، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
من جانب آخر، فان الازمة هي الازمة، مهما حُشرت في اسم  ناعم، او دُسّت في رداء مخادع. او جرى ترحيلها من خانة الاحتقان الى الاستعصاء الى الخلاف العائلي. الصفة، مهما كانت رشيقة وشفافة وانيقة، لا تخفي بشاعة الخطايا التي ترتكب بموصوفها، ولا يهم اسم الخطيئة بعد ذلك ان تكون ذكرا ام انثى، كما لايهم ان يكون ضحاياها قد قتلوا بالتفجيرات او كواتم الصوت او بالامراض الفتاكة، فان احدا لا ينكر بان ما حدث من انشقاق سياسي (سمّه ما شئت) قد دفع ثمنه المواطن الذي لم يكن معنيا بمن هو على حق ومن هو على باطل في الموقف من اداء الحكومة او إداء مناهضيها.
بل ان الازمات السياسية  تعرف جيدا” افضل منا” سبل التصرف بمصائرنا، انها الى ذلك ”لا تـُدجن” بحسب نوع المعلف الذي نعده لها. الازمات قوانين تتحرك في مسارات قد لا تثير رضانا، لسبب بسيط هو اننا لم نضع تلك القوانين انما وضعتها سلسلة من العمليات والارادات والافرازات ثم خرجت من الانضباط.
اذا كنتم، حقا، ترغبون عبور الازمة (سموها ما شئتم) فلاتمروا من تحت جسورها، فان ذلك لايفكك مخاطرها، ولا ينزع فتيلها. اعبروا من فوق الجسور ترون الازمة على حقيقتها, البلد ينزف من جروحه، انظروا الى التفجيرات والاغتيالات والمذابح التي تنظم لسكان الاحياء الفقيرة. انها من النتائج العضوية والمباشرة والكارثية لهذه الازمة. امسكوا ا لازمة من هنا، ثم بعد ذلك سموها ما شئتم.
ذكرا ام انثى.
 ***
“ أشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في فضل نفسه”.
ابو حامد الغزالي




135
المنبر الحر / هواء فاسد
« في: 11:57 24/07/2012  »

هواء فاسد

عبدالمنعم الاعسم

كيف يحدث كل هذا؟ اعني ما يحدث في بعض كواليس السياسة: خصوم الامس صاروا سمنا على عسل، وحلفاء البارحة طلّقوا بعضهم بالثلاث، وكثير من الماء جرى على هامش السباق الى المجهول. اما الشعارات والبرامج والمواقف القديمة فقد تخلى عنها هؤلاء وصاروا اخف من الريشة، ومن زاوية يبدو ان المطلوب هو تصفيات الحساب: تلوي يدي هنا، الوي يدك هناك.

حتى الآن، تجري فصول اللعبة في الكواليس، وكأنها تجري بين اشباح (اين كتاب اللامعقول؟) ولاينبغي الاطمئنان كفاية الى القول الشائع ان النية تتجه الى تصفية القلوب والعودة الى حكمة التوافق والتكافل والتضامن والاخوة والشراكة، فان شيئا قليلا من هذا يحدث في الواقع حتى الآن، وان من يقترب من دائرة تلك الكواليس، ومن يمعن النظر في تسريباتها، سيعرف كيف يلوي البعض ذراع البعض الاخر من المواضع الحساسة، والهدف إجبار الاخر على التنازل عتبة عن قاسم المشهد ومقسوم الامتيازات، وطبعا سيكون المراقب بحاجة الى تفكيك بعض الالغاز والرطانات عما يقال حيال العملية السياسية والمصالحة الوطنية، والتضحية في سبيل الشعب، ومكافحة الفساد، واعادة الاعمار.

 الذي يجري باختصار، محاولات حميمية لاعادة هيكلية المصالح الفئوية، وترتيب مصالح هذا الجار او ذاك، وبهدف توظيف نتائج هذه المعركة، في حساب جديد للحجوم والمقامات، وثمة في السياق الكثير من الابتزاز والضغط والتلويح باجراءات وتعديلات وتحالفات جديدة، وثمة بالمقابل ايماءات عن تحريك ومراجعة قواعد وثوابت وتعهدات واستحقاقات سابقة. المتقدمون يتصرفون كاصحاب حق اضافي، والمتأخرون غير مستعدين للتنازل عن مساحاتهم، فيما يبحث الاخرون عن معابر قصيرة وآمنة للامساك بالحصان الجامح.

 وبكلمة موجزة، فان المراقب الموضوعي لهذا الصراع يلاحظ ان ثمة اندفاع متعجل لفرض معادلات جديدة يتساقط عنها منافسون او طامحون او خاسرون، وان هناك ليّ اذرع، واصوات توجع واستغاثة، لكن ثمة فرص محدودة للكسبٍ على السطح من دون ثمن.

 المزاحمة، سياسة آنية، إملائية، يستخدمها المتصارعون ووكلاؤهم من موقع قوة، او من زاوية ظرفٍ مواتٍ، حرج ٍ، لمعاقبة الآخر او اقصائه او حمله على الاذعان لمشيئته، ويساعد الاشتقاق اللغوي والدلالي للمزاحمة والتزاحم والازدحام على الاستطراد في كشف قدرة هذا الفعل في ان يلهم علوم السياسة استخراج معاني غاية في الاهمية مثل مزحوم وبمعنى اضطرته المنفعة ، او متذرع، او ذرائعي، والذرائعية (مذهب النفعية) التي جاء بها وليم جيمس وتشارلس ساندر بيرس وتوسع فيها جون ديوي، وتعني ان قيمة كل شيء تتمثل في منفعته وهدفه.
وهذا ما اعنيه بالهواء الفاسد.
 ***
"جميل ان تكسب الرهان، لكن الاجمل ان تكون فارسا في السباق".
هولاند- الرئيس الفرنسي الجديد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ


136

"نحن شرقيون"
سامحونا

عبدالمنعم الاعسم

كنا وما زلنا شرقيين، (سامحونا) فعبادة الافراد متأصلة في هواجسنا وثقافتنا، ونذهب الى إضفاء الالقاب والاوصاف الفانتازية على من نواليهم ونتبعهم ونتخلق بهم، ولا نقتصر في هذا على المصلحين او شيوخ الطرق او رجال القبائل او الشخصيات الاجتماعية او الرياضية بل صرنا نتفنن في ترقية السياسيين الى موصوف “الرقم الذي لا يقهر” و”المنقذ الوحيد” و”من دونه تنهار البلاد ويتقاتل العباد” ولا نتورع، في حمية الولاء الاعمى، عن ان ننسب لهذا السياسي اعمالا ومعجزات فوق ما يتحمله العقل، وخلاف ما ترخصه دروس الماضي القريب.
ويوما جاء احد مريدي الصوفي (الذي اشتهر برجاحة العقل) سهل التشتري المتوفى عام 886 ميلادية حائرا ليسأله قائلا: ان الناس يقولون ان بمقدورك ان تمشي فوق الماء، فكان رد الرجل الحكيم بان طلب من سائله الذهاب الى مؤذن في المدينة معروف بصدقه كي يسأله عن الامر، وحين ذهب المريد الى المؤذن تلقى الجواب الشافي منه إذ قال له: انا لا اعلم إن كان شيخنا التشتري يمشي على الماء، ام لا، لكن ما اعلمه هو ان الشيخ الجليل حين قصد حوض الماء ذات يوم بغية الوضوء سقط فيه وكاد ان يموت غرقا لو لم اسارع الى نجدته وانقاذه.
ولأننا شرقيون، ولا نحترم دروس الماضي، فقد ادخلنا الخرافة الى سوق السياسة، فنردد دائما: “واحد يصلح لانقاذ العراق.. لا غيره” وكأن العراق ثوب فصل على طول هذا "الواحد" وعلى  مقاس هذه الخرافة التي طبخت في غرف مظلمة، والغريب ان مصنع الخرافة هذا انتج منقذا لكل جماعة، تتمسك به حتى الموت، حتى ان “المنقذ” نفسه صدق الكذبة مثلما صدق اشعب كذبته يوم قال للاولاد ان ثمة وليمة باذخة في منعطف اقصى البيوت، وحين هرعوا الى صوب الوليمة المزعومة ركض هو وراءهم وهو يردد: ربما الامر صحيحا فانال وجبة دسمة.
الجدل الدائر حول قيادة هذه المرحلة واهلية الزعامة المطلوبة ينزلق شيئا فشيئا (لأننا شرقيون) الى التقليل من شأن العقل وجدوى وضرورة وشرط مبدأ العمل الجمعي، كما يتجاوز حقيقة ان مشاكل العراق الكبيرة اكبر من ان يستوعبها عقل لوحده، أو ارادة شخص واحد، او رئيس حكومة بعينه، وانه لا صحة في الواقع لوجود “المنقذ” الذي سيأتي بالحلول، وبالامن والكهرباء وراحة البال، بوصفه الوحيد الذي يعرف فوق ما يعرفه الاخرون، ويعمل ما لايستطيع ان يعمله غيره، ويخطط ما لم يكتشفه احد من المخططين والاستراتيجيين من الخطط.
المشكلة، ان الذين جربناهم، والذين لم نجربهم، جاءتهم الفرص المواتية لكي يكونوا منقذين حقا فاخفقوا في ان يكونوا كذلك، ولكن لأننا شرقيون فاننا نكره دروس الماضي القريب وعبره.
***
"الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً".
اينشتاين







 
 

137

اسمعوا وعوا.. ايها السادة


عبدالمنعم الاعسم
 
جميعكم في مركب واحد مطلوبٌ لقراصنةٍ وامواج عاتية ولحساب الملايين، إنه في منتصف الطريق، وقد يغرق بكم وبنا، والحل في الاتفاق على حل وسط، وقبل ذلك في الاستعداد للتضحية بالامتيازات وتقديم التنازلات. انها فرصة النجاة والعبور الى ضفاف السلامة، والبديل عنها هو المقامرة.
السياسة تجيز لكم التصارع، لكنها في ذات الوقت لاتجيز المقامرة. المقامرة في السياسة قضت على دول وامم كاملة، والغت خرائط من الوجود، والعراق الجديد لايتحمل، الآن، اختزال مصيره الى طاولة قمار.
نعم، تمتد نزعة المقامرة في عمق التاريخ وتجد إشارات لها لدى هيرودوتس وفي آثار الفراعنة والفرس والصينيين القدماء والبابليين والاغريق حتى حروب الاندلس، حتى استخدمها الفرنسيون في القرن الرابع عشر كعلاج للمرض العقلي الذي أصيب به الملك شارل السادس، لكن ارسطو صنف المقامرين في كتابه (الاخلاق) في طبقة اللصوص وقطاع الطرق.. أكرر اللصوص وقطاع الطرق.
تذكروا ان مستقبلكم يتحقق على ارض اعلى من مستوى الماء واكثر امنا من الامواج واللف والدوران، وخذ وهات، وقد مضت مرحلة جس النبض، واختبار النيات، وحان وقت الفعل الشجاع.
القضية، انكم كتبتم الدستور، وها انتم تختلفون في تفسير ما كتبتم.. وتحرقون الكثير من الورق بما فيه وعود قدمتموها الى الناخبين.. هكذا يقول العالم عنكم.. وكتب معلق اجنبي عنكم ”في العراق يهزون يدك قبل الانتخابات، وثقتك بعدها..” وقال ماثيو هيوز استاذ العلوم السياسية في جامعة لندن “المشكلة ان الطبقة السياسية العراقية الجديدة غير متصالحة، لا مع نفسها ولا مع بيئتها”.
لكن، تستطيعون ان تغيروا هذه المقولات، وحتى المعادلات، بحكمة الخروج من الخنادق واللاءات والمطالب المستحيلة، وتشييد خشبة النجاة من صلب معاناة الملايين، وجاء في احدى الروايات بان نوحا عليه السلام شيد سفينته، اول الامر، في صحراء قاحلة، لا ماء فيها، وحين اغارت مياه الفيضان دفع الغرقى ثمن استهتارهم، واستهانتهم بالاخطار والانواء.
لا تتبادلوا القبل. هذا لم يعد يهمنا. يقول المصريون القدامى” قبلة من غير محبة تحرق الشوارب” نريد ان تتبادلوا الثقة، لا القبل، وحينذاك، ستعبرون بنا الى فضاء المحبة الحقيقية، والود الجميل.
وحين لا تعبرون بنا، على خشبة النجاة، الى تلك الضفاف الآمنة، سنضطر الى رفع نخب انتصاركم علينا.
وهزيمتكم المؤسفة.
****
“ كل مرض، معروف السبب، موجود الشفاء”.
      ابقراط

138
المنبر الحر / كنت سأقول للمالكي
« في: 23:27 05/07/2012  »

كنت سأقول للمالكي

عبدالمنعم الاعسم
دعيتُ لحضور لقاء مقرر لزملاء اعلاميين مع رئيس الوزراء السيد نوري المالكي يوم الاثنين الماضي، لكن احكام السفر في نفس يوم اللقاء حالت دون ان اكون بينهم، واسمع منه بدل ما اسمعه عنه،  وان اشارك في إبداء الرأي حول ما حدث ويحدث، ولا استبعد ان يكون بعض هؤلاء الزملاء قد عبـّروا عما كنت اريد ان اقوله في هذا المحفل.
 كنت سأرحب بمنحى لقاء رئيس الوزراء بالنخب الاعلامية، متعددة الرؤى والقراءات، إذ يتاح له، ولهم، فرصة معاينة الازمة السياسية وامتدادها في العقول والهواجس بصوت مسموع، ومباشر، وعياني، في وقت تتناسل الاحداث عن اسئلة شائكة ومشروعة واستباقية لم تعد الجملة الاعلامية الرسمية تُشبع اصحابها، وإلا ما حاجة الاعلامي الى هذا اللقاء لو انه حصل على اجابات شافية من اقنية الحكومة. 
 وكنت ساقول للمالكي: لا احد، من اصحاب الانصاف والنظرة الموضوعية ينكر، او يتجاهل، انكم حققتم خطوات مهمة على الارض، بالمقارنة مع اعوام 2004 وحتى 2008 في مجرى استتباب الامن وتجفيف بؤر الاستئصال الطائفي وانهاء سطوة المليشيات، وهي منظورات ومحسوسات يعود تحقيقها الى قرارات اتخذتها في داخل حلقة صغيرة اجزم (واعرف جيدا) انها ليست حزبية ولا طائفية، دون ان تفوتني الاشارة الى الاسترخاء الشعبي العارم الذي حصل لصالحك، ودخل في رصيدك، كرجل دولة، لا كزعيم حزب، وكان سيكون رافعة لعملية بناء، واعادة بناء، متسارعة، لولا ان انتخابات العام 2010 وتحديات اعتراضية حالت دون ذلك.
 وكنت ساقول: نعم، اتخذتَ، دولة الرئيس، سلسلة من القرارات المهمة في مجال تحريك ماكنة الدولة ما كانت تتحقق لو انك عدت فيها الى رؤساء الكتل السياسية، الامر الذي الحّوا عليه. اعرف هذا جيدا. واعرف ان بعض تلك القرارات غير موفقة كفاية، وبعضها يدخل في موصوف الفردية او التأهيلية للحزب الحاكم، وينطبق هذا على بعض التعيينات، غير انه، في جميع الاحوال، لا مفر لرئيس الوزراء من ان يتخذ قرارات، ويبدو ان اصحاب الازمة السياسية لا يريدون رئيسا للحكومة يقرر قبل ان يرخصوا له ذلك، على الرغم من انك احجمت (لأسباب معروفة)عن اتخاذ قرارات لجهة بناء دولة المؤسسات والعدالة والمساواة، واخرى لانهاء بؤر التوتر مع اقليم كردستان وثالثة نحو تطمين اتباع الطائفة الاخرى ومعالجة شعورهم بالتهميش، ورابعة في مجال الخدمات وتوفير الكهرباء كاولوية، وخامسة باتجاه حماية الحريات العامة وكبح التعديات الامنية واللاقانونية على الحياة المدنية.
 وكنت ساقول للسيد المالكي، بانني، ومن موقع المراقب المستقل، لا اجد حكمة بازاحتك عن منصبك في هذا الظرف، لأن إحلال بديل عنك لن يمر بشفافية وقائية، والبديل نفسه بالنسبة لي غامض، ومجهول، ومحمول على ظنون غير مريحة، لكن ولأصارحك القول ان الامر الاكثر فائدة لك ولرصيدك السياسي وللعراق ان تتخذ بنفسك قرار الانسحاب من المنصب، قبل الذهاب الى قبة البرلمان، حين يكون غالبية شركائك قد سحبوا ثقتهم بك.. وبانتظار هذا القرار الشجاع.
***
" وأَتعَبُ مَن ناداكَ مَن لا تُجيبُهُ ... وأَغَيظُ مَن عاداكَ مَن لا تُشاكِلُ".
المتنبي


139

تصريحات رئيس الحكومة

عبدالمنعم الاعسم

اولا، وقبل كل شيء، لا يصح ان يكون رئيس الحكومة معلقا سياسيا، يدلي برأيه حول كل شاردة وواردة من الاخبار، أو يناقش الاراء الاعلامية، أو يرد على وجهات النظر المتداولة في الصحافة، فهو قائد السلطة التنفيذية التي تقف في وسط الاراء والخيارات والمواقف، وعليه ان يراعي اثر كل تصريح، وان يحرص على توقيته، لكي يكون ذا تأثير ايجابي على مواطنيه، بصرف النظر عن ارائهم، وعلى موظفيه على حد سواء، وأن لايكون مشحونا بالتأليب والغل والاثارة.
وتصريحات رئيس الحكومة تنأى، كما يفترض، عن ردود الافعال، فهذا منزلق الى ساحة رخوة لايدخلها رؤساء الحكومات الواثقون من انفسهم، إذ يختزل وظيفته الخطيرة الى ملاسنات سياسية يومية تستهلك وقته الذي ينبغي ان يكون للعمل والبناء وحماية ارواح الناس، عدا عن ان رد الفعل (في علم السياسة) يعني انك تنقاد الى صاحب الفعل فهو يختار الميدان والوقت والموضوع، والادوات المناسبة للمعركة الكلامية.
والتصريحات المسجلة لرئيس الحكومة ينبغي ان تصمم على مقاس كيمياوي، في اللغة والبناء والهدف، بحيث لايشم منها اعتبارات حزبية ولا فئوية ولا طائفية، وحين يستخدم عبارة الشعب فانه يحاذر ان تكون العبارة كنية عن الحزب او الطائفة، او انها تتجه الى كسب العواطف وإحراج الخصوم السياسيين، فقد ملّ المواطن ادعاءات الغيرة على الشعب التي استهلكها الحكام المستبدون وحولوها الى خرقة يمسحون بها وجوههم.
رئيس الحكومة لا يستخدم لغة التهديد في الصراع السياسي، فهي مقتله، ونهاية سمعته، ومنحدر وظيفته.
تصريحات رئيس الحكومة تهدئ لا تصعّد، تطمئن لا تقلق، تبني لا تسوّي، تفيد لا تضر، تنطلق من فروسية في التعامل مع الخصوم، ومن مصداقية في تجهيز المعلومات، ومن ثقة بالنفس في الاعتراف والاعتذار واحترام الآخر، ومن نقطة في الوسط نحو الاطراف، والاطراف عند رئيس الحكومة متساوون بحكم الدستور ودولة القانون.
احسب ان رئيس الحكومة لدينا عبَرَ، هنا وهناك، من فوق لوازم ما يلزم.
 
***
"صدرك يتسع للنقد.. فانت على طريق النجاح".
نهرو


140

الكرة في ملعب المالكي

عبدالمنعم الاعسم  
أصبح واضحا، الان، بان سحب الثقة عن رئيس الوزراء نوري المالكي دخل في مسار آخر لا يتجه بالضرورة الى خيار التصويت، وذلك بعد ان بادر الرئيس جلال طالباني، الى تذكير الجميع بمسؤوليته في حماية السياقات الدستورية، ومنع اندفاع الاوضاع الى نقطة اللاعودة، ودعوتهم الى البحث عن بدائل تعبر بالاحتقان السياسي الى التهدئة والشراكة وتصويب السياسات والمواقف.
لا ينبغي تبسيط المعادلة الى حد القول بان الازمة اخذت طريقها الى الحل، فان الانانيات الفئوية لا تزال تضرب في عمق المواقف والنيات والكواليس، فمن جهة يسعى معسكر المالكي الى اعادة المعادلة الى مربع الاستفراد وسياسة تسريع الركض الى الانتخابات من غير تنازلات، ومن جهة اخرى لا يزال الطرف الاخر من ازمة سحب الثقة في محاولات إنزاله من القاطرة او إثارة الاعاصير السياسية وتحويل الساحة الى فوضى وكوابيس.
في هذه المحطة المشحونة بالترقب واطلاق الرسائل وليّ الايدي تكون الكرة قد تدحرجت الى المربع الاول ذي الصلة بموقف المالكي، فهو يستطيع تأسيس قاعدة آمنة (بحدها الادنى) لرئاسة الحكومة بقيادته حتى نهاية هذه الولاية عبر سلسلة من القرارات والاجراءات والاصلاحات التي من شأنها تكييف وتحسين عهد الشراكة في ادارة الدولة، وبديلا عن ذلك يمكنه ان يستأنف ادارة السلطة التنفيذية والدولة وكأن شيئا لم يكن، وفي هذا الخيار يمكن ان يتوقع المراقب صراعات مستفحلة ومشاكل اقليمية  والى هزة او سلسلة من الهزات، التي لا احد يعرف نتائجها  ا لكارثية.
الكرة في ملعب المالكي، بين الوقوع باغواء (ومخاطر) الشعور بالانتصار في معركة سحب الثقة ودحر الاخرين، او التقدم نحو معالجة شكاوي الكتل المعارضة  التي التقت في اربيل والنجف والبحث عن وسائل تطبيع المشهد السياسي من دون اقصاء او تهميش.
مرة اخرى فان تحويل مسار السباق من وجهته نحو السلطة الى وجهة التنازلات المتقابلة هو القرار الوقائي الذي ينقذ الجميع، والوضع السياسي، من الانحدار الى الهاوية.
وبصراحة، لا فائدة من الضجيج الاعلامي
***
"لا صوت يطربني اكثر من اللاصوت".
مالارميه

141


ثلاث مشكلات في
"سحب الثقة"

عبدالمنعم الاعسم

سحب الثقة، او التلويح به، عن الحكومات او الرئاسات او الوزراء او رؤساء الهيئات القضائية، من خلال السلطة التشريعية، ممارسة ديمقراطية برلمانية لا شائبة عليها، وحدثت وتحدث في الغالبية الساحقة من الدول الدستورية، وتدخل في عداد اجراءات الوقاية من الانزلاق، وشحذ الرقابة النيابية على سلوك السلطات الاخرى، وتكريس مبدأ المراجعة والمحاسبة والتصويب.
 وقد مورس هذا الخيار، عراقيا، او طـُرح في التداول السياسي، منذ انتخابات العام 2005، ومعروفة للجميع الاسباب التي كانت تقف وراء الحديث عن سحب الثقة، وكانت الصراعات الفئوية والشخصية (وبنسبة اقل ما يتعلق باداء واخطاء رئيس الحكومة) تفرض نفسها في الغالب، فيما يتفاجأ الراي العام والمراقبون بان الامور لاتزال معتلة، وكأن شيئا لم يحدث.
 هذا، اذا ما شئنا الصراحة حقا، او اذا ما نظرنا الى تجارب تشكيل الوزارات العراقية في عهد التغيير من زاوية مقربة وموضوعية، وهي احداث ليست بعيدة في الزمان والمكان، على اية حال، وعلينا ان نضيف، بذات الصراحة، ان ثمة محاولات لاختزال الازمة السياسية "البنيوية" لنظام ما بعد الدكتاتورية الى ازمة زعامة او اهلية زعامة.
 وإذ يجري الان، وعلى نطاق واسع، مناقشة اللجوء الى "سحب الثقة" من حكومة "الشراكة الوطنية" فليس من قبيل كشف السر القول بان هذه المناقشة تتركز على شخص رئيس الوزراء نوري المالكي، سياسة وإداء، ومن هنا تبدأ اولى مشكلات هذا الخيار، فان التجربة اكدت بان استبدال الاشخاص لا يحل ازمة الحكم القائمة على معادلات افتراضية خاطئة، ومنتجة للازمات، كما ان "الرجل المنقذ" البديل وصاحب الحلول السحرية كف عن الخروج من زاغور تلك المعادلات، بديلا عن "الارادة الجمعية" التي اضاعت زخمها في سياق الصراع على السلطة.
 ثاني هذه المشكلات يتعلق بالبرنامج الحكومي، البديل، فليس بين ايدينا إلا تسميات عمومية وانشائية لما هو مطلوب، وبعضها اشارات وصفية (صحيحة) للعلل والعثرات والاخطاء، واحسب (وهذا هو موضع هذه المشكلة) ان طاولات البحث في سحب الثقة عن المالكي لم تتناول العـُقد والملفات الاكثر خطورة في المشهد السياسي للحظة التاريخية، وهي ملفات يعرف المتابعون عن قرب وعورة المداخل اليها، ومنها، وفيها.
 المشكلة الثالثة، يمكن قراءتها في هوامش "حركة" كابينة رئيس الوزراء لاحتواء قرار سحب الثقة، وهي هوامش يغطيها الدستور وتتيحها خارطة الكتل والمكونات البرلمانية، ويجري الحديث عن حكومة اغلبية او، في ما يقال عن حكومة تصريف اعمال تبقي ازمة تشكيل الحكومة لاطول فترة متاحة.
 نعم، هناك ما يستوجب اعادة النظر بماكنة الحكومة، وقيادتها، لكن من اية زاوية ننطلق الى ذلك؟ تلك هي القضية.
***
"الثرثار، انسان تسأله عن الوقت فيشرح لك كيف صنعت الساعة".
حكمة مترجمة




142
ما شكل الحكومة.. الآن؟

عبدالمنعم الاعسم

لم استطع الاجابة عن سؤال فاجأني به مراسل لاحدى القنوات الفضائية قائلا: ما شكل الحكومة العراقية الآن؟ ولما لاحظ حيرتي،  وترددي في الاجابة،حاول ان يسهّل علي الجواب، قال: هل الحكومة موحدة، ام هي منشقة، ام هي معطلة ولا بصمة لها على ارض الواقع؟ ثم اطلق آخر اسئلته المحيّرة: أعني، هل هناك حكومة قائمة، فعلا، تجتمع وتتخذ القرارات المصيرية وتدير شؤون البلد وتضبط اداراته؟.
حتى اللحظة التي اكتب فيها هذه الكلمة، لم يكن لدي جواب محدد، فلا استطيع ان انفي وجود حكومة، لها هياكل ووزارات ورئاسة، وأعرف ان لا احد من الدول طعن في وجودها، او كتلة من الدول، او مرجعية دولية او اقليمية تشككت في شرعيتها، وهي فضلا عن ذلك تستند الى دستور لم يرخص حلها، والى برلمان لم ينه تفويضه لها، حتى اللحظة.
كما لا استطيع ان اؤكد وجود حكومة بالمعنى الاكاديمي، المتعارف عليه بين الدول، فهي متشظية بالطول والعرض. اركانها لا يشاركون رئيسها منهجه وسياساته، والكثير من وزرائها يتلقون شكل مواقفهم، وحتى ادارتهم لمرافقهم، من رؤساء كتلهم، وليس ثمة حكومات اعضاء كثيرة في الامم المتحدة (كما هو حال الحكومة العراقية) ترسل الى العالم وجيرانها رسائل متناقضة عن اوضاعها، فقد اصبح معروفا، كما قال زميلي المراسل، انك اذا اردت معرفة ما يجري في العراق فان عليك ان لا تكتفِ بمطالعة مسؤول واحد، فان لكل مسؤول جواب ولكل منهم رؤيا.
لست بصدد تشريح الجسد العليل للحكومة لتسمية المسؤول عن عللها وشللها، ولكن، من المهم هنا، الاعتراف بان هذه الحكومة لا تعدو عن هيكلية (دستورية. نعم، ولكن) مفرغة من شبكات وموجبات وسياقات العمل الحكومي، وان سياساتها المفصلية وقراراتها الاكثر مساسا بالسياسات العامة (وهذا ليس اتهاما او تجنيا) تدار من غرف موازية وعبر مفاتيح شديدة التعقيد والخصوصية، وبمعنى ما ان هناك حكومة اخرى من المستشارين والمقربين تتولى ادارة عجلات الدولة المشلولة في الاصل، فيما يواصل وزراء الكتل المتصارعة دوامهم اليومي مثل بقية الموظفين باستثناء طوابير الحمايات التي تشق لهم الطريق الى مكتاتبهم.
قال لي زميلي المراسل: بالامس سألت مسؤولا مهما عن شأن يتعلق بصلب وظيفته، فلم يقدم لي جوابا شافيا واكتفى بالقول: إسأل غيري، لكن ارجوك لا تخبر احدا انني لم اجبك عن هذا السؤال، واضاف زميلي في الختام: الحكومة العراقية غير موجودة، لا تزعل، واضاف ضاحكا، لكنها تفكر كثيرا في ان تكون موجودة، وهذا في صالحها إذا ما اعدنا مقولة ديكارت: انت تفكر، فانت موجود.
 ***
“ تبا لسطحية سكنت عقول البشر”.
                               شكسبير
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


143

اين فشلت
تجربة "الشراكة" في الحكم؟


عبدالمنعم الاعسم

احسب ان الحلقة الرئيسية لحل الازمة السياسية تتمثل في اعادة بناء “حكومة الشراكة” على وفق تجربة عامين ونيف من الصراعات والتوافقات والاحداث، إذ افرزت جملة من الحقائق يمكن الاشارة الى ابرزها:
* ان ادارة الحكومة وكابينة قيادتها انعزلت تماما عن غالبية مكونات الشراكة، بمن فيها داخل تحالف الاكثرية، وقامت بالتفاف من حول التعهدات والاتفاقات المعلنة وخاضت طوال هذه الفترة “معارك” مع جميع تلك المكونات، وفي اوقات مختلفة، كانت هي تضع بعض توقيتاتها وبعض ميادينها.
* بروز نزعة “الحزب الحاكم” وتوسيع هيمنته على مفاصل حكومية وامنية ومالية واعلامية، ومحاولات استخدام مجسات وامكانات السلطة في تكوين هياكل وتجمعات معدّة لحسابات النفوذ والانتخابات المقبلة.
* استقواء بعض مكونات الشراكة السياسية بالدول المجاورة في صراعاتها مع الحكومة، وزاد ذلك في تعقيد الازمة، الامر الذي شجع دولا اخرى على التمدد السياسي والامني في خواصر المشهد العراقي القائم.
* تورط فئات وزعامات محسوبة على العملية السياسية في انشطة امنية ميليشياتية وارهابية وفي اعمال اغتيال وتفجير وضرب مفاصل الاستقرار.
* دخول جميع مكونات الشراكة، وإن بنسب متفاوتة، في سباق التصعيد والاثارة وكسر العظم واثارة الريبة بنيات الاخرين ورفع سقوف الشعارات والمطالب والاجندات، واطلاق حملات التشهير الشخصي، مما اضر بالجميع واساء الى سمعة العملية السياسية معا.
* سقوط هيبة الدولة على يد المسؤولين الحكوميين والكثير من النواب وبعض الاقنية الاعلامية النافذة، وزاد ذلك استشراء الفساد الذي وجد مناصرين له وحماة من اركان الحكم ومن معارضيه على حد سواء.
* فشل جميع السيناريوهات لتصويب مسار الشراكة في الحكم، مثل حكومة الاغلبية، انتخابات مبكرة، التزام صيغة اربيل، المؤتمر الوطني، لقاء زعماء الكتل، نصائح وتحذيرات وتوقيتات وتهديدات باسم مراجع وزعامات.
*انفلات الحالة الاقتصادية وغياب الدولة التام عن السوق وعجز السلطات عن احتواء المظاهر المدمرة للتوازن المعيشي (فئات تزداد غنى، واخرى تزداد فقرا) وتعطل مشاريع الخدمات واخفاق معالجة البطالة وبناء السلام الاهلي عابر للطائفية.
* من زاوية معينة يبدو ان كابينة الحكومة تمسك اكثر من ملف ذي صلة بالاختلال السياسي، لكن الموضوعية تلزم القول بان عددا من ملفات الازمة تقع خارج ارادة الحكومة، وبعضها بيد معارضيها على وجه التحديد.. وان تكرار التنصل من المسؤولية لن يغير من المعادلة شيئا.
***
“ ليس للاقتناع قيمة إذا لم يتحول إلى سلوك”.
توماس كارليل


144
في انحطاط الشعور بالمسؤولية..

عبدالمنعم الاعسم
 
المسؤولية علم. من مسؤولية ادارة فندق الى مسؤولية ادارة حكومة. ومنذ اكثر من مائة عام بدأ علم الادارة والمسؤولية يغزو المعاهد والاكاديميات ورفوف الكتب، حتى ان العالم الفرنسي “سان سيمون” فضّل ان يشحذ شعوره بالمسؤولية دائما، حيث املى على حارسه ان يوقظه، كل صباح، بعبارة”إنهض سيدي الكونت.. فان امامك مهام عظيمة لتؤديها الى البشرية” فيستيقظ بهمة، ممتلئا بشعور الغيرة على شعبه ومسؤوليته الادبية التي لم تكن سوى القراءة والتاليف والتبشير بفكرة السلام الاهلي.
وفي برنامج تلفزيوني امريكي عنوانه “علّمي طفلك المسؤولية” يحرص مقدّم البرنامج ان يقدم نماذج من مسؤولي الدولة الذين فشلوا في مهمتهم، وذلك لانهم لم يوفروا الثقة باعمالهم بين المحيطين بهم، وفي حوار ذي مغزى مع طفل (لم يكن ذكيا بالضرورة) عن رأيه في رئيس حكومة ولايته، يقول: لا احبه. انه يتكلم كثيرا. ويعد كثيرا. ويفزعني حين يطوّح بيديه كثيرا وهو يخطب”.
في علوم المسؤولية، ان الحاكم يصبح خارج المسؤولية الاخلاقية والادبية عندما يعمل لـ”حساب نفسه وابناء فئته” واحسب ان الامام على سبق منظري هذا العلم بالف واربعمائة عام بمخاطبة مسؤولي ادارة شؤون المسلمين قائلا لهم: “اتقوا الله في عباده وبلاده، فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم” ويحذر الخليفة ابن الخطاب من المسؤول “الذي لا ينام إلا على الرضا، ويضحك عند الغضب، وهو يتناول (يسرق) من فوقه ومن تحته” ويقول عن نفسه حين اصبح مسؤولا: “لو ان شاة هلكت ضياعا في شاطئ الفرات لخفتُ ان اُسأل عنها”.
في عهد الامبراطور شن الذي حكم الصين قبل اربعة آلاف سنة كان حكام الولايات يتخلون عن حراسهم واعضاء بطانتهم عندما يتسلمون مسؤولياتهم، وكان الامبراطور الحصيف قد منع الحكام التنفيذيين من “التحيز” لطائفة او ابداء العداء لاخرى. اما كونفوشيوس فقد كان يقول لقادة الجيش والحكومة: انتم مذنبون حتى يرضى عنكم الجميع، جميع السكان. وكانت افكار الحكيم الصيني تدرس في معاهد الادارة وتلزم رؤساء الحكومات بحفظها، عن ظهر قلب وبخاصة ما يتعين منها في ان يكون المسؤول مقبولا من مرؤوسيه، موثوقا منهم، وان لا يتعامل برد الفعل مع الاحداث.
علم المسؤولية يحرّم ادارة الدولة من خلال ردود الافعال.. هل نحدثكم عن مصائر الذين وضعوا سياساتهم وفق تلك القاعدة البدوية.. وماذا حدث لهم، وحل بنا؟.
***
“لا تشكّ في من يقول لك انه خائف، بل خفْ ممن يقول لك أنْ ليس عنده شكوك”.
اريك فريد


145
المنبر الحر / عن حُماة الامن
« في: 18:24 21/04/2012  »

عن حُماة الامن

عبدالمنعم الاعسم

مرة اخرى تثير الجرائم الارهابية السؤال، المشروع، بصدد مسؤولية الحكومة عن بسط الامن في البلاد، وقدرتها على لجم عصابات وجيوب الجريمة، ويتكرر السؤال بصيغ عديدة ومختلفة، فيما تذهب معايير الحكم الفاشل الى حصر الفشل (اولا، وقبل كل شيء) في عجز الحكومة (اية حكومة) عن حماية ارواح المدنيين، ولايقلل من دقة هذا المعيار ما يعرفه الجميع من معلومات عن ايغال المشروع الارهابي في فنون التنكيل بالمدنيين، وسقوط شعارات الجهاد ضد الاحتلال في وحول معاقبة المواطن، لا المحتل.
تفجيرات الخميس وفواجع المئات من العائلات، وأسى الملايين التي تابعت صور الاشلاء والنواح والمرارات، كشفت من جانب آخر، ما هو اكثر فجاعة ومرارة وإمعانا في التهرب من المسؤولية، إذ ظهر "حماة الامن" في صورة من لايعنيه عمق المأساة التي ضربت البلاد، ولاتشغله النتائج المروعة التي حلت بالضحايا وعائلاتهم، فتواروا ساعة المحنة وراء مكاتبهم وحصونهم وسياراتهم المصفحة، يتلقون المعلومات من مراسلي الفضائيات، ثم قاموا، كما في كل مرة، باستعراض القوة الفارغة في الشوارع وحول مسرح المذبحة، واختتموا المسرحية بتصريحات هي اقرب الى الرطانة منها الى الخطاب الامني المسؤول.
اعرف مراسلا اتصل بمسؤول امني ليستفسر منه عن دوي انفجارات تهز بغداد فرد عليه المسؤول انه خارج الدوام ولايستطيع مساعدته، او التقصي عما يحدث، فرد عليه صاحبي بالقول ان المسؤولية الامنية ليست وظيفة. فقـُطع الاتصال.
بعض “حماة الامن” ظهروا على المسرح، وهم يتوعدون عصابات الجريمة التي انسحبت الى اوكارها، وغسلت خراطيم المياه آثار غارتها الاجرامية، ما يذكرنا بقصة “اشقياء الطرف” التي اوردها علي الوردي في محاورة مطولة له مع حميد المطبعي ونشرت في كتاب “على الوردي يدافع عن نفسه” يقول:
“اشتهر في بغداد في اواخر العهد العثماني رجل لايملك الصفات التي تؤهله لأن يكون شقيا ناجحا، انه كان قصيرا نحيفا تنقصه الشجاعة، غير انه كان مصرا على ادعائه الشقاوة والتظاهر بها، فكان يحمل مسدسين يشدهما الى جنبيه لكي يتباهى بهما في المقهى، او عند مروره في الازقة، فاذا سمع في الليل صراخا يدل على وجود لص في محلته ظل في بيته ساكنا لايتحرك، حتى إذا هرب اللص، او القي عليه القبض، خرج هو من بيته وقد شهر المسدسين بكلتا يديه يطلق منهما الرصاص، ويصرخ: “اين هو؟.. دلوني عليه”.
“اللهم انا نعوذ بك من التكلف لما لا نُحسن”.
الجاحظ
 


146

قبل ان ينكفئ القارب

عبدالمنعم الاعسم

يبدو ان اصحاب ازمة الحكم ورؤوسها اضافوا الى علم التحالفات السياسة مفهوما جديدا، بل مفاهيم جديدة، اقرب الى حكاية اولئك الرجال المتنافرين الذين وجدوا انفسهم في قارب آيل للغرق وسط الامواج المتلاطمة، فتركوا واجب الحذر والعمل لانقاذ حياتهم، وانصرفوا يترصدون اخطاء وزلات بعضهم لساعة تصفية حساب على الشاطئ، او ليوم حساب في الآخرة. انهم يتحدثون مع الخصوم بكل ما يمليه عليهم واجب التضامن لدرء الكارثة التي تهددهم، فيما يتحدثون مع غيرهم بكل ما يسهل إغراق القارب بمن فيه.
قصة القارب ومآل رحلته المثيرة يمكن الاطلاع عليها في فيلم كارتون فرنسي، واحسب انها قصة تاريخية مدرسية واخلاقية، فان المخاشنات وسوء الظن والنميمة والاغتياب والتآمر وانعدام الثقة والريبة والتعدي والتنافر ادى الى اطالة امد الرحلة لأيام طويلة عرضتهم للغرق جميعا، وحين وصل القارب للشاطئ على ذلك الحال من التعب والشقاء والانشقاق والجوع والعداء الشرس هتف شيخ كان طوال الوقت يحاول اعادة المتخاصمين الى رشدهم: “يا ليته غرق.. ياليتنا لم نصل”.
المفارقة السياسية التي نتابعها يوميا تتمثل في ان الكثيرمن المحسوبين على كابينة الحكومة، ومن اركانها حتى، يدلون بتصريحات وتحفظات واعتراضات وتهديدات من موقع اللامسؤولية، او من موقع طائفي، او من موقع فئوي، خلافا لقواعد الشراكة والائتلاف والتحالفات السياسية، وفي هذا تكمن الاضافة غير المسبوقة لعلم التحالفات بين الحكومات، في وقت تمر البلاد في ظروف شديدة الحساسية والحرج تشرف خلالها على مصير مجهول.
والاغرب من ذلك كله ان بعض رموز التحالف الحكومي برعوا في إطلاق خطابين ولغتين وموقفين متناقضين في وقت واحد، ولكن في غرفتين متجاورتين، ففي غرفة الاهل والاعلام نسمع كلاما متشددا ودعوات للتجييش وشكوكا في نيات الاخرين وترويجا للكراهية والحذر والخوف، وتأجيجا سافرا للفتنة الطائفية، وفي غرفة الحكومة والجمهور يتحدثون، بلغة اخرى تماما، عن فروض التهدئة والتسامح والتكافل، وقيم الشراكة، والعودة الى العقل، وامكانيات عبور المرحلة بسلام، حتى ان المتابع المحايد يجد نفسه في حيرة ازاء ما يسمع هنا وما يقرا هناك، فيما المسافة بين العين والاذن ليست شاسعة.
ان النتيجة المؤكدة لمثل هذا العبث المدمر ولمثل هذه الاضافة المشوهة الى علم التحالفات السياسية، هي اطالة فترة المخاض والمعاناة في العراق، حتى ان الحكماء منا سيقولون،كما قال شيخ القارب الفرنسي يوم وصلوا الى الشاطئ: ليتنا غرقنا.. ليتنا لم نصل.
*
“الجنون هو أن تفعل الشيء مرةً بعد مرةٍ وتتوقع نتيجةً مختلفةً”
اينشتاين
 

147
المنبر الحر / عمركم طويل
« في: 09:11 05/04/2012  »
عمركم طويل
عبدالمنعم الاعسم

 محللون امنيون يؤكدون بان العصابات المسلحة التابعة لفلول القاعدة وحزب النظام السابق دخلت في تنفيذ سلسلة من الاغتيالات تطال شخصيات وعاملين في مهن او منتسبين الى وظائف محددة، وهي خطة اجرامية سبق ان جـُربت (بنجاح) بحق قضاة واكاديميين وحلاقين وصاغة وخبازين واعلاميين وغيرهم، ومعروف ايضا (انتباه) بان عصابات اخرى ومن جماعات متطرفة مختلفة ومأجورة دخلت على الخط لتنظيم اغتيالات "موازية" والنتيجة ان بركة الدم  اتسعت لضحايا من جميع الهويات العراقية المتآخية.
 وتفيد بعض القراءات الصحيحة وتسريبات الاجهزة الامنية بان كواتم الصوت تستهدف هذه المرة شخصيات نافذة في اللوحة السياسية الامر الذي يلزم اطلاق صافرات الإنذار واليقظة، ففي هذا الجو المتوتر حيث تمتلئ خزانات السياسة وأقنيتها وشعاراتها بالاحتقان والريبة وانعدام الثقة، يمكن (وهذا احتمال وارد) أن تتسبب رصاصة كاتم صوت واحدة، لزعيم سياسي محوري، في تفليش كل ما تم بناؤه، وتغيير مسار الأحداث الى كارثة، ومَن لا يصدق (أو يتوقع) ذلك يمكنه الاستدلال إليه من سلسلة الاغتيالات المشهورة في التاريخ إذ غيّر البعض منها أقدار أمم وبلدان ومسارات (اغتيال الخليفة عثمان بن عفان) وأضرم بعضها الآخر نيران لم يُخمد لهيبها حتى الآن، كما هو الحال في اغتيال السياسي اللبناني رفيق الحريري.
 لنفتح هذا الملف، حيث خرج قابيل من كهفه، قبل مائة الف عام، وانتحى جانباً وبيده صخرة ليفج بها رأس أخيه هابيل الذي مر في ذلك الوقت من أمامه، ويقتله في الحال، ثم، بعد ذلك ابتليت الخليقة في سلسلة من المكائد والاغتيالات فسال دم كثير، وحُزّت رقاب وقتلت أنفس، وسُمم واغتيل وذُبح دعاة ومصلحون وساسة وزعماء وقادة جيوش ومغامرون، في أجواء مُغبرة وملبدة بالريب والأحقاد فيما عوقب مارة وعابرو سبيل ومشتبه بهم بجريرة غيرهم، جناة أو ضحايا أو شهود، لكن الكثير من تلك الأحداث تركت آثاراً وجروحاً وخراباً وفتن  اغتيال غاندي. اغتيال الملك عبدالله. اغتيال السادات) وثمة الكثير منها أصبح مضرباً للأمثال، أو عنواناً لإثارة عورات الماضي، كما حدث في نهاية حياة راسبوتين وما حدث لكليب وجساس في قصة داحس والغبراء.
كما لا تزال حوادث موت مثيرة حسبت في عداد المكائد وجرائم الاغتيال، وما جرى للأسقف بيكيت الذي اغتاله هنري الثامن ملك انكلترا، وكيف مات أبو الطيب المتنبي في الصحراء، أو موت ملك العراق غازي أو سقوط طائرة الأمين العام للامم المتحدة داغ همرشولد، أو مقتل الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف وموت الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والغريب ان بعضها ضُمّ الى ملفات التاريخ كألغاز، منها استمرار البحث في خفايا اغتيال الرئيس الأمريكي جون كندي ثم اغتيال قاتله أوزوالد، والبحث حتى الآن حول جمجمة توت عنخ آمون لمعرفة أسباب الكسر في مؤخرتها ما إذا كان وراؤه حدث عابر أم جريمة اغتيال بالساطور.
 عمركم طويل ايها الساسة.. لكن ماذا ينفعكم دعائي لكم،  وعلى ابوابكم طوابير ممن يدعون عليكم.
*
"التاريخ سيناريو سئ للغاية".
نورمان مايلر

148
المؤتمر الوطني..
لا وقت للمناورات

عبدالمنعم الاعسم

اصبح الطريق سالكا، الآن، الى المؤتمر الوطني لحل الازمة السياسية في البلاد، والانتقال الى ترميم التصدع في البنيان السياسي للمرحلة وتصويب المواقف حيال مفهوم الشراكة في ادارة شؤون البلاد، مثلما اصبح واضحا لجميع الاطراف، واكثر من اي وقت مضى، الجسر الذي ينبغي العبور من فوقه الى ضفاف الحل والسلامة وكفالة التهدئة بعيدا عن نزعة الخندقة وكسر العضم ومحاولات التخوين والتهرب من المسؤولية والمزاحمة والاقصاء والتهميش واللّيّ من اليد التي توجع الطرف الآخر والتمارين الاعلامية اللامسؤولة، وغيرها من قواعد اللعبة التي اضرت بالجميع، من غير استثناء، وبالاستقرار والعملية السياسية والعراق.
وإذ ارجئت اجتماعات القيادات السياسية، اكثر من مرة، فانه يفترض ان تكون هذه الارجاءات فرصة لاطراف النزاع السياسي لكشف النيات والتعرف على السقوف السياسية لمطالب وشروط الفرقاء، والتوصل الى قناعة بانه لا وقت للمناورات واللف والدوران، ولا مفر من البحث في المشتركات ووضع التوقيتات للحلول، والنظر الى الاخطار المحدقة بمسيرة التغيير، بجدية ومسؤولية، على اساس ان الاستفراد بالقرار السياسي لا مكان له في المعادلات ذات الصلة بالتوازن السياسي القائم، وان الانتقال للمعارضة لانصيب له من التوفيق في ظل الحقائق السياسية النافذة.
وعلى خلفية التجاذبات التي جرت وتعقدت غداة تعيين موعد المؤتمر برز الى السطح ما يبدو انه تناقض بين مساري الدستور ونصوصه والتوافقات واحكامها، فكل طرف يمسك بطرف واحد من المسارين، فيما تأكدت للمراقبين الموضوعيين، بانه لا الدستور وحده يمكن له (بسبب الكثير من النصوص الغامضة والمتناقضة) ان يعالج المشكلات السياسية الناشئة والمتفجرة، ولا التوقفات في ذاتها كافية لتأمين اجواء الثقة بين المتصارعين السياسيين، وانه، بعد ذلك، من العبث التمسك بالنصوص الدستورية او التوافقات، إذا ما اريد نزع فتيل الازمة السياسية، وبناء شراكة راسخة تحول دون تعريض البلاد الى هزات او تصدعات.
وبكلمة موجزة، المطلوب، ايجاد مسار جديد، بديل، للمناقشة والبحث في الحلول والمفاتيح والمسؤوليات، يسترشد بالدستور وبالتوافقات، معا، ويضع خارطة واضحة للالتزامات والاجراءات المطلوبة من خلال تسميات كيميائية للخطوات المطلوبة.
الجميع في زاوية المسؤولية، والحرج، والاستقطاب، والجميع في حاجة الى الجميع، فلا وقت للمناورات.
بل وليس ثمة وقت للتفريط بماء الوعود.. وماء الوجه.
*
"تسلـّمَ بالسكوت من العيوب ... فكان السكـْتُ أجلب للعيوب"
مكي بن سوادة


 

149

حانت ساعة  المراجعة..


عبدالمنعم الاعسم


لا أحد خارج الورطة السياسية التي ندور فيها.
ولا فائدة من الدموع التي تطلق من اجل الشعب: “ألمْ يأت إخوة يوسف أباهم عشاء يبكون؟ وجاءوا على قميصه بدم كاذب”.
النجاة بالمراجعة لا بالتصعيد. بالدخول في شجاعة الحساب، والساعة ساعة الاعتراف.. وكما يقال: جد نفسك في ساعة الحقيقة.
ساعة الحقيقة، هذه، يبلغ فيها السيل الزبى ويتمايز فيها الخيط الابيض عن الخيط الاسود، وتتحر عندها الفروض من مزاد المساومة على الحق، وقبل أن يحل ذلك الموعد.. “يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون عليها” يقف أولئك الذين فرطوا بالحظوظ الذهبية التي نالتهم، في حرج أكيد، فإن”ساعة الحظ لا تعوّض” وان مآل الاقدار الى حساب: فهذا لك، وهذا عليك.. آنذاك ستهرب العيون الى دقات الساعة، والعاقبة لمن انتصر على نفسه، واحسن المراجعة والتراجع.
لنتذكر ان حلول الساعة يطلق على يوم القيامة، وان ساعة الحقيقة نطلقها عندما نكف عن (او نفقد الصبر على) مزاولة اللف والدوران. سنعرف، آنذاك،ان اكبر سجن لساعة الحقيقة هو سجن المسكوت عنه، وان اكبر المستفيدين من اعتقال ساعة الحقيقة هم اولئك الصغار الذين صعدوا، وصعدوا، وصعدوا في غفلة، او صفقة، او طربكة، من غير كفاءة الصعود، ولا حقوق الوجاهة.. “فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” ثم اولئك الذين حَطوا انفسهم (او حُطوا) في حيّز اوسع من مقاسهم، واكبر مما يستحقون، فصدقوا انهم كبار او “طناطل” وانهم في مأمن من “الساعة” التي لا تعدوعن كونها ذرات متناثرة من الاقدار شاءت الحياة ان توحد اسرارها وتبعث بها الينا حين نكون بامس الحاجة اليها، يوما.
بعد هذا فان ساعة الحقيقة غير “ساعة الصفر”.. الاولى، لحكمة المراجعة، والثانية لخيار التآمر.. الاولى للسلام المؤجل، والثانية للحريق المعجل.. الاولى لاعادة انارة الزوايا المعتمة، والثانية الى اضرام النيران والكراهيات في كل الزوايا.. الاولى محاولة لاحياء الصحيح قبل ان يستشهد، والثانية لوضع الصحيح على مرمى المدافع، وثمة في ساعة الحقيقة وساعة الصفر، حين يتشابكان، ويتسابقان، الكثير من حكم التاريخ المثيرة.. هل تتذكرون كم من امبراطور انتهت به الاقدار الى ان يبحث عن ملجأ ينهي فيه بقية حياته، فلا يتاح له؟.
وبعضهم ندم.. ولات ساعة مندم.

*
"الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة".
البير كامو


150

قمة المستحيلات..
الاربعة

عبدالمنعم الاعسم

قمة بغداد العربية ليست مثل بقية القمم السابقة، فهي تنعقد في غياب المحاور، وحصرا، في غياب المحور المصري السعودي الذي طالما لعب دور المقرر و”القائد” طوال عقدين من السنين، وهي الى ذلك، تقف في منتصف الحلبة التي يتصارع فيها النظام العربي المتوارث بمواجهة الشارع في طوره الاكثر التهابا، وهي اخيرا مسبوقة بجدول عمل يتضمن، لاول مرة، مفردات لم تكن تحظى بالاتفاق، وبعضها موضع اختلافات تتعمق اكثر فاكثر مع اقتراب موعد الانعقاد.
ويشاء التدهور الامني والسياسي المتفاقم في سوريا، على خلفية حركة الاحتجاج والاصرار على خيار الردع، ان يشكل المستحيل الاول الذي يواجه القمة بالنظر لحساسيته وانشقاق المواقف الرسمية العربية حياله وانتحار الحلول الوسط والتسويات السلمية من شاهق دورة العنف، وانزلاق المواجهة الى استخدام القوة المسلحة على نطاق واسع، وليس من قبيل القراءة المتعجلة القول بان سوريا لن تحضر القمة على اغلب الاحتمالات وان غيابها هذا سيكون بمثابة حضور ثقيل على طاولة البحث والنقاش والخلاف ايضا، وقد يتسبب في مجادلات ومشكلات.
وإذ يُعدّ الملف السوري من بعض افرازات الربيع العربي الذي جاوز، الآن، عمره العام، والذي احدث ، ويحدث، تغييرات كبيرة و”انقلابية” في السياق التاريخي لدول المنطقة، فان عنوانه، في الاقل، سيكون متداولا ومعنيا من قبل اصحاب القرار الرسمي العربي، مسبوقا بتفاوت واضح لاستيعاب دلالاته، واستحقاقاته، من قبل الحكومات والحكام والنخب السياسية والفكرية عموما، اخذا بالاعتبار الرغبة المعلنة من قبل عواصم المنطقة لبحث هذا الملف والتجاوب مع مطالب الحركة الاحتجاجية بدل التنكر لها لتقع رهن القوى الخارجية او الجماعات الارهابية الاجرامية.
اما المستحيل الثالث فيمكن رصده في العلاقة المتوترة والمتداخلة والمشحونة بالشكوى واللوم والارتياب بين دول القمة العربية والدول المجاورة، وبخاصة مع كل من تركيا وايران اللتين دخلتا، بدواع كثيرة، في شبكة الصراع الجارية بين الانظمة وشعوبها، وتركتا بصماتهما هنا وهناك، ما يمكن ان يكون موضوعا مثيرا للجدل والتجاذب، وتحت معاينات ورؤى مختلفة.
المستحيل الاخير يكمن في استمرار حالة اللاسلم واللاحرب في الشرق الاوسط.. فلا السلم على الطاولات، ولا الحرب على الابواب.
*
“كلما اقتربت القوانين من الثبات اصبحت غير واقعية”.
اينشتاين
 

151

ملصقات الساسة..
الجدران تخجل

عبدالمنعم الاعسم

 جميعهم يبتسمون للمارة: إطمأنوا. انتم امانة في اعناقنا. وجميعهم، في صورهم، يحظون بالوان الطيف بكل سخائه وفضاءاته وبهجته وإلفته، الاخضر والاحمر والاصفر والرمادي، وأحيانا كثيرة يتشكل مشهد فجائعي: جدارية السياسي، بابتسامته العريضة، من جانب، وكومة اشلاء من ضحايا تفجير حدث توا، من جانب آخر، وعويل يسد مساحة المشهد، من جانب ثالث، حتى ان الجدران وحوامل الملصقات تبدو انها تشعر بالخجل حيال هذا التشكيل الاستفزازي.
 وهنا يقفز سؤال ساذج، وربما بطران وخارج الصدد: هل حصل اصحاب الملصقات والصور، بمن فيهم الاموات، على ترخيص للاعلان من الجهات المعنية، امانة العاصمة مثلا؟. 
 في حمية التحزب، والانحياز الاعمى للقبيلة أوالنوع أوالمذهب أوالدين أوالزعيم، قد يضطرون –وانا اتحدث عن ظاهرات سياسية- الى النزول منزلة الاساءة الى الممدوح، والمرء، كما يقول الامام علي، يتسخ بالمديح وبالتزلف، الامر الذي يؤشر مأزقا سياسيا وذوقيا بالغ الاثر.
 اقول، الانحطاط السياسي في العراق فتح الباب(منذ العهد السابق) امام استباحة الجدران والساحات العامة واعمدة الكهرباء بملصقات وصور وجداريات توزع بشكل عشوائي مضحك، والغريب مما نسمعه، هذه الايام، ان الجهات المسؤولة تعتبر مناقشة موضوع ملصقات الساسة محرما وأن بعض تلك الملصقات محاطة بالتقديس والخطوط الحمر، والاغرب ان بعض بلديات المدن (او جيوب فئوية)اقامت مباريات لمن يرغب برسم صور كبيرة لساسة متنفذين ومُطاعين، وهناك الى جانب هذا سباق محموم على الجدران الكبيرة و"الاستراتيجية" بين اتباع الساسة، فكل ملصق للسياسي (أ) ينبغي ان يقابله ملصق للسياسي(ب) وبقربهما ملصق للسياسي(جـ).. وهكذا.
 بصراحة، كنا نعتقد ان المشهد المقرف لجداريات وصور صدام حسين سيحل في ذاكرة ساسة العهد الجديد كمخلفات استفزازية بائدة، وستشكل وحدها عقدا سياسيا واخلاقيا ضد هذه الظاهرة المعيبة، وليس من دون مغزى ان يهتم المراسلون الاجانب بنقل الجداريات والصور الجديدة من على جدران المدن الصماء ومنعطفات الشوارع الكونكريتية واعمدة الكهرباء الباردة بالكثير من الاستغراب.
 لم يتوان مراسل فرنسي كان قد زار بغداد قبل سنوات، من القول بعد ان زار العراق "شاهدتُ صورة كبيرة لسياسي محلي تنتشر من حولها مستنقعات من الصرف الصحي، وتنام تحت قوائمها الحديدية نعاج ضعيفة وجائعة".
*
"كل فعل له رد فعل مساو له في القوة، ومعاكس له في الاتجاه".
اسحاق نيوتن





152
المغتربون والعودة..
والقوانة المستهلكة

عبدالمنعم الاعسم

 مرة اخرى يطرح هذا السؤال نفسه في اروقة الحكومة ومجلس النواب: لماذا لم تستجب النخب العراقية المغتربة الى الدعوات الرسمية المتكررة بالعودة والمساهمة في اعادة اعمار البلاد؟ او: لماذا لم تترجم الى اجراءات تلك التوصيات والافكار والمقترحات العملية التي قدمت الى الجهات المعنية حول تسهيل عودة (والاستفادة من)النخب العراقية المثقفة؟ بل، ولماذا عاد صفر اليدين(وبمرارات) الى اماكن هجرتهم الالوف من الاكاديميين والمهنيين والخريجين والعاملين في مجالات الثقافة والفن والصحافة والابداع؟ ثم: الم تقتنع الجهات المعنية، حتى الآن، بفشل الإهابات العاطفية لاقناع النخب العراقية بالعودة الى الوطن؟.
 نعم، لقد عاد بضعة مئات من الاطباء والمهنيين والخبراء، ووجدوا طريقهم الى مراكز عمل وبناء (وهناك شكاوى من تعامل يواجهها العديد منهم)غير ان الامر يتعلق بمئات الالوف من الكفاءات العلمية والمهنية ممن تحتاجها(او تفتقر لها) الدولة وحركة البناء والتغيير في جميع المجالات، فيما انحسرت، الى حد بعيد، تلك الحساسيات الاهلية المبكرة حيال المغتربين والكفاءات العائدة، وبعض المخاوف من المزاحمة على المراكز والفرص، بعد ان اصبح واضحا بان العراق الجديد بحاجة الى ملايين من الكفاءات والخبرات الوطنية التي تتوفر لدى المغتربين.
 وبصراحة، فان العائق الاداري الاول (عدا عن الظروف الامنية العامة) يتمثل في طبيعة واثر قواعد المحاصصة الفئوية السياسية في شبكة ادارة الدولة، إذ يصطدم العائدون (والذين ينوون العودة) وغالبيتهم الساحقة من المستقلين وغير المحسوبين على  الكتل الحزبية او القوى المتنفذة في الحكم، بضيق(وطائفية وفئوية)الاقنية التي يدخلون منها الى الخدمة، فلكل قناة مدخل، ولكل مدخل قابض ارواح، ولكل قابض ارواح حارس، ولكل حارس صيغة واليات وقواعد وتعليمات وحبربشية.. والكلام كثير عن ذلك، لا تتسعه مجلدات.
 وليس من دون مغزى ان يُعارَض (او يُهمل) الاقتراح العملي الذي تقدمة جميع المؤتمرات والندوات المتخصصة بالنخب بتشكيل مركز وطني او مرجعية ادارية وطنية، واحدة، مهنية ومستقلة وبصلاحيات واضحة، لتنظيم استقبال العائدين ومراجعاتهم وتسهيل تعيينهم او إشراكهم في عملية البناء ومرافق العمل، وذلك بديلا عما يجري بترك العائدين يطرقون ابواب الوزارات والادارات (المؤجرة للطوائف) لتتفنن في التعامل معهم بوسائل الزجر والتشكيك والتطفيش، وتضطرهم الى خيانة قيمهم وكفاءاتهم العلمية باللجوء الى الرشوة والواسطات.
 اغلب الظن، ان احدا من هذه النخب لا ينتظر ان يستقبل بالحفاوة والتصفيق، لكن لا يصح ان يستقبل بمن يقول له: إشجابك، يمعوّد.. مو كاعد هناك ومستريح؟.

*
" إذا أردت إلقاء نظرة على المستقبل فتخيل حذاء يطأ وجه إنسان.. إلى الأبد.".
جورج ارويل

.

153
المنبر الحر / الايمو.. قف
« في: 12:09 12/03/2012  »

الايمو.. قف

عبدالمنعم الاعسم

 سواء كانت ظاهرة الشباب العراقي المديني المتمرد على نفسه وعلى العادية الاجتماعية "الايمو" صحيحة ولها ظلال في الواقع والممارسات والظروف، ام انها مفتعلة مثل غيرها من الفقاعات الاجتماعية العابرة، فان ظهورها (كفاصلة اعلامية) وفي هذا الوقت بالذات، ثم انتشار الحديث عنها، واتساع الجدل حولها، بالطول والعرض، يكشف عن عمق الالتباس في اللحظة التاريخية العراقية المهيئة لتفريخ ازمات وارهاصات ومفاجآت خارج الانضباط، وردود افعال اكثر التباسا ومخاتلة وبموازاة ازمة البناء واستعادة الاستقرار وترشيد النظام السياسي.
وبمعنى آخر، فان ثمة مؤشر آخر، اكثر اهمية وخطورة يتجه الى طاولة البحث عن مخرج من الدوامة السياسية في البلاد، فالتقارير التي نشرتها وسائل الاعلام المحلية عن وجود شريحة صغيرة من شباب وشابات بغداد ومدن اخرى بدأت تظهر في جيوب واحياء ومحافل على نحو متمرد في ارتداء الملابس والهيئة والممارسة، وعن مجموعات تأديب دينية مسلحة تولت مطاردتهم والتنكيل بهم وقتلهم والتمثيل بجثثهم، وسط تفرج وربما تواطؤ الجهات الامنية، لـَتؤكد (حتى وإن لم يكن ذلك صحيحا) بان استمرار الازمة السياسية، ومحاولات تجميدها، سيخلق المزيد من الهزات والتصدعات في البنيان الاجتماعي للدولة، الذي يعاني، اصلا، من الهزات والتصدع، مما يعرفه ويعلنه المحللون الاجتماعيون.
 الوجه الآخر التفصيلي، لقضية الايمو يسمح بالقول ان الاحوال الاجتماعية والسياسية العراقية تنتج(بالتأكيد) شرائح شبابية مهمشة، متمردة، تنطلق الى التمايز والاحتجاج الشكلي من نقطة الافتراق عن دولة المحاصصة التي تسحق جيلهم بعجلاتها القاسية، وتضيّق امامهم هوامش الحرية وتجبر الملايين منهم على مقايضة الفعاليات الابداعية بالتخريف، الحرية بالصمت، فرص العمل بالولاء، وفي هذا الوجه نقرأ ما هو ابشع في ردود الافعال حيث يتصدر حراس الورع والفضيلة الزائفون، والجهلة، حركة اعادة الشباب الساخط الى "بيت الطاعة" بالقوة، او التلويح بها.
 احسب ان ملابسات قضية الايمو اعطتنا رسالتين، الاولى، احتمال ظهور شرائح شبابية ساخطة على الاحوال التي تحيطها إذ تضيق امامها السبل الانشائية للمساهمة بقيادة الدولة او للتعبير عن احتجاجاتها، والثانية، ان ثمة خنادق دينية سلفية، متشددة، استغلت الامر للتلويح بقتل الشباب المتمردين، الخارجين على الموالاة، ووضع رؤوسهم على الارصفة وتكسيرها بحجر من سجيل.. ليصبحوا "كعصف مأكول" عبرة للاخرين.
*
"تتحقق الكثير من الأشياء المهمة في هذا العالم لأولئك الذين اصروا على المحاولة على الرغم من عدم وجود الأمل".   
ديل كارنيجي     

154

كذبة هابطة اسمها:
 الدكتاتور العادل

عبدالمنعم الاعسم

 لا شئ يجمع الفجور بالعدالة. الاستبداد بالعدالة، الجلد بالعدالة، فالفاجر والمستبد والجلاد ابعد ما يكونوا عن فكرة العدالة وتطبيقاتها في الواقع. عدالة الحكم او عدالة القضاء.
 لكن المجتمعات الزراعية الرعوية التي رُهنت بالتبعية لصاحب الارض وشيخ العشيرة ونمط الاسرة البطريركية اخترعت توصيف الطاغية العادل بواسطة ممثليها من الكتبة والمثقفين الدجالين.
 ومنذ قرن ونصف تحدث فرويد في "الطوطم" عن الاب القوي القدرة والذي تآمر عليه ابناؤه وقتلوه، ثم عادوا وعبدوه من بعد ان شعروا باحتياجهم الى تلك القوة "لغرض التوازن".
 ثمة بيننا من الذين قاتلوا صدام حسين عادوا الآن ليعلنوا حاجتنا اليه، او اعجابهم بدكتاتوريته، او تمثلهم لسلطة القوة الباطشة التي استخدمها، بزعم ان العامة لا تلتزم القانون إلا بالخوف والبطش.
 بل ان نائب رئيس الوزراء صالح المطلك اعطى صدام حسين صفة الدكتاتور الذي بنى، في مقارنة لم تكن موفقة مع رئيس الوزراء نوري المالكي الذي قال انه دكتاتور لا يبني، والغريب ان الاحتجاج على هذه المقارنة لم يكن ليشمل تزكيته لصدام بل اقتصر على الشق الثاني من المقارنة.
 ان كاليغولا الذي اتقن حرفة نشر الرعب والموت واصدر مرسوما بتعيين حصانه رئيسا لمجلس الشيوخ وجد من يقول عنه انه كان (احيانا) عادلا، بل ان عشيقته قالت انه طفل برئ لا حدود لاحلامه.
 اما صدام الذي كان اول "رئيس" في التاريخ المعاصر رمى شعبه بالسلاح الكيمياوي وحكم بلاده بالحديد والنار وعصّب عينها وزجها في ثلاثة حروب كارثية فقد وجدنا كاتبا اسمه امير اسكندر يجعل منه وريثا لحمورابي في عدله، بل انه حمورابي عصره.
 لم يكن اباطرة الصين وحكام روما القديمة وفراعنة مصر وفرسان المغول وملوك اوربا في القرون الوسيطة وسفاحو الثورة الفرنسية بحاجة الى تشريعات ودساتير وعهود تمنعهم من التنكيل الجماعي بالمعارضين وابادة امم كاملة، غير ان الماركيز دي ساد رخّص لهم جميعا ولغيرهم ممارسة هذا الطغيان الاعمى الى اقصى ما يمكنهم "فكل ممارسة تجلب النشوة مبررة" كما افتى.
 عدالة الدكتاتور فكرة تآمرية يتورط فيها مثقفون ودعاة وسياسيون، والبعض منهم، في حالة ستالين مثلا، يضعون حشوة ايديولوجية فاقعة في مبررات التنكيل بالضحايا والتمثيل بجثثهم. اما بول بوت الذي ارسل مليونين من كمبوديي المدن الى حفلات الموت في الغابات القصية المرعبة، فقد كان عادلا بالمعنى الذي يلفقه اصحاب نظرية الدكتاتور العادل، حيث كان سكان العاصمة فنوم بنه الناجون من الإجلاء القسري يجدون ماء صالحا للشرب ورعاية صحية طيبة وحرية في التجول من على مقربة بقصر الرئيس.

الى ذلك كان الرومان، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، يطلقون كلمة الدكتاتور على قياصرتهم ورهبانهم بموازاة النظر لهم بعين الرهبة والاحترام؛ ولم يشك احد في وحشيتهم وقسوتهم؛ كما لم يشك احد في انهم يعدلون احيانا في قضايا لا تمس سلطتهم وجاههم، وكان موصوف الدكتاتور شكليا من الناحية القانونية، ولم يكن ليمتد الى معنى الدولة الدكتاتورية، وبمعنى ما، استمر تداول كلمة الدكتاتور، قرون وقرون، من غير مطعن سلبي بصاحب السلطة، بل وكان يقبل به باعتباره اعترافا بهيبة اسمه ومكانته، ولم يكن، مقابل ذلك ليتشبث به.
وفي عصور الاقطاع استخدمت الدكتاتورية كتدابير شبه قضائية وظهرت في القرن الرابع الميلادي هياكل ادارية هدفها حل مشاكل مدنية بدون حاجتهم لاستخدام الجنود والعساكر، وكان يتم انتخاب مجلس قنصلي”دكتاتوري” لتسوية الأزمات والخلافات بين السكان والمقاطعات، وكان كل عضو من اعضاء هذه المجالس دكتاتورا بذاته ولم يكن النظام الاقطاعي ولا مؤسساته ديكتاتورية بل هي مهمة محددة لفترة زمنية معينة، وتنتهي صلاحية الدكتاتور بانتهاء المهمة أو عند حل الأزمة.
غير انه بمرور الوقت وتغيّر الحكام والاباطرة والصراع بينهم هجرت صفة الدكتاتور والحاجة اليه، لتعود الى الاستخدام بدلالتها الاستبدادية المتوحشة خلال الثورة الفرنسية والصراع الدموي على السلطة وكان روبيسبير اول من لصقت به بهذا المعنى السلبي، وفي القرن التاسع عشر شاع استخدام البونابارتية اشارة الى الحكم المطلق، المستبد، الدكتاتوري، وذلك قبل ان يأتي ماركس بمفهوم “دكتاتورية البروليتارية” تمييزا عن دكتاتورية الطبقات الراسمالية المستغلة، وهكذا انفتح الطريق لجدل طويل حول مفهوم الدكتاتورية كنظام سياسي.
ومنذ عشرينات القرن الماضي بدأت مفاهيم الدكتاتورية تطرح نفسها، في المؤلفات ومعاهد السياسة، والمناقشات، وذلك مع نشوء انظمة الحكم العسكرية السافرة، ثم انظمة الحكم الفردية المستبدة، والشمولية، وصعود الفاشيات الاوربية، والانقلابات العسكرية، حتى استقر المفهوم في جملة من المحددات تتفرع من سلطة الفرد المطلق الذي يملي ارادته على الشعب ويستفرد بالقرارات المصيرية للبلاد ويستخدم القوة والبطش والتآمر لاخضاع العامة لمشيئته، ويستعين، في الغالب، بحلقة صغيرة من الاتباع (حزب. عسكر. عائلة) لمواجهة المعارضة، وقد يأذن باجراء انتخابات مسبقة النتائج في محاولة لاضفاء الشرعية على حكمه.
واستطاعت انظمة الدكتاتورية النموذجية (هتلر. سالازار. بول بوت. صدام. القذافي.) بناء انظمة تبدو قوية ومهيبة من خارجها، كما مكنتها اليات التحكم بالثروات من تشييد مرافق ومدن وجسور وبيئات امنية وصناعية وتجارية مبنية على الرقابة والتدخل والخوف، وعلى طي حقائق معاناة الملايين ومصادرة الحريات واعمال القتل المنهجية وابادة الاقليات وقوى المعارضة تحت غلالة من الدعاية المنهجية والرشوة التي توظف لها الاموال الطائلة.
بكلمة، صارت الديكتاتورية عارا في جبين التاريخ. اما عدالتها فلا تعدو عن كونها كذبة يسوقها انصار الدكتاتوريات الجديدة.. قيد الانشاء.
*
“يكفيك من الزاد ما بلغك المحلّ”.
اكثم بن صيفي التميمي




.

155
اختراق شبابي للركود السياسي
 
 
عبد المنعم الاعسم 
 
لا يجري هذا إلا في بلد مثل العراق، كان قد قذفت به الدكتاتورية والحروب والصراعات السياسية الى مكان محرج في التاريخ، بحيث تداخلت فيه الاجيال والارقام والحسابات، وانتهى به المطاف الى الصورة الاتية: شابات وشبان بعمر الزهور يعكفون، طوال ساعات، وفي يوم عطلتهم واستراحتهم ،على مناقشة الاخطار والخطايا السياسية التي صنعها الكبار، بدل ان ينصرفوا في هذا اليوم، الجمعة الثاني من آذار، الى مواعيد الصداقات وصالات السينما والبليارد وضفاف الانهار ومشاوير المحبة والرياضة والسفرات ودور الثقافة والهوايات، كما في كل العالم.
 
كان موعدنا في ذلك الصباح الحميم مع المئات من الشابات والشبان في صالة كبيرة بقلب بغداد، جاءوا من احياء العاصمة واطرافها واقليم كردستان، مبكرين، وبقسمات صارمة ومتفائلة، واوراق، ومناديل، وايادي ناصعة، ووشوشات تتألق برسائل الثقة بالنفس، وحسنا فعل أصحاب الدعوة بأن وضعوا الضيوف “الشيوخ” من انصار قضية الديمقراطية في جناحين متقدمين من القاعة، شهودا ومستمعين وحكماء، إذ بدوا، في صورة متخيلة، وكأنهم يقولون للمؤتمرين الشباب: تقدموا ايها الابناء النجباء، ها نحن نفسح لكم الطريق لكي تكملوا المشوار الذي قطعناه.
 
ما اشجع هؤلاء “الاولاد” وهم يتسلقون طريقا وعرا عنوانه “تشخيص الازمة السياسية في البلاد وتقديم حلول لها” الامر الذي عجزت عنه جحافل الاحزاب والجيوش والعقول.
 
كانوا يتلمسون الطريق، يتعثرون، يستأنفون، يختلفون، يتفقون، يقبـّلون بعضهم، يصفقون برنين له مغزى، يهتفون، يناقشون من غير خندقة او وجل او مجاملة، من خلال ادارة تعرف قيمة الوقت وحساسية المهمة المطروحة.
 
وما اجملهم، وهم يصافحون الكبار، باحترام لمقاماتهم، واعتراف بفضيلة الافكار التي توارثوها عنهم، وعزمهم على العبور بها الى افكار اضافية، ورؤى جديدة، وصياغات نوعية بديلة للحياة والواقع.   
 
هكذا، بادر شباب التيار الديمقراطي الى اقامة مؤتمر اختاروا له شعار: “نحو رؤية شبابية ديمقراطية لحل الأزمة السياسية في العراق” وعلى مدى ثلاث ساعات متواصلة تناوب العشرات من المتحدثين، من الشابات والشبان، على تسليط الضوء باتجاه اختلالات السياسة القائمة وعقم المناهج التي تطبقها القوى المتنفذة، والمخاطر المحدقة بالعراق، وثقوب القارب الذي يحمل اسم العراق، ماضيه وحاضره، في رحلته الشاقة لبناء حاضرة مدنية اتحادية ديمقراطية منشودة.
 
كان ، بوجيز الكلام، اختراقا شبابيا للركود السياسي، وقل للضياع السياسي، بانتظار ان يتطور هذا الاختراق الى فعل حركي بمستوى الاحلام الجميلة التي حلقت بنا في ذلك الصباح الآذاري الرائع.

“ اِعقد العزم على التصرف بدون تردد وتحمل تبعات تصرفك، فليس من خير يأتي به التردد إلى هذا العالم”.   
توماس هكسلي
 

156
 
وزراء يسيئون لنا.. في الخارج

عبدالمنعم الاعسم

مزيد من الاخبار والمعلومات المتداولة الآن، وآخرها ما حدث في عاصمة مجاورة، تؤكد بان بعض وزراء الحكومة الذين يقومون بواجب السفر لحضور مؤتمرات وفعاليات خارج العراق، او لغرض ادارة مفاوضات مع دول اخرى، او لتمثيل البلاد في محافل ومناسبات، يجهلون اصول التعامل مع بيئات مغايرة، حساسة، وتعوزهم معارف وموجبات ومبادئ العلاقات العامة، الضرورية، باعتبارها من مكونات شخصية رجل الدولة في ابسط ملامحها.
فان اساءة تصرف الوزير في بلد ضيف وبالضد من خصوصياته وتقاليده، وخلافا لأعراف المحافل ، جهلا او عمدا، من شأنها ان تسيء الى سمعة الدولة العراقية، شعبا وحكومة، وهذا ما يتكرر حدوثه بين وقت وآخر، في اكثر من عاصمة يزورها وزراء، وما يتسرب الى الصحافة او الاقنية الاعلامية او الى منتديات وسفارات وهيئات دبلوماسية وتصبح مدار استهزاء وتندر، وتعبـّر جميعها عن حاجة هؤلاء الوزراء الى انضباط التصريحات وفروض الكلام  الموزون والتزام لياقات الادب والدبلوماسية والذوق وحتى الملبس بما يفرض الاحترام على الاخرين، ويحملهم، بالضرورة، على احترام البلد الذي يمثله، وتبدأ لوازم الانضباط المطلوب من ركوب الطائرة والنزول في صالات المطارات،  وتمر باماكن وفنادق الاقامة وتنتهي في القاعات التي تجمع الوزراء بنظرائهم، بالاضافة الى مشاوير التبضع ولقاءات المعارف.
ففي احد المطارات في عاصمة بشمال افريقيا شوهد وزير عراقي زائر يعبث ومرافقوه بمرافق صالة الضيوف ويخلقون جوا من الاضطراب والفوضى ورفـْع الكلفة والضجيج مما حمل احد ضيوف العاصمة تلك، وبعبارات مؤدبة وحريصة على سمعة العراق والعراقيين، الى لفت نظر الوزير العراقي، لشكوى موظفي المطار من هذا السلوك، والى ذلك نشرت مواقع واقنية صورا متحركة وحية لتصرفات هابطة اللياقة، واستخذائية، لوزير عراقي كان يزور مسؤولا نافذا لأحد الدول المجاورة، ويشير مواطنون عراقيون مقيمون في بلد اوربي الى وزير حضر مؤتمرا دوليا، وكان، بدلا من ان يكسب تعاطف ممثلي الدول الاخرى، قد اساء التصرف بالمخاشنة مع ممثل دولة اخرى في قضية هامشية شكلية، ويذكر موقع على شبكة الانترنيت اسم وزير استخدم كلمات نابية وغير لائقة مع صحفيين التقوا به للاستفسار عن قضايا عراقية موضع اهتمام الاعلام، ويشار ايضا الى وزير عراقي زائر لعاصمة اقليمية سُمع وهو يشتم حكومته واشخاصها في حلقة من الاشخاص تضم عربا واجانب.
الاغرب، والافجع، من كل ذلك، هو ان بعض الوزراء المبعوثين بمهمات رسمية الى الدول الاخرى يتصرفون كمبعوثين لفئاتهم السياسية، وإلا ما معنى قيام احد الوزراء بنقل تحيات مرجعه الحزبي الى افراد من الجالية العراقية كانوا يرحبون به؟.
احسب ان الاشياء الغلط  تتناسل، بين ثيابنا، بطريقة شيطانية من دون حسيب او رقيب.
*
“ لا يجب استعمال كل من المعرفة والحطب إلا بعد أن يتم تجفيفهما”.
اوليفر وندل هولمز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت




157
من اجل استعادة الاندلس

عبد المنعم الاعسم 
 
الكثيرون تحدثوا عن اهداف هجمات الخميس الدموية الاجرامية، مسؤولون ونواب وسياسيون، فوزعوها على طائفة كبيرة من الجهات والمشاريع والمناسبات:
فالبعض اكد انها تستهدف مؤتمر القمة العربية المقرر عقده في بغداد نهاية الشهر المقبل ومنع القادة العرب من حضور المؤتمر.
والبعض الاخر قال بان الهدف هو المؤتمر الوطني للازمة السياسية الذي قطعت التحضيرات له شوطا كبيرا.
والبعض الثالث شدد على ان الانفجارات مصممة على تدمير العملية السياسية التي دخلت في غرفة العناية المركزة.
والبعض الرابع اعلن انها تستهدف الاساءة الى نجاح الخطط الامنية التي تحققت في الاسابيع الاخيرة.
والبعض الخامس شاء ان يربطها بملف نائب الرئيس طارق الهاشمي الذي يعدّ القضاء لمحاكمته بتهم التورط في هجمات ارهابية.
والبعض السادس اعادها الى جهات دولية تأمل من خلالها إضعاف حكم الاغلبية الطائفية وتكريس فصل الاستعانة بخدماتها الامنية.
والبعض السابع القى باللائمة على دولة مجاورة، واكد انها متورطة بالتفجيرات بهدف ابقاء البلد ضعيفا لتسهيل التمدد في خواصره.
والبعض الثامن افترض بان اهداف الهجمات الدموية نوعا من استعراض القوة من قبل الجماعات الجهادية المسلحة التي تحتضر.
وثمة البعض التاسع من اصحاب الازمة السياسية يغمزون خصومهم ويصنعون من المذبحة فاصلة في الصراع والتسقيط والمزاحمة.
وثمة آخرون اكدوا، ما هو متداول في الشارع، بان القضية برمتها لا تخرج عن تورط اصحاب الازمة السياسية بالتفجيرات، إذ يتبادلونها من اجل استمرار الحال على حاله ومنع اقامة عهد مستقر وآمن ومعافى، وآخرون غيرهم القوا بالمسؤولية على مافيات وتجار المخدرات وعصابات التهريب “الاستراتيجية” واخرون غير اولئك وهؤلاء وضعوا الجريمة على رقبة الفاسدين في اجهزة الدولة وفي المرافق الامنية على وجه الخصوص.
اما المجرمون القتلة فانهم يضحكون، يضحكون، حتى يتطوحوا ضحكا إذ يتابعون هذا الضجيج وتقاذف المسؤولية عن الجريمة والفوضى في تعيين مرامي المذبحة، ويتسلون بمشاهدة رجال النجدة والاسعاف وهم يلملمون ايادي واشلاء الضحايا في نعوش يجللها السواد الى مقابر مجهولة.
على موقع يروّج للجهاد الاجرامي نقرأ القول عن مذابح الخميس: انها خطوة اخرى نحو استعادة الاندلس.
 *
“كثرة الكلام شيء، وحُسن توقيته شيء آخر”.
سوفوكليس


158
تضارب الاحصائيات..
فوضى المصادر

عبد المنعم الاعسم 
 
كم عدد نفوس العراق 24 مليونا ام 26 مليونا أم 27,139585 ملونا؟
كم لدينا من الارامل مليون أرملة عراقية، ام مليونان و432 الفا؟.
 أربعة ملايين طفل عراقي يتيم، أم مليونان و117 الف؟ .
800 الف مغيب عراقي في السجون ام 117 الفا فقط؟ .
أربعة ملايين ونصف مواطن مهجر خارج العراق، ام مليونان وبضعة الآف؟.
 76 الف اصابة ايدز في العراق أم 14 آلف و200 اصابة، ام 850 اصابة فقط؟.
 ثم، كم لدينا من المواطنين تحت خط الفقر 40 بالمائة من السكان ام 20 بالمائة أم 32,56 بالمائة؟.

اما مصادر هذه الاحصائيات فان العشرات من الجهات والمفردات والمراجع (الكثير منها غير معروف) تسابق وزارة التخطيط  والانماء وهي الجهة الرسمية التي تأخذ على عاتقها اجراء وتصويب الاحصائيات والارقام الخاصة بالاحوال السكانية والاقتصادية والاجتماعية الى تزويد الاعلام والمواقع الالكترونية وحلقات البحث والمعاهد والندوات بالارقام والمعطيات، وحتى الوزارة فانها تعتمد في اخطر بياناتها الاحصائية عن عدد سكان العراق، مثلا، على ما تسميه بـ”الفرضيات الاحصائية” فيما تنسب بعض الاحصائيات الى جهات دولية مثل منظمة اليونسكو والامم المتحدة وصندوق النقد الدولي والعفو الدولية من غير توثيق اصولي، وثمة بعض المصادر مشكوك في علاقتها بالامر مثل هذه المعلومة المنشورة: هناك مليونان ونصف قتيل عراقي حسب إحصائيات وزارة الصحة العراقية والطب العدلي.

ثم، بالاضافة الى ذلك، نجد المئات من المعلومات والاحصائيات المثيرة التي تقرب من الفضائح الوطنية منسوبة الى جهات معروفة لا احد يعرف مدى صحتها وماذا ترتب عليها من اجراءات، مثلا، هناك 220 صحيفة تصدر في العراق و67 اذاعة محلية تمولها جهات اجنبية مخابراتية بحسب ما منسوب الى نقابة الصحفيين، أو ان هناك ثلاث حالات طلاق لكل أربع حالات زواج بالأسرة العراقية بحسب ما قيل انها احصائية صادرة عن وزارة شؤون المرأة، وتتداول الاقنية الاعلامية معلومات كارثية (وتمر مرور الكرام..) منسوبة الى جهات وهيئات عالمية تفيد ان العراق بلد الجريمة والفساد وانعدام الامن الاول في العالم، وبغداد اقذر عاصمة في المنطقة، وان نصف عائدات النفط تسرق من قبل السياسيين.
المشكلة ، ان العراق انتقل من الدولة المقفلة امام الاحصائيات الى دولة مستباحة بالاحصائيات المتضاربة، ولعل الاكثر خطورة يتمثل في دخول الاحصائيات حلبة الصراع السياسي، فلكل جهة معلوماتها واحصائياتها وارقامها توظفها بحسب ما تسعى اليه، وآخر ما قرأناه بان ثلثي نساء العراق، بحسب “استقصاء” اجرته جماعة اكاديمية يعتبرن الدعوة الى المساواة بالرجال غير منطقية..
وهكذا دخل المنطق الى الحلبة، كخرقة مسح، فتحرك ارسطوطاليس في قبره.
*
 
“اعلم اني لا اعلم شيئا”.
                                    سقراط

159
المنبر الحر / صناعة الاوهام..
« في: 11:37 22/02/2012  »
جملة مفيدة
ــــــــــــــــــــ

صناعة الاوهام..

/ للاوهام، منذ القدم، صناعات وماركات ومصالح، وبراءات اختراع، ويتطور انتاجها وتسويقها في مسارات معقدة حتى بلغت عصر النت والحكومات الالكترونية والعلم في موصوفات مناهضة لحقائق الاشياء وللواقع، وآخر منتوجات هذه الصناعة، لدينا مثلا، القول ان كل شئ على ما يرام، فوق كومة الخراب والمسافات الشاسعة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وعلى براميل البارود الايلة للانفجار في حال استمرار هذا المنحدر، ليصبح المرام كارثيا غير هذا الذي يتدثر به اصحاب الاوهام.
/على انه ليس بالضرورة ان يكون صانعو الاوهام موهومين، فثمة الكثير ممن يعمل في هذه الصناعة موظفون في مؤسسات اعتبارية، سياسية ودينية وطائفية، مهمتهم حشر الملايين في غيبوبة الهروب من الحال، او الرضا عن الحال لصالحها ولقاء اجور مجزية، وهم، بالضرورة، يمتلكون مواهب الصنعة، وتقنيات الاقناع، واساليب الوصول الى جموع الضحايا، فضلا عن "ثقافة" تناسب هذه الوظيفة، وتؤهل صاحبها لفرصة عمل غير منتجة عنوانها: تجهيل الجمهور حتى تدمير صفاته الانسانية والنوعية، وليصبح مريضا في داء لا دواء له.
/ وفي هذا ينقل هادي العلوي في مستطرفه عن احد الدعاة في تسويق الوهم قوله "من تحركت همته بالتصرف في نهاره بتدبير ما يفطر عليه (معاشه)كتبت عليه خطيئة، فان ذلك من قلة الوثوق بالقدر (الايمان) وقلة اليقين برزقه الموعود" فيما يدعو الحسن بن محمد الديلمي الفقير ومسلوب الحقوق، كما يشير العلوي، الى سعادة موهومة بالانصراف الى التعبد تماما "فان نصيبك من الدنيا يأتي من غير فكر ولا حركة".
/فالصناعة هي صناعة، كما يقول تشارلس كامان صانع طائرات الهليوكوبتر الشهير، اما الاوهام فهي مرض لم يكتشف العلم علاجا له حتى الآن، سوى وجوب الاقامة بمصحات بالنسبة للذين يعانون من اعياء التفكير في ما لاطائل منه، ومنذ القدم لاحظ العالم اليوناني هيبوقراط أن الإعياء الذي لايعرف له سبب يندر بمرض ، وان الذي يوخزه شيء من بدنه ولايحس بوجعه في أكثر حالاته فعقله مختلط ، والإحساس بوجود مرض دون التوجع منه  يشير إلي علة في القوي الإدراكية.
/في الغالب لا تصبح الاوهام صناعة رائجة إلا حين يكون وراء ذلك مصلحة، او مشروع سياسي، او  ترتيب في امور البلاد والامم من الخارج، فان تعصيب العيون وتبليد العقول وتعطيل مفاعيل الارتقاء  والنشاط الجمعي للتغيير لا تتم من غير فاعل او منظومة من العقائد تتاجر بغفلة الملايين، حين تقبل ان تتمتع برزاياها وكوارثها وحياة الذل والعطالة والانتظار.
*
"إذا ما مضى يومٌ ولم اصطنع يداً............
                                  ولم اقتبس علماً.. فما هو من عمري"
ابو الفتح البستي

 

160

اي مستقبل للعملية الساسية؟

عبدالمنعم الاعسم

 في مقال سابق طرحت نفس السؤال ولم اجب عنه، منشغلا في منهج النظرة الى المستقبل، وملازم هذه النظرة، وتطور علوم وبحوث واشكال قراءة المستقبل، تمايزا عن علوم اخرى قديمة تتصل بالفلك واتجاه التغييرات في الطبيعة والانواء.
 العملية السياسية، باتفاق اطرافها، المرتاحين اليها والمتضايقين منها، تعاني من اعتلالات عميقة، وتفتت مضطرد، وقد استنفذت الجهود والمحاولات والمبادرات كل زخمها دون ان تنجح في معافاتها وإنعاش مفاصلها وإعادة الحياة لفاعليتها، كما لم تتكون ارادة واضحة للتخلي عنها، لسبب بسيط يتمثل في حقيقة ان البديل عن العملية السياسية، هو عهد الحكم والمعارضة: الحكم من قبل اكثرية برلمانية، والمعارضة من الاقلية، فيما تنعدم امكانيات هذا التوزع في ظل الخارطة السياسية القائمة تحت قبة البرلمان، بانعدام امكانية تكوين تحالف حكومي من داخل العملية السياسية، وانعدام جدوى المعارضة من داخل البرلمان.
 يعتقد كثيرون بان مشكلة العملية السياسية الرئيسية هو الدستور، كنص وروح ومرجعية، فان سياقات التوافق تصطدم بنصوص دستورية في اكثر من موقف، او تلتف عليه، او تتجاوزه، فيما يرى آخرون بان مشكلتها في العلاقة مع البرلمان حيث تخضع عمليات التصويت والاعتراضات والمناقشات الى اتفاقات فوقية من زعامات الكتل وتتنازل الهيئة التشريعية عن وظيفتها الى القيادات السياسية، وطبعا، حين يتعذر الاتفاق والتوافق على صيغة تطبيقية للدستور او القوانين او المعالجات الملحة او إقرار السياسات العامة فان ذلك يشل ماكنة الدولة ويعطل عمليات البناء والتشريع وتطبيع الاوضاع، بل ويتعذر، في الحد الادنى، تحقيق الرقابة وكبح الفساد وضبط الامن والاستقرار وترشيد السياسات العامة.
 لكن الراي السائد يعيد ازمة العملية السياسية الى غياب الثقة بين الفرقاء السياسيين الذين التزموا مبدأ الشراكة في ادارة الدولة وسلطة القرار، ويعبر هذا الغياب عن نفسه في التشابك الاعلامي بين الكيانات وتصاعد الشكاوى والريب والاتهامات والمخاشنات والاساءات في ما بينها، إذ بلغ الامر ان يصعب، غداة كل ازمة، عقد لقاء بين اركان العملية السياسية، ويصبح اللقاء نفسه، اذا ما تحقق، حدثا كبيرا، فيما الظروف التي يمر بها العراق تفترض ان يكون زعماء العملية السياسية في اجتماع دائم ومفتوح.
 ان جميع هذه المعاينات بصدد اسباب تصدع العملية السياسية وضعفها صحيحة بمقدار ما تقدمه من وقائع ملموسة، ما يعني بان مستقبل هذه العملية سيبقى يدور في مستويين، الاول، استحالة إحياء وتجديد قواعد التوافق السياسي التي ارسيت في اساس هياكل مرحلة الانتقال وإحلال الثقة في مفاصل وفروع سلطة القرار، والثاني، استحالة انهيار العملية السياسية أو إسقاط مبدأ التوافق، ومردّ ذلك ان جميع الاطراف لها مصلحة  باستمرار الشراكة في حدّها الادنى، المعتل.
 العملية السياسية ستعبر، اغلب الظن، جملة العثرات والحروب الصغيرة، وستصل بالوضع السياسي الى انتخابات 2014 وهي مثخنة الجراح..
آنذاك، لكل حادث حديث.
*
"كل طريق، حتما، يؤدي الى طريق".
جمال غيطاني
         




161
جملة مفيدة
ـــــــــــــــــــــ


سياسة..
وراءانتشار المخدرات

 لا اعني، فقط، ان ثمة جهات اقليمية ودولية تتولى، على نحو مباشر او غير مباشر، تسهيل ترويج المخدرات الى العراق فان الخلفيات السياسية لانتشار هذه السموم في العراق تتجاوز مسؤولية الدول المجاورة الى ما هو اخطر حين تتجه اصابع اليد الى تنظيمات سياسية، وشبه سياسية، تقوم بحماية زراعة المخدرات وتأمين انتشارها وتهريبها، وليس من قبيل الاسرار القول بان لبعض هذه التنظيمات نفوذ في مرافق الدولة، وان الاموال الطائلة المتحصلة من تجارة المخدرات تسمح بشراء سكوت مسؤولين في اجهزة المكافحة والادارة والرقابة.. وكل هذه الحقائق تدور في مطبخ السياسة وفي ماكنة الصراعات على السلطة، وفي الشبكة المعقدة التي تربط هذه الصراعات بعواصم المنطقة
 من جهة أخرى، لا موجب للاستغراب حيال انتشار المخدرات في العراق، ولا موجب للتوقف كثيرا عند آخر المعلومات التي اطلقتها وحدة الابحاث الدولية بجامعة كربلاء قبل حوالي ثلاثة اشهر من ان العراق "بات يتحول تدريجيا إلى بلد مستهلك ومنتج للنخدرات" وان الجهات المحكومية "اكتشفت العديد من المزارع الخاصة بالمخدرات خلال السنوات الماضية في محافظات عديدة" فان سوق هذه السموم يزدهر في الدول التي تشهد اضطرابات امنية وسياسية ودينية، وان زراعتها تنتشر في ظروف تتسم بالاستقطابات وضعف فعالية السلطة ووجود كانتونات موازية (عشائر) تفرض سلطتها شبه المستقلة على مناطق صالحة لزراعة المخدرات.
 ويدخل في هذا التأشير السياسي لانتشار المخدرات ما نُقل عن مسؤول عسكري حديثه عن "استشراء ظاهرة تعاطي الحبوب المخدرة بين العناصر الامنية اثناء تأدية الواجبات المناطة بهم في نقاط التفتيش او مواقع المرابطة فضلا على تواجدهم في الثكنات" الامر الذي يفسر كثرة اختراق الحلقات الامنية الحساسة من قبل الجماعات المسلحة، بل ان الباحث المعروف في الشؤون النفسية الدكتور قاسم صالح حسين اكد بهذا الصدد  قوله "ان انقطاع التمويل المالي عن الجماعات الإرهابية أدى إلى توجهها إلى زراعة أشهر نبتة مخدرات (الداتواره) في مناطق من محافظة ديالى" وفي التفاصيل سنعرف بان مافيات المتاجرة بالمخدرات، واكثرها مرتبط باقطاب سياسيين تعمل على تحويل طريق الحرير القادم من آسيا عبر العراق ممرا للمتاجرة بالمخدرات.
 هنا تتكامل دائرة الخلفيات السياسية لانتشار المخدرات في العراق، وستكون اكثر وضوحا، كلما اقتربنا من موعد الانتخابات.
 فمن الذي سيمنعها من التصويت؟.
*
" العيون الضعيفة أكثر مَن يحب الأشياء اللامعة".
توماس كارليل







162

وزارة الخارجية..
على حق

عبد المنعم الاعسم 
 
وجه الحق هنا يتمثل في التحذير الذي اطلقته وزارة الخارجية الى الكتل السياسية ونوابها بوجوب النأي عن ملف التحضيرات للقمة العربية المقرر عقدها في بغداد والكف عن التصريحات التي، كما لاحظت الوزارة عن حق “غالبا ما تكون اجتهادية تؤدي الى التشويش على موقف العراق الرسمي من بعض القضايا المطروحة على الصعيد العربي” خشية “ ان تؤثر تلك التصريحات على مستوى تمثيل بعض الدول المتوجسة اصلا من المشاركة في قمة بغداد”.
وإذ اختارت الوزارة في هذا التحذير لغة دبلوماسية تذكّر اصحاب التصريحات الخارجة عن الانضباط بالمسؤولية الوطنية وفروض تهيئة الاجواء المناسبة لعقد القمة وحضور جميع رؤسائها وتوظيف المناسبة في صالح العراق وسمعته ومكانته، فانها  وضعت بذلك عنوانا اعتراضيا مشروعا لسلسلة المواقف والخطب التي تناوب عليها نواب في الكتل البرلمانية المتصارعة اقل ما يقال انها تعبر عن منطلقات ضيقة، طائفية، وفئوية، حيال قضية  حساسة لا تتحمل مثل هذا العبث، بل هي في امس الحاجة الى رسائل  مسؤولة وحكيمة من شانها طمأنة الدول المعنية في القمة الى سلامة نوايا العراق ورحابة صدره، وبأنه (وهذا هو المهم) هجر منهج النظام السابق في اثارة العداوات والريب وطبول الحرب في المنطقة.
المثير للقلق، هنا، ان بعض التصريحات النيابية “الفئوية” تذهب مذهب الجهالة في معرفة دور الهيئة التشريعية في حماية التزامات الدولة حيال شركائها الاقليميين، او في التعامل مع قواعد واصول والتزامات عقد القمم العربية، فلا تتورع من اعلان الحرب، باسم العراق، على حكومات وزعامات وسياسات دول ليس مجالها مناسبة انعقاد القمة، ولا  مكانها ان تنطلق من بغداد، وهي عدا عن ذلك تربك الحركة الدبلوماسية المفترضة لبناء جسور الثقة مع الآخرين، وتسبق هذه الحركة الى رمي الحجارة العشوائية في طريق نجاح القمة.
الحديث هنا يتناول تصريحات نواب واقطاب سياسيين من منظور الاختلاف او العجالة او سوء التقدير، وبعضها يدخل في فرضية زلة اللسان او ضعف تحَسّب للنتائج ، لكن المراقب لا يمكنه إلا ان يرصد كلاما منشورا ومذاعا لأقطاب  ونواب تتجاوز موصوف حسن الظن الى اعتبارها مواقف مستعارة من خارج الاعتبارات العراقية، وانها تـُطلق على دولة من دول القمة بالنيابة عن دولة اخرى تخاصمها، ويلتقي هذا الموقف، شاء اصحابه ام ابوا، مع الحملة الارهابية المنظمة التي تهدد رؤساء الدول المعنية وتحذرهم من المشاركة في قمة بغداد.
وبعض اصحاب التصريحات بحاجة الى معرفة معايب الاستطراد وإغواء الشاشات الملونة وما يسميه الشيخ الجاحظ  “التكلف لما لا نحسن”.
 *
“أحترم من يقاومونني، لكني لا استطيع احتمالهم”.
ديغول


163
عندما تهين وزيرة المرأة.. المرأة

عبدالمنعم الاعسم

هذا ما حدث بالضبط، بل هكذا يكتب الانكفاء قصته، فصلا فصلا. اما الخاتمة فان ثمة صفحات تفصلنا عنها، بانتظار ان يقول المتفرجون على المهزلة كلمتهم:
 فلأول مرة، ربما من عهد اول وزيرة في التاريخ هي الوزيرة الفرعونية "نِبـْتْ" قبل ما يزيد على سبعة آلاف سنة، لم تجرأ امرأة في وظيفة وزيرة شؤون النساء، كما يجري لدينا في عراق ما بعد نظام الحزب الواحد، على ان تنصب من نفسها مرجعا يعلن معارضته (او تحريمه) لمساواة النساء بالرجال، والاصرار على ان ترهن المرأة نفسها في "معلف" الرجل بموصوف القوامة الابدية، فان الوزيرة السيدة ابتهال الكاصد اخذت هذا "الامتياز" برهاوة، وزادت عليه باوامر الحجاب وتكفين النساء بزيّ تختاره هي.
 لابد ان نحفظ للوزيرة الكاصد هذا الاختراق التاريخي المسجل، في الاقل، باسم نساء كثيرات في دول كثيرة ممن يعارضن المساواة مع الرجال، ويقدن حملات تدعو لترخيص تعدد الزوجات، وتشريع عبوديتهن، لكن، ليس بين هؤلاء الكثيرات، حتى الان، وزيرة للمرأة، مثل السيدة الكاصد.
  لسوء حظنا، اننا فقدنا برحيل نزيهة الدليمي، الوزيرة الاولى في العالم العربي، زخم هذا التميّز على جيراننا وشركائنا الاقليميين، بل اننا، لسوء هذا الحظ، صرنا ننكفئ الى الوراء فننتج اجيالا من النساء الدعاة اللواتي لا يعرفن من حقوق المرأة غير تأمين "مِنـّة" الرجل عليهن بفتات العيش، وشفرات غسل العار، ولا يذكرن من امجاد المرأة غير مشاركتها بالحروب والفتوحات لتضميد زنود الرجال وتجديد فحولتهم، ولا يرين من مستقبل لنصف الخليقة الجميل غير منازل مزدحمة بالاولاد الرّضع وبالمكانس والطشوت واسرة النوم، فيما تقطع نساء العالم الآخر مراقي العلم والتصنيع والاكتشافات، وتُبهر العيون والعقول بابداعات لا تقل ائتلاقا عن ابداعات الرجال، وفي الكثير من الاحيان تتخطاها.
 كانت البولشفية الكساندرا كولونتاي، الوزيرة الاولى في عصر الدولة ما بعد القيصرية تحضّ النساء على حماية الكرامة الانسانية وتنمية الذوق العام وبناء معارف الجمال والتمرين على تحقيق العدالة، وكانت تخاطب المرأة بقولها: لا تقبلي سيدتي ان يعاملك الرجل كوصيفة، ولم تكن تعرف ان زمنا نحسا سيأتي تتولى فيه نساء وظيفة صـُنع العبودية، وتجميل الذل لبنات جنسها نيابة عن الذكور
 قلت.. نيابة عن الذكور، ولم اوضح عن ايّ جنس من الذكور تنيب.






164

دولة خميس الخنجر..
ماذا بعد؟

عبدالمنعم الاعسم

اصبح واضحا ان رجل الاعمال (والمال) السياسي العراقي خميس الخنجر لم يعتقل في عمان، كما قيل، على خلفية قضية غسيل اموال عراقية بمئات الملايين من الدولارات كان قد تورط فيها رئيس مخابرات اردنية سابق، لكن هذا الاستدراك لم يكن لينتزع اسم الرجل من دورة الاخبار التي تلاحق الاحداث العراقية، ولا يمنع المعاينة في دلالات وخفايا الصعود الصاروخي لاسم (او دولة) الخنجر الى موقع المقرر في مسار الصراع بين القائمة العراقية وكابينة رئيس الوزراء نوري المالكي، وفي البعد الطائفي لهذا الصراع.   
 سنضطر الى شطب نصف ما كـُتب في سيرة خميس الخنجر من علاقات ملتبسة بالحلقة الضيقة الحاكمة في عهد النظام السابق او بصدد مصادر الثروة التي يديرها من العاصمة الاردنية، او ما قيل عن شبكة علاقات معقدة ونافذة له في محطة الاقامة الاردنية وروافع تلك الشبكة، فان النصف الآخر المتبقي من المعلومات يكفي ليشكل قاعدة رصد لمشروعٍ سياسي عراقي ذي هوية اقليمية ليست بريئة الاهداف، ابطالها اسماء كبيرة في عالم المخابرات والسياسة والمال و"المقاومة" وميدانها العراق وضحيتها خيار اقامة دولة مدنية مستقرة، فيما بعض المحسوبين عليها لاعبون في الساحة السياسية والصراع على السلطة والمحاصصات، وحصرا، في (بعض) ملاحق القائمة العراقية ومشايخ في الانبار وكركوك وصلاح الدين وديالى والموصل والبصرة.
 كل ذلك  يفرض اعادة تركيب سلسلة الروايات والمنشورات عما قدمه الخنجر من دعم مالي و"لوجستي" سخي الى الحملة الانتخابية لرموز معروفة في القائمة، وما كشف على نطاق واسع عن عمليات "مزاد" كان الخنجر يديرها بعد الانتخابات لتمليك وزارات من حصص العراقية على متنافسين معروفين، وما قيل ايضا عن تجسير في الجغرافيا الطائفية بين العراق ورافعات خليجية، سجلت باسم الخنجر.
 من زاوية تحليلية موضوعية، يبدو ان الخنجر، الذي لا يملك مدوّنات واضحة (او توثيقات اكاديمية)عن كفاءاته وخبرته في ادارة السياسات والرؤى والمشاريع ذات الصلة باحوال الدول، صعد الى منصة الاحداث بسرعة لافتة ومثيرة للغرابة، وصار في غضون اقل من عامين، مقررا ، من بين مقررين قليلين، في مسار الصراع السياسي في العراق، وليس من دون مغزى ان يرعي بنفسه، ومن على واجهات الفضائيات وتقارير وكالات الانباء، محفلا عراقيا- دوليا عـُقد في تركيا الشهر الماضي لبحث مستقبل الدولة العراقية، ويبدو ان الخنجر، في هذا المحفل، بلغ الذروة في الصعود، ما تبلغه الظواهر الغامضة، وقل القنابل الصوتية، من اهتمام وعلامات استفهام، ثم الوقوف عند نقطة النزول وبدء السقوط.
 لا ينفعنا كثيرا، بهذا الصدد، الاستطراد في تأويل هذا السخاء والبذخ لصالح معسكر سياسي وطائفي دون غيره، ففي هذا روائح كثيرة غير طيبة، ومظنات وفيرة ومؤشرات عن مصادر اموال اقل ما يقال انه مطعون بنزاهتها، حال جميع "هويات" الثروة التي تغير على العراق من وراء الحدود ويستخدمها آخرون في التنافس الانتخابي لارشاء دعاة وناخبين وتجار إعلام، لكن الامر المهم، ذي صلة بالمشروع الذي سوقته القائمة العراقية والحامل لشعارات "المشروع الوطني" هو التساؤل عن الثمن الذي ينبغي ان تدفعه رؤوس متورطة كانت قد دنست ذلك المشروع، عن طواعية وعمد ودراية وسبق الاصرار،  في بـُركة خميس الخنجر التي يشرب منها، ايضا، ابطال السيارات المفخخة ومرتكبو المذابح المروعة للمدنيين باسم المقاومة.
 وما خفي كان اعظم، لو تعلمون.
*
" وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ... فأقمْ عليهم مأتماً وعويلا".
احمد شوقي             






165

محنة الهيئات المستقلة
 في بيئة الاستقطاب

عبدالمنعم الاعسم

تعد هيئة الاعلام والاتصالات من الهيئات المستقلة الست للدولة العراقية الجديدة، مفوضية الانتخابات. النزاهة. الاجتثاث. البنك المركزي، مجلس القضاء ، وقد نظمّ عملها تشريعان، الاول، الصادر من ادارة الدولة المؤقتة في 20/ 3/ 2004 برقم (65) ويعهد الى الهيئة مسؤولة إعطاء التراخيص والاجازات بشأن البث واستخدام الفضاء في العراق وثانيهما الوارد في الدستور العراقي، المادة (103) وسمّى هيئة الاعلام والاتصالات كهيئة مستقلة إدارياً وثبّت إرتباطها بمجلس النواب على أن ينظم عمل هذه الهيئة بقانون.
وإذ خولت المادة (61) من الدستور رئيس مجلس الوزراء سلطة “ترشيح وإقتراح أصحاب الدرجات الخاصة لشغل وظائف الدولة” فانها حصرت بمجلس النواب حق الموافقة على الترشيح والمقترح ليصبح نافذا، أخذا بالاعتبار بان  سلطة الائتلاف المؤقتة نقلت صلاحياتها بالقرار رقم (100) في حزيران 2004  الى رئيس الوزراء، بما فيها تعيين رئيس مجلس مفوضي هيئة الاعلام وأعضاء المجلس وإنهاء خدماتهم، ويعتقد خبراء في القانون بان مصادر تشريع صلاحيات هيئة الاعلام، وعدم صدور القوانين التي تنظم عملها، شكلت ارضية لاضطراب إداء هذه الهيئة، يضاف الى ذلك سبب آخر اكثر اثرا هو اختيار الرؤساء التنفيذيين على اساس المحاصصة الفئوية.
وبالاستناد الى تجارب دولية سبقت العراق في هذا المجال فان الهيئات التي تتولى تنظيم استخدام الفضاء من قبل اقنية الاعلام والاتصالات، وتتكفل رسم قواعد البث وصناعة الرأي العام  وضبط مفاتيح الاتصالات وتنظيمها تعد من اخطر مؤسسات الدولة ذات الصلة بقضايا السيادة، وحماية حقوق الفضاء الوطنى، والسلوك الاعلامي، وتُعهد قيادتها وادارتها في العادة الى خبراء في مجالات الاعلام والاتصالات، مشهود لهم بالنزاهة والحيدة السياسية والمهنية والخبرة الطويلة، مع تأمين حمايتهم من تدخل الحكومات والاحزاب السياسية وجماعات المال والضغط، فضلا عن تحصين هذه الهيئات ضد اختراقات الدول الاخرى.
لقد اخفقت هيئة الاعلام والاتصالات، منذ تأسيسها في يونيو 2004  في ان تكون مستقلة حقا، وصارت نقطة تجاذب ونفوذ وتدخل، وجرى تلغيمها بالمجسات الفئوية المتصارعة وتحولت في مرحلة من مراحلها الى تكية لتزجية وقت العاملين، فيما يقوم بضعة اشخاص من جيشها الاداري في تمشية امورها على النحو المعتل، وفاقم الامر اضطراب السياقات المالية وسوء ادارة الموارد وتدني الرقابة وغياب البرامج والرؤى الاستراتيجية للنهوض بمستوى الخدمة، وبالترهل والبيروقراطية والمكتبية، وانعكس ذلك في ضعف قوام مجلس المفوضين وإغراقه بالحزبيين والموالين السياسيين، وفي تراجع تدفق الخبرة والكفاءة والمهنية المستقلة في الدورة الدموية للهيئة.
اتحدث في هذا من زاوية تجربة شخصية، إذ عملت عضوا في لجنة المستشارين الاعلاميين لعام او يزيد قليلا، خرجت من بعد ذلك بحصيلة الرأي الذي يقول ان استقلال هيئة الاعلام والاتصالات فرضية لا وجود له إلا في كراس الدستور، وان معافاتها من العلل بحاجة الى وقفة مراجعة.. جدية.
*
“خير لنا ان نسعى الى تقوية ظهورنا بدل ان نسعى الى تخفيف اثقالنا”.
       حكيم


166

القمة العربية ..
محاولة استباق

عبدالمنعم الاعسم

القمة العربية المقرر عقدها في بغداد بعد أقل من شهرين تُعدّ، في رأي الاستراتيجيين، الاخطر من بين جميع القمم العربية الـ22 ليس في الجوانب ذات الصلة بالاوضاع العربية المتغيرة والمندفعة الى تهديم النظم المتوارثة، لكن أيضا، وبالاضافة الى ذلك، في وظيفة هذه المرجعية الاقليمية، وأطارها الاوسع، الجامعة العربية، التي قطعت 67 عاما من عمرها من غير ان تهزها الاحداث والاستحقاقات وبات ميثاقها وجملة قراراتها وقواعد صياغة مواقفها وادارتها للازمات والخلاقات في مهب الريح، فضلا عن تصدع قوى التحكم والتأثير والتوجيه في حلقتها النافذة وأنهيار المحاور التي بقيت تتجاذبها وتفرض عليها “هوية” وعلاقات وتحالفات وصفقات وتبعيات، مثيرة للجدل، مع التكتلات والقوى الاقليمية والدولية.
على أنّ إنعقاد القمة العربية في بغداد، حصرا، لم يكن من غير مغزى كبير في هذا الوقت بالذات، فهو الاخر يدخل في قوام العناصر الاستثنائية، والخطيرة، لدور ومستقبل القمم العربية ومؤسسة الجامعة العربية، وذلك من زوايا عديدة، في الصدارة منها، العلاقة المضطربة والمشوبة بالملامات والالغام وسوء الظن والريبة والكيفية وانعدام الانضباط والشكاوى المتبادلة بين بغداد وعواصم الجامعة العربية، حيث شهدت السنوات التسع الماضية، مواجهات ووقائع تـَدَخـّل وتحريض وتمحور كان العراق طرفا فيها، وضحية لها، في غالب الاحيان.
حتى سلسلة التأجيلات، واسبابها، تلقى الكثير من الشكوك، او الغموض، على امكانية نهوض القمة الـ23 بمهمة تصويب القواعد القديمة وإنشاء هياكل عصرية وحيوية لاحتواء متطلبات المستقبل وطي صفحة المحاور والوصاية والاملاءات في العمل العربي، فيما المراهنة في نجاحها وتأمين انطلاقها الى ذرى ارقى تعوّل، اولا، على الزخم الشعبي العارم المتطلع للتغيير، وثانيا، على الارادة الجمعية البناءة للانظمة والزعامات الحاكمة، وثالثا، على حسن ادارة العراق، كدولة مضيفة، لاجواء وفروض وحاجات المناقشة والحوار وتبادل الاراء. اما معيار النجاح فانه يتمثل في مسارين، الاول، اعادة هيكلية وترشيد وتحديث هذه المرجعية الاقليمية بما يتناسب مع الحقائق العربية والدولية الجديدة، والثاني، في بناء منظومة مواقف وقرارات وسياسات نوعية وحيوية وانتقادية، وغير ذي ديباجات تتمدد على جميع المقاسات والاهواء والظروف.
وقدر ما تعلق الامر بالمطلوب من العراق، فانه يكفي التذكير بان نجاح القمة في مساريها يعني نجاحا للعراق احوج ما يكون له راهنا، وان فشلها سيلحق افدح الاضرار بمصالح العراق وسمعته وتطلعاته الى استعادة موقعه الاقليمي النافذ، وتحْسن الاشارة هنا الى التحذير من مخاطر التعاطي مع القمة واعمالها من زاوية الاعتبارات والشعارات والولاءات الفئوية، الامر (الخاطئ والضار) الذي نتتبع الآن بعض بصماته الفاقعة في تصريحات بعض السياسيين والنواب وفي استباقات اعلامية ينقصها النضوج وبُعد النظر، وأقل ما يقال فيها، انها تجهل معاني انعقاد مثل هذه الفعالية، وفي هذا الوقت، في بغداد.. والجاهل عدو نفسه، كما يقال.




*
"الحُلم يرفع بيتاً لا عماد له........
والجهل يهدم بيت العز والكرم".
شعر


167
المنبر الحر / حل.. ام تهدئة ؟
« في: 21:42 05/02/2012  »
جملة مفيدة
ــــــــــــــــــ


حل..
 ام تهدئة ؟

/شكل الازمة القائمة، وحال العملية السياسية، استقرّا (بالمفهوم الفيزيائي للاستقرار) على نوع من التوازن القلق، الهش، الملغوم، الذي سيستمر، أغلب الظن، على هذا الحال، الى إثنين وعشرين شهرا مقبلة تفصلنا عن السباق الانتحابي لعام 2014 ويعتقد ان حسابات القوى التي تقبض على معادلة الصراع انتهت الى الامتناع عن "تفجير" ذلك التوازن وتدميره، لأن البدائل مخيفة وكارثية للجميع من غير استثناء، كما انتهت الى عزم غير معلن (بواسطة عض الاصابع ومعارك الكر والفر) على منع الخصم- الشريك من ان يكسب، أو يحسّن نفوذه وموقعه، في خلال الفترة التي تسبق الانتخابات، أخذا بالاعتبار بانه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
/في هذا المشهد، يبدو ان فكرة التنازلات المتقابلة بين فرقاء الازمة السياسية اصبحت تمنيات للشارع او الخائفين على مصائر العملية السياسية، او امست شعارا لا رافعات مادية او اعتبارية له على ارض الواقع، فان ثمة مشكلة اجرائية، اعتراضية، طرحت نفسها على بساط البحث عمن يبدأ بالتنازل اولا قبل غيره، او من هو على استعداد حقا للتنازل، او عن حدود هذا التنازل في مساحة النفوذ والامتيازات وقياساته، وبموازات ذلك، ظهرت مشكلة اخرى على هيئة سؤال تفصيلي: ما الذي يسبق الآخر، التنازلات ام اجواء الثقة؟ وهكذا، فان مفتاح حل الازمة لبناء حكم الشراكة الوطيد ابعد عن متناول اليد والرصد، والمطروح الآن، كما يبدو مفاتيح للتهدئة   
/وبحسب قراءات ميدانية لتناسب القوى وتشابكها وضغوط الشارع وحِراك الكواليس، وترشيحات الحظوظ، ورسائل (واملاءات..) من وراء الحدود، فانه كلما اقترب موعد الانتخابات التشريعية ستخذ التحالفات، والصفقات، والخصومات والاستقطابات السياسية والاجتماعية والطائفية والقومية  مسارات اكثر فرزا ودراماتيكية واختلافا، وربما مفاجأة ايضا، ويمكن القول بان الكثير من "التشكيلات" والتعهدات والمواثيق والزعامات ستأخذ طريقها الى خارج المشهد، وان استعراض القوة سيبقى سيّد الاحكام، واكثرها حضورا، محسوبا فيها ما تتطلبه القوة من مال واعلام وتشكيلات مسلحة وشبه مسلحة، ومن مهارة في اللعب بالشعارات والوعود، وطبعا، من اساليب في الوصول الى القوى التصويتية واستدراجها الى صناديق الاقتراع.
/بكلمة موجزة، يبدو ان اصحاب الازمة السياسية يحبذون تهدئة تقوم على تجميد الملفات.. تهدئة تدس مشروع الحل تحت بساط التأجيل بانتظار الكلمة الحاسمة لنتائج الانتخابات المقبلة، او بانتظار مغامرة كارثية.. من يدري؟.
*
 "لا احب كلمة التسامح، لكن لا أجد كلمة افضل منها".
غاندي










 

168
المنبر الحر / سوريا.. الى الزلزال
« في: 19:50 01/02/2012  »

سوريا..
 الى الزلزال

عبدالمنعم الاعسم

بدأ الكثير من الخائفين على مصير سوريا من التفتت والحرب الاهلية ومن وقوعها في حاظنة التطرف الديني “الجهادي” ينظرون بعتاب وانتقاد مرّ الى اداء السلطة القائمة ومنهجها في احتواء الازمة إذ اتسم بالردع السافر الدموي المفتوح مما حدث ويحدث في اية حرب اهلية اندلعت في بلدان الاستبداد، وقل، هي مقدمات كلاسيكية لحرب اهلية ضروس ستزلزل قواعد الاستقرار في المنطقة، وتضرم النيران في معادلات الحرب والسلام القائمة فيها منذ حوالي نصف قرن من الزمان.
الجديد، بان الاعلام الرسمي في دمشق بدأ يتحدث عن معارك في صفوف الجيش الحكومي، وعن “تحرير” مناطق تقع الى اميال من العاصمة، وبدأت لغة التتبع لما يجري مثقوبة بالغموض والهذيان والتناقضات بصرف النظر عما يطلقه هذا الاعلام من تسميات مسبقة التخوين للمنشقين عن الجيش الحكومي ومن عبارات دعائية واستعراضية عن الاقتدار الذي يتمتع به الجانب الحكومي.
هذا اعتراف متأخر بتصدع آخر الدفاعات الاستراتيجية عن نظام الحزب الواحد بعد تفتت الكيان الحزبي الى وحدات طائفية ضائعة، لكن الشيء المشكوك فيه هو ما إذا ستتمكن آلة المواجهة الحكومية من اعادة الامور الى نصابها، وما اذا ستضطر القيادة الى الموافقة على مبادرة خشبة النجاة العربية لانقاذ ما يمكن انقاذه من دولة الاستقلال بديلا عن صورة مجهّزة لدولة اخرى لا احد يشك بان الخارطة ستضيق بها، وان مستقبلها سيكون في علم الغيب.
من السابق للاوان الحديث عمن تسبب في مآل سوريا الى هذا المفترق الخطير من الطرق، لكن لا ينبغي تقليب الامور كثيرا عندما يتعلق الامر بتعيين مسؤولية النظام السياسي، ضيّق التمثيل، والقائم على مفردات الواحدية الصارمة في الحكم وعسف التعامل مع العقائد والحريات والقوميات المحلية، بل ولا يمكن، حتى لتلاميذ السياسة، وضع المسؤولية الاولى عما حدث ويحدث على عاتق الجهات الخارجية، الغربية والخليجية، مثلما لا يمكن اعتبار المتدخلين الخارجيين على انهم محسنين، او هيئات إنقاذ انسانية بريئة من الاطماع والاجندات وتصفيات الحساب وتسويق المصالح والتحالفات.
حتى لجوء المعارضة الى العالم وتحبيذها التدخل الخارجي، فان الادارة الحكومية تتحمل، في تدميرها رسوم الثقة وحشرها المعارضين في الخيارات المستحيلة، مسؤولية هذا الانزلاق، ونتائجه، وكان بمقدورها منع تدهور الاحداث الى هذا الخيار الكارثي.
مع ذلك فان الاعلام الحكومي السوري، إذ يعترف بانتقال المعارك الى خاصرة العاصمة دمشق، فانه لا يزال يتحدث عن الخسائر بلغة صدام حسين الكارثية: اغارت طائرات العدو على قرية آمنة. قتلت الكثير من سكانها. خسائرنا لا شيء.
الخسائر عندهم، فقط، تلك التي تلحق بالرئيس.
 *
“الكذب في بعض الاحيان غريزة”.
صلاح عبدالصبور     

169

عودة نواب العراقية..
تصويب أول

عبدالمنعم الاعسم

 عودة القائمة العراقية عن قرار مقاطعة جلسات البرلمان خطوة  تتجه الى تصويب العمل السياسي المضطرب والمتشابك، وشديد الاحتقان، وهي تسجل نفسها في عداد عناصر ثقافة المراجعة والترشيد المـُفتقدة والتي تراجعت الى ادنى منسوب لها في خلال التجاذبات الساخنة بين المعسكرين السياسيين، العراقية ودولة القانون، وإنْ كان الكثير من المراقبين يعتقدون ان القائمة العراقية كانت في نقطة التجاذب الشديد بين خيارين، العودة واستمرار المقاطعة، احلاهما بالنسبة لمستقبلها مرٌّ.
 لكن، وللوهلة الاولى، يمكن القول، استباقا، بان عودة نواب العراقية الى الخيمة التشريعية، ستعطي دفعة الى مشروع المؤتمر الوطني الذي طرحه الرئيس جلال طالباني وتوقف عند نقطة مقاطعة العراقية للبرلمان والحكومة على خلفية ازمة الاتهامات الموجهة الى نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وتتوقع المجسات السياسية انصراف الجهود، بعد ذلك، الى مفردات نقاط البحث وسقوف الحلول المقترحة وتأشير القواسم المشتركة بين اصحاب الازمة، واقناع القيادات السياسية على الرمي بثقلها لانجاح المؤتمر.
 البداهة السياسية تؤكد، من جانب آخر، بان انهاء مقاطعة نواب العراقية لجلسات البرلمان، ثم استئناف الوزراء لاعمالهم سيمهد الطريق امام تنازلات متقابلة، او هكذا يفترض، حيث يشجع  ترحيب كتلة الحكومة بقرار العراقية على الاستطراد قدما في توقع حدوث اختراق ايجابي على جبهة الازمة اخذا بالاعتبار بان الاسباب التي ذكرتها العراقية لمقاطعة مجلس النواب هي نفسها التي وقفت وراء مقاطعة اجتماعات الحكومة، ما يعني اننا ننتظر القرار الآخر في اية لحظة.
 لكن الامر الاكثر اهمية لهذا القرار، في بعده الذاتي، يتمثل في انه سيتدارك المزيد من التصدع في صفوف القائمة العراقية، وسيحول دون تمرد نواب او وزراء او مكونات اكثر مما حدث طوال اسابيع من المقاطعة، ويبدو، ان خيار الانتقال الى المعارضة النيابية، الذي طرح على طاولة المناقشة في كواليس القائمة اصطدم بتقدير عدم فاعليته والشكوك في جدواه ونجاحه، وبمخاوف جدية من ان تفقد العراقية، بما تمثله من شرائح ومناطق وقوى تصويتية، موقعها في المعادلة السياسية، وستفقد بالتالي فرص التنافس المتكافئ والمضمون في الانتخابات المقبلة.
 علم السياسة الحديث يحذر من ردود الافعال التي تقوم على الكيدية والتجريب، ومن اتخاذ القرارات تحت ضغوط الاستئثار للكرامات، فربما تقود تلك وهذه الى المهالك. لنتذكر ، في هذا، كيف تعامل الرئيس الامريكي جورج بوش الابن لحظة تلقيه فردة حذاء ذلك الصحفي العراقي الغاضب..
 مع ان الامثال تضرب ولا تقاس.
*
"التاريخ هو علم الاشياء التي لا تتكرر".
بول فاليري

         

170
المنبر الحر / هل هو عفو عام.. حقا؟
« في: 01:11 30/01/2012  »

هل هو عفو عام.. حقا؟

عبدالمنعم الاعسم

حماسات الدفاع عن قانون العفو العام قيد المناقشة والتجاذب والتشريع، وحماسات الهجوم عليه والطعن في سلامة نياته وديباجاته، وحماسات الصمت عليه والتفرج على لعبة القط والفار من حوله، جعلت من هذا القانون لغزا، بالنسبة لذوي النيات الطيبة والسليمة والانسانية الذين ينظرون الى فكرة العفو العام باعتبارها واحدة من لوازم المصالحة وثقافة التسامح وطي صفحات الاحتراب والمكاره، ويتطلعون الى تشريعات اخرى تؤسس للسلم الاهلي والعدالة والحياة الآمنة.
وعندما يعود اصحاب النيات الطيبة الى مشروع القانون نفسه، ويطالعون مواده يكتشفون بان المدافعين عنه والمعارضين له والمتفرجين عليه، منشغلون في نصوص معينة، جزئية، فيما يضم المشروع مواد ونصوصا وتعيينات تدخل في تعقيدات الواقع الاجتماعي وافرازات عقود طويلة من السنين لايمكن معالجتها بالردع والقصاص المفرط بالقسوة قبل اخضاعها للبحث والدراسة ومعالجة الاسباب والظروف التي تقف وراءها.
غير ان ما يلفت نظر المراقب تلك العبارات والسطور التي تتقافز من التصريحات والتعقيبات ومن حماسات الدفاع والمعارضة والتفرج وتفيد ان لمشروع قانون العفو خلفية لا علاقة لها بالاتجاه نحو طي صفحات الاحتراب وظروف ما قبل انسحاب القوات الاجنبية بل تتصل باتفاقات سياسية فئوية سابقة، وانه فـُصّل على مقاس وعود بالعفو عن “محكومين” من جهة سياسية حصرا من دون ان يشمل محكومين من جهات اخرى، عدا عما يقوله مدافعون عن الحقوق المدنية عن تعارض بعض النصوص مع حملة مكافحة الارهاب او مع الشرائع والمعاهدات الدولية.
نعم، ثمة حاجة لقانون عفو عام  يُنصف ضحايا الاضطرابات والتعقيدات السياسية وحالة الطوارئ والاحتقانات الطائفية والسياسية والفئوية، لكن المشكلة التي يواجهها القانون وهو يتنقل بين البرلمان والحكومة من مستويين، الاول، ان الظروف الامنية الاستئنائية والمتوترة لاتزال قائمة الآن، وفي حالة تفاقم، وان هذا العفو (بديباجته ومواده ومراميه) لن ينزع فتيل هذه الاخطار ولايسد فجوات الوضع الامني، بل وليس في نصوصه ما يعالج ظروف ارتكاب تلك الجرائم التي يتجه مشروع القانون للعفو عن المحكومين عنها، والثاني، انه لايعتبر جزءا من اجراءات المصالحة والتسامح والسعي الى حل الازمة السياسية المستفحلة، وتهدئة خواطر الشارع.
العفو العام، في تجارب الدول، خطوة خطيرة في بناء السلام الاهلي، تنطلق بعده الدولة الى التشييد، من دون ان تلتفت الى الوراء.
اما الذي تجري مناقشته، الآن في اروقة الحكومة ومجلس النواب، والتحمس لاصداره، او لعرقلته، او التفرج عليه،  فهو، بصراحة، لايمت الى فكرة العفو العام بصلة.. انه اقرب الى صفقة سياسية، في وقت خنقتنا الصفقات السياسية ولم نعد نتنفس غيرها، لشديد الاسف.
*
“العقل كالبراشوت، يجب ان ينفتح”.
   انيس منصور


171
المنبر الحر / حكومات.. في حكومة
« في: 19:10 25/01/2012  »

حكومات..
في حكومة

 قد يتفهم المراقب ان تقوم جهة معارضة للحكومة ولا علاقة لها بالعملية السياسية، بإعلان الحرب على دولة من الدول والتجييش ضدها، او إعلان التحالف مع طرف اقليمي ودولي وتبني مواقفه، او التلويح بعقوبات تطال جهات او شرائح او شعوب، وقد لا يستغرب المراقب عندما يفاجأ بقيام  جهة مطلوبة للقضاء ومتمردة على القانون وبعيدة عن الحكومة او مناهضة لها باصدار فرمانات بتنظيم العلاقات بين المواطنين وتوجيهات ذات خصوصيات ادارية وتعيين خطوط حمراء في ممارسة الحريات وحقوق التنقل والملبس والسفر والتدخل في شؤون ادارية ودبلوماسية وعسكرية هي من صلاحيات الحكومة حصرا.
 لكن الغرابة تتمثل في ان جهات وشخصيات محسوبة على الحكومة وتدير خواصر كثيرة وخطيرة من شبكاتها وسياسياتها وتساهم في وضع خططها وخياراتها تتصرف ، من جهة اخرى، كحكومات مستقلة تماما في التعامل مع الدول الاخرى ومع ملفات محلية واقليمية حساسة تدخل في قوام وظائف الحكومة، ومن بين اهم اختصاصاتها، حتى ان المراقب يجد في نفسه حيرة في تعيين اي من هذه المواقف هي سياسة الحكومة، واي منها يحسب على معارضيها او خصومها او اعدائها الالداء.
 وإلا ماذا يمكن تفسير صدور توجيهات من مرفق سياسي قريب من الحكومة الى موظفي السفارات الاجنبية في العراق؟
 وما هي معاني هذه الاتصالات الناشطة، الخلفية، بسفارات دول تمارس اعتداءات منظمة على العراق؟
 وأي عنوان يمكن ان نضعه لجملة الملاحقات التي تتعرض له عائلات وشخصيات على يد مراجع سياسية ليست معارضة للحكومة؟
  ولماذا يجري السكوت على تصرفات ادارية وتعيينات وتوظيفات "وحتى اقصاء وفصل" هي شؤون حكومية لكنها تشرّع وتنفذ من قبل "اصحاب الحكومة".
 ولو ان الامر يجري في حدود ضيقة، او يدخل في موصوف التصرفات الفردية، او يحتسب على مظنة الخطأ غير المقصود، او قلة الخبرة، لهان كثيرا، ولأمكن السكوت عنه والعثور على تبريرات له، لكن القضية خرجت عن كل هذه التأويلات، ودفوع حسن الظن، وذلك عندما صار الخروج على فروض الانتماء الى الحكومة حالة يومية، ومعلنة، ومروَّجٍ لها، ومسكوت عليها، كما ان تلك التوجيهات والتصرفات والاعلانات(انتباه!) تأخذ طريقها الى التنفيذ عبر اقنية الحكومة، او في الاقل، تحت سمعها وبصرها، الامر الذي لا يمنع المراقب من الاعتقاد بان هناك حكومات مستقلة داخل الحكومة المركزية، او ان تلك التراخيص غير الشرعية مأذون لها باتفاقات غير معلنة، او تحظى بالتغطية، او بالسكوت في نهاية المطاف.
 اليس السكوت من الرضا، كما تقول جداتنا. 
*
"الحق يحتاج الى شخصين، واحد يفهمه، والاخر ينطق به".
جبران

172
جملة مفيدة
ـــــــــــــــــــ

أي ذاكرة نريد؟

على متن طائرة، من لندن الى استانبول، جاءني السؤال ناعما ومتأسيا من المقعد المجاور: الم يكن افضل لكم البقاء في ظل حكم صدام حسن من هذه السلسلة من الابتلاءات والخراب والدماء والانشقاقات السياسية. صاحب الصوت تاجر كويتي كان يعلق على خبر يقرأه في صحيفة انكليزية عن اعتبار بغداد اكثر عواصم العالم إهمالا، والعراق من الدول العشر الاولى في انتشار الفساد، واختتم الرجل سؤاله باستدراك لا اشك بصحته، قال "علما اني لا احب صدام".
 المشكلة ان السايكولوجية تعقد احيانا تحالفا غير مقدس مع التاريخ، فيبدو للضحية ان الماضي مضى "وعلينا بما يجري" وهي اخطر نتيجة ترتبت على ذلك التحالف اذا ما كان بعض اكثر سوءات الماضي تستمر في يوميات الحاضر، ويتبناها جمهور ومتعلمون واصحاب سلطة ونفوذ وملاعب سياسية، على حد سواء.
 وبمعنى آخر، نحتاج الى ذاكرة شريفة وعادلة ومُنصفة لكي نتعامل مع منتوجات عهدين، الاول رحل بسجل اسود مثقل بالخطايا، والثاني، لا يزال يخوّض بخطايا العهد الاول وخطايا اضافية كارثية انتجتها ماكينات كثيرة.
 وما دام هذا الموضوع الشائك والحساس قد ابتدأ بصدام حسين فقد رويت لجاري الكويتي كيف التقيت به، لأول مرة  وآخر مرة، يوم كان بمنصب نائب لرئيس الجمهورية وبسلطة رئيس ونص. ربما كان ذلك في مؤتمر عقد عام 1974 او قبله إذ وقفتُ في صف طويل حتى جاء دوري. كان شعوري خليط من القرف والبغض والخوف. مدّ يده اليّ بوجه بارد. كانت يده ووجهه شيئا واحدا، حظرت في ذهني حكاية ذلك الرجل الضرير الذي التقاه مروان بن الحكم في الكعبة وصافحه ثم سأله: هل تعرف من انا؟ فرد عليه الرجل الضرير بالقول: حقا لا اعرفك، لكن قبضتك قبضة جبار.
 قلت لجاري: حتى الان فيّ بقايا من ذلك اللقاء، يتفاقم الى سلسلة من التداعيات، ما كان يسميها العالم البايولوجي الروسي ايفان بافلوف بالمنعكس الشرطي، حين يحاصر الانسان(وأي مخلوق) في سلوك قهري يملى عليه من الخارج، فيبقى تحت ميكانيزم الشعور بالظلم حتى مع مرور الوقت وانحسار ذلك التاثير، بل ان ابو حامد الغزالي صاحب (تهافت الفلاسفة) قد لاحظ في إحدي بحوثه طغيان (الروح الخيالي) لدي الانسان مستشهدا بالكلب الذي يهرب بعيدا كلما رأي العصا إذا كان يضرب بها في السابق باستمرار، ما يبقي هاجس الالم قائما في اللاشعور حتى مع ابتعاد خطر العقاب.
 وفي انتباهة للكاتب الداغستاني الشهير رسول حمزاتوف، يقول، ان أبناء قريته في اقاصي داغستان هجروا نبعا من الماء كان قد شهد مذبحة لعشرين من نسائهم، وكان الجيل الثالث من ابنائهم يرتعبون ذعرا كلما مروا بالنبع، وكثير منهم يضطرون للمشي يومين بدل ان يسلكوا الطريق عبر النبع مخافة ان يتذكروا بشاعة المجزرة.
 قبل سنوات قليلة قال مراسل اجنبي كان قد التقي العشرات من العراقيين وتحدث اليهم عن مستقبل بلادهم، إن الناس هناك لم يخرجوا بعد من الكوابيس، وهم يتصرفون كما لو انهم في زنزانات.. وكدت أعد هذه الصورة فرطا من المبالغة، لولا ان بافلوف والغزالي وحمزاتوف سبقوا المراسل وصاحبي الكاتب، الى تأويل ما تتركه القسوة في الاعماق، من مرارة ، وايضا من اضطراب في سلوك وتفكير الضحية.
 جاري الكويتي لا يحب صدام، فهو ضحية مثلي من ضحيا صدام لكنه يقترحه دواء شافيا للعراقيين.. هذا ما اسميته بالتحالف غير المقدس بين السايكولوجيا والتاريخ.
*
" ليس أقوى أفراد النوع هو الذي يبقى، ولا أكثرهم ذكاء، بل أقدرهم على التأقلم مع التغيرات".
داروين


173
المنبر الحر / هذا الهذيان..
« في: 10:30 23/01/2012  »

هذا الهذيان..

عبدالمنعم الاعسم

 رحم الله ابي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الذي ابتدأ كتابه "البيان والتبيين" بالقول الحكيم: "اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول" و.. "ونعوذ بك من التكلـّف" ثم "ونعوذ بك من السلاطة والهذر" وينقل الجاحظ ايضا عن الشاعر زبان بن سيار قوله في اصحاب الهذر والهذيان:
/يريغون في الخِصب الأمور ونفعهم ... قليل إذ الأموال طال هزالها.
 ويذكّرنا الجاحظ بقول النبي محمد "أياي والتشادق" وقوله: "أبغـَضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون" ويقف إعجابا عند حكمة الإمام علي قوله: "وقيمة كل انسان ما يُحسِن" ويؤكد في نهاية الامر بان لكل زمان "شكل من المحنة" ويبدو ان محنتنا الآن تتمثل في فتنة القول العابر لحدود المنطق والمسؤولية، ما يوصف بالهذيان.
 ونعرف من أقوال المتنورين والمصلحين، ومما مرّ ويمرّ من صراع وتشابك بين فرقاء الأزمة السياسية في العراق، بان الهذيان في الكلام قد يكون مرضا، لكنه في جميع الاحوال مكروه، مذموم، وبخاصة في حالات التأزم والتوتر واحوال التجييش وانعدام الثقة بين اصحاب الحل والربط والمشيئة والقرار، فهو، إذ يكرر الرطانات والمطولات والديباجات في غير ذي فائدة يزيد من اخطار الاحتقان ويقربه من الانفجار، ويجعل منه بابا الى الفتنة بالنظر الى لجوء "الهاذي" الى وسائل الاثارة واللجاجة والايحاءات والاسهال في الكلام غير المنضبط واللامعقول، والمنبري بمناسبة وبدون مناسبة.
 الهذيان السياسي اصبح سمة الخطب والتصريحات التي تكرر نفسها على مدار الساعة مما يثير الملل، ويوجب القرف، او تلك التي تخرج على انضباط الكلام في المقصود، وعلى حدود الخلافات في المعلوم، ويقوم صاحبه، او اصحابه، بالحديث المهذار الذي لا طائل منه، ولا نهاية له، ولا هدف ياتي من استطراده غير ملء الفراغ الاعلامي المتاح، واستعراض اللياقة الخطابية وإشغال الخصم في دوامة الردود والتعقيبات، ولا يتواني "الهاذي" من ان يعيد اليوم ما قاله امس بافإضة، كما لا يتواني عن تكذيب ما قاله بالامس.
 والهذيان ضد المحددات والاولويات وثقافة المناقشة بالصريح والمباشر من الامور وتبادل الرأي بالصبر، وهو عدو التأمل وإمعان النظر وتقليب الامور، وصاحبه لا يعرف الاقتضاب والتكثيف والايجاز، وقد يشتهر الهاذي في هذيانه، لكنها شهرة لا  تحمي صداقة ولا تدرأ عداوة.   
 اما في منجد اللغة فان الهذايان هو "التكلم بغير معقول أو مفهوم لمرض أو غيره" وفي الطب: "هو مرض عقليّ مؤقَّت يتميّز باختلاط أحوال الوعي واضطرابها، ويحدث نتيجة لمجموعة من العوامل، أهمّها إدمان المخدِّرات والعقاقير" ومن تجليات هذا المرض "الإحساس المُبالَغ فيه بالأهميّة والعظمة، وإذا تعدَّى هذا الإحساس الحدّ المعقول أصبح وهمًا بالعظمة" واما الاستغراق بالهذيان قـُدما فهو "التَّكَلُّمُ مِنْ غَيْرِ وَعْيٍ وَالِاسْتِرْسَالُ فِيهِ" ويعقب الشيخ الجاحظ على هذا بقوله: " مِنَ الْهَذيَانِ مَا يَكُونُ مَفْهُوماً، وَمِنَ الْمُحَالِ مَا يَكُونُ مَسْمُوعاً".
 انه، بالوجيز من الكلام، بعض ادوات الفتنة إن لم يكن اداتها الفاعلة، حين يكون الهذيان خزان كبريت، وتكون الفتنة بحاجة الى عود ثقاب، فقط.
*
"مالي أرى علماءكم يذهبون وجُهّالكم لا يتعلمون".
ابو الدرداء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


174
"العراقية" وعلاقتها بالارهاب

عبدالمنعم الاعسم

لا يمكن للمحلل الموضوعي ان يستند الى “اعترافات المعتقلين” وحدها في تعيين الجهة التي تدير الاعمال الارهابية او تشجعها او تحبذها او تستثمرها او تتفرج عليها، فان لدينا إرثا (قديما- جديدا)غير مريح عن عدم سلامة ومهنية وحيادية التحقيق مع المعتقلين، وعن تدخـّل “اهواء” السلطة، وصراعاتها الجانبية، في سياقات تقصي اثر الجرائم الارهابية، ويحصل، في النتيجة، ودائما، ما يشبه الانشقاق في العملية السياسية: الاول يتهم الثاني بالتورط في اعمال الارهاب، والثاني يرفض الاتهام ويعيده الى الاول متهما اياه بالتصرف في وجهة معلومات التحقيق.
هذا ما يحصل دائما بين كابينة الحكومة والقائمة العراقية، وما يتكرر في الفواجع المروعة، وما يترك اثره السلبي على الرأي العام، وليس من دون مغزى، ان تسمع من يقول لك من المواطنين وسط اجواء الفاجعة ان الامر لايعدو عن كونه صراعا بين السياسيين انفسهم، مع ما تعنيه هذه العبارة من مؤشرات خطيرة وضارة بالتعبئة لهزيمة الارهاب.
من جانبي، وبعد كل تفجير وهجوم انتحاري واختراق امني ابحث في رد فعل القائمة العراقية وفي تصريحات المحسوبين عليها للاسترشاد الى موقفها من ملف الارهاب والجهات التي تقف خلفه، واتوقف كثيرا عند التشكيل اللغوي الذي تطلقه القائمة على مذابح وحشية تطال المواطنين او مزدحمات واسواق منتخبة ضمن حسابات طائفية، واتوصل، كما في كل مرة، الى ان الجاني يبقى، بالنسبة للعراقية، جهة رمادية تتمدد، وتتموضع، خارج تحمُّل المسؤولية كشريك سياسي في كابينة الحكم، كما تلقي على الحادث من الصفات والملامح بحيث تبعده عن ظنة الفعل الاجرامي من قبل تنظيمات القاعدة او فلول النظام السابق، وهما الجهتان اللتان تأخذان على نفسهما هذه المهمة “الجهادية” وتعلنان صراحة تبنيهما لهذه الهجمات، ولم اعثر، ولا مرة، على تأشير باسم العراقية عن مسؤولية هذه القوى عن المذابح والتفجيرات واعمال الاغتيال المنظمة.
وايضاحا، فالحديث هنا لايشمل تلك الاعمال الاجرامية التي تحمل بصمات واضحة لمجموعات مسلحة تنفذ “اشواق” جهات اقليمية، حيث الامر معروفا بالنسبة للمحللين والجمهور والسياسيين معا.
وفيما تكتفي العراقية، في اغلب الاحيان، بإدانة الاعمال الارهابية فانها تبتعد عن اية اشارة للفاعلين الحقيقيين للتفجيرات والهجمات والاعمال الانتحارية والذين يعترفون بارتكابهم لها، بل وتتفنن في خلط الاوراق وزحلقة الكلام الى شبهات تتجه الى مسؤولية جهات اخرى غير التكفيريين والمتطرفين الاسلاميين الجهاديين وبقايا افراد اجهزة النظام السابق القمعية، ثم تنصرف، وكما في كل مرة ايضا، الى اللعب في ساحة اخرى تتصل بمشاكلها مع رئاسة الحكومة، في محاولة للتأكيد على فشلها في حماية ارواح الناس، وهي نصف الحقيقة فيما نصفها الآخر نجده في الدعم الذي تتلقاه العصابات الاجرامية من خارج الحدود ومن جيوب داخلية لم تعد خافية على احد.   
وفي هذا التشكيل اللغوي المصمم على مقاس الصراعات التي تخوضها القائمة العراقية، يصبح العمل الارهابي، في بعض الاحيان، مطلوبا، ومبررا، بالنسبة لها لتحسين موقعها في موازين المواجهة السياسية، ويمكن استباق الاتهام بالعجالة في هذا الاستنتاج، بالقول، ان القائمة العراقية تضم الى جانب الخطوط المعتدلة والمناهضة للطائفية والارهاب والحريصة على العملية السياسية خطوطا اخرى سعت وتسعى الى المراهنة على اعمال الارهاب، والى توظيفها، بمختلف الاشكال، في الصراع السياسي، وبينها من يمتد، بشكل من الاشكال، الى شبكة المشروع الارهابي عبر اقنية موصولة باحد مكوناته او احدى ساحاته، الامر الذي لم يعد افتراضا.. كما لم تعد تلك التصريحات التي تنفي عن القاعدة وفلول النظام السابق المسؤولية عن اعمال التفجير، على لسان بعض زعامات العراقية، بمثابة زلات لسان، إذا ما امعنّا النظر في توقيتها وفي الجهة التي يراد ايصال الرسالة لها.
 *
“حتى بأفضل وأغلى معدات التصوير، قد تكون صورك مملة للناظرين”.
   احدهم

 

175

المسؤول..
 حين لا يكون مسؤولا

عبدالمنعم الاعسم

 لم يعد مكان للعتاب على الفضائيات والتقارير وشبكات الاعلام حين تتمادى في نقل المعلومات غير الدقيقة وغير الواقعية، وغير المعقولة احيانا، عما يجري في اقنية الادارة  وخطوط الازمة الازمة السياسية، فقد سقط الخطاب الرسمي الحكومي، في محذور العجالة والحمية والتضارب، وامتلأت خزانة الاعلام بمؤشرات عن ضعف انضباط التصريحات التي تصدر عن كابينة الحكومة ومرافقها، وغياب الانسجام  المفترض والمطلوب بين مستوياتها.
 والمتابع عن قرب ما يصدر عن مسؤولي الحكومة والمحسوبين على رئاستها والمقربين منها والمتحدثين باسم رئيس الوزراء، سيكتشف حقيقة مروعة عن فوضى التعامل مع حساسية الاوضاع وغياب الالويات الضرورية والتوقيتات اللازمة لعرض المواقف والتعليقات والمتابعات، عدا عن هشاشة اللغة والكيفيات التي تؤطر تصدي كابينة الحكومة للاسئلة والتحديات الملحة، وقد بات، في هذا الوضع، من المتعذر معرفة ما هو يعبر عن رأي رئيس الوزراء وما هو يعبر عن رأي المتحدث، او ما هو يحظى برضا المسؤول التنفيذي للدولة، وما هو بالضد من مشيئته.
 والمشكلة الاكثر إرباكا وغرابة تتمثل في تصريحات مسؤولين كبار، يمسكون مصائر البلد ودفة الصراع السياسي تتسم بالانفعال والعجالة والمناكدة وتنحى الى التبسيط وروح السجال الاعلامي الكيدي والاستهلاكي وبعدم الوضوح، وتُعدّ حمّالة اوجه وتعبير عن فقدان الصبر وعجز عن تقديم الحجج والاثباتات، فضلا عن تلك العبارات الفضفاضة والانشائية والغامضة مما يقع تحت مسمى التعليقات الصحفية، لا مواقف وايضاحات تعبوية.
 يضاف الى ذلك، ما يمكن اعتباره تسريبات من اعلى المسؤوليات الحكومية، ويتولى مهمتها موظفون يفتقرون للكفاءة وحسن الاداء، وهم يعبثون بعقل المواطن ويسيئون الى وعيه ويلحقون الضرر بالوضع الامني والاجتماعي والسياسي، والغريب، انهم يكررون هذه التسريبات بالصوت والصورة، على الرغم من فشل هذه المهمة وانقلابها الى عبء على كابينة الحكومة. 
 اقول، ان ادارة الدولة، من اي موقع، علم شأن العلوم الاخرى، وفي مدارس هذا العلم يقولون للطلاب المبتدئين ان المسؤول وكلامه شئ واحد.. إذا انفصلا عن بعضهما، لم يعد المسؤول مسؤولا، ولا لكلامه ضرورة.
*
"ساعة وَكَسْرِ المجرشة والعن ابو راعيها"
الملا عبود الكرخي



176

تركيا..
سياسات قيد النظر

 السياسات التركية حيال احداث وشؤون الدول المجاورة والاقليمية، تثير الجدل والاستغراب معا، ومشكلتها انها تبالغ (وتتعجل وتتعسف احيانا)  في ممارسة حقها كشريك  امني واقتصادي وسياسي لشعوب ودول هذه المنطقة، وهو حق معترف به، لكن، كما هو معروف، له مديات وحدود ومحاذير، وله موانع وخطوط حمراء وضوابط في القانون الدولي وقواعد العلاقات بين الدول، كي لا يتحول حق الشراكة الى وصاية تعطيها الدول لنفسها للتدخل في شؤون الدول الاخرى، وفرض خيارات قسرية على اراداتها وأقدارها ومشيئاتها.
 وبصراحة، فقد عبَرت السياسات التركية الخطوط الحمراء في العلاقات الاقليمية من اكثر من موقع، واثارت اكثر من ملامة والكثير من الهواجس والانتقادات والتوترات، واعتـُبرت مواقف انقرة، المتحيّزة لبعض اطراف الصراع في هذا البلد او ذاك، مصادر لتأجيج الفتن والكراهيات والمشاكل، عدا عن انها تشكل اساءات للذين تفرط في مناصرتهم، ولم يتوقف الامر عند هذا الحد بل تعداه الى الامعان في تقديم وصفات حكم لشعوبٍ هي اقدر على اختيار الوصفات المناسبة لها .
 كان آخر مثال، تلك الازمة التي نشأت، ولا تزال تتفاعل، بين انقرة والجزائر على خلفية تذكير رئيس الوزراء التركي للجزائريين بـ"جرائم" فرنسا في بلادهم، اذ اعتـُبرت بمثابة "حمية" غير مقبولة او وصاية مرفوضة او محاولة لتصفية حسابات تركية مع فرنسا باستخدام الساحة الجزائرية منصة وثوب لها، وقبل ذلك كان قد كشف في مصر اصابع تركية مثيرة للاستغراب داعمة للتيار الاخواني في السباق الانتخابي، يضاف الى ذلك السلوك التركي، العابر للاصول، في التعامل مع الاحداث السورية، والتمادي في الانحياز لشريحة معينة من الشرائح التي تتطلع الى الاصلاح والتغيير. اما السياسات التركية حيال العراق والصراع بين فئاته السياسية فحدث ولا حرج، كما يقال.
 لا حاجة هنا للتوقف مليّاً عند التحولات الواقعية الكثيرة في منظومة الاستراتيجيات الاقليمية (والدولية) التركية، أو عند تلك المواقف المستقلة والحيوية التي اتخذتها حكومة اردوغان من قضايا العنف والارهاب والاحتلالات والعسكرة في المنطقة ومراجعاتها الدائمة للسياسات والخطط، أو عند ذلك الحضور التركي اللافت والحيوي والايجابي في الترتيبات الاقليمية امتدادا الى عمق القارة الافريقية، ولا عند اللغة الانشائية الجديدة التي تتسم بها الدبلوماسية التركية الاردوغانية.
 وطبعا لا حاجة لتكرار القول انّ على الجهات التركية التي تبذل هذه الجهود المتحمسة والمستميتة  لتصويب اوضاع دول المنطقة والانتصار للديمقراطية والتعايش والتهدئة فيها انْ توفر جزءا من تلك الجهود لترشيد سياساتها، هي، من ملفات متفاقمة في البيت التركي موضع شكوى شرائح مهمة، لكي يصبح مقنعا لدى المحلل القول بان اللفتات التركية الاقليمية تنطلق من الصدقية وروح الشراكة والشهامة وحسن الجوار..
/ثم، ان العلاقات بين الدول ليست، فقط، تجارة واستثمارات.. وكلام ناعم.

  "اينما وجد الظلم فذاك وطني".
تشي جيفارا


177
المنبر الحر / شئ من هذا سيحدث..
« في: 00:24 11/01/2012  »

شئ من هذا سيحدث..

عبدالمنعم الاعسم

الازمة تراوح في مكانها. هناك ارادة للحل باتجاه المؤتمر الوطني، مقابل ارادات للتصعيد باتجاه الكارثة. والسباق جار بين الارادتين، والامر ليس سهلا طالما لم يبدِ اصحاب الازمة، حتى الآن، اي استعداد للتراجع عن المواقف الفئوية. المشهد يقف على حافة الانفجار وعلى مسار الحلحلة في ذات الوقت. هذا ما يسمونه مفترق الطرق، وفي هذا ينبغي ان نخاف. نخاف على العراق وعليهم ايضا.
حتى الآن لم تملأ طوابير النساء والاطفال المسبية الشاشات الملونة، ولم يظهر المسلحون، الطائفيون والارهابيون وفلول الجريمة المنظمة، وهم يقرأون معا، في المصحف والمناشير والفتاوى مدوناتهم بتشييع الوضع الامني، القلق اصلا، الى مثواه الاخير، وغير مأسوف عليه.
ولم تصل الملايين الثلاثين الى حالة من العطش وبين ايديها غزير الماء من نهرين يمكن ان يسقيان مئات الملايين من البشر.
ولم  تتحول بعد  خارطة البلاد وتشكيلتها ومكوناتها وثرواتها الى خرقة يتقاذفها اسياد الحرب الاهلية الطائفية، وتعلس خواصرها دول الجوار، ويختزلها العالم الى خاتمة من الكوابيس المثيرة، ويشير لها المؤرخون باعتبارها واحدة من المحفوظات او المخطوطات او الذكريات القديمة.
وحتى الآن لم تُغلق نهائيا خطوط الاتصال بين المعسكرات السياسية المتناحرة ، ولم تتكشف اسنان الضواري التي كانت تنفلت في الشوارع والحارات ومفارق الطرق العام عامي 2005 و2006
ولم تزحف الملايين العراقية الى الحدود ومنها الى المنافي وارض الله الواسعة، او الى الخيام او المستوطنات التي ترتزق من تبرعات المحسنين في الامم المتحدة وشفقات مشايخ المنطقة، وتسجل نفسها في وثائق العفو الدولية والصليب الاحمر الدولي كجماعات من غير وطن .
وحتى الآن، لم يعلن العالم انه عاجز عن ضبط تدهور العراق نحو الغابة والى احتفالات الابادة، وانه لا يملك قرارا بالتدخل او قرارا بالسكوت، او قرارا بالاحتفاء  بما يجري كنهاية لصداع الرأس الطويل.
ولم يدق تجار النفط واصحاب الاسواق والناقلات والبورصات ناقوس الخطر حيال لما يحدث في العراق بسبب انشغالهم بما يحدث في بلدان تقع على مشارفه وهي شريكة له في الحرب والسلام، والامن والخراب. 
كل ذلك لم يحدث حتى الآن، لكن شيئا منه سيحدث في حال هرب اصحاب الازمة من الدائرة المستطيلة الى دائرة النار.. وربما سيحدث كله، من يدري؟.
 *
 ان اخطر فترة في حياة اي كيان سياسي هي الفترة التي يقرر فيها ان يكون واقعيا”.
 محمد حسنين هيكل


178
المنبر الحر / سفهاء المرحلة !
« في: 12:01 08/01/2012  »
سفهاء المرحلة !

عبد المنعم الاعسم 
لكل مرحلة سفهاؤها، وسفهاء مرحلتنا يختلفون عن سلفهم بصفات رنانة وفرص ومجالات ومسارح ومانشيتات يدسون من تحتها سفههم، فلا تستغرب انهم يضعون انفسهم موضع القضاة، وينزلون بها منزلة المهرجين، ويرفعونها الى شفاعة الصفات المقدسة، ولا ينبغي ان تتفاجأ من السفيه، في مرحلتنا الحرجة، أن يخرج على ادب المخاطبة والاختلاف، وعلى ثقافة الجدل والنقاش، ويتجه الى السب طريقا قصيرا الى الشهرة، والى اطلاق الاتهامات والظنون سبيلا في المزاحمة، وقد تطيش نوازعه الى احراج اصحابه، وارباك اهل بيته، والى خيبة المراهنين عليه، فالسفيه اول من يركب الزلات، وآخر من يقدر النتائج .
وسفهاء المرحلة يختارون عناوين سفههم من طراطيش الاحداث، لا من حقائقها، ولا يهمهم ان يكون كلامهم هذرا ينأى عن موجبات الانضباط والتزام الحكمة، فهم ابعد ما يكونون عن سلامة النيّة، وعن نظافة الهدف، وعن احتساب النتائج، وتـَحَسّب الردود، ولا يبالون ان يكون هذرهم فضيحة لهم بعد ذاك، وان تكون معاركهم مردودةً عليهم في نهاية المطاف، وهم، في كل الاحوال يكسبون اطراء من هم على شاكلتهم، ولا يدخل ذلك في رصيد، ولا يُحسب في سمعة.
السـَفـَهْ، يقول الجاحظ في “تهذيب الكلام” نقيض الحلم، وهو الطيش والسرف في ايقاع الضرر، والسّبّ الفاحش، وعند الجرجاني في كتابه (التعريفات) عبارة عن خفّةٍ تـَعـْرض للإنسان فتحمله على العمل “بخلاف العقل وموجب الشّرع”.
أما في اللغة، فان السفه والسفاهة والسفهاء في جميع القواميس والمناجد والصحاح مزاولة الكلام والسلوك خارج الشعور بالمسؤولية والاستعداد لتحمل التبعات، فإذا سـفـِه فلان فقد صار سفيها، والاشتقاق مأخوذ من كلمة(س.ف.هـ) الّتي تدلّ على الخفّة والسّخافة، ومن ذلك قولهم ثوبٌ سفيهٌ أي رديء النّسج، وتسفّهتْ الرّيح إذا مالت، والسّفه ضدّ الحلم،وقال بعضهم: أصل السّفه: خفّة الحلم. وقيل: السّفه: خفّة في البدن، ومنه قيل: استـُعمل السفه في خفّة النّفس لنقصان العقل، وقيل: أصل السّفه، الخفّة والحركة والطّيش، وقيل: الجهل والاضطراب، وكذلك، سـَفـِهتَ الشّراب إذا أكثرتَ منه ولم ترو، وسفـِه فلان على فلان فقد انحرف الى نوع من الجهل، فهوسفيه، أي جاهل، والسّفيه أيضا: الخفيف العقل.
وقد فرّق المناويّ في كتابه “التوقيف على مهمات التعاريف” بين السّفه والسّفاهة: فعرّف السّفه بما عرّفه به الجرجانيّ، ثمّ عرّف السّفاهة بخفّة الرّأي حيال رأي مقابل من المتانة والقوّة.
ويعرف المهتمون بهذا الامر بان “أذلّ الناس سفيهٌ لم يجد مُسافها له” في دعوة حكيمة انْ لا تردّوا على سفاهات السفيه، ويقال ايضا، السفيه هو من لا سفيه له، بمعنى لا سفيه مثله يرده عن سفهه، فالسفه في السفيه أصل، بينما في المتصدي للسفيه حالة طارئة يلجأ إليها إذا لزم الامر، وثمة الكثير ممن يتطاول عليهم السفهاء ينأون على الرد عليهم أخذا بحكمة الشاعر الذي يقول:
سكتُّ عن السفيه فظنّ اني....عييت عن الجواب وما عييتُ
أو قول آخر:
متاركة السفيه بلا جواب......أشدّ على السفيه من الجواب
او، بالقول البليغ:
وظنّ بي السّفاهَ فلم يجدني.....اسافهه وقلت له سلاما
*
“من الخطأ الاعتقاد ان كل شيء لا نستطيع فهمه او استيعابه خطأٌ”.
غاندي



179
المنبر الحر / حرب البسوس
« في: 14:38 05/01/2012  »

حرب البسوس

عبدالمنعم الاعسم

 
 أصل الواقعة القديمة التي تعرض لنا حكاية الخصومة التي طالت من الوقت ما تجاوز المعقول، واهدرت من الدماء والخسائر ما لا يرقى الى السبب الذي أشعل الحرب واذكى الخصومة، ما جعل منها مضرب الامثال حين تـُفتقد الحكمة، وينأى العقل، وتصعد حمية المكاره والانتقام، وتسود الضغائن والشكوك بين سكان فرضت الجغرافيا واحكام الحياة ان يكونوا متجاورين، متحدين، بقدر ما هم متنافرون:
لقد استعرت الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب، وسبب استعارها ان وائل بن ربيعة التغلبي ويسمونه (كليب) سيّد قومه تكفل بامر حماية حي وكلأ القبيلة، وكان إذا حمى ارضا لا يقربها احد، وخرج يوما يتفقد مراعي ابله، فابصر ناقة غريبة، فانكرها وغضب على اصحابها، فرمى ضرعها وقتلها، وكانت تتبع  امرأة اسمها (البسوس) وهي خالة (جساس) بن مرة البكري ويمت للقاتل بصلة المصاهرة، فلما رأت البسوس ناقتها، وقد نفقتْ، صاحت طلبا للنجدة والثأر، فحمي ابن الاخت جسّاس وامتشق سيفه فقتل كليبا، فاستعرت الحرب بين القبيلتين، بكر وتغلب، وامتدت لاربعين سنة تحت شعار “دم كليب”.
وتشاء الحكاية ان تتسع بالطول والعرض، ويمسك الخطباء والدعاة وهواة المعارك امر التجييش، ولم يوقف مسلسل المهزلة الدامية نداءات جليلة بنت مرة، زوجة القتيل كليب، واخت القاتل جساس، بوجوب التهدئة وتذكير المتحاربين بفجيعتها.
ثم يأتي دور الملفقين والابطال المزيفين والمهووسين بطبول الحرب ويتفنن الرواة في تجهيز المسرح بالاحداث وقلب المدونات والسرد والتأويلات، ونقرأ الحادث في مرويات تجدد نفسها في كل حين،فحينما مرت إبل جساس بكليب وفيها ناقة البسوس(كما تفيد احدى المرويات) عرجت الناقة لترعى في أرض كليب، فقال: ما هذه الناقة ؟ قالوا: هي لخالة جساس، فقال: أو بلغ بـ جساس - أن يجير عليّ بغير إذني ؟ فامر برمي ضرعها بالسهام، فاختلط دم الناقة بلبنها.
ولـّت الناقة حتى بركت أمام البسوس، فلما رأتها صاحت: وا ذلاه ! فقال لها جساس، ابن الاخت: لك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت حتى زادها إلى عشر.
ولدينا غير هذه وتلك حمية اخرى نشأت بجوار حكاية حرب البسوس، فقد استطردت الذكورية العدوانية في لعبة التجييش لتحول الحرب هذه المرة ضد النساء بشخص البسوس بوصفها هي (وليس كليب وجساس)المسبب بالحرب.. الرجال رمز الشهامة والنساء شرارة الفتنة، وتفيد رواية حديثة قرأتها على موقع اسلامي مصري انه”عندما علمت البسوس بمقتل كليب على يد ابن اختها جساس ذهبت، هي والعبد، وقامت بفتح بطن كليب، واخذت كبده ، واكلتها احتفالا بمقتله.
حرب البسوس نتابعها، الآن، محظوظين، بين بكر وتغلب، على الشاشات الملونة.
*
“ما خسرته اليوم تكسبه غدا”.
                        سرفانتس


180

مساران مطلوبان..
العدالة والتوافق

عبد المنعم الاعسم
 
مرة اخرى، وكما جرى غداة اعلان انتخابات اذار من العام الماضي، فقد اصطدمت عملية اعادة بناء الدولة العراقية الاتحادية الجديدة بثنائية العدالة والتوافق، الدستور والتفاهمات، الاستحقاق الانتخابي وظروف مرحلة الانتقال، احكام الديمقراطية واحكام المرحلة، والجديد في العودة الى بداية التجاذب يتوزع على مستويين، الاول، فشل ادارة التوافق في بناء حكومة شراكة حقيقية (وزارة من غير وزيري الدفاع والداخلية لعشرين شهرا) والثاني، ان الكابينة الاقوى في الحكومة تروج الى بديل عن حكومة التوافق، حكومة الاغلبية، الامر الذي يبدو ان لا فرصة كبيرة امامه وفق حسابات الواقع الموصول بخارطة الارادات والمصالح المتضاربة للكتل السياسية.
ومرة اخرى، ظهرت استحالة ادارة حكم العراق الجديد من قبل حزب واحد، او مكوّن واحد، او لون عقائدي واحد، او زعيم سياسي واحد مهما احتفظ هذا الرقم الذي يرشح نفسه للاستفراد بالحكم من زخم ومكانة واسباب قوة تمثيلية او ادارية، وكان يمكن ان يتحقق ذلك فعلا لو ان مرحلة الانتقال من حكم الحزب الواحد القهري الى مرحلة التنافس الديمقراطي المفتوح، اسست لتجربة برلمانية وسياسية راسخة مصونة بمؤسسات وطيدة ووعي مجتمعي في مستوى هذا المخاض، ويمكن استعجال الاشارة الى ان دول اخرى (مثل حال العراق) نجحت في العبور الى ضفاف الدولة الجديدة بفترة وجيزة من مرحلة الانتقال، مثل جنوب افريقيا وماليزيا.
والمهم هنا، ان المجتمعات لا تحتاج الى الجمع بين العدالة والتوافق، إلا حين تجتاحها الاضطرابات والحروب الاهلية والكوارث الطبيعية التي تلزم تعبئة الشعب، بكل مكوناته القومية والدينية والاجتماعية، لدرء اخطار المرحلة، او في حالة اعادة بناء الدولة والانتقال الى نظام ارقى على اساس من الخراب الشامل وضعف محصلات الوعي وتدني الاستعداد المجتمعي للتجاوب مع متطلبات هذه العملية، وبمعنى ادق، الحاجة، في مرحلة استثنائية، الى تجاوز او تكييف نصوص دستورية وقانونية وهيئات قضاء مستقلة وتعطيل بعض احكام الديمقراطية والحريات العامة وفرض تقييدات تناقض العدالة من اجل العبور الى دولة العدالة المنشودة.
وبمعنى اكثر دقة، ان العدالة من حيث هي نصوص دستورية وقانونية وهيئات قضاء مستقلة هي القاعدة التي يجب تنميتها على الدوام فيما التوافق استثناء من حيث هو تفاهمات وحلول وهياكل تتجاوز بعض احكام العدالة ما ينبغي تقليصه على الدوام ثم تجاوزه.
العدالة ثابت والتوافق طارئ، والجمع بينهما، في مرحلة معينة، ليست بدعة عراقية، لكن البدعة المضللة تتمثل في محاولات تكريس العدالة والتوافق الى الابد وفي جميع الاحوال، وايضا في محاولات تفكيكهما في اطار مشروع فئوي، طائفي، من غير عدالة ولا توافق.
 *
"الشيء الذي نريده يفسد الشيء الذي لا يزال بأيدينا".
  دانيال دارك


181

بصراحة.. لم يكن الهاشمي مقنعا

عبدالمنعم الاعسم

 لم تكن مطالعة نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، خلال مؤتمره الصحفي، مقنعة بالنسبة للمحلل الموضوعي لازمة "الطلاق" مع الحكومة، لا في حمية الدفاع عن براءة ضباط حمايته المتحدرين من تنظيم "الجيش الاسلامي" ومسؤوليتهم عن جرائم قيد التحقيق، ولا في صورة الضحية للكيد السياسي الذي حاول ان يطلقها على نفسه، وكانت رسالته مفككة ومتهافتة ولا تحمل ادنى روح المسؤولية حيال مصير العراق، باستثناء الدعاء اللفظي بان تحمي العناية الالهية هذا البلد.
 وإذ ينبغي التعبير دائما عن الخوف من انزلاق المشهد السياسي والامني الى كسر عظم طائفي وتصفيات حساب، والى توزيع غنائم، ونعرات استئصال وتجييش، او محاولات سلق الاجراءات الادارية والتهم الجنائية، فان هذا لا يعفي كابينة الهاشمي من ظنة التورط في زعزعة الاستقرار وحماية خلايا الاجرام، والحق، ان مثل هذا الاتهام لم يكن ليفاجئ المحللين الذين تابعوا الحروب الاجرامية للجماعات الجهادية المسلحة في الفلوجة وفي طول وعرض البلاد، إذ كان الهاشمي على راس حزب يضم في اطاره مجرمين تكفيريين محترفين، وقاد جزءا من تلك الحروب الدموية.
 وإذ اخفق السيد الهاشمي، مرة، في تقديم مطالعة دفاع وتبرئة نفس مقنعة، من موقع الغيرة على العدالة والقضاء، فانه اخفق مرتين في عرض انتمائه الى الدولة الجديدة، ودستورها، ومستقبلها، بوصفه نائبا لرئيس الجمهورية، وبخاصة حين اعترض، بحماسة انفعالية، على ما ذكره الرئيس الامريكي بان القوات الامريكية انسحبت من العراق وتركته بلدا ديمقراطيا، وذا حكومة منتخبة، بل انه تحدث بعبارات تفصيلية وبرقية عن عراق آخر، لا يعرف الديمقراطية، وكأنه لم يكن جزءا عضويا من ذلك العراق.
 وبصرف النظر عن "كم" الديمقراطية وشكلها وعثراتها في العراق فان السؤال هنا ينحصر في منطق السيد نائب رئيس الجمهورية، ما إذا كان العراق لا ديمقراطيا قبل شهادة الرئيس اوباما يوم كان السيد الهاشمي في مركز المسؤولية المرموقة، منتخـَبا في سباق ديمقراطي، أم ان موصوف الديمقراطية سقط من العراق، فجأة، حين اهتز هذا الموقع، واحيل صاحبه الى القضاء؟.
 الى ذلك كانت محاولة السيد النائب شطب "شبهة" الديمقراطية من النظام السياسي في العراق (وكان منصبه من نِعـَم هذه الديمقراطية) قد خرجت من اطار وجهة النظر، او الاجتهاد، او الشكوى من انتهاك للحقوق المدنية، الى تأليب متعمد على النظام السياسي في العراق، مسبوق بلغة تهديدية مبطنة، وبمشيئة مصممة، قبل ذلك وبعده، على جعل المنصب استحقاق منتَزَعٌ وليس مسؤولية حيال الدولة وأمنها وحياة مواطنيها.
 باختصار، فشل الهاشمي من منع المراقب والمستمع من اثارة السؤال التفصيلي التالي:
 هل ان العراق سيبقى لا ديمقراطيا ايضا حين يعود السيد طارق الهاشمي الى منصبه الرسمي؟.
*
"النجاح مثل القمح.. لا يحق لنا ان نصدره إذا لم نكن ننتجه".
برنارد شو
   

182

البـُعد الطائفي في الازمة..
حذار

عبدالمنعم الاعسم

 من يُسقط البعد الطائفي في ازمة العلاقة بين ائتلافي دولة القانون والعراقية كمن يدس رأسه في قارورة عطر ليتوهم ان الجو معطّر كفاية. تكفي الاشارة هنا الى تصريحات، عابرة الكواليس، يطلقها متحدثون من الجانبين تتهم الطرف الآخر بالطائفية او "اثارة الفتنة الطائفية" بحسب نائب عُرف بادمان الشاشات الملونة.
 اما لعبة المذنب والبرئ عما يحدث من تصعيد وتوتير بين كابينة المالكي وتحالف علاوي فانها لا تطوي ذلك الخيط الطائفي الذي بدأ من نقطة الاحتقان الذي راكمته سلسلة الازمات، بل وكشفت عن حقيقة موازية تتمثل في التعمد المبيّت لاثارة اتباع الطوائف وتخويفهم من المستقبل، ومن بعضهم البعض، وليس من دون مغزى ان يرتبط هذا التصعيد بانسحاب القوات الامريكية من العراق.
 ومن جانبي اتحمل مسؤولية الاستنتاج التالي: ثمة خطوط (تيارات. بؤر. زعامات..) طائفية ثقيلة لها نفوذ في معسكري الازمة تذكي، الآن وبنشاط لافت، حريق المكاره الطائفية بالوقود ونداءات التجييش والانتقام، وهي صاحبة المصلحة (او صاحبة الوكالة الخارجية) في اضرام النار على خط التماس بين الطائفتين واعادة المشهد العراقي الى معادلة التوتر وحافة الحرب الاهلية، وهي التي (على الدوام) تدفع كل حادث او فاصلة صراع الى نقطة تصفيات الحساب وتأليب الساحات والمكونات وتجهيز المسرح بشعارات الانتقام الطائفي.
 ولا يصح النظر الى الفصل الجديد من الازمة من غير مقدماته، فهو لم يبدأ تصعيدا غداة تفجير ساحة مجلس النواب نهاية الشهر الماضي اذا ما اعدنا قراءة تقويم الصراع خلال الشهور القليلة الماضية، كما لا يصح، ونحن نتابع المعلومات المتداولة عن ذلك التفجير، ان نتغافل عن حقيقة التسهيلات والثغرات المتوفرة للعصابات الارهابية في ساحة احد المعسكرين المتصارعين، وفي مواقع حساسة حصرا، الامر الذي يضع البعد الطائفي للازمة في تضاعيف التجاذب حول الشراكة السياسية في ادارة الدولة وجدواها، ويضاعف من مسؤولية الجهة المتهمة بالتورط في هذا الحادث الشنيع ليس فقط في اثبات براءتها، بل وايضا في مراجعة سياساتها المتخبطة ومواقفها السلبية من الملف الامني إذ تُسجل عليها شبهات كثيرة عن تغطية اعمال اجرامية في اكثر من مكان واكثر من واقعة.
 الامر اللافت في هذه اللوحة المعقدة نجده في انباء وفيرة عن حالة استقطاب تتخذ من اللغة الطائفية وسيلة للتعبئة ودق طبول الحرب، وتقوده، او تتولى توجيهه اقنية اعلام احترفت التجييش، ودعاة معروفون بمواهبهم التحريضية، بحيث ينغلق الافق امام المتفائلين حيال عودة المياه الى مجاريها، وتجنيب العراق والعملية السياسية خطر الهوة..
ومن الهوة الى الهاوية.. وما أدراك ما الهاوية.
*
"مارأيت نعمة كتقارب القلوب".   
حكيم



183

لـَيّ أيدي.. أم انقلاب؟

عبدالمنعم الاعسم

العنوان العريض لأزمة العلاقة بين كابينة رئيس الوزراء والقائمة العراقية، وبصرف النظر عن تفاصيل الاتهامات والاتهامات المضادة بينهما، يـُقرأ على النحو التالي: نار في ثياب العملية السياسية.
في التفاصيل، معروف للجميع  ان الازمة بين الجانبين بدأت، في طورها الجديد، غداة اعلان نتائج الانتخابات النيابية في آذار من العام الماضي، وأثر العملية القيصرية التي تمخضت عن تشكيل اغلبية نيابية حسمت الجدل حول الجهة التي تتولى تشكيل الوزارة، ثم تداعيات إشغال الحقائب الامنية، ودوامة مجلس السياسات، وتفاهمات اربيل، وبعدها حملة الاعتقالات ضد انصار النظام السابق والبعثيين والبعض من المحسوبين على القائمة العراقية، واخيرا قضية الاقاليم، وكل ذلك على خلفية حشوة من التجاذبات والاتهامات والتقاذف بالمسؤولية بصدد الملف الامني والتفجيرات والنشاطات المسلحة طالعنا فصولها في يوميات الاحداث طوال عشرين شهرا من عمر التوافقات الهشة بين اطراف العملية السياسية.
وشاء هذا الاستطراد في الصراع الذي سُجل على العلاقة المتوترة بين ائتلافي دولة القانون والعراقية، او على نحو ادق، بين رئيس الوزراء نوري المالكي وزعيم العراقية اياد علاوي، ان يتحدد في نهاية الامر في اتهامين يتبادلهما الطرفان الشريكان في الوزارة، فان دولة القانون تشكو من تصرف العراقية ككتلة معارضة وكغطاء للانشطة الارهابية وتحركات فلول البعث والتنسيق مع دول مجاورة، فيما تتهم العراقية معسكر المالكي بممارسة سياسة التهميش ضدها والتراجع عن التفاهمات والتعهدات السابقة والاستفراد في القرارات المصيرية واقامة حكم فردي والخضوع الى املاءات دولة مجاورة، وبين هذين الاتهامين، ظهر للمحلل الموضوعي ان طابع الازمة من النوع الذي خرج عن الانضباط وان الحلول الوسط فقدت الفرصة والارضية، ليس بسبب كثرة العناصر والالغام والملفات المطروحة بل وايضا بسبب سقوط الامل باستعادة الثقة بين الطرفين.
وبمعنى ما، فان قرار التصعيد من قبل العراقية بوضع العملية السياسية على فوهة زلزال، مسبوق بتصعيد مخطط له من الطرف الاخر يستعجل ازاحة العراقية من المعادلة بعد ان نأت بنفسها عن هامش الشراكة المتاح لها في السلطة التنفيذية. اما من هو على حق في موقفه، ومن هو الملوم عن دحرجة الوضع الى نقطة التوتر والقطيعة، فان بصمات الاحداث والوقائع تقدم للمحلل مؤشرات عن وجود حافات طائفية و”خطوط تطرف” وانانيات سياسية واوهام اقتدار  في المعسكرين تدفع الى مواجهة بين الطرفين والعودة الى مربع الصراع الطائفي، تبدأ من محاولة جس النبض لردود الافعال، وتنتقل الى لـَيّ الايدي، ولا مانع لها، في نهاية المطاف، من الانقلاب على الوضع.
يبقى السؤال التفصيلي واردا عما اذا كانت هذه الزوبعة صممت لتكون لي ايدي للهروب من استحقاقات مرحلة ما بعد الانسحاب: الأمن والخدمات وفرص العمل وكبح الفساد، ام انها انقلاب استباقي يؤثث الطريق الى انتخابات لا تكرر نفسها.
الى ذلك فان ثمة اسئلة تفصيلية اخرى بشأن عواقب ما يجري.. وللعواقب أحكام وعقوبات.
 *
“المتفائل، شخص يسقط من أعلى برج، ويردد القول قبل ان يرتطم بالارض: أنا لم أصب بعد”.
حكمة مترجمة


184
عزاء في صفوف "المقاومة"
 
عبدالمنعم الاعسم
 
المناسبة هي إنزال العلم الامريكي ورفع علم العراق محله في خطوة احتفالية تعلن انسحاب آخر جندي امريكي قبل موعد الانسحاب المقرر باسبوعين، الامر الذي يفترض(اقول يفترض) ان يكون، بالنسبة لأولئك  الذين حملوا السلاح لتحرير العراق من الاحتلال (هكذا قالوا) موضع فرح وتبادل تهان، في الاقل، ولا نطلب، بل ولا نتوقع، الاعلان عن وقف العمل المسلح والانخراط في النشاط السلمي الاهلي، فورا، فلهذه الخطوة اصحاب غير اصحاب هذه المقاومة.
من بيانات المحسوبين على “المقاومة” ونداءاتهم على مواقع الشبكة العنكبوتية ومقالات بعضهم في الصحف الخليجية نعرف انهم غير معنيين بهذه الخطوة، وغير مسرورين بانسحاب القوات الامريكية من العراق، وان قولهم بان هذه الخطوة وذلك الانسحاب شكليان، ومحض ترتيب لـلاحتلال، وان النظام السياسي لا يزال تابعا للولايات المتحدة، لا يخرج عن تبرير مثقوب بالنيات الشريرة لمواصلة اعمال العنف والقتل والتفجير، وسعيا للتحكم او المشاركة في المعادلة الامنية لما بعد الانسحاب، وربما، بالنسبة لبعض الجماعات المسلحة، محاولة لتحسين شروط وفواتير التفاوض مع الامريكان او مع كابينة الحكومة.
على ان القضية تخرج عن التبسيط عندما نقرأ موقف الجماعات الاسلامية الجهادية التي ارتبطت بالمشروع الارهابي الدولي على ضوء الصراع الاشمل بين هذا المشروع والولايات المتحدة والغرب، فان شكل وطبيعة الحكم في العراق، وفي اي بلد آخر، لا يعني هذه الجماعات بقدر ما تعنيها مواصفات وظروف وتسهيلات الساحة التي تتحرك عليها لتوجيه ضربات لـ”العدو” وبمعنى واضح، ينظر المجاهدون وحلفاؤهم الى الساحة العراقية، الرخوة سياسيا وامنيا، والمفتوحة الحدود والمضطربة الاحوال، كافضل ميدان، من اي ميدان آخر في العالم، لمواجهة الامريكان وجها لوجه، والانتقام منهم مباشرة على طريقة حرب العصابات التي لا تتوفر الآن لهم إلا في افغانستان، ومناطق اقل شأنا.
يبقى الحديث عن احتمال قلب الاوضاع العراقية على يد الجماعات المسلحة بعد انسحاب القوات الامريكية، يحتاج الى خيال سياسي جامح، او نظرية حتميات بالية، وسيبقى هذا الاحتمال العقيم في حدود التهويل السياسي الايحائي الذي احترفته بعض بطانات المشهد السياسي النافذ لتخويف الجمهور واخضاعه ونيل تأييده.
وبمعنى اكثر وضوحا، يمكن القول، ان تفكيك ثكنات القوات المحتلة في العراق، وسحب آخر جندي امريكي من الاراضي العراقية، سيترك “المقاومة” وجماعاتها المختلفة بلا عدو تواجهه في الشوارع او يقع تحت مرمى قذائفها، فقد كانت تأمل استمرار الاحتلال وجيوشه لاطول فترة ممكنة، وهكذا نصل بسهولة الى تفسير دلالة هذا الاستقبال البارد والحزين لانسحاب القوات الامريكية من قبل الجماعات المسلحة، وايضا، من قبل المراهنين عليهم من بيننا.. اكرر: المراهنين عليهم من بيننا.
 *
“وليسَ يصحّ في الإفهام شيٌ......
          إذا احتاج النهارُ الى دليلِ
المتنبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

185
المنبر الحر / صدّق.. او لا تصدّق!
« في: 16:56 15/12/2011  »

صدّق.. او لا تصدّق!

عبدالمنعم الاعسم

بين يديّ خمس طرائف سوداء من حافظة الاخبار المحلية، نـُشرت في صحف امس، ومرّت، اغلب الظن، مرور الكرام وسط ضجيج سوق مجلس النواب ونشاطات كواتم الصوت، وتقارير حركة الاستثمار، وبورصات اللياقة الخطابية عن المستقبل، وسَأدسّ التعليق على هذه الطرائف العلقم في عنوان كل واحدة منها، تاركا للقارئ حق التمتع والتخيـّل والتعليق:
 
توتر بين دولتين: 
هدد مجلس محافظة كربلاء بمنع تدفق الرمال والحصى والجلمود من المقالع التي تقع في الحدود الادارية للمحافظة الى محافظة الانبار في حالة لم يُسمح لشركة لافارج الفرنسية بنقل المواد الاولية الخاصة بمعمل سمنت كربلاء من الانبار، وقال “من بين الاجراءات التي ستتخذها الحكومة المحلية في كربلاء، ايقاف المشاريع والنشاطات الاقتصادية المشتركة (مع الانبار) ومنها مقالع الرمل والحصى والجلمود والجص التي يقع بعضها في الحدود الادارية للمحافظة.
وكانت محافظة الانبار قد منعت قبل اسبوعين الشركة الفرنسية المستثمرة لمعمل سمنت كربلاء من نقل (عبر اراضيها) المواد الخام الى المعمل الكربلائي المهدد بالتوقف عن العمل نهاية الشهر الحالي.
 
عواقب سياسة التحريم
تشكو العوائل الزائرة لمتنزه (ابو نؤاس) شيوع منظر نوم وتسكع المخمورين في الحدائق العامة في بداية شارع ابو نؤاس قرب جسر الجمهورية والاكثر من ذلك اعتداءاتهم المتكررة على عمال نظافة القسم البلدي الرصافة/2 صباحاً بالاضافة الى محاولاتهم تحطيم الملكيات العامة في الشارع من مساطب واماكن جلوس وانتظار لحافلات النقل العامة.
 
لا عتب على المواطنين.. إذن
ذكرت دائرة توزيع كهرباء واسط، أن مجموع ديونها المترتبة بذمة الدوائر الحكومية في المحافظة تزيد عن 13 مليار دينار منذ التاسع من أيلول 2003 وحتى الآن، مطالبة تلك الدوائر بسرعة تسديدها تجنباً للمسؤولية القانونية وتحمل تراكمات إضافية. وقال مسؤول في الدائرة ان مديرية ماء المحافظة تقف على رأس المدانين تاتي بعدها الري والصحة والبلدية.
ونقل عن مسؤول قوله: اذا كانت الحكومة تتمرد على الدفع لنفسها فلماذا نعتب على المواطنين اذا امتنعوا عن ذلك.
 
 ؟
أعلنت وزارة الثقافة عن دفعها غرامة قدرها 5 ملايين دولار لفنان فرنسي مغمور كان قد رفع دعوة قضائية على الوزارة لإثباته استخدام لوحته في غلاف رواية “زبيبة والملك” التي كانت قد صدرت في عهد النظام السابق من غير اسم مؤلفها، واشيع ان مؤلفها صدام حسين نفسه. واضافت إن “دفع الوزارة هذا المبلغ للفنان الفرنسي جاء بعد أن قدم المستمسكات التي تثبت امتلاكه للأصول الفكرية التي تؤيد حقوقه”.
*
ماذا يعنيني من السفن التي كانت تعبر المحيطات وتشق عباب الموج وأنا لا أستطيع أن أعبر زقاقا موحلا ‏طوله متران”.
الماغوط

186
اعتقالات البعثيين..
وحقوق الانسان

عبد المنعم الاعسم
 
تتداول بعض الجماعات الدولية والاقليمية، المعنية بحقوق الانسان (وبعض الجماعات السياسية العراقية) مسألة الحملة على فلول تنظيمات حزب صدام حسين وتذكـّر بالعهود والمواثيق والدساتير المتحضرة، وتتساءل ما اذا تمس هذه الحملة الحريات العامة وحقوق التعبير عن وجهات النظر والتشريعات العراقية ذات الصلة بضمانات المعارضة، ويذهب البعض الى اعتبار الملف كله يتصل بقضايا الرأي، ويذهب آخرون الى افتراض ان المعتقلين ضحايا اجراء سياسي كيدي يدخل في نطاق السعي الى تقليص الحجوم ومساحات النفوذ بين اصحاب الازمة السياسية، او انها تتسم بطابع طائفي، وان عنوان “البعث الصدامي” للمطلوبين ليس دقيقا كفاية .
اقول، ان هذا الكلام يجري تداوله في محافل كثيرة، واظن بان الخطاب الرسمي والامني والاعلامي الذي يتصدر الدفاع عن دواعي ومبررات هذه الحملة لم ينجح كفاية في تقديم نظام معلوماتي سياسي مؤثر ومنهجي ومقنع، وان المعلومات الجنائية التي تبعت اعتقال المئات من “البعثيين” لا تكفي لاسقاط حق فلول النظام السابق واعضاء حزب البعث المنحل في حق التعبير عن الرأي وممارسة العمل السياسي كأفراد باعتبار ان حزب البعث الصدامي محظور دستوريا، وقد انتقل هذا الوضع واختلاف الرؤى الى اروقة مجلس النواب خلال مناقشة قانون ذي صلة بالموضوع.
وكما نرى، فان الملف ينبغي ان يناقش بحذر، وبروح المسؤولية، وقبل كل شيء، على هدى القواعد العامة للحقوق المدنية الثابتة، وازعم ان سطح المناقشات يزدحم، هذه الايام، بالاراء والتصريحات والمواقف الانفعالية التي لا تفيد-في واقع الامر- ترسيم حدود الملف والمبادئ التي ينبغي الانطلاق منها نحو التعامل مع عناصره الحساسة، واُجمل تلك المنطلقات في ثلاثة مستويات:
المستوى الاول، ان لجوء فلول حزب البعث (وبخاصة اجهزته القمعية السابقة) الى استخدام السلاح، وخيار القوة، وليس العمل السلمي المدني، لتحقيق الاهداف السياسية، قد اسقط حقها في الحماية الدستورية وما تفرع عنها من حقوق التعبير عن الراي، فان نشاطها السياسي والدعوي يدخل في باب اثارة الكراهيات والعداوة وتسميم السلم الاهلي والحض على الحرب الاهلية، ولا يقلل او يشطب هذا الحكم ما يقال عن “حق مقاومة الاحتلال” بعد ان اتضح بان الضحايا العراقيين المدنيين، ورجال الدولة والشرطة المحلية والموظفين الاهليين والشخصيات الاجتماعية والاعلامية والثقافية كانوا الهدف المباشر للاعمال المسلحة تلك، اخذا بالاعتبار، بان العهود والمواثيق والدساتير المتحضرة  في كل مكان لا ترخص حماية اولئك الذين يحملون السلاح باعتباره الوسيلة لتحقق الاغراض السياسية،فضلا عن انه يحق لأسر الضحايا المدنيين ان تطالب بالقصاص من قتلة ابنائهم.
المستوى الثاني، يتمثل في ان اعضاء حزب البعث الذي حكم البلاد بالنار والحديد والمسؤول عن الكوارث والحروب (بما فيها وقوع العراق تحت الاحتلال) مسؤولون مباشرة عن خطايا ذلك النظام، وإنْ بنسب متفاوتة، وان التبرؤ من هذه المسؤولية تتحقق، فقط، في التخلي عن “العقيدة” التآمرية العدوانية لبعث صدام حسين  ونبذ العنف والانخراط في الحياة المدنية الانشائية مع ضرورة الاعتراف بوجاهة المعالجة الدستورية بحل الحزب، تحت طائلة القانون.
المستوى الثالث، يمكن النظر اليه من خلال مسؤولية الدولة في حماية الملايين من اعضاء الحزب ممن تخلوا عنه وانضموا الى الحياة السلمية الجديدة ونأوا بانفسهم عن الفلول المسلحة وافكار التجييش، والمهم، ان لا يلاحق هؤلاء عن ماضيهم البعثي او في شبهة التواصل مع البعث بمجرد انهم يعارضون سياسات ومواقف الحكم.
في متن هذا الموضوع ثمة سباق محموم لتجهيز المسرح بستائر حرير تمنعنا من النظر بهدوء الى ما يعدّه مخرج المسرحية من مفاجآت.
*
“ المسافر عليه أن يطرق كل الأبواب قبل أن يصل إلى بابه”. 
  طاغور


187

الى انظار..
 رئيس مجلس النواب


عبدالمنعم الاعسم


 يا صاحب الفخامة، والمسؤول المباشر عن موضوع هذه الرسالة التي تنطلق من الحرص لا من التأليب.
اشكوك البعض الكثير من زملائك الذين ضيعوا حلم تمثيلنا، وفرص تأسيس خيمة نتباهى بها، واختزلوا وظيفة النائب الى بروفات اعلامية هابطة المستوى والضرورة والحاجة والاقناع.
فان تصريحات ومؤتمرات وندوات بعض (اقول بعض) اعضاء مجلس النواب بلغت من الفوضى والتضارب وانعدام الانضباط والتلاعب بالمعلومات والحقائق واستباق التحقيق وكلمة العدالة من الاستطراد والعبث بحيث لم يبق مجال لارجاء السؤال التالي الملح الذي اضعه بين ايديكم: هل ان مسؤولية النواب تنحصر في الظهور على الشاشات الملونة وعلى واجهات الصحف والمواقع، وخلف منصات المؤتمرات الصحفية، ومهاجمة بعضهم البعض؟ ام هي الانصراف الى قضايا التشريع والمراقبة وتصويب السياسات من خلال قبة البرلمان، وعبر وسائل البحث والتقصي وإمعان النظر والفكر والعمل الجمعي المنتج؟.
ولو ان الامر بقي في حدود هوس الظهور الاعلامي، لأمكن قبوله، او السكوت عليه، او القائه على عاتق التجربة النيابية الناشئة، او تبريره بضعف الثقافة البرلمانية، لكن الحال تجاوز ذلك الى استعراض اللياقة الخطابية، والتسابق على الخطب واطلاق الفضائح، والى تحشيد الاخبار والشائعات والمعلومات التي ما انزل الله بها من سلطان، والى التلاعب بالاسرار، ولي اعناق الحقائق، بل ان بعض النواب صاروا يخاطبون رؤساء الدول الاخرى، ويقترحون عليهم سياسات، ويقدمون لهم النصائح التي تعوزها سلامة النية، وينقصها ادب المخاطبة، والبعض الاخر لا يفهم من المسؤولية الرقابية غير التشهير وتأليب الجمهور على هذا المسؤول او ذاك، او تبييض صفحة هذا السياسي او ذاك، والبعض الثالث، صار مقاولا لبعض الفضائيات، او شتاما تحت الطلب، والبعض الخامس أدمن اقتناص الزلات والعثرات وانصاف الفضائح لكي يفتعل معركة (او ام معارك) لا تنفع صديق، ولا تضر عدو.
ويمكننا، يا رئيس المجلس، تمرير كل هذا الغث من المسلكيات لو ان هؤلاء النواب قاموا على الوجه السليم، بما يفترض، دستوريا، وهو الدفاع عن مصالح الذين صوتوا لهم واختاروهم لمتابعة احتياجاتهم ومعاناتهم ومتطلبات عيشهم وامنهم، وتحسينها، فان هذه المفردات، كما يبدو، آخر ما تثير اهتمام هؤلاء النواب الذين يعتقدون انهم انتخبوا ليكونوا معلقين على الاخبار في الفضائيات، وان المطلوب منهم لا يعدوا عن الظهور على واجهات الاعلام، والمصيبة، انهم لم يحسنوا الظهور ولم ينجحوا في تقديم الافكار، وان البعض منهم، لشديد الاسف، يكشفون عن جهل بالوقائع او عجالة في تقديم المعطيات، ويقعون احيانا في تناقض الارقام او في شرك المعلومات الكيدية والمضللة والمدسوسة، فضلا عن عيوب اللغة التي يتخبطون بها، وانعدام احترام الذوق العام الذي يزاولونه من غير رادع.
في النتيجة، ياصاحب الفخامة، كان على هؤلاء النواب التوجه، بدلا من ذلك العبث، الى البلدات والحارات والمزدحمات التي انتخبتهم للتعرف على مشكلات الملايين ومكابداتهم، فان الساحة والاقنية الاعلامية مليئة بالمعلقين على الاخبار، ولا حاجة لأن نضيف لهم معلقين جدد، من الدرجة الثانية.. ومحللين من الدرجة العاشرة.

*
" الطريقة الوحيدة كي تتأكد ممن تتفق معهم هي أن تؤيد حقوق الناس ممن لا تتفق معهم".
 اليانور هولمز نورتون




188

القيم..
عندما يحرسها الجهلة

عبدالمنعم الاعسم

منذ اسابيع ظهرت الى واجهة الخطاب السياسي السائد، واجراءات المجالس المحلية، وبشكل ملحاح، عبارات قيم المجتمع والاعراف والمصلحة العامة تعقيبا على حريات يمارسها الافراد، او برامج تقدمها اقنية تلفزيونية لا تحظى بالارتياح والرضا من شرائح وتكيات، فيما جرى إغلاق وايقاف بعض المنافذ الاعلامية والثقافية والترفيهية بذريعة خروجها على تلك القيم، وقد تركت تلك الاجراءات مرارات وسخطا في الاوساط المدنية الشابة التي تعاني اصلا من تراجع مضطرد في فرص الترفيه العصرية والرعاية الاجتماعية المختلفة وسطوة سلطات الماضي، عدا عن انها تركت حيرة لدى خبراء القانون وانصار الحريات الذين لاحظوا عسف استخدام مفردة ومفاهيم قيم المجتمع ومحاولات بعض السلطات النافذة فرض مفهوم كيفي لعبارات المصلحة العامة والاعراف بما يملي على المواطنين وقطاع الشباب نمطا صارما من السلوك وممارسة الحياة.
 نعم، هناك قيم اجتماعية لكل شعب وامة، وفي كل دولة من الدول المائة والاثنين وتسعين الاعضاء في الامم المتحدة، فيما اكتشفت جماعات حقوق الانسان وخبراء القوانين والمعاهدات الدولية ان ما يزيد على مائة دولة من هذه الدول(اغلبها في جنوب العالم) تضع مفاهيم”قيم المجتمع” في صياغات تحد من حرية الانسان وحقوقه، وان حريات الملبس والتبشير بالرأي والحرية الفردية، مثلا، كثيرا ما تنتهك باسم المصلحة العامة، كما لاحظوا ان اكثر الدساتير استخداما لعبارة “المصلحة العامة “في المعنى المناهض لحقوق الانسان هي دساتير الانظمة الشمولية والحزب الواحد والتوتيلتارية، وتضم الوثائق الدولية الثابتة سجلا مخزيا للدكتاتوريات الحاكمة والتي حكمت في ممارسة العقوبات الجمعية ضد السكان باسم المصلحة العامة.
 ومقابل ذلك، تضع دول متحضرة تطبيقات قيم المجتمع بالكثير من الحذر حتى لا تسيء الى حريات المواطنين او تردع فاعليتهم انطلاقا وتحرص على اشاعة مفهوم اجتماعي عصري يؤكد على ان الفاعلية  الاجتماعية السليمة وبناء اجيال مبدعة، وبعكس ذلك فان تكبيل الشبيبة بقيود التخويف باسم المصلحة العامة او الاعراف والقيم الاجتماعية من شانه ان يترك الجيل الاكثر انتاجا وابداعا عرضة للانكفاء والضياع ونهبا للتيارات الارهابية والعنف والخرافة. 
وليس بعيدا عن هذا المعنى  صاغت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكما منذ تموز من العام  1968 قضت فيه أن على المشرع الجنائي إيجاد توازن دقيق بين حماية المصلحة العامة للمجتمع واحترام حقوق الإنسان، وانه وان كان له تبني قيود على الحريات الفردية، إلا أن ذلك يجب أن يكون في مجتمع ديمقراطي، وان تكون هذه القيود مبنية على حاجة ماسة،ومتناسبة مع الهدف المشروع الذي يسعى إليه .
 مما يعني - حسب حكم هذه المحكمة- وجوب تجنب المشرع الإفراط بالتدخل في منظومات السلوك والحرية، إلا لضرورة اخضعت للدراسة العلمية وبوسائل تتناسب مع المصلحة محل الحماية.
واذاعرفنا بان  قيم المجتمع تتطور مع العصر، وتتحرر باضطراد من التأويلات الرثة والتطبيقات الجاهلية، فاننا ينبغي ان نحذر من نتائج ايداع قضيتي المصلحة العامة والاعراف بيد عقول لا تزال ترتع في مستنقعات الماضي.. وتترع منها.
*
"اذا اغلقت جميع الابواب مخافة ارتكاب الخطأ، فان الحقيقة ستبقى خارجا".
طاغور


189
المنبر الحر / خواطر برلمانية
« في: 16:46 06/11/2011  »

خواطر برلمانية

عبدالمنعم الاعسم

ما حدث مؤخرا في برلماني ايطاليا والكويت، يخفف علينا ما نتابعه من مناحرات وتهديدات في مجلس النواب العراقي ، ففي الثامن والعشرين من الشهر الماضي حدث جدل حاد داخل أروقة البرلمان الإيطالي بشأن تبني خطة واضحة المعالم تهدف إلى إخراج إيطاليا المثقلة بالديون من أزمتها الحالية، إذ تحول الجدل الى عراك بالأيدي و تبادل لللكمات بين عدد من نواب. اما في الكويت فقد تطايرت “العُقل” عندما بدأت خناقات النواب في الثامن عشر من ايار الماضي حيث استخدمت فيها الشتائم واللكمات والضرب بالكراسي.
والحق، انه لم تحل قدسية القبة البرلمانية، عبر التاريخ، دون ان تنشب مشادات من العيار الثقيل، فقد شهدت كاتدرائية القديس بارثولوميوس في فرانكفورت العام 1562 عراكا بالايدي والالواح على خلفية تتويج احد الاباطرة الجرمانيين، كما لم تكن عراقة المؤسسة البرلمانية لتمنع تناطح النواب بالرؤوس، خذ مثلا مجلس الشعب المصري، وهو اقدم برلمان في المنطقة (اسس عام 1866) كان التحاور بالكراسي واللكمات وكان فولوكلورا تاريخيا مسجلا له، وكان آخر حادث يعود الى ما قبل الاطاحة بالحكم والبرلمان باكثر من عام حيث تلاكم النائبان احمد عز الدين من الحزب الحاكم وطلعت السادات من المعارضة، واحيل الاول الى القضاء ونُقل الثاني الى المستشفى، وبعد اشهر من هذه المشادة اندلعت معركة كراسي بين نواب الاخوان ونواب الحزب الحاكم اضطر رئيس المجلس الى ترك المنصة لوكيلته الدكتورة زينب رضوان لتستخدم نعومة المرأة في تهدئة فوضى الرجال ووقف سيل البصاق بين نواب ملتحين واخرين بياقات منشاة.
وعلى مرمى مئات الكيلومترات من البرلمان العراقي، غربا، تنفجر في عمان، بين فترة واخرى، خناقات بالايدي والمسابح والميكروفونات في صالة البرلمان تنتهي الى عض الاذان كما حدث بين النائبين محمد العدوان وعبد الثوايبة قبل عامين تقريبا، على خلفية صراع على رئاسة لجنة الزراعة في المجلس، فيما واحصى صحفي اردني 16 مشادة جرت تحت قبة البرلمان خلال الدورتين السابقتين كان من بيتها مشادة وقعت في آب 2005 في أحد مكاتب المجلس بين النائب عبد الرؤوف الروابدة ووزير الداخلية سمير الحباشنة بسبب عدم قيام الروابدة للسلام على الحباشنة أثناء دخوله للقاعة.
اما شرقا، نحو طهران، فقد عرض لنا البرلمان الايراني، منذ سنوات وجبات شجار مسلية استخدمت فيها نفاضات السجائر وشرائط الاحزمة واحدث نصوص الشتائم المتداولة في السوق، وقد شاهدنا من على الشاشات الملونة في السابع من مارس 2004 وقائع الهجوم الذي قاده نواب محافظون بالكالات فيما كان النائب الليبرالي موسوي خوئيني يتحدث من على المنصة.
والى الشمال، فان احدث مهزلة شهدها البرلمان التركي تلك التي انتهت باعتقال النائب المستقل اوميت كاندوغان بعد شجار واطالة لسان وتقاذف بالكراسي وعبارات التهديد والوعيد، وذلك بعد ان تساءل النائب كيف حدث ان يجلس رئيس الدولة احمد نجدت سيزر الى جانب رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان لمشاهدة مناورات للجيش التركي ولم يتبادلا الحديث بينهما، ولا مرة واحدة، طوال اربع ساعات؟.
نعم، ما يحدث في البرلمان العراقي اهوَن بكثير مما يحدث في برلمانات العالم سوى ان لدينا مشكلة واحدة هي ان حمايات النواب عندنا تتدخل في غالب الاحيان في “المناقشات” وحماياتنا هنا غير حماياتهم هناك.. والعياذ بالله.
*
“إذا كنتَ مقدما على الفشل فلا تفشل كيفما كان”.
هنري ميشو


 

190

الانسحاب والذين يحدون سكاكينهم

عبدالمنعم الاعسم

الذين ينتظرون انسحاب القوات الامريكية من العراق، وقد صار هذا الانسحاب واقعا وقيد التنفيذ، كثيرون، قد لا يجمعهم هدف، ولا توحدهم وسيلة، وقد يكونوا خصوما في ما بينهم بحيث لا يأكلون على مائدة واحدة، او اصدقاء حد النوم في فراش واحد، او يكونوا اصحاب مشاريع خاصة يتصرفون بالامر وفق اقتصاد السوق السياسي، والبضاعة الرائجة، وخذ وهات، او انهم وكلاء مشاريع عملاقة، عابرة الحدود والقارات والاستراتيجيات، وربما، في صراع اللامعقول سيلجأون الى عقد صفقات تحتية يتقاسمون فيها الادوار والغنائم، او سيتعاركون على اللقمة الاكبر، او على الفضلات من الدبابات والاليات المنسحبة.
انهم، في السر والعلن، يحدّون سكاكينهم باعتبار انهم سيتعاملون مع لـُقطة قد لا يتاح العثور عليها في وقت آخر، او مع فريسة قد لا يكرر الحظ فرصة ايقاعها مرتين في حبائلهم، او كنز قد لا يمنّ الزمان به كثيرا، او بلاد شاردة من حدودها بأمل العثور على من يأويها ويضمها اليه، او انهم حيال ساحة نموذجية لتصفيات الحساب او لملء الفراغ او لقضم ما يتاح من الكعكة والارض.
ومن الفرضيات البلاغية الى الواقع، فان موضوع انسحاب القوات الامريكية من العراق وضع نفسه فجأة على طاولات البحث الاستثنائي والعاجل في الكثير مما يسمى بـ"غرف الطوارئ" لدى الكثير من الدول، التي تقع على مرمى الحدود، او التي تقع على مرمى الجغرافيا الاقليمية، وتفيد التقارير الاعلامية المحدودة ومعلومات ما بين السطور وكثافة عمل الخطوط الساخنة بين عواصم المنطقة، وبخاصة بين المحاور الاقليمية ان التعامل مع العراق بعد خلوه من القوات الامريكية اُخضع الى عملية اعادة تركيب بحيث لا يترك منطقة نفوذ لخصوم في المنطقة قد يثبون منه الى هدف تغيير المعادلات الامنية في المنطقة، او استخدامه في كسر شوكة بعضهم البعض.
وبموازاة ذلك تستعدّ وكالات تدَخّل وخلايا تحريض وتآمر وعصابات تهريب ومافيات اقليمية ومنافذ اعلام ودعاية وتلفيق لترمي بنفسها على خط الحالة العراقية ما بعد الانسحاب في سباق مع الدول نحو الكعكة الشهية، او في استعراض سوقي لتقديم الخدمة، مدفوعة الثمن، لمن يحتاجها، وهي تقوم الآن.. اؤكد الان.. بتمارين، او مناورات تعبوية وتسريبات مثيرة لترفع من شان الوظيفة التي تضطلع بها، وعندما سيقترب موعد الانسحاب، سنتفرّج على شاشات ملونة مزدحمة بالروايات والفضائح والشبهات، وستحل حفلات التهريج محل افلام السهرة.
الى ذلك ليس ثمة سر في القول بان جميع الفئات السياسية العراقية، الحاكمة والمشاركة في الحكم والعملية السياسية، او المعارضة لها، وبمن فيها التي عارضت و”قاومت” الاحتلال وحكومات المرحلة، تعدّ نفسها لمرحلة ما بعد انسحاب القوات الامريكية، وتبحث الاحتمالات الناجمة عن الفراغ الامني في البلاد، وتسعى، كل جهة على وفق مصالحها ومكانتها واهدافها السياسية، الى وضع منطلقات وسقوف وآليات التعامل مع الوضع الجديد، واستثمار “فضائل” هذا الانسحاب او لإتقاء هزّاته واستحقاقاته السلبية، وبخاصة ما يتعلق بالتعامل مع الضغوط الاقليمية وتمدد دول الجوار في الخواصر العراقية.
من داخل هذه الحقيقة لا بد من اهمال المناقشة في سلبيات وايجابيات الانسحاب، فان قرار الانسحاب ليس عراقيا في جوهره، وهو ويدخل في صلب الاستراتيجيات الامريكية، ولا بد (ايضا) العبور من فوق الصح والخطأ في هذا القرار، فهو شأن امريكي بالمقام الاول، كما ينبغي إرجاء البحث في قضية الالتزامات الامريكية حيال العراق، وامنه، وما يقال عن التدخل الخارجي والايراني على وجه الخصوص، فان الاجراءات تجد طريقها الى التطبيق على ضوء التهديدات التي تطال مصالح الولايات المتحدة في العراق والمنطقة، وبحسب الهامش الذي تتيحه القرارات الدولية.
وبصرف النظر عن تقييم الدور الذي لعبه الوجود العسكري الامريكي في العراق، فان التصريحات، مفرطة التفاؤل، عن متانة الوضع الامني في العراق، وسلامة جبهته الداخلية، ونفي وجود تهديدات اقليمية، واخطار الفتنة الطائفية، ونشاط قوى الارهاب وفلول النظام السابق، لا تعكس استيعابا واقعيا للاحتمالات، ولا تنفع في تهدئة المخاوف او في تطمين المواطنين، هذا إذا ما استبعدنا سوء النية لدى بعض الاطراف التي تكرر الاعلان عن متانة الاهلية الامنية المحلية لتمرير خطة ملء الفراغ الامني بعد الانسحاب استقواء بالقوى الخارجية.
كل ذلك لا يقلل من شأن الفرصة الحقيقية، المتاحة، امام قوى العملية السياسية لبناء مواقف وسياسة وتفاهمات جديدة تسد الباب على قوى الارهاب والجريمة التي تخطط لاغراق العراق بالفوضى والاضطرابات والدماء، وتتخذ من الطاقات الشعبية وارادة الملايين سبيلا الى مواجهة تحديات ما بعد الانسحاب، عبر الاستجابة لمطاليبها في الخدمات والحريات واحترام حقوقها في ثروة البلاد، وإشراكها في معركة البناء وحماية الامن، وقبل كل شيء، التخلي عن السياسات الفئوية الانانية، ونهج التستر على الفساد والفاسدين.
المعركة المقبلة اخطر من معركة اسقاط نظام صدام حسين، بكل المعايير، وَمن يراها فرصة لرفع مناسيب الامتيازات والنفوذ والسطوة سيجد انه اختصر الطريق الى الملامة.. وعض الاصابع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



 

191
المنبر الحر / بانتظار غاندي
« في: 14:37 02/11/2011  »


بانتظار غاندي

عبدالمنعم الاعسم

المعادلة تتمثل في ان حالنا في نقطة التجاذب. من زاوية نرصد ان رحالنا يتحسن ببطء، ومن زاوية اخرى يبدو انه يمضي من تدهور الى آخر. من سيئ الى آخر. مقلوب المعادلة، ان يظهر اختراق يشق المشهد ويشظيه، ثم يعيد تركيبه، هذه المرة بيد اصلاحية، او ارادة تغيير لاتقهر.
الهند، لمن يعيد قراءة ما حدث لها عشية اعلان الاستقلال، كانت تتخبط في تلك النقطة الحساسة والمخيفة، بين الانزلاق الى العنف المفتوح والحرب الكارثية، او الارتقاء الى  مسار السلام الاهلي.
والهند، اذا ما تأملنا حالها آنذاك، كانت تشبه حالنا الآن من وجوه كثيرة، سوى ان هناك زعيم ملهم يأكل من معزة ترافقه اينما حل، ولم يكن ليحتاج الى حمايات وسيارات مصفحة تفتح له الطريق. ولم يكن يحب التصفيق. في خطاب لغاندي عثر عليه مؤخرا في مكتبة بالولايات المتحدة القاه قبل اسابيع من اغتياله، عبر عن امتعاضه من تصفيق الجمهور، قائلاً: "أرجوكم! أرجوكم! أرجوكم! سيؤثر ذلك سلباً في خطابي وفي فهمكم لما أقول. أريد أن أمسَّ قلوبكم، لا أريد أن أحظى بتصفيقكم". 
كانت هناك اقوى دولة استعمارية على اراضي الهند، وكان السكان، كما هو الحال عندنا، مشتتون في التعامل مع جيوش هذه الدولة، وكان غاندي يعرف جيدا لعبة المقاومة. المقاومة الاكثر جدوى وجدارة ونزاهة وحماية لحياة المدنيين، غير ان قوى العنف والشعارات والرطانات لم تكن تتحمل رسالة غاندي. آنذاك فاجأه شاب من الجماعات “المقاتلة” المتطرفة بالهتاف “ايها الخائن” فرد عليه الزعيم قائلاً:  “إنه خطئي أنا، لأنني لم أعلمك الحب” غير ان الرصاصات لم تترك له ان يكمل خطابه بوجوب حماية المحبة بين ابناء الهند، من كل الاجناس والديانات، فلفظ انفاسه وهو يردد  انشودته الشهيرة: “هذه دنيا غريبة فإلى متى سألعب لعبة الحياة”.
في خطابه الاخير ذاك كان غاندي، الهندي، يذكر ابناء بلاده بانتمائهم الى دائرة اوسع، قال: “سألني صديقي أمس عما إذا كنت أؤمن بعالم موحد، طبعاً أؤمن، وأنـّى لي ألا أفعل؟ في عصر صحوة أفقر الفقراء”. وخاطب انسان ذلك العالم بالقول “إذا أردت أن ترى الهند على حقيقتها، إبحث عنها في كوخ للبانجي، في منزل متواضع يسكنه أفراد من طبقة البانجي. ثمة 700 ألف من تلك القرى. لاتحتوي تلك القرى السبعمائة ألف سبعين مليون نسمة، بل تضم نحو 400 مليون”.
حكمة غاندي بسيطة، بل شديدة البساطة: ان المصائر قد تنكفئ الى دهليز من الثعابين لا نهاية له، وقد تستيقظ في نقطة تاريخية، وان الزعيم الملهم يمكن ان يقف في ذلك المفترق ليصحح المعادلة.
الزعيم الذي لا يستغني عن معزته اينما حل، ولا يحب التصفيق.
*
“مأساة الحياة هي ما يموت داخل الانسان في حياته”.
           شواريتزر





192

اعتقالات البعثيين.. لماذا؟

عبدالمنعم الاعسم

الحملة المفاجئة لاعتقال نشطاء بقايا حزب وتفكيك تنظيماتهم، يمكن النظر اليها من زاويتين، الاولى تتعلق بصدقية القول انهم يعدّون لاستثمار الفراغ الامني، بعد انسحاب القوات الامريكية من العراق، وهز الاستقرار، الهش اصلا، واختراق الادارات والمنظومات الامنية  الامر الذي لايـُشكّ فيه، ولايمكن تبرئة هذه الفلول من نية التخطيط لعمليات ارهابية تروع البلاد فيما يجري تداول معلومات ومؤشرات كثيرة عن هذه النيات والمخططات، بل ان الفترة السابقة شهدت نشاطا ارهابيا مسجلا باسم جماعات مسلحة من بقايا اجهزة القمع لنظام الدكتاتورية السابق.
والزاوية الثانية، هي الخشية من عشوائية هذه الاعتقالات وعدم استنادها الى معطيات ومعلومات سليمة وموثقة عن المطلوب اعتقالهم بوصفهم خارجين على القانون ومتورطين في اعمال العنف والجريمة، والخوف من انها قد تمتد الى ساحة تصفيات الحساب السياسي، المنفلتة، واعتقال اشخاص معارضين، او منتقدين لسياسات الحكومة واحزابها، او نشطاء في كيانات سياسية محسوبة على العملية السياسية، ولديها مشاكل مع السلطة، او ان تتخذ هذه الحملة وجهة طائفية.
ويبدو انه في محافظتين، في الاقل (الناصرية والانبار) وعدد من البلدات والاحياء في العاصمة واجهت الحملة الامنية تحديات وتجاذبات ونزاعات ساخنة، فضلا عما جرى في اجتماع مجلس الوزراء من تراشق بالاتهامات، ما القى عليها ظلالا من الشك في تحقيق النجاح او الهدف المثبت لها، هذا فضلا عن ردود الفعل، المتوقعة ايضا، من قبل مجموعات القائمة العراقية المشاركة بالحكومة التي رأت بالحملة تعديا مقصودا على نفوذها، أخذا بالاعتبار (إذا ما شئنا الصراحة) بان هذا النفوذ، او جزء كبيرا منه، مستمد من انصار حزب البعث ومن ساحة الموالين للنظام السابق.
وغير هذا وذاك فان مشكلة الحملة على تنظيمات حزب صدام تجري في ظروف تشهد اضطرابا شديدا في داخل العملية السياسية وحكومتها، فثمة خلافات حيال التعامل مع آثار انسحاب القوات الامريكية، بل وحيال العلاقة مع الولايات المتحدة ودورها الامني للمرحلة اللاحقة، وهناك ازمة في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وقواها واطرافها وبين حكومة اقليم كردستان، وهناك ملفات خطيرة ومشاريع قوانين وقرارات مؤجلة بانتظار الحد الادنى من التوافق بين اطراف المشهد السياسي، وهناك تحديات الجوار الاقليمي التي تفاقمت الى مستوى التهديد الفعلي عشية خلو العراق من الوجود العسكري الامريكي.
كل ذلك يطرح السؤال الجدي عما اذا كانت الحملة على تنظيمات حزب البعث جاءت في وقتها المناسب لكف خطر النشاط الارهابي المسلح الذي تقوم به فلول حزب البعث، ام انها اجراءات تدخل في رغبة كابينة الحكومة لتحجيم منافسيها، ومنعهم من استثمار الفراغ الامني الذي تقبل البلاد عليه، ام ان الامرين متلازمان في الواقع، ومستقران في منظور اصحاب الحملة.
لكن، قبل ان تتولى الايام المقبلة الكشف عن خلفيات الحملة على البعثيين ستكون القوات الامريكية قد غادرت الاراضي العراقية وتركت سؤالها البليغ عما اعده العراقيون وحكومتهم من تصور لعبور اخطار التفتت.
*
“اذا كانت المطرقة هي الاداة الوحيدة التي بين يديك، فلا عجب إنْ ظننت ان جميع المشاكل مسامير”.
   حكيم ياباني       
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


193
تهميش السنة..
 حصلَ، لكن من المسؤول

عبدالمنعم الاعسم

 نفي وجود تهميش لشريحة من الشرائح العراقية لايلغي حقائق هذا التهميش الواضحة لكل متأمل وباحث و”صاحب وجدان” وثمة في دائرة الموضوع خمس حقائق:
الحقيقة الاولى ان نزعة (منهج. اهواء) تهميش هذه الشريحة او تلك عريقة في السياسات العراقية منذ تأسيس العراق المعاصر بعد الحرب العالمية الاولى، ويمكن للقارئ البسيط ان يجد “عيـّنات” من صور وتجليات هذا التهميش في ثنايا سطور مؤلفات عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي، وفي الكثير من كتب الجغرافيا الاجتماعية والمذكرات الشخصية والمراسلات الدبلوماسية والوثائق السرية وفي كتب الفقه والمساجلات المذهبية والقومية، وكذلك من خلال تهجّي سلوك الاشخاص الذين لعبوا دورا في اقدار العراق على مر التاريخ وتحزبهم الى منابتهم وترقية تلك المنابت على حساب منابت اخرى (اقرأوا حنا بطاطو).
الحقيقة الثانية، ان هذا التهميش، له ظلال وبصمات في العراق الجديد، ما بعد العام 2003 وسيستمر في ثنايا السياسات والنزعات التي تمسك بمقاليد الامور، وباشكال مختلفة، ومخاتلة،  حتى تقام دولة المواطنة الحقيقية التي تكرس، وتترجم الى الواقع والممارسة، توصيف العراقي كمواطن متساو في الحقوق والواجبات، وقبل هذا تحمي عقيدته وانتماءه في اطار من التعددية والشراكة في الوطن.
الحقيقة الثالثة، ان التهميش في تعريفه المبسط هو تمييز وعزل فئة من السكان والحط من مكانتها والارتياب حيالها، ويظهر في لا حصر له من الاشكال، يبدأ من ثقافة (وهوى) الاستعلاء على الآخر، حتى تخوينه وتجريف حقوقه المدنية، لكن ابشع مظاهر التهميش تبرز في الميدان السياسي وهياكل ادارة الدولة إذ تنغلق امام الفئة المهمشة، افرادا وجماعات،  فرص المشاركة والوصول الى مواقع الدولة المهمة والحساسة، ويدخل موصوف الهوية الدينية او الطائفية او القومية او الاجتماعية في عداد شروط الاهلية لتلك المواقع.
الحقيقة الرابعة، ان الحاضر العراقي يعاني من الاثار المدمرة لمنهج التهميش الذي سلكه نظام الدكتاتورية، وراح ضحيته الغالبية الساحقة من سكان العراق (كرد. شيعة. مسيحيين. صابئة) إذ جرى تطبيقه باكثر الاساليب شناعة ومخاتلة واحتيالا وربما دهاء او نعومة زائفة وعانت الملايين العراقية من منهج الردع الاعمى والعقاب الجماعي “على الهوية” ومن معاملة عراقيين كمواطنين من الدرجة الثانية، تحت الارتياب، وشبهة عدم الولاء الى الوطن، في حين اعفيت شرائح ومناطق منتخبة ومدن معروفة من هذه السياسة الانتقائية.
الحقيقة الخامسة، ان الدساتير العراقية لم تكن لتشرّع التهميش، او تسمح به، بل انها توالت في التمسك بقيم المواطنة، والمساواة بين السكان، والتعامل معهم على اساس معايير الكفاءة، والقانون، والوطنية، وتحريم التمييز بينهم، الامر الذي يؤكد بان النص الدستوري بقي خارج الترجمة الى الواقع، الى الممارسة، فيما الشيء الغائب في منع التهميش والحيلولة دون تسلقه سلالم السلطة والسياسة هو  ممارسة المساواة واشاعة ثقافتها، والغائب الاكبر، هنا، هو الزعامة السياسية عابرة “اغواء التهميش” . عابرة الحساسية ضد الآخر.. عابرة المستنقعات.
نعم، هناك تهميش، وشعور بالتهميش لدى طائفة من الطوائف، بل ولأكثر من طائفة وعقيدة وشريحة.. لكن النخب الحاكمة التي تتصدر المشهد السياسي ليست وحدها مسؤولة عن ذلك؟.
فليس صحيحا، ولا دقيقا، القول الشائع بان الحكم في عراق صدام حسين كان سنيا، لكن الصحيح هو ان طائفة الشيعة ومراجعها ومدنها كانت (بعد صعوده بخاصة) موضع ارتياب، وقد تعرضت، مع الكرد، الى حملات عقاب جماعي دورية خلال التحضير للحرب مع ايران (التهجير القسري) ثم اتسعت في العمق بعد انتفاضة آذار العام 1991 التي اندلعت، بالاضافة الى مناطق كردستان، في مدن الفرات الاوسط والجنوب، ذي الاغلبية الشيعية، واستمرت هذه السياسية طوال اكثر من عشرين عاما، تكامل خلالها منهج التهميش في سلسلة من التدابير وعمليات “الغربلة” والاقصاء والعقاب الجماعي.
ولم يكن وجود افراد من الشيعة  في مراكز سياسية وادارية عليا يغيّر من طبيعة تلك التدابير، كما لم يغيّر من طبيعتها بعض التنكيلات التي طالت قيادات عسكرية سنية وبعض الحملات التي شملت عشائر ومدنا ذات اغلبية سنية، فلم يكن صدام حسين ليتورع عن ضم اية شريحة او فئة او قومية عراقية الى قائمة المطلوبين للعقاب اذا ما قدر انها غير موالية له كفاية.
وشاءت تداعيات الصراع بين العراق وايران ان تلقي بوزرها الثقيل واستحقاقاتها المريرة على الشيعة العراقيين، وعلى نقطة التماس الحساسة بين الطائفتين المسلمتين، فيما زاول كل من الطرفين الحاكمين، في بغداد وطهران، لعبة الطائفية في تلك المساحة الحساسة لدحر الطرف الآخر، ولا حاجة هنا للاستطراد في عرض التجليات الطائفية في مجريات تلك الحرب التي باتت معروفة، لكن الامانة التاريخية توجب ملاحظة انتشار اعتقاد عن سنية نظام صدام حسين بين اوساط شيعية واسعة وفي شعاب البيئة المشحونة بالتأليب والتجييش، وهو اعتقاد غذته واطلقته اجندات سياسية “تعبوية” خارجية، سرعان ما تحول، فيما بعد، الى برنامج حربي للتحالف الامريكي بهدف كسر شوكة النظام واسقاطه.
ومع الشهور الاولى من عمر التغيير(السقوط. الاحتلال) برز “انكماش” الوسط السني حيال الوضع الجديد، فاقمته اجراءات الردع والبطش والعقاب الجماعي العشوائية لقوات الاحتلال ضد مناطق الاغلبية السنية في غرب العراق وبغداد، وقد لجأت فلول الحزب الحاكم وعصابات المقاتلين من الخارج التي تسللت عبر الحدود الى هذه المناطق، مدنا وعشائر واحياء، مدعومة، اولا، بصمت وتواطؤ الفعاليات والمراجع والاحزاب المحلية التي حسبت نفسها على العهد الجديد، وثانيا، بمباركة دول عربية مجاورة، مالا وإعلاما وتسهيلات، فيما تكلل المشهد بقرار سني انكفائي ذي اثر كبير لاحق بمقاطعة الاستفتاء على الدستور وانتخابات العام 2005 في خطوة ، باهضة التكاليف، إذ وضعت الطائفة السنية نفسها خارج ترتيبات الهيكلية الجديدة للدولة وفي موقع يسهل تهميشها، اوفي الاقل، يشجع تيارا انانيا في الحكم ومتطرفا في صفوف الطائفة الشيعية الى ترويج العقيدة الانتقامية من السنة بزعم انهم مصدر تمويل الارهاب ومسؤولون عن جرائم النظام السابق.
كانت الصورة، كما لو ان الوسط السني سعى الى التهميش وقبـِل به كاسلوب في المعارضة (الجهاد. المقاومة. الارهاب) على امل قلب الوضع الجديد، من جهة، وكما لو ان التيار الشيعي المتطرف التقط ذلك الموقف لفرض هيمنته على مقاليد الدولة، لكن الحقيقة لا تضم تلك المعادلة الافتراضية وحدها، بل هبّت عليها العواصف من كل مكان. وللعواصف معادلتها، كما اثبتت الاحداث.
*
نعم، ساهمت ظروف ومواقف وجهات عديدة في تكوين "جفوة" لدى سكان مناطق الاغلبية السنية حيال الحكم الجديد في العراق، عمّقتها، عن عمد، شعارات (وأعمال)الانتقام في بعض التجمعات السياسية الشيعية، وتمكن الاشارة، من دون ان يعدّ ذلك تجنيا، الى ان الاحزاب والجماعات القومية "العربية" القريبة من هذه المناطق استطردت، قدما  في تسييس مشاكلها واضفاء الطابع السياسي على العلاقة بين الطائفتين، ولعبت هذه الجهات دورا كبيرا في تأجيج الخصومة والحساسية المحلية الطائفية، بل ان بعض هذه الفئات صارت تتبارى فيما بينها في توليف اسباب الاستقطاب الطائفي.
 وإذ برزت الفرصة التاريخية لتصحيح ومعافاة تلك العلاقة المتوترة بين الطائفتين المسلمتين بظهور حركة الصحوات في غرب العراق وتطهير المنطقة من معسكرات وخلايا الارهاب الاجرامية، بموازاة الخطوة التي اتخذها رئيس الوزراء نوري المالكي بقصم ظهر المليشيات والجماعات الشيعية المتطرفة والمسلحة، غير ان التجربة لم تستكمل شوطها وبنيانها بسبب السياسة، قصيرة النظر، لاحزاب الطائفتين التي استشعرت "خطر" انقلاب معادلة المحاصصة الطائفية والمزاحمة على امتيازاتها، فضلا عن دور التكيات الدينية في تغذية الحساسية الشيعية- السنية، من جهة، وهيمنة بعض المرتزقة وعملاء تنظيم القاعدة ومسلحي فلول النظام السابق في مفاصل مجاميع الصحوات لتخريبها، من جهة اخرى.
 على ان انتخابات العام 2010 افرزت وظيفة جديدة للصراع الطائفي، في بعده السياسي، وذلك حين كسبت القائمة العراقية التي ضمت جماعات مختلفة وحظيت بدعم الوسط السني حيث استبعدت من فرصة رئاسة الحكومة (لاسباب معروفة) وبقيت تروّج لفكرة ان هذا الاستبعاد يشكل معاقبة لمناطق الغالبية السنية، كما ان القائمة قدمت موقفها من المشروع الطائفي بالكثير من التناقض والتلاعب بالالفاظ، فهي تصر، من جهة، على انها عابرة للطوائف، لكنها، من جهة ثانية، تتخندق في الطائفية حين تبدأ عملية توزيع المناصب على طاولة المحاصصة، واحتساب كل تضييق على القائمة بمثابة سياسة موجهة ضد السنة.
الى ذلك لعب الاعلام الممول من الحكومة درورا كبيرا في تعميق شعور السكان السنة بانهم يدفعون ثمن الهزيمة في معركة رئاسة الوزارة، بدلا من ان يجري تغييرا جديا في منظومة الخدمة الاعلامية بحيث تقدم نفسها كخدمة متوازنة وغير ذي صبغة طائفية احدادية.
 يبقى القول بان التحليل المنطقي للحالة الطائفية في العراق، ينبغي ان ينطلق من حقيقة ان ما يوحد الطائفتين، من تداخل في الجغرافيا والمصاهرات العائلية والعشائرية، واتساع احتقار النعرة الطائفية بين الملايين الغفيرة من العراقيين، وقبل كل شئ، نمو الشعور الواقعي بان احد طرفي المعادلة لن يكسب من الاحتراب الطائفي، وان اقصاء احدهما، امر يدخل في باب المستحيلات.. او في عداد احلام العصافير.
 على هذه الخلفية فانه يلزم فتح ملف التهميش بحذر وفي بعده السكاني والجغرافي والاجتماعي، اولا، من غير سياسة، وثانيا، من غير سياسيين.
 

194

بموازاة دعوة حسن العلوي لاستقلال اقليم كردستان

عبدالمنعم الاعسم

 اعدّ دعوة الاستاذ حسن العلوي الى استقلال الكيان الكردي عن الدولة العراقية تستحق المناقشة، بهدوء، وموضوعية، ومن خلال ادوات نظر جديدة الى ما جرى ويجري في عراق ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري، وبعيدا عن الجمل الانشائية والمقولات واثارة الريب والتخوين التي كفّت ان تنفع او تغيّر من مجرى الاحداث، ومن جانبي قد لا انطلق من الزاوية نفسها التي انطلق منها الاستاذ العلوي، لكني امشي بموازاتها، واحسب انهما لا تتقاطعان في نهاية المطاف.. وهذا رأيي:
*
بصرف النظر عن سياق (ومبرر) التصريحات والتصريحات المقابلة، ومفردات التجاذب بين القيادات والفعاليات السياسية الكردية وشريكتها على مستوى العراق، وعن الافعال وردود الافعال، وعن الايضاحات والتصويبات والتحديات وتداخلات سوء الظن وتداعي انعدام الثقة وظهور المخاشنة في الكلام وظهورها على الارض، فان المراقب الموضوعي لابد ان يستعجل القول، على ضوء احداث ثماني سنوات، ان تجربة بناء الدولة الفيدرالية في العراق تدخل الآن في استعصاء واضح، وتواجه (من زاوية معينة) مآل الانكفاء.
 كما ويستعجل المراقب الاستخلاص بان البديل عن هذه التجربة، إذا لم يجر انقاذها بخطوات استباقية نوعية قبل الانهيار، يتمثل في خيارين، الاول، هو العودة الى النظام المركزي الذي يُخضع بالقوة والحرب منطقة كردستان العراق ويُبطل التشريعات وكل الخصوصيات والهياكل الادارية للمنطقة، والثاني، المضي في خطوات استقلال المنطقة التي تتمتع موضوعيا بشروط دولة ناجزة.
 والحق، ان انزلاق التجربة الاتحادية الوليدة في العراق الى الخيار الاول سيفتح الباب واسعا، الى الخيار الثاني، استقلال كردستان العراق، الشرعي من وجهة نظر مبدأ تقرير المصير.
 ولا يكفي تهوين الامر بالقول ان الازمة بين اقليم كردستان وحكومة المركز تتفرع عن الازمة السياسية العراقية المتفاقمة، لكي يجري التعامل معها من خلال العملية السياسية التي لا تزال حتى الآن اطارا لتسوية الخلافات بين الفرقاء و"المكونات"، فان الخلافات مع الاقليم من جنس خاص وبنيوي وتاريخي يمت بصلة الى طبيعة "المشكلة القومية" في العراق التي تختلف جوهريا عن المشكلات التي تضرب المشهد السياسي العراقي والعملية السياسية مثل مشكلة ادارة حكومة الشراكة والحقائب الوزارية الشاغرة ومجلس السياسات والملف الامني ومشكلة المحاصصة والميزانية وتطبيقات الدستور وحتى قضية التناسب الطائفي السياسي في هياكل الدولة الجديدة.
 ينبغي لفت النظر الى ان هذه الخصوصة القومية، الكردستانية، لا تقلل من طبيعة علاقتها بالعملية السياسية بل انها جزء عضوي من هذه العملية بل والجزء المحوري فيها، والضامن لاستمرارها، وقد لعب العامل الكردي (والرئيس طالباني بخاصة) دور المرجعية للمتصارعين على السلطة والحَكـَم في ضبط الالتزامات وتطبيق الاتفاقات والعهود، والمصدر الديناميكي للافكار والمشاريع التوافقية.
 فماذا حدث على صعيد الملف الكردي الحساس؟.
 بكلمات وجيزة، كانت النخب السياسية الصاعدة التي كانت قد تعهدت (قبل سقوط نظام الدكتاتورية) بالتزام بناء الدولة الفيدرالية في العراق قد اظهرت عدم استيعابها (في ارق توصيف للموقف) لفروض اقامة دولة اتحادية(فيدرالية). وكلما تمكنت من بسط سلطتها وسيطرتها على سلطة القرار صارت تعبر عن ضيقها حيال عملية بناء الهيكلية الفيدرالية الكردستانية، وزاد الامر تعقيدا دخول تيار سياسي محلي (قومي. طائفي. عشائري) مناهض لخيار الفيدرالية والحقوق القومية للكرد على خط التجاذبات الجارية بين حلفاء الامس وسيطرته على بعض المراكز ذات الصلة (البرلمان. مجالس محافظات) الامر الذي فاقم الخلافات ووسع من الهوة، بل وخلق ما يبدو انه تحالف قوي يستهدف الحيلولة دون المضي في بناء الفيدرالية الكردستانية، وتبشيع الاجراءات والمواقف التي تتخذها حكومة الاقليم.
في غضون ذلك امتلأت المحافل السياسية المغلقة لجماعات العملية السياسية النافذة بالتبرم مما يتيحه الدستور والبرلمان للكرد، واستكثار الميزانية (17 مليار دولار) للاقليم، ووجود قوات خاصة به، وعلم له، ومطارات واجراءات وإدارات ذاتية، وعلاقات دولية واقليمية، وانفلتت تصريحات وتلميحات تذهب الى اعتبار اقليم كردستان دولة اجنبية، بل وجرى الصمت المقصود حيال الاعتداءات العسكرية التركية على اراضي عراقية بمجرد انها تدخل في حدود الاقليم.
 ولعل المتابع المحايد يمكنه ان يتملّى خطر انفعالات وردود افعال غير منضبطة وقصيرة النظر في المعسكر الكردي، غير ان الاخطر في هذا المسار يمكن قراءته في عودة الشوفينية الاقصائية المدرسية الى الواجهة في ممارسات وتصريحات ساسة ومثقفين وكتاب من دائرة الحكومة المركزية واطرافها، واوضحها في صفوف المنافسين للحكومة، وابشعها لدى وكلاء الجوار القامع للقوميات والحريات، وتتمحور هذه النزعة في اغاليط قديمة- جديدة عن عدم سلامة نيات الكرد حيال الدولة العراقية، على الرغم من السجل الطويل من المواقف والتضحيات الكردية الوطنية لتعزيز مكانة وسمعة هذا الوطن، وليس اقلها تلك الكوكبة من ابناء الشعب الكردي الذين يعدّون من ابرز بناة العراق، على مختلف المستويات، السياسية والعسكرية والثقافية والادارية، عبر التاريخ.
الى ذلك احسب، اولا، ان الدعوة الى استقلال كردستان ترتبط، تماما، بانكفاء خيار الفيدرالية، وعدم استيعاب وجاهته من قبل الفئات والزعامات النافذة، وشعور الخيبة في الاوساط الكردية، وبخاصة السكان الكرد في المناطق "المتنازع عليها" وانغلاق آفاق تطبيق المادة 140 ذات الصلة، وثانيا، ان الكثير من الساسة وأصحاب الرأي والباحثين الكرد تمسكوا، وما زالوا يتمسكون، بخيار الشراكة في الوطن العراقي، وعندهم ان لهذا الخيار افضليات للشعب الكردي قد لا يتيحها الاستقلال.     
 اما الحديث عن استحالة تحقيق هذا الاستقلال لاصطدامه بالمعوقات الاقليمية، التركية الايرانية، وربما الامريكية ايضا، فانه بطل مع بطلان الكثير من المعادلات التي تتصل بمرحلة الحرب الباردة، والى ما قبل العاصفة التي هبّت وتهبّ على المنطقة.


195

الامن..
وكأن شيئا لم يحدث !

عبدالمنعم الاعسم 

 بعد كل مذبحة امنية يتكرر ما كان يحدث قبلها، حتى ان المتابع لم يعد بحاجة الى معرفة ردود الافعال والمواقف والمعلومات او الاجراءات التي تترتب عليها سوى ما تتركه الجريمة الشنيعة من استنكار واسى ودموع وطوابير من الجنائز، إذ تُسجل، في كل مرة، ضد مجهول.. او هكذا هي الحصيلة في نهاية الامر.
فما قيل في تفجير سابق اسفر عن سقوط مدنيين ابرياء وبعض افراد الشرطة او بناية حكومية يقال في تفجير لاحق في سوق او مزدحم من الناس:
المستشفيات تعلن اعداداً باردة عن القتلى والمصابين وجثث الضحايا، والبيانات الامنية الرسمية تسرع بالاعلان عن ان القاعدة وفلول النظام السابق وراء هذا العمل الاجرامي، ويتناوب مسؤولون ونواب ومقربون من كابينة الحكومة على توزيع الاتهامات المبطنة، الملغّزة، على كيانات وجماعات سياسية تشارك في العملية السياسية (من دون ان تسميها بالاسم) وتردّ الاخيرة باتهام الحكومة(وكانهم ليسوا منها) بالعجز عن حماية ارواح المواطنين، وان المنظومة الامنية مخترقة وفاسدة، وغير موالية للوطن كفاية، وهي بحاجة الى اعادة بناء. 
ويأتي دور جماعة سياسية متنفذة لتعلن بان المسؤول الاول عن هذه الجرائم هم الامريكان وانهم يقومون بهز الامن لكي يوحوا بان امن البلاد مهدد وان الحاجة لهم لا تزال قائمة، ولا موجب للانسحاب، وعلى هذه الاوتار، وليس بعيدا عنها نستمع الى ردود افعال اسيفة، وتأسيات حزينة على الضحايا باسم جهات وزعامات وخطباء تقول كل شئ، ولا تقول شيئا في واقع الحال.
اما الشارع فانه سيغلي مرة اخرى، على ايقاع الانفجارات المتوحشة والانباء المروعة، مكررا القول وبفصيح الكلام: السياسيون يتصارعون على السلطة والثروة والامتيازات ونحن ندفع الثمن.. انها من صنعهم.
ثم، يأتي دور الفضائيات وفوضى التحليلات وفانتازيات “مصادر لم تعلن عن هويتها” لتضيف الى اللوحة المضطربة عناصر اضطراب اخرى. مدافعون ومهاجمون ونائحون ومتشفـّون، وقائع وشائعات وانصاف حقائق واكاذيب وبطولات فارغة وكم هائل من دموع التماسيح، فلكل شاشة عزف محسوب، ولكل ممول موّال، ولكل معلومة خيط يتصل بلاعب في الكواليس، او وراء الحدود، وهو امر متوقع ومكرر في جميع التفجيرات والمذابح، لسبب بسيط، هو ان الخطاب الامني الحكومي ضعيف وهزيل وغير محمول على الاقناع او المعلومة الموثقة في العيان والعقل.
ثم، يُختتم المشهد، كما في كل مرة،  باجتماع “عالي المستوى” يناقش “الوضع الامني” ويتمخض عن تشكيل لجنة تحقق في “ملابسات الحادث” او عن احالة بعض المسؤولين الامنيين الى المساءلة او الى المعاش، ثم، بعد يومين او ثلاثة ايام نسمع، ما كنا نتوقعه، وفي كل مرة ايضا، بان السلطات الامنية قبضت على المخططين او المشاركين، وربما نشاهد اشخاصا بدشاديش وعيون معصوبة، وكومة من الراجمات والبنادق والعبوات،على انهم المشتبه بارتكابهم الجريمة.
وكأننا امام مسرحية مملة..
*
“ان الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم”.
حديث نبوي.


196

الفيلية..
خصوصية لا مكوّن

عبدالمنعم الاعسم

 في الوقت الخطأ أرتـُكب الخطأ. هكذا جرى. ففي ظروف تتسم بالتعقيد والتخندق والانانية الفئوية وانعدام الثقة والتوازن الاجتماعي والحد الادنى من حسن الظن في الكتلة السياسية التي تتصدر مسرح الاحداث دعا رئيس الوزراء نوري المالكي الى اعتبار الكرد الفيلية مكوّنا مستقلا، بما يعني تعويم انتمائهم للقومية الام الكردية، وما يمكن ان يدخل في عمليات الاستقطاب المنفلتة على مسارات الصراع ومناطق النفوذ.
 اولا، ليست مسؤولية رئيس حكومة ان يقسم الاطياف السكانية الى عناوين، الامر الذي يلزم دراسات ومخاضات ومعاينة تاريخية وسوسيولوجية في عمق عملية الانتماء "الفرعي" وذلك قبل ان يجري ترسيم الطابع السكاني لأي طيف من الاطياف، كما ان الاطياف والخصوصيات والمكونات لا تتشكل بقرارات حكومية، ولا من خلال تصريحات إعلامية، واحسب ان السيد رئيس الوزراء يعرف افضل من اي سياسي او مسؤول آخر بان ملف الكرد الفيلية المطروح على طاولة البحث يتصل جوهريا بانتماء الكرد الفيلية للدولة الوطنية العراقية وحقوق المواطنة التي هضمت ونالت العسف من قبل نظام الدكتاتورية وينبغي ان تتوفر لهم اسوة بالمواطنين الاخرين، واعادة حقوقهم المدونة في الدستور .
 كما انه، ثانيا، يطرح الى المعاينة واللوم مسؤولية الاحزاب الكردية النافذة وحكومات الاقليم والنخب الثقافية والسياسية الكردستانية التي تركت منطقة فراغ بين الكرد الفيلية والاطار القومي الكردي، وتعاملت بلامبالاة، او باكتراث اقل، او بفئوية ضيقة، واحيانا بشكوك، مع جمهور الكرد الفيلية الذي كانت تتقاذفه الوعود والعروض والمسكنات وسياسات الزجر والتشكيك بانتمائه الوطني طوال ثماني سنوات، وكان ينبغي وضع اعادة الحقوق المدنية الدستورية للكرد الفيلية بالنسبة للجميع موضع الاهتمام والمثابرة والحماية والتطمين.
 وعلى هذا الصعيد، ثالثا، لابد من الاخذ بالاعتبار، من قبل الجميع، حقيقة تاريخية واجتماعية، ان للكرد الفيلية في العراق مكانة قومية ومذهبية وتاريخية وثقافية وسكانية، ابرزت لهم مصالح وشبكة انتماءات وحقوق وطنية، لا تتعارض مع انتمائهم القومي، ولا يمكن اختزالها، او تغييبها، بهذا الانتماء وحده، وبمعنى آخر، فان للكرد الفيلية خصوصية في نسيج انتمائهم القومي، لا يصح تحريك عناصرها او الاجتهاد في تأطيرها تبعا للاعتبارات السياسية.
 وثمة، رابعا، اللوم على عمليات انتاج التشرذم في داخل الوسط الفيلي الكردي.. وهنا، كما يقال، تسكن العبرات.
*
" لا يمكننا حل مشكلةٍ باستخدام العقلية نفسها التي أنشأتها".
اينشتاين

     

197


في مفترق طرق.. قبل الكارثة

عبد المنعم الاعسم
   
ليس هناك من يشكّ في ان العراق يمرّ في مفترق طرق. من الذي اوصله الى ذلك؟ السؤال مهم وإشكالي، لكن، لايستهدف محاسبة احد الآن قدر ما يذكـّره بالنتائج، وبضرورة  تدارك الموقف، وقبل ذلك، الاعتراف بالخطايا والاخطاء الكثيرة التي ارتكبت ودفعت الملايين العراقية ثمنها الباهض من مواكب القتلى والنزوح والاحتراب والمجاعة والخوف. عندما وقف موسوليني في شرفته ورأى روما في مفترق طرق، وعلى شفير الهزيمة التفت الى الكاردينال شوستر يسترشد فيه الى الخطوة القادمة، قال له الرجل الحكيم: “حان الوقت للاعتراف بخطاياك” ومما له مغزى ان طلب الاعتراف هذا جاء متأخرا، فقد كانت روما تعبر مفترق الطرق الى الهزيمة فالخراب.
ومن غير مبالغة فقد ادخل المتصارعون على السلطة العراق في ما يشبه سلسلة من افلام الرعب، الفساد مرعب. التفجيرات مرعبة. الاغتيالات بكواتم الصوت مرعبة. الاحتقان الطائفي مرعب. الشخصانية السياسية مرعبة. اعتداءات الجيران مرعبة. مظاهر التجييش المليشوي مرعبة. تدني الخدمات مرعب. البطالة مرعبة. اسعار المواد المعيشية مرعبة. الثراء الفاحش مرعب. الفقر الجماعي مرعب. حتى بدا للمراقب بان هناك صناعة رائجة للرعب يجري استعارة فنونها من هيتشكوك باكثر قدر من الاناقة الفنية والتشويق والدم البارد، وباكثر قدر من الانانية والوحشية وعدم المبالاة.
عندما نضع الملفات، المخاصم فيها، على الطاولة نستطيع ان نتعرف بسهولة، ومن الناحية النظرية، الى الحلول المطلوبة لتجنيب البلد المزيد من الانشقاق، لكن المشكلة ليست في تلك الملفات بل انها في النيات المبيتة، وقل في اجواء الثقة الملبدة بالغيوم والريب، وفي التخندق البغيض للاعبين الذين يديرون هذه الملفات، إذ تأخذ الاهواء والامتيازات الفئوية شكل مصالح الشعب، والمساومة فيها مساومة على سيادة الوطن، فيما هم، في الواقع، يغامرون بمصلحة وسيادة الشعب والوطن ويضعونهما على كف عفريت، لا احد يعرف الى اين ستؤول.
مفترق الطرق، منطقة توازن حساسة وخطيرة لا تتحمل الخطا أو العناد او المراهنة على الحظ. كل الاحتمالات واردة. في الاحوال العسكرية يناقش المخططون الاستراتيجيون خيار لا غالب ولا مغلوب، جنبا الى جنب مع اليات استيعاب النصر والهزيمة، وفي الصراع السياسي هوامش اكثر للتسويات، والحلول الوسط وحتى التراجع من طرف واحد إذا كان ذلك ينزع فتيل الانفجار.
العراق في مفترق طرق بين استئناف عملية التغيير وبناء دولة المواطنة والرخاء والامن وبين الارتداد الى غابة يتقدم فيها الطبل طوابير ابدية من النعوش.
*
 “ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت”.
 الحلاج




 

198

نـُصـْح السلطان..
في قديم الزمان

عبدالمنعم الاعسم


 * في كتاب اخبار الحكماء للقفطي نقرأ طائفة من وقائع انتصاح السلاطين من قبل اصحاب الراي والتحذير من هوس الامتداح والموالاة العمياء، ونجد ان للنصيحة اهميتها حين تكون شجاعة وبليغة ولا تخاف او تنخذل.
 الحكيم هرمس توجه نصيحة مكتوبة لاحد حكام زمانه، يقول فيها:
 "اول ما اوصيك به تقوى الله وايثار طاعته. ومَن توليه (تختاره للمناصب) في امور الناسفيجب عليه ان يكون ذاكرا ثلاثة أشياء: اولها ان يده (رحمته وعدله) تكون على قوم كثير، والثاني، ان الذين يده عليهم احرار لا عبيد، والثالث، ان سلطانه لا  يلبث(غير ابدي). واعلم ان الرعية تسكن(تؤيد) من احسن اليها، وتنفر ممن اساء، والسلطان برعيته (لاقيمة له من غيرها) فاذا نفروا منه كان سلطان نفسه (فقط). ويضيف:
 "أصلح آخرتك، تصلح لك دنياك، اكتم السر (لا تشهّر باحد) واستيقظ (تابع) في الامور، وجدّ في الطلب. وإذا هممت فافعلْ. وعليك بحفظ اهل الكيمياء العظمى وهم الفلاحون (الكادحون) فان الجند بهم يكثرون، وبيت الاموال تعمّر، واكرم اهل العلم وقدّمهم لئلا تجهل الرعية حقهم. ومن طلب العلم اكرمه ليصفو ذهنه" ويواصل الانتصاح بالقول:
 "من وجدته مظلوما فخذ بيده. تعهّد امر المحبوسين، في كل شهر تأمن سجن المظلوم. لا تعاجل صغار الذنوب بالعقوبة واجعل بينهم للاعتذار طريقا" ويقول في الختام:
 "شاور من علـِمته عاقلا تأمن خلل الانفراد.
 * وفي كتاب مقاتل الطالبيين خاطب الحكيم بشير الرحال المنصور العباسي بالقول:
 "ايها القائل بالامس إنْ ولـّينا (صرنا في الحكم) عدلنا وفعلنا وصنعنا، فقد وُليتَ، فاي عدل أظهرتْ؟ وأي جور أزلتْ؟ وأي مظلوم انصفتْ؟ آه ما اشبه الليلة بالبارحة. إن في صدري حرارة لا يطفيها برد برد عدل او حر سنان(سيوف)؟.     
 * وخطب المنصور نفسه في مناسبة من المناسبات، فقال:
 "منذ ان وليّيت عليكم رفع الله عنكم الطاعون.
فقام رجل حكيم في المجلي، وقال:
 لأن الله اكرم من ان يجمع علينا المنصور والطاعون.
*في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي جاء ان احد الخلفاء العادلين سأل رجلا عن شئ، فقال الاخير:
 "انت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم.
فغضب الخليفة، قائلا:
أني لم آمرك بان تزكيني".
*
"انا مناضل وطني، لا أحب السياسة لأنها نفاق"
وديع الصافي




199
المنبر الحر / السياسة والاخلاق
« في: 00:03 20/09/2011  »
 

السياسة والاخلاق

عبدالمنعم الاعسم

يعتبر الكثيرون إنَّ كتابَ المفكر الفرنسي ريمون بولان، رئيس جامعة السوربون السابق، مرجع مهم، وربما أساسي، لموضوع العلاقة بين السياسة والاخلاق، واسماه “الاخلاق والسياسة” وقد قلبناه بتقديم السياسة على الاخلاق ليس بدواعي شكلية بل ارتباطا بالحال العراقي إذ جررت السياسة الاخلاق الى التباسات وسلسلة من العثرات والطعون بحيث لم يعد ذكر الاخلاق والاخلاقية في محفل من المحافل العراقية يمر من غير مرارة وشفقة وأسفاً، والبعض يذهب الى نعي الاخلاق السياسية الى مثواها الاخير في ظل ما ينشر ويقال عن فساد الطبقة السياسية العراقية وغياب القواعد الاخلاقية للعبة الحكم، ويشار بذلك الى التعهدات والاتفاقات والوعود التي يجري الاعلان عنها وبعضها جرى التوقيع عليها.
وثمة البعض الآخر يعتقد وقد يعلن بأن الحاجة الى الاخلاق في ميدان السياسة أنتفت وبطلت، في الواقع، وأن السياسة علم مستقل بذاته أو منظومة من القواعد التي تنظم المصالح وتديرها، تلتقي أو تبتعد عن الاخلاق بحسب دائرة النشاط ولوازمه، وأن الاخلاق كقيم إنسانية مكانها جمهورية افلاطون، وللذين يتنصلون عن التعهدات وعناوين الاخلاق أسباب مبررة، ولهذا التنصل عمق في التأريخ وأصالة في النفس البشرية منذ أن تمرد أبليس على تعهد الركوع الى الانسان.
بولان يفتتح هذا الموضوع الشائك بسؤال تأسيسي يقول “هل الامر الجيد في مجال النظر، أمر جيد في مجال العمل؟” وهو سؤال يدخلنا فورا الى موضوعة النظرية والممارسة التي تدخل بدورها جوهر العلاقة بين الاخلاق كنظرية والسياسة كممارسة، لكن المفكر الفرنسي يحذرنا من البعض الذين يجعلون من أنفسهم خفراء للقيم الاخلاقية ووعاظ للقناعات النظرية أو مراجع لتقنيات التطبيق الاخلاقي في الميدان السياسي، كما يحذرنا من الاستطراد نحو ترويج فكرة حكومة التكنوقراط “اللاأخلاقية” وقال إنها تستند الى مغالطة برغم “أن التقنيين هم أفضل من يستطيع حل المشكلات المتصلة بتقنياتهم” إذ تحملنا على “نسيان أن السياسة، كالاخلاق، هي ممارسة وليست بتقنية”. 
وإذ تمتلئ خواطر السياسة بذم مفكر عصر النهضة الايطالي ميكافيلي الذي قلل من سطوة الاخلاق على السياسة بواسطة نظريته الشهيرة “الغاية تبرر الواسطة” فإن ريمون بولان قدم نظرة مخالفة الى دوره وفكره وتطبيقاته وأكد “أن أحدا لم يسعَ سعي ميكافيلي الى تحديد التقنيات السياسية بأكبر دقة ممكنة” والاخير كما هو معروف صاحب الرأي القائل بأن موضوع السياسة يتألف من الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها واستعمالها، وطبقا لما يقوله بولان، فأن ميكافيلي صاغ قواعد السلوك السياسي في ظروف محددة تماما “بل إنه قدم الوصفات الضرورية لهذا السلوك” ويلفت النظر الى مقولات (احكام) مهمة كان ميكافيلي قد أطلقها ولم تكن لتثير إهتمام الباحثين “الاخلاقيين” مثل قوله: “ كيف نبقى في بلاد نحتلها؟” أو “كيف نقيم حكومة حرة في دولة فاسدة” أو “الانبياء المسلحون غالبون والانبياء العزل مغلوبون”.
وفيما دخل العالم عصر التحرر فقد أنصرف البحث في العلاقة بين السياسة والاخلاق الى موضوعة العدالة التي تعد من لوازم الاخلاق، وبعدها في التطبيق السياسي. اما بولان فانه يطرح القضية من زاوية اكثر رحابة وتماسا بالتحولات في ميدان الوعي الانساني، فانه، كما يقول: “لا عدالة إلا بالانسان للانسان، ذلك ان العدالة هي، أولا، إبداع إنساني شأنها شأن سائر القيم، وهي ثانيا، لا يمكن أن تنطبق إلا على كائنات قادرة على أن ترغب في الحفاظ على وجودها الخاص”.
*
“يستطيع أي مواطن في أي بلد من بلداننا أن يدخل على أي مسؤول ويقول مايشاء لكن متى يخرج فهذه مسألة أخرى”.
الماغوط



200


اسباب سقوط الدولة الاموية؟

عبدالمنعم الاعسم

أسباب سقوط الدولة الاموية 
في مروج الذهب للمسعودي، سأل بعض شيوخ بني امية وكبارهم، عقيب زوال الملك عنهم الى بني العباس:
ــ ما كان سبب زوال ملككم ودولتكم؟
قال، كما اورد المسعودي في كتابه: “إنا شـُغلنا بملذاتنا عن تفقد ما كان يلزمنا”.. “فظلمنا رعيتنا، فيئسوا من إنصافنا وتمنّوا (الرعية) الراحة منا” ثم “ظلمنا اهل خراجنا (الدول والاقوام الخاضعة) فتخلّوا عنا، وخربت ضياعنا، وخلتْ بيوت اموالنا فسادا”.
 ثم “وثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم (مصالحهم) على منافعنا، وامضوا امورا دوننا واخفوا عـِلمها عنا” ثم “تأخر عطاء (اجور) جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستمالهم اعدادينا، فتظاهروا معهم على حربنا”ثم “كان استتار الاخبار عنا (جهلهم لما يجري بين الناس) من اوكد اسباب زوال ملكنا”.
ومن كتاب “بحار الانوار” لأمالي المفيد جاء ان الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان خطب في مكة يوما وكانت المظالم قد عمت البلاد “فوعظ الناس وأمرهم بتقوى الله..” فقام اليه رجل من الحضور، وقال:
“مهلا، مهلا.. انكم تأمرون ولاتأتمرون، وتنهـَون ولاتنتهون، افنقتدي بسيرتكم في انفسكم أم نطيع أمركم في السنتكم؟” واضاف “فان قلتم اقتدوا بسيرتنا، فاين، وكيف، وما الحجة، وما النصير (يوم القيامة) من الله في الاقتداء بسيرة الظلمة الذين اكلوا اموال الله دولا، وجعلوا عبادالله خولا (معوزين). وإن قلتم اطيعوا امرنا واقبلوا نصيحتنا، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته؟” وان قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلام قلدناكم (انتخبناكم) أزمّة (ممسكين) امورنا، وحكـّمناكم (جعلناكم حكاما) في دمائنا وأموالنا؟”.
ثم قال مذكّرا: “أما علمتم ان فينا من هو ابصر بفنون العظات، واعرَف بوجوه اللغات منكم؟”.
وختم الرجل كلامه، كما افاد المفيد، قائلا:
“فتحلحلوا عنها (عن الحكم) لهم (لمن هم افضل منكم) وإلا فاطلقوا عقالها (اهربوا) وخلوا سبيلها، يتدبر اليها الذين شرّدتموهم في البلاد، ونقلتموهم في كل واد”.
*
“دخل مالك بن دينار على حاكم البصرة للامويين، فقال له الحاكم: ادع الله لي، فقال ابن دينار: ما ينفعك دعائي لك وعلى بابك اكثر من مائتين يدعون عليك".
من مستطرف هادي العلوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

       


201


على مشارف الانهيار

عبدالمنعم الاعسم

اذا اصبح اللقاء بين فرقاء الازمة السياسية، مجرد اللقاء حتى على استكان شاي، متعذرا ويحتاج الى جهود لوجستية مضنية، والى جولة طويلة ومعقدة من تطييب الخواطر ونزع فتيل الشكاوى والعتاب وتقبيل اللحى فان السؤال هنا وارد، وله ما يبرره، عن مصير شعار الاصلاح بديلا عن قلب الطاولة، وعما تبقى من الكلام عن تصويب مسارات العملية السياسية، في وقت بدأت لغة التهديد هي اللغة المتداولة في الساحة وفي الكواليس، وعبر منافذ الاعلام.
ولو ان الامر بقي في اطار الجدل والتجاذب وجس النبض واختلاف وجهات النظر، وخذ وهات، لما دعا الى القلق او الشعور بالخيبة، او استبصار الهاوية المحدقة بالبلاد، لكن المؤشرات الوفيرة عن مسلسل الانشقاقات في المواقف داخل العملية السياسية والغلّ بين اطرافها، وكثرة التسريبات عن خصومات ومخاشنات واستعراض قوة وتجييش وانعكاس كل ذلك على الوضع الامني الذي يتردى يوما بعد آخر مع تصاعد النشاط المسلح لقوى الارهاب والجريمة والمليشيات والجماعات الخارجة على القانون، واعمال الاغتيال الاجرامية، ومع تزايد الاختراقات في منظومة الامن، وتصدع وتضارب وتردي الادارة الحكومية للملف الامني، والاتهامات الوفيرة بتورط رؤوس امنية وسياسية في تصفيات سياسية واعمال اغتيال.
والى عهد قريب كان يقال بان الحلقة الرئيسية التي ينبغي الانطلاق منها الى معافاة العملية السياسية، وانقاذ العراق من التدهور الى المجابهات المفتوحة، هي بناء حكومة الشراكة المتوازنة، وبناء سلطة قرار ديناميكية وفاعلة وتخفيف عيوب المحاصصة فيها وترشيد قوامها بالكفاءات والعناصر النزيهة، وقبل هذا حل مشكلة المقاعد الامنية الشاغرة، لكن، بدلا من تحشيد الجهود وتركيزها على تلك الحلقة الخطيرة تفنن البعض من اصحاب الازمة والسلطة في اثارة بؤر التوتر والصراع والاستفزاز والاستفراد، وانفسح المجال امام اللعب بالسلاح والجيوش الموازية والتأليب الطائفي المنهجي، مما يمكن وصفه بحافة الانهيار، في ادق تعبير موضوعي.
ومما له مغزى، في هذا الاستطراد، محاولات القوى الاقليمية تحريك بؤر التوتر الحدودية مع العراق التي هي الاخرى تفاقم من الصراع بين رؤوس الازمة، وتكشف، بدورها، عن اختلال المواقف “الوطنية” حيال قضية تمس السيادة، وهي سقطة اخرى تضيف نفسها الى جملة السقطات التي يتشكل منها التساؤل البليغ عما تبقى من شعارات ودعوات الاصلاح السياسي في العراق.
اقول ماذا تبقى غير نشارة الخشب؟.
*
 “الاحمق يضع اسئلته في جيب مثقوب”.
 احدهم



202

هادي المهدي..
القاتل معلوم هذه المرة

عبدالمنعم الاعسم

 سبقـَنا هادي المهدي، الصوت الشجاع، فارس الكلمة المقاتلة، الى مجد شهيد الاحتجاج العراقي، نحن الذين شاركناه التظاهرات والسخط وعدم الصمت حيال جريمة اختطاف البلد رهينة الى التسجيل العقاري في وضح النهار.
 وشاء، وقد سبقـَنا ايضا، ان يسمي القاتل باسمه الصريح قبل ساعات من اغتياله.
كان ذلك في وثيقة معلنة ومتداولة الآن بيد محامين ونشطاء ودعاة حقوق وعدالة، كان قد ابتدأها بالقول: اشهدوا انهم يعدون لاغتيالي باسمائهم المدونة ادناه.
ظهيرة الخميس الثامن من ايلول 2011. احفظوا هذا التاريخ، فاننا سنحتاج اليه ساعة يكون القاتل قد نزل من على ظهر بندقيته، يوما، وساعة ان نلتقي مع هادي المهدي في تلك الساحة التي يعمد فيها شهداء الكلمة والحرية الى محاسبة القتلة وماجوريهم.
كان هادي المهدي يعرف، وقد اعلن ذلك بالصوت والكلمة والصورة، بان رصاصة ما في الطريق اليه، وهي نفسها التي تتربص في المنعطفات لاغتيال اصوات الاحتجاج على تجار السياسة والتهريب والعقود المزورة وتصفية كلمة الحرية من على اي شفاه، وكان هادي يخيف اصحابها على مدار الساعة فرط دفاعه عن حق الملايين المهمشة والمقصية في ثروتها التي تنهب، وكان اسياد الفساد القابضون على البنادق والمنصات يشيدون كابوسهم من وحدات الخوف التي تنزرع في افئدة لصوص يخشون، دائما، الضوء الساطع.
سقط هادي المهدي على يد قاتل كان قد حدد ملامحه بدقة متناهية ورسم مسالك الطريق التي سيقطعها اليه، وعرف اين يقيم، وكم من الحراس والوكلاء والمأجورين من حواليه، وما يحمله من القاب وفيرة، وحين شهق هادي باخر هتافاته وهو ينزف فقد وزع على كل واحد منا، نحن الذين شاركناه الاحتجاج، حصته من المسؤولية ان لا تموت قضيته النبيلة، وان لا تأخذ ضمائرنا قيلولة نصف النهار، وان نحتسب كثيرا، فان القاتل نفسه يتربص بكاتم الصوت بضحية آخر، ولن يرحم احدا منا.
لقد حقق القتلة نصرا كبيرا في إزاحة هادي المهدي عن طريقهم، قبل ان يصبح، وسيصبح، هذا النصر حفنة رمل وعار حين نسد الطريق على رصاصهم الغادر من ان ينال الاصوات الاخرى التي اختارت طريق التصدي لمشروع الردة وجيوبه المسلحة.
ويا هاويتهم، كم هي واسعة.
*
"من يعيش في خوف من الحرية لن يكون حرا".
هوراس
 

203
ماذا تبقى من حكم الشراكة؟

عبدالمنعم الاعسم

اذا كانت الشراكة في الحكم تعني شيئا آخر غير صناعة القرار المصيري بالتشاور والاجماع، وانه لا قرار مصيريا من غير اجماع المشاركين، ولا استفراد بالمواقف من غير رؤيا جمعية وترخيص، فانها شيء آخر لا علاقة له بمبدأ الشراكة المعروف، في النظرية والتطبيق، ولا علاقة له حتى باي تعريف للائتلاف السياسي المحدود، والجزئي، والعارض، حين يتشكل حيال قضية عابرة، قد ينتهي الائتلاف بانتهائها.
والحق ان علم السياسة لايملك تعريفا لهذا الشكل الذي يدار به الحكم في العراق، الآن، إذ يتكون من كيانات ومكونات ويقوم على قاعدة كل جهة، بما فيها كابينة الحكومة، تتصرف على وفق ما تراه وما ينفعها، وما يتطابق مع تصوراتها، وما يخدم تحالفاتها ومكوناتها وعلاقاتها الخارجية، او على وفق المثل الشعبي البليغ: “كلمن إله”.
ومن حق كابينة الحكومة ان تحتج او تشكو حيال مسلكيات سياسية لفرقاء المشاركة حين يضعون رجلا تحت الكابينة ورجلا اخرى خارجها، واحدة مع الموالاة واخرى مع المعارضة، ولها الحق ان تمنع وجود كابينات موازية وجيوش مستقلة وانشطة غير مرخص لها وغير مسجلة في موجبات الشراكة بالحكم، ومن حقها ان تذكر الجميع باستحقاقات الشراكة، ولوازم العمل كشركاء، وضرورات تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وهي استطرادات لها ظلال على الارض وتمارس هنا وهناك.
اقول، من حق الحكومة ان لاترضى حيال بعض مواقف المشاركين في كابينتها، لكن ماذا حين تمارس رئاسة الحكومة نفسها مثل تلك المواقف بعيدا عن التشاور واستمزاج الاراء وفروض الشراكة بالحكم؟ هذا سؤال يطرحه اي محلل موضوعي، انطلاقا من البحث عما يرسي خيار الشراكة على قاعدة راسخة، لا تتفلش بيد اصحابها.
بل وماذا تبقى للحكومة من اسباب الاحتجاج والتصويب على التجاوزات ضد التزامات الشراكة حين تلجأ نفسها الى قاعدة “كلمن إله” عبر قرارات واجراءات على الارض، وبواسطة تعيينات، واستفرادات، لم تكن لتحظى باجماع المشاركين في الحكومة، وربما لم تكن لتناقش من قبلهم، وبعضها موجه، احيانا، للاضرار ببعضهم؟.
باختصار شديد، بعض اعتراضات كابينة الحكومة على مواقف الشركاء وتمددهم خارج فروض الشراكة، سليم وصحيح ولها ما يبررها، وبعض تحفظات الشركاء على قرارات منفردة تتخذها كابينة الحكومة، تخص مصائر البلد وحقوق المكونات من غير توافق ومناقشة وترخيص، هي الاخرى سليمة ومبررة وتستمد وجاهتها مما جرى الاتفاق عليه ومدوّن في اكثر من وثيقة واتفاق.
كل هذا صحيح، لكن القول بان هذه هي قواعد حكومة الشراكة، هو الشيء غير الصحيح الذي يبقى غير صحيح حتى يثبت العكس.
*
“ستتعلم الكثير من دروس الحياة أذا لاحظت ان رجال اطفاء الحرائق لايكافحون النار بالنار”.
    شكسبير
ــــــــــــــــــ

       



204

سقوط صدام- القذافي والمقارنات المحرمة

عبدالمنعم الاعسم

في اكثر من محاورة سياسية على الفضاء حول خلفيات الحدث الليبي او تقرير تحليلي عن شخصية حاكم ليبيا المطلق يتجنب المتحاورون والمحللون التشبيه او المقارنة بين صدام حسين والقذافي، واستطرادا بين الدكتاتورية العراقية البائدة ودكتاتوريات المنطقة، واحيانا يسربون خواطر مضللة عن الفرق والتشابه بين الحالتين العراقية والليبية بالقول ان عملية التغيير في العراق جرت على يد القوات الاجنبية فيما العملية الليبية، كما يقولون لتعزيز هذا التضليل، تجري على يد الليبيين، فيما هي، كما يعرف الجميع، نصف الحقيقة، اما نصفها الثاني فيتمثل بالدور الاطلسي وتتم مخاضة التغيير اطلسيا مثلما كانت مخاضة التغيير في العراق امريكية.
الفكرة بحاجة الى مزيد من التوقف والتدقيق، ولابأس من تكرار البديهيات هنا لعلاقتها بجوهر ما وما يحدث، وفي مقدمة تلك البديهيات (اولا) ان الاطلسي في الحالة الليبية والامريكي في الحالة العراقية لم يختلقا الحركة الشعبية الساخطة (المعارضة المحلية) لكل من حكم القذافي وصدام حسين، ربما بالعكس، فالغرب وقف مع النظامين في ذروة وحشيتهما وسكت دهورا عن وحشيتهما وحروبهما الداخلية وعقد معهما سلسلة من الصفقات التي عضدتهما في مواجهة شعبهما.
البديهية الثانية، هي ان التدخل الخارجي في العراق وليبيا لم يتم بترخيص من المعارضة ولم تكن الجيوش الغربية الغازية بامرة المنشقين من جنرالات العراق وليبيا، ولم يكن امام حركات المعارضة والشعب المقموع في العراق وليبيا من خيار كثير حين يندلع الصراع العسكري بين النظام المثقل بالجرائم وقوى اجنبية، ولا مفر من هنا، موضوعيا وتاريخيا، من قيام الجماعات المحلية المعارضة (وسجناء محررون) من الامساك بالاوضاع على الارض، بقدر ما تتمكن إذ فرّ النظام وتخاذل امام التدخل الخارجي واستسلم مهانا للمتدخلين، ولا حاجة هنا للكثير من الجدل عما هو معروف من اهداف الغرب (الخاصة) وخلفيات مبادرته العسكرية  لاطاحة حكمي صدام والقذافي.
البديهية الثالثة، تتمثل في ان كلا من صدام والقذافي تشبثا بالسلطة بمواجهة الدعوات السلمية للتغيير والاصلاح للحركات الشعبية وواجهاها بالحديد والنار والسجون والاذلال، وبهذا فقد دفعا الصراع مع الشعب الى تسهيل التدخل الخارجي وتبريره، بل انهما استعجلا هذا التدخل وسعيا اليه على وهم من انه سيعبئ الداخل ويحرج المعارضين ويخوّنهم امام الرأي العام وقد يساعد في تحسين المعادلات الاقليمية لتكون في صالحهم، وفي ميدان قاتلا حتى آخر حجر في البلاد تمكنا من تهديمه وآخر خرقة من النياشين على اكتاف ضباط الحلقة المقربة ولاذا بالفرار من جحر الى جحر مع بضعة مليارات من الدولارات وعدد من الحراس المطلوبين.
والبديهية الرابعة، في حرب التدخل في العراق وليبيا تظهر جلية في الجملة الخطابية التي خاض صدام حسين والقذافي بها الحرب وهي كومة من الشعارات البالية عن الاقتدار وقرب الانتصار، والمعركة القومية، مع إبقاء باب الصفقات مفتوحة مع المتدخلين، وليس بدون معنى ان يطلب صدام حسين في لحظة القبض عليه الاتصال بالمسؤولين الامريكان لغرض “حل المشكلة” فيما دعا القذافي بعد يومين من سقوط طرابلس دول الاطلسي بـ”حل تفاوضي للمشكلة”.
اما البديهية الخامسة فانها تتعلق بما تبقى من شراذم الكلام  المعسول عن “المؤامرة” التي تتعرض لها المنطقة في محاولة لاعفاء الدكتاتوريات الفاجرة من الكوارث التي حلت بالمنطقة.
*
 “ حتى الفئران تعظ القطط الميتة”.
            مثل ألماني


 


205
المنبر الحر / لصوص شرفاء.. جدا
« في: 22:23 03/09/2011  »

لصوص شرفاء.. جدا

عبدالمنعم الاعسم

ما يشبه البشرى، او الفضيحة، لايهم، انْ نسمع بان حكماء “طيبين” هنا وهناك يدعون الى الرافة باللصوص الذين سطوا على قوت الشعب، لاعتبارهم ضحايا، او اسوياء في دواخلهم، او متورطين عن غفلة، او من “ابناء اصول” او انهم (انتباه) يوزعون ما سرقوا، او بعضه، على فقراء او دور خدمة عامة ومنظمات مجتمع مدني وانشطة موصوفة بباب “لوجه الله تعالى” توبة له او تكفيرا عن جنايتهم.
انهم يذكروننا بالشخصية الخيالية من القرون الوسطى “روبن هود” الذي كان يعيش في غابة شيروود بانكلترا، ويغير منها على ضيعات الاثرياء لينهب منها الاموال لمساعدة المعوزين والجياع، وصارت موضوعا  رومانسيا في دواوين الشعر وفي صالات السينما والمسرح وقاعات الاوبرا، كما يذكروننا باللص الظريف ارسين لوبين الذي اخترعه الكاتب الفرنسي موريس لبلان وصار مثار اعجاب المراهقين بالنظر لشجاعته وروح الفروسية والشفقة والوفاء التي تحلى بها على الرغم من شغفه بالسرقة وفنونها، الامر الذي لا وجود له إلا في الخيال والفرضيات، وفي الدعوات المغشوشة للنظر بعين العطف الى الحرامية.
حقا، ثمة لصوص، يقول علماء النفس، يرتكبون اعمال السرقة استمتاعا بها، او ترضية لانحراف في السايكولوجيا دون الاهتمام بعائدها (راسكولينوف بطل رواية دستويفسكي- الجريمة والعقاب) ويسمون هذا المنحرف “داء السرقة” والبعض من اولئك اللصوص يلقون ما يسرقون، مهما كانت ثمينة، في اول منعطف على قارعة الطريق، ويدخل في اطار هذه المجموعة “الشريحة” من اللصوص اولئك الذين يسطون على جهود غيرهم، اعمالا ومؤلفات، ويضعون اسماءهم عليها، وقد سـُجلت بالنسبة للقوانين الدولية في خانة الجرائم تحت الملاحقة والقصاص.
يريد اصحاب الرأفة باللصوص الذين لطشوا الملايين من اموال الشعب وثروته ووزعوا منها فتات لاغراض الدعاية والوجاهة والزعامة، ان نكون متسامحين معهم وان نصدق انهم تابوا “توبة نصوح” ولن يعودوا الى السرقة، ويخفوا علينا حقائق مخيفة عن ترخيص وتشجيع وتغطية كان قد نالها اللصوص المطلوب إعفاؤهم من هؤلاء الحكماء واتباعهم ووكلائهم في صفقة تقاسم المنهوبات، ويتحدث مواطنون قريبون من دائرة الاسرار عن شواهد تـُرى بالعين المجردة لاملاك وفضائيات وبنوك ومتاجر وفيض نـِعم محسوبة، شرعا، بالسحت الحرام، ومسجلة لمالكين او لبطانة او لشركاء يعيشون بين ظهرانينا.
المشكلة ان حكماء الرأفة لايكتفون بالدعوة الى مسامحة اللصوص والسراق والنهابين والمزورين، بل انهم يريدون مكافأة هؤلاء باعتبارهم ضحايا للتشهير.. تصفيق.
*
“لا احد يسبقك إذا كنت تمشي وحدك".
   حكمة اثيوبية



 


206

فرزات..
انهم قطع غيار

عبدالمنعم الاعسم

سيدي، ايها الموزع بيننا هذا اليوم، خبرا قصيرا عن قطيع من الهمج اغار عليك، وأدمى اصابعك، ووجنتيك، والقى بك على قارعة طريق موحش بعد ان اعطاك درسا في لزوم البيعة للسلطان، الجلاد، حيث تتسلق الاعشاب الميتة على نوافذه، وتتكسر من حواليه قطع الغيار الصدئة للاعوان والقتلة.
 ايها المسجى على سرير بعرض الشاشة الملونة التي لا تكذب، وعلى امتداد مواكب الاحتجاج التي لا تقهر، انك اطلقت رسومك وهم اطلقوا الرصاص، وفي المسافة بين الرسم والرصاصة ينشق عمود الضياء المُبهر، اشارة الى طريق النصر، وكنت ماهرا في توليف تلك الحكاية الابدية.
 انها محاولة اغتيال تضم نفسها الى سلسلة طويلة من اعمال الاغتيال المسلكية منذ ان كمن قابيل في منعطف طريق للايقاع باخيه هابيل ويشج راسه بصخرة ويصرعه، وذلك قبل ثلاثة وتسعين الف سنة، حتى اغتيال آخر متظاهر مسالم في شوارع دير الزور، وجميعها تنطلق من رغبة في استئصال الخصم.   
 ما اصابك هذا اليوم يعـْبر بالسلطة من حاضرة وادارة ومشيئات الى رجال ملثمين، وهنا، ابخست ثمنها الى احط منسوب إذ تقتص من معارضيها في الشوارع، وتهرب. 
 عرفناك، سيدي، منذ زمن بعيد، حين خالفتَ انحطاط انصار الدكتاتورية الفاجرة في العراق وصوّرت الطاغية بما يليق من الاحتقار، واعطيتنا بلاسم من تخطيطاتك المبدعة، فيما هرع الكثير من كتاب وفناني ونافخي ابواق المرحلة الى الخدمة في ماكنة التهريج والحرب والقتل.
 نتذكر، موقفك النبيل من حق العراقيين بالخلاص من العلبة الخانقة لحكم الفرد الطاغية، وكنتَ تعلـّم غيرك بان الموقف من الحرية ليس سلعة معروضة للنقاش، ففي كل التفاتة من خطوط رسومك الساخرة تسكن صيحة احتجاج ضد المهانة والاستبداد وحكم العشيرة والقبضة الامنية.
 في رسومك الساخرة يتوالد الخطر عليهم. هذه هي القضية، ذلك لأن العاصفة اقامت في رسومك، ووجدت مكانها في سيمفونية الهتافات الشبابية التي لا تخاف.
 احسب انك، اليوم، ولدت مرة اخرى، صدّقني، فقد اعطيت كلمة السر لنا: لا غد اكيد للجناة الذين يأذنون بالقتل وكم الافواه وتجريف حدائق الافكار. اما المستقبل فهو لاولئك الشجعان الذين لا ينحنون امام الجلاد.
 قفْ سيدي على قدميك، وانهض من سرسرك، وغادر شاشتك الملونة  الى رسومك وعصافيرك ولعبتك البارعة في ترويض الجلادين. ضعهم في البالوعات، واعط امهات المحتجين شهادة اضافية لتضميد جراحات ابنائهم.
*
"كل الازهار شريفة حيث تـُترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمراء التي يضعها الجنرالات ما بين وسام ونجمة".
محمود درويش


207
السياسات التركية تحت المجهر

عبدالمنعم الاعسم

لو وضعنا سياسات الحكومة التركية حيال مشكلة الاقلية الكردية وقضية فلسطين والصراع في سوريا والمجاعة في الصومال والعلاقة مع حلف شمال الاطلسي والكتلة الاسلامية وشؤون الارهاب وافغانستان والسودان في جهاز تحليل موضوعي لحصلنا على خارطة عجيبة من المبادئ والمواقف المتضاربة التي لانعثر على مكان لها في علم السياسة ولا في قواعد العلاقات الدولية، وهو السبب الذي حير المراقبين وجعلهم لايثقون في ما تدعيه انقرة من التزامات على الصعيدين الاقليمي والدولي، وصاروا يتوقعون على الدوام سيناريوهات تركية غير مسبوقة او متوقعة وغير مفهومة على الرغم من النعومة المفرطة التي تقدم بها سياساتها بوصفها سياسات اخلاقية، او اسلامية، او انسانية، او توفيقية.
على المدى القصير، ومن زاوية المنافع الذاتية العاجلة، نالت تركيا، من خلال هذه السياسات غير المنتظمة في سياق واحد، مكاسب غير قليلة، وتمكنت من اختطاف وسام اللاعب الاقليمي الاكثر اهمية في صناعة الصفقات والترتيبات الامنية في منطقة تشهد تحولات واضطرابات خطيرة، وبدا للكثير من المعلقين ان تركيا تعد نفسها لدور اكبر من هذا الذي تلعبه حين يجري إطفاء الزخم الايراني وتحجيمه بعد احتواء سوريا، فيما تسلط تقارير دولية الضوء على انتعاش مضطرد لمفاصل الدورة الاقتصادية التركية وتشير الى اختراقات استثمارية تركية في افريقيا ودول الشرق “الاسلامي” الاسيوية، والى افضليات تجارية، على هيئة مكرمات، صارت تحظى بها من الاتحاد الاوربي وامريكا، الى حد ما.
   مشكلة تركيا انها تقوم بدورين مزدوجين، في وقت واحد، غير منتضمين في منظومة سياسات بعيدة المدى، احدهما لاطفاء التوترات هنا وهناك، وثانيهما لاشعالها في اكثر من مكان، وعلى حدودها. الاول، لجهة احترام حقوق الانسان بالحرية والعيش الآمن والنظام السياسي الذي يرتأيه، والثاني، يتمثل في التنكر لحقوق الانسان ومنعه من نيل الحقوق الثابتة، والتعدي على سيادات الدول. مرة باعتبار تركيا داعية للديمقراطية، ومرة باعتبارها داعية للوصاية، وفي كل الاحوال، فان مثل هذه السياسات جـُرّبت من قبل الكثير من الدول قبل ان تدفع ثمنها غاليا، وبخاصة تلك الدول التي هربت من استحقاقات الداخل الى معارك خارجية استعراضية.
 العصر الحديث شهد الكثير من الظاهرات والاحوال والاقدار التي تقدمت فيها دول الى مسرح الاحداث وتبوأت مواقع مهمة في ترتيبات الحرب والسلام، لكنها سرعان ما انكفأت الى الوراء، وبعضها اختفى من الخارطة، بسبب سوء التحسب للعيوب التي تنخر وحدتها الداخلية، وسوء الحساب لنتائج سياسات المتاجرة بالمبادئ.
*
“إذا بلغك أن غنياً افتقر فصدق، وإذ بلغك أن فقيراً استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حياً مات، فصدق وإذا بلغك أن أحمقا استفاد عقلاً فلا تصدق”
      ابو اسحاق




 

208
المنبر الحر / عجيب امر الطغاة
« في: 12:28 23/08/2011  »


عجيب امر الطغاة

عبدالمنعم الاعسم

لم يبق للقذافي سوى حشرجة اخيرة يشد بها نهاية حكم الكابوس المرعب، لأربعين سنة، بمصير لا مفر منه. في تلك اللحظات اعلن مزهوا ان النصر قريب، تلك اللعبة الملهاة التي زاولها جميع طغاة الارض: منتصرون حتى وإن هزمنا.
صوت القذافي وهو يتحدث عن الانتصار فيما هو يقف على حافة النهاية يتقلص الى مساحة ضيقة من الفضاء الواسع هي ما تبقى له من فرص مستحيلة لالغاء حركة الزمن نحو الهزيمة المنكرة.
عجيب امر الطغاة. كلهم من فصيلة دم واحدة. يقتلون بدم بارد ويتحدثون، حين يداهمهم القصاص، بزعيق حار. صدام حسين حرص ان يظهر بملابس الاستشارية قبل ساعات من سقوط بغداد وهو يعلن في خطاب مهزوم عن قرب الانتصار، وقد انتفخ حتى صدق نفسه وهو يسمع هتاف انصاره اليائس "بالروح  بالدم".
مثل سلسلة نار طويلة يمسك الطغاة ايادي بعضهم وهم يمضون الى حتفهم. نهاية الطغاة مثل نهاية الارقام القياسية لابد ان تكسر يوما. وجوه مستديرة على هيئة فجوة من الديدان والاكاذيب حشروا فيها الشعوب المغلوبة على امرها، والقوا باصحاب الرأي وراء القضبان.
يتبادل الطغاة مفردات اللغة فيما بينهم ويستعيرونها من اموات سبقوهم. يتفننون في شحنها بالروايات والاساطير ومزاعم الاقتدار، ثم يخلعونها بسرعة حين تكف عن الفائدة وتفقد المستمعين مثلما يخلعون احذية ضاقت عليهم، ولايهمهم ان الناس تتذكر، وانها تعود الى الذاكرة في كل حين، فان الذاكرة بالنسبة للطغاة رهن مشيئتهم، او انها اكياس قمامة يعبئونها بالفضلات دائما.
القذافي، كان امينا لاسلافه الطغاة. يستطيع ان يواجه العالم كله بصلافة المهزوم الذي لاينهزم. لايحسب الحساب لشهود العيان. تلك هي الصفاقة حيث القوا بها في نار جهنم فصرخت اني اشعر بالبرد. صلافة الطغاة محسوبة بكومة التلفيقات التي حشدتها في المسافة بينها وبين الحقيقة. المكان الآمن الوحيد لهم هو فن التنكيل بالجموع. يقتلون ثم يذرفون الدموع على ضحاياهم.
لايهم الى اين يهرب الطاغية في ساعة القصاص، هنا، يختلف الطغاة. منهم من قتل نفسه بيديه، ومَن دس نفسه في حفرة، ومَن هرب الى خارج الحدود، ومَن تنكر في ثياب رعيان، وكلها مصائر لاتجلب الشفقة بل الاحتقار. اما الاعوان فانهم يقبلون النهاية وكأنهم اعدوا أنفسهم لها، ولم تفاجئهم. الكثيرون يستسلمون، ويعلنون براءتهم مما حل للشعب، وبعضهم يعلن انه كان مضطرا بالقوة والخوف، الى المشاركة باحتفالات التنكيل بالضحايا. بعض ابناء الطغاة يقاتلون، وبعضهم الآخر يبحثون عن ملاذ من العقاب.
القذافي اعطانا عناصر حية لرواية جديدة عن النهاية المخزية لاولئك الذين يصادرون حرية الآخرين ويظنون بان القصاص اعمى الى الابد.
انه الآن بين ايدينا.
*
"لون الدم ليس دائما احمر.. احيانا لا لون له".
        ناظم حكمت



209
المنبر الحر / مَن يكتب التاريخ؟
« في: 10:48 21/08/2011  »

مَن يكتب التاريخ؟

عبدالمنعم الاعسم

لا السلطة ولا الايديولوجية يكتبان تاريخا صحيحا. انهما يكتبان اساطير وبطولات وحقائق عليلة. اما الحقائق السليمة، غير المغشوشة، فهي صنعة اولئك المغضوب عليهم، المجلودة ظهورهم، من الشهود والرواة والعلماء والشهداء، الفارّين من الطوائف والعصبيات والولاءات، الذين اشتغلوا على كيمياء الاحداث وسجلوا الوقائع من دون ان ينظروا خوفا الى نوافذ الحاكم، او ينتظروا “عفارم” زبانيته، بل انهم اصحاب فكرة مزبلة التاريخ حين دحرجوا الطغاة وانظمة الاستبداد والمزورين واعداء الحرية الى نهاية تليق بهم.
غاليلو والكندي واسحاق نيوتن وليوناردو دافنشي وفيكتور هيجو والحلاج، وغيرهم كثيرون قلبوا سياق الكتابة عن التاريخ فلم يرووا لنا اساطير منفوخٌ في ملامحها ولا مكائد القصور ومؤامرات الخلفاء والاباطرة، ولم يكن ليعنيهم مرضاة صاحب النعمة، ومجد اولئك انهم علموا الكتبة من اية زاوية يقرأون الاحداث والوقائع وفي اي مكان يضعونها، لنتذكر المشكلة التاريخية التالية: عندما احترقت روما (هكذا كتب المؤرخون) كان نيرون يعزف، متسليا، بقيثارته، ودخلت هذه المفارقة ( وقل القيثارة) في كراسات المدارس وكتب التاريخ، ثم اكتشف بعد ذلك ان القيثارة لم تكن قد اختُرعت آنذاك في عصر نيرون، ثم، وهذا المهم، لم يعتذر احد من الذين دسوا هذه الكذبة في كتب التاريخ، او في ذاكرتنا.
وهناك الان شكوك في سلامة ومصداقية المدونات التي ارخت الثورات، من ثورة سبارتوكوس وثورة الزنج وثورة اكتوبر حتى الثورة العلمية التكنولوجية، وثمة نصف تلك الشكوك( كما يقول الروائي الامريكي المصلح هيرثورن) يمكن ان يكون صحيحا، ولو عدنا الى رواية “وداعا يا غولساري” لجنكيز ايتماتوف، والى رواية “السيد الرئيس” لاوسترياس سنجد اننا لم نلتقط كفاية تلك الحقائق العميقة في ما بين السطور، يكفي ان نتذكر ان ايتماتوف كان يسأل ثائرا عما دفعه الى الثورة فكان الاخير يجيب “ لا اتذكر” ولكن ايتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقا في كفاحه من اجل الحرية الى ابعد الحدود.
القضية برمتها بسيطة، فان ما يعتبر حقيقة في جانب من جبال البرانس( كما يقول باسكال) يعتبر لا حقيقي في الجانب الآخر، وقد اخطأنا كثيرا (في العراق) في تدوين يوميات ثورة العشرين، بل واخطأنا قراءة انتباهات علي الوردي في ما حول الثورة، واخذتنا العزة بالاثم ونحن نستعرض هوسات عشائر الفرات والفلاحين الطيبين، فيما تقبلت الشعوب الاخرى الحقائق “المرة” التي اخفاها المؤرخون لكسب رضا الحكام، ويُزعم ان نيوتن اكتشف قانون الجاذبية الارضية لما لاحظ تفاحة تسقط من الشجرة، لكن الوثائق العلمية لأكاديمية العلوم البريطانية تبطل رواية التفاحة وتؤكد انه تم التوصل الى صياغة قانون الجاذبية بعد نيوتن بسنوات، لكن ليس من دون جهوده الرائدة والتأسيسية.
ان العلوم الحديثة تحذرنا مما يقال على انها حقائق تاريخية، يكفي هنا ان يشار الى قصة النعامة التي ترسخت في ذاكرتنا على انها تتقي الخطر عن طريق دس رأسها في الرمال، ثم يخبرنا العلم ان هذه الرواية لا ثبت لها ولم يشاهد احد نعامة تزاول هذه الحركة الملفقة، ويمكن ان نضيف الى حكاية النعامة الزائفة حكاية اخرى(اكثر زيفا) تتصل بدموع التماسيح، إذ نكتشف ان التماسيح لا تذرف الدموع لسبب بسيط هو انها لا تملك غددا دمعية.
*
 “إذا كنت لا تستطيع الابتسامة فلا تفتح دكانا “
 حكمة




210
المنبر الحر / اسئلة امنية.. ساذجة
« في: 18:46 19/08/2011  »

اسئلة امنية..
ساذجة

عبدالمنعم الاعسم

اولا، ماقيمة الاستنكارات والادانات التي تفيض علينا بالاسى ومطولات التعاطف والرثاء بالنسبة للضحايا وعائلاتهم؟.
وماذا ينفع القول الآن بان ازمة الحكم والحكومة وعدم إملاء المقاعد الامنية وراء التفجيرات الارهابية؟.
وهل حقا ان الخلافات السياسية المستعصية واجواء انعدام الثقة بين المختلفين فتحت ثغرة في المنظومة الامنية؟.
وما الفائدة من “قوانة” الدعوات المتكررة دائما ومن جميع المسؤولين بوجوب اعادة النظر بالخطط الامنية واستراتيجيات مكافحة الارهاب؟.
ولماذا، وبعد كل هزة امنية، تتسارع كل “فئة” الى تبرئة النفس وتحميل شريكتها وغريمتها وحليفتها، بالغمز والصراحة، مسؤولية الفراغ الامني؟.
والى متى تستمر سياسة توظيف الفواجع الامنية ودماء الناس في المماحكات السياسية، وهوس تسجيل النقاط، بين اطراف الازمة؟.
ومن هي الجهات التي تتولى تنفيذ هذه الجرائم المروعة، ومن يشجعها ويدعمها من داخل الحدود وخارجها؟.
وما هو لغز وحقيقة وسر الاختراقات والتواطؤات والجيوب والوكالات والمليشيات والولاءات والاندساسات في الجهاز الامني؟.
وما تفسير الاتهامات الجاهزة ضد جهة معينة، بعد دقائق من التفجيرات حتى قبل التحقيق وتجفيف برك الدماء وتشييع الضحايا؟.
وما سر الكشف والاعلان، بعد كل مذبحة ارهابية، عن الفاعلين او المتورطين او المخططين بعد يوم او يومين من الحادث، وليس قبله؟.
وما نفع تشكيل لجان تحقيقية في “ملابسات الحادث” أو احالة مسؤولين امنيين الى التحقيق، في حين لم تـُعلن نتائج التحقيقات السابقة، او طـُعن بالنتائج التي اعلنتها، كما حدث في هروب القيادات الارهابية من السجون؟.
وهل لا تزال اجهزة الكشف عن المواد التفجيرية المحمولة (السونار) المنتشرة في كل منعطف وشارع وساحة ودربونة، حتى الآن، صالحة للاستعمال، وقادرة على الرصد والتعيين والخدمة؟.
وهل ثمة علاقة بين تصاعد وتيرة الهجمات الارهابية وقرب انسحاب القوات الامريكية من العراق؟ وما شكل وخلفيات وجدليات وحقائق هذه العلاقة؟.
وما هي مسؤولية، ومصلحة، ودور دول الجوار في تسهيل عبور الارهابيين والاسلحة والمعدات والفضلات الى العراق؟.
وما فائدة ان نطلق هذه الاسئلة، ولا من يسمع، ولا من يجيب؟.
*
"ليس للاكاذيب أرجل لكن للحقائق اجنحة".
مثل صيني


 

211


ماذا اكتب عن الكرد الفيلية؟

عبدالمنعم الاعسم

رسالة الصديق الكاتب رياض فيلي برجاء الكتابة عن قضية الكرد الفيلية امامي منذ اكثر من شهر، اعود لها بين الحين والآخر فاشعر بالذنب ان لايتوفر لدي الوقت لتبرير ثقة الكاتب بي، اخذا بالاعتبار بان المطلوب المساهمة ببحث يتوزع على خمسة عشر محورا يبدأ بتاريخهم وحضارتهم وشواهد المدن التي عاشوا فيها واصولهم وعاداتهم ومكانتهم في الحياة السياسية وبصماتهم في الكتب والمدونات والنصوص وكتبهم ومبدعيهم ومعاناتهم والمظالم التي لحقت بهم واحوالهم في بلاد المهجر، وما الذي حل بهم بعد سقوط الدكتاتورية الفاجرة التي نفذت خطة منهجية لاستئصالهم من منازلهم واعمالهم وبلادهم وارسلت الكثير من شبيبتهم احياء الى قبور جماعية.
وإذ جاءت هذه الرسالة في زحمة التزامات قاهرة، وعوارض صحية، وسفر، فاني لا اشعر باي نوع من الفضل على الكرد الفيليين حين اقول باني كتبت الكثير عن قضيتهم التي اعدها من القضايا النبيلة ذات الصلة بشريحة عراقية كردية التصقت بالعراق وضحّت من اجله ووضعته في جوانحها ومحبتها واعتزازها، على الرغم من الضيم الذي لحقها منه بصفة السلطة والطغمة الحاكمة واجهزتها الشوفينية، لكنها كانت تميز بين الصفة والموصوف، فتكره المتوطن وتحب الوطن.
اقول، لا فضل لي على الكرد الفيليين، ولا اشعر بدين لي عليهم، بل هم اصحاب الفضل عليّ، وانا المدين لهم، إذ عشت في احد احيائهم عهدا ما، ونلت محبتهم وحمايتهم حين كانت تتهددني فضلات السلطة الغاشمة، ودخلت منازلهم واكلت من اوانيهم وتنانيرهم، وياما جلست على موائدهم، وشاركتهم افراحهم ومصائبهم، وشاركوني صبواتي ومعاركي، وعقدت مع الكثيرين منهم صداقات ابدية، الفضل في استمرار تلك الصداقات لهم، فالفيليون اوفياء لاصدقائهم وابناء احيائهم، يـُنتخون فيجيرون، وقد يضعون صدورهم بينك وبين الرصاص حين يعرفون صدق الاصرة التي تجمعك بهم.
بين الكرد الفيلية شركاء لي في رحلة الصحافة والحياة. اسماء باسقة، نزيهة، ونبيلة، اعرف الكثير من مآثرها ومواقفها، واحسب اني لا افارقها، حتى الآن، مهما شمرت بنا الاحداث ودورات الفلك ورمت بنا في القارات والدول المتباعدة، وثمة الكثير من ابناء هذه الشريحة اعرفهم ويعرفونني من غير ان التقيهم في المكان والمناسبة، ولطالما افاجأ بعائلات ورجال وسيدات وشبان منهم يعرفونني جيدا، وكأني واحد منهم، وفي مرات عديدة استرشد مع بعضهم الى ذكريات بعيدة فاسألهم عن اصدقاء لي يمتون لهم بصلة وإذا بهم توفوا منذ زمن، او قضوا في احداث أو وراء القضبان، فاحزن لمصائرهم، واسجل في حافظتي اسماءهم او كناياتهم، او تلك الحكايات والطرف التي عرفوا بها.
في الاحياء التي جمعتنا، كان الفتيان الفيلية شجعانا، حين كانت الشجاعة الشعبية تمثل الفروسية وكف الاعتداء والاستهزاء بالاخطار، واعرف انهم، بعد رحيل صدام لم يلحقوا الاذى بالعائلات التي احتلت منازلهم بعد إجلائهم عنها عنوة غداة حملة الاستئصال، ولا يزالون ينتظرون من حكومة العهد الجديد لفتة تسوية عادلة وقانونية للمظالم التي لحقتهم، فيما الحكومة تتعامل معهم، حتى الان، باذن من طين وإذن من عجين.
*
 “الساكت عن الحق شيطان اخرس”.
    مثل

mm13mm@live.com

212
سوريا.. انزلاق الى المجهول

عبدالمنعم الاعسم

لا ينبغي الاستهانة بما يحدث في سوريا. هناك الكثير في الطريق. الاستقطاب يمضي سريعا الى نقطة الانهيار. اما الوصفة المعلنة (الاصلاح) لنزع فتيل برميل البارود فلم تعد ذي قيمة. واما المسؤول عن ذلك فمن غير المفيد ترسيم ملامحه والتنقيب عن المكان الذي يتخندق فيه. المعاهدات والمواثيق لاتعفي الحكومات من المسؤولية. عليها ان تخرج من المعادلة في حال عجزت عن وقف هدر الدماء، فكيف إذا ما كانت هي التي تقوم بهذه الخطيئة بواسطة آلتها الجهنمية الضاربة؟.
السبت الماضي، كنت، في اعتصام نظـّمه سوريون شباب امام سفارة بلادهم في قلب العاصمة البريطانية احتجاجا على “الحل الامني” للازمة. غنوا لبلادهم وتغنوا بها. وضعوا اشرطة ملونة على صدر الشهيد الذي يسقط على مدار الساعة. قالوا سننتصر ويرحل الحكام. قالوا انقذوا حمص وحماة واللاذقية ودير الزور والقامشلي ودرعا واحياء الميدان والقابون في دمشق. قالوا لانركع، ولانحتاج لدعم عسكري خارجي، ولن نبيع التضحيات إلا لدولة مدنية تحترم التعددية ولايحكمها حزب واحد وجهاز مخابرات. قالوا سنواصل الاعتصام اسبوعا بعد اسبوع.
بعد ساعتين، وفي نفس المكان، كان هناك اعتصام آخر لسوريين، ايضا. غنوا لبلادهم ايضا. وهتفوا لشهداء الشعب. حملوا صور الحاكم. وتوعدوا “المخربين” وهم ايضا قالوا لن نركع، ووزعوا على المارة صورا وبيانات قالوا انها حقائق. صرخ شاب من مذياع يدوي: لا للتدخل الخارجي. قال سنموت ويحيى الرئيس، وبالروح والدم. قال لن تمر المؤامرة. قال الشعب يريد الاصلاح.
الانشقاق يتسارع في البنية السكانية السورية، وهناك شعارات تمر من فوق العشب اليابس للطائفية، ومن عود الثقاب المحتقن للشكاوى النائمة، وثمة مسار خطر للرد الامني والعسكري ينزلق الى الانتقام، ربما يعجل في التدخل الخارجي، مقابل فتاوي من خارج الحدود تتضارب فيما بينها وتقاتل بعضها على الارض السورية، والغطرسة السياسية تتجاهل مؤشرات الانفجار، وارقام القتلى تخوض في مشهد مفزع من الابرياء، والمتضاهرين السلميين.
ما يجري في سوريا يتجاوز ما يبدو لنا انها حركة احتجاج تـُواجَه بالرصاص الحي. ليس صحيحا بان الاعلام يضخم في الاحداث. الهوة كبيرة وتتعمق باضطراد بين شعب يتوزع على خيارين، التغيير ووعود التغيير. ما يجري حرب بالالوان الطبيعية، والاكيد في هذا، انها حرب عابرة الحدود، والاكثر تأكيدا انها لن تقف عند حد، ولا توفر راسا من الرؤوس الباردة التي تراهن على استخدام القوة كاسلوب في الحكم.
*
“ لا تسقط التفاحة بعيداً عن شجرتها”.
   مثل روماني




213
الازمة السياسية.. كرٌّ وفرّ


عبدالمنعم الاعسم

ما يحدث في كواليس السياسة والبرلمان والحكومة ومحافل مناقشة المواقف لا يعدو عن كونه، في التكتيك العسكري، كر وفر: هجوم وانسحاب، ثم هجوم وانسحاب، ثم تهدئة مؤقتة، مثلما يحدث على جبهات الحرب، بعدها، تنتقل المواجهة الى جبهة أخرى وملف آخر، وتعبئة جديدة الى ملف آخر مرشح لمواجهة قيد الاعداد، وفي هذا الحال من المستحيل للمراقب ان يحسب الخسائر، لانها في الواقع لا وجود لها بعد ان اصبح للمتشابكين مواقع حصينة. الخاسر الوحيد هو نحن(الملايين الغفيرة) الذين نتفرج على هذا العبث، ونتلقى شظايا المعارك، ونُحرم من الامن والكهرباء وفرص العمل والخدمات البلدية والتعليمية، وليس لنا في الحرب الدائرة ناقة ولاجمل.
ومثلما بدأت الازمة عقب اعلان نتائج الانتخابات بين قطبين، ائتلاف دولة القانون والقائمة العراقية، فانها لا تزال تدور بينهما، حتى الساعة، يعدّان لها من رباط الخيل ما يبدو انها ستحسم عن هزيمة او اتفاق(لا يهم) لكن مؤشرات جديدة سرعان ما تؤكد بان النفق طويل، طويل، ولا ضوء فيه، بل ولا يبدو أثرا للارهاق في صفوف المتحاربين الذين صاروا يغيّرون طواقهم لتجديد الدماء والحماسات والهمم بما يدفع المعركة الى ذرى جديدة والى كر وفر جديد.
طبعا، غير مسموح، كما يبدو، ان ينتصر احد الفريقين، وأنْ يلقى بالاخر الى خارج المعادلات. إجازة الانتصار، الممكن، ليس بايديهما، فالممكن لا تصنعه الرغبات والاهواء. هكذا هي السياسة، فن الممكن، وقل فن التحكم باتجاه الريح. الريح عاتية ومضطربة والسماء غير صافية. الممكن هنا في الحالة العراقية استعصاء مفتاحه بيد الكثير من اللاعبين الذين لا يثقون بنوايا بعضهم. مشكلة الثقة انها مثقوبة بالمحاصصة، ولا احد على استعداد لكي يعطي من حصته ويخلد الى الراحة، كان مترنيخ، مهندس الصفقات اللااخلاقية، يقول اعطوني ساعة واحدة أغـّير فيها مجرىالاقدار، لكن على السياسيين قبل ذلك(يقول) ان يخلدوا الى الراحة ويتركوا الساحة الى صفقات قد لا ترضيهم. فمن الذي يعلن انه سيأخذ بنصيحة مستشار النمسا الذي وصف في قواميس السياسة بالداهية؟ النصيحة باهضة التكاليف؟.
وماذا بعد؟.
ساحة المواجهة خرجت من آخر كر وفر حول قضية مفوضية الانتخابات لتدخل في معركة العقود “الكهربائية” مع الشركات الوهمية التي هدأت حين تدحرجت الكرة الى ملعب البرلمان، ثم، دخلنا في معركة مجلس السياسات الاستراتيجية، والكل يكرّون، والكل يفرّون، ونحن، المتفرجون، نتأسى على ما يحدث، ونخسر دماء ودموعا، والشبعان لا يدري بالجوعان، بانتظار معركة جديدة حول مقعد وزارة الدفاع، وكر وفر جديد.. وسمعة لا تُشرّفُ أحدا.
*
“ إذا شبع المرء.. لم يجد للخبز طعماً”.
   مثل اسكتلندي



214
الشركات الوهمية وما بين السطور

عبدالمنعم الاعسم
في كل العالم واجهات وهمية لبنوك ووكالات وجامعات ومعاهد تدريب ومصانع ومؤسسات عقارية واستشارية وبورصات توقع المغفلين في شراكها، وفي الغالب يكون المغفلون من دول العالم الثالث الثرية او من اولئك الذين جاءت الثروة من شقاء ومن دول محمية من الضرائب او ان جهازها الرقابي والضريبي في حالة شلل، او ان اجراءاتها ومجساتها وتقنياتها ضعيفة، او ان الفساد الاداري والمالي يضرب في عمق هياكلها، بالطول والعرض، وكل ذلك مما ينطبق على الحالة العراقية ويؤثث له فرصا ومسالك نشاط لا نظير لها في مكان آخر.
لكن قليل من المغفلين يعرفون جيدا هوية واوضاع تلك الشركات ثم يسعون لها بارجلهم، والبعض منهم يتوهم انه  لن يدفع الى تلك المكاتب الانيقة  دولارا واحدا قبل ان تنفـّذ التزاماتها، فيما تلك العقود والوثائق التي توقع تتحول الى “شهادة سمعة” يجري تسويقها في شبكة مالية معقدة تعبر الشركات الوهمية بواسطتها من الرقابة الى مجالات اخرى وقد يجد المغفلون انفسهم في فخاخ او محاكم او تجاذبات يدفعون عنها، في نهاية الامر، اموالهم وماء وجههم.
المعروف هنا ان الغالبية الساحقة من ضحايا الشركات الوهمية في العالم افراد يأملون تنمية ثرواتهم بشروط سهلة ومناسيب سريعة، او اصحاب روابط مالية وتجارية اهلية يبحثون عن “ضربات” تضاعف ثرواتهم ومصالحهم، وتفيد تقارير صحافية اقتصادية ان السعودية ودولة الامارات ومصر كانت الى عهد قريب ساحات ذهبية لنشاط هذه الشركات، وقد شهدت سنوات الحرب العراقية الايرانية وحرب العراق  الاخيرة انتعاشا لهذه الشركات، وليس ادلّ على ذلك من تورط مسؤولين في الامم المتحدة في ملف او اكثر من ملف ذي علاقة بشركات وهمية.
ومقابل ذلك، ثمة القليل من الدول، بما فيها دول التخلف، تقع في حبائل هذه الشركات، وبهذا، يكون العراق من بين تلك الدول القليلة التي تورطت في التعامل مع الشركات الوهمية، وكان آخر هذه الوقائع التوقيع على عقدين مع شركتين المانية وكندية وهميتان لتزويد العراق بمعدات بناء شبكات الكهرباء، وما اسفرت عنه من ضجة اعلامية وسياسية تقاذف خلالها المسؤولون بالاتهامات، والبعض اكتفى بالقول على الطريقة المصرية “مفيش حد احسن من حد".
لقد سمعنا عن افراد مغفلين خدعتهم الشركات الوهمية، ولم نسمع عن دول استغفلتها تلك الشركات.
 *
"المفلس يجتاز السوق سريعا".
مثل انكليزي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


215

حكومة الكترونية قادمة
في ذي قار الناصرية

عبدالمنعم الاعسم

اتحدث عما يجري في مجلس محافظة ذي قار، الناصرية، نموذجا لاكثر من مجلس ولاكثر من محافظة تتجاذبها خواطر الفضائح ويشغلها هوس التسقيط، وتنام الليل على شائعات وتستيقظ على كواليس وصراعات بين اقطاب المحافظة ولجانها واحزابها فيما الملايين التي انتخبت هذه المجالس تشرب الماء الخابط وتقبض وعودا فارغة وتنتظر فرج الكهرباء شهرا بعد شهر، وتتقلّى على صفيح صيف لايرحم.
مجلس محافظة ذي قار انتهى الى ما يشبه علاوي السمك التي تمتلئ بالضجيج والزفرة والغش، حيث ولد هناك المثل الشعبي البليغ “السمجـة جايفة من راسها” وما نُشر ويُنشر على لسان اقطاب المجلس يثير التساؤل المشروع عن الحلقة المفقودة في كل ما يجري في هذه الدوائر التي شاءت الاقدار ان تتحكم في رقاب الخلق وفي مواجع المواطنين وفي ملازم العيش الآمن الكريم لسكان المحافظات.
تلقيتُ من صديق “ناصري” محضر آخر اجتماع الدورة 151 لمجلس المحافظة، مزدحمٌ بعبارات تسيء الى السمعة واللغة وفكرة الانتخابات معا، ومزوّدٌ بهوامش تستفز جلد الفيلة الذي لاتستفزه النبال، وطالعت بعض وقائع هذا المحضر في تصريحات وتقارير، واللافت، ان اصحاب التصريحات، وهم يتقاذفون بتهم الفساد وخيانة الامانة والاهمال، لايخشون ناخبيهم الذين جاءوا بهم الى هذه المواقع، وكأن الناخبين مضمونون، وفي الجيب، في جميع الاحوال، حتى حين تكون الفضائح قد زكمت الانوف.     
فماذا حدث؟
في هذا الاجتماع لم يتمكن احد من ضبط عدد الحاضرين، بعضهم على الكراسي في النـِصاب وبعضهم الاخر واقف في الباب بين النصاب والغياب. هناك طعون في سلامة الاجراءات والعقود والقرارات، بالاسماء الصريحة والمعطيات الواضحة، ولا احد خارج هذه الطعون، وهناك استدعاءات وتحقيقات ومحاضر تصويت على اقالات ومحاسبات سرعان ما تتمزق وتضيع بين حاضرين وموقعين وغائبين، وهناك غائبون يؤكدون انهم لم يتغيبوا فتنصلوا عن المسؤولية، وحاضرون يقولون انهم لم يفهموا ما يجري فشتموا بعضهم البعض، فتدخّل الحراس في الامر ولولاهم لحدث ما يمكن اعتباره كارثة، وغير هذا وذاك نطالع سطورا عن استجوابات حول ملفات فساد يقوم المستجوَبون قبلها بـ”شطب المحررات الرسمية التي تهم مجلس المحافظة ودوائرها” ثم يتطاولون “على كثير من الاعضاء بالمجلس... الامر الذي اثرعلى الخدمات التي تقدمها دوائر المحافظة للمواطنين.”.
والغريب، بعد كل ذلك، ان ثمة ورقة بعدة صفحات على طاولة الاجتماع منذ زمن طويل عنوانها:  “مشروع الحكومة الالكترونية”.
وبهذا تكتمل المهزلة.
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يرفض البقاء على ما هو عليه”.
                                      البير كامو


216
كاظم الحجاج..
مرثية توماس اديسون

عبدالمنعم الاعسم

اعرف ان حياة كاظم الحجاج لا تعني شيئا بالنسبة لاولئك الذين يمعنون في معاقبة الملايين بحرمانها من الكهرباء، وربما، صاروا يتسلون بإقدام شاعر رائد، عميق الاحساس بمحنة اهله ومواطنيه، على الاعتكاف في منزله حتى الموت اذا لم يفرج "اولي الامر"عن حق الملايين في الحصول على "نعمة" الكهرباء التي يتصرفون بها، ويتعسفون في ادارة خدماتها، ويتقاذفون التهم والشتائم والصفقات من على الشاشات الملونة متجاهلين مكابدة بشر يعيشون في افران خانقة، فيما يعربد في المدينة، وفي كل العراق، صيف لهّاب لا سابق لقسوته.
واعرف ان توماس اديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي قبل مائة واربع وعشرين سنة، ويسّره الى كل منزل ومشغل ومشفى، لم يكن ليعتقد ان مدينة مثل البصرة التي تملك ثروات تؤمن انارة قارة كاملة، تنام على ظلام دامس عاما بعد عام، ووعودا بعد وعود، وعقودا زائفة مع شركات موهومة بعد عقود، فيما صيف هذا العام يعربد في منازلها، ويموت فيها اطفال وشيوخ كثيرون، وعلى مدار الساعة.
لم يكن كاظم الحجاج يملك غير حياته وفضلة العمر التي بين يديه لكي يهدد بها المتغافلين عن محنة ابناء شعبه من ابسط لوازم الحياة، المستهترين بمصائر سكان الصرايف والعائلات الفقيرة، الواهمين باننا نصدق رواياتهم عن الاحتباس الحراري واعتلال شبكات الكهراباء، وهو لا يجهل المهمة الشاقة التي اخذها على نفسه، ومن يعرف كاظم الحجاج يتذكر انه لا يعبث بمواقفه، وانه ابن بار لقضية الشعر والانسان، لا يعرضهما للبيع او الدعاية، ولا يزجهما في معارك صوفية، وقد جربته الحياة والقصيدة فكان صادقا ومرهفا ونبيلا وفارسا بكل المعايير.
كاظم الحجاج يعرف لعبة السياسة التي انتجت مهربين محترفين كما يعرف ان موازين القوى لا تسمح باشعال عود ثقاب في منطقة مزحمة بحقول النفط، لكنه يغامر ان يلوح لهم بخزين الغضب الذي يهدد بالاشتعال.
لقد حبس الشاعر البصري الرائد كاظم الحجاج نفسه في منزله بمدينة البصرة، حتى الموت، احتجاجا على عدم توفير الكهرباء لملايين من العائلات في البصرة وفي كل مدن العراق التي تعيش تحت رحمة حر يتجاوز حدود الاحتمال، ورسالته فصيحة ومدوية بكل المعاني: انهم يعاقبونا، ويحوّلون سكوتنا الى صفقات واموال طائلة يهربونها الى خارج الحدود باكياس الزبالة، ونداؤه بليغ بوجوب التخلي عن الصمت والتفرج على هذه المهزلة التي تنفذ على مسرح العراق، وحين يقتدر على الامتناع عن تناول الطعام حتى الموت فانه وصل الى تلك النقطة التي فاض فيها صبره وانتظاره، وترك القضية لنا لكي نجبر اصحاب المهزلة على الكف عن اهانتنا، وليوفروا لاهلنا الكهرباء من بعض ما يسرقون..
ولكي نطلق سراحه من المحبس الذي وضع نفسه فيه.
*
"مراقبة الالم من وراء الزجاج شئ مضحك، كالاطرش الذي يسمع الموسيقى".
محمد الماغوط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

217
مذبحة اوسلو.. متطرفو الديانات في مستنقع واحد


عبدالمنعم الاعسم

مذبحة النرويج التي قتل خلالها ما يزيد على مائة مدني واصابة المئات، ارتكبها شابٌ يميني، عنصري، بدم بارد وبتصميم انتحاري دقيق، مخطط له، محسوبة، كما كشفت التحقيقات الاولية، عن مسؤولية “اليمين المسيحي المتطرف” المحلي الذي عُرف بمعاداته لاتباع الديانات الاخرى، وللمهاجرين الاجانب، ولم يكن هذا الحادث ليثير استغراب متابعي نشاط هذا التنظيم المسيحي في النرويج وبلدان اوربية اخرى إلا في همجيته واستعداد بطل الحادث لارتكاب مثل الجريمة الشنعاء بحق حشد غالبيته من اتباع الديانة المسيحية من غير ان يرف له جفن.
وليس من غير مغزى ان تنصرف الاخبار المبكرة عن المذبحة، وقبل ان يجري التعرف على مرتكبها أندريس بيرنج بريفيك، الى اتهام الجماعات الاسلامية الجهادية المتطرفة بالحادث، فان التنكيل الجماعي العشوائي بالمدنيين كسلوك سياسي هو “هوية” معلنة لهجمات متطرفي الاديان والجماعات العنصرية في كل مكان في العالم، بل ان الجماعات المتطرفة هذه تتعلم من بعضها تقنيات القتل الجماعي والهجمات الاجرامية على المراكز المدنية، على الرغم من انها تقع على طرفي معادلة التطرف وتتبنى مناهج الكراهية ضد ديانة بعضها البعض.
بل ان متطرفي الديانات يقتلون من اتباع دياناتهم بالهجمات التنكيلية المسلحة اضعافا مضاعفة مقارنة باعداد ضحاياهم من اتباع الديانات الاخرى. القاعدة التي تتوعد بـ”النصارى واليهود”  قتلت من المسلمين ما يزيد على عشرين ضعفا من اعداد المسيحيين او اليهود الذين سقطوا بعملياتها الارهابية، وضحايا مذبحة اوسلو ليس بينهم مسلما واحدا.
في علم السياسة وتجارب الصراع بين العقائد ثمة نظرية معروفة بمثابة حقيقة تفيد بان اقصى اليمين يلتقي في سلوكه السياسي والحركي مع اقصى اليسار على الرغم من العداوة الفكرية بينهما، وهي التعبير عن لقاء “الاقاصي” من منظومات التفكير التي تعرف احيانا بالتطرف او التشدد او الغلو في تبادل التجارب والشعارات، وفي ما هم اهم، حيث تناصب هذه الاقاصي العداء لفكر الاعتدال والتسامح والوسطية والواقعية، وتعدها خطرا عليها، بل وتضع المعتدلين في مقدمة الخصوم الذين ينبغي تدميرهم.
ومثلما يتخندق المتطرفون المسلمون في عبارات منتزعة من قدماء فقهاء العنف للاستقواء بها على الضحايا والاسترشاد بها الى المذابح وطبول الحرب والتجييش فان سفاح اوسلو هو الاخر احتمى بمقولة نازية قديمة للفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت ميل تقول “مؤمن واحد يساوي مائة الف من الاشخاص (غير المؤمنين) الباحثين عن المصالح فقط” ولا يعني هذا المعيار في حساب قيمة البشر إلا إحياء لابشع غريزة عنصرية، فيما عُرف بان الجماعة المسيحية النرويجية المتطرفة “نورديسك”التي تضم المئات من الاصوليين المسيحيين الارهابيين كانت تعدّ انتحاريين لتنفيذ هجمات عقابية ضد المدنيين والمؤسسات الحكومية المدنية للتقرب الى الروح القدس.
فمن علّم هؤلاء فنون الانتحار ومن علّم اولئك فنون التفجير.. والعاهة واحدة؟
*
“الكلاب تنبح في وجه كل من لا تعرفه”.
هيراقليطس



218

المالكي والحقائب الامنية..
بهدوء

عبدالمنعم الاعسم


للاسف، لم تكن تفسيرات رئيس الوزراء نوري المالكي لإرجاء تعيين وزراء للوزرات الامنية الشاغرة، مقنعة ومقبولة ومفهومة ومؤولة في جميع المنظورات والمعايير، وليست تقوم على مبررات تجيزها احوال البلاد المضطربة والحساسة، واستطيع ان اخلص، من غير لف ودوران، بان لا احد من الفئات السياسية وحتى من اقرب تلك الفئات الى كابينة المالكي، فضلا عن معارضيه، من هو مقتنع بالاسباب التي يكررها لاستمرار ربط وزارات الدفاع والامن به شخصيا، باستثناء، ربما، الشريحة الحزبية التي يقودها وبضعة زعامات وسلسة طامعين في اشغال مواقع يتيحها الفراغ الامني الناتج عن تغييب تمثيل شركاء العملية السياسية في تلك المواقع.
المطالعات التي قدمها رئيس الوزراء، في اكثر من مقابلة تلفزيونية، عن عدم اهلية المرشحين الذين قـُدموا من قبل الشركاء السياسيين للمناصب الوزارية الامنية، ورفضه لهم واحدا بعد الاخر، تحمل المحلل الموضوعي على الاعتقاد بان المالكي مصرٌّ على توزير اشخاص على شاكلة نمطية خاصة تتطابق مع فلسفته ونظرته وسبل ادائه، عدا عن موجبات الولاء السياسي الذي ينبغي ان يكون مضمونا له في جميع الاحوال، وبخلاف ذلك، كما يمكن ان يُفهم من مطالعاته، فانه وحده(في نهاية المطاف) الشخص المناسب الى تلك المناصب الشاغرة.
واستطرادا، يتبادر الى الذهن ما هو اخطر من كل ذلك وهو الاتي: ان المالكي يرغب ان يكون الوزير الامني شخصية منفذة شأن اي موظف في مكتب رئاسة الوزراء، وان يكون (للاسف) ضعيفا، غير ذي ارادة ومشيئة ورؤيا ومسؤولية، وكل ذلك يشجع البعض من المعلقين والساسة الى الحديث عن اتجاه دكتاتوري في البلاد، اخذا بالاعتبار بان الدكتاتوريين يضيقون بالطواقم القوية والمفكرة وباصحاب الرؤى المتمايزة، ويميلون الى احاطتهم بموظفين لا يعترضون، ولا رأي لهم في ما يحدث غير المديح لصاحب السلطة.
ومن يتملـّى جيدا الاسماء التي جرى تداولها كمرشحين للوزارات المعنيّة، وبعضها رشحتهم كتلة التحالف الوطني، وفقدوا حظوظ الموافقة عليهم من قبل رئيس الوزراء، سيضع ترسيما سياسيا غير مريح لمستقبل العملية السياسية في العراق، كما سيضع، بالضرورة، صورة معتمة للاوضاع الامنية في ظل هيمنة مركز واحد وعقل واحد وحزب واحد على منافذ التخطيط والتنفيذ لفرض القانون واستعادة الاستقرار في البلاد.
اما الحديث عن مرشحين تلاحقهم ظنة الاجتثاث، فيبدو ان المفاضلة المعلنة بين هذا (المجتث) وذاك، وتقريب هذا (المجتث) وإبعاد ذاك، قد قللت من اهمية معيار الاجتثاث الذي ا ُريد له، في الاصل، ان يكون حائلا دون تسلل مجموعة الجلادين السابقين الى مراكز الدولة الجديدة، من أي طائفة او قومية كانت، في وقت يشير المواطنون باصابع لا تخطئ الى جلادين عادوا الى المشهد الحكومي برداء الولاء الى القوى والمقامات المتنفذة.
يبقى الدستور وحده مركونا على رفوف عالية، فلا هو ينزل الى ساحة الخلاف للفصل بين المتشابكين. ولا هم يكفون عن مناداته بالتدخل لحل الخلافات.. ولا حياة لمن تنادي.
 *
كلمة الحق تقف دائما في الحلق لانها كبيرة”.
حكمة“





219
هزيمة للعقل “العرواسلامي” المحافظ

عبدالمنعم الاعسم

السبت، التاسع من تموز- يونيو، سيدخل التاريخ كيوم لولادة اول دولة تقيمها اقلية قومية ودينية في العالم العربي على ارض لا تزال تحمل اسما مشتركا، السودان، وذلك بعد ان تعذر قيام دولة متعددة القوميات والاديان على جغرافيةهذه البلاد الوطنية وبعد صراع طويل امتد على سطح اربعين سنة من الكوارث وبرك الدماء وطبول الحرب كشف فيها العقل العروبي الاسلامي عن عجزه عن استيعاب قضية حق تقرير المصير للشعوب والاقليات التي تضمها خارطة الوطن العربي.
دولة اقامتها اقلية عريقة مضطهدة ودفعت عنها مليونين من الضحايا خلال عصيان مدني ومسلح لم تكن “الامة الكبرى” وحكوماتها ونخبها “العرواسلامية” قد استوعبت احكامه ونتائجه، ولم تكن قنواتها تستوعب اقامة دولة شراكة ومساواة عادلة لا مكان فيها للتمييز القومي والقهر الديني، ولم تكن هذه الدولة الجديدة متبرَّعٌ بها من أحد، وليست منة ً من حكومة او صفقة في الظلام، بل جاءت في سلسلة طويلة من المفاوضات والتجاذبات والاتفاقات والتوقيتات، وعبر هياكل تشريعية وتنفيذية غاية في التعقيد والمصاعب.
والدولة الجديدة، بالاضافة الى ذلك كله، جاءت بنتيجة حكمة مفاجئة لممثلي الدولة الام لشعب شمال السودان بالاعتراف اخيرا بعقم خيار القوة والالحاق القسري لشعب الجنوب، من جهة، ولصبر ساسة الجنوب وتفهمهم لضرورات الحلول الوسط تنزع من على خطوط التماس عداوة بين شعبين متجاورين ومتصاهرين لا احد يقدر نتائجها الكارثية على الطرفين، من جهة اخرى.
كان شعب الجنوب، يعيش طوال ستة عقود في كيان مستقل في الواقع (الدين والارض واللغة)لا يستطيع ان يسميه وطنا، ولا يعرف من الشراكة في الوطن الام غير الحملات العسكرية والطائرات القاذفة التي تغير عليه لانتزاع طاعته القهرية لحكومة الخرطوم، ولم يكن ليعرف من الحريات غير حرية واحدة تتمثل في اللجوء الى الغابات او البراري او الى ما وراء الحدود اتقاء حملات العقاب العسكرية، او العيش بمواطنة من الدرجة العاشرة نظير القبول بهامش لا انساني ولا عادل من الحياة.
وليس مثيرا للغرابة ان تتلقى الخرطوم، طوال حروبها الاخضاعية ضد شعب الجنوب، دعما وتشجيعا متعدد الاشكال من شقيقاتها في الجامعة العربية على اختلاف نوعية الحكم الذي تتخندق فيه ونوعية الايديولوجيا التي تتبناها، فان فكرة احترام خصوصيات وحقوق القوميات الاخرى والاقليات الدينية التي تشاركها الارض والمصير ليست واردة لدى هذه الجول، لا على مستوى التشريعات والممارسات ولا حتى على مستوى قيم الانسانية والشفقة والجيرة، والنتيجة، ان جميع شركاء الدولة السودانية في الرابطة القومية قد حاربوا شعب الجنوب السوداني بالجنود والاموال والسلاح والتحريض، كلٌ بحسب ما تجود به غيرته القومية والدينية، وكان الشعار الاكثر رواجا، وانحطاطا، وزيفا، هو الحيلولة دون قيام اسرائيل ثانية في جنوب السودان، فيما هم يدخلون مع اسرائيل الاولى في سلسلة صفقات مهينة.
طبعا، لم تكن الحركة الجنوبية المسلحة، وقياداتها، خارج الملامة ومحاذير التخبط في الكثير من مواقفها وسلوكها وتحالفاتها، وبخاصة في ادارتها للتحالفات الخارجية وللصراعات والخلافات الداخلية بين فئاتها وشخصياتها وسقوطها في العديد من مفارق الطرق والاحداث في اغواءات التصفية والتنكيل والتآمر ما دفع شعب الجنوب ثمنه الباهض من دورات الاقتتال والنزوح والمجاعة، وذلك قبل ان تتجه الى طريق الحوار لاختصار المحنة التي يعيشها السكان.
لقد سقطت اللازمة السودانية التاريخية والمضللة حول “وحدة البلاد” لاول مرة العام 1972 إذ تبين في مؤتمر اديس ابابا في ذلك العام ما هو معروف على ارض الواقع بان البلاد غير موحدة في واقع الامر وان الحرب الاهلية بين القوات الحكومية والحركة الشعبية لتحرير الجنوب السوداني، طويلة الامد، اكبر دليل على ان البلاد مقسمة على اية حال، على الرغم من التأكيدات المتكررة التي كان يطلقها زعيم الحركة الجنوبية جون قرنق بان الحركة لا تعمل على انفصال الجنوب.
غير ان اتفاق اديس ابابا الذي اقر حق شعب الجنوب السوداني بنصيب من ثروة البلاد وعدم تطبيق الشريعة الاسلامية في اقليمه لم يكن ليطوي اوهام القيادات السودانية الحاكمة لاخضاع الجنوب السوداني المتمرد بالقوة العسكرية، وقد صمم انقلابيو 1989 الذين مثلوا التحالف القومي الاسلامي الجديد(البشير. الترابي) العودة الى طبول الحرب لغرض “استعادة وحدة السودان” فشنوا حربا واسعة لحرق الارض ومن عليها وفرضوا الشريعة الاسلامية على شعب يدين بعقيدة دينية اخرى، وانخرطوا آنذاك في تحالف مع نظام صدام حسين في اطار “المؤتمر الاسلامي الشعبي العربي” الذي تبنى في العام 1993 منهج استئصال الاقليات القومية والدينية بذريعة المعركة الكبرى ضد اسرائيل والغرب، الامر الذي دفع الحركة الشعبية وجميع مكونات وشرائح الجنوب السوداني الى صياغة مطلب حق تقرير المصير الشرعي والمبرر في ظل حرب الابادة التي كان يشنها حكم الجماعة الاسلامية-القومية قبل ان تنكفئ الى الفشل الذريع.
آنذاك قال زعيم المعارضة السودانية الصادق المهدي: “إن إعلان نظام البشير عن هوية “الإسلاموية- العروبية” وإعلانه الجهاد ضد غير المسلمين وحتي ضد المسلمين المختلفين معه، أثار عداء ومخاوف الأقليات العرقية والدينية في السودان” ومما له دلالة ان يصرح زعيم حركة الجنوب قرنق غداة صعود البشير الى السلطة خلال سلسلة من الانقلابات والتصفيات وفي دعوة الى الاخير الى عقد صفقة سلام جديدة قائلا “ان حسن البشير متمرد مثلي، وانا اكثر منه خبرة في هذا المجال” فيما رد البشير بالغاء اتفاق السلام مع الحركة الجنوبية ودعوة الجماعات الجنوبية المسلحة الى القاء السلاح، لكن مفاوضات جديدة في العام الفين بين البشير وغارانغ كانت بحاجة، كما يبدو، الى مئات الالاف من القتلى الجنوبيين وجنود الجيش السوداني ونزوح مايزيد على مليون مدني الى ما وراء الحدود، وجاء الاتفاق هذه المرة في اجواء هزيمة منكرة لخيار استخدام القوة وعزلة نظام البشير على كافة الاصعدة.
في غضون ذلك، وفي العام 2003، انفجرت مشكلة “دارفور” حيث كان يعيش في ذلك الإقليم العرب البدو، والزنوج حيث انحاز النظام الى القبائل البدوية العربية ضد القبائل الزنجية، بدل ان يوقوم بواجبه في تهدئة الاوضاع، فتفاقمت الصراعات، وشكل الزنوج لأول مرة أحزابا مسلحة ضد نظام البشير عام 2003 وخرج النزاع من الإطار السلمي إلي مواجهات مسلحة بين العرب المدعومين من الحكومة وبين الزنوج، وتم تدويل الصراع أيضا في دارفور، فغرقت بلاد السودان بين تدويلين، واحد الى الجنوب والآخر الى الغرب.
في التاسع من كانون الثاني/يناير 2005 انتهت اطول حرب تشهدها القارة الافريقية بتوقيع قرنق اتفاق سلام مع الخرطوم اعفي بمقتضاه الجنوب من الشريعة الاسلامية التي فرضت على سكانه واتيحت له فترة ست سنوات من الحكم الذاتي تمهيدا لاستفتاء يصوت فيه الجنوبيون على حق تقرير المصير بين البقاء ضمن سودان موحد او الانفصال عن الخرطوم، وفي كانون الثاني/يناير 2011 صوت جنوب السودان للانفصال عن الشمال باغلبية 98,83 بالمائة لصالح الاستقلال.
في معايير الحرب كان البشير قد هزم في حرب الجنوب، واستسلم الى الخيار الذي حاربه بكل قوة: التفاوض على قاعدة حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.. ولكل استسلام ثمن.
*
بعد اسبوعين من اعلان جنوب السودان دولة مستقلة يمكن للمراقب ان يرصد جو الخيبة والمرارة والاحباط الذي يعم إعلام وصحافة الدول العربية وذهول العقل “العرواسلامي” الكهفي. تكفي الاشارة هنا الى انه، باستثناء مصر والسودان لم تعلن اية دولة عربية الاعتراف بالجمهورية الجديدة غداة اعلانها ، بل ان كتابات وتقارير صحافية وتلفزيونية محسوبة على انظمة في المنطقة القت بظلال الريبة على هوية الدولة الجديدة وسلوكها، والاغرب من كل ذلك، ان يجري التأليب عليها مرة لانها، حسبهم، مشروع مشبوه لتقسيم ارض السودان والدول الاخرى، ومرة اخرى لانها ولدت بالقوة واستثمارعزلة النظام السوداني وهزاله، ومرة ثالثة، لأنها تلقت ترحيبا من اسرائيل واستعداد الاخيرة لاقامة علاقات دبلوماسية مع جوبا، لكن الكثير من التعليقات جاءت منزعجة مما قيل عن ولادة دولة علمانية في قلب المنطقة.
وبدلا من التفكير مليا في خصوصيات شعب الجنوب ومعاناته الطويلة تحت دورات الحملات العسكرية الانتقامية فان حملة الكراهية والتأليب التي شنها العقل “العرواسلامي” المحافظ ، إذا ما توصلت على هذا المستوى من الهستيريا، ستجعل من دولة جنوب السودان خصما جاهزا، وستخسر هذه المنطقة فرصة لكسب دولة اعلنت منذ ولادتها بانها ستكون مسالمة وصديقة للدول المجاورة وتتعامل بروح حسن الجوار مع الجميع، وانها، قبل كل شيء، ستنصرف الى تعمير ما خربته الحرب وتعكف على تضميد جروح واوجاع اجيال من شعبها الذي يعيش حالة الفقر ويصنف على انه من اكثر شعوب العالم تخلفا وفقرا وحاجة الى المساعدة والسلام.
اما اعلان جنوب السودان دولة علمانية فهو لايحتاج الى الكثير من الجدل والتأويل، فالصراع الطويل وحروب الاستئصال العرقي تركت مشاكل دينية بين مسيحيي الجنوب ومسلمي الشمال، الامر الذي ينبغي احتواؤه بوضع دور العبادة والمؤسسة الدينية على مسافة محسوبة من شؤون بناء الدولة الجديدة التي يلزمها بيئة سلام اجتماعي علمانية اكثر من اي شيء آخر، واللافت هنا، ان الاقلية المسلمة في جنوب السودان ذي الاكثرية المسيحية (مثلما هي الاقليات المسلمة في جميع العالم) هي الرابح الاول من علمانية الدولة، بل انها (كما في الهند مثلا) من اكثر الشرائح السكانية تمسكا بالتشريعات العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة وتعامل اتباع الديانات المختلفة بمعايير المواطنة والمدنية والمساواة.
وإذ اُعلنت دولة الجنوب السوداني وهي في طريقها الى كسب عضوية الامم المتحدة فان على الشعوب العربية وطلائعها ونخبها المتنورة ان تتصبر عليها وتساعدها وتوفر حسن الظن بها، وقبل ذلك، ان تأخذ بالاعتبار علاقة شعبها بالبعد الافريقي الذي كان عاملا في حمايته من حملات الابادة الدورية، وهي هوية هذه الدولة، بل وعلى العقل السياسي العروبي الاسلامي ان يقبل حقيقة تفصيلية تتمثل في ان الكثير من الشعوب والاقليات القومية والدينية التي تعيش ضمن الاطر السيادية للدول العربية والاسلامية تحتفظ بخصوصيات وامتدادات خارج الحدود.
من زاوية غير متفائلة، يبدو ان الثقافة السائدة في هذه المنطقة لا تزال مغلقة امام اوكسجين التحولات العاصفة التي تهب على العالم.. وإلا ماذا؟. 



220
لندن: 30 باحثا واكاديميا يناقشون عقبات اقامة الدولة المدنية في العراق
خاص
اكد ثلاثون من الباحثين والاكاديميين والمثقفين العراقيين على خيار اقامة نظام مدني ديمقراطي ولاحظوا وجود تحديات وصعوبات وانشطة وتشريعات وهياكل سياسية واجتماعية تعرقل اقامة هذا الخيار  واجمعوا على ضرورة بناء الكتلة الديمقراطية الوطنية ضمانا لعملية الاصلاح الشاملة وانقاذ البلاد من الدوامة الامنية والسياسية واقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
وناقش الحاضرون خلال مائدة مستديرة عقدتها في لندن في الرابع والعشرين من حزيران- يوليو 2011 لجنة دعم الديمقراطية في العراق اربعة محاور  قدمها اربعة باحثين هم الدكتور عصام الخفاجي وبدور محمد الدده والدكتور ابراهيم الحيدري وعبدالمنعم الاعسم تضمنت قضايا الازمة السياسية في العراق ومشكلات التشريع والدستور والتشوهات الاجتماعية وآفاق الاحتجاجات الشعبية وعلاقتها بما يحدث في المنطقة العربية.   
وتوقف الدكتور الخفاجي في مداخلته عند مأزق النظام السياسي الجديد في العراق وقدم “تأملات في خيارات الديمقراطيين” مؤكدا بان العراق “حقق ما تسعى له الثورات المستعرة في المنطقة منذ بداية هذا العام من حيث إقامة نظام ديمقراطي تعددي برلماني إذ لم تسجل المنظمات الدولية والمحلية حالات تجاوز وتزوير واسعة النطاق، لكن هذا النظام أعاد إنتاج فساد النظم الدكتاتورية وانعدام شفافيتها وانتشار المحسوبية في داخلها” مع التأكيد على تسليط الضوء على “الدور الذي لعبته وتلعبه أعمال العنف المسلح من فلول النظام البائد وجماعات الإرهاب السلفي ومن مجموعات ارتأت إن النظام الذي قام بعد 2003 هو صنيعة أمريكية ولابد من محاربته في تدهور الوضع في العراق” ولاحظ انه “بعد ثمانية سنين من انهيار نظام الإرهاب وبعد انحسار الدور الأمريكي لاعسكريا فحسب، بل سياسيا أيضا لم يجر العراقيون مراجعة حقيقية للنفس ولدورهم في إيصال الأمور إلى ما آلت إليه” وقال “كان خروج التظاهرات الحاشدة المطالبة بالإنتخابات الفورية نذيرا لا بانزلاق العراق إلى شكل مبطّن من أشكال التبعية وتخندق الزعامات المذهبية، بل بأن الطبقة السياسية الآخذة بالتكون إثر سقوط نظام صدام حسين تستفيد من تأجيج الإستقطاب الإجتماعي صارفة بذلك أنظار الجمهور عن القضية الأساس المتمثلة في بناء عراق مدمّر” واوضح بان “مايجب إبرازه هنا هو إن النظام السياسي العراقي الراهن ليس في أزمة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي بمعنى عدم قدرته على الإستمرار، فالإنتخابات الدورية للبرلمان لن تتوقف، والطبقة السياسية قد تتطعم بوجوه جديدة لكنها ستظل على حالها في المدى القصير على الأقل، والعراق ليس على أبواب ثورة على اية حال”.
وطرح الدكتور الخفاجي للمناقشة خيار تشكيل المجلس الاتحادي مؤكدا “إن هذا المقترح لايزعم تقديم حل سحري لمشاكل النظام السياسي في العراق، لكن العمل من أجل تشريع قانون لمجلس الإتحاد الوارد في الدستور يستند في تكوينه إلى أرضية تأخذ الوقائع بعين الإعتبار لكنها تفسح المجال أمام مستقبل تصنعه أجيال شابة. والدعوة لإنتخاب أعضاء هذا المجلس بأسرع وقت ممكن يمكن أن يسهم، في رأيي، في إحداث تغيير نوعي يضفي على هذا النظام صفة ديمقراطية. وككل منجز من هذا النوع، فمن البدهي أنه سيصطدم بمصالح راسخة تحاول عرقلته بشتى السبل لكن كاتب هذه الورقة يرى أنه يصب في مصلحة الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا” . 
 *
ووقدمت الباحثة بدور زكي الدده مداخلتين قانونيتين، الاولى، عن قانون الانتخابات اشرت فيها جوانب الخلل في هذا القانون والحاجة الى تشريع قانون جديد يتوافق مع احكام الديمقراطية وحماية حقوق الناخبين، والثانية تناولت ازمة النظام التشريعي في العراق واشارت فيها الى “ان أزمة النظام التشريعي في العراق تعود الى نهاية الستينيات من القرن الماضي، وتحديداً بعد انقلاب السابع عشر من تموز من العام 1968 الذي كرس سلطة حزب البعث، وانشأ مايسمى ب مجلس قيادة الثورة، الذي لعب دور المشرع الأعلى، دون ان يتوافر على كفاءات قانونية”  وقالت “ان البرلمان العراقي لم يقم بجرد شامل لقرارات مجلس الثورة، لتبيين مايمكن الابقاء عليه منها وما يجب الغاءه، ما ادى الى عدم الوضوح لدى من يتولون تنفيذ القانون، وأوقع المواطن العادي في حيرة وتخبط  بسبب تضارب التشريعات وتعددها” ولاحظت “إن مخاطر الاستبداد ماثلة امامنا وهي واقع يعيشه العراق من خلال صيغ تتبنى مسميات ديمقراطية” وحذرت من حشر مصطلحات غامضة في التشريع مثل “الاداب العامة” وقالت انه “بالاستناد الى مقولتي النظام العام والآداب، يمكن للحكومة ان تمنع انتقاد سياستها وان تحد من حرية المواطنين في تنظيم نشاطات تستهدف الدفاع عن حقوقهم الاساسية. كذلك يمكن حرمان المرأة من حقها في المشاركة في أوجه الحياة العملية بشكل عام ومن غموض المرجعيات القانونية” وضافت “يمكن الإكتفاء بما حددته لجنة الأمم المتحدة لحقوق الانسان وفق الاعلان العالمي الصادر في العام 1948، وبالتحديد المادة 29 منه، التي تقضي بان حق الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته يخضع للقيود القانونية التي تضمن الاعتراف بحقوق الغير وحرياتهم واحترامها” وتوقفت عند حقوق المراة قائلة “ ان المادة 44 تنص على ان " للعراقي حرية التنقل والسفر والسكن، داخل العراق وخارجه" ونظرا لما تحملته المرأة من اضطهاد بسبب االقيود التي فرضها النظام السابق على حريتها في السفر والزامها باصطحاب محرم، ولكون مثل هذه القيود مازالت تفرض عليها باشكال اخرى، ينبغي استكمال المادة بالتالي: وللعراقية الحقوق نفسها دون قيد ويلغى كل نص في القانون يتعارض مع هذا المبدأ”.
واكدت الباحثة بدور الددة في ختام مداخلتها انه “يمكن تدارك الكثير من المبادئ التي لم تجد لها حيزا في الدستور , وذلك بتضمينها في الاحكام  الختامية.. وبما ان اكثر من خمسين مادة في الدستور تقتضي تشريع قانون خاص لتفعيلها، وما يعنيه ذلك من تعطيل للمبادئ وفراغ قانوني ودستوري يؤدي الى استمرار تطبيق بعض القوانين السابقة، التي قد تنطوي على تعسف او انتقاص من الحقوق، اقترح الاضافة التالية ضمن الاحكام الختامية:
يمكن الاستناد الى بعض المبادئ الواردة في مواد  دستورية معينة، امام المحاكم حتى لو كانت المادة المعنية تشير الى تشريع قانون لاحق وناظم لها، ذلك ان الدستور هو القانون الاعلى، ويفترض ان احكامه تتجاوز القوانين الادنى منه” .
*
 وتحت عنوان “ملاحظات حول ازمة المجتمع العراقي” قدم الباحث الاجتماعي الدكتور ابراهيم الحيدري مداخلة اثارت الكثير من المناقشات واشار فيها الى بداية تشكل الدولة العراقية وتطورات العملية الاجتماعية “حيث كان الافراد ينقسمون في فترة الحكم العثماني الاستبدادي الى رعايا وليس مواطنين والى افراد ينتسبون الى قبائل و طوائف ومناطق وحرف وينقسمون بدورهم الى بدو وريفيين وحضر. واذا كان هناك تناسق ظاهري بين مكونات الشعب العراقي، فهناك اختلافات عديدة ..فبالرغم من الادعاء بالاصل الواحد، فالعراق لم يكن الا وارث شعوب واجناس وقبائل وطوائف ولغات متنوعة تهيأت لها بعض المستلزمات الضرورية لقيام حكم وطني”واضاف “ان المواطنة مفهوم ذو دلالات اجتماعية وسياسية مستمد من كلمة وطن بكل ما تحمله الكلمة من معاني الارتباط بالارض والتاريخ واللغة ومشاركة الفرد في السلطة. وبهذا المعنى تعني المواطنة منظومة من القيم ومشاعر الولاء والانتماء التي تكرس معنى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتحترم التعددية والتنوع وتلغي الفوارق الاثنية والدينية والطبقية والجنسية بين البشر.. وبالرغم من ضعف الدولة الملكية واستبدادها والتناوب الديمقراطي الشكلي فيها، فقد تطورت روابط من المشاعر الوطنية المشتركة بين فئات وطبقات المجتمع العراقي”.
وتوقف الدكتور الحيدري عند التراجع المدني والحضاري في عهد الدكتاتورية حيث فرض نظام ابوي استبدادي “ما لعب دوراً كبيراً في تغيير الثوابت الوطنية للشخصية العراقية وتشويه سماتها الأصيلة وهيأ لوقوع العراق تحت براثن قوات الغزو والاحتلال ونظام المحاصصة” واشار الى شيوع ثقافة العنف والارهاب والاحتراب باشكاله المختلفة، وختم مداخلته بالقول ان “بالرغم من هامش الحرية والديمقراطية ومشاركة الملايين في الانتخابات،  فقد ازدادت مشاكل المرأة واستلبت حريتها وتعمق خضوعها واضطهادها، كما تفاقمت مشاكل الشباب والاطفال وارتفعت معدلات الجريمة والجنوح والتجاوز على حقوق الاخرين، وان تراجع الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي عمل على تزايد تدهور طرائق التربية والتعليم  والثقافة وتخلف "الذهنية" العراقية واستلابها.
*
وفي مداخلته عن اتجاهات حركة الاحتجاج الشعبية الجديدة في العراق والدول العربية اكد الكاتب عبدالمنعم الاعسم بان عُمـُر حركة الاحتجاج العربية لا يزيد الآن عن ستة شهور وحققت في مجال الحريات والديمقراطية ما حققته "حركة التحرر الوطني العربية" في ستة عقود من الزمن، لكن لم تنجلي بعد عن قسمات محددة يمكن التأسيس عليها في قراءة المستقبل”واضاف القول”لقد نجحت حركة الاحتجاج في الاطاحة بنظامين مستبدين (تونس ومصر) وزعزعت اساس نظامين آخرين وهما قيد الاطاحة (ليبيا واليمن) وضربت في الصميم نظامين بوليسيين احدهما للحزب الواحد العائلي (سوريا) والثاني للعائلة القبلية الطائفية (البحرين) كما سجلت محاولات مهمة للتغيير نحو الديمقراطية والتخلص من النخب الحاكمة والفاسدة في كل من الجزائر والمغرب والاردن والعراق” وتوقف عند مشاركة الجماعات الاسلامية في حركة الاحتجاج فقال “ان  التيارت الاسلامية (باستثناء البحرين)  لم تتصدر حركة الاحتجاجات وحاولت التأثير فيها او السيطرة عليها، ويمكن القول ان لأخوان سوريا بصمة في بعض الفعاليات مع ملاحظة انهم التزموا المطالبة بالدولة المدنية، فيما اخفقت الجماعات الجهادية المسلحة في الساحات الاخرى في مماشاة حركة الاحتجاج، اولا، لانها ليست معنية بمطالب الخبز والحرية واعتبرتها شعارات علمانية، وثانيا، لموقفها الرافض من تعاطف الغرب مع الحركة” وقال “لقد ظهرت بعض السلبيات من تأثير المؤسسات السياسية  المحلية وتدخلات الدول الاخرى على مسار حركة الاحتجاج، ومن تراجع دور وثقل القوى الشبابية الساخطة والمهمشة، الامر الذي استغلته القوى الحاكمة في اتجاهين: القمع السافر او محاولة الابتزاز والاغواء.
وتحدث الكاتب الاعسم عن حركة الاحتج في العراق مؤكدا بان المحتجين”غالبيتهم من الشباب العاطل والمهمش والساخط على المحاصصة والفساد وشرائح من سكان الاحياء الفقيرة والمحرومة من الخدمات وبعض جمهور منظمات المجتمع المدني والنخب الثقافية، وفي بغداد اثارت الحركة اضطراب القوى المتنفذة التي تعاملت معها بالتضييق (طيران. خراطيم المياه. اعتقالات) وبالوعود الباذخة مثل الاستجابة لجميع المطالب في غضون مائة يوم” وخلص الى القول بان الكتلة احتجاجية، على هشاشتها، بدت انها قابلة للتماسك والتطور والتأثير كما ظهرت امكانيات للتوسع وضم قطاعات شبابية جديدة لحركة الاحتجاج من داخل الشرائح القريبة من الكتل النافذة، مع ظهور ملامح  استعداد كبير للصمود بوجه التعديات ومحاولات الاختراق من قبل الجماعات الارهابية.
*
وفي ختام المداخلات جرت منا قشات فكرية مستفيضة حول المحاور شارك فيها  جميع الحضور واظهرت المناقشات تنوعا في الرؤى الفكرية والسياسية حيال العديد من القضايا التي طرحها الباحثون، منها حول فائدة تشكيل المجلس الاتحادي في ظل استشراء الفساد وقواعد المحاصصة وضعف المكونات الاجتماعية للديمقراطية وان المجلس الاتحادي سيضاف الى طائفة من الهياكل غير الفاعلة والمشلولة، واكد متناقشون عقم الديمقراطية التوافقية في العراق حيث غيبت امكانية قيام معارضة برلمانية، كما قدم اخرون اسئلة مهمة عن مستقبل الدولة الريعية وتخبط الادارة الجديدة في احتواء مخاطر الاقتصاد النمطي القائم على موارد النفط، ولاحظ متداخلون بان عدم تشكيل المحكمة الاتحادية ادى الى تضارب تفسيرات الدستور فوق غموض نصوصه في الاصل، كما اشار عديدون الى الخلل الناجم عن عدم اجراء التعداد السكاني،  والى التشوهات الاجتماعية الناجمة عن ازدياد عدد الاميين في العراق وغياب اسس التعليم المنهجي السليم.   
واجمعت المناقشات على ضرورة استمرار البحث الفكري والميداني عن نهاية للازمة الشاملة في البلاد والسعي الى بناء الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية.

لندن- فوزية العلوجي

221
المنبر الحر / فشـل الخطاب الامني
« في: 00:56 10/07/2011  »
فشـل الخطاب الامني


عبد المنعم الاعسم
 
الخطاب الامني من اعقد واخطر وظائف الحكومة لمحاصرة الجريمة وتعبئة المواطنين حيالها، وقد ينقلب الى الضد من وظيفته إذا ما قـُدم بعجالة وتخبط وتضارب، بل وقد يكون عاملا في ترويج الجريمة والتغطية عليها حين يكون هذا الخطاب بيد موظفين غير مهنيين او غير متخصصين او غير مؤتمنين على حياة المواطن ومصالح البلاد.
الدول الحريصة على امنها تعكف على بناء خطاب امني منهجي صارم يقوم على كيمياء المصداقية والاقناع واحترام العقل ويتجنب اللف والدوران وانصاف الحقائق واستغفال الجمهور ودس معلومات اضافية وغير واقعية ضد “العدو” كما انها تعهد مسؤولية الخطاب الامني الى خبراء في التعبئة والاعلام ممن يمتلكون معارف في القانون الجنائي واللغة والسايكولوجيا وعلم المخاطبة وكفاءة التنبؤ واحتساب الحساسيات والمخاطر لضمان التأثير في الجمهور وكسبه.
لننظر كيف تعامل، ويتعامل، الخطاب الامني العراقي الحكومي مع الحرائق التي تنشب في المؤسسات الحكومية، وآخرها حريق وزارة التعليم العالي. انه بدأ –كما في بقية الحرائق- بتصريح من مسؤول كبير يقلل فيه من شأن الحادث فنكتشف انه حادث خطير وخسائره فادحة، أو ينفي احتمال التعمد ويلقي الحادث على عاتق “الاسباب الفنية” وانه لم يطل وثائق وعقودا وفواتير وملفات تحقيق في فساد، ثم يأتي الخطاب الامني ليدور على حواشي نفس الجملة الامنية، ثم ليتناقض معها، بعد ان يكون معروفا بان الحرائق مدبرة وموجهة الى اتلاف بصمات تخص مخالفين ومخالـَفات، فيما يفوت اصحاب هذا الخطاب العقيم، دائما، بان عقل السامع والمشاهد ينصرف الى تلك البقع الغامضة في كومة المعلومات المضطربة التي يتلقاها ليربطها بخلفيات الحدث وما كان قد نشر عن وجود مخالفات وتلاعب وفساد في الوزارة، ولا أحد يستطيع ان يمنع المواطن من الاعتقاد بان “الجملة الامنية” الحكومية بعد كل ذلك تكذب عليه.
هذا السيناريو جرى في حوادث امنية خطيرة اخرى(حادث البنك المركزي. هروب سجناء البصرة. حادث سجن التسفيرات. تفجيرات المحافظات. اغتيالات الكواتم..الخ) سوى ان الحكومة تعلن عن تشكيل “لجان تحقيق” لا احد يعرف الى ماذا توصلت، بل ان الخطاب الامني استمر، كما في كل مرة، في اللهاث وراء الاحداث واطلاق الديباجات الباردة عن الاقتدار الامني للدولة ونجاح المفارز الامنية في تفكيك خلايا الارهاب او القبض على ارهابيين، وتتبعها الخدمة التلفزيونية الحكومية او الموالية التي تقدم الى الجمهور طائفة من اللقطات والاعترافات والمتابعات الامنية الخالية من الاتقان الحرفي ومن عناصر الاقناع، ثم تتبعها خدمة اخرى “معاكسة” تتولى تقديمها اقنية ربطت نفسها بمشروع تهديم العراق حجرا فوق حجر لتتحدث عن وقائع وروايات ومستمسكات سرعان ما يصدقها جمهور واسع قبل ان يكتشف غشها.
باختصار شديد، يمكن القول ان ثمة فجوة بين المواطن العراقي والخطاب الامني، وثمة، بالمقابل، إصرار عجيب على تقديم الجملة الاعلامية الامنية على خطى ابجدية الاعلام الدعائي المستهلـَك الذي تعوّد الاعلان بعد كل هزيمة: الرئيس سالما. انتصرنا.
*
“من يجلس فوق مقعدين يسقط بينهما”.
حكمة ايرانية




222
المنبر الحر / بانتظار ساعة الصفر
« في: 23:22 07/07/2011  »
بانتظار ساعة الصفر

عبدالمنعم الاعسم

ساعة الصفر العراقية ليست موعد انقلاب عسكري على الطريق، فقد مضى عهد الانقلابات عندما كانت سلطة القرار ومشيئة البلاد وارواح العباد بيد شخص واحد او جماعة واحدة، يطاح به، أو بها، فيطاح بالسلطة والنظام والقوانين والسياسات ورجال الحكم، وبالشخص الحاكم وجماعته قبل الجميع فيما ازدحم رصيد العراق من الانقلابات التي زادت على الثلاثين منذ تأسيس الدولة العراقية إذا ما صدقنا ما اورده برزان التكريتي في كتاب له عن عشرين محاولة انقلاب فاشلة تعرض لها النظام السابق.
ثورات الردة ايضا تبدأ بساعة الصفر.
وساعة الصفر هنا ليست عنوان الفيلم الوثائقي الشهير عن عملية اعتقال صدام حسين، حين داهمته قوة امريكية كانت تستدل الى حفرته بمساعدة مخبر من حراسه في تلك المزرعة السرية على اطراف بلدة الدور.
وهي ليست بحثا فلكيا مجردا في حركة الزمن نحو نقطة افتراق افتراضية بين زلزالين تـَرِد، عادة، في الخطط العسكرية او في متابعات الانواء العاصفة، او في خلال الحاجة الى تصفير الوقت او تسويفه او الاحتيال عليه، او في خلال التحضير لمؤامرة، او عملية سطو معقدة، ولا هي تحبيذ لفكرة البطل الذي يقاتل حتى النفس الاخير، او تلفيق لصورة المنقذ لرسطورة الذي ارسلته الاقدار لينتشل القارب من الغرق.
ساعة الصفر العراقية توقيت تاريخي فاصل يطرح نفسه في لحظة تنتظرها الملايين الحائرة حيال ما يجري لمصائرها، إذ يُفترض ان يستعيد فيها اصحاب الازمة السياسية وعي الاخطار المحدقة بالعراق، وبهم في المقام الاول، لتغيير مؤشرات الصراع وسلوك التعاطي مع الالغام، في وقت لم تعد الساعة تخفي احتقان المشهد، ولم يعد سجل الضحايا يتسع لمزيد من القتلى، وليس في مقدور الوقت ان يتمدد خارج الغليان الذي تتسارع مؤشرات انفلاته.
ساعة الصفر ليست معجزة من المعجزات، وليست خيارا مستحيلا.. انها توقيت عقلي استباقي لخطوات رشيدة تأخذ القارب الى شاطئ النجاة من غير حساب فئوي للربح والخسارة، طالما ان الرابح هو العراق كي يبقى على الخارطة، وساعة الصفر، بالمعنى الفلكي، تقريب حكيم لعقارب الزمن من انضباط محسوب بمقتضى المصلحة العامة، فاما ان يمسك بها اصحاب هذا الزمن، واما ان تهرب الى المجهول، اللازمن.
في التاريخ، وفي التقاويم، انقذت ساعات الصفر امما كثيرة من الضياع، باعتبارها توقيتات لاختراق الاقدار والركود والدوامات، وهي تطرح نفسها الآن على طاولة الاحداث ليحوّلها المتصارعون الى ارادة نوعية تقوم على التضحية بالامتيازات، بدل ان يفرطوا بها، ولات ساعة مندم.
تماما مثل قصة البالون الذي كان يشرف على السقوط قبل ان يقطع البحر بسبب الاثقال التي يحملها، فلم يكن امام ركابه إلآ حكمة واحدة تضمن نجاتهم هي ان يلقوا بامتعتهم، صرة بعد صرة، فحددوا ساعة الصفر للبدء بالتخلص من تلك الصرر.. او فليصبحوا جميعا بما يحملون طعما للاسماك.. غير مأسوف عليهم.
*
“إذا قالت حذام فصدقوها........
فان القول ما قالت حذام”
شعر


223


حلول تنقلب الى مشاكل

عبدالمنعم الاعسم

لنبدأ بالدستور، وكل ما قيل عنه باعتباره عقدا اجتماعيا، او مجموعة من القواسم التي يضعها خبراء في الدساتير وفي السياسة ويلتزمها الحكام والمحكومون معا، وكل ما سمعناه عن الوثيقة الدستورية كخط احمر لا يمكن القفز من فوقها ولا الحفر من تحتها، وما قرأناه عن “روح الدستور” التي هي الاكثر اهمية في التطبيق من النصوص، والاكثر عدالة وشفقة وشفافية من الاحكام والتفسيرات.
أقول، لنبدأ بالدستور الذي اريدَ له ان يكون حلا لمشكلة بناء الدولة العراقية الجديدة لكي نتملّى كيف برع اصحاب الازمة السياسية في قلب  الحل الى مشكلة حين القوا في طريقه الحجارة والثعابين والتفسيرات العجيبة، لتعطيله في مفترقات كان ينبغي عبورها بكفالة الشراكة وحسن الظن واجواء الثقة وبالشعور العالي بالمسؤولية.
تعالوا الى الاجراءات الامنية لمكافحة الارهاب والجريمة والتجييش والتفجيرات، والى الحل   باهض التكاليف المتمثل بالجدران الكونكريتية، إذ صممت كحلول وقائية لحماية حياة المدنيين والمواقع والابنية المهمة ولكفّ أذى الاعمال الاجرامية، لكنها انتهت الى خنق انفاس المواطنين، وتدمير انسيابية الحركة والنشاط المدني والتجاري مدن البلاد جميعا، ورخـّصت لمنشآت واحزاب وجماعات سياسية ودور عبادة للتجاوز على الارصفة والشوارع ومسالك المرور، فزادت في مضاعفة محن الناس وفي تعقيد حياتهم، عدا عن المشكلات الادارية الناجمة عن المتاريس التي صارت تحيط بالوزارات والدوائر الحكومية، فيما (وهنا تكمن المفارقة السوداء) بطلت اهمية وضرورة كل هذه الاجراءات، وكفـّت عن ان تكون وقائية بالنسبة لحياة المواطنين ولمرافق الدولة على حد سواء، وكان ينبغي البحث عن وسائل اخرى لردع التفجيرات والنشاطات الاجرامية، ورفع هذه الصخور الخانقة من على صدور الملايين  منذ زمن بعيد.
اما فكرة الشراكة في الحكومة وعملية ادارة شؤون البلاد، باعتبارها الحل العملي للصراع وحالة الانشقاق السياسي ودرء اخطار الاحتراب والفتنة الطائفية، والحيلولة دون تهميش الشرائح والمكونات، والخيار المضمون لعبور مرحلة الانتقال الى ضفاف السلامة والبناء، فقد كشفت الخطوات الاولى نحو هذه الشراكة عن الغام ودهاليز وكراهيات وريَب مخيفة، وانقلب الحل المنشود لمشكلات ادارة البلاد الى مشكلة تتناسل يوميا عن مشكلات لا نهاية لها، واصبح من المتعذر الاتفاق (وهو اساس الشراكة) على اية خطوة نحو تطبيع الاوضاع، وعلى اية خاطرة يمكن البناء عليها للتقدم نحو القضايا ذات الصلة بمصالح البلاد ومستقبلها، بل ان فرقاء الازمة صاروا يطعنون بسلامة هذا الخيار، ويهددون بالتخلي عنه.
ثم تعالوا الى الاعلان عن وقائع جريمة ساحل التاجي حيث اريدَ لها ان تكون حلا تعبويا للارهاب وكيف انزلقت الى متاهة وتجاذبات وتراشق اتهامات عبثية، والى تصريحات رئيس مجلس النواب التي اراد منها التحذير من سياسات تهميش مكوّن طائفي إذ انقلبت من دعوة للحل الى مشكلة عويصة، لا هو يعتذر عن سوء التقدير والتوقيت، ولا الاخرون يأخذونها مأخذ حسن الظن وبالتحسب من حساسية الملف.
وغير هذه وتلك، فانه، في مثل هذا الجو السياسي الملبد، لا ضمان ان تتحول الحلول التي تقترحها الحياة لبناء العراق الجديد الى مشكلات يقترحها اصحاب الازمة السياسية لتدمير العراق.

*
“من لم تكن له روح العصر كانت له شروره”.
فولتير
 

224


“صحة الصدور” ..
اختراع عراقي مهين

عبدالمنعم الاعسم

لا إعرف من اخترع “صحة الصدور” هذه: كل وثيقة او معاملة رسمية وقرار وزاري وامر صادر من جهة حكومية عليك، اذا ما كنت صاحب “معاملة” في دوائر الدولة، ان توثق صدوره. كيف؟ ان تراجع الدائرة التي اصدرت الوثيقة(مرة ثانية وثالثة ورابعة) لتحصل منها على صحة الصدور، وبمعنى آخر، انك ستراجع كل دائرة حكومية مرات (وبعضها في بلدات متباعدة) يدخل فيما بينها ما يسمونه بـ”المعتمد” وهو موظف يقوم ما يقوم به عامل البريد في كل دول العالم(نقل المراسلات بين دوائر الدولة) او ما تقوم به اقنية الحاسوب في غالبية دول العالم.
“صحة الصدورة” هذه اختراع عراقي لمكافحة الفساد الاداري (أو هكذا يقال) صُمّم على قاعدة تقول:”كل مواطن يراجع دائرة حكومية متهم بالتزوير حتى يثبت  براءته” والنتيجة هي حشر ملايين المراجعين  يوميا في دوامة مضنية من المراجعات على شبابيك (في غالبيتها الساحقة) ضيقة، حاسرة تحت شمس الصيف المحرقة وزمهرير الشتاء القاسي، وتتكدس عليها حشود من البشر الضاجين بالصراخ على الموظف المسكين، الملوحين بايديهم،  في مشهد مهين ومثير للشفقة والقرف، فان توثيق المراسلات وتدقيق صحتها ومكافحة التلاعب في الدول (لا الغابات) مسؤولية الجهاز الحكومي الذي يحرص في العادة على تسهيل الخدمة الادارية ويتفنن(كما يفترض) في توفير الوقت للمواطنين بدل إهداره في سلسلة معقدة ومهينة من المراجعات.
استطيع الاعلان (واعرف عن قرب) بان عشرات الالوف من المواطنين تخلوا تحت طائل “صحة الصدور” عن حقوقهم او عن محاولات الحصول على وثائق واصول وبيانات وقرارات ومراسلات تخص عائلاتهم او املاكهم او تقاعدهم او ذممهم، وذلك في منتصف الطريق لمراجعة الدوائر، وسيكون مفهوما ان يتعرض غالبيتهم الى ابتزاز موظفين فاسدين(او وكلاء او معتمدين) يستغلون محنتهم في مراجعات تمتد لاشهر،  بل لسنوات طويلة، لغرض الرشوة والتلاعب.
وسيكون مفهوما اكثر، ومثيرا للسخط، الحال الذي تتعرض طوابير من نساء الاحياء الشعبية، من الارامل وضحايا التفجيرات والفتن الطائفية والساعيات الى  حقوق التقاعد والمساعدة الاجتماعية  اللواتي يجهلن مفاتيح المراجعات، إذ تنهكهن الدوامة اليومية، وتذلهن طلبات “صحة الصدور” التي تفرض عليهن التنقل المكلف والمهين بين دوائر الدولة وبلداتها ومحافظاتها من غير طائل، فيما تتخلى الدوائر الحكومية عن مسؤوليتها الادارية بتدقيق “صحة الصدور” بوسائل ادارية شفافة وسريعة، وتلقيها على كاهل المراجع. 
اقول، اريد لهذا الاختراع الاداري العدواني ان يحارب الفاسدين، فكافح المواطنين بدلا عنهم، وأرادوا له ان يكون حلاً فصار كابوسا.
*
 “مشكلتنا اننا لا نضحك من انفسنا.. لذلك لا نستطيع ان نتغيّر”.
آرت بوكوالد
ــــــــــــــ




225
المنبر الحر / لنقرأ الحجاج جيدا
« في: 11:31 03/07/2011  »
 

لنقرأ الحجاج جيدا

عبد المنعم الاعسم

الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق لعبدالملك بن مروان قبل الف واربعمائة عام، وهو، في مصطلح هذه الايام، مسؤول كبير في دولة ذلك الزمان، بلغ من من القسوة ما جعله يتسلى بها ويتلذذ في عذاب ضحاياها، وكان يخاطبهم بالقول: “طاعتي عليكم اوجب من طاعة الله”.
كان الحجاج خطيبا بارعا، ولغويا شهيرا، بستعير كلماته من كلام الله، وينحتها من حجر النحو والبلاغة، وهو نفسه كان عالم لغة، تفنن في اختزالها الى مفردة لاثارة هلع الناس الذين يتسلط عليهم، وتخويفهم، واذلالهم، وإخضاعهم، وليس من غير مغزى ان يتلقب الطاغية المعاصر في الكثير من الاحوال بانه حجّاج زمانه، وخصّه الخليفة عمر بن عبدالعزيز بالقول: “لو جاءت كل امة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج، لفزنا عليهم جميعا” وتذكر الكتب انه لما دخل البصرة في طريقه الى الكوفة، جلس على المنبر بالجامع، وأمر جنده (حماياته) بأخذ الابواب، وإشهار السيوف، وقال لهم: اذا رأيتموني أضع العمامة عن راسي فضعوا سيوفكم فيهم(في المصلين) ثم بدا خطبته، فالقى عليه الناس الحصى، فخلع العمامة ووضعها على ركبتيه، فجعلت السيوف تبري الرقاب، وسالت الدماء الى ابواب المسجد. 
في السايكولوجيا والطب وعلم التاريخ، ثمة من الحجاج ما بقي في سلوك وثقافة البشر الذي عاش بينهم، وساسهم، وتحكم في رقابهم، وكذلك في فنون حكم الحكام، وشاءت صفحات التاريخ ان تحدثنا عن اكثر من حجاج واحد انتجه اجدادنا، وهناك حجاجيون محسّنون، يأتون الشنائع بلغة سليمة، ولا تأخذهم الشفقة في بريء، او بعابر سبيل، لكنهم، مقابل ذلك إذلاء امام الاقوياء او امام اصحاب النعمة، وكان الحجاج يخاطب عبدالملك بقوله: “إنك عند الله افضل من الملائكة المقربين والانبياء المرسلين”.
ولعل الادارة الصارمة، الفردية، لشؤون الدولة وهوس استخدام السلطة والقرار، واحدة من موروثات الحجاج الكارثية، يشار هنا الى سوء اجراءاته في جباية الضرائب، مثلا، إذ تخيّل ان تراجع الزيادة يعود الى قلة الماشية التي تعين الفلاحين على حرث الارض، فاصدر امره بتحريم ذبح البقر، فقال شاعر:
شكونا اليه خراب السواد
                              فحرّم فينا لحوم البقـــــر
فكنا كمن قال من قبلنا
                              اريها السهى فتريني القمر
الحجاج كان موظفا، وكل الذين برأوه من ظنة القسوة والبطش في العراق والقوها على عاتق الخليفة عبدالملك ارتكبوا ظنة تزوير الحقائق مثلهم مثل الذين برأوا الخليفة وافترضوا ان الحجاج كان وحده المسؤول عن تلك الخطايا، فان الاستبداد المركزي يخلق استبدادا ربما اكثر بشاعة في الاطراف، لكن سيرة وسلوك وايديولوجية الحجاج تعطينا، إذا ما قرأناها جيدا، خطوطا من المحاذير الخطيرة في الادارة والسياسة، يمكن تلخيصها بعنوان عريض هو: الحكم الكيفي ينتج موظفين من جنسه.
*
“تـَوَقَّ ما تعيب”.
                      علي بن ابي طالب



226

من حافظتي.. ليبيا، القذافي والسنوسي


عبدالمنعم الاعسم

مرة واحدة التقيت دكتاتور ليبيا معمرالقذافي، وهي المرة الوحيدة التي زرت فيها “الجماهيرية” لكن ملف هذه البلاد كان رفق اهتمامي اليومي لما يزيد عن ثلاثين سنة عندما زرت ليبيا عام  1978ثم حين عقدتُ وزميلي الصحفي الاردني نصر المجالي حوارا مطولا في احدى محطات انفاق لندن مع وريث عرش المملكة الليبية الامير محمد الحسن الرضا السنوسي، في خريف العام 1991 ونشرناه معا في صحيفة كويتية كانت تصدر في العاصمة البريطانية، وكنا نعمل فيها، آنذاك.
قبل هذا، كنت ضمن وفد شعبي عراقي يزور ليبيا العام 1978 بمناسبة الذكرى الثامنة لجلاء القوات البريطانية من قاعدة طبرق في 28 آذار 1970 وتقع المدينة على بعد الف وخمسمائة كيلو مترا الى شرق العاصمة طرابلس. نزلنا من الطائرة في بنغازي، ثم اقلتنا، في الليل، عدة حافلات الى حيث لاندري، ولم يخبرنا احد عن المكان الذي نتجه اليه باستثناء القول اننا سنصل قريبا الى مضافة ما، فيما شغلـَنا الاعياء والنوم عن تكرار السؤال لمرافقينا عن طبيعة هذه المضافة، وبعد ان قطعنا ما يزيد على 450 كيلومترا من بنغازي شارفنا على مدينة طبرق على الحدود مع مصر وظهرت لنا من خواطر فجر يلوح من بين عاصفة رملية حمراء.
توقفتْ الحافلات امام بناية قديمة قيل لنا انها فندق وان علينا إنزال حقائبنا ثم العودة الى الحافلات لأخذنا الى استقبال رسمي، ثم، وعلى بعد حوالي كيلومترين فوجئنا بسرادق وعرض عسكري على ساحة يحيطها سياج منيع من الاسلاك الشائكة وصفوف متراصة من الجنود، وكان العقيد القذافي يستقبلنا واحدا واحدا ويُجلسنا في الصف الذي يليه، وسط طوق كثيف ومستنفر من الحماية، وكان مكاني الاقرب اليه من بين اعضاء الوفد، ولهذا كنت تحت مراقبة شديدة من عدد رجال الحماية. ضايقني ذلك فيما كان العقيد قد التفت اليّ مرتين، ليحدثني عن بشرى “الوحدة” والانتصار على امريكا قريبا ولم اسمع بقية كلامه لأن صوت المذيع الذي ينقل وقائع الاستعراض العسكري لم يترك لنا بصراخه المتواصل والمتصاعد فسحة لنسمع شيئا آخر، ولاحظت ان القذافي كان يزوّده بقصاصات من الورق يكتب عليها شعارات يشتم فيها الاستعمار ويتوعد العملاء ويبشر المستمعين بفجر جديد على يد هذا الجيش، وكان المذيع يقرأها بصوت مبحوح واكثر هياجا، يثير جذل العقيد الذي يبدو كطاووس وسط هذا المشهد.
وشاءت العاصفة الرملية ان تلقي بخيمتها الحمراء على السرادق وساحة العرض وحركات الطاووس، وقد رصدتُ من مكاني محاورة كانت تجري بين رئيس الاركان الخويلدي والقذافي حول عرض لجنود المظلات إذ كان الخويلدي يبدي معارضته لفكرة الانزال الجوي بسبب العاصفة الجوية لكن الطاووس يصر عليه بالرغم من الاخطار المحدقة بحياة الجنود المظليين، وهكذا اختتم العرض الجوي بمجزرة قتل واصيب فيها اكثر من عشرين مظليا اخذت بهم العاصفة الهوجاء الى الاسلاك الشائكة الفتاكة، وفي اليوم الثاني خرجت الصحف بتحقيقات عن “اليوم البهيج” الذي رعاه “القائد” وارسل منه تهديدات شملت عواصم عربية واجنبية بالجملة.
اعادونا الى مدينة بنغازي، وفيها قرأنا على بعض الجدران شعارات مناهضة تقول: اوقفوا نبش قبور محرري بلادنا من الاحتلال، وبنغازي لن تحتملكم طويلا.وبعد 33 سنة ضاقت بنغازي ذرعا بالطاووس، فسبقت المدن الى العصيان.

*
كانت  هذه البلاد، يوما، ملتقى العالم ومحطة استراحته. سكنتها قبائل البربر منذ آلاف السنين، ووصلتها موجات الوندال والرومان، ثم العرب وخيول المسلمين، لتترك على ارضها، جميعا، بصمات حضارة عظيمة، قبل ان يقطع الطليان وغزاة صحراويون اجمل رؤوس الايقونات وتماثيل المحاربين، وحين زرنا في طرابلس احد بقايا الملاعب الرومانية كان مرافقـُنا الحكومي يقرأ ورقة امليتْ عليه من الجهات الرسمية تقول ان ثورة القذافي انقذت ما تبقى من هذه الحضارة، فابتسمنا لهذه النكتة البائخة.
وطوال عهود وعهود بقيت ليبيا راسخة العمود بين البحر والصحراء، فسجلت في تقويمها اسم القائد الوطني عمر المختار الذي اجترح مأثرة المقاومة والاستشهاد ضد الاجتياح الطلياني في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وشاءت، بعد ذلك، ان تكون ميدانا للحرب العالمية الثانية وساحة لتجمّع جيوش الشرق الاوسط، فدارت على تخومها المعارك الضارية، ودفن في رمالها الآلاف من الجنود والقادة العسكريين، ودخلت في ذاكرة قادة الجيوش المتطاحنة ومذكراتهم.. مونتوغمري وتشرتشل وآخرون.. اما ستالين فقد طالب الامم المتحدة ودول التحالف المعادي للهتلرية المنتصرة بوضع اقليم “تريبوليتانيا” الذي يضم ليبيا وبعض الخواصر الجغرافية في وسط افريقيا تحت الانتداب السوفيتي المؤقت، لكن الحلفاء وقفوا ضد هذا الطلب، وفضلوا ان يتقاسموا البلاد بعد ان عرفوا انها تضم في باطنها بحارا من النفط الخام، وذلك قبل ان تدور رحى التاريخ فينقلب الليبيون على مستعمريهم، وينالوا استقلالهم ويؤسسوا مملكة دستورية بقيادة الملك ادريس السنوسي العام 1951 .
ابتدأ عهد القذافي في ليبيا بانقلاب العام 1969 فشن هجمة مثيرة للاشمئزاز على قبور رموز الزعامات السنوسية، ومنهم مؤسس المملكة محمد علي السنوسي   ورميها في الصحراء، ولم تسلم من النبش قبور النساء السنوسيات وشاء ابن القذافي “سيف الاسلام” ان يعترف بهذه الفعلة الشنعاء خلال متابعة تلفزيونية في يناير العام الماضي خلال زيارته لمدينة الجغبوب، وفـُهم من هذه المتابعة ان “ثورة الفاتح” عاقبت هذه المدينة التي تضم مزارات السنوسيين وقبورهم بالاهمال والعزل لمدة اربعين عاما، وشمل العقاب تهديم المنارة الاثرية وتدمير مكتبة المدينة التاريخية وقطع مجاري المياه واعتبار سكانها مواطنين من الدرجة الثانية، فضلا عن النهب المنظم الذي تعرضت له المدينة من قبل متنفذي المؤتمرات الشعبية (حزب القذافي) ومن بين تلك المنهوبات “ثريا” كان قد اهداها موسوليني لحاكم المدينة الايطالي، غداة اندلاع الحرب العالمية الاولى.
 لم يشهد العالم زعيم دولة استهتر بالحدود والسيادات وضوابط العلاقات بين الدول وبارواح المدنيين باسم الثورة مثلما شهده من القذافي طوال عقدين من السنين، إذ وظـّف مليارات الدولارات هي موارد بلاده من النفط في إرشاء سياسيين ومنظمات ومسؤولين كبار لخدمة اعمال همجية استهدف طائرات مدنية وسفارات وملاهي وشخصيات مهاجرة كانت عواصم كثيرة في العالم مسرحا لها، وحين حل الحساب عرض على دول الغرب، وبكل صفاقة وذل، مليارات اخرى من الموارد عربونا لبقائه على راس السلطة وقبولا بالتزامه احترام “لعبة الامم” ولم يكن ليعرف ان كل هذا المسلسل كان يجري امام الشعب الليبي بالتفصيل المثير للغضب والاستياء، حتى حدث ما حدث.
شارك الامير محمد السنوسي، مرة قبل اكثر من عام، في تظاهرة بلندن ضد انتهاكات الحقوق المدنية في ليبيا، ثم قلتُ له: يبدو ان الشعب الليبي استسلم لمشيئة القذافي. قال: هكذا يعتقد هو. صدقني ان مفاجأة ليبية في الطريق


 تفنن القذافي في ايذاء الطائفة السنوسية واتباعها من الاسرة الملكية التي كانت رمزا لاستقلال ليبيا. السنوسية حركة اسلامية اصلاحية، اتخذت السلوك الصوفي طريقا لترويج رسالتها القائمة على "العرفان والعلوم والصلاح" وقد انتشرت في العمق الصحراوي الافريقي حين تبنت تهدئة الصراعات بين الاقوام المتحاربة والصلح بينها والعودة الى الاسلام الاول وانهاء حروب النهب والتنكيل ودورة الانتقامات والتقريب بين الطوائف المتقاتلة وشعارها الاية: "وأن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما"  التي اصبحت دستورا للحركة، وكانت دور العبادة التي شيدتها باسم "الزوايا" بمثابة معاهد للعلوم واحياء قيم الاسلام الاول واستعادة صفات العفة والمسالمة والصلاح للشخصية الاسلامية.
 وليس من دون مغزى ان يعترف الساعدي القذافي (ابن الطاووس) مؤخرا بان السنوسية جزءا اساسيا من تاريخ ليبيا الحديث. وتنبغي الاشارة هنا الى ان الحكم السنوسي اسس اول ملكية دستورية برلمانية في العالم العربي، وكانت أول جماعة اسلامية دعت الى منع دور العبادة في التدخل بالسياسة وشؤون الحكم، وفي خلال حكمها من 1951 حتى 1969 لم يتدخل ملكها في شؤون الحكومة والبرلمان والاحزاب، ولم يتمتع بامتيازات مواطنة اضافية، حتى ان آخر ملوكها لم يجد بدا من ان يهجر الحكم ويستقيل مفضلا قضاء ما تبقى له من العمر في التعبد.
 استدراك: في حافظتي عن العهد الملكي الليبي وجدت معلومة موثقة تفيد بان الملك السنوسي عين في منتصف الخمسينات الضابط العراقي (الشهيد) داوود الجنابي مستشارا عسكريا له.
 اقول، لم يوفر القذافي فنا في الايذاء إلا واستخدمه في مطاردة الاسرة السنوسية الملكية والتنكيل بها ، فاعتقل ولي العهد الحسن الرضا السنوسي لسنوات طوال من غير محاكمة  وصادر منازل سكنها والقى بها الى العراء فاستضافها محسنون في منازلهم وسهلوا لها الفرار من الجحيم تباعا، ثم ادخل ملاحقة من تبقى من افرادها في الخارج في قائمة المطلوبين للاغتيال سوية مع اسماء ما يزيد على الفين ممن اعتبروا اعداءا قيد القصاص الارهابي من الجماعات والشخصيات والسفارات والدول ينتشرون على رقعة واسعة من العالم.
 الى بريطانيا وصل ولي العهد مريضا، وفيها توفى في مطلع التسعينات، وكان وريث العرش ابنه الشاب الامير محمد  جارا لي في حيّ بوسط  لندن، وسنحت الفرصة لالتقيه مرات عدة واعقد معه حوارات ولقاءات صحفية وعامة، ولما لم استرخصه في الحديث عن حياته ومعلوماته فاني استطيع القول، بايجاز، ان الاحداث الليبية العاصفة (وهكذا اعتقد) لم تفاجئه تماما، وكان يعرف عن كثب ومنذ زمن طويل بان جرائم القذافي الارهابية والدموية الخارجية التي يعرفها العالم ليس سوى فاصلة معلنة عن الجرائم التي يرتكبها ضد الليبيين في الداخل، وان الاذلال اليومي الذي يعانيه الليبيون في ظل حكم الحلقة الضيقة المستهترة لاسرة القذافي سينفجر عن انتفاضة تطيح بهذا النظام الى الابد.
*
قبل ايام ظهر السنوسي على واجهات التلفزة ليكتفي بالقول "لقد تعب الليبيون من الحرب.. ليس المهم شكل الحكم".


227
جدل التمديد والانسحاب..
والوطنية

عبدالمنعم الاعسم

في عالم العقد الاول من القرن الواحد والعشرين اختـُزلت سيادات الدول الى ورقة على طاولة الدول الكبرى، ولم تعد القوة العسكرية وحدها كافية لضمان حماية السيادة الوطنية لاية دولة، إذ دخلت  على ذلك عوامل موازية تتمثل في ناحيتين، الاولى، علاقات الدولة مع جيرانها في اطار الامن والمصالح المشتركة وانضباط هذه العلاقات بمبادئ عدم التدخل او التوسع او التآمر، والثانية،  متانة الجبهة الداخلية بين مكونات الدولة وشرائحها السياسية والاجتماعية وتماسك نظامها السياسي بحيث لا يفتح ثغرة للاطماع او مجالا للانتهاكات.
 وإذ ورث العراق، عن حروب النظام السابق وحماقاته وايديولوجيته الديماغوغية، جملة من العداوات والريَب، ونزعات دفاعية تفرط في اعطاء الجانب العسكري مكانة في حساب القوة، فقد كان احتلال العراق العام 2003 عاملا في منع تمزيقه ولجم المحاولات الاقليمية لقضم اراضيه،من جهة، وفي إضعاف بنيته الدفاعية الذاتية، من جهة اخرى، فيما اضاعت البلاد ثماني سنوات في البحث عن منظومة دفاعية مناسبة تحل محل المنظومة السابقة، بين بناء جيش قوي في مستوى قوة جيوش الدول المجاورة، وبين تأمين قوة دفاعية سلمية منتخبة تحقق حماية السيادة دون التوسع بالتسليح او المضي في سباق التسلح مع الجيران.
 وفي غضون ذلك تلكأت برامج التسليح والتأهيل واعادة بناء القوة العسكرية، وبدا للكثير من المحللين بان الجانب الامريكي لم يكن متحمسا  كفاية لتسريع ايقاع عملية بناء جيش عراقي متكامل التسليح والقوة، ووجد الكثيرون في ما تنشره الصحافة الامريكية عن عدم ارتياح الامريكان للتركيبة الطائفية للمنظومة العسكرية العراقية ولهيمنة احزاب دينية على راس تشكيلاتها سببا لبقاء العراق كل هذه السنين في امس الحاجة الى حلقات تسليح استراتيجية.
 وطبقا  لمحللين عسكريين غربيين (البريطاني)تشارلز هايمان)  فان مخططي الاستراتيجيات الامريكية يأخذون بالاعتبار في ملف تسليح العراق خشيتين متشابكتين ومتناقضتين، الاولى، وقوع العراق تحت ضغط (او هيمنة) جارته ايران، والثانية، تحول العراق الى عامل في اضعاف معادلة تفوق اسرائيل في المنطقة، ويضيف آخرون الى تلك الخشيتين خشية اخرى تتصل بضعف البنية الاحترافية لطبقة العسكر الجديدة، الامر الذي قد يهدد باستخدام القوة العسكرية الضاربة في الصراع السياسي او في حملات شوفينية تعيد الى الاذهان حملات صدام حسين،  وتلخيص ذلك هو ان الادارة الامريكية تنظر بعين الحذر الى المطالبات الملحة من بغداد لاعادة تسليح البلاد والتعجيل بتشكيل الدفاعات الجوية والبحرية فضلا عن البرية.
 وعلى هدى هذه المؤشرات سيكون خيار التمديد لبعض القوات الامريكية في العراق تحصيل حاصل، وإن كان معارضو هذا الخيار، في الداخل والخارج، لن يكونوا متفرجين، ولن يكون جميع الموافقين على التمديد سعداء.
على ان اسوأ صيغة للتعامل، عراقيا، مع ملف الوجود العسكري الامريكي هي اخضاعه للعواطف والمعايير والاعتبارات والمصطلحات المجردة، أو الى محاولات تركيب اسباب للوقوف مع التمديد او مع الانسحاب التام، فوق ما تتحملة حقائق الوضع، وبعيدا عن الحساب للاخطار والتحسب للمستقبل.
فالذين يدافعون، بحماس مفرط، عن التمديد ونشر قواعد امريكية يستطردون الى تحبيذ خيار الاندماج بالمشروع الامريكي الكوني ويروجون افضليات انتماء العراق الى كتلة اقتصادية وسياسية وعسكرية كبيرة تتحكم بمصائر العالم باعتبار ذلك مدخلا الى القضاء على التخلف واللحاق بالمدنية وضمان التنمية والحماية الاقليمية، عبورا من فوق التفاصيل المتعارضة ذات الصلة بالسيادات والخصائص المحلية العراقية الاثنية والدينية والعقائدية ومشاعر الوطنية والتبعات الاقليمية لمثل هذا الخيار، فضلا عن استحالة امكانيات الاندماج وفشل تجارب دولية معروفة في هذا المجال وبخاصة الكثير من دول اوربا الشرقية والدول الاسيوية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي.
اما الذين يعارضون بحمية أي وجود عسكري امريكي، مؤقتا او دائميا، فان ثمة جهتين لا فائدة من مناقشة موقفهما، الاول، يمثل هواجس وارادات اقليمية تخطط الى ملء الفراغ الامني الناتج عن انسحاب القوات الامريكية وجر العراق الى محور المجاهدة والتوتير، والثاني، يتصل بالمشروع الارهابي المسلح الذي يعد لضربة امنية، وطائفية، تقطع الطريق على اية فرصة للاستقرار في العراق، وهو الوضع النموذجي المناسب لنشاط الجماعات الجهادية الاجرامية.
غير ان ثمة جماعات سياسية تضع ثقلها الى جانب خيار الانسحاب الفوري والناجز للقوات الامريكية والامتناع عن أي تمديد لها، وهي تنطلق من حزمة اسباب وقراءات تتجمع في الاعتقاد بان الحالة العراقية ستشفى من العلل والاختلالات والضعف حالما يغادر أي جندي امريكي من العراق، وان الجدارة العسكرية للقوات الدفاعية والامنية يمكن ان تتحقق، وبوتائر عالية، حين يتخلص القرار الوطني من قيود الاتفاقية الامنية والوجود العسكري الامريكي، وتذهب بعض قراءات هذا المعسكر الى ان انسحاب القوات الامريكية من شأنه ان يخفف من تدخل بعض جيران العراق في شؤونه، وقد يُبعد شرهم، ذلك لأن العراق، حسب هذه القراءة، سيكفّ، في حال خلوّه من القوات الامريكية، عن ان يكون منصة تهديد للجيران، او جسرا للوثوب اليهم.   
وإذا ما استبعدنا الحسابات الامنية لانسحاب القوات الامريكية، فاننا سنطالع آمالا يعلقها البعض من الفئات السياسية على مرحلة ما بعد الانسحاب البعض إذ يتطلع الى  استثمار اوضاع ما بعد الانسحاب لتحسين موقعه في معادلات الصراع على السلطة، أخذا بالظن، ان الوجود العسكري الامريكي متحيّز الى هذه الكتلة او تلك، وان انطفاء دوره من شأنها اطفاء تنافس المعولين عليه، في نهاية المطاف.

 في كل الاحوال، وفي جميع الاعراف والقيم والمعاهدات والمفاهيم، يُعدّ الاحتلال العسكري لاية دولة قوة بغيضة، يتساوى في ذلك الاحتلال الذي يقوم به نظام (حاكم. جيش) اجنبي طامع، توسعي، مع احتلال يقوم به نظام شقيق او صديق بدواعي مختلفة، كما تتساوى الاحتلالات في بُغضها (ميثاق الامم المتحدة) سواء تمت، كفعل مخطط له، تحت شعارات انسانية انقاذية، ام تمت تحت دواعي انتقامية توسعية او كرد الفعل على سلوك دولة معتدية.
 وهذا ما يُدخل الجدل الى موضوع الوطنية (او القومية بحسب مصطلحات كثيرة) حيث تعبر هذه الوطنية عن نفسها (في مختلف المجتمعات) باشكال عديدة، المقاومة واحدة منها، وتـُعدّ، إذا ما نأت عن التطرف والعنصرية والعدوانية، عامل توازن وتضامن واستقرار وتنمية وهيبة في المجتمعات والامم، وبخلاف ذلك، فان المجتمع الذي تتدهور فيه الغيرة على الوطن وتتدنى فيه مشاعر الوطنية الى مناسيب منحطة، وتحل فيه نزعات الدونية محل الكرامة، لا يمكن له ان ينهض باقامة دولة سليمة، ذات سيادة، تحظى باحترام جيرانها والعالم، ولا انْ يضمن استمرار هذه الدولة على الخارطة، وياما انقرضت دول وامم من صفحات التاريخ حين كفّ ابناؤها عن حمايتها بالوطنية وتعاملوا بالانانية وانعدام الغيرة مع التحديات التي واجهتها.
 باختصار فانه لا يصح، عراقيا، شطب العامل الوطني من معادلة الجدل حول مصير القوات الامريكية، طالما هي تتصرف (ومفوّضة باتفاقيات) بجزء من ارادة السيادة والنظام السياسي، وبمعنى لآخر، فان خيار التمديد المؤقت او الانسحاب الناجز لا ينبغي ان يعبر من فوق المشاعر الوطنية، ولا ينبغي، طبعا، الاستهانة بنتائج تجاهل هذه المشاعر على المدى البعيد.
 مقابل ذلك لا يصح تبسيط النظر الى العامل الوطني العراقي في قضية مصير القوات الامريكية في العراق، ولا ينبغي اختزاله الى جزيئة سياسية، بحيث يصبح كل من يدعو الى إخلاء (تحرير) العراق فورا من جميع القوات الاجنبية وطني وينطلق من جذوة الوطنية(هناك عصابات الارهاب. ووكلاء الدول الطامعة. ونهازو الفرص للوثوب الى السلطة) ولا اعتبار كل من يدعو الى التمديد قدْ فقدَ قطرة الحياء الوطني وباع الوطن الى الاجنبي، فنحن بصدد البحث عن مخرج وقائي لمأزق تاريخي ارتمى اليه العراق في ظروف متشابكة ومعقدة هي اقوى واخطر وابعد اثرا من التعريفات والمصطلحات.
الامر الذي ينبغي الاعتراف به ان الوطنية العراقية اخضعت للتشويه المنهجي في ظل دكتاتورية صدام حسين بحيث صار الحاكم المستبد هو الوطن، والتمرد عليه تمردا على الوطن، بل ان  شرائح وفئات ومتبوعات اديان جردت عنها الوطنية لمجرد ان شبهة عدم الولاء للدكتاتور حامت حولها، فيما الان نتابع تطبيقات فجة لمفهوم الوطنية الذي يحرص لاعبون على تفصيله على مقاساتهم.. فيما مقاساتهم اقل بكثير من رداء الوطنية.


228


العراق
ونفوذ الدول المجاورة

عبدالمنعم الاعسم

يُعد العراق من مجموعة الدول التي تمر في حالة اضطراب وعدم استقرار، او بالمصطلح المدرسي: حالة انتقال شديدة التعقيد والتداخل مصحوبة بانشقاقات سياسية على مستوى المكونات، وفي داخل كل مكوّن.
والمهم هنا الإقرار بان الدولة العراقية تعاني من ضعف في مفاصل كثيرة، لعل اخطرها المفصل الامني الذي يكشف، في ما يكشف على المستوى الوطني، عن هشاشة كفاءة الدفاع عن البلاد ونقص مستلزمات حماية السيادة، في منطقة محاور متصارعة وسباق تسلح واطماع توسعية خارج الانضباط فضلا عن هوس تصغيات الحساب بين هذه المحاور وبينها وبين الاستراتيجيات الامريكية على الارض العراقية.
 ولايقلل من تأثير هذه المحددات على الوضع العراقي كل ما يقال عن تطمينات والتزامات اقليمية ودولية حول احترام ارادة العراقيين وسيادة بلادهم، لأن هذه المحددات تتم باشكال بالغة الدقة وعبر اقنية مختلفة ومتشابكة ومفتوحة، استخبارية ومالية ولوجستية واعلامية، تضاف لها تداعيات تفكيك دولة الدكتاتورية، ووقوعها تحت قبضة القوات الاجنبية وما ترتب على ذلك من اختلال في التوازن الامني الاقليمي.
وإذا ما سمينا الاشياء باسمائها، وكما هي في الواقع، فانه من الضروري الاشارة الى ثلاثة محاور اقليمية تحيط بالعراق وتمارس تاثيرها ونفوذها وضغوطها على وضعه الامني والسياسي، هي المحور السعودي (الكويتي) والايراني (السوري) والتركي التي جميعا تضع العراق على اولويات اهتمامها ومجال نفوذها وخطط التأثير في احداثه ومراقبة مسارات بناء الدولة الجديدة وشكل هويتها وتحالفاتها وطبيعة سلطتها، والتدخل فيها، ومن الطبيعي ان لايرى المحلل كفاية من المعطيات على سلامة ونزاهة وصدقية تعامل هذه المحاور مع خصوصيات التكوين العراقي وموجبات تطبيع الاوضاع في البلاد، كما لايستطيع ان يفاضل بين هذا المحور او ذاك، او يفترض اخلاقية هذا التدخل او سواه، إذا ما وضع مصلحة العراق وحاجته الى الاستمرار على الخارطة.
ومن البديهي ان تجد هذه المحاور، في مثل الحالة العراقية المضطربة والمتشظية، وسطا سكانيا وسياسيا تتماهى فيه وتحمـّله نفوذها واجندتها وتدير بواسطته صراعاتها مع بعضها الاخر، كما انه من البديهي، ان تجد هذه المحاور متطوعين ومتحمسين في داخل الخارطة السياسية العراقية، تستقوي بهم ويستقوون بها، وليس مبالغة في القول بان الكثير من فصول هذا المشهد التاريخي تُنفـّذ بالكثير من الشفافية وبرود الاعصاب والانسيابية، وكأن هناك اشارات مرور تنظم حركة التواصل، وتضمن استمرار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار لكن بادوات (شعارات) محلية تتولى تحقيق الهدف بالنيابة.
على هذا السطح نستطيع ان نتفحص، بهدوء، كيمياء النداءات التي تنطلق بين وقت وآخر (من شخصيات او فئات عراقية) وهي تدعو الى درء خطر النفوذ من محور واحد بعينه، فقد يكون هذا النداء مأجورا  لمحور آخر يمتلك نفوذا لايقل خطرا عن سواه، وقد يكون معروضا للبيع في بورصة الصراع بين المحاور.
لكن الغش يظهر واضحا في حمية البعض من النداءات المحلية التي تبرئ هذا المحور او ذاك من ظنة التمدد في الشأن العراقي وإفساد نسيجه . اما الوجه الآخر لهذا الغش فيمكن قراءته في القول ان هذا المحور او ذاك يهمه احوال هذه الشريحة العراقية او تلك وحمايتها حين تتعرض الى التنكيل.. فمن ينكل؟ ومن يحمي؟..
*
“ وإن كــنــتَ لا تــــدري فالـمـصـيـبـةُ أعــظـــمُ”
    شعر


229
المالكي وعلاوي..
إصطدام حافـّات

عبدالمنعم الاعسم

 في خلفيات التوتر الجديد بين معسكري رئيس الحكومة نوري المالكي ورئيس ائتلاف العراقية اياد علاوي ثمة حلقة رئيسية، مركبّة، حساسة، محشوة بالالغام، تتفرع عنها جملة من الاحتقانات والتوترات والصراعات، حتى يبدو للمراقب الموضوعي انه لا إمكانية للتقريب بين المعسكرين(إذا كان التقريب ضروريا) من غير تسوية تتغلب على تلك الحلقة او صفقة تسمح بتصريفها الى تهدئة مؤقتة تصل بالقارب الى موعد الانتخابات الجديدة.
 اقول، ثمة حلقة رئيسية تقع في قلب هذا التوتر هي سلطة القرار بين كتلتين برلمانيتين (دولة القانون والعراقية) متقاربتين في عدد المقاعد، متباعدتين في الرؤى وتمثيل الشرائح وكاريزما الزعامة، قبلتا ان تكونا شريكتين في الادارة وان تتقاسما امتيازات هذه الشراكة بكفالة الكتل الاخرى، وبمشاركتها، وبمباركة الجانب الامريكي وحماسته، عبر تفاهمات واقنية اتصال صعبة وشديدة التعقيد، ومن زاوية يبدو انه لا مفر من هذا الهامش التوافقي لتجنيب العملية السياسية انشقاقا غير محسوب النتائج، وتعريض الكتلتين والزعامتين الى امتحان اثقل من قدرتهما اذا ما حسبنا القدرات بمعايير بلد يمر في حالة اضطراب وتدخل دول الجوار في خواصره.
 لكن علينا ان نضيف القول بان جوهر التفاهمات التي تحققت بين الجانبين (اعلن بعضها وبقي البعض الآخر طي الكتمان) كانت ستعبر بالحكومة الى نوع من الاسترخاء لو ان الكتلتين منسجمتين في الحد الادنى من الايمان (الجدية) بتقسيم الادارة والقبول بالآخر شريكا بالمعنى الحقيقي، او في الحد الادنى من اجواء الثقة والعمل المنتج، او في الحد الادنى من التصوّر لتوظيف العلاقة بالجيران، ايجابيا لصالح البلاد، بدلا من الاستقواء بها في التنافس على السلطة، واخيرا في الحد الادنى من التضامن لمعالجة الملفات المطروحة وفي المقدمة منها الامن والفساد والخدمات وتطبيقات الدستور.
 ما حدث، ان معسكر المالكي (وحزبه) ومنذ ان نجح في العبور من بوابة الترخيص في البرلمان وضع خارطة للادارة والمسؤوليات والاليات تتسم بالاستحواذ وتجاهل استحقاقات الشراكة، ما اثار حفيظة الشريك الاكبر، العراقية، والشركاء الآخرين بنسب متفاوتة، بل واحدث قطعا في شبكة التواصل المباشر بين فرقاء هذه الشراكة، وصار لقاء رأسين من رؤوسها المتنافرة بمثابة حدث له شأن، فيما رد معسكر علاوي على ذلك الاستطراد بالتشويش على منهج الحكومة والتأليب عليها وتحريك  نوابض خلفية تتصل باسباب العنف والفتنة، والتحشيد لسد الطريق على أي نجاح يمكن له ان يسجل في رصيد المالكي، ودخل المشهد السياسي في محاذير دورة الفعل ورد الفعل.
 وهكذا، ظهرت حافات خطيرة في المعسكرين تشحذ سكاكينها وتستعرض عضلاتها، وتروّج لخيارات التسقيط، والهروب الى لغة ما قبل الانتخابات يمضي فيها المالكي وعلاوي سريعا الى نقطة اللاعودة.. فلا الاول في وارد التخلي عن المساحات (السلطات. المواقع..) التي انتشر فيها، ولا الثاني مستعد للقبول بما يتاح له من هوامش خارج تلك المساحات.   
*
"أذا كان هذا يكيدك أنا أزيدك".
حكمة لبنانية     

230

من اين جاءوا بهذه الهمجية؟

عبدالمنعم الاعسم

 جريمة ساحل التاجي ليس ككل الجرائم، وابطالها زادوا على جميع القطعان المنفلتة بامتياز الهمجية، وضحاياها سجلوا مصائرهم  الفاجعة في اوسمة الكوارث الانسانية التي لا يمكن ان يطويها النسيان، وشهودها، نحن، الموزعون بين الفجيعة والعجز وانتظار كارثة اخرى تحل بضحايا آخرين. اما القصاص من الوحوش فيستمر موضوعا للجدل في الصالات الفارهة ومقالات الصحف بدل ان يكون بعضا من ضماد هذا الجرح الغائر في جبين كل من تعزّ عليه كلمة العدالة.
 والآن من اين جاء ابراهيم نجم ومجموعته المتوحشة بهذه الهمجية؟ اية طينة عراقية هذه التي انشقت عن هذه النماين التي لم نقرأ عنها  إلا في كتب الخيال عن عالم العقارب المسمومة ؟ وأي دين اوحى له ان يتفنن في ذبح بنات واولاد من الوريد الى الوريد، كانوا يلبسون احلى ما يملكون من ثياب ويشاركون بالسيارات في زفة عرس، ويلقي بجثثهم الى النهر ثم يغسل يديه بالماء الجاري وينام تلك الليلة سعيدا، مليئا براحة الضمير والرضا عن النفس.
 لا نحتاج الى ان نستمع الى ابراهيم الجبوري، وهو يتحدث بزهو عن شناعة الفعل الاجرامي الذي ارتكبه بدن بارد، ولا الى فراس حسن فليح وهو يغتصب العروس وفتيات الزفة، فقد ملآ علينا الجو بالذباب المغير من فوهات الصرف الصحي، واغلقا علينا النظر الى طهارة هذه الارض، وجاءانا برسالة فصيحة عن عراق مفترض سيقع بين براثنهم ليحشروه في بالوعة طلماء لا قرار لها.
 علينا ان نـُخضع هذه الوحوش الى تفتيش دقيق فسنجد بين طيات ملابسهم مشروعا للتآمر على العالم وتدميره ووأد افراح العرس وتحريم الشفقة بين الناس، وسنكتشف في دمهم فصيلة لم يعرفها العلم قبلا ، قتل الابرياء ليس سوى تسلية يرتكبونها في آخر الليل قبل الخلود الى النوم.
 ضعوا ابراهيم نجم وفراس فليح على سرير الفحص، واجمعوا اخصائيي العالم في علم الانحرافات الاجرامية حولهما، وليطلب منهما تمثيل واقعة قتل سبعين مشاركا في زفة عرس بمن فيهم العروسان، واغتصاب الفتيات والنساء والتمثيل المفرط بالجثث، آنذاك، سيتعرف العلم على انحراف مخيف في الخلق والخليقة. انحراف باتجاه واحد: الاستمتاع بالقتل.
 عندما كان السفاح فراس يروي حادثة اغتصاب العروس وتقطيع جسدها كان يحرص على  ان يثبت عينية على نقطة في الفضاء ويدور حولها، هي، في سايكولوجيا الذات الاجرامية، نقطة السقوط في الدنس والحيوانية وهوس الافتراس، وايضا هي  مفتاح الجنة التى ستستقبل موكبه بالحبور والتصفيق.
 اعرضوا ابراهيم وفراس وجميع الحثالة على اخصائيين في النفس البشرية المنحرفة فستحصلون على نتائج مهمة عن منزلق التطرف والغلو والكراهية عندهم، وقد تجدونه في غيرهم..
*
"اتلاقت المكنسة مع البلاعة صاروا جماعة".
مثل مصري
/      

231
 
المتسلق..
تخطيط لوجه اليف
 
عبدالمنعم الاعسم
 
نبتة لا تعمّر طويلا. قالت شجيرة ليف ارتفعت توا الى اعلى نخلة: لقد وصلتُ بايام قليلة الى الارتفاع الذي وصلتـِه ياصديقتي بمائة عام. لم تردّ النخلة على سفاهة المتحدث وبينهما قياس الصبر والعجالة، ومنزلتان متجاورتان لكنهما مختلفتان ، فيما جاء صوت الامام الشافعي:
ومنزلة الفقيه من السفيه .............كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهــد في قرب هــــذا ..... وهذا فيه أزهــد منه فيـه
إذا غلب الشقاء على السفيه ..... تنطـّع في مخالفــة الفقيه..!
 
لا يصبر المتسلق طويلا. انه يأتي مع البصر ويغيب بلمح البصر. لا ينمو نموّا رأسيا بل يزحف على الارض، وتسميه علوم البايولوجيا "المدّاد" حيث يستخدم مهارات خاصة في الانبطاح والزحف، ويستعين باي جسم يجاوره للصعود.
 
 يقول عالم النباتات الانجليزي روبرت براون ان افضل المسطحات التي تناسب المتسلق هي الجدران غير المطلية كفاية.
 
ينأى صاحبنا بنفسه عن المعارك الفاصلة، لكنه "يصلّي وراء من غَلب"وينقل الغزالي في "فضائح الباطنية" عنه قوله "اُمرتُ ان ادعو (الناس) من الجهل الى العلم، ومن الضلال الى الهدى، ومن الشقاوة الى السعادة (ثم) املكهم (استحوذ على) ما يستغنون به عن الكد والتعب".
 
قيل لمتسلق خائب كما يروي العلوي هادي: "لم لا تقصد السلطان فتخدمه" فقال "لأني اراه يعطي واحدا لغير حسنة ولا يدْ، ويقتل الآخر بلا سيّئة ولا ذنب، ولستُ أدري أي الرجلين انا".
 
وجهه مدوّر، لكنه يستطيل ما دام ذلك يلائم المناسبة ويسهّل الصعود، ويأخذ اشكالا عديدة على مدار الساعة. عيناه لا تستقران على نقطة. تتحركان في مدار غير ذي قرار.
 
لا يورط نفسه في الطرق الوعرة. انه يعرفها جيدا افضل من ادلاء البادية.
 
لا يبكي إلا حين يكون للبكاء ثمن، ولا يضحك إلا حين يعرض تكشيرته للبيع. له اكثر من اسم، واكثر من موصوف، واكثر من ولاء. لا يهمه ما يتغامز الناس حوله. يعرف ما يقولون عنه، مفردة مفردة.
 
غدّار. جبان. صفيق، إذا وُضع بنار جهنم يصرخ: اني بردان. وإذا ما قـُبض عليه متلبسا بخطيئة يفلت كالشعرة من العجين. يستمتع كثيرا بافلام متسلقي الجبال. يتعلم منهم طريقة رمي الحبال وتثبيت نهاياتها على حافات الصخور، ويتحسب للسقوط تحسّب اولئك الذين تسلقوا قمم كليمنجارو من الوديان السحيقة.
 
يعوزه الصبر. في هذا خسر كثيرا. متعجّل لكن من غير مغامرة. يحفظ نصوصا كثيرة منتقاة بعناية من بطون الكتب. لا يخطئ في النحو. صوته جهوري، لكنه يصبح ناعما في حظرة السلطان او وكلاء السلطان، او الغرباء.
 
اخذ من طبع النباتات المتسلقة الكثير. الزهو الكاذب. البدء من الاسفل. السفاهة التدافع. اليباس، ثم حين تصير تلك النباتات حطبا بيد الحطاب.
*
"من هو الذي تسأله عن الوقت فيشرح لك كيف صُنعت الساعة؟".
سؤال فقهي

 
 
 
 
 
 

232

حسابات العراقية وحسابات الواقع

عبدالمنعم الاعسم

ماذا ينفع ائتلاف العراقية، الآن، بعد كل ما حصل، من تكرار القول انها كانت صاحبة الاستحقاق الدستوري لإنتخابات 2010 بتشكيل الحكومة؟ او انها تخلت عن هذا الاستحقاق “لمصلحة الشعب العراقي” لجهة تشكيل حكومة شراكة “حقيقية” وهياكل دستورية  انضباطية تحتل من خلالها مواقع في قلب سلطة القرار؟ ألا يعني ذلك نوعا من البكاء على الاطلال بعد ان قطعت الترتيبات الحكومية على الارض والتفاهمات بين القوى النافذة شوطا بعيدا وجرت مياه كثيرة من تحت المشهد بحيث تعذر احياء زخم الانتصار الانتخابي وضاق معه هامش المناورة وقد يضيق اكثر فاكثر في حال استمرت العراقية تتخندق في لغة  الدعاية الانتحابية التي يفترض انها انتهت بانتهاء الانتخابات.
هذا التساؤل لا يقلل من شأن الحقيقة بان ائتلاف العراقية نال من المواقع في سلطة القرار اقلّ مما تستحقه قائمة تصدرت نتائج الانتخابات وكانت ستشكل الحكومة، كما لا يقفز من فوق الحقيقة الموازية بان العملية الديمقراطية خسرت تجربة بناء “الشراكة الحقيقية” لاسباب كثبرة وانتهت الى استفراد كابينة رئيس الوزراء في تقرير الكثير من عناصر اللوحة السياسية مقابل عملية تشظي واضطراب ضربت جميع المحاور(وفي المقدمة منها العراقية) التي حاولت عبثا فرملة صعود المالكي  الى موقع المقرر بلا منافسة.
حسابات العراقية تجمدت عند افتراض (وقل وهم) امكانية تشكيل معسكر تحت خيمة البرلمان يعترض النفوذ المضطرد لرئيس الوزراء ويحسّن من مكانتها في اللعبة الديمقراطية فيما ظهر عقم هذه الحسابات واضحا منذ ان ادارت المعسكرات الاخرى ظهرها للعراقية وتركتها تخوض معركتها اليائسة لوحدها، أخذا بالاعتبار ان ثمة خلافات سياسية عميقة بين العراقية وجميع مكونات الحالة البرلمانية التي (كما يبدو) كانت راضية، عن تحجيم العراقية او ساعية الى هذا التحجيم.
مقابل ذلك، ومن تداعيات(ونتائج) الحسابات غير الموفقة للعراقية، برز تحديان ثقيلان يهددان مستقبلها وقيادة الدكتور اياد علاوي، وهما، اولا، انسلاح مجموعات من النواب وشخصيات لها شأن عن جسد الائتلاف اعتراضا على سبل و”صفقات” توزيع المقاعد الوزارية بين مكونات الائتلاف، وتنامي عدم رضا على ادارة المواقف والتعاطي مع الحكومة والكتل الاخرى لدى شخصيات وجماعات لا تزال في اطار الائتلاف، وثانيا، عدم استعداد غالبية ممثلي العراقية في الحكومة التخلي عن مناصبهم في حال اختارت القائمة التحول الى المعارضة البرلمانية.
بوجيز الكلام، لم تكن حسابات ائتلاف العراقية قد بنيت على قراءة واقعية للتكيَفات السياسية التي حصلت عشية وبعد ترخيص البرلمان لحكومة التوافق (الشراكة. الصفقة. المحاصصة) وبدلا من اعادة النظر في تلك الحسابات راحت تكرر سياسية “قدم في الحكومة وقدم في المعارضة” القديمة التي ما عادت نافعة كفاية.. فكسبت اللعب وخسرت الملعب.
*
“كن حذراً من الرجل الذي لا يرد لك الصفعة”.
   برنارد شو

 

233

سأشارك
في تظاهرة 10 حزيران


عبدالمنعم الاعسم
 
ليس فقط لأن الدستور يرخـّص لي حق التظاهر في يوم انتهاء مهلة الخدمات دون ان تتحقق، والتعبير بمختلف الاشكال السلمية، عن الاحتجاج السلمي على إداء الحكومة والطبقة السياسية الانانية التي تقرر مصيري ومصير غيري من الملايين، بل وايضا لأن هذا الحق صار مهددا من جانبين، السلطات، بتضييقها وحملتها الدعائية ضد نيات المحتجين، ومن خطوط صغيرة من الفلول تحاول صرف حركة الاحتجاج عن مسارها السلمي الاصلاحي الى منزلق العنف والفئوية والتجييش.
عدا ذلك، فان مناسبة التظاهر في هذا اليوم لا تعفي احدا عن المشاركة من المكتوين بفساد الادارة والسياسة وباللاعدالة في فرص التوظيف وتدني الخدمات و(قبل كل شيء) عدم الوفاء بالتعهد الذي قطعه رئيس الوزراء بتحقيق خدمات نوعية في غضون مائة يوم على تظاهرة الخامس والعشرين من شباط الماضي، فلم يتحقق منها شيء إن لم تكن قد تدهورت اكثر وبخاصة في ملف تأمين الكهرباء لدرء هجمة الصيف اللاهب والعواصف الخانقة.
طوال مائة يوم انشغل المعلقون والمحللون في ما إذا كان تعهد المالكي واقعيا ام انه من فرط الخيال.. فعلٌ مصممٌ لتلبية مطالب المحتجين، ام رد فعل عفوي على زخم الاحتجاج؟ محاولة لاحراج بؤر الفساد والضعف في الحكومة ولجمها، ام مخرج لتبرير الفساد وابطاله والتغطية عليهما؟ سباقٌ جدي مع الوقت لترميم الجبهة الداخلية باحترام مطالب الملايين، ام حقنة مهدئة للملايين قبل ان تخرج عن الإنضباط؟ تعهدٌ في مستوى اهلية الوزارة وقدراتها، ام ثقل فوق ما تتحمله اكتاف الحكومة؟ مبادرة صادقة النية، ام مسرحية لنيات مغشوشة؟.
المحلل المنصف لابد ان يكون قد تفهم مبررات تعهد رئيس الوزراء في تلك اللحظات الانفعالية التي خلقتها احتجاجات الخامس والعشرين من شباط، ولا بد ان يكون قد رصد حاجة المالكي الى خطوة تضع اصحابه وشركاءه في الحكومة وكفاءة وزرائهم على المحك، وحرصه (وهو محق) على تحميلهم مسؤولية تتفرع من استحقاق الشراكة.
 وجريا على حسن الظن المطلوب، فانه لابد من تأشير بعض الهمة هنا وهناك(اقول همة) في التقرب من بعض ملفات الخدمات، وكان يمكن ان تتحقق خطوات اكبر في مجال شكاوى الملايين لو ترافق التعهد مع اجراءات رادعة ضد التنفيذيين المتلكئين المدللين، ولو استؤصلت منابت فساد يشار لها بالبنان في قلب الشبكة المحيطة بسلطة القرار.
من زاوية معينة افترض (أو اتخيّل) ان تظاهرة العاشر من حزيران، بمطالبها المشروعة وجماهيرها الشابة الحية يمكن ان تكون متكأ لرئيس الوزراء في برنامجه المعلن لمكافحة الفساد والهزال الاداري وترشيد العملية السياسية، وحجة بيده لكنس الفضلات التي علقت بماكنة الدولة، وفرصة لمراجعة وكبح منهج الردع والتضييق والتعدي على العدالة وحقوق الانسان الذي تمارسه اجهزة محسوبة على قيادة الحكومة، ومناسبة ذهبية للتعبير عن احترام توجع الناس ومكابداتهم، باجراءات ترى بالعين المجردة لا بالتصريحات. 
اسبابي، واسباب جمهور عريض، كثيرة للتظاهر في العاشر من حزيران.. واصلاح مسيرة التغيير توحدنا.
*
“ان لم يكن لديك هدف فاجعل هدفك الاول ايجاد هدف.”
   طاغور

234
المالكي- علاوي..
والحل

عبدالمنعم الاعسم
اذا كانت جميع الخيارات البديلة عن حكومة الدوامة الحالية بين ترقيعية وصعبة ومستحيلة فانه لا مفر من حكومة الشراكة(انقاذية) للعبور بها الى موعد الانتخابات 2014 او الى انتخابات مبكرة.
 مقابل ذلك، فانه، كما يبدو، قد فات الوقت(وترجعت الامكانيات) على تشييد شراكة حكومية نموذجية (حقيقية) يشارك خلالها الجميع في سلطة القرار ويتضامن فيها الجميع في السراء والضراء وتنضبط فيها معادلة الامتيازات بحيث لا تحل المصالح الفئوية محل مصالح الشعب.  
 وفي مرمى هذا الاستنتاج الذي توصل اليه ايضا (على نحو ما) فرقاء الازمة السياسية، فان قاطرة الشراكة الانقاذية هذه تحتاج الى سلة خطوات (تنفيسات. صفقات. تراجعات. صحوات) من جميع الاطراف، وبخاصة من كابينة دولة القانون، وفي المقام الثاني من ائتلاف العراقية، من شأنها ان تحقق الحد الادنى من اجواء ومستلزمات العمل الائتلافي  لتحريك ماكنة الدولة المشلولة، وتأمين الحد الادنى من فروض الاستقرار السياسي.
 وتزداد القناعة لدى المراقبين والمحللين بان المعسكرين المتصارعين (المالكي. علاوي) يعرفان حقا، وافضل من غيرهما، سبل الانتقال الى البديل المتاح الذي يجنبهما (ويجنب العملية السياسية والبلاد) اخطار الانهيار، كما يعرفان، وقبل غيرهما ايضا، ان تقسيم السلطة والامتيازات ليس كمثل تقسيم الكعكعة، وقد اظهرت لهما (كما يُفترض) التجاذبات وعض الاصابع لخمسة عشر شهرا منذ انتخابات آذار 2010حقيقة ان الكعكعة العراقية اكبر من ان تبتلع بسهولة، عدا عن حقيقة ان ثمة لاعبين ذوي وزن في الساحة يكسرون على الدوام احتكارهما للعبة ويمنعون بما اوتوا من تأثير اقامة فريق حكومي من معسكري المالكي وعلاوي.
 وحتى تتكامل عناصر هذه القراءة فان علينا ان نضيف لها المشكلات العويصة التي يواجهها كل من المالكي وعلاوي في داخل تكتلهما، إذ تقف خطوط التحدي من زعامات وتيارات وجيوب صنعت فوزهما الانتخابي  حائلا دون الخروج الى صفقة ثنائية تعبر بالمشهد السياسي الى مسار آخر، او الى محور ذي مستقبل منظور.
 وليس من باب التسرع القول، وعلى ضوء النتائج التي نراها بالالوان الطبيعية، بان الشراكة الانقاذية المتاحة، والتي هي الخيار الذي لا مفر منه، من قبل المالكي وعلاوي، ستبقى شراكة محاصصة، المدافعون عنها سيتمترسون في القول انها التوافق المطلوب والبديل عن المواجهة والدوامة والاحتراب، والمعارضون لها سيشككون في نزاهة الاسباب التي تصنعها، وهو السطح الذي ستتدحرج عليه الاحداث والمواقف لما تبقى من مرحلة الدورة الانتخابية الحالية.
 المراقب الموضوعي، والقريب من الاحداث، يرصد في ما بين سطور تصريحات المالكي وعلاوي الكثير من المؤشرات على انهما غير سعيدين بان تضعهما الاحداث في بوز المدفع.. فيما يقف وراء المدفع رماة لا يخطئون التسديد دائما.  
*
"لنكن متفائلين، فالطب قد اكتشف من الأدوية أكثر مما هناك من أمراض".
الفريد كابو


235
ماذا بجري في مجلس الكوت؟

عيدالمنعم الاعسم

ما جرى ويجري في مجلس محافظة الكوت انحطاط بانورامي نموذجي لمنحرَف الائتلافات السياسية القائمة على تقاسم النفوذ والامتيازات، الفئوية والعشائرية والشخصية، إذ تضرب الخلافات (غير المبدئية) غالبية مجالس المحافظات، ويتزايد تشطيب المحافظين، وزعل الكتل المهمشة، وتمرد اعضاء خشية التورط في الفساد والصفقات، وغليان السكان وبخاصة ابناء الاحياء الغارقة بالظلام والنسيان والاوحال. تذكروا مدينة الحلة، مثلا.
وحين تصل خلافات اصحاب الائتلاف المنتصر الى الخطوط الحمراء ذات الصلة بتداول السلطة سلميا (المحرم) فان ضحايا اللعبة لايتحملون الصمت الى الابد، فيضطرون الى قلب الطاولة على المجتمعين، ويفتحون الادراج الموصدة لينشروا محتوياتها على الملأ، وعذرهم القول”ما خفي كان أعظم”.
الانباء الجديدة من واسط الكوت حملت وقائع معركة داخل الاكثرية القابضة على قنوات الحكومة المحلية، وهي نفسها اكثرية كابينة الحكومة الاتحادية، واسباب المعركة (ليس سرا) تكمن في لا عدالة توزيع المغانم بين المنتصرين، واستفراد الكتلة الصغيرة المدعومة من بغداد بسلطة القرار، وقرار السلطة، في حين يُفرض على الاخرين خيار القبول بالفتات والصمت.
ويسجل بيان لمنسحبين من مجلس واسط “كثرة النزاعات السياسية غير المبررة بين أعضاء مجلس المحافظة”.. و”هيمنة المصالح الخاصة والأهواء الشخصية لبعض أعضائه، من أجل تحقيق مآرب ومنافع ذاتية والعمل بطريقة الاستحواذ وإقصاء الآخرين واختلاف الرؤى والمبادئ التي كان متفقا عليها عند تشكيل الائتلاف، فضلا عن عدم تحقيق أهداف البرامج الانتخابية التي وضعها الائتلاف على مستوى المحافظة”.. كل ذلك على خلفية “التشبث بالكراسي وتوزيع المناصب والعمل بالمحاصصة الضيقة”.. التي، والكلام لايزال من سطور البيان، “أتت بالويلات على البلد وكذلك على محافظة واسط التي مرت بانتكاسة كبيرة منذ تظاهرة السادس عشر من شباط الماضي وما أسفر عنها”.
وطبقا للبيان (انتباه) فانه” بعد مرور سنتين على الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات وجدنا الكثير من الخلافات والمنازعات السياسية داخل الائتلاف، بحيث وصلت إلى جميع دوائر الدولة وبحيث (وهنا الكارثة) لايتبوأ أي شخص مهما كان يمتلك من الكفاءة والنزاهة والإخلاص أي مسؤولية إلا إذا كان منضويا تحت حزب أو تكتل سياسي وخاضع لتوجيهاته التي تكون في أغلب الأحيان غير منطقية أو مقبولة كونها تتقاطع مع الاتجاه العام في بناء الدولة”.
واشير في وقت سابق من الشهر الماضي الى استقالة مسؤول في مجلس المحافظة بسبب “تغليب المصالح الذاتية والعشائرية والحزبية الضيقة بين أعضائه” بعد تظاهرات شعبية شهدت مصادمات واعمال عنف وتمخضت عن إقالة المحافظ السابق.
نحن حيال تدهور مخيف في السياقات العملية والاخلاقية لبناء العراق الجديد، حيث عُهد الى مجالس المحافظات الاضطلاع بالبناء.. فاضطلعت بنقيضه.
*
“الفطيسة تركس والجواهر تطوف”.


236

اعتقال المحتجين..
ومنهج خلط الاوراق

عبدالمنعم الاعسم

 انباء اعتقال اربعة (ثم احد عشر) من شباب حركة الاحتجاج السلمي في بغداد افزعت انصار الحرية والاصلاح وقيم الديمقراطية في العراق مرتين، مرة لانها تأتي في وقت يشرف تعهد رئيس الوزراء باصلاحات حقيقية في مجال الخدمات وفرص العمل ومكافحة الفساد في غضون مائة يوم على الانتهاء من دون مؤشرات على نجاح التعهد وفي محاولة لتصريف الفشل في اجواء من القمع والردع والقصاص، ومرة اخرى، في ما ذُكر عن طريقة الاعتقال التي تمت بما يشبه الاختطاف السياسي المحرّم وفق الدستور واعلان حقوق الانسان حيث لم يتم هذا الاعتقال من خلال اجراءات العدالة والقانون وبحسب مذكرة اعتقال قضائية.
  والاخطر، ان الجهات المعنية مباشرة بهذا الانتهاك امتنعت (حتى صباح الاحد) عن كشف مصير المعتقلين ومكان اعتقالهم والاتصال بهم والتهم الموجهة لهم، وعلمتُ ان محامين اخفقوا طوال يومي الجمعة والسبت في الحصول على معلومات مطمئنة على مصير المعتقلين، في حين اتسعت دائرة القلق لتشمل منظمات وهيئات عراقية وعالمية بعد ان اصرت الجهات الامنية على التعتيم على مصائر الشبان المسالمين.
 الشباب الاربعة مؤيد فيصل الطيب، احمد علاء البغدادي، جهاد جليل وعلي عبد الخالق الجاف نعرفهم، نحن الاعلاميين الذين نتابع حركة الاحتجاج السلمية، صباح كل يوم جمعة جذوة من النشاط  الوطني والانضباط والتزام شعارات الاصلاح والغيرة على الوطن والعملية السياسية، جنب انهم مناهضون للعنف والارهاب، وكان من الافتراض ان تكون هذه الصفات موضع اعتزاز الحكومة التي تقول انها تريد بناء دولة القانون والحريات والعدالة، بل ان من الافتراض ان تضع الحكومة اوسمة على صدور هؤلاء الشبان لا ان تضع القيد في ايديهم وتلقي بهم في غياهب المعتقلات وتتنكر لهم، وتنكر وجودهم في معتقلاتها. 
 والشئ اللافت، المثير للاستغراب، ان الخطاب الامني الرسمي يحاول حشر حركة الاحتجاجات السلمية المشروعة في شبهة اخرى مرفوضة تماما تتعلق بالاعمال الارهابية الاجرامية، وكأنها  تربط (او توقـّت)بين حملتها على اوكار الجريمة ومرتكبي اغتيالات كواتم الصوت وبين التعديات التي طالت محتجي ساحة التحرير، واستتباعا، فانها تزحلق الموضوع كله في ملف الازمة السياسية وقضية الحقائب الامنية، الامر الذي يُعدّ خلطا غريبا للاوراق ما يقلل من مصداقية كل ما قيل عن نهج فرض القانون في البلاد.
 بوجيز الكلام، انها سياسة قديمة كتب عليها الفشل الذريع، إذ كانت البلاد ترسف في ظلام الخوف، وتغطّ في علبة من الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات، وقد تجاوزها الوعي العام، وعبرها المشهد السياسي الى اعلام مفتوح لم يسمح بتبرير هذا الخلط  ولم يسكت على اعتقال شبان وطنيين كانوا يتظاهرون سلميا ضد البطالة والفساد وتردي الخدمات.
 اطلقوا سراحهم، وكفّوا عن هذه اللعبة البالية.
*
  "لا ينبغي ان نفخر بان لنا رأس..  فللدبوس كذلك".
جوناثان سويفت

237


تعلموا السياسة من محمود جبريل

عبدالمنعم الاعسم


قائد المجلس الانتقالي الليبي (ثورة التغيير) محمود جبريل يقدم وصفة عقلانية باهرة لقيادة بلد يشرع في الخروج من نفق العزلة والهرطقة والاستبداد الطويل عبر بحيرة دم والحرب الاهلية التي فرضتها حماقات الحكم الفردي العائلي المتخلف، وتُقرأ هذه الوصفة..
اولا، في اقتصاد جبريل بمنصوص الشعارات والوعود والعنتريات، ونأيه عن كلام الدعاية والادعاء والتباهي والتعلل او التغزل بالماضي الشخصي، أو بملاذ الانا والشخصانية البغيضة.
وثانيا، في احترامه للتنوع في الاراء والعقائد والانتماء تطبيقا، وتجنب التفضيل بين المقامات والمراجع أو بين خيارات المستقبل المطروحة.
وثالثا، في لغته المهذبة، السامية، وهو يكشف عن عيوب النظام الآيل للرحيل، وفي توصيفه المنزّه عن الكراهية والغل للسياسات التي اهدرت ثروة البلاد وسمعتها، وللمسارات التي عرضت وتعرض ليبيا الى الضياع.
ورابعا، في كيمياء النظر الى انصار القذافي ومقاتليه وموظفي الدولة السابقين والى الشرائح الشعبية التي وجدت نفسها في خندقين متصارعين بعيدا عن منحرَف الانتقام والتسقيط وتصفية الحساب.
وخامسا، في تفكيك اساسات الصراع على سلطة المستقبل باستبعاد نزعة التقاسم والمحاصصة والامتيازات، استباقا، وترك شكل الحكم ومصيره الى الارادة الحرة لليبيين والتفويض المباشر من الشعب، من دون اصطفاء شريحة او جماعة او زعامة لتكون على منصة الحكم.
وسادسا، في احترام القانون، مستقلا، لكي يحاسب الجناة ويقرر الحقوق بالمساواة والعدالة من غير تدخل السياسة او اية اعتبارات اخرى.
وسابعا، في منظوره الدقيق والعلمي والاحترافي لصعوبات ومشاق اعادة بناء ما خربته وتخربه الحرب الاهلية وفلول السلطة.
وثامنا، واخيرا،  في روح المسؤولية الوطنية، لترسيم علاقات ليبيا مع جيرانها ومع دول العالم في المستقبل إذ عرض المصالحة مع الجميع من غير تلويح بمعاقبة دولة او مجموعة دول بجريرة التعاون مع النظام السابق، ومن دون تسجيل البلاد عقارا لدولة او مجموعة من الدول.
تاسعا، في المسافة الصارمة والواقعية التي وضعها، وسلط الضوء عليها، بين القضية الوطنية الليبية والدور العسكري الاطلسي، وكذلك في تأشير المسؤولية عن هذا الانحدار والخراب الناتج عنه.
عاشرا، في تلك الكلمات الوجيزة عن مكانة الاسلام السياسي والجهادي المسلح في عملية التغيير، والخط الفاصل بين الاصولية المتطرفة والتدين. 
كل ذلك وغيره الكثير، جاء في حديث محمود جبريل من على شاشة الجزيرة مساء الاحد (22/5) وقدم فيه تحليلا ميدانيا وطليعيا لمشكلات البلاد ورؤيا تطبيقية للتغلب عليها، الامر الذي يحمل أي مشاهد او مراقب على اليقين بان قضية محمود جبريل منتصرة لا محالة، وان ليبيا ستعبر، بفضل هذه الرؤيا وحسن التدبّر بحيرة العراق وتجربته المريرة.
وكلام مفيد
“اكثر الطرق كارثية في التنبؤ بالمستقبل هي اختراع المستقبل”.
  المهدي المنجرة


238

الطفل المدلل الذي صار سفاحا
 

عبدالمنعم الاعسم

انها قصة قصيرة جدا، كتبت نفسها في نفق من الثعابين، وصار بطلها، فجأة، على كل لسان:
 وُلد وفي فمه ملعقة ذهب في قصر مهيب من قصور الرئاسة. حمله طابور من الخادمات الى مهد من قصب الجواهر. وقبل ان يشب عن الطوق تعلم، اول ما تعلم، رماية الرصاص، وركوب الخيل، وبناء قصور من مكعبات البلور، ثم جرى تلقينه نشيدا قوميا حماسيا عن العدو، وذلك قبل ان يعرف انه متحدر من صلب رئاسة، عليه ان يحافظ عليها، ويشدّ عليها بنواجذه.
 كان الشعب بالنسبة لذلك الطفل المدلل عبارة عن صفوف منظمة انيقة تجيد التصفيق والمديح، واسترخاص الدم من اجل رجل واحد، والده، والتضرع الى الله ان يحفظه لهم ابدا، ولم يكن ليسمع شيئا عن ملايين العائلات التي تنام على خواء بطونها، او منسية في علب الخوف والاقصاء، وهي لا تصفق للرئيس لانها لا تجد سببا لذلك، ولا تستطيع الوصول الى حيث يطلّ  من شرفة او من على شاشة ملونة.
 كما انه لم يكن ليعرف، او مسموح له ان يعرف، ان ثمة سجون كثيرة في طول البلاد وعرضها تطبق على اصحاب الرأي والاحتجاج والمغضوب عليهم، وعلى جميع الذين رفضوا ان يصفقوا للرئيس، ومن اين له ان يعرف ذلك وقد اخضعوه منذ ولادته الى تربية استاتيكية لا يدخلها اوكسجين الشكوى، ولا تصلها انباء الرعاع والمهمومين؟.
 وفيما كان ذلك الطفل منصرفا الى دروس الميكانو المستوردة وتسليات اولاد النعمة في التزحلق على الماء المعقم  والنط من فوق ظهور الحراس، ابلغوه ان مقعد الرئاسة سيؤول اليه يوما، وان عليه ان يتعلم فنون الكلام وفروض الصرامة والحذر اللازم  حيال الاغراب وعدم الثقة بأحد.
 في هذا الوقت جاءه الحكم على طبق من فضة، ولم يكن ليسعى اليه، بل ان الدرس الاول الذي تلقاه، وأقلقه كفاية، يفيد ان هناك من يسعى الى الحكم ، ويزاحمه عليه، وقد يطيح به اذا ارخى الحبل وتهاون في ردع من تسوّل له نفسه التمرد على مشيئة القصر وصاحبه.
 وفجأة، وربما قبل ان يفرك عينيه من بقايا تثاؤب، احاطته الاضواء والكاميرات، وهطلت عليه قصائد المديح، وانحنت له الرقاب، وتقدمت نحوه صفوف الجنرالات وامراء وحدات الردع والتأديب والكلاب البوليسية المدربة، والجميع يلقون بتحيات الولاء، ومنهم من ابلغه، وهذه وظيفته، بان البعض من الرعية ينحرف الآن عن الولاء للحكم وجوب استئصاله والقضاء عليه، وان على الرئيس ان لا يصدع رأسه في متابعة هذا الملف، فان حراسه وحماته سيتكفلون الامر بالتصدي للمؤامرة، حتى لو تطلب الامر سبي مدن كاملة وتسوية ابنية على ساكنيها.. وهذا ما حدث، فيما حرص خبراء الماكياج في قصر الرئاسة ان يظهر طفلهم المدلل بأرق اشكال الحبور والسعادة وان لا يتخلى عن ابتسامته وبراءته وحركات يديه الجامبازية. 
 الشارع يغلي. والرصاص يلعلع في المدن والحارات، والجثث تتشامر في الشوارع، فيما  الطفل المدلل، وبسرعة مذهلة، صار سفاحا من العيار الثقيل، من دون ان تفارقه الابتسامة.
*
"كنت أود أن أكتب عن بلاد تسير كالريح نحو الوراء".
محمد الماغوط   


239

اغتيالات الكواتم..
محاولة تشريح

عبد المنعم الاعسم
 
إنتشار عمليات الاغتيال بكواتم الصوت يلزم التأمل والتأشير وذلك بعد هذا الاسهال، والاستسهال، في التصريحات التي تناوب عليها مسؤولون امنيون ونواب ومعلقون وبلغ الامر معها حدا بحيث يمكن لنا ان نسجل هذا الملف الاجرامي الخطير على ذمة مجهول.
فاذا استرشدنا بكومة التصريحات والتلميحات سيكون لدينا ما يلي: ان جميع الاطراف المتصارعة على السلطة والمليشيات المحلية النائمة وقوى الجريمة والارهاب والدول المجاورة والمخابرات الدولية النافذة  متورطة في اعمال القتل بكواتم الصوت وبمسافات مختلفة من هذا الملف.
كما ان هوية الضحايا ورسوم وظائفهم الموزعة بدقة متناهية ومحسوبة على اطياف وولاءات معينة تكشف عن خارطة مثيرة، لا تخطئها الفطنة السياسية والعملياتية، لهوية الجناة وولائهم والجهات التي يخدمونها، وفي كل الاحوال لا يمكن للمراقب الذي يتابع هذا المسلسل اليومي التراجيدي ان يطمئن الى الاعتقاد بان القتلة يتحدرون من ضرع واحد فقط ويخدمون جهة واحدة حصرا، وقد يقال بان هذا هو ما يؤسس له المشروع الارهابي في العراق، الامر الذي يمكن القبول به، لكن بحذر.
وإذا ما استخدمنا في هذا التشريح الواقعي مفتاحا آخر يخص اهداف هذا التطوّر الخطير في الاختراقات الامنية، وإثارة الهلع في مفاصل المنظومة الامنية، واستباق الانسحاب الامريكي، ودوامة الحقائب الامنية المتفاقمة، فاننا سننشر على الطاولة طائفة من اصابع الاتهام قد لا تطيش في تسمية المشتبه بهم، وقد لا تترك محلا للقول الشائع بان هناك تقصيرا او غفلة في موقع ما، فان بعض المغفلين مشوا في جنائز الضحايا متشفين كفاية.
وفيما يـُستبعد ان يكون مسلحوعصابات القاعدة وفلول النظام السابق وحدهم ابطال هذه الجرائم فان المساحة الظنية تتسع بالطول والعرض، وتبرز فيها اشباح ورسائل وتراشق اتهامات فضلا عن فنون من الروايات والتهديدات بين الساسة او وكلائهم، على ايقاع متسارع من الشائعات وتسريبات الكواليس وتقارير المواقع الالكترونية التي لو جمعت في سلة واحدة لقال قائلنا اننا في دولة افاعي، وان حياتنا رهن الصدف والحظوظ.
اما اذا ما اطلقنا السؤال الاستباقي عمن يكون رابحا ومستفيدا ومرتاحا (وآمنا) من هذه الموجة من الاغتيالات بكواتم الصوت، ومن يستخدمها ورقة في الصراع او فاصلة في تسجيل النقاط والشبهات على الخصوم،  فسنكون كمن دخل لعبة كابوسية: الرابحون كثيرون، ولا احد خسر سوى الضحايا الذين ينهضون من قبورهم ليوجهوا الاتهام لنا، نحن الابرياء الشهود، لأننا نمرر مثل هذه الجريمة المروعة متفرجين.
*
 “ عندما لا يوجد البستاني لا توجد الحديقة” .
 تولستوي


240


فضيحة أمنية..
ليس ككل الفضائح

عبدالمنعم الاعسم


في كل البلدان يهرب سجناء، وفي كل الاحوال التي نعرفها ونسمع عنها هناك متواطئون مع الهاربين من جهاز الحراسة او من مسؤولين كبار في الحكومة، لكن في الكثير من تلك الحالات تنتهي بإقالات واستقالات واحكام تصل عادة الى رئاسة الحكومة لأنها تكن قد حافظت على هيبة الدولة وفق القسم الذي أدته، على الرغم من المسافة التي قد تقع بينها وبين  موقع وظروف حادث الهروب، فكيف إذا كانت عملية الهروب قد تمت بتسهيل مدفوع الاجر من مقربين لرئيس الحكومة وموضع ثقته ومن منتسبي طيفه السياسي، وان ابطالها عتاة المجرمين الذين روعوا المدنيين وهددوا امن وسيادة الدولة.
نتحدث هنا عن عملية الهروب الغريبة لإثني عشر من عتاة الارهابيين المتورطين باعمال القتل والتفجيرات التي طالت حياة المئات من المدنيين وكانوا قد نظموا مجازر وفتن واستعداءات مرعبة في مدينة البصرة، وجرى هروبهم من مكان حصين يدخل في موصوف القصور الرئاسية، وفي طريقة اقل ما يقال عنها انها مُحبكة وما كان لها ان تنجح من دون تعبئة واسعة من الامكانيات والثغرات والتواطؤات.
هذا لا يمنعنا من النظر الى محاولات توظيف الحادث في الصراع على السلطة وتجييش الساحة لجهة ان يدفع مسؤول معين ثمنا سياسيا باهضا لوحده عما جرى.
وشاءت المعلومات الاولية للتحقيق في هذه العملية ان تثير لغطا واستغرابا في كل مكان وتطرح اسئلة مشروعة عما تبقى للسلطات الامنية التي وُضعت الاموال الاسطورية بين يديها مما يمكن ان تتباهى به امام الرأي العام. أما إذا ما اعدنا تركيب المعلومات عن المجريات والتحضيرات لعملية الهروب فاننا سنكتشف خيطا يمتد الى مواقع حكومية خطيرة تتولى مسؤولية حماية حياة الملايين وتأتمن على امن البلاد واستقرارها، ولا يهم ان تكون تلك المواقع شخصا ان فريقا او كتلة، فان المعاذير والتبريرات وسلامة النيات لا تعبر من فوق احد يقع في دائرة المسؤولية.
وفي هذا الاستطراد يقف المراقب عن تصريحات تقرب من الفضائح إذ يشير احد النواب الى  خشيته من ان “ينحرف مسار النتائج بدوافع سياسية وضغوطات من قبل جهات اخرى لتغيير مسارها الحقيقي” ويذكر تصريح آخر الى “تورطِ مسؤولين تصلُ درجاتهم الوظيفية إلى مستشارين في كابينة مجلس الوزراء” وذهب آخر الى “ان اللجنة التحقيقية في القضية طالبت بإقالة ضباط كبار ومنهم مدير الاستخبارات العسكرية ووكيل المعلومات اللواء ومدير عمليات وزارة الداخلية وعدد من الضباط والقضاة واحالتهم الى التحقيق فورا وذلك لضلوعهم بالقضية”. 
اللافت، الاكثر مثارا للاستغراب، ان الحكومة لم تكلف نفسها بالتعليق على هذه المعلومات الخطيرة (حتى ساعة إغلاق هذه الكلمة) في حين نشرت تقارير مخيفة عن هروب ضباط كبار من الخدمة ووصولهم الى محطات آمنة وتكريم اخرين ممن يشار الى دورهم المشين في عملية الهروب.. كل ذلك بدلا من تجهيز خطة رادعة لجيوب التواطؤ.. كما يجري في دول وليست غابات.
*
“اذا اراد الله هلاك النملة ،انبت لها جناحين”.
  مثل عربي

 

241

افتحوا ملفات المافيا العراقية

عبدالمنعم الاعسم

فشلت التجربة الايطالية لانتاج المافيات في نقطة السياسة، فلم تتمكن من بناء اقنية حصينة وضاربة في القطاع السياسي، وكان عليها بحسب المدعي العام المسؤول عن مكافحة المافيا بييرو جراسو، ان تنأى عن الساحة السياسية وتكتفي بنجاحها في تخويف الساسة والقضاة المناهضين لها، وابتزازهم، وحمل البعض منهم على التعاون أو التستر عليها او الصمت حيال انشطتها، ولا مجال هنا للتعرض الى علاقة رئيس الوزراء الليبرالي اليميني برلوسكوني بالمافيا الايطالية، ولا مجال، ايضا، لعرض وتحليل وتعريف هوية وانماط المافيا إذ نكتفي بالاشارة الى انها جماعة سرية لاعقد اشكال الجريمة المنظمة من اصحاب النفوذ والقوة (لها زعيم وهياكل وايد تنفيذية قذرة) تدير عمليات سطو وتهريب وتجارة مخدرات وغسيل اموال وابتزاز واختراق للقانون وتصبح، في النهاية، بمثابة دولة داخل دولة، لها ضوابط وسجون ومحاكم ومعاهدات، وهي، الى ذلك ليست بعيدة عن السياسة وتبدو احيانا، وفي دول عديدة تعيش حالة اضطراب او حروبا اهلية(امريكا اللاتينية. الشرق الاوسط. افريقيا)جزءا عضويا من المعادلة السياسية.
في العراق، لم تكن المافيات معروفة في الخمسين سنة الاولى من عمر الدولة، وقد تكونت التشكيلات الاولى لها، منتصف السبعينات، في قلب النخبة البعثية الحاكمة، وبحمايتها، وكانت العشرات من اعمال التصفية الغامضة للاشخاص (اخفتها السلطة او امتنعت عن التحقيق فيها) تشير الى مافيات واسماء ذات سطوات مخيفة، والى اموال هائلة تتحرك من قنوات النظام الحاكم او من شبكة نفوذه، ويحتفظ المواطنون والمتابعون وبعض القريبين من الحلقة الصغيرة التي كانت تمسك بالحكم بوقائع (نشر القليل منها) عن نشاط هذه الجماعات، وذكرت بعض التقارير ومحاضر التحقيق لدى دول المنطقة في انشطة تهريب وغسيل اموال ان بعض المافيات ترتبط مباشرة بصدام حسين، او بابنه عدي.
ومع سقوط النظام تفككت وتشظت الكثير من المافيات، وكانت ستنكشف على نطاق واسع وعن اسرار مدوية (في العهد الجديد) لو ان الجماعة المتنفذة واحزابها والادارة الامريكية فتحت هذا الملف وحققت فيه ولاحقت ابطاله، غير انه لاسباب عديدة، ربما بعضها يعود الى انخراط بعض رموز المافيات القديمة في الترتيبات السياسية والادارية الجديدة، جرى تعليق النظر في هذا الملف ودسه في سلسلة من الاعتبارات والتبريرات وربما الصفقات إذا شئنا الدقة.
في نهاية الامر، اعادت مافيات النظام السابق تشكيل وتنظيم هياكلها واذرعها، ووجدت في بعض العواصم العربية مراكز انشطة وتسهيلات وبنوك وخطوط اتصال وحركة، وتسرب الى الاعلام عدد قليل من حوادث وتصفيات سجلت على مافيات سرية مرتبطة باسماء تدير مصالح وامبراطوريات مالية متحدرة من عهد الدكتاتورية.
بموازاة ذلك تكونت بعد سقوط النظام، وبسرعة شيطانية، مافيات جديدة اكثر شراهة ودموية وانتعشت في ثنايا السباق المحموم على الثروة والسطوة، وذلك بالافادة (اولا) من فساد طبقة الموظفين الكبار الجدد وبعض رموز الحالة السياسية النافذة و(ثانيا) من خبرة مافيات العهد السابق وخدمة بعضهم .
 وقد وجدت المافيات الجديدة اولى الميادين المناسبة والمغرية لنشاطها في مجالات تهريب النفط وغسيل الاموال والمتاجرة بالمخدرات فضلا عن تنفيذ اعمال الاختطاف لرجال اعمال وساسة وعاملين اجانب في العراق، وفضلا ايضا عن الاغتيالات السياسية، مدفوعة الاجر، لصالح جهات محلية وخارجية مختلفة.
ومنذ البداية، كان واضحا ان الفوضى وانتشار السلاح والمليشيات وانعدام الامن والاستقطاب الطائفي واجواء الهلع والشوفينية والكراهية وموجات النزوح والخوف هي من لوازم وادوات وبيئة المافيا الجديدة، وقد عملت وكالاتها ومجساتها على تكريس هذا الوضع باشكال مختلفة وقذرة، في حين قدمت عصابات الجريمة المنظمة التي تشكلت باعداد كبيرة في بغداد والمدن الكبرى (من خلال اعمال السطو والاختطاف)خدمة تنفيذية كبيرة لهذه المافيات، وتقول احدى التقارير الدولية بان المحققين العراقيين توصلوا الى خيوط للانشطة الاجرامية تديرها مافيات تحصنت في حمايات سياسية، أو برعاية مخابرات دول اخرى، وان بعضها يتحرك عبر الحدود في نطاق تسهيلات اسطورية والبعض الاخر صار يستخدم وسائل واقنية الدولة في انشطته.
ومما له مغزى هنا ان تتولى الجماعات الارهابية المسلحة التي تزعم انها تقاوم الاحتلال تكوين مافيات اجرامية ضاربة، نصفها يتحرك في العلن ويدير مصالح وانشطة تجارية وواجهات سياسية ومكاتب علاقات من مواقع محصنة، والنصف الاخر يقوم بالاعمال التنفيذية ذات الصلة بالتمويل والاتصالات والتهديدات والاختطافات، وثمة ثلاثة حوادث كشفت نشاطا مافيويا خطيرا مبكرا موصولا بكل من مشعان الجبوري وحارث الضاري ومحمد الدايني، الامر الذي دوّن في ملفات وتحقيقات وتقارير كثيرة.
لكن اخطر المافيات الجديدة هي التي تنشط وتستقوي تحت الحماية السياسية التي يتيحها الصراع على السلطة، إذ تحظى هذه الجماعات بالتشجيع او التواطؤ او الصمت فيما تقوم بدورها بمدّ ماكنة الصراع بالزيت المناسب، ويمكن لمحللي الهجمات والاختراقات الامنية وللنشاطات المدنية المسلحة في الكثير من المدن واحياء بغداد ان يضع يده على مؤشرات لانشطة مافيوية خطيرة(هياكل واسماء) هي نفسها تقف وراء الكثير من الاختراقات الامنية ومذابح المدنيين فضلا عن انها تقف وراء افظع عناوين الفساد المالي والاداري في البلاد.
على ان المواطنين والكثير من متابعي الاوضاع السياسية والامنية، فضلا عن الضحايا وذويهم، يعرفون وقائع واسماء كثيرة، بعضها يشار له بالبنان، موصولة بمافيات او بانشطة تدخل في نطاق جرائم مافيوية، وثمة الكثير منهم على استعداد للتعاون مع محققين للادلاء بمعلوماتهم، لكن، حين يـُفتح هذا الملف على مصراعيه، وبايد بيضاء حقا، وشجاعة حقا، ولا تخشى في الحق لومة لائم.
*
“بين يديّ أخبار ترفع الرأس وأخرى ترفع الضغط”‎ . ‎
محمد الماغوط


242
مستقبل القاعدة في العراق..
 بعد مقتل ابن لادن

عبدالمنعم الاعسم

الساحة العراقية واحدة من المجالات التطبيقية (الابداعية) لسلوك وفكر القاعدة، وليس من دون شك بان “الماكنة العراقية” للقاعدة انتجت قيادات مجربة (اجرامية من طراز فريد) وفنون حرب واشكال تحالفات (مؤقتة ودائمية) وكانت، في سنوات 2005حتى 2007 قاب قوسين او أدنى من اقامة شكلٍ اشكال الادارة الحكومية على الارض (محاكم وسجون وادارات) في اطار ما اعلن عن اقامة دولة العراق الاسلامية في اكتوبر العام 2006وذلك في حماية عشائر واوساط من السكان ودعم متناه من فلول تنظيمات النظام السابق وبخاصة من ضباط وافراد خدموا في اجهزة المخابرات والقمع التابعة له، فضلا عما تلقته القاعدة من تعاطف بعض الاقنية الاعلامية وبعض حكومات دول المنطقة وبعض الفئات السياسية فيها.
ومنذ البدء كان المشروع الارهابي الذي اطلقته القاعدة في العراق يقوم على ركنين، متفرقين في الخطاب الدعائي، ومتلازمين في التطبيق، اولهما الركن السياسي الذي يتركز على (معارضة مقاومة محاربة) قوات الاحتلال “لبلاد مسلمة” ولهياكل عراقية تقع في دائرة الحكم على المحتلين، وفي التفاصيل لا يصمد هذا الركن على فكرة ورغبة اجلاء الاجنبي من العراق، فان المتمعن في الخطاب السياسي لقاعدة “دولة العراق الاسلامية” يكتشف انهها لا تتعهد بالقاء السلاح بمجرد خروج القوات الامريكية، بل انها تحبذ (وتسعى الى) اطالة عمر الاحتلال بما يسمح لتضبيط شعار الجهاد وتبريره، وإن كان الجهاد عند القاعدة لا نهاية له قبل "انتصار المسلمين على الصليبيين" كما قال ابن لادن.
اما الركن الثاني فهو الركن الايديولوجي الفقهي، الذي ينهض على الاصولية الاسلامية الجهادية المتشددة، مؤسسة على منهج التكفير الاعتباطي والطائفية العدوانية وإبطال كل منظومات التفكير الحر والمدني والديمقراطي ويشمل ذلك المنتوج الثقافي المدني والعصري (مسرح. سينما. موسيقى. رسم. ادب انساني.. الخ) ويتعداه الى نسخة اجتماعية انكفائية للاسرة والعلاقات بين البشر وهوية الدولة.
ولم يكن ابن لادن، كما يُزعم، مجرد رمزٍ للقاعدة، او اسمٍ ملهـِم لمقاتلي التنظيم، فان خطاباته المذاعة ووصاياه المنشورة ورسائلة المتكررة تتضمن في ذاتها مفردات واحكام ايديولوجية القاعدة، وقد بقي يوجه ويتداخل حتى مع اكثر الظروف حراجة والتضييق عليه والاحترازات التي فرضها على نفسه، وطبعا، لم تكن لخلفائه في قيادة التنظيم تلك المكانة التي كان يمتلكها ولا تلك الكفاءة “العلمية” التي راكمها، ولا ايضا تلك التجربة الطويلة في صناعة التفكير الجهادي المغامر.
اقول، لابد ان يترك غياب ابن لادن فراغا هائلا في ادارة السياسات والايديولوجيا لتنظيم القاعدة، واحباطا  كبيرا في “همـّة” الجهاد الارهابي في كل من افغانستان والعراق اذ يرتبطان بشبكة  واحدة، وتجري مراقبتهما  والاشراف عليهما من ابن لادن مباشرة، كما كانت تؤكده تقارير سابقة وما اعلن مؤخرا عن استحواذ الامريكان على وثائق ومعلومات "استراتيجية" من وكره في ابوت اباد.
استبق هذه المعالجة لتأكيد حقيقة مركبة، بانه لا مستقبل للقاعدة في العراق، وايضا بانه لن ينهار  بمجرد اعلان مقتل ابن لادن، فانه، وانه بحسب التقديرات الموضوعية سيستمر ربما بشراسة اكبر، وسيستفيد في استمراره من ثغرات سياسية وايديولوجية ماثلة امامنا.. بالصوت والصورة.
*
“الفم المطبق لا يدخله الذباب”.
     مثل صيني


243
القاعدة بلا رأس.. ولكن

عبدالمنعم الاعسم

 مقتل بن لادن، على الرغم من جميع محاولات تصغير الحدث من بعض المتحذلقين او المراهنين على مفعول الحركة الجهادية الارهابية المسلحة، ترك تنظيم القاعدة بلا رأس، وشأن أي جسد فقد رأسه لابد ان يحيا بعضا من الوقت في فاعلية او ردود فعل غريزية قد تتسم بالتهور والشراسة العمياء.
 وستدخل القاعدة، وربما دخلت فعلا، هذه المرحلة، إذ حملت ردود الفعل الاولى للضربة التي قصمت ظهرها مؤشرات على ان فلول القاعدة تعدّ لهجوم انتحاري "استراتيجي" ضد مصالح الغرب تعيد به، او هكذا تأمل، الاعتبار لسمعتها ومعنويات انصارها، في وقت(وهذا ما لم تحسبه القاعدة او لا تريد ان تحسبه) تراجعت شبكة المناصرة والتمويلات والتسهيلات اللوجستية على الارض، وانتشرت الفخاخ الاستخبارية واقنية الرصد المتطورة في كل مكان، وليس الضربة التي وجهت الى وكر بن لادن الحصين والاسطوري سوى مؤشر بليغ على الحصار والانحسار الذي يمر به التنظيم الارهابي.
 غير اننا لا ينبغي ان نبسط الامور لتبدو لنا نهاية القاعدة كما لو انها وشيكة، فان الحيز التاريخي الذي ولدت فيه جماعة بن لادن لا يزال يمد التطرف بالكثير من الاسباب والاستمرارية، وبخاصة ما تعلق منه في دول التخلف والجهل والخرافة  التي تشكل ممولا بشريا للارهاب حين يتوجه الملايين من سكان هذه الدول الى التعلق بالرطانات  الجهادية لتكفير العالم والحرب على دياناته بدل ان تخوض معارك التغيير الاجتماعية ضد قوى الاستبداد والنهب والتمييز.
 كما ان الكثير من الحكومات العربية والاسلامية سقطت في قصر النظر وهي تتعامل مع حركة بن لادن واخطارها، وراحت، بدلا من العمل على دحر هذا التيار الظلامي الذي يهدد سيادتها، تتواطأ معه، او تغض الطرف عن نشاطاته، وبخاصة الالكترونية منها، او تسعى الى تسهيل عبور افرده ومقاتليه الحدود لتنفيذ هجمات في الدول المجاورة، واغلب الظن ان هذه الحكومات  كسبت هدنة غير معلنة مع القاعدة، بعض الوقت، لكنها خسرت ما هو مهم وهو ارتهان بعض كبار موظفيها ورجال امنها لوكلاء الحركة الارهابية، بل وسيطرة هؤلاء الوكلاء على مواقع في المصارف والمواصلات ودور العبادة والدعوة والجامعات.
 ويدخل في عداد العوامل المساعدة لمنع الاجهاز على تنظيم القاعدة موقف الجماعات السياسية القومية والمحافظة وحتى بعض الفئات اليسارية من حركة التطرف الاسلامي، والتهوين من اخطارها على المجتمعات الرخوة وعلى عملية التغيير الاجتماعي، وقد طالعنا طوال عقدين من السنين اطروحات التعويل على هذا التطرف باعتباره موجها ضد الغرب او الاحتلال او الاستعمار ولم ينتبه اصحابه  كفاية الى الخدمة الكبيرة التي قدمتها حركة القاعدة وجميع حركات العنف والتجييش الى القوى الاكثر يمينية وعدوانية في الغرب والى الاحتلالات في كل مكان والى بقايا الاستعمار في العالم.
 في الظن ان هذه الكتلة من الدول والتيارات والاطروحات ستحاول تطييب خواطر القاعدة التي فقدت رأسها، قبل ان تستفيق يوما على العار الذي تخوّض به.
*
" لا تنحن لأحد مهما كان الأمر ضرورياً , فقد لا تواتيك الفرصة لتنتصب مرة أخرى‎ ".
محمد الماغوط       

 



244
العفو العام.. هذه القوانة


عبدالمنعم الاعسم

خبر طيب ان يُعلن مؤخرا العفو عن مسلحين تركوا القتال في صفوف الجماعات الارهابية، وان يجري تشجيع الاخرين على اللحاق بهم في تسهيلات واجراءات تدخل في صلب واجبات الحكومة، مع التحذير من استخدام اللغة المهينة “مثل العودة الى الصف الوطني” التي طالما استخدمت في السابق (وتفنن فيها نظام الدكتاتورية البغيض) في غير معنى الصف وفي غير دلالة الوطنية.
اما الحديث عن العفو العام عن المسلحين واللغط الذي يدور عن الجهات المشمولة به، فان الصيغة المقترحة والمطروحة على المناقشة والتشريع من البرلمان انطلقت، ومضت، من مغلوطات سياسية وقانونية عن مفهوم التسامح والعفو العام كما هي في القوانين الدولية وفي حالات دول وتجارب كثيرة شهدت تطبيقات هذا المفهوم على الجماعات المسلحة.
وينبغي استباق المعالجة للقول ان جميع التطبيقات المعروفة في التاريخ مثل اعلان السلام والعفو بعد الحرب الثانية، والحرب الكورية وحروب فيتنام  وافريقيا وكمبوديا والحرب الاهلية اللبنانية وحروب جنوب افريقيا ويوغسلافيا السابقة وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق لم تقفز من فوق القصاص من اولئك المجرمين الذين نظموا المذابح واعمال القتل الهمجية للمدنيين، ولم يكن العفو ليشملهم وفق القانون والعدالة.
لكن المهم في هذا الملف ان جميع الحالات التي نجحت فيها سياسات العفو والتسامح كانت قد ترافقت مع نهاية الحروب والاعمال المسلحة والاضطرابات الامنية وانتقال المسلحين، وحتى مجندي الطابور الخامس، الى الحياة المدنية في ظل وضع جديد متغير قائم على اسس السلام واعادة البناء والشراكة الوطنية، وفي كل الاحوال يُحصر القصاص بعدد ضئيل من الجناة، مقابل حصول الاخرين حقوقا مدنية كريمة كمواطنين احرار، وفي دولة قانون ومساواة، فيما يجري اعتماد ثقافة منهجية لدمج شظايا المجتمع المتنافرة، وتصفية اثار مرحلة الحرب ومكارهها. 
في العراق، يواجه اي تشريع للعفو العام، وقبل الدخول في تفاصيله، عقبة اعتراضية تتمثل في ان الوضع العام لم يتحول بعد نحو الحياة السلمية ولم تلقِ الجماعات المسلحة التابعة لتنظيمات الاسلام الجهادي الارهابي وفلول النظام السابق وجماعات الجريمة المنظمة سلاحها عن ارادة ورغبة في الانخراط في الوضع الجديد، وما زال قطاع سياسي نافذ موزع بين مغازلة المسلحين او الاستقواء بهم او (من جهة اخرى) التذرع بوجودهم للتمسك بالسلطة والتجييش الميليشوي والمتاجرة بالطائفية.
الى ذلك، ومما يعقـّد ويفرٍغ فكرة العفو العام من مضمونها ما نراه من هوس تحويل اي اجراء سياسي لتطبيع الاوضاع وبناء عهد السلام الى ساحة مزايدة فئوية واتهامات عبثية وتمارين على الخطابة ودق طبول الحرب ثم سرعان ما تنفتح على التساؤل الوجيه: العفو عن مَنْ؟.   
*
“هل عندكم غبار في عيونكم؟ إذا من الأفضل عدم فركه”.
 طاغور

 

245
لا احب وزراء الداخلية

عبدالمنعم الاعسم
 
لا أقول أكرههم، اقول لا أحب وزراء الداخلية،  في العراق أو في غيره، الآن وفي الماضي وفي المستقبل. هكذا انا، ومن حقي ان لا احب وظيفة او شخصا يشغل وظيفة، وربما أحبذ تجريم وزراء داخلية الانظمة المثقلة سجلاتها بالمذابح والمعاصي  بدلا من رؤساء الدول، فاولئك هم القتلة، وهؤلاء هم الشهود.
لحسن الحظ، او لسوئه، اننا من غير وزير داخلية منذ حوالي عام، وقد وفر علي ذلك شعور الامتعاض حيال وزير لم يعيّن بعد ليلتحق بطابور طويل من من منتجي عذابات الناس الذين يحبون الحرية.
حتى هاينريش هملر وزير داخلية هتلر كان اكثر هوسا بالقتل واهانة البشر من سيّده، وكان اكثر ولعا بتنفيذ بعض التنكيلات بيديه، ويعدّ ذلك بمثابة تسلية يمارسها في اوقات الفراغ.
ولا اعرف (ولم اسمع عن) رئيس دولة لا يأتي بوزير داخلية اقسى منه، كان صدام حسين يغيّر وزراء داخليته مثلما يغيّر اغطية رأسه(من السدارة الى الغترة) التي تفنن في ضبط مطابقتها للاحوال، ولم يتورع عن اختيار جهلة وامعات لهذا المنصب(سعدون شاكر ووطبان) وكان احدهم (محمود ذياب الاحمد) قد سلم نفسه للقوات الامريكية عندما لم يجد حارسا واحدا يطيعه، ومرة قيل لصدام ان وزير داخليته ينتهك حرمات العائلات فرد بقوله “عفية عليه” وحين بدأ الوزير “يخربط” ويضعف في قسوته طرده صدام بتهمة انتهاك حرمة عائلات عراقية.
اما حبيب العادلي، وزير الداخلية المصري السابق فقد كان اكثر وفاء لمتبوعه حين اعلن ان مبارك بريء “وإذا كان لديكم شيء ضده فانا المسؤول” ثم قال “بعد ذلك فكلانا بريء” وقبل هذا كان نيكولا بامباشي وزير داخلية موسوليني قد خذل سيده وسلم سلاحه للعدو من يدين تقطران دما، وفي تونس كان زين العابدين بن علي وزير الداخلية الجلاد في منتصف ثمانينات القرن الماضي  قد انقلب على الرئيس الحبيب بورقيبة فاصبح رئيسا مدى الحياة ثم خنق بلاده بيدين من حرير.
اقول، في خواطري الكثير من النقاط السوداء حيال وزراء الداخلية، ومرة، حين كنت محررا في صحيفة لندنية عقد لقاء لوزراء الداخلية العرب في العاصمة البريطانية، وصادف ان قام اربعة وزراء منهم بزيارة مكتب الجريدة، وصاروا يتنقلون بين اقسامها ويتعرفون على محرريها، وعندما اقتربوا من طاولتي كنت اضحك بصوت لم استطع كبح سخريته، ثم اجتاحتني  برودة خشنة حين لامست ايديهم. كانت قبضات سجانين وجلادين. آنذاك،  شعرت بالامتنان للفرصة التي جعلتني جالسا على كرسي، حرّا، ووزراء الداخلية يتناوبون للسلام عليّ، فيما كانوا قبل ذلك يجلسون على الكراسي وانا وراء القضبان، او مطلوبا لهم حيثما اكون.
*
“كان لزبيدة زوجة الرشيد قرد تحبه فكان القادة يدخلون على القرد للتسليم عليه، وممن فعل ذلك يزيد بن مزيد الشيباني الذي شغل منصبا يضاهي وزير الداخلية في ايامنا”
 المستطرف   


246
حكومة مهزوزة.. لكن اوتادها كثيرة

عبدالمنعم الاعسم

احسن ما يمكن وصف حكومة نوري المالكي، الان، انها حكومة في مهب الريح. يكفي القول ان رئيسها تشكك في جدارتها منذ اليوم الاول من حصولها على ترخيص مجلس النواب، وها هو اليوم، بعد حوالي عام على إعلانها، يتشكى من اعتلالها وفشلها ويروّج الى صرفها والتلويح بدفع الامور الى اعادة الانتخابات النيابية، بعد ان اصطدم بصعوبة، وربما استحالة، تشكيل حكومة اغلبية.
وقبل الحديث عما  يحول دون اعلان سحب الثقة عن الحكومة من عناصر وإرادات ينبغي طرح السؤال الاستباقي عمن يستفيد ، من فرقاء العملية السياسية، من ترحيل الحكومة وتعويم الوضع السياسي والامني عند نقطة اعادة تشكيل حكومة جديدة أو اجراء انتخابات جديدة، وذلك تمييزا عن الفائدة الكبيرة التي يحصل عليها المشروع الارهابي وقوى التطرف والتجييش والفوضى والتدخل الاقليمي، الامر الذي يـُرصد وتـُقدر نتائجه في التحليل الموضوعي. اما المتصارعون فان لكل واحد حساباته في تفليش الشراكة الحكومية الهشة اصلا، ولكل جهة خطة وقاية وتكيف وتبرير، ولا نعجب حين يـَتخذ كل هذا الهوس الفئوي شكل غيرة على الوطن ومصالح الشعب والعملية السياسية.
في الظن، وربما في مرمى الحقيقة، ان المستفيدين، في المقام الاول، من ترحيل حكومة المالكي (غير الجماعات المسلحة) اولئك الذين جاءت الحكومة على غير الوصفة التي تناسب طموحهم الفئوي، ومضت، خلال عمرها القصير، في سبيلٍ نأى عن تأثيرهم، واولئك الذين دخلوا في خصومة مع شخص رئيس الوزراء، من الكتل الاخرى، وايضا، من داخل تحالف الاكثرية، فضلا عن شرائح شعبية متزايدة ترى ان حكومة الاربعين وزير اهدرت الثروات واضرت بمصالحها عدا عن انها دون مستوى الجاهزية الحقيقية لتحقيق الوعود، وبخاصة الوعد الذي اطلقه المالكي بتحقيق الخدمات في غضون مائة يوم ابتداء من آذار الماضي وقد عبرنا نصف المدة  من نتائج على الارض.       
والان، ما الذي يمنع ترحيل الحكومة؟.
على المستوى الدستوري ستواصل الحكومة مهامها كحكومة تصريف الاعمال، وستندلع التجاذبات والاشتباكات السياسية حول سلطات رئيس هذه الحكومة، ويعرف الجميع، بالاستناد الى تجربة التشابكات السياسية السابقة، ان كسب الجولة وحسمها لصالح طرف او زعامة، امر متعذر، وان سمعتهم ومراكز نفوذهم(في ظل الدوامة الجديدة) ستتصدع اكثر فاكثر، والحال، ان فرقاء الصراع سيفكرون ببدائل(غير اسقاط الحكومة) اقل ضررا لهم، ويبدو ان التفكير ينصرف بهذا الاتجاه إذا ما قرأنا جيدا النيات الحقيقية من وراء التصريحات والتهديدات التي يجري اطلاقها بكثافة هذه الايام، والتي تستهدف (من بين اهداف اخرى) تحسين الشروط والمواقع والامتيازات.
كما يعرف الجميع ان حكومة تصريف الاعمال غير مؤهلة دستوريا للقيام بتدابير انسحاب القوات الامريكية في نهاية العام الجاري، بل ان هذا الانسحاب سيتعذر في ظل تعويم السلطة التشريعية وفقدانها شرعية اتخاذ قرار سيادي بهذا الوزن، ويخشى الكثير من الفرقاء النافذين في العملية السياسية من ان يلعب المالكي في منطقة الفراغ التي تتاح له في حكومة تصريف الاعمال خارج الانضباط.
وبين الانضباط والتحلل منطقة حساسة ينبغي ان نمعن فيها النظر دائما.
“لا يكفي ان تكون في النور لكي ترى، بل ينبغي ان يكون في النور ما تراه”
                   الحكيم



247
تظاهرات السليمانية..
الفئوية السياسية وشرعية الاحتجاج

عبدالمنعم الاعسم

 تكمن قوة وشرعية وضرورة حركات الاحتجاج الجديدة التي عمت هذه المنطقة في طابعها السلمي اولا، وفي نأيها عن الارتهان لمشروع فئوي او حزبي، ثانيا، وفي انطلاقها من مطالب محددة تمثل حاجات (وشكوى) الجمهور المتراكمة في خزين الصمت الطويل، ثالثا، وفي ما تركته السلطات الحاكمة ونزعات الاستفراد بالقرار السياسي من تغييب للحريات رابعا، وفي ضيق الحكام وامتناعهم عن السماع لصوت الاحتجاج وتعاملهم بالقوة والردع وحدهما اسلوبا في التعامل مع المحتجين، اخيرا.
 وبين ايدينا نماذج حية لحركات الاحتجاج في شمال افريقيا، سرعان ما شملت جميع شعوب المنطقة من غير استثناء، وقد انتصرت في ساحتين (تونس ومصر) وبمدى قصير نسبيا وباقل الخسائر في الارواح ووفي بنى الدولة بفعل الزخم السلمي، عابر الفئوية، وهي مرشحة للانتصار في اكثر من ساحة بحسب التزام هذه الحركات بالكفاح السلمي وحصانتها ضد المشاريع الفئوية للمعارضات التقليدية التي لا تضمر في جوهرها وجهة اصلاحية قدر ما تضمر طموحا الى السلطة.
 وتظاهرات السليمانية وقبلها اربيل وحلبجة وكلار ومدن اخرى في الاقليم، انطلقت، اول الامر، من شكاوى واضحة للجمهور حيال الاوضاع المعيشية للفئات الشعبية إذ تزايدت الهوة بين شريحتين، غنية تزداد غنى، وفقيرة تنحدر فقرا، وايضا حيال تطبيقات وهياكل سياسية وادارية تمس الحريات العامة والخاصة ، لكنه منذ اليوم الاول اظهرت قيادة الاقليم، على مستوى الرئاسة والحكومة، تفهما لهذه الحركة واستعدادا للدخول معها في اجراءات اصلاحية، ولم يكن اصطدام "الحافات" من اجهزة الامن وجماعة التطرف قد دفع الى فقدان الانضباط، في حين فتحت ادارة الاقليم مسارا للتفاوض متعدد المستويات وتم التوصل الى برنامج المطالب الـ17 الذي يضم اصلاحات اجتماعية وسياسية واسعة، كان معروفا انها لن ترى النور إلا في ظل الاجواء السلمية والتضامنية والصادقة.
 وفيما وضعت حكومة برهم صالح خطة تنفيذ المطالب وتطبيع الاوضاع الامنية والسياسية ظهر المشروع الفئوي لتحالف المعارضة (اسلامي- يساري) في اوضح صورة له في تحريك ساحة الاحتجاج الى المخاشنة وتجاوز فروض التعبير السلمي للمطالب والتعدي على الشواهد الحكومية والسياسية، وتولت مجموعات صغيرة متطرفة القيام باستعراضات مسلحة وتجييشية بالنيابة عن فئتين معارضتين، وبدا ان الاتجاه يمضي الى خيار التخلي نهائيا عن المعارضة البرلمانية الشرعية لصالح اغواءات القفز الى السلطة عن طريق الشارع، او ربما عن طريق "الشرعية الثورية" سيئة الصيت التي جاءت الى المنطقة باعتى الدكتاتوريات.
 ولم يعد اصحاب هذا المشروع  الفئوي يتحدثون عن برنامج الـ17 الذي شاركوا في صياغته، بل انهم اصدروا بيانا في السابع من نيسان الجاري طوى ملف التفاوض ورفع مطلبا جديدا ولافتا هو "تشكيل حكومة انتقالية تكون على أساس التوافق".
 وهنا ظهر اغواء آخر هو المحاصصة بديلا عن المعارضة تحت قبة البرلمان.
 على ان العثرة الاولى للمشروع الفئوي الاحتجاجي في اقليم كردستان هو تخليه عن المعارضة البرلمانية التي كان قد نال عنها مكاسب كبيرة، واستثمرها في الخروج الى هواء الاعلام والعلاقات العامة، على الرغم من الملاحظات على تناقض المواقف بين فرقاء المعارضة حيال مضامين وحدود الحريات التي تدعو لها بين اقصى اليمين المحافظ (يشكو من الحريات المدنية) واقصى اليسار المتطرف(يدعو الى اطلاق تلك الحريات)  وبالرغم، ايضا، من تجاوز الاداء البرلماني للمعارضة لفروض اللعبة الديمقراطية المقررة في تشريعات واتفاقات من جهة، وللظروف الامنية الحساسة والمعقدة للاقليم من جهة اخرى.
 المراقب الموضوعي الذي يطالع تفاصيل المطالبة باقامة حكومة انتقالية في الاقليم يتلمس محاولة للالتفاف على مفردات مطالب المحتجين باجتثاث الفساد وضمان الحريات وتأمين المساواة وفرص العمل الكريمة واصلاح الهياكل الحكومية، ويرصد منهجا فئويا انانيا بالتخلي عن برنامج الاصلاح المتفق عليه  واختزال حركة الاحتجاج الى مكاسب فئوية سياسية للاقلية البرلمانية جوهرها القبض على السلطة من قاعدة المحاصصة الحزبية، وبمعنى ما، محاولة تعويم قاعدة المحاصصة القائمة في العملية السياسية في بغداد إذ يشتمها المعارضون الكردستانيون ويطالبون باسقاطها هناك فيما يحبذونها لتصبح قاعدة يحصلون خلالها على الامتيازات والمناصب في اقليم كردستان.
 والغريب في الامر ان شعارات المحتجين في السليمانية (اذا شئنا ان نطالعها من الخارج) بدأت منذ حين تنطلق على يد المشروع الفئوي من حلقة الى اخرى في مسار من التصعيد المرسوم الواضح، ففيما يجري الاتفاق على احترام جميع المطالب والسعي الى تنفيذها بالتزامات وتعهدات وخطوات معلنة نفاجأ بشعار تصعيدي آخر لم يكن ليرد في السابق ثم تتبعه مخاشنات وهجمات على مراكز حساسة، حتى رست الشعارات عند وضع مطالب حركة الاحتجاج جانبا لصالح شعار جديد وتجييشي يتضمن اسقاط الهياكل السياسية المنتخبة عبورا من فوق امكانيات وشروط وشرعية مثل هذا المنحى، وتحديا لتشريعات متحققة على الارض. 
 وهكذا فان المشهد الاحتجاجي في السليمانية، والاقليم، تجاوز الجدل حول شرعية او عدم شرعية مطالب المحتجين الى ما يتصل بالسلم الاهلي في الاقليم، والى ما يحمل على الاعتقاد بان ثمة "قوة" من القوى المحلية، او جهة متمردة  تدفع المشهد الى الاستقطاب والمجابهة وتصفيات الحساب النائم ، وتعرقل اية فرصة للاصلاح وتلبية مطالب المحتجين، وهي نفسها (ووحدها) صاحبة المصلحة بشلّ الاوضاع الامنية، وهي السعيدة بانهيار فرص الحوار والتفاوض والحلول الوسط بين فرقاء الساحة السياسية.
 من زاوية يبدو ان ثمة حلقة مفقودة في صفوف المعارضة الكردستانية بحاجة الى الكشف عن مصادرها.. ولولا اني ضد نظرية المؤامرة لقلت انها مؤامرة.
*         
"  الإختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء وإلا لكنت أنا وشريكتي في الحياة من ألد الأعداء".
غاندي


248
فاشلون جميعا..
من غير استثناء


عبدالمنعم الاعسم

من غير ان نكلف النفس بذكر اسمائهم واحدا واحدا، او جماعة جماعة،  تعالوا نتأمل ماذا يمكن ان نسمي استعصاء إشغال اخطر الحقائب الوزارية ذات الصلة بامن وحياة المواطن وحماية حدود وسيادة البلاد، وطوال عام كامل، إن لم نسميه فشلا مسجلا على رئاسة الحكومة في المقام الاول؟.
 وأية كلمة مناسبة غير كلمة الفشل تصلح ان تطلق على ضياع الفرصة السانحة من يد تكتل نيابي كبير اسمه العراقية في ان يحتل موقعا مؤثرا وحاسما في المعادلة السياسية؟.
 وما هي الكلمة الاكثر انسجاما ودقة وصوابا لجهة تخبط وعجز مجلس النواب ورئيسه في تشريع القوانين والرقابة الحيوية على اعمال الحكومة إن لم تكن تلك الكلمة هي الفشل؟.
وما هو غير الفشل صفة لنهج التيار الصدري في تقديم الخدمات للجمهور والفضيلة في الوفاء لشعارات النزاهة والمجلس الاسلامي في حماية الامن في مناطق سيطرته والتحالف الكردستاني في ضبط العلاقات مع المعارضة.
وما هي الصفة المطابقة لواقع الحال لتقييم عمل ودور وإداء وفاعلية الفئات والزعامات السياسية النافذة والتي تملك ثقلا في العملية السياسية غير صفة وموصوف الفشل؟.
 وفي اية خانة نضع غياب الدور المفترض لمجلس الأربعين وزارة في ترجمة البيان الحكومي الى الواقع وانعدام امكانية عمله كهيئة متجانسة ومتضامنة غير خانة الفشل؟.
 واي حكم يصلح لحال الفوضى وتضارب المصالح الفئوية والانانيات ومشاهد الضعف التي تضرب مجالس المحافظات التي تمثل ايضا غرفة خطيرة من غرف العملية السياسية في البلاد غير حكم الفشل؟.
 وماذا يمكننا ان نسمي غياب وهشاشة العلاقات مع الجيران والشركاء في الاقليم الى حد التوتر ووقف التعاملات والاتصالات في وقت احوج ما يكون العراق الى علاقات منتجة وطيبة ووطيدة مع تلك الدول إن لم نسم ذلك فشلا؟.
 وما هي المفردة التي تناسب هذا الهزال والتراجع في الخدمة الاعلامية الممولة من الدولة، المرئية والمكتوبة، غير مفردة الفشل؟.
 ثم، لماذا يخافون كلمة الفشل وهي تدخل في صلب عملية المراجعة والتصويب وإعدة بناء السياسات إذا ما جرى الاعتراف يه، وتشخيص اسبابه وتعيين المسؤولين عنه؟.
 اقول، إعلان الفشل يدخل في اكثر الاحيان رصيدا في حساب اولئك الذين يعترفون به.. لكن الفاشل هنا يحتاج الى شجاعة الاعتراف.. والفشل، لكي يصبح نجاحا يحتاج الى شجعان حقا.
 اكرر: الى شجعان.
*
"هناك من ينتظر سفينة النجاح وهناك من يسبح تجاهها" 
همنغواي
 

249

إسقاط نظام المالكي..
رأي آخر

عبدالمنعم الاعسم

اولا، لا ينطبق مفهوم النظام السياسي على التشكيلة السياسية الحاكمة في العراق ولا على مفردات الادارة السياسية الاقتصادية الاجتماعية القائمة، وثانيا، لم تأخذ هذه التشكيلة طابع الفردية الحاكمة لرئيس الوزراء نوري المالكي، وهو نفسه لم يقدم منظومة قوانين وسياسات متكاملة لكي تصبح نواتات لنظام سياسي يحمل بصمته، فضلا عن ان خطب الرجل وممارسته للادارة والحكم لم تحمل في ذاتها  ترسيما لنظام سياسي، بل ان الكثير من التحليلات الموضوعية تستبعد فكرة قيام نظام سياسي في العراق على اشلاء نظام الدكتاتورية وان الحديث يجري عن مرحلة انتقالية تتضارب وتتشابك فيها انماط عديدة من الانظمة(والارادات) السياسية، دكتاتورية. دينية. عائلية ..الخ.
وثالثا، فان الذين يهتفون بسقوط نظام المالكي في العراق يعنون شيئا آخر ربما ابعد من المالكي، أو اقرب الى تمرين في العوم لكن في ماء ضحل. 
لكن في كل الاحوال، ليس ثمة نظام سياسي مقدس وغير قابل للسقوط، ولا تستطيع اية عصمة، بما فيها معصوميات اللاهوت، ان تحول دون سقوط نظام من النظم السياسية حتى وإن كان عادلا، فالسقوط يتم من خلال تناسب القوى وانهيار التوازن (الرياضي) بين قوتين يفقد معه النظام امكانية الاستمرار، فيخلي الطريق (عبر الحرب او السلم او المقاومة) امام نظام سياسي بديل.
 ثمة في التاريخ الحديث امثلة كثيرة عن سقوط انظمة، لعل اكثرها دويا هو سقوط النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي، واحدثها سقوط دكتاتوريات الارخبيل العربي في العراق ومصر، وثمة سقوطات اخرى على الطريق، في ليبيا واليمن، واخريات في اكثر من بلد في المنطقة حان قطافها. وقبل هذا سقطت انظمة كثيرة، ملكية وجمهورية عن طريق الثورات الشعبية او الانقلاب العسكري او التدخل الخارجي، وحل محلها انظمة اخرى، سرعان ما سقط العديد منها ضمن دورات الصراع والمصالح شروط وظروف داخلية عاصفة.
 وفي غضون ذلك عكفت ورش التفكير السياسي على بناء نظريات ومفاهيم عن مصطلح النظام السياسي، ثم عن متواليات الانظمة، ثم عن الثورات والانقلاب، ثم عن شرعية النظام السياسي ونفاذ مقوماته، لغرض رصد اتجاهات كل عصر من العصور وترسيم ادوات التغيير والصراع بين قواه المحركة، وتقديم تنبؤات عن مآل الاتظمة السياسية، وقد اجمعت الرؤى على حقيقة واحدة بان اكثر الانظمة السياسية قدرة على الصمود والتواصل هي الانظمة القادرة على التكيّف والتطور ومماشاة رياح التغيير واستحقاقات التطور والاسئلة الجديدة للحياة. 
 فاسقاط النظام ليس شعارا، وليس كل شعار عن اسقاط النظام يتحقق بمجرد ان يلوّح به في الشارع ان تتبناه جهة او شريحة، وقد سمعنا في تظاهرات ساحة التحرير وفي بعض المحافظات من يهتف بشعار إسقاط النظام، واحسب ان بعض اصحابه استعاروه من اصوات المتظاهرين في ميدان التحرير في القاهرة، وبعضه الاخر اخذه مأخذ الانفعال والاحتجاج ضد ممارسات الشرطة او سياسات ومفاسد الحكومة والطبقة السياسية النافذة، والبعض القليل من ينتمي الى جماعات سياسية  انتقامية تناهض الوضع القائم برمته وتتوعد بالقصاص حتى من جمهوره، هذا الى جانب من ينادي باسقاط النظام وفي اعتقاده انه يطالب بتنحية الحكومة او ضد مسؤول فيها او حتى ضد مجلس المحافظة وربما سخص نافذ فيه.   
 بوجيز الكلام، فان المطالبة باسقاط النظام(او الوضع أو حكم العملية السياسية) من خلال حركات الاحتجاج الشعبية (إذا ما احسنا الظن باصحابها) مقبولة ومبررة وضرورية اذا ما تحددت في مفردات البديل، ومن دون ذلك فان هذه المطالبة  تقفز من فوق العناوين الصارخة لمعاناة الملايين حيال التهميش والفساد تدني الخدمات واستشراء البطالة والمفاسد السياسية والادارية والتضييق على الحريات، قفزا محسوبا بخطأ المعاينة الى النتائج. 
*
"نحتاج الى اسلاك شائكة لا تبشّع منظر صف الازهار الذي تحميه".
السيدة ميتران

250
مثقفون جلادون..
استدراك خاص

 

عبدالمنعم الاعسم

في حوار سريع مع فضائية “الفيحاء” كان الزميل محمد الكاظمي قد جرني بلباقته الصادقة الى موضوع دور المثقفين في مواجهة الدكتاتورية، وقد ابلى الاديب جمعة مطلك بلاءا ناجزا في توليف منطلقات الموضوع، وكنت سأقول كلاما ذي صلة بجوهر القضية، وكالعادة، فان “وقت البرنامج انتهى” وجاء دور الاصدقاء الذين علـّقوا وعاتبوا ودققوا وصوّبوا وصححوا وايدوا واختلفوا.. وهكذا حدث لي كما يحدث للكثيرين غيري لصلة الامر بمرحلة حساسة من تاريخ ملتبس عشناه من زوايا عديدة وتلقينا تبعاته باشكال مختلفة.
الشيء الذي لم اقله، بل واهم شيء لم يسعفني الوقت للاشارة اليه والتوقف عنده، هو الامر المتعلق بالمثقفين الذين لم يستطيعوا الافلات من قبضة الدكتاتورية الحاكمة واولئك الذين لم يكونوا قد فكروا، أصلا، بمغادرة العراق مع جمهرة كثيرة من المثقفين الذين عبروا الحدود (وانا منهم) حاملين معهم خواطرهم ولوحاتهم ونصوصهم وقيثاراتهم وصبواهم الابداعية المختلفة تطلعا الى الحرية، وقد اوحت مطالعتي بالدفاع عن معارضي الدكتاتورية من مثقفي المنافي، هكذا، اني احمـّل من لم يغادر العراق لوما، او القي عليه مطعنا، او اسجل لاولئك امتيازا على هؤلاء، الامر الذي لم اعنه، وقبل ذلك لم أكن لأؤمن به إلا في الحدود التفصيلية التي تتعلق بايضاح المصاعب والملاحقات والتضييقات التي عاناها المنفيون جنب الكثير مما قدموه للثقافة الوطنية العراقية التي لم تخن رسالتها وغير المتواطئة مع الجلاد.
وسوى ذلك، فاني موقن بانه لا يحق لي، ولا لأي مثقف عارض الدكتاتورية وهاجر الى خارج البلاد، ان يحكم على الاخرين بالتواطؤ وخيانة الابداع ورسالته بمجرد انهم لم يهاجروا، بل واعتقد (ولدي بيّنات ومعطيات واسماء) ان بين الذين لم يغادروا كانوا مبدعين شجعانا حقا واوفياء لضمائرهم في تحدي الجلادين، صمتاً، او في تسريب النصوص الى الخارج، او الزوغان عن عيون الرقابة واعوانها، وقد عرّض الكثير من هؤلاء انفسهم للتنكيل بوجوه عديدة.       
ذلك حصرا ما كنت ساقوله، من دون ان اغفل القول بان الدكتاتورية انجبت عاقولا ثقافيا شائكا في العراق والقابا واوسمة ورشاوى للعناوين الادبية، فضلا عن جلادين باسم الثقافة عكفوا على تلفيق جماليات لفظية لقبح الاستبداد والغطرسة واعمال الابادة ومصادرة الحريات، وينبغي القول (او الاعتراف من جانبي في الاقل) ان بعض هؤلاء الجلادين المثقفين ليسوا طارئين على الثقافة، وبعضهم، للاسف، لديهم مكانة في سفر الثقافة الوطنية لن تنطفئ بصماتهم بمجرد انهم خذلوا رسالتهم وسقطوا في تلك الهوة السحيقة التي اسمها عالم صدام حسين.
بالضبط كما جرى في ثقافات الشعوب الاخرى. هذا، مثلا، الأديب  الانجليزي فرانسيس بيكون في القرن السابع عشر الذي كانت تلاحقه طعون الفساد وسوء السيرة، وقد خان أقرب اصدقائه نظير مبلغ من المال، وقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، ثم  الف كتابه المثير “تقدم العلم” واختتم حياته بادارة غرفة التعذيب الخاصة بالبلاط الملكي.
ولدينا بعض هذا

*
“حتى الشخص السيئ ننتفع به في ضرب المثل السيئ”.
  مثل انكليزي


251

المالكي والبعث..
حوار ومصدات

عبدالمنعم الاعسم
 
الاعلان رسميا عن الدخول في حوار مع اعضاء في حزب البعث او جماعات من “المقاومة” المسلحة لجهة القاء السلاح والانخراط في العمل السلمي ليس جديدا، لكن الجديد، كما يظهر من تصريح وزير الناطقية الحكومية، الوضوح في وجهة التفاوض وتلمسه المصدات الدستورية والتقرب من تسمية الاشياء باسمائها.
ومن داخل هذا الاستنتاج يؤكد الوزير علي الدباغ أن “الحكومة لا تتحدث مع حزب البعث كمنظمة أو حزب إنما مع أفراد يسعون للاشتراك في العملية السياسية.. وهو موضع ترحيب من قبل الجميع” وينكشف التطور في الموقف الحكومي من خلال الاشارة الى ان الحكومة “ليست لديها مشكلة بانتماء الأشخاص لحزب البعث سابقا والذين يشعرون بأنهم منتمون لهذا الوطن”.
وتنكشف اللغة الجماعية التي استخدمها الناطق الحكومي في التعامل مع هذا الموضوع الخطير عن اتجاه سليم يجنب الخطوة من محاذير الشخصنة ومحاولات اختزالها الى فاصلة في التجاذبات السياسية بين فرقاء العملية السياسية إذ قال: “الجميع سيرحب بهم ولا توجد أي مشكلة مع أي شخص بسبب انتمائه لحزب البعث أو غيره”.
سلامة هذه الخطوة، المتأخرة في الواقع، تأتي من سلامة الهدف المعلن وهو انهاء التمرد العسكري وفسح المجال امام الجماعات التي تعارض الحكومة والسياسات المعلنة لكي تعبر عن رأيها ومواقفها بحرية وعبر الاشكال السلمية الدستورية، واحسب ان الذين يعارضون هذه الخطوة من داخل العملية السياسية انما يعارضون انهاء حالة التجييش والاستنفار الامني والتحول الى اعادة البناء والحياة المدنية، وانهم لا يزالون يراهنون على كفاية الردع الامني في استئصال الارهاب بالرغم من مرور ثماني سنوات على هذا الردع المكـْلف في الارواح والاموال.
ويمكن للمراقب ان يجزم بان لبعض معارضي هذا الحوار والساعين الى احباطه والحيلولة دون توسيعه ودفعه قدما وإنجاحه (من داخل العملية السياسية وفي صفوف الجماعات المسلحة) مصلحة في استمرار الحالة الامنية الكارثية، وفي حشر حياة الملايين في دوامة الطوارئ والتعبئة والفوضى والقتل اليومي، ويمكن القول ان هذه المجموعات لن تقف متفرجة بل ستعمل المستحيل لاطالة امد الحالة الامنية المضطربة وستضع في طريق هذه الخطوة حجارة وعراقيل وربما تظاهرات مليونية.
على انه من السذاجة الاعتقاد بان خطوة الحوار والتفاوض لإنهاء التمرد المسلح في البلاد وتفكيك المشروع الارهابي وبدء عهد البناء والتطبيع والتنمية السياسية السلمية يمكن ان تنجح بمجرد الاعلان عن بدء لقاءات بين ممثلي الحكومة واعضاء في حزب البعث، فان الحالة المتوترة والمتناحرة في داخل العملية السياسية واجواء المزايدة وتصفيات الحساب وعض الاصابع وانعدام الثقة ورصد الاخطاء والعثرات تشكل جميعا عامل احباط وتشويش وتأليب، قد تنجح، كما نجحت سابقا، في اغتيال هذه الخطوة في مهدها.. وثمة ما تبقى للنيات والسرائر.
 لكن، على الرغم من صواب وسلامة (وضرورة) مناقشة البعثيين (تنظيمات وافراد) من قبل الحكومة والعملية السياسية في العراق بغرض انهاء العنف والانتقال الى عهد السلام الاهلي فان الصراحة تفرض القول بان البيئة والظروف وأهلية الطرفين ومؤشرات قناعتهما بجدوى هذه المناقشة غير متوفرة حتى في ما يقال عن النيات، فضلا عن عدم توفر التصور والقراءات لمسار وسقوف الحلول المطروحة.
 الى ذلك فثمة استدراكان مهمان يعترضان هذا السياق من المعالجة، الاول، ان غياب لوازم المناقشة بين "خصمين" هما الحكومة والبعثيين، لا تمنع من البدء بالخطوة الاولى التي تستهدف (كما في الكثير من حالات الحوار بين الخصوم السياسيين) جس النبض واستكشاف النيات، ويبدو ان هذا ما حدث منذ ايام حين ظهرت اشارات اولية عن لقاءات جرت بين محسوبين على حزب البعث ومحسوبين على كابينة رئيس الوزراء، والثاني، ان هذه اللقاءات المبكرة قد تسفر فعلا عن قرار يتخذه عدد من المسلحين او جماعات صغيرة من "المقاومة" بالقاء السلاح، وقد نصدّق ما قيل عن استعداد 700 مسلح لالقاء سلاحهم في غضون الاسابيع المقبلة، مقابل مؤشرات وفيرة ومعلنة عن استمرار التخندق في اوهام قديمة لدى كل طرف (او لدى مراكز تابعة لهما) بسحق الطرف الآخر وتسويته بالارض.
 في طرف حزب البعث، لا شك في وجود افراد وكوادر وتجمعات صغيرة ترى انه لا مفر من المناقشة والقاء السلاح وانهاء اوهام المقاومة المسلحة فيما هناك تبعثر وتناحرات ومزايدات واتهامات بالغش والخيانة والعمالة بين فلول الحزب ، بجانب مواقف متشبثة بجعجعة السلاح ورطانات المقاومة وتكفير المراجعة وتبشيع الاعتراف بالخطايا والتمسك بتجربة الحكم السابقة (ورموزه)الكارثية، الامر الذي يحول دون انتقال هذا الطرف، موضوعيا، الى فضاء الايجابية الوطنية والبحث عن سبل سلمية واشكال منتجة وجديدة  للعمل السياسي، بالافادة من ظروف وحقائق وهوامش الوضع الجديد.
 وفي الطرف الثاني، الحكومة ومكوناتها، ثمة ممن لا شك في رغبته بفتح ملف المناقشة وايصالها الى نتائج ملموسة، فيما يتوزع الموقف العام من فكرة مناقشة البعثيين بين النظرة الموسمية، والاضطرار الخجول، والمعارضة الشرسة، والتشوّش الطائفي الانتقامي، بموازاة بيئة محبطة داخل العملية السياسية يحوّل فيها المتصارعون على السلطة ملف الحوار مع البعث الى ورقة ابتزاز وضغط وتصفيات حساب مع بعضهم، والغريب، ان اكثر المتحمسين لرد الاعتبار للبعثيين والمتعاطين مع فلولهم ينظر بريبة الى محاولات مد الجسور اليهم  من قبل الحكومة.
 بصراحة، لا يصح الافراط بالتفاؤل عن قرب طي صفحة التمرد المسلح في العراق، فثمة خيوط للقضية موزعة خارج رغبة السلام والمسالمين، بين قطيع منفلت بلحى وبدشاديش قصيرة، ودول تستخدم الساحة العراقية في حروبها الخاصة.
 وبصراحة اكثر، التفكير في المستقبل لا يزال، كما يبدو، ممنوعا.
*
 “ايها النوم.. انك تقتل يقظتنا”.
 شكسبير


252
المنبر الحر / 9/4
« في: 13:56 09/04/2011  »

9/4

عبدالمنعم الاعسم

في التاسع من نيسان العام الفين وثلاثة وقعت في العراق اربع انعطافات، وقل اربعة زلازل، ربما تعني، في التحليل التبسيطي، شيئا واحدا، او نتيجة واحدة، لكنها في الواقع اسفرت عن تشظيات عميقة في الواقع العراقي موزعة بحسب الموقف مما حدث، وعلى ضوء النتائج التي انتهت اليها الاحداث.
 فما حدث (اولا) سقوط مدوٍ لنظام الحزب الواحد الدكتاتوري الذي خاض حربين في وقت واحد، وخسرهما، واحدة ضد القوات الامريكية البريطانية المغيرة بغرض دحرها، والثانية، ضد الملايين العراقية لجهة قهرها وتكبيلها وإذلالها، وشهد هذا اليوم، ايضا، سقوطا آخر لمدينة بغداد امام جحافل اللصوص والجريمة المنظمة والنهابين وعصابات السطو التي تشكلت على عجالة.
 وما حدث (ثانيا) احتلال بكل تطبيقاته المدرسية إذ استند الى قرارات المجتمع الدولي التي بلغت تسعة عشر قرارا وبخاصة القرار 4771 الذي حذر العراق من “العواقب الوخيمة” واباحت في النهاية، وبحسب البند السابع من ميثاق الامم المتحدة، استخدام القوة لاجبار النظام على تقديم بيانات تفصيلية عن اسلحة الدمار الشامل التي يُعتقد انه كان يمتلكها، ثم شرعن مجلس الامن هذا الاحتلال بقراره المعروف 1483 في اكتوبر العام 2003 واخضع العراق فترة عامين لموجبات هذا التفسير.   
 كما حدث في هذا اليوم (ثالثا) تغيير في هوية الدولة، والتغيير هنا من حيث مفهومه ونتائجه لا يعني بالضرورة ان كل ما تغيّر في العراق كان ايجابيا او ارتقائيا، فقد دخلت البلاد في طور انتقالي من عهد الدكتاتورية الفردية الخانق الى فضاء مفتوح من الحريات وصراع الارادات والمشاريع وغياب الادارة الحازمة والتدخل الاقليمي واعمال النهب والارهاب والقتل وانهيار الخدمات، فيما شمل التغيير نحو الافضل (وإن بمستويات متفاوتة) قوانين وهياكل ادارة ومعيشة شرائح واسعة من السكان ومكتسبات تدخل في ممارسة حرية الراي والتنظيم وخطوات في الديمقراطية، وبكلمة، فان التغيير شمل اعمدة النظام السياسي التي اطيح بها وحل محلها نظام سياسي لايزال قيد التبلور.
وحدث في هذا اليوم (رابعا) ما يمكن تسميته، بحذر، التحرير، فقد تحرر العراق من موصوف الدولة الاستبدادية واجهزتها القمعية التي كانت تدير شؤون البلاد كأية قوة نموذجية للاحتلال الغاشم، وإن لم تكن قوة اجنبية.
والمفارقة هنا في هذا المشهد تتمثل في ان الكثير من الجماعات العراقية تستذكر هذا اليوم.. منها مَن يمتنّ له لما اعاد له من حقوق مهضومة ويسرّ له فرصا كانت مصادرة ومحتكرة، وهناك من يغضب عليه لأنه القى به الى ساعة الحساب وخارج امتيازات السلطة والجاه، لكن ثمة بين هذه الجماعات مَن يمتنّ بالسرّ للتاسع من نيسان ويشكره على نعمه وفرصه الوافرة، ويشتمه بالعلن، ثم يتظاهر ضده من على واجهة الشاشات الملونة.
*
“لا تستطيع أن توقظ شخصا يتظاهر بالنوم..”.     
 حكمة   
د


 

253

الفلوجة.. لا أحد برئ

عبدالمنعم الاعسم

مأساة الفلوجة التي تدخل في عداد الجرائم المروعة وبوصفها ابرز ضحية لأعمال الابادة العمياء في مفتتج القرن الحادي والعشرين، ان المسؤولية عن هذه الكارثة موزعة على اكثر من رأس وجهة ومشروع وقاتل، وثمة جناة  كثيرون لا يزالون وراء المشهد وبعيدا عن الاضواء، وهناك مجرمون محسوبون على تجار الحروب باعوا الفلوجة وفجيعتها في سوق النخاسة، وآخرون اقليميون رموا بفضلاتهم من "المجاهدين" الى المدينة ثم ذرفوا الدموع الإعلامية على محنتها، وأستبقُ المقال بالقول انه لن يفلت احد، من كل هؤلاء، من العقاب العادل يوما، شأن جميع الجرائم التي ارتكبت ضد الانسانية.

اكرر، ثمة اكثر من جهة مسؤولة عن الجريمة التي ارتكبت في مدينة الفلوجة في وضح النهار، بما فيها، بل وفي المقام الاول، تلك الجماعات المتطرفة المسلحة من فلول اجهزة القمع السابقة وشريكاتها التي استوردت الجريمة والعنف والكراهيات ورطانات الجهاد والمتطوعين الظلاميين  من مخاوير العالم وكهوفه وحولت المدينة الآمنة الى مسرح للمذابح والخراب والكوابيس.
وثمة في قلب المسؤولية القوات الامريكية، وادارة بوش، وتكية برايمر التي جهّزت لحرب الفلوجة الغاشمة اسلحة الدمار الفتاكة المحرمة والراجمات وفنون الابادة وكل ايديولوجيات الانتقام والغطرسة والاذلال والزهو امام  محاولة الاخضاع العسكري لشرائح من السكان عارضت (ومن حقها) سقوط البلاد تحت الاحتلال، وهو امر تجري معالجته بالحوار وتعهدات الانسحاب.
وثمة، على نفس مستوى المسؤولية عن الجريمة، هناك طائفيون انكفائيون (من المذهبين) صنعوا من حرب الفلوجة خنادق لحروب فقهية نائمة، واضرموا نيران الكراهية بين جمهور المتدينين.
 وهناك اصحاب ووكلاء الادارة السياسية لعهد ما بعد سقوط صدام حسين، وحكومة الحرب التي هربت الى مسرح العمليات التنكيلية في المدينة باغواء النصر السريع وبهوس استعراض القوة وبمحاولة كسب سباق الزعامات، إذ يتراشق الجميع، الآن، في المحافل ومن على الشاشات الملونة، بالتهم والطعون وسوء المصير والعاقبة، ويحاول البعض الآخر، اختزال الجريمة الى سوء تقدير، وتحويل الخطيئة الى خطأ، وتوظيف القضية في تصفيات الحساب السياسية، والى مسعى محموم لتسجيل النقاط في معركة المواقع والامتيازات والتزاحم على سلطة القرار.
الغريب في هذه الكوميديا السوداء ان تنطلق التهديدات بين اصحاب الشأن بانهم قد يضطرون الى  كشف المستور (ولماذا اخفوه كل هذا الوقت؟) وطبعا لا احد، حتى الآن صعد الى مراقي الشجاعة ليعلن انه يتحمل بعض المسؤولية عما حل بالمدينة المغدورة، أو انه يضع نفسه تحت حكم العدالة، في الاقل.
والاغرب، ان ترتفع الاصوات من الكواليس، كما في كل مرة: اسكت عليّ، أسكت عليك.
*
“ من يتخلى عن حريته خوفا على أمنه، لا يستحق حرية ولا يستحق أمناً”.
    بنيامين فرانكلين   


254
نجدة فتحي صفوة.. هذا العَلـَم


عبدالمنعم الاعسم

عندما عملتُ مع نجدة فتحي صفوة قبل اربعين سنة في جريدة ”التآخي” لفت نظري اقتصاده في الكلام، والكلام عن نفسه بخاصة، وبعد ايام انصرف انتباهي الى امر آخر فيه: كان يدخل المكتب ويخرج منه كنسمة، وبخطوات محسوبة وثابتة ورقيقة، وكأنه يخشى ان يشغل حيزا في المكان اكثر مما يتاح له.

لم استطع ابتلاع انشغالي بالرجل، وكيف جاء الى هذا المكان، وخمّنتُ انه ذو شأن. سألت المرحوم عبدالغني الملاح، المحرر آنذاك في الجريدة، فاوجز لي سره وسيرته ببضع عبارات: انه مدرس سابق لامع في كلية بغداد الشهيرة ودبلوماسي سابق مرموق، ومترجم وأديب ومحقق، وكان قد ترجم للزعيم عبدالكريم قاسم بعض لقاءاته مع زعماء اجانب. وللتو شكرت الحظ الذي القى بي على طريقه وجمعني به وانا اقطع خطواتي الاولى في دهاليز الصحافة والكتابة، غير ان الفرصة كانت بخيلة إذ تركـَنا الرجل من دون ضوضاء، مثل اية خاطرة انيقة.

وطوال عقود وعقود، كنت اسمع عنه قدر ما تتيحه مجالس الغربة ومنافذها من اخبار. التقيته في لندن، خلال التسعينات من القرن الماضي، ثلاث او اربع مرات، وفي كل لقاء اضيف الى حافظتي عِلـْما له، ومنه، واعرف انه لا يكف عن الانتاج والتأليف والبحوشة في المخطوطات والوثائق الدفينة، وانه، فضلا عن كل ذلك، لا يزال قليل الكلام، وثابت القدم، ومثل اية نسمة. يناقش برقة لافتة. يستمع اليك بكفاية من الاحترام والدماثة. قد لا تقبل بعض ارائه، لكن لا يسعك إلا احترامها واحترام صاحبها.. اليست هي شمرة العلماء؟.

قبل ايام كنت، مع زوجتي، ضيفا على نجدة فتحي صفوة في منزله بالعاصمة الاردنية. كان يقف وسط مكتبة مهيبة، او-في الاصح- كان يقيم في منزل صمم على شكل مكتبة عامرة بمؤلفاته التي زادت على الاربعين وبمئات من المجلدات والمؤلفات الغنية والنادرة إذ تمتد على رفوف متطامنة وانيقة. من بعيد تفتح صدرها اليك سبعة مجلدات الـّفها عن الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، وعلى مرمى ثمة كتابه المعنون “حكايات دبلوماسية” وآخر عن معروف الرصافي وهناك “العراق في مذكرات الدبلوماسيين الاجانب” وتحقيق في “جهاز الدبلوماسية الاسرائيلية وكيف يعمل” ولصقه “العرب في الاتحاد السوفييتي” الى جانب “العراق في الوثائق البريطانية سنة 1936” و “خواطر واحاديث في التاريخ” وفضلا عن مؤلفات حققها مثل “مرآة الشام: تاريخ دمشق واهلها” لعبد العزيز العظمة، و”مذكرات رستم حيدر” و”مذكرات جعفر العسكري”. والمهم انه يواصل بذات الهمة البحث والكتابة والبحوشة، وقد قطع الثمانينات من العمر.

نحن هنا في حاضرة مهيبة تتبادل فيها الكتب والجدران سر واناقة وإبداع هذا الرجل، في تأليف الكتب، وفي توليف الحياة.

بدأ يسألني عن زملائنا القدامى في الجريدة، وصرتُ أذكـّره بمـِلـَح تلك الايام فينفرج وجهه عن ضحكة طفولية، هكذا هو كما عرفته العام سبعين من القرن الماضي، وعندما وضعتْ السيدة نرمين، زوجته، كؤوس القهوة امامنا صمتَ قليلا، فلكل مناسبة حقوق، ولكل مقام مقال، وذلك بعض ما اعطته الفروض الدبلوماسية الانيقة للرجل، وهو-ايضا- بعضٌ من لوازم الحياة التي شق طريقها، ومن جمال ادبه الغزير.

بكلمة واحدة، نجدة فتحي صفوة ثروة وطنية، كان ينبغي ان تضمها الدولة العراقية الى المفرادات الثمينة التي تشكل هويتها وتاريخها.. فمن يسمع؟.
*
“في بذور اليوم كل أزهار المستقبل”.
مثل صيني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


255
قذافيّو العراق.. رطانة اخرى

عبدالمنعم الاعسم
 
 لم يستطع المعجبون بمعمر القذافي في العراق إخفاء امتعاضهم من المآل الذي انزلق اليه الرجل وهو يطارَد "من زنقة الى زنقة" ولا يزال الكثير منهم يراهنون على صموده وامكانية خروجه من المعركة سالما، وربما اقوى، ولا يهمهم طبعا ثمن هذا الخروج المشكوك فيه  من الكوارث التي تحل بليبيا وشعبها، كما لايهم اصحاب القذافي (ولا يأتي في بالهم) لزوم البحث، قبل حلول الخراب، في الخيار الوقائي المنطقي بالتخلي طواعية عن السلطة في ترتيبات مدنية تحول دون التدخل الخارجي وسقوط ليبيا تحت الاحتلال ودوامة الموت اليومي المجاني.
 المعجبون بمعمر القذافي في العراق يستعيدون حموضة هزيمة صدام حسين بالمقلوب: كان سينتصر لو لم يخذله حلفاؤه العرب.. ويقللون من شأن المأزق الذي تخلقه الدكتاتوريات لشعوبها، ونتائج المراكمة الطويلة لسياسات القمع ومصادرة الحريات وتركيع الملايين امام السيّاف وحكم الحزب(الفرد) الواحد، وينكرون الحقيقة الموازية الاخرى المتمثلة في ان التدخل الخارجي ليس سوى النتيجة الطبيعية لمنهج حكم (وحاكم) رقص كثيرا خارج الحدود قبل التحسب للعواقب.
 هؤلاء استباحوا الدروس التي اعطتها نهاية صدام حسين، وهي تتكرر، على نحو ما في سلوك الحاكم الليبي الذي يتدثر، مزهوّا، بلقب ملك الملوك المثير للضحك، ولا ندري كم منهم سيتأمل هذه النهاية من الزاوية الواقعية، غير ان بيانات وكتابات وتصريحات صدرت عن أعلامهم (بعضها نشر بواسطة اقنية عراقية)لا تدع مجالا للشك في ان الكثير منهم ما زالوا "يركبون رؤوسهم" بالمراهنة على سحر الجملة القومية (والدينية) الثورية في تحقيق الاهداف السياسية، ويتخندقون في الاستنتاج المضلل بان أي مخاض اجتماعي  او سياسي في أي دولة عربية املته  دائرة الصراع العربي الاسرائيلي، و"المخططات" المشبوهة في حين  جرى الماء كثيرا ومتدفقا من تحت هذا الاستنتاج العتيق، واخذ  الصراع في المنطقة مجار جديدة.     
 وإذ عصفت الاحداث الدراماتيكية الاخيرة في هذه المنطقة بالالوان السياسية التقليدية المتوارثة عن عقود الحروب والصحوات (الانكفاءات) الدينية، وضربت بالصميم المحاور والتحالفات الاقليمية، والقت بمصائر الانظمة الحاكمة بكل مسمياتها الى الشارع وعلى مهب الريح فان معسكر القذافي  في العراق يقدم نداء التضامن مع "ليبيا الصمود" باقل ما يمكن من احترام المعطيات والحقائق والمشاعر، وباكثر ما يتوفر له من رطانة سياسية.
 على اننا لا ينبغي الافتراض بان اصحاب القذافي العراقيين طارئون على ساحة السياسة، او انهم لا يتابعون ما يجري على الشاشات الملونة، او ضحايا اخبار مدسوسة، او انهم مرتاحون (سعداء) حيال خطابات العقيد الكوميدية، لكننا سنفترض بالتأكيد انهم يعرفون بان سقوط القذافي من شأنه ان يعيد الى الاذهان وجاهة (وضرورات) سقوط صدام حسين.. إذ اجرم الاثنان بحق بلديهما.. وبحق نفسيهما. 
وطبعا، لا يثير العجب ان يناصر أتباع صدام حسين محنة القذافي ومعركته الخاسرة. العجب في ظهور ما يشبه التيار «الخجول» في الساحة السياسية العراقية لا ينظر الى ما يحدث في ليبيا إلا من زاوية واحدة هي العداء لأمريكا، بالرغم من ان ادارة اوباما ترددت كثيرا قبل ان تنتقد استخدام العنف المفرط  والقتل ضد التظاهرات السلمية في ليبيا، وبالرغم من ان الولايات المتحدة شاركت وتشارك على مضض في العمليات العسكرية لفرض حظر الغارات الجوية الحكومية الليبية ضد السكان الآمنين.
وشاءت محاولات اصحاب القذافي العراقيين، الجدد، قلب المعادلة من معركة للحرية يخوضها شعب امتـُهن وأُذِلّ طوال اربعين سنة الى عنوان "مؤامرة امريكية" ان تصطدم بالسمعة المتردية للقذافي، على جميع المستويات، وبهزال ادارته السياسية للأزمة، وبخروجه على اخلاق الصراع السياسي الى فجاجات انفعالية مثيرة للشفقة والقرف.   
فالتيار القذافي في العراق، مثل القذافي نفسه، لا يعترف (ولا يريد الاعتراف) بالواقع، أو ان الواقع بالنسبة له هو ما سيحدث بعد الف عام تحت شعار: "المستقبل لنا، ولا يصح إلا الصحيح" وهكذا، فقد فاجأتنا اصوات التيار منذ اول تظاهرة سلمية شهدتها مدينة بنغازي في الاول من آذار الماضي تطالب برحيل العقيد وابنائه وكتابه الاخضر بالقول (حتى قبل ان يقولها القذافي) انها مؤامرة غربية ينبغي دحرها، وذهب البعض من الاصوات الى الدعوة للتظاهر لنصرة نظام العقيد في نفس الوقت الذي سحب المجتمع الدولي، على لسان الامين العام للامم المتحدة، شرعية هذا النظام، وهي مبادرة نادرة في تاريخ المنظمة الدولية منذ تاسيسها قبل ما يزيد على ستة عقود ونصف.
قد يقال، في مغالطة او عجالة، ان ظلال القذافي شاحبة في العراق، لكن الواقع يكشف عن مكونات تيار محلي يسترشد بالبطريكية (الدينية او القومية) وهي نفسها جوهر ما خلفه القذافي من افكار وممارسات ترفع صفة الزعيم السياسي الى موصوف المعبود. 
خطورة تيار القذافي في العراق تتمثل في خطورة ثقافة الدونية الاجتماعية، والابوية السياسية، وكذبة القائد الملهم، الضرورة، المنزّه، المصيب دائما، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لا ينتصر إلا برغبته وعندما يرغب، ولا ينهزم إلا إذا اراد. صاحب الحكمة والكرم  والحل والربط والصفحة البيضاء، الذي يخيف ولا يَخاف. مصائر الجميع بيديه. أرواحهم بيديه. يفكر بالنيابة عنهم، حتى في ما يتعلق بالطريقة التي ينبغي ان يموتوا بها.. فكم في هذا العراق من القذافيين..
وكم في ثيابنا من ثقوب باسمائهم. 
*
"العارف لا يكون واصفا ولا مخبرا".
عنيزة البغدادية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

256
المنبر الحر / بحران في البحرين
« في: 00:41 23/03/2011  »

بحران في البحرين

عبدالمنعم الاعسم

مرة اخرى، في البحرين وفي غيرها، لا يمكن الاطمئنان الى الجمع بين “الوطنية والطائفية” بل لا يمكن مجاورتهما في بناء دولة، اية دولة، فاما دولة وطنية، واما دولة طائفية. الدولة الوطنية (إذا شئنا الصراحة) تتضايق من الطائفيات، والدولة الطائفية تضيق بالوطنيات.
ان تكون وطنيا وطائفيا في نفس الوقت، تكون قد كذبت علينا وقبل ذلك على نفسك، وقد كذب علينا وعلى نفسه، وما زالوا، كثيرون. صدام حسين استخدم المسارين: الوطنية العراقية بوصفها شعارا آنيا للتعبئة الى الحرب وبهدف اخصاء الهويات والتنوع والعقائد والخيارات غير المرغوب فيها، ثم الطائفية الدينية من اجل تصليب عود النخبة الحاكمة ودفع اتباع الطائفة (الطوائف) الاخرى الى مرتبة مواطنين من الدرجة الثانية.
وثمة دائما في الصراعات الوطنية والطائفية منطقة وسط (معتدلة) ترفض الوطنية والطائفية معا. منطقة هشة لكنها تتنامى في مجرى توحش الوطنيات والطائفيات وظهور اسنان فتاكة لمشروعهما السياسي، وتواجه هذه المنطقة (في ظروف الاضطرابات) هجمات الطرفين وربما تحالفهما المؤقت. يتكرر ذلك  كثيرا، فالاعتدال غالبا ما يكون ضحية المتصارعين، وثمة الكثير من الظروف يتوحد فيها الوطنيون والطائفيون لدحر الاعتدال بوصفه خطرا محدقا بهما.
دائما، في الدولة الوطنية التقليدية اللاديمقراطية، ثمة مواطنة موزعة على درجات ضحيتها الوطنيات الاخرى، ودائما، في الدولة الطائفية النموذجية ثمة مواطنون من الدرجة الثانية هم اتباع الطوائف الاخرى، والمعروف، ان دولا من المجموعتين تمسك الان مفاتيح العلاقات الاقليمية وما يتصل بها من امن وتجارة وثقافة. 
في البحرين، ثمة بحران يتلاطمان بعنف، الوطنية والطائفية، حيث باءت بالفشل صيغة الدولة الوطنية (الاقطاعية) التي دست هويتها الطائفية خلف شبكة من اعلانات النيون الدستورية وبعض الاجراءات الديمقراطية الشكلية (الانتخابات) لتسويق شرعية حكم الاقلية، وفي المقابل اخفق ضحايا التمييز الطائفي في تقديم مشروع الدولة الوطنية كبديل عن الحكم القائم، وفيما استنجد حكم الاقلية بحلفائه (اقليات طائفية حاكمة)في المنطقة، برز خطر التحزب الطائفي من الجانب الآخر على سطح حمية طائفية انفعالية تضرب دول الجوار وشرائح اقليمية لنصرة المظلومين في البحرين.       
بحرا البحرين، الوطنية والطائفية، يمضيان الى نقطة الافتراق. وقد يجران المنطقة الى الحرب في النقطة التي يصبح فيه الصراع صراع طوائف، وتكف الوطنية عن اللعب في ساحة الاكاذيب.
*
”كلنا كالقمر، له جانب مظلم”
حكمة




257
النفاق السياسي ..
الازدواجية السياسية

عبدالمنعم الاعسم

النفاق السياسي يختلف عن الازدواجية السياسية ويلتقيها ايضا, في المرة الاولى يظهر الاختلاف في المنطلق، فالمنافق مهرج سوقي يستهدف الايقاع بالزبون (الجمهور. الساسة)  وحمله على التجاوب  عن طريق الغش وتزييف البضاعة(الحقائق) أو التصرف بها او تغيير هويتها تبعا للمنفعة الآنية. اما صاحب المواقف المزدوجة فهو اكثر مهارة في عرض بضاعته المغشوشة وقد يدافع عن ذلك الغش بوصفه نوعا من الشطارة او فنا من فنون السياسة اوالبراغماتية. 
 وفي المرة الثانية يلتقيان من حيث المنافع (النتائج) حيث يجني المنافق وصاحبه الازدواجي ثمار انخداع الآخر بسرعة وربما يفقداها بذات السرعة بحسب سرعة انكشاف النفاق والازدواجية.
وكلا المنافق والازدواجي السياسي ينتعشان في ظروف الانشقاقات السياسية والفتن وغياب الاستقرار، ويجري تداول بضاعتهما في الانواء المضطربة، وقد يلحقان الكوارث والمحن بالشعوب او (في الغالب) بمن يأمن لهما ويصدّق حسن نياتهما ويتقبل مغشوش بضاعتهما.
النفاق السياسي يذهب مذهب الخديعة او المؤامرة او فنون صناعة الفتن والظنون والريب والكراهيات، ويستخدم كل الاساليب غير المشروعة وغير النظيفة، لكن صاحبه يحرص على الظهور بخلاف طبيعته، بل وباكثر من طبيعة، بحسب فروض الحاجة ومتطلبات المنفعة.
اما الازدواجية السياسية فهي منهج يتبعه اولئك الذين يسعون الى استرضاء اكثر من طرف، ويماشون اكثر من خيار، وينحازون بالسر او بالعلن الى اكثر من معسكر، فيما تلك الاطراف والخيارات والمعسكرات تتصارع وتتحارب وتختلف.
في العراق هناك من المنافقين السياسيين واصحاب المواقف المزدوجة اجيال واجيال، والآن، لدينا جيل محسّن منهما: ماذا نسمي ان تكون في قلب الحكومة وان تكون، في ذات الوقت، في قلب المعارضة؟ ان تأكل من ماعون الحكم وان تاكل، ايضا، من ماعون الشارع؟  لكن الخطر الماثل لدور المنافقين  ومزدوجي الموقف انه مرر الكثير من بضاعته المغشوشة في السوق السياسي، والاخطر، انه خدع قاعدة عريضة من الجمهور والزبائن بها.
وفيما خاضت الانسانية معارك سياسية وفكرية مديدة من اجل اقامة عالم للعدالة والقيم والحقوق كان النفاق وازدواج المواقف سببا مباشر لاراقة الدماء والكوارث والحروب بالمعنى الذي يسببه عالم المظالم ودورات الطغيان، ويقال ان النفاق وازدواج المواقف عريقان في التاريخ، وان ابليس اول منافق ولاعب بالمواقف، إذ نجح في خديعة آدم وتسبب في هبوطه من الجنة الى  الارض.. ونال عن ذلك احتقارا ابديا.
*
“قد تتمخض فترات الخراب عن دهاة، لكن من جنس آخر”.
مثل الماني
 



258

العراق و"الفاو"
فرصة ينبغي لا تضيع

عبدالمنعم الاعسم

مكانة العراق في المنظمات والهيئات الدولية تحتاج الى اعادة بناء جدية ومنهجية، مثلما هو الحال في اعادة بناء  مفاصل اخرى خربتها الدكتاتورية والحرب واعمال الارهاب والفساد والطائفية، ويلزم ان تبدأ من تشخيص الاقنية والمسارات الاكثر اهمية وصلة بالاحتياجات الملحة والاستراتيجية للدولة والمجتمع في طورها الجديد، وبخاصة الاحتياجات الزراعية والغذائية التي تعاني من علل متوارثة وناشئة الامر الذي يمس الامن الغذائي للبلاد في الصميم.
 تكفي الاشارة الى الواقع الغذائي المرير والمشوّه في البلاد إذ تُستنزف موارد الدولة في استيراد الغالبية الساحقة من المفردات الغذائية التي يمكن تأمينها من الإنتاج الزراعي الوطني لو احسن معالجة مشكلاته ورفع كفايته واستخدام وسائل التحديث المتطورة في تنشيطه.   
 وإذ تتفق جميع الدراسات والمنظورات الواقعية على ضرورة النهوض بالواقع الزراعي في العراق بوصفه الشرط الضامن للرخاء الغذائي في المستقبل فان هذه الدراسات والمنظورات تعوّل على الافادة من الاقنية والفرص والمجالات الدولية لتسريع خطط التحديث في مجالات الزراعة والمياه والموارد ذات الصلة لتخفيف استفراد الموارد النفطية في التحكم بالاقتصاد العراقي وحياة الاجيال المقبلة، وذلك انطلاقا من حقيقة ان امكانات العراق في مجالات الخبرة والتكنولوجية والتخطيط غير قادرة، ولا مؤهلة، لتحقيق عملية التحديث المنشودة.
 ولا حاجة لتكرار القول الذي يعرفه الجميع عن علاقة الزراعة والانتاج الزراعي بالرخاء وبشروط تطوير الصناعات الوطنية، فضلا عن علاقتهما بالامن الغذائي والاستقرار والتوازن الاجتماعي، ولدى الباحثين امثلة كثيرة عن دول احيت زراعتها واراضيها وشبكة مياهها بالافادة من حسن علاقاتها الدولية للحصول على المشورة والمساعدات والتكنولوجية لتصبح في مصاف الدول الصناعية والغنية في العالم 
 وتعد منظمة الاغذية والزراعة التابعة للامم المتحدة(الفاو) من اكثر الميادين التي يلزم ان يكون العراق في شبكة خدماتها وانشطتها، بل وفي طواقمها الادارية العليا بالنظر لحاجته الماسة الى الفرص والخبرات التي تتيحها من اجل التغلب على المشكلات التي يعانيها بسبب تراجع الخصوبة وشحة المياه والخطورات المحدقة بالامن الغذائي الوطني.
 ومنذ اسابيع تجري منظمة الفاو التحضيرات لاختيار مدير عام جديد لها خلفا لمديرها العام  السابق السنغالي جاك ضيوف وذلك في اواخر حزيران المقبل، فيما يتقدم ممثل العراق الى هذا المنصب الدكتور عبداللطيف رشيد، وزير الموارد المائية السابق وفي سجله رصيد طيب من الخبرة والنزاهة يؤهله لمنافسة ممثلي دول اخرى، وهي فرصة ذهبية للعراق الجديد لكي يعيد بناء مكانته الدولية لا ينبغي ان يـُقلل من شأنها.. وينبغي ان لا تضيع.
فعندما يقال ان ممثل للعراق الجديد مرشح لمنصب المدير العام لمنظمة دولية مرموقة ومهمة مثل منظمة الزراعة والتغذية التابعة للامم المتحدة فان الامر يعني ان الدولة العراقية واقنيتها الدبلوماسية والاعلامية والسياسية تعد نفسها لمعركة تنافس شديدة من اجل كسب المنصب بمواجهة مرشحي الدول الاخرى، وقد شهدنا في غضون العقود الاخيرة معارك طاحنة خاضتها الدول المختلفة مع شركائها في المنظمة الدولية للفوز في منصب من مناصب الهيئات الدولية كما حدث في الترشيحات الى ادارة منظمة اليونسكو التي لم تجر في اطر المنظمة المحدودة بل اتسعت لتشمل كل مفردات العلاقات بين الدول واستخدمت فيها ضغوطا وتحالفات وتعهدات كثيرة قبل اجراء انتخاب ممثلة بلغاريا ارينا يوكوفا  الى المنصب.
وإذ يقترب موعد انتخاب المدير العام لمنظمة الفاو بعدثلاثة اشهر فاننا نرصد، بالعين المجردة، ضعف الحركة الرسمية والاعلامية والدبلوماسية، لجهة الترويج لحق العراق واهليته لتبوأ هذا المنصب، فيما تنشط دول المرشحين الآخرين نحو كسب التنافس وتقدم مرشحيها الى دورة الاعلام والعلاقات العامة وشبكات الدبلوماسية، وكان الاجدى بالمرجعية الحكومية العراقية ان تضع برنامجا متكاملا للتنافس سيما ان لدى العراق الكثير من الافضليات وإمكانيات الفوز فضلا عن المؤهلات المهنية التي يتمتع بها مرشح العراق الى المنصب الدكتور رشيد من خلال خدمته الحكومية أو خبرته في ادارة الهيئات الدولية ذات العلاقة بالقضايا الزراعية والتغذية في دول نامية عديدة، الامر الذي حظي بدعم رسمي من جامعة الدول العربية التي اعلنت انه مرشحها ايضا الى المنصب.
ويتنافس هذه المرة على منصب المدير العام للمنظمة، بالاضافة الى الدكتور رشيد كل من ميغال أنخيل موراتينوس كويوبي (إسبانيا)، إندرويونو سويوسيلو (إندونيسيا)، محمد سعيد نوري ناييني (جمهورية إيران الإسلامية)، جوزي غرازيانو دا سيلفا (البرازيل) وفرانز فيشلر (النمسا).
لكن التنافس في هذا المجال، وبصرف النظر عن نتائجه، يعطى للدولة التي تخوضه بجدارة وجدية وناشطة بطاقة مرور الى المواقع المرموقة، وبعكس ذلك، فان موقف التفرج والعجز يلحق باصحابها الخسارة الفادحة والخيبة.
ويغكس التنافس الشديد على قيادة الفاو اهمية المنظمة بوصفها ميدانا للمعرفة والمعلومات الدقيقة عن الامن الغذائي في العالم وتقوم بمساعدة البلدان النامية والبلدان في مرحلة التطور على تطوير وتحسين ممارسات الزراعة، وسبل تنمية الغابات ومصايد الأسماك لتأمين قواعد وظروف التغذية الجيدة والأمن الغذائي للجميع، وذلك عبرالنهوض بمستويات التغذية، وتحسين القدرة الإنتاجية الزراعية، وترقية الأوضاع المعيشية لسكان الريف، والإسهام في نمو الاقتصاد الوطني، والتأكد من إمكانية وصول غذاء عالي الجودة للسكان على أسس صحية.
 كما انها احدى اهم المرجعيات الدولية التي تدير المناقشات والاتفاقات الدولية حول مشاكل المياه، وبادرت فعلا الى عقد حلقات البحث والدراسات التي تتناول هذه المشاكل ومساعدة الدول التي تعاني من الشحة والجفاف ومن المشاكل مع جيرانها، وكان العراق من بين دول كثيرة يحظى باهتمام ودعم المنظمة وبخاصة في مجال تدريب العراقيين على احدث الاساليب في ادارة شؤون الثروة المائية والزراعة والامن الغذائي.
الى ذلك افادت تصريحات سابقة  لمسؤولين في المنظمة ان العراق، وخاصة بعد 2003 عانى من مشكلة الفقر والجوع وعدم وجود امن غذائي لملايين السكان والتي كان سببها الرئيس والاساسي هو تراجع فاعلية الزراعة المحلية واستيراد المواد الغذائية كافة ما ادى الى زيادة اسعارها، وبالتالي اثر على المواطن وأمنه، وفهم من هذه التصريحات بان المنظمة بدات تنفيذ مشروعات للامن الغذائي في عدد من دول المنطقة، من بينها العراق.
واستنادا الى تصريحات سابقة للسفير العراقي في منظمة الفاو والمنظمات الدولية في روما الدكتور حسن الجنابي فانه بسبب الجفاف الذي يضرب المنطقة يواجه العراق خطر العطش فيما كان قبل عقود من بين الدول الاكثر وفرة مائية، بل ان ملف ازمة المياه في المنطقة يتضمن اشارات عديدة الى مشاريع لتزويد دول مجاورة تعاني العطش من فائض المياه العراقية، ويلاحظ انه “ولأول مرة في تاريخ العراق أن سكان بعض المناطق في جنوب العراق يتظاهرون من أجل الحصول على الماء، خاصة الفلاحين”.
من هذه الزاوية فان المصلحة العراقية تتطلب الحضور الفاعل في المنظمة الى جانب وضع المعطيات الواقعية لتحديات الامن الغذائي في العراق على طاولة المنظمة وتحت اهتمامها المباشر، وسيكون وجود ممثل للعراق على راس ادارة المنظمة ضمانة لترجمة المشاريع الداعمة الى اعمال ملموسة، عدا عن انه سيضمن عرض احتياجات الدول التي تشترك مع العراق في مشاكل الغذاء والعطش بصورة افضل.
ان الاعلام العراقي، وبخاصة اعلام الدولة، معني بتبني مرشح العراق الدكتور عبداللطيف رشيد الذي يتمتع برصيد مهني واداري طيب يمكنه ان ينافس مرشحي الدول الاخرى والفوز بمنصب المدير العام للمنظمة، وتفيد القراءات الاولى لسير المتنافسين، ان المرشح العراقي يتفوق على منافسيه في نواحي كثيرة، آخذا بالاعتبار بان التنافس في مثل هذه المنظمات يتخذ سبلا معقدة ويستند الى عناصر واعتبارات وحتى صفقات جانبية لا علاقة لها بالكفاءات والخبرة، الامر الذي يتطلب من الحكومة تشكيل غرفة فاعلة لقيادة وخوض عملية التنافس لضمان فوز الدكتور رشيد.
   


259

الحكومة والاعلام.. 
ثقة تحت الصفر

عبدالمنعم الاعسم

تكرر ويتكرر اعتقال الاعلاميين والصحفيين والاعتداء عليهم واستفزازهم والتشهير برسالتهم من قبل اجهزة امنية تدار من اعلى مراجع السلطة التنفيذية، ثم، يتكرر اطلاق سراحهم بعد اعتذار بارد من معتقليهم، لكن الامر سرعان ما يتكرر بحق اعلاميين اخرين في اليوم التالي، حتى تدنت ثقة السلطة الرابعة بالحكومة الى ادنى منسوب لها بعد تظاهرات(وتعديات) البصرة والمحافظات الاخرى وغداة تظاهرة السابع من آذار في ساحة التحرير بمناسبة مرور عام على الانتخابات النيابية.
ولو توقف الامر عند هذا الحد لأمكن تبريره وقبول تأويلاته الرسمية، غير ان تخبط الاجراءات الامنية التي بلغت حد اعتبار حمل كاميرا في منطقة التظاهر شبهة امنية تـُخضِع صاحبها للمخاشنة والمساءلة والاعتقال والضرب ترك جوا من الارتياب بسلامة النيات الحكومية ازاء حق التعبير وحرية الكلمة ولوازم التقصي عن الحقائق ومتابعة حركة الاحتجاج ومطالب المواطنين التي قيل بان السلطات تعترف بها وتحترمها وتسعى الى تلبيتها. 
اقول، لو ان الامر وقف عند هذا الحد لأمكن قبول التذرع بالخطأ وسوء التدبر وعجالة ردود الفعل او عدم مسؤولية السلطات العليا، لكن جملة الاجراءات التي اتخذت طابعا رادعا شاملا ومنهجيا، بحق مؤسسات واقنية تلفزيونية وصحفية تفاعلت مع حركة الاحتجاج مثل جريدة طريق الشعب الصادرة عن الحزب الشيوعي والتضييق على هوامش الوصول الى المعلومات والامتناع عن الاجابة على اتصالات الصحفيين والمراسلين تكشف جميعا لا عن ضيق عابر حيال الاعلام الحر فقط بل وعن محاولة لاخضاع الخدمة الاعلامية الوطنية الى مشيئة قيادة السلطة.
ومما يعزز المخاوف إزاء مستقبل حرية الاعلام في العراق تلك التصريحات التي ادلى بها كبار مسؤولي السلطة التنفيذية وتضمنت طعونا ضد وجاهة تضامن الاعلاميين مع حركة الاحتجاج الشعبية، كما تضمنت تهديدات مبطنة لاولئك الاعلاميين الذين يناصرون ابناء شعبهم ويشاركونهم التظاهر السلمي ضد المهانات والحرمانات والمفاسد السياسية والادارية واهدار الثروات والوعود الكاذبة التي تسجل باسم اركان الحكومة ومتنفذين في مجالس المحافظات والفئات الحاكمة.
ولعل من اغرب المداخلات التي اطلقت بهذا الصدد من قبل اولئك المسؤولين قولهم ان الاعلامي يفقد حصانته وحقوقه ولوازم حمايته حين ينضم الى حركة الاحتجاج، أو حين يتعاطف معها، وكأنهم يقترحون علينا، نحن الاعلاميين الاحرار، ان نكسر اقلامنا ونتخلى عن رسالتنا المدونة في المعاهدات والدساتير و المواثيق الدولية ونتحول الى كتاب عرائض على قارعة الطريق.
*
“ لا يغرنك سهولة الصعود، إذا كان المنحدر وعراً”.
  رسول حمزاتوف


260

7 آذار..
موسيقى حزينة

عبدالمنعم الاعسم


لا اعتقد ان احدا منصفا سيعلن هذا اليوم، السابع من آذار، انه يحتفظ بذكرى عزيزة عليه تخص مصير الدولة العراقية الاتحادية الجديدة، إلا البعض من انتفع وحوّل النتائج الى مباهج، فقد تمخضت انتخابات هذا اليوم من العام الماضي عن نتائج اقل ما يقال عنها انها اسهمت في تفتيت وتشظي النسيج السياسي والاجتماعي في البلاد على الرغم من انها اتسمت بنوع من الشفافية (اقول نوع)وجاءت بعد تنافس حر (الى حد ما) بين المرشحين وتوفر الفرص امام الاعلام على نحو لا شبيه له في دول المنطقة.
في هذا اليوم لعب المال السياسي والتهريج وعمليات التسقيط والقانون “القاصر” للانتخابات وهيمنة خطوط من السلطة على التحضيرات وعمليات التصويت والفرز والدعاية الانتخابية، واختلط فيه الخطأ والصواب، والنزيه باللانزيه، والمدعي بالداعية، والصريح بالمخاتل، ثم انفتح على مجلس مشلول الارادة، لا يقرر شيئا قبل ان يطبخ القرار في الكواليس وغرف الصفقات، ثم جاءت الوزارة على قياس هذا الشلل ووفق مشيئة تلك الكواليس.
وطوال عام دفعت الملايين العراقية ضريبة انتخابات السابع من آذار، باهضة التكاليف، وتراجعت سمعة المؤسسة التشريعية الى ادنى منسوب، وظهرت تحت قبة البرلمان وجوه تتفرج اكثر مما هي تتفاعل. غائبة وحاضرة في آن. تنتظر ولا تبادر فيما امتلأ الشارع بالشائعات والروايات والمعلومات عن ابطال فساد، ووكلاء مفاسد، يتخذون من شرعية تمثيل الشعب حصانة من المساءلة، وواقية من الحساب، والاكثر من كل ذلك، اجازت هذه المؤسسة التي يفترض انها أعلى سلطة في البلاد تشكيلة وزارية قال عنها رئيس الوزراء بالصوت والصورة “انها لا تلبي الطموح” فتحولت هذه التشكيلة التي كانت عرجاء من حل مفترض يفضي الى تنشيط الادارة الحكومية الى مشكلة عويصة، تهدد بتفليش ما بني من شراكة.
حتى تلك الاصوات التي تدعي انها معارضة وتتبنى خيار “التغيير” عبر البرلمان انحدرت الى انانيات ومعارك استعراضية ومحاولات تصفيات الحساب، وشوشرة، وكانت فترة عام كافية لسقوطها في اللامصداقية والتخبط، الى جانب غيرها من النوادي التي تعلن، بمناسبة ومن دون مناسبة، انها تدافع عن طوائف مظلومة او عن شرائح منسية، فيما المظلومون والمنسيون مزقوا هويات الانتساب الى هذه النوادي، في اكثر من مناسبة واكثر من شارع، ومسحوا عن اصابعهم اللون البنفسجي.
السابع من آذار، بكلمة موجزة، يوم جليل غـُدر به.. وتصدح فيه موسيقى حزينة.
 
*
"مِن تجينا بعد فرصه...
هذا اصبعنا ونكصّه".
من اهازيج ساحة التحرير     
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


261
 
المسؤولية..
هل يتحملها المالكي  وحده؟

عبدالمنعم الاعسم


لا ينبغي أن نخفف من مسؤولية رئيس الوزراء نوري المالكي عما اسماه النائب المستقيل جعفر الصدر “خيبة العراقيين” حيال “ما آل اليه الوضع” فهو نفسه لم يكن ليخفف من تلك المسؤولية او  يتنصل عنها، كما ان الدستور العراقي النافذ عهد اليه، بوصفه رأس السلطة التنفيذية، ورئيسا لمجلس الوزراء بالمسؤولية رقم واحد عن تنفيذ السياسات والبرامج والتعهدات وعن مصائرها، كما ان فرقاء العملية السياسية وممثلي الكيانات المشاركة في عهد ما بعد الدكتاتورية قبلت تحمله المسؤولية الاولى مرتين، في العام 2006 و2010.
لكن علوم السياسة (والتجربة الديمقراطية حديثة العهد في العراق) تعطينا الحقيقة التالية: ان مسؤولية رجل الدولة الاول محدودة بمفردات يقرها العقد الاجتماعي- السياسي في البلاد وتتيح للمسؤول تكوين فريق من المسؤولين الاخرين (تتفاوت مسؤوليتهم) من الوزراء والمستشارين والخبراء ، عدا عن المسؤوليات الدستورية لرئيس الدولة ذات الصلة بحماية الدستور وضبط موجبات الشرعية والرقابة، وعدا ايضا عن مسؤولية الرأي العام والسلطة الرابعة والمنظمات غير الحكومية والكتلة الثقافية والاجتماعية، وعدا (وهذا مهم) عن مسؤولية المعارضة، وبخاصة المعارضة المنضوية في اطار العملية السياسية.
ليس سرا ولا يعد افتراضا او اتهاما القول بان المالكي كان حريصا على الامساك بالحلقات الاساسية لادارة الدولة، الامن والمال بخاصة،  وربما كان يعمل (بالافادة من زخم الانتخابات) على توسيع سلطته (وهيمنة حزبه) قدما كلما سنحت الفرص لتحقيق ذلك، وكان هذا ذريعة البعض من شركائه ومعارضيه على حد سواء للنأي عن الاعتراف بمسؤوليتهم عن الاخفاقات والفساد وتدني الخدمات والتهديدات الامنية، فيما هم، في الواقع يتحملون جزءا ليس قليلا من هذه المسؤولية، والبعض منهم (باسمه او باسماء موالين) ارتكب مخالفات ومعاصي وذنوب، وفسد وافسد، واعطى وأخذ، وصال وجال، مما لا يمكن نكرانه حيث ان شهود المرحلة لا يزالون احياء، والبيّنات والوثائق لم تزل حية وصالحة للمراجعة. 
وفي مجرى الازمات السياسية التي عصفت بحكومتي المالكي، الاولى والثانية، كانت المسؤولية تتمدد وتتقلص بشكل كيفي، فالفشل له مسؤول (بالتأكيد)لا يعترف به صاحبه او المتسبب فيه او المشارك في صناعته بشكل من الاشكال،  فيما النجاح يسجل لمسؤول لا يعترف به الآخرون، بل ويحاولون إفساده وتنغيصه، وشاء المالكي ان يمضي في الدوامة الى شوطها الاخير حتى حدثت ساعة المراجعة، حين صعد الجمهور  الى المنصة فأضيء المسرح عن الحقيقة: الجميع مسؤولون، وإن تفاوتت مسؤولياتهم.
*
“ما اكثر الصادقين، واقل الصالحين في الصادقين”.
 الشيخ معروف الكرخي
 

262
نيران..
ونيران صديقة على المالكي

عبدالمنعم الاعسم

اكثر من جهة تطلق النار على رئيس الوزراء نوري المالكي. بعض النيران تاتي من جهة (او جهات) لا تفرق بين المالكي وغيره، وتستهدف عملية التغيير والعملية السياسية، وهي (في الاصل) لا تؤمن بالاحتجاج السلمي ولا تحمل مشروعا واضحا بديلا للمستقبل، وإن كانت في خطابها الاعلامي تتعاطف مع (وقد توحي انها تقود) الاحتجاجات المطلبية، وهي (كما اتضح خلال احتجاجات الجمعة) لا نفوذ لها واضحا للعيان في صفوف الجمهور، على الرغم من التضخيم المتعمد الذي اعتمده الخطاب الحكومي عن مخاطرها ونشاطها التخريبي.
وبعض النيران الاخرى لها ما يفسرها في دولة تتهيكل من جديد، من المركزية الصارمة (الفردية) الى اللامركزية المضطربة إذ يتخذ فيها رئيس الوزراء الموقع الرأسي (المبالغ فيه) في ادارة السلطات التنفيذية، وتغيب عنها (او تتلكأ) فروض الشراكة في سلطة القرار، وتختنق الادارات الحساسة ذات الصلة بالخدمات ودورة المال والبناء بموظفين (ومسؤولين) فئويين من جهة، ومن غير كفاءات من جهة ثانية، وبعضهم غير نزيهين من جهة ثالثة. هذه النيران تنطلق (او تـُطلق) من افئدة جمهور عريض من الشبيبة المهمشة وواصحاب عائلات عاطلين عن العمل وابناء الاحياء الغارقة في الوحول والعتمة وشرائح متعلمة تفتح عيونها على هول المفاسد السياسية والادارية والمالية.
الى ذلك (ولم يكن متوقعا) فقد تعرض المالكي الى ما يمكن تسميته بالنيران الصديقة من فرقاء يشاركونه الاستحقاق الانتخابي من خلال الاكثرية النيابية ويقاسمونه ادارة اهم مفاصل السلطة التنفيذية ودورة الخدمات، واللافت، وفي مجرى الاحداث الناجمة عن حركة الاحتجاجات، ان هذه النيران ليست عمياء كفاية ولا عشوائية ولا منفلتة عن حساب خاطئ للمديات كما هو حال النيران الصديقة في ساحة الحرب، بل انها مصممة (عن عمد) نحو اصابة مكامن سياسية لمنصب رئيس الوزراء لا احد يعرف حتى الآن نتائجها المباشرة على خارطة التحالفات التي اجازت الحكومة، لكن المعروف انها اضافت اسبابا جديدة لارث انعدام الثقة في صفوف المعسكر السياسي النافذ.
ثمة نيران اخرى بدأت تتجه الى كابينة المالكي من الخارج، صحفا وهيئات انسانية، ولم تكن مفاجئة إلا بالقدر الذي يعرفه المحللون عن علاقة تلك النيران بمراكز نافذة في الولايات المتحدة وبريطانيا، الدولتين الاكثر اهتماما وتكفلا بمستقبل العراق.
وغير تلك وهذه من النيران فان المراقبين عن كثب للاحداث والمنقبين في ما يترشح من الكواليس من تسريبات قد رصدوا نيرانا مسجلة باسم بعض اهل رئيس الوزراء المقربين الذين يفترض انهم يعضدون موقفه ويقفون معه في ساعة الشدة، وبعضهم نأى عن نفسه لكي لا تقع بعض الشظايا على دشداشته، الامر الذي يدفع الى القول ان الايام القادمة ستجلب المزيد من الصداع للسيد المالكي، ولاصحاب النيران على حد سواء.
*
“ تاج القيصر لا يمكن أن يحميه من الصداع".
 حكمة روسية



263
لم يكن هناك مندسون..

كان آذان الاصلاح

 

عبدالمنعم الاعسم

 

?تحت نصب الحرية، صباح الخامس والعشرين من شباط، ازدحم بضعة آلاف من الشبيبة العراقية  ليهتفوا بصوت واحد “الشعب يريد إصلاح النظام” و “اين الخدمات يا مجلس المحافظة؟” و”المحاصصة خنقتنا وهمشتنا” و”الشعب موحد. الحرية مطلبنا”. وكان سيل آخر من المحتجين يقطعون الطرق الى ساحة التحرير مشيا على الاقدام من احياء واطراف بغداد. قالت لي امرأة “جئت من ابو غريب، وقالت اخرى "قطعت ثلاثين كيلو مترا على رجليّ” وقال شاب لم يبلغ العشرين من عمره “انظر، اننا عُزل ونطالب بالكهرباء لمنازلنا. لماذا يخافون منّا؟”.

تحت نصب جواد سليم، في ذلك الصباح شديد البياض، وفي المكان الذي يقع على مرمى حجر من نهر دجلة الخير لم يكن هناك انصار صدام حسين ولا صور له ولا احد يترحم عليه. كان شبان يحبون العراق، الشيء الذي يوحدهم انعدام الثقة بالوعود وباصحابها، والشيء الذي يقلقهم المنحدر الذي يندفع اليه حاضرهم في ماكنة المحاصصة والفساد، والشيء الذي يخيفهم هذا الجدار الكونكريتي الاصم بين اوجاعهم واحتياجاتهم واصواتهم وبين اصحاب القرار السياسي الذين ثرموا مسالك الطريق الى مكان الاحتجاج السلمي بوسائل من الردع والتخويف وقطع الجسور ومنع تجوال المركبات.

في هذا المكان، صباح الخامس والعشرين، انجبت الحيوية الشعبية وليدها الجديد: جيل يمكن ان نضع الوطن أمانة في عنقه يوما، إذ تخلص من عار الدكتاتورية البغيضة، ومن الخوف الذي زرعه  صدام حسين في الافئدة والعقول.. جيل يعرف ما يريد وبكلمات موجزة: الخبز والحرية، لا بالسلاح والتجييش، لكن عن طريق المطالبة السلمية، الواعية، التي كفّت عن ان تنخدع بالكلام.

في ذلك المكان الذي شهد ولادة ارادة الاصلاح التي لن تنطفئ كان المحتجون البغداديون قد تخلصوا من الطائفية والشوفينية والكراهية والرطانات الدينية. كانوا يتبادلون القبل والورود مع بعضهم ومع رجال الجيش والشرطة، بل كانوا يتلقون التأييد والتعاطف وكلمات الاحترام من رجال المفارز والسيطرات والمراقبة. لم يكن هناك توتر حتى ساعة الهجوم الغريب، وغير المبرر، لفرقة مكافحة الشغب على المحتجين بالرصاص والمعاول وخراطيم المياه.

كنت، مع آلاف، قد قطعت اميالا مشيا للوصول الى ساحة التحرير، وهناك التقيت بالعشرات من المثقفين والاعلاميين والدعاة المدنيين ممن حسبوا انفسهم على العراق الجديد، وعملوا من مواقع مختلفة وطوال سنوات لترسيخ مسيرته الديمقراطية وخيار الدولة المدنية، وشئنا ان نقوم باستقصاء ميداني(بما نملكه من خبرة وحساسيات سياسية) عما اذا كان هناك مندسون من فلول الجماعات الارهابية او من اتباع صدام حسين، بين هذه الالاف من الشبيبة التي لم تكف عن الهتاف باسم العراق، فلم نجد لذلك ظل لا في المكان ولا في الاصوات ولا في الوجوه.

في ذلك الصباح لم يحضر المندسون المزعومون. الذي حضر الى المكان شيء آخر: القوة القمعية الغاشمة.

*

? ?“ من الناس من يجهد نفسه لمعرفة أخطاء غيره، ليرتكبها هو نفسه بعد حين “.

الأم تيريزا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد

 







264
يوم الجمعة..
من هو الذي سنهتف بسقوطه؟

عبدالمنعم الاعسم

 ثمة مسؤول، سياسي، وراء ما نعنيه من إنكفاء، وما نتظاهر ونعتصم للتعبير عن احتجاجنا على عجزه وفشله وانانيته وتشجيعه للفساد، او ترخيصه للفساد، او السكوت على جرائم الفساد.
 مسؤول جاء من ضرع السياسة، ومن منحدر المعارضة السابقة للدكتاتورية، ومن الخطاب الواعد باقامة عراق جديد، ومن حزمة الوعود عن الحرية، فلم يصدق مع السياسة، ولم يؤتمن على احلام المعارضين، ولم يحقق من الوعود ما يتباهى به.
 انه مسؤول كبير، وجهه عراقي، ولهجته عراقية، وانتماؤه الى العراق، لكنه فقد بهاء الالفة مع الناس، وحفر مفردات هجينة في لهجته، وغيّب الحرارة في الانتماء الوطني، وحال دون ان تتحقق احلامنا، بتصميم منه، او برضى عنه او بشفاعة منحها لمن لا يستحقون.
 طوال ثماني سنوات حصل على فرص وفيرة لترجمة الوعود والبرامج الى حقائق، او في الاقل الى بعض حقائق. صبرنا معه، واعطيناه المعاذير، ثم تنقل من موقع الى آخر، ومن مسؤولية الى اخرى، ومن ميدان الى ميدان، فاستنفذ شحنة العطاء، وفقد مؤشر المصداقية، بل وتخبط في اكثر من منعطف، واخفق في اكثر من اختبار.
 مسؤول، ليس بالضرورة ان يكون من حزب معين، او من فترة معينة، او من حكومة من الحكومات التي تعاقبت، فقد كان حاضرا في جميع الاحزاب والحكومات، وليس بالضرورة ان يكون نافذا في هذه الحكومة فقد يكون نافذا في حكومات سابقة او في حكومة محلية في بغداد والمحافظات الاخرى، وقد يكون خارج ما نعرفه من صفات رسمية معلنة، يتربص بنا من وراء الجدران السميكة لقلعته، ويتسلى بمعاناتنا ونحيبنا اليومي.
 نعم، سنهتف ضد المسؤول الذي حمل المنصب يوما فحوله الى مفردة للوجاهة وخدمة الاعوان وابناء الاعمام وشراذم القرية ، وجعل منه مفتاحا للوصول الى عواصم وبنوك، وخلق فيه سوابق لا تمت الى المدنية بصلة، وملحقات، ورطانات، وحبربشية، وبـُدع، فضلا عن اساطيل من المصفقين ومشعلي اعواد البخور، وموزعي الحلويات.
 وسنطالب بتنحيته ومحاسبته عما اقترفت يديه، وقد نقبل باعتراف يعلن انه فشل، وافسد، وداهن، وميـّز بين الناس، وانقطع عن توجع الملايين، واهمل وظيفته، وخان الامانة التي عهدت اليه، وانه كان يستطيع ان يحمي حقوق المحتاجين لكنه لم يتحرك الى مسؤوليته عن ذلك.
 المسؤول الذي سنهتف ضده، هو، في واقع الامر، حفنة من المسؤولين، بعضهم يتربعون على منصة المشهد السياسي، وبعضهم الآخر ينتصب في المنطقة الرمادية من هذا المشهد، معارض ومشارك، وبعضهم الثالث ارجأ موقفه بانتظار ان ينحسر غبار المعركة ليختار الاسلم والاوفق، والانسب الى راحة البال..
 حيث تتعالى اصواتنا بالمطالبة بتنحية ومحاسبة المسؤول الذي فشل وفسد وارتكب ما لا يحصى من الذنوب..  لأصلاح المسار وتصويبه، لا تخريبه.
*
"لكل شمس مغرب".
حكمة فلكية



265
ساشارك في الاحتجاجات السلمية

عبدالمنعم الاعسم

ساشارك في الاعتصامات الاحتجاجية السلمية، غدا وفي كل غد، وقد شاركت فعلا في بعضها وحيثما كان بمقدوري الوصول اليها، وساقف وراء لافتات تناشد  وتستنكر وتطالب وتـُذكّر وتدين ليس من اجل المناشدة والاستنكار والمطالبة والتذكير والادانة، بل من اجل ان تنتصر ارادة وحقوق اصحاب الحاجة وضحايا سياسات الاهمال والاذلال، ولكي ينالون ما يستحقون من مستلزمات العيش حتى في ادنى مستوياته الانسانية.
نعم، ساشارك في حركة وفعاليات الاحتجاجات السلمية ليس فقط لأني واحد من الملايين التي تعاني من تردي مستوى الخدمات، وابسطها، واستشراء الرذيلة السياسية الفئوية والتضييق على الحريات ومحاولات إطفاء الحياة المدنية وفرض وصفة خانقة على حياة الناس أو ممن يصطدمون يوميا بخرسانات الفساد وعتاوي النهب، أو ممن يشعرون بالحيرة والسخط حيال الصراعات الفئوية والشخصية الانيانية والمصلحية في صفوف الطبقة السياسية حيث اختنق الناس  بضجيجهم وشعاراتهم  التي اطلقت عشية الانتخابات والمزاعم التي تروّج يوميا عن الغيرة على مصلحة الشعب العراقي.
اقول، نعم ساشارك في اية حركة احتجاجية سلمية تستهدف إصلاح وتصويب وترشيد واعادة بناء وانسنة مسار بناء الدولة  ليس لاني واحد من ضحايا مسار المحاصصة وتدني الخدمات واضطراب قواعد المساواة، بل وايضا لأني (إذ اتقبل حالي واتصابر عليه بغريزة الكفاح من اجل العدالة) لا استطيع ان اتقبل مشاهد الاحياء الشعبية التي تخوّض في الاوحال وتعيش في العتمة وتزدحم بالشبيبة الجميلة العاطلة عن العمل وبالعائلات المحرومة من مصادر العيش الكريم وبالنساء الارامل اللواتي يلذن بحيطان واطئة او بيوت من تنك، كل ذلك، في دولة تملك من الثروات والطاقات ما يمكنها ان توفر الرخاء والعيش الكريم لمائة وخمسين مليونا من البشر، برهاوة، وبحسب تقدير خبراء دوليين.   
اقول ايضا، ساصطف خلف شابات وشبان رائعين، يغنون ويهتفون للسلام الاهلي والوطن والمحبة، ويناهضون العنف والارهاب والجريمة، ويبغضون الفساد والفاسدين، وينددون بالمسؤولين الفاشلين، ويهتفون ضد  وزراء ومسؤولين واعضاء مجالس محافظات حولوا  مناصبهم ومواقعهم الى تكيات وواجهات للاثراء وتجميع البطانات والفساد.
نعم ساشارك في جميع الاحتجاجات النزيهة التي تطلقها افئدة الملايين من اجل تحسين حياتها وظروفها المعيشية واغلاق الطريق على الفاسدين والمتاجرين باسم المصلحة العامة، وفي ذات الوقت، ساحتج على اية محاولة للمتاجرة  بقضية الشعب واختزال معاناته الى تصفيات حسابات سياسية فئوية وساعارض التجريح والتشهير والكيد واللعب على الحبال والضحك على الذقون ومحاولات التعدي على الكرامات، وساكون اكثر حذرا حيال الشعارات التي تدعو الى تحويل شرعية الاحتجاج السلمي الى منزلق العنف والكراهية وتزكية عهد الدكتاتورية البغيض.
*
"من كان كلامه لا يوافق فعله ، فإنما يوبخ نفسه" .
ابن مسعود






266
مبارك..
كنتُ سأحيّيك

عبدالمنعم الاعسم

سقوط رئيس مصر محمد حسني مبارك خرج من الاحتمالات الى الحقيقة. لا تهم طريقة إعلان السقوط، مباشرة بنفسه من على  الشاشة الملونة، ام من خلال وسيط له تكفل الاعلان بالنيابة، لكن لابد ان نتهجأ بعض خطوط الفروسية في تفاصيل هذا الزلزال، بعضها تـُحسب له، إذ انقذف الى خارج المعادلة، مع سلطة الاستبداد التي شيدها بكيمياء القوة والتخويف ونصوص الدستور خلال ثلاثين سنة باقل ما  يمكن من الخسائر بالارواح والخراب.. وكنت سأحييه عن ذلك.
لم يكن مبارك فارسا تماما، حتى حين قرر ان يتخلى طوعا عن السلطة وينال عبارة تحية خجولة من العسكر. كان الفارس هو الجيل الذي انتفض على مبارك واختار ان يكون متحضرا وشجاعا وصبورا، وقبل كل شيء، وطنيا. وبين الفروسية والوطنية مصاهرة قديمة تظهر آياتها في تحولات التاريخ حيث يصبح الوطن امانة بيد ابناء بواسل يغارون عليه ويضعونه في وسط عيونهم، ويبللون وجهه بالدموع.
اقول كنت سأحيي مبارك وهو يترجل عن الحكم بالتي هي احسن، وفي الذاكرة حكام ترجلوا الى توابيت او مزابل ، وتنازلوا وسط بحيرات من الدماء والفواجع، واستقالوا بعد ان اقالوا بلدانهم من خارطة الدول الآمنة، وكنت ساقول يمكن لنا ان نعطيه العذر عندما لجأ الى تلك المناورات والمحاولات لاطالة امد البقاء على الكرسي سبعة اشهر زيادة على الثلاثين، حيث طاول على كرسيّه جيلا عن جيل فماذا ستنفعه هو، او تضر تلك الاجيال، بضعة اسابيع،  بل كنت ساصدقه وهو يعلن انه لن يترشح للرئاسة مرة اخرى ولن يورثها لابنه المدلل، وانه ملتزم بنقل السلطة سلميا الى من يختاره الشعب، وانه سيضع وعود الديمقراطية موضع التطبيق في تشريعات جديدة.
لم تكن هذه التداعيات لتنفصل عن حالة سقوط صدام في ذاكرتي، بل وفي ذاكرة ملايين العراقيين، فلو تركها، بعد حرب الكويت الكارثية، لجنب العراق الاحتلال والحواسم وصراع الطوائف وبرك الدماء وقطعان القاعدة وعصابات الانتقام والمليشيات، لكنه مضى بها  الى حتفه وخراب البلاد.
كنت اوطّن قضية مبارك على وهم، او على حزمة من الاوهام، أو فقاعات من الاوهام، بان للسلطة سحرا محدودا بالنسبة لبعض اصحابها، وان الرجل شبع منها حد التخمة، وليس في العمر بقية من طموح الى المزيد، كما انه اتعض (هكذا توهمت) من تجارب حكام سبقوه الى ساعة الحساب الفاصلة فنحروا بلدانهم قبل ان ينتحروا، وفي لحظة اختلطت الاوهام بالواقع، فقد اعطانا الرجل فرصة ثمينة لنثق بقدرات الشعب الاعزل، المقموع، المغلوب على امرة، على ان يغيّر اقداره بالعصيان المدني السلمي.
في هذا.. في اتاحته لنا هذه الفرصة النادرة على مستوى هذا الارخبيل الجغرافي.. كنت سأحيي مبارك وهو يتنحى..
وهو يسقط.
وكلام مفيد.. “ أفضل وسيلة للبر بالوعد أن لا تعد".
نابليون
*
" أفضل وسيلة للبر بالوعد أن لا تعد".
نابليون 

267

قراءة في وجه حذيفة البطاوي

عبدالمنعم الاعسم

ان يكون السفاح بين يدي الشرطة، روحُه بين ايديهم، غير ما يكون طليقا ارواحنا جميعا بين يديه.
 وقبل ان تسترشد له العدالة، كان طالما يقف أمام المرآة ليتفقد نبت لحيته، وثبات طية اليشماغ على رأسه، ويتفقد ربـّه بين أدوات التفجير واللدغ، ويؤدي بضع ركعات من الصلاة التي لم يفته وقتها، ثم يفتح نفسه على سؤال ظل يتكرر دائما: من اين اغير عليكم.. علينا.
 هذه هي قصة حذيفة البطاوي، المولود قبل ثماني وعشرين سنة، إذ هجر دراسته في طب الاسنان بالرمادي، ودخل سجن بوكا، وخرج منه توّا على إعدادٍ جيّد الى “ولاية” بغداد لدولة العراق الاسلامية، ثم الى احتفالات كان قد نفذها بقلب تسكنه افاعي الارض، انشمرت فيها الاجساد وقطع اللحم والبنايات وسيول الدماء على بعضها. 
 السفاح في هذه المفارقة يظهر في وجهين.. وجه لنا، على عرض الشاشة الملونة حين يكون في ساعة الحساب عما ارتكبه من مذابح، ووجه له حين يكون في لحظة البحث عن ضحية يفترسها، ويتلذذ بنزيفها واحتظارها.
 وحذيفة البطاوي، الذي ظهر على الشاشة منذ يومين، يعترف ويروي ويحاور ويستذكر مسرح الجريمة في كنيسة سيدة النجاة، أعطانا فرصة مناسبة لنتهجأ ملامح هذا الوجه الذي أمامنا: مساحة صغيرة من السبخ المشوي بالشمس. جبهة موحلة بثقوب وفجوات محشوة بالطين العتيق وباسرار لم تنكشف بعد، تضيق على عيني ذئب مكسور لاتزالان تلتمعان بنشوة المذبحة. سأله احد القساوسة عما كان يفكر به حين صمم حفلة قتل خمسين من النساء والاطفال والشيوغ والقسس المصلين، إنفرج ذلك الوجه المشوي عن استنكار للسؤال.. قال هكذا قرأنا في كتاب الله.
 ربما لم نجد جدوى من ذلك الحوار في باحة سيدة النجاة بين القس والسفاح، مع ان مثل هذا الحوار قد جرى مجرى التاريخ بين الثعابين وسواحل الماء. بين يسوع والاسخريوطي. بين الحسين وفضلات ابن أبيه. بين الحلاج وحثالات المقتدر بالله، لكن وجه البطاوي اطلق في ذلك الحوار ملامح بنيـّة اللون من رصاص ومسامير ونشارة خشب، فانبسطت امامنا، على حنك استدار على نفسه شكل حدوة حصان صدئة كأنها خوضت توا في لحم بشري او في صدر طفلة استسلمت لموت رهيب وهي ترفس تحت قدميه.
ملامح حذيفة البطاوي، على الشاشة الملونة، اختزلت الضحك والبكاء والعويل وشفاء الغليل والانكسار والهزيمة والنصر والصفاقة والاستهتار والحقد والتشفي في مشهد قد نحتاج الى التملّي في قسماته دائما حين يداهمنا السؤال: ماذا تخفي لنا احزاب الدين بعد ذلك من سفالات؟.
*
“لكم دينكم، ولي دين”.
                        قرآن كريم   


268

لماذا يُستهدف المسيحيون؟
ومَن يستهدفهم؟

عبدالمنعم الاعسم

 من السذاجة السياسية التساؤل عن السبب الذي يدفع المجاهدين الاسلاميين  الى استهداف المسيحيين في العراق، وغيره، هذا إذا كان التساؤل بريئا وباحثا، بحق، عن اجابة شافية، لكن ثمة من يثير هذا السؤال، وعن قصد، لتعويم المسؤولية عن هذه الجريمة المروعة في متاهات نظرية المؤامرة، وتصريفها في اقنية ورطانات، ولا يتوانى  هذا البعض، الذي يتقن الضجيج واللغو، عن إبداء الشفقة الباردة واللفظية والمغشوشة على المسيحيين، والتذكير المكرر والممل بان الاسلام "برئ" من هذه الاعمال اللاانسانية ليوحي ان المهاجمين ربما من اتباع ديانة اخرى، أو انهم "مدسوسون" من قبل قوى مجهولة، او- في افضل التبريرات نعومة- ان الفاعلين لم يقرأوا كتاب الله جيدا.
 وباستثناء السذج الذين لا يعرفون حقا لماذا يستهدف الارهابيون المسيحيين وكنائسهم، وكذلك باستثناء الذين "يعرفونها ويحرفونها" فان الخطاب الارهابي المحمول في النداءات الصوتية لابن لادن والظواهري وابو قتادة وشيوخ مساجد التطرف في اليمن وعمان والدوحة، المكتوب والمصور والمسموع، لا يبقي مجالا للشك في ان استهداف المسيحيين جزء من المشروع الارهابي الدولي الذي يقوم، اساسا، على فكرة الحرب بين الاسلام والنصارى. بين دولة الخلافة الجديدة والدول الكافرة. متفرعة عنها حروب تفصيلية اخرى بحسب ما يتاح للخلايا النائمة من فرص للضرب والتفجير واقامة المذابح بما يبقي "حرب التقوى" مستمرة، وحرائقها مشتعلة.
 علينا هنا ان نتوقف قليلا عند واحدة من اركان الخطاب الارهابي التعبوي، التجييشي، وهي عبارة  "الاحتلال الصليبي" او "التحالف الصهيوني الصليبي" التي وضعها ابن لادن في خطاب الهجوم على مركز التجارة الدولي في ايلول 2001 واعلن حينها بان كل مسيحيي العالم رهائن "لدى المجاهدين" ورسخ هذه الفكرة في البرنامج السياسي للمشروع الجهادي الارهابي الذي اطلقه  في مطلع ايار 2005(ونصه موجود الآن على جميع المواقع التابعة للقاعدة وانصارها) ووردت فيه عبارة "العدو الصليبي" لاكثر من عشر مرات، وتخلله (انتباه رجاء) بيت من الشعر لابن لادن، يقول: 
 والأمةُ الكبرى غدت ألعوبةً ..... يلهو بها القسيسُ والحاخامُ
 بغدادُ يا دارَ الخلافةِ ويحكِ ..... ما بالُ طهركِ دنّسَته طُغَامُ   
 وفي مجتزءات المناقشة التي جرت(وأذيعت) بين مخططي الهجوم على كنيسة سيدة النجاة ورعاة من الكنيسة، قال "امير بغداد" لما يزعم انها دولة العراق الاسلامية،  وكان وجهه بعرض الشاشة الملونة "انتم كفار وفق ما نقرأه" وليس ذلك سوى تقرير ما هو تحصيل حاصل للحقيقة الساطعة: ان الكراهية ضد الاديان زيت المشروع الارهابي العالمي، ومحتواه" والحقيقة التفصيلية العراقية بان المسيحيين العراقيين يدفعون حياتهم مرتين، مرة على يد الشراذم المسلحة لهذا المشروع، ومرة اخرى، على يد اولئك الذين يبرئون تلك الشراذم من المسؤولية.
وطبعا، لاولئك وهؤلاء شركاء بيننا.
*
"تزداد الكلاب السائبة دائما، لاننا نرمي البقايا دائما".
قول مأثور
   

269

عالم جديد..
عالم عتيق

عبدالمنعم الاعسم

في عام 1940 لم يكن احد ليصدق ان مقياس  الترانزستر سيصل الى 50 نانومتر، أي ما يقل بالفي مرة عن سُمك شعرة واحدة من راس الانسان. آنذاك، قبل سبعين سنة، بني أول حاسوب إلكتروني في العالم بلغ وزنه 27 طناً وضم في جوفه عشرات الآلاف من الصمامات وعدة كيلومترات من أسلاك النحاس وبلغت تكاليفه، عدة ملايين من الدولارات، وكان للمليون الواحد شأن.
ثم شهد العالم سلسلة من الثورات التكنولوجية في مجال الالكترونيات قبل التوصل الى ماسمي بالدوائر المتكاملة حيث استطاع  العلماء تركيب مجموعة من العناصر الإلكترونية، شديدة التعقيد، على شريحة صغيرة من أنصاف النواقل وشاء هذا التحول ان يدخل كل بضائع الحياة من معلومات في تلك الشريحة العجيبة، بل انه فتح الطريق لسباق “مجنون” نحو المزيد من الاختراعات، التي بدت للمتابعين انها تتحقق على مدار الساعة. 
قبل عشر سنوات لم يكن احد ليصدق بان تلك الشريحة السحرية ستقود العالم الى اعادة تنظيم فانتازية بحيث ستدار العديد من الدول من قبل “حكومات الكترونية” فالموظفون والمراجعون لن ينتقلوا من منازلهم، وثمانون في المائة من الشغيلة سيزاولون مهنهم عبر الشبكة العنكبوتية من المنزل، وان طلاب مدارس (تجربة جديدة في بعض الدول) سيأخذون دروسهم وهم على اسرتهم دونما الحاجة الى مدارس، فيما المدرسون يلقون محاضراتهم، هم ايضا، من مكاتب في منازلهم، وصار المتتبع يرفع كتفه بعدم الاكتراث حين يسمع خبرا علميا مثيرا، ولم تعد اخبار الانترنيت وفتوحاته بمثابة زلازل علمية.
بل ان حامل جائزة نوبل العالم المصري احمد زويل انبأنا بالامس ان العالم مقبل على طفرة علمية يحال معها الانترنيت على التقاعد، وان مقاييس التطور العلمي والتكنولوجي القديمة ستنكسر، والمشكلة، كما كان يقول العالم الفرنسي اندريه ماري امبير قبل مايزيد على قرن ونصف من الزمان ان ثمة بشر لا يعرفون هذه الانباء ذات الصلة بحياتهم، وقد طور برناردشو  فكرة امبير بالقول بان بعض البشر لا  يريدون ان يعرفوا، وفي العام 1930 افتتح اينشتاين المعرض الدولي للالكترونيات في برلين، وقال حينها: لا ينبغي ان تبقى شعوب بعيدة عن فضائل هذه الاختراعات الجبارة.
وهكذا وصلنا الى نافلة الكلام وربّاطه، ففيما يقفز العالم خطوات فلكية في طريق التطور، وتنفتح على مصراعيها فرص الانتصار على الطبيعة وتطويعها من اجل الرخاء والامن، فاننا، في هذا الارخبيل الكسول لا نزال نتخبط في عالم عتيق، اسرى الكهوف والرطانات والاوهام، والكلام الفارغ.
والمشكلة ان اولئك الذين لا يريدون التعرف على التطورات العلمية، كانوا موجودين دائما، وفي كل العصور، لكنهم الآن يملكون جزءا كبيرا من مصائرنا.
*
“من يعطيك الكلام الفارغ يطعمك بملعقة فارغة”.
  حكمة

270

الكرد الفيلية..
رواية حزينة
     
عبد المنعم الاعسم

لو ان الكرد الفيلية عشيرة عراقية لجرى حل مشكلتهم في اطار قانون العشائر الكيفي، او في ديوان من دواوين الوجهاء، او في اطار التنظيمات الملفقة الكثيرة التي تتخذ اسم العشائر لدواعي انتخابية او لتزييت ماكنة الصراع السياسي بين الزعامات والاحزاب، ولكان، في نهاية المطاف، قد حلّت قضية هذه الشريحة العراقية، في الاقل، على طريقة “النخوة” لما تبقى لدى العراقيين من بقايا انتخاء.
مشكلة الكرد الفيلية، تصلح ان تكون عالما روائيا: فقد كانوا في ورشة بناء الدولة العراقية المعاصرة، وكانوا جيشها ومجالسها وسياجها وطابوقها، فهم ابناؤها وورثة ماضيها. خدموا في قواتها واداروا عجلة تجارتها، ووضعوا جمرات حية في ثقافتها، واستقتلوا من اجل ان تبقى حصينة متباهية باسمها والوانها، ثم لم ينالهم منها غير التهجير الى ما وراء الحدود واسقاط الجنسية ومصادرة الاموال، ثم ضياع ملفهم في شعاب السياسة وتصفيات الحساب والجاذبات الطائفية والقومية، وبكلمة: صاروا، كما صار العراق، ارضا طاهرة لتصفية الحسابات.
اقول: مشكلة الكرد الفيلية، ليس في ذلك الاجحاف الذي لحقهم، فقد يقول قائل، ان العراقيين جميعهم تعرضوا الى الاجحاف، وقد يتفنن البعض في تعويم المظالم بحيث يصبح الكرد الفيلية اكثر سعادة من غيرهم من الشرائح المظلومة، بل ان مشكلتهم تتمثل في انهم، على الرغم من معاناتهم الطويلة بقوا متمسكين بحق المواطنة العراقية، وكانوا، اينما حلوا، قد حملوا معهم امانة الوفاء لبلادهم، وحتى هويتهم القومية، ككرد، فانها كانت مصنوعة من كيمياء انساني، يساعد (اذا ما اراد بناة العراق الجديد) في تشييد وحدة وطنية عراقية من طراز جديد لايقوم على الالحاق وتقسيم القوميات الى مراتب وخانات، ولا في اعتبار افراد البعض منها مواطنين من الدرجة الثانية.
مشكلة الكرد الفيلية باختصار انهم لايعانون مما ترك على جلودهم من سياط، وما تبقى في ذاكرتهم من كوابيس، وما جرى بحقهم من تعديات ومهانات واذلال، وكل ذلك من الماضي، بل من جحود الدولة الجديدة التي كانوا ينتظرونها ويقفوا على ابوابها سنوات عجاف بانتظار ان تنفتح عليهم وتعيد لهم منازلهم ومواطنتهم وجنسياتهم ومنهوباتهم، والمفارقة الدرامية (الروائية) هنا، هي ان البعض (اقول: البعض) من جلاديهم وناهبي منازلهم وسنيّ عمرهم لايزالون إما في منجى من المساءلة، او في مواقع الحل والربط يعرقلون عن عمد تسوية مشكلتهم، بل ان البعض (اقول البعض مرة اخرى) يحاول تفريغ قرار المحكمة الجنائية العليا الصادر في التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي باعتبار ما تعرض شباب وشيوخ وأطفال ونساء الكرد الفيلية جريمة حرب إبادة جماعية (جينوسايد) من محتواه ويجعلوا منه ملفا صالحا “للاطلاع” فقط من دون ترجمة الى اجراءات تعيد الحق الى اهله.
لقد حان الوقت ان يضع العراق الجديد وسام شرف على صدر الكرد الفيلية: ابناء اوفياء له في زمن عزّ الوفاء.
وكلام مفيد.. “ اظلم من الظالم من يساعد الظالم على ظلمه”.
 حكمة
 

271
الوزارة المالكية الثانية.. جدال مبكر

عبدالمنعم الاعسم
الجديد في الوزارة الثانية للسيد نوري المالكي، لا جديد في الواقع، إلا في ما تعلق بدراماتيكية صعود شخصيات سياسية من خانة الاجتثاث الى مناصب عليا وسيادية ونافذة. هذا هو المشهد حتى الآن بصرف النظر عن زاوية النظر اليه من مواقع التشاؤم أو التفاؤل، او التشاؤل. 
لكن ثمة من يؤكد ان الجديد هو الاتي في الطريق، وان “الهمة” الآن اكبر مما كانت عليه في الوزارة المالكية الاولى، وعلى هذه الهمة يراهن المالكي، وجميع من يهمه نجاح الوزارة الجديدة، او يهمه إرضاء الملايين من الناخبين الذين صنعوا حظوظ الساسة، ويقول سرفانتس الحكيم بهذا الصدد “الهمة هي أم الحظ”.
على ان نجاح الوزارة ورئيسها لا يتوقف فقط على كفاءة الوزراء (وفي الوزارة هذه كفاءات لا غبار عليها) فالخطأ الشائع المتداول في سوق الاعلام، حول تسويق حقائب وزارية الى اسماء غير مؤهلة، يقدم لنا، في الواقع، جزءا من الحقيقة، وينفخه حتى تمتلئ الشاشة بالاشارات السلبية، فيما الحقيقة الموازية، الاكثر تأثيرا، تتمثل في ان نجاح الوزارة في مهمتها الثقيلة يشترط، في المقام الاول، تنقية البيئة السياسية التي تتحرك فيها الجهود من شوائب المرحلة السابقة، واحلال التنافس على الخدمة والبناء محل التنافس على الامتيازات.
وقد يرد السؤال التفصيلي هنا، عما اذا تظهر الآن مقدمات لهذه البيئة المطلوبة، فان احدا لا يغامر بالقول ان المشهد السياسي والحكومي قد تحول الى مجرى جديد حقا، لكن، ثمة مؤشرات ايجابية يمكن رصدها الآن في جدية و”همة” عمل مجلس النواب، وفي ”الخطاب الرشيد” الذي نسمعه من وراء منصات المناقشة في المجلس، فضلا عن تراجع لغة التشهير والتبشيع والتجييش والتأليب التي سادت بين فرقاء ازمة الوزارة خلال الفترة الماضية، وهي، عموما، تدفع الى تلمس الطريق الصحيح الى معافاة التنمية السياسية في البلاد، أو إذا شئنا الدقة، الى انصاف الحلول المتاحة.
وقد يقال ايضا، استدراكا، بان ثمة خطأ واضحا في قواعد وآليات اختيار الوزراء وفي خارطة الحصص، هو نفسه الخطأ الذي ارتكب سابقا واسفر عن محن وكوارث وفساد، وان ما يقوم على خطأ لا ينتج إلا اخطاء، فالاعتراض هنا وارد، وله ما يبرره، لكن ثمة من يردّ، بان هذا من افرازات انتخابات آذار الماضي التي جاءت بنتائج مشوهة، وحجوم غير حاسمة، ادّت، كما هو معروف، الى دوامة سياسية خطيرة، من المستحيل ان تتمخض عن مولود صحيح البدن، او عن هياكل من خارج طبيعتها، وفي النتيجة، لا يمكن ان يأتي الحل إلا من تلك النتائج، ومن ضرعها.
وإذ ندخل شعاب الجدل في منظورات تشكيل الوزارة الماليكة الثانية، فاننا ينبغي ان نضع جانبا فكرة(او احتمال) تشكيل وزارة منسجمة، او وزارة شراكة حقا، او وزارة “في مستوى الطموح” فنحن بذلك ننسى يوميات وضجيج ومنازعات الشهور التسعة العجاف، واننا سنخدع انفسنا مرتين.. مرة، في المراهنة على حسن الظن بنيات محترفي اثارة الازمات، ومرة اخرى، بالمراهنة على رياح الصدف، فيما الرياح قد تأتي بما لا تشتهي السفن .
نحن، باختصار، في وحل سياسة المراضاة.
*
“حين تتعثر مرتين بالحجر نفسه لا تتهم سوء الحظ”.
                                                                مثل الماني


272
المنبر الحر / فضلات لمشروع الردة
« في: 18:19 20/12/2010  »
فضلات لمشروع الردة


عبد المنعم الاعسم
 
لم يكن مفاجئا بالنسبة للكثير من المراقبين في لندن انحراف الشاب العراقي تيمور عبدالوهاب العبدلي الذي فتح عينيه، بعمر الصبا، على الحياة في ارقى بلدين ديمقراطيين في العالم، السويد والمملكة المتحدة، نحو التطرف الاعمى في ابشع صوره: قتل النفس وسط اناس عابرين ابرياء، لا علاقة لهم بمشاكله، وتحقيقا للانتقام السياسي، وتقربا مما يراه “جزاء عند ربهم خالدون”.
فان فكرة الانتقام الدموي في المجتمع العراقي، وفي صفوف شظاياه المغتربة اصبحت عقيدة ثقافية منفلتة وسائدة، تفاقمها اجواء الاحتقان في الساحة السياسية (وفي العملية السياسية ايضا) القابلة للتصدير الى خارج الحدود، وتغذيها مباشرة مراكز العنف والارهاب والتمويل الايديولوجي للتكفير والجهاد التي تنتشر في اوروبا، فتضيع معها المسافة بين الانتقام المشروع، كقصاص ممن اذنب، وبين التكفير العشوائي الكيفي المعلب بالطائفية والتسييس والشبهات المستعارة من نصوص قرآنية مجتزأة، وسنة ممطوطة، وفتاوى تبيح اقامة حكم القتل“الحد” بكل من يقع (او اوقعه حظه العاثر) في طريق هذا الجهاد الهمجي.
كان تيمور، كما تفيد سيرته، من اسرة متدينة، هاجرت الى السويد، في اول التسعينات لاسباب تتعلق بضيق العيش في العراق في ظل الحصار الدولي على نظام صدام حسين، وبمعنى آخر، لا وجود لاسباب سياسية وراء هجرة عائلته، وكان سيحمل اية اراء او عقائد متاحة في الحياة الاوربية من دون عناء، لكن انتقاله من السويد الى بريطانيا للدراسة في “جامعة ليوتن” المعروفة بكونها مفرخة للتطرف الاسلامي لكثرة الطلاب المتحدرين من اصول شرقية وباكستانية بخاصة، ووجود تنظيم ناشط للتطرف الاسلامي في اروقتها، اوقعه ذلك لقمة سهلة في براثن المشروع الارهابي العالمي، وقد تكرست منابت الهوس الديني الانتقامي لديه مع اندلاع حرب العراق وسقوط الدكتاتورية على يد القوات الامريكية والبريطانية، واجواء المعارضة والتضاهرات ضد الحرب.
وربما، بل من المرجح، ان“ تيمور” ادى بعض “الخدمات” او المشاركة بهجمات لم تستطع اجهزة مكافحة الارهاب الاسترشاد لها، فيما صدّرت هذه الجامعة الى تقع الى شمال لندن وفي حي تقيم فيه جالية باكستانية محافظة ، وطوال سبع سنوات، انتحاريين باكستانيين وجزائريين وخليجيين كثيرين الى العراق، ومنها انطلق مفجرو انفاق لندن والكثير من مرتكبي اعمال الارهاب في اوربا والشرق الاوسط، واليها يتوجه الباحثون والصحافيون للوقوف على حقائق التيارات الدينية المتشددة وتعيين اتجاهاتها وشحناتها.
اقول، لم يكن الاعلان عن إقدام شاب عراقي على ارتكاب جريمة مروعة في وسط العاصمة السويدية، قادما من لندن، مفاجئا لاحد ممن يعرفون”احوال” الجيل الجديد من ابناء الجاليات المسلمة في اوربا وبريطانيا، فهم يتلقون من بلدانهم الاصلية خلاصات مضطربة ومشوشة و”معلبة” وموجهة عما يجري فيها من صراعات وحروب، وثمة شريحة منهم (تتسع باضطراد) تشعر بالسخط على حكومات البلد الام، وتحملها مسؤولية الضعف والمجاعة والضياع التي تعانيها، من جهة، وهي مرتابة وسلبية حيال وطنها الثاني الذي تقيم وتتعلم فيه، وتنالها ، يوما بعد آخر، اجراءات العزل والريبة والتمييز في نطاق الحملة على الارهاب ومحاولات تفكيك شبكاته ومراكزه الايديولوجية والبشرية.
المفاجأة في ما حدث لتيمور تتمثل في انه فجر سيارته في ستوكهولم التي احتضنته يوم جاءها صبيا من العراق واسكنته ورعته.. لا في لندن التي تعلم فيها واخذ منها فايروس التطرف.
 وبموازاة ذلك راح الكثيرون في السويد، كما في بعض عواصم اوربية، ينقبون في تحدر الانتحاري، وخلص البعض الى انه لم يكن عراقيا في الاصل، بل فلسطيني- اردني، ربما انتحلت عائلته هوية (ولهجة) عراقية للعبور الى حق اللجوء، في وقت (بداية تسعينات القرن الماضي) كانت السويد وبلدان المهجر الاخرى تفتح ابوابها لكل عراقي يؤكد (والبعض يزعم) انه تعرض الى قمع نظام صدام حسين، او انه مهدد في وطنه بالملاحقة والموت، وفي هذا الملف الكثير من الكلام والروايات، وفي النتيجة، لا تغيّر جنسية الانتحاري، عراقية ام فلسطينية، من حقائق الاغواء الجهادي الاجرامي لشريحة من شبيبة المهاجرين (بمن فيهم المولودون في المهجر) الذين يسقطون في وحل التطرف الديني وياخذوا نزعته الاجرامية من بيئة المساجد التي تحول الكثير منها الى بؤر للفكر الاسلامي المتطرف والمغلق.
ومما ينفع (للتحليل) في هذا السياق ما يشير اليه اشخاص موثوقون (لي) التقوا تيمور في لندن، مفتتح العام الفين، وتسامروا معه، من انه لم يكن، حين ذاك، قد حمل اي عارض للتطرف الديني، ولم يكن متدينا حتى، وان انقلابه جاء من ضغط ايديولوجي هائل عاناه من حلقة اصدقاء اسيويين (حميمين) في الجامعة كانوا قد سبقوه الى الاتصال بجماعات ودعاة يروجون الى هوس الجهاد المسلح، والسخط على “المجتمع الغربي الكافر” وفكرة الانتقام والانتحار “لنيل رضى الله” فيما قدمت السياسات الامريكية حيال الدول الفقيرة (غير المحبوبة لدى الرأي العام الاوروبي) الزيت المناسب لماكنة التجييش وايديولجيته.
وتتفق الدراسات والتقارير والشهادات الميدانية، من جانب آخر، على السلبية المتنامية لدى شبيبة العائلات المهاجرة (لاسباب كثيرة، في صدارتها ما تعانيه من التهميش) حيال مشكلات بلادها، من جانب، وحيال موجبات التعايش والتفاعل مع بلاد المهجر وحضارتها وثقافتها، من جانب آخر، ويذهب البعض من الدارسين الى توصيف هذا الجيل الضائع بين هويتين متناقضتين، متصارعتين في نسيج ثقافته وسلوكه، بـ”الجيل المأزوم” في حين استقبل هذا الجيل طوال السنوات العشرين الاخيرة بارتياح وتفاعل واحتضان (واضطراب) عاصفة الاسلام الجهادي المسلح، ومشروع تدمير الغرب، وبلغ ذروة حماسته لها عندما استيقظ على هول الهجوم على مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من ايلول 2001 فقد حظي هذا العمل الارهابي غير المسبوق بجرأته، ودقة توقيته وتنفيذه، باعتزاز وفخر الشرائح المنبوذة من هذا الجيل، ودفع الكثير من افراده الى الانخراط في نشاطات عنف وجهاد دموية وهمجية.
وشاءت المفارقات السوداء، ان ترينا كيف انبرت جماعات قومية ويسارية في الشرق الاوسط الى الترحيب بهذا التحول، فيما عكفت مراكز لها (واقنية اعلامية نافذة)على وضع هذا التحول في اطار كفاح الشعوب ضد الامبريالية، دون ان ترصد كفاية (ولا تريد ان ترصد) طابع الردة الحضارية والفكرية والاجرامية لهذا المشروع، كما شاء حظ العراق ان تكون اراضيه الميدان المناسب لتطبيقات حركة الردة هذه، بكل سبل تدمير الحياة والمدنية، فيما المفارقة الاكثر سوادا هنا نراها في الزعم بان هذا الجهاد المسلح التدميري كان هدفه طرد الاحتلال والحكم الطائفي، فيما هو ادام الاحتلال وكرس الطابع الطائفي للمشهد السياسي.
على ان  الرسالة الصادقة والوجدانية التي وجهها  الى الاعلام والد زوجة الارهابي تيمور  صديقي المهندس الدكتور علي ثويني قد تكون وثيقة تحليلية مهمة للباحثين، ومفتاحا لكشف (وتفكيك) بعض خلفيات الانحراف الذي انقذف اليه  بعض ابناء جيل المهاجرين، الشرقيين بخاصة، وقد تنفع في تهجئ هذا "السحر" الهمجي الذي يوقع بفتيان وفتيات في غفلة التواطؤ مع مشروع الردة.
واحسب اني "امون" على الصديق ثويني، وعلى القراء، فاعرض عليهم مقتطفات ضافية من الرسالة، رفدا لمحطتين سابقتين توقفت خلالهما على جوانب من "التباس" تحول ابناء الجاليات الى العنف الاسلامي الاعمى، واحتاج الى التأكيد مرة اخرى على صدق الجمرة التي تقف وراء هذه الكلمات.. يقول:
" أن كل ما حدث أمر شخصي يتعلق بمارق مسجى على الجرم، ومغرَِر به من جهات مجهولة، والأهم أنه جاحد لجميل بلده السويد، الذي آوانا وأحسن وفادتنا، وقدم لنا ما لم يقدمه عرب وعجم ، مسلمون وغير مسلمين! لذا أعلن من منبركم هذا أن علاقتي به وحتى مع أهله قد انقطعت بشكل نهائي منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم نعد نسمع عنهم شيئا، غير شحيح الوصل الهاتفي مع ابنتي منى التي مكثت مغررا بها ولا علاقة لها بأي أمر، وعوملت مثل (أمة أو جارية) كما يراد لها بعقلية السلفيين الإسلاميين، فلم تعلم عن تحرك زوجها المجرم ولا نواياه المستترة ولا المعلنة ولا أهدافه المستترة ولم يخبرها عن خصوصياته وعلاقاته وسفرياته المشبوهة".
ويعرض موقف ابنته، منى، زوجة الارهابي المجرم، بالقول: "كانت تخشاه وتشكك في تحركاته، وتتحاشى الافتضاح وتنحى نحو التستر، والمهادنة، مما سبب لها إشكالات ومماحكات أقتربت من القطيعة أحيانا، جعله يرغب في تركها والاقتران بـ(أخرى) تكون مطواعة ومجردة من الوعي الذي تتمتع به ابنتي التي تعلمت في أحسن المدارس وأرقاها ونهلت من الثقافات الفرنسية والسويدية والإنكليزية وأتقنت ست لغات من ضمنها العربية، وهي في نهاية المطاف قد حصلت على شهادة الماجستير في إختصاصها، علم النفس التربوي".
ثم يلفت النظر الى ما هو اكثر خطورة في هذه الفجيعة التي المّت بابنته الطيبة، وذلك ما تعلق بالجيل الشاب من المهاجرين الذين يتوقدون حماسا وتترشح بعض شحنات هذا الحماس الى التطرف الديني.. يقول "وهكذا أتمنى على سلطات المهجر توجيه هذا الحماس نحو الإندماج السلمي والإيجابي بعيدا عن الإزدراء و الإحتواء والتهميش والعنصرية، الذي وضعوه فيه على جريرة ما وضعونا نحن فيه الجيل المهاجر الأول" ويدوس على مكابدته حين ينظر الى جسد الانتحاري السائر الى "لحده المخزي"  دون ان تأخذه شفقة على مصيرة او مصير ابنته "بل بالعكس أعده إطلاق حرية لابنتي من براثن التغرير وعملية غسل الدماغ والترهيب من نقمة الله من خلال مفاهيم دينية بائدة".
*
“هؤلاء عبادك قد أجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وقربا اليك”.
الحلاج



 





273
“الدوني” إذا استقوى

عبدالمنعم الاعسم

توقفت عن كتابة القصة القصيرة منذ ما يزيد على الاربعين سنة، قبل ان اتجه الى الصحافة والكتابة السياسية، واتذكر ان آخر محاولة قصصية لي لم تكتمل وكانت تتضمن محاولة موظف صغير “عيّن بالواسطة” وترقى بالمصادفة وصار يتحكم بزملائه ويمعن في إذلالهم، لكنه بقي يشعر بالدونية بسبب مؤهلاته المتدنية وكفاءته الضعيفة، بل ان الكثير من زملائه كانوا ينعتونه سرا فيما بينهم بما يشبه الوشوشة بـ”الدوني” فجاء الدوني، وذهب الدوني، وتغيّب الدوني، ويريدك الدوني، وقال لي الدوني..وهكذا، وقد توقفت عن اتمام القصة، عند هذا الحد، بعد ان اخفقتُ في تطوير الحدث وتنمية شخصية البطل قدما نحو الهدف الذي وضعته للقصة، آنذاك، وهو التحذير من الكلب إذا استكلب، ومن الدوني إذا استقوى.
الكثير من الناس المكافحين، الصادقين مع انفسهم، المشهود لهم بالكفاءة والمثابرة والنزاهة والنضال والفروسية، الواثقين من انفسهم، يمكن ان يترقوا، ويصعدوا سلالم الوظائف، او ان يشقّوا طريقهم الى ذرى المواقع الوظيفية او الاجتماعية، وهم يكسون موقعهم الرفيع بالحياء والتواضع ونكران الذات والعفة، ويتصرفون كما لو ان المرتبة العليا قد تزول يوما، وان فلك الاقدار قد يدور على نفسه خارج ما هو متوقع او منظور، فيسقط الاعلون اذلاء، ويرتفع الادنون كرماء، ويحل الحساب بمن تجبّر وطغى، فلم يجد اياما كافية للبكاء، وتجازي الحياة مَن عَدِل وعفّ فيجد متسعا من الوقت للحبور والرضى عن الحال والاعتزاز بالنفس. يلوم نفسه الناكر للجميل، الفاتك بالضعفاء، ويقنع بمصيره سليم السيرة نظيف الضمير، والقضية، في نهاية المطاف، لا تتعلق بملامة النفس او امتداحها، ولا بحظوظ الصعود والسقوط، بل (اصلا) في الشعور بالدونية حيال النفس، او الشعور بالوفاء حيال الاخرين.
في تلك القصة، التي بقيت عالقة في منتصف الطريق، طوال اربعين سنة، يركب الدوني كل ريح حتى وإن كانت تلك الريح صادرة عن مروحة، وهو يُظهِر لك وجها بشوشا وكلاما ناعما لمّا يكون مغلوبا، ويشهر لك اسنانا وخناجر حين ينقلب غالبا.
تربكه السلطة حين لا تكون في متناول يديه، وتسكره السلطة حين يمسك بخناقها. يحترمك بافراط لمّا تدوس على رقبته وهو في موقع الضعف، ويبطش بك بلا رحمة حين تطأ ذيل ثوبه وهو في موقع القوة. مشرع الابواب حين لانحتاج اليه، وبلا ابواب عندما يعتلي اقدارنا. ينادينا بالنشامى عندما يريد ان يصعد على اكتافنا، ويسمينا بالنفايات حين ندافع عن حقنا في ان نعيش بكرامة.
القصة التي كتبتُ بدايتها قبل اربعين سنة لم تكتمل، مثلما ترون، كما لو اني اكتبها الآن، إذ يقف الدوني بيني وبين الخاتمة.
*
“كلنا كالقمر، له جانب مظلم”.
حكمة فلكية






274

لوازم الشراكة في كلام المالكي


عبدالمنعم الاعسم

كلام رئيس الوزراء المكلف نوري المالكي عن وجوب تحمل جميع الشركاء في الحكومة المقبلة للمسؤولية التامة عن ترجمة السياسات والخطط الى الواقع ومواجهة التحديات والاخطار كلام سليم ويدخل في صلب لوازم معافاة الوضع المعتل والعبور به الى ضفاف البناء واشاعة الاستقرار وانعاش الاقتصاد وتحسين العلاقات المتكافئة مع الجيران، كما يدخل، شرطا، في قواعد الشراكة بالحكم وفي التزامات التوافق، مثلما يحصل في اي حكومة ائتلافية في العالم.
 فالموقع الوزاري التزام في تقاسم الخدمة قبل كل شيء، فليس من المعقول والمقبول -كما اشار المالكي- ان تكون شريكا في الحكومة ومعارضا لها في وقت واحد. ان تكون لك رِجْل في مشروع الحكومة ورِجْل اخرى في مشروع خصومها فيما المشروعان يتحاربان بضراوة، إذْ دفعت البلاد ثمن هذه المفارقة، هذا العبث، الكثير من نفوسها وامنها وسمعتها.
مرة اخرى، نقول ان كلام المالكي سليم تماما، ويمكن ان نضيف، أولا، ان المرحلة السابقة، وما قبلها، شهدت مثل هذه الكوميديا السياسية غير المسلية، حيث سقطت شظايا الصراع بين فروع الحكومة على رؤوس الجميع، ورؤوسنا قبلهم، ونضيف ايضا، ان ذلك ليس فقط من ذنوب الذي زاولوا سياسة التشبيخ، سيئة الصيت، فثمة مسؤولية ايضا تقع على ادارة الحكومة السابقة نفسها، والحكومات التي سبقتها، إذ جرى زحلقة الشركاء غير المرغوب بشراكتهم الى خانة المعارضة دون تحسّب لنتائج هذا المنهج، ضيَق الافق، وثانيا، مضى المشبخون الى ابعد شوط في استثمار هذا الوضع والاكل من ماعوني الحكومة وخصومها، وتمادوا في لعبة الانتساب الى الحكم والتنصل من تحمل اعبائه، وتسقط زلاته ووضع المفرقعات في حشوة تلك الزلات.
في كل الاحوال، ينبغي الاعتراف ان شراكة الحكم بين المختلفين، المتصارعين، المتنافسين، اللاواثقين بنيات بعضهم، امر في غاية الصعوبة والتعقيد، في بلد يعاني من الاستقطابات الفئوية وتناحر الزعامات السياسية والارث السلبي لتجاذبات تشكيل الحكومة، وبخاصة، اذا ما ظهر للبعض انه لابديل عن تلك الشراكة، وانه مضطر الى الانخراط فيها، وإذا ما ظهر ايضا ان فرقاء العملية السياسية يتفاوتون في القناعة بجدوى الشراكة واهميتها والتزاماتها، او انهم يعملون (او يخططون)على تصريف مبدأ الشراكة في اقنية المصالح الضيقة، واعتبارها محطة استراحة ورصد وحساب للربح والخسارة قبل العودة الى مربع الطلاق والخنادق.
الامر اللافت، ان القليل من المعنيين بالشراكة من يعترف بحقيقة ان هذا البلد عصيّ على القيادة من قبل شريحة واحدة او معسكر واحد، وان مشاكله وارث مصائبه اكبر من قدرة زعامة معينة على حلها، وان وصفة “المنقذ” بطلت منذ زمن بعيد، والحل، هو بشراكة لايستفرد احد خلالها بسلطة القرار ومشيئة الادارة، ولايقف فيها الآخر في منتصف الطريق بين مائدتين.
*
“من قال أنه وصل .. فهو في أول الطريق”.
حكمة المانية


275
المنبر الحر / معبرٌ آخر .. ضيّق
« في: 19:37 28/11/2010  »
معبرٌ آخر .. ضيّق

عبدالمنعم الاعسم

هو أكثر ضيقا مما نتصوره او يتصوره العابرون: دوامة من الخلف وسلامة من الامام، وليس ثمة طريق ثالث إلا وينتهي الى محذور الاحتراب، وما يترتب عليه من مآس، او الى فضاء التفاهم، وما يتبعه من فرص للبناء والشراكة، ومجد التضحية.
بتكليف الرئيس جلال طالباني مرشح التحالف الوطني نوري المالكي تشكيل حكومة جديدة اقتربت العملية السياسية من محطة لا تقل حرجا من المحطات التي قطعتها، ولعلها الاكثر حراجة إذ تتغير الادوات والاستحقاقات والتجاذبات من صراع الخنادق الى ما يفترض انه صراع الشراكة، ويحل حساب الاعتراف بحقوق الاخر، بوصفه حكم السياسة والواقع،  محل حسابات تسقيط الاخربعد ان استنفذت مبرراتها وفرصها.
التعقيد في عملية تشكيل الحكومة يمكن قراءته، هنا، في ثلاثة استحكامات متلازمة، ومتفرقة ايضا، الاول، مسار الدستور الذي يحدد الصلاحيات وفروض الهياكل التنفيذية (بما يضمه الدستور من مشكلات في النصوص والتأويلات) والثاني، مبادرة اربيل التي ينبغي ان توضع موضع التطبيق بعد ان صوّت عليها مجلس النواب، وما تستلزمه من اجواء الثقة والمسؤولية، ولزوم التشريع، والثالث الاستحكامات، يتمثل في قواعد تقاسم المسؤولية الحكومية وتوزيع الوزارات بين الكتل الفائزة، بما يختزل القضية الى معادلات رياضية توافقية تعيد انتاج الاخطاء والصراعات السابقة إذا لم يجر نزع طابع المحاصصة، سيئة الصيت، عنها.
وهنا، لا مكان للتفاؤل، او التشاؤم، حيال امكانية تشكيل الحكومة من غير ارتداد الى مربع ما قبل التكليف، فثمة مؤشرات متداخلة، ايجابية وسلبية، بدأت تظهر على السطح، الاعلامي بخاصة، فمن جهة كفـّت التناحرات حول منصب رئاسة الوزراء الامر الذي هيأ الساحة الى  خيار الحوار والتفاوض وتبادل الرأي وخذ وهات، ومن جهة ثانية، ما تزال بعض “الحافات”  من الكتل تراهن على تفليش مبادرة الشراكة والعودة بالعملية السياسية الى الخنادق، مرة تحت نزعة احتكار سلطة القرار، ومرة اخرى، بهوس المعارضة والعرقلة والتعطيل.
بعض التصريحات التي يطلقها متنفذون في الكتل، هنا وهناك، تكشف عن فجوة ما تزال واسعة  بين ابرز المعنيين بتشكيل الحكومة، كما تكشف عما هو اسوأ من ذلك حيث يتحصن بعضهم في اللغة السابقة لاتفاق الشراكة، وكأن شيئا لم يكن، او كأن الالتزامات التي صيغت وجرى التوقيع عليها لم تعد ملزمة لاصحابها، والاكثر غرابة في هذا المجرى، ما يعلنه محسوبون على كتل  نافذة من شروط مسبقة إعلامية، قبل الدخول في مفاوضات، ولعل المراقب يفترض ان يكون  المحسوبون على كتلة التحالف، المكلفة بتشكيل الحكومة، اكثر انضباطا من غيرهم، واكثر تخلصا من الجملة الاعلامية لما قبل اتفاق اربيل وقبل مروره في مجلس النواب، في الثالث عشر من الشهر الجاري.
من هذه الزاوية يبدو انه معبر ضيق الى فضاء السلامة، لكنه معبر سالك، وآمن، إذا ما تخلى العابرون عن التدافع.. وعن اغواء الشاشات الملونة.
*   
“الذي يولد ليزحف لا يستطيع أن يطير”.
اليكس سافين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ



276
متى يكفـّوا عن هذا العبث ؟


عبد المنعم الاعسم
 
كان الاعلان عن اتفاق الشراكة والتصويت عليه بالاجماع في البرلمان يعني (ويفترض) الانتقال بالعمل السياسي بين فرقاء الازمة، وحصرا، بين كتلتي التحالف والعراقية، الى سياق آخر من الاسترخاء والبناء والمسؤولية يبتعد، في المسافة والادوات، عن حقول الالغام الاعلامية والتصريحات الاعتراضية ولغة الشروط والتحفظات والتهديدات المبطنة التي سادت شهور الازمة السبع الماضيات، وكان ينبغي (إذا ما جرى الاقتناع حقا بجدوى اتفاق الشراكة) ترك الملفات الحساسة ومفردات تقاسم السلطة والملاحظات البينية الى المفاوضات المباشرة التي ستبدأ غداة عملية التكليف بتشكيل الوزارة رسميا بعد عيد الاضحى.
اللافت ان بعض (اقول بعض) ممثلي الكتلتين دخلوا في سباق اعلامي محموم ومراهق مع موعد المفاوضات المباشرة لتجييش الشارع بالمخاوف والتحزب والرطانات الطائفية والقاء المزيد من الحجارة والشكوك في طريق التهدئة السياسية، واصدار الاحكام المسبقة على المنافسين والمرشحين الى المناصب الحكومية، بل وتزعطط البعض منهم بالعودة الى خطاب المخاشنة الذي كنا نعتقد انه بَطـُل مع بطلان اسباب التخاشن والارتياب حين اعلن اتفاق الشراكة وجرى التصويت عليه من قبل جميع النواب، وكان الكثير من الساسة قد تلمسوا الحاجة(وقل اضطروا) الى نزع فتيل الاحتقانات الفئوية والشخصية سيئة الصيت، ربما مؤقتا.
ومن زاوية معينة، يبدو ان خطوطا معينة في المشهد السياسي لا تزال غير مقتنعة باتفاق الشراكة، ولا تريد ان تستسلم الى حكم التعهدات المتبادلة وما يترتب على تلك التعهدات من مقتضيات ضبط التصريحات الاعلامية ووقف التسريبات الضارة وكنس الشعارات الاقصائية والتأليبية وما تستوجبه من اعتماد المجادلة المنتجة والايجابية لكي تلتقط الملايين الساخطة انفاسها وروعها وتستعيد ثقتها بالمستقبل وتمحض العملية السياسية بالتأييد والتضامن.   
الكثير من التصريحات الاعلامية التي نطالعها هذه الايام تحمل حنينا الى مرحلة الضجيج حيث دوّخـْنا فيها العالم، واثرنا شفقته علينا، وكنا نظن اننا عبرناها الى الابد ودخلنا بعدها بهاء التعقل والصبر والشعور بالمسؤولية، ولغة الكبار.
*
“وإذا أتى الإرشاد من  سبب الهوى.. ومن الغرور فسمه التضليلا”.
 أحمد شوقي


277


معذرة ..
لا اتقبل تهاني العيد


عبدالمنعم الاعسم

 غدا، الاحد، الرابع عشر من نوفمبر، ساقف مع صف طويل من زوار كنيسة سيدة النجاة، المفجوعة بمذبحة المستوطنين الهمج، وساحمل صورة الطفل "ادم عدي" الذي افتتح الارهابيون  بدمه الوردي احتفالهم الصحراوي المتوحش، وساردد مع الجميع "تعالوا اليّ يا ثقيلي الاحمال" وازحف معهم الى بهاء الرحمة، حاملا احتجاجي على شناعة الجريمة وهلعي حيال مرويات اجتياح الكنيسة الآمنة وحوارات الغزاة مع الضحايا.
 وتشاء حركة المناسبات والفواجع والافراح والنكبات ان تتوالى وتتداخل، وتتزاحم مع بعضها على تقاويم الايام، وهي سُنـّة الحياة، ومن احكام الانواء والاقدار، لكن، لا يسع الثكلى والمفجوعين وشركاؤهم في المصاب ان يتوزعوا بين هذا وذاك، في ذات الوقت، ولا ان يجاروا  مناسبتين تفترقان في المعنى والمنظور، عبورا من فوق المشاعر.
 وفيما، يحل عيد الاضحى، بعد يومين، وفي الايام التي تفيض باحزانِ وهلعِ وقلق ابناء الوطن من اتباع الديانة المسيحية، ويتقدم الطفل آدم عدي موكب الضحايا الخمسين من النساء والاطفال والقسس بالسؤال عن مسؤوليتنا حيال ما جرى له ولهم إذ  سقطوا  برصاص قتلة يهتفون باسم الله الرحمن الرحيم، فاني لا استطيع ان اخون مشاعري الانسانية لازاول فروض عيد الاضحى من الفرح وتبادل التهاني واستقبال المهنئين او زيارة الاهل والمعارف والاصدقاء، واعتذر للجميع عن قبول تهانيهم، واقترح عليهم ان يوقعوا على صورة عدي كلمة إشفاق واسى بدلا من كل ذلك.

*
"في يديك استودع روحي".
يسوع

278

كانوا يتكلمون
 الفصحى

عبدالمنعم الاعسم

 ليلة الاحد ، السابع من نوفمبر، كانت كنيسة سيدة النجاة في قلب بغداد قد ائتلقت بالشموع والشعر وبصفوف من المصلين والثكلى والشهود. قالت الشموع دموعها الاسيفة، وفاض الشعر بمداده المرتاع، ثم روى خمسون اسما شهيدا ما جرى في ذلك اليوم إذ كان اصحابها يرتلون نشيد السلام والارض قبل ان يداهمهم القتلة الذين كانوا يتكلمون اللغة العربية الفصحى، رسالة الى الذين لا يقرأون جيدا معنى ما حدث، او انهم لا يريدون ان يفرأوا.
 مرّ الجميع على صف الشموع الدامعة والاسماء المسجاة. كانت آثار الرصاص لا تزال على  اعمدة الكنيسة وصور سيدة النجاة وصلبان المسيح. خصّت سيدة مجللة بالسواد ضحايا من عائلة واحدة، ام وابنتها. آباء وأبناء. اخوة، بالشموع والبكاء، واقترح رجل الابقاء على آثار الرصاص والغزوة الهمجية وعدم محو بصمات الجريمة  وتحويل الكنيسة الى متحف تاريخي لاخاء الاديان بمواجهة الغبار الاصفر للمتعصبين الهمج والكراهيات   
 الشعر وزّع ذهوله بين الشموع والمشاركين، واعلن انتماءه لمصاب انساني بموصوف عراقي، ودعانا الى دحر هذا الاستيطان الغريب الذي يتفنن في تنظيم المذابح المروعة ياللغة العربية الفصحى، وهي، على اية حال،  ليست لغة الجاحظ  والاصمعي وابراهيم النظام وابن جني والمتنبي  والجواهري ، ولا هي لغة الضاد التي جاءت بالتنوير والجدال وفتوحات الفكر والتسامح.
 لغة المستوطنين الاغراب الهمج مقعّرة، مفتعلة، منحوتة من الفحم والفضلات. تفتقد الى موسيقى ورحابة الكلام. مثقوبة بالديدان والرطانات المستعارة من عصر الردة والكهوف، لا تخرج من افئدة طليقة  بل من بالوعات سحيقة. لا تميل الى كتاب او مؤلـَف له شأن، او له اعتبار، بل تميل الى المنقولات الخشبية. لغة تطلق النار على المارة من غير تعيين، هدفها ايقاع الموت باكبر عدد من الابرياء.
 في ليلة الامس الاول جاء الغزاة، مرة اخرى، الى كنيسة سيدة النجاة. قرأوا بيانهم الشنيع باللغة العربية الفصحى. سكتت القصائد. عانقت الشموع بعضها, ثم دوى الغضب النبيل في المكان: يا لحسن الحظ.. انهم لم يدنسوا اللهجة العراقية.   
*
" إنا نتسلم علم الوطن الآن فلتكن القامات الصلبة ساريه العالي ولتكن الاعين أنجمه الخضراء".
احمد عبدالمعطي حجازي


279
المنبر الحر / هستيريا الذئاب
« في: 19:07 04/11/2010  »
هستيريا الذئاب

عبدالمنعم الاعسم

 تحتاج الذئاب الجريحة الى ضحية من نوع خاص، لكي توغل في دمها، وتفرغ فيها شحنة الانتقام المنفلتة، وتتسلى بلحظات  ومشاهد احتراقها، ويشاء عابر الطريق الآمن، الطيب، ان يكون هدفا سهلا لهذا الهوس المتوحش، ولقطة مناسبة للتمرين على التنكيل والافتراس، إذ تكون الضحية في حال سلام مع العالم، وقلة احتساب للمخاطر.
عصابات الارهاب، وبالرغم من فجوات الحماية، تلقت ضربات قاتلة، حين اجليت عن هامش المكان الى هامش المجاري، وتركتْ، وتترك على ارض المعركة، الكثير من فطائسها وبصمات جرائمها، وضاقت من حولها، وهي طريدة منبوذة، السبل والمنافذ تحت طائلة العدالة وقانون القصاص، فصارت تضرب، من غير مردّ للرحمة، مدنيين آمنين يؤدون صلات المحبة في كنيسة، او يتبضعون في سوق، او يسعون الى رغيف خبز من كدّ نبيل.
مساء الثلاثاء، وبعد نهارين على مذبحة كنيسة سيدة النجاة كان للعراقيين الآمنين، العابرين، الكادّين، المتحدين بسلام الصدف والتزام فروض الحياة، موعد مع الذئاب المجروحة، وهذه المرة، في سيارات مفخخة عمياء، شاءت الهجمة ان لاتعفي حيا او منعطفا او سوقا من تمرينها الدموي السافل وان تقتل اكبر عدد من النساء والاطفال والشيوخ، وفي سرها، ان ذلك يضاعف الاسى، ويشفي الغليل، ويحقق العقاب.
قطعان الارهاب اخذت من الذئاب طباعا كثيرة، انظروا، كيف نظموا مذبحة الكنيسة بدم بارد، وكيف فجروا السيارات في المزدحمات المدنية باكثر ما تملكه الذئاب من فجور وغدر وتعطش للدماء لتضاف الى تلك الصفحات المتوحشة التي سجلت جرائم الاختطاف وقطع الطرق وفنون الذبح والترويع، ثم اقرأوا بياناتهم التي تزدحم بفقه التمثيل بالجثث والتسلي بتعذيب اولئك الذين القت بهم حظوظهم في طريق المغيرين الهمج، ثم اكتبوا، للتاريخ، اننا شهود لهذا الفصل الحاسم للصراع بين القطعان المنفلتة من الذئاب الجريحة والملايين الامنة.
وفي استدراكات المذبحة سنسجل هذه المفارقة السوداء: لا يزال الكثير من الساسة يختزلون الجريمة الهستيرية للارهاب الى ورقة في المخاشنة بينهم، فمن يراها تستهدف موقعه على سطح السلطة، ومن يراها دالة على عدم اهلية اصحاب السلطة، فيما طابور الجنائز والنائحات يتشكل على هيئة سؤال: الى متى؟.
*
“التاريخ كابوس لم افق منه حتى الآن”.
  جيمس جويس

280
كهوف تغير على المدنية


عبدالمنعم الاعسم

بين يديّ بيان اصدرته جماعة كهفية اسمها دولة العراق الاسلامية تستعرض فيه كيف “صالت ثلةٌ غاضبةٌ من اولياء الله على وكر... من اوكار الشرك” في كنيسة سيدة النجاة في كرادة بغداد، حيث خاض “ليوث التوحيد” معركة ضد مائة من النساء والشيوخ والاطفال والقساوسة المصلين، وتمكنوا “بفضل الله ومنـّه” من السيطرة على الكنيسة، وقتل من فيها، وكل ذلك من اجل “نصرة اخواتنا المسلمات الاسيرات في ارض الكنانة”.
والبيان يتضمن الكثير من العبارات المتربة التي خرجت توا من كهف الافاعي السحيق وهي تتوعد العالم بمشروع الانفلات والعتمة حيث لاتفلت كنيسة او مدرسة للعلوم او حديقة او دار سينما او كتاب  او صوت اجتهاد او سواحل للراحة من القصاص الذي ينزله، ويشرّعه، رجال بلحى ودشاديش قصيرة وعقول كهفية علاها الغبار وحشيت بنشارة الخشب.
على الارض.. الوقت مساء.. ثمة قطعة ارض حاسرة، وشارع قصير، وجثث لنساء واطفال ورجال ورهبان  مشمورة على هيئة علامة سؤال وذلك على اثر غارة شنها باسلحة فتاكة غزاة بلا اسماء ولا وجوه. لم يكونوا قد فرقوا بين الصلبان والارواح وشجيرات يانعة، ولم يتملكوا اذانا مستعدة لسماع الاستغاثات واصوات الرحمة، بدأوا قصاصهم بطفل كرسالة فصيحة لمشروعهم، ثم حشروا البشر المروعين في صالات، وعقدوا محكمة شرعية تحت اعقاب البنادق، سرعان ما اصدرت حكمها بالموت على الجميع.
سيدة النجاة مدت ذراعيها الى الله، في تلك اللحظات فرد القول “وعلى الارض السلام “ و“لكم دينكم ولي دين” لكن للمغيرين  دين آخر لفقوه من فضلات عصور الخرافة والتجييش والتطرف، ياخذ العالم كله رهينة نزوة مختلة العقل، وامله كسر شوكة الحضارة والمدنية وتسوية الارض بكل التماثيل وابداعات البشر والثقافة، وهدفه احلال الصمت في كل منعطف وبيت وصالة.
مساء الاحد الماضي وصلت طلائع رحلة البرابرة الى كرادة بغداد، وانزلت راياتها فوق خمسين جثة لنساء واطفال بقمصان ملونة ورجال بوجنات كسيرة، واعلنت انتصارا محسوبا بالتراب وممرغا بموصوف جريمة لا سابق لشناعتها.
*
“الجريمة التي لا يدين لها يرتكبها اكثر من واحد”.
سانغ هيون سونغ- قاض دولي

281
ويكيليكس.. خطوط متشابكة


عبدالمنعم الاعسم

بصرف النظر عن هوية الفرد او الجماعة، وعن علاقتهما بالحدث او موقعهما منه، وسواء كان الفرد او الجماعة في موضع الشبهة او موضع الظن او موضع التورط الاكيد في الجريمة، فان القتل والترويع وايقاع الاهانة والايذاء الجسدي عليهما امر ترفضه الشرائع والمواثيق، وينبغي ادانته ومعاقبة الجهات التي مارسته ونبذها بكل السبل.
وبصرف النظر عن كل ما قيل بصدد وثائق ويكيليكس وتوقيت الاعلان عنها والجهات التي تنتفع منها او التي تضررت منها، فان الحقيقة تؤشر الى جهات امريكية وحكومية ومجاورة تعدت على حقوق الانسان وضوابط التحقيق المهنية والمعاهدات الدولية واستخدمت اساليب محرمة ضد مدنيين ابرياء ومعتقلين لم  يُدانوا ومدانين نالوا عقابهم بالسجن ما يدخل تحت موصوف الممنوع والمحرم والجناية  ويلزم انزال القصاص بمرتكبيه، وحتى باولئك الذين يبررون ارتكاب مثل هذه المخالفات المنافية للاخلاق والعدالة.
وطوال سنوات التغيير، منذ العام 2003 ثمة الالاف من الضحايا الذين سقطوا خلال الملاحقات والمداهمات كانوا ابرياء، وكان معروفا بان الكثير من وقائع هذه الاعمال تمت في نطاق اعمال انتقامية وبعضها لشفاء الغليل وبعضها الاخر لدواعي طائفية ولم يكن لتبريرها جميعا ما يقال بان المفارز الامنية كانت تسعى الى  فرض الامن والقانون ولجم قوى الارهاب والجريمة، فان القوانين لاتبرر بأي حال وتحت اية ذريعة  استخدام القوة المفرطة العمياء ولا مصادرة الحريات والحقوق المدنية للسكان.
على ان حمية تبرير الانتهاكات المشار لها في وثائق ويكيليكس والطعن في توقيتها وتبييض ايادي الجلادين واسياد الاعمال الانتقامية والتمدد المليشوي عبر الحدود لاتختلف (من وجه آخر) عن حمية الدفاع عن الارهاب والتفجيرات الانتحارية الاجرامية ومحاولات تبييض صفحات عصابات العنف والتطرف والتجييش بمجرد الكشف عن مخالفات وانتهاكات ارتكبها الخصوم السياسيين او محسوبون عليهم، كما لاتختلف محاولات التخفيف من شأن وثائق ويكيليكس عن حملة توظيف الملف في سياق التنافس على السلطة والتحشيد على بوابة منصب رئيس الوزراء وتبرئة النفس من اية مسؤولية عما حدث من انتهاكات. ان القضية بوصفها قضية عدالة، ينبغي ان تبقى خارج السباقات والصراعات السياسية المحمومة.
في خلال هذه الحمية المزدوجة برز صوتان،  من جهة صوت ينكر او يغطي انتهاكات حقوق الانسان وينفي التدخل الاقليمي لاذكاء العنف في العراق، ومن جهة اخرى، صوت يبرر اعمال الارهاب والجريمة المستوردة ويضفي على ابطال التفجيرات والمذابح ضد المدنيين الامنين صفات البراءة. 
المشكلة، ان التداعيات العراقية لوثائق ويكيليكس تكشف مرة اخرى عن الانانية السياسية لدى فئات نافذة إذ تبرئ نفسها مما يحدث وتختزل عذابات الملايين الى شعارات.. ودموع مغشوشة.
*
وكلام مفيد.. “من سرق ما لايحتاج اليه، فقد ما يحتاجه”.
 حكمة ايرلندية
 

282
شكرا..
الـى "الاتحاد"


عبدالمنعم الاعسم
على المستوى الخاص، ينبغي أن اعبّر عن امتناني لـصحيفة ”الاتحاد” البغدادية وقد عبرت في الرابع والعشرين من اكتوبر 2010 نهرها الثامن عشر، وفي رصيدها الكثير مما يمكن لصحيفة ملتزمة، وحرة، ان تفخر به، وتقدمه الى سجل المواقف والخدمة والرقابة، في ظرف عراقي عاصف، يطحن الحجر، ويمتحن الصبر، ويلوي الحديد.. ويخيف.
فقد حملتـْني الاتحاد على اكتافها، وتحمـّلتني ايضا، اكثر من اربع سنوات عجاف ومتواصلة من عمرها، ودسّت جملتي المفيدة الى كومة الحرائق والاستعصاءات والمذابح، واطلقتها الى دائرة اوسع من القراء والاقنية والمحافل لم اكن سأصل اليها من نافذة اخرى، وحطّت بي على ورق كثير ومطالعات صحف ووكالات اخبار واصوات مذيعين ومذيعات، ودوائر محللين ومهتمين، وعيون وضمائر مهمشين ومحرومين، وطاولات مسؤولين واصحاب قرار، وماذا يمكن لكاتب سياسي ان يطلبه من صحيفته اكثر من ذلك؟ وماذا نسمي موقف هذا الكاتب اذا لم يردّ لتلك الصحيفة بكلمة وفاء؟.
والمناسبة تقتضي الاعتراف بان الاتحاد منحتني هامشا من”التجاوز” ربما اكثر مما تمنحه لكاتب من كتابها: الذع، وازعل، و”اصجـّم” واحرّض واجتهد وأنال وأعارك في تلك المساحة المحرجة والملغومة الواقعة بين “الالتزام والحرية” وهي تعرف انني القي بحجارتي (احيانا) على بعض من يعزّ عليها، وعلى البعض من اصدقائها، وعلى البعض من اصحابها القريبين، وايضا، على ملفات وزعامات تقع في المنطقة الحرام.
وأعلن (بهذه المناسبة) ان ثمة القليل من “جملة مفيدة” ربما يزيد قليلا على عدد اصابع اليد الواحدة حُجب عن القراء طوال أكثر من اربع سنوات، ومن بين ما يصل الى الالف من الجُمل، لاسباب تتعلق بالرأي واخرى بعناصر بناء المعلومات، وأحسب ان ذلك (من زاوية مهنية) أمر طبيعي في جميع الصحف السياسية بما فيها الليبرالية وحتى التجارية، وإن كان يزعلني.
وإذ قطعت هذا المشوار المحبب اليّ دوما مع الاتحاد فان مناسبة ائتلاق الشمعة التاسعة عشرة من مسيرتها تلزمني ان اشد على يد ربانها وعينها الثاقبة الاستاذ فرياد رواندزي، مدينٌ له بالوفاء، وباقة اعتزاز الى صديقي وشريكي في رحلة الاربعين سنة عملا وكتابة ونضالا ماموستا مصطفى صالح كريم واخص بالتهنئة الاخ الكريم معي دائما عبدالهادي مهدي، والى زملائي الرائعين الذين يقدمون رغيف الاتحاد صباح كل يوم الينا.. رقيقا، وذا أمل.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“من ينكر الجميل يجني على نفسه، اولا”.
شكسبير

283
المنبر الحر / كلام الليل..
« في: 11:40 20/10/2010  »


كلام الليل..
عبدالمنعم الاعسم
لعبة اخرى دخلت في مكونات بقعة الزيت الطافية التي نسميها افتراضا ازمة تشكيل الوزارة، وهي في الواقع ازمة ثقة مفقودة بين اركان الطبقة السياسية، في افضل توصيف حيادي وبارد لها.
لعبة مسلية، او لعبة يتسلى فيها اصحاب الازمة باعصابنا التعبانة وعقولنا المثقلة، وصبرنا الذي بلغ منتهاه.
واللعبة بسيطة، ومستعارة من دعابة قديمة لأبي جعفر مع جارية، انتهت على خير، فيما لا نعرف على اي حال ستنتهي حكايتنا مع تشكيل الوزارة.
وتجري اللعبة علنا، وعلى واجهة الشاشات الملونة. فصلها الاول يُعرض في الليل، وفصلها الاخير في النهار.
في الليل نتلقى وعودا، ونشاهد بوس لحى، ونستمع الى مطولات من الكلام المنمق عن قرب التوصل الى حل للازمة.
وفي النهار تتبخر الوعود حيال التراضي، وتنسحب غمزات البسمة امام نظرات الشكوك، ويحل التجهم محل الانشراح.
وللعبة ابطال، فالذي يبشرنا بقرب انتهاء الازمة، يفسح المجال لصاحب له يتولى اثارة ذعرنا مما يحصل، والذي يتحدث بشاعرية مسائية عن رسوخ العملية السياسية وان ما تبقى من خلاف “لا يفقد للود قضية” قد يقوم هو نفسه بذبح آخر أمل لنا باختتام فصول الازمة على خير بدق طبول الحرب والتجييش.
والمشكلة، اننا حيال دوران للارض والكواكب، فلا بد ان يحل فينا ليل، ولا بد ان يعقبه نهار، ولسنا على مدار من الكرة الارضية بحيث ننعم بيوم، كما تنعم فيه مدينة بيتروغراد او موسكو، بحيت يتصل الليل والنهار في ما يسمى بـ “بيلي نوتش”.
اما قصة ابي جعفر مع الجارية فقد لخصها ابو نؤاس بقوله:
وخودٌ اقبلتْ في القصر سكرى.................
                                          ولكنْ زيّنَ السُكرَ الوقارُ
وهزّ المشى اردافاً ثقالاً......................
                                         وغصناً فيه رمانٌ صغارُ
وقد سقط الرِدا عن منكبيها...................
                                      من التخميش وانحلّ الإزارُ
فقلتُ الوعد سيدتي فقالتْ....................
                                      كـلام الليلِ يمحــوه النهــارُ
ـــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“وجاءوا اباهم عشاء يبكون* قالوا يا ابانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا  فأكله الذئب” .
  اخوة يوسف بعدما قتلوه. قرآن كريم 

284
المفاوض الكردي.. تاشيرات اولية


عبدالمنعم الاعسم  

 تتجه انظار المراقبين  لأزمة تشكيل الحكومة الى موقف المفاوض الكردي الذي يمثل الكتلة الفائزة الرابعة في انتخابات السادس من آذار، ويحاول الكثير منهم رصد الاجندة والسقوف والخطوط المفتوحة والمغلقة التي يتحرك فيها الوفد من خلال بعض التصريحات او التسريبات التي تخرج على "النص" أو تفترق عن الخطوط العامة للاستراتيجية الكردية التفاوضية، وقد تزايدت مثل هذه التصريحات الغامضة في الاونة الاخيرة وفتحت الباب لاستطرادات الاعلام المولع بالبحث عن المفارقات السياسية المثيرة، وبخاصة من قبل منافذ تراهن على تفكك الارضية التي يقف عليها الكرد والمفاوض الكردي .
 كما حاول ويحاول البعض من المتابعين تأويل بعض الاشارات والمعلومات التي  تترشح من غرف اللقاءات بين القادة الكرد وممثلي الفئات السياسية الاخرى، او بينهم وبين ممثلي الاطراف الدولية وتسويقها على نحو مفبرك يضطر معه الجانب الكردي الى تصويب او تصحيح او نفي ما ينشر او ما يذاع بين فترة واخرى، لكن الواضح، هو ان الاعلام الكردي، على كثرة مفرداته القومية والمحلية وسعة امكانياته، بقي يلهث وراء الاحداث، واكتفى بالتعليق المحاذر عليها دون ان يزج نفسه في مطابخ صناعة المعلومات والاخبار، وتسليط الضوء على التصورات والمواقف الكردية وترويجها، بل ان الكثير من تلك التصورات والمواقف وصلت الى الجمهور والمحافل عن طريق اقنية غير كردية، مع الكثير من التصرف.
 وفي غضون الاسابيع الماضية انشغل ممثلو الكتل والمراسلون والمعلقون بالورقة الكردية المكتوبة التي تضمنت قاعدة المطالب التي يتطلع الكرد الى تثبيتها في اساس هياكل والتزامات حكومة الشراكة المقبلة وجرى تسليمها الى فرقاء الازمة السياسية وتوزعت على مدونات دستورية جرى الدوران عليها من قبل جميع الشركاء، وإن على نحو متفاوت، بالا ضافة الى مطالب قامت على شكاوى ومشاكل برزت بين الاقليم والمركز، وشدد المفاوضون الكرد على ان ما يخص القضايا ذات الصلة بالدستور غير قابلة للمناقشة، ولا تنازل عنها، فيما تترك النقاط الاخرى للبحث والرد والبدل بين المتفاوضين وبحسب صيغة الشراكة ولوازمها.
 واللافت، ان اكثر الذين يدّعون التزامهم بالنصوص الدستورية ويقدسون احكامها ويتقاتلون لحمايتها من الانتهاك والتعدي والتحريف هم انفسهم يأخذون على  الكرد حق التمسك باحكام دستورية يعدونها ضرورية في معالجة شكاواهم وتفتح الباب لتطبيع الاوضاع في مناطق متنازع عليها، ويشددون على انها تشكل الغاما موقوتة تحت مسيرة بناء  واعادة بناء العراق الموحد، وهذا من مفارقات وتعقيدات المعابر المتأزمة لتشكيل حكومة الشراكة.
 وثمة القليل من المعلقين والمتابعين مَن توقف بإنصاف حيال الموقف الكردي الرافض لمحاولات تشكيل "حكومة محاور" واقصاء مكونات سياسية او زحلقتها الى خانة التهميش والمعارضة، كما يتجاهل كثيرون معنى وجدية المفاوض الكردي على تشكيل حكومة شراكة من جميع الفرقاء، وعدم التفريط بفريق من الفرق المتنازعة، وتحريم نزعة الاستفراد بالسلطة.
 وعلى الرغم  من ضعف التوصيل الاعلامي الكردي وبطء ايقاعاته، استطاع المفاوض الكردي وخلفه القادة الكرد ان يشيد حضورا واضحا في وسط المشهد وفي قلب التجاذبات السياسية وان يبرز كمحاور مقبول من الاطراف المعنية بالازمة، بل ان يظهر بحد معقول من التماسك والانسجام، بالرغم مما يعرفه المتابعون من تنوع في الرؤى وربما في التصورات بين اطيافه ومكوناته.
 من زاوية معينة، يبدو انه لا مفر للعراق في هذا المعبر الخطير، من ان يعبر الى الضفاف الاخرى في قارب حكومة شراكة على الرغم من ان سمعة الشراكة قد تبهذلت في السنوات الماضية بسمعة المحاصصة سيئة الصيت.
  ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى ما قدمته الكتل الفائزة من تصورات واقتراحات للحكومة الجديدة قيد التأسيس،  وتشكل قواسم مشتركة بين مكوناتها، وتضمن الكثير منها شروطا وخطوطا حمراء بالاضافة الى ما يسمى بالاستحقاقات الانتخابية (المناصب. المقاعد الوزارية. المراكز الخاصة)  التي ترتفع سقوفها الى اعلى دائما بما يتاح لها في التفاوض مع الكتل الاخرى، وفي العموم، يجري الحديث عن ثوابت من هذه المفردات غير قابلة للمساومة واخرى تدخل في عداد النقاط التي يجري التفاوض فيها والمساومة عليها، وثالثة ذات صلة بتقاسم النفوذ.
 ومن جانبهم قدم الكرد لائحة من تسعة عشرة فقرة تشمل، اولا، تصورات وشروحات لفكرة حكومة الشراكة الوطنية الحقيقية، ولمبادى ومفاهيم التوافق وآليات عمل الحكومة وصياغة القرارات المصيرية، ومسائل دستورية عامة، الامر الذي اعتبر، من قبل المراقبين الموضوعيين، بمثابة معبر آمن للازمة السياسية التي تتمحور حول رئاسة الحكومة كحلقة للتحكم في سلطة القرار، وتستند هذه التصورات على تجربة السنوات الاربع الماضية للعلاقة بين حكومة اقليم كردستان والحكومة الاتحادية، وما شابها من توترات وتداخلات اضرت بمبدأ الشراكة، وعطلت الخطوات الدستورية الملزمة، ويُخشى من استمرارها فوق سطح ساخن من الاحتقانات السياسية.      
 توزعت اللائحة الكردية، ثانيا، على مجموعتين من التصورات، الاولى، دستورية ينبغي الشروع بتطبيقها وترجمتها الى الواقع، مثل المادة 140 حول تطبيع الحالة المعلقة لمحافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها، والزمت وتلزم الحكومة بانجاز الاجراءات التطبيقية للاحكام الدستورية (التطبيع. الاحصاء. الاستفتاء) وفقا للنصوص التي جرى التصويت عليها مباشرة في استفتاء 15 تشرين الاول 2005والثانية مطالب تخص لوازم اعادة البناء لاقليم كردستان وتسريع التنمية فيه، وسد الثغرات التي نشأت عن تطبيقات القوانين والتوجهات الحكومية في المرحلة السابقة، وهي مطالب تناقش مع الكتل الاخرى بهدف ادخالها في برنامج الحكومة المقبلة.
 واللافت، ان حزمة المقترحات الكردية سرعان ما اصبحت، بخلاف جميع الاوراق والشروط والمطالب للكتل الاخرى، تحت رماية العديد من الاقنية الاعلامية والسياسية، واحيطت بالريب والطعون من قبل نواب وسياسيين من شرائح قومية واسلامية، وتصدر الحملة المنهجية بعض المتحدرين من اطارات النظام السابق، وبخاصة من مدينتي الموصل وكركوك، وامعنوا في التنقيب عن عبارات او زلات هنا وهناك لتزييت ماكنة الحملة، والتأليب على الكرد، بالرغم من التوضيحات المتكررة التي تعاقب على تقديمها القادة الكرد واعضاء الوفد المفاوض بسلامة ووطنية واخلاص المنطلقات التي تقف وراء هذه اللائحة، وان العديد من مفرداتها خاضعة للبحث والمناقشة والاخذ والعطاءمع الفرقاء الاخرين المعنيين بتشكيل حكومة عراقية جديدة.
 في حشوة هذه الحملة ثمة الكثير من فضح نفسه كداعية للكراهية القومية، بعد ان شبعنا مصائب من الكراهيات الاخرى.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"اذا شعرت انك لم تخطئ ابدا، فهذا يعني انك لم تجرب شيئا في حياتك".  
اينشتاين  
 






285
ماذا لو لم تشكل الحكومة؟

عبدالمنعم الاعسم

 عندما يتساءل المراقب عما سيحدث لو لم تشكل الحكومة، سيتوجه للوهلة الاولى الى الدستور بحثا عن جواب فلم يجده، لان الدستور "حمّال اوجه" من جانب، وانه في افضل الاحوال سيرد الخيارات الى النواب المنتخبين في المجلس الجديد، ليحتفظوا بمقاعدهم، وامتيازاتهم، او يحلـّوا المجلس واعادة اللعبة الى نقطة الصفر التي لاتتضمن في ذاتها معبرا معينا الى الآتي، بل انها، فيزيائيا، نقطة حيرة كونية فـ"إذا زادت الدقة في تعيين المكان زاد عدم اليقين في تعيين السرعة" و "في ظل الظروف التي تتوقف فيها مسببات الحركة عن العمل، فإن المادة (فقط)تظل في حالة حركة تسمى حركة نقطة الصفر الهلامية دائما".
 الحقيقة، ان النواب، وقل الغالبية الساحقة منهم، لن يتخذوا قرارا بحل البرلمان، ليس فقط لانهم منتفعون من عضوية المجلس بل لأنهم موزعون على كتل لا تفضل حل المجلس، وبعضها لا يزال يراهن على حلول معجزة تاخذ الازمة الى الحل، وان النواب لا يمكن لهم ان يخرجوا على كتلهم، في ظروف تتسم بالاستقطاب وحمية التحشد وراء الكتل.
 إذن، ما الذي سيحدث في حال لم تشكل الحكومة الجديدة نهائيا، وان الدستور لا يجيب ومجلس النواب لا يحل نفسه؟ ومن اية منفذ ستتحرك نقطة الصفر الى المعادلات السياسية الجديدة.
 اغلب الظن بان الجميع، ساسة وقانونيين ومواطنين، بدأوا يطرحون هذا السؤال على انفسهم، ثم يتداولونه في حلقات صغيرة، في وقت تدور الازمة من متاهة الى متاهة اخرى، فلا احد يريد تشكيل حكومة محمور من اطراف متقاربة في تسمية رئيس الحكومة، ولا امكانية لتشكيل حكومة شراكة تتقاسم السلطة في نقطة رئيس الحكومة، والذي يحصد ثمار هذا الاستعصاء طرفا معادلة الامن، السلطة وقوى الارهاب والجريمة، الاولى، تستفرد بامتيازات الادارة، والثانية تتحكم في مصائر المواطنين عن طريق التفجيرات والمذابح والتهديدات.
 في هذا المفصل، فان جميع الاحتمالات واردة من غير استثناء لكي تتحرك من نقطة الصفر: اعادة الانتخابات. التدخل الاقليمي. الحرب الاهلية. الوصاية الدولية. الانقلاب العسكري. الصوملة. اللبننة. الصيغة اليوغسلافية.. الخ وفي رصيد كل احتمال عناصر محدودة من الحظوظ، إذ ستتسابق جميعا لفرض خيارها، وسينخرط فرقاء الازمة والجيران وخلايا الارهاب والفلول المسلحة ومخابرات الدول في هذه الاحتمالات.
 لكن يجب استدراك القول بان هذه الاحتمالات هي اسماء لكوارث لا احد يعرف نتائجها التدميرية على الارض، واكاد اقول ان الذين يدفعون الازمة عمدا الى نقطة الصفر بالاصرار على الخندقة البغيضة يعرفون نتائج اللعبة الخطيرة التي يزاولونها.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد
"لا يمكننا حل مشكلةٍ باستخدام العقلية نفسها التي أنشأتها".
اينشتاين   
 

286
البعث.. وإحياء "الحزب القائد"
 

عبدالمنعم الاعسم
يعد المشروع السياسي لمستقبل العراق “بعد الاحتلال” الذي اطلقه نهاية ايلول فريق من حزب البعث يسمي نفسه ”تيار المراجعة” اول محاولة تتقدم بها فلول الحزب الذي حكم بالحديد والنار والحروب واحتكار السلطة منذ ان اطيح به،  تنطوي على الاعتراف المدوّن الخجول للهزيمة التي مني بها الحزب، واول اعلان مكتوب يتحدث عن انتخابات (وإن في فترة لاحقة) برعاية الامم المتحدة، لكن النظرة الرعوية وفق الثقافة الصحراوية (لا المسيحية التقليدية) بقيت في اساس هذا المشروع، وحتى في ملازم الاشارة الى خيار الانتخابات بعد ان تستتب الاوضاع للرعاة الجدد.يقوم جوهر الفكر الرعوي على ان السلطة هي القوة، وهي حق لصاحب السيف، وان ابطال الصحراء يعرفون فروض السلطة افضل من سكان المدن، وبحسب منيف الرزاز (المفكر البعثي الذي قتله صدام حسين) فان الصحراء فرضت سيطرتها على المنطق السياسي العربي في  العصر الحديث، باعتبارها مصدر القوة (البدنية طبعا) ومن هذا المنطق فان مشروع تيار المراجعة البعثي يعطي “فصائل المقاومة والقوى المناهضة للاحتلال” حق “تشكيل نظام وحكومة وطنية عراقية، بعد تحرير العراق” والخلاصة تتمثل في تشريع حكم القوة، السلاح، في نهاية الامر.
في اطار الجدل السياسي، وحق إبداء الرأي، لا يمكن حرمان احد (عراقي وغير عراقي) من التفكير في مستقبل العراق ومن اقتراح صيغة لذلك المستقبل، طالما ان  المستقبل العراقي لا يهم العراقيين وحدهم بل وجميع شـركائهم في الاقليم والامن، ومن هذه الزاوية يجب تاشير الحقيقة التي لا ينبغي ان تغيب عن مجادل بان “الجيل المحسن” من فلول حزب البعث لم يتخلص من الرعوية السياسية التي تلفق مرحعية اعتباطية لتتحكم في مصائر البلاد، وقد يقول اصحاب المشروع، ماذا يمنع من هذا الحل اذا كانت القوات الاجنبية الغازية جاءت بمجلس الحكم وسلطات الحاضر، اليست هي القوة ايضا؟ وسيكون الرد من ثلاثة فروع، او ثلاثة استفسارات:
الاول، من هو الذي تسبب في الحروب ووقوع البلاد تحت الاحتلال؟ اليس هو حكمكم السابق  وسياسات قيادتكم وحزبكم المغامرة التي قامت على المنطق الرعوي نفسه  بتسويق وهم القوة والاقتدار والسيف وتحول هذا الوهم الى ثقافة كارثية لا تزال تتحكم في الكثير من العقول؟.
والثاني، اذا كان الوضع القائم غير شرعي، لانه استخدم القوة، فهل ثمة شرعية لاستخدام نفس الوسيلة، واذا كان تغيير الحكم تم بارتكاب اعمال منافية وجرائم، فهل انتم مستعدون لفتح ملف جرائم المقاومة بحق مئات الالوف من المدنيين العراقيين ومسؤوليتها عن نسف الجسور والابنية وشبكات الماء والكهرباء وتفجير الاسواق والمزدحمات واستيراد قتلة ومجرمين وانتحاريين مهووسين بالعنف والانتقام من الخارج؟.
والثالث، إذا كانت هذه المقاومة قد ارتكبت كل ذلك وهي خارج السلطة، فماذا ستعمل اذا كانت السلطة بيدها؟.
لقد اعاد المشروع البعثي قيد المناقشة، المنشورة مقتطفات منه، انتاج نزعة “الحزب القاعد” بصياغة اخرى حين اعطى  “قوى المقاومة” سلطة تقرير مصير البلاد وحقها المطلق في “تشكيل مجلس شورى يتكون من 100 إلى 150 شخصية يتم اختيارهم من تلك القوى ومن ثم يتولى مجلس الشورى مهمة تشكيل حكومة وطنية انتقالية من شخصيات عراقية تمارس عملها لمدة سنتين، بعدها تجرى انتخابات ديمقراطية لبرلمان عراقي يشرف عليها مجلس الشورى بعد سنة من قيام الحكومة الانتقالية”.
وطبعا لا نعرف من “قوى المقاومة” غير مجاهدي القاعدة المتفننين بتنظيم المذابح الانتحارية وفلول المؤسسات القمعية للنظام السابق وبعض ابناء عشائر انضم غالبيتهم الى خيار الصحوات، كما لا نعرف كثيرا عن دور هذه القوى حقا في فرض الانسحاب على القوات الاجنبية من العراق، لكننا نعرف انها ساهمت بمجازرها واعمالها التخريبية في اطالة امد الاحتلال.
على ان المقتطفات المعلنة لم تحدد بوضوح هوية القيادة التي تقترحها “لعراق ما بعد الاحتلال” في محاولة لدس لغم الحزب القائد طي العبارات الغامضة، لكن المشروع السالف الذكر لا يقرر ايضا الموقف من الهياكل التي اقيمت بعد سقوط النظام وطوال سبع سنين، وبخاصة التشكيلات الامنية والعسكرية التي تضم ما يزيد على مليون من الافراد، ولا يشير علنا الى الموقف من شرائح وانصار العملية السياسية والملايين الاثني عشر التي شاركت بالانتخابات، ولا الموقف من الكيان الكردي الفيدرالي.
طبعا، ايضا، لا احد يجهل وصفة  اصحاب المشروع وحلفائهم للتخلص من هذه المكونات عبر مقابر جماعية جديدة وانفالات ومقاصل في الشوارع ومحاكم شرعية على عجل، الامر الذي تروج له وتهدد به ونفذته وتنفذه فعلا “قوى المقاومة” كلما امكن لها ان تفرض سيطرتها على شبر من ارض العراق، او اتيحت لها ثغرة في المنظومات الامنية.
لكن الرعوية السياسية للمشروع تفيض وتفضح نفسها اكثر من خلال التوعد بالخصوم (او ما تسميهم اعوان الاحتلال) وشطب حقهم في الاجتهاد والعمل السياسي لانهم بحسب الحزب القائد الجديد سيزاحون بالقوة، فانهم بذلك مهزومون، والمهزوم “مهدور دمه دائما” بحسب الفكر الصحراوي البالي ومنطق القوة، وعلينا ان نتذكر كيف ادار حزب صدام مشيئة السلطة غداة انقلاب 1968 حين صادر ارادة وحقوق الملايين وجميع القوى السياسية، كردية، يسارية، قومية، اسلامية(وحتى شرائح من الحزب الحاكم نفسه) تحت بند “نحن الذين قلبنا السلطة بالقوة، فنحن اصحاب الشأن، وعلى الرقاب ان تنبسط تحت ساطورنا”.
وقد نقلل من المسؤولية المباشرة للفريق البعثي صاحب المشروع عن انتاج واعادة انتاج الفكر الرعوي، اذا اخذنا بالاعتبار بان هذا الفكر لا يزال يمسك بالجملة القومية والشمولية وتتخذ منه القوى الحاكمة في العالمين العربي والاسلامي منطلقا للهيمنة على السلطة ومصادرة حقوق الشعوب في العدالة والديمقراطية، بل ان شرائح نافذة في المشهد السياسي للعراق الجديد تجد في الفكر الرعوي الاقصائي خلفية لحق الاستفراد بالسلطة، واجتثاث الاخرين.
اقول، انه فكر متأصل في شعاب الجملة المتوارثة عن ثقافة وجعجعة الصحراء، وهو وحده الذي يعطي اصحابه حدائق من اوهام الاقتدار.. حدائق نبتت كوارث نتابعها بالصوت والصورة.
وكلام مفيد

***
 ان شراذم حزب صدام حسين، بكل عناوينها، لا تزال تدور في وهم العودة الى السلطة بطريق القوة الانقلابية، بالجيش مرة، وبـ "المقاومة المسلحة" مرة اخرى، ثم، بالرطانات التجييشية والحربية في الكثير من المرات، ويبدو ان حبل قانون الاجتثاث الذي جرى التلويح به لافراد حزب صدام، والاسلوب الزجري واللاعادل، واحيانا الطائفي، في تطبيق القانون قد تحول الى هاجس يمنع جمهرة المرتبطين بتنظيمات البعث من ان ينظروا الى الهوامش السياسية الايجابية الكثيرة في عهد التغيير لكي ينفذوا منها الى فضاء العمل السياسي، بما فيه العمل المعارض المدني، الذي تتزايد فرصه باضطراد.
 والحق، ان الكثير من المحللين الموضوعيين راهنوا على فريق المراجعة (يونس الاحمد) بان يبادر الى انهاء شعارات وخيارات القوة الرعوية الرثة لتحقيق الاهداف السياسية، ويشرع بالانتقال الى البرنامج المدني في العمل السياسي، المعارض، وحتى المقاوم، وكانوا يتابعون انخراط  الفريق الثاني (عزة الدوري) في مشروع الردة للاسلام السياسي واصبح اداة بيد قوى التطرف الديني الاجرامية.
 غير ان اصحاب الاحمد بقوا يدورون في الديباجات اللفظية للمراجعة، ولم يترجموا هذا الخيار الى ممارسات او افكار جدية،  فيما عكفوا على اعادة انتاج شعارات الحزب القائد البغيضة والتمسك بوهم السلطة الضائعة، بل ونفذوا اعمالا وهجمات ارهابية عقابية ضد المدنيين ومؤسسات الدولة ولم يتركوا للمحللين الفرصة لرصد نقاط الخلاف والافتراق الجوهرية مع فريق الدوري المتماهي علنا في المشروع الجهادي الارهابي.
ومن زاوية، قد تبدو ناصحة، فان على ورثة حزب صدام حسين ان ينهوا الارث العضوي في تاريخهم القائم على جعجعة السلاح والقوة وطبول الحرب والنزعة الانقلابية، وان يتحولوا الى العمل السلمي المدني عبر مراجعة حقيقية لفترة حكمهم التي اتسمت بالبطش والاسترقاق والحروب الكارثية ونكران حق الاخر بالاجتهاد والحياة، والاعتراف بالخطايا الوفيرة التي التصقت بسجلهم، والنظر ، ايضا، الى حقيقة ان "مقاومة المحتل" يمكن ان تتم باشكال عديدة، وان استخدام السلاح في الحالة العراقية تحت شعارات المقاومة ادى الى، اولا، جر البلاد الى كوارث مروعة، وثانيا، فتح العراق امام جماعات الارهاب الدولي المهووسة باشاعة الخراب والمذابح والانتقام في كل مكان، كما انه، ثالثا، حوّل الفلول البعثية الى معسكر ردة مطلوب للعدالة الابدية، وبرر سياسة الاستئصال والانتقام الطائفي التي تنفذها بعض الشرائح النافذة في عهد التغيير.    
 احسب، من جانب ثان، بان القطيعة مع الثقافة الرعوية العمياء، وبخاصة بالنسبة لاصحاب الجملة القومية، لم تبدأ بعد،  خصوصا بعد ان انضمت الى هذه الثقافة شرائح صحراوية جديدو قذف بها التخلف والعصبية والواحدية الى قلب معادلات السياسة والصراع.. وهي علة مرت من فوق وعي الكثيرين.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"اللذة تزول والاثام تبقى".
فلاطون    
 

287
توصيف دقيق لما يجري

عبد المنعم الاعسم
احسب اننا زودنا علم السياسة بفصل مثير عن القدرة الفذة على تبرئة النفس من خطيئة نرتكبها في وضح النهار، فنلفّ وندور حول انفسنا وحول الضحايا الذين يتساقطون يوميا بسلاحنا، فنحمل جنائزهم على اكتافنا الى المقابر، ثم من هناك، نعلن براءتنا مما يجري، ومن هذا الدم المراق، على الرغم من ان بصمات الجريمة بائنة على ثيابنا، بل ونحمـّل بعضنا البعض المسؤولية عن هذا الاستعصاء الذي يجر البلاد الى الهاوية، في لعبة سمجة، يتتبع العالم فصولها في القليل من الشفقة وفي الكثير من الاستغراب.
 انظروا الى حرب الوثائق المزعومة التي نخوضها ضد بعضنا. لم يعد العالم يعرف ايا منها الصحيحة واي منها المزورة، وبين كل وثيقتين نعلنهما للرأي العام وعلى واجهات الشاشات الملونة تسقط قطرة حياء من جباهنا الى مجرى الصرف الصحي. نكتب التعهدات لبعضنا باليمين، ثم نمحوها باليسار، وكأن السياسي منا قد انشطر الى عدد غير متناه من الوحدات السياسية الغامضة، تنفي بعضها البعض، وتتضارب هذه مع تلك، ثم انظروا الى كومة بيانات النفي وعبارات “لا صحة له” او “فُهم خطأ” او “جرى تحريف الكلام” ضمن توترات كان فرويد على حق حين اعاد مثيلاتها الى علل جنسية.
 ثم تعالوا الى فذلكة غريبة ومضحكة انتجناها باقل ما يمكن من المهارة وباكثر ما يمكن من الاستهبال، وقد بقيت من دون براءة اختراع إذ نطالع على مدار الساعة هذه العبارة: “صرح مصدر مقرب من الزعيم الفلاني لم يرغب ان يذكر اسمه” وقبل ان نسأل: ليش ما يذكر اسمه؟ وممن يخاف صاحبنا؟ وما العبرة من ذلك؟ تكاثر المعقبون على الاحداث ممن لايرغبون الاعلان عن اسمائهم، وتوزعوا على جميع الزعماء والمنابر، ثم نكتشف ان السبب بسيط، بل وابسط مما يُعتقد، وهو ان صاحب التعقيب يلفق معلومة او تهمة او رسالة تتضمن حشوة مغشوشة تستهدف التشويش على المتسابق الاخر الى منصب رئاسة الوزراء، والاخير، بدوره، سرعان ما يرد على غريمه بتصريح رنان لـ”مصدر لم يذكر هويته” وحين نتهجأه نرتعب مما يحمله من الالغام والتهديدات ولغة التجييش، وهكذا يمتلئ الميدان بالجثث والضجيج واعمدة الدخان والاكاذيب.
 الكل يريد منا، نحن الضحايا، شهادة ببراءته مما يحدث، ونحن لانملك، في الواقع، حق التبرئة، لاننا انفسنا لسنا ابرياء تماما مما يجري، والكل يريد منا ان نأمن جانبه، ونحن فقدنا الكفاءة في هذا الامتحان، لاننا لم نعد نأتمن على حياتنا ولقمة عيشنا.
 والمهزلة تتمثل في اننا امسينا حقل تجارب يَختبر فيه المتصارعون ذرائعهم، فيما امسوا هم  ساحة  نختبر فيها مصداقيتهم، وبين الذرائع والمصداقية استطعنا، نحن وهم، ان نكذب على العالم باننا اخترعنا يوما علم الحساب وسبقنا البشرية الى الابجدية..تصفيق.
  “لا تقولوا لي متى ينفد النفط، خبروني متى ينفد الصبر؟”.
         الماغوط
ــــــــــــــــــــــــــــ

288
ماذا تبقى من العملية السياسية؟


عبد المنعم الاعسم

اذا كانت العملية السياسية في العراق هي مجموعة التوافقات، وشراكة في المصير، بين فرقاء العمل السياسي الذين تصدروا عهد ما بعد الدكتاتورية، فان ما يحدث من تجاذبات وصراعات على خلفية تشكيل الحكومة هو، بكل بساطة، نقيض للعملية السياسية، وتخلٍ صارخ عن فروضها.
بعد هذا، فان العملية السياسية في العراق اكبر من حالة توافق بين خيارات سياسية متضاربة ومصالح متنافرة وزعامات لا ثقة مع بعضها، وذلك حين قضت هذه العملية، طوال سبع سنوات، بتشييد هياكل تنفيذية وتشريعية وسياسية للدولة العراقية الجديدة التي يراد لها ان تكون دولة دستورية ديمقراطية اتحادية، ومن هذا التوصيف وحقائقه الجارية الآن على الارض ينشق السؤال المدوّي عما تبقى  من العملية السياسية، حقا؟.
فالهيكل الحكومي كف منذ زمن بعيد ان يكون اطارا للتوافق او الشراكة المصيرية وانتهى الى ما يشبه فارس لايظهر منه إلا رمحه، او ما يشبه الجزر المستقلة عن بعضها، وفي كل الاحوال، فقد اغترب هذا الهيكل عن لوازم الشراكة في ادارة الشؤون الخطيرة ذات العلاقة بحياة الملايين، والشراكة في المسؤولية عما يرتكب من خطايا ومفاسد وتقصيرات.
اما البرلمان الذي يحتل (وهكذا يفترض) موقع الضابط والضامن والوعاء للعملية السياسية فقد ساهم، كما هو معروف، في تعطيل التشريعات وعملية التحديث في نقطة حرجة، كادت، في كل مرة، ان تطيح بالعملية السياسية وتعرض البلد الى مخاطر الحرب الاهلية، وبكلمة، فقد وضع برلمان انتخابات 2005 اكثر من عصا غليظة في عجلات العملية السياسية، ليس في عرقلة خطوات التطبيع والبناء والتهدئة، بل وفي إمراره قوانين وسياسات وصفقات دخلت في اساس قواعد المحاصصة البغيضة بدل قواعد التوافق والشراكة والشفافية.
والغريب في مآل الاحداث يتمثل في ان الدستور بدلا من ان يكون مفتاحا لحل العقد والخلافات الناشئة بين الكيانات والكتل والزعامات فانه تحول بحد ذاته الى لغم تحت عجلة العملية السياسية بين مَن يمزق علنا احكامه والتزاماته واستحقاقاته، وبين من يتعامل معه باتقاء فئوي او طائفي، يقبل هذا النص لأنه يتوافق مع مصالحه ويرفض ذلك النص لانه مكلف بالنسبة له، وفي نهاية الامر، لم يعد الدستور مرجعية يمكن ان يحتكم بها المختلفون، كما لم يعد رادعا للذين يحضون على العنف والفلتان والعودة الى الدكتاتورية ولغة الحروب والاستئصال، مما نتابعه على مدار الساعة.
باختصار، فان ما تبقى من العملية السياسية الاطار الزاهي للصورة.. صورة الشراكة المصيرية، وثمة من اصحاب العملية السياسية من يتضايق حتى من هذا الاطار.
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
 "عندما يركض ابطالي جيدا، القي في افواههم قطعة سكر".
وليم فولكنر

289
 

أم عامر ونحن ايضا:
“ملـّينه”

عبدالمنعم الاعسم

من على شاشة فضائية الفيحاء تظهر “ام عامر” يوميا، إعلانا عن تحقيق تلفزيوني يتناول مكابدات المواطنين، وهي تطلق شكوى مدوية تفرّ من روحها المكلومة بعنوان “مليـّنه” تكررها بين جملة واخرى، واحيانا تتوقف قليلا وكأنها تنتظر مسموع كلامها الوجيز على المشاهدين، بل انها (احيانا) تخاطب ضمائر مسؤولين ميتة، واحيانا اخرى تخاطب الله شاهدا على هذا الذي يحصل لها ولغيرها من المهمشين  والفقراء والنساء الارامل على يد اصحاب الـ (ok) الكبار وفضلاتهم في مرافق الدولة واقنية العيش والطبابات ومكاتب الحصة التموينية، ثم تبكي وهي تكرر.. ملـّينه.. والله ملـّينه، وفي ضمن ذلك اشارة الى الدوامة السياسية الناشئة عن كوميديا تشكيل الوزارة لستة شهور عجاف.
ام عامر امرأة من البصرة، سقط الخوف من قلبها، وتماهت السلطة في محنتها، فهي لا تملك ما تخاف عليه، والحق انها لا تملك شيئا لما تبقى من حياتها، بعد ان فقدت زوجها وقضت شهورا مديدة في المطاردة المضنية لامراضها وتدبيرات معيشة الايتام ولمعاملة تقاعد الزوج، وتلوح بالوريقات و”الراتشيتات” التي تحملها من دائرة الى اخرى، ومن مشفى الى آخر، وتحمل على ظهرها كومة من الـ ok يات المهينة والاستهلاكية من هذا المسؤول او الموظف او المرجع، ولا تخشى ان تخبرنا، بالصوت والصورة، ان الغلاء يطحن الفقراء، وان الجبابرة يسرقون قوت الشعب، واخذونا رهائن  لاحتياجاتنا المعيشية غدرا.
لا احد يعرف من اين جاءت ام عامر بهذه الشكيمة المنيعة وبمعزّة الحياة الكريمة، وبالقدرة على النفاذ من الشاشة الملونة الى الضمائر، ومن منحدرات الاحوال الى الاسئلة. اغلب الظن انها   لم تفكر طويلا، وكانت تلقائية في التعبير عن صراخها الدفين لكي  تلخص هذا الاحتجاج بكلمات مكثفة، مرة  في صيغة تقرير “ يوميّة يجينا واحد ok” ومرة اخرى في صيغة سؤال مدوٍ بليغ ومُلغـّز: “هيّه ولية غـُمّان يو زينين؟” بمعناها الفصيح: هل هي قبضة جبناء ام فرسان؟ ومرة ثالثة بصيغة المدافع الباسل عن حقه في الحياة “نريد نفرح نريد نـْعـيش”.
هتاف ام عامر النبيل “ملـّينه” هو مشروع الاحتجاج السلمي النزيه للملايين التي تدوسها يوميا  عجلات العوز والمهانة، لكنه مكتوب، لا في قاعات الفنادق والعواصم وغرف البالتوك، بل في منازل الطين والصفيح والتجاوز، إذ يفتقد السكان المنسيون هناك الكهرباء وماء الشرب والمدارس والطبابات، وتفتقد حياتهم ملازم المدنية واحقر شروطها. مشروع غير صالح لاناقة الجمل الرنانة عن المستقبل وخطط الانماء والتعمير، فان الحاضر يسدّ منافذ الضوء على الكائنات النبيلة التي قذفت بها الانواء الى هذه الاقدار، كما لا يصلح لتبرير النهب وتطييب خواطر النهابين.
ملـّينه ام عامر يمكن ان تتحول الى حركة.. وكل اقدار التاريخ المشرقة، والبديلة، بدأت حين كف الناس عن ان يتحملوا المزيد من الذل.
لنعلن جميعا: ملـّينه.
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"حتى متى لا نرى عدلا نسرّبه
                 ولا نرى لولاة الحق اعوانا؟"
                   مسلم بن يزيد العلوي



 

 


290

بلير في كتابه..
توطئة

عبدالمنعم الاعسم
 
قليلون يعرفون لماذا ذهب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بنفسه الى مدينة دبلن في ايرلندا  لكي يوقع على كتابه(رحلة) المثير للجدل، إذْ استـُقبل بمائتين من الشباب الغاضبين، المناهضين لحرب العراق والمطالبين بمحاكمته لمسؤوليته عن مقتل179 جنديا بريطانيا في غضون ست سنوات من تلك الحرب، ومقتل وتشريد عراقيين، وقد رشقته بعض عائلات الضحايا بالحجارة والبيض الفاسد والقناني البلاستيكية الفارغة فيما كان يبتسم، وهو يردد،  "انه لامر طبيعي ان يعبر بعض الناس عن معارضتهم لتلك الحرب..ومع ذلك، كان من الضروري إزالة دكتاتورية صدام".
اما سبب اصرار بلير على ان يطلق كتابه الى المكتبات والقراء من عاصمة ايرلندا المعروفة بعدائها لحرب العراق وسياسة الولايات المتحدة ونهج بلير  فيعود بالمقام الاول الى مكونات شخصية رئيس الوزراء السابق “الاقتحامية” التي لا تعرف الاستسلام، وشغفه دائما في مواجهة منتقديه وخصومه في عقر دارهم، وموهبته في إحداث الصدمات والإنشقاق في صفوف الطبقة السياسية البريطانية، ولم يكن ليتراجع عن قناعته مع كل الضغوط التي تعرض لها حتى من مندوبه الشخصي الى العراق الدبلوماسي غرينستوك الذي حمل له “صورة قاتمة” عما جري في العراق غداة اطاحة صدام حسين.
ويقول معلقون بريطانيون ان بلير، بالرغم من الاخطاء السياسية التي ارتكبها، واعترافه ببعضها في كتابه المثير، فانه اثار اعجاب “وطنيين بريطانيين عريقين” يعتقدون انه “سيُنصّب بطلا تاريخيا يوما ما” على غرار ونستون تشرتشل وذلك بعد ان يستتب الوضع في العراق، ونقل برنامج للبي بي سي عن احد المعلقين البريطانيين من مدرسة لندن الدبلوماسية قوله “نعم، لا استبعد ذلك، فالتاريخ يقول إن في كل مائة عام يولد في بريطانيا بطل" ويشير المعلق الى ان المؤرخ البريطاني جفري بست كشف عن سيرة تشرتشل المليئة بالتناقضات في مرحلة تاريخية نادرة “وهكذا هم الابطال” ويعتقد معلق آخر ان بريطانيا الحديثة بحاجة الى بطل تاريخي إذ اخفقت السيدة الحديدية مارغريت تاتشر في ان تحمل هذا اللقب “بطل اسمه على كل لسان” ويشار هنا الى تداعيات تركتها  اكثر المسرحيات شعبية في تاريخ المسرح البريطاني الحديث عنوانها "البطل ينهض" لجون آردن حيث  تسأل شخصيتها المتمردة “ولسون”:
ذا كنتم جاهلين من أنا... عليكم ان تشعروا بالعار".
في غضون ذلك لم يدخر مناهضو بلير صفة سلبية إلا واطلقوها عليه بمناسبة صدور كتابه المكرس ليوميات حرب العراق، وبرع رسامو الكارتير في الصحف البريطانية الكبرى في توليف تشكيلات ايحائية قاسية عن “صفاقة” رئيس الوزراء السابق وهو يكفكف دموعه على ضحايا تلك الحرب التي ما يزال يدافع بحمية لافتة عن مبرراتها، وذهب الكاتب سايمون جنكيز الى تبسيط الامر بتحشيد ارقام الضحايا الذين تساقطوا في العراق حول رقبة توني بلير، اما اندرو راونسلي فقد شيّع حزب العمال البريطاني الى مثواه الاخير بكتاب مكرس لحرب العراق بعنوان “نهاية حزب” وذلك وسط غليان من الغضب الذي تثيره الجماعات العمالية واليسارية والعاطلين عن العمل ومنظمات المهاجرين المتحدرين من العالم الاسلامي حيال الكتاب، وبخاصة إعلان بلير أنه سيقدم المبلغ المسبق الذي دفع له لنشر المذكرات، والذي يبلغ حوالي تسعة ملايين دولار امريكي، وكل الأرباح التي سيجنيها من الكتاب، لفيلق في الجيش البريطاني يعنى بالجنود المصابين، وقد خاطب معارضيه بالقول: ”هل تعتقدون فعلا أنني لا آبه، ولا أشعر، ولا أندم بكل قطرة من كياني لخسارة أولئك الذين ماتوا؟.”.
بلير، باختصار، اغلق معركة العراق، وفتح معركته الشخصية مع التاريخ.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد
“ لا يشكل الأسد الشبعان أي خطر”.
 برنارد شو






291
إثنا عشر (لماذا) بالمناسبة

عبد المنعم الاعسم
 
حسْم الترشيح لمنصب رئاسة الوزراء في الائتلاف الوطني لعادل عبد المهدي خطوة في الاتجاه السليم مؤجلة منذ اكثر من ستة أشهر.. خطوة واحدة من بين خطوات عديدة منتظرة ربما اكثر تعقيدا وسجالا، وخذ وهات، ووقت مهدور، واعمال تفجير ، وبرك دماء، وشلل عام، غير انها ازاحت الستار عن حزمة من الاسئلة النائمة تدافعت فجأة الى واجهة المسرح مسبوقة بـ”هل” الخاصة بالاستفهام الذي هو “طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل” بحسب النحويين، أو بحسب السيوطي ايضا :” استفهام إنكار، والإِنكار نفي  دخل على النفي، ونفيُ النفي إثبات” كقوله في سورة الانعام (148) “هَلْ عِنـْدكمْ مِنْ عِلْمٍ فَتـُخْرِجُوهُ لنا”.
اقول الاستفهام بـ”هل” يخلط الاستدراكات بالمخاوف، فان ثمن خطوة واحدة تتعلق بحسم ترشيح كتلة واحدة لرئاسة الحكومة من ثلاث كتل تتنافس على المنصب كان باهضا بكل المقاييس، وما كان له ان يستمر كل هذا الوقت، وتترتب عليه كل تلك الكوارث، لو احتكم فرقاء الازمة الى مبدأ التنازلات المتبادلة و”تغليب مصلحة البلاد على المصالح الذاتية”كما لاحظ نائب الرئيس الامريكي جو بايدن خلال زيارته الاخيرة الى العراق.
فـ”هل” سيختصر طرفا التحالف الوطني الوقت باختيار مرشح واحد لهما، ام اننا مقبلون على دوامة جديدة من التجاذبات ؟.
وقبل هذا ”هل” ستوضع آليات المفاضلة بين نوري المالكي وعادل عبدالمهدي في غضون ايام قليلة، ام انها ستأكل الوقت المتبقي من التوقيتات الدستورية؟.
وهل سيجري التنافس على سطح الصراحة والتزام الوعود وبشأن برامج وتوجهات سياسية، ام سيجري ذلك التنافس في كواليس ودهاليز واجواء مخاشنات وروايات اعلامية وتسريبات واعمدة دخان؟.
وهل ستتدخل في عملية المفاضلة بين المرشحين قوى من خارج المشهد، ومن خارج الحدود، للتأثير في مناسيب الحظوظ، او للتشويش عليها، ام ان الفرقاء المتنافسين سيغلقون هذا الباب الذي “تأتيك منه الريح” دائما؟.
وهل سيقبل الطرف الثالث”القائمة العراقية” مبدأ التنافس، او التوافق، في عملية اختيار منصب رئاسة الوزراء وهيكلية حكومة الشراكة ووضع هذا الملف على طاولة البحث دون شروط مسبقة، ام انه سيتمترس عند الخط الاول الذي وقف فيه منذ ستة اشهر؟. 
وهل ستبقى الكيانات المتنافسة على المنصب في حال تماسك كما كانت عليه غداة اعلان نتائج الانتخابات، ام ان الريح ستعصف بالاوتاد والخيام معا؟.
وهل سيبادر النواب المنتخبون  الى عبور التردد فيحضرون جلسة مجلس النواب ويجبرون الساسة على التعجيل بطي صفحات الازمة، ام انهم سيبقون قرارهم رهن ساستهم الى الابد؟.
وهل سيعود الحديث الى مرشح تسوية بعد ان يتعذر حسم المفاضلة في التحالف الوطني، ويتعذر تنازل العراقية عن “حق” تشكيل الحكومة حصرا، ام يجري البحث عن خيارات اخرى تعيد المشهد الى نقطة الصفر؟.
وهل ستمضي خطوات انسحاب القوات الامريكية من العراق في جميع الظروف، حتى مع تأخر تشكيل الحكومة الى شهور اخرى، ام ان الانسحاب سيأخذ ايقاعات ابطأ، وقد يتأخر لفترة اضافية بحسب رغبة الطرفين، العراقي والامريكي؟.
وهل ستكتفي الامم المتحدة، في حال استعصاء تشكيل الحكومة بتقديم النصيحة تلو النصيحة، ام انها ستضطر الى اتخاذ قرار استراتيجي لاحتواء الموقف؟.
وهل ستبقى دول الجوار تتفرج على فصول الازمة “المسلية” وتكتفي بارسال خيوط الحرير من وراء الحدود، ام انها ستضطر الى إظهار ميولها علنا الى هذا الطرف او ذاك؟.
وهل سيترجم اصحاب الازمة وعودهم باعتماد الشفافية والديمقراطية في السباق الى منصب رئيس الوزراء موضع التطبيق، ام ان كلام الليل يمحوه النهار؟.
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“الهي.. هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي..“.
                        الحلاج


 

292
نداء الرئيس..
لا تقربوا الفتنة

عبدالمنعم الاعسم

نداء الرئيس جلال طالباني الى فرقاء الازمة الوزارية والاعلام العراقي بوجوب الحذر من نتائج خروج الحوارات السياسية عن انضباط المسؤولية الى التصعيد الكلامي المصحوب بالتجريح والتوتير وتبادل الاتهامات ينطلق من مرصد معاينة الخطر الداهم بالعملية السياسية وبمستقبل العراق كله، وذلك في عبارات تفيض بمشاعر واشارات القلق، تعبيرا عن قلق الملايين العراقية المشروع حيال هذا المنحدر، إذ يجري الاستخدام المتعسف لاجواء الحرية والتعددية على نطاق واسع.
وليس من باب تطييب الخواطر أو المجاملات ان يذكـّر مام جلال في ندائه المسؤول بقواعد الحوار الاخوي بين الشركاء في المصير، وباحترام ارادة الناخبين وكل العراقيين الخارجين توا “من اغلال الاستبداد والقهر الفكري والواحدية الحزبية” وحقوقهم على النواب الذين انتخبوهم الى البرلمان، بان لايقفوا متفرجين على هذا المشهد، وان يتحركوا في الاتجاه الذي اقسموا اليمين على المضي فيه: خدمة المواطن وتأمين عيشه وامنه ومستقبله “والاتفاق على اسس ومقومات تشكيل هيئات السلطة للسنوات الأربع القادمة”.
وفي سطور التحذير لفت الرئيس طالباني الى الواجب الاكثر الحاحا بالنسبة لفرقاء الازمة بان يتخلوا عن التخاشن واطلاق التهديدات والتصرف بثقة الناخبين الذين تحدوا المصاعب وصبروا على المضايقات،  ودعا السياسيين والاعلاميين “الى تفادي كل ما من شأنه مفاقمة التوتر في البلد، واشاعة مشاعر الجفاء بين أبنائه” والى “ قطع الطريق على المتربصين بالعملية السياسية الجارية، من الإرهابيين وسائر العابثين بأمن البلد، ومنعهم من استغلال ما يحدثه التلكؤ في استكمال الخطوات الدستورية من ثغرات لزعزعة الاستقرار وإشاعة جو البلبلة والفوضى السياسية والحيرة والارتباك” . 
والذين يتأملون لوحة التجاذبات السياسية في البلاد، المليئة بالمؤشرات السلبية، والفجوات الخطيرة لابد انهم يعيدوا قراءة نداء مام جلال الذي سجل تجاوزات مقلقة على حدود وقيم واصول الحوار السياسي بين الفرقاء الذين يفترض بانهم حاربوا الدكتاتورية تحت برنامج التغيير  وتحقيق العدالة واقامة دولة اتحادية ديمقراطية، إذ يلاحظ  “أن الحوارات بين الفرقاء أخذت تخرج أحياناً عن تلك الأطر متعدية إياها إلى التجريح وتبادل الاتهامات”  كما اطلق هتاف الانذار من تضاعيف الملاسنات غير المسؤولة ..” فالكلام الجارح يغدو شرراً في البيئة الساخنة التي تمر بها بلادنا، والاتهامات الباطلة من طرف تستدعي ردوداً قاسية من آخر ما يدخلنا في دوامات صراع غير صحي نحن في غنى عنه”.
لقد تابعت الملايين العراقية فصولا مؤسفة وعبثية من الجدالات الضارة والمناورات غير المشروعة ومحاولات اضاعة الوقت وإهدار الجهود واطلاق المعلومات المشوشة وتسريب الرسائل المثيرة للهلع وقد انتهت جميعا الى ما اسماه مام جلال في ندائه “تعكير اجواء ليست صافية اصلا” الامر الذي يهدد بـ” تقويض أو تعطيل العملية السياسية، أو إيقاف وعرقلة المسيرة التفاوضية، ناهيك عن التحريض على العنف أو أي عمل مناف للدستور”.
لاتقربوا الفتنة.. ذلك هو نداء مام جلال، الذي له ما يبرره.
ــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“بئر الفتن لا قعر له”.       
حكمة

293


بين عهدين.. والمنعكس الشرطي
   
عبدالمنعم الاعسم

 رسالة من كاتب صديق تستحق ان نتمعن فيها، إذ يشير الى  ان كل ما يعانيه العراقيون من خطايا انفلات الامن، وفوضي الادارة، واهتزاز الثقة في المستقبل، المتفرعة عن الازمة السياسية،  لم يكن لينسيهم فظائع النظام السابق، بل ان ثمة حساسية شعبية عفوية إزاء كل ما يذكرهم بذلك النظام من سلوك للنخب السياسية الجديدة ومظاهر إثراء لمحسوبين على العهد الحالي(يشار لهم بالبنان) حتي غدا حكم صدام حسين ــ يضيف الصديق ــ ميزانا لتعيين ما هو صائب وما هو شرير في الحياة الجديدة، علي الرغم من عسف هذا الميزان احيانا في الحساب والمقارنة لتصرفات تتصل بالسلوك البشري الذي يتم رصده في العادة بالتحليل والتأمل وليس بقبان العطار.
 ويضيف القول: “حتى حين نحتج على الانانيات السياسية ونقول عن اصحابها انكم اسوأ من نظام صدام فاننا في واقع الامر نجعل من ذلك النظام نموذجا ومقياسا للانحطاط والتعسف واللاعدالة.
 احسب، تعليقا على ذلك،  ان الامر ذو صلة علمية بما يسمي بالمنعكس اللاشرطي الذي اطلقه العالم البايالوجي الروسي إيفان بافلوف في القرن التاسع عشر ونال عنه جائزة نوبل العام 1904 ويقوم علي رصد تفاعل الانسان، والحيوان أيضا، مع التاثيرات الخارجية المديدة واستمرار هذا التفاعل مع غياب وجود مصادر التأثير واشكالها، وكانت تجارب بافلوف علي الفئران والكلاب في غاية الاهمية حول تحول المنعكس الشرطي (مظالم صدام مثلا) بالتكرار لسنوات طويلة الي منعكس لاشرطي حيث يثير غضب الضحية حالما تبدو له المظالم مرة اخري.
 وكان ابو حامد الغزالي صاحب (تهافت الفلاسفة) قد لاحظ في إحدي بحوثه طغيان (الروح الخيالي) لدي الانسان مستشهدا بالكلب الذي يهرب بعيدا كلما رأي العصا إذا كان يضرب بها في السابق باستمرار، ما يبقي هاجس الالم قائما في اللاشعور حتي مع ابتعاد خطر العقاب.
 وفي انتباهة لرسول حمزاتوف، يقول، ان أبناء قريته في اقاصي داغستان كانوا قد هجروا نبعا من الماء كان قد شهد مذبحة لعشرين من نسائهم، وكان الجيل الثالث من ابنائهم يرتعبون ذعرا كلما مروا بالنبع، وكان كثير منهم يضطرون للمشي يومين بدل ان يسلكوا الطريق عبر النبع مخافة ان يتذكروا بشاعة المجزرة.
 قبل سنوات قليلة قال مراسل اجنبي كان قد التقي العشرات من العراقيين وتحدث اليهم عن مستقبل بلادهم، إن الناس هناك لم يخرجوا بعد من الكوابيس، وهم يتصرفون كما لو انهم في زنزانات.. وكدت أعد هذه الصورة فرطا من المبالغة، لولا ان بافلوف والغزالي وحمزاتوف سبقوا المراسل وصاحبي الكاتب، الى تأويل ما تتركه القسوة في الاعماق.. ومع ذلك فان البعض يقترح على العراقيين العودة الي عهد الكوابيس.
ـــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“الحُسن ما حسّنه العقل، والقبيح ما قبّحه العقل”.
ابن رشد 





294
السياسة في سيارات الاجرة

عبدالمنعم الاعسم

احسب ان الذين يستقلون سيارات النقل الشعبية “الكيّات” او”التاكسي” في بغداد حصرا، قد يفلتون بصعوبة من حديثٍ عابرٍ عما يجري في البلاد من احداث وتجاذبات سياسية، مع قائد الحافلة او مع راكب او مجموعة من الركاب، لكنه لن يفلت من هذا الحديث حين يأخذ مكانه في صدارة تاكسي يقله الى مكان قريب، او بعيد، فيما “سيطرات” الشوارع والمواكب الامنية والحكومية المتناسلة دائما، تتولى اللعب بالوقت، والاعصاب ايضا، فقد تقضي ساعة من الوقت في مشوار يُقطع في عشر دقائق في الظروف الاعتيادية، على سطح مشوي باللاهب والنار، ومن ذا يستطيع إسكات البركان؟.
بالنسبة لكاتب السطور، وربما لغالبية العاملين في الاعلام والصحافة، ممن لا يملكون وسائل نقل خاص، فان سيارات التاكسي واسطة، لي ولهم، للتنقل الآمن، ويحدث للبعض ان يجد في خط من سيارات “الكيّا” مناسبا لميزان الآمان ولميزانية المصروف، وفي كل الاحوال، لا صحة للقول الشائع في الدراسات الاعلامية المعاصرة بان الصحفي او المعلق او المراسل لم يعد بحاجة الى الخروج الى الشارع لاقتفاء المعلومات، لأن الشبكة العنكبوتية، كما يُزعم، تكفلت نقل الشارع الى ما بين يديه وتحت نظره، وهو على طاولة مكتبه.
/اقول، لاصحة لهذا القول، واضيف، في الحالة العراقية بخاصة، فان الشارع البغدادي، بخصوصياته الاجتماعية والسياسية والسايكولوجية، يفيض على مدار الساعة بالمعلومات الغنية والاشارات والالغاز والحقائق والشائعات مما لا يتوفر في مظاريف الكومبيوتر، ولا في برقيات وكالات الانباء، واستطيع، من دون الشعور بالمبالغة او المجازفة، ان اطلق الرأي التالي: ان واحدا من اسباب “سُمْك” جلود اصحاب الازمة السياسية(الوزارية) وتعنتهم وقلة تحسسهم لغليان الرأي العام هو عزلتهم عن الشارع، وتنقلهم في المدينة عبر مواكب مظللة وسط طوق متراص من الحمايات، ولو جرب احدهم ان يستقل واسطة نقل شعبية مرة واحدة، ولو متنكرا لعرف اشياء كثيرة.
/وعندما نتحدث عن الشارع البغدادي ، كمصطلح سياسي شائع للرأي العام وحركة المصالح والافكار وردود الافعال الشعبية، فاننا إزاء نموذج له، ومعبِرٍ عن ادق اتجاهاته، يتمثل في قائد(او رُكاب) سيارات الاجرة، واخص منهم سواق التاكسي، على اختلاف المناشئ والثقافات والظروف التي تقف وراء شخصياتهم، وبالمناسبة، فان الغالبية الساحقة لهذه الشريحة متعلمة، والبعض من افرادها موظفون، او طلاب جامعات، او اصحاب مصالح ومحال تجارية، او عاملون في الشرطة او الجيش، يسعون الى تحسين مدخولاتهم والتغلب على متطلبات المعيشة المتفاقمة.
/قلت لسائق تاكسي، مرة، وقد اخذت مكاني جنبه: اريد الوصول الى وزارة الكهرباء.. قال، من دون مقدمات: “إستاد.. سلملي على الجماعة.. قل لهم.. هولاكو ما سوّا ببغداد مثل ما سوّيتو” وفي مرة اخرى سألت سائق التاكسي لماذا لم يدر جهاز الراديو على نشرة الاخبار، قال: “انهم يكذبون على بعضم، فهل يَصْدِقون معنا؟.
الى ذلك، لم يعد سواق التاكسي جواسيس للسلطة الحاكمة، او مشتبه بتعاونهم مع اجهزتها الامنية، كما كان في السابق، حيث تُروى قصص ووقائع عن فخاخ امنية كان ابطالها سواق تاكسي، ولم يعد الراكب يرتاب، الآن، من سائق التاكسي ويظن به الظنون، بل ان تجربتي الطويلة مع هذه الشريحة الشعبية الكادحة كشفت لي ان سمعة الحكومة ليست طيبة لدى غالبية العاملين في هذا القطاع الحيوي من دورة الحياة اليومية، هذا على الرغم مما يقال(اكرر: يقال) بان فئات سياسية متنفذة صارت تستورد سيارات كثيرة توزعها على “انصار” يترزقون منها ويقومون بواجب الدعاية لأصحاب النعمة.
تنبغي الاشارة الى حالات الجرائم المنظمة واختطاف مواطنين يجري اطلاقهم باموال، او قتلهم لإخفاء الجريمة حيث نفذت بواسطة سيارات الاجرة، ويعتقد ان هذه الحالات تدنت في السنتين الاخيرتين مع الحملة على بؤرة المليشيات والعصابات المنظمة.
الاختناق المروري، شديد الوطأة (ويسمونه: القافل) اكثر ما يثير استياء واعصاب سواق التاكسي. يحدث هذا خلال ساعت الدوام وانتهائه، وقد ينهمرون بسيل من الشتائم على نظام السيطرات الامنية والمرورية، وعلى كل من يرد بخواطرهم (في تلك اللحظات) من اسماء السياسيين والمسؤولين، وفي اهدأ الاحوال، وأكثرها استسلاما، يعبّرون عن سخرية مريرة حيال جدوى وجدية الاجراءات الاحترازية لكبح اعمال العنف والارهاب، والامر ببساطة يخص رزقهم اليومي وضمان معيشة عائلاتهم، عدا عن لوازم السيارة من صيانة وتعمير، فكلما زادت حالات الإقفال المروري تدنـّت مواردهم الى ادنى منسوب لها، وتراهم في حال الافلات من الزحام الخانق يتصرفون بتوتر واضح، فيسابقون الريح ويزاحمون السير ويتجاوزون الاشارات والضوابط، وقد يتسببون، في حالات عديدة، بحوادث مرورية مروعة.
مرة، قال لي سائق تاكسي وهو في ذروة استيائه، إذ توقفَ السير قرب ساحة المسرح الوطني خلال ساعة الظهر اللاهبة، فيما دويّ انفجار وصلنا صوته من مكان قريب: أظنك، أستاذ، قادم من الخارج؟ قلت : نعم، كنتُ في الخارج. قال: اين كنت تعيش؟ قلت: في اوربا؟ قال بخليط من الشفقة والنقد: لا يبدو انك مسؤول او موظف كبير، فما الذي جاء بك، استاذ، الى هذه الفوضى والاخطار والخرافات وانقطاع الكهرباء؟ وهنا حاولت تصريف الحديث بعيدا عن حراجة اللحظة بين عراقيين يعانيان من ضغط مهول على انسانيتهما، ولا يهم من اين تحدرا الى تلك اللحظة المشحونة بالخيبة والتهديد، قلت: نحن الآن سوية في هذه المحنة، ولا مفر من ان ننتظر انتهاء الازدحام. سكت برهة ثم عاد ليقول: لم تجبني، استاذ، عما جاء بك الى هذه المحنة، وانت في مكان آمن ومتمدن؟ فحاولتُ ان استوعب توتره في جواب قد يحوّل الحديث الى مجرى هادئ وصبور، لكني، كما يبدو، اخفقت في مسعاي، إذ كان جوابي ينطوي على نوع من البطر في موقف لا يحتمل مثل هذا الاستفزاز.. قلت له مازحا: جاء بي حب الوطن.
/الفت الرجل الي فجأة وكأنه يراني لازل مرة قائلا: استاذ فوّرت دمي.. ارجوك تِنزل من السيارة.
***
يستطيع اي سياسي، او اي شخص (إعلامي. باحث. مراقب) مهتم بمعرفة اتجاهات ومزاج الرأي العام العراقي، في بغداد مثلا، ان يفتح قلب سائق سيارة التاكسي، ويستطيب خاطره وثقته وانشغاله، ليكون في صورة الاحداث وعلى مقربة، وتماس، من لوعة الملايين وشكاواهم، ومن جانبي، فقد رصدتُ، افكارا ومعلومات واشارات (وحتى تحليلات) ثمينة وخطيرة عما يجري من صراعات بين الزعامات السياسية والكتل، وايضا، عن معاناة وتفكير واحلام شرائح المحرومين والمهمشين والعاطلين عن العمل وضحايا العنف والحروب من الامهات والارامل والاطفال كانت تفرّ تلقائيا من افواه وافئدة سواق تاكسي في شوارع بغداد .
وثمة البعض منهم ممن أفاجأ بانه يعرفني، كمعلق سياسي، لا يتوانى عن القول “انك اخطأت سيدي” في بعض الاراء التي طرحتها عبر الكتابة او الاقنية الاعلامية، وثمة مرة طلب مني سائق تاكسي كان ينقلني الى مكتب احدى الفضائيات في بغداد ان اتوسط له ليقوم عبر الشاشة بتحليل الازمة السياسية الوزارية.. قال “صدقني، سأرفع رأسك” ولم اكن لأشك في ذلك، ولو تم هذا الامر لصاحبي لتكررت، ربما، تكررت حكاية شائعة عن سائق اينشتاين حيث فاجأه قائد سيارته، وهو في الطريق لالقاء محاضرة في احدى الجامعات بالقول “سيدي، اراك مرهقا، فدعني احاضر بالنيابة عنك.. هيئتي تشبه هيئتك، وشعري مثل شعرك، فقط نتبادل القبعات، كما اني اعرف بالضبط ما ستقوله، فقد حفظته جيدا بعدما رافقتك مئات المرات في مئات المحاضرات” وهكذا اقتنع عالم نظرية النسبية بالفكرة، وتقدم السائق الى المنصة وجلس اينشتاين الذي ارتدى قبعة الرجل في الصفوف الخلفية، وسارت المحاضرة على ما يرام إلى أن وقف بروفيسور متنطع وطرح سؤالا من الوزن الثقيل على المحاضر، وهو يحس بأنه سيحرج به أينشتاين، هنا ابتسم السائق المستهبل وقال للبروفيسور: سؤالك هذا ساذج إلى درجة أنني سأكلف سائقي الذي يجلس في الصفوف الخلفية بالرد عليه.
احد السائقين شكا مرة من انقطاع الكهرباء تماما في حي شعبي كامل وطوال ثلاثة ايام، في اسوء ايام الصيف واكثرها حرارة، إذ هب “الشرجي” الحارق على بغداد والعراق كله. قال لي والعرق يتصبب منه: قل لاصحابك. اوقفته عن الكلام معترضا على كلمة “اصحابك”: فما ادراك من انا، ومن هم اصحابي؟” قال “لا تزعل.. انتم القادمون من الخارج اصحاب بعض، او تعرفون بعضكم”.
ملاحظة: سواق سيارات التاكسي يعرفون بفراسة عجيبة العراقيين القادمين من الخارج من سواهم.
ثم استأنف الرجل كلامه بعد ان افحمني بايضاحه: “قل لهم، ليأخذوا النفط والخزينة والوظائف والسلطة والدولة كلها، لا نريد شيئا منها، وليعطونا كهرباء فقط. ان اطفالنا تُشوى وتذوب من الحر، واليوم، الليلة الثالثة مرت علينا لم نعرف خلالها النوم. حرام عليكم يا جماعة”.
في هذا الملف ثمة روايات كثيرة لعب فيها سائق التاكسي دور الضمير، واقدار لا حصر لها قلـَبَها سائقو تاكسي، صعودا الى الذرى او نزولا الى القاع. جيتا كينغزلي كتبت روايتها “سائق الشاحنة الطيب” عن رجل وفي احبه ملايين القراء لشهامته، فيما سائق الاميرة ديانا الفرنسي هنري بول كان متهورا وقاتلا بحسب تقرير اللورد ستيفنسون، اما سائق التاكسي في مسلسل “الاجنحة” الايطالي “انطونيو سكارباسي” فيهمس لزعيم سياسي يقله الى بناية البرلمان: عفوا سيدي، لا ااخذ اجرة من اناس يسيئون استخدام اصواتنا الانتخابية.. فلوسكم حرام”.
ان سواق سيارات التاكسي، في بغداد بخاصة، شريحة اجتماعية محورية، فهي تمتد على جميع القطاعات الدينية والقومية والمذهبية، وعلى جميع التصنيفات الثقافية، وهي تتحدر من منابت مختلفة ومتناقضة، ريفية ومدينية ومهمشة، وحين تسأل اي شغيل في هذا القطاع عن شؤونه وظروف انتمائه الى سياقة سيارة اجرة فانك ستحصل على بيانات متضاربة، وغير ذي نسق، لكنها في جميع الاحوال لن تخفي ما هو مشترك بين الجميع: العوز والقلق الامني، معبّرٌ عنهما باكثر العبارات وضوحا وتدور حول “لقمة العيش والايام القادمة” وهل ثمة مصادر لحرائق العالم وانقلاباته وثوراته غير الخبز والمستقبل؟.
قال لي سائق تاكسي، بعد نجاتنا من تفجير في مدخل شارع الرشيد كنا سنتوجه اليه، لكنا تحولنا عنه (قبل التفجير بدقائق) الى مدخل اخر من ساحة الباب الشرقي: “سلمنا هذه المرة، فما الضمان ان نسلم في المرة المقبلة؟” آنذاك تلقى اتصالا مذعورا من زوجته: “الانفجارات في كل مكان.. اين انت؟ لم ارسل الاولاد الى المدرسة.. تعال .. اليوم لا نريد لقمة الخبز.. وغدا الله كريم”. التفتَ اليّ الرجل فاطلق سؤاله المدوّي.. ”وتاليها؟” ومن جانبي لم اجد جوابا، فهربت منه الى متابعة الفوضى التي حدثت: السيارات والبشر وصافرات سيارات الاسعاف والشرطة. الكل على الارصفة فيما الشوارع تختنق، والشتائم تتطاير الى الجهات الاربع، واعمدة الدخان ترتفع الى سماء مستسلمة تماما لهذا المسلسل من الجرائم المروعة التي تـُرتكب باسم “مقاومة المحتل”. عاد الرجل لإطلاق اسئلته القلقة والمقلقة معا: “هل هي القاعدة وجماعة حزب البعث، حقا؟ ثم كيف تصل سياراتهم المفخخة الى قلب بغداد؟” تركت الرجل يصارع اسئلته، وفضلت قطع هذا الجحيم المروي مشيا على الاقدام، وهذا ما يحدث للكثيرين.
في ذلك اليوم قرأت تصريحا لمدير المرور اللواء جعفر الخفاجي يقول فيه ما يشبه المفارقة المسلية قائلا: ” ان بغداد افضل مدينة بالعالم من حيث قلة الحوادث المرورية” واحسب انه يقصد بان السبب يعود الى بطء حركة السير في الشوارع، وبهذا المعنى فاننا ينبغي ان نصدقه، لكن المعطيات الاخرى تثير شكوكا جدية في هذه المعادلة، فان الغالبية الساحقة من السواق لا يملكون إجازات سوق مهنية، وان شرطة المرور لا تخضع السائق للسؤال عن اجازته حتى في حال مخالفته الفاقعة لقواعد المرور، والامر مرتبط حسب دائرة المرور (تصريح الخفاجي) بمشروع تحديث شبكة المرور واعتماد التقنيات الجديدة و “على أساسه يتم طبع إجازات السوق وطبع أرقام السيارات وطبع السنويات... وسبب تأخر المشروع هو الشركة الأجنبية المنفذة لهذا المشروع”.
/في احدى المرات، توقف سائق التاكسي الذي يقلني من مدينة الكاظمية الى الكرادة، عند منزل في الطريق فخرج منه صبي، احسب انه لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر، نزل السائق، وترك المقود للصبي قائلا له “وَصِل عمك للكرادة”. وفي الطريق ابلغني الشاب بانه تعلم السياقة منذ اربع سنوات، وانه يساعد والده في المهنة، احيانا، منذ سنتين.
/قال الصبي، فجأة ”عمي، ليست هناك حكومة.. كلهم منشغلين بـ...” وسكتَ ملتفتاً اليّ، والى حقيبتي، باحترام جم.
اظن ان الصبي اعتقد باني واحد من اولئك السياسيين المنشغلين عن الناس بـ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

295
نداء لجنة دعم الديمقراطية (لندن)
ليتوقف الصراع على السلطة..و لنبحث عن خيارات  بديلة 
                     
مر أكثر من خمسة أشهر على الأنتخابات النيابية في العراق و فشلت القوائم الفائزة في التوصل الى تسمية رئيس الوزراء المقبل ليكلف بتشكيل وزارته ، ولا يتوقع أن ينجح الفرقاء في التوصل الى حل أو صفقة في غضون الاسابيع المقبلة . أنها أزمة حقيقية مدمرة قد تسحق ما تبقى من الدولة العراقية .
أن هذه الأزمة ليست أزمة وزارية مجردة بل هي جزء من أزمات يمر بها العراق منذ أسقاط النظام الدكتاتوري السابق على أيدي قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الى يومنا هذا والمتمثلة في أزمة الأمن ، التنمية ، الفساد ، الخدمات من ماء و كهرباء وصحة ، ، كذلك أزمة التعليم والثقافة و غيرها.
والسبب الرئيسي الذاتي لهذه الأزمات في رأينا ، عدم أستيعاب فئات المعارضة السابقة التي نصبت لقيادة مرحلة ما بعد الاطاحة بالدكتاتورية لموجبات بناء دولة مدنية دستورية عصرية، و دخولها في صراعات مفتعلة فئوية و طائفية عبثية ، ثم ما نتج عن مرحلة مجلس الحكم من تخبطات و قرارات و اجراءات أعتباطية زادت في تعميق الأزمة، هذا بالاضافة الى الاثار السلبية والخطيرة للتدخل الاقليمي، متعدد الاشكال، في الشأن العراقي .
لقد تم اهمال العامل الأساسي في بناء العراق ألا وهو دولة المواطنة والهوية العراقية وحلت محله مقولة المكونات وتقسيم العراقيين حسب أنتمائاتهم الدينية والمذهبية والقومية ومن ثم أعتماد قواعد المحاصصة لمن يدعي تمثيل هذه المكونات لتقاسم امتيازات السلطة وما تجلبه من نفوذ و أموال ، وأهملت حقوق المواطن وضاعت محاسبة المسؤولين الفاشلين لانهم يتبعون هذا الطرف أو ذاك .
في ظل هذه المعادلة المشوهة جرى وضع دستور بشكل مستعجل  ليأتي متناقضا و عاجزا عن التعامل مع متطلبات الحياة بأعتباره عقدا بين العراقيين، فأغفل صياغة مفهوم الدولة المنشودة وعجز مجلس النواب عن سن القوانين التي حدد الدستور الحاجة لها ومن أبرزها الفشل في تشكيل المحكمة الأتحادية العليا .
وكوننا جزء من شعبنا نشعر معه أن القيادات السياسية المتنفذة والمتحكمة بمستقبل العراق تتخلى عن ألأمانة التي اودعها أهل العراق بها عندما وضعوا البطاقات ألأنتخابية في صندوق ألأنتخابات واعتقدوا أن من يمثلهم سوف يحقق لهم الحياة الحرة كريمة ، ولكن تلكم القيادات فشلت حتى هذا اليوم في الأتفاق على رئيس جمهورية ورئيس وزراء ورئيس للبرلمان مما وفر الفرصة للعمليات الارهابية المجرمة وشجعها على أن تتضاعف حيث تجرأ الأرهابيون على رفع أعلامهم في شوارع بغداد .
أن الصراع بين قيادات الكتل الفائزة لا ينطلق من خلاف على برامج مستقبلية للعراق بل من هوس السلطة والرغبة بالاستئثار بدفة الحكم ، وسيكون هذا مؤكدا حتى تثبت الزعامات السياسية المتصارعة عكس ذلك،وحتى تتنافس على الخدمة للمواطن وتوفير فرص العمل للعاطلين وتأمين الحياة الكريمة للملايين المهمشة .
أننا نحضّ كل القوى الخيرة على التنسيق بين أطرافها سواء كانت أحزابا سياسية أو منظمات مجتمع مدني أو شخصيات أجتماعية، وندعوها الى القيام بحملة احتجاج واسعة ضد استمرار الأزمة، ، كما ندعو قوى الديمقراطية، بفئاتها وشخصياتها و جماهيرها الى البحث في تفعيل دورها ومكانتها في المعادلات السياسية الجارية من أجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية ، ويبقى الأمل في شعب العراق .

لجنة دعم الديمقراطية في العراق
لندن 21/8/2010


296

  آه.. ايتها الفروسية

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

من دون لف أو دوران، فقد جاء اوان القول الفصيح في الازمة السياسية التي تحولت الى دوامة، وسحبت المجتمع كله الى صدمة، بان الحل لايزال بيد اصحاب الازمة، وبمعنى ما، لايصلح هذا الحل ان يجري التبرع به الى الآخرين من خارج الساحة العراقية، وهو ليس فزورة يتسلى بها صبيان قبل الخلود الى النوم، ولم يعد (كما ظن البعض) صفقة تجارية يجري التخطيط لها في غرف موصدة.. انه قرار شجاع يتخذه شخص مؤثر، او مجموعة من الاشخاص المؤثرين لجهة اختصار الصراع الى تسوية تاريخية مشرفة، يكتفي فيها رئيس الحكومة بمجد التكليف المشروط، وينال فيها منافسوه وسام التنازل الشجاع.
والحل بحاجة الى فروسية ترقى فوق الخوف، وتنأى عن الغدر، وتستعد للتضحية، ولا يأخذها في الحق لومة لائم، وتقول الحقيقة بملء الفم المليان، حتى على نفسها، بل وعلى نفسها في المقام الاول. 
ومن غير هذا فان شوطنا الى الاستقرار وراحة البال عسيرا متواصلا، وباهض التكاليف، ونزيفنا متصلا، وستتناسل محننا عن محن، وسيبقى دارنا الطاهر مسكونا بالنحس، ومرابعنا موبوءة بعوارض العنف وسرطانات الشر، وحدودنا مفتوحة للتهريب والغارات والقرصنة، وممتلكاتنا عرضة للنهب والتعدي، وحواضرنا ساحات للفواجع والحروب، فهي، جميعا، من بعض الاستحقاقات المعلقة في رقابنا من عهد قديم منحل، وعهد جديد معتل، ففي غضون ثلاثة عقود من الزمن قام ذلك العهد الشيطاني باختزال حاضرنا الى بضعة سطور كهنوتية فوق اكاذيب عن معارك “شرف” جاءتنا بطوابير التوابيت والمقابر والارامل والكوابيس، وتولى ذلك العهد تهريب تاريخنا وماء وجهنا الى اسواق العالم الخلفية مقابل كلمات اعجاب متسخة بالرشى.
والحال، إذن، كما تقول امثالنا: الفاس بالراس، وكما تقول امهاتنا: تدبغت جلودنا.. أو كما يقول المتنبي العظيم:
فصرتُ إذا اصابتني سهام..... تكسرتْ النبالُ على النبال
وهانَ فما ابالي بالرزايا   ...... لأني ما انتفعت بان ابالي
على اصحاب الازمة اختصار الدوامة كما اختصرها ذلك الشيخ في الحكاية القديمة، إذ توقف طويلا تحت ميزاب كان يقطر ماء متسخا فاخذته الحيرة وطاله الوسواس ما إذا كان قد طاله نثار النجس ام لا، حتى إذا اشتدت به الحيرة، واستطالت به المعاناة تقدم ووقف تحت سيل الماء المتسخ، وهو يقول: الآن اصبح الشك يقينا.
اختصار المعاناة يحتاج الى لاعبين يتصفون بالفروسية.. حقا.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“العصفور يحتاج إلى عش، والأسد إلى غابة.. والحائر الى قرار”.
حكيم

 

297
المنبر الحر / سجالات.. أم تناطح
« في: 11:31 16/08/2010  »
سجالات.. أم  تناطح

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

اذا كان للأزمة السياسية المستعصية من فضيلة (الى جانب خطاياها واخطارها) فيمكن ان نجدها في هذا السطح من الجدل الساخن الذي يتخذ من مصطلح (إختلاف الرأي) عنوانا له، وظهور ملامح (ربما لم تنضج بعد) للصراحة والخبرة فضلا عن المناورة وجس النبض والحيلة ومحاولات الاقناع او الايهام، وكلها من لوازم الاختلاف في التصورات.
ان اختلاف الرأي بين الناس دالة على الصحة والتوازن، وغيابه مؤشر لاعتلال في الصحة ولاختلال في التوازن، ويتبدى بيان ذلك في ما يسميه التراثيون: الرد والبدل، أو ما يسميه الحداثيون بالرأي والرأي الآخر، على أن هذا وذاك يجري بين عقلاء يتبارون بالحجة، ويتنافسون بالبرهان، ولا يخرجون الى الطعون العشوائية بنزاهة بعضهم أو التجريح الكيفي بأعراض مخالفيهم، كما لا يتوسلون بأداة من خارج الحلبة، ولا بواقعة من موضع الخيال، وهذا بالتحديد ما يفرّق العالـِم الرصين عن الجاهل العقيم.
وتشاء حالات التجاوز على المقامات والاسماء، هنا وهناك، ان تعكر نهر الجدل وتجرح حياء اللغة باللجوء الى المهاترات بدل الحجة، وبإهانة قيم التسامح والترخيص بدل احترامهما، لغرض تصفية الحسابات أو للحصول على مقعد في الواجهة.
غير ان قيم العصر والمدنية حذرت من الانجرار الى “مهبط السفاهة” كما أسماه الراغب الاصبهاني في كتابه (محاضرات الادباء) لان مجارات السفه ضارة بأصحاب الحق البائن، مؤذية لذوي الرأي الثاقب، وقد روى لنا الاصبهاني نفسه ان سفيها شتم حليما، والحليم ساكت، فقال للحليم : إياك أعني، فرد الحليم: وعنك أعرض. وقال متجادل جاهل للاحنف الحكيم، متحاملا: إن قلتَ واحدة لتسمعن عشرة، فرد الحكيم: لكنك إن قلتَ عشرة لن تسمع واحدة.
وقد نصحنا أبو حيان التوحيدي بالقول: معاناة الضر والبؤس أولى من مقاساة الجهال. أما المتنبي الكبير فقد قال بهذا الصدد عن التعفف في التعامل مع الجهلاء:
واحلم عن خلي، واعلم أنني.................
                                             متى أجزه حلما عن الجهل يندم
وكان عالم بغداد موهوب الجواليقي، كما يكتب عنه ياقوت “طويل الصمت لا يرد إلا بعد التحقيق” وليس في ذلك عجب، فان السجالات والمناظرات لدى القدماء تتلزم بالتأني في الرد وتدفع الى قياس الحجة والسمو على الابتذال، وتشدد على قوة الوسيلة، وتحض على أهلية المرونة لكي يمتلك السجال متانة (القرون) القادرة على التناطح، فان الجدال عند اولئك القدماء نِطاح، والمجادل الحكيم عندهم غزال، والجاهل نعامة، ويستطرد رواتهم الى سرد حكاية موصولة بالموضوع، تقول، ان النعامة كان لها أذنان مثل اذني الغزال، وارادت ان يكون لها قرنان مثل قرنيه، ورأت الغزال يحكّ رأسه بالصخر، فظنت انها إن قلـّدت الغزال وحكـّت رأسها بالصخر نبت لها قرنان مثل قرنيه، فأخذت تحكّ رأسها بالصخر، فانسدّت اذناها، ولم ينبت لها قرن، وعادت (فوق ذلك) بلا إذنين.

ـــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“تعملت منذ زمن ألا أتصارع مع خنزير أبداً، لأنني سأتسخ أولاً، ولأنه سيسعد بذلك”.
برنارد شو






     

298
الجهوزية ..
المعلن والمحذوف


عبدالمنعم الاعسم

الحديث عن جهوزية القوات العسكرية لتحمُّل مسؤولية امن البلاد عقب انتهاء العمليات القتالية (وانسحاب) القوات الامريكية يعيد المشهد الى الخطيئة باهضة التكاليف التي توهمنا اننا تزحزحنا عنها، ولو لشعرة واحدة، وهي، ان كل خطوة نحو بناء الدولة الجديدة ناجزة السيادة، مهما كانت بسيطة او مُجمع ٌ على اهميتها، سرعان ما تثير زوبعة من الجدل والتداخلات والدفوع والريب، ثم تنزلق الى مفردة تآمرية يتقاتل فيها، ومنها، فرقاء الازمة السياسية لتسجيل نقاط لهم، وعلى بعضهم، ثم تكبر بما يزيد عن حجمها، وما يتجاوز مداها، حتى يحسب المراقب ان المشهد السياسي العراقي، الآن، غير مهيئ لانتاج مفردة سليمة واحدة يمكن ان تتوحد حولها الارادات والمواقف والظنون.
والحق، ان كل ما قيل عن ملف الجاهزية العسكرية صحيح في ذاته، فان قطعات الجيش(الفتيّ) المنشغل غالبيته في مهمات قوات امن وشرطة هي(اولا) دون مستوى لوازم الدفاع التقليدية عن بلد يشكل بؤرة توتر اقليمة، ولا يتعاون جيرانه معه في ضبط الحدود وتتهدده اخطار الارهاب والتطاحن الطائفي والخروج على القانون والتدخل الخارجي، وان هذه القوات(ثانيا) بحاجة لما يزيد على عشر سنوات لكي تتكامل هياكلها وشبكة تسليحها وتدريبها لكي تتأهل تماما الى شروط الدفاع والحماية بعناصرها البرية والجوية والبحرية، وانها (ثالثا) تضم ملاكات نزيهة وشجاعة ومتحمسة لبناء جيش جديد اتحادي، الى جانب ملاكات هي عبء عليها.
لكن ثمة استدراك مهم في هذه المعادلة يتمثل في الشكوك بجدية (وايقاع) عملية بناء هذا الجيش من قبل الاطراف المعنية، فان الولايات المتحدة لم تضع، حتى الان، برنامجا جديا أوتوقيتات مُلزمة لتسليح وتاهيل القوات العراقية، ويتحدث الستراتيجيون الامريكان، بالسر والعلن، عن عاملين يحكمان هذا الايقاع البطيء، الاول، علاقة الامر بالتوازن العسكري في الشرق الاوسط على ضوء الصراع العربي الاسرائيلي وتحديات البرنامج النووي الايراني، والثاني، الصراع المستفحل على السلطة في العراق وغموض اتجاهات الاحداث ومصائر وهوية النظام السياسي للعراق المقبل. كما ان بعض القوى الاقليمية تنظر بريبة الى “إحياء” قوة العراق العسكرية والى النيات المعلنة عن كون هذه القوة ستكون سلمية ودفاعية وجزءا من منظومات الامن الاقليمية الايجابية.
والحق، ايضا، بان حسابات الامن الوطني، لا تقتصر، في العصر الجديد، فقط على القدرات العسكرية المجردة وكفاية التسليح والتدريب والتعبئة، وحجم الافراد والملاكات، فان طبيعة النظام السياسي وشكل ادارة الحكم ومستوى تحقق السلام الاهلي واحوال الشعب تشكل عنصرا خطيرا في منظومة الدفاع الوطني، وقد تساعد (إذا ما كانت معافاة) في سد الثغرات والنقص والضعف في الجانب العسكري التقليدي، وفي هذا، لا تنبغي المجازفة، والمغالاة في الاعتقاد بان الحالة السياسية في العراق الجديد تتسم بالعافية، او انها بلغت تخوم التغيير الكامل عما كانت عليه في عهد الدكتاتورية حيث كانت الملايين تساق الى محارق الحروب العدوانية (الدفاع) دون ارادتها، فان المشروع الارهابي يجدد نفسه مستعينا بحالة الاضطراب السياسي وتردي الخدمات واحوال الاحباط في الشارع، فيما يتزايد ارتهان فرقاء الازمة السياسية الى خطوط خارجية ومصالح انانية، ويجرّ صراع الزعامات البلاد الى حافة اخطار داهمة.
بكلمة، فان الجهوزية التي تصدرت الجدل هذه الايام مفردة مفتوحة على الملفين العسكري والسياسي، المتلازمان في جميع الحالات، وفي الحالة العراقية على وجه الخصوص، وان اضطراب المواقف والرؤى حيال قضية وطنية حساسة، مثل قضية تأهيل القوات المسلحة العراقية للقيام بواجب الدفاع عن البلاد، يعكس دون مواربة عدم نضج الطبقة السياسية، وربما عدم رغبتها في ان تبلغ سن الرشد، بعد.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــ
“ عندما سقطت التفاحة، الجميع قالوا سقطت التفاحة، إلا واحد، قال: لماذا سقطت؟”.
حكمة فيزيائية

299
المنبر الحر / فيلم كارتون عراقي
« في: 13:33 31/07/2010  »
فيلم كارتون عراقي

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
يستطيع اولئك الذين يبحثون عن موضوعات مثيرة لافلام كارتون مسلية ان يتابعوا فصول الصراع على منصب رئيس الوزراء في العراق، فسيعثرون على كنز ثمين من المفارقات واجواء المتعة والطرائف والمغامرات واضطراب الاقدار والحظوظ وتداخل العناد بالاستفراد بادعاءات القوة والفضيلة الزائفة واستعراض العضلات مما يستهوي الاطفال ويحملهم على الالتصاق إزاء الشاشات الملونة وعيونهم مفتوحة على وسعها.
ويمكن لفيلم الكارتون المقترح هذا، ان يجري مجرى المسلسلات التركية المدبلجة الباذخة من حيث غزارة الدموع وقصر التنانير وفخامة صالات الاستقبال ووجود اكثر من بطل يجلب الشفقة، لكي يتوزع الاطفال المشاهدون عليهم ويصفقوا لاي واحد يكسب جولة في التنافس، كما يمكن لهذا الفيلم ان يحاكي قصص ارسين لوبين من حيث احتشادها بالبطولات الفارغة والصفقات المفضوحة والتحالفات الفاشلة والنداءات الفضفاضة، وكلها في الاخير تقع في حبائل رجل الشرطة الذي لا يقهر، ولا يقلل من شأن هذه الافكار الكبيرة ان تحملها طيور صغيرة مشاكسة او حيوانات منزلية اليفة، فالصغار المولعون بمثل هذه الافلام يحبذون القطط والعصافير والفئران التي تناقش قضايا كبيرة تهم مصائر بني جلدتها.   
ويستطيع المؤلف الحاذق ان يستخدم تأثيرات صوتية من النوع الذي يجيّش عواطف الصغار. طبول. زعيق خفيف. حفيف اشجار. رعد. وذلك  من خلال سيناريو  يأخذ بالاعتبار الابعاد المكانية للحدث، مع مراعاة الحبكة والاقناع واللقطات المقربة “الكلوز” والبناء الدرامي المحكم والخادع، مع الحذر من زج مشاهد الدم والقسوة في ثيمة الفيلم الذي يراد له ان يهيئ الاطفال الى النوم من غير كوابيس.
ويحسن بكاتب السيناريو ان يركز على الهدف الذي تتصارع عليه، وتتسابق نحوه، جحافل القطط والفئران والطيور، وان لا يثقل رؤوس الصغار المشاهدين بالمقولات الفلسفية مثل السيادي والسيادية، او المصطلحات الدستورية مثل الاستحقاق والفراغ، فان مكانة الفلسفة قد تراجعت، وسمعة الدستور قد تردت، وقد يجد بدائل عنها في اغان خفيفة لجوقة من الزرازير  تردد اغنية “تاذيني” بصوت كورالي منعش.     
في احد افلام الكارتون الامريكية كان الهدف هو “جبنة” أخفيت طي سلة ملابس قديمة، فيما يبحث عنها اثنان من القطط كانا يعتزمان العثور عليها ويتسابقان اليها ليستأثران بها، وطوال وقت العرض يقدم مخرج ومؤلف وسيناريست الفيلم مشاهد شيقة، كان آخرها العثور على الجبنة وقد تعفنت.. للاسف.
ــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“- زاوية واحدة من الكون تستطيع إصلاحها ، هي نفسك “.
                 هكسلي


300
المنبر الحر / ولاءات .. ولاءات
« في: 19:22 27/07/2010  »
ولاءات .. ولاءات

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
في التاريخ القديم (لنبتعد عما يجري الآن) ثمة الكثير من الوقائع عن تقلب الولاءات بحسب الظروف وعلى ايقاع انقلاب الاحوال، وبخاصة، في بيئات وحقب شهدت اضطرابات وحروب، فلنقرأ بعض ما كان يحدث آنذاك:
فقد اورد ابو العباس المبرد في كتابه “الكامل في الادب واللغة” حكاية عن مأزق الولاء في خلال حروب الدولة الاموية مع المنشقين عليها، تفيد ان المهلب بن ابي صفرة كان يقود جيش مصعب بن الزبير ضد الخوارج، فحدث مقتل مصعب لصالح عبدالملك بن مروان، لكن الخوارج علموا بالوفاة قبل اصحاب المهلب، فالتقى الطرفان على مشارف ساحة الوغى، فنادى الخوارج خصومهم: ما تقولون في اميركم الزبير؟ فردوا بالقول انه “إمام هدى” وسألوهم: وما تقولون بعبدالملك (عدوّه)؟ فردوا قائلين انه “ضال مضلل”.ثم مرّ يومان، وبلغ مقتل مصعب اصحاب المهلب واستتباب الامر الى عبدالملك، فناداهم الخوارج مرة اخرى: ما تقولون في مصعب؟ “فامسكوا عن الجواب” قالوا: فما تقولون عن عبدالملك؟ فردوا انه “إمام هدى” فردّ عليهم المنادون: “يا عبيد الدنيا، بالامس ضال ومضلل، واليوم إمام هدى؟”.
اما الشاعر الشامي الاصل ابو عمرو كلثوم العتابي فقد كان حائرا في تقرير ولائه بين حكام وولاة لا يعرفون العدالة، ولا يزاولون الحق، وكان في ضيق وفي حاجة، ونقل العلوي في مستطرفه الجديد انه قيل للعتابي يوما: لمَ لا تقصد السلطان فتخدمه، فقال “لأني اراه يعطي واحدا لغير حسنة، ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب، ولست أدري اي الرجلين انا؟”.
اما ابن طباطبا، محمد بن ابراهيم، فقد مل الولاء الى المأمون، وفيما كان يقلب الامر شاهد وهو يسير في احد طرق الكوفة عجوزا تتبع احمال رطب فتلتقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء رث، فسألها عما تصنع بهذا الرطب المتسخ في الرداء البالي، فقالت: اني امرأة ارملة ولي بنات صغيرات، فانا اتتبع هذا (الرطب) من الطريق واتقوته انا وعيالي، فبكى ابن طباطبا بكاء شديدا، وقال “انتِ والله واشباهك تخرجوني غدا (على الولاء) حتى يسفك دمي”.
وثمة افضل تلخيص لمأزق الولاءات ما جاء على لسان شاعر قديم بقوله:
ويوم سمين ويوم هزيــل
                ويوم امرّ من الحنظلة
ويوم ابيت جليس الملوك
                ويوم انام على مزبلــة
 
ـــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ينام عميقا من لا يملك ما يخاف من فقدانه”.
   حكمة



301

عن اية مفاجأة تتحدثون؟

عبد المنعم الاعسم
 
اكبر دليل على ان الازمة السياسية التي تعصف بالبلاد دخلت سوق البورصة من اوسع ابوابه ما يعلن على مدار الساعة بان هناك مفاجأة “قد تقلب الطاولة” على الجميع، فيما يظهر إعلان مواز يؤكد ان ثمة مفاجأة سارة تنتظر العراقيين، وينخرط صوت ثالث في حلبة هذا السباق بالاعلان عن مفاجأة قريبة توقف الدوامة وتنهي حالة الركود والجدل العقيم، وكأن الجميع يدعون العراقيين:  إشعلوا الانوار الحل قادم، او: سكوت.. انها المفاجأة.
طبعا، لا تشكل اية مفاجأة يجري الترويج لها (كما اتوقع) مبعث سرور كبير للملايين العراقية إذا لم تكن ذي صلة بحاجتها الملحة، في المقام الاول، الى التيار الكهربائي في ايام كابوسية  شديدة الحرارة والنحس والضيق، أو الى خطط عاجلة بتوفير فرص عمل للعاطلين وإنصاف الارامل وعائلات ضحايا الارهاب ودورة العنف.
لكن، دعونا نغامر في استباق الاعلان عن تلك المفاجآت المزعومة لنتأمل ماذا ستحمل من عناوين تخص ازمة تشكيل الحكومة، فان المظروف يُقرأ من عنوانه، كما يقال، حيث سيتم، كما يتوقع، تفكيك بعض التحالفات التي ظهر انها غير مبدأية وليست راسخة، وتسويق اصطفافات جديدة من مشتقات قوائم، وقد نجد خصوم الامس يتعانقون بحرارة امام الكاميرات او على الشاشات الملونة، وقد يجري الزج باسماء كانت في المنطقة الرمادية بوصفها البديل عن اسماء اعياها الصراع على منصب رئيس الوزراء، واستنفذت شحنة الدوران حول الوهم.
وقد لا تتعدى المفاجأة محاولة اجهاض سيناريوهات مطروحة، او دعوة لخيار اعادة الانتخابات، او نداء الى العالم بضرورة القيام بواجبه، او اعلان تحميل دولة من الدول مسؤولية الازمة، وربما ستتخذ خطوات واجراءات(اطلاق سراح) من شأنها اعادة هيكلة التحرك الى سيناريو جديد، وقد تعلن صفقة اجهاضية تستهدف مشروع تحالف ناضج.
وقد تحمل بطن المفاجأة هواء فاسدا، او مشروع دوامة منقح .. او رمية كرة خارج الشبكة، او نسمة منعشة مرتدة، او وعودا من مقاس وعود عرقوب، او تحمل توأما أو سفاحا، وقد تذهب تلك المفاجأة مذهب مفاجآت المحال التجارية التي تحترف الغش وهي تعلن للزبائن تنزيلات كبيرة في الاسعار قبل الإغلاق.. بسبب الافلاس.
السنا في سوق للبورصة؟.
ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“اذا قابلت الاساءة بالاساءة فمتى تنتهي الاساءات؟”.
        غاندي


302
المنبر الحر / الكرسي..
« في: 22:54 18/07/2010  »

الكرسي..

عبدالمنعم الاعسم

 للكرسي اربع قوائم، ويقال انها صممت لاول مرة (في قديم الزمان) على هدي ارتكاز الحيوان على اربع، واقدم انواع الكراسي كان من غير مسند “ليسهل الدوران عليه” وسرعان ما اخترعت المساند (اللعنة عليها) لكي تريح مجلس الجالس وتستبقيه اطول وقت.
اللافت، ان قوائم ومساند كراسي القدماء من السلاطين صُممت على هيئة اسود او ذئاب او صقور او ثعالب لتشيع المهابة والخوف لدى الجمهور، وكان البعض من اولئك السلاطين يتمثلون اخلاق وجموح وعنجهية تلك الحيوانات، وبعد تجربة مديدة اكتشف صناع الكراسي حاجة السلطان الى الاسترخاء الى الوراء فاخترعوا “الكرسي الهزاز” الذي يضمن لصاحبه كفاية من الراحة، ولطالما نام السلاطين على تلك الكراسي، وخلدوا الى الراحة عليه من “عناء الحكم” و”قطع الرقاب” وبعضهم كان يصدر قراراته الخطيرة والمصيرية من عليها، وفي عهود لاحقة روّج بعض السلاطين القول ان هذا الكرسي الذي يجلس عليه انما هو “موضع قدم الرحمن”.
اما الكراسي المتنقلة (المتحركة) فقد تطورت كثيرا في هذا العصر حتى ان عالم الفيزياء النظرية ستيفن هوكنج، صار يتنقل على كرسي متحرك مزود بالكهرباء وبكمبيوتر يستخدمه في الكتابة والكلام، لكن، لايظنن احد بان الكراسي المتنقلة هي  من اختراع الثورة الصناعية المتأخرة، فقد وُجدت تلك الكراسي، وبقايا منها، في كهوف كثيرة، وعُرف انها كانت تتنقل (والسلاطين عليها) على اكباش مدربة، او على اكتاف رجال اشداء، بعضهم من الاسرى او السجناء او ممن يراد إذلالهم، وارتبط الكرسي في تلك الحُقب بالطغيان او الجشع او الفتك. 
ارتفاع الكرسي عن الارض، منذ القدم، لايزيد عن متر واحد، ولدواعي كثيرة، صُنعت كراسي لاتنهض عن الارض إلا قليلا، لكن ابن مسعود، تبحّر في فقه الكرسي ليعلن ان  بين الكرسي والماء خمسمائة عام،  وقد عرفنا ان مواد تصنيع الكرسي في مختلف حجومه  تنوعت بين الخشب والقماش والمعدن والخرسانة والبلاستيك وجَريد النخل، وعلى ذكر الجَريد فان العراقيين القدامى برعوا بهذه الصناعة، واجادوا تركيب المساند والتكايا والقوائم من اعواد تُسوّى وتُثقب بمهارة وتُثبـّت بمسامير من “مخ الجريد” فيما يبلغ عدد العيدان المستخدمة في الكرسي الواحد 23عودا من الجريد الأخضر (الطري) ليسهل ثنيها  و5 اعواد من العيدان الجافة لمساند الظهور ولتطييب الجلوس ازائها.
الكرسي بعد ذلك عنوان للتطاحن على السلطة، وقد اختار لنا العلوي هادي في مستطرفه الجديد واحدة من حكايات هذا الكرسي، يقول: كان (الحسين بن القاسم) وزيرا للمقتدر، ثم عُزل وابعد عن العراق. فلما تولى (ابن مُقلة) الوزارة سعى الى قتل (القاسم) في منفاه ليتخلص من منافسته (على كرسي الوزارة) فأرسل اليه مَن قطع رأسه، وحمل الرأس الى دار الخلافة في صندوق ووُضع الصندوق في الخزانة طبقا للعادة المتبعة، وفي ايام الخليفة المُتقي (بعد سنوات مديدة) حصل اضطراب في بغداد ونُهبت بعض اجزاء الخلافة فاخرج الصندوق فوجد فيه بالاضافة الى رأس الحسين بن القاسم يدٌ مقطوعة وعليها رقعة مكتوب فيها: هذه اليد هي التي قضت بقطع هذا الرأس” وكانت اليد تعود الى صاحب الوزارة ابن مقلة.
اما الكرسي العباسي فقد داسه بسطال هولاكو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:   
“ احلام الحقد تلد وحوشا”.     
 غويا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت

 


303
14 تموز
والصراع على السلطة

عبدالمنعم الاعسم

الصراع على السلطة.. الاستفراد بها والتآمر عليها.. اضاع ثورة 14 تموز من بين اسباب اخرى، رئيسية وتفصيلية وجزئية، وبمعنى ما، اضاع العراق (في ذلك الصراع) فرصة بناء جمهورية دستورية مستقرة تتمتع ملايينها بالرخاء والحياة الامنة والحرية، وقومياتها وطوائفها وعقائدها بالاحترام والحرية، ويجد  بيانها الاول ووعوده مدى للترجمة الى اواقع.
 وكان المستفردون والمتآمرون (وبعض اتباعهم ومريديهم في قلب الصراع الدائر الان على السلطة)  يبررون موقفهم، آنذاك، بشعارات المصلحة الوطنية من جهة والمصلحة القومية من جهة اخرى، وإذ تمادى فريق منهم في التآمر والتجييش والغدر، فقد وجدت الجمهورية الاولى نفسها في بركة دم ومسلخ بشري، وصراعات مديدة ومدمرة متناسلة لم تتوقف عند حد حتى اليوم.
 صحيح القول ، في علم الاجتماع والسياسة، بان الصراع على السلطة، صراع اجتماعي في جوهره، بما يمثل من ارادات وتصورات لمستقبل البلد، وما يستقطبه من شرائح اجتماعية تتوزع على هذا القطب او ذاك، وعلى هذا الخيار او سواه، لكن المتصارعين كانوا سيجنبون العراق هذا الضياع  وتلك الفظائع  لو انهم احتكموا الى الاسلوب الديمقراطي، والى فسح المجال امام الملايين لتتدرب على الديمقراطية واختيار النظام السياسي المناسب.
 وصحيح القول، ايضا، بان الشريحة العسكرية التي قادت انقلاب الجمهورية الاولى، كانت تحت تأثير موجة الحركات الوطنية التحررية العالمية من الاستعمار والتبعية في مطلع واواسط القرن العشرين، وانها (وربما غالبيتها) لم تكن مشبعة بافكار الديمقراطية واحترام الحريات وتداول السلطة وحسن ادارة بلد متعدد الاطياف والعقائد، وانها وُضعت منذ الايام الاولى للثورة تحت ضغط التآمر والتدخل الخارجي المتعدد والمعقد الاشكال، لكن المحصلة النهائية لتجربة الثورة، كشفت عن خلل قاتل لدى الطبقة العسكرية الانقلابية يتمثل في نمو نزعة الديكتاتورية الفردية، ثم الفئوية، بمديات واسعة وخطيرة، من جانب، وانحسار الفعالية الشعبية، والتباس وعي النخب الطليعية  لضرورات كبح الاندفاع في الصراع على السلطة وترويج خيار الديمقراطية والحيلولة دون اغتيال الثورة، من جانب آخر.
 وصحيح القول، اخيرا، بان ثورة 14 تموز، حدثت في ظل (بل وفي ذروة) الحرب الباردة بين معسكري الرأسمالية والاشتراكية.. بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.. وانها راحت ضحية هذا الصراع واحكامه وامتداداته وتعقيداته في الاقليم العربي، غير ان ضيق صدر وافق المتصارعين على سلطة المستقبل وانانية وخطايا و"جرائم" ابطال الصراع  عمّق هو الاخر من اثر الحرب الباردة، بل وجعل العراق ساحة لتصفيات الحساب بين الطامعين ونزعة الهيمنة بين القوتين الدوليتين العضميين، ومرة اخرى، ضاعت الفرصة على مشروع الدولة الوطنيةالعراقية لكي يعبر الى ضفاف السلامة باقل الخسائر.
 الصراع بين قائد الثورة وزعيمها الوطني عبدالكريم قاسم وشريكه ونائبه عبدالسلام عارف يحتاج الى مراجعة معرفية وتاريخية على ضوء ما حصده العراق من كوارث بنتيجة هذا الصراع، وقد يُختزل الامر الى نصيحة (الآن) بوجوب الحذر من اغواء الصراع على السلطة.. بين اي اثنين قُدّر للعراق ان يتمرمط بين هوسهما للسلطة.
ــــــــــ
كلام مفيد
" الريش الجميل لا يصنع طائرا جميلا ، دائما".
قول ماثور         


304
ازمة الحكومة
ورطانة التنازلات

عبدالمنعم الاعسم

حتى الآن لا تزال فروض التنازلات وضرورتها كمفتاح لحل ازمة تشكيل الحكومة يلفها الغموض وتدور في شعارات وإهابات ورطانات لا مضمون لها ولا احكام او التزامات او خطوات تنقلها من الورق والشاشات الملونة والتصريحات الى حيّز التطبيق.
وحتى الآن، تجري الدعوة الى التنازلات مجرى الدعوة الى عودة الوعي والعقل والارتقاء بالحكمة والشعور الوطني الى مستوى المسؤولية حيال وطن مهدد بالاخطار والانفلاش، ولا يظهر الى العلن، وبصريح القول، مَن يجرؤ على رفض خيار التنازلات.
وحتى الآن يتسم النداء المتكرر بضرورة تقديم التنازلات لحلحلة الازمة بطابع جس النبض، إذ يُفهم من السياق ان اصحاب النداء (في النهاية) يطلبون تقديم التنازلات من منافسيهم على السلطة ويعفون انفسهم منها، بل ان معلومات الكواليس التي يتم بها طبخ النقاشات والصفقات تفيد ان اي تنازل يلوح به طرف سرعان ما يرفضه الطرف الآخر لانه يراه غير كاف، او انه ليس جديا، او انه فخ لاستدراجه الى تنازلات ثقيلة، وللايقاع به.
وحتى الآن، لا نعرف حدود التنازلات المطلوبة، فان الداعين لها يتوزعون على مصدرين، الاول، من غير المتنافسين على السلطة وغالبيتهم من المراجع والسياسيين والاعلاميين ووجوه المجتمع والاصوات المستقلة والحريصة على التغيير وبناء العراق الجديد بهدف الضغط على فرقاء الازمة ليقدموا تنازلات الى بعضهم من دون الدخول في التفاصيل، والثاني، المتنافسون انفسهم إذ يسعون الى وضع منافسيهم في زاوية تقديم التنازلات، وبخاصة في الحلقة ذات الصلة برئاسة الحكومة الجديدة، موضع الصراع والتجاذب الرئيسيين.
وبعد اربعة اشهر من الجدل، والعشرات من اللقاءات الرئيسية والجانبية والسرية  اصبح واضحا ان الاستعداد لتقديم التنازلات لا يزال في حدود المناورة، بالرغم من ظهور بعض المؤشرات على قناعة فرقاء الازمة بجدوى التوافق السياسي، وبأن هذا التوافق يقوم اساسا على قاعدة القاسم المشترك الذي لا تتحقق من دون تنازلات جمعية عن سقوف الشروط والمطالب  المسبقة.
الحقيقة، إذن تتمثل في الآتي: أنْ تلتزم بقاعدة التوافق السياسي يعني انك مستعد لتقديم اي تنازل تمليه هذه القاعدة، فلا يمكن في ظل هذا التوافق ان تفرض مشيئتك على الآخرين،  والحقيقة الموازية، ان الكثيرين من اصحاب الازمة يهربون(حتى الآن) من فروض التوافق السياسي الى  الرطانة.. ومن الرطانة تندلع النيران، في اغلب الاحيان. 
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"واقعنا: الاول خائف من الثاني، والثاني خائف من الثالث، والثالث خائف من الاول، والخائف خائف من الخائف".                       
احمد الفقيه
 


305
التنازلات .. او الفراغ السياسي

عبدالمنعم الاعسم

الفراغ، في جميع المصطلحات حيز ضعيف ومنطقة خاوية مستهدفة، وفيزيائيا، يعتبر ضغطه اقل من ضغط المحيط،.
 والفراغ السياسي مآل تنقذف اليه البلدان في حالات تخرج خلالها عن كفالة النصوص الدستورية وانضباط العهود والحد الادنى من الحلول الوسط، وتسمح لقوى اخرى بالتدخل وفرض مشيئاتها السياسية على ارادة الشعب، بما يفتح الحاضر على مصير مجهول.
ومنذ إعلان الانتخابات قبل اكثر من ستة عشر اسبوعا كان واضحا بان حكم الكتلة الواحدة، بصرف النظر عن رصيدها من المقاعد او التوصيف الدستوري للنتائج التي حصلت عليها، مستحيل، ومستعص، وعرضة للتحديات، كما تم اكتشاف حقيقة موازية هي  ان النص الدستوري لا يسهّل، كفاية، تحقيق التوافق السياسي، من غير تكييف بنيته ومعانيه، او تغيير سياقاته ومضامينه، او تجاوز بعض احكامه وملازمه، الامر الذي تعارضه المراجع المعنية بتطبيق الدستور، فضلا عن غياب الاتفاق العام على شكل التغيير والتكييف والتجاوز، والمساحة المشمولة بالتكييف.
باختصار، يمكن القول بان الدستور العراقي، الذي لم تتحول غالبية نصوصه التشريعية الى قوانين تفصيلية، يقف عاجزا عن تقديم معالجات لازمة تشكيل الحكومة، بل ان الكثير من مواده، ذات الصلة، تحولت الى عبء على العملية السياسية، يكفي القول ان الخطوة الاولى في تشكيل الحكومة وهي تكليف الكتلة الاكبر تعثرت في عتبة اختلاف التفاسير لمعنى الكتلة الاكبر، فيما تابعنا سلسلة من التفسيرات، وطعون لها، وطعون على الطعون، وتداخل الاستحقاق الدستوري الغامض باستحقاقات اخرى انتجتها مرحلة المحاصصة وعيوبها، وفتحت الباب، بعد ذلك،  على اكثر من حريق قد يشتعل في اية لحظة.
وفي غضون ذلك، وتحت هذه الاستعصاءات، اندفع المشهد السياسي الى حافة الفراغ، وقد ينزلق اليه اذا ما استمرت الكتل المعنية تتمترس في خنادقها، ورفضت خيار تقديم تنازلات متقابلة من شأنها تصريف الازمة دون المزيد من الانشقاقات وتشكيل حكومة شراكة لا يحتكر سلطة القرار فيها شخص او حزب أو تكتل سياسي، ومثل هذا التدبير متوفر في حافظة التجارب الديمقراطية، وله ما يبرره كبديل عن دخول البلاد في مطب الفراغ السياسي، فيما تحيط بها الكثير من "الاطماع" التي تأمل إشغال الفراغ.
وليس من شك في ان احدا من المتصارعين على كعكة السلطة لن يربح في حال انقذاف البلاد الى دوامة الفراغ السياسي، والادق، ان احدا لن ي،عفى من تقديم جزء من الضريبة الباهضة لهذا الانحدار الخطير.. والتقاويم زاخرة بمشاهد عض الاصابع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"العقل موهبة موزعة على الجميع. المهم، كيف يستعمل العقل طرق الاستنباطات".
   محمد أركون


306

إذابة الجليد..
 ام خيبة امل؟

عبد المنعم الاعسم
 
 
اذابة الجليد بين رئيس الوزراء نوري المالكي والدكتور اياد علاوي بعد لقائين لهما  امر طيب، وينبغي الترحيب به، والتصفيق له، وتسجيله في خانة المبادرات الايجابية، والنظر اليه من زاوية الحاجة الى تواصل الجسور والآراء بين فرقاء المشهد السياسي، لكنه (مقابل ذلك) لا يصلح ان يكون عنوان مفخرة كبيرة تُسجل للقطبين السياسيين، ولا للاقطاب الآخرين المعنيين، ولا للطبقة السياسية، ولا (ايضا) للعملية السياسية في العراق.
فالواقع ان اللقاء بين زعيمي دولة القانون والقائمة العراقية لا ينبغي ان نرتقي به، وننفخ في صورته، الى مرتبة الاختراق السياسي، او الانقلاب في مجرى الازمة السياسية:
(اولا) لانه تأخر كثيرا في الزمن المتاح لهما، إذ كان عليهما ان يلتقيا قبل وبعد الانتخابات طالما انهما ينتميان معا الى العملية السياسية الجارية في البلاد، بل انهما مهندسان بارزان لها من بين مهندسين قليلين.
و(ثانيا) ان اللقائين لم يسفرا عن نتائج تُذكر على صعيد الازمة المستعصية في البلاد لتشكيل الحكومة المقبلة، وبقيت التصريحات والتلميحات تدور في دائرة تطييب الخواطر وترطيب الاجواء، وكسر الجليد، وغيرها من العبارات الوصفية.
و(ثالثا) مرة اخرى قيل ان اللقاء الثاني، كما هو الاول، لم يبحث قضية تشكيل الحكومة وهو جوهر الازمة السياسية وموضوع القطيعة بين علاوي والمالكي والتقاطع بين مشروعيهما.
و(رابعا) لم يخرج اللقاءان عن البديهيات السياسية المعروفة ذات الصلة بفروض الاجتماع بين السياسيين، فاذا لم يلتق السياسيون بشركائهم في الميدان (وحتى خصومهم) ويتبادلون الآراء مع بعضهم، فماذا هم فاعلون؟.
من زاوية موضوعية، كان اللقاء الثاني مخيبا للامال، بعد ان عوّل الكثيرون على ان يخرج بمفردات اكثر وضوحا، واكثر تقربا من دائرة الخلاف، فيما ترك السياسيان، معا، السؤال الكبير، والمخيف، على طاولة اللقاء دون جواب: هل حقا يمكن اعتبار اللقاء بين المالكي وعلاوي (بذاته) مكسبا ثمينا لأثني عشر مليون عراقي كانوا قد زحفوا الى صناديق الاقتراع في آذار الماضي متحدين الارهاب والتهديدات والعنف، ومعلقين الآمال على مرحلة من الرخاء والسلام على يد من ينتخبونهم؟
اقول، هل هي سياسة أم ضحك على الذقون؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"ان للحسنة ضياء في الوجه".                       
 قول مأثور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة الاتحاد بغداد
 


307

بانتظار القرار الشجاع

عبدالمنعم الاعسم

دخلت ازمة تشكيل الحكومة طورا حرجا يهدد العملية السياسية التي تعاني اصلا من احتقانات بالانهيار، ويعرض بصمات الديمقراطية التي لم تترسخ بعد الى الضياع، ولم تعد لقاءات المجاملة وتطييب الخواطر وكلمات الحرير الناعم تنفع في انقاذ الموقف، بعد ان استنفذت شحنتها والآمال التي كانت معلقة عليها.
ولم يعد المشهد السياسي، والشلل الذي يضرب مفاصل الدولة ودورة الاعمال والادارة  يتحمل المزيد من العبث والتلاعب بالكلمات، والتسويف، والتأجيل، ومزاعم الحرص على المصلحة العامة وحماية الدستور والديمقراطية، فقد شبع الجمهور العراقي من هذا الكلام السقيم، واختنق بهذا الهواء الفاسد، وباتت الملايين على برميل من الغضب والغليان لانها وحدها تحملت نتائج هذه الرطانات والتخندقات والتحصينات والصراع على السلطة.
وفي هذا المنحدر، عرف الجميع، الاقطاب والمراقبون وابناء الشعب على حد سواء، ان الحلول والصيغ والسيناريوهات التي تقاذفتها الكتل منذ انتخابات آذار حتى الآن وصلت الى طريق مسدود  ونذير عواصف، واصبح المعبر  مفتوحا على الحل الوحيد الذي لم يعتمده اصحاب الازمة وهو الانسحاب من الخنادق والتحصينات والشروط ، واعلان بدائل تحظى بالاجماع  والقبول وتمضي من فوق الاعتراضات والخطوط الحمر، ولم يكن المخاض العراقي عقيما بحيث يفتقد الى اسماء ترقى الى توصيف المقبولية الشاملة، والتدبر المطلوب والعقل المفتوح.
مناسبة هذا الكلام هو ماقيل عن لقاء مرتقب آخر بين اياد علاوي ونوري المالكي، وهما السياسيان اللذان يطرحان نفسيهما كصاحبي حق في رئاسة الحكومة الجديدة، ولا يتنازلان عن هذا الحق "الدستوري" وقد جرّا المشهد السياسي طوال الاشهر الثلاث الماضية الى جدل وتدخلات ومتاهات ومواجهات، واصبح معروفا ان كل منهما يواجه تحديات ومنافذ شائكة الى المنصب، وقد جربا (بمختلف السبل) تحقيق توازن برلماني في صالحهما لكن دون جدوى، فيما اضاف النص الدستوري ذي الصلة بالموضوع الكثير من التعقيد والانشقاق الى طاولة البحث.
اقول، ان اللحظة السياسية القائمة المحتشدة بعناصر القلق والانفجار باتت مفتوحة على القرار الشجاع الذي ينبغي ان يتخذه المالكي وعلاوي، ويُعتقد انهما قادران على ذلك لانهما باتا يعرفان بان السيناريوهات السابقة فقدت الفرص الى التوافق والمرور من تحصينات الكتل، وان بين ايديهما حقائق عن خارطة المجلس النيابي الجديد والمشيئات التي تدير مواقفه، وحقيقة ساطعة: ان علائم فقدان الصبر في الشارع اصبحت واضحة، ولا مستقبل لسياسة اللاحل، واللاتوافق. واللاتنازلات.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" إذا ازداد الغرور.. نقص السرور "                       
حكمة   


308
جملة مفيدة
ـــــــــــــــــ

بانتظار القرار الشجاع

/دخلت ازمة تشكيل الحكومة طورا حرجا يهدد العملية السياسية التي تعاني اصلا من احتقانات بالانهيار، ويعرص بصمات الديمقراطية التي لم تترسخ بعد الى الضياع، ولم تعد لقاءات المجاملة وتطييب الخواطر وكلمات الحرير الناعم تنفع في انقاذ الموقف، بعد ان استنفذت شحنتها والامال التي كانت معلقة عليها.
/ولم يعد المشهد السياسي، والشلل الذي يضرب مفاصل الدولة ودورة الاعمال والادارة  يتحمل المزيد من العبث والتلاعب بالكلمات، والتسويف، والتأجيل، ومزاعم الحرص على المصلحة العامة وحماية الدستور والديمقراطية، فقد شبع الجمهور العراقي من هذا الكلام السقيم، واختنق بهذا الهواء الفاسد، وباتت الملايين على برميل من الغضب والغليان لانها وحدها تحملت نتائج هذه الرطانات والتخندقات والتحصينات والصراع على السلطة.
/وفي هذا المنحدر، عرف الجميع، الاقطاب والمراقبين وابناء الشعب على حد سواء، ان الحلول والصيغ والسيناريوهات التي تقاذفتتها الكتل منذ انتخابات آذار حتى الآن وصلت الى طريق مسدود  ونذير عواصف، واصبح المعبر  مفتوحا على الحل الوحيد الذي لم يعتمده اصحاب الازمة وهو الانسحاب من الخنادق والتحصينات والشروط ، واعلان بدائل تحظى بالاجماع  والقبول وتمضي من فوق الاعتراضات والخطوط الحمر، ولم يكن المخاض العراقي عقيما بحيث يفتقد الى اسماء ترقى الى توصيف المقبولية الشاملة، والتدبر المطلوب والعقل المفتوح.
/مناسبة هذا الكلام هو ماقيل عن لقاء مرتفب آخر بين اياد علاوي ونوري المالكي، وهما السياسيان اللذان يطرحان نفسهيما كصاحبي حق في رئاسة الحكومة الجديدة، ولا يتنازلان عن هذا الحق "الدستوري" وقد جرّا المشهد السياسي طوال الاشهر الثلاث الماضية الى جدل وتدخلات ومتاهات ومواجهات، واصبح معروفا ان كل منهما يواجه تحديات ومنافذ شائكة الى المنصب، وقد جربا (بمختلف السبل) تحقيق توازن برلماني في صالحهما لكن دون جدوى، فيما اضاف النص الدستوري ذي الصلة بالموضوع الكثير من التعقيد والانشقاق الى طاولة البحث.
/اقول، ان اللحظة السياسية القائمة المحتشدة بعناصر القلق والانفجار باتت مفتوحة على القرار الشجاع الذي ينبغي ان يتخذه المالكي وعلاوي، ويُغتقد انهما قادران على ذلك لانهما باتا يعرفان بان السيناريوهات السابقة فقدت الفرص الى التوافق والمرور من تحصينات الكتل، وان بين ايديهما حقائق عن خارطة المجلس النيابي الجديد والمشيئات التي تدير مواقفه، وحقيقة ساطعة: ان علائم فقدان الصبر في الشارع اصبحت واضحة، ولا مستقبل لساسة اللاحل، واللاتوافق. واللاتنازلات.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــ
" إذا ازداد الغرور.. نقص السرور "
حكمة   

309
المنبر الحر / أهلُ شقاقِ..
« في: 16:10 20/06/2010  »


أهلُ شقاقِ..

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com   
   
لم يُبقِ لنا السادة المتصارعون على السلطة فرصة كبيرة لتحسين صورتنا التاريخية السلبية كوننا، نحن العراقيون، كما كان يصفنا الطاغية الحجاج بن يوسف ابن ابي عقيل الثقفي "اهل شقاق ونفاق" فقد مضوا في هذه اللعبة الجارحة الى ذروتها، وجرُوا معهم، واليها، جمهورا غفيرا من الاتباع: يقولون، فيصفقوا.
بل ان البعض من فرسان الازمة راح يستعمل لغة تهديد حجّاجية نائمة "اني ارى ابصارا طامحة، واعناقا متطاولة، ورؤوسا قد اينعت وحان قطافها، واني لصاحبها" ونقلت الصحف جمرات من القول وكأن العراقيين خلقوا لتدمير حياتهم، والتنكيل ببعضهم، ثم إحداث الانشقاق في كل مكان، على وفق ما كتب الطبري عما صنعه العراقيون بين "اهل افريقيا" الذين كانوا "اسمع أهل البلدان، واطوعهم الى زمان هشام بن عبدالملك، حتى دب اليهم دعاة اهل العراق وشقوا عصاهم وفرقوا بينهم” وكان ابناء تلك القارة قد تمسكوا بقاعدة ان لايحمّلوا الخليفة (البعيد) جريرة ما يصنعه سفيره او موظفوه من ذنوب" فقال لهم العراقيون: انما يعمل هؤلاء بامر اولئك" وهي حقيقة إن اريد بها اشاعة الوعي والادراك، وهي دسيسة اذا جرى اطلاقها في غير محلها، والمهم، ان اهل افريقيا عرفوا منذ ذلك الوقت طريق الشقاق، فبدأ التمرد واشتعلت الحرائق.
العجيب في الامر، انه كلما بدا ضوء في النفق الطويل، سارع المتنافسون، كل من جانبه، الى إطفائه ونشر الظلام في مسرح الحوار، وكلما لاحت اشارة انفراج في الازمة او تقارب بين بعض رؤوسها، ينقلب الجميع على هذا المسار، ويتحولون عنه الى مربعهم الاول، وتنقلب طاولات البحث الى خنادق، وينتشر في الجو غبار الكراهيات والتهديدات، وتنغلق آخر منافذ التسوية.
لا يثق اللاعبون ببعضهم، ولا يثقون بالوسطاء، ولا يثقون باحد قد يساعدهم على حل وسط.. بل انهم ضد الحل الوسط.. وضد اي بديل عن مطلبهم، واي مقترح يحل محل مقترحاتهم، وانهم يتفننون في اغتيال الفرص السانحة للحل، ويتهربون عن السؤال الملح: لماذا لا تطرحون بدائل عن ارائكم طالما انها غير مقبولة؟ وكل منهم يقول، كما كان يقول الحجاج: "من اعياه داؤه فعندي دواؤه" ويصر على انه صاحب مفتاح الانقاذ، ورائد حماية البلاد "ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذئاب".
لقد قبَرَ العراقيون، على مدى قرون، من التحضر والمدنية وانتاج القيم والمعارف تلك الفرضية العابرة كونهم "اهل شقاق ونفاق" واعترفت اجيال من المؤرخين برجاحة عقولهم وصواب تدبرهم، وعمق رسالتهم الانسانية، ومن هنا تظهر مقابح الصراع على السلطة إذ تعيد انتاج مقابح الانطباع العتيق عن العراقيين.
ـــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــ
"إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته".
 محمد (ص)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


310

تعالوا الى خشبة النجاة

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

جميعكم في مركب واحد مطلوبٌ لقراصنةٍ وامواج عاتية ولحساب الملايين، إنه في منتصف الطريق، وقد يغرق بكم وبنا، والحل في الاتفاق على حل وسط، وقبل ذلك في الاستعداد للتضحية بالامتيازات وتقديم التنازلات. انها فرصة النجاة والعبور الى ضفاف السلامة، والبديل عنها هو المقامرة.
السياسة تجيز لكم التصارع، لكنها في ذات الوقت لاتجيز المقامرة. المقامرة في السياسة قضت على دول وامم كاملة، والغت خرائط من الوجود، والعراق الجديد لايتحمل، الآن، اختزال مصيره الى طاولة قمار.
نعم، تمتد نزعة المقامرة في عمق التاريخ وتجد إشارات لها لدى هيرودوتس وفي آثار الفراعنة والفرس والصينيين القدماء والبابليين والاغريق حتى حروب الاندلس، حتى استخدمها الفرنسيون في القرن الرابع عشر كعلاج للمرض العقلي الذي أصيب به الملك شارك السادس، لكن ارسطو صنف المقامرين في كتابه (الاخلاق) في طبقة اللصوص وقطاع الطرق.. أكرر اللصوص وقطاع الطرق.
تذكروا ان مستقبلكم يتحقق على ارض اعلى من مستوى الماء واكثر امنا من الامواج واللف والدوران، وخذ وهات، وقد مضت مرحلة جس النبض، واختبار النيات، وحان وقت الفعل الشجاع.
القضية، انكم كتبتم الدستور، وها انتم تختلفون في تفسير ما كتبتم.. وتحرقون الكثير من الورق بما فيه وعود قدمتموها الى الناخبين.. هكذا يقول العالم عنكم.. وكتب معلق اجنبي عنكم ”في العراق يهزون يدك قبل الانتخابات، وثقتك بعدها.." وقال ماثيو هيوز استاذ العلوم السياسية في جامعة لندن “المشكلة ان الطبقة السياسية العراقية الجديدة غير متصالحة، لا مع نفسها ولا مع بيئتها”.
لكن، تستطيعون ان تغيروا هذه المقولات، وحتى المعادلات، بحكمة الخروج من الخنادق واللاءات والمطالب المستحيلة، وتشييد خشبة النجاة من صلب معاناة الملايين، وجاء في احدى الروايات بان نوحا عليه السلام شيد سفينته، اول الامر، في صحراء قاحلة، لا ماء فيها، وحين اغارت مياه الفيضان دفع الغرقى ثمن استهتارهم، واستهانتهم بالاخطار والانواء.
لا تتبادلوا القبل. هذا لم يعد يهمنا. يقول المصريون القدامى” قبلة من غير محبة تحرق الشوارب” نريد ان تتبادلوا الثقة، لا القبل، وحينذاك، ستعبرون بنا الى فضاء المحبة الحقيقية، والود الجميل.
وحين لا تعبرون بنا، على خشبة النجاة، الى تلك الضفاف الآمنة، سنضطر الى رفع نخب انتصاركم علينا.
وهزيمتكم المؤسفة.
ـــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد
"ادخل الف معركة ولا ادخل امتحان ".
نابليون



311

سايكوباثية اسرائيل

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

بعد الغارة الهمجية التي شنتها الدولة الاسرائيلية على ناشطين عُزّل كانوا يتضامنون، بالمساعدات الانسانية، مع ما يزيد على مليون ونصف المليون من السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، فرض عليهم المحتلون حصارا وتجويعا شاملا، واغلقوا عليهم كل منافذ الاوكسجين، واخضوعهم الى عقاب جماعي لا سابق لقسوته ووحشيته ولا انسانيته..
 وبعد سلسلة من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الاحتلال بالاعتقالات الجماعية وتجريف ومصادرة مساكن واحياء السكان الاصليين، وفرض ابشع قوانين واجراءات الردع والارهاب، واكثر من مائتي قرار ادانة للامم المتحدة، وقرارات إبطال الاحتلال واجراءاته ضربها المحتلون، جميعا، عرض الحائط..   
 وبعد طائفة من حملات البلدوزرات وسياسات التغيير والضم والتطاول لتهديم البنى التحتية واماكن العبادة والشواهد التاريخية والدينية المقدسة في فلسطين، واستخدام القوة الغاشمة، وسياسات الإذلال والمهانة والتمييز والعنصرية بحق سكان فلسطين، جيلا عن جيل..
 وبعد حقبة متواصلة من الحروب والاعتداءات والاجتياحات، شنتها اسرائيل، في البر والبحر،  وطاولت بلدانا وعواصم مجاورة وبعيدة، واشعلت خلالها الحرائق والتوترات والتداعيات التي هددت الامن والاستقرار في المنطقة والعالم..
 وبعد ان هربت اسرائيل، وتهربت، عن فرص التسوية السلمية للصراع العربي الاسرائيلي، واحرجت اصدقاءها وحلفاءها، ومزقت جميع التنازلات ومبادرات حسن الظن التي قدمها الفلسطينيون والعرب وجيرانها، وتعاملت معهم بغطرسة، وإمعان بالاستفزاز والتنكر وسوء القصد والحيلة..
 اقول، بعد كل ذلك، هل يمكن لأحد، أو متنبئٍ، او محلل بارد الدم، ان يخمّن المدى الذي تحتاجه الدولة الاسرائيلية لتكون مقبولة من جيرانها؟ وان تنعم يوما بعلاقات منتجة، وآمنة، ومتكافئة، مع شركائها في الجغرافية والمناخ والبحار والفضاء؟ بل، هل يمكن ان تكون اسرائيل، يوما، مقبولة من هذا الاقليم، بجميع اممه وبلدانه، حيث اضرمت فيه كل حطب الاحقاد والانتقام والحسابات النائمة؟.
 هذه الاسئلة مشروعة إذ اندلعت الآن في اروقة كثيرة، في وقت تهتز النظرية البالية حول انتماء اسرائيل الى الامم الاوربية، ويعتقد بعض المحللين بان مصالح اوربا في الشرق الاوسط لم تعد قادرة على القفز من فوق اسرائيل، فيما يستحيل إشراك اسرائيل في منظومة العلاقات بين اوربا والعالم الاسلامي، وقد لا يجد المراقب من تلك النظرية سوى اشارات للدعم العسكري وبعض مفردات تجارية غير ذي اهمية (تفاح يافا) وينظرون باستخفاف الى بعض الانشطة  التي تشترك فيها اسرائيل مع شركائها الاوربيين وآخرها البرنامج الترفيهي الراقص(يورب كيت تاليوت).       
 في العمق، يمكن للمحلل الموضوعي ان يرصد في جملة هذا السلوك الاسرائيلي نزعة سايكولوجية عدوانية تقرب من “السايكوباثية” التي تضع صاحبها دائما في ريبة حيال الاخرين ومواجهة مع البيئة التي تحيطه، ويقول الاطباء المتخصصون، بهذا الصدد، بان السايكوباثي يفتقد الحكمة، ولا يتعلم من تجاربه، ولا يردعه العقاب، وهو احمق في افعاله  التي غالبا ما تكون همجية، ومفاجئة للجميع.. ومثيرة للامتعاض.   
 ترى من هو الذي لم يمتعض حين رأى مجزرة اسطول الحرية على مشارف غزة؟.
ـــــــــ
كلام مفيد:

“ لا تكن كقمة الجبل، ترى الناس صغاراً، ويراها الناس صغيرة”.
شكسبير



312
انتهى الكلام..
ما العمل؟



عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com
 
طالعنا وسمعنا، وشاهدنا بالالوان الطبيعية، وباصوات عالية ومُضخـّمة، او وشوشات وهمسات خافتة، جميع وجهات النظر حيال الازمة الوزارية، مسموعة ومقروءة ومرئية، وعرفنا مفردات الخلافات بين الفرقاء، وعناوين الاعتراضات، وشروحات وافية عما يريدون وما لا يريدون، وتعرفنا على مشاريع كانت نائمة، وحسبناها نامت الى الابد، وعلى نظريات ما انزل الله بها من سلطان، وعلى مقترحات اريد بها جس النبض، واخرى اريد بها زحلقة المنافسين، وعلى ثالثة استهدفت تخديرنا، نحن المتفرجين، وصرف انظارنا عما يجري من الوان الكوميديا، وعما يقال من صنوف المهازل .
 وفي غضون هذه الاشهر الثلاث، اختلط التحريف بالتخريف، وكنا نتلقى على مدار الساعة وجبات دسمة منهما، علي الرغم من ان التحريف(تزوير المعلومات) محرّمٌ بمعاهدات جنيف حول حرية التعبير والصحافة حيث يُلزم الاعلام باحترام الحقيقة ومصادر المعلومات، وبرغم ان التخريف، ابطله الاجداد القدماء لانه على حد مؤلف (شفاء الغليل) شهاب الدين بن عمر الخفاجي رحمه، ورحمكم، الله "انما يجري في السمر، وينتظم في الاعاجيب، وقولهم: خرّف فلان، إذا تغيّر عقله لانه يتكلم بما يُضحِك" وهما مذمومان وجديران بالاستهزاء، وكان على اصحابهما ان يتوقفا عن العبث بمصائرنا الى هذا الحد.
 الى ذلك تقاذف المعنيون بالازمة، المتنافسون على السلطة والمناصب الحاسمة، بالمسؤولية عما جرى: فاعل الفعل، أم المحرض عليه؟ ومرروا علينا حقائق العدالة والقانون واصول القضاء في تعيين المسؤول، وتشخيص الفاعل، حتى بدا لنا ان المسؤول عما يجري هم اولئك المؤتمرين بارتكاب الخطايا (لا آمروهم) وان العقاب ينبغي ان ينزل بهؤلاء الفاعلين، لا باولئك الآمرين والمحرضين.
 كان فقهاء الصين الاقدمين، قد قضوا بان عقاب الفاعل أقل من عقاب المحرض على الفعل، "وكانوا يقولون للقاضي: حين تحكم بقتل المحرضين على القتل وباطلاق سرح الجاني فان التأنيب لن يطال ضميرك إذ وضعت المسؤولية في مكانها، وشفيت غليل الضحية" وقد يكون البغدادي شمس الدين الذي تقلد القضاء في مدينة دادو (بكين حاليا) خلال عهد الامبراطور المغولي قبلان خان قد تمثل تلك النصيحة الذهبية قبل غيره حين كان يبحث عمن تسبب في القتل قبل ان يبحث عمن قتل.
 اقول، لقد قالوا كل ما يريدون قوله، واطلقوا كل ما بجعبتهم من خطب، وعرفنا ما لديهم من كلام فيما حان وقت السؤال.. ما العمل بعد ذلك كله؟.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
 "لا يقدر احدكم أن يخدم سيدين.. لا تقدرون ان تخدموا الله والمال"
 إنجيل متي

313

العراق..
بديل وقائي عن حرب اهلية


عبدالمنعم الاعسم
اسياد الازمة الوزارية في العراق قطعوا شوطا في دفع البلاد الى استعصاء تاريخي قد يفتح الطريق الى حرب اهلية ضروس، الامر الذي يطرح جملة من الخيارات الوقائية، ابرزها، وضع العراق تحت الوصاية الدولية المؤقتة، وهذه المرة، بكفالة واسم وتصرف الامم المتحدة.
لكن لنعد قليلا الى الوراء، فقد كانت التطورات السياسية في العراق منذ سبع سنوات قد طرحت موضوع مسؤولية المجتمع الدولي وجيران العراق وشركائه في الاقليم عن ضمان اعادة بناء هياكل الدولة العراقية وتأمين ضبط العلاقات بين مكوناتها وعقائدها وخيارات اطيافها السياسية، وفي هذا المعنى تكمن حقيقة (قد لايعترف بها الكثيرون) ان مصير العراق مدوّل، رضينا بذلك ام لم نرض.
فالدول التي تمر في حالة حروب مع جيرانها وانشقاقات اهلية وتعيش في سلسلة اضطرابات وانعدام السيادة وانفلات الامن وغياب الاستقرار وتتحول الى بؤرة عنف وارهاب وخطر اقليمي ودولي تصبح (بسبب ما تشكله من اخطار امنية واقتصادية) في قلب مشغولية العالم والدول المجاورة، وبمعنى آخر، يصبح نظامها السياسي شأنا دوليا، وطبعا، تحت تأثير القوى الاكثر ثقلا في السياسات الدولية، ونعني الولايات المتحدة الامريكية وحلفاءها الدوليين والاقليميين، وسيبقى التدويل قائما ومعززا بقرارات للمجتمع الدولي حتى تنهض القوى المحلية بمسؤوليتها في استعادة السيادة والاستقرار وبناء الارادة الوطنية المستقلة.
وقبل العراق حدث هذا في العديد من الدول الافريقية التي استقلت في الستينات من التبعية الاستعمارية، وفي لبنان. يوغسلافيا السابقة. افغانستان. الصومال، وقد يحدث في السودان، وفي اية دولة يتداعى فيها الحكم والاستقرار وتصبح مصدرا للعنف والعدوان على الدول او الامن الدولي.
وثمة الكثير من المؤشرات على رحلة التدويل (بالنسبة الى العراق) بدأت، في حقيقة الامر،منذ  ايلول العام 1980حيث قرر صدام حسين، آنذاك، اجتياح الاراضي الايرانية، وخلق مأزقا اقليميا وفراغا، سرعان ما شغلته الاساطيل الامريكية والغربية، وامسكت بمعادلة امن المنطقة وبكل ما يتصل بها من مصائر اقتصادية وسياسية، ولم يكن ليقلل من شأن هذا التدويل انحياز الغرب والكثير من دول المنطقة الى جانب العراق، كما لم تسقطه موافقة صدام حسين على قرارات مجلس الامن ذات الصلة، ورفض ايران لها، فقد اصبح واضحا ان الجانب العراقي هو الذي بدأ الحرب، وان الحرب خلقت معادلات استراتيجية وامنية جديدة في المنطقة اصبح مستقبل العراق جزءا عضويا منها، وهو المعنى المباشر لبداية تدويل الورقة العراقية.
ثم، تكامل التدويل مع مغامرة صدام حسين الثانية باجتياح الكويت، بل كُرّس على الارض وفي قرارات، زادت على العشرين، لمجلس الامن الدولي اجمعت على ادانة الاجتياح وتحميل العراق المسؤولية عما يترتب على هذه العملية، وانتهى الامر بوضع سيادة وثروات العراق تحت الوصاية الدولية، وإثقاله بسلسلة من العقوبات واجراءات الحصار، حتى لم تعد لحكومته سلطة او ارادة او هيبة، واصبحت مطلوبة في كل مكان.
 وفي تطور لاحق، كانت حرب اسقاط نظام صدام حسين (الاحتلال. التغيير) العام 2003 ونتائجها كرست، بلا شك، تدويل مستقبل العراق السياسي، وقد دخلت منظمة الامم المتحدة كراع، واحيانا كمنفذ، لهذا التدويل منذ ان باشر مبعوثها الاخضر الابراهيمي بمهمة(صفقة) تشكيل الحكومة العراقية الموقتة العام 2004على وفق قرار مجلس الامن 1483 ولم يخف الابراهيمي القول بان الحاكم المدني الامريكي بول برايمر الذي وصفه بـ”دكتاتور العراق” هو الذي طلب منه ان تقوم المنظمة الدولية بالمساعدة على تشكيل الحكومة العراقية .
 وكان سيمكن احتواء قيود ولوازم وتاثيرات هذا التدويل، والعمل، فيما بعد، على تصفيته ، فقط، عن طريق بناء ارادة موحدة ومنسجمة وراسخة للعراقيين، بجميع اطيافهم السياسية والقومية والدينية، وبمعنى ادق، بناء مرجعية عراقية وطنية مؤهلة، ومفوّضة من مكونات المجتمع، بمقابل المرجعية الدولية، ليتم، بالتفاوض الحثيث والمنهجي، وتهدئة وتأهيل الشارع، استعادة السيادة وسلطة القرار والشروع باعادة البناء، سبيلا الى كتابة الدستور واجراء انتخابات نيابية حرة ورشيدة.
 وكان سيضمن تحقيق هذه المقدمات لو اعطي الوقت الكافي(خمس سنوات مثلا) لفروض استعادة الثقة بين الجماعات السياسية المختلفة وتحقيق المصالحة الوطنية وتهيئة الملايين (التي خرجت توا من علبة النظام الاستبدادي القمعي) لممارسة “تمارين” اولية من الديمقراطية والحريات العامة، وتحقيق بعض الانفراجات في سبل المعيشة والدورة الاقتصادية، ولو لم تتخذ القرارات الانفعالية بحل الجيش واجراءات العقاب الجماعي ضد فلول النظام السابق والشرائح الموالية له والمنتفعة منه، ولو لم يجر استعجال كتابة الدستور والدخول الفوري في الانتخابات التعددية.
 لكن علينا ان لا نقع في التبسيط فنتغافل عن استبصار التأثيرات التي ترتبت على اندلاع دورة العنف والعصيان المسلح والجريمة المنظمة وانتقال البؤرة الارهابية العالمية للقاعدة الى العراق وتدفق الانتحاريين من كل مكان والمذابح الطائفية التي استتبعت هذه الدورة، حيث خلقت كل هذه المعطيات مبررات الاستقواء بالقوات الاجنبية، وادت(الى جانب ظهور المليشيات والنعرات الطائفية وتدخل وتمدد دور الجوار) الى تكريس تدويل المستقبل السياسي للعراق، وقد فاقم ذلك سلسلة الاخطاء والتخبطات المسجلة على ادارة الاحتلال، وانانية ونفاق وتدخل شركاء العراق في الاقليم، هذا بالاضافة الى استفحال الصراع على السلطة بين فرقاء العملية السياسية.
 اقول، ان تدويل مصير العراق، استند ويستند الى جملة حقائق على الارض، لا يقلل من شأنها إنكار البعض من الساسة لهذا التدويل، اوالاتهامات التي يتبادلها السياسيون بالمسؤولية عن هذا التدويل، او بمحاولات الاستقواء به، كما ان الخروج من هذا التدويل لا يتم عن طريق اطلاق الشتائم عليه، وضد من يدعو العالم الى التدخل من اجل نزع فتيل الازمة السياسية في العراق، والمشكلة ان الكثير من القوى المتنفذة والحاكمة انتفعت (بالمعيار الفئوي والشخصي) من التدويل، كما انتفعت منه، الى حد كبير، قوى الارهاب والتجييش والتكفير إذ اعتبرته مبررا لحربها  الاجرامية لتدمير الدولة العراقية وتنظيم المذابح الجماعية للمدنيين واقامة الدولة الاسلامية المتوحشة بديلا عنه.
 لقد تعامل ويتعامل فرقاء الازمة الوزارية مع حقيقة تدويل مستقبل العراق على الوجه التالي: نقبل التدويل والضغوط والاملاءات والتدخلات والقرارات الدولية والاقليمية حين تصب في مصلحتنا الفئوية، وتشد من ازرنا، ونقلب الدنيا عليها وعلى اصحابها، وعلى من يقبل بها، او يروج لها، حين تصب في مناسيب الخصم السياسي الذي ينافسنا على السلطة.
في التفاصيل يمكن للمراقب ان يتفهم دواعي واهمية زيارات مسؤولين كبار ووفود عمل الى عدد من العواصم الاقليمية وفق برنامج معلن، وعلى خلفية جداول اعمال ومفردات تتصل بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والامنية ما بين العراق وشركائه الاقليميين والدوليين، وما اسفرت عنه من اتفاق على اهمية استقرار العراق وفرض الامن ومحاربة الارهاب الذي يتهدده، كما يتهدد جيرانه.
لكن، بمقابل ذلك، تابعنا الضجة التي رافقت واعقبت زيارات الساسة وممثلي بعض الكيانات الفائزة الى الدول المجاورة (بخاصة) الى كل من ايران والسعودية، فانها (عندهم) مذمومة وتآمرية وتدخـّل في الشؤون الوطنية، وهيمنة، حين يبادر اليها طرف، وانها طبيعية “من اجل مصلحة العراق” حين يرد ذلك الطرف على خصومه، وقد تبادل الزائرون الى دول المنطقة لغة الاتهامات ببيع العراق، والعمل على الاستقواء بتلك الدول في الصراع على منصب رئاسة الحكومة.
وفي غضون الاحد عشر اسبوعا الماضية، منذ انتخابات السابع من آذار، حتى الان، تجسد هذا التعامل مع “العامل الخارجي” في ابشع صورة له، وتركز هذه المرة على دور الدول المجاورة في الصراع السياسي والطائفي، ونُشرت على نطاق واسع روايات وسيناريوهات وهياكل وعن ارقام ملايين ومليارات متدفقة، وجيوش سرية متوغلة، لصالح هذا الفريق او ذاك، كما طالعنا تقارير مذهلة عما يشبه المزاد العلني للمواقف والصفقات، وذلك جنبا الى جنب مع تصريحات لاصحاب الازمة تزيد من التشويش والاحباط.
لقد شجع هذا الاستطراد والعبث السياسي شهية بعض الفضائيات ومنابر الاثارة الاعلامية ومصادر تلفيق المعلومات وانتاج الكراهية والعنف والضغائن على اختزال عملية الانتخابات الى صراع اموال ومخابرات دول خارجية، أو الى ارادات عابرة للحدود، والحق ان اموال ومخابرات وإرادات تلك الدول لم تكن بعيدة تماما عن ساحة الانتخابات، لكنها لا تعدو عن كونها مؤثرا واحدا، وجزئيا، من المؤثرات التي حددت ملامح النتائج، فقد كانت الفعالية الشعبية (بصرف النظر عن درجة نضوجها) هي الحاسمة في تلك النتائج، بل ان جمهورا غفيرا من الناخبين كان ينظر بازدراء الى اهتمام الساسة باسترضاء حكومات اجنبية فيما شعبهم بامس الحاجة الى جهودهم لكي ينعم بالاستقرار والكرامة.
ومن زاوية معينة يبدو للمحلل الموضوعي ان النخب السياسية، المتصارعة على السلطة، لا تفكر (وربما لا ترغب) في تفعيل العوامل الداخلية، وبناء الارادة الوطنية الاتحادية، للتقليل من تاثير وضغط التدويل القائم، وسيكون هذا التحليل مغلوطا لو اننا طالعنا في برامج تلك النخب ومطالعاتها وتصريحات اركانها خطط احتواء التدويل.



والآن، ثمة قليل من اصحاب وفرقاء الازمة الوزارية يطرح السؤال الوجيه: ماذا لو اخفقت جميع الجهود في التوصل الى توافق يسهّل تشكيل حكومة السنوات الاربع المقبلة؟ ذلك لأن عليهم الاجابة عن السؤال، وتبصير الجمهور بما سيحل في البلد من اقدار واحداث وانعطافات مخيفة، لعل اخطرها واكثرها درامية اعادة الانتخابات، او تقسيم البلاد، او اندلاع حرب اهلية، جنبا الى جنب مع احتمالات اخرى بسقوف مفزعة، ومآلات لا احد يقدر نتائجها، او العودة الى الوصاية الدولية.
وقد يصعب على المحلل الموضوعي الاستسلام الى الفكرة التي تقول بان التوافق السياسي (إذا ما حصل) سيضمن تفكيك الاحتقان السياسي وانهاء اخطار الاحتراب، كما يصعب عليه افتراض بان اللاعبين المتسابقين، والمهووسين بالسلطة، سيفتحون صفحة جديدة بينهم بمجرد اعلان تشكيل الوزارة التوافقية، او انهم سيتبارون في تقديم المساعدة والدعم للحكومة الجديدة وتمكينها من استعادة الاستقرار والخدمات والهيبة، واغلب الظن (في افضل الاحوال) انهم سيؤثثون المسرح بالمزيد من عناصر الصراع وستعلق الوعود والبرامج والتوافقات عند اول منعطف.
فقد القت سنوات الصراع السبع الماضية، وفصلها الشرس خلال وبعد انتخابات السابع، الكثير من الاحجار والالغام والخنادق في طريق التسوية الديمقراطية ، فيما غدت  حكمة التنازلات والتسامح والمرونة والمراجعة والتضحية بالامتيازات الفئوية والذاتية  ابعد ما تكون عن جدول البحث وطاولات وفضاءات الحوار، إلا في حدود الشعارات والجرعات الاعلامية الاستهلاكية، الامر الذي يعيد، آنذاك (او من الآن) طرح السؤال المحرّم: ما الذي يمنع المطالبة باعادة البلاد الى الوصاية الدولية، وهذه المرة بغطاء الامم المتحدة المباشر؟ بل وما الذي سيمنع ذلك في حال تخندق اسياد الازمة السياسية في انانيتهم واحلامهم الكارثية؟ واخيرا ما الذي يمنع النظر الى هذا الخيار (الكارثي بالمعنى البعيد) بوصفه عملية وقائية آنية تحول دون الاندفاع في تمزيق العراق، وتمنع تحوّله الى بؤرة خطر على امن المنطقة والعالم؟ وبمعنى آخر، هل سنضطر الى ترويج فكرة الاستعانة بابراهيمي آخر لتشكيل حكومة تسوية بكفالة دولية؟.
لنتذكر ان ثمة في ميثاق الامم المتحدة التزامات تقضي بالتدخل في اية منطقة توتر وصراع وتهديد للسلم في العالم، وبالنسبة الى العراق فانه، ومنذ سنوات طويلة، يشكل فاصلة حساسة في السياسات الدولية واستراتيجيات الحرب والسلام، مُعبّر عنها في طائفة من القرارات الدولية التي لايزال الكثير منها قيد التطبيق إذ بلعت 73 قرارا منذ العام 2001 وقبلها حوالي 30 قرارا خاصا باجتياح الكويت، ترخص جميعا  الى شكل من اشكال الوصاية والتدخل، فان القرار 1511 الصادر في 16 / 10/ 2004 يؤكد على “ أن إدارة شؤون العراق ستتم تدريجيا على يد الهياكل التي تشكلها الإدارة العراقية المؤقتة” وان القرار 1859 الصادر في 22 ديسمبر 2008 يلزم بـ”استمرار المشورة والمراقبة” في العراق من قبل المنظمة الدولية، والقرار 1883 في 7 آب 2009 يشير الى “مواصلة الاضطلاع بالولاية” في العراق على نحو ما، وقد تشكل هذه المنطلقات اساسا لقرارات جديدة تصبح ضرورية ووقائية في حال وصلت الازمة السياسية الى نقطة اللاعودة، وصار العراق عرضة لاطماع وتدخلات جيرانه.
اقول ان التدويل القائم في الواقع، والذي تكرسه القرارات الدولية والاحداث والصراعات الفئوية العبثية، قد يفتح الطريق (شئنا ام ابينا) الى نوع من الوصاية الدولية المطلوبة بديلا وقائيا عن انهيار شامل لا احد ينجو من شظاياه
العراق..
بديل وقائي عن حرب اهلية 

عبدالمنعم الاعسم
اسياد الازمة الوزارية في العراق قطعوا شوطا في دفع البلاد الى استعصاء تاريخي قد يفتح الطريق الى حرب اهلية ضروس، الامر الذي يطرح جملة من الخيارات الوقائية، ابرزها، وضع العراق تحت الوصاية الدولية المؤقتة، وهذه المرة، بكفالة واسم وتصرف الامم المتحدة.
لكن لنعد قليلا الى الوراء، فقد كانت التطورات السياسية في العراق منذ سبع سنوات قد طرحت موضوع مسؤولية المجتمع الدولي وجيران العراق وشركائه في الاقليم عن ضمان اعادة بناء هياكل الدولة العراقية وتأمين ضبط العلاقات بين مكوناتها وعقائدها وخيارات اطيافها السياسية، وفي هذا المعنى تكمن حقيقة (قد لايعترف بها الكثيرون) ان مصير العراق مدوّل، رضينا بذلك ام لم نرض.
فالدول التي تمر في حالة حروب مع جيرانها وانشقاقات اهلية وتعيش في سلسلة اضطرابات وانعدام السيادة وانفلات الامن وغياب الاستقرار وتتحول الى بؤرة عنف وارهاب وخطر اقليمي ودولي تصبح (بسبب ما تشكله من اخطار امنية واقتصادية) في قلب مشغولية العالم والدول المجاورة، وبمعنى آخر، يصبح نظامها السياسي شأنا دوليا، وطبعا، تحت تأثير القوى الاكثر ثقلا في السياسات الدولية، ونعني الولايات المتحدة الامريكية وحلفاءها الدوليين والاقليميين، وسيبقى التدويل قائما ومعززا بقرارات للمجتمع الدولي حتى تنهض القوى المحلية بمسؤوليتها في استعادة السيادة والاستقرار وبناء الارادة الوطنية المستقلة.
وقبل العراق حدث هذا في العديد من الدول الافريقية التي استقلت في الستينات من التبعية الاستعمارية، وفي لبنان. يوغسلافيا السابقة. افغانستان. الصومال، وقد يحدث في السودان، وفي اية دولة يتداعى فيها الحكم والاستقرار وتصبح مصدرا للعنف والعدوان على الدول او الامن الدولي.
وثمة الكثير من المؤشرات على رحلة التدويل (بالنسبة الى العراق) بدأت، في حقيقة الامر،منذ  ايلول العام 1980حيث قرر صدام حسين، آنذاك، اجتياح الاراضي الايرانية، وخلق مأزقا اقليميا وفراغا، سرعان ما شغلته الاساطيل الامريكية والغربية، وامسكت بمعادلة امن المنطقة وبكل ما يتصل بها من مصائر اقتصادية وسياسية، ولم يكن ليقلل من شأن هذا التدويل انحياز الغرب والكثير من دول المنطقة الى جانب العراق، كما لم تسقطه موافقة صدام حسين على قرارات مجلس الامن ذات الصلة، ورفض ايران لها، فقد اصبح واضحا ان الجانب العراقي هو الذي بدأ الحرب، وان الحرب خلقت معادلات استراتيجية وامنية جديدة في المنطقة اصبح مستقبل العراق جزءا عضويا منها، وهو المعنى المباشر لبداية تدويل الورقة العراقية.
ثم، تكامل التدويل مع مغامرة صدام حسين الثانية باجتياح الكويت، بل كُرّس على الارض وفي قرارات، زادت على العشرين، لمجلس الامن الدولي اجمعت على ادانة الاجتياح وتحميل العراق المسؤولية عما يترتب على هذه العملية، وانتهى الامر بوضع سيادة وثروات العراق تحت الوصاية الدولية، وإثقاله بسلسلة من العقوبات واجراءات الحصار، حتى لم تعد لحكومته سلطة او ارادة او هيبة، واصبحت مطلوبة في كل مكان.
 وفي تطور لاحق، كانت حرب اسقاط نظام صدام حسين (الاحتلال. التغيير) العام 2003 ونتائجها كرست، بلا شك، تدويل مستقبل العراق السياسي، وقد دخلت منظمة الامم المتحدة كراع، واحيانا كمنفذ، لهذا التدويل منذ ان باشر مبعوثها الاخضر الابراهيمي بمهمة(صفقة) تشكيل الحكومة العراقية الموقتة العام 2004على وفق قرار مجلس الامن 1483 ولم يخف الابراهيمي القول بان الحاكم المدني الامريكي بول برايمر الذي وصفه بـ”دكتاتور العراق” هو الذي طلب منه ان تقوم المنظمة الدولية بالمساعدة على تشكيل الحكومة العراقية .
 وكان سيمكن احتواء قيود ولوازم وتاثيرات هذا التدويل، والعمل، فيما بعد، على تصفيته ، فقط، عن طريق بناء ارادة موحدة ومنسجمة وراسخة للعراقيين، بجميع اطيافهم السياسية والقومية والدينية، وبمعنى ادق، بناء مرجعية عراقية وطنية مؤهلة، ومفوّضة من مكونات المجتمع، بمقابل المرجعية الدولية، ليتم، بالتفاوض الحثيث والمنهجي، وتهدئة وتأهيل الشارع، استعادة السيادة وسلطة القرار والشروع باعادة البناء، سبيلا الى كتابة الدستور واجراء انتخابات نيابية حرة ورشيدة.
 وكان سيضمن تحقيق هذه المقدمات لو اعطي الوقت الكافي(خمس سنوات مثلا) لفروض استعادة الثقة بين الجماعات السياسية المختلفة وتحقيق المصالحة الوطنية وتهيئة الملايين (التي خرجت توا من علبة النظام الاستبدادي القمعي) لممارسة “تمارين” اولية من الديمقراطية والحريات العامة، وتحقيق بعض الانفراجات في سبل المعيشة والدورة الاقتصادية، ولو لم تتخذ القرارات الانفعالية بحل الجيش واجراءات العقاب الجماعي ضد فلول النظام السابق والشرائح الموالية له والمنتفعة منه، ولو لم يجر استعجال كتابة الدستور والدخول الفوري في الانتخابات التعددية.
 لكن علينا ان لا نقع في التبسيط فنتغافل عن استبصار التأثيرات التي ترتبت على اندلاع دورة العنف والعصيان المسلح والجريمة المنظمة وانتقال البؤرة الارهابية العالمية للقاعدة الى العراق وتدفق الانتحاريين من كل مكان والمذابح الطائفية التي استتبعت هذه الدورة، حيث خلقت كل هذه المعطيات مبررات الاستقواء بالقوات الاجنبية، وادت(الى جانب ظهور المليشيات والنعرات الطائفية وتدخل وتمدد دور الجوار) الى تكريس تدويل المستقبل السياسي للعراق، وقد فاقم ذلك سلسلة الاخطاء والتخبطات المسجلة على ادارة الاحتلال، وانانية ونفاق وتدخل شركاء العراق في الاقليم، هذا بالاضافة الى استفحال الصراع على السلطة بين فرقاء العملية السياسية.
 اقول، ان تدويل مصير العراق، استند ويستند الى جملة حقائق على الارض، لا يقلل من شأنها إنكار البعض من الساسة لهذا التدويل، اوالاتهامات التي يتبادلها السياسيون بالمسؤولية عن هذا التدويل، او بمحاولات الاستقواء به، كما ان الخروج من هذا التدويل لا يتم عن طريق اطلاق الشتائم عليه، وضد من يدعو العالم الى التدخل من اجل نزع فتيل الازمة السياسية في العراق، والمشكلة ان الكثير من القوى المتنفذة والحاكمة انتفعت (بالمعيار الفئوي والشخصي) من التدويل، كما انتفعت منه، الى حد كبير، قوى الارهاب والتجييش والتكفير إذ اعتبرته مبررا لحربها  الاجرامية لتدمير الدولة العراقية وتنظيم المذابح الجماعية للمدنيين واقامة الدولة الاسلامية المتوحشة بديلا عنه.
 لقد تعامل ويتعامل فرقاء الازمة الوزارية مع حقيقة تدويل مستقبل العراق على الوجه التالي: نقبل التدويل والضغوط والاملاءات والتدخلات والقرارات الدولية والاقليمية حين تصب في مصلحتنا الفئوية، وتشد من ازرنا، ونقلب الدنيا عليها وعلى اصحابها، وعلى من يقبل بها، او يروج لها، حين تصب في مناسيب الخصم السياسي الذي ينافسنا على السلطة.
في التفاصيل يمكن للمراقب ان يتفهم دواعي واهمية زيارات مسؤولين كبار ووفود عمل الى عدد من العواصم الاقليمية وفق برنامج معلن، وعلى خلفية جداول اعمال ومفردات تتصل بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والامنية ما بين العراق وشركائه الاقليميين والدوليين، وما اسفرت عنه من اتفاق على اهمية استقرار العراق وفرض الامن ومحاربة الارهاب الذي يتهدده، كما يتهدد جيرانه.
لكن، بمقابل ذلك، تابعنا الضجة التي رافقت واعقبت زيارات الساسة وممثلي بعض الكيانات الفائزة الى الدول المجاورة (بخاصة) الى كل من ايران والسعودية، فانها (عندهم) مذمومة وتآمرية وتدخـّل في الشؤون الوطنية، وهيمنة، حين يبادر اليها طرف، وانها طبيعية “من اجل مصلحة العراق” حين يرد ذلك الطرف على خصومه، وقد تبادل الزائرون الى دول المنطقة لغة الاتهامات ببيع العراق، والعمل على الاستقواء بتلك الدول في الصراع على منصب رئاسة الحكومة.
وفي غضون الاحد عشر اسبوعا الماضية، منذ انتخابات السابع من آذار، حتى الان، تجسد هذا التعامل مع “العامل الخارجي” في ابشع صورة له، وتركز هذه المرة على دور الدول المجاورة في الصراع السياسي والطائفي، ونُشرت على نطاق واسع روايات وسيناريوهات وهياكل وعن ارقام ملايين ومليارات متدفقة، وجيوش سرية متوغلة، لصالح هذا الفريق او ذاك، كما طالعنا تقارير مذهلة عما يشبه المزاد العلني للمواقف والصفقات، وذلك جنبا الى جنب مع تصريحات لاصحاب الازمة تزيد من التشويش والاحباط.
لقد شجع هذا الاستطراد والعبث السياسي شهية بعض الفضائيات ومنابر الاثارة الاعلامية ومصادر تلفيق المعلومات وانتاج الكراهية والعنف والضغائن على اختزال عملية الانتخابات الى صراع اموال ومخابرات دول خارجية، أو الى ارادات عابرة للحدود، والحق ان اموال ومخابرات وإرادات تلك الدول لم تكن بعيدة تماما عن ساحة الانتخابات، لكنها لا تعدو عن كونها مؤثرا واحدا، وجزئيا، من المؤثرات التي حددت ملامح النتائج، فقد كانت الفعالية الشعبية (بصرف النظر عن درجة نضوجها) هي الحاسمة في تلك النتائج، بل ان جمهورا غفيرا من الناخبين كان ينظر بازدراء الى اهتمام الساسة باسترضاء حكومات اجنبية فيما شعبهم بامس الحاجة الى جهودهم لكي ينعم بالاستقرار والكرامة.
ومن زاوية معينة يبدو للمحلل الموضوعي ان النخب السياسية، المتصارعة على السلطة، لا تفكر (وربما لا ترغب) في تفعيل العوامل الداخلية، وبناء الارادة الوطنية الاتحادية، للتقليل من تاثير وضغط التدويل القائم، وسيكون هذا التحليل مغلوطا لو اننا طالعنا في برامج تلك النخب ومطالعاتها وتصريحات اركانها خطط احتواء التدويل.



والآن، ثمة قليل من اصحاب وفرقاء الازمة الوزارية يطرح السؤال الوجيه: ماذا لو اخفقت جميع الجهود في التوصل الى توافق يسهّل تشكيل حكومة السنوات الاربع المقبلة؟ ذلك لأن عليهم الاجابة عن السؤال، وتبصير الجمهور بما سيحل في البلد من اقدار واحداث وانعطافات مخيفة، لعل اخطرها واكثرها درامية اعادة الانتخابات، او تقسيم البلاد، او اندلاع حرب اهلية، جنبا الى جنب مع احتمالات اخرى بسقوف مفزعة، ومآلات لا احد يقدر نتائجها، او العودة الى الوصاية الدولية.
وقد يصعب على المحلل الموضوعي الاستسلام الى الفكرة التي تقول بان التوافق السياسي (إذا ما حصل) سيضمن تفكيك الاحتقان السياسي وانهاء اخطار الاحتراب، كما يصعب عليه افتراض بان اللاعبين المتسابقين، والمهووسين بالسلطة، سيفتحون صفحة جديدة بينهم بمجرد اعلان تشكيل الوزارة التوافقية، او انهم سيتبارون في تقديم المساعدة والدعم للحكومة الجديدة وتمكينها من استعادة الاستقرار والخدمات والهيبة، واغلب الظن (في افضل الاحوال) انهم سيؤثثون المسرح بالمزيد من عناصر الصراع وستعلق الوعود والبرامج والتوافقات عند اول منعطف.
فقد القت سنوات الصراع السبع الماضية، وفصلها الشرس خلال وبعد انتخابات السابع، الكثير من الاحجار والالغام والخنادق في طريق التسوية الديمقراطية ، فيما غدت  حكمة التنازلات والتسامح والمرونة والمراجعة والتضحية بالامتيازات الفئوية والذاتية  ابعد ما تكون عن جدول البحث وطاولات وفضاءات الحوار، إلا في حدود الشعارات والجرعات الاعلامية الاستهلاكية، الامر الذي يعيد، آنذاك (او من الآن) طرح السؤال المحرّم: ما الذي يمنع المطالبة باعادة البلاد الى الوصاية الدولية، وهذه المرة بغطاء الامم المتحدة المباشر؟ بل وما الذي سيمنع ذلك في حال تخندق اسياد الازمة السياسية في انانيتهم واحلامهم الكارثية؟ واخيرا ما الذي يمنع النظر الى هذا الخيار (الكارثي بالمعنى البعيد) بوصفه عملية وقائية آنية تحول دون الاندفاع في تمزيق العراق، وتمنع تحوّله الى بؤرة خطر على امن المنطقة والعالم؟ وبمعنى آخر، هل سنضطر الى ترويج فكرة الاستعانة بابراهيمي آخر لتشكيل حكومة تسوية بكفالة دولية؟.
لنتذكر ان ثمة في ميثاق الامم المتحدة التزامات تقضي بالتدخل في اية منطقة توتر وصراع وتهديد للسلم في العالم، وبالنسبة الى العراق فانه، ومنذ سنوات طويلة، يشكل فاصلة حساسة في السياسات الدولية واستراتيجيات الحرب والسلام، مُعبّر عنها في طائفة من القرارات الدولية التي لايزال الكثير منها قيد التطبيق إذ بلعت 73 قرارا منذ العام 2001 وقبلها حوالي 30 قرارا خاصا باجتياح الكويت، ترخص جميعا  الى شكل من اشكال الوصاية والتدخل، فان القرار 1511 الصادر في 16 / 10/ 2004 يؤكد على “ أن إدارة شؤون العراق ستتم تدريجيا على يد الهياكل التي تشكلها الإدارة العراقية المؤقتة” وان القرار 1859 الصادر في 22 ديسمبر 2008 يلزم بـ”استمرار المشورة والمراقبة” في العراق من قبل المنظمة الدولية، والقرار 1883 في 7 آب 2009 يشير الى “مواصلة الاضطلاع بالولاية” في العراق على نحو ما، وقد تشكل هذه المنطلقات اساسا لقرارات جديدة تصبح ضرورية ووقائية في حال وصلت الازمة السياسية الى نقطة اللاعودة، وصار العراق عرضة لاطماع وتدخلات جيرانه.
اقول ان التدويل القائم في الواقع، والذي تكرسه القرارات الدولية والاحداث والصراعات الفئوية العبثية، قد يفتح الطريق (شئنا ام ابينا) الى نوع من الوصاية الدولية المطلوبة بديلا وقائيا عن انهيار شامل لا احد ينجو من شظاياه

314
المنبر الحر / الكذب في السياسة
« في: 12:54 30/05/2010  »
الكذب في السياسة

عبدالمنعم الاعسم

 الكذب في السياسة اخطر اجناس الكذب لانه يتعلق بمصائر بشر ودول واحوال، وقد شغل هذا الموضوع الكثير من الباحثين والعلماء، وخلص لويس بلان عميد السوربون الى استحالة استئصال القيم الاخلاقية من الصراعات السياسية بالرغم من ان عالم السياسة ملئ بالخطايا، وبخاصة في خلال الانعطافات والاضطرابات.
 الآن، وكأننا في موسم اصبح فيه الكذب حلال، فلا حسيب ولا رقيب: الشاشة الفضية تكذب على الساسة فتنفخ في صورهم، والساسة يكذبون على بعضهم في حفلات اعلانية مدفوعة التكاليف، واولئك وهؤلاء يكذبون علينا بالقول انهم صادقون معنا، ولا يخفون عنا شاردة او واردة قط، ومرة،  قال رجل لأبي حنيفة النعمان: ما كذبتُ قط، فردّ عليه: أما هذه فواحدة.
 عندما وصلتُ بيروت، امس الاول، الخميس، سبقتني الاكاذيب الى هناك، فقد نشرت صحيفة محلية خبرا عن سياح اسرائيليين سقطوا في التفجيرات الاخيرة التي طالت احياء شعبية في بغداد "وكانوا قادمين من مناطق الاكراد" وللخبر رسالة تستهدف التجييش ضد العراق، وبجانبه صورة لضحية بلحية وطاقية سوداء مما يرتديه اليهود المتدينين، ولا اعرف هل تساءل قراء الخبر، كيف أمكن للاسرائيليين ان يتبختروا بازيائهم المعروفة في احياء بغداد دون خشية من العواقب.
  والكذبة تجر الكذبة، فنقرأ (في الادب) ان سبب انهيار الثقافة في العراق هو هيمنة الهواة على مؤسسات صناعة الادب (عجيب) علما بان سفينة نبينا نوح بناها هواة، اما تايتانيك التي غرقت بمن عليها فقد بناها كبار المهندسين المحترفين، وما دمنا في سيرة نوح، فقد رُوي انه حين كان يبني سفينته، كان يمر به الناس ساخرين منه لأنه كان يشيدها في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا بقربها، وتشاء الاحداث ان تتولى تلك السفينة انقاذ مخلوقات، من كل زوجين اثنين، تحدرنا من صلبها.
 البعض من اللاعبين والاعلاميين احترفوا الكذب في السياسة، وبعضهم اخذ الكذب هوية فيشار اليه بهذه الصفة التي استعارها من ايام المعارضة "السابقة" بما يعزز  قول العراقيين عمن احترف الكذب انه "اكذب من ابو مرّة" وابو مرة هو ابليس، او انه "اكذب من طير الفاختة" لأنه إذا حطّ على نخلة يصيح "هذا اوان الرطب" في حين ليس الوقت وقت رطب، وقولهم فيه ايضا"أكذب من مسيلمة" في اشارة الى مسيلمة بن ثمامة، سئ الصيت.
 وهو بعض من سوء حظنا.
ــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــ
"تعلمت من صعود وسقوط صدام ان السرعة ليست ضمانا للوصول دائما".
بعثي سابق   

315
المنبر الحر / يا رحمن
« في: 10:31 25/05/2010  »
يا رحمن

عبدالمنعم الاعسم

“الى رحمن الجابري”

لا استطيع ان اكتب عنك إلا بوصفك لم تمت بعد..
انها المفارقة الآسية، وقل الدراما التي احببتَ ضحاياه في نفسك، على وفق نصيحة هنري جيمس لنفسه “كن دراميا” إذ احسنت لاولئك الضحايا، في لوحاتك، حين القيتَ رؤوسهم على لحى اشجار باسقة، وكسبتَ ودهم حين فاجأتهم وهم يُستأصلون من الارض..
اعيد النظر الآن في لوحتك الشهيرة عن تهجير الكرد الفيلية، والتقط منها بلاءا حل ببشر طيبين، كما اشم رائحة الياسمين من امل يناديهم من مكان سريّ..
تلك هي الدراما، ومنها ألمَحكَ تستقوي على الموت بآخر طرفة ارسلتها الىَّ عن ذلك الرجل وابنه اللذان يمشيان في جنازة تتقدمها امرأة تندب عليه بالقول انهم سيذهبون بك الى دار لا فراش فيه ولا غطاء ولا خبز ولا ماء، فسال الابن والده: هل سيذهبون به الى دارنا؟.
لا اعرف انك كنت تجعل من اللوحة مزاحا مستحبا، ثم تحفر في مكان سريّ من فضائها اسئلة عن مصائرنا الملتبسة.
ففي اكثر من لوحة لك تضج وجوه كثيرة باسرارها. نبحث فيها عن انفسنا فنجدها في اكثر من وجه، واكثر من مصير.
 وانت من منفاك الجليل، إذ تجلس على الارض، مثل حائك يعكف على رصف الخيوط المبعثرة في نظام متخيَّلٍ، ثم توقع اسمك في اسفل اللوحة كاعلان عن الاستراحة من الركض، فقد ركضت كثيرا ياصديقي بحثا عن حلم فرّ من بين اصابعنا، واخشى انك وجدت الاستراحة اخيرا في الترجل من مهرك الرشيق الى شق في الارض، معتم وموحش.

كان ذلك في مطلع السبعينات.. قبل اربعين سنة.. حين التقينا، ولم نفترق ‘إلا في الجغرافيا وخلال انواء دبرها غيرنا في غياب او غيبوبة للعدالة، والآن، لدي بعض من رسائلك ولفتاتك تحرضني على الندم وملامة النفس، لأن الكثير منها كان ينتظر جوابي، ولم اكن املك الجواب.. هكذا علقنا اجاباتنا  الجميلة على اغصان الخريف اليابسة عُرضة للرياح العاتية، وكان موتك واحدا منها: مرثية قاسية تضرب احباء، وتكتب علينا ان نحزن على الدوام.
احدى لوحاتك بين يديّ الآن: سيدة (او احلام) تتكئ على شجرة انهكتها، كما يبدو، رحلة شاقة، ولولا مداد من البرق والضوء لانكفأتْ السيدة، لكنها، كما هو حالك وحالنا جميعا، تراهن على امرٍ ما، او على نداء يمر حاملا قطرة الحياة، حيث يبوح القمر بكلماته الفضية من بعيد، وهكذا، يارحمن، لا تتركنا هذه الحياة الى يقين الموت، وهي لعبة برعتَ فيها، وجاء نبأ وفاتك ، في مجرى الاسئلة التي كنا نطلقها دائما: لماذا كل هذا؟.

في هذه اللحظات الملتبسة تستيقظ لوحاتك.. لكن ثمة شئ عزيز ينام الى الابد.

ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد
“عندما تأتي البلايا، فانها لا تأتي كالجواسيس، فرادى”.
شكسبير

316
المنبر الحر / يهبون ما لا يلكون
« في: 17:33 21/05/2010  »

يهبون ما لا يلكون

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

عندما قال الشريف الرضي في احدى قصائده:
وخـُذ النوم من عيوني فاني.................
                         قد خلعتُ الكرى على العشاق     
 قال قائلهم، وكان للقول آنذاك فعل الدواء: "خلع الشريف ما لا يملك لمن لا يقبل" ومضى القول مثلا ونصيحة.   
ولمّا اوعد هتلر الامريكان بنصف الكرة الارضية في حال تحالفوا معه لينتصر على السوفيت والاوربيين، قال مهرج امريكي، فيما كان التهريج يومها حرفة رائجة: اعطانا الفوهرر كأس شاي ثقيل قبل النوم.
 ويوم وهب صدام حسين الفقراء العرب ثروة النفط في الكويت والسعودية قبل ان يستحوذ عليها  (ام المعارك)هتف خبير اقتصادي دولي قائلا: انه تبرع بثروة الاخرين الى الاخرين، فيما مستقبل ثروته، وحكمه ايضا، قيد المجهول، ثم قال: اقبضوا عليه قبل ان يوزع خزائن الذهب في العالم على المتسولين.
 وحين نصح الصينيون، قبل سنوات، وفدا من رجال الاعمال الايطاليين بوجوب الاهتمام بالتجارة والاستثمار مع القارة الافريقية قال احدهم لصحيفة الكوياريه ديلاسيرا “انهم اعطونا حيتانا كاسرة في بحر هائج”.
 وتشاء ازمة تشكيل الحكومة الجديدة ان يتزايد المتبرعون بوصفات حلول، لا تكلفهم شيئا، ولا تفيد إلا بتزييت ماكنة الازمة وتغذي هوس التزاحم على المركز الاول، وقد نقلت فضائية تحضّ على “المقاومة” عن زعيم عربي نصيحة (الى العراقيين) بوجوب العودة الى النظام الملكي الذي “يؤمن الرخاء والسلام الاهلي” وانه ابدى استعداده لتقديم خدماته في هذا المجال، على الرغم من ان العراقيين صوتوا بالاغلبية الساحقة على خيار الجمهورية في الاستفتاء على الدستور، وبمعنى ما، فقد جاءت النصيحة على  مقاس “وهب الامير ما لا يملك لمن لا يرغب”.
 وبصرف النظر عن وجاهة خيار النظام الملكي، او عدم وجاهته، فانه لا يمكن للعراقيين ان يرفضوا، او ان يقبلوا،  هدية لا وجود لها في الواقع، وهي خارج يد المـُهدي والمـُهدى اليه معا،  كما انهم ليسوا في حال من البطر بحيث صاروا يبحثون عما يحسّن مزاجهم، او يعالج مللهم، فالقضية تتصل بحاجتهم الى حل واقعي وسريع، ومتوفر على الارض، ينقذهم من مخاطر داهمة وانشقاقات كارثية، هذا عدا عن سؤال وجيه بهذا الصدد: لماذا لم يقدم صاحب النصيحة هديته الثمينة الى بلاده، وهي احوج ما تكون  ايضا الى الرخاء والسلام الاهلي؟ لماذا.
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
."إن شئت ان ترى حقائق الاشياء، فتأملها وعيناك مغمضتان"
جبران خليل جبران


317
المنبر الحر / سجون X سجون
« في: 17:15 19/05/2010  »

سجون X سجون

عبد المنعم الاعسم

السجون الخاصة باصحاب الرأي عار في جبين التاريخ كله منذ ما قبل حالة الفيلسوف سقراط الى ما بعد حالة المخرج الايراني جعفر باناهي.
ويشاء هذا العار ان يظهر بالالوان الطبيعية الهمجية في العصر الحديث في دول قليلة مشمورة خارج المدنية والتحضر وحقوق الانسان، وتشاء المهزلة (رقم واحد) وعلى الرغم من تحريم هذا النوع من السجون في مواثيق وقوانين ان يعرف الرأي العام الدولي اسماء هذه السجون في كل دولة من دول العار فيما هذه السجون مجهولة لدى مواطني تلك الدول، بل ويجري تداول اخبارها وبشاعاتها بالسر بين اسر الضحايا ودعاة الحقوق المدنية وكواليس وبيانات المعارضين.
اما المهزلة (رقم اثنين) فانها تتمثل في ان الكثير من هذه الدول وقّعت ولا تزال توقع على المواثيق الدولية التي تُلزمها باحترام حرية الرأي وتأمين سبل التعبير عنه والامتناع عن إعتقال اصحابه. وتشاء المهزلة (رقم ثلاثة) في هذا الصدد، وهي اقبح المهازل واشنع علامات العار، ان تظهر في الواقعة التالية: دول تضم سجونا وحشية لاصحاب الرأي (معروفة لدى المنظمات والهيئات الدولية باسمائها ومواقعها) ثم تسرع في استنكار وجود سجون للرأي في دولة اخرى ، وتتحمس لعرض معاناة وحقوق ضحايا سجون الغير في محافلها واعلامها الرسمي وغير الرسمي وعلى نطاق واسع، فيما يتولى طبالون وكتاب واعلاميون تسويق هذه الحملة التي تستهدف تزكية اصحاب النعمة والتعتيم على اوضاع السجون والمسجونين السياسيين وعلى انتهاكات الحقوق المدنية في بلدانهم.
هذا ما حدث في حالة سجن ابو غريب ومعتقل الجادرية وسجن المثنى في العراق اخيرا، من احتجاجات لدول وساسة (واعلام تابع) في الاقليم، بالرغم من ان الكثير(اقول الكثير) من معتقلي هذه السجون العراقية هم من عتاة المجرمين ومخططي ومنفذي المذابح التي طالت آلآف المدنيين الابرياء، دون ان يبرر هذا، طبعا، اعمال التعذيب والتعدي على الجثث واهانة المعتقل واذلاله التي جميعا موضع استنكار كل داعية للحرية وحقوق الانسان.. فان للجريمة سياقاتها القانونية، ولها عقابها العادل في سوح القضاء وتفرضها قواعد التحقيق المهني المرخص له وفق قيم العدالة.
روبرت فيسك، الصحفي البريطاني مرّ (في الانديبندنت) في بعض تقارير عن سجون راي عربية اسماها بـ”معسكرات اعتقال” على منهج معسكرات الاعتقال النازية، وكشف عن عيّنات من ضحايا السجون السرية لهذه الدول التي قلبت الدنيا، نفاقا، على ما حدث في سجون العراق من انتهاكات، وخلص الى السؤال المدوي التالي الذي وجهه الى القراء العرب: "مَن مِن القراء العرب يستطيع ذكر اسم سجين واحد حبيس في معسكرات الاعتقال العربية؟ ومن من السياح الذين يزورون (واحدة من هذه الدول) يعرف بان حراس احد سجونها يرغمون النزلاء على اغتصاب بعضهم بعضاً؟"..
والسؤال ليس طلقة في الهواء فان سجل هذه الدول زاخر باسماء السجون السرية التي استعصت على منظمة العفو الدولية وممثلي لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة الدخول لها، او حتى الاطلاع على بناياتها من الخارج ، فان “المرور ممنوع” من مسافة عدة كيلومترات من تلك البنايات، كما جاء في وثيقة  نشرتها جماعة للحقوق المدنية في دولة شرق اوسطية، وفي هذا السجل تأشيرات لسجون عربية تحمل اسماء مثل : ابو سليم . تدمر . النساء . الحاير . خالد الراشد . بليدة . المنصورة . طلحة . صيدنايا ، وذكر احد ضحايا تلك السجون في شهادته المدونة لدى منظمة العفو الدولية قائلا : “عندما زرت متحف الشمع الشهير في لندن ودخلت صالة زنزانات القرون الوسطى حيث يجري انتزاع روح الانسان بالسياط والبساطيل وفنون التعذيب تذكرت محنتي فس سجون بلادي التي لا يعرف عنها العالم شيئا”.
 هنا، في هذه الدول التي تتباكى على ما يحدث في سجون العراق ، تنتهك العدالة مرتين ، مرة ، بابداع صنوف التعذيب ، ومرة اخرى ، بالنفاق .
ـــــــــــــــ
كلام مفيد :
“اذا كنت لا تستحي .. إعمل ما تشتهي”.
 مثل عراقي .

318

الازمة وخرافة  المنقذ
ـــــــــــــــــــــــ
عبدالمنعم الاعسم

خرافة اخرى في السوق السياسي: “واحد ينقذ العراق.. لا غيره” يقال انها جاءتنا من الخارج على هيئة نصيحة، ويقال انها طبخت في غرف مظلمة، ويقال ان المنقذ نفسه صدق الكذبة مثلما صدق اشعب كذبته يوم قال للاولاد ان ثمة وليمة باذخة في منعطف اقصى البيوت، وحين هرعوا الى صوب الوليمة المزعومة ركض وراءهم وهو يردد: ربما الامر صحيحا فانال وجبة دسمة.
الجدل الدائرحول اختيار السياسي المناسب لمنصب رئيس الوزراء ينزلق شيئا فشيئا الى التقليل من شأن وجدوى وضرورة وشرط مبدأ الشراكة، والحاجة الى العقول الجمعية، كما يتجاوز حقيقة ان مشاكل العراق الكبيرة اكبر من ان يستوعبها عقل لوحده، أو ارادة شخص واحد، او رئيس حكومة بعينه، ويلاحظ من بعض التصريحات المراهِقة والكتابات المدّاحة والاعلانات التلفزيونية الفاقعة ترويجٌ متصاعد لخرافة ان هذا المرشح او ذاك هو "المنقذ" الذي سيأتي بالحلول، وبالامن والكهرباء وراحة البال، لأنه الوحيد الذي يعرف فوق ما يعرفه الاخرون، ويعمل ما لا يستطيع ان يعمله غيره، ويخطط ما لم يكتشفه احد من المخططين والاستراتيجيين من الخطط، وانه الذي سوف يجترح المعجزات، و"يمشي فوق الماء".. ولخرافة المشي فوق الماء قصة نأتيها في خاتمة المقال.والمشكلة، ان الذين جربناهم، والذين لم نجربهم، جاءتهم الفرص المواتية لكي يكونوا منقذين حقا فاخفقوا في ان يكونوا كذلك، ولنقل(للموضوعية) انهم قدموا (على نحو متفاوت) بعض الاعمال والمنجزات والمبادرات بالحدود التي اتاحتها طاقاتهم المحدودة وامكانياتهم وتجاربهم الذاتية، وبالقدر الذي سمحت بها ظروف العراق، مقابل اخفاقات وخطايا وعثرات وتخبطات نجني كوارثها وثمارها المرة على مدار الساعة.
الحقيقة، ليس ثمة رئيس وزراء مقبل، وتحت اي توصيف جاء به الى المنصب، قادر، بالاعتماد على مشيئته ذاتها وعقله وحده ومعارفه الفكرية والسياسية الخاصة به (وحتى فريقه الانتخابي) على انقاذ العراق مما يهدده من اخطار، ولحسن الحظ فان البعض من المعنيين بطهي التركيبة الحكومية المقبلة صاروا يستبعدون وصفة "المنقذ" الذي سيشق البحر الى الخلاص.
اما حكاية المشي فوق الماء، فقد جاء احد مريدي الصوفي سهل التشتري المتوفى عام 886 ميلادية وقال له: ان الناس يقولون ان بمقدورك ان تمشي فوق الماء، فكان رد سهل بان طلب منه الذهاب الى مؤذن في المدينة معروف بصدقه كي يسأله عن الامر، وحين ذهب المريد الى المؤذن تلقى الجواب الشافي منه إذ قال له: انا لا اعلم إن كان شيخنا سهل يمشي على الماء، ام لا، لكن ما اعلمه هو ان الشيخ الجليل حين قصد حوض الماء ذات يوم بغية الوضوء سقط فيه وكاد ان يموت غرقا لو لم اسارع الى نجدته وانقاذه.
 ــــــــــــــــــ
 كلام مفيد:
"قل، لا أقول لكم عندي خزائن الله".
قرآن - سورة الانعام

319

ماذا يجري في بغداد؟

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 مصادر كثيرة من داخل كواليس السياسة والحوارات ودوائر الامن تفيد بوجود شئ ما غير مريح يتربص بالوضع القائم الذي يعاني من الهشاشة وانعدام الثقة وعض الاصابع والاستثارة. ربما، هو اشبه برائحة دخان خانق تنتشر في الاجواء، لا احد يقدر ما هي البصمات التي ستتركها على الخارطة السياسية والامنية في حال فرشت مظلتها المدمرة على البلاد.
 الغريب في الامر ان كل ذلك يجري في وقت حققت الحملة الامنية ضد قوى الجريمة والارهاب نجاحات مهمة كان ينبغي ان تنعكس مباشرة على الحياة اليومية للعاصمة، ويعتقد محللون موضوعيون بان تفكيك خلايا القاعدة اثار مخاوف فئات منتفعة، ومتنفذة،  من الطائفتين (يشار لها بالبنان) كانت قد حققت وتحقق مكاسب سياسية ونفوذ من حالة عدم الاستقرار وانتشار الاضطراب والفوضى في مفاصل الوضع الجديد. 
 الى ذلك فان مفردات الرائحة غير الطيبة كثيرة، يمكن التقاطها من عودة إشارات التجييش في التصريحات التي تنطلق من رؤوس الازمة السياسية، والتهديدات والتهديدات المضادة بينهم، ومن لغة الحسم العسكري، وما يقال عن عودة انشطة مليشيا جيش المهدي هنا وهناك، وتحريك رؤوس الفتنة الطائفية بالاستعداء المنظم لطائفة ضد اخرى، ومن حالات التضييق(وإن كانت محدودة) على حريات المواطنين والتدخل في ممارسة حياتهم الشخصية كما كان يجري في العام 2006 وما بعده، في حين تلقت موظفات وطالبات كليات وعائلات نصائح من وكلاء بالتزام الحشمة وضرورة لبس السواد، وتحريم الاستماع الى الاغاني، وهُددت مصالح وخدمات محلية ترفيهية بالعقاب "في حال التمادي" في تقديم خدماتها.
 ومن اطراف بغداد تتواتر انباء عن اصطفافات(وصفقات) عشائرية تتحسب لاخطار وهمية، او حقيقية، محدقة بالتوازن السياسي والاجتماعي والطائفي، وانسحب هذا الغبار الى احياء كبيرة في العاصمة تضم مشتقات عشائرية ودينية، وتفيد الكثير المعلومات عن اموال عابرة للحدود تصرف بسخاء لشراء افخاذ او زعامات ريفية، في جولة ناشطة لاستقطاب الاتباع والموالين، وتؤكد معلومات نشرت في الصحف عن اغتيالات طاولت ابناء عشائر، بينها القليل لتصفية حسابات قديمة، واكثرها يلفها الغموض. 
 كما يمكن الاستدلال الى الرائحة غير الطيبة من استعصاء الحل السياسي وانغلاق سبل التوافق واستبعاد الحلول الوسط، وتنشيط مصادر الاحتقان، واستمرار التجاذب بين مفوضية الانتخابات وهيئة الاجتثاث وهيئات القضاء المعنية حول مصير نتائج الانتخابات، ومن اجتماعات طويلة بين فرقاء الازمة لا تسفر عن نتائج، او تبقى نتائجها طي السرية والكتمان وما يتسرب منها يثير الهلع والخوف، ومن ريبة وشكوك ومحاولات تآمر وإقصاء ومزاحمة تضرب جميع التحالفات السياسية ، ومن انباء وشائعات عن ابتعاد سياسيين ولاعبين عن الحلبات، والى ما وراء الحدود، لادارة التجييش وخيوط التصعيد.
 ثمة قليل من ابطال الساحة من يعرف بان احدا لن يكسب من وراء هذا الاستطراد غير المسؤول.. فالرائحة الخانقة لا تفرق بين مَن هو نائم او هو يتثاءب.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"عندما يصبح الشيطان عاجزا عن الفتنة فانه يطلب العون من بعض البشر" .
 " جلال الرومي
 


320
بعد السقوط..
ما الذي سقط؟ وما الذي لم يسقط؟

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

 نعم، سقط رجل مستبد من علياء السلطة الى المزبلة، ففي التاسع من ابريل 2003 كان موعده مع نهاية الشوط، أو كما قال مندوبه لدى الامم المتحدة محمد الدوري آنذاك: "انتهت اللعبة" وهو تعبير يجمع بين الذهول الذي عم العالم حيال هذه الحرب التي حطت ركابها في ساحة تحرير بغداد ، وبين التسليم لزمن قاهر لا يعود الى الوراء، مثل اي حالة موت.
 كان سقوط الرجل مدويا، في الزمان والمكان، وكان سيكون اكثر دويا واثرا لولا تلك المراهقات السياسية للكثير السياسيين القابضين على سلطة ما بعد السقوط، ولولا نعرات التشفي والانتقام الطائفية وسلسلة المحاكمات، هابطة المضمون والاداء والمستوى، ولولا "خربطات" برايمر ونزقه، وتخبطات جيش الدولة الغازية، وكل ذلك ترك لـ"ساقط" هامشا يلعب فيه برهاوة، هو، ليعيد تركيب الهزيمة الشنعاء التي مني بها باقل كلفة من الصفاقة، وغيره، لكي يحاولوا احياء ارث عتيق من النحيب على الاطلال وعلى ضياع الاندلس، ثم ليجعلوا منه ذكرى آسفة، او عنوانا لاعادة عقارب التاريخ الى الوراء.
 لم يكن صدام حسين يتصرف، ولا لمرة واحدة، انه سيترجل عن السلطة، بل انه لم يكن يعتقد ان قوة على الارض بمقدورها القائه خارج اللعبة، وقد عبر عن هذا الوهم القاتل في ما لا حصر له من المواقف، فعدا عن الاف النصب والجداريات التي انتشرت في ساحات بغداد والمدن العراقية وحرصت على "تخليد القائد" فانه دس اسمه، صريحا او مؤشرا له، في رقائق وزخارف واحجار دينية وآثارية ترفعه الى مصاف الانبياء، وتختزله الى اية سرمدية من آيات الكون، ولنقف سريعا عند "جامع ام المعارك" الذي تركه "على العظم" فالمنارات اشبه براجمات الصواريخ، على ارتفاع 43 مترا بعدد ايام القصف الجوي في حرب الكويت فيما عدد المنارات الداخلية الاربع تشير الى شهر ولادته (نيسان) وارتفاعها البالغ 37 مترا يؤرخ العام الذي ولد فيه، فيما الفسقيات البالغ عددها 28 فسقية فهي يوم ميلاده، وهكذا اختصر هذا البناء الذي شاء له ان يكون اكبر جامع في العالم الى مفردة تشكيلية تتحدى القدر، وتنتصر عليه.
 عندما سئل عدي، ولده، مرة من مراسل اجنبي عن رأيه في "خلافة الوالد" ضحك استهزاءا من عقل المراسل، قائلا: عمره طويل، وعندما كان يزور العتبات المقدسة كان يحرص على سماع رواية انه من سلالة النبي، وفي التاريخ كان الاسكندر الكبير قد فرض على الكهنة الاعلان عن كونه ابنا للالهة زيوس.
     
ان الكثير من المتابعين لسقوط نظام صدام حسين اعتقدوا ان احدا من العراقيين لن ياسف على رحيل ذلك العهد الذي ترك من الذنوب والخطايا بحقهم ما لا يستحق الاسف، بل اقله الازدراء ، كما اعتقد البعض منهم (في الغرب بخاصة)بان الطبقة السياسية الجديدة التي تصدرت الحكم منذ التاسع من نيسان قبل سبع سنوات ستأخذ العبر من نتائج تشبث صدام بالسلطة، وتهميش المعارضين والشرائح المتذمرة، غير ان الصراحة والموضوعية تلزمان القول ان تلك الفرضيات لم تتحقق على الارض، إذ اكتوت شرائح آمنة بعواصف الغبار الطائفية وبتردي الخدمات وانعدام الامن والاستقرار ودفعَ العشرات من الالوف من العائلات ثمنا باهضا من التضحيات والتنكيل في مجرى انتشار الاعمال الارهابية والاستئصال الطائفي الامر الذي جعل الكثيرين يحنون الى العهد السابق بالرغم من مساوئه الوفيرة.
 من جانب آخر كرر الكثير من السياسيين واصحاب القرار ممارسات صدام حسين وطريقته في ادارة الشؤون العامة والاستئثار بالسلطة والتصرف بالمال العام، بل واهداره، وتكوين البطانات والحبربشية من ابناء القرية والعشيرة، فضلا عن التعالي على المواطن، ومخاطبته من وراء حزام الحراسات السميك، والصارم، وينبغي ان نضيف الى هذه الحقائق حقيقة اخرى لا تقل اهمية وخطورة وتتمثل في إبقاء الغالبية الساحقة من القوانين التي اصدرها صدام حسين، والتي شكلت قيدا على حياة الملايين العراقية بما اتسمت به من زجر وكيفية.
 في هذه المفارقة التاريخية، وتناقضاتها وفجاجاتها، بدا ان الدكتاتور صدام حسين سقط ولم يسقط .. سقط، كنظام سياسي لا رجعة له، لكنه استمر في جانبين،الاول، في ما يتعلق بانصار واتباع بقوا ينفخون في "امل" انهيار التغيير وعودة السلطة اليهم، والثاني، استمرار فن الحكم الصدامي في الممارسات والاساليب والاخلاقيات وقواعد الحكم، وحتى في اضراب الرؤيا للعلاقات مع العالم والدول المجاورة.
 على ان التطبيقات الكيفية والطائفية والمضطربة لاجتثاث البعث واستهداف بعض الاجراءات خصوما سياسيين خلقت هي الاخرى اجواء يستطيع معها غلاة المجرمين في العهد السابق يظهرون كما لو انهم ضحايا لنزعة الانتقام وشفاء الغليل، الامر الذي اضاف تعقيدا لمسار التغيير، ووضع منجزاته في مهب الريح، وطرح سؤالا وجيها على الوجه التالي: ما الفرق بين هذه الاجراءات الاستئصالية واجراءات صدام حسين التي لاحقت المعارضين، واجتثت ارادة الشعب ايضا؟.
في نهاية الامر هُزم البعثيون، لكن البعث لم يُهزم. هذا وجه آخر من المعادلة التي تسقيم تماما مع الحقيقة حين نؤكد بان البعثيين المعنيين هم اصحاب خط صدام حسين ، وان البعث الذي نخصه هنا هو البعث الصدامي الذي حكم العراق بعد العام 1968فان قرارات الاجتثاث شملت قادة وكوادر واعضاء الحزب الحاكم سابقا، وعبَرت من فوق منهج وثقافة وسلوك  البعث في التجييش والاستفراد بالسلطة وهوس الشعارات وقهر واخضاع  ارادة الملايين (والخوف منها) ورهنها في سجون "مصلحة الامة" او "المعركة القومية" وغيرهما.
 يلزم ان نذكر ان التجربة الالمانية في "اجتثاث" الحزب النازي، وهو لا يختلف كثيرا عن حزب صدام، كانت ستنفع في التعامل مع قضية حزب البعث، إذ اُعلن هناك عن عفو عام عما يزيد عن عشرين مليون من اعضاء الحزب النازي ممن لم يرتكبوا اعمالا جرمية بحق المدنيين، واقتصر القصاص على 700 من كوادر وقيادات الحزب، فقط، بواسطة محكمة نورنبيرغ الخاصة، ودون المساس بحقوق عائلاتهم، فيما وضعت خطة تربوية وسياسية منهجية، وطويلة الامد، لمعافاة جيل الماني كامل من ثقافة الكراهية والتجييش والشوفينية البغيضة، وقد استمرت الحملة التي شارك فيها خبراء ومختصون وعسكريون سابقون وقسس واكاديميون حوالي خمسين سنة، واتسمت بالصبر والعلاج الجسماني والفكري والسايكولوجي، من دون عزل او محاربة في العيش او حجر او تنكيل.
 من زاوية معينة بدا لبعض الشرائح السياسية والطائفية الجديدة التي تصدرت المسرح السياسي بعد التغيير ان مشكلتها مع النظام السابق ليست سلوكية في جوهرها، بل هي من النوع الذي يتصل بالصراع على السلطة، وإحلال عشرات الالوف من الاتباع، وبأدوات طائفية، محل موظفين خدموا نظام الحزب الواحد، ولوحظ ان منطقة ما شهدت انتقالا شفافا لشبيبة البعث الصدامي نحو تشكيلات محلية مسلحة دون ان تشعر بغربة الشعارات السياسية الجديدة التي تقاتل تحتها.
/والذي لم يسقط هنا، حقا، هو الرغبة الحقيقية لبعض الفئات الدينية النافذة في تفكيك الاثار السياسية والسايكولوجية والثقافية لهيمنة الحزب الواحد على الحياة العامة ومصائر الملايين العراقية، واحسب ان سبب الهروب من هذه المسؤولية يعود الى  الخشية من دمقرطة المجتمع التي، وحدها، تهئ المناخ لشفاء الاجيال العراقية من لوثة عبادة الطاغية، ومن دونها يستحيل خلق مجتمع متوازن وسلام اهلي وطيد، هذا عدا عن الشراكة، غير الخافية، في الاعجاب الضمني بحكم الفرد والسعي بمختلف الاساليب الى فرض هذا الحكم، وفي تقويم السنوات السبع الفائتة امثلة حية(وقل معارك طاحنة) لنزعة الاستفراد بالحكم.
 في المحصلة، لا اعرف متى سيأتي اليوم الذي سنراجع فيه حقبة صدام حسين بموضوعية، على قاعدة ما له وما عليه.. ما ينبغي ان يسقط ويُحتقر ويدان من جرائم وسياسات ونهج وحروب وثقافة وحملات انفال وعقاب جماعي وتمييز وفن حكم، وما ينبغي ان يبقى ويحافظ عليه من تشريعات وبنايات وشوارع وسبل ادارة وبعض اجراءات الردع ضد العصابات والفاسدين والتجاوزعلى القوانين؟.
 احسب ان الشق الاول من المعادلة ذي الصلة بذنوب صدام حسين ومخلفاته الدكتاتورية الاجرامية تحققَ بطريقة شابها الكثير من الانفعال والانتقائية والخلط وانعدام التحسب القانوني وضعف البينات والتهم وعجالة الاحكام، بعيدا عن التدقيق الاحترافي الصبور في الخطايا المتوارثة، وتشخيص نوعية الجرائم وحماية المساءلة من شبهة الطائفية وشفاء الغليل، الامر اذي اضر بالصورة الجاهزة عن معاناة العراقيين في ظل نظام البطش والشوفينية والعدوان.
  وكان الحساب سيكون اكثر تطابقا مع قواعد الحق، والقصاص اكثر عدالة، لو ان الحكم على عهد صدام حسين وعليه شخصيا جرى من قبل عقول حكيمة وفي سياق من التمعن والاحتساب وتقدير ردود الافعال، بل وسيكون ذلك في صالح عهد الدولة الجديدة التي كانت احوج ما تكون الى الصبر في بناء العهد والنفوس والقيم الجديدة، بدل ان تصنع من الطاغية مفردة محرجة تستخدمها ضد العراق منظمات العفو وحقوق الانسان سوية مع حكومات وفئات منبوذة ومطلوبة هي الاخرى القصاص.
 وإذ حدث ما حدث، فان الهجمة الارهابية، وحرب الردة، وثقل الوجود العشكري الاجنبي، وطوال السنوات السبع العجاف، حالت جميعها دون اعادة ترتيب قواعد الحساب والمساءلة على نحو بنّاء ومتكامل وخال من الفجوات، وفاقمها ايضا الصراع الفئوي الذي رهن الحساب والمساءلة في السباق على السلطة ومحاولات تسقيط الخصوم او إضعاف سلطة القرار، وانشغلت الطبقةالسياسية في سلسلة مديدة من التجاذبات حول حدود القصاص "والاجتثاث" الذي ينبغي ان ينزل بـ"من لطخت اياديهم"
 وفي هذه الحمية، صار الحديث عن وجود مفردات "ايجابية" للعهد السابق ينبغي حمايتها، هنا وهناك، بمثابة مغامرة قد تكلف صاحبها الحساب، او العقاب، او العزل، بالرغم من ان المراقب يمكن ان يعدد الكثير من تلك المفردات التي دخلت في اقنية البناء الجديد للدولة، بل ان بعضها الكثير صار يُستثمر من مرافق وفعاليات وتكيات، تذكرنا بالسمك "الماكول والمذموم" في الامثال الشعبية، ولو لم تكن رسالة هذه الكلمة التحريض على الوعي الجديد لأوردنا المعنيين بالاسماء.
 بكلمة، فان العراق الجديد، لا يعني، ان كل شئ فيه من اختراع التاسع من نيسان، ولا يعني (وهو المهم) ان كل ما توارثناه جذام.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
"اذا لم تعلم الى اين تذهب فكل الطرق تفى بالغرض." .
مجهول     
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



321
رسالة مفتوحة الى رئيس الوزراء المقبل

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

دولة رئيس الوزراء..
اعرف انك وعدتنا كثيرا، واسرفت في هذه الوعود فوق ما تتحمله الظروف، وما يسمح به الواقع، واعرف ان وعود الانتخابات غالبا ما توضع طيّ سجادات السلطة وصفقات الحكم، وان الوعود وحدها لم تكن رافعة وصولك الى الرقم الاول في السلطة التنفيذية، بل ثمة روافع اخرى واقدار معينة وضعتك في منصب خطير، هو من اخطر مناصب الدولة العراقية الجديدة.
واعرف ان برنامجك الوزاري سيلامس الكثير من اشواقنا وشكاوانا، وستزدحم حمولته بالخطط والمشاريع والوعود ايضا، وسيشير الى ما ننتظره من مكافحة الفساد واستعادة دورة الادارة والخدمات، سوى انك ستلقى الكرة في ملعبنا، مرة اخرى، بالقول ان ذلك لن يتحقق من غير دعمنا لك، وستتوجه للذين انتخبوك والذين لم ينتخبوك بالدعوة الى التكاتف من حولك، والى المزيد من التضحية والصبر فوق ما كابدناه من التضحيات الاسطورية والصبر الجميل.
واحسب ان حكومة من ضرع واحد، ومن خيار واحد، ومن معسكر واحد، ومن قائمة واحدة اقرب الى لوازم الديمقراطية في وقت نعدّ لتحضير هذه اللوازم، وهي ايضا اقرب الى كفالات الاستحقاق الانتخابي و التجانسالمطلوب في الحلقة التنفيذية من الحكم، ونحن احوج ما نكون الى التجانس في هيئة اركان السلطة، والديمقراطية في احياة العامةوهي، الى ذلك، اكثر قدرة على تحريك الاقنية المعطلة في ماكنة الدولة، لكن، ما العمل حيال استحالة تشكيل مثل هذه الحكومة؟ بل وما العمل حيال الظرف التاريخي الحرج الذي يتوجب فيه تشكيل حكومة شراكة يتحمل فيها منافسوك في الانتخابات مسؤولية الادارة معك، ويقاسموك سلطة القرار؟
في هذا، دولة رئيس الوزراء المقبل، يكمن التحدي الذي يواجهك، واعني، في ادارة حكومة متنافرة لا يأتمر وزراؤها، فقط، بمشيئتك، فلهم مشيئات واحزاب ومراجع اخرى، وقد لايشاركوك فلسفتك وتصوراتك ومنطلقاتك، فلهم مصادرهم في الفلسفة والتصور والمنطلقات، وفي هذا حصرا، دولة رئيس الوزراء المقبل، عانا سابقوك من رؤساء الحكومات وتخبطوا، واخفقوا، لأن ادارة حكومة متنافرة في الاهواء والاجندات تحتاج الى مهارة كيميائية وسعة صدر، وتدبر، ومرونة، وحكمة، لكي يتحول التنافر هذا الى عامل قوة اضافية للحكومة، وفي ظني، ان حكومة شراكة من قوى مختلفة تستطيع ان تعبر بالعراق الى ضفاف البناء والاستقرار إذا ما كان رقمها الاول قادرا على ضبط هذا التنوع وتحريك شحناته الايجابية نحو عملية البناء، و(ايضا) إذا ما كان الشركاء قد استوعبوا شروط وضرورات واستحقاقات وقواسم الشراكة في حكومة واحدة.
اعرف، ان الامر في غاية الصعوبة، وان للنجاح في مهمة معقدة مثل هذه المهمة سلالم عالية.. وللفشل ثمن باهض، وانك قد تواجه (كما حدث الف مرة سابقا)من بين الوزراء من يتمرد على اوامرك، ومن تعجز عن ترشيده او تقويمه، او تقريبه من  دائرة تفكيرك.
يا دولة رئيس الوزراء..
سواء كنت قد جربت الحكم، ام جئته اخيرا، فان محمولات السنوات السبع الماضية غزيرة بالدروس، ولعلي عاجز عن تعدادها جميعا، لكن من بين تلك الدروس، درس مهم اذكّرك به، واحسب انك تعرفه، ويتعلق باهمية مكاشفة الملايين بما يجري وعدم تجهيلها: كن صريحا معنا. لاتخفي عنا الحقائق.. ان الذين لم يمنحوك اصواتهم، مع انصارك، سيلتفون حولك عندما تضعهم امام ما يجري حقا، واعلم ان سياسة انصاف الحقائق تفسح في المجال امام الشائعات السامة لتنتشر في الجو وعلى الشاشات الملونة.. واعلم انها سياسة عقيمة كان رؤساء الوزرات السابقين قد قطفوا ثمارها العلقم، على التوالي.، واعلم ايضا، بان تأييدنا لك ليس ابديا، وبين يديك وقائع مرّ بها كثيرون غيرك، حيث انقلب عليهم المؤيدون قبل المعارضين.
وبصراحة متناهية، لقد فقدنا الثقة باقوال رؤساء الحكومات السابقين، فيما اعمالهم شحيحة قد لاترى بالعين المجردة، وبصراحة اكثر، انهم جعلوا منا مختبرات لتجاربهم الخائبة، ورطاناتهم، وكنا طيبين كفاية، بحيث كنا نصفح عنهم احيانا، ونعود لانتخابهم، ونبتلع وعودهم الغثة، بانتظار ان تتعدل المناهج، وتستقيم الامور، متواكلين على جرعات مورفين من قول جرجي زيدان "لايصح إلا الصحيح" وبدعة داروين "البقاء للاصلح" في حين مر "غير الصحيح" من بين عيوننا، ومكث "غير الاصلح" على رقابنا.
ثم، لاتتستر، يا دولة رئيس الوزراء، على الفاسدين، حتى وإن كانوا من حزبك او من بيتك. انك ستقوى كثيرا في تخلصك من غث الاتباع اللصوص والمهملين والادعياء، والانصار المغشوشين، وللاسف، فقد حمل الكثير من اولئك وهؤلاء اموالنا واحلامنا في اكياس الزبالة وهربوا بها الى ما وراء الحدود، بالافادة من الحصانات والتسهيلات التي تمتعوا بها من غير حق، وكنا نتداول اسماءهم التي تثير الغثيان، واخبارهم التي تثير القرف، ولم تكف الشاشات الملونة عن دسهم في منازلنا بين آن وآخر.
الطريق امامك ليس مفروشا بالزهور، ولا منحدرا سهلا، ومشكلتك، سيدي دولة رئيس الوزراء المقبل، هي الصورة السلبية التي نحملها حيال الحكومات السابقة حيث تفزعنا ارقام المليارات التي اهدرَتها تلك الحكومات في البالوعات والذرائع، ومشكلتك الاخرى، ان جلودنا ازدحمت بآثار السياط، فلم يتبق لك مساحة للجلد، لكن فرصك سانحة للعبورمن فوق كل ذلك الينا. نعم الينا. والفرص تُقتنص.. سيدي.. وحين تأتي لوحدها، مجانا، فستكون متوحشة، ناقمة، لا ترحم اولئك الذين اذلوها مثل "زيارة السيدة العجوز" في مسرحية دورنمات  . 
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"عندما نعرف ان احدهم يرقص على سلم، فان علينا تهيئة انفسنا الى لحظة سقوطه".
دانييل دييغو               



322
العراق بين تداول السلطة وهوس السلطة

عبدالمنعم الاعسم

 الدستور تعاقد بين افراد المجتمع قبل ان يصبح وعيا وممارسة ومؤسسات ومدونات لهم، لكن، ليس كل نص دستوري يمكن ان يتحول، آليا، الى ثقافة عامة، او الى نوع من التعاقد بين المكونات الاجتماعية، أخذا بالاعتبار الحقيقة التاريخية الاتية: بعض النصوص الدستورية(الخاصة بالعدالة مثلا) دخلت، في مجتمعات كثيرة الى فضاء التطبيق عبر انهار من الدم، والفجائع، والحروب، إذ اصطدمت بمصالح قوى اجتماعية مهيمنة واستبدادية، او قوى محافظة تخشى القيم الجديدة وتناهض اي تحديث لقواعد ادارة المجتمع.
هكذا كان منذ الازل. ومع تشكيل وتطور الدول مرت النصوص الدستورية في سلسلة مديدة من التغييرات والاضافات والتطورات والصراعات الشرسة، حتى غدت ما غدت اليه في عصرنا، كمنظومة من الحقوق والواجبات والالتزامات والتحديدات الضرورية لهيئات الدولة والمجتمع.
واحسب ان فكرة وثقافة وقيم ونصوص التداول السلمي للسلطة، كاحد اركان الدستور الاساسية، حديثة على المجتمع العراقي، وعلى طبقته السياسية، بل انها بدت في مراحل كثيرة (حكم الانقلابات والثورات) كفكرة او دعوة تآمرية، ولم تقترب، من قريب او بعيد، من الدساتير (او الدساتير المؤقتة) باستثناء الاشارة اليها، كمطالب او تعهدات، في برامج الجماعات المعارضة لحكم صدام حسين في العقود الاخيرة من القرن الماضي.
وفي دستور العراق الاتحادي جاء في المادة السادسة منه: “يتم تداول السلطة سلميا عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور” لكن هذا لم يكن سوى مدونة على الورق صوتت عليها الملايين وقبلت بها الزعامات والطبقة السياسية الجديدة، ولم تجد تعبيرها المبكر إلا في اشكال نظرية وسياسية، او لامفر منها (مجلس الحكم) فيما تعرضت، خلال التطبيق، الى تحديات من مصدرين، الاول، من الصراع (وقل: من الهوس) الشرس للاستفراد بالسلطة واقصاء وتهميش المنافسين، وثانيا، من ظاهرة احتكار الزعامة في داخل الفئات السياسية، وحالات التزاحم غير الديمقراطية على مشيئة وارادة هذه الفئات، واحيانا الاقتتال عند خط الهيمنة على الرقم الاول فيها.
وفي اكثر من منعطف من منعطفات السنوات السبع الماضية، برز الخلل في استيعاب مفهوم والتزامات التداول السلمي للسلطة، وغاب الاستعداد الفعلي لترجمة النص الدستوري ذي الصلة بشفافية انتقال السلطة بين الافراد او الجماعات، وعمت الفوضى في مطبخ الخيارات والتحالفات والزعامات والمحاصصات، وظهر جليا للعيان (كما هو في تجارب كثيرة) بان التداول السلمي للسلطة على الورق وفي الخطاب الاعلامي والسياسي غير ما هو في الممارسة.. ونحن الآن في فصل خطير من من تلك الممارسة.
البديل عن التداول السلمي للسلطة، سلطة ابدية، ونقيض السلطة المتداولة عبر الانتخابات الحرة سلطة محتكرة غير منتخبة، وفي كل الاحوال ليس ثمة ما يدمر بلادا تمر في حالة الانتقال من هوس السلطة.
 في العراق ثقافة هشة حيال فكرة ان القابض، اليوم، على الحكم قد يصبح غدا خارجه، لكن ثمة ثقافة عميقة تكرست طوال عقود وعقود بان حاكم اليوم لن يترك منصبه لغيره (حتى وإن كان من ضرعه) بسهولة، هذا بصرف النظر عن طبيعة ذلك الحكم والاشخاص الذين يتصارعون للقبض عليه.
 في حال الحكم الاستبدادي، لا مستقبل(ولا كرامة طبعا) للحاكم حين يكون خارج السلطة، فاما الى القتل على يد طامعين بمنصبه، او الى الهرب باسلاب متاحة الى "جحر" في مكان ما، او الى المزبلة. هل نحن بحاجة الى استعادة مصائر الديكتاتوريين؟ ام حاجتنا ماسة للتذكير بافضليات التداول السلمي للسلطة بالنسبة للبلاد التي تتطلع الى السلام الاهلي والحياة الآمنة، وحتى بالنسبة للحكام الذين تهمهم كراماتهم؟.   
 الانتخابات الاخيرة، بصرف النظر عن الطعون الكثيرة في نتائجها وفي آليات اجرائها، طرحت الى  السطح(وللاختبار) خيار والتزامات التداول السلمي للسلطة اكثر من اية انتخابات سابقة، ليس فقط بسبب التقارب في حجوم الفائزين وعدم ظهور قوة حاسمة تقرر شكل سلطة السنوات الاربع المقبلة، بل، وبسبب آخر يتصل بانفلات هوس السلطة لدى الزعامات السياسية، من جهة، والتشوه في النظر الى السلطة كونها منصب رئيس الوزراء حصرا، فيما هي اوسع من ذلك، من جهة اخرى، وقد تبدو اخطر من ذلك اذا ما عدنا الى تجربة السنوات السبع الماضية حيث تعايشت وتصارعت سلطات وجيوش كثيرة على ارض الواقع، ولا يزال ظلال ذلك على الارض.   
 من الضروري، هنا، الاستدراك للتأكيد على ثلاثة حقائق (الاولى) ان العراق يعيش في بيئة اقليمية محكومة بسلطات ابدية استبدادية من المرجعية الواحدة والحزب الواحد والعائلة الواحدة والفرد الواحد، والحقيقة (الثانية) نرصدها في جملة التاثيرات التي تركتها وتتركها هذه البيئة، ونظم دول مجاورة، على الصراعات السياسية الجارية بين الخيارات والارادات العراقية، جمهورا ونخبا، و(الثالثة)ان دول المنطقة، الاستبدادية بخاصة، تنظر بعدم الارتياح الى تطبيقات التداول السلمي للسلطة في عراق ما بعد صدام حسين، وتمارس اشكالا عديدة من التدخل والتاثير للحيلولة دون نجاح التجربة الجديدة (الديمقراطية) للحكم الجديد، عدا عن محاولات تبشيع صورة هذه التجربة.
 بكلمة: هوس السلطة غبار محلي، فضلا عن انه يهب عبر الحدود ايضا.. تلك هي المشكلة.
ــــــــــــــ
كلام مفيد:
"للنهر عقاب واحد لا يمارسه دائما، هو اغراق الذين يدخلونه قبل ان يتعلموا السباحة".
حكمة برازيلية


323
في نقد المعارضة الكردية

 
عبدالمنعم الاعسم
 
لابد من صراحة القول بانني اعني بالمعارضة الكردية الشريحة التي خرجت عن الاتحاد الوطني الكردستاني باسم “التغيير”وسجلت نفسها في اللوحة السياسية الكردستانية، والعراقية بهذا الاسم، ولي مع بعض اصحابها لقاءات وصداقات، ومع بعضهم شراكة “وسجون” في طريق الكفاح من اجل الحرية والقضية الكردية، وازعم اني اعرف الكثير مما يقال عن ظروف واسباب ومقدمات “الانشقاق” ولا بد من الاعتراف ما يرقى الى حقائق الاشياء بان افكار التغيير التي تبنتها المجموعة الجديدة(اقول: افكار) لها سمعة طيبة، وتعاطف، لدى الجمهور الكردي، ولها-قبل ذلك-اسباب وجيهة وموضوعية في الواقع التاريخي والسياسي الكردي، وبخاصة ما تعلق بافرازات السنوات ما بعد الانتفاضة الوطنية الكردية العام 1991، سوى ان الامر يتوقف في نهاية المطاف على الوسائل التي تستخدم في ترجمة شعارات التغيير الى الواقع، وهو المفصل الذي يشكل اختبارا لاصحاب تلك الشعارات ولمستقبل مشروعهم الطموح.
قلت، اعني بالمعارضة الكردية جماعة التغيير، اما الجماعات الاخرى، الاسلامية بخاصة، فانها لا تزال تدور في جغرافية سياسية وشعارات وولاءات لا تبتعد عن الدعوة الى الفضيلة والنزاهة والاحسان الى الفقراء وترَصّد اخطاء السلطة، هنا وهناك، وهي على مسافة ليست قليلة من برنامج مجموعة التغيير، إذا ما حسبنا تلك المسافة بالشعارات والاقوال والديباجات.
على الارض، ثمة مستقبل مفتوح امام المعارضة الكردية موضع الحديث، ولا ابالغ القول بان في مقدرور مجموعة "التغيير" تطوير اثرها وتاثيرها في البيئة السياسية الكردية قدما، وان تحقق نجاحات مضطردة في مجرى بناء مكانتها السياسية، غير انه في قلب هذه المعادلة ثمة استدراكان مهمان لا يصحّ استغفالهما، الاول، ان للسلطة الحاكمة التي فسحت في المجال امام نمو المعارضة وتسهيل نشاطها حصة في تلك النجاحات، بل انها (على الرغم من المخاشنات التي تابعناها في خلال الحملة الانتخابية) قد تختطف الحصة الاكبر من النجاح حين تخرج انشطة المعارضة عن مسار اللعبة الديمقراطية واللجوء الى التشهير وعدم الانضباط والاحتباس في اللغة المعارضة السلبية، والثاني، انه لا مفر من خيار المشاركة الايجابية في تعميق تجربة اقليم كردستان وحماية مكتسباته، وتحصين الثوابت التي تمس حياة ومصالح الشعب الكردي في ظروف عراقية وكردستانية تتسم بالحساسية، وبمعنى آخر، ينبغي، تجنب ما سقطت فيه معارضات دول المنطقة، حين عزلت نفسها في محبس المواقف والشعارات السلبية التي انزلقت وتنزلق، شيئا فشيئا، الى خيار العنف والمواجهات.
ومن خلال المتابعة اليومية، الاعلامية والسياسية، لاداء المعارضة الكردية، تقفز امام المتابع جملة من الاخطاء والممارسات الانفعالية مارستها وتمارسها الآن، وحين نسمي ذلك اخطاء، فهو لا يعني شهادة تزكية للسلطة ولا يبرر اعمال التضييق على المعارضة، بل انه توصيف مخفف لخطايا المعارضة كنا قد تابعناها في الصحف والتلفزيون، وعايشناها في الشارع وفي خلال النشاطات الانتخابية، ويستطيع المتابع المحايد ان يسجل على جماعة “التغيير”في الانتخابات الاخيرة بعض المراهقات السياسية رصدناها وقائعها بالعين في خلال انتخابات لندن، كما رصدنا عينات منها على الشاشات الفضائية إذ اختصرت الخلافات السياسية مع التحالف الكردستاني الى عروض اثارة وتهريج، ستلحق ضررا كبيرا في مشروع التغيير واصحابه، إن استمرت على هذا المنوال.
المشكلة، ان علم السياسة يحذر دائما مما يسميه بـ”الفورات” او “الانعطافات المفاجئة” لدى الراي العام، فان تعاطف الجمهور المفاجئ مع الشعارات التي تدغدغ مشاعره وشكاواه عرضة للانحسار إذا لم يجر ترشيد وضبط السياسات وبنائها على اسس ايجابية، ومنتجة، ونستطيع ان نذكّر اصحاب “التغيير” بتيارات وجيوش وزعامات برزت في تجارب كثيرة، ظهرت، ايضا، غداة سقوط نظام صدام حسين في التاسع من ابريل 2003 وغطت الشوارع وامسكت بالاحداث، لكنها سرعان ما انحسرت الى اضيق الهوامش بفعل الانفعالية والزهو والمراهقة السياسية والافراط في السلبية السياسية.. انه تذكير ونصيحة محمولتان على الثقة بان بعض اصحاب المعارضة يعرفون تلك الحقائق.
الى ذلك فان المعارضة الكردية التي تتخذ من اسم “التغيير” عنوانا لها ترتكب خطأ كبيرا اذا ما بقيت تتصرف كتنظيم منشق، يخاصم الجهة التي انشق عنها، ويسعى الى ايذائها، او يتمدد على ساحتها، وهي نزعة كثيرا ما سقطت فيها فئات عراقية وكردية منشقة، بدل ان تختار الطلاق الديمقراطي سبيلا، والاستقلال نهجا يساعد في نهاية الامرعلى اقامة بيئة مناسبة للتعددية السياسية في الاقليم، وعلى ترسيخ شكل مقبول وضروري من اشكال العلاقة مع التنظيم الام ومع جميع الفئات السياسية على قاعدة التنوع والشراكة، وفي نطاق التنافس التاسيسي المتحضر.
وإذ لا يمكن تحميل المعارضة كل المسؤولية عن المخاشنات والصراعات التي تابعنا فصولها الاشهر الماضية في السليمانية واربيل، فان بين ايدينا جملة من التصريحات والمواقف المسجلة على “التغيير” تكشف عن استطراد سياسي غير مفهوم من شأنه تفتيت وحدة المعسكر الكردي حيال القضايا الرئيسية، الامر الذي يثير استغراب المراقبين، ويحملهم على الاعتقاد بان اصحاب هذا النهج لا يقدرون كفاية الاخطار الناجمة عن ظهور الكرد متشظين ومتنافرين في الموقف من العناوين الرئيسية لقضيتهم (الشراكة في ادارة الدولة العراقية. المناطق المتنازع عليها. الفيدرالية..الخ).
والامر هنا لا يتعلق بالاجتهادات حول السياسات والخيارات والزعامات وعلل التجربة ولزوم المراجعة واشكال الادارة وفروض الاصلاح والمسؤوليات عما حدث، بل يتركز على السؤال الوجيه الذي ينبغي على المعارضين الاجابة عنه: هل للكرد مصالح عليا بقيت موصوفة في ثوابت تلتزمها جميع الفعاليات السياسية والاجتماعية؟ وما هي عناوين تلك المصالح؟ بل وما الذي سقط منها، او لا يزال يحتفظ باهميته؟ ثم ما مسؤولية المعارضة الجديدة ورموزها عن خطايا المرحلة السابقة؟.
بالنسبة لي، اكاد اقرأ من بين ما اتابعه واقرأه واتملاه في الادبيات السياسية للمعارضة، وفي ما بين السطور قولهم الآتي: لسنا ملتزمون بعناوين “المصالح الكردية العليا” فهي لم تعد بالنسبة لنا تكتسب الاولوية “الاولوية لمزيد من الاصلاحات” اما مراجعة تجربة الاقليم وتصويبها فانها استحقاق على الاخرين وحدهم، ونحن ابرياء من الماضي الذي نفتح ملفاته “بمقدار ما يخدم المستقبل” وفي لقاء حميم سألتُ صديق اكاديمي تحول من اقصى السلطة الى اقصى المعارضة حول امر يشغلني كثيرا في إداء “تيار التغيير” هو الترحيب الذي يحظى به التيار من جماعات واصوات واقنية شوفينية و”الامل” الذي يعلقه سليلو عهد الابادة والتعريب والتجريف على التيار وتناميه، وعرضت عليه قصاصات ومشاوف عن ذلك، وهي ليست شائعات للتشهير، بل مؤشرات جديرة بالتأمل، واللافت، ان اصحاب التيار صاروا يتعاملون معها بوصفها اعترافات بوزنهم، وقد سمعت منه الكثير من الكلام والتفسيرات تركزت على ما كنت اطالعه في ادبيات المعارضة على ان احتفاء الشوفينيين بهم بمثابة رصيد اضافي لهم.
قلت لصديقي: شعارات التغيير لا تتمتع ببراءة اختراع، ولا تصلح هوية للسياسيين.. انها مثل الهواء، يمكن للجميع استنشاقه والسيطرة عليه. قلت له، ان غالبية شعارات الاصلاح التي رفعتها المعارضة وضعها برهم صالح على برنامج حكومته، إقرأوها جيدا، إنخرطوا فيها لكي تؤكدوا انتسابكم لدواعيها وضروراتها. قلت لصديقي: اصدقاء الشعب الكردي ومناصرو قضيته يحترمون اسماءكم، ويتعاطفون مع حملتكم لكن تحميلكم الاخرين وحدهم مسؤولية الخطايا التي عاناها الاقليم يُعد التفاف على الحقائق ذات الصلة بمسؤوليتكم ايضا عن تلك الخطايا.. تلك هي المشكلة.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ لا تسقط التفاحة بعيدا عن شجرتها”.
مثل روماني


324
المنبر الحر / تصفيات حساب
« في: 19:55 19/03/2010  »

تصفيات حساب

عبدالمنعم الاعسم

 هدد احد السياسيين الذين استشعروا سقوط حظوظهم في العودة الى منصب مرموق كان يحتله، خلال السنوات الاربع الماضية، بكشف “اسرار نائمة قد تطيح بالكثيرين” إذا ما فُتحت سيرة المسؤوليات والفساد والمخالفات السابقة، ويعيد هذا “البالون” الى الاذهان تلك الشكوى المريرة  من عدم نضوج بعض شرائح الطبقة السياسية العراقية التي تنزل بالصراع والخلافات السياسية منزلة التهديدات ومعارك المقاهي والاحياء الشعبية، كما تعيدها (وهو المهم) الى السؤال التفصيلي عما اذا بقيت اسرار خافية حقا حتى الان في العراق.
 قبل سنوات قليلة كتب الصحفي الالماني جيروم هولش الذي زار بغداد "لا اسرار في العراق.. الصندوق مفتوح على مصراعيه" وذلك في نطاق ما سجله عن مشاهداته في "اسبوعية برلين" مؤكدا ان "المعلومات" التي يسعى الصحفيون والمراسلون الوصول اليها في بغداد تتيسر بطريقة سهلة "واحيانا من غير كلفة" أو "من دون ثمن" ويعيد ذلك الى ما اسماه  بقلة تحسب العديد من السياسيين ازاء "امور حساسة" ينبغي ان يكون مكانها "صندوق الاسرار".
 مقابل هذا وقبل هولش باكثر من عشر سنوات كتب مراسل لصحيفة اللوموند الفرنسية من بغداد "ان العراق بلد من دون ارقام" وذلك بعد اعياه البحث عن ارقام ومعطيات تساعد في تكوين قراءة عن احوال العراق وحقائق الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في عهد الدكتاتورية، فقد كان يتلقى جوابا واحدا من مسؤولي النظام السابق "الارقام سرية وغير مسموح تداولها" حين كان يسأل عن عائدات العراق النفطية او عدد العاطلين في العراق او ميزانية التسلح، او عدد السجناء والسجون، او حقائق الديون الخارجية، او عدد اللاجئين من الدول الاخرى،  ولاحظ باستغراب ان السلطات الحاكمة منعت تداول الارقام حتى عن  نشرات الانواء الجوية في العراق "كي لا يستغلها العدو" ثم، بعد ذلك، راحت تتلاعب بارقام درجات الحرارة، وتحرف المعلومات الخاصة بالتنبؤات الجوية.
 الحقيقة تتمثل في انه ليس ثمة بلد في العالم لا يعنيه حماية "نوع" من الملفات الخاصة بقضايا الامن والمصالح القومية والعسكرية والاقتصادية من العبث، وليس ثمة دولة لا تملك صندوقا للاسرار تهتم بحراسته والحيلولة دون الوصول اليه، والسرية هنا لا تخص ظروف الحرب فقط بل انها من لوازم الحماية الوطنية في ظروف السلام، وفي المقابل، فان تهديدات صاحبنا تدخل في نطاق المخالفة القانونية، إن لم تكن في خانة الخيانة الوطنية في حال نفذ تهديداته.
 اقول، اكاد اصدق ما كتبه الصحفي الالماني عن صندوق الاسرار العراقي المفتوح على مصراعيه، فقد حضرتُ مساجلة قدم فيها موظف سابق"مرموق" الى محدثيه، وهم خليط من جنسيات واهتمامات مختلفة، حزمة من اسرار"خطيرة" عن المرفق الذي كان يديره، وعن ملفات وارقام واسماء وصفقات ودول كان ينبغي ان تكون في مأمن من التداول، وليس بعيدة عن اذهاننا ما جرى وما يجري في هيئة النزاهة و"الفضائح" التي يتحدث عنها كبار موظفي هذا المرفق حين يُبعدون، او يبتعدون عنه، كما لا ينبغي التقليل من شأن تلك الواقعة التي قام فيها مسؤول مؤتمن على الاسرار بتصوير "مشهد" حساس وتسريبه الى الاعلام  ما الحق ضررا بالغا بسمعة العراق وشعبه وقضيته.
 صحيح ان تطورا هائلا عصف في تقنيات اختراق الاسرار، غيران هذا لم يشطب المعادلة التالية: ان تسريب اسرار الدولة والتعامل معها كاسلاب قابلة لاستخدامها في تصفيات الحساب او للبيع على الارصفة هو الوجه الاخرلتردي قيم الوطنية من جهة ولصرامة نظام الدكتاتورية الذي حول الدولة كلها، بثرواتها وارقامها الى ملكية سرية للدكتاتور وبطانته، من جهة ثانية.. وفي الحالتين كان "البطل" لا يخجل من استخدام علم الحساب في تصفية الحساب.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ُظلم".
قرآن كريم- الحجرات


325

تنبؤات لما سيحدث.. لانبوءات

عبد المنعم الاعسم
 
 
في النهاية، سيقبل الجميع بنتائج انتخابات السابع من آذار العراقية، الموافقون والمعترضون، وسينخرط الجميع في اتصالات ومفاوضات وصفقات على ارضية تلك النتائج، وليس على غيرها، وستبدأ، ايضا، عملية تفكك وصراع (وربما انشقاق) واعادة بناء الكتل على ضوء توزيع الحقائب والرئاسات، والى حد ما، على ضوء البرنامج السياسي للوزارة قيد التشكيل، وبخاصة الموقف من القضايا العقدية المتوارثة من الحكومة السابقة: الملف الكردي. العلاقات الاقليمية. تعديلات الدستور. اجتثاث البعث. الفساد. الخدمات. المصالحة الوطنية.. الخ.
كما ستتبلور، بموازاة كل ذلك، ملامح المعارضة البرلمانية، وفق المعادلة التالية: كلما اتسعت قاعدة التمثيل في الحكومة الجديدة تضيق هوامش المعارضة، ويتضاءل دورها، وتحل محاصصة جديدة باسم مستعار، وبعكس ذلك، ستتسع قاعدة المعارضة في حال تشكلت الحكومة من عدد محدود من ممثلي الكتل الممثلة في البرلمان، وطبعا، لكل حال من الحالين (حكومة بقاعدة واسعة او حكومة بقاعدة محدودة)ابعاده الايجابية والسلبية، لكن المراقب يرصد من الآن بعض المؤشرات غير المريحة للعبٍ خارج الصدد، يمارسه لاعبون يشعرون ان حظوظهم قلقة في المعادلات المقبلة، اشير بذلك الى تصريحات كل من طارق الهاشمي(العراقية) وابراهيم الجعفري (الائتلاف) وبعض المحسوبين على البيت الكردي.
على ايقاع هذا الحراك الساخن، وعض الاصابع المبكر، ستتقارب وتتفاعل قواعد ومفاهيم ومنطلقات كانت، الى وقت قريب، تبدو متنافرة، واخص بذلك مفاهيم المحاصصة والشراكة والتوافق، التي تعني في علم السياسة تدابير وهياكل واصطفافات مختلفة لتنشق عنها، كما يُعتقد، قاعدة جديدة(عراقية الصنع) تضم شيئا من كل شيء، بحشوةٍ من الالتزامات والتناقضات بحيث يسمح باستمرار ذم المحاصصة، الاكثر مذمّة، من غير كلفة ، لكن لا احد يعلم الى ايّ وقت ستبقى هذه القاعدة الجديدة صالحة لإدارة وضبط المرحلة المقبلة، شديدة الحساسية، كثيرة التحديات.
إذن، فثمة محاصصة وشراكة وتوافق، ستتكفل بتزييت ماكنة الحكومة المقبلة والعهد القادم، لكن الاختبار الكبير للحكومة المقبلة لن يطول كثيرا، وبخاصة اذا ما علمنا ان الشارع والمزاج الشعبي العام، وقبل ذلك الواقع نفسه، هو مختبر كفاءة الحكومة وحسن ادارتها وقدرتها على الايفاء بوعودها، آخذا بالاعتبار ان هذا المختبر لا يعطي وقتا كثيرا للفرص والوعود، بل وليس لديه متسع من الوقت لكي يصبر اكثر مما صبر حتى الان لكي تأخذ الامور دورتها الطبيعية قبل يُشرع في ترجمة البرنامج الحكومي الى الواقع.
اغلب الظن، بان تاكيدات اصحاب الحكومة السابقة والكتل الفاعلة العزم على عدم تكرار تجربة العمل الحكومي المتنافر السابق، والعزم على تشكيل فريق وزاري متضامن الارادة والتوجه، متجانس كفاية، وبمرجعية صارمة لرئيس الوزارة الجديدة لا يعدو عن كونه ضربا من التمنيات، في مرحلة انشطرت فيها الحلول الناجعة بين تمنيات من غير ثمن، واحباطات بثمن باهض.
ــــــــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــــــ
“إذا لم تكن القوة موحدة، فهي ضعيفة..”.
                                           
جون لافونتين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


326
الكذب..
ليس دعاية انتخابية

عبدالمنعم الاعسم

انها الحرية، إذ تصبح جسرا الى خطايا اقل ما يقال عنها انها تدنس هذا الرداء الابيض البرئ الذي دفعت البشرية ملايين الانفس من اجل تحقيقها، ومنذ اكثر من مائتين من السنين، وكان ذلك في حزيران من عام 1793 حين اطلقت السيدة الفرنسية الشهيرة مدام رولان صيحتها المدوية يوم وقفت امام المقصلة بالقول: "آه ايتها الحرية.. كم من الجرائم ترتكب باسمك".
وإذ بدأت الملايين العراقية تستنشق نسائم الحرية بعد احتباس(في غيبوبة القمع والدكتاتورية) لعقود وعقود، فقد فاجأتها حيتان المرحلة باستخدام هذا الفضاء الانساني الرحب لتقديم اسوء نموذج من ممارسة الحرية وصل حد الكذب العلني بالصوت والصورة، باعتباره دعاية انتخابية.
وتشاء الحملة الانتخابية ان تسجل، وبخاصة من على الشاشات الملونة "وصلات" دعائية هي اقرب الى الوصلات الخاصة بحفلات الملاهي. لكل شاشة بدلة على الجسد. ولكل عبارة سيماء على الوجه، وثمة الاثارة والالوان وعبارات الاقتدار والالمعية وذلك في تلك الاعلانات الفاقعة المدفوعة الاجر عن "منقذين" ارسلتهم العناية الالهية(اخيرا) الى العراقيين الجياع والمعوزين والعاطلين عن العمل والارامل واسر ضحايا المقابر الجماعية والخائفين على حياة اولادهم وحياتهم من التفجيرات ودورات الانتقام الطائفية، ولم يكن اصحاب هذه الاعلانات ليتورعون عن ايذاء ذائقتنا وذاكرتنا بالكذب الصريح عن براءتهم مما حل بنا من نوائب وحرمانات(ولا يزال) على ايديهم او على ايدي اصحابهم، او على ايدي اصحاب اصحابهم.
اما المقابلات والحوارات (مدفوعة الاجر ايضا) فقد بلغ الكذب فيها من الاسفاف بحيث تبدأ المقابلة بكذبة واحدة هي: (اموال دعايتنا عراقية مئة بالمئة) ثم تتسلسل الاكاذيب، من غير توقف، حتى تصل الى القول: لا علاقة لنا بدول الجوار. ليس لدينا مليشيات. جيوبنا نظيفة. كنا نريد ان نقدم الخدمات للشعب. لكن الذنب على غيرنا. ضحينا كثيرا من اجل الشعب.
وتشاء الحمية الدعائية ان يدخل الحلبة طرفان يحمّل كل منهما الاخر مسؤولية ما حل بالعراقيين، ويختار كل منهما عبارات منتقاة على هيئة لائحة من الاكاذيب تبرئ النفس، وتزكي السيرة، وتلمّع الرصيد، وترفع الجاه.. لكنها لا تعدو عن "كذب مصفط" برع اصحابه في إمتاعنا..وتذكيرنا بصاحبهم القديم مسيلمة.. سئ السمعة والصيت.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" خطط مقدما للمستقبل.. فقد كان الجو صحوا حين بنى نوح السفينة".
حكمة


327


مسيحيو الموصل.. الفاعل والمفعول

عبد المنعم الاعسم

مسلسل الاغتيالات لمسيحيي الموصل، وقساوستهم، وتكرار تفجير الكنائس في العاصمة ومدن اخرى لاينبغي النظر اليه كحادث عنف، من مفردات الدوامة الامنية التي تطال دورا للعبادة ومنشآت وانشطة اجتماعية وحكومية، بل انه يتجاوز ذلك الى موصوف جريمة منهجية تستهدف تجريف "نوع" العراق باستئصال "مكون اساس" من مكوناته المعاصرة، بل هو "المكوّن الاساس" التاريخي الذي شّيدت عليه خارطة الرافدين، قبل ان تلوذ به امم من الصحراء وبعران تحمل قبائل جائعة، واخرى غازية، وثالثة منبوذة، ثم انقلبت شرائح همجية من "الضيوف" على اهل الارض، وها هم حفدة اولئك الضيوف ينقلبون على مضيفيهم لينفذوا تلك الرسالة الهمجية: لامكان لكم هنا.. رقابكم او تدفعون الجزية.
وللموصل، مكان في كتب ووقائع التاريخ التي تحدثت عن تلك الحملات المنهجية الغادرة ضد الكلدان والاشوريين والسريان، السكان الاصليين للمنطقة، تكفي الاشارة الى المذابح التي تعرضوا لها على يد "الخلافة العثمانية" وفلول الانكشارية وزمر التطرف الاسلامي المحلية، حتى الحملات "التأديبية" لعصابات مسلحة شكلها حزب البعث في مطلع الستينات من القرن الماضي لملاحقة مسيحيي الموصل واغتيال واعدام الكثير من ابنائهم، واجبار الالاف منهم على النزوح عن مناطق التماس مع السكان الاخرين، ثم هجرة بلادهم الى ارض الله الواسعة.
والى ذلك، فان محنة ودماء المسيحيين في الموصل والعراق كله، ليست فقط من فعل (وتخطيط) قوى التطرف الاسلامي المحلية (والمستوردة) بل انها  تمتد (وهنا الجريمة الحقيقية) الى قوى محلية واقليمية تسعى جاهدة الى اطفاء التنوع الديني والقومي في العراق، واضرام النار في اساس السلام الاهلي بين العراقيين وضرب معادلة التوازن بين السكان، طريقا الى تحويل هذه الجغرافية الى مكبة للنفايات والعصابات والفوضى وساحة لتصفيات الحساب بين اللاعبين الاقليميين والدوليين.
من هذه الزاوية يتعيّن ان نسخر من الادانات الباردة حيال هذه الجرائم، وبخاصة حين تُطلق من جهات مسؤولة عن حماية امن العراقيين، ومن جهات اخرى تستطيع ان تكشف عن الفاعلين، وجهات ثالثة لها اكثر من خيط مع الفاعل صاحب مشروع الاستئصال، ومع المفعول الذي هو اطفاء النور في صالة العراق.

ـــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

"التأريخ كابوس لم أفق منه حتى الآن" .
جيمس جويس




 



328
 

ما شكل الحكومة المقبلة

عبدالمنعم الاعسم

انها مغامرة، ان يقوم محلل بقراءة طالع انتخابات السابع من آذار، والمشكلة هنا من فرعين، الاول، موصول بطبيعة المشهد السياسي الراهن الذي يتسم بالاضطراب والتداخل والفوضى والرمال المتحركة، ويجرّ معه الرأي العام (القوى التصويتية) الى التشرذم وانعدام الوزن وردود الافعال، والثاني، يتصل بعملية التنبؤ إذ تفتقد شرط الثبات النسبي للمؤشرات للانطلاق منها الى التوقعات، وإلا تصبح رجما بالغيب.
والحق ان الحديث عن شكل حكومة انتخابات السابع من آذار، يقوم على اساس عدد المقاعد التي يجري حصدها من قبل الكيانات المتنافسة، وفي هذا يقترب التخمين من التنجيم. المتنافسون ووكلاؤهم، وحدهم، يتحدثون عن عدد تلك المقاعد بحماس ويعطون ارقاما عنها من غير حرج، لسبب بسيط يتمثل في انهم يخلطون التمني بالتوقع، ويجعلون من ذلك مادة دعائية لاقناع الجمهور(والاتباع) انهم قادمون الى السلطة، ولا تكلفهم النتائج، إذا ما كانت مغايرة، غير الطعن بنزاهة الانتخابات، او ترحيل الفشل الى نظرية المؤامرة.
 ومن زاوية، لايبدو الامر بحاجة الى شئ من علم نفس الخوارق،الباراسيكولوجي، ولا نحتاج الى فروسية الكاهنة اليمنية "طريفة" التي أنبأت "عمر بن عام" أحد ملوك بلادها بزوال ملكه وبخراب سد مأرب، ولا الى المنجم المصري السيد الشيمي الذي تنبأ منذ وقت مبكر بوقوع نكسة 5 حزيران 1967 وحرب اكتوبر 1973
 فان النظرة الموضوعية، البنائية، غير المتحيزة، يمكن ان تلتقط بعض مؤشرات النتائج، على الرغم من ان هذه المؤشرات المعتمدة هذا اليوم هي عرضة للتغيير غدا، في وضع سياسي يتسم بالمفاجآت، والاحداث التي تتحول على مدار الساعة الى ازمات، وردود افعال، تحرك حظوظ المتنافسين باضطراد.
 الى ذلك يمكن القول، عن ثقة، بانه يصعب، وقل يستحيل، ان ينال فريق(لوحده) حصة الاسد من المقاعد بحيث يستفرد بمهمة تشكبل الحكومة المقبلة، فيما المتوقع ان يتقاسم "الكبار" مقاعد البرلمان القادم بنسب مقاربة(الى حد ما) لخارطة مقاعد الدورة الايلة للرحيل، مع اختراقات قد تؤذي الى انضمام قوائم جديدة الى عائلة الكبار، او كثل صغيرة الى قوة لها شأن، فيما ستتضعضع قوائم، و"تسمن" اخرى، في خلال صراع تختلط فيه الاعتبارات السياسية والشخصية والطائفية مع اعتبارات لا لون لها.
 في مثل هذه المقاربة، ستتشكل حكومة الدورة المقبلة من تحالف ثلاث قوائم كبيرة (في الاقل) بما يؤهلها عبور حاجز الثقة من البرلمان بضمان اكثرية المقاعد (50+1) مقابل ان تحتفظ المعارضة (آنذاك) بقوة كبيرة ومؤثرة.
 ومصداق هذا القول، ان ثمة دردشات عن تحالفات حكومية مبكرة تتسرب، من الآن، عبر الكواليس المغلقة لبعض القوائم والزعامات، مدعومة من رسائل (ونصائح) عابرة للحدود..
 نصائح ليس بريئة، على اي حال.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"البحار الهائجة لا تصنع بالضرورة بحاراً ممتازا"ً.
همنغواي


 

329
الانتخابات العراقية وموجبات التنافس الحضاري

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 في البداية، ينبغي التمييز بين "التحضر" الذي نعنيه و"التمدن" الذي لا يهمنا في هذه المعالجة، فقد تكون قد انتقلتَ من الريف الى المدينة، ولبستَ البدلة الاوربية، واقمت في فيللا باهرة، وصرتَ تستخدم الكبميوتر والمحمول والطائرات والسيارات الفارهة، وقد تكون قد اجدْتَ الحديث باللغات الاجنبية، وارسلت شعرك طويلا، واستخدمت احدث وسائل التعامل مع البنوك، وعرفت الطريق الى مضاربات المال والصفقات، وتوظيف السياسة والولاء في مدارات المصلحة، وقد تكون قطعتَ صلتك بالقرية ودواوينها، ووثـّقتها بالمدينة وكواليسها، او هجرت شلتك في الحارة الشعبية بعد ان وطدتها بابناء القصور المحمية.
 اقول، قد تكون انتقلتَ من مجتمع القرية والحارة والاستخدامات التقليدية البالية الى ادوات الحياة اليومية، لكنك لن تكون اكثر من شخص اصبح متمدنا، وليس بالضرورة متحضرا، لأن التحضر،تغيير نوعي في السلوك والتفكير، يقوم على ممارسة قيم الحياة الجديدة التي انتجتها المدنية ومجرى تلاقح الثقافات، والتواصل الانساني في اصول التعامل مع الاخر بوصفه شريك في كفالة الحياة والمصير ، ما ينعكس (في تجليات الانتقال من الفردية الى الجماعية) في حياة المجتمع نفسه، والمثل الذي اورده عالم الاجتماع الفرنسي بيير باردو يصح العودة اليه هنا حين قال “إجلب شخصاً ما من مجاهل الغابات من وسط أفريقيا أو الأمازون مثلاً، ثم ألبسه ما يليق بحياة المدينة ووفر له جميع أدوات المدنية المتاحة، فإن ذلك الآتي من الغابات قد أصبح “متمدناً” بسبب هذا، ولكن نمط تفكيره وتصرفاته وقناعاته سوف تبقى معاكسة ومخالفة لأبسط معايير التحضر”.
 وهنا قد يقال اننا في العراق، او على مستوى شعوب وامم هذه المنطقة، وريثو حضارة عريقة، فاننا متحضرون بالوراثة، لكن هذه النظرية بطلت منذ زمن قديم حين مرّ على انطفاء تلك الحضارة والثقافة الملهمة والمتألقة ما يزيد على ثمانمائة سنة غرقت فيها هذه الامم والشعوب في عالم الجهالة والتخلف، وهجرت الكثير الكثير من قواعد السلوك والتفكير التي انتجتها تلك المرحلة، بل وانقلبت على غالبيتها لتحل محلها نزعات من العصبية والخرافة والهرطقة والاباطيل والبدع ، إذ صارت هذه العناوين ثقافة جمعية سائدة وشكلت هوية هجينة مترسخة ، وفي الاخير انتهت الى عامل معرقل للتطور واللحاق بالمستقبل.
 ويحتل حُسن التنافس بين الافراد والجماعات ركنا اساسيا في لوازم التحضر، فان ثقافة البداوة والقرية تدس نزعات الجاهلية والاحتقان والرغبة بالتنكيل واستخدام اساليب القهر والاحتيال واللصوصية في عملية التنافس، ويعبر ذلك عن نفسه في عالم التجارة ومنافسات السوق .. اما في السياسة، وفي فصلها الدرامي الموصول بالانتخابات فان التنافس يُظهر الفارق بين المتحضر حقا، وبين من يدعي.
* لكن قبل الخوض في موضوع الانتخابات علينا ان نرصد حقيقة ان التنافس ميلٌ متأصل في نشاط جميع المخلوقات، وهو رديف الصراع الكامن في ذلك النشاط، لكن ما يميزه لدى الانسان، عن غيره من الدواب، يتمثل في انضباطه وتطور قواعده واصوله وقيمه، وباختصار فان التنافس بين البشر ينطلق من الوعي، ولاينفي عنصر الوعي ان يكون التنافس ينطلق من المصلحة، بل ان المصلحة نفسها تقف وراء مشغل الوعي وتناميه وتراكم عناصره ومعارفه.
ومنذ الازل كان ثمة خيط اخلاقي (قبل ان يصبح حقوقيا) بين ما هو مشروع، مقبول، مبرر، من التنافس بين الافراد والمجموعات وبين ما هو غير مشروع، مرفوض، مستهجن، وغير مبرر، وكان هذا الخيط يبرز في مجتمعات تتحضر، حتى في اشكاله البسيطة، مثل مباريات القوة والسيف وسباقات الخيول ومصارعات الثيران، الامر الذي اسس ما اطلق عليه مفردة "الفروسية" بالمعنى الاخلاقي للتنافس المتحضر.
ولاشك ان في تاريخ وتجارب التنافس، طرحت الكثير من الامثلة والحالات التي نزل فيه التنافس بين الناس منزلة الوحوش، وبخاصة في ما تعلق بالتنافس على الثروة والسلطة، قبل ان تتمدن المجتمعات، وتزداد معارف الحقوق، وقد اورد الشهرستاني المؤرخ كيف أهدرت دماء المسلمين، في احتفالات "ذبح جماعية"نظمها "علية القوم" خلال تنافسهم على الحكم "ما لم تُهدر لأي سبب آخر" كما اوردت تقاويم الحروب في التاريخ وقائع المجازر التي طالت ملايين من الناس وامم كاملة في نطاق التنافس غير المشروع بين الدول وحكامها.
مقابل ذلك، يحتفظ التاريخ بامثلة كثيرة عن سيادة حكمة العقل وروح الفروسية واحتقار الغش والغدر في التنافس بين المتبارين او المرشحين للحكم او العاملين في السوق والتجارة، او المقاتلين في ساحة المعركة (العفو عند المقدرة).
وفيما كانت قواعد التنافس المشروع بين البشر تتجلى بالممارسة والحِكم والشفاهية، وفي ما يسمى بالاعراف العامة، وفقا لكل مجتمع، فانها غدت، في هذا العصر، مدونة في وثائق تتسم بالطابع الانساني، وفي معاهدات توقعها الدول، في اطار الامم المتحدة، ويشار لها في قيم والتزامات تحميها مؤسسات عالمية (منظمات حقوق الانسان) وتتحول ثقافة التنافس المتحضر، في هذا المجرى، الى مفردات في مناهج التعليم والتربية لتحبيبها وممارستها كأحد لوازم الحياة الانسانية الجديدة، في حين تزداد على نطاق واسع مصدات التنافس اللامشروع، الغادر.. ويُحتقر اصحابه في مفردات قادت الكثيرين منهم الى سوح العدالة.. الى مزابل التاريخ.
 على ان التنافس بين المرشحين الى الرئاسة او البرلمان يحتفظ بخصوصيات وقواعد متمايزة عن مجالات التنافس الاخرى، لصلتها بالسياسة والارادات، والصراع على السلطة، وفي ساحة هذا التنافس، حصرا، تظهر مناسيب تحضر المجتمعات، ومصداقية التزام النخب السياسية بالسباق الانتخابي الحر كطريق لاختيار الشعب النظام السياسي الذي ينشده.
 *على ان ثمة ثلاثة تأثيرات تفرض نفسهما على مجرى التنافس الانتخابي، اول هذه التاثيرات يتصل بحالة الامن، فان اجواء العنف والتهديد والحروب الاهلية والصراعات الطائفية تحول دون ضمان تحقيق تنافس حقيقي ومتحضر بين المرشحين، والثاني، يتعلق بشرط التعددية السياسية لضمان التنافس، فلا تنافس في اجواء هيمنة النوع الواحد، والكيان الاوحد، والثالث، ذي صلة بطبيعة النظام السياسي وشكل ادارته.
 ففي عهد الدكتاتورية العراقية لم يكن ثمة تنافس بين الخيارات والافراد والجماعات.. هناك إملاء.. في حين يجري تصريف التنافس السياسي والاجتماعي في اقنية هامشية تخدم قبضة الدكتاتورية، التي تتحجج بوجود ظروف حساسة او "معارك قومية" او اخطار خارجية داهمة لتحريم حق التنافس في المجتمع، وليس من دون مغزى ان يخوض صدام حسين انتخابات الرئاسة، مرشحا وحيدا للمنصب، فيما تبارى اعضاء حزبه مع بعضهم البعض للوصول الى مقاعد البرلمان في لعبة اثارت ازدراء العالم.
 والآن، منذ سقوط الدكتاتورية، خاضت الملايين العراقية تجارب انتخابية رائدة(تجربتان عامة وتجرتان في اقليم كردستان) بالاضافة الى استفتاء على الدستور، كان التنافس مفتوحا بين الاحزاب والمكونات السياسية، تكفي الاشارة الى تنافس الاف المرشحين(من خيارات سياسية متنوعة) على مئات قليلة من المقاعد النيابية، الامر الذي سُجل كرصيد في تجربة البناء الديمقراطي على الرغم مما شاب عملية التنافس بين الفر قاء والاحزاب والافراد من طعون ومخالفات وتعديات واعمال تزوير واستخدام السلطة والنفوذ والمال العام والاستقواء بالقوى الخارجية ، في هذه الساحة او تلك.
 وفي الحصيلة، يبدو ان امام  التنافس الحضاري بين الجماعات السياسية طريق وعر، وان ثمة مسافة منه قطعت.. لكن الاصعب في ما يأتي.
فان عناصر التنافس الحضاري بين المرشحين الى البرلمان تمت بصلة وثيقة الى مفاهيم وقيم وممارسات الديمقراطية، وتدخل في صلب اللوازم الاساسية لبناء مجتمع العدالة، لكنها الى جانب ذلك، تتوزع على ضوابط ولوائح مكتوبة ومعلنة تلزم المتنافسين على احترامها، تحت طائلة القانون، هذا عدا عن وجوب ممارستها كقيم اخلاقية وثقافية.
 وتمايز التنافس الانتخابي عن المحددات الاخرى يأتي من حقيقة ان الانتخابات (الحرة طبعا) هي السبيل العصري الموثق لتمثيل الشعب وصياغة ارادته واشواقه، وتشكيل السلطة التشريعية بوصفها الركن الثالث من اركان الدولة الحديثة، وبمعنى ما، فان التنافس الانتخابي الجسر الذي تعبر من فوقه اللوازم الاخرى لصناعة عهد الدولة الديمقراطية المدنية، وبعكس ذلك، فان غياب هذا التنافس لاختيار ممثلي الشعب، وتغييب شروطه المتحضرة، يعني ان النظام السياسي القائم قد فقد شرعيته التاريخية، عدا عن ان ذلك يعرض الدولة الى سلسلة من الانشقاقات والحروب.
 والتنافس الحضاري يقوم على قاعدة رئيسية، تتضمن الحقوق المتساوية للمتنافسين(افرادا او جماعات) في استخدام المنابر العامة لعرض برامجهم، وتوفير ضمانات (قانونية واضحة) لممارسة هذه الحقوق، وحمايتها، وتجريم التعدي عليها، ولا يمكن(طبعا) تحقيق هذه البيئة المنتجة من دون التزام السلطة التنفيذية(الحكومة وهيئاتها وقواتها وموظفيها) بالحياد بين المتنافسين، وهي المفردة الرئيسية في تكافؤ الفرص امام المتسابقين الى قبة البرلمان.
 والحق ان ثمة الكثير من التطور و"التحسن" طرأ على اداء الهيئات الحكومية وتعاملها مع المتنافسين(بالمقارنة مع الانتخابات السابقة) لكن ثمة مخاوف من حدوث اختراقات في هذه  الحيادية الهشة مع اقتراب موعد الانتخابات، وبالاخص حين تميل "اهواء" التصويت على وفق معايير الشفافية، ولهذه المخاوف ما يبررها في الطعون الكثيرة التي رافقت آخر انتخابات جرت للمجالس البلدية قبل اكثر من عام، فوق طعون بدأت تُعلن عن تدخل حلقات من السلطة في التعبئة الانتخابية واستخدام المال العام والنفوذ الحكومي في الدعاية للمترشحين، اخذا بالاعتبار حقيقة ان نفوذ الحكومة وثقلها موزع على احزاب قليلة تتقاسم النفوذ والسلطة والمال والاعلام، وإن بنسب متفاوتة، الامر الذي يشكل اول تحد للتنافس الحضاري المنشود.  
 نحن في حيّز تاريخي يجدر ان نبني فيه  معارف وسلوكيات بديلة.. فنقول:
 لا تنافس حضاري من غير حرية تعبير يتمتع بها المتنافسون، كافراد او مجموعات، وكمجتمع، وهذه الحرية ليست منّة ، او متبرع بها من احد. انها ثمرة كفاح البشرية والشعوب المضطهدة في المقام الاول، إذ كفلت هذه الحقوق بميثاق الامم الامم المتحدة (المادة 19 من الميثاق الدولي) التي اعطت "لكل فرد حق حرية التعبير عن الرأي" ثم "ان لكل فرد حق حرية إبداء الرأي دون تدخل خارجي" وحين خرج القائد الوطني الافريقي نلسون مانديللا من السجن خاطبه مبعوث دولي في احتفال حضره مليون من الملونين قائلا "يا صانع حرية هذه البلاد" فرد عليه مانديللا، متضايقا، بالقول مشيرا الى الجماهير الغفيرة بالقول:"هم الذين حرروا انفسهم" .
 وفي حزمة الالتزامات الخاصة بممارسة حقوق حرية التعبير قضت المواثيق والتشريعات الدولية بتثبيت حقوق الحماية، للافراد والمجموعات والشعوب والعقائد والاديان، حيال ممارسة هذه الحرية، وجري التركيز، خلال التنافس الانتخابي، على تحريم وتجريم استخدام الاعلام وسبل الدعاية الاخرى في التعدى على المنافس او الاساءة الى سمعته او الحيلولة دون وصوله الى الناخبين، وهي جميعا من حشوات التنافس الحضاري.
 لكن الاكثر اساءة الى فروض التنافس الحضاري يمكن ملاحظته في اللجوء الى تزوير ارادة الناخب عبر ممارسات وتقنيات محرمة، وفي استخدام المال العام والسلطة ومنافذ الدولة في الدعاية والعلاقات، من قبل الحكومة او الفئات المتنفذة فيها.
  واللافت، ان الاعتراضات الوفيرة التي قدمتها مجموعة المراقبين الدولية والمحلية والصحافة لانتخابات العام 2005 ثم انتخاب مجالس المحافظات، تشير الى انتهاكات صارخة لقيم التنافس الانتخابي، ولم يكن ليخفف من اثر تلك الانتهاكات ما ذكرته المفوضية العليا في خلاصاتها وتحقيقاتها من ان حالات التزوير"القليلة" لم تؤثر على النتائج المعلنة النهائية، فان وجود حالة واحدة من التزوير سُجل على جهة نافذة كانت قد مارسته، لا يمنع الطعن في سلامة التزام تلك الجهة بالتنافس الحضاري، كما لا يمنعها من ممارسة هذا التعدي على حقوق الناخبين كاما سنحت الظروف لذلك.
 وعندما يقال ان الانتهاكات لقيم التنافس الحضاري جرت في اطار مخالفات فردية محدودة، فان الامر لايعدو عن كونه محاولة لاعطاء الانتهاكات ترخيصا، يساوي الموافقة على قتل انسان  برئ بذريعة انه شخص واحد من ملايين من المواطنين لم يتعرضوا الى القتل..
 فان الجريمة، جريمة، بصرف النظر عن عدد ضحاياها.  
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"ما لا تفعله قد يكون اكثر اهمية مما تفعله".                     
حكمة مترجمة                                                                                             

330
بلير.. المساءلة والتاريخ

عبد المنعم الاعسم

 الوجه الاخر من المساءلة التي تعرض لها رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير عن “جدوى الحرب التي شنت على العراق العام 2003” يتعلق بوظيفة التاريخ، من حيث هو سجل لا يصلح لغير القراءة، اما الفائدة فثمة قليلون يأخذون منها العبر.
 الآن، في هذا الموضوع لدينا مشكلتان، الاولى، من اية زاوية نقرأ دروس التاريخ لكي نتعظ بها؟ والثانية، الى اية “حقيقة” نستند في استلهام تلك الدروس؟ لنتذكر المشكلة التاريخية التالية: عندما احترقت روما (هكذا كتب المؤرخون) كان نيرون يعزف، متسليا، بقيثارته، ودخلت هذه المفارقة( وقل القيثارة) في كراسات المدارس وكتب التاريخ، ثم نكتشف بعد ذلك ان القيثارة لم تكن قد اختُرعت آنذاك في عصر نيرون، ثم، وهذا المهم، لم يعتذر احد من الذين دسوا هذه الكذبة في كتب التاريخ، او في ذاكرتنا.
 هناك الان شكوك في سلامة ومصداقية المدونات التي ارخت الثورات، من ثورة سبارتوكوس وثورة الزنج وثورة اكتوبر حتى الثورة العلمية التكنولوجية، وثمة نصف تلك الشكوك( كما يقول الروائي الامريكي المصلح هيرثورن) يمكن ان يكون صحيحا، ولو عدنا الى رواية “وداعا يا غولساري” لجنكيز ايتماتوف، والى رواية “السيد الرئيس” لاوسترياس سنجد اننا لم نلتقط كفاية تلك الحقائق العميقة في ما بين السطور، يكفي ان نتذكر ان ايتماتوف كان يسأل ثائرا عما دفعه الى الثورة فكان الاخير يجيب “ لا اتذكر” ولكن ايتماتوف، مثلنا، كان سليم النية، بل وكان صادقا في كفاحه من اجل الحرية الى ابعد الحدود.
 القضية برمتها بسيطة، فان ما يعتبر حقيقة في جانب من جبال البرانس( كما يقول باسكال) يعتبر لا حقيقي في الجانب الآخر، وقد اخطأنا كثيرا(في العراق) في تدوين يوميات ثورة العشرين، بل واخطأنا قراءة انتباهات علي الوردي في ما حول الثورة، واخذتنا العزة بالاثم ونحن نستعرض هوسات عشائر الفرات والفلاحين الطيبين، فيما تقبلت الشعوب الاخرى الحقائق “المرة” التي اخفاها المؤرخون لكسب رضا الحكام، ويُزعم ان نيوتن اكتشف قانون الجاذبية الارضية لما لاحظ تفاحة تسقط من الشجرة، لكن الوثائق العلمية لأكاديمية العلوم البريطانية تبطل رواية التفاحة وتؤكد انه تم التوصل الى صياغة قانون الجاذبية بعد نيوتن بسنوات، لكن ليس من دون جهوده الرائدة والتأسيسية.
 العلوم الحديثة تحذرنا مما يقال على انها حقائق تاريخية، سيما ان في تاريخنا الكثير من الرطانات والخرافات والاباطيل، وفيه وقائع لا اساس لها من الصحة، يكفي ان نكتشف حيرتنا وضياعنا حين نتجه الى قراءة الحقبة المبكرة للاسلام، بين هذه الفوضى من المعلومات والروايات والمؤلفات المتناقضة، قبل ان تدخل عليها الصراعات المذهبية، وهي تسفّه بعضها البعض وتطعن في سلامة نزاهة ونيات شريكتها في الدين، بل يكفي ان يشار الى قصة النعامة التي ترسخت في ذاكرتنا على انها تتقي الخطر عن طريق دس رأسها في الرمال، ثم يخبرنا العلم ان هذه الرواية لا ثبت لها ولم يشاهد احد نعامة تزاول هذه الحركة الملفقة، ويمكن ان نضيف الى حكاية النعامة الزائفة حكاية اخرى(اكثر زيفا) تتصل بدموع التماسيح، إذ نكتشف ان التماسيح لا تذرف الدموع لسبب بسيط هو انها لا تملك غددا دمعية.
 فمن اية زاوية نقرأ تاريخ الحرب تلك؟ واين نضع توني بلير منها؟
عندما يقال بان الصواب امر نسبي في النظر الى حوادث التاريخ، لا يبدو الوجه الثاني من هذه الحقيقة (الخطأ نسبي ايضا) مقبولا، وقد يفسر الكثيرون هذا التناقض بالقول ان للصواب امجادا فيما للخطأ ضحايا، غير انه في جميع الاحوال تجري المراجعة دائما في محاولة تعيين مواضع الصواب والخطأ، ويقدم الاعتذار طالما ثمة خطأ اودى بحياة اشخاص، وضحايا حرب العراق، البريطانيون مثلا، سقطوا بنتيجة اخطاء وتخبطات واضطرابات رافقت عملية الاطاحة بنظام صدام حسين، الامر الذي لا يجادل فيه احد.
 ومن النادر ان لا يعتذر سياسي اوربي عن سوء ادارته لأزمة سياسية عصفت في بلاده، او عن خطأ  تسبب في موت المئات من الجنود. انهم يعتذرون، احيانا، حتى من باب مزاولة ثقافة شديدة العمق في المجتمعات المتحضرة، او لأغراض "تعقيم" السمعة، وامتناع بلير عن الاعتذار عن خطيئة الحرب التي انخرط فيها (بصرف النظر عن صواب وعدم صواب القرار) اثار استياء واسعا لدى معلقي الصحف البريطانية واسر الضحايا والجنرالات المتقاعدين ، وربما بين اكثرهم قربا من بلير واعجابا به.
  لم يكن بلير، منذ البداية، مصيبا تماما في عملية طهي الحصا "الجلمود" تكفي الاشارة الى انتحار جون كيلي كبير خبراء الاسلحة في تداعيات تقارير التفتيش على اسلحة صدام، والى  قائمة شركائه في الحكومة وقيادة حزب العمال الذين استقالوا غداة وبعد حرب العراق بالاضافة الى جنرالات وقضاة، ما يعني شيئا واحدا، بان بلير لم يكن مقنعا كفاية في مبررات خوض حرب على ارض تبعد ما يزيد على الفي كيلومتر عن الجزر البريطانية، فضلا عن انه يطرح سؤالا وجيها ما اذا كان  اولئك المستقيلين والمحتجين، من مهندسي سياسات حزب العمال، قد كانوا جميعا ضحية تضليل، ابتدا من وزير الخارجية روبن كوك ووزير الدولة لشؤون الدفاع توم واتسون والوزيرة كلير شورت واكثر من خمسين من كبار المسؤولين ومساعدي الوزراء والقادة النقابيين.
 وإذ يُطرح(او ينطرح) ملف حرب العراق على طاولة المحققين البريطانيين، فان المحلل(من الخارج)لابد ان ينظر له من زوايا مختلفة، قد تبدو متضاربة، ذلك لان النظرة العراقية الى هذا الملف، مثلا(وان لم تبدأ المراجعة الجدية بعد) لا يمكن ان تتطابق مع عناصر "التحقيق" الذي يجري في لندن مع رئيس الوزراء البريطاني السابق، ومن الطبيعي ان يعكفوا هناك على الاجابة عن سؤال ملغوم هو: ما هي مصلحة بريطانيا في شن حرب العراق؟ واظن (قبل التطرق الى اجابات بلير) ان اثارة السؤال والتحقيق في هذا الوقت جاءا في غير صالح توني بلير، إذ تقترب بريطانيا من انتخابات "كسر عظم" بالنسبة للمصير السياسي لحزب العمال الحاكم وصفوته القيادية "اليمينية"  واستطيع القول ان بلير اخفق في  "اسكات مدفعية العدو" ولم يستطع رد "كيد" الخصوم الذين لا يريدون التسليم للفكرة التي يتمترس فيها بلير من  ان صدام حسين كان يشكل خطرا على مصالح بريطانيا والغرب والعالم واستقرار الشرق الاوسط،.. وخطوط البترول.
ان مشكلة توني بلير، في ما تعلق بموقف الرأي العام البريطاني، يمكن قراءتها في تصدع الاجماع  من خيار الحرب  في صفوف حزبه، حزب العمال، وبخاصة في هيئات الحزب القيادية وممثلوه في البرلمان، وكانت الترخيصات التي حظي بها للذهاب الى الحرب لم تكن لتمر من مجلسي العموم واللوردات لولا تأييد كتلة المحافظين(المعارضة) ووقوفها معه، والمشكلة هنا تتمثل في ان يد بلير بقيت رهينة (المعارضة) فيما كان يواجه انشقاقات متناسلة في صفوف الحزب الحاكم.
 ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين  أشاد علنا في تصريح لموقع شبكة تلفزيون "سي إن إن" الأمريكية السبت 30-1-2010 بشهادة بلير أمام لجنة التحقيق بشأن قرار المشاركة في الحرب على العراق عام  2003 وقال كاميرون عن الحرب ما كان يتحرج منه بلير: "بصرف النظر عمَّا حدث ، فالعراق بالفعل بات أفضل حالاً دون صدام حسين ونظامه الوحشي، والمهم (الآن) بالنسبة لبريطانيا وحلفائها معرفة الأخطاء التي ارتكبت في العراق ".وبرأيه كذلك فإن "المهم ليس الأدلة التي قد تقدم أمام اللجنة حول صحة قرار بريطانيا عسكريا لإسقاط نظام صدام حسين، بل تحديد الدروس المستفادة من هذه الخطوة"..
 وكان مايكل هاوارد زعيم المحافظين السابق قد قبل، في حديث مع صنداي تلغراف في 2-2-04 تبريرات الحرب كما قدمتها حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا، فيما كانت حكومة بلير، آنذاك، تتهرأ باستقالات متتالية لاركانها العماليين، وتحت ضغط التظاهرات الصاخبة لنقابات العمال والطلاب والعاطلين والفوضويين واليسار والجاليات المسلمة وجماعات السلام، وقد عبر توني بن القائد "التاريخي" للجناح اليساري العمالي عن استغرابه ازاء ما قال انها "عملية سطو على حزب العمال وتوريطه في الحرب  من قبل بلير ومجموعته".
 مقابل ذلك، فان توني بلير، في حقيقة الامر، لم يكن مغامرا، او متهورا، بحيث قادته قدماه الى حرب مجهولة النتائج، اذا ما اخذنا بالاعتبار افكاره وطموحاته المبكرة لتحديث السياسة البريطانية واعادة احياء الدور البريطاني في عالم ما بعد الحرب الباردة.. ذلك  البرنامج الذي انقذ حزب العمال من ضياع امتد لاثني عشر عاما اغترب فيها عن الحكم والسياسة معا.
 كان بلير على قناعة لا تتزعزع بان مشاركة بريطانيا في عملية العراق العسكرية من شانها ان "تحسن" معادلة الصراع الدولي، باعطاء التجارة وحقوق الانسان والبراغماتية زخما اكبر، وفق ما كان يراها في خيار "الخط الثالث" الذي روج له غداة  اكتساحه انتخابات العام 1997على نحو غير متوقع، وبقي هذا الاكتساح بمثابة وقود لفوزه العام 2005 للمرة الثالثة، على الرغم من ان النتائج غير المشجعة
(بريطانيا) للحرب بدأت تظهر على نطاق واسع، فيما انكفأ الخط الثالث الى سلسلة من الجرعات العشوائية، كان المحافظون قد احسنوا الافادة منها، على اية حال.
 على انه من التبسيط القول بان توني بلير يعاني العزلة في صفوف الطبقة السياسية البريطانية، او انه فقد بصمته على اقدار المرحلة المقبلة، فهو، باختصار شيّد ما يمكن تسميته بـ "البليرية" التي قال عنها زعيم الكنيسة الإنجيلية روان ويليامز، بانها خطة لتنقية بريطانيا من الشوائب.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"ثمة طريقة مضمونة ليكون لديك أعلى مبنى: أن تدمر كل المباني من حولك".
نصيحة   
ــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد 


331
المنبر الحر / حيتان المرحلة
« في: 12:08 31/01/2010  »



حيتان المرحلة

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
 
لكل انتخابات حيتانها، او، لها ابطال يتطبعون بطباع فصيل شرس من قبيلة الحيتان، ويقول عالم الحيوان المعروف كمال الدين الدميري عن تلك الطباع انها من بعض طباع الضباع التي “لايهمها الجود ومكارم الاخلاق” بل  “عظم فخد فريسة تُرك ليتعفن ويفسد” ويخص نوعا من الحيتان (نعنيه هنا) بالقول “انه دابة عظيمة تمنع المراكب الكبار عن السير” وعلى ذلك نصح الجاحظ بتجنب الحيتان الشرهة التي تعودت اكل العنبر، وهو نوع من السمك اللؤلوئي، وكأنه ينصحنا ايضا ان لا نثق باغواء جلد الحوت الذي يتسم بالنعومة والانزلاق، واحسب ان الحوت الذي قطع رجل بطل رواية هيرمان ملفيل الشهيرة (موبي ديك)ينتسب الى هذا النوع الغادر من الحيتان.
ولا تختلف حيتاننا، في طبعتها وطباعها عن تلك الحيتان التي “تتنفس من منخرتها الموجودة في اعلى الرأس” وتتخاطب في ما بينها بواسطة الصفير، والنحيب، والصراخ “من على الشاشات الملونة” وهي جميعا، ومن غير استثناء، رموز لكل مهووس بالتضخم المادي، ومن ذوي الجشع والجهل والسير المجهولة، ولدى الصيادين ورواد البحار قصص مروعة عن تلك الحيتان الغادرة، لكني لا اعرف مدى صحة القول بان هذه الحيتان لا تقرب من أي مركب يقل امرأة حائض، وأشك بالرواية القائلة بان الحيتان لم تكن لتهاجم البواخر الامريكية التي كانت تقل في القرن الثامن عشر نساء سجينات يجري نقلهن الى جزر نائية لزجهن في اعمال السخرة الهمجية.
حيتان الانتخابات المقبلة يزدحمون هذه الايام في فنادق العواصم المجاورة، ليديروا من هناك خطوط التجارة الرابحة، في رفع مناسيب التصويت لهذا او ذاك، ولشراء حظوات ومشايخ واقدار، ثم بيعها في سوق الخردة، وبحسب اسعار السوق، ويجري الحديث عن مليارات من الدنانير، تنقل بين هذا وذاك على ظهور البعران، وسطور المحمول، وتنشر الصحافة ونشرات الاخبار نتفا مما يسمح به عن اتصالات واموال وصرفيات باذخة يتولاها حيتان من العيار الثقيل، كانت الى وقت قريب تعيش في المياه الراكدة، وتنصرف الى شؤونها الصحية والعائلية، قبل ان تدخل في جوقة الكواسر الجديدة، وعملية التحويت. 
اقول: عملية التحويت.
 
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ ليست الفضيلة في أن تتجنب الرذيلة بل في ألا تشتهيها”
                                             همنغواي 


332
المنبر الحر / حكاية "ع السلاطين"
« في: 23:33 28/01/2010  »
حكاية "ع السلاطين"

عبدالمنعم الاعسم

 لو انك تفتح سيرة الفساد يقال لك انها “حكاية على السلاطين” بعد ان بلغ الكلام عنه  حد الصداع.
 ولو ان ثلاثة ارباع ما اسمعه، اقول: ثلاثة ارباع ما اسمعه، من وقائع استشراء المحسوبية والمنسوبية في مفاصل الدولة الجديدة هو بمثابة شائعات فان الربع الباقي وحده، بما يلحقه من اضرار تدخل في صلب حياة الناس واحتياجاتهم، يمكن ان يضرب راس الرضيع بالشيب.
لكني لو نشرت كل ما اسمعه، اقول: كل ما اسمعه، من تلك الوقائع لقضيت بقية عمري في السجن، ذلك لان اصحاب تلك المفاسد من موظفين كبار ووكلاء وسماسرة يعرفون طريق القضاء، أفضل مني، وهناك سيصرخون بصوت كورالي واحد: قدم ادلتك او ادفع ضريبة التشهير بنا.
  ودفعا لدوخة الرأس ساتوقف اليوم عند هذا الحد، وأدفع بالتي هي احسن، فاترك المجال لما كتبه القاضي والكاتب العراقي الراحل عبود الشالجي من وقائع محسوبية ومنسوبية تعود الى سبعين عاما مضى، فاريح واستريح وإن هي كأنها تحدث اليوم، واظن ان هذا الاسقاط، حتى لو كان زلة لسان لايدخل في باب التشهير.
 كتب الشالجي في باب (تذيّل) في الجزء الاول من كتاب (الكنايات العامية البغدادية ص414) يقول بالنص، انها:”كناية نشأت في السنة 1935 لما سنت حكومة الهاشمي قانونا سمته قانون ذيل انضباط موظفي الدولة اوقفت بموجبه الصيانات التي كانت تحول دون طرد الموظفين من وظائفهم، وتم بموجب هذا القانون طرد قسم من موظفي الدولة، فسماه الناس على سبيل الاختصار: قانون الذيل، وقيل عمن أخرج حسب أحكام هذا القانون (تذيل) ثم اتسعت الكناية فاطلقت على كل من طرد من عمله، قال الملا عبود الكرخي لما فصل وزير الداخلية امين العاصمة محمود صبحي الدفتري:
 يا كرخي يا مال العمة
                        تذيّل أمين العاصمة
 وأدى إصدار قانون الذيل، وما اعقبه من طرد الموظفين، وتعيين اخرين بدلا منهم، الى اتهام وزارة الهاشمي، بانها أخرجت خصومها، ونصبت انصارها من المنتسبين الى حزب الاخاء الوطني، وهو حزب الهاشمي، بدلا منهم، والى ذلك اشار الشاعر المجلي محمد مهدي الجواهري النجفي في قصيدته التي حبس من اجلها أشهرا، حيث قال:
تُســن ذيول للقـوانـين يبتغى
                        بها جلب قوم للكراسي الشواغر
ولم يبق معنى للمناصب عندنا
                            سوى انها ملك القريب المصاهر
 وكان الشيخ محمد السماوي، من الفقهاء المعروفين، عضوا في مجلس التمييز الشرعي الجعفري، وكانت النية منصرفة الى تنحيته وابداله بآخر اوصى عليه السيد محمد الصدر رئيس مجلس الاعيان، وتم ذلك بان احيل السماوي الى التقاعد، فكتب اليه احد اصحابه:
قـل للسـماوي الـذي
                          فلـك الـزمان بـه يـدور
الناس تضربها الذيول
                             وانت تضربك الصدور

ـــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ كان الامام علي بن ابي طالب قد ركب لحاجة، فاتبعه رجل يمشي خلفه، فقال له علي: إرجع فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للمتبوع ومذلة للتابع.”.
نهج البلاغة


333
المنبر الحر / مام جلال.. المحور
« في: 13:42 24/01/2010  »


مام جلال.. المحور

عبدالمنعم الاعسم

 اعرف ان الطريق الى رضى الجميع وعرا، وربما مستحيلا، لكني اعرف انك جربت الوعورات والمستحيل، وبرغمها، اعدت الاعتبار لمكانة الرئيس الذي قد نختلف معه دون ان يكلفنا ذلك عمرا او وظيفة او ذرة من الاوكسجين، وصنعت مسافة من المعابر السالكة مع ملايين العراقيين، فيها الكثير من الرحمة والثقة والعتاب والاعجاب، وحتى سوء الفهم، وهي جميعا من لوازم المرحلة الشاقة التي نمرّ بها، وهي ايضا فرض من فروض الزعامة التي افتقدنا حق النظر اليها من معين الواقع زمنا طويلا، كابوسيا كان.
 ولأول مرة، صار لنا رئيسٌ نلومه ونعارضه(ولا نمتدحه) من على الشاشات وفي الصحف والمحافل. يهاجمه سياسيون اليوم، برعوا في السعي لاغتيال بعضهم البعض، ثم يلتقونه غدا على ابتسامة وود، وربما ايضا على طرفةٍ صممها الرجل المضيف الذي برع في تصميم الاقدار، وعذرك دائما، مام جلال، ان الحياة لا توهب لتعرض للتنكيل والعبث.
العراق شدّة ورد، تعالوا نحافظ على الوانها، هكذا تذكّر الجميع.
 اسمعُ دائما(وليسمع الجميع) انك لا تحب لغة المديح، وان بديلها، النقد والمناقشة والاعتراض، اقرب الى روحك، لكن ثمة في السياسة ما نسميه الانصاف والموضوعية، الخلفيتان الاخلاقيتان اللتان لا تلوثهما المصالح، إذ لايصح ان نستغل رحابة صدرك لحد ان ننكر هذا الدور المحوري الذي شاغلتَ به متناقضاتٍ متراكمة ومتناسلة ومنفلتة انقذفتْ الى الحلبة من كل جانب، وروّضتَ من خلال هذا الدور اراداتٍ متخاصمة ومغامرة وانانية.
وشئتَ دائما ان تسبق الجميع  الى السؤال: ما البديل عن التوافق، او عن خيار القواسم المشتركة؟ وتسبقهم ايضا الى الجواب: انها الكارثة، ثم، لم تكن لتتأخر عن تقديم وصفة المصير المشترك لاصحاب المرحلة، وحاجة العودة الى العقل وفروض الشراكة.. وفي اكثر المرات يترك المتخاصمون ريبهم وحروبهم واخفاقاتهم بين يديك لتصنع منها سلام الحد الادنى، ورافعة العبور من فوق حريقٍ داهم.
  عندما اختُرتَ لرئاسة الجمهورية، وضعوا لك مقاسات من خارج مشيئة المعايير، لكنك سرعان ما قمت بعملية نحت وبناء المنصب من نشارة الحديد والصبر والمراس، وقد اتعب ذلك قلبك وجسدك، ولم يضن الدور الذي تنهض به، حتى غدوت تأخذ هذا الدور الثقيل معك الى اسرة المشافي وغرف الانعاش ومباضع الاطباء، وصرتَ تتواكل على العصا لحمله، وعلى المستقبل الآمن للعراق للاستعفاء منه.
 لك دَين، مام جلال،  يبقى، في جميع الاحوال، حتى على هؤلاء الذين يغيرون على اسمك، ويتوعدونك، من وراء الشاشات الملونة .
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"وتعظم في عين الصغير صغارها..............
                          وتصغر في عين العظيم العظائم"
المتنبي


334
المنبر الحر / الساقطون
« في: 15:40 17/01/2010  »
الساقطون

عبد المنعم الاعسم
mm13mm@live .com
اعتذر للقارئ عن اخفاقي في العثور على كلمة تناسب “حال” هؤلاء الذين انكفأوا الى اعقابهم ، فعادوا الى احضان صدام حسين “الدافئ” بعدما لوحوا (لنا) بالقطيعة معه، او “الفطام” منه، او الزعل عليه او المعارضة له، على تقاويم واسباب وظروف مختلفة، في الحال وفي الزمان.
والسقوط، كما اعنيه، وأحدده حصرا، في ميدان السياسة، بعيدا عن الاخلاق والاعراض والشرف، والاخيرة ليس ميداني، ولا من مشغولياتي.
واعتذر ثانيا عن ذكر الاسماء، وعذري ان القراء يعرفونهم جيدا، ويسترشدون الى عناوينهم وازيائهم ومعاركهم عبر الشاشات الملونة، ويرصدون انكفاءهم في اكثر من منطق وهتاف ومزبلة.
واذكّر باني اخص “نمايم” من بعض الذين ارتبطوا بحزب صدام، وسقطوامنه غاضبين، ثم سقطوا اليه نادمين: منهم من سجل نفسه في دفتر المعارضة “السابقة” فصال وجال، ومنهم من ركب قطار العملية السياسية في تذكرة الطائفية، ومنهم من نطّ من فوق الحواجز الى مربع السلطة بتزكية “الاحتلال” ثم اكتشفوا انهم كفروا بنعمة (فتات) صدام، وان لصاحبها فضل عليهم، ودين مؤجل ودين مؤجل في  رقابهم                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               ثم،وهو المهم، انهم ابناء عقيدته (وعقدته) الراسخة فيهم، لم يتخلصوا منها، ولم يخلصوا لها.
في سايكولوجية السقوط، ثمة شعور بالذل والندامة والدونية، واحيانا، بالرغبة في تمثيل الادوار المزدوجة. لكل موقف كلام، ولكل كسب ثمن،ولكل موقع متقدم ضحية، وفي هذه السايكولوجية، هناك شيء من الصفاقة من خلال الاستقواء على البديهيات بالتبرير والمزاعم والكذب الصريح (وضعوا الصفيق في نار جهنم فصرخ: البرد يقتلني) فيما يستخدم الساقطون بضاعة صدام حسين وفنونه في تزييت ماكنتهم وهم ينحدرون الى النقطة المرسومة.
الامر لا يتعلق بالقناعة السياسية ولا بوجهة النظر حيال اسئلة اللحظة التاريخية العراقية، فان النواب الذين نطّوا من فوق سطوح المنازل وسواتر الشوارع والحدود هاربين الى الخارج لم يكونوا قيد المساءلة عن رأيهم او قناعتهم، ولم يجرؤ احد على استباق اجراءات العدالة بالتلويح بالعقاب والانتقام.
اقول، يعرف الساقطون انهم منحوا افضل واوسع واضمن الفرص للتعبير عن قناعاتهم في عهد التغيير (او السقوط .الاحتلال) ما لم يحدث ان منحت للآلاف من اصحاب الرأي الحر الاجدر منهم في التعبير عن الرأي، وانهم تبوؤا افضل وارقى واجزل المناصب مما لم يتبؤه عشرات الالوف ممن قاتلوا الدكتاتورية، وكابدوا بطش “الساقطين” انفسهم في طور خدمتهم لصدام حسين.
اسمحوا لي ان اعتذر مرة ثالثة، لكن هذه المرة لاصدقاء واشخاص وسياسيين ارتبطوا بصدام وحزبه، ونأوا عنه الى وجدان نقي، وسيرة بديلة راسخة، وضمير حي، وخدمة للوطن.. فوق اية شبهة.

ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ إذا عجز القلب عن احتواء الصدق عجز اللسان عن قول الحق”.
عباس العقاد

335
على طاولة وزير الهجرة..
الى هيئات اعادة الكفاءات


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@tahoo.com
 ابدأ مشواري مع وزارة الهجرة والمهجرين واسلوب تعاملها مع العائدين الى الوطن بالحادث الموثّق التالي:
/في يوم الاثنين ،الحادي والعشرين من الشهر الماضي، الساعة الحادية عشرة صباحا، راجعتْ سيدة عراقية(احتفظ باسمها الكامل وعنوانها) الوزارة، وكانت قد وصلت العراق توا من مهجرها القسري بعد ثلاثين سنة من مغادرتها العراق، وشاءت، قبل ان تسلم الاجهزة التي تحملها الى نقطة الاستعلامات ان تأخذ صورة ليافطة وزارة الهجرة والمهجرين في خارج البناية ثم سلمت الكاميرا والتلفون الى النقطة، ودخلت الى حيث تبدأ معاملة الحصول على شهادة الهجرة، غير انها فوجئت لدى مغادراتها، برجال الشرطة يحيطون بها ويجرجرونها الى مدير امن الوزارة (العقيد ر) لتواجه تحقيقا غريبا وعنيفا عن غرضها من تصوير يافطة الوزارة، وحاولت السيدة، بما تعلمته من ثقافة المجتمعات المتمدنة، ان تسأل "لماذا لم تضعوا اعلانا بمنع التصوير؟" و"لماذا لم يمنعني رجال الشرطة الذين يحرسون البناية؟" كما حاولت ان تهدئ من استنفار الضابط الكبير، بالاعتذار المهذب مئة مرة عما فعلته عن طيب خاطر وحسن نية بان هدفها تسجيل انطباع طيب عن دولة جديدة يجري تأسيسها في العراق، وأبدت الاستعداد لمحو الصورة من حافظة الكاميرا، وعرضت  جواز سفرها الاجنبي، وعناوين اشخاص تعرفهم ومكان سكنها، غير ان المدير الامني رفض كل ذلك، وشاء ان يعرضها الى موقف محرج، وان يهددها بالحجز لشهرين، ثم، يخضعها لتفتيش آخر،والى اسئلة (خارج الصدد) وراح يقلب حقيبتها ومخزونات الكاميرا من صور شخصية وعائلية، واخيرا حررها بالقول المهين :لو مو "مرة" جان ما هديتج.   
 استدرك القول، هنا، لاسجل مثابرة الوزير الدكتور عبدالصمد في تقديم التسهيلات للعراقيين العائدين الى وطنهم وحسن التعامل معهم، واضيف، اني اطلعت على طائفة من التوجيهات والاوامر باسم الوزير وبعض وكلائه تفيد في سد منافذ الشكوى لالاف العائدين، لكن هذا (مع ذلك) لا يعفيني من مخاطبة الوزير بوجوب مساءلة هذا الشخص وبانتظار اجراءاته المناسبة، كما لا يعفيني من امانة القول في فقرتين:
 الاولى، اني لم التقي بعائد عراقي لم يكن ليشكو من تعامل موظفي الوزارة، وبخاصة فروعها، ومن اساليب وطرق تمشية المعاملات ومن الطلبات المتكلفة والروتينية والتعجيزية التي يفاجأون بها، ليس اقلها، تنفيذهم حلقات من العمل الاداري و"شغل" الموظفين (تنسيخ الاوامر) وتضارب السياقات بين كل مرفق وآخر من مرافق وفروع الوزارة، ومن الواجب القول اني جمعت هذه الاشارات من خلال حضوري مؤتمرات العائدين في الداخل والخارج، ومن وجودي في بغداد على مقربة من شريحة الكفاءات العائدة، وموضع مشورة اصدقاء ومعارف بينهم، إذ تنقطع السبل بالكثيرين منهم، ينكفئون معها (ولاسباب اخرى في مرافق اخرى)الى العودة الى حيث اضطروا الى الهجرة.
 الثانية، ان وزارة الهجرة تحولت من معبر آمن(ومحطة حلول) للعائدين الى عقدة مستعصية بالنسبة لهم.
 اقول عقدة مستعصية.. وما ادراك ما هي.
ـــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــ
" أذا قاد الرجل الاعمى رجلا اعمى سقط الاثنان فى حفرة واحدة".
نظرية مستقبلية
 ـــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد
     


336

جديد تفجيرات الثلاثاء..
لا جديد
عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yhoo.com
 
تفجيرات الثلاثاء، لم تختلف في الطريقة والتوقيت والاهداف، وحتى في ردود الافعال، عن سابقتيها، إلا في سقوط ضحايا مدنيين باسماء اخرى، وإلا، ايضا، في تفاصيل ثانوية غير ذي اهمية.. فمقاسها ثابت في الاصول والفروع والمنهج، ولم يكن قد تجرأ (او سيتجرأ) على الدفاع عنها (علنا) سوى تنظيم القاعدة ورطانة دينية اسمها: دولة العراق الاسلامية، لكن الفرحين بها، سرا، كثيرون.
 من هنا يجدر التأكيد على البديهيات ذات الصلة بتفجيرات الاربعاء التي طالت وزارتي الخارجية والمالية في آب الماضي، وهي نفسها البديهيات التي طرحتها تفجيرات الاحد لوزارة العدل ومحافظة بغداد في تشرين الاول الماضي.
 وتتوزع تلك البديهايات على عدة مستويات، اولاها، يتعلق بالمشروع الارهابي الاجرامي الذي انتقل الى طور جديد من النشاط بعد ان فقد الارض والقواعد الثابتة، ولم يفقد الدعم(الداخلي والخارجي) وخطوط الاتصال والافراد، وتقوم هذه الانشطة الجديدة فوق "استراتيحية" تقوم على الهاء الدولة واجهزتها بهجمات محدودة ومتباعدة وسريعة تمهيدا لهجمة "اختراقية" يجري الاعداد لها جيدا وتحشد لها امكانيات لوجستية واسعة: رصد. اختراق. معلومات. اوكار. انتحاريون..
 ولا يصح التعامل مع هذا المشروع بوصفه مجموعة من المسلحين التابعين لتنظيم القاعدة وفلول حزب البعث المسلحة فقط، فهو يمتد الى خارج هذا الاطار ليضم ايضا شرائح سياسية وقبلية ودينية(وطائفية) ليست بالضرورة تنسق فيه، او معه، بل تمهد له الجو والبيئة (وربما التنفيذ) والاخطر هنا، ان هذه "الامتدادات" تستثمر الهجمات في تمرير شعارات واجندة سياسية، لايغيّر من طبيعتها التآمرية انها تدعي الحرص على الامن وحماية حياة المدنيين، ولو حللنا كيمياء الخطاب السياسي لبعض القوى المحلية المناهضة للتغيير والحكومة(وبعضها مشارك في العملية السياسية) والتي اعقبت التفجيرات الدموية الثلاث، لوضعنا ايدينا على ملامح واضحة لحراك سياسي منهجي يعضد المشروع الارهابي، او يصبّ في ماكنته، إن لم يكن جزءا عضويا منه. 
 ولم يكن ليثير العجب-طبعا- تكرار مفردات الخطاب السياسي موضع التحليل، لكن العجب يتمثل في نداء كان يهبّ من سريره، في كل تفجير من التفجيرات، على شكل دعوة الى تحريك ملف  "المصالحة الوطنية" باعتباره الطريق الامين الى انهاء دورة العنف والدماء الامر الذي يطرح سؤالا مهما على الوجه التالي: هل ان المصالحة المطروحة "وصفة" خاصة بالتفجيرات ام انها ضرورية لمجتمع ورث احتقانات وانعدام ثقة، ولطبقة سياسية انانية لم تحتسب كفاية لاهمية التسامح ونبذ الكراهية والانانية والصراع على السلطة؟ ثم، هل تعني هذه الدعوة المترافقة(مرة اخرى) مع التفجيرات الاخيرة مصالحة "المفجرين" لكي يكفّوا عن اراقة الدماء؟ ام تعني إعطاء اصدقائهم ووكلائهم وانصارهم ومهربي اسلحتهم المزيد من الامتيازات على الارض وفي اقنية الحكم لكي يقنعوا الجناة بوجوب تقوى الله في البلاد والعباد؟.
 المشروع الارهابي، شأن أي ردة ظلامية، يتخفى وراء ستارة من النصوص والشعارات والرطانات المقدسة، يحرص القتلة على ان يجعلون لها اسنان متوجشة.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:   
" ما لا نستطيع فهمه بالكامل لا نستطيع السيطرة عليه..".
غوته 

337
عماد العبادي..
قم لهم

عبدالمنعم الاعسم
 
 اعرف، بدءا، بان حياتنا، كاصحاب راي لم يُرتهن، وكلمة لم تُدجن، صارت مفردة للمناقشة على طاولات الكثير من اسياد الشارع، وحين يسقط أي واحد منا سرعان ما يتبرأ الجميع من دمه، وقد يمشون بجنازته بدموع، ونحيب، فيتماهى القاتل في مزدحم المواسين.. واعرف اننا، في نهاية المطاف، سنتنازل عن حقنا في مقاضاة الاشباح.
 اقول، اعرف ان حياتنا صارت موضوعا قيد البحث، لكننا الان نحتاج الى تدريب مضنٍ على مزاولة الحياة بين كل اطلاقتين لكواتم الصوت، فقد ولدنا لهذه اللعبة الخطيرة، لعبة الروليت، ولم نكترث للتهديدات بالموت. وحدهم نجوا، اولئك الذين كتبوا، ويكتبون، مقالات خالية من الملح، راضية بالمذلة.
 وإنت، إذ اخذت رصاصتك، قبلنا، الى سرير بملايات بيضاء، في مشفى محروس بعناية مفرطة، فقد سبقتنا الى السؤال عمن خسر ومن ربح من حادث العرصات الذي هزنا، فللوهلة الاولى، يبدو اننا خسرنا الجولة في معركة غير متكافئة: كاتم الصوت بمواجهة قلم.
  لكن الفرضية غير الفرض، فالحرية (والرأي الحر منها) غرسة تشق اللحاء المتشابك، كما يشق الكمأ التراب البليل، والجناة يتقنون مهارة واحدة، هي رصد ضحيتهم والايقاع بها، ثم يبدأون، بعده، رحلة الفزع الابدية من القصاص الذي سيحل وإن طال الزمن.
 وإذ نقترب من الانتخابات فانهم يعدون الآن المسرح لجولة جديدة من شراء الذمم، والاحتيال على الله، واستخدام المال العام والمستورد وفائض المنهوبات والمهربات والاكاذيب، ومرة اخرى، سيخدعون ارامل القتلى والشهداء بالكلام عن التعويضات التي لن تأتي وبالصبر المأجور غير ذي كلفة، ومرة ثالثة ورابعة والف، سيأكلون وعودهم لنا بالرخاء وفرص العمل والمساواة والامن، وعدا بعد آخر، كما كانت قريش تأكل اصنام التمر، صنما بعد آخر، بعد بُطلان الفائدة منها.
 فقم لهم من رصاصتك، واشمر الملايات البيضاء، وعد الى لعبتك التي كانت تزعجهم، والى اوراقك التي كانت تطلق عليهم الحجر المقدس، واحلب لنا من ثدي الغزلان نداءا كانت ايزابيللا الليندي قد سمته بنداء اخوة الرأي الذي تنخرط فيه اصوات متعددة القناعات لتكوّن صوت الحرية المهيب.
 قم لهم ياعماد، فانهم يتشفون بنا، فيما نعيش حسرة (وقل عجز) تعريف الكوارث المحدقة بنا.. ونموت باسماء مستعارة.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
" الشجرة العاقر لا يقذفها أحد بحجر ".
ليوبولد سنغور   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

 


338
تعالوا نتفلسف..
قليلا

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

يبدو انه من غير ان نتفلسف "شوية" لا يمكننا ان نتعامل مع سوق الخضرة الذي يتقاذف فيه البائعون قانون الانتخابات، ومن دون هذا التفلسف لن يفهم احد حيرتنا مما آل اليه التجاذب، وخذ وهات، بشأن موعد الانتخابات المقبلة ، فالكلام المقلوب اقرب الى راحة البال منه الى الكلام الذي يمشي على رجلين، وان قلب الكلام (من تقليب) ليس عيبا ففيه، تسكن الاسرار، ومنه تنطلق الاسئلة، والفلسفة، كما يقول صديقنا حيدر سعيد  هي "السؤال المنهجي الاول للانسان" لكنه يذكرنا بان العلوم الانسانية (مثل السياسة) تتعارض كليا مع الفلسفة، فاذن، لا بد من اللف والدوران (جاء اوان الفلسفة) للقبول بالقانون الذي هتك عرض الديمقراطية في اكثر من بند والقبول به بوصفه إنقاذ للديمقراطية.
 ويحسن ان نمتن للكاتب الرصين حيدر سعيد، إذ ذكّرنا بان منظمة اليونسكو التابعة للامم المتحدة احتفلت في التاسع عشر من الشهر الجاري باليوم العالمي للفلسفة، فقد ذهبنا الى رسالة ايرينا بوكوفا المديرة العامة للمنظمة، لنكتشف اننا (في العراق بخاصة) احوج ما نكون الى وصفة فلسفية لحالنا تتأسس على "التأمل" وهي الكلمة التي استهلت بها السيدة البولونية رسالتها بهذه المناسبة، واضافت لها حشوة دسمة من الفروض، إذ " تقضي الضرورة أكثر من أي وقت مضى بأن يعاد التفكير في الأسس الحالية التي يقوم عليها التداول الحر للتنظيرات والممارسات".
 تعالوا نتفلسف في ازمتنا، وندخل دهاليز الرطانات والاسلاك الشائكة والمواقف المثيرة للاستغراب والقرف ايضا، فان بامكان الفلسفة، كما تؤكد مديرة اليونسكو في رسالتها "أن تساعد، جنباً إلى جنب مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، في تجديد النقاش بشأن طرائق مزاولة هذا الحوار" ولنُدخِل الاوكسجين الى الغرف المغلقة التي يجري فيها طهي الحصى، وانتاج الصفقات، وتقاسم الغنائم "في وقت غدت فيه المجتمعات تتعلم أكثر فأكثر العيش في بيئات متعددة الثقافات".. "بات ينبغي بالفعل أن نستجلي مدى قدرتنا على أن نستفيد معاً من إمكانيات الربط بين ذهنيات جماعية وذهنيات منفردة".
  تعالوا نتفلسف قليلا، او نتحاور حول مأزقنا في رحاب الفلسفة وفضيلتها الذهبية ذات الصلة بالعقل ومبدأ الحوار، فان السياسة تأخذنا الى منحدر سحيق، وان بعض اللاعبين يستخفون بعقولنا، وبقدرتنا على ان نتفلسف، وان نقلب الطاولات، ونحتج، ونثير الاسئلة، وكما تشير السيدة بوكوفا  فإن "إقامة حوارات فلسفية.. يعني أيضاً وقبل أي شيء آخر، أن توضع قضايا التنوع والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان في صميم جدول الأعمال".
 كان حراس الحلقات الفلسفية الرومانية يمنعون السحرة من المشاركة بالجدال.. وكان اخوان الصفا والمعتزلة، قد سبقونا الى التفلسف في ما كان يستعصي حله بالسحر.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
" إذا لم تسأل ، فلن تحصل على إجابة".
غاندي

339

موسم الثعالب..
حذار


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 موسم الانتخابات كما كان يقول الرئيس الفرنسي الاسبق فرانسوا ميتران هو "موسم الثعالب" وكان يعلق على تقرير مدسوس عن ادائه في مناضرة تلفزيونية العام 1977 بمواجهة منافسه ريمون بار، وقد الحق بسمعته ضررا كبيرا.. انذاك كان ميتران يشير ايضا الى سلسلة من حوادث غامضة يقف وراءها سياسيون "ينطبق عليهم دهاء الثعالب" كما يقول جان نويل مؤلف كتاب الشائعات.
 ولا تُعرف الثعالب بصفة الدهاء فقط، بل وايضا بصفة الخبث، ففي حكاية صينية تعود الى القرن الثالث قبل الميلاد ثمة رجل اضاع فاسه، فاستدل بواسطة ثعلب (مارس الخديعة) الى ابن جار له ليشك ان يكون قد سرق تلك الفاس وشرع في مراقبته، وبدت له هيئة الصبي وسلوكه انه سارق نموذجي ومحترف، وان الفاس لا محالة عنده، حتى ان العبارات التي كان ينطق بها لا يمكن ان تصدر إلا عن سارق فاس، وبدا  للرجل، وبمرور الايام التي احكم فيها مراقبته للصبي ان الاخير يخفي الفاس في مكان ما. لكن ما حدث على نحو غير متوقع هو ان الرجل، إذ كان يستدل بالثعلب، عثر فجأة على فاسه عندما كان يحرث ارضه. وفي اليوم التالي، عاد الرجل الى مراقبة الصبي، فلم يلحظ عليه أي سلوك يوحي، حقيقة، انه سارق فؤوس.
 وقديما قال طرفة بن العبد:
 وصاحب كنت قد صاحبته.............. لا ترك الله له واضحة
 كلهم اروغ من ثعلب..................... ما اشبه اللة بالبارحة
 ويقول اللغويون "تثعلب الرجل" اذا ما جَبُن وراوغ. ولاحظ الجاحظ في الثعلب: "إذا طارده الصيادون، تماوت، وزكر بطنه ونفخه، حتى يتوهم من يراه انه قد مات من يوم او يومين، حتى إذا تعداه، وشمّ رائحة الكلاب، وثب وثبة ونجا.".
 وفي مدونات الظرفاء ثمة الكثير من الروايات عن دونية الثعلب حتى يخجل الناس من قول "عضني ثعلب" ومرة، عضّ ثعلبٌ شيخا، فاتى راقيا (صيدلي ذلك الزمان) فقال له الراقي: ما عضّك؟ قال الشيخ: كلب (واستحى ان يقول ثعلب) فلما ابتدأ الراقي الرقية (تحضير الدواء) همس الشيخ الى الراقي: واخلط بها شيئا من رقية الثعالب.
 فحذار ان يعضّ احدكم ثعلبٌ، وقد تزايدت اعداد الثعالب، هذه الايام في سوق الانتخابات وكواليس طبخ الزعامات، وايضا انتشارها على الشاشات الملونة.. عابرة الفضاء.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
ـــــــــــــــــ
"ينام عميقا من لا يملك ما يخاف من فقدانه".
حكمة مترجمة




340
تفجيرات الاحد..
جريمة وانانيات السياسية


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

 تفجيرات الاحد الدامية رفعت اللثام عن قبح المفردة المبكرة عن مقاومة الاحتلال بالسلاح، فقد انتهت حثالة المقاومين المسلحين الى مشروع يقوم على طرد الدولة العراقية من الخارطة بدل طرد المحتلين من العراق، وكشفت عن احتراف مصمم، وسادي، للجريمة في اكثر صورها شناعة، بانْ توقع اكبر عدد من الضحايا وتنال من شواهد مدنية لها صلة بشبكة المصالح العامة، واكثر من صلة بشؤون وملازم الاستقرار .
 القول بان لهذه التفجيرات رسالة سياسية، لا ينطوي على اكتشاف مثير، فالتسييس-اصلا- يضرب كل حدث او حادث في العراق مهما كان عابرا او هامشيا، فكيف به اذا ما كان ضربة امنية اخترقت سلسلة من التحصينات وجاءت في وقت تشهد المرحلة احتقانا وتجاذبا سياسيا؟ وكيف يمكن تقليل اثرها السياسي وقد وجهت  ضربة الى هيبة ومكانة الحكومة، اذا ما شئنا تسمية الاشياء باسمائها؟.
 ومن التبسيط الافتراض بان هدف  هذه التفجيرات هو تدمير العملية السياسية التي لا تعدو عن كونها احدى مكونات العهد الجديد في العراق، وتدور هي الاخرى في اقنية من التعقيدات والاحباطات والتحديات، فان المشروع المطروح للارهابيين واصحاب العنف هو الغاء العهد كله، بحاضره ومستقبله، وتجهيز كيان عراقي يتفتت الى كيانات متناحرة ومزارع للحشيش والتهريب والى معسكر لجميع المهووسين بالحرب والسلاح والعنف، والمنبوذين والمطلوبين في كل مكان.
 ومن الطبيعي، ان يكون لهذا المشروع الجهنمي انصار وممولون في دول مجاورة، وله مندسون في داخل الشبكة الامنية، ومناصرون (او شامتون في الاقل) في الخارطة السياسية ومفرداتها وشظاياها، وله مجهزون ومؤولون ودعاة ووكلاء في الاعلام وتجارة التهريب والنصب والفساد، لكن الامر الاخطر الذي طرحه هذا المشروع يتمثل في دفع الملايين العراقية الى حالة الاستسلام لقدر التفجيرات، واليأس من امكانية استئصال الجريمة والمجرمين، وانعدام الثقة بالخطط الامنية، تفاقمها الاجراءات الامنية الانفعالية والافراط في المضايقة ومظاهر التفتيش والتعامل بالريبة والزجر مع المواطن وضعف المهنية الادارية.
 استبق تداعيات التحليل بالقول انطلاقا من حقائق منظورة وميدانية بان مستقبل المشروع الارهابي في طوره الاجرامي البربري الجديد مغلق على نفسه من جميع الوجوه، ولم يكن ليحظ باي تعاطف في الشارع الذي تعامل معه بسخط واحتقار، وهو بلا مستقبل، ايضا، بالرغم من انه يحتفظ ببعض عناصر الاستمرار والدعم، غير ان الشوط الذي سيقطعه، في الزمان والمكان، مرهون –بالقطع- على قدرة قوى العهد على الصمود والعبور بالعراق الى استحقاقات البناء، ومرهون قبل كل شئ بقدرة هذه القوى على احلال عهد التضحية بالامتيازات والمصالح الفئوية محل الصراع المحموم على السلطة، فضلا عن الحاجة الى ترسيم البعد الايديولوجي للمشروع الارهابي القائم، في جوهره، على خطاب اسلامي ومفارخ دينية تنتشر في بقاع العالم.
فقد اعلنت “دولة العراق الاسلامية” مسؤوليتها عن تفجيرات الاحد الدامي (طبعا، بالدعم الارضي من فلول النظام السابق) وشددت على انها اوقعت بـ”عدو الله” ضربة “الهية” فأعاد هذا الاعلان السؤال التفصيلي اللجوج: هل ان الاسلام يحلل فعلا مثل هذه المذابح؟ وهل ان الاية "ترهبون به عدو الله" التي يهتف بها انصارهذه المذابح لا تجد تطبيقاً إبداعياً لها إلا في بركة دم وجثث لمواطنين عابرين القت بهم حظوظهم العاثرة ليكونوا في المكان الذي شاء ان يكون مسرحا لـ "حرب التوحيد ضد الظلالة" كما جاء في بيان داعم للمذبحة؟.
على انه في اثر كل مذبحة من المذابح التي جرى الترويج لشرعيتها في مساجد او اوكار مليئة بنسخ مطهرة من القرآن، وجرى الاحتفاء بها واجازتها من مساجد ومراجع، نستمع من يقول ان الاسلام بريء من أعمال العنف، وكأن ثمة شطرا محذوفا من الديباجة، أو كأن القائمين بتلك المذابح جهلة في دينهم، أو ممسوسون في عقولهم، في حين نتعرف يوميا الى وكلاء عن اولئك المهاجمين لا تطالهم تهمة الجهل، ولا تدركهم ظنة الجنون.. بل اننا تابعنا الاستماع الى خطب باصوات مشايخ وعلماء دين واعلاميين متدينين ومدرسين في معاهد اسلامية تحض على القتل وتبيح الذبح، بالاستناد الى آيات من القرآن تعد "اعداء الله" بالعقاب على ايدي "الناجون من النار" يضعونها بين كل بركتين من الدم، وكل مدرستين سويتا بالارض، وبين كل عويل وعويل للنساء المثكولات بعزيز عليهن. كل ذلك لكي يحمل الملائكة الانتحاريين الذين فجروا الشاحنات وسط الابرياء الى جنان تجري من تحتها الانهار.
وإذا شئنا الدقة، والصراحة، ووضع النقاط على الحروف، وتجنب التعميم والتعويم والتدليس، والمناورة، والمجاملة فاننا سنقول، على ضوء جريمة الاحد النكراء والف جريمة قبلها، بان وكلاء اعمال العنف من علماء الدين والائمة الذين يظهرون علنا وبالالوان الطبيعية يومياً، وان ممولي المجرمين وزعماءهم ومدربيهم على السلاح، يحفظون، جميعا، آيات القرآن عن ظهر قلب، ويعرفون شؤون الدين من الحديث والفقه والتفسير والسنة والشرع والحلال والحرام والكفر والايمان معرفة لا يطالها الشك وقد تزيد على معرفة اصحابنا الذين يكتفون بتطييب خواطرنا قائلين دائما "ان الاسلام بريء من اعمال العنف".
ومن لا يصدق هذه الحقيقة المرّة ينبغي ان ينصت يوما الى دعاة اسلاميين كبار يدخلون علينا من ثنايا الشاشات الملونة وهم يلفون ويدورون (وليس ثمة ابرع من اولئك الدعاة باللف والدوران) ليقولوا الشيء الذي يقوله ابن لادن والظواهري حول مقاتلة (عدو الله) بكلمات اخرى لا تنطلي إلا على المغفلين.. أما من هم أعداء الله؟ ومن الذي ينوب عن الله في تشخيص اعدائه وقبض أرواحهم، أو شرعنة ذبحهم في مهرجانات دموية متوحشة، فهو امر متروك لحكم هؤلاء الدعاة واولئك الرعاة، وهكذا فان على الذين يتكفلون معاهدات الدول والشرائع والقوانين، وطلاب معاهد العلم والقانون، وحافظي العهود، ومرتادي المساجد والكنائس والمزارات الاستقالة من مسؤولية الدفاع عن الفضيلة بعد ان دخلوا جميعهم وكل البشرية في قائمة (أعداء الله).
أما المؤمنين حقا بان الاسلام بريء من أعمال العنف فان عليهم ان يترجموا ذلك الى فعلٍ يسد الطريق على من يدس عين الله في حشوات التفجير العمياء.
الى ذلك فان تفجيرات الاحد طرحت وتطرح فاصلة مثيرة للانتباه، إذ دخلت العديد من مفردات الطبقة السياسية وخطوطها في محذور الانانيات السياسية في محاولة للتكسب من الكارثة، ويعبّر هذا التكسب عن نفسه في عناوين كثيرة، تتفرع من عنوان واحد هو توظيف الهزة الامنية الدموية الناجمة عن هذه التفجيرات في شبكة الصراع السياسي الفئوي والشخصي، قفزا من على مشهد الفجيعة وتناثر الاشلاء وعويل النساء وسحب جثث الضحايا من تحت الحطام، ومن فوق موجبات الاحتشاد الوطني لالحاق الهزيمة بالمشروع الاجرامي الذي يهدد الجميع من غير استثناء، وقبل ذلك يهدد الوطن الذي يتغنون به صباح مساء.
ويكشف هذا الانزلاق السياسي، كما في كل مرة ينقذف فيها البلد الى فجوة امنية خطيرة، عن عورة الشخصنة المنفلتة في داخل العملية السياسية، بين مَن يبحث عن رصيد في الخراب ومهرجان الجثث يسجله في المخاشنة الانتخابية، ومَن يتشفى بالحكومة ويتسلى بتخبطها، او ينافح عنها في الحق والباطل، ومَن يدفع الدوامة الى تصفيات حساب وتوزيع الاتهامات ضد خصوم سياسيين، ومَن يطلق شعارات ومشاريع نائمة كان قد خسرها يوما، ومن يتفرج على ما يجري ليحتطب الاخطاء والزلات والسقطات هنا وهناك، ومَن يرفع من سقف اسعار التحالف والموالاة، ومَن ينطّ من رصيف الى رصيف بحثا عن جاه مُفتقد، ومقام ضائع.
 الى شئ من الرطانة، ويجعل من التعاطف مع الضحايا الى مشهد تمثيلي مصنّع، ثم يتولى صاحبه عملية خلط الاوراق، ويقول الشئ ونقيضه، ويجمع-من غير مهارة كافية- بين الدفاع والهجوم، والاحتجاج والرضا، والحضور والهروب، وينظر من ثقب الباب لما يجري ليعيّن مصلحته في المكان والزمان، والبعض من اصحابه يضع إسما محددا هدفا لغاراته الاعلامية، وجهة معيّنة مطعنا لهجماته السياسية، ولا يتورع عن ان يقلل من فداحة الخسارة لكي يدس مسؤوليته عنها تحت البساط الانيق، او ينفخ فيها قدر ما يستطيع ليجعل منها مبررا لتجريم الجميع وليوحي انه المنقذ المنتظر، الذي وحده يمكن ان يغلق ابواب جهنم ومصاريع الفواجع.
في المحن الوطنية، والتحديات والزلازل والكوارث التي تهدد امن الشعوب، وفي اللحظات التاريخية العاصفة للدول يتخلى-عادة- الحريصون على اوطانهم وامنها واستقرارها عن مصالحهم الذاتية، وعن صراعاتهم الهامشية، وحروبهم الفئوية، وفي هذا الامتحان يعاد ترسيم المقامات والحجوم.. فيشار الى الجديرين بحمل الامانة الوطنية، مميزين عمن تكسّب، او سعى الى التكسب، من الكوارث ومشاهد المجازر والتفجيرا.
التكسب السياسي من مذبحة الاحد جرى، للاسف، بالالوان الطبيعية.. وبالصوت والصورة.
ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"هل لي ان استخدم اسمك في الدعاية لحركة الدفاع السلمي عن الحق، وضد العنف؟"
من غاندي الى تولستوي 

341
البيت الكردي والانتخابات.. بهدوء


عبدالمنعم الاعسم
 
 يمثل البيت الكردي، بوزنه السكاني والتاريخي وتمثيله السياسي في كتلة التحالف الكردستاني والمعارضة البرلمانية والفئات السياسية المختلفة، ركنا اساسيا في اضلاع العملية السياسية في العراق، وقبل ذلك وبعده، يُعدّ مكونا عضويا ومؤثرا من "تكوين" العراق الحديث واحد ابرز "القوى" المؤثرة في مستقبله، والمقررة لشكل نظامه السياسي قيد التشكيل.
 البيت الكردي، له اطار (سياج) غير قابل للاختراق لانه يتصل بجوهر وشروط وجود الكرد في كردستان العراق، وبتكوينهم القومي وما صلة له بحق تقرير المصير ومبدأ الاتحاد الطوعي بالكيانات السياسية المشتركة، وهو بهذا المعنى ليس ورقة من الاوراق الانتخابية، كما يبدو لبعض الساسة والمعلقين العراقيين الذين يذهبون مذهب التبسيط والجهل حين يختزلون(او يحاولون) التعامل مع الكرد من فوق ارادتهم الجمعية، وهو الى جانب هذه "الوحدة التاريخية" مسكون بالتنوع والصراعات والخلافات السياسية، شأن أي مجتمع من المجتمعات المعاصرة.
 ولا يمكن للمحلل الموضوعي الذي يعالج مكانة الكرد واقليم كردستان العراق في المعادلة السياسية العراقية ان يتجاهل "الثوابت القومية" الكردية التي عبرت عن نفسها في بعض نصوص الدستور العراقي وفي التشريعات الفيدرالية فضلا عن السياسات والمناهج التي تلتزم بها جميع اطياف الشعب الكردي في كردستان العراق، وتقتضي الموضوعية، هنا، ان لا يجري نفخ التباينات السياسية والاجتماعية التي تبرز في مجرى بناء تجربة الاقليم، وترحيلها الى خارج سياقها وحدودها بحيث تبدو الحقيقة الوحيدة التي تقرر مصير الكيان الفيدرالي الكردي، وتدخل في تأويلات سرعان ما تصطدم في نقيضها.
  وإذ يمكن تبرير(من زاوية الجدل) لجوء بعض الفئات السياسية العراقية والكتابات الشوفينية العربية الى اللعب على الخلافات في الساحة الكردستانية وتغذيتها، والتعويل على تخريب البيت الكردي، لصلة الامر بآيديولوجية الاستئصال، ثم بالكسب الانتخابي واستثمار الحساسيات القومية، فانه لا مبرر للباحث، ولا للسياسي الواقعي، ان لا يرى عناصر الوحدة في المكون الكردي، لان مسؤولية البحث وفروض الواقع تلزم الانطلاق من حقائق وحدة الاشياء الى حقائق تناقضاتها. مما هو مصيري يتعلق بالهوية والوجود الى ما هو عارض يتعلق بالخيارات. 
 البيت الكردي، بعد ذلك، يقف الآن (على مشارف انتخابات العام 2010) في مواجهة حقائق جديدة، على الارض وفي الوعي، تختلف تماما عما كانت عليه في الانتخابات السابقة، وتتوزع على مفردات واستحقاقات ثقيلة، فالبيوت الان غير بيوت ما قبل خمس سنوات، واكثر ما يخيف هنا ما نسمعه من اصوات "تشفي" ترتفع من داخل البيوت السياسية حين تشتعل النيران في بعضها بالقول "نارهم تاكل حطبهم".
لقد تصدّعَ ويتصدع الان، مثلث سئ الصيت (اكراد. شيعة. سنة) ولم يعد مقبولا،على الاقل من الناحية السياسية، كحقيقة لمكونات الشعب العراقي، وقد يعود ذلك-في المقام الاول- الى ان هذا التوليف السياسي(الامريكي الاصل) استنفذ شحنته التعبوية بعد استخدم في التحضير لتفكيك واطاحة نظام صدام حسين الذي امعن في البطش والتنكيل والتمييز ضد الكرد واتباع الطائفة الشيعية معا واصبح معها كرد العراق وحركتهم التحررية، والشيعة العراقيون وفئاتهم السياسية الطائفية، بمثابة حجر الزاوية في عملية اطاحة الدكتاتورية وتشكيل السلطة الجديدة.
 وينبغي الاعتراف، هنا، بان النجاح التعبوي الذي حققه مثلث (كرد. شيعة. سنة) والتحالف السياسي الكردي- الشيعي في التعجيل باسقاط النظام قابله– من جانب آخر- اخفاق واسع في تطمين مخاوف الهويات  الدينية والقومية الاخرى التي تحتفظ بغرسة تاريخية في المجتمع العراقي لا تُقتلع عدا عن احتجاج قوى المجتمع الجديد، الليبرالية والديمقراطية الناهضة، وقد شهدت سنوات التغيير الست سلسلة من الصراعات والتخبطات والاضطرابات المريرة على خلفية الاصرار على ترجمة فكرة المكون الثلاثي الى "محاصصات" صار الجميع- في ما بعد-  يتبرأ منها بمن فيهم الذين انتفعوا منها، ومن المفيد التذكير بالموقف السلبي لاتباع الطائفة السنية من التغيير لاسباب كثيرة ليس اقلها شأنا شعارات الانتقام والاقصاء التي رفعت هنا وهناك ضد هذه الطائفة، الامر الذي استثمرته قوى الارهاب والعنف والتكفير المسلحة الى ابعد الحدود، واغرقت العراق في بركة من الدم وفي دوامة طائفية قد لا يشفى منها لعقود وعقود. 
 وإذ حافظت الحقيقة القومية (الكردية) على زخمها وتمثيلها وهياكلها السياسية والفيدرالية فان الحقيقة الطائفية فقدت الكثير من سمعتها وعناصر تماسكها وشبكاتها الدعائية والتصويتية، وتفتتت الى ولاءات فئوية وشخصية متناحرة، وعكفت مراكزها السياسية على استعجال الامر بالتخلي عن بعض الشعارات والازياء السياسية ذات الابعاد والهوية الطائفية، وليس من دون مغزى ان تتزايد على عرض الشاشة دعوات التنديد بالطائفية والمحاصصة من قبل الاحزاب الدينية (الطائفية) قبل غيرها عشية الحملة الانتخابية لسباق 2010 معبرٌ عن ذلك في انفتاح مكوّن الاكثرية النيابية (الشيعي) على بعض التيارات والشخصيات العلمانية وغير الطائفية وتنافس مراكزه على تبني شعارات الوطنية والدولة الدستورية واللاطائفية واللامحاصصات واللاتمييز بين المواطنين على اساس طائفي او عرقي.
 البيت الكردي هو الاخر نالته شظايا هذا التصدع الذي ضرب المصاهرة القومية- الطائفية المشوّهة، وقد حمّلته بعض "الاصوات" المسؤولية عن التخبطات السياسية التي رافقت سنوات التغيير، وتكون ما يشبه الحلف غير المقدس للطعن بنيات الكرد وتسويد مواقفهم العراقية، ودخلت بعض المماحكات في دورة الفعل ورد الفعل، في حين بات من الضروري، منذ زمن، مراجعة المنطلقات الاساسية للتعامل مع العملية السياسية وفصولها المهمة ذات الصلة بالانتخابات.
اقول، البيوت الآن غير بيوت العام 2005 ولا مفر للبيت الكردي من ان يعيد النظر في حساباته القديمة، فيما الانتخابات تطرق الابواب بعنف. 
السؤال الآن هو: هل يخوض البيت الكردي انتخابات 2010 موحدا في قائمة واحدة؟. هذا سؤال مهم  لكونه يمس كثيرا من القضايا العقدية في التمثيل الكردي للانتخابات المقبلة، وفي ما خارج الانتخابات الى حد كبير، فضلا عن انه يمس –بالنسبة للمحللين- مفهوم الوحدة وعناصرها، وضروراتها ايضا.
 يمكن القول ان تحالف الحزبين الرئيسيين في الساحة الكردستانية، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، و"صمود" هذا التحالف وعبوره  استحقاق انتخابات الاقليم الاخيرة واختبارات وتحديات السنوات الست الماضية يشكل حجر الزاوية في وحدة الموقف الكردستاني الانتخابي، وهو الى ذلك يمثل ضمانة حماية التمثيل الكردي في الخارطة السياسية العراقية في ظروف تتسم بالصراعات والتحديات الاحتمالات، من دون ان يغفل الباحث حقائق الاختلافات والتباينات وزاوايا النظر(الحادة احيانا) بالنسبة لطبيعة وقيادة وسياسات الحزبين.
 اغلب الظن، هو ان الحزبين اللذين يمتمعان بتاييد غالبية سكان الاقليم، سيديران  معركة الانتخابات، وكذلك معركة حماية حقوق و"امتيازات" الكرد في المشهد العراقي بكفاءة معيّنة وتنسيق، وباقل قدر من التجاذبات والتمايزات، وستلعب "غرف القمة" دورا الضابط  والضامن للعبور من فوق الفجوات و التوترات وتباين المناهج والرؤى التي تنشا في مجرى الشراكة السياسية هذه والتي (ايضا) برزت وتبرز بين حين وآخر خلال الانخراط في بناء الدولة العراقية الجديدة، فيما لا تخفى  خطورة تلك الفجوات، والقوى التي تعمل على تغذيتها، و"الجيوب" السياسية في صفوف الحزبين التي لم تستوعب اهمية وحدة الموقف بينهما، ولم ترتق الى فروض هذه الوحدة.
 على ان تجربة الدورة الاولى لمجلس النواب العراقي اوضحت، على نحو ما، متانة مواقف الحزبين من القضايا الاساسية المطروحة على سطح السنوات الاربع، كما انها (وهذا مهم) سجلت نوعا من انسجام المواقف بين اطراف التحالف الكردستاني من تلك القضايا مقابل تشظي وتناحر  التحالفات الاخرى، ولاحظ الكثير من المراقبين باهتمام  بان ثمة آليات حيوية و"خلايا ازمة" داخل التحالف ساعدت على نزع فتيل خلافات ناشئة بين نوابه وفئاته قبل ان تتسع الى تناحر او افتراق، في اجواء تهئ كل اسباب التناحر والافتراق.
 هذا ما حصل في الدورة السابقة، لكن، يخطئ من يظن بان وحدة مواقف الحزبين وشركائهما سيكون امر يسيرا من غير مشكلات وتحديات ثقيلة خلال الدورة الجديدة للبرلمان العراقي، وقبل ذلك خلال الانتخابات المقبلة، اذا ما اخذنا بالاعتبار الحقيقة الموضوعية التالية: تزايد تمثيل الصوت الكردي في مجلس النواب العراقي عبر فئات وتمثيلات اخرى الى جانب التحالف الكردستاني.
 وطبعا، الاعتراف بهذه الحقيقة لا يكفي لوحده، مثلما لا يكفي ان تعرف انك مصاب بعارض صحي لكي تشفى منه. المهم هو كيف يجري التعامل مع هذه الحقيقة؟ او كيف يتم تحويل تعدد تمثيلات الصوت الكردي الى ممارسة ديمقراطية متحضرة تعزز السلام الاهلي في الاقليم، وتضمن ترسيخ وتعميق وترشيد تجربة المشاركة الكردستانية في الدورة البرلمانية الاولى.
 ذلك هو السؤال المطروح؟ ومنه تتوالد الكثير من الاحتمالات.
 على انه لا تقتصر مشكلات تمثيل الصوت الكردي في مجلس النواب العراقي المقبل على وجود مراكز سياسية اخرى الى جانب مركز التحالف الكردستاني، الامر الذي اعترفت به القيادات الكردية، ولا على وجود تحديات من طرف المعارضة الجديدة التي برزت بقوة في انتخابات الاقليم، ولا في تفاوت استيعاب ضرورات ترسيخ تجربة الشراكة بين الحزبين.
 اقول، لا تقتصر المشكلات هنا على هذه العناوين السياسية، فقط، بل تتعداها الى مفردات حساسة لها طبيعة قومية تاريخية، او دينية او طائفية، واعني، ما يتصل بشرائح (اكرر: شرائح) نأت(في فترات متعاقبة من التاريخ ) عن الجسد القومي الكردي في اطاره السياسي الفيدرالي، او "تماهت" عنه الى هويات قومية اخرة، بدواعي او تفسيرات عديدة(لسنا بصدد مناقشتها) واعني حصرا، شرائح من الازيديين والشبك، والى حد ما، الفيليين، بالاضافة الى بعض الفروع العشائرية المحلية والجماعات الدينية التي تعتقد انها تنتمي الى هويات اخرى او ترى ان مصلحتها ترتبط بمصالح طوائف او اديان او قوميات اخرى، مع التفاوت في مبرر كل حالة من الحالات.
 قبل كل شئ، ينبغي التذكير بان ظاهرة "انسلاخ" شرائح من قوميات وامم وانتمائها الى دائر اخرى امر شائع وليست حالة فريدة برزت وتبرز في المجتمع الكردستاني، وهي معروفة لدى الباحثين في الاصول  والهويات على حد سواء، وقد تم الكثير من حالات تغير الانتماءات بفعل صراعات، واعمال قمع واستئصال، وموجات هجرة وتهجير، وانقطاع عن اللغات الام، وضمن عمليات ديموغرافية منهجية، كما حدثت الانسلاخات في مجرى ضعف وتفتت الامم والتجمعات السكانية الكبرى، حتى لم تعد امة من امم العالم المعاصرخارج هذه الصيرورة، وبين ظهرانينا في العراق امثلة حية عن قبائل موزعة على هويات قومية مختلفة وقد انتهى الجدل حول الاصل القومي لتلك القبائل كما تراجعت محاولات اعادة الهويات المنسلخة الى اصولها المفترضة.
 وإذ يتوجب النظر بموضوعية الى هذه الظواهر وتجلياتها، والقبول باحكامها واستحقاقاتها، والاعتراف بخصوصيات بعض الشرائح الدينية والمذهبية عشية الدخول في دورة انتخابية عراقية جديدة،  فانه يتوجب ايضا تأشير خطورة لجوء بعض سياسيي تلك الشرائح الى تحويل التسميات والانتماءات والهويات الى معارك تتجاوز فروض السلم الاهلي، والى عناوين يجري حشرها في الاستقطابات الانتخابية.
 البيت الكردي، باختصار، يقوى اكثر فاكثر حين ينزع فتيل الحساسية القومية في التعامل مع شرائح تشاركه الجغرافيا والماء ولقمة العيش.. والسماء كذلك.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين".
ابو حيان التوحيدي
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدو(الاتحاد) بغداد
   

342
إشكالات
"العلمانية العراقية"


عبدالمنعم الاعسم

 حصرتُ العلمانية العراقية بين مزدوجين لكي اقول انه مصطلح قيد الجدل اوالشكوك، فليس ثمة –في الواقع- علمانية عراقية مقابل علمانيات اخرى، إلا حين يكون الحديث عن السمات الخاصة، المحلية، لعلمانية بشّرت وتبشّر بها نخب عراقية، وطرحت نفسها على طاولة البحث بلجاجة منذ سقوط الدكتاتورية الشمولية في البلاد، بوصفها شكلا من اشكال ترسيم الحدود(او فك الاشتباك) بين السياسة والدين.. بين المؤسستين السياسية والدينية في العراق.. بين الاختصاصات الدنيوية والاختصاصات الدينية.
 وشأن أي قاعدة من قواعد بناء الدولة الحديثة (كالديمقراطية والليبرالية واستقلال القضاء والانتخابات) فقد عُرفت العلمانية في المجتمعات الصناعية عندما نأت عن الدولة الدينية التقليدية ووضعت مصدات للطغيان السياسي للكنيسة، وبدت طوال مئات السنين انها ظاهرة اوربية لا تصلح للتطبيق في المجتمعات الشرقية الاسلامية، بل انها قدمت(او تُرجمت) مشوهة في الكثير من المطالعات، اما في محاولة تعقيدها ورفضها بوصفها "نعرة" الحادية، اوفي تبسيطها المفرط باعتبارها اجراء شكليا يضع وظائف ادارية محضة للمؤسستين الدينية والسياسية.
 غير انه من الخطأ القول بان الدعوة الى (وحتى ممارسة) شكل من العلمانية وحالات الفصل بين الاختصاصات لم تظهر في المجتمعات الاسلامية إلا في مراحل متأخرة، فان بعض معارضي الدولة الاموية، مثلا، عندما بايعوا معاوية خاطبوه بالقول:  "نحن للأمة في أمور دينها وأنت للأمة في أمور دنياها" كما ان ثمة الكثير الحالات التي يجري فيها التشريع مجرى الفصل بين مؤسستي الخلافة والفقه.
 وإذ فسرت المعاجم المعتمدة العلمانية بأنها:"مفهوم سياسي يقتضي الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. الدولة لا تمارس أية سلطة دينية والكنائس لا تمارس أية سلطة سياسية" شاء المصلح الكبير محمد عبده ان ينطلق من هذا التعريف الى القول "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين"  فيما اعاد سعد زغول توليف الدعوة بمقولته الشهيرة "الدين لله والوطن للجميع"  ولا غرابة طبعا ان تنشأ حركة الدعوة الى الدولة العلمانية بين كتاب في مصر مثل فرح أنطون وجورجي زيدان وشبلي شميل وقاسم أمين وعلي عبد الرازق والطهطاوي وأحمد لطفي السيد وطه حسين قبل غيرهم، فان الدولة المصرية الحديثة تأسست قبل الكثير من دول المنطقة وان مدعاة اقامة نظام علماني استُمدت من المشكلات التي واجهتها الدولة المصرية في القرن التاسع عشر.
  والان، بعيدا عن زوايا المصطلح واشكاليات التعريف الاكاديمي للعلمانية فان  رابطة المواطنة على اساس العقد الاجتماعي(كما ترد في الكثير من دساتير الدول الاسلامية) وليس على اساس الدين والمذهب هو اللبنة الاولى في الدولة العلمانية.



(2)

  الحق، ان الدعوة الى العلمانية لدى المجتمعات الاسلامية انطلقت في الوقت الذي تعذر اقامة الدولة الدينية على وفق مقولة العالم المودودي "الحكومات لا تستحق طاعة الناس إلا من حيث أنها تحكم بما أنزل الله" فان الغالبية الساحقة من الحكومات الاسلامية المطاعة اضطرت الى التخلي عن فروض شرعية اساسية  مثل تطبيق العقوبات البدنية كالجلد وقطع اليد والرجم ، فضلا عن اسقاط جباية الجزية من مواطنيها غير المسلمين، والسماح للانشطة المدنية، بما فيها حرية الاعتقاد والولاء والتعبير.     
 وإذ دخلت المستعمرات الاسيوية والافريقية (واكثريتها مسلمة) مرحلة الثورة على التبعية والاستعمار الاجنبي فقد اخذت المراجع والهيئات الدينية دور الرائد في حركة  الانعتاق والاستقلال، لكن سرعة نشوء الجيوش الوطنية وقيام العسكر بانقلابات في غالبية هذه الدول الحديثة الاستقلال كسر من نفوذ كتلة "علماء الدين" في السياسات القومية الجديدة، بل فتح عهد الصراعات المديدة بين الجانبين(مصر. الباكستان. تركيا) وانتهى الامر بالكثير من الدول الى محاولات تدجين المسجد من قبل انظمة الحكم الانقلابية وحكم العائلات او التوابع وفرض تفسير مقولة "اطاعة اولي الامر" بالموالاة المطلقة للحكام على اختلاف مشاربهم.
 كل هذا كان يجري في العراق، على نحو ما، وينبغي ان نضيف الى هذه القراءة حقيقة موازية تتصل بالتقسيم المذهبي للاغلبية المسلمة، ودور مرجعية النجف الناشط  في مقاومة العثمانيين، والبريطانيين، ثم في تأسيس المملكة العراقية، قبل ان تضطرب العلاقة بين المرجعية ومؤسسة الحكم، صعودا ونزولا، طوال عهد الجمهورية، ودخول الطرفين في اجواء الريبة والمجابهات، وقد برزت العلمانية لدى الكثيرين، وفي شكلها المبسط، كحل يجنب البلاد دوامة الاحتراب، بل ان مرجعية النجف كانت(طوال صعود صدام حسين واشعال الحرب مع ايران) تلوذ بتفسير علماني تحت عنوان (الدين لا يتدخل في السياسة) اتقاء بطش الدكتاتورية ودفعا لضغوط اجهزة السلطة لاجبارها على تأييد سياسة النظام ومبايعته.
 وفيما تتزايد مساحة التفكير والبحث في جدوى وضرورات بناء منظومة فصل (او علاقة) علمانية بين الدين والسياسة في العراق الجديد فقد تزايدت-في مجرى ذلك- الحاجة بالنسبة لدعاة العلمانية الى حل مشكلات بنوية اعتراضية ذات بعد عميق في الخلفية الدينية، فان الاسلام نشا دينا في قلب السياسة، بالمعنى الذي يتعلق بالدعوة المحمدية المبكرة لتحطيم دولة الاستبداد القرشية ونبذ سلسلة طويلة من عقائد الحكم والادارة والتشريع وتداول السلطة واحلال عقائد جديدة محلها، مشار اليها في آيات القرآن، وفي طائفة واسعة من الاحاديث والمرويات والفتاوى.
 وبمعنى ما ، مطلوب من العلمانيين العراقيين تاسيس ورش بحث فكرية لصياغة علمانية عراقية، يمكن ان تكون مقبولة من المجتمع باعتبارها صمام امان للسلام الاهلي وبناء دولة المواطنة.
 والآن، ليس من دون مغزى ان تكسر جماعات وتكتلات واحزاب اسلامية عراقية، في خلال التحرك المبكر نحو انتخابات العام 2010، حاجز الحذر السياسي (وحتى الدعوي) من التعامل مع المفردة العلمانية والاستعداد للائتلاف الانتخابي مع شخصيات او فئات علمانية، ما يعني امرين، وقل تطورين، في خارطة الحراك السياسي، الاول، يكشف عن انحسار في مفاهيم التحفظ على فكرة الفصل بين الدين والسياسة وتزايد قاعدة الجمهور الذي شفي من الحساسية الدينية حيال العلمانية والعلمانيين، والثاني، النجاح النسبي(اكرر: النسبي) الذي حققه العلمانيون العراقيون طوال السنوات الست الماضية في تقديم العلمانية في صيغة (وممارسة) لا تتعارض مع الدين ولا تناهضه او تقلل من شأنه، ولا تمنع هذه الصيغة  ان يكون المرء علمانيا ومؤمنا في ذات الوقت.
 وإذ بدا هذا التطور الواضح، للوهلة الاولى، ذي صلة بالدواعي الانتخابية، وظروف التنافس والائتلافات والاستقطابات والصراعات في صفوف الكيانات الطائفية، فان مصير هذا  التحول سيبقى رهن الحشوة الفكرية التي ينبغي ان  تنمو باضطراد وعمق نحو خلق استيعاب مجتمعي يقبل الدين والسياسة، ويعي في ذات الوقت افتراقهما، واستقلال كل منهما، ومواضع هذا الافتراق والاستقلال، بل وضرورات هذا الافتراق والاستقلال.
 واذا شئنا الدقة فان المسؤولية عن تنمية الوعي المجتمعي الايجابي حيال العلمانية بوصفها قاعدة ورؤيا سياسية عن استقلال السياسة (الدولة)عن الدين (المذاهب)تقع في المقام الاول على العلمانيين العراقيين انفسهم، وينبغي هنا القول ان بناء فكري وتطبيقي متماسك عن العلمانية  من شانه ان يعالج تلك الاشكاليات التي لا تزال قائمة في مشروع العلمانية العراقية، كما ينبغي التحذير من مواصلة بعض المطالعات التبسيطية التي قدمت الى الجمهور من قبل بعض العلمانيين وذهبت الى الايحاء بـ"الخصومة" بين العلمانية والدين.
 ولعل في مقدمة الاشكاليات المطروحة على طاولة البحث دور عالم الدين في الصراع السياسي، فقد جرى تقديم هذا الدور من زاويتين متطرفتين، واحدة، من علمانيين عبّر بعضهم عن الضيق من إسهام  عالم الدين في الحياة السياسية الامر الذي يتعارض مع حقوق الانسان والفروض الدستورية بصدد حق المواطن، أي مواطن، في ابداء الرأي والمشاركة في الحكم ، وزاوية ثانية، من اسلاميين يعدّون العلمانية كنقيض للدين.
 افترض بان الفرصة مواتية الآن لتدشين مرحلة تفكير محورية في قضية العلمانية العراقية، او في الاقل، تأشير منطلقات هذا التفكير الموصول بضرورات بناء الدولة المدنية.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" أتعس أنواع الحكومات هى التي تفرض عليك أن تذكرها صباح مساء ".
همنغواي


343
تيارات انتخابية.. قراءة في التفاصيل


عبدالمنعم الاعسم

 برزت حقيقة اخرى موازية لحقيقة تصدّع كيانات انتخابات العام 2005 البرلمانية تمثلت في تصدع(اقول: تصدع) القوى التصويتية الملايينية التي تحددت، آنذاك، في مربعات مذهبية او قومية صارمة، وفي هذا التصدع (كما في تصدع الكيانات) كسبٌ أكيد للعملية الديمقراطية باغناء التنوع والتعددية والطيفية بمعاني مجتمعية سليمة، بالرغم من ان الكثير من معالم هذا الحال الايجابي جاءت كردود افعال، وليست افعالا  في ذاتها كنتيجة لوعي عامودي لاهمية الخروج من الخنادق والولاءات الى فضاء الخيارات ذات الصلة بمصائر وحياة ومستقبل الملايين العراقية.
 ومعروف في علم السياسية بان ردود الافعال قد يجري تصريفها في اقنية عديدة عدا عن قناة التغيير الايجابي.
 اجدد القول بان تصدع خارطة القوى التصويتية(من السابق اعتباره تحولا) يدخل كعامل تطوير واغناء للديمقراطية التأسيسية في العراق، يكفي الاشارة الى ان المتنافسين على كسب الجمهور بدأوا، منذ حين، وقل منذ التحضير لانتخابات مجالس المحافظات، وبعده، تجديد الخطاب الدعائي الانتخابي بتحميله قدرا اكبر من مفردات الوطنية ومصادر شكوى الشعب، عن قناعة بجدارة وسلامة وصدقية هذا النهج، او عن محاولة، بحدود الدعاية، لاستدراك  وكسب الاوراق الانتخابية.
 الامر الاكثر اهمية، وايجابية، في هذا التطور يمكن ان للمراقب الموضوعي الذي يشتغل على تحليل تطور المزاج الانتخابي العام للمواطنين، ان يرصده في الدلالة اللافتة التالية: ان ثمة قطاعات شعبية وتجمعات مدن وارياف، وحتى شرائح من مثقفين وعاملين بالشأن العام، ما زالت "صامتو" ولم تحسم امر تأييدها وتصويتها، بعد، لكيان او زعامة او حتى مرجعية معنوية، وإذ لا تتوفر استبيانات رأي ميدانية عن هذه الظاهرة التي يطلق عليها "المنطقة التصويتية الرمادية" فان مؤشرات انخفاض مناسيب الحماس الانتخابية وعدم الاقبال على التسجيل وتحديث السجلات، وشكاوى المفوضية العليا للانتخابات ومراكز التسجيل ومنظمات المجتمع المدني، من هذا الحال، يؤكد، من دون مواربة، على وجود ملايين كثيرة من العراقيين لم تجد حتى الان ما يشجعها على وضع ثقتها بكيان او جهة او زعامة تتصدر التنافس الانتخابي.
 ومنذ اسابيع احاول توثيق هذا الاستنتاج بصدد القوى الصامتة في الشارع وفي محافل اجتماعية متنوعة (افراح العيد. باعة. معارف. لقاءات مثقفين) فاجد ان الكثير ممن اسألهم عمن سيعطون اصواتهم له يجفلون من السؤال وكأنني فاجأتهم، او قبضت عليهم متلبسين بذنب، والغريب ان جوابا مشابها سمعته من افئدة كثيرين يقول: "لا احد حتى الآن".

2

 فاجأ اعلان "الائتلاف الوطني العراقي" في الرابع والعشرين من آب بزعامة عمار الحكيم  المراقبين إذ بدا لهم انه تأسس على عجل، وان الاختلافات العميقة بين مكوناته واقطابه، قد تعصف به قبل ان يدخل انتخابات العام 2010 لكن وبعد مرور شهر استطاع الائتلاف الوطني، بصموده واصراره على انه ليس تجمعا طائفيا، ان يحمل المحللين على النظر اليه كاحدى العناوين المهمة للسباق الانتخابي وشيك الانطلاق، وقد تحدر اصلا من اطياف الاكثرية البرلمانية التي تمثل التجمع السياسي الشيعي المرحب به (والمستعير زخمه) من مرجعية النجف وكان يحتفظ  بـ 128 مقعدا، وحين اعلن ائتلاف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء نوري المالكي بعد ما يصل الى شهر تاسست قاعدة تنافس ساخنة ثنائية داخل الكتلة السياسية الشيعية، لا يقلل من تناميها انضمام مجموعات او مشايخ من طوائف اخرى او اتجاهات سياسية غير دينية.     
 وطوال اسابيع، منذ اغلاق باب تسجيل الكيانات في نهاية اب الماضي، انشغلت مطابخ الاخبار والكواليس والمنتديات السياسية بتداعيات وخلفيات وجدية نأي ائتلاف رئيس الوزراء نوري المالكي عن الائتلاف الوطني الذي كان قد شارك في الجهود المبكرة لتاسيسه ورسم منطلقاته، وذهب الكثير من المتابعين الى الاعتقاد بان "الانشطار" في "الممثلية الطائفية" مفتعل او مؤقت وان كيان المالكي عائد الى الائتلاف الام، وان ثمة ضغوط داخلية لها شأن، واقليمية ايضا، تدفع الى اعادة لملمة شطري هذا التمثيل مع تحسين خطابه وتزييت ماكنته بدماء آخرى، فيما تضيق يوما بعد آخر فرص الشراكة بين الكيانين، في الاقل قبل الانتخابات.
 مصير كتلة التوافق وبصمتها على خارطة البرلمان المقبل موضع جدل وشكوك بين المراقبين على خلفية اعلان "استقلال" الزعيم السابق للحزب الاسلامي طارق الهاشمي بكيان منفرد يقضم من نفوذ الحزب والكتلة المعهودان لزعامة رئيس البرلمان اياد السامرائي، في حين تسجل مصادر مقربة من خط التماس بين الهاشمي والسامرائي اجواء تهدئة لافتة قد تسفر عن اعادة عمل القطبين في مشروع واحد في مرحلة ما. 
 التحالف الكردستاني ليس بعيدا عن حكم المعادلات التي تمسك بالساحة الانتخابية من حيث المراجعة واعادة البناء وظهور التباينات حول حساب الحجوم وكسر (او تعديل)التمثيل القومي، فيما يزداد غموضا (وضغطا) مستقبل الشراكة القومية في ادارة حكم ما بعد الانتخابات، إذ ستتغير اشياء كثيرة وربما ستعصف النتائج بالتوازنات والمحاصصات والتوافقات السابقة، لكن في جميع الاحوال، لا يبدو ترسيم  الخيار الكردستاني سهلا بين ان يخوض الانتخابات باطاره السابق، ام يأتلف مع كيان آخر او كيانات اخرى. 
 من زاوية يبدو ان ثمة ما يشبه اقتصاد السوق الانتخابي يحكم ابواب خافية كثيرة في اللعبة البرلمانية المقبلة..
 ولتلك الابواب مقابض، طبعا.

 3

استطاعت الكتل الوسطى العراقية (تسمية افتراضية) ان تخرج من دائرة الحصار والمخاشنة المنهجية التي فرضت عليها في الانتخابات النيابية السابقة وانتخابات مجالس المحافظات، وان تخوض مفاوضات ناجحة (بالمعنى الاعلامي) مع الكتل المتنفذة، وان تحتل مكانا ناشطا في المفردة الاعلامية، على الرغم من انها لم تعد تحتكر شعارات الوطنية والعلمانية والليبرالية ومناهضة المحاصصات والتخندق الطائفي، التي دخلت، بهذا الشكل او ذاك، في الخطاب الدعائي للتكتلات الانتخابية لفئات سياسية اسلامية- طائفية نافذة.
يشار للقوى الوسطى هنا الى القائمة العراقية (علاوي) وجبهة الحوار الوطني (المطلك) وتشكيلات تكونت من تشظي الكيانات والفئات المتنفذة (المشهداني- الجابري) بالاضافة الى كيانات محلية تمتلك نفوذا في حدود محافظات او مناطق مترابطة سكانيا ومذهبيا (النجيفي. التركمان. الولاء. الدستور) واللافت ان ثمة الكثير من التقارب في عناوين الشعارات التي ترفعها هذه القوى، لكن من التبسيط المفرط اطلاق التساؤل عما يمنعها من العمل في اطار انتخابي واحد سيكون له شأن كبير في المستقبل، فهي تتوزع على زعامات طامحة (حال الكثير من الكتل) بل انها تستمد نفوذها ووجاهتها من زخم الشخصيات التي تترأسها، لكن-بالمقابل- لا يستبعد المراقب ولادة ائتلاف من بعض فروع هذا الطيف، ربما سيضيف الى الساحة الانتخابية عنصر استقطاب آخر.
اما القوى والفئات الصغيرة (تسمية لغرض التحليل) فهي إذ تنتشر على برامج وشعارات وزعامات وجغرافيا واسعة، سجلت، الآن، ادنى عدد لها في هذه الانتخابات بالمقارنة مع الانتخابات السابقة، فتراجعت من المئات من القوائم والكيانات (وصلت الى الالف) الى بضعة عشرات منها، فيما صعد الكثير منها قاطرات الكيانات الكبيرة، وينتظر الاخر فرصة مواتية ليأخذ مكانه في قاطرة مناسبة آمنة، ويُعتقد ان البعض منها سينسحب من السباق، والبعض الآخر سيخوضه منفردا، على ان لا نغفل الحقيقة المبكرة التي تابعنا فصولها طوال اسابيع وتتمثل في تشكيل كيانات تبدو انها مستقلة لكنها في واقع الامر تابعة لكيانات كبيرة، او رهينة مشروع آخر، لتلتحق بها، او به، وفق ما تمليه دواعي التنافس.
ودواعي التنافس كثيرة، قد تفاجئنا بمسرحيات ممتعة.   
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ التكبر على المتكبر .. صدقة”.
  حكمة فقهية
 
 

344



السباق الانتخابي..
نقاط وحروف

عبدالمنعم الاعسم

في السباق الانتخابي الجاري في العراق يبرز السؤال المتكرر في كل انتخابات: هل التنافس يتم حقا على البرامج والخطط و”رؤى المستقبل”؟ والسؤال التفصيلي: هل ان المتنافسين يراجعون حقا دروس الانتخابات والحقبة البرلمانية السابقة، وبخاصة الاخفاقات والاعتلالات والصراعات التي رافقتها وصارت معروفة للجميع؟.
من التجني القول بان الحراك السياسي الذي ينطلق الآن، على هامش التحضير لانتخابات 2010 ويدخل حقول الاسئلة والاستحقاقات، يقفز من فوق موضوع البرامج وهموم الملايين، فان المعنيين يعرفون بان القوى التصويتية المؤثرة تحتاج الى “وعود” قدر حاجتها الى الخدمات والاطمئنان الى المستقبل، وان فروض الدعاية والتقرب من هذه القوى توجب صياغة اشواقها في عناوين ومفردات واضحة، لكن المحلل الموضوعي، إذ يتملى بعناية هذه الدعاية الخدماتية  يكتشف انها جميعا، وبصرف النظر عن الجهة صاحبة الحملة، متشابهة، او متقاربة الى حد بعيد، باستثناء مفردات الامن او النزاهة التي يحاول ان يحتكرها البعض، وباستثناء(ايضا) زاوية النقد وتحميل (او التبرؤ من) المسؤولية عن تردي الخدمات واستفحال الفساد والتخبط السياسي.   
اقول، هناك تشابه كبير في لغة توصيف وشرح وقراءة ما يتطلع له المواطن العراقي في الجملة الدعائية الانتخابية لجميع الكيانات من غير استثناء(عدا عن بعض العناصر الاضافية في الواقع الكردستاني) بحيث يعود السؤال ملحا على المحللين والمراقبين والمواطنين على حد سواء: إذن على اية قضية يجري التنافس والسباق والصراع وعض الاصابع بين الفرقاء، إن لم يكن على معاناة وشكوى الملايين من ابناء الشعب؟.
بوجيز الكلام يمكن القول ان هذا التنافس يجري على الزعامة، وبعبارة اكثر وضوحا، فان مفردات الدعاية الانتخابية للكيانات المتنافسة، بما تتضمنه من مدسوسات لغوية واسلوبية واستطرادات في تبرئة النفس مما حل بالبلاد، تكشف عن ان الصراع يدور حول ترسيم اسم الزعيم بالمقام الاول وموقع الزعامات والحجوم في تشكيلة السلطة المقبلة.
ويكذب(طبعا) اولئك الذين يؤكدون انهم يخوضون التنافس، فقط، من اجل المصلحة العامة، و(طبعا) يكذب اولئك الذين يزعمون بان المصلحة العامة غائبة تماما عن ساحة الصراع، وفي هذا، كما يبدو، ثمة تداخل تمليه طبيعة العملية الانتخابية الديمقراطية، وينبغي ان تنفرد له مساحات من المعالجة، مع الحذر الشديد(انتباه..) من الحملة الاعلامية والسياسية التي تتبناها جماعات (الضد) لتيئيس الجمهور، واقناعه بلا جدوى المشاركة الناشطة في الانتخابات، والزعم ان “الصوت” لا قيمة له في هذه  المعركة..
اكرر: الحذر الشديد.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
"التخيّل اهم من المعرفة".
البرت اينشتاين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة (الاتحاد) بغداد

345
نصيحة الى منتظر الزيدي

عبد المنعم الاعسم
 mm14mm@yahoo.com
 
اعرف ان مهمتي صعبة معك، لكن دعني احاول.
باختصار، إذْ سيطلق سراحك بعد ايام، اقترح عليك ان تبقى في بلدك، تخوض معنا معركة التغيير والسيادة والحرية، وطي صفحة وايام الاحتلال، وان لا تقع في اغواء الدعوات المغشوشة من وراء الحدود حيث يأمل اصحابها ان يصنعوا منك صنما من شوكلاتا يقدم لاميرات الخليج وسيدات قصور الجمهوريات الوراثية، والى جمهور من المهرجين والساخطين الذين يتشوقون الى الحروب، اية حروب، باستثناء الحروب التي يكسرون فيها اغلالهم.
في “الشارع العربي” سيصفقون لك كثيرا، نعم، وستجد جمهورا “عريضا” يرمي اليك الزهور وينحر الذبائح، ويتفنن في توليف الاهازيج، وستنفتح عليك كل الفضائيات، وتحاورك مذيعات جميلات لبقات، وسيلتقيك انصار بينهم من يرطن بالجهاد  والخلافة وتحرير الامة، وبينهم من يستغلها فرصة لا حياء الكفاح المسلح لتحرير فلسطين والاندلس، وبين جمهورك ستجد انصاف مهووسين بالسلاح وارباع  يساريين وبعثيين وقوميين، ينادون بالقتال حتى آخر عاطل عن العمل، وبينهم دعاة دولة الوحدة من المحيط الى الخليج، ودولة الاسلام والراشدين من حضرموت في ادنى جنوب اليمن الى مقاطعة نينغشيا  الى اقصى شمال غرب الصين.
لكن المهم انك ستتعرف على اكثر هذا الجمهور حماسا وبذخا وصراخا.. فحذار منهم.. انهم رجال مخابرات الدول الذين يركبون افضل موجة يختلط فيها الحابل بالنابل بعيدا عن المساس بمستنقعات الحكم، وهم يعرفون (تصوّر) ان اوباما غير بوش، وان امريكا اليوم غير امريكا الامس، وانها فرصة ذهبية لحشر الشارع في “حذاء” وتأليب الجمهور على شعبك، لا على خطايا انظمتهم، وتبرير “مذابح المقاومة” واعمال الابادة بحق المدنيين العراقيين، وتمريرها من خرم حادثة الحذاء.. بل انها فرصة الغوغاء، بكل رطاناتهم، للتجييش ضد وطنك لهدّه عن آخر طابوقة. انهم لا يريدون ان يعرفوا  بان امريكا ستغادر العراق، بل ولا يريدونها ان تغادر، صدقني.
في الحق انك وحّدت ذلك الشارع العربي ، أكرر ذلك الشارع العربي.. فثمة شارع عربي آخر، بعيد عن كاميرات التلفزيون، له حساب آخر وانواء اخرى، وفيه مكابدات تعصف في منازل واحياء الملايين المقموعة والجائعة والمهمشة التي لم تشارك في حروب الشاشات الملونة، ولا في ولائمها الاستعراضية الباذخة.
انصحك ان لا تكون شعارا لمن لا شعار له، او معركة لمن لا معركة لها. او عنوانا لمن فقد العناوين والمجسات والتقاويم. نعم، سيرفعوك فوق رؤوسهم، لكنهم مستعدون لكي ينسوك في رمشة عين، ويبيعوك في اقرب مزاد.
انصحك، منتظر، ان تصنع من نفسك داعية للسلام الاهلي في العراق، بدل ان تتركهم يصنعون منك دعوة للحرب على العراق.. وبين الداعية والدعوة فرق.
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
ـــــــــــــــــــــ
“ ليس هنالك طريق للسلام، بل أن السلام هو الطريق.”.
             غاندي
ــــــــــــــــــــــــــــــ   
جريدة (الاتحاد) بغداد

346
المسكوت عنه
من جريمة الاربعاء


عبد المنعم الاعسم
 mm14mm@yahoo.com
 
تداعيات جريمة الاربعاء، والجدل حول مسؤولية سوريا باحتضانها مطلوبين للعدالة في العراق، وخيار المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة الجهات الاقليمية المتورطة بالجريمة، وملف الحدود المحتشد بعلامات الاستفهام، ومصير الوساطات الاقليمية، التركية الايرانية الاردنية، ودور الولايات المتحدة وما يقال عن عدم حماستها لتصعيد الموقف بين العراق وجيرانه، ومواقف الاعلام العربي المشكوك بحياديته ونزاهته مما يجري في العراق، وغموض تعاطي الجامعة العربية مع الجريمة وخيوطها الاقليمية، والغموض نفسه يلف الموقف الايراني من هذه التداعيات..
اقول ان هذه التداعيات “الخارجية” للتفجيرات المروعة التي طالت اكثر من الف من المدنيين وابنية وزارات وجسور واسواق قفزت (بقصد او دون قصد) من فوق القضية الاخطر والاهم ذات الصلة بالحلقات الداخلية المتواطئة التي لولاها لما تمكنت عصابات المغول من تحقيق هذه الضربة الامنية الموجعة، ويبدو للمراقب ان ثمة مسكوت عنه في هذا الفصل من القضية، فلم نكد نعرف ما حل بالتحقيق الذي اُعلن عنه غداة التفجيرات حول “تهاون” او “تعاون” حلقات امنية خطيرة مع المخططين للجريمة، وما نتائج استجواب ضباط الامن والسيطرات على طول الطريق الذي قطعته الشاحنات الانتحارية من خارج العاصمة الى المواقع المنتخبة للتفجير، وما هي الخطط والاستراتيجيات الجديدة التي قيل ان الجهات الامنية وضعتها؟.
ففي الشارع، وفي الواقع، لا اثر لكل هذه البالونات الاعلامية، ولا بصمة مطمئنة للوعود التي اطلقها الجنرالات والمسؤولين الامنيين بمراجعة السياقات القديمة وتصويب العلاقات (المضطربة والمتضاربة) بين مكونات الحالة الامنية، بل ان الجهد الذي يُفترض ان يكرس في تعبئة الجهد الوطني باطيافه ومسمياته، انسحب الى نقطة الصفر وحل محله –كما في كل مرة- استطراد سياسي واعلامي رسمي يوحي بالقول: “اتركوا الامر لنا” ويكتفي بلفتات الاحسان لعائلات الضحايا إذ اتخذت شكلا دعائيا، انخرط فيه كثيرون، لشديد الاسف.
نعم، ينبغي ملاحقة الجناة الى ما وراء الحدود، كالتزام شرعي وانساني وقانوني، لكن لا ينبغي ان يصرفنا ذلك عن مسؤولية بناء وترسيخ وترميم البيت الداخلي المليئ بالفجوات، والافاعي.. لو تعلمون.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“لا تهرب من المدرسة، دعنا نكمّل الدرس”.
                           مقطع من قصة للاطفال 


347
تفجيرات الاربعاء..
فاعلان وثالث ورابع


عبدالمنعم الاعسم

 بصمتا عصابات القاعدة والفلول المسلحة لحزب النظام السابق واضحة على سطح التفجيرات الاخيرة، سواء في هدفها نحو ثارة الاضطراب الامني وارباك خطط التطبيع والاستقرار، او في نوعها الذي لم يكن ليختلف عن مئات والاف التفجيرات الاجرامية التي سجلت لهما، ومَن ينكر هاتين البصمتين ويقلل من حقائق الانشطة المسلحة لاصحابهما (بصراحة) لا يختلف عن الاخر الذي يقول لا احد آخر غير القاعدة ومسلحي البعث مَن قام بهذه الجريمة الشنعاء، ويغلق الملف على هذا الافتراض، وينافح في الدفاع عنه.
 وبعيدا عن سوء الظن ومحاولة ملاحقة الادعاءات ووجهات النظر بالريبة او التخوين، فاننا شهدنا شهدنا على الارض وسمعنا وقرانا الكثير من التصريحات والاراء (ويعنينا منها المشاركة في العملية السياسية) التي انكرت ان يستطيع تنظيمان مسلحان ملاحقان ومنبوذان تنفيذ سلسلة هجمات نوعية في اجرامها، واختراقية في تنفيذها، هي اكبر من قدرتهما العيانية والتخمينية، ما يعني ان (غيرهما) هو الفاعل.
  ولم يتوقف بعض اصحاب هذا الافتراض عند إبطال علاقة القاعدة والبعث(المسلح) بالتفجيرات بل تمددوا خارج هذه الفرضية الى توزيع الشبهات بطريقة لا مسؤولة، فيما ظهرت من بين اعطاف وسطور وفواصل بعض التصريحات والانشطة الاعلامية رائحة تصفيات حساب فئوية وطائفية، وبان في بعضها الاخر –للاسف- قلة احترام لدماء الضحايا، واستهتار في التعامل مع محنة وطنية كارثية، وثمة، غير هذا وذاك، روح تشفٍ سياسية بغيضة فاضت حتى من كلمات التعاطف مع الضحايا المدنيين الابرياء.
 وفي حين شغلتْ الشكوك في مسؤولية القاعدة ومسلحي حزب صدام حسين حيزا كبيرا في المساحة الاعلامية، فان المجال الاعلامي كان مزحوما(من جانب آخر) في تصريحات وخطب التشكيك في وجود جناة آخرين، وفي الضيق من اثارة الاسئلة حول قدرة الارهابيين من الجماعتين على تحقيق هذا الاختراق الامني، وقد رفضت بعض مطالعات المسؤولين الامنيين وتصريحات مراجعهم الفئوية معلومات (وحتى حقائق) متداولة عن جيوب وعواصم  قدمت تسهيلات وخدمات لمنفذي تفجيرات الاربعاء الدامي، ولكن حين كانوا يتهمون جهات اخرى بالتورط في الجريمة المروعة فانهم يحرصون على تسمية تلك الجهات  بكيفية انتقائية تخدم خطابا سياسيا فئويا ولا تفيد الكشف عن الحقيقة.
 اقول، ثمة فاعلان لن تخرجهما من دائرة الجريمة محاولات خلط الاوراق، ولن تحصر الجريمة فيهما محاولات اعفاء جناة آخرين من داخل البيت، ومن خارج اسواره.. ومشهد رؤوس وايدي واشلاء النساء والاطفال والمارة لا يبقي للمجاملة مكان:
 فالتحليلات الجنائية والسياسية والمنطقية، بالاضافة الى المعلومات، تجمع على علاقة جماعات القاعدة(من العراقيين والمتسللين) والفلول المسلحة لحزب النظام الحاكم سابقا بتفجيرات الاربعاء الدامية، وسلسلة التفجيرات التي سبقتها وتبعتها مما تركزت على القتل المتعمد والعشوائي للمدنيين في البُعد الطائفي، لاثارة الفتنة والاقتتال، وعلى ضرب حلقات تمس الاستقرار والحياة العامة في البعد الامني لارباك خطط فرض القانون المرتبكة اصلا.
 ولا يحتاج "اتهام" الجماعتين المسلحتين الارهابيتين بارتكاب الجريمة المروعة الكثير من البيّنات الجرمية والسياسية،إلا بالنسبة للاعبين في ساحة تصفيات الحساب والمشاحنة مع الحكومة ورئاستها، لاطلاق سلسلة من التأويلات التي من شانها تخفيف مسؤولية قوى الارهاب والجريمة المنظمة عما حدث.
  وكان سينفع الحقيقة(واستتباب الامن) كثيرا، وسيخفف من الاثار الكارثية للفعل الاجرامي لو ان الطبقة السياسية النافذة في العراق وادواتها وخطابها التزمت الحد الادنى من فروض الانضباط الاعلامي والسياسي، بعيدا عن البحث تحت الانقاض والجثث عن مكاسب فئوية.
 وطبعا، كان سينفع اكثر، وسيخفف من الاحباط الشعبي والاحتقان السياسي لو ان الخطاب الامني الرسمي كان متماسكا، في الحدود الدنيا، وراء الصراحة والمراجعة، وحكيما ومهنيا في تقديم المعلومات المقنعة للاعلام والجمهور، بعيدا عن لغة الاقتدار العنترية، وانصاف الحقائق العمومية، ومحاولات التقاذف بالمسؤولية بين مكونات هذا الخطاب.
 وإذ توالت مؤشرات ثابتة ازاء مسؤولية القاعدة والبعث المسلح عن تفجيرات الاربعاء، فان ثمة مؤشرات غير قليلة تؤكد "تورط" طرف ثالث من داخل المكوّن الامني، او قريب منه، كان قد قدم تسهيلات ارضية وحركية، ضمنت للمنفذين الوصول الى خاصرة المعادلة الامنية عبر اقنية وحراسات وسيطرات ومنظومات معقدة، وينبغي ان لا يُضم اولئك الموظفين الامنيين، المهملين والفاسدين وفاقدي الحساسية الوطنية، الى صف المتورطين المباشرين ممن نعنيهم بـ"الفاعل الثالث" وان كان الفصل بين اولئك وهؤلاء، وترسيم حدود المسؤوليات من اختصاص هيئات التحقيق، ثم القضاء.
 ان الفاعل الثالث، في القراءة الاولى، ليس بالضرورة ان يكون فردا جرى شراء ضميره وتجنيده في حلقة من حلقات الجريمة، بل (وهذا المهم) لا يستبعد ان يكون خلية سياسية مسلحة من افرازات الصراع الطائفي ومرحلة التجييش، وتتمتع بهامش من الحركة والتسهيلات والاندساس، وهو الامر الذي تابعناه في سلسلة من الانشطة  المسلحة المتقنة والهجمات الاحترافية واعمال الاغتيال والاختطاف المنظمة والتي تركت اسئلة وفرضيات اكثر مما تركته من بصمات تشي بالفاعل الحقيقي.
 والفاعل الثالث الذي يقف وراء تفجيرات الاربعاء، اخطر الجناة، واكثرهم استعصاء على الكشف بالرغم من ان التصريحات والتلميحات الرسمية تشير اليه بين سطر وآخر حين تتحدث عن الخطوط التي تعاونت مع الارهابيين لتنفيذ جريمتهم، حتى ذهب البعض من تلك التصريحات الى القول بانه لم يكن لعصابات القاعدة وفلول النظام السابق المسلحة ان تنفذ عملية اختراقية بهذا الحجم لولا مساعدة تلقتها من آخرين.. ولم يكن ذلك-طبعا- بمثابة زلة لسان.
 وبحثا عن ملامح الفاعل الرابع علينا ان نعود الى تصريحات وتلميحات رئيس الوزراء والخطاب السياسي والاعلامي الحكومي المركزي، قبل تفجيرات الاربعاء الدامية وبعدها، حول علاقة دول مجاورة  في تصدير العنف الى العراق،في الغالب من غير ان يشار لها بالاسم، ليصبح لدينا فاعل رابع متورط في الجريمة  جنب القاعدة، البعث المسلح والجيوب الملغومة، وقد شاركت التصريحات الامنية في بغداد والبصرة والموصل والكوت والانبار، في تكوين بعض ملامح هذا الجار المتورط في تمويل الارهاب المنفلت بالمقاتلين والاموال والمساعدات اللوجستية والاعلام "المبطن".
 لكن ملامح هذا الجار تشحب، وتتبلبل، مع كومة الاتهامات التي تنبري الفئات السياسية في اطلاقها لجار محدد دون غيره، السعودية او ايران او سوريا، ولا يخفى ان لبعض الاتهامات هنا خلفية طائفية،  في حين يشارك الاعلام المتحيز، المحلي والاقليمي، في هذه البلبلة بترويجه روايات، يفتقر الكثير منها الى المصداقية والدقة، عن خطط ومؤامرات ومسؤولين وجيوب ومعسكرات ووقائع واموال مكرسة لابتلاع العراق او التاثير على خياراته او منعه من توطيد الاستقرار واعادة البناء  من قبل هذا الجار او ذاك، او غيرهما.
 والنتيجة، غير المشكوك في دقتها هي التالي: يتسلل العنف(بكل مفرداته) الى العراق باساليب مختلفة من جميع الدول المجاورة، دون استثناء، بتدخل حكومي منهجي او تساهل حدودي او من خلال حشوات سلاح واموال لجماعات موالية، او عبر غض النظر عن التجييش ضد الاستقرار في العراق، وفي عدد من الدول المجاورة تتولى خطوط متنفذة، متعاطفة مع الارهاب، تجهيز اعمال الدعم المنظم بالرجال والسلاح، هذا لا يسقط حقيقة ان نخبا حاكمة في دولة مجاورة او اثنتين(الكويت والاردن) لا مصلحة لهما في تدمير استقرار العراق ولم تسجل عليهما شبهة استخدام الاراضي العراقية ميدانا  لتصفية الحسابات مع دول اخرى، فيما تقوم بهذه الانشطة خلايا محلية معارضة.
 ومنذ الساعات الاولى لحادث تفجيرات الاربعاء وُضعت مفردة الفاعل الرابع، المجاور، على سطح الشكوى الرسمية والبرلمانية، واحتلت الاشارات الرسمية الى سوريا بالاسم، مكانا على هذا السطح، بالرغم من انه لم يمض إلا يومين على زيارة رئيس الوزراء الى دمشق والحديث عن جدية التعاون السوري لضبط حدود البلدين  ازاء تسلل الارهابيين، لكن الجملة الاتهامية هنا (بما فيها ما ورد على لسان المتهم الرئيسي بالتفجيرات)تركت هي الاخرى فراغا لعنوان براءة دمشق الرسمية من ظنة التورط، في حين شكلت البيانات الامنية عن تفكيك قواعد صواريخ وترسانات اسلحة منقولة من  ايران او مصنوعة هناك لصالح جماعات مسلحة فاصلة اخرى في بناء التصور الظني للفاعل الرابع الذي بقي قيد التدقيق ما اذا كان حكوميا او شبه حكومي او مستقل،  او لا هذا ولا ذاك. 
 النظرية سليمة وعقلية ولا تُدحض تلك التي تقول ان عملية الاربعاء اكبر من "قدرة" الجماعات المحلية الارهابية، وان الدعم الخارجي لها غير مشكوك فيه، وان ثمة فاعل رابع وراء توريد مستلزمات وتقنيات المذبحة.. وان التحقيق القانوني الجدي والنزيه والاحترافي واللافئوي واللاكيدي واللامُسيّس واللاخائف واللاتابع هو صاحب الكلمة الفصل في تسمية هذا الفاعل المؤكد.. فاين هو؟.
ـــــــــــــــ
 كلام مفيد:
"النجاح معلم سئ.. احيانا".   
بيل غيتس

348
المنبر الحر / دعوة الى الاسترخاء
« في: 14:25 03/09/2009  »
دعوة الى الاسترخاء

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
من زاوية يبدو اننا نركض ضد الريح. التجربة الكمبودية سبقتنا الى امتحان التغيير، فقد ارسل بول بوت، عندما استلم السلطة العام 1975، مليونين من المغلوبين على امرهم الى معسكرات عمل وحرب لم يعد منهم سوى مئات، لكن الكمبوديين بعد سقوط صنمهم اخذوا استرخاء كانوا بحاجة اليه لكي يتوازنوا، وينسجموا مع استحقاق التغيير.. ثم بدأوا من العتبة الاولى: من السياسة بوصفها مختبر التغيير، لكن ليس قبل ان يضعوا تعريفات لها.
يبدو أننا، ومنذ الخروج من النفق العام 2003 الى المجهول، كنا نركض في اتجاهات مختلفة، بحمية وانفعال، ما يمكن القول ان الوقت حان الى تدقيق عدتنا السياسية..الى “دش” من الماء الفاتر يزيل وعثاء السفر الطويل والمضني من على كاهلنا، ويرسي اساساً جديداً لادارة الخيارات وتصويب المخاضات لكي يكون الجنين معافى وتكون البلاد ضفافا للرخاء بكفالة الحياة الدستورية.
وقبل هذا، ثمة حاجة لتعريف السياسة التي تدير رؤوسنا وحياتنا.. السياسة التي قال الشهرستاني ان اممنا أهدرت الدماء لاغراضها أكثر مما اهدرتها لأي غرض آخر.. فهي سوس القوم الى مورد الماء، وهي مطبخ للمأكولات الصالحة والملوثة، وهي فن الممكن، أو رصد هبوب الرياح، أو هي شيطان إذا ما عجز عن الفتنة طلب العون من البشر انفسهم، وهي صنعة..وكما يقول العراقيون في امثالهم “الصنعة أم حنينة” و”صنعة بلا ستاد آخرها الى فساد” و”الصنعة محبس ذهب”.
وقبل هذا وذاك، ينبغي ان نحسم الجدل حول ما إذا كان للسياسة بُعد اخلاقي كما يذهب أرسطو ــ واقتفاه ابن المقفع ــ حين يقربها من علم الاجتماع، أم هي داعرة، كما يخالها ميكافيلي ــ والتحق به صدام ــ حين يعطي الحق للحكام أن يمدوها على قدر اسرّتهم، فيما حذرنا ابن طباطبا من خلط المنحى الاخلاقي بالمناحي الفلسفية أو الفقهية أو الاجتماعية أو الدينية، ودعانا الى احترام الحدود التي تتحرك فيها فرضيات السياسة وموجبات الاجتهاد في علومها.
حاجتنا الى ترصين مفاهيم السياسة وتنقيتها من الشوائب ضرورية بعدما دخلت الملايين العراقية الغفيرة هذا الميدان من اوسع ابوابه وليس من ابواب الصالونات والزوايا المخملية، وبسبب الغبار الذي هب على الساحة والفوضى التي ضربت التعريفات المدرسية للسياسة استسهل الكثيرون تغيير جلودهم، في اليوم خمس مرات على عدد آذان الصلاة، ويبيعونه اربعاً وعشرين مرة على عدد ساعات اليوم، وطبعا ثمة غيرهم كثيرون عدّوها ساحة للحرب من اجل الحرية، وقد افتدت اجيال منهم ارواحها في سبيل هذا الحلم النبيل.
حاجتنا الى الاسترخاء والمراجعة وتدقيق معارفنا وترشيدها، تدخل في صلب موجبات الانتقال الى الاستقرار والبناء، وفي كمبوديا استمر هذا الاسترخاء طويلا قبل ان تهب الملايين الى البناء، والمهم انها وضعت عهد بول بوت وراءها.. الى الابد.
 ــــــــــــــــ
: كلام مفيد
 “ الإنسان الناجح هو الذى يغلق فمه قبل أن يغلق الناس آذانهم”.
                          مثل ياباني 
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


     

349
نداء من لجنة دعم الديمقراطية:
وحدوا صفوف التيار الديمقراطي قبل فوات الاوان


لندن- خاص
وجه اكثر من ثلاثين من الشخصيات السياسية والاكاديمية والاعلامية العراقية وناشطين في منظمات مختلفة نداء الى الوسط الديمقراطي العراقي بوجوب توحيد الصفوف والمواقف لخوض الانتخابات المقبلة.
وتبنت النداء لجنة دعم الديمقراطية في العراق التي تتخذ من العاصمة البريطانية مركزا لها، وانتقدت حالة التشرذم في هذا الوسط وتلكؤ المشروع الديمقراطي وتاخر بناء الدولة المدنية الاتحادية في العراق.. وفي الاتي نص النداء:

يا ابناء شعبنا العراقي
يا انصار الديمقراطية والدولة المدنية
فيما يقترب موعد السباق الأنتخابي في بلادنا يظهر جليا ضعف أداء مجلس النواب العراقي وحكومة المحاصصة التي أنبثقت عنه في بناء دولة المؤسسات خدمة للمواطن، أذ بقيت الأمور الأمنية مهزوزة ولم تتم محاربة الفساد بشكل فعال واستمر العجز في أنعاش الأقتصاد العراقي بشقيه الصناعي والزراعي مما أدى الى عدم حل مشكلة البطالة، يرافق ذلك عدم وجود أي تحسن حقيقي في خدمات الكهرباء والماء والصحة واي برنامج لمكافحة ألأمية،  وعدم رعاية حقيقية ومنهجية للثقافة الديمقراطية، ولم يتخذ اي اجراء  فعال للتصدى لامعان دول الجوار في حرمان العراق من مياه دجلة والفرات والأنهر الصغيرة الأخرى.
في هذا الوقت يرشح حاضر العراق الوسط الديمقراطي بفئاته ومنظماته وشخصياته  الوطنية وغير الطائفية والاكثر التصاقا بقضية الشعب وابتعادا عن طعون الفساد لكي يلعب دورا فاعلا في المعادلة السياسية، وانقاذ مسيرة التغيير والخيار الديمقراطي، انطلاقا من الحقيقة الساطعة بان غياب وتشرذم وضياع هذا الوسط ادى، من بين اسباب اخرى، الى تلكؤ المشروع الديمقراطي وتأخر بناء الدولة المدنية الاتحادية في العراق.
ان لجنة دعم الديمقراطية في العراق، وهي مجموعة ضغط ، تؤكد اهمية نداء مؤتمر اربيل للديمقراطيين العراقيين في (10-12/4/2007) الذي بادرت لاقامته من اجل تفعيل دور التيار الديمقراطي لكي يكون حاضرا ومؤثرا في صياغة الاحداث والخيارات العراقية، وقد ضاع النداء، مع الاسف، في اجواء العجز ومحاولات الهيمنة وقلة الاحتساب للمستقبل، والنتيجة، ان الديمقراطيين العراقيين ، وهم الشريحة الواسعة في المجتمع المديني العراقي، انتهوا الى هامش في اللوحة السياسية.
مرة اخرى، نهيب بابناء وفئات وشخصيات الوسط الديمقراطي، كل من موقعه، ومن شريحته، الى العمل السريع لبناء موقف هذا التيار وتوحيد قواه وجماهيره وبالشكل الذي يرونه مناسبا، باعتبار هذا الوسط  الامين على خيار اقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية والسلم الاهلي وحقوق الانسان،والضامن  لتوطيد  الاخوة التضامنية بين العرب والاكراد ودرء الاخطار عن الشراكة في الوطن الواحد  بينهما وبين سائر القوميات واتباع الاديان والطوائف العراقية .

ـــــــــــــــــــــــــ
الموقعون
د. فاروق رضاعة (سياسي. طبيب) د. شيرزاد طالباني (اكاديمي) عبدالمنعم الأعسم (كاتب سياسي) غانم جواد (خبير حقوق الانسان)  شيركو حبيب(صحفي) د. علي حنوش (خبير بيئة) عبدالرزاق العلي (سياسي) د.طارق الخضيري (خبير دولي في التنمية) عدنان حسين (صحفي) د. كاظم حبيب (باحث. اكاديمي) نوري عبدالرزاق (ناشط دولي) جاسم المطير (كاتب سياسي) صلاح النصراوي (كاتب. محلل سياسي) كريم السبع (خبير نفط) د.كاظم الطريحي (اختصاص طب ذري) د. نعيم الشذر(اكاديمي) د. سعد عبدالرزاق (باحث. اكاديمي) د. مؤيد الالوسي (اكاديمي) بشرى برتو (سياسية) د. هيرو علي خوشناو (طبيبة، عضو الجمعية الطبية الكردية البريطانية) نازنين قفطان) ناشطة نسائية) فوزية علواجي الأعسم (محاسبة. ناشطة نسائية) موفق فتوحي (اقتصادي) د. غالب العاني (طبيب. داعية لحقوق الانسان)  د. رزكار امين (طبيب. عضو الجمعية الطبية الكردية البريطانية) د. علي شوكت (اكاديمي) د. محمد علي زيني (خبير نفط. اكاديمي) جبار حسن (مدير المنتدى العراقي) فهمي معروف (ناشط سياسي) جمال فتاحي (ناشط سياسي ) شه بول علي عسكري (ناشط سياسي).     

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع تحيات د. فاروق رضاعة
لندن
00442089971719


350
تفجيرات الاربعاء..
الفاعل الثالث


عبدالمنعم الاعسم

 التحليلات الجنائية والسياسية والمنطقية، بالاضافة الى المعلومات، تجمع على علاقة جماعات القاعدة(من العراقيين والمتسللين) والفلول المسلحة لحزب النظام الحاكم سابقا بتفجيرات الاربعاء الدامية، وسلسلة التفجيرات التي سبقتها وتبعتها مما تركزت على القتل المتعمد والعشوائي للمدنيين في البُعد الطائفي، لاثارة الفتنة والاقتتال، وعلى ضرب حلقات تمس الاستقرار والحياة العامة في البعد الامني لارباك خطط فرض القانون المرتبكة اصلا.
 ولا يحتاج "اتهام" الجماعتين المسلحتين الارهابيتين بارتكاب الجريمة المروعة الكثير من البيّنات الجرمية والسياسية،إلا بالنسبة للاعبين في ساحة تصفيات الحساب والمشاحنة مع الحكومة ورئاستها، لاطلاق سلسلة من التأويلات التي من شانها تخفيف مسؤولية قوى الارهاب والجريمة المنظمة عما حدث.
  وكان سينفع الحقيقة(واستتباب الامن) كثيرا، وسيخفف من الاثار الكارثية للفعل الاجرامي لو ان الطبقة السياسية النافذة في العراق وادواتها وخطابها التزمت الحد الادنى من فروض الانضباط الاعلامي والسياسي، بعيدا عن البحث تحت الانقاض والجثث عن مكاسب فئوية.
 وطبعا، كان سينفع اكثر، وسيخفف من الاحباط الشعبي والاحتقان السياسي لو ان الخطاب الامني الرسمي كان متماسكا، في الحدود الدنيا، وراء الصراحة والمراجعة، وحكيما ومهنيا في تقديم المعلومات المقنعة للاعلام والجمهور، بعيدا عن لغة الاقتدار العنترية، وانصاف الحقائق العمومية، ومحاولات التقاذف بالمسؤولية بين مكونات هذا الخطاب.
 وإذ توالت مؤشرات ثابتة ازاء مسؤولية القاعدة والبعث المسلح عن تفجيرات الاربعاء، فان ثمة مؤشرات غير قليلة تؤكد "تورط" طرف ثالث من داخل المكوّن الامني، او قريب منه، كان قد قدم تسهيلات ارضية وحركية، ضمنت للمنفذين الوصول الى خاصرة المعادلة الامنية عبر اقنية وحراسات وسيطرات ومنظومات معقدة، وينبغي ان لا يُضم اولئك الموظفين الامنيين، المهملين والفاسدين وفاقدي الحساسية الوطنية، الى صف المتورطين المباشرين ممن نعنيهم بـ"الفاعل الثالث" وان كان الفصل بين اولئك وهؤلاء، وترسيم حدود المسؤوليات من اختصاص هيئات التحقيق، ثم القضاء.
 ان الفاعل الثالث، في القراءة الاولى، ليس بالضرورة ان يكون فردا جرى شراء ضميره وتجنيده في حلقة من حلقات الجريمة، بل (وهذا المهم) لا يستبعد ان يكون خلية سياسية مسلحة من افرازات الصراع الطائفي ومرحلة التجييش، وتتمتع بهامش من الحركة والتسهيلات والاندساس، وهو الامر الذي تابعناه في سلسلة من الانشطة  المسلحة المتقنة والهجمات الاحترافية واعمال الاغتيال والاختطاف المنظمة والتي تركت اسئلة وفرضيات اكثر مما تركته من بصمات تشي بالفاعل الحقيقي.
 والفاعل الثالث الذي يقف وراء تفجيرات الاربعاء، اخطر الجناة، واكثرهم استعصاء على الكشف بالرغم من ان التصريحات والتلميحات الرسمية تشير اليه بين سطر وآخر حين تتحدث عن الخطوط التي تعاونت مع الارهابيين لتنفيذ جريمتهم، حتى ذهب البعض من تلك التصريحات الى القول بانه لم يكن لعصابات القاعدة وفلول النظام السابق المسلحة ان تنفذ عملية اختراقية بهذا الحجم لولا مساعدة تلقتها من آخرين.. ولم يكن ذلك-طبعا- بمثابة زلة لسان.
ـــــــــــــــ
 كلام مفيد:
"النجاح معلم سئ.. احيانا".   
بيل جيتس 
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد- الثلاثاء

351
كامل شياع..
الذي اذّن فينا


عبدالمنعم الاعسم

 في ذلك اليوم قبل عام، وحين سمعنا خبر سقوط كامل شياع بسلاح كاتم للصوت فتح كل منا فمه على وسعه كي يستوعب حُزمة الاوكسجين والاسئلة والخوف، ومسح الكثيرون جباهَهم في لفتة غريزية الى موضعٍ مرشح للرصاصات القادمة، قد تنطلق نحوه في أي وقت ومن أي عطفة في الطريق، فان قتلة هذا الزمان محترفون كفاية ومسددون فوهات  سلاحهم بمهارة الى موضع الموت الاكيد.
 في ذلك اليوم كنا مثل ماكنة فقدت قطعة غيارٍ نادرة، نحتاج لها، بل وفي امس الحاجة اليها، للاستقواء على الطرق الوعرة التي نقطعَها من نقطة الحيرة الشائكة الى فضاء اليقين الجميل، وكان اسمُه مثل كلمة سر  نتبادلها بمحبةٍ بين كل ظن إذ تزدحم به ايامُنا، وسوءِ ظن يَغير علينا من النوافذ.
 وإذ خرج الوطن من بدلة الانكشارية الى ما يشبه رحلة المجهول رصد صاحبُنا، من بعيد، مكانا له في العاصفة. هتف لنفسه "ياغريب اذكر هلك" وتبعناه نحن الغرباء، وفيما كانت الادغال تتسلقُ اسوارَ السلطان الجديد، وتفيض وعاءاتُنا بنصوص من غير ملح، ويعربد العنفُ في حياتنا مثل ثور هائج في معرض للخزف كان صاحبنا يتسلقُ قوس قزح، يؤذّن فينا قد قامت الكلمة النبيلة، وآن اوان الصحو، وجاء الموعد مع رغيف الخبز النظيف وغير الملوّث، وتعالوا نتأملْ قبل ان نجيب.
 لم ينكسر، صاحبنا الجميل في ذلك اليوم الفاجع باستسلام تشكيلي كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل انكسر كأشعة شمس على صفحات ماء جار رقراق، او مثل شجرة بالوت اعياها رذاذ مديد فحطت اغصانها على قارعة الطريق. اتذكر ذلك المساء اللندني حين داهمنا الرذاذُ، فلذنا بشجرة بالوت لنتبادلَ كلمات فراق حسبنا انه سيكون قصيرا، فكان، يا للفجيعة، فراقا ابديا:
 "انا كامل شياع. كنت اعرف ان الرصاص يلاحق خواطري الطليقة وان القتلة يحيطون بي من كل جانب لكني كنت اطلب وقتا اضافيا لاستكمال صعودٍ شاق كنت بدأته نحو ذروة سرية".
 يا كامل، انهم لا يطيقون سماع اسمِك الآن لانه يذكرهم بتواطئهم مع القاتل. اسمُك  يطاردهم من حرف الى حرف، ومن ساقية الى اخرى.. وانت الغائبُ. والحقُ انهم لا يتبينون من هو الغائب : انت ام هم؟ اشهد انهم الغائبون.
 عام مضى على رحيل صاحبِنا الجميل، ايها الاصدقاء، فيما القاتلُ لا يزال يتبختر، منتصرا، بين شارع المتنبي وسريع محمد القاسم، والشهود يتزاحمون على طول الطريق، سوى صاحب الامر الذي شاء ان يغلقَ ملفَ الجريمة على فاعل مجهول، ما يضع على عاتقنا دين الوفاء لدمِ ودفاتر الشهيد:
 افتحوا الملف. اقبضوا على القتلة. تعالوا نتحدَ وراء هذا النداء، في الفصل لكي لا نفقدَ واحدا اخر منا في طرق تزدحم بالقتلة وكواتم الصوت.. وفي الاصل لكي ينامَ فقيدنا الجميل قريرَ العين.
ـــــــــــــــــــــ
كلمة القيت في سنوية الشهيد في بغداد

                       
                                               

352
المنبر الحر / مغول في بغداد
« في: 01:34 23/08/2009  »
مغول في بغداد

عبدالمنعم الاعسم

يتأكد الطابع المغولي لهجمات الاربعاء في اختيار المارة المدنيين الذين القت بهم الصدف الى الشوارع  ليكونوا طعما للمذبحة، وكان بين الضحايا، ممن عرفتهم كتاب عرائض ينتشرون على ابواب الوزارات (بينهم ابو عبدالله بالقرب من وزارة الخارجية)، ونساء يراجعن دوائر حكومية بصدد تسديد غرامات بينهم شقيقة شرطي سقط في تفجير سابق، وموظفون كانوا يطلون من شرفات البنايات، وسواق سيارات اجراء لدى اصحابها، وطفلتان رفقة امهما في الطريق الى المستشفى (من البياع) وقس ورفيق له (من الدورة) وعائلة كاملة كانت في الطريق الى الانبار لاستقبال شهر رمضان بين اهلها واقاربها، واخوان انخرطا توا في حراسة المنشآت الحكومية بعد عطالة طويلة، وشاب من كلية اللغات يجرب كتابة الشعر، وسيدة كانت تسرع الى اخذ سيارة النقل الى مدينة الحلة لمساعدة ابنتها التي تشرف على مخاض الولادة.
كان  المغول، قبل سبعمائة وخمسين سنة، يتفنون في التنكيل بمن يصدف ان يكونوا في طريقهم، وكان الشر–يقول المؤرخ الالماني بيرتولد شبولر- يتطاير من عيونهم واعطافهم وهم يغيرون على السكان الامنين، من غير تحديد، يقتلون ويحرقون ، لكي يجعلوا من ذلك رسالة الى كل من تلقي به الاقدار على طريقهم، وكانت عقيدة المغول بسيطة قدر ما هي وحشية: “اقتل اكبر عدد من البشر ممن تحت متناول يديك لتخيف غيرهم فيستسملون لك” .
وفي النظريات الجنائية يشار الى ان الجريمة من جنس مرتكبيها، وان الاسلوب الذي يستخدم في ارتكاب الفعل الجنائي يُستدل به الى عقيدة المجرم وافكاره، ولعل الكثير من محللي اسباب واحوال ودواعي ارتكاب اعمال الابادة الانسانية يعرفون ان ابشع الجرائم واكثرها فظاعة ووحشية، ولا يجوز التهاون حيالها هي الجرائم التي يقدم عليها الفاعل بحق انسان يعرف انه بريء، وليس بينه وبين الضحية خصومة او حتى سوء ظن، وان الاقدار والصدف جمعتهما في مسرح الجريمة، وقد توصف هذه الافعال بالجرائم الانسانية، ويوصف مرتكبوها بالمجرمين المحترفين.
صباح الاربعاء الاسود كان مغول “المقاومة” قد حددوا الشوارع مسرحا للجريمة، واختاروا المارة طعما للمذبحة، فكشفوا عن تلك العقيدة السرطانية السوداء، وتركوا لنا فرصة ثمينة لكي نتصور “العهد البديل” الذي يسعون الى تحقيقه من وراء هذه المذابح، بل اختصروا علينا جدلا طويلا  حول فكرة المصالحة والتسامح لمّا تمايزوا عنا وانضموا الى عصر المغول،وحين لم يفرقوا  بين هويات المارة الذين كانوا في ساعة المذبحة متضامنين الى ابعد حد منظور، وكانت دماؤهم متصالحة ومتسامحة الى ابعد حشرجة بريئة.   
ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"القوة للحق وليس الحق قوة"
                                          حكمة هندية     
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد –الخميس

353
الخندقة.. فقه وفقهاء

عبدالمنعم الاعسم  
mm14mm@yahoo.com

الاصرار على الراي لدينا والتمترس فيه لم يعد ترفا من النوع الذي كان مارسه البيزنطيون، الفرق اننا ننزل في الراي منزلة الخنادق، لن نتنازل عنه قبل ان نشبعه بالعصبية والحروب والضغائن ونصبغه بلون الدم والحروق، فيما هم كانوا يلقون به الى سلال القمامة بعد كل جولة حوار، ويتعانقون غداة كل خلاف.
لننظر الى هؤلاء الذين قاتلوا عبدالكريم قاسم من شارع لشارع واغرقوا العراق ببركة دماء، ثم عادوا بعد خمسة عقود من الزمن يتحدثون بكل (آخ من لساني) عن زهده وسيرته الوطنية، وكان شيئا لم يكن.
والآن يحدث هذا التمترس والاصرار حيال كل قضية او فاصلة، يدخلون في خندق، ويخرجون بنا الى خندق آخر، يختلقون ما يشاءون من الازمات ويزيدون تعقيدها، حتى وإن سهل حلها واتيح نزع فتيلها وبان سبيل الوصول الى حقيقتها:
يحكى، بهذا الصدد -والكلام لعلي الوردي- ان فارسين من فرسان القرون الوسطى التقيا في طريق عند نصب قديم فاختلفا في لون: احدهما يرى انه اصفر، والاخر يرى انه ازرق، والواقع ان النصب كان اصفر وازرق في آن واحد حيث كان مصبوغا في احد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الاخر. واخذ الفارسان يتنازعان قبل ان يتحققا من حقيقة النصب، وكان كل منهما يتعجب من مخالفة الآخر لرايه ويعتقد انه مغالط ومعاند. ان النزاع بينهما-ولا يزال الكلام للوردي- اذهلهما عن اكتشاف الحقيقة، وكلما اشتد النزاع بينهما ازداد كل منهما في تعصبه لرأيه وفي عدائه لرأي خصمه.
المشكلة لا تتوقف عند فقه الخندقة، الذي هو ثقافة بدوية منغلقةن بل وايضا في فقهاء الخندقة الذي يتولون المعارك والتأويل وانتاج البطلان لصالح اصحاب النعمة والجاه والقرار:
في اغاني الاصفهاني، ان رجلا عابرا سأل واحدا من فقهاء السلطان: ان كلبا دنس حائطا هناك، فما الحكم في هذا؟ فقال الفقيه: يهدم الحائط فورا ويبنى سبع مرات، فلما قال له الرجل ان الحائط المدنس يتبع احد قصور السلطان، رد الفقيه: قليل من الماء يطهره.
وتظهر براعة فقهاء الخندقة والكراهية في ما يسمى بالحرب بالنيابة إذ يقاتلون باسم سيدهم، ويعمقون الخنادق والمكاره ضد خصوم السيد بالاسم او بالاشارة، وقد لفت ابو حيان التوحيدي نظرنا الى واحد من اولئك الفقهاء حيث كان “يدعو ويقول: اللهم اهلك ابا حسان الدقاق، فانه فعل السوء بالمسلمين، ومنزله اول باب في الدرب على يسارك”
 
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“العبقرية واتيان الشر لا يلتقيان”.
                                            موتسارت
 

354
الكنائس..
غارات الجاهلية الجديدة

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@live.com

لا احسب ان الذين اغاروا على الكنائس العراقية الست، قبل ايام، بالمتفجرات والعبوات والسيارات المفخخة يجهلون ماذا تعني فعلتهم الشنعاء، حتى وان كانوا ادوات صماء حشوها بنشارة الخشب والرطانة ونفايات التكفير، فلم تكن هذه “الغزوة المباركة” سوى فاصلة واحدة، واخرى، في سلسلة الغزوات لدك الكنائس العراقية وقتل اتباعها المسيحيين العراقيين مسجلة باسم “المقاومة” والمشروع الارهابي في العراق.
كما لا احسب ان هذا العمل الاجرامي الاستفزازي قد فاجأ اولئك الذي كانوا يتابعون، بالقراءة والتحليل، خارطة سير التفجيرات في موجتها الجديدة، منذ نيسان هذا العام ، من بطحاء الناصرية حتى تلعفر الموصل مرورا بمدينة الثورة واحياء الشعب والشعلة والكسرة والرشيد والكاظمية في بغداد وبلدة تازة وحي الشورجة في كركوك، فقد تضمنت رسائل فصيحة في العزم على تأثيث الطريق الى حرب اهلية تفرّغ العراق من سكانه.
وطبعا لا يبعث على الحيرة حقد اجيال واجناس الارهابيين على الكنائس، ليس فقط لانها نأت بنفسها، منذ زمن بعيد، عن شأن السياسة والصراع على السلطة والنفوذ وكفت عن ان تكون اداة بيد المتصارعين، بل وايضا لانها تبنت وتتبنى خيار التسامح والحوار ونبذ الكراهية والعنف، فكيف اذا كان المغيرون قد اعلنوا الحرب على العالم وعلى السلام والتسامح والمحبة.
وليس الضيق من جدران الكنائس ومن اتباعها غريبا بالنسبة لجراد الجاهلية الجديد الذي يهب على العالم والعراق باسم الكفاح الديني المسلح طالما ان تلك الكنائس تزدحم باجنحة ملائكةالسلام، وايقونات وصور عن طقوس الرحمة، وكتابات تحمل البشائر وتحض على تنقية النفوس من الكراهية والتعصب.
على ان الغارة الجاهلية تفتح الآن، في النسف المبرمج للكنائس العراقية الامنة، صفحة جديدة من الخطة الاجرامية الارهابية لحمل اصحاب الارض على الجلاء عنها بالقوة والقتل والتهديد، وقبل ذلك لمحو علامات التاريخ الاعتراضية التي تؤسس الحقوق والشراكة والتعايش بين الاقوام والملل، وفي هذا، لم يكن تفجير الكنائس غير فاصلة في مشروع تحويل العراق الى غابة تحرسها احقاد محشوة في دشاديش قصيرة ورؤوس مهووسة بالعداء للمدنية.
على ان “مهمة” اصحاب هذا المشروع عسيرة وشاقة لانها بحاجة الى عصر جديد يسمح بمرور هذا العارض الانكفائي العدواني الهمجي، وبحاجة الى جيوش جرارة لاقتحام كنائس لاذت بالاقاصي الجبلية في مدارات دهوك امتدادا حتى اخيضر كربلاء الذي يضم اثارا لجدران كنيسة قديمة عليها رسومات مسيحية وكتابات آرامية تعود إلى عصر ما قبل الاسلام.
آنذاك سنحتاج الى خيام على عدد العراقيين الذين لم يهلكوا.
 
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
 
"ولا تدعوا الخصام يجوز حداً بحيث يعود رخصاً وابتذالا”.
                              الجواهري

355
المنبر الحر / اشلاء.. وصوت مبحوح
« في: 15:54 15/07/2009  »
اشلاء.. وصوت مبحوح


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
دورة الدم العراقية تدور حول نفسها مرتين، مرة في البحث عن مبرر لتفجير الاسواق  في اصل كلام الله الذي يتكئ عليه القتلة، واخرى بحثا عن القرينة بين شعارات المقاومة والابادة الجماعية المروعة للمدنيين الامنين، فيما تلعفر تقدم لنا صورة تشكيلية فريدة لرمان مبعثر بين حقائب وايادي ورؤوس طالبات مدارس بعثرها البرابرة وهم يصرخون: الله اكبر،  وعلى الجانب الاخر تولت فضائية عربية ناشطة اهانة دم العراقيين القاني بالحديث عن هذه الجرائم بوصفها عمليات مقاومة بامتياز وباذاعة نداء مبحوح قالت انه من ابو عمر البغدادي يتوعد العراق بالعقاب، وقدمت كأس المناسبة الدموية الى الملايين من مشاهديها المغيبين عن الجرائم البشعة التي يرتكبها الارهابيون الهمج في العراق، وتعود دورة الاشياء الى نقطة الصفر عند السؤال التفصيلي: ما هو العنوان الذي يناسب هذه المجازر؟ واية أرقام تليق بمقاس الرؤوس التي تترنح جذلا وشماتة بما يجري للعراقيين؟.
  الحشرة تلسع الحصان الاصيل، هذا ما يحدث دائما، غير ان الحشرة تبقى حشرة والحصان الاصيل يبقى اصيلا، وما كان يحتسب على المفارقات المسلية، يوما، صار الآن حقيقة موجعة، واليك ما ذكره احد رعيان المقاومة العرب الذي وصل العراق تهريبا عبر الحدود، قال: "كنت مصابا بالكآبة في بلادي وقد عجز الاطباء عن معالجتي، حتى وصف لي  احد شيوخ المساجد الجهاد في العراق علاجا، فجئت لانتحر كسبا لحياتي أو تخلصا منها، لا فرق".
 والفت انظاركم الى ما ذكره خبير لبناني في السايكولوجيا في وقت سابق بالقول: "البطالة المنتشرة بين الشبان العرب جعلت فئات متدنية الوعي منهم تفكر في التوجه الى العراق للانتحار هناك املا في الوصول الى فرصة عمل مجزية في الجنة" والجنة، في الوصفة الجاهلية الجديدة، واسعة، اتساع ضلالة بشر لا يفرقون بين الحزم والجزم.. جنة يقف على بابها اسامة بن لادن، وتدعو لها ايات مجتزءة من القرآن، وترخص لها مراجع وحكومات وصحافة بالسر او بالصمت الذي هو ابشع اسم للتواطؤ مع الجريمة.
  وقبل ان تجف دماء اطفال تلعفر على حيطان الطين، ينبجس نافور آخر في حي الثورة  ويسهر العراقيون تلك الليلة يحصون باصابع اليد قتلاهم..مائة ، مائتين ، ثلاثمئة..أذكركم بفجيعة عائلة من تلعفر تفقد اثنين من افرادها وتجد بعض اشلاء واحد منهم على سطح منزل بعيد. تخيلوا المشهد، ثم دلونا على اية صفحة في القرآن الكريم  تجيز ما حدث؟ تذكروا زوجة شابة عاد زوجها الى المنزل ملموما في صندوق خشبي، تفتح الصندوق فلا تجد في داخله غير وجه بعينين اغمضت توا، فيما الفضائية العربية تعيد اذاعة الصوت المبحوح، في نشرات احبارها الرئيسية وهو يتوعد العراقيين بالمزيد من المذابح.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
""أدعي على ابنى و أكره اللي يقول آمين".
مثل مصري


356
المنبر الحر / صدام.. هوس امريكي
« في: 01:57 12/07/2009  »
صدام.. هوس امريكي


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

الذي يطالع كتاب رونالد كيلسر(ذي تريريست واتش)  الذي يتضمن محاضر حوارات غير رسمية عادية أجراها جورج بيرو، وهو محقق من مكتب المباحث الفيدرالي الأميركي إف بي آي مع صدام حسين في منتصف عام الفين واربعة، وتنشر الان فصول منه في الصحف العربية، سيقف مع عنوان الكتاب الذي نشره الصحفي البريطاني المعروف باتريك كوكبورن في وقت سابق:(صدام حسين: هوس أميركي) فبالاضافة الى سلسلة الافلام عن صدام حسين وحروبه واسلحته كانت ورشة التأليف ناشطة في ابقاء الرأي العام الامريكي رهن هذا الهوس الذي اصبح مؤسسة في حد ذاته، عندما صار يرتبط بدوائر الاستخبارات  واقنية المعلومات العسكرية.
اللافت ان كتابا وصحفيين، ليسوا امريكيين هرعوا من جانبهم الى تغذية هذا الهوس طالما يساعد على ترويج بضاعة صارت مطلوبة في الولايات المتحدة على نطاق واسع، كما كان بالنسبة الى كتاب الصحفي رون سوزكايند (طريق العالم) وتحدث فيه عن تعاون مدير المخابرات العراقية، في عهد صدام، طاهر جليل الحبوش التكريتي مع دائرة ام 16 للخدمات الاستخبارية البريطانية وتمريره معلومات حساسة الى واشنطن عبر لندن لمدة اكثر من سنة قبل حرب العراق وفي وقت مبكر من سنة 2003 والقول الفصل بان صدام قد انهى برنامجه النووي في سنة 1991 وبرنامجه البيولوجي في سنة 1996 . ولكن صدام  حاول ترويج الانطباع بانه يملك مثل هذه الاسلحة “من اجل التأثير على ايران” .
ثمة كثير من المعلقين تساءلوا عن دلالات تحرير محاضر جلسات التحقيق الامريكية مع صدام حسين في هذا الوقت، ونشر كتاب رونالد كيلسر على نطاق واسع، سيما انه لم يكن ليتضمن معلومات جديدة اضافية عما هو معروف، إذ مر قلم الرقيب (كما سجلت سطور الكتاب) على ما ليس معروفا من خفايا المعلومات، ويمكن للمراقب ان يقلب التساؤل بالقول: ما هي الغاية من اعادة انتاج “العبقرية العقلية والسياسية” لصدام حسين على النحو الذي ظهر فيه خلال محاورات المحقق الامريكي جورج بيرو التي جرى انتقاؤها بمهارة من عشرات المحاضر التحقيقية؟.
ويبلغ الضابط المحقق بيرو المؤلف الصحفي كيلسر انه “ذهب في اليوم الاخير للقاء صدام قبل اعدامه بيوم واحد واخذ معه سيكارا كوبيا من النوع الفاخر وجلس معه ليودعه، لان الزيارة كانت زيارة وداع، واذا به يفاجأ بصدام يبكي وينحب كالطفل عندما قال له بأن هذا اللقاء هو الاخير بينهما” وعندما قرأت هذه العبارات عرفت عمق الاستناج الذي توصل اليه كوكبرن من ان الهوس الامريكي بصدام رسم له صورة “نصف إله” لكي يترك فسحة للاعجاب بتلك القوة التي حطمت هذه الاسطورة.
يصنف الهوس، حسب المحلل النفسي ليون وورمسر، على أنه اضطراب عقلي (ذهني) يتميز بالنشاط الزائد والمرح والغرابة، ويكون صاحبه مليئا ً بالحيوية، لايكاد ينتهي من شيء أو عمل حتى يبدأ في الآخر.
 ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“لا تكن كالديك الذي يعتقد بأن الشمس ما اشرقت الا لتسمع صياحه”.
حكيم من الهنود الحمر


357
مسودة دستور اقليم كردستان..
نقد النص ونقد الريبة
 

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@live.com

يتوزع منتقدو مسودة دستور اقليم كردستان- العراق على فريقين، الاول، لا يعترف بهذا الدستور جملة وتفصيلا، ويعارض، في الاصل، خيار الدولة الاتحادية في العراق، واستطرادا، فانه لا يقبل تلك البنود الدستورية التي تعطي الحق للشعب الكردي في اقامة كيان اتحادي، وفق الدستور، وبخاصة المادة 120 التي تنص على اجازة حق اي اقليم وضع دستور له لا يخالف الدستور العراقي.
وينخرط في هذا الفريق (بالاضافة الى دول لها مواقف مناهضة حيال الكرد) انصار وحلفاء النظام السابق ومعارضو العهد الجديد سوية مع فئات واصوات من داخل العملية السياسية، كان بعضها قد شارك في تثبيت خيار الدولة الاتحادية قبل ان يتراجع عنه في حمية الصراع السياسي والدعائي، وربما -افترض شخصيا- ان هذا الفريق لم يكلف نفسه عناء قراءة فقرات مسودة الدستور قيد الجدل، او انه قرأها بالطريقة الانتقائية (استلال عبارات من النصوص) لاثبات صحة وجهة نظره.
واحسب ان مناقشة اطروحات هذا الفريق يجب ان تنعقد في مستوى (وحيّز)مستقل عن موضوع مسودة دستور الاقليم على اساس وجاهة، او عدم وجاهة، اقامة الدولة الاتحادية في العراق، واستبق هذه المناقشة بالملاحظة التالية: ان هذا الفريق لا يقدم بدائل او حلولا للقضية الكردية في العراق (باستثناء قانون وتطبيقات الحكم الذاتي سيء الصيت) والحق، ان الفريق لا يعترف بوجود هذه القضية التي وجدت طريقها الى وثائق الامم المتحدة في نصوص صريحة، وقبلها الى المحاضر والاتفاقيات الدولية قبل عشرة عقود من الزمن، فيما يرى هذا الفريق انها من تلفيق الاحزاب الكردية والقوى  الخارجية.
الفريق الثاني الذي تعنينا مناقشة اعتراضاته على مسودة دستور اقليم كردستان يتمثل في اولئك الذين يذهبون الى الاعتقاد بان المسودة تكرس انفصال الاقليم عن الدولة العراقية، وتشرّع لسلطة محلية اقوى من المركز، وتضع حدودا ادارية غير معترف بها للاقليم، ويذهب البعض من هذا الفريق الى تسجيل التحفظ المبكر على تشريع دستور للاقليم “في هذا الوقت شديد الحساسية” فيما يلاحظ بعضهم ارتباكا في صياغة تعامل سلطة الاقليم مع صلاحيات الحكومة الاتحادية، لكن ثمة القليل والنادر من هذا الفريق من قام بعملية تشريح قانونية ودستورية متأنية للمسودة بما يساعد  على تعديلها او تعميق مفاهيم لم تكن معمقة في الاصل.
 ولعل اضعف حجة، وربما اكثرها عبثا في انتقاد مسودة الدستور، تحملها (بعض) تصريحات وكتابات ممثلي هذا الفريق، وتظهر في الريبة حيال نيات الكرد ازاء التزامات الشراكة في الوطن الواحد، او على وجه الدقة، حيال نيات والتزامات القيادة السياسية الكردية، الامر الذي يعقّد المناقشة، ويسفّه البحث، وينقل القضية برمتها الى سياق التشهير والشكوك ولي الاذرع، والدخول في تفاصيل تثقل كاهل المناقشة الطليقة.. ومن التفاصيل تنطلق جيوش الابالسة، عادة.
في رأيي، ليس ثمة عبث ولا مسؤولية في مناقشة ملف خطير مثل مسودة اقليم كردستان –العراق اكثر من اخضاع  هذه المناقشة الى دواعي الصراع السياسي العارض، وتوظيفها في لعبة الائتلافات الانتخابية، والمزايدات القومية، وتصفيات الحساب، والنظرة الكيدية، وفي كل الاحوال، لا يمكن المجازفة بالقول ان المسودة التي اجازها برلمان الاقليم  متكاملة  ومتماسكة كفاية بالرغم من الجهد الاحترافي والقانوني البنائي الواضح في الكثير من سياقاتها، فثمة حاجة الى مراجعة وتعديل بعض البنود والاحكام والصياغات، ومعالجة بعض البنود التي تبدو متناقضة وغير منسجمة،  وبعضها الاخر الذي ينطوي على تفسيرات متضاربة، وبعضها الثالث الذي ينحى الى “فئوية” سياسية لا مكان لها في الدساتير المدنية المتحضرة.
ولكل هذه المفردات الاعتراضية دالة في المسودة  وفي سطورمن نصوصها  قد نعود لمناقشتها لاحقا، لكن المهم الذي يستبق سواه هو الكلام الكثير الذي اثير في الاعلام من قبل الفريق الثاني من المنتقدين حول “تمرد” المسودة على الدولة العراقية، او كما افاد كاتب سياسي بانه “بيان انقلابي على الدستور العراقي” وقد وصف البعض جملة من الصياغات الانتقائية باعتبارها مشروع كيان انفصالي للكرد.. ما يستحق المناقشة بهدوء، والاحتكام الى النص:
 في بديهيات الدساتير والقوانين ثمة منطلقات ومداخل مركزية تُعرف بالتأسيسية، تنظم الاحكام والتشريعات وقواعد الحقوق وتبطل بدورها اية احكام لاحقة تناقضها ولا تتساوق معها، وفي هذا تُحرج  واحدة من ابرز مفردات حملة تسفيه مسودة دستور اقليم كردستان إذ ينتقي اصحابها عبارات واحكاما ثانوية استطرادية ويرفعونها الى موضع القياس قفزا مقصودا من فوق المنطلقات والمداخل التأسيسية المثبتة في (المقدمة) وفي (الباب الاول- المبادئ الاساسية).
فقد تضمنت مقدمة المسودة (الديباجة) ما يلي: “فلقد توحدت خياراتنا والتقت ارادتنا مع ارادة بقية مكونات شعب العراق وقواه الوطنية لتكون كردستان- العراق اقليما اتحاديا ضمن دولة العراق الفيدرالية” كما جاء في المادة رقم(1) من الباب الاول من المبادئ الاساسية  النص التالي: “كرستان- العراق اقليم ضمن دولة العراق الاتحادية” ولا تخرج بقية المواد عن هذا الالتزام التاسيسي، فيما نقرا في المادة السابعة ما يعمق فكرة الانتماء الطوعي للوطن المشترك: “لشعب كردستان- العراق الحق في تقرير مصيره بنفسه، وقد اختار بارادته الحرة ان تكون كردستان- العراق  اقليما اتحاديا ضمن العراق” وفي المادة الثامنة (رابعا) يجري تثبيت شرط موافقة الحكومة المركزية لامرار اية اتفاقية يبرمها الاقليم مع الحكومات الاجنبية “ولا تكون الاتفاقية نافذة اذا رفضت الحكومة الاتحادية الموافقة عليها” وهناك، في المادة الرابعة عشرة إلزام باعتبار اللغة العربية لغة رسمية في الاقليم مجاور اللغة الكردية.
على ان الهواء الطلق، البنائي، المنتج، يبقى افضل مكان لمناقشة (ونقد) مسودة الدستور ومنها الى مناقشة مكانة الكرد في عراق المستقبل إذ تتناسل الكثير من المراهنات في هذا المجال.. ويبرز لبعض تلك المراهنات اسنان، للاسف.
ــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“اشجار الحكمة لا تنمو سريعا، لكنها تعمر طويلا.”.
قول اغريقي


358
المصالحة الوطنية.. ثلاثة عناوين فرعية


عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
ثمة ثلاثة عناوين فرعية لموضوع المصالحة العراقية الذي عاد الى الواجهة رفق زيارة نائب الرئيس الامريكي جو بايدن الى العراق، بالرغم من ان لهذه الزيارة محمولات اخرى لا تقل اهمية عن المصالحة.
العنوان الاول ذي صلة بما تقوله كابينة رئيس الوزراء نوري المالكي من انها قدمت ما يمكن تقديمه من خطوات تشريعية وادارية وسياسية(ترشيد الاجتثاث. اطلاق سراح المعتقلين. اعادة العسكريين والموظفين السابقين. اجراء حوارات مباشرة..الخ) لجهة توفير الارضية المناسبة امام قوى المعارضة، بما فيها المسلحة (باستثناء القاعدة وفلول البعث) لكي تنخرط في العملية السياسية، وحسب هذه الكابينة فان التجاوب كان ضئيلا ولم يكن ليتناسب مع مواقف حسن الظن الحكومية، في حين يتحمل معسكر التوافق واطراف وزعامات سياسية مشاركة في العملية السياسية، حسب اقطاب الحكومة، المسؤولية عن تعطيل استجابة المعارضين لمبادرة المصالحة.
العنوان الثاني، يضم وجهة نظر الادارة الامريكية الجديدة والجامعة العربية وفرقاء من المشاركين في العملية السياسية (التوافق. المطلق. علاوي.) وتقوم على اهمية الانطلاق في عملية المصالحة من حلقة الحوار مع تنظيمات حزب البعث، وقبل هذا من تجاوز النص الدستوري الذي يحرم نشاط حزب صدام حسين، فيما حاولت جميع هذه الاطراف، وباشكال مختلفة، ان تستبق الامر باجراء مثل هذا الحوار، بل تم الكشف عن صفقات انتخابية عقدت على هامش انتخاب مجالس المحافظات لشراء “الصوت البعثي” الامر الذي رفع مناسيب بعض الحجوم السياسية، هذا عدا عن ترشيح (وفوز) اعضاء في تنظيمات البعث لهذه الانتخابات، وقد حاول رئيس الوزراء ان يدخل هذه المنطقة المحرمة باطلاق مبادرات او مجسات او لقاءات عبر وسطاء لكنها سرعان ما ارتدت الى الوراء بفعل ردود فعل من داخل ائتلاف الاكثرية.
العنوان الثالث من موضوع المصالحة الوطنية المطروح الآن على الطاولة يتعلق بفقدان الحلقة الرئيسية لهذا الخيار، او بالتقليل من شان رابط المصالحة ورافعتها، واعني بذلك المصالحة في داخل العملية السياسية، اذْ تتشرذم القوى والكيانات التي تتصدر المسرح وتدير السياسات وتحل الريبة وتدني الثقة وروح الشراكة بين تياراتها، وزعاماتها، في حين دخل التنافس الانتخابي مبكرا الى الساحة، وصارت كل خطوة او مبادرة او حاجة لموقف واستحقاق محسوبة بالكسب والامتداد ولي ذراع الآخر ودواعي الصراع على سلطة المستقبل، ويستطيع المراقب لهذا الحال ان يلاحظ غياب استعداد القوى المتنفذة والجماعات المعنية بالمصالحة للدخول في منطقة البحث لتحريك هذا العنوان وفتح صفحة جديدة في الشراكة السياسية بوصفها حجر الزاوية لمصالحة عراقية تاريخية.. مصالحة المجتمع العراقي مع نفسه.
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“يد واحدة لا تصفق
الى الجحيم..
الم تشبعوا تصفيقا بعد؟”.
محمد الماغوط

359
المنبر الحر / حقيبة بايدن
« في: 14:33 04/07/2009  »
حقيبة بايدن

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
في حقيبة نائب الرئيس الامريكي جوزيف بايدن الذي وصل بغداد في مستهل المهمة التي كلف بها لادارة السياسة الامريكية حيال العراق الكثير من مما يمكن تسميته بالالغاز التي تشغل اهتمام المحللين والمراقبين، مجاور الكثير من الاسئلة التي راكمتها الادارة الامريكية الجديدة لطرحها على اصحاب القرار والصراع السياسي في العراق، بالاضافة الى الكثير من المشاريع المحمولة على برنامج التغيير الذي يعتمده الرئيس اوباما حيال العراق وحيال العالم.
وبمعنى آخر، ليس دقيقا القول  بان مهمة بايدن تقتصر على البحث في امكانية تحريك قطار المصالحة العراقية على خلفية ما شكى منه الرئيس اوباما من ان هذا القطار لم يكمل مشواره حتى الان، فثمة ما لا يقل اهمية من المصالحة، بل ووثيق الصلة بها، وهو الملف الامني في العراق غداة بدء انسحاب القوات الامريكية من المدن العراقية الرئيسة، وما يتفرع من ذلك الى علاقة دول الجوار في هذا الملف بعد ان باتت هذه العلاقة من عوامل تغذية دورة العنف.
الجديد في حقيبة بايدن، بالمقارنة مع كان يحمله المسؤولون الامريكان طوال السنوات الست الماضية يتضمن رسالة واضحة الى العراقيين:"اننا راحلون.. تدبروا احوالكم بانفسكم" فيما تدور جميع محتويات الحقيبة من ألغاز واسئلة ومشاريع حول ترجمة هذه الرسالة الى الواقع، والشق الثاني من هذه المعادلة يتوقف على الجهات العراقية المعنية، وبالاخص منها قوى العملية السياسية وكابينة الحكومة، فان الوقت لم يعد يسمح بالانتظار ولا الى المزيد من جس النبض وقراءة النيات، والمطلوب، عراقيا، بدء التحرك لبناء شراكة مصيرية ترقى الى ما فوق الانانيات والمصالح الصغيرة والتخلي عن لعبة حشر العناوين الوطنية في عبث الدعاية الانتخابية والمكاسب الانانية.
المعلقون الغربيون، كما ليس في كل مرة، ياخذون هذه الزيارة مأخذ جد، وينتظرون ان تسفر عن نتائج ترى بالعين المجردة، وهم يحللون الاشارات الجديدة التي اطلقها الرئيس اوباما عشية مغادرة بايدن الى بغداد، بالمزيد من العناية والاهتمام، ولا يستبعد جو ريجس من البي بي سي ان تحمل مشاورات بايدن مع القادة السياسيين العراقيين بعض الاختراقات لجهة الدعم الامريكي التقليدي لقيادة الحكومة، وينصح العراقيين بان يتمعنوا جيدا في ما كان يعنيه الرئيس الامريكي من انه قد يلجأ الى اعادة النظر بتوقيتات الانسحاب المعلنة في الاتفاقية الامنية، فقد تسفر اعادة النظر هذه، حسب المعلق، عن التعجيل بالانسحاب النهائي قبل موعده في 2011 .
حقيبة بايدن لا تحمل هذه المرة، ولن تحمل في المستقبل، شيكات على الحساب ضمن خانة التغطية المالية للمهمة الامريكية في العراق، فان ادارة اوباما اغلقت هذا الباب، الامر الذي يعني الكثير، وقبل ذلك يعني تشطيب برامج وادوار ومراهنات في العراق.. وزعامات ايضا.

ـــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"كثيرا ما نضيق بالغيوم، مع انها تحمينا، احيانا، من حرقة الشمس".
حكمة هندية

360
لوازم المشروع الارهابي في العراق

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

لا يكفي القول بان النشاط الارهابي(استخدام القوة العمياء والتخويف بها لاغراض سياسية) غريب عن المجتم ع العراقي، او انه طارئ على بنية الدولة العراقية. العكس هو الصحيح تماما  إذا اخذنا بالاعتبار بان اللازمة الاولى لهذا النشاط هو التطرف، وان التطرف، كممارسة مجتمعية وحكومية وتشريعية، له جذور وهياكل في المجتمع العراقي والدولة العراقية على حد سواء.
وفي الكثير من المنعطفات التاريخية والسياسية يحارَب الارهاب بواسطة ادوات ارهابية، فتستخدم الدولة ونظامها السياسي اساليب متوحشة ومصنفة في خانة “ارهاب الدولة” لقمع تيار يستخدم شكل او اكثر من وسائل الارهاب، وفي منعطف آخر، تندفع مجموعة مناهضة للسلطة في ترويج العنف والتجييش الارهابي ضد “ارهاب الدولة” القمعية، ومن هذا التقابل تنشأ، موضوعيا، ذريعة التطرف التي تصنع لوازم النشاط الارهابي في المجتمع. في أي مجتمع.
النتيجة الاكثر وضوحا تتمثل في الاتي: ففيما يتمسك كل فريق متطرف بوجاهة  الاسلوب الذي يستخدمه ويدافع عنه بوصفه خيارا وقائيا  واخلاقيا، وضروريا للمصلحة العامة، فان المجتمع بمرور الايام سيفقد حصانته ضد العنف والارهاب، او في الاقل، سيوفر بيئة مناسبة لتبرير التطرف. الغريب ان المجتمع نفسه يدفع الضريبة الباهضة لهذه النتيجة الكارثية، ومن زاوية معينة، يبدو ان المجتمع هنا كما لو انه يعاقب نفسه بنفسه.
لكن لا ينبغي ان يضيع، في هذه المعادلة، حق الشعوب في الدفاع عن نفسها، بالاساليب الوقائية، حيال ارهاب الدولة وحروبها او بمواجهة عدوانها الخارجي، كما لا ينبغي تحريم استخدام الردع من قبل الدولة للجم قوى الارهاب والجريمة.. وفي هاتين الحالتين ضوابط ومعاهدات وتشريعات تراعى بقدر استيعاب المتصارعين لها وبقدر فاعلية الرقابة الدولية لها.
واذا ما اعترفنا بان ثقافة التطرف لها مكان في المجتمع العراقي، وانها تعبر عن نفسها في التحميل الديني والمذهبي والقومي والسياسي الزاخر بالغلو، وتظهر في نصوص ادبية وسياسية وتشريعية وفقهية تتعدى على فكرة التسامح، وفي ممارسات على الارض ضاقت عنها المناسبات واصول ادارة الدولة الحديثة، من مناهج التعليم والاستقطاب حتى اللهجة واللغة وبصمات الهوية الوطنية.
اقول، اذا ما اعترفنا بان ثقافة التطرف مورست وتمارس في المجتمع العراقي، دينيا وقوميا وسياسيا، فاننا بذلك اعترفنا بوجود واحدة من اهم لوازم الغبار الارهابي الذي  يهب على العراق، وهذا الاعتراف يساعد (ولا يعرقل) المشروع البديل، مشروع الدولة المدنية السلمية القائم على اشاعة خيار التسامح والمصالحة والشراكة وتكافؤ الفرص واحترام خصوصيات وحقوق المكونات.
بكلمة، فان قبر المشروع الارهابي في العراق يمر (قبل الردع) في تحريم ثقافة وشعارات وممارسة التطرف بجميع اشكاله.. واذا ما دللنا التطرف، فاننا بنينا عشا للارهاب.
ــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ما اخترع الإنسان سلاحاً إلا واستعمل ضده”.                                               
مقولة صينية       

361
الانسحاب..
الموقف الاقليمي على المحك


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

الاشارات الايجابية التي تلقتها الدبلوماسية العراقية من حكومات دول المنطقة، والتسريبات الكثيرة عن احترازات “وقائية” اقليمية تتخذ حيال تداعيات الانسحاب الامريكي من المدن لا تطمئن كفاية المخاوف من تدخل سلبي عابر الحدود من شأنه ان يخلق تعقيدات امنية للوضع العراقي، وسياسية طبعا.
ولسبب بسيط يتمثل في ان اشكال (وآليات)التدخل الاقليمي في العراق لا تتم بالضرورة من خلال الحكومات واجهزتها (واعوانها) فقد اكدت تجربة السنوات الست الماضية ان اعمال التسلل عبر الحدود ونقل الاسلحة والمتطوعين والانتحاريين جرت، وتجري، في اقنية لا تتحكم فيها، تماما. تلك الحكومات، وقد تحمل بعض هذه الانشطة عناصر مناهضة لدول انطلقت منها، اوعبرها.
لكن يجب الاستدراك هنا لتأكيد ما لم يعد سرا، بان عديد من وقائع التسلل الارهابية الحدودية تحظى بتواطؤ او تشجيع او تجاهل دول اقليمية او مراكز نفوذ في تلك الدول، والبعض الآخر من الوقائع يشير(في وقت) الى اجراءات تضييق حدودية صارمة عندما يكون لهذا التضييق مبررات امنية تخص هذه الدول، فيما ترفع تلك الاجراءات (في وقت آخر) حين تتجه المبررات الى ليّ اليد العراقية واشاعة الفوضى في العراق والى تصفية الحساب مع جهة من جهات المعادلة الامنية والسياسية العراقية.
وإذ يزخر ملف العلاقات بين العراق ودول المنطقة بالكثير من الرد والبدل طوال سنوات التغيير، فان هذا الملف سيكون، هذه المرة بعد انسحاب القوات الاجنبية، حساسا، وخطيرا في ذات الوقت، لصلة الامر بمستقبل الوضع الامني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في العراق. وبحسب المحللين الاستراتيجيين، فان الحال العراقي مقبل على اختبار النيات الاقليمية، ما اذا تنتصر الحكمة في وضع القرارات التي اتخذت في اطار الجامعة العربية او اللقاءات الاقليمية ومجموعة الدول المجاورة موضع التطبيق في حماية السيادة العراقية ومساعدة العراقيين على استعادة الاستقرار واستئناف عملية الاعمار والمشاركة البناءة في بناء اقليم آمن.
على انه لا يكفي القول (الذي تعرفه جيدا هذه الدول) بان الشراكة الامنية تفرض على الشركاء ان يتعاونوا لكبح مصادر العنف والارهاب والجريمة المنظمة عابرة الحدود، فان بعض هذه الدول (وهنا الخطورة) تنظر الى موضوع وحدة المصالح الامنية الاقليمية من زاوية مفرطة بالانانية والانتهازية وقصر النظر، وقد تتورط (او تغامر) احدى هذه الدول في التمدد العسكري (او أي شكل مباشر او غير مباشر للتدخل) لفرض معادلات قهرية لعراق المستقبل، الامر الذي يزج بالمنطقة، والدول المتدخلة، في اتون صراع مدمر لا احد يقدر مداه ونتائجه الكارثية.
على هذه الخلفية يحسن تنشيط حركة الجسور مع هذه الدول، لا لتكرار “القوانة” المملة عن حسن الظن التي اتخمنا بها، بل لتذكير تلك الدول بمخاطر النيات الشريرة الملفوفة بسليفون حسن الظن.
ــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“الاعمى لا يرى نفسه”.
حكمة روسية

362
تفجير تازة ومشروع الردة


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 
تفجير بلدة تازة في كركوك، وقبله تفجير البطحاء في الناصرية، وقبلهما اغتيال النائب حارث العبيدي في بغداد، وقبل ذلك سلسلة التفجيرات في الكاظمية واحياء الثورة والشعب والدورة وحافلات نقل المدنيين في بغداد والبصرة وكربلاء ليست عمليات عشوائية او محاولات استعراض القوة او ارهاصات اجرامية عن احتضار تنظيمات القاعدة وفلول النظام السابق كما توحي تصريحات المسؤولين عن الامن، وليست -في كل الاحوال-  من صنع جهة واحدة، تدخل في سباق محموم مع موعد انسحاب القوات الامريكية من المدن في الثلاثين من حزيران لترفع شارة النصر وتسجله في رصيدها.
يمكن للمراقب الذي يرفض التبسيطات الاعلامية الرسمية، ولغة الاقتدار الفانتازية،  ان يتأمل جيدا في تفاصيل خلفيات الشرائح المدنية التي سقطت خلال تلك الاعمال الاجرامية، او يقوم بما يسمى عملية “نمذجة” في خارطة ضحايا التفجيرات (باستثناء جنود القوات الاجنبية) ليضع يده، من غير جهود مضنية، على جملة مؤشرات عسكرية وسياسية في غاية الاهمية والخطورة، تلخيصها، ان الامر مرسوم له بعناية كيميائية مركزة، ولا يهم -طبعا- في عملية التحليل والتفكيك تعيين الوجه الاخلاقي لهذه الخطة، ومن المضحك القول ان هذه الخطة تستهدف مقاومة الاحتلال، او الجهاد ضده، بالرغم من  مفردة المقاومة (ورديفها الجهاد) قد انحطت (في التجربة العراقية) الى مستوى الجريمة الهمجية، قيد القصاص العادل، فيما الملايين من المدنيين-لا المحتلين- كانوا ضحايا تلك المقاومة، والعراق –لا الولايات المتحدة- من دفع الثمن.
لا حاجة لنتهجأ كثيرا الدلالة السياسية في تركيز التفجيرات على مدنيي الاحياء ذات الاغلبية المذهبية الشيعية  فثمة (استنادا الى احصائية اعلامية) اثنين وعشرين هجوما مسلحا من(ثلاثين) طال هذه الشرائح وتوزعت البقية على سيارات للشرطة وزوار ايرانيين وتجمعا للصحوات وهمرات امريكية عدا عن اكثر من عشرة اغتيالات واكثر من عشرين محاولة اغتيال لا تخرج عن هذا التضمين، وليس من دون مغزى ان تطال واحدة من العمليات الاكثر اجراما واستفزازا داعية للتسامح المذهبي والسياسي، النائب العبيدي، في احد دور العبادة لاتباع المذهب السني.   
اقول، ان جميع هذه التفجيرات، بل وجميع التفجيرات منذ السادس من ابريل الماضي (يوم التفجيرات العشرة المفاجئة في بغداد) حيث استؤنفت اعمال “الجهاد” التفجيري على نحو مفاجئ ونوعي وجديد، تشكل بصمات مشروع العنف لما بعد انسحاب القوات الامريكية من المدن، ويقوم  هذا المشروع على اذكاء نار الفتنة الطائفية والمراهنة على انفلات مشاعر “وسط شيعي” وتأجيج نعرة الانتقام قد تنزلق الى احياء الجيوش والمليشيات الانتقامية للتنكيل العشوائي بابناء الطائفة السنية، لينحدر العراق كله الى دوامة “تفجيرات سامراء” مرة اخرى هي اكثر خطورة واتساعا ودموية.. وهذا المنحدر هو المطلوب بالنسبة لاصحاب المشروع الجهنمي لمرحلة ما بعد انسحاب القوات الامريكية من المدن.
على ان تفجير بلدة تازة  الذي نال ايضا شريحة تركمانية يفتح مخطط الفتنة على الفصل الثاني من المشروع ، بتوسيع مساحة الحريق، جغرافيا وقوميا، ليضرب حلقة العلاقة المصيرية بين تركمان العراق وكرده.. وبين جميع قومياته ومكوناته..وسنتوقع ضربة للمفردة الكردية.. ثم ليدخل العراق نفسه في مقاتلة نفسه.. وحيّ على الجهاد.
 بوضوح شديد، فان غاية الاستهداف في كل مرة، لشريحة مدنية محددة من لون واحد (دينية. مذهبية. قومية) هي اثارة الريبة بين الشرائح والتأليب على بعضها وتفكيك النسيج الوطني الهش أصلا(اكرر: الهش اصلا) بسبب وصفة التغيير الطائفية- العنصرية (شيعة. سنة. اكراد) وتداعياتها وتسييس وتسليح فقه الانتماء وانجرار احزاب الطوائف الى اللعبة التقسيمية الحمقاء.   
 وفي التفاصيل، سيطلع علينا المجاهدون من تنظيم القاعدة وفلول النظام السابق وهيئة العلماء وتجمعات سياسية معارضة للتغيير بمهزلة القول انهم اخرجوا القوات الامريكية من المدن بعد ان هزموها في الشوارع، وفي غضون ذلك ستعرض علينا شاشات ملونة صور ملثمين يعلنون بان "المقاومة" اضطرت قوات الاحتلال الى الانكفاء عن المدن وستضطرهم الى الجلاء عن العراق وهي تعد للاحلال محلها، فيما ستسرب دول مجاورة اعلانا زاهيا: "لولانا لما تمكن العراق من استعادة سيادته"ثم "نريد عن ذلك حصة من المحاصصات".
بكلمة، فان فلول الجماعات المسلحة تراهن على انفجار ضغائن المكونات المحلية على بعضها عبر اقامة احتفالات الابادة المروعة في صفوفها، وليس من دون مغزى ان لا تعلن هذه الجماعات مسؤوليتها عن تلك الجرائم، والذين يتابعون عن كثب نشرياتها ومواقعها على شبكة الانترنيت ونتف ما تنشره وكالات الانباء وصحف خليجية وفلسطينية متعاطفة معها يرصدون جملة من التأشيرات لمحاولة توزيع مسؤولية التفجيرات على طائفة من الجهات: الامريكان. المليشيات. خلايا ايرانية. البيشمركة. استخبارات الجيش. جهات مجهولة. الصراع بين القيادات، وغيرها، وقد برعت فضائيات مناكدة في توليف روايات، في كل تفجير، تحمل على صرف الانتباه عن علاقة المشروع الارهابي بعناوينه المختلفة بتلك الجرائم.
بموازاة ذلك فان الكثير من معارضي العملية السياسية استنكر جرائم التفجيرات لكنهم توزعوا على الاستنكار اللفظي المجرد، والاستنكار المحسوب بالرضا المبطن، والاستنكار بقصد خلط الاوراق، والاستنكار الملغّز بالطائفية، وثمة القليل منهم من نأى بنفسه عن تبرير الجريمة وادان مرجعيتها الارهابية، وقد كتب احد المعارضين "اشعر بالخجل حين اعرف ان هذه الجرائم التي تطال نساء واطفالا ابرياء ترتكب باسمي" وكتبت سيدة.."انها ليست مقاومة.. انها فطيسة" وتساءل آخر "لا افهم ما يحدث: كيف يقتلون المدنيين بشكل جماعي في النهار ويفاوضون الامريكان في الليل(!)".
علامة التعجب(!) من صاحب السؤال..
فانا لا اتعجب.
 ـــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
   "فى الغابة، تتخاصم الأشجار بأغصانها، لكنها تتعانق بجذورها".
مثل إفريقي


363

بازار الاكاذيب..
وغيرها


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

 يزدحم سوق السياسة، هذه الايام بالبضائع المغشوشة. اينما تذهب تجدها هناك حتى لتحار في تسبيب هذه الهمة الاستثنائية. انها ليست تهمة، وليس من باب التشاؤم، فانها، من جانب آخر، فرصة لكي نميز بين الغث والسمين. بين الصدق والكذب. بين التصريح الذي يفيض بالانصاف، مثل رغيف التنور، والتصريح الذي يفضح نفسه من اول كلمة، وهي من جانب آخر، ملاحظة تنفع في الحصانة حيال ثقافة لا اخلاقية تنتعش في عصر الاضطرابات وتحديات القيم.
 في هذا البازار تألق محترفون في الكذب والتلفيق والتشهير، وصعد بارعون في صناعة القصص والروايات الفانتازية، ولمعت مهارات عرفت حاجة التجارة الى "اصناف" معينة من المنتوجات، فيما تتسابق اقنية من ماركة (وافق شن طبقة) على تبني تلك البالونات، تضيف لها ما امكن من الوان براقة، وما تيسر من مقدمات مصنعة، وما يصلح من نهايات مثيرة.
 هذا مقابل اصوات واقنية شجاعة استعدت للتضحية في كل شئ باستثناء نقطة الحياء.
 نعم، لقد ضاع منا في هذا البازار الكثير من الوقت والدماء والماء، عدا عما ضاع من سمعة الملعب واللاعبين، غير ان الامر المحزن اننا اضعنا  المصدر عن الناقل عن الشاهد عن البائع عن الزبون عن الضحية عن الجلاد، بمقابل شائعات لا نميز الحقيقة منها عن الخيال، ونكتفي، فرط كثرتها ومداخنها ان نقول دائما ما كانت تقوله جداتنا : "ليس هناك دخان من غير نار" او ما كان يقوله حكماؤنا "دع الامور تمضي ولكل حادث حديث".
 في هذا البازار صار الكثير من الكذابين يملكون منافذ مؤثرة نحو خداع الجمهور، وتسويق المنتوج المغشوش من غير رقيب ولا حسيب. يحيطوننا من كل جانب، ويحاصروننا من كل صوب، وصاروا-الى ذلك- يصدقون كذبتهم، او هكذا يتصرفون. يستأنسون لها. ينامون على وسادتها، ثم لا يخجلون من الانخراط في محافلها، بالتصفيق والتكبير، وقد يذهبون فيها مذهب من يحاول صرف الانظار عن خطاياه.. ولنا في هذا سابقة:
 حاول اشعب، الذي عرف بالفضولية والظرف، ان يبعد الصبية عنه. ان يتقي مشاكساتهم واذاهم، ولجاجتهم، فاشار لهم نحو جهة معينة، وقال "هناك وليمة عرس باذخة، فاذهبوا اليها" وردد الكلمات كثيرا حتى اغوى الاولاد، فهرعوا الى الوليمة المزعومة، حتى سأل اشعب نفسه: ربما يكون ذلك صحيحا، فهرع وراءهم، الى مكان العرس.. الذي لا مكان له.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"قوة السلسلة تقاس بقوة اضعف حلقاتها ".
حكمة مترجمة




364
الوزير سين..
مسرحية من فصل واحد


عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

المكان: صالة كبيرة، منوّرة، في منزل الوزير(سين).
الاشخاص: مقدم برنامج تلفزيوني حواري. مهندس صوت. مصورون وكاميرات.
المناسبة: اجراء لقاء خاص مع السيد(سين) يتناول شؤون وزارته.
وإذ يحرص مقدم البرنامج على إنجاح مهمته فقد انتحى جانبا مع الوزير وعرض عليه محاور الاسئلة، ودار الكلام الآتي:
*سيدي هناك شكاوى كثيرة من المواطنين بصدد الوزارة وادائها وتعاملها مع المراجعين.
ــ من أين اتيتم بهؤلاء المواطنين؟ انا ايضا استطيع ان اجلب مئات المواطنين الى باب الوزارة وهم يهتفون باسمي ويحمدون الله على الحسنات التي اقدمها لهم.
*يمكنك ان تقول ذلك من خلال الشاشة حين نتحاور، سيدي.
ــ لا، لا، عليكم، كإعلام، ان تقولوا الحقائق وان تبصروا الناس بالاخطار والمؤامرات التي يتعرض لها البلد، لا ان تثيروا اشياء بسيطة عن عثرات هنا وهناك.
* لكن، استاذي العزيز، انها ليست اشياء بسيطة.. ان هناك ناسا يموتون يوميا بسبب الغش الذي يمرر من خلال وزارتكم والفساد الذي يضرب في مفاصلها ونشاطها.
ــ إني اتحداكم ان تثبتوا ذلك.. انها شائعات.. مؤامرة على منصبي.. هناك من يخطط لاطاحتي.. و..
*آسف، سعادة الوزير، اقترح ان تثير ذلك من خلال المحاورة.. ومن حقك ان تطعن في الشكاوى.. لكن بين يدي شهادات وبيانات ووثائق.
ــ مزورة.. إنها مزورة.. ثم، هل هي مقابلة تلفزيونية ام هي محاكمة؟.. اخي انت في منزل محترم ولا يصح ان تستخدم حسن استقبالي لك في إهانتي.
* عفوا سيدي، اني احترم مقامك وحرمة منزلك، لكن المواطنين يريدون ان يعرفوا رأيك بما يشعرون به من خيبة ازاء وزارتك..
ــ وخيبة ايضا.. ؟ اية خيبة؟ عن أي خيبة تتحدث؟ ان الناس يرفعون ايديهم الى السماء شكرا على وجودي في هذه الوزارة.
* لكن، سعادة الوزير، احد وكلائك تحدث الينا عن صعوبات واختلاسات ومحاكم في أروقة الوزارة.. وهناك ملفات على طاولتكم عن مئة حالة وفاة لابرياء مسجلة على اهمال اداري، وان ربع ميزانيتكم اهدرت وتسربت الى فاسدين متنفذين في الوزارة.. ثم هل سمع سعادتكم بفشل 12 مشروعا كنتم قد اشرفتم عليها شخصيا.؟.
ــ كلها أكاذيب.. اخي، ينبغي ان تكونوا موضوعيين.. الموضوعية مطلوبة.. عليكم ان لا تهيجوا الناس.. الناس تعبانة.. والقضية بحاجة الى تأن..ومسؤولية.. وعدم العجلة.. شهاداتي التي حصلت عليها تعطيني تزكية، وسيرتي في السياسة منذ نعومة اظفاري تؤكد اخلاصي وتضحياتي، وحضوري في احزان الناس ومناسباتهم مشهود له.. وعلى الإعلام ان لا ينسى هذه الجوانب، واظن انكم تعرفون هذه الحقيقة.. وانتم ابناء عشائر ومن عائلات محترمة.. فدعوني اودعكم على بركة الله.. واخرجوا من غير مطرودين.
ستارة.. تصفيق.
ــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“أفضل الدول هي التي تتمتع بشعب لا يفكر كثيرا”.
هتلر

365
البند السابع.. الكويتي


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
صار الحديث عن رفع البند السابع عن كاهل العراق سرعان ما ينصرف الى العلاقات العراقية الكويتية، ثم ينزلق الى ملف اجتياح صدام حسين للكويت وسلسلة التداعيات والنوائب التي نتجت عن ذلك الاجتياح بالنسبة للكويت والعراق معا، ولا يتوقف عند هذا الحد، بل يستطرد الى الخلفيات التاريخية، والى عناصر التوترات التي شهدتها السنوات الخمسين الاخيرة، ومن الطبيعي ان تتضارب الرؤى والقراءات، لكن القليل منها ينتهي الى ما يفترضه العقل وتمليه حقائق الحياة بصدد احترام الحقائق القائمة على الارض وتتمثل في وجود دولتين كاملتي السيادة والحقوق، وانه لا مفر من ان يضعا قواعد لعلاقة منتجة، من الآن والى المستقبل.
اعتراضات الكويت على رفع البند السابع الذي يجيز استخدام القوة ضد بلد يهدد الامن والسلم في العالم تبتعد عن فروض بناء عهد جديد من العلاقات، فوق انها لا تتأسس فوق مبررات مقبولة إلا في ما خص الاذى الذي لحق بالكويتيين من ذلك الاجتياح، وهو اذى قد تبرأ منه الشعب العراقي، سواء في حجم هروب الجنود  الجماعي من عملية الغزو (مائة الف جندي) ثم بالانتفاضة الشعبية الغاضبة، او في ما عبرت عنه القوى السياسية التي كانت تعارض الدكتاتورية العدوانية من تضامن مع الكويتيين.
وعلى الرغم من حرص الجانب الكويتي على وضع اعتراضاته في صياغة دبلوماسية حذرة إلا انها، في نهاية المطاف، لا تبتعد كثيرا عن محاولة تحميل الشعب العراقي جريرة الحماقة التي ارتكبها حاكمه آنذاك، وهي سياسة قصيرة النظر وتخاطر بمستقبل العلاقات بين البلدين وتضع لغم انعدام الثقة تحت عجلة هذه العلاقات الى زمن لا احد يعرف مداه، عدا عن انها تحشد شروطا قاسية واستحقاقات اضافية يمكن ان تناقش في سياق طويل من العلاقات الودية بين الجانبين، وبخاصة ملف التعويضات المالية الذي تتناسل بطريقة استفزازية وغير معقولة.
 ولعل الاشارات التي تُطلق من الكويت على شكل ملاحظات وحساسيات من مسيرة التغيير وصعوباتها واضطراباتها في العراق، ومخاوف من بروز (وقد برزت بشكل ما) محاولات اعادة انتاج الصدامية التوسعية بين بعض الجماعات المتنفذة اوالمشاركة في العملية السياسية، تعطي الانطباع بان الطبقة السياسية الكويتية لم تحلل كفاية اتجاهات الوضع في العراق، وهي لا تريد ان تراهن على تيار عراقي يتنامى باضطراد وينظر الى العلاقات مع الكويت ومع جميع الدول المجاورة من زاوية بناءة وبعيدة عن التوتير والتصعيد والتمدد، اخذا بالاعتبار حاجة العراق الماسة الى بيئة اقليمية سلمية وآمنة، لكي يسترد استقراره وعافيته.
 نعم، تعرضت الكويت الى أذى مسجل لدى الامم المتحدة باسم الدولة العراقية، لكن تلك الدولة عوقبت ودفعت ضريبة حماقاتها، وسقطت، فيما تتشكل الآن ملامح دولة جديدة مسالمة، من مصلحة الكويت ان يتسارع تشييدها قدما، وان تتخلص من شوائبها الطائفية والانتقامية والتوسعية، وهذا يتطلب، من دولة الكويت، سياسة اخرى غير سياسة لي الذراع والتلويح بالانتقام وشفاء الغليل.. ومن شفاء الغليل تستعير الغربان نعيقها، كما يقال.
ــــــــــــ
كلام مفيد:
" في عالمنا العربي: الاول خائف من الثاني، والثاني خائف من الثالث، والثالث خائف من الاول.. والخائف خائف من الخائف" .
احمد الفقيه           

366
موصل من غير اكراد..
شوفينية محسنة

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
ازمة مجلس محافظة الموصل، وتداعياتها، طرحت الفكرة الشوفينية في ابسط تعريف مدرسي لها على الوجه التالي: ابناء القومية الصغيرة(الثانية في البلاد) مواطنون من الدرجة الثانية. غير مؤهلين للمشاركة بالحكم. موضع ريبة. متآمرون. والتفاصيل تتضمن، في الموقف من اكراد الموصل، الكثير مما يدخل في الكراهية القومية واثارة نزعات وغرائز الانتقام والتاليب، حتى ان البعض من التصريحات (في الموصل وفي غيرها)ذهبت، بصفاقة، الى الدعوة للانتقام من الشعب الكردي "باثر رجعي" لجهة دوره في اسقاط نظام الدكتاتورية، والبعض فتح  ملف"جرائم التمرد الكردي ضد الدولة العراقية" والى الحديث عن خطأ فكرة التفاوض مع الاكراد، بوصفهم غير مؤتمنين على الوعود والاتفاقات.
  وهكذا بلغ غبار الحساسية السياسية حيال الاكراد وممثليهم في مجلس محافظة الموصل، مبلغ المشروع السياسي الشوفيني على مستوى البلاد، وعلى مستوى التاريخ ايضا، بخاصة حين بدأ ترويج الوصفة الموصلية (البعض يبدي اعجابه بها) باقصاء الاكراد من خلال دعوات صريحة باقامة عراق جديد لا يشاركون في سلطته، او العودة الى الصيغة الصدامية البغيضة باذلال او شراء اكراد وتنصيبهم  في مواقع حكومية شكلية، وإظهارهم على واجهات التلفزيون بين حين وآخر عندما يحتاج النظام الى الرد على الاحتجاجات الدولية ضد ابادة الاكراد، والى نوع من الدعاية عن "الجنة" التي يرفل فيها الاكراد العراقيون.
 هذه الوقفة لا تشغل نفسها في تفاصيل الخلافات بين ممثلي مكونات مجلس محافظة الموصل، ولا في قضية المناطق والقصبات المتنازع عليها، لأن تلك وهذه (بل واعقد القضايا المستعصية) يمكن العثور على حلول وسبل لمعالجتها، او لتهدئة الخواطر منها(وقد يتم التوصل الى حل ما بصدد الموصل) إنما المشكلة تتمثل في ما ظهر من نزوع سياسي تدميري خطير، ابتدأ من بروفة الموصل ويمتد الآن، كحريق الى مناطق اخرى، ليمس هيكلية العراق كدولة من قوميتين رئيستين، تتآخى فيها قوميات اخرى، ويقوم هذا المشروع فوق معادلة جهنمية استئصالية تقول: الاكثرية العربية في الموصل من حقها ان تحكم المحافظة، وفق قواعد الانتخاب والاحصاء ، ثم، الاغلبية العربية في العراق من حقها ان تحكم البلاد بحسب ذات القواعد.. وتلك هي الديمقراطية "وما توعدون".
 في التفاصيل يجري التعبير عن التعاطف(والاعجاب والترويج) في محافل وكتابات وفي ما بين السطور فضلا عن بيانات هيئة علماء المسلمين مع وجاهة موقف الاكثرية في مجلس محافظة الموصل، ويجري توظيف خلافات حول قانون النفط والغاز وصلاحيات المركز والاقاليم وقضايا الميزانية وحراسة الحدود في الحملة التي تتجاوز الامر الى صفقات ولي ذراع واعادة حسابات والبحث في اقصاء او تحجيم الرقم الكردي في المعادلة السياسية، وينخرط في هذه اللعبة الخطيرة (او يتفرج عليها) مشاركون في العهد، وغيرهم.   
 لكن النزعة الشوفينية هذه لا تاخذ صفة المشروع إلا  بمقدماتها (الصدامية) المعروفة باستخدام سياسة الحصار والاذلال والبطش والاخضاع بالقوة والقصف الكيمياوي والانفال، لتتكامل عند شعار محوري: بقوة السلاح او بالديمقراطية، على الاكراد ان يقبلوا مصيرهم كجالية في العراق، او كشعب تابع.. حتى إشعار آخر.

**
صحيح ان اكراد العراق، في علوم الاحصاء، لا يزيدون عن ربع سكان العراق، وفي حساب صناديق الاقتراع اقلية، بالمقارنة مع الاكثرية العربية، لكن الاكراد(هكذا ينبغي النظر اليهم) القومية الثانية في العراق، وهم شعب عريق، له وطن وثقافة ولغة وحضارة وبصمة عميقة في التاريخ العراقي المعاصر، فلا يصح(بل من الخطورة واللامسؤولية) النظر اليهم من زاوية نسبتهم العددية في لعبة الاكثرية والاقلية، بل من الزاوية الاكثر مساسا بمصير العراق كدولة موحدة، وبالضبط، من حقيقة الدور الذي لعبه الاكراد والحركة القومية الكردية في العراق في صناعة حاضر العراق السياسي، ومن الحقيقة الاكثر اهمية كونهم جزء عضوي من مستقبل العراق الجديد.
والآن، ينبغي التحذير من ان اصحاب هذا المنطق.. منطق الاكثرية العربية التي يجب ان تستفرد بالحكم، وللاكراد خيار الاقلية بالاستسلام لمشيئة الصناديق(بروفة الموصل-النجيفي) انهم – على نحو ما- يدفعون الشعب الكردي(اذا ما جرّوا قوى سياسية متنفذة الى منطقهم) نحو البحث المشروع عن شكل من اشكال الادارة  يضمن له حق تقرير المصير ويمنع محاولات إذلاله  وصهره وسلب مكتسبات كفاح مرير وباهض التكاليف خاضه لاكثر من خمسين سنة.
 مرة اخرى، يبدو ان المطلوب من اولئك الذين ينظرون بواقعية ومسؤولية وإنصاف الى الحالة الكردية في العراق(وازعم اني واحد منهم) ان يميزوا بين الحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الكردي وبين السياسات التي تدير هذه الحقوق، وهي عندي سياسات قد تخطئ وتصيب في هذا المفصل او ذاك من مجريات الصراع والتعاطي مع التطورات والاستحقاقات السياسية العراقية والكردستانية، والموضوعية تفرض القول(اولا) ان لهذه السياسات الكثير من العيوب والاخفاقات التي مهدت (من بين عوامل اخرى) الى نمو الحساسيات العربية(الشوفينية)ضد المصالح الكردية في العراق، فوق انها(ثانيا) نجحت في ادارة وبناء الموقف الكردي الموحد من الاستحقاقات السياسية الجديدة، وفي التاثير على الحراك السياسي لمرحلة ما بعد الدكتاتورية، وايضا في كسب بعض القوى(او تبصيرها) على الساحة الاقليمية العربية.
على ان الذين يتابعون اتجاهات الرأي العام العراقي في امتداه العربي، ويحللون عناصر الوعي وردود الافعال المحلية، يرصدون حمية لافتة لبعض الفئات السياسية الدينية والقومية والمتنفذة نحو تبشيع نيات الاكراد من بناء دولة عراقية قوية ومن استحقاقات الشراكة بالوطن الواحد، وحمية اكثر في نفخ بعض العثرات الاعلامية والتعبوية الكردية، وتجد هذه الحملة مفردات لها في محاولات تعريض وتشويه منهجية خلال ندوات ومؤتمرات ومحافل ومساجد وكواليس يتولى فيها دعاة وساسة ومشايخ مهمة إثارة غرائز الكراهية القومية وتوظيف الخلافات السياسية (ملف النفط. الفيدرالية. كركوك. المناطق المتنازع عليها. الدستور) في شحن اجواء الريبة السياسية حيال الاكراد، ومنها، الى المشروع الاكثر خطورة وشوفينية: حكم عراقي جديد(للاكثرية) من غير اكراد.
 بعذلك فان الحل القومي العربي الإخضاعي لمشكلة الاكراد في العراق (منذ استعانة عبدالسلام عارف بقوات مصرية) فشل في اطفاء هذه المشكلة وتسويتها بالارض، كما فشل في تقديم صيغة(حتى شكلية) تتعايش فيها المكونات الاثنية الوطنية بسلام، اما الحل الشوفيني فهو باختصار وصفة للحرب الاهلية، المريرة والمدمرة، وينبغي استعجال القول هنا بان ثمة خيط رفيع بين النظرة القومية العربية الاخضاعية وهوس الشوفينية، هو الفرق بين ان تسوم الضحية العذاب والاذلال حتى تستسلم وبين أن تتخلص منها باقرب حفرة.. هو، بالضبط، الفرق بين الاذلال الجماعي والابادة الجماعية.
وقد ترجم صدام حسين الحل الشوفيني الى سلسلة من الحروب المديدة المتوحشة والعبثية، انتهت في احد فصولها الدراماتيكية المخزية الى رشوة شاه ايران بشط العرب مقابل المساعدة في كسر شوكة العصيان الكردي المسلح، لكن الدرس الاخر الاكثر اهمية في هذه الحقائق يتمثل في ان الردع القومي العربي المفرط في وحشيته وقسوته يخلق (وقد خلق فعلا) تيارا كرديا متشددا، يكفر بالاخاء القومي، وبجدوى الشراكة في وطن واحد، وقد عبرت هذه الحقيقة عن نفسها في اشكال عديدة، عرفتها ورصدتها المجسات والدراسات السياسية والفكرية الكردية، فيما تجاهلت النظر اليها بصائر القوميين العرب وزملائهم الجدد.
المشكلة ان فرسان الحل القومي والشوفيني، ينتجون الان جيلا جديدا، محسنا، يبدأ مما يطرحه اصحاب “صيغة نينوى” العربية من لزوم ان يبقى الاكراد مواطنين من الدرجة الثانية وعليهم اعلان”الولاء” شرطا للحصول على الشفقة او فتات المناصب، كما يبدا من انتقاء اكراد موالين كديكور سياسي إعلاني في محاولة لاحياء مثال (طه محيي الدين) في نظام الدكتاتورية. لكن الجديد في الامر هو انضمام شرائح دينية ومليشوية جامحة (ومتشظون من اليسار) الى هذه الصيغة، الامر الذي يضيف تعقيدا جديدا في طريق بناء دولة اتحادية في العراق بوصفها الحل لمشكلة الاكراد، على هدى تجارب دول اتحادية كثيرة في العالم.
على ان ثمة القليل مِن هذا المعسكر مَن يعي نتائج التاليب والعسف والانكار ضد الاكراد، واحسب ان ثمة القليل من يتملى، بمسؤولية، دروس الحروب الاهلية في ما يسمى دول العالم الثالث، واخص منها بالذكر انفجار الاحتقان المتراكم في اقليم دارفور السوداني بين شريحتين من شعب مسلم واحد، واحدة عربية متنفذة، واخرى افريقية مهمشة، كما يشار بهذا الصدد الى تجربة وحدة شطري اليمن قبل ما يزيد على عقد ونصف من السنين، إذ استخدمت الفئة الحاكمة سياسة اذلال وتمييز منهجية ضد سكان جنوب اليمن ودفعهم الى خانة مواطنين من الدرجة الثانية، فيما تندلع منذ حين حركة جامحة ترتد الى الانفصال والانقلاب على الوحدة ولم تستطع حملات التأديب ان تعيد السكان (وهم يمنيون ومن نفس القومية) الى بيت الطاعة.
على ان بيت الطاعة لم يكن غير عنوان مهذب لسياسات الصهر القومي المحرمة دوليا.. ولنا منه، في العراق، بقايا وذكريات وفرسان جدد.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"من عاش بوجهين مات لا وجه له".
قول ماثور       

367
المنبر الحر / لعبة القط والفار
« في: 12:01 20/05/2009  »
لعبة القط والفار

عبدالمنعم الاعسم  
m14mm@yahoo.com
 اعجبتني اللقطة التجريدية التي رصدها بول ديكس، وهو مراسل اذاعي الماني، عما يجري من حراك سياسي متوتر ومتسارع ومتخاشن في العراق. وكان قد قال انها تشبه لعبة القط والفأر، من بين اشياء كثيرة قالها، ورصدها ليست تعنينا في هذه الوقفة.
 واللعبة قديمة، منذ ان كان للقطط دور كبير في تناسخ الارواح التي مرت بالشرق القديم، وظهور القط المقدس على حجارة الكهوف البورمية، ثم القط الرومي، والقط الفرعوني، وتخطيطات القطط في معابد التبت، ثم القط السيامي بلونه الرمادي، مرورا بهر المطابخ، واجيال قطط الكارتون، توم وجيري، المعروفة، فيما تنامى اخيرا شأن اللعبة مع دخول كتاب الرواية والقصص على عالم القطط والفئران، فكتب الدانيماركي هانز كرستيان اندرسن عن القطط كرمز للمنقطعين والعوانس، ثم كتب الكثيرون عنها كحيوانات مسلية للاطفال، ودخلت كتب تعليم الصغار مدخل الشعر: قطتي صغيرة. اسمها نميرة.
  وتتمثل لعبة القط والفار، باختصار، في فنون الوثوب والهرب، الاختباء والظهور، المطاردة والفخاخ، الجر والعر، واحسب ان هذا ما كان يقصده المراسل الالماني وهو يتابع ما يجري لدينا في الكواليس السياسية واروقة البرلمان، ويقول الجاحظ في (الحيوان) ان القط يراقب الفارة: " فإذا وثب عليها لعب بها ساعة ثم أكلها ، وربما خلى سبيلها ، وأظهر التغافل عنها فتمعن(الفارة) في الهرب ، فإذا ظنت أنها نجت وثب عليها وثبة فأخذها ، فلا يزال كذالك كالذي يسخر من صاحبه ، وأن يخدعه ، وأن يأخذه أقوى ما يكون طمعا في السلامة، وأن يورثه الحسرة والأسف ، وأن يلذ بتنغيصه وتعذيبه".
 ومن زاوية يبدو ان لعبة القط والفار تنتسب، منذ الازل، الى العلم العسكري، حين كان (واستمر) الايقاع بـ"العدو" همّا للقادة والساسة، وعرف بالمناورة في ابسط تعريفاته اللوجستية.
 في اللعبة العراقية، يشاء البعض(حين يكون فارة) ان يلقي على القط موصوف الشر، ثم يلقي عليه (حين يصبح قطا) اجمل صفات الوداعة، وفي هذه اللعبة يتبادل القط والفارة موقعهما باستمرار، فمن كان قطا في اللعبة  يصبح فارا في نفس اللعبة،  ومن كان في موقع المتمكن  والمترهّي، يوما، يصبح في الموقع الضعيف يوما آخر، ومن يَستضعف اليوم يستاسد غدا، ومن يحاصَر هنا، يحاصِر هناك، وتختلف المواقع باختلال القضايا المطروحة، وبحسب الانواء السياسية، وعلى وفق الصفقات والتحالفات والاوزان، لكن المهم في كل ذلك ان القط يبقى بامس الحاجة الى الفار، وان الاخير لا يستغني عن صاحبه.
  وتلك من شروط اللعبة. 
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"اقسى الجولات التي خضتها كانت مع ملاكمين غير موهوبين".
محمد علي كلاي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد 

368
انباء طيبة من كركوك

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@live.com
 
تفيد تحليلات وتأملات هادئة ومعاينات عابرة للضغائن السياسية ولقاءات (اثق في جديتها) بين افراد من مختلف المكونات و”استمزاجات رأي” مستقلة تخترق المحذورات والخنادق السياسية وتمس اعماق حركة الافكار والمجادلات لدى شرائح وفئات ومزدحمات ومقاهي ومنازل وحافلات نقل وامهات وطلاب مدارس في مدينة كركوك، ان ثمة تحول عميق يجري في قاع المدينة، وبين سكانها وداخل مكوناتها، وفي صفوف متعلميها ونخبها (على وجه الخصوص) وذلك بموازاة الصراعات والجهود والمبادرات والمشاريع على جبهة السياسة.
التحول هذا يتمثل في تشكيل ما يشبه المنطقة الحرة في تداول السلع والخيارات من غير المرور باقنية الكمارك، وهي، في حالة كركوك، منطقة وجدانية وانسانية وعقلانية تمتد من حول نقاط التماس التي شهدت احتقانات وحجارة وبارود، وترتقي، معها وفيها، ارادة الناس من جميع المكونات السبعة الى اتفاق سلام غير مكتوب، لكنه اكثر عمقا وحاجة من أي اتفاق مكتوب.
اقول، جميع هذه المؤشرات البينية التي قد لا يلتقطها الكثيرون تنطلق من خميرة الاقتناع الذي بدأ يعبر عن نفسه باشكال تلقائية، بانه لا مفر من العودة الى حكمة الشراكة والعقل، والى فروض التهدئة بعيدا عن اجواء الخوف والتهديد والتمترس “فتحت اعمدة الدخان وطبول الحرب ونداءات الانتقام والتجهم السايكولوجي والتخويف ندفع المدينة، حتما، ودون ان ندري، الى الكارثة. في الحرائق نضيّع انفسنا، وفي الهواء الطلق يمكن الاسترشاد الى حلول” هكذا كتب لي مثقف من المدينة باسم “رحيم عبدالله” ووجدت تواقيع كثيرة لسطوره هذه في “افادات” كثيرة فرّت من سطور وافئدة وتصريحات ومناقشات هادئة تدور حول معضلة المدينة التي لا يمكن لزائر لها إلا ان يحبها، فكيف لمن ارتبط بها عمرا وقضية.
الانباء الطيبة من كركوك، باختصار، تأتي من استيقاظ خيارات العيش المشترك من غير كراهية، ومن وعي الضرورة لتطبيع الاوضاع، باعتباره مفتاحا لخطوات الحل، وفي هذا التطبيع يجري فتح القنوات المغلقة بين المخاوف، ومثلما جاء في موقع على شبكة الانترنيت تطلقه جماعة محلية باسم (كركوك. بيس. نت) فان”الهلع اليومي جعل منا مخلوقات تتشبث بالسلام، ولا نعتقد ان الشر موجود في حلول استقلال المدينة ولا في المادة 140 ولا في فكرة الانضمام الى الاقليم الكردي. ان الشر وجدناه في دوامة الخوف والريبة من الاخر، ولهذا بدأنا المعركة مع هذا الكابوس”.
في كراج النهضة كانت سيارة الاجرة، ذات الخمس مقاعد، يوم 19/4 قد حملت خمسة راكبين الى كركوك لم يختاروا شركائهم في الرحلة، كانوا اشوري وكردي وتركماني وعربيان، وفي ما يشبه فريق ضل الطريق بسبب عاصفة وانقطعت به السبل، انضم الجميع الى الجميع، وفاضوا بأجمل الكلمات ومشاعر المحبة، وحين ظهرت علائم المدينة من بعيد كان الصمت الجميل جوابا على لافتة: اهلا بكم في كركوك السلام.
 
.ــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ الاعتدال أبو الفضائل”.
   شيشرون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد
 


369
في بغداد.. على صفيح ساخن


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

 من الصعب ان تتخلص، حين تكون في بغداد، زائرا، او عائدا، من ضغط السائح في داخلك، فثمة الكثير من الاجابات حيال مفارقات ما يجري امام عينيك لا تصل اليها إلا من زاوية سياحية من خارج المشهد والتباساته:
 والآن، ليس بعيدا عن مركز العاصمة، إذا ما اعتبرنا شارع فلسطين معبرا من المركز الى شرقه، نهض حي سكني حديثا (كما يبدو) من طابوق وباطون وثمة بيوت عشوائية من طين وصفيح مترامية في اطرافه، فيما تدثر المشهد تحت غابة من الاعلام السوداء والخضراء وصحون الستلايت وشبكة مخيفة، متشابكة، من اسلاك الكهرباء، ومنارتين.
ومن بعيد تلمح، اذا ما كنت عابرا، ما يشبه الصحراء من رمال وازبال تلف الحي كما لو كان واحة مقطوعة عن العالم، غير انك ستفاجأ بطوابير السيارات التي تقف، وقل تتكدس، في الازقة العشوائية والشوارع غير المخططة ولا المسفلتة، وستفاجأ اكثر حين تقع عيناك على احدث السيارات والشاحنات، وقد تجد افخرها جميعا امام منازل معدودة اشبه بحصون يونانية، وكان واحد من تلك الحصون حصة هذه المشاهدة التي تحتفظ لنفسها بالاسماء الحقيقية، التزاما بفكرة انها مشاهدات وليست لائحة شكوى الى القضاء.
صاحب المنزل (ابو محمد) كان منذ سنوات يعمل (مُصلّح بايسكلات) وقد انفتحت عليه الدنيا من عوائد غارات وحملات “غزو” وتشليح واختطاف، لا احد يشك بان ناسا ابرياء فقدوا حياتهم خلالها، وهو لا يزال يمارس سطواته لكن بكثير من الانضباط والاحتراف، وبما هو اهم من ذلك (انتباه) إذ يوزع (ابو محمد) اموالا طائلة على المحتاجين من ابناء الحي ويقيم ولائم باذخة في الشارع المحاذي لمنزله يحضر بعضها شيوخ وافندية يشار لهم بالبنان، وتنتشر في الحي روايات يوثقها اصحابها بالصوت والصورة عن مآثر مالية للرجل يهب فيها سيارات لبعض ابناء الحي ويغطي نفقات زواج لبعضهم ويقوم بأفضال الدفن واقامة مجالس العزاء لمن لا يستقوي على فجيعة موت تلمّ بواحد من اسرته.
في مقهى صغير يقدم الشاي الاسود وعلب المشروبات الغازية المستوردة باسم (كازينو السعادة) قال لي (سيد احمد) يمتدح ابن حيهم (ابو محمد) ان البعض يحسده (الحسد حرام) ويبحبش عنه المعلومات ومصادر رزقه، ويحرفها، وينشرها بين الناس (حرام) لكن ابو محمد (يضيف صاحبنا) يرد على اولئك بالاحسان، بل انه يشغّل بعضهم، ويمنّ عليهم بالمكرمات علنا امام الناس. انه، خطيّة، يوزع كل ما يحصل عليه الى الفقراء.. بعد شيريدون؟” ثم يخفّض صوته ليقول: “ابو محمد خطف قبل 4سنوات اثنين من الزناكين، قتل احدهم وسلم الثاني لقاء مبلغ كبير، هو الثروة التي تراها امامك”.
اعرف ان مثل هذا يحدث في كثير من الدول، وبخاصة في تلك التي تخوّض في الاضطرابات والحروب والفلتانات الامنية، لكن لا اعرف إلا القليل ممن يسرق ويحتال ويختطف ويقتل ليوزع “رزقه” على غيره  قرامطة البحرين والاحساء الساخطين، او ما قرأناه عن “روبن هود” الشخصية الانكليزية الخيالية من القرون الوسطى الذي كان يقيم في غابة شيروود بانكلترا، يغير منها على قصور الاثرياء، ينهبها، ثم يوزع المنهوبات على الفقراء، وكان موضوعا لاكثر من مائة نص شعري ومسرحي وسينمي.. وشاهدت مؤخرا اوبراسا حرة عنه .
ترى، لماذا لا تبادر احدى الفرق الفنية العراقية الى تاليف وعرض اوبرا عن مآثر (ابو محمد) الانسانية.. جدا؟.

***
اليوم هو الجمعة 25/4 وشارع الرشيد يستيقظ متأخرا تحت نثار مطر خفيف من ليلة فائتة شاء ان ينسحب مبكرا امام اشعة شمس مشاكسة، ومن اول خطوة مما كان في الذاكرة قبل ثلاثين سنة بحثت من المدخل الشمالي للشارع عن محلات القيماقجي من اليمين ومطعم السولاف من الشمال فلم اجد لهما اثر، باستثناء عطفات حديد صدئة وعتبات سمنت لم تصمد حيال استحقاقات الايام العاصفة وزحف الازبال من كل جانب، لكن ثمة بهاء قديم يفتحه لك، في لحظة حميمة آسية تشكيل من شارع لا يزال يتمسك بروحه ومروياته وشناشيل ومحال واعمدة رصينة وابواب وسلطانات قاومت الانطفاء والتزاحم.
 هذا مبنى سينما السندباد متربص خلف معازل كبيرة من الخشب، وعلى خطوات لا ادري اين قرات انه كان يوما مشفى كبير بناه عضد الدولة العام 982 ميلادية وكان احد المعالم الحية للعاصمة التاريخية غير ان ابن بطوطة، حين قصده عام 1327 وجده خربا ومرتعا للكلاب السائبة، وعلى مرمى نظر عبرت الشارع جوقة من الكلاب شقتها سيارة شرطة واهابت بها ان تلوذ في عطفة كانت تفضي الى سينما الخيام ومحلات باجة وصالونات حلاقة يوما.
سريعا جاءت مقهى المربعة. نفس السياج الحديدي باللون الازرق الذي كنا قبل اربعين سنة ، نصفّ الكراسي لصقه بانتظار موعد عرض فيلم الام في سينما الشعب المجاورة. كل معلم قديم بقيت منه علامة تحرّض على العبور ولا اقول العودة (لا احب كلمة العودة) الى مرميات في الذاكرة. مركز شرطة سيد سلطان علي الذي اعتقلتنا الشرطة فيه، انا واثنين من زملائي في دار المعلمين، وكثيرين، قبل ما يزيد على اربعين سنة، بتهمة التحشد لدعم ثورة الجزائر، واطلقتنا بعد ان فشلت محاولات التظاهر.
 من تقاطع ساحة الوثية، تدخل شارع النهر الذي بدا ضيقا، ضيقا، فيما صورته في الذاكرة اوسع من ذلك، لكن ياقوت الحموي كان يشير في معجم البلدان الى احتجاج المنصور على ضيق بعض شوارع بغداد، والبغدادي القديم كان يجد حميمية في المكان الاكثر ضيقا كما كان يشير الزيات في ذكرياته عن بغداد الثلاثينات. اين محلات الصاغة؟ اين متاجر المودة والازياء والعطور؟ انها تقلصت الى محال صغيرة محصنة وراء ابواب حديدية، ربما يسهل على اصحابها، بذلك، اتقاء التفجيرات او غارات اللصوص.
 رجل بسدارة بغدادية قبض علي حائرا في البحث عن مكان، قال: تفضل، من تبحث؟ قلت عن خان كان هنا يوما؟ قال، امش قليلا انه خان الدفتردار، تجد بقاياه في عمارة شيدت عليه باسم عمارة الدفتردار.
شددت على يد صاحب السدارة: قلت له: ابحث عن شارع المستنصر. قال: كان زمان.. قلت: ابحث عن محل كان يضع صورة كبيرة للزعيم على الواجهة. قال: كان زمان، حبيبي.
 وفي الاسواق، وفيما عاشت بغداد ايام انفجارات مروعة، ومفاجئة، كان ثمة حذر تجده في عيون الباعة والجمهور معا. كتب احدهم على باب محله الموصود في الشواكة “اليوم وغدا مغلق” وثمة في اسواق اخرى العديد من المحال اغلقها اصحابها خشية محذور التفجيرات التي اخذت مسارا واضحا باستهداف الاحياء التي تسكنها اغلبية من اتباع الطائفة الشيعية، لكن حشود الاسواق من المتبضعين لم تتراجع، كما احسب، سوى ان انفعالا وحذرا وعلائم ترقب تتبدى على الوجوه وفي سرعة الحركة. الكل يركض “مستعجل” ويتقافز فوق بعضه: العربات والسيارات والنساء واصوات الباعة المبحوحة.
في شارع الكرادة داخل قال لي بائع كباب وكان الوقت صباحا “الله يسترنا اليوم” وفي المساء سمعته يقول “الله يسترنا من باجر” قلت له: ارى ان الناس لا تخاف، فضحك بما يشبه المرارة مخلوطة بيأس هامسا: النار جوّة. وفي السيارة قال لي سائق التاكسي: والله عمي لم ارسل الاولاد اليوم الى المدارس. قلت له، وانا اعرف الجواب: وانت لماذا لم تبق معهم في البيت؟ ضرب المقود صائحا: ومنين نعيش؟ اذا يوم واحد ما اشتغل يعني ماكو خبز.. صدقني.
السؤال الاستفزازي بالنسبة للمواطن هو “من قام بهذه التفجيرات؟ “ اكثر من واحد كنت اتعمد سؤاله كان يقول لي: متروح تسأل الحكومة” ويضيف “واحد يجرّ بالطول وواحد يجر بالعرض” لكن سرعان ما تتعرف على الكراهية والاحتقار حيال اولئك الانتحاريين والذين يقومون بتفجير العبوات والسيارات المفخخة ومن يقف وراؤهم من خلال العبارات المتوترة والغاضبة التي يطلقها المواطن رغم انه لا يعرف هوياتهم بعد “والله لو اعطوني واحد منهم لقطعته وصلة وصلة” قال لي مواطن كان يبيع الرقي على قارعة الطريق.
الشرطة والمفارز والسيطرات ونقاط التفتيش انتقلت من الاسترخاء الى التشديدات بالغة الصرامة، لكن الاسترخاء تحمل المواطن نتائجه الكارثية، فيما التشديد يدفع ثمنه هذا المواطن باهظا.. واستطيع القول، ان البعض (اقول البعض) من اجراءات التشديد في الشارع لا تعدو عن كونها تدابير استعراضية لا تفسير امنيا لها باستثناء الايحاء بالاستنفار وخطورة الوضع، وفي احد تلك السيطرات كان رجل الامن يمسك ورقة ويطابق معها ارقام السيارات المارة التي تتوقف حتى يبرئها من ظنة الشبهة في حين تتكدس خلفها المئات من السيارات والشاحنات بانتظار الفرج من حاجز ضيّق لايسمح بالمرور لاكثر من سيارة واحدة. احتج سائق يحمل امرأة مريضة على هذا التاخير فرد الرجل المعبأ بملابس القتال من تحت شمس قاسية “حبيبي اوامر.. شبيدي؟” فتقع الكلمات، عميقة اللطف والصدق والحميمية، في موضع الرضا فتشيع سماحة وصبرا بين بشر طالت سماحتهم، واستطال صبرهم.

***
أتهرب، في غالب الاحيان من السؤال: “كيف وجدتَ المزاج العام للعراقيين؟” الى ملاحظات عمومية، ذلك لأن قياسات الرأي العام واتجاهاته وفاعلياته وردود افعاله وتكوّن مواقفه تُعدّ من اعقد مهمات المحللين والمؤرخين والمختصين في علم الاجتماع، في حين تتعقد المهمة امامهم اكثر فاكثر حيال مجتمعات(مثل المجتمع العراقي) عاشت اضطرابات دينية وعنصرية ومعيشية مديدة وخاضت حروبا طاحنة، ومهلكة، مع نفسها ومع غيرها، ومرت في عزلة طويلة، وقهر، وقطيعة مع العالم واحداثه وتحولاته.
اقول، اتهرب من هذا السؤال الى تبسيطات سريعة، ازاول فيها، احيانا، ما يزاوله السائح حين يَعتبر حوارا عابرا مع سائق تاكسي بمثابة مصدر او حقيقة عما جرى ويجري في هذا البلد، لكن، وفي كل مرة، احلّ فيها شهورا في وطني، اهرع الى ما اعتبره المجسّ الاول لمزاج العراقيين، وهو وجوه المارة من الرجال والنساء والاطفال، من الشباب المهمومين والمتطلعين. وجوه رجال الشرطة وباعة الفواكه والخضر وروّاد مقاهي الرصيف. وجوه مثقفين يبحثون عن مكانهم في ما يجرى ومسؤوليتهم عما جرى يجري. وجوه اولئك المتنعمين والمحميين والمتخفين وراءالزجاج المظلل، والمهم، تلك الوجوه التي تقف في طوابير طويلة بانتظار ان تصل الى شباك موظف او ان تصل الى معبر امني الى المجهول.
وجوه تقول لك اشياء كثيرة، وتفصح عن قوة شكيمتها. مذلاتها. صبواتها، وتفيض بخليط من الالفة والعتب والريبة والصبر والاباء والذل والتشبث الاسطوري بالحياة، وهي في كل مرة، شهور بعد شهور، تحرر رسائل جديدة عما تكابده او ما تحلم به، ولا تبخل على المتملي بها، المشغول معها في المحنة، المنتسب لانتصاراتها وهزائمها في الافصاح عن اسرارها ومزاجها، لكن ثمة الكثير مما اقرأه في تلك الوجوه احتفظ به في دفاتري، واحيانا (اقول احيانا) اغامر في الاعلان عن بعض عناوينه ومفرداته.
وقفت في طوابير طويلة، وتحت شمس ظهيرة نيسان ومايس وحزيران، وطوال سنتين، في باحات مكاتب وزارة الهجرة والمهجرين، وامام شباك في المجلس البلدي لحي المشتل، وقبالة مدخل دائرة نفوس المحمودية، وعند سيطرات المنطقة الخضراء، وما تبقى من مستشفى الكاظمية، وعلى عتبة مديرية تربية الكرخ الثالثة، وفي طوابير من الرجال امام مفارز التفتيش في اطراف كربلاء، وفي طوابير اخرى في مدخل مطار بغداد بانتظار ان تقوم الكلاب البوليسية بواجب ترخيص مرور الحقائب، وفي طابور (لن انساه) كان ضحاياه ينتظرون لساعتين مرور ركب احد المسؤولين.. كان الاحتجاج الوحيد، الذي بقي في ذاكرتي قد سجل باسم طفل لم يكف عن البكاء طوال الوقت.


 اقول، كل مرة، ومع مجريات الصراع  يتغير (وقد يتقلب) مزاج العراقيين، لكن باتجاه حالة من الاسترخاء ومن التعايش مع الازمات، فوق انهم صاروا اكثر التصاقا بالسياسة، ليس بوصفها نظريات او (حجي صالونات) او ثرثرة في شؤون الامم المتحدة، لكنها كأمر يخص حياتهم إذ تتهدد على مدار الساعة من بوابة السياسة وعواصفها واستحقاقاتها.
 في حالات الغضب وتحت ضغوط التفجيرات والحوادث الامنية المتلاحقة واجراءات التفتيش والتأخير وارتفاع الاسعار الجنوني والعزلة والمهانة والمكابرة تفلت من افئدة العراقيين الكثير من الصرخات والاحتجاجات المدوية وقد تتخذ شكل افكار فانتازية او دعوات فوضوية فاقدة الصبر، وهي في مجملها نزيهة، انسانية، جارحة وصادقة في ذات الوقت.
  مراسل للبي بي سي كتب مرة ان شابا عراقيا عرض عليه منزل والده مقابل ان يسهل هروبه الى العالم الاخر، وحين اعتذر له عن ذلك، قال الشاب "تحيرونني ايها الاجانب. أي شئ يغريكم بهذه البلاد التعبانة" وطبعا لم يقتنع العراقي بان المناطق الساخنة في العالم(مثل العراق وافغانستان وغزة) هي الساحة المغرية بالنسبة للمراسلين والصحفيين.
 وحين تكون مغتربا وتعود الى بغداد تسمع الكثير من هذا الكلام. قال لي كاتب عرائض قرب وزارة الخارجية(كان يلوذ بظل ظهيرة ضيّق) بعد ان اعطيته جواز سفري الاجنبي ليسجل معلوماته على طلب تصديق "ماذا اتى بك الى هذه البلاد المحترقة؟" قلت له: "الوطن يا عم" فضحك مبحلقا بي كمن يبحلق في لامعقول، قال وعدم القناعة بادية على وجهه "العفو.." وفي دائرة تعود الى محافظة بغداد دعاني موظف مهذب الى كرسي ريثما تنتهي معاملتي، قال بعد ان عرف اني مغترب عائد: "كم تقدّر عمري؟" قلت "بالثلاثين" قال "هل تصدق اني لم اركب طيارة طوال حياتي.. اليس هذا ظلم؟" قلت لأخفف عليه: "وماذا في الامر. الكثير من الاوربيين لم يستقلوا طائرات في حياتهم".     
 الامر لا يتعلق بالوطنية، انها المرارة اليومية مما يحدث، وربما لاسباب تتعلق بالمفارقة المرة التي يعيشها العراقيون باسمرار: بين حالهم الملتبس والمتوتر، من جهة، واحوال الطبقة الجديدة التي تستحوذ على الامتيازات والفرص من جهة ثانية، فعلى احد جدران حي بغداد الجديدة ثمة كتابة بالدهان الازرق الصارخ تقول: "ذهب الطاغية الى جهنم.. فلا تعضوا (قد يقصدون تعظوا من عظة) باخلاقه" وقبالة الجدران وقف اثنان من الشبان يتهجأون الشعار فحاروا عند كلمة "فلا تعضوا " سأل الاول عن معناها فقال الثاني على الفور "يعني لا تعضّوا بعضكم بعضا" فرد الاول "خلي يعضون بعضهم، بس لا يعضونا". 
 ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“انه من المتعة ان تفعل المستحيل”.
والت ديزني

370
الهجمات الارهابية..
معاينة مقرّبة في ما حدث


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

 اكثر من بصمة يمكن رصدها على سطح الاحداث الامنية التي اندلعت منذ السادس من نيسان الجاري، وذلك قبل ان نسأل (وهو سؤال يشغل الملايين) ما اذا ستستمر (او تتصاعد) وتيرة التفجيرات، ام تتراجع في غضون الايام المقبلة.
 إذن صار لدينا مشغوليتان ملحتين، الاولى بصدد الجهات التي تقف وراء التفجيرات الاجرامية المتتالية (والمفاجئة) التي حصدت ما يزيد على مثتين من المدنيين وتركت المئات من المصابين والجرحى، والثانية، ما له صلة بالشوط الذي تقطعه هذه التفجيرات.
 قال لي جنرال عسكري: البصمات التي تركت على الاحداث فضحت الكثيرين وبينهم من انتفع من الاثار الناجمة عن التفجيرات. قلت: ان تحميل المنتفعين مسؤولية الجريمة هي اضعف مدارس التحقيق الجنائي في العالم، وفي العراق تفتح هذه النظرية باب جهنم على مصراعيها  فان الصراع السياسي بين فرقاء العملية السياسية، والسباق على السلطة والنفوذ، والتدافعات الجديدة التي افرزتها انتخابات مجالس المحافظات انتجت، جميعا، حالة من الاستقطاب تسمح بتسجيل أي هزة امنية كبيرة، مثل التفجيرات الاخيرة، كمؤامرة سياسية، او كتحد  لقيادة الحكومة وهيبتها ونفوذها، من جهة،  وكفرصة للقوى الاخرى التي تنظر بانزعاج وشكوى حيال استقواء تلك القيادة على شركائها في المشهد السياسي لتحريك شكاوي وتحفظات وشروط نائمة من جهة اخرى.
كان ذلك في لقاء اذاعي، ربما سمعه الكثيرون.
 هذا لا يمنع الاستدراك بالقول ان حماسة ردع الارهاب وملاحقته وتجفيف مصادره تتفاوت في التعبير عن نفسها بين مركز الحكومة واطراف اخرى(كما لو انها اعفت نفسها من هذا الواجب) وكانت هذه الثغرة، من بين الثغرات الرئيسية التي تسللت منها الهجمات الاخيرة، يضاف لها ضعف تحسب الحكومة حيال نتائج المعارك الهامشية التي كانت تخوضها في مجلس النواب ومع اقليم كردستان وفي مجال اعداد القوانين والاستحواذ على الحكومات المحلية، الامر الذي خلق جوا مشحونا بالتجاذبات وانعدام الثقة، وترك القيادة الحكومية وحيدة في مواجهة التحديات الامنية، فيما الحكمة  تفترض تعبئة الجميع لتكريس الانفراج الامني وحمايته من الاختراق.
 في صالة الاستقبال في فندق الرشيد جلس نائبان، احدهما من كتلة القائمة العراقية والآخر من الكتلة الصدرية، قال الاول: معلوماتنا، ان الذين قاموا بالتفجيرات رجال الاستخبارات الايرانية، قال الثاني: لا اعتقد، انهم الامريكان، ثم اشتد الجدل بينهما فيما كان الناطق الرسمي باسم خطة فرض القانون يدير، من قاعة اخرى، مؤتمرا صحفيا يحمل فيه المسؤولية حزب البعث المنحل مسؤولية التفجيرات. 
 وإذ تلبدت الاجواء السياسية بالاحتقان جراء تسريبات اوحت بتورط  منظمة بدر، العمود الفقري العسكري للمجلس الاسلامي، وشريك الحكومة الاقوى في اعمال التفجير، فقد عاشت بغداد العاصمة يومين من التوتر لا احد يعرف كيف جرى تصريفه وإرجاء عض الاصابع الى فترة اخرى، لكن الكواليس والمجالس بقيت تطحن في تلك الاتهامات بالرغم من نفيين اصدتهما تباعا كابينة رئيس الوزراء، وسرعان ما طغى حادث اعتقال المشتبه بانه ابو عمر البغدادي زعيم ما يسمى بدولة العراق الاسلامية وجرّ المشغولية بعيدا عن خطوط التماس، بل والى قلب السؤال الملح: ترى من استطاع ان يخرق  سلسلة طويلة من المفارز والاستحكامات والتفتيشات والممنوعات لارتكاب هذه الجرائم، وبقيت الاشارات الرسمية، من جانبها،  تدور كما تدور في دوامة.
 وقبل ذلك، فان الاسابيع الثلاثة الماضية، منذ تفجيرات الاحد الدامي، ضجت بالرسائل غير البريئة، وكثر المتبرعون في اطلاقها بالنيابة، لكن ثمة رسالة واحدة من بينها جميعا تقول: افتحوا الطريق، ذاهبون الى الطائفية.
 على انه من داخل المشهد الامني يمكن رصد الكثيرون من وقت مبكر ثلاث يصمات (متضامنة)على حادث التفجيرات، اولها، بصمة تنظيم القاعدة الذي اختص باعداد اشخاص محشوّين بالتبن والجهاد والرطانة، ليقتلوا انفسهم(وانفسهن) وسط مزدحمات المدنيين الامنين في طوابير العاطلين على مراكز التطوع وفي الكاظمية وديالى والموصل، فيما ضاقت حركة وامكانيات التنظيم، وسقطت الكثير من مفرداته الرئيسية وبؤره الثابتة بيد قوات الامن، ولم يكن له ان ينفذ تفجيرات منظمة وفي حلقات الاستقرار والرقابة (وبخاصة في العاصمة) من دون الاستعانة بجماعات اخرى تملك هوامش افضل في  الاندساس والحماية وتهريب معدات التفجير و(استضافة) الانتحاريين.
 البصمة الثانية، يمكن رصدها في فلول حزب النظام السابق المسلحة و"الجهادية" التي تختص بانشطة الدعاية والتهييج وبعض الاعمال المسلحة (اغتيالات. تفجيرات عن بعد. سيارات مفخخة) وقد تعرضت مجاميعها الى اختراقات من جانب اجهزة الحكومة، وتشرذمت، وبلغت من الهزال ما احوجها الى عمليات استعراضية (اختراقية) تعيد لها اعتبارها فوجدت ضمان ذلك في التنسيق(المرحلي) مع فلول القاعدة على الرغم مما بين الجانبين من صراع و(دم).
 البصمة الثالثة التي تُركت على حطام التفجيرات تعود الى عصابات الجريمة المنظمة وبقايا المليشيات المتمردة التي ضايقها الى حد كبير هامش الاستقرار وعودة الحياة المدنية (نسبيا) في الشارع، واستقواء قوات الامن وتنامي بعض مفاصلها الاختصاصية، إذ تحتفظ هذه العصابات بامكانيات ومواقع حساسة في اجهزة السلطة، ويتمتع بعضها بحمايات ونفوذ و"مستعمرات" وتقدم خدماتها اللوجستية والتنفيذية (مدفوعة الثمن) الى اية جهة تحتاجها، وبخاصة الجهات التي يهمها نشر الفوضى وتدمير مفاصل الامن وإضعاف شبكات الرصد الحكومية، وتشير اصابع المواطنين، وبعض  المسؤولين الامنيين الى حقائق مذهلة عن انشطة لافتة للجريمة المنظمة وشركائها سبقت الاحداث الامنية باسابيع، كما تشير تلك الاصابع الى اختفاء (وهروب) بعض اصحاب هذه البصمة غداة تفجيرات السادس من نيسان.
 الامر المهم، ان ثمة ما يشبه "تحالف المطلوبين" او ما يسمى "صفقات اسياد الحرب" قد تحقق على سطح الاحداث الامنية الاخيرة، وقد نفذوا، من خلال تنسيق معقد وطويل الامد، كما يبدو، جريمتهم في توقيتات ومناطق محسوبة في الاثر الذي تتركه، سياسيا وامنيا، في حين كانت الجهات الحكومية الامنية قد استرخت، ولم ترصد (في الاقل) مؤشرات هذا التنسيق المبكر.
 والمهم ايضا، ان هذه التحديات الامنية الجديدة كان ينبغي ان تحرك الجهود نحو اعادة تركيب ما حدث وتجعل منه درسا قابلا للبحث في افضل السبل لمنع استمرار التفجيرات.. هذا اذا كان اصحاب الشأن يعنيهم يهمهم ان يستخلصوا الدروس.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
"قد لا يحول الضمير  دون ارتكاب الخطيئة ، ولكنه يمنع من التمتع بها ".
 ثيودور درايزر


     

371
احتلال. تحرير. تغيير 


عبدالمنعم الاعسم 
m14mm@yahoo.com
 
مر التاسع من نيسان قبل ايام، كما مر في الاعوام السابقة، وسط مشاعر متضاربة بين الاحتفاء والخذلان والترقب والتامل، غير ان الجديد، هذا العام، يتمثل في خروج الجدل حول تسمية ما حدث في ذلك اليوم من الحدود الضيقة والهمس وبعض الاقنية السياسية والمقالات الى الهواء المفتوح، ما اذا كان تحريرا، او احتلالا، او تغييرا، او سقوطا للنطام، والجميع يقدمون البراهين، لكن ثمة خندقة واضحة في زوايا النظر، وثمة غلو في شطب الراي الاخر، وثمة نعرة واحدية في التوصيف السياسي، التي جميعا من الارث السياسي التقليدي.
 من زاوية موضوعية، وفي رأيي، فان جميع التوصيفات السياسية  اذا ما اخذت مستقلة عن بعضها صحيحة، فان ما حدث يوم التاسع من نيسان العام 2003 كان تحريرا بالمعنى العام لتحرير العراق من حكم عرف بالشمولية والفردية ونظام الحزب الواحد، وقد تمت عملية التحرير بحرب ضروس نظامية هزم على اثرها جيش النظام الحاكم، وحررت عاصمته ومدنه من بقايا النظام، وحدث، ما يحدث عادة في جميع احداث التحرير في العالم فراغ سياسي يتخذ شكله من تناسب القوى البديلة ومن ادارة وفلسفة المنتصرين.
 وما حدث في ذلك اليوم كان احتلالا نموذجيا بدلالة القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة ونص  القرار 1483 لسنة 2003 إذ وصف حال دولة العراق بانها محتلة  وسمّى القوات الاجنبية  بأنها (سلطة احتلال) لكن المجتمع الدولي ودولة الاحتلال اكدا معا ان الاحتلال مؤقت وانه سينتهي باعادة تاهيل النظام البديل وتشكيل حكومة منتخبة واستتباب الامن، ولم يكن، في رايي، ان يطول عمر الاحتلال كل هذه السنين لولا دورة العنف والنشاط الارهابي والاحتقانات الطائفية وانتشار المليشيات الطائفية المسلحة، في حين من السذاجة القول بان قوات الاحتلال انما دخلت العراق في رسالة اخلاقية إنقاذية مجردة.
 ويُعد التاسع من نيسان، ايضا، يوما للتغيير في العراق، بكل معاني الكلمة، فقد  جرى تصفية الطابع العام للسلطة والادارة وسلطة القرار تماما وضاقت (او انعدمت) الى ابعد الحدود فرص عودة النظام السابق، مع استدراك القول بانه ليس كل تغيير يتخذ مسار الصعود الايجابي والنوعي، ففي بعض حالات التغيير (كما هو الحال في العراق) ينقذف البلد فيه الى دوامة من الخيارات والصراعات، قد تطول او تقصر على وفق نضوج البديل السياسي للنظام السابق.
 وفي هذا اليوم سقط بشكل مدو ومثير، نظام سياسي بكل ادواته ومتعلقاته السياسية والادارية، فهو يوم السقوط، في ابسط توصيف له، سقوط الحاكم وهزيمته، وسقوط بغداد العاصمة بعد حرب ارضية وجوية غير متكافئة، والسقوط دائما(وفي هذا تكمن اشكالية التعريف) يتم في المعنى الفيزيائي(بشكليه الحر وغير الحر) من الاعلى الى الاسفل، لكن في الاحداث التاريخية ليس (الاعلى) هو الاكثر عدالة دائما، فان سقوط نظام الفاشية الالمانية يعد انتقالة نوعية في التاريخ الحديث لكبح نظم الحرب والقهر والاستعمار.
اعرف ان الامر اكثر من اختلاف اكاديمي حيال التسمية المناسبة ليوم التاسع من نيسان ، ولا اشك ان تحت اي تعريف منهج مسلح بالحجة.. الى وقت يتم فيه تقارب المناهج عند رحاب العقل.. وليس ذلك اليوم ببعيد.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
" كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة، وكلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية".
اينشتاين 

372
الفيلية..
صوت الضمير

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
لم تجتمع في شريحة عراقية حزمة من النكبات والكوارث والتعديات والتنكيلات مثلما تجتمع في الكرد الفيلية، ولم يلتصق عراقيون جرى تهميشهم والطعن بمواطنتهم وانتمائهم واجلوا عن منازلهم وبلداتهم كسبايا، مثلما التصق الكرد الفيلية بوطنهم العراق، وحافظوا عليه في افئدتهم على الرغم من الجور الذي تعرضوا له باسم الوطن، ولم يتشبث مواطنون عراقيون بقوانين بلادهم وامنها وسلامتها مثلما يتشبث الكرد الفيلية بها على الرغم من انهم ضحايا للتطبيقات القهرية للقوانين والعدالة والمواطنة في العراق، في عهد الدكتاتورية وفي عهد التغيير على حد سواء.
 اما القول الذي نسمعه ، ويسمعه الكرد الفيلية على مدار الساعة، من ان الشرائح العراقية جميعا قد عانت على يد النظام السابق الذي، حسبهم، لم ينصف احدا، ولم تفلت شريحة من عقابه، فهو قول يحمل نصف الحقيقة، ونصف الشفقة، ويستخدمه البعض من السياسيين واصحاب النفوذ في محاولة لتعويم قضية الكرد الفيلية الصارخة في قضايا اخرى، والادق، يستخدمونه معبرا للهروب من المسؤولية حيال جريمة مروعة لا يزال ضحاياها احياء ويدفعون ضريبتها الباهضةز
 والغريب ان الذين يشتمون ويدينون نظام صدام حسين، صباح مساء، يتمسكون بواحدة من افظع قراراته التي اصدرها من مجلس قيادة القورة برقم 666 في السابع من ايار 1980 ويقضي بتقنين وترخيص شطب مصالح وحقوق الفيلية، ويأذن بتصفية المئات من شبيبتهم الذين احتجزوا في اقبية الامن، والقاء الالاف منهم الى ما وراء الحدود في حالة من الوحشية، وعرضت الكثيرين منهم الى الموت واشرف نسائهم وبناتهم الى اعتداءات ذئاب النظام، في حملة منهجية للتطهير العرقي وقهر الانسان واذلاله، ما تحتفظ الامم المتحدة بواقع له جنب وقائع نادرة للوحشية ارتكبت في عصر التنوير.   
 تصوروا ان مطالب الكرد الفيلية، من ابناء واشقاء واقارب الضحايا قبلوا ان يخففوا صرختهم وويلاتهم حيال فقدان اعز ابنائهم ويجعلون منها عبارات مهذبة بالدعوة "الى الجدية لكشف حقيقة مصير المغيبين من ابنائنا وتشخيص مقابرهم ، فلا زال رفاة ومصير الكثير منهم مجهولاً ليومنا هذا" كما جاء في بيان نشر هذا الاسبوع، بل لم يشأوا ان يخدشوا اسماع مسؤولي الدولة ورعاة الدستور والقانون بمطاليبهم بالتكريم والاوسمة والامتيازات بل اكتفوا بتذكير المعنيين "بالنظر بعين العطف" الى حل مشكلات عقود الزواج  لابنائهم في المهجر (لا يعترف بها في العراق) وارجاع اموال وبيوت وعقارات الكورد الفيليين التي شغلها المستفيدون من مكرمات النظام البائد اسوة ببيوت وعقارات غيرهم التي استيعدت بالدبابات وفيالق الشرطة وانذارات الاجلاء خلال  72 ساعة ، وجاء في البيان "ندعوكم الى إعادة الممتلكات المنقولة وغير المنقولة التي سلبها منا النظام المباد دون وجه حق، وتأمين الحياة الكريمة لعائلاتنا أسوة ببقية العراقيين" 
 وفيما يتاجر ساسة ودعاة ومتحدرون من قبائل بجنسية العراق في سوق النخاسة ويرمونها في مزابل دول الجوار فان الكرد الفيلية يطالبون " بتعديل قانون الجنسية العراقية، وإلغاء أي تمييز بين المواطنين العراقيين، وإعادة حقوق المواطنة لنا".
اما المعنيون بالامر فاذن من طين.. واخرى من عجين.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" الناس المستيقظون، ليس لهم إلا عالم واحد. أما النائمون، فلكل واحد عالمه".
"هيراقليطس


373
ابعد من ازمة الصحوات


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

ازمة الصحوات التي اندلعت منذ اعتقال قائد صحوة الفضل عادل المشهداني الشهر الماضي اندست اخيرا(باتفاق اطرافها) تحت البساط، لتصبح عنوانا (او خلفية) لسلسلة من اللقاءات والمشاورات والعروض السياسية (وبعضها عض اصابع) فيما سقطت الخطوط الحمر وعلامات الطريق الايديولوجية بين متحاورين كانوا حتى يوم امس يتراشقون بالتهم والطعون عبر الشاشات الملونة، وطبعا، كانت نتائج انتخابات مجالس المحافظات، وتشكُل خارطة جديدة للنفوذ، تَرد بين سطر وآخر، بحيث بدا لمن تابع هذه الحمية السياسية الجديدة ان اللقاءات تجري بين ارصدة(او حجوم) بعيدا عن السياسة، وقريبا من صيغة منقحة للمحاصصة.
جزئيا، ثمة جانب ايجابي لمثل هذه اللقاءات(وحتى الاتفاقات) التي تعبر من فوق الخلافات السياسية (الدعوة والمطلك. او علاوي والصدر. او الجعفري والمجلس الاسلامي، مثلا) فهي تمد جسورا مقطوعة بين بعض اللاعبين في ساحة الصراع على السلطة والنفوذ، وربما تساعد في ترشيد الخطاب السياسي لفرقاء العملية السياسية، وتُسقط المحاذير من حول التواصل بين متشظيات المرحلة المريرة السابقة، كما انها (في هذا الجانب الجزئي) قد تشكل بداية للبحث عن سبل جديدة لتقوية عود عملية التغيير وتحسين سمعة الفئات السياسية العراقية لدى الراي العام وخارج العراق، إذ اضرت الصراعات الطائفية والفئوية والاداء المضطرب وشبهات الفساد بتلك السمعة الى حد كبير، وصار من المتعذر الوثوق باهلية القابضين على لعبة الصراع السياسي.
لكن الخشية من هذه التضاعيف تبرز في محاولات “تحزيب” الصحوات والاستقتال من اجل ضمها تحت خيمة سياسية متنفذة تحت طائل العقاب، وفي استخدام المرتبات والاجور في الضغط وليّ الاذرع وتحميل هذه الحركة فوق ما تحتمل كونها هبّة (او رد فعل) قبائلية على انتهاكات وجرائم “مجاهدي القاعدة” جنبا الى جنب مع محاولات استخدام رموز الصحوات في ترتيب الولاءات وتشكيل الخارطة العشائرية، والحوار مع فلول النظام السابق ممن تورط في جرائم بائنة (بعض الصحوات لا تزال ترفع اعلام صدام ولم تعترف بتغيير العلم العراقي).
والخشية الاخرى، الاكثر خطورة تتمثل في محاولة تكريس نتائج انتخابات مجالس المحافظات في الترتيبات السياسية المصيرية فوق ما تعنيه تلك النتائج من تطلع الملايين الى خدمات وفرص عمل واشاعة الامن والقانون ووقف الاهداء ومظاهر الفساد، وذلك عبر حكومات محلية منتخبة.
وغير هذه وتلك، فان التسريبات التي تترشح من الاجتماعات المغلقة لا تخفي نيات مبيتة لدى بعض المشاركين للالتفاف على الدستور(او اطلاق تفسيرات مغايرة لنصوصه) وبخاصة ما يتعلق باستحقاقات الدولة الاتحادية في العراق.
ها نحن دخلنا في الارض الملغومة، فهناك من يدس الالغام، وهناك من يدفع الاتعاب.. وهناك من يدفع الثمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“من يطارد عصفورين في وقت واحد، يفقدهما معا”.
حكمة صياد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

374
خمسة الغام على الطريق..
 وسادسها الغرور السياسي


عبدالمنعم الاعسم
 mm14mm@yahoo.com

الى انتخابات نهاية العام ثمة خمسة الغام على الطريق، قابلة للانفجار جميعا، او فرادى، لتعيد الاوضاع الى نقطة الصفر، الى الفوضى المفتوحة على جميع الاحتمالات، ومن دون نزع فتيلها لا يمكن ضمان العبور الى ضفاف السلام الاهلي والمضي في عملية التأسيس وانهاء بؤر التوتر واحتواء اخطار الانكفاء.
اقول: نزع فتيلها، ولا اتمادى في الدعوة الاخلاقية الى حلها، او في الاهابة الى معركة فاصلة تاريخية لتصويب المناهج والنيات، كما لا اغامر في الترويج الى معجزة تلقي بالكراهيات والمحاصصات وانعدام الثقة الى بالوعة الغيب، وتأخذ المشهد السياسي العراقي الى غرفة الانعاش، ومنها الى عهد البناء والشراكة والتعددية ودولة المواطنة الاتحادية في نهاية الامر، فان التمنيات لا تصنع حقائق على الارض إلا بارادات جمعية، لم تتحقق على اية حال، وان المعجزات كفت ان تطرق ابوابا يلازمها حراس لا يثقون ببعضهم.
المراقب الموضوعي لخارطة التشابك السياسي بين فرقاء العملية السياسية وفي اتجاهات الراي العام يلتقط خطايا واوهاما تتمثل في الاعتقاد بان رئيس الوزراء نوري المالكي (بفريقه ومبادراته) قادر على نزع فتيل(او إرجاء انفجار) هذه الالغام الخطيرة، وانه، إذ اجتاز بحكومته معابر العنف والاحتقان الطائفي بنجاحات بائنة، سيتمكن بنفس الادوات من الحفاظ على زخم تلك النجاحات، ثم إطفاء ازمات لا تقل شأنا وخطورة والحاحا من العنف والطائفية، لكن اكثر الاوهام والخطايا شيوعا (وخطورة) الاعتقاد بان إبعاد المالكي وفريقه من شانه ان يصلّب عود العملية السياسية ويؤهلها الى احتواء الحرائق النائمة.
وبعبارة اخرى فان، الطريق الى انتخابات نيابية انتقالية، تعددية، حاسمة، سيمر(حتما) بالازمات المستعصية التي باتت الغاما بموصوف الاثار الكارثية التي يمكن ان تنجم عنها، وان فريقا او تحالفا او خيارا، لوحده(اقول: لوحده) اعجز من ان ينهض بمثل هذه المهمة الثقيلة، وان سياسة إرجاء وترويض ودفع وتعليق وتقسيط ومطمطة الاستحقاقات والحلول (على طريقة: لكل حادث حديث) او الالتفاف عليها لن تجدي نفعا في ظل توازن(وهشاشة) القوى والحجوم، من جهة، وقدرة جميع القوى(والتحالفات) ذات العلاقة بالازمات- الالغام على المناورة وتخريب المشهد في حال تم شطبها من معادلات الشراكة.
وبعبارة اكثر دقة يمكن القول: ان نزع فتيل الالغام التي تقف على طريق(وتهدد) انتخابات نهاية العام، يمكن فقط في حال اعادة بناء الارادات المتنافرة وتكوين غرفة شراكة وطنية متوازنة والتخلي(طبعا) عن امتيازات ومكاسب وسياسات لي الاذرع، وعن كومة من الاوهام التي انتعشت في مجرى اعوام الفوضى.
البديل عن ذلك.. هل نتصور الجحيم؟.
***
الاعتقاد بان البدء بانسحاب القوات الامريكية من المدن العراقية اواخر حزيران المقبل(بعد 3 اشهر) سيتم من دون ان يترك مشكلات امنية على الارض لا يعدو عن كونه(في توصيف دقيق) تفاؤلا مفرطا، فهو يقفز من فوق الحقيقة التفصيلية بان هذا الانسحاب المنصوص عليه في الاتفاقية الثنائية العراقية الامريكية سيلحقه اعادة وجبة كبيرة من الجنود الامريكان الى بلادهم، ثم “وضع حد للعمليات القتالية الامريكية نهائيا بحلول آب من العام المقبل” وفق ما اعلنه الرئيس الامريكي باراك اوباما في منتصف شباط الماضي، في استباق له مغزاه لسحب القوات الامريكية بشكل كامل في نهاية عام 2011على ما تنص عليه الاتفاقية.
اما اللغم فيكمن في التحديات الامنية الكبيرة التي سيواجهها العراق عشية انتخابات نهاية العام مع ضعف حلقات التعبئة والمستلزمات الامنية والعسكرية لحماية البلاد لملء الفراغ الامني(التسليح، الكفاءة، المهنية) آخذا بالاعتبار بان المادة الرابعة من الاتفاقية الثنائية (الفقرة 4) تعترف للجانب الامريكي بحق سحب قواته من العراق متى ما شاء خارج التوقيتات المتفق عليها، ويبدو للمراقب ان اليوم الذي سيواجه به العراق مصيره لوحده يمكن ان يحل بشكل مفاجئ اذا تمت القراءة المتأنية للاشارات الموحية التي صار يطلقها الرئيس اوباما بكثافة في الاونة الاخيرة بصدد حرب العراق، وكذلك بعض الشكاوى التي ترد على لسان القادة العسكريين الامريكان من”اضطراب الاتصالات مع الجانب الامني العراقي في الاونة الاخيرة” كما اعلن الجنرال فوليسكي، قائد الفوج الثالث من فرقة الفرسان الأولى في شمال العراق.
الافراط في التفاؤل لا يضر حين يكون في ثنايا قراءة تحليلية اعلامية(او في نطاق الدعاية المضادة) لكنه يلحق افدح الاضرار عندما يكون في قلب السياسة الرسمية، وفي مركز قناعة اصحاب القرار والنفوذ، لانه يتجاهل الاخطار الامنية التي تشكلها انشطة قوى العنف والارهاب وفلول الجماعات المسلحة والميليشيات والجريمة المنظمة، فضلا عن التدخلات الخارجية التي جميعا ستدخل في سباق مع موعد خلو العراق من القوات الامريكية بغرض اشاعة الفوضى وتدمير مسيرة التحرير والتأهيل و”إملاء الفراغ” ومعاقبة الشعب العراقي.
لكن اخطر ما ينطوي عليه هذا التفاؤل الذي يبرز في تصريحات علنية ومنشورة على لسان ممثلي الحكومة والقوات الامنية يتمثل في توظيفه للدعاية السياسية والانتخابية والفئوية عن”الاقتدار” على احتواء نتائج هذا الانسحاب”برهاوة” فيما الامر يتطلب الارتقاء الى سياسة طوارئ وقائية تقوم على حزمة متكاملة من التدابير والاجراءات وتضافر الجهود والطاقات والارادات الوطنية من اجل تحويل هذا الانسحاب الى نقطة انطلاق لبناء العراق الجديد الذي يتكفل ابناؤه وقواه ومكوناته مسؤولية حمايته وبنائه.. وللاسف فان شيئا من ذلك لم يظهر حتى الآن في علائم تلتقطها العين.. والعين لا تخطئ.
***
من التبسيط (وبعض التبسيط متعمّد) القول بان قضية كركوك، المتنازع عليها، يمكن ان تُحل بعد ان يجري تدقيق سجلات النفوس والبطاقة التموينية ومقارنتها مع سجلات الناخبين وتوثيق نتائج الانتخابات السابقة واعادة توزيع السلطة المحلية تمهيدا لاجراء انتخابات مجلس المحافظة، وهي المهمة التي اوكلت الى لجنة برلمانية لتقصي الحقائق شكلت في ايلول من الماضي(وفق المادة 23 من قانون الانتخابات) من ممثلي الاطياف القومية السبع في المحافظة وتلكأ عملها شهورا طويلة على خلفية ازمة رئاسة البرلمان(اذا ما احسنا الظن بهذا التسبيب).
اقول من التبسيط القول ان هذه الاجراءات وحدها تنزع فتيل ازمة كركوك فان ست سنوات من الاحتقان القومي والتجاذب والتجييش ودورة العنف والارهاب وتعميق الحساسيات والخسائر الفادحة بالارواح، قد حول القضية الى بؤرة توتر تتجمع فيها سلسلة متشابكة من الازمات التي تضرب المشهد السياسي العراقي، وفي المقدمة منها العلاقة بين اقليم كردستان والحكومة المركزية.
وبكلمة موجزة، ان قضية كركوك تتصل مع معابر كثيرة بادق القضايا ذات الصلة بمســـتقبل العراق، وفي صدارة تلك المعابر ما يمكن تسميته بـ”اجواء الثقة” وبكلمة اكثر ايجازا، يمكن القول ان حل هذه القضية بالمراضاة والتوافق وبحسب روح الدستور والتوقيتــات الملزمة للجميع (إذ يلزم نظرة ولفتة وجهودا استثنائية) من شانه ان ينعش مفاصل اخرى في لوحة الازمات الملتهبة ويحسّن من فرص وادوات وشروط بناء الدولة العراقية الاتحادية.
اما الاخفاق في حلها فانه يعني، ببساطة، إعلان اخفــاق بناء هذه الدولة، وفي هذا يكمن التوصيف الدقيق لحالة كركوك كلغم، لا يقلل من اخطاره، ان ساعته تدق منذ حين ببطء على حد قول محلل دولي هو ديفيد اغناتيوس.
وبموازاة ذلك ينبغي النظر بجدية الى اتجاهات عمل بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) التي ينبغي ان تقدم مشورتها في حزيران المقبل، في وقت اصبح واضحا ان البعثة (كما يبدو) نأت عـــن فكرة تقسيم المحافظة الى اربع مناطق واقتربت من خيار اعادة تقاســـم المناصب الحكومية المحلية، لتبطـــل بذلك عنصرا واحدا من عناصر اللغم إذ تعكف البعثة، وكذلك لجنة تقصـــي الحقائق، على بحث افضل الطرق للتوفيـــق بين المادة 140 من الدستور التي تضع مسارات التطبيع والاحصاء والانتخابات وبين المادة 23 من قانون انتخابات مجالس المحافظات التي وضعت مسارات اخرى للتعامل مع قضية كركوك، والتوتر هنا يتركز في ما يعلنه ممثلون للجبهة التركمانية ببطلان المادة الدستورية ذات الصلة وعدم الاعتراف بها، والتمسك بالتقاسم المتساوي للسلطة، وبمعنى آخر شطب نتائج انتخابات المحافظة لعام 2005.
ولو ان الخلاف بقي في هذه الحدود، لامكن حصره وتقريب وجهات النظر حياله والاستعانة بما ستقدمه البعثة الدولية من نصائح، لكن ثمة خطوط من خارج الازمة تعمل على تغذية المكاره القومية وتديـــر لعبة التحذير مما تسميه “نيات الكرد” لابتلاع كركوك، بل اننا نطالع بالكثير من الاستغراب افادات تطلقها زعامات محلية تذهب الى عدم الاعتراف بنتائج التقارير والتحقيقات والمشورات والانتخابات ما لم تات متطابقة مع خيارها السياسي، وتلميحات اخرى تربط بين قانون النفط والغاز وملف العقود النفطية بقضية كركوك، وتصريحات ثالثة تســيّس ما لا ينبغي ان يُسيّس من الشؤون الادارية والخدمية والتعليمية وحتى المرورية في المدينة.
من هنا يظهر الافتراق بين مشروعين للدولة العراقية، المشروع الاتحادي والآخر القهري، ومن هنا ينطلق الحديث عن مسؤولية اصحاب القرار وكل معسكر التغيير والعملية السياسية بين ان يضعوا اقدامهم مع مشروع التسوية، او المشروع الفتيل.
***
اسماء كثيرة لحال العراقيين الذين فرضت عليهم احداث بلادهم السياسية والامنية والمعيشية ان يتركوا بلادهم فرضا واضطرارا (وليس سياحة او بحثا عن فرص عمل) الى مأوى آمن واكثر كرامة ما وراء الحدود، فهم المنفيون والمغتربون واللاجئون والهاربون والنازحون واهل الخارج، وطبعا، لكل صفة موصوف في خلفيات الاحداث وازمانها وحكوماتها واشكال الصراع التي كانت تتسبب في تحول هذا الحال الى ورم اجتماعي وسياسي خطير، يتفاعل يوما بعد يوم، ويرشح نفسه للانفجار إذا لم تضع الدولة خطة عملية وتعبوية وشاملة لمعالجته، وبالتعاون والتنسيق مع المجتمع الدولي وهيئاته والدول التي تستضيف وتأوي وتُجنّس العراقيين.
على ان خطورة هذا اللغم لا تتمثل فقط في عدد العراقيين الذين يعيشون في الخارج، بل وايضا في(اولا) النتائج الخطيرة لوجود قطاعات وكفاءات وطنية هائلة بعيدة عن مكانها الطبيعي في عملية تأهيل وبناء الوطن، وهي (او غالبيتها الساحقة) مستعدة لكي تلبي فروض العودة، و(ثانيا) في التشوّه الاجتماعي والسايكولوجي والثقافي الناتج عن حالة شعب ينشطر الى نصفين اعتباطيين، مقيم ومهاجر، تقاسما محن السياسة والصراعات، لكنهما يواجهان استعصاءات التواصل ونمو رابط المواطنة الطبيعي، وينبغي ان نستبق التحليل والاستطراد بالاشارة الى ما تعانيه دول في افريقيا واسيا من نتائج القطيعة الطويلة والقسرية بين مهاجريها وسكانها.
اما عدد افراد هذا “الشعب” العراقي الذي يقيم في الخارج فانه يتراوح بين اربعة ملايين في غالبية البيانات والتقديرات غير الرسمية، ومليونين ونصف في بيانات الحكومة العراقية والمنظمات الدولية، وحين نضيف له جيش النازحين عن بلداتهم الى بلدات اخرى، لاسباب طائفية، وقدر من قبل الجهات الرسمية بـ55 الف عائلة وقدرته منظمة شؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة بما يقارب المليون فان مخزون هذا اللغم من عناصر الانفجار يمكن ان يرصد بالعين المجردة كونه الفتيل الكامن والمستمر للاحتقان الطائفي، ويمكن ان يذهب المراقب الى ان جميع المؤتمرات والاهابات والنداءات والمبادرات الرسمية (وحتى الدولية) لم تقدم وصفة ناجعة لاحتواء هذا الخطر الداهم، وكانت النتائج متواضعة إذ عاد 195 الف لاجئ خارج العراق الى مناطق سكنهم، فيما رجع 25 ألف لاجئ كانوا نزحوا الى مناطق أخرى داخل العراق، بحسب تقرير المفوضية العليا للاجئين الذي رصد ايضا حقيقة “ان جهود انتاج هجرة معاكسة بدءاً من عام 2008 بعد تحسن الملف الأمني لم تنجح في حل مشكلة المهجرين بالكامل”.
ومما يزيد في تعقيد هذه المشكلة محاولات الحكومة إعفاء نفسها من مسؤولية الدراسة والمعالجة والحل باختزال قضية الملايين المغتربة الى شريحة من الكفاءات الوطنية من اصحاب الشهادات والخبرات الاكاديمية، وتنظيم المؤتمرات لها وتكريمها بالاوسمة والعبارات والولائم والمضافات والوعود، فيما يصطدم الكثير من العائدين من هذه الشريحة بحزام كونكريتي من المصاعب والقوانين والاجراءات والمراجعات المضنية، ويضطر بعضهم الى إعلان هزيمته امام دواعي العودة الى الوطن.
يكفي ان نمعن النظر في النداءات التي توجهها بين فترة واخرى الحكومة العراقية وحكومة اقليم كردستان الى الامم المتحدة ودول اللجوء بوجوب السعي الى وقف اجراءات اعادة عشرات الالوف من اللاجئين في اوربا قسرا الى بلادهم، وفي هذا يكمن “التركيب” الخطير للمشكلة حين يصبح العائد الى وطنه مشكلة في بلاده، وهذه واحدة من زوايا النظر الى ملف يتفاقم وينزلق الى لغم لا احد يعرف اين ستقع شظاياه.
***
ابرز الالغام التي تواجه انتخابات نهاية العام، وتهدد سلامتها ونزاهتها وشفافيتها(وحتى شرعيتها) يمكن ان نرصده في الارقام والمعطيات المفزعة لانتشار الفساد في مفاصل الدولة و(الاكثر بروزا) في مؤسساتها السياسية التي وفرت حماية خرسانية لبؤر التهريب والتعدي على المال العام والنصب وإفساد الجمهور والرشوة وتحدي القوانين والقضاء واللصوصية واسس الادارة والغيرة والاخلاق, حتى بات القول التالي سليما: لا امل بتراجع مناسيب الفساد في الدولة ما لم يُستأصل الفساد من المؤسسة السياسية واحزابها وزعاماتها، وما لم تكف هذه المؤسسة عن حماية اللصوص والفاسدين والمهربين من المساءلة والعدالة.
تكفي الاشارة الى تلك الصفقة(وهي أم المفاسد) التي تدور دواليبها في الكواليس الحكومية والبرلمانية تحت عنوان: “تستجوب وزيري استجوب وزيرك.. تسكت عن وزيري اسكت عن وزيرك” ويهتف نائب في هيئة النزاهة معلنا “أن الاصطفافات السياسية الموجودة بين الكتل الحاكمة هي التي تمنع من محاسبة المسؤولين” ويشير الى اسماء تلك الكتل على مسؤوليته، لكن اللافت ان المعنيين ابتلعوا التهمة محتمين ببعضهم رغم الصراعات المستفحلة بينهم، فيما يجري عقد صفقة اخرى عنوانها: “تمرر عقودي، أمرر عقودك” فتعلن هيئة النزاهة ببيان تحت ايدينا يقول “أن معظم العقود الضخمة، تُبرم دون السماح للجهات الرقابية، خصوصاً هيئة النزاهة بالاطلاع، أو التحقيق فيها”
والحاصل(اولا) ان خسائر البلاد بلغت 250 مليار دولار بحسب هيئة النزاهة التي قالت ايضا بما يشبه الفضيحة: “ ان الأمانة العامة لمجلس الوزراء البؤرة الأخطر للفساد، فيما احتلت وزارة الدفاع مرتبة متقدمة بين الوزارات في هذا المجال” وان العراق بحسب منظمة الشفافية العالمية يقف(انتباه) في المرتبة الثانية في سلم الدول الفاشلة، بعد السودان، والمتضمن تقييم الأوضاع في 177 دولة وفق معايير ومؤشرات اقتصادية واجتماعية وأمنية وغيرها.
والحاصل(ثانيا) ان تكرار الشكوى من انتشار الفساد(وبعض الشاكين فاسدين) ومطاعن التجاوزات المالية والاتهامات المتبادلة بين مواقع الادارة والاحزاب المتنفذة عن ارقام مالية فلكية مهدورة، ومع فيض التقارير الاعلامية عن لصوصية تطال قوت الشعب وثروته ومصالحه تكوّن ما يشبه المناعة لدى ابطال الفساد حيال اية محاولة للتحقيق، عدا عن مهارة في الاندساس في الجيوب المحرمة، الحساسة، المحمية (وبعضها دينية) ما يصعب اقتحام اسوارها، وصارت تمتلك آليات وقدرات هائلة للتلاعب في العملية الانتخابية وتزوير ارادة الشعب في نهاية المطاف.
والحاصل اخيرا، ان مستعمرات فساد اُنشئت في محافظات موسرة او حدودية تقوم بانتاج اجيال جديدة من النصابين والحبربشية، وتنتج ثقافة سوداء، على مدار الساعة، تُعدّ اعمال الفساد بوصفها شطارة او رزق.. ورزقكم في الارض وما توعدون.
***
اذا ما استعرضنا دوامة قضية التعديلات على الدستور وفق المادة 142 والتجاذبات بين فرقاء لجنة الـ26 التي شكلت في منتصف نوفمبر 2006 من ممثلي الكيانات، فاننا سنكون حيال مشهد من الكوميديا السوداء، إذ يصبح الدستور نفسه عبئا على العملية السياسية واللجنة (المحاصصة) عبئا على الدستور، وتصبح التعديلات في ذاتها عبئا على اللجنة، واللجنة عبئا على التعديلات، ويقف الحوار عاجزا عن التوصل الى حل باستثناء الحكمة التي برعنا فيها: إرجاء الحلول الى المستقبل، وبمعنى ما، ارجاء الحريق الى الوقت المناسب.
  ثم ندخل في نفق معتم حين نعرف (من احد اعضاء اللجنة)  ان التعديلات الدستورية المطلوبة "لن تتم في وقتها المحدد لأن آلية التعديل في الدستور تجعل من المستحيل اجراء التعديلات المطلوبة ولاسيما ان بعض القوى السياسية(يقول) بدأت باضافة تعديلات جديدة على الدستور مؤكدا هذا الامر كامر مشروع" ثم حين نعرف ان الاتجاه العام في اللجنة هو ترحيل قضية تعديل الدستور الى مجلس النواب المقبل على الرغم من توصل اللجنة الى صياغة ما يزيد على 58 بالمائة من التعديلات المقترحة، وان الجزء المتبقي من المقترحات يتمثل في المادة 140 الخاصـة بالمناطق المتنازع عليها والمادة 41 الخاصة بالاحوال الشخصية وصلاحيات رئيس الجمهورية والصلاحيات بين الاقاليم والحكومة الاتحادية وتقسيم الثروات النفطية "حيث أن الاتفاق على التعديلات يجب أن يكون دفـعة واحدة بحسب نص الدستور".
 الدستور ليس نصا مقدسا، والتعديلات تحصل في جميع الدساتير ، لكن ليس قبل التمسك بالدستور وحمايته من العبث، وسد الطرق امام محاولات تكييفه لكي يكون مفصلا على كيان او زعامة او اهواء، ومنع التدخلات والاملاءات والتاولات من قبل هيئات او جهات لا مكان لسلطتها في الدستور، والتزام المرجعية القانونية الاتحادية في تفسير النصوص والتحكيم في الاختلافات، وليس اخطر على الدستور العراقي موضع الجدل من القول اننا شعب لم يتعوّد الحياة الدستورية، والحق (إذا شئنا الصراحة) ان البعض من شرائح الطبقة السياسية الجديدة لا يريد ان يلزم نفسه بدستور يمنع التمدد خارج المسموح.   
 وفي هذه الدوامة يتمثل اللغم الايل للانفجار ، فان الجميع (كما يبدو) يتمسكون بالدستور، وان الجميع يريدون تعديلات تحّسن مواقعهم وسلطتهم وامتيازاتهم، والبعض يدس في ثنايا التحفظات والمقترحات امنية خفية بتدمير اسس الدولة الاتحادية، وفي هذا يكمن اللغم الايل للانفجار لأن الطريق سيكون مبلطا نحو العودة الى نقطة الصفر- الجحيم.
***
تلك هي الالغام التي تمد رؤوسها من على الطريق الى انتخابات نهاية العام، غير ان ثمة لغم تزيد خطورته على مخاطر جميع الالغام ويتمثل في الغرور السياسي الذي يضرب الطبقة السياسية والعديد من زعاماتها ويعبر عن نفسه في التقليل من خطورة الالغام التي تعترض مسيرة التاسيس.. وفي الرقص فوق الالغام، احيانا.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ كلنا كالقمر .. له جانب مظلم”.
حكمة

375

رسالة ابن لادن.. وحروبه

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

الكلمة الصوتية المنسوبة الى اسامة بن لادن، عبر قناة الجزيرة، تحتاج الى قراءة متأنية وتشريحية ومسؤولة، عدا عن الحاجة الى المرور على الوظيفة التي اخذتها الفضائية القطرية على نفسها، من غير رجعة، بالتزام المشروع الارهابي حتى آخر خرقة من اسماله المتهرئة.
اهمية الرسالة ليس في دعوة صاحبها الى “تحرير العراق” كسبيل الى “تحرير فلسطين” وهو ما جرى التركيز عليه من قبل الاعلام والمعلقين، بل في التركيز على خط الاعتدال في السياسة العربية إذ اخذ يستدرج اليه الكثير من حلفاء (وانصاف حلفاء) للقاعدة، والكثير الكثير ممن راهنوا على دخول المنطقة عصر “الجهاد” الذي سيقيم دولة الخلافة، قبل ان يكتشفوا ان طاحونة القاعدة تسببت في خراب البلاد وانتهت الى اكبر اساءة للاسلام حين جعلت من المسلم امام العالم عنصرا تحت طائلة الشبهة بوصفه انتحاريا حتى تثبت براءته.
الجديد في رسالة ابن لادن ان القاعدة انتقلت الى خط الدفاع الاخير حين فتحت جبهة كانت تقاتل منها بمواجهة العالم، وليس الحملة على حماس الفلسطينية، حصرا، سوى عنوان المأزق الذي تنكفئ اليه حروب القاعدة بعد ان كانت تنشر تهديداتها في القارات الخمس ولم تسلم من حرائقها وبصماتها الدموية عاصمة من عواصم العالم، وذلك وسط احتفاء ورضى وتصفيق قوى المنطقة الرمادية في الشارع السياسي العربي، من قوميين واسلاميين وحتى يساريين.   
جاءت الرسالة في وقت حساس لفرقاء الصراع في المنطقة، فوجد فيها الجميع مخرجا الى النفاذ من الحراجة، فتبرأوا من القاعدة وابن لادن والتطرف الديني، بل ان البعض من دعاة التجييش والجهاد و”اليوم اليوم وليس غدا” اطلقوا رواية مسلية تؤكد بان القاعدة لا وجود لها على ارض الواقع وان ابن لادن قتل منذ زمن بعيد، وان اعلان تأسيس “دولة العراق الاسلامية” كان من خيال المخابرات الامريكية وان مقتل الزرقاوي وظهور انتحاريات في العراق لا تعدو عن كونها سيناريوهات اُعدت في هوليود هدفها تشويه سمعة العرب والمسلمين المسالمين بل ورسل السلام.       
يدفع ابن لادن في رسالته الصوتية تحرير فلسطين الى مرحلة لاحقة، لم يأت اوانها، فيما المهم تحرير العراق ثم تحرير الاردن، ثم يتحدث عن جهاد قاس بعد ان”بدا واضحا أن بعض حكام العرب تواطؤوا مع التحالف الصليبي الصهيوني على أهلنا، وهم من تسميهم الولايات المتحدة بدول الاعتدال” وذلك  في محاولة لتحضير اذهان فلول “الخلايا النائمة” الى حرب تحرير فانتازية قد تصل الى الاندلس، وسط اكثر عبارات الخذلان فصاحة.
والآن، لنمعن النظر، عسكريا، في خطة تقوم على تحرير العراق، ثم تحرير الاردن، وبعدها الوصول الى اسرائيل لالقائها في البحر، من قبل جيش مهزوم في العراق ومسدودة عليه طرق الاردن وقد شطب فكرة تحرير فلسطين منذ زمن بعيد بانتظار اقامة الخلافة الاسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد: 
“الناس المستيقظون، ليس لهم إلا عالم واحد. أما النائمون، فلكل واحد عالمه”.                               
هيراقليطس


376
الحوار مع البعثيين..
تأشيرات منهجية


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

خرج الحديث عن حوار حكومة نوري المالكي واصحاب العملية السياسية في العراق مع البعثيين العراقيين من داخل كواليس وهمسات وسطور هامشية في تقارير اخبارية متباعدة الى تصريحات رسمية، ازدادت حرارتها بعد لقاءات اجراها مؤخرا، ممثلون لقيادة قطر العراق لحزب البعث، مع ان الاخير لا صلة له بالبعث الذي قاده صدام حسين ولا بفترة حكم الحزب الواحد في العراق، بل انه كان معارضا للنظام السابق وواحدا من ابرز فصائل المعارضة العراقية التي استلمت سلطة ما بعد رحيل صدام، لكن تنظيم قيادة قطر العراق نأى عن المشاركة في هذه السلطة ولم ينخرط في العملية السياسية لاسباب عديدة منها، ولعل ابرزها، التزام موقف سوريا الرسمي مما حدث في العراق.
ويلاحظ، هنا، ان الكثير من التقارير والتعليقات تخلط عن جهالة، او عن عمد، بين الحوار المعلن مع "قطر العراق" والحوار غير المعلن مع بعث صدام في شقيه، الدوري والاحمد، فيما ينبغي التذكير ان الحوار بين زعامات العملية السياسية وقادة وممثلي "الجناح السوري" لم تنقطع يوما، وقد كنت شاهدا على واقعتين في الاقل للقاءات جرت في كل من بغداد ودمشق، فضلا عما نعرفه عن دور كان يضطلع به في بغداد الشهيد الدكتور احمد الموسوي داعية حقوق الانسان والقيادي في تنظيم قطر العراق طوال سنوات ما بعد سقوط النظام حتى اختطافه، وتصفيته، من قبل قوى الارهاب والجريمة في مارس 2006.
إذن فان المعنيين بالحوار هم بعثيو نظام الحزب الواحد الموزعون على مركزين (الدوري والاحمد) يدعيان ميراث الحزب وتفويض صدام وحق قيادته الشرعية، في وقت نزف الحزب الغالبية الساحقة من اعضائه وبدا انه فقد الاثر في المعادلة السياسية العراقية(حتى بين معارضي الاحتلال والعملية السياسية) بخاصة بعد ان وضع نفسه كجزء من مشروع العنف والارهاب في العراق وتمسك بمنهجه السابق، وكان سيضيع في متاهة الاغتراب عما يحدث في العراق لولا اخطاء وقعت فيها السلطة والحكومة العراقية وبعض الميليشيات وقوى اخرى اخطأت في حسابات تعاملها مع ملف البعثيين، وارتكبت خطأ شنيعا في إخراج محاكمات صدام وفي طريقة اعدامه.
ومنذ بداية عهد العملية السياسية كان التعامل مع البعثيين يقوم على قاعدتين، الاولى، تحريم نشاط حزب البعث تحت طائلة القانون، والثانية، التمييز بين اعضاء الحزب، من ارتكب منهم مخالفات واعمال قتل وتنكيل، ومن انتسب الى الحزب لدواعي الكسب او الحماية او الاذعان ولم يكونوا موضع شكوى، غير ان التطبيقات على الارض اتسمت بالانتقائية والفوضى والرشوة والمحسوبية الامر الذي حال دون تطمين مئات الالوف من اعضاء حزب البعث حيال نيات الحكومات المتعاقبة واجهزتها، وقد ساهمت الميليشيات الدينية في اثارة فزع شرائح كثيرة ممن كانت على هامش النظام السابق واضطرتها الى النزوح عن البلاد واضطرت بعضها الى الانخراط في اعمال العنف.
 وفي الحديث عن الحوار مع البعثيين يمكن للمراقب ان يرصد خطأ منهجيا تنزلق فيه عديد من الكتابات (وتعنيه بعض الفئات المشاركة في العملية السياسية عن وعي ) ويتلخص في الاعتقاد بان المصالحة الوطنية تعني المصالحة مع فلول حزب البعث الحاكم سابقا، وان استرضاء البعثيين هو المدخل الى انهاء العنف وطي صفحات الاحتراب الداخلي، فيما المصالحة الوطنية، فكرة وخيارا ونهجا، اوسع واكبر من الحوار مع البعثيين واسترضائهم، هذا فضلا عن ان مركزي حزب البعث يعلنان، بمناسبة ومن دون مناسبة، انهما غير معنيين بالتصالح مع معسكر العملية السياسية، وان الجهة الوحيدة التي يمكن محاورتها هي الادارة الامريكية، كما اُعلن في تصريح منسوب الى عزة الدوري مؤخرا.
بمقابل هذا، يحاول البعض من التيار الآخر من اصحاب النفوذ في العملية السياسية، فتح باب المصالحة مع البعثيين من مداخل مذلة بوصفهم”عائدون الى الصف الوطني” او “توابون” وهي سياسة انتقامية كان صدام حسين يستخدمها في التعامل مع معارضين فضلوا مهادنة السلطة، كما تتعارض في مضومنها مع مبدأ المواطنة وقيم المساواة والكرامة، وقد اصطدم هذا المنهج، كما اصطدم سابقه، بحقيقة ان المصالحة الوطنية بقيت بحاجة ماسة الى منظومة افكار وقيم واجراءات ومساند قانونية تمنع تصريفها الى مشيئات  فئوية  وشخصية وضيقة الافق، ويحسن ان نسجل هنا ان وزارة الحوار الوطني قدمت اكثر من مرة تصورات منهجية لخيار المصالحة والحوار مع معارضي العملية السياسية لكن الامر، كما يبدو، خرج منها الى كواليس وتجاذبات ومحاولات استقطاب وتمدد في قلب السلطة والاكثرية الخاكمة ، وانتهى الامر الى تصريحات متضاربة بدت اقرب الى الالغاز منها الى المنهج.
البعثيون المعنيون هم فصيل واحد من فصائل المعارضة الحالية للعملية السياسية والوجود العسكري الاجنبي، وقد ارسيت قاعدة صحيحة وسليمة ومنسجمة مع القوانين والعهود الدولية في التعامل معهم(وبصرف النظر عن التطبيقات واثر قانون الاجتثاث) تقوم على العفو عن جميع منتسبي وكوادر وقيادات حزب البعث باستثناء الذين ارتكبوا الجرائم الانسانية تحت طائلة القانون، واحسب، ان القفز من فوق هذه القاعدة، الآن، من شأنه الاخلال بقيم العدالة، لانه لا يعني سوى شيئا واحدا هو تكريم اولئك الذين امروا ونفذوا عن طواعية المذابح المروعة والجرائم البشعة ضد المواطنين الآمنين، مع ما يتركه هذا التكريم (حتى من غير اعتذار المتورطين) من اختلال في بنية الحقوق المدنية في مرحلة تتطلع فيها الملايين الى اقامة دولة مدنية.. دولة القانون والعدالة.
ثمة في جنوب افريقيا تجربة رائدة سجلت باسم “لجنة الحقيقة والمصالحة” وحققت نتائج باهرة في طي صفحات الماضي العنصري البغيض، إذ لم يفلت من عقاب العدالة احد، ولعل آخر صفحات هذه التجربة نقرأها في النداء الذي وجهه مؤخرا سبعة الآف من سجناء الحق العام الذين تورطوا في مجازر ضد المدنيين والمعارضين اعلنوا فيه اعتذارهم للضحايا واسرهم، وابدوا الرغبة في خدمة دولة القانون والمؤسسات التي تضمن للجميع حق التفكير والاعتقاد والانتماء.
نعم، ثمة بين بعثيي عهد صدام حسين الكثير من الايادي البيضاء، والكثير الكثير ممن لم يكونوا راضين عن ذلك العهد، وكل حوار لا يميز بين هذا الطيف الكبير وبين تلك الحفنة من القتلة والجلادين واللصوص سيكون بمثابة مضيعة لجهود المصالحة.. وتدنيسا لردائها البرئ.
لننظر الان في هذه الحقيقة: بعد حوالي ست سنوات لم يفتح ملف الجرائم والمخالفات والشكاوى ضد اعضاء حزب البعث الذين تحملوا المسؤولية الفردية عن خطايا النظام السابق وبخاصة المسؤولين الامنيين وادوات القمع والفساد واهدار الثروة الوطنية والسمسرة والتعدي على الاعراض والمقامات، واولئك الذين نفذوا (بابداع) حملات معاقبة الشعب وإذلاله وسرقة قوته، وغيرهم ممن ارتكبوا اعمال اغتيال مروعة طالت معارضين عراقيين في الخارج وحتى معارضين عربا، فيما اندسّ هؤلاء المطلوبون للعقاب القانوني بين فلول حزب البعث، وتصدر الكثير منهم واجهات الحزب واعلامه، وتنظيماته المسلحة على وجه الخصوص.
ولئن كان من الطبيعي ان تُشكل هيئة(او هيئات) تحقيقية جنائية للنظر في هذا الملف الخطير لتمييز جمهرة حزب البعث الغفيرة غير المتورطة في تعديات وجرائم عن هذه الحفنة الاجرامية فقد كان قانون هيئة اجتثاث البعث الذي عهدت له مهمة ترسيم صفات ومسؤوليات اعضاء حزب صدام موضع تجاذب بين فرقاء العملية السياسية ورفض من بعضها وطعون من مراجع حقوق الانسان، ولم ينجح التعديل على القانون وتلطيف عنوان الهيئة باسم المساءلة والعدالة في تفعيل مقررات محاسبة الجناة من البعثيين.
وفي غضون هذه السنوات بقيت معلقة الحاجة الى تشريع جديد يعالج حق البعثيين في الانخراط بالعمل السياسي، باسم الحزب او تحت اسم آخر، حتى حل اليوم الذي  التقى فيه(قبل اسبوعين) مسؤولون كبار(علنا) بوفد يمثل “قيادة قطر العراق” لحزب البعث لتبرز اشكالية(وقل ازمة) الصفة البعثية التي يجري التعامل معها على ضوء القوانين والالتزامات، والحدود التي يسمح بالتحرك فيها، على خلفية حقيقة ثقيلة بان هذه اللقاءات تمت مع فصيل بعثي كان احد ابرز فصائل المعارضة العراقية لنظام صدام حسين، الامر الذي اثار تساؤلا تفصيليا عما اذا سيأتي اليوم الذي يسمح فيه لهذا الفريق من حزب البعث ان يعمل في ظل الشرعية السياسية من دون ان يصطدم  بقانون اجتثاث البعث ووريثه المساءلة والعدالة.
وعلى الرغم من ان الحوار مع البعثيين، في عمومه، لا يشكل إلا مفصلا واحدا من مفاصل الحوار لتحقيق المصالحة الوطنية، فان ثمة البعض من المؤشرات غير المريحة تكشف لنا ان البعض من الساسة يصرون على النظر الى قضية المصالحة الوطنية ومشتقات الحوار مع المعارضين من خلال نظرة فئوية وعلى قاعدة “تجميع النقاط” والمكاسب الضيقة لتوسيع دائرة النفوذ، وتهميش الاخرين، الامر الذي يفسر تلك الحمية بعقد مؤتمرات استعراضية لمعارضين او ممثلي عشائر من غير خطة تعالج اشكاليات الحوار والبعد القانوني، او برنامج يقرب من طي صفحات الماضي وينزع فتيل التوتر بين ابناء الشعب الواحد، ويطمئن الملايين الى ان عهدا من الشراكة قد بدأ فعلا.. وان لا عودة الى الوراء.
يومها قال نلسون مانديلا لجمهرة من ورثة نظام الابارثيد: المصالحة تتحقق فقط حين تتبرأون من ذلك العهد البغيض.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ أهم شيء في دروس التاريخ والتي لا نعيرها عادة الكثير من الاهتمام هي دروس التاريخ”.
ألدوس هكسلي




377
الحوار مع البعثيين..
تأشيرات منهجية


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

خرج الحديث عن حوار حكومة نوري المالكي واصحاب العملية السياسية في العراق مع البعثيين العراقيين من داخل كواليس وهمسات وسطور هامشية في تقارير اخبارية متباعدة الى تصريحات رسمية، ازدادت حرارتها بعد لقاءات اجراها مؤخرا، ممثلون لقيادة قطر العراق لحزب البعث، مع ان الاخير لا صلة له بالبعث الذي قاده صدام حسين ولا بفترة حكم الحزب الواحد في العراق، بل انه كان معارضا للنظام السابق وواحدا من ابرز فصائل المعارضة العراقية التي استلمت سلطة ما بعد رحيل صدام، لكن تنظيم قيادة قطر العراق نأى عن المشاركة في هذه السلطة ولم ينخرط في العملية السياسية لاسباب عديدة منها، ولعل ابرزها، التزام موقف سوريا الرسمي مما حدث في العراق.
ويلاحظ، هنا، ان الكثير من التقارير والتعليقات تخلط عن جهالة، او عن عمد، بين الحوار المعلن مع "قطر العراق" والحوار غير المعلن مع بعث صدام في شقيه، الدوري والاحمد، فيما ينبغي التذكير ان الحوار بين زعامات العملية السياسية وقادة وممثلي "الجناح السوري" لم تنقطع يوما، وقد كنت شاهدا على واقعتين في الاقل للقاءات جرت في كل من بغداد ودمشق، فضلا عما نعرفه عن دور كان يضطلع به في بغداد الشهيد الدكتور احمد الموسوي داعية حقوق الانسان والقيادي في تنظيم قطر العراق طوال سنوات ما بعد سقوط النظام حتى اختطافه، وتصفيته، من قبل قوى الارهاب والجريمة في مارس 2006.
إذن فان المعنيين بالحوار هم بعثيو نظام الحزب الواحد الموزعون على مركزين (الدوري والاحمد) يدعيان ميراث الحزب وتفويض صدام وحق قيادته الشرعية، في وقت نزف الحزب الغالبية الساحقة من اعضائه وبدا انه فقد الاثر في المعادلة السياسية العراقية(حتى بين معارضي الاحتلال والعملية السياسية) بخاصة بعد ان وضع نفسه كجزء من مشروع العنف والارهاب في العراق وتمسك بمنهجه السابق، وكان سيضيع في متاهة الاغتراب عما يحدث في العراق لولا اخطاء وقعت فيها السلطة والحكومة العراقية وبعض الميليشيات وقوى اخرى اخطأت في حسابات تعاملها مع ملف البعثيين، وارتكبت خطأ شنيعا في إخراج محاكمات صدام وفي طريقة اعدامه.
ومنذ بداية عهد العملية السياسية كان التعامل مع البعثيين يقوم على قاعدتين، الاولى، تحريم نشاط حزب البعث تحت طائلة القانون، والثانية، التمييز بين اعضاء الحزب، من ارتكب منهم مخالفات واعمال قتل وتنكيل، ومن انتسب الى الحزب لدواعي الكسب او الحماية او الاذعان ولم يكونوا موضع شكوى، غير ان التطبيقات على الارض اتسمت بالانتقائية والفوضى والرشوة والمحسوبية الامر الذي حال دون تطمين مئات الالوف من اعضاء حزب البعث حيال نيات الحكومات المتعاقبة واجهزتها، وقد ساهمت الميليشيات الدينية في اثارة فزع شرائح كثيرة ممن كانت على هامش النظام السابق واضطرتها الى النزوح عن البلاد واضطرت بعضها الى الانخراط في اعمال العنف.
 وفي الحديث عن الحوار مع البعثيين يمكن للمراقب ان يرصد خطأ منهجيا تنزلق فيه عديد من الكتابات (وتعنيه بعض الفئات المشاركة في العملية السياسية عن وعي ) ويتلخص في الاعتقاد بان المصالحة الوطنية تعني المصالحة مع فلول حزب البعث الحاكم سابقا، وان استرضاء البعثيين هو المدخل الى انهاء العنف وطي صفحات الاحتراب الداخلي، فيما المصالحة الوطنية، فكرة وخيارا ونهجا، اوسع واكبر من الحوار مع البعثيين واسترضائهم، هذا فضلا عن ان مركزي حزب البعث يعلنان، بمناسبة ومن دون مناسبة، انهما غير معنيين بالتصالح مع معسكر العملية السياسية، وان الجهة الوحيدة التي يمكن محاورتها هي الادارة الامريكية، كما اُعلن في تصريح منسوب الى عزة الدوري مؤخرا.
بمقابل هذا، يحاول البعض من التيار الآخر من اصحاب النفوذ في العملية السياسية، فتح باب المصالحة مع البعثيين من مداخل مذلة بوصفهم”عائدون الى الصف الوطني” او “توابون” وهي سياسة انتقامية كان صدام حسين يستخدمها في التعامل مع معارضين فضلوا مهادنة السلطة، كما تتعارض في مضومنها مع مبدأ المواطنة وقيم المساواة والكرامة، وقد اصطدم هذا المنهج، كما اصطدم سابقه، بحقيقة ان المصالحة الوطنية بقيت بحاجة ماسة الى منظومة افكار وقيم واجراءات ومساند قانونية تمنع تصريفها الى مشيئات  فئوية  وشخصية وضيقة الافق، ويحسن ان نسجل هنا ان وزارة الحوار الوطني قدمت اكثر من مرة تصورات منهجية لخيار المصالحة والحوار مع معارضي العملية السياسية لكن الامر، كما يبدو، خرج منها الى كواليس وتجاذبات ومحاولات استقطاب وتمدد في قلب السلطة والاكثرية الخاكمة ، وانتهى الامر الى تصريحات متضاربة بدت اقرب الى الالغاز منها الى المنهج.
البعثيون المعنيون هم فصيل واحد من فصائل المعارضة الحالية للعملية السياسية والوجود العسكري الاجنبي، وقد ارسيت قاعدة صحيحة وسليمة ومنسجمة مع القوانين والعهود الدولية في التعامل معهم(وبصرف النظر عن التطبيقات واثر قانون الاجتثاث) تقوم على العفو عن جميع منتسبي وكوادر وقيادات حزب البعث باستثناء الذين ارتكبوا الجرائم الانسانية تحت طائلة القانون، واحسب، ان القفز من فوق هذه القاعدة، الآن، من شأنه الاخلال بقيم العدالة، لانه لا يعني سوى شيئا واحدا هو تكريم اولئك الذين امروا ونفذوا عن طواعية المذابح المروعة والجرائم البشعة ضد المواطنين الآمنين، مع ما يتركه هذا التكريم (حتى من غير اعتذار المتورطين) من اختلال في بنية الحقوق المدنية في مرحلة تتطلع فيها الملايين الى اقامة دولة مدنية.. دولة القانون والعدالة.
ثمة في جنوب افريقيا تجربة رائدة سجلت باسم “لجنة الحقيقة والمصالحة” وحققت نتائج باهرة في طي صفحات الماضي العنصري البغيض، إذ لم يفلت من عقاب العدالة احد، ولعل آخر صفحات هذه التجربة نقرأها في النداء الذي وجهه مؤخرا سبعة الآف من سجناء الحق العام الذين تورطوا في مجازر ضد المدنيين والمعارضين اعلنوا فيه اعتذارهم للضحايا واسرهم، وابدوا الرغبة في خدمة دولة القانون والمؤسسات التي تضمن للجميع حق التفكير والاعتقاد والانتماء.
نعم، ثمة بين بعثيي عهد صدام حسين الكثير من الايادي البيضاء، والكثير الكثير ممن لم يكونوا راضين عن ذلك العهد، وكل حوار لا يميز بين هذا الطيف الكبير وبين تلك الحفنة من القتلة والجلادين واللصوص سيكون بمثابة مضيعة لجهود المصالحة.. وتدنيسا لردائها البرئ.
لننظر الان في هذه الحقيقة: بعد حوالي ست سنوات لم يفتح ملف الجرائم والمخالفات والشكاوى ضد اعضاء حزب البعث الذين تحملوا المسؤولية الفردية عن خطايا النظام السابق وبخاصة المسؤولين الامنيين وادوات القمع والفساد واهدار الثروة الوطنية والسمسرة والتعدي على الاعراض والمقامات، واولئك الذين نفذوا (بابداع) حملات معاقبة الشعب وإذلاله وسرقة قوته، وغيرهم ممن ارتكبوا اعمال اغتيال مروعة طالت معارضين عراقيين في الخارج وحتى معارضين عربا، فيما اندسّ هؤلاء المطلوبون للعقاب القانوني بين فلول حزب البعث، وتصدر الكثير منهم واجهات الحزب واعلامه، وتنظيماته المسلحة على وجه الخصوص.
ولئن كان من الطبيعي ان تُشكل هيئة(او هيئات) تحقيقية جنائية للنظر في هذا الملف الخطير لتمييز جمهرة حزب البعث الغفيرة غير المتورطة في تعديات وجرائم عن هذه الحفنة الاجرامية فقد كان قانون هيئة اجتثاث البعث الذي عهدت له مهمة ترسيم صفات ومسؤوليات اعضاء حزب صدام موضع تجاذب بين فرقاء العملية السياسية ورفض من بعضها وطعون من مراجع حقوق الانسان، ولم ينجح التعديل على القانون وتلطيف عنوان الهيئة باسم المساءلة والعدالة في تفعيل مقررات محاسبة الجناة من البعثيين.
وفي غضون هذه السنوات بقيت معلقة الحاجة الى تشريع جديد يعالج حق البعثيين في الانخراط بالعمل السياسي، باسم الحزب او تحت اسم آخر، حتى حل اليوم الذي  التقى فيه(قبل اسبوعين) مسؤولون كبار(علنا) بوفد يمثل “قيادة قطر العراق” لحزب البعث لتبرز اشكالية(وقل ازمة) الصفة البعثية التي يجري التعامل معها على ضوء القوانين والالتزامات، والحدود التي يسمح بالتحرك فيها، على خلفية حقيقة ثقيلة بان هذه اللقاءات تمت مع فصيل بعثي كان احد ابرز فصائل المعارضة العراقية لنظام صدام حسين، الامر الذي اثار تساؤلا تفصيليا عما اذا سيأتي اليوم الذي يسمح فيه لهذا الفريق من حزب البعث ان يعمل في ظل الشرعية السياسية من دون ان يصطدم  بقانون اجتثاث البعث ووريثه المساءلة والعدالة.
وعلى الرغم من ان الحوار مع البعثيين، في عمومه، لا يشكل إلا مفصلا واحدا من مفاصل الحوار لتحقيق المصالحة الوطنية، فان ثمة البعض من المؤشرات غير المريحة تكشف لنا ان البعض من الساسة يصرون على النظر الى قضية المصالحة الوطنية ومشتقات الحوار مع المعارضين من خلال نظرة فئوية وعلى قاعدة “تجميع النقاط” والمكاسب الضيقة لتوسيع دائرة النفوذ، وتهميش الاخرين، الامر الذي يفسر تلك الحمية بعقد مؤتمرات استعراضية لمعارضين او ممثلي عشائر من غير خطة تعالج اشكاليات الحوار والبعد القانوني، او برنامج يقرب من طي صفحات الماضي وينزع فتيل التوتر بين ابناء الشعب الواحد، ويطمئن الملايين الى ان عهدا من الشراكة قد بدأ فعلا.. وان لا عودة الى الوراء.
يومها قال نلسون مانديلا لجمهرة من ورثة نظام الابارثيد: المصالحة تتحقق فقط حين تتبرأون من ذلك العهد البغيض.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ أهم شيء في دروس التاريخ والتي لا نعيرها عادة الكثير من الاهتمام هي دروس التاريخ”.
ألدوس هكسلي




378
وداعا للخدمات.. اهلا  بالتقشف


عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

تريد التصريحات التي تُطلق من كابينة رئيس الوزراء بصدد خفض موازنة العام 2009 من قبل مجلس النواب ان تقول لنا: لا عتب علينا في عدم ترجمة وعودنا بتلبية احتياجات المواطنين من خدمات، فان الحق يقع على مَن خفّض ميزانية الدولة، ولم يضع الاموال الكافية في تصرف الحكومة لكي تعالج مشاكل (وقل كوارث) شحة الكهرباء والبطالة وتردي الاحوال الصحية والتعليمية والسكنية.
وبمعنى آخر، فان علينا ان نودع آمالنا الكبيرة بدخول فصل صيف اقل معاناة مما سبقه، وان نشد حزام  التقشف حتى آخر ثقب من ثقوبه، بل ان علينا (وهذا اخطر ما في تلك التصريحات) ان ننتظر دورة جديدة من العنف بوصفها النتيجة المباشرة لتقليص (تقليص!) الهوامش المالية لحركة السلطة التنفيذية، وإلا ما معنى هذا الكلام الذي جاء على لسان دولة رئيس الوزراء بقوله لمدراء الفضائيات العراقية منذ يومين: “إن خفض البرلمان موازنة 2009 يهدد جهود تعزيز الأمن عن طريق إعادة الإعمار وتوفير فرص العمل”.
نحتاج طبعا الى التذكير بان الموازنة وضعت بيد الحكومة اكثر من 58 مليار دولار، وفيها وجوه كثيرة لاعادة الاعمار والتنمية ودعم مجالس المحافظات، لكن تصريحات المقربين من كابينة رئيس الوزراء اثارت فزعنا وهي تقدم مسبقات عن شهور صعبة تنتظرنا “لا تتحمل الحكومة مسؤوليتها بل مجلس النواب”.
وحين نتملى المعلومات جيدا نعرف ان التخفيض شمل، كما صرح قيادي في حزب رئيس الوزراء “معظم الدوائر والقطاعات التابعة لمكتب رئيس الوزراء مثل: مخصصات مشروع المصالحة الوطنية، ومكتب القائد العام للقوات المسلحة، ومكتب مستشارية الامن الوطني، الى شبكة الاعلام العراقي” وقال ان ذلك التقليص “قيّد عمل الحكومة” واضاف (انتباه) ان” خفض الموازنة قد يعرقل جهود زيادة إمدادات الكهرباء عن طريق عقود توريد ضخمة وانتشال الزراعة العراقية، ثاني أكبر قطاعات الاقتصاد، من حالتها المزرية” وقال مقرب آخر، في نفس التقرير والسياق ان خفض الميزانية وحرمان الحكومة من حق “إصدار سندات إلا بموافقة البرلمان” تعتبر “محاولة لمعاقبة الشعب العراقي” (النهار-8/3) .
يبدو ان المطلوب منا هو ان نعطي الحق لشكوى الحكومة، وان نقبل (عن طيب خاطر) التخلي عن الخدمات الانسانية التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر، وان نبقى عاطلين عن العمل وان نكف عن اللجاجة بالمطالبة بتحسين شبكات الكهرباء وبمستشفيات ومجمعات سكنية وفرص عمل، وهو حصتنا من العقوبات التي، كما يقال، فرضها مجلس النواب على الحكومة، وتفرضها، كما نقول، الحكومة على الشعب، ويفرضها الشعب، اخيرا، على نفسه.. بانتظار الفرج.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“تمر العواصف بسلام على الأشجار التي تلين، وتقتلع الأشجار التي تعاند”.
فرانكلين
ـــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


379
8 آذار..
نساء بمواجهة نساء

 
عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com
 
لم يعد جنس الذكور مصدر إذلال النساء، ولم تعد الدعوة الى كبح المرأة لكي تعود الى عصر الإماء والحريم حِكرا على رجال يتخندقون في امتيازات متوارثة عن عصور انقرضت منذ زمن بعيد، فان نساء (وبينهن كاتبات) يتصدرن الآن عاصفة غبارٍ صفراء تستهدف إغلاق منافذ الاوكسجين على النساء ومنعهن من التحرر، وذهبت احداهن (عائشة مخلد من المغرب) حد الدعوة الى تحريم الاستماع الى اغنية فولدن اوراس التي يقول فيها “ يأتي الطفل عندما يرغب الأبوان ويكون بينهما حب” بزعم انها لا تعترف بمشيئة الخالق في إنجاب الاطفال.
وعندما قضى مفتي المملكة العربية السعودية ابن جبرين بسفر المرأة لوحدها الى خارج البلاد لكن شرط ان تكون مثل اي طرد بريدي، قيد المراقبة والحظر، ولزوم الاستلام والتسليم، ايدته نساء كثيرات، من الخليج حتى من باكستان، وقالت عن ذلك براء احمد (كاتبة اسلامية مهاجرة) ان الفتوى “اسكتت الاصوات النسائية الداعية الى التحلل” وسخرت الكاتبة من فتوى كاتب السيرة والحديث الحسن البصري الذي يجيز سفر المرأة من دون محرم “اذا كان الطريق آمنا”.
وحين كانت الكاتبة البنغلاديشية المتنورة والمهاجرة تسليمة نسرين تتحدث في آب من العام 2007 عن روايتها (العار) وتوقع عليها في ناد ثقافي بمدينة حيدر اباد جنوب الهند (اكثرية مسلمة) هاجمتها سيول من المصلين الغاضبين بينهم نساء اقدمت واحدة منهن على (عضّ) الكاتبة التي تدعو الى وقف إذلال وقتل المرأة الاسيوية ومعاملتها كانسانة وام. 
والامر اللافت ان الحركات الدينية المتطرفة المناهضة لتحرر النساء بدأت منذ سنوات تقدم الى واجهة الحملة الدعائية الغاشمة نساء محشوات بالرطانة والنصوص الظلامية لتسفيه افكار المساواة والتحرر والدفاع عن الحقوق المدنية للنساء، وتُعدّ أسمى جل حسن الباكستانية المهاجرة الى اوربا واحدة من تلك النسوة اللواتي تحدرن من مصانع تفريخ العنف ضد المرأة، وقد اعلنت مؤخرا  “أن الدعوة الى تحرير المرأة إنما هي دعوة للعبودية المذلة، عبودية للشهرة الزائفة، عبودية للمال وللأفكار الهدامة، للغثاء” وقالت عن النساء المناضلات من اجل مساواة المرأة بالرجل انهن “أقلقهن حجاب المرأة المسلمة وتعدد الزوجات”.
وتحتج كاتبة خليجية (اسماء الرويشد) على القوانين والاتفاقيات الدولية التي شرعت في صالح المرأة وحمايتها من العنف وترى انه “من أخطر” تلك الاتفاقيات والمواثيق الاتفاقية المسماة “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المعروفة باتفاقية السيداو” وتزعم انها بالضد من التشريعات الاسلامية. اما سهاد عكيلة (من لبنان) فقد اطلقت شعارات التجييش ضد نساء المدينة اللواتي يتنقلن بمفردهن"من دون حجاب" بين المتاجر، وكتبت تقول”تحرر البلد، وتحرر وسط بيروت التجاري، بكل ما تعنيه الكلمة، من احتلالٍ سياسي، ليرزح من جديد تحت وطأة الاحتلال اللاأخلاقيّ! حتى حار أهل العفّة والحياء أين يتّجهون بأبصارهم!”.
ان ثقافة العنف الذكورية والاحتكارية.. ثقافة الردة.. تعبر عن نفسها الآن في ابشع صورة حين تتولى المرأة مهمة تلطيف وتحبيب إذلال بني جنسها.. باسم العفة الزائفة.
 
ــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ الشمعة لا تخسر شيئاً إذا أشعلت شمعة أخرى.”. 
           قول مأثور
 
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

380
هزيمة قوى الديمقراطية العراقية
 ومسؤولية الشيوعيين

 
عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

كنت في قلب معمعة انتخابات مجالس المحافظات، مشاركا ومراقبا ومعلقا إعلاميا، وكنت على مقربة من (وقل شاهدا على) دوائر الصراع الشرس الذي رافق التنافس الانتخابي، بين الكيانات، وفي داخلها، وفي مجرى تحولات الراي العام، والاستقطابات بين الزعامات السياسية، واستدركُ القول: انني لا اعد هذا امتيازا على غيري ممن تابع وعرف وكتب، كما لا ازعم باني كنت اعرف جميع معلومات الكواليس، وخفايا الصفقات، واعترف اني لم اكن لاقدر تقديرا كافيا خارطة خارطة النتائج او اتنبأ بحظوظ اللاعبين في ساحة التنافس، ولو اني اعطيت مؤشرات عامة (في سلسلة مقالاتي بالاتحاد) كانت متطابقة مع هذه النتائج، وكنت على سبيل المثال قد اكدت على ان تشتت قوى الديمقراطية على طيف واسع من القوائم سيحول دون ان تصبح قوة مؤثرة في المعادلة السياسية لما قبل انتخابات النيابية بعد حوالي عام.
 فضلا عن ذلك، فقد كنت مشاركا في إعلام (ومتعاطفا مع) حملات قوى الديمقراطية وقوائمها وشخصياتها، وبخاصة قائمة (مدنيون) والحزب الشيوعي امتدادا في التأييد والمتابعة الى قوائم مثال الالوسي واخاء الموصل والتحالف الكردستاني والبراك والى الكثير من الديمقراطيين المستقلين المرشحين على قوائم اخرى، مثل العراقية والكفاءات والمؤتمر الوطني والدستوري والكوادر المستقلة، وغيرها.
 وإذ تلزم الموضوعية تسمية الاشياء باسمائها الحقيقية فان نتائج انتخابات مجالس المحافظات سجلت هزيمة واضحة، بكل المعاني لقوى الديمقراطية وتركت في الشارع الديمقراطي إحباطات بائنة لا يلطّف من صورتها المؤسفة ما يقال عن ظلم القاسم الانتخابي الذي لم يسمح لمن حصل على ما معدله 2 بالمائة من الاصوات للوصول الى المجالس، كما لن يلطّف من عبارة الهزيمة الكم الهائل من التجاوزات التي رافقت السباق الانتخابي والفرص الاعلامية والدعائية الاسطورية التي كانت تحت خدمة احزاب (الاكثرية) التي تتقاسم السلطة الفعلية وبعض جماعات خارجة من عباءة الحكم وهمشت من خزائنه وامتيازاته، وجماعات اخرى فُتحت لها خطوط تمويل خارجية لتتحول الى فضائيات واذاعات تبث على مدار الساعة.
 اقول، الهزيمة لا اسم آخر لها حين يقف المحلل حيال الحقيقة التالية: ان قوى الديمقراطية بقوائمها المختلفة وشخصياتها لم تعبر(منفردة) حاجز الاثنين بالمائة، وقد هدرت اكثر من مليون صوت واضاعت فرصة ثمينة في استثمار تراجع الشانتاج الطائفي، وتدهور سمعة التحزب الديني والشرائح التي التي ادارت دفة الاعمار والفساد، وكان التدبير الوحيد والعملي الذي سيحسن من مواقعها هو ائتلاف كبير يتسع لجميع الديمقراطيين او غالبية عناوينهم ، وكنت اجيب عن استفسار لداعية ديمقراطية صديق يقيم في الخارج عن امكانيات توحيد قوى التيار الديمقراطي في تحالف واسع، كتبت له بالنص:”ان اجواء الاستقطاب لا تسمح في الدعوة الى مثل هذا التحالف قبل الانتخابات، لكن مثل هذه الدعوة ستطرح بالتاكيد بعد الانتخابات حين يحل الخذلان بالجميع”.
الغريب انه في اجواء الاستقطاب والانخراط في الحملة الانتخابية لم تظهر، لا من الاحزاب والفئات ولا من الشخصيات الديمقراطية النافذة اية دعوة او مناشدة او اطروحة جدية وعملية ومنهجية لجهة توحيد قوى الديمقراطية في قائمة واحدة، وبقيت اوهام الفوز والريبة وتصغير البعض ونعرات الوصاية والاختلافات الهامشية سيدة الموقف.. لشديد الاسف.

***
 لا يصح طبعا، (وهذا امر مهم) ان تستخدم عيوب انتخابات مجالس المحافظات في دس هزيمة قوى الديمقراطية تحت البساط، او اختزالها الى شكاوى وتظلمات، وبمعنى آخر، ليس من نفع في تضخيم العلل الخارجية(قانون الانتخاب. التجاوزات) لهذه الهزيمة وتبسيط العلل الداخلية ذات الصلة بادارات الحملة وسياساتها وبتشتت قوى الديمقراطية واجواء الريبة بين اطيافها، ولا يصح ان تكون مدعاة للرضى عن النفس، باعتبار ان الظروف كانت اصعب، وان الاموال كانت اقوى.
السؤال الذي هتف في خاطر جميع المراقبين الموضوعيين منذ الساعات الاولى لاعلان النتائج هو: لماذا بقيت قوى الديمقراطية وائتلافها الوحيد (مدنيون) تتحرك في وسط مديني متعلم ولم تستطع الوصول الى(وكسب) القوى التصويتية الشعبية الغفيرة الحاسمة والمؤثرة في صناديق الاقتراع وهي الملايين من ابناء الريف (وامتدادهم في المدن) ومن جمهور واتباع (وموالي)الطوائف والعشائر، والمهمشين والنساء والشباب الذين كانوا ميدانا مفتوحا لنشاط وتضليل ورشى وتخويف وارهاب قوائم موسرة ومتنفذة واخرى متطرفة وقبلية وحتى قريبة من فلول النظام السابق؟.
ومرة اخرى لا ينبغي مرمطة هذا السؤال وإذلاله باعتباره متسولا على باب اغنياء بخلاء كانوا قد ظنوا عليه بفتات بائسة من الاصوات، بل المطلوب مراجعة شجاعة في مستويين، الاول، مسؤولية النفس عن الهزيمة، والثاني، مسؤولية المجموع عن التشتت والتشرذم. وفي كل الاحوال فان ثمة حاجة ماسة استباقية للقول في محاولة سريعة (قد نعود اليها) لتشريح الوسط الذي اعطى اصواته الى مرشحي قوى الديمقراطية بان ثمة خميرة شعبية من متنوري المدن وطلائع من الشباب والنساء ونخب المثقفين قد سجلوا انفسهم على معسكر الديمقراطية وصوتوا لقوائم وشخصيات من انصار هذا المعسكر.
وتفترض الامانة القول ان الحزب الشيوعي العراقي كان الابرز والاكثر ثقلا في هذا الطيف، واحسب (وعلى مسؤوليتي) انه خاض هذه الانتخابات بكل نٌبل وفروسية وكفاية اعلامية ودعائية، وقدم نشطاء الحزب وانصاره امثلة رائدة في ترجمة قيم التنافس الديمقراطي الى الواقع بالرغم من امكانياته المادية البسيطة وهوامش حركته المحدودة ، ومما له مغزى هنا، ان لافتات وملصقات الحزب وبعض فعالياته الدعائية كانت موضع احترام المتنافسين ولم تتعرض، كما تعرضت غالبية ملصقات القوائم المتنافسة، الى التمزيق والتعدي والمخاشنة، ويحتمل الامر تفسيران، الاول ان قائمة الحزب وحلفائه لم تهدد حظوظ الاحزاب المتنفذة في الفوز ولم يتضح انها تقضم من نفوذ واصوات تلك القوائم، والثاني، انها لم تستخدم شعارات مثيرة او استفزازية او انتقادية او تحريضية، وربما كان التفسيران، معا، واردان بنسب متفاوتة.
ومن زاوية معينة تبرز الحقيقة التالية: ان مسؤولية تسبيب الهزيمة (والحيلوله دون تكرارها) تقع، في المقام الاول على عاتق كل من تعز عليه قضية الديمقراطية في العراق ولا ينبغي إغلاق باب المناقشة الموضوعية حيال ذلك عند حد باستثناء حدود التشهير وتصفيات الحساب، وتقع، في المقام الثاني على عاتق الحزب الشيوعي.. وسنضع نقاطا على هذا الطريق.

***
لا شك ان الانظار تتجه الى الحزب الشيوعي العراقي لمعرفة رأيه في ما يعتبر اخفاقا ثقيلا تعرض له في انتخابات مجالس المحافظات، وبانتظار هذا الرأي الجرئ والمقنع والمؤول والصريح  فانه لا يصح التشكيك بنيات الاصوات التي تدعو الى المراجعة والتغيير والاصلاح(وحتى الى مؤتمر جديد) باستثناء(اولا) تلك الاصوات التي تنطلق من تصفيات حسابات سياسية وكيدية باتت معروفة لمن تابع تاريخ الحزب ودوره في الحياة السياسية و(ثانيا) المطالبين بالتغيير من اجل التغيير.
 على ان هذه المقدمة بحاجة الى بعض التأشيرات:
ففي الاخفاقات السياسية تبادر الاحزاب الى مراجعة ادواتها وسياساتها وكفاءة قياداتها وكوادرها، ويهدد هذه المراجعة عادة خطران: ان تكون شكلية لا تمس جوهر اسباب الاخفاق، وان لا يجري الاعتراف بالاخفاق اصلا، فتنتفي الحاجة الى المراجعة.
 وبديهي، ومن الضروري، ان تستقيم المراجعة على منهج بائن  وان تسفر عن تغييرات(اجراءات اصلاحية جذرية وملموسة) تعزز من ارادة العمل لكسب الجولة المقبلة، وبقدر اشاعة جو الصراحة والنقد (وممارسة النقد الذاتي) فان الاحزاب تقترب من عبور الاثار السايكولوجية والسياسية للهزيمة، حتى لو تطلب الامر تغييرات(وحتى تشطيبات) في المواقع والشعارات، ففي ذلك، إذا ما تم وفق ضوابط الديمقراطية الداخلية (وليس بالتآمر او بالانقلابات أو الانشقاقات العقيمة) قوة اضافية للاحزاب ولهيبتها السياسية.
 لا شك ان بيد الحزب الشيوعي خميرة من النشطاء والمناصرين، وهي مستعدة لحمايته وملتصقة بمسيرته، ومن اللافت انها لا تملك، الآن، اجابة شافيةعلى سؤال محرج لا مفرّ منه: كيف لحزب سياسي دخل عامه الخامس والسبعين ولعب دورا كبيرا في تاريخ العراق السياسي وتسيّد الشارع لسنوات عاصفة، وعمّد اسمه وسمعته بالوف الشهداء  وبالكفاح المسلح ضد الدكتاتورية ان يتخلف امام  صناديق الانتخابات الى حد ان احزابا فتية وتجمعات بلا هوية وزعامات لا تملك غير اسمائها وتشكيلات جرى تلفيقها على عجالة تجاوزته في عدد الاصوات؟. اقول: كيف؟.
 وإذ تتسع الدعوات للمراجعة والتغيير والتدقيق والتقويم (في مجال القيادات والسياسة والاداء) فان التضايق والتبرم والريبة حيال ذلك لا يعني إلا شيئا واحدا هو العجز عن الارتقاء بالعمل الميداني الى المستوى المطلوب.
 واحسب(وهذا رأي شخصي) ان سياسة الحزب الشيوعي العراقي، في عمومها (اقول في عمومها) واقعية وسليمة وتأخذ بالاعتبار حقائق المرحلة واملاءاتها، لكن هذا، حسبي، لا يكفي لكي تجني هذه السياسة مكاسب تُذكر، ففي علم السياسة ثمة حقيقة معروفة تفيد ما يلي: ليس دائما السياسة الصحيحة تقود الى نتائج ايجابية فان المشكلة هنا تتوقف، اولا، على البشر الذين ينفذون تلك السياسة، واستيعابهم لها، وقدرتهم على معرفة الواقع والتحولات الجارية في صفوف المجتمع والرأي العام بما فيها الهواجس، وثانيا، على الاساليب التي يجري توظيفها في خدمة التصورات السياسية السليمة. 
 على ان سؤال التغيير والمراجعة، لا يخص الحزب الشيوعي العراقي وحده، بل - اذا شئنا الدقة- يخص جميع الاحزاب التي يهمها الانضمام الى المستقبل، في وقت تشق الملايين، وإنْ ببطء، عصا الطاعة على الاطر والشعارات والتكايا البالية.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" جوهر الإدارة هو قوة التنبؤ قبل حدوث الأشياء "
هنري فابول

381

الموازنة..
حبر على ورق


عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

في المقدمة، ليس اخطر على الوعود الجميلة من ان تصبح حبرا على ورق، وقد برعنا في هذا الفن الى ابعد الحدود، واخذنا عنه براءة اختراع دولية.. وها نحن نجرب هذه البراعة في موضوع موازنة العام الفين وتسعة.
الموازنة العامة للدول هي ارقام وسياسة. الارقام، شأن الخبراء الذين يعكفون على رصد واقع حال العائدات والثروات وتوزيعها والتغييرات التي ستتعرض اليها، فيما السياسة توظف تلك الارقام في خدمة المجتمع وتضع الموازنة في اولويات قد لا يراها الخبراء، لكن في كل الاحوال، لا يمكن(ومن الخطورة) إخضاع الموازنات والعائدات الى تقديرات غيبية، شخصية (ذاتية) في الارقام، والى مصالح فئوية حزبية في السياسية.
ويبدو اننا وقعنا في الحفرتين معا، ونحن نضع اللمسات النهائية لموازنة العام الحالي (وقد اجتزنا شهرين منه) فلا الارقام حميدة، ولا السياسة رشيدة، الامر الذي يفسر هذا التجاذب العجيب في المؤسسة التشريعية إذ يدور في ما يشبه بالرطانة، ونتابع ما يشبه بمسرحية للعبث.
اليوم هو الثلاثاء، وطبقا لاعلان نائب رئيس البرلمان (طبعا البرلمان يناقش اخطر قرار من غير رئيس دستوري منتخب) فان اقرار الموازنة اليوم لا مفر منه وهو، حسبه “امرا نهائيا وباتا” اما سبب التأخير فيعود الى الاختلافات بين اللجنتين المالية والاقتصادية “حول العجز والرواتب” غير ان تصريحات الساسة والنصوص المنشورة عن الموازنة تزيد اللوحة اضطرابا وغموضا، وتلقي على التعهد بإمرار الميزانية ظلالا من الشك، وقد يستبق المراقب النتائج التي تسفر عنها جلسة الثلاثاء، فيرى انها ستنضم الى الجلسات السابقة في مشهد التناحر السياسي بين فرقاء اخضعوا  كل الملفات، واخطرها مساسا بحياة الملايين وتاهيل البلد، الى اعتبارات الصراع الفئوي، واحسب ان هذا الغول سيلتهم بقية مشوار العملية السياسية حتى انتخابات نهاية العام.
هذا من جانب، اما الجانب الآخر فان الواضح مما نشر عن هذه الموازنة، انها لم تاخذ بعين الاعتبار المعايير التي وضعتها المنظمات الانسانية المتخصصة (اوكسفام) بالنسبة للدول غير الصناعية (النامية) واصبحت مرشدا للغالبية الساحقة من تلك الدول حين يتعلق الامر بوضع ميزانييات تنموية واقعية ، وذكّرت المنظمة بها نهاية العام الماضي، وقالت “إن الدول النامية تعهدت في إطار أهداف الالفية التي تبنتها الأمم المتحدة “بخفض الى النصف، الفقر والمجاعة وبإتاحة فرصة التعليم للجميع وبتحسين معايير الصحة وبوضع حد لانتشار الأمراض الخطيرة مثل الايدز  وبالحد من التدهور البيئي بحلول 2015”. وجددت المطالبة بالتزام توصيات الامم المتحدة بتخصيص عشرين بالمائة من الميزانية العامة للخدمات الاجتماعية الاساسية” لكن المنظمة الانسانية لاحظت في الاخير “بان هذه الوعود بقيت حبراً على ورق”.
يبدو ان غيرنا ينافسوننا على اختزال الوعود الى حبر على ورق.

ــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
“ما احوجنا الى رأس كبير ولسان قصير”.
بونابرت



     

382
قضية الدايني..
ابعد من رفع الحصانة


عبد المنعم الاعسم
mm14mm@live.com

لا ينبغي التساهل، في دولة القانون المفترضة، مع النائب محمد الدايني المشتبه في علاقته بتفجير مجلس النواب قبل عامين، وينبغي(اولا) ان استعجل القول انه لا ينبغي التساهل في هذه الدولة ايضا مع نواب كانوا تحت الشبهة في قضايا اخرى وجرت لفلفة اجراءات العدالة بحقهم، ويحفظ المواطنون اسماءهم ووقائع جناياتهم واسماء ضحاياهم، ايضا.
وينبغي (ثانيا) ان لا نقبل تعليق الاجراءات ضد الدايني بانتظار فتح ملفات تورط النواب الاخرين في قضايا مشابهة، فان لكل قضية ظروفها وابطالها وضحاياها، من جهة، وان جريمة تفجير مجلس النواب استفزت مشاعر الملايين من العراقيين واعتبرت بمثابة تطاول على رمز وطني له مكانته الدستورية والسياسية.
وينبغي (ثالثا) تحريم قيام الاحزاب المتنفذة بتغطية خطايا وزرائها او المسؤولين التابعين لها في حال تورطهم باعمال لا قانونية، والكف عن السكوت على هذا العبث الذي يختصر الدولة الى عشيرة ويحول الدستور الى خرقة مسح، ويجعل من الاحزاب حمايات للجريمة والمجرمين.
و(رابعا) ينبغي وقف هذا العبث الذي نسمعه (منذ يومين)على هيئة تهديد من قبل نواب بالكشف عن ملفات فساد خافية في حال الاصرار على تطبيق القانون في حق الدايني، والتساؤل المشروع هنا: لماذا يتستر المهدِدون على معلومات خطيرة تصل الى مقام الجرائم، وهل يجهلون ماذا يعني هذا التستر في قواعد العدالة؟.
بعد هذا، فان المراقب الموضوعي يسجل اضطراب تعامل السلطات والجهات الحكومية المعنية حيال قضية الدايني، وكان الامر بحاجة الى مزيد من الانضباط والتروي والتحسب القانوني حتى لا تدخل الاجراءات التنفيذية والرادعة في عتمة المكائد السياسية وتصفيات الحساب، خاصة وان تهمة تورط النائب الدايني في تفجير مجلس النواب تقوم على مصدر واحد هو اعتراف المعتقلين لدى السلطات من حماياته، مما يجعل القضية عرضة للجدل والشكوك، ولم تكن مثل هذه الواقعة(اعترافات المعتقلين) الوحيدة في سجل حوادث التفجيرات واعمال الاختطاف والاغتيال، كما لم يكن الدايني اسما وحيدا ممن تحيطه شبهات العلاقة باعمال العنف والخروج على القانون والجريمة السياسية المنكرة.
وبعد هذا ايضا، ماذا يعني هروب نائب(هو ممثل للشعب) عن عيون الشرطة؟ وامتناعه عن المثول امام قضاة التحقيق؟ واذا كان لا يأتمن على نفسه من التنكيل، فكيف عقد مؤتمرا صحفيا على الهواء، ثم اخذ طريقه الى المطار لكي يستقل طائرة الى الخارج؟ ثم، هل يعرف النائب الدايني انه خرق الدستور مرتين، الاولى عندما لجأ الى التخفي والهروب من وجه العدالة، والثانية، حين تنصل عن يمين اداه بالتزام الخضوع للقوانين والتشريعات، بل وان يكون حارسا لها.
الدايني، بصرف النظر عما يعتقده من آراء، وما يحمله من مشاريع وشعارات سياسية، وضع نفسه (اراد ام لم يرد) في الصف الطويل من الذين يستحقون العقاب.. وإن افلتوا من قبضة العدالة.

ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ ليس كل ما نواجهه يمكن تغييره، لكن لا تغيير بلا مواجهة “
من علوم الثورة
ــــــــــــــــــــــــ
 

383
المصالحة الوطنية..
من المصارحة الى المفاصحة

عبد المنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

 المصالحة والمصارحة عرفناهما.. وعرفنا انهما لم يتحققا على الرغم من اننا اضعنا في سوقهما الكثير من الاموال والورق والوقت. اما المفاصحة فهي سلعة جديدة نزلت في متاجر المصالحة اخيرا، وتحت شعار: إن لم نتصارح فلنتفاصح(تقويم اللسان) في الاقل، وإن لم نعتمد حكمة المصارحة فلنعتمد كلام المفاصحة، وهي اضعف الايمان.
ياتي هذا الاستطراد في وقت بدأ قطار المصالحة الوطنية  يتحرك هذه الايام، وهذه المرة، بحذر اكبر على الرغم من انه القى من حمولته عبئا ثقيلا كان يشكل محور تجاذب واختلاف، واعني به ملف الحوار مع المسلحين بعد ان انتقل الكثير من اولئك المسلحين الى صفوف العملية السياسية (او النشاط السياسي السلمي) وشارك بعضهم في آخر انتخابات لمجالس المحافظات (وصار لهم فضائيات) والاهم من كل ذلك تدهور سمعة الخيار المسلح ومفرداته الموصولة بالتفجيرات المروعة والمذابح التي تطال المدنيين، وبمسؤوليته عن الاحتراب الطائفي، ولم تبق وراء اسلحتها غير فلول منبوذة من تنظيم القاعدة وبعض الجماعات المتحدرة من حزب النظام السابق (تتحاور الآن مع الامريكان) وشراذم صغيرة تتخذ من مناطق الحدود مع الدول المجاورة منطلقات لها، والاخيرة تنتظر الفرصة المواتية لالقاء السلاح والانخراط في “المقاومة السلمية”.
مقابل ذلك، تبلورت اكثر فاكثر، ملامح معارَضة سياسية (ثقلها وزعاماتها في الخارج) اهتمت في الاونة الاخيرة بترشيد شعاراتها ودعواتها وتخلت عن اوهام الوصول الى السلطة عبر الانقلاب او “الثورة” او الفراغ السياسي بعد انسحاب القوات الاجنبية، وربما كانت اجواء الانتخابات وهوامش التنافس الحر ومشاركة الملايين في التصويت عاملا في تشجيع خطوط منها على مراجعة مواقفها مما يجري في العراق، والمؤكد، ان صراعا عميقا يجري بين اجنحتها الدينية والقومية لجهة تدقيق جدوى السلاح والتجييش في تحقيق الاهداف السياسية، ولاينبغي التقليل من اثر تفكك العزلة الاقليمية والدولية عن العراق في حمل بعض المعارضين على اعادة قراءة المشهد السياسي ومناسيب القوى المؤثرة فيه، وفي مستقبل البلاد، وقد ابلغني “معارض” من القاهرة القول: “القليل منّا بدأوا يقتنعون بخطأ استخدام السلاح، لكن هذا القليل يتزايد كل يوم، والمشكلة هي في الاشارات المضطربة والمتناقضة التي نتلقاها من بغداد. ان الكثير منا فقد مصالحه ومساكنه واعزّة له في العراق، ومعاملات استرداد الحقوق بطيئة ومرهقة ومحبطة، وعدد غير قليل تلاحقه دعاوى باطلة وتهديدات بالانتقام، وهناك محاولات لسلب كراماتنا بجعل عودتنا مذلة وكأننا عائدون الىالصف الوطني او توابون”.
من هنا يمكن للمراقب ان يتفهم دواعي تلك الميزانية المقترحة (65 مليون دولار) لتكون في خدمة مشروع المصالحة الوطنية، بوصفه مشروعا لتحقيق دولة المواطنة، وبمعنى ما، جزئيا، في تعويض ضحايا الاحتراب، والاكثر اهمية انها وضعت تحت توصيف “العدالة المجتمعية” كما اكد الناطق باسم خطة “فرض القانون” تحسين الشيخلي، ما يشجع على البحث في توجيه البرنامج نحو تلك الحلقات التي تعرقل تحقيق المصالحة، وقد باتت واضحة، مع التحذير(اقول التحذير) من تكرار التجارب العقيمة التي شهدناها طوال السنتين الماضيتين في اقامة احتفاليات خطابية استعراضية، او عقد مؤتمرات كيفية (عشائرية او دينية) او وساطات خارجية بقيت تدور في محاولات تطييب الخواطر.
اقول، تحرك قطار المعارضة، وافترضُ ان اصحابه صاروا اكثر دراية بالسكة التي ينبغي ان يمشي عليها، وبالمحطة التي يتجه اليها.. وان وقتا ومالا وكلاما كثيرا أهدر من غير فائدة، وان ثمة بعض الحق لاولئك الذين يعتقدون بان صرف الوقت للمصالحة الوطنية هي مضيعة للوقت.. حتى يُثبت العكس.
طبعا، لا يمكن الحديث عن تحريك قطار المصالحة الوطنية بالاتجاه السليم والجدي من غير العودة الى الخطة التي اطلقها، بهذا الصدد، رئيس الوزراء نوري المالكي في تموز 2006 وتتضمن 24 نقطة، واحسب ان لوازم النجاح تفرض اضافة ورقة الاصلاح السياسي التي اقرها البرلمان العراقي في اواخر تشرين الثاني 2008 بالتلازم مع تمرير معاهدة سحب القوات الاجنبية من العراق، لأنها تمس جوهر فكرة المصالحة، وتُعد مكملة للخطة، إن لم تكن تأطيرا لها.
وقد نضطر الى استباق الامر بالاشارة الى ان الخطة والورقة، معا، رُكنا جانبا من غير تنفيذ او مراجعة او حتى اشارة، وطبعا، من غير آليات تطبيق وتوقيتات ومراقبة، وليس ثمة من تعليلات لهذا الخلل إلا تعليل واحد يتمثل في ان الذين التزموا ترجمة وثيقتي الخطة والورقة الى الواقع، والذين قبلوا بهما وصوتوا عليهما لم يكونوا مقتنعين بوجاهة الافكار والالتزامات التي تتضمنانها.
فالخطة تعالج عملية التصالح في ثلاثة مستويات، الاولى اجرائية، مثل اصدار قوانين وتشريعات واوامر تخص موظفي وعسكريي النظام السابق وقضايا المعتقلين وملف الاجتثاث، والتحقيق في اعمال قتل وتصفية وتنكيل، واعادة المهجرين وتعويض المتضررين، وبناء المؤسسات الامنية المتوازنة، والثانية سياسية، وتتعلق ببناء الخطاب الوطني اللاطائفي واللافئوي، وتفعيل حملة الوعي بحقوق الانسان، واحترام رأي واجتهاد المعارضين مقابل احترام شرعية الحكومة المنتخبة والدستور، ، والثالثة، خدمية وتتركز على التعجيل بحركة الاعمار وتوفير الخدمات الضرورية للمواطنين والمناطق التي تضررت باعمال العنف.
اما ورقة الاصلاح السياسي فقد شكلت معبرا آخر لترشيد العملية السياسية في العراق من خلال اعتبار تطبيع العلاقات بين الفرقاء السياسيين بمثابة قوانين والتزامات دستورية بالاضافة الى تلك الاشارات الى انتماء العراق الجغرافي ونبذ العنف ومواجهة الارهاب وبناء الجيش الجديد وتطوير مفهوم الشراكة في القرار السياسي على اساس جديدة واكثر فاعلية وتوازنا، وكان الجدل الذي سبق التصويت على الورقة ومعاهدة الانسحاب يثير الشكوك في استعداد بعض الفرقاء المتنفذين على الايفاء بالتزاماتهم حيال تنفيذ الورقة، وهذه نفس العلة في تلكؤ خطة الـ24 نقطة، وقد نجملها بالقول ان الفرقاء المعنيين غير مستعدين على التنازل عن بعض امتيازاتهم الفئوية (والذاتية)لشركائهم في العملية السياسية، ولجماعات مرشحة للانخراط في هذه العملية.
من زاوية مقربة من كواليس المناقشة في موضوع المصالحة الوطنية، يبدو ان ثمة حاجة الى عكازات اخرى غير خطة المالكي وورقة الاصلاح السياسي، على اهميتهما.. عكازات من وزن ثقيل يمكن تسميتها باجواء الثقة التي تسمح بالمصارحة، علما بان المصالحة والمصارحة فلقتان من جنين واحد نأمل ان يرى الحياة.. صحيحا، وفصيحا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“ التاريخ قد لا يعيد نفسه... ولكنه يتشابه كثيراً.”.
مارك توين
ــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

384
القاعدة في العراق والمنطقة..
من مشروع الى جثة

عبدالمنعم الاعسم
mm14mm@yahoo.com

يضرب نشاط شبكة القاعدة المسلح، وعلى نحو لا سابق له، اكثر من دولة عربية،
باستثناء دول قليلة يبدو معفوِ عنها (لاسباب تحتاج الى تشريح ما) وقد وصل،
بالاعلان عن توحيد فرعي  الشبكة في اليمن والسعودية في تنظيم "جهادي" واحد،
واعادة ترتيب صفوف الشيكة في المغرب العربي، وفتح جبهة السودان وإحياء خلايا
شمال لبنان وليبيا والبحرين وارتداد تيار اخواني مصري عن الاعتدال نحو "الجهاد"
وسلسلة تمرينات تفجيرية في سوريا والكويت والدار البيضاء بالاضافة الى تطوير
اساليب الهجوم باعتماد القرصنة البحرية ونقلها من الصومال الى ارخبيلات ومنافذ
بحور العرب
 الاخرى والاغارة على البنوك وتلغيم النساء واستخدام الاجانب في حلقات الاتصال
والتسليح وتقنيات الحاسوب والسطو على المعلومات..
 اقول: وصل نشاط القاعدة،بهذه التطورات على الساحة العربية الى مديات تنظيمية
وعسكرية وسياسية خطيرة وشارف على الدخول الى تخوم حساسة قد تهدد بإحداث اختراق
امني استراتيجي او بتحطيم حلقة من حلقات الحكم في المنطقة، او بسلسلة حروب
اهلية لا احد يعرف الى اين تنتهي.
 وطبقا لنتف من التسريبات والتقاريرالاستخبارية الدولية فان قيادة القاعدة التي
تتخذ من كهوف الحدود الافغانية الغربية مركزا لها وتحتمي بعشائر باكستانية
نافذة صرفت النظر(الى حد ما) عن مناهج قديمة عقيمة ولم تحصد نتائج مفيدة، مثل
الهجمات التي تطال عواصم اوربية "التي استفزت الحكومات الغربية ودفعتها الى
اقامة انظمة مراقبة صارمة والانخراط في تحالف واسع بقيادة الولايات المتحدة ضد
الارهاب وتشديد الخناق على الانشطة المتطرفة واختراق الهياكل التنظيمية
للارهابيين" كما جاء في احد التقارير، واوردت، ان اهتمام قيادة بن لادن يتركز
منذ حين
 على "مناطق رخوة" في العالم العربي وعدم الاقتصار على العراق "إذ تلقت منظمة
القاعدة هناك ضربات شديدة، واقصيت عن معادلة التطورات العراقية".
 وغير هذه التقارير والقراءات، فان المتابع لتحولات حركة القاعدة ولخطابها
الدعائي يرصد نشاطا ارهابيا ودعويا ذي مغزى ينتقل بين عواصم المنطقة، ويضرب
حلقات الهيبة فيها، كما يرصد تكييفا في الخطاب "الجهادي" الدعائي التقليدي
المكرس للهجوم على الولايات المتحدة وادارة الرئيس السابق جورج بوش الى فاصلة
اخرى تتخذ خط التجييش على اسرائيل ومعاقبة انظمة الحكم العربية "التي تدعم
العدو الصهيوني!" مما يخلط الاوراق ويدس المشروع الارهابي الدولي في خارطة
الصراع العربي الاسرائيلي بوصفه رافدا من روافد معسكر التشدد بديل  الاعتدال
ومعسكر السلام
 العربي.
 الفاصلة الاكثر اهمية في هذه اللوحة تتمثل في ان المحطة التي وصل اليها مشروع
اقامة دولة طاليبانية في العراق(وفق إعلان ابو مصعب الزرقاوي في حزيران 2006)
تشهد الآن ضعفا وهزالا على جميع الاصعدة فقد اصطدم، بعد اشهر قليلة من اعلانه،
ولأول مرة، مع الشريحة العشائرية (السنية) في غرب العراق كانت قد احتضنت طلائع
مقاتلي القاعدة وسهلت لهم الاقامة والتسليح والتحرك وتنظيم الهجمات المسلحة على
القوات الامريكية ونواة القوة الامنية (والادارية) العراقية الجديدة والمزدحمات
المدنية، إذ الزم الزرقاوي (بفرمان وتهديد بالقتل الشرعي) رؤساء تلك العشائر
 باعلان البيعة له، ثم تمدد الى التنظيمات “الجهادية” العراقية، بما فيها فلول
حزب النظام السابق، فدعاها الى الانضمام تحت قسم الولاء الى دولته، وذهب
الزرقاوي الى اقامة محاكم ميدانية دشنت سواطيرها بقطع رقاب الكثير من حلفائه
العراقيين، ممن رفضوا البيعة او التسليم لقيادته، وكان ابن عم حارث الضاري
منهم، فضلا عن ضباط سابقين.
منذ ذلك الوقت كان الامر واضحا بان ايام شبكة القاعدة في العراق اصبحت معدودة
وقد عجل في هذا المآل تشكيل قوات الصحوة من عشائر الانبار تمردت على القاعدة
وحملت السلاح ضدها، واغلقت بوجهها مسالك الحدود، ثم اجلتها عن محافظة الانبار،
رئة القاعدة وظهيرها، وبدأت عمليات تفكيك الشبكة وقضم نفوذها من قبل القوات
العراقية والامريكية والصحوات قدما، وقد نجحت في إنهاء حصار العاصمة وفتح الطرق
الآمنة اليها من "ابو غريب غربا واللطيفية جنوبا والمدائن شرقا والعظيم شمالا"
وتصفية "امارات" العاصمة في شارع حيفا والعامرية والاعظمية والدورة والجهاد
 وابودشير، بل وتحولت هذه الاحياء الى مصائد لقادة القاعدة الميدانيين، وانتهى
الامر بفلول التنظيم الى الانسحاب نحو جيوب حدودية على مشارف محافظتي الموصل
وديالى، بالاضافة الى خط إنقاذ لوجستي (ليس من دون مغزى) من دول مجاورة يعنيها
ادامة اجواء العنف في العراق لتصفية حساباتها مع الولايات المتحدة ، لولاها
كانت القاعدة قد انتحرت في العراق.
 وإذ قُتلت واعتُقلت غالبية القيادات الميدانية للقاعدة فقد جفّت الى حد بعيد
مصادر تمويل المشروع الارهابي البشرية من المتطوعين العرب والاجانب واقتصر
وجودهم على بضعة عشرات، من السعوديين والمصريين والسودانيين (بعد ان كانوا
آلافا) وهم يديرون، الآن، اخطر هجمات الفلول الانتحارية في مناطق الموصل وديالى
وبعض مزدحمات بغداد، في حين تراجعت الى حد كبير مناسيب الهجمات(او الاختراقات)
ضد القوات العراقية او الامريكية  وفي غضون ذلك كانت قيادة بن لادن في قاعدتها
بافغانستان قد عبرت عن عدم رضاها لاداء قاعدة العراق وحيال كفاءة القيادات،
وبخاصة
 لجهة اندفاع مشروع القاعدة في النهج الطائفي المتطرف (المحرج لها) والتنكيل
بالمدنيين العراقيين، في وقت كانت الساحة العربية تشهد توترات واسعة على خلفية
الصراع العربي الاسرائيلي وصعود “نجم” حزب الله اللبناني في مقاتلة اسرائيل، من
جهة، وتردد حركة حماس بين التشدد والمرونة، من جهة ثانية.
والآن، قبل الاجابة عن السؤال عما يعنيه ترحيل فلول القاعدة “العراقية” الى
بلاد اليمن وما يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل المشروع الارهابي في المنطقة، علينا
ان نتوقف قليلا عند دلالة تغيير اجرته “دولة العراق الاسلامية” في هياكلها
واساليبها الوقائية داخل العراق من خلال اعتماد خطة اقامة “امارات تنظيمية” شبه
مستقلة وإطلاق سلسلة من الاسماء الوهمية عن زعيم التنظيم خليفة ابو مصعب
الزرقاوي الذي قتل على يد القوات الامريكية في حزيران العام 2006 فقد تم القبض
على خليفته ابو ايوب المصري وهو نفسه صاحب اسم ابو حمزة المهاجر في مايو 2008،
لكن اللافت
 ان الامريكان والقاعدة معا نفيا نبأ اعتقال المصري فيما تؤكد المصادر
“العراقية” النبأ، وتذهب بعض المعلومات الى ان المصري(المهاجر) تعاون ويتعاون
مع سجانيه الى حد كبير.
ومنذ منتصف العام الفائت كان يجري تسريب منهجي للاسماء الوهمية لزعيم تنظيم
القاعدة في العراق في محاولة لارباك المعلومات والتشويش على المطاردين واثارة
الشكوك في وقائع انهيار قيادات القاعدة في العراق، فبالاضافة الى اسم ابو حمزة
المهاجر، برز اسم ابو عمر البغدادي الذي لا احد يعرف جنسيته او هويته، وساهمت
الاقنية الاعلامية القريبة من القاعدة في قطر ودبي وبيروت في تسويق تقارير تزيد
في تضليل الجمهور حيال الخليفة الحقيقي للزرقاوي، كما تزايدت الكاسيتات الصوتية
المصنعة لخطب منسوبه الى قياديين مزعومين.
وكل هذا كان معروفا وله ما يبرره في علم الدعاية والحملة النفسية، غير ان الامر
غير المعروف هو انخراط الجهات الامريكية في هذه المحاولات ، فاعلن المتحدث
العسكري الامريكي كيفين بيرغنر في 19/7/2007 بان خليفة الزرقاوي(الحقيقي) هو
خالد عبدالفتاح داوود المشهداني وهو جنرال في الجيش العراقي السابق ومؤسس تنظيم
انصار السنة المسلح، وزاد ان ابو عمر البغدادي “شخصية وهمية” ولا اساس لوجوده،
ونقل عن المشهداني قوله “ان قيادتنا الحقيقية في خارج العراق”.
ومن زاوية يبدو ان تنظيم القاعدة في العراق كان منذ العام 2007 (اعلان خطة فرض
القانون) بصدد تطبيق تكتيك تستخدمه، عادة، الجيوش المهزومة في الحروب التقليدية
ويقوم على إشغال العدو في هجمات اقتحامية نوعية (النساء الانتحاريات) وجره الى
معارك على ارض مواتية تساعد على المناورة والتخفي (الموصل- تلعفر/ ديالى-
حمرين) وقد نجح في هذا التكتيك، الى حد ما لاسباب منها الانجرار الى النعرات
الطائفية وعدم تنفيذ وعود توفير الخدمات للمواطنين في اطار خطة فرض القانون،
فيما دحر الارهاب على اكثر من جبهة وبخاصة حين شُنت الحملة الحكومية في ابريل
2008 على
 المليشيات والقوى الخارجة على القانون والجريمة المنظمة.
وبمعنى ما، فان جسد القاعدة المثخن الجراح في العراق وصل اليمن بلا رأس، لكن
وسط عويل شاركت فيه اقنية وصحف يمنية اسلامية وقومية محليه متعاطفة مع
“المقاومة العراقية” وهذا يفسر ما ذهب اليه الخبير الدولي في ملف القاعدة مايكل
شوير من أن “عددا مهما من المجاهدين غير العراقيين الذين يقاتلون القوات
الأمريكية في العراق كانوا من اليمنيين” ولم يقل الخبير بان بضاعتهم ردت اليهم.
بكلمة، فان اندحار المشروع الارهابي في العراق دفع قيادة بن لادن الى تفعيل
“الجهاد” في المناطق الرخوة من الساحة العربية، إذ تتردد الحكومات في التصدي
لفكر ونشاط القاعدة، على امل ان يبقى منصرفا الى العراق، ويستكفي شره الاخرون..
فعاد الامل بخفي حنين.
 وإذ نقرر ان المشروع الارهابي دُحر في ارض الرافدين، لكن هذا لا يقلل من شأن
حقيقة ان مشروع اقامة دولة طاليبانية في العراق لم يكن ليملك مقومات او فرص او
شروط او ارضية نجاحه في العراق، وكان سيقبر منذ الشهورالاولى بعد سقوط نظام
صدام حسين في ابريل 2003 لولا (اولا) انحراف العملية السياسية الى مستنقع
الطائفية اذ تزودت ماكنته بالزيت الاضافي من هذا المستنقع، ولولا (ثانيا) تخبط
السياسة الامريكية في العراق واساليب الردع العمياء التي استخدمت طوال اكثر من
سنتين، ولولا (ثالثا) اندساس المشروع الظلامي المسلح في رداء المقاومة الزائف،
ولولا (اخيرا)
 إمعان الدول المجاورة في ابتزاز (ومقاتلة) الولايات المتحدة على ارض العراق.
كل هذه العوامل هيأت للعصابات الظلامية ظروفا مواتية لكي تجر العراق وشعبه الى
بركة دم وخراب ومحن وصراعات لاسابق لوحشيتها، ولفترة زادت حتى عما توفر للقاعدة
من سنوات وسطوة ونشاط في افغانستان نفسها، وربما لهذا السبب يمكن الاعتقاد بان
خطر عودة الارهاب في العراق سيبقى ماثلا، اذا ما اخذنا بالاعتبار ان الكثير من
الاسباب التي سهلت له ان يستدرج مئات المتطوعين من الخارج وان يجند الوف
العراقيين ويجعل منهم انتحاريين ومن نسائهم انتحاريات، وان ينظم مذابح مروعة
للمدنيين ويدك البنى التحتية للدولة الجديدة لاتزال قائمة، وبخاصة ما تعلق منها
 باعتلال مسيرة المصالحة الوطنية، وضعف التوعية بخطايا التطرف الديني وذنوب
ايديولوجية الكراهية.
على ان إجلاء القاعدة الى ما وراء الحدود لم يكن ليعني بان مقاتليها تحولوا الى
سياح في الدول العربية المجاورة، فقد حملوا معهم، كذئاب مجروحة ومهزومة، العزم
على نقل تجربتهم وتطبيقاتها الارهابية الى تلك الدول، وعلى معاقبة حكوماتها،
لانها- حسبهم- تواطأت ضدها، ويبدو ان وجودهم في تلك الدول، وعلى مرمى من الحدود
العراقية لم يكن مريحا للجانب الامريكي، وطبعا، للجانب العراقي، ايضا، ما فتح
الباب الى تعاون امني بين دول الاقليم المتجاورة، ودفع القاعدة -في نهاية
المطاف- الى الانتقال الى كل من السودان والصومال واليمن، وفي غضون ذلك ابلغ
مسؤول
 امني عراقي جريدة الخليج الاماراتية قبل شهرين قوله: “ان بعض شبكة المجموعات
الارهابية لتنظيم القاعدة في العراق قد بدات مغادرة البلد متوجهة الي بعض
المناطق المتوترة في افريقيا مثل السودان والصومال” لكن مسؤولا في اجهزة مكافحة
الارهاب الامريكية قال لوكالة الصحافة الفرنسية (6/2/2009): “لدينا مخاوف جدية
من تنامي أنشطة القاعدة في اليمن” الذي تنحدر منه أسرة زعيم تنظيم القاعدة
أسامة بن لادن وكان الأميرال مايكل مولن رئيس أركان الجيوش الأميركية أعرب في
ديسمبر الماضي عن “قلقه العميق” من ظهور محتمل لملاجئ للإرهابيين في كل من
اليمن
 والصومال.
وطبقا لمعلومات نشرتها الصحافة اليمنية فان معسكرات الارهاب التي انتشرت منذ
حوالي عام في اليمن تضم مقاتلين شباب هربوا من العراق، وفي هذا حصرا تكمن
الخطورة من اعادة تصدير الارهاب الى العراق، من اليمن هذه المرة بعد
افغانستان.. الامر الذي يلزم بعض التأمل.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"لا احد اشجع من الحصان الاعمى".
حكمة مترجمة


385

اصدقائي الشهداء
ــــــــــــــــــــــــــ
ابحث لكم
 عن اسم آخر


اعرف، وانا اخاطبكن واخاطبكم بصيغة وحدّتها الشهادة، ان لكل واحد منكم اسما يميزه عن رفيقه، وانكم تجتمعون، كل مساء، على اسم وردة حمراء واحدة تحبونها،  وتتفرقون منها، او تتفرعون عنها، الى صفحات هذا السجل الذي كتبتم ابتهالاته الاسطورية، كل واحد يروي قصته.. قصة اللقاء الاخير مع الحياة، معنا، حيث سقط برصاص، او شهق بحبل مشنقة، او غاب في ما بين الصرخة والابتهال.
 وقبل هذا لا اشك، بانكم تتذكروننا، واحدا واحدا. تستدلون الينا بالبصمة التي اودعتموها في افئدتنا، وبالدَين الذي تركتموه في اعناقنا، وبكلمة السر التي بيننا.
وبرغم ان اسماءكم باسقة، وموصوفكم سرمدي، وامجادكم مشرفة فاني ابحث لكم عن اسم يتسع لاسمائكم جميعا، ولمآثركم كلها، ولهتافاتكم وقصاصاتكم ووصاياكم واحلامكم ووجوهكم وصباحاتكم ومعزوفاتكم.. اسم نستعين به في مشوارنا،ونلوذ اليه من الشظايا والاقدار، ونفتح به اسرار ما يحيطنا، وطالع ما ينتظرنا.. اسم يليق بالفتيات الرائعات اللواتي تركن اسماءهن الحزبية على حيطان الزنازين، الخالدات ابدا منكم، مثلما يليق بالرجال الذين عرفوا خطر الموت وساروا اليه.. اولئك الشجعان الذين انتم.
ابحث لكم عن اسم يحاكم اجيال القتلة والطغاة والمأجورين الذين علقت لوائح موتكم في رقابهم.. اسم يرسلهم تباعا الى مزابل التاريخ ويحض على احتقارهم الابدي.. اسم من خارج ابجديات الكلام، لكن من داخل دلالة الافتداء بالروح من اجل قضية الحرية.. وها هو يأتلق فالملم حروفه من جمال تلك الارواح.. ارواح مواكب الشهداء منذ فجر التاريخ، الملمها باسمكم: الحرية.
يا ابناء الحرية

عبدالمنعم الاعسم 
       

386
المنبر الحر / سياسة لي الاذرع
« في: 13:41 12/02/2009  »
سياسة لي الاذرع

عبد المنعم الاعسم
mm13mm@live.com

  دخلنا، كما يبدو، بعد انتخابات مجالس المحافظات لعبة لي الاذرع، ولحسن حظ المنخرطين في هذه اللعبة ان للجميع اذرع، وان للجميع، من غير استثناء، مواجع في اذرعهم، ومن ينكر ذلك كمن يقول لك انه لن يشيخ ابدا، ومن يتجاهل ذلك كمن لم يسمع يقال عن تحالفات جديدة تكتب الان بالحروف الاولى، واخرى تبدو في مهب الريح، وثالثة تقف على رجل واحدة، ورابعة تولد عليلة، وخامسة في المخاض الاخير من الطلق.
  خصوم الامس صاروا سمنا على عسل، وحلفاء البارحة طلّقوا بعضهم بالثلاث، وكثير من الماء جرى تحت الخائبين والمهزومين بانتظار الفرج. اما الشعارات والبرامج والمواقف القديمة فقد تخلى عنها الجميع وصاروا اخف من الريشة، ومن زاوية يبدو ان المطلوب هو تصفيات الحساب: تلوي يدي هنا،  الوي يدك هناك.
  حتى الآن، تجري فصول اللعبة في الكواليس، وبين الاقوياء (معايير القوة الانية طبعا) ولاينبغي الاطمئنان كفاية الى القول الشائع ان النية تتجه الى تصفية القلوب والعودة الى حكمة التوافق والتكافل والتضامن والاخوة والشراكة، فان شيئا قليلا من هذا يحدث حتى الآن، وان من يقترب من دائرة تلك الكواليس، ومن يمعن النظر في تسريباتها، سيعرف كيف يلوي البعض ذراع البعض الاخر من المواضع الحساسة، والهدف إجبار الاخر على التنازل عتبة عن قاسم المشهد ومقسوم الامتيازات، وطبعا سيكون المراقب بحاجة الى تفكيك بعض الالغاز والرطانات عما يقال حيال العملية السياسية والمصالحة الوطنية، والتضحية في سبيل الشعب، ومكافحة الفساد، واعادة الاعمار.
  الذي يجري باختصار، محاولات حميمية لاعادة هيكلية المصالح الحزبية، وترتيب الزعامات في قلب العملية السياسية، وعلى عتبة سلطة واليات القرار السياسي، وبهدف توظيف نتائج انتخابات الحادي والثلاثين من كانون الثاني، في حساب جديد للحجوم والمقامات، وثمة في السياق الكثير من الابتزاز والضغط والتلويح باجراءات وتعديلات وتحالفات جديدة، وثمة بالمقابل ايماءات عن تحريك ومراجعة قواعد وثوابت وتعهدات واستحقاقات سابقة. المتقدمون يتصرفون كاصحاب حق اضافي، والمتأخرون غير مستعدين للتنازل عن مساحاتهم، فيما يبحث الاخرون عن معابر قصيرة وآمنة للامساك بالحصان الجامح.
وبكلمة موجزة، فان المراقب الموضوعي لهذا الصراع الناشئ عن انتخابات المجالس يلاحظ ان ثمة اندفاع متعجل لفرقاء الانتخابات لفرض معادلات جديدة يتساقط عنها منافسون او طامحون او خاسرون، وان هناك ليّ اذرع، واصوات توجع واستغاثة، لكن ثمة فرص محدودة للكسبٍ على السطح من دون ثمن.
 ليّ الاذرع، سياسة آنية، إملائية، تستخدمها الزعامات السياسة(او الاحزاب) النافذة مع بعضها، من موقع قوة، او من زاوية ظرفٍ مواتٍ، حرج ٍ، لمعاقبتها او اقصائها او حملها على الاذعان لموقف ما كان لها ان تحققه في السابق، ويساعد الاشتقاق اللغوي والدلالي للذراع على الاستطراد في كشف قدرة هذا “العضو” الجسماني في ان يلهم علوم السياسة استخراج معاني غاية في الاهمية مثل التذرع، وهو الاستناد الى ما هو نصف حقيقي لتمرير ما هو باطل، او الذرائعية (مذهب النفعية) التي جاء بها وليم جيمس وتشارلس ساندر بيرس وتوسع فيها جون ديوي، وتعني ان قيمة كل شيء تتمثل في منفعته وهدفه.
“لي ّ الاذرع، بعد ذلك لايعود-دائما- بالفائدة على اصحابه، كما ان من تلوى يده اليوم قد يستقوي غدا فيلوي يد غريمه.. وليتهم احتفظوا بايديهم في معطفهم، جربوا سياسة اخرى.
ــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
“إذا ازداد الغرور نقص السرور”.
الحكمة رقم 20 من احسن مائة حكمة عالمية

387
ما بعد انتخابات المجالس..
ثلاث زوايا نظر

عبدالمنعم الاعسم
Mm13mm@live.com

قال لي مراسل اجنبي(تونسي) بعد ان شاهد طوابير العراقيين في المراكز الانتخابية(شاهد اربعة مراكز) وقرأ وتابع تقارير من بغداد والانبار والبصرة: تبدون لي شعبا آخر غير الذي عرفته قبل اربع سنوات وحتى قبل سنتين.. قل لي، بحق السماء، كيف تولدون، او تتجددون، هكذا، برمشة عين؟ مازحته بالقول: انه سر المهنة.
في فندق الشيراتون، حيث اخترت كمستشار اعلامي لمنظمة محلية مستقلة لمراقبة انتخابات مجالس المحافظات، كان هاجس الاعلاميين، عراقيين واجانب، ان يهبّوا صوب اي حريق يشب بين انصار القوائم، او اي تفجير انتحاري يستهدف مركزا من مراكز الانتخابات او طابورا من الطوابير المتراصة على صناديق الاقتراع، او اية مخاشنة او مشادة في حي من الاحياء، وكنت اتملى السطور التي تنهال علينا من الآف من مراقبي المنظمة في بغداد والمحافظات، فاتوقف عند الانتهاكات والمخالفات والتعديات، لكنها جميعا لم تكن لتتضمن مذابح بين السكان ولاحادثا دمويا (باستثناء حادثين متفرقين سجلا كخطأ على رجال امن) او حوادث اصطدامات، ولم تكن لتحول دون زحف الملايين العراقية الى مراكز التصويت.
قال لي المراسل، بعد ان قرأت عليه مختصرات التقارير الميدانية: بالله عليك، اين ذهبت طوائفكم؟ اين الشيعة؟ اين السنة؟ كيف اختفى كل ذلك؟ واضاف: انتم تثيرون حيرتي.. بل تحيرون العالم الذي يتابع بذهول كيف تدخلون نادي الديمقراطية التعددية وكأنكم من رواده القدماء. اجبته في محاولة توضيح ومنعا للاستطراد: مهلا ياصديقي، من السابق للاوان ان تقول ان العراقيين انتقلوا أو تجاوزوا، الى الابد، اخطار الاحتقانات الطائفية والفئوية، او القوا باصحابها الى خارج المشهد، فان الذين جنوا ويجنون من الطائفية والفئوية، وتاجروا ويتاجرون بهما كثيرون، وهم لا يزالون في قلب المعادلة، وينتظرون الفرصة ليعاقبوا الشعب على خروجه عن الطاعة، والقضية ببساطة ان الشعب العراقي، بسواده الاعظم، دفع الكثير من الارواح البريئة والثروات والاموال والاستقرار والعويل جراء تلك الدوامة، وصار اصعب من ان يغويه المشروع الطائفي الدموي، ولا يزال الطريق طويلا امامه لكي يسد تلك الثغرات التي تتسلل منها عواصف التراب، الطائفية والارهابية والجاهلية.
واحسب ان مثل هذا النقاش دار ويدور في محافل كثيرة بعنوان: العوامل التي جعلت من انتخابات مجالس المحافظات التي جرت يوم امس الاول حدثا ذي دلالة انقلابية في مجرى الصراع السياسي في العراق، إذ اظهرت العراقي، كوحدة سياسية واجتماعية، بانضباط عال في استخدام حقه الدستوري لاختيار ممثليه في الحكومات المحلية ، الامر الذي سيثري علم السياسة.. ويضرم النار في مواقد التوقعات.

2-
لاينبغي ان نقلل من شأن الرقم 51 بالمائة كنسبة للذين استخدموا حقهم الدستوري في انتخاب ممثليهم الى الحكومات المحلية، وهو يمثل سبعة ملايين ونصف المليون من اصل 15 مليون عراقي يحق لهم التصويت، فان مثل هذه النسبة تضع العراق، حديث التجربة الانتخابية التعددية، في مصاف الدول الاكثر تجربة في التنافس الانتخابي، بل انه تجاوز جيرانه وشركاءه في اقليم الشرق الاوسط في هذه النسبة التي لم تزد في مصر عن 23 بالمائة وفي تركيا عن 21 بالمائة وفي المغرب عن 31 بالمائة وفي سوريا عن 37 بالمائة(دمشق 15 بالمائة) وحين صوّت في فرنسا 31 بالمائة ممن يحق لهم التصويت اعتبرت قياسات الراي العام ذلك بمثابة “طفرة” في الاقبال بالمقارنة مع 21 بالمائة هم الذين صوتوا في الانتخابات السابقة.
اقول: لا ينبغي ان نقلل من شأن هذا الرقم، وإن تراجع عن نسبة الاقبال في الانتخابات السابقة باكثر من خمسة عشرة نقطة، والمطلوب من حلقات البحث والجهات الآكاديمية والاعلامية والسياسية ان تتوقف عند تلك العوامل والاسباب التي كانت تدفع الجمهور الى الاقتراع، اخذا بالاعتبار بان “ارباكات” تنظيمية عديدة حالت دون مشاركة ما يزيد على نصف مليون عراقي كانوا قد توجهوا فعلا، في مدن كثيرة الى صناديق الاقتراع صباح يوم الانتخابات فلم يجدوا اسماءهم على قيد المسموح لهم بالتصويت، هذا بالاضافة الى بضعة عشرات الالاف من النازحين الذين تعذر عليهم تأمين بيانات التصويت، وعشرات الالاف الاخرى ممن تعذر عليه الحصول على البطاقة التموينية، من العائدين من المنافي والمهاجر، وكاتب السطور واحد منهم.
الدلالة الاكثر اهمية من سواها تتمثل في تراجع (اقول: تراجع)المحمولات الدينية او الطائفية او القبلية التي تحث على التصويت، وتختزل الحق الدستوري للمواطن الى انتخاب هويات او اشباح او مخاوف أو توجسات، وجميعها جرّت، في السابق، الى سلسلة من الاخفاقات والعجز والشلل والخذلان، واثثت المشهد البرلماني ومجالس المحافظات بالاستقطابات المريرة، فضلا عن انها فتحت الباب على مصراعيه امام انصاف كفاءات ومتدربين على الادارة والقيادة والتعامل مع الشأن العام، على الرغم من ان حجم التصويت كان مرتفعا، وان المشاركة كانت تتسم بالجدية والحماسة و”المخاشنة”.
على انه لم يكن بعيدا عن الصواب القول الشائع بان انتخابات مجالس المحافظات في الحادي والثلاثين من يناير 2009 تُعد تمرينا عميق الاثر في تجربة الانتخابات التعددية، لا يصح اختصاره الى وسام يعلق على صدر سياسي او مسؤول او حزب، ومَن يعتقد انه قطار يوصل احد المسافرين الى محطة الحكم الابدي فانه لم يقرأ نتائج الانتخابات كفاية.
3-
بعد انتهاء الانتخابات، وتشكيل مجالس محافظات جديدة، سيأتي، ربما من اول يوم، وقت السؤال اللجوج عما ستقدمه هذه المجالس من خدمات واجراءات عاجلة وعدت بتحقيقها للمواطن الذي لم يبخل بصوته العزيز وآماله النبيلة وصبره الطويل ليضعها جميعا في صندوق الاقتراع، لكن ليس من غير ان يقول: حسنا، انتخبناكم، فما عساكم فاعلين لنا؟
في سجل المجالس السابقة، تحت اي هوية وتابعية كانت، ملفات زاخرة من المخالفات والتخبطات والتعديات على القوانين وإهدار المال العام، ومن الطبيعي ان تفتح المجالس الجديدة تلك الملفات، بل ومن واجبها ان تقوم بذلك كشرط لتصحيح مسارات الخدمة والايفاء بالتعهدات التي قطعتها للمواطن، هذا عدا عن مشكلة الصلاحيات والتشريعات التي خلقت سلسلة من الاضطرابات في العلاقة بين الحكومات المحلية والحكومة المركزية، واظهرت هذه السنوات شكاوى يومية من تخطي الحدود القانونية على يد المركز او المجالس، الامر الذي كان يكشف على الدوام عن جهل بالانظمة والقوانين، إن لم تكن مصالح و”اجندات”من وراء تلك التداخلات والشكاوى.
ولن تتوفر للمجالس الجديدة فسحة كبيرة من الوقت لكي تتدرب على تقديم الخدمة العاجلة للمواطن، فان احدا لن يصدق ان الفائزين يحتاجون الى اربعة اعوام اخرى لكي يتعرفوا الى احتياجات محافظاتهم وبلداتهم ويمسكوا بمفاتيح الحلول للمشكلات التي يعانيها السكان، كما لن يكون اكثر استفزازا واحباطا للمواطن العراقي من التعلل بالعنف او بالفساد او قلة الخبرة او ندرة الاموال للهروب من مسؤولية تنفيذ الوعود فورا، واحياء الخدمات الضرورية العاجلة، تلك الذرائع التي مرّتّ من تحتها ابشع مفرات العنف والفساد والجهالة والتبديد.
بل ان العديد من المجالس السابقة كانت عبئا مكلفا على المواطن وحياته إذ انصرفت عن التزامها بتأمين الخدمات والظروف الامنية ومشاركة المتضررين واليتامى والارامل والنازحين والعاطلين عن العمل معاناتهم الى الاستعراضات وحملات التجهيل وتقاسم النفوذ والامتيازات، وقد لجأت في الاشهر الاخيرة الى التواطؤ مع المتجاوزين على اراضي الدولة والمال العام بتسهيل مخالفاتهم وتغطية تجاوزاتهم كوسائل لشراء اصوات المخالفين والمتجاوزين وتكوين البطانات من بينهم، بدلا من إنصاف المحتاجين والمتضررين منهم.
لقد وجهت الملايين العراقية يوم الحادي والثلاثين من كانون الثاني رسائل فصيحة الى الساسة العراقيين، بوجوب احترام ارادتها على نحو جديد، ورسائل اخرى اكثر فصاحة الى الاعضاء المنتخبين للمجالس الجديدة بوجوب قراءة صبرها جيدا.. فللصبر حدود.

ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“اذا كنت لا تستطيع ان تبتسم، فلا تفتح دكانا “.
مثل صيني

388
مات بطل روايتي..
ولم اكتبها بعد

عبدالمنعم الاعسم
 mm13mm@live.com

 باقر مسير الزيدي.. ثم الناصري.. ثم، الساخر منا جميعا بمن فينا هو نفسه.. مات قبيل ان ينتصف يناير 2009  في اقتراح مؤسف كان قد قدمه منذ زمن طويل حين كان يفاجئنا، نحن الذين عملنا معه في لعبة الحياة والسياسة والصحافة والضياع، بالقول: ما اهمية هذه الحياة إذا لم تر القاهرة؟ فمات بنيف وستين من دون ان يضع خطوة واحدة خارج الحدود، وطبعا، دون ان يرى تلك المدينة التي كان يعرف حاراتها واسماء مخاتيرها ومثقفيها وصحفها، ربما اكثر من اي مواطن فيها، لحد كنا نتعامل معه كممثل للجالية المصرية بيننا نحن افراد شلته، فالاجدى-كما كان يقول- ان لا نعيش اكثر مما تتيحه لنا سهرة او جلسة مقهى او قراءة صحيفة مصرية على كورنيش، نضير ما يتاح للمخلوقات الاخرى من فرص.
  باقر الناصري كان اول شخص زارني في منزلي، او قل زرته، يوم اطلق سراحي من سجن السلمان، وكنت محاذرا ومرتابا ممن هم يتخاطفون من امام نافذتي، فكيف به وقد طرق الباب ليلتقيني. كان ناصري الانتماء والاتجاه في زمن كان الناصريون يمسكون بالسلطة عام 1965. قال لي آنذاك: لقد عرفت عنك الكثير، لا يهمك، يمكنك ان تعتمد عليّ، ساكون معك.
لكن علاقتي مع باقر الناصري فرشت نفسها، بعد سنوات، على سطح اكثر سعة من صداقة  اتخذت لنفسها اعتبارات الجيرة والسياسة والثقافة، فقد دخل في حافظتي ووجداني كفارس مؤتمن، او شريك وفيّ، قذفت به الحياة الى اوراقي وسنواتي التي امتدت الى  ورق كثير وانتظار طويل ومخيف، وامتد معها هذا الانسان الوفي كذاكرة كنت احوج ما اكون اليها من اي شئ.
همس ابنه عليّ في اذني: "كان يحبك كثيرا"  وانا احضر مجلس عزائه في مدينة الحرية، غير مصدق، بل لا اريد ان اصدق ان باقر مسير يمكن ان يهزمه الموت، هكذا، حتى حين نقل لي الصديق جمال العتابي النبأ بالهاتف لم اكن املك آنذاك غير هواء ساخن يخرج من احشائي الى حلقي، من دون صوت. 
 هل يمكن لموظف، مديد الخدمة، في اعرق مكتبة بغدادية عامة ان لا يكون قارئا؟  يمكن ذلك، لكن باقر مسير الزيدي الذي ادمن العلاقة بالكتاب اصبح نفسه كتابا مفتوحا بالنسبة لي ولكل من يعرفه، ومن الكتاب الى دورة الصحافة، انتقل كما مجرى الماء، لكن كوميديا العراق السوداء سدت بوجهه الطريق، فقبل بالعوز هاربا من جادة تزيدت حوافرها، ولاذ  بالفكاهة من نفسه ومن الحياة.   
 ويوم غادرتُ العراق، مضطرا ومهموما، الى المنفى ودعني الناصري بقوله: هل لا زلت على عهدك ان تكتب عني؟ ضحكتُ، وقلت له: "هل لا زلت تمزح حتى في لحظة ننذبح فيها؟" وبعد ان عدت بعد ثلاثين سنة، اكتشف ان الوقت مضى على حاجته لمن يكتب عنه، كان اكثر استعدادا للمصالحة مع الاقدار والموجودات، ثم اكتشفت ان القصاصات والهوامش التي احتفظت بها له تصلح ان تكون تخطيطا لبطل رواية، فرحل قبل ان اكتبها.. يا لفجيعة الكتابة .
ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك".
محمود درويش يرثي ممدوح عدوان

389
في كل انتخابات..
منتصرون ومهزومون

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

عندما رشح الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس نفسه الى رئاسة الجمهورية، وفشل (برغم انه مناضل من اجل الحرية وقد اعتقل من قبل السلطات العسكرية الانقلابية في بلاده) صرح انه كان يعرف مناسيب حظه البسيط في الفوز، وان ماكنة الاموال والدعاية ستحول بينه وبين المنصب الاول في بلاده، لكنه كان يحرص على دس الوردة البيضاء النزيهة في حقل التجربة لأسبق الدول الى خيار الديمقراطية "بعد ان شعرتُ ان رياحا عاتية تهدد برمي بلادي الى خارج المدنية" .
غير ان المعلقين والمحللين في اليونان واوربا انشغلوا طويلا في الاجابة على السؤال: لماذا لم ينتخب اليونانيون اشهر ما انجبته بلادهم من المبدعين والمناضلين، فكان الجدل يتدحرج الى الحقيقة التي تظهر في كل تجربة انتخابية: انه صندوق الاقتراع الذي تحكمه حزمة متناقضة من الاهواء والارادات والتأثيرات، وفي كل الاحوال، فان على المتسابقين ان يقبلوا بالنتائج، كما لو انهم كانوا يعرفونها، كما كان ثيودوراكيس يعرفها بحق.
في بغداد، شاهدتُ وناقشت مرشحين الى مجالس المحافظات، ودعاة ومناصرين، على جانب كبير من الانفعال والعدوانية، وهم يتحدثون بمفردات تهديد ووعيد، ويدخلون منطقة الخطر والحظر القانوني في تبشيع منافسيهم والتشهير بهم، ولعل الاكثر خطورة يتمثل في ما قاله احدهم "سنرجئ الحساب الى ما بعد النتائج.. سيرون اننا لسنا بمغفلين"  وقال آخر "لن يزحزحوننا، لا بالانتخابات ولا بالقوة" وذهبت شعارات على الجدران  في  تجاوزِ للغة التنافس الديمقراطي الى ثقافة البداوة والتهديد "يا اصحاب القائمة الفلانية..سنلقنكم دروسا" غير ان الندوات واللقاءات المغلقة تذهب الى ابعد من هذه الشعارات المحدودة الانتشار، وتفيد الاخبار اللسانية ما يدعو الى العمل الجدي لتصريف احتقانات بدأت تصدر نفسها الى القاع من خلال تصريحات تتزاحم فوق السطح.
 العبرة في التجربة الانتخابية تتجسد في مستويين، الاول، يتعلق بالنتائج، فلكل انتخابات نتائج يجري اعلانها، وبعد كل تنافس ثمة منتصرون ومهزومون، والثاني، يتصل في جوهر التنافس الانتخابي الديمقراطي، إذ يقبل المتنافسون تلك النتائج برحابة صدر، وان لا تستخدم النتائج سلاحا في تصفيات الحساب، ولا في قهر كرامات المهزومين او النيل من مواقعهم، وينبغي ان نعيد الى الذاكرة كيف اختار رئيس الولايات المتحدة الجديد باراك اوباما منافسته على الترشيح هيلاري كلنتون وزيرة للخارجية وهي التي سخرت منه خلال التنافس، وتشككت في قدراته واهليته خلال حملتها الانتخابية.
 الانتخابات تمرين على الصعود مرتبة جديدة نحو التمدن. الهمج وحدهم يرفضون الصعود.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــ
"لا ينبغي ان نخاف حين يكون الهدف بعيدا. نخاف حين يكون غامضا".
غرامشي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

390
منظمة تموز للتنمية الاجتماعية:
عشرات المخالفات ليوم الصمت الاعلامي


بغداد- خاص

رصدت منظمة تموز للتنمية الاجتماعية، وهي منظمة انسانية، عشرات المخالفات في يوم الصمت الاعلامي والدعائي الذي يسبق يوم انتخابات مجالس المحافظات في اليوم التالي السبت الحادي والثلاثين من يناير، ودعت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات الى تشديد الرقابة من اجل حماية التجربة الانتخابية التعددية في العراق الجديد.
 واجملت المنظمة التي تقوم بمراقبة الانتخابات ولديها 25 الف مراقب في جميع المراكز الانتخابية  المخالفات في تقريرها ادناه المخالفات التي تضمنت ايضا مخالفات ارتكبتها فضائيات محلية.. وفي الاتي نص تقرير المنظمة:

تؤكد منظمة تموز للتنمية الاجتماعية التي تقوم بمراقبة انتخابات مجالس المحافظات اليوم الجمعة(30/1) وجود طائفة من انتهاكات "يوم الصمت" للدعاية الانتخابية من قبل عدد من القوائم المتنافسة،  كالاتي:

* بغداد- الحسينية:قامت قائمة تيار الاحرار المستقل رقم( 284) بمسيرة الية من عشرة سيارات تجوب شوارع المنطقة وهي تحمل صور الشهيد السيد محمد صادق الصدر
* سيرت القائمة 174 (حزب الفضيلة) مسيرة  باسم المرشح خضير داخل (تسلسل 51 )توزع  فيها كارتات دعائية
 
* اقدمت قائمة شهيد المحراب (290) بتوزيع ملابس رياضية في منطقة الجنابات 

 * قامت قائمة عشتار الوطنية (513) في الساعة الخامسة عصرا بلصق اعلانات دعاية قرب الكنيسة الكلدانية في بغداد الجديدة -النعيرية

* وفي منطقة الكمالية- شارع الجامع- عمارة جاسم منغر قامت منظمة الكوادر والنخب العراقية (448) باسم المرشح فوزي ثعبان منسي الموسوي (تسلسل 2 ) بتعليق لافتة دعاية كبيرة الساعة 4:30 عصراً

 * قامت قائمة 284 تجول دعائي في منطقة الحسينية باسم احد مرشحي القائمة ومؤيديه 

 *  في مدينة الثورة- الصدر قام نشطاء القائمة 117 بلصق صور ولافتات في مركز مدرسة الحدباء 

 * في منطقة الثورة- الصدر قام عصر اليوم حزب الفضيلة ونشطاء القائمة 302   بلصق بوسترات على جدران  مدرسة الفضيلة قرب ساحة مظفر.

* في مدينة الثورة- الصدر جرى في قطاع 10 لصق  بوسترات للقائمة 292 (مثال الالوسي) في الساعة 4 عصراً
 *في منطقة الثورة جرى لصق بوسترات في مركز مدرسة الجبل الاخضر للمرشح كاظم فرج الساعدي قائمة شهيد المحراب 290

* في منطقة الثورة انطلقت مسيرة الية للترويج لقائمة (477 )قائمة منفردة لللمشرف التربوي محسن غازي

 * في الثورة الداخل قطاع 45 قام بعض انصار القائمة( 284 )تيار الاحرار المستقل بالترويج للقائمة عن طريق طاولة انتخابية والنداء بمكبرات الصوت

 * وشهدت  القطاعات 14،17،18،56 في منطقة الثورة –الصدر قيام مجموعة من الاشخاص بتوزيع دعاية انتخابية لقائمة تيار الاحرار المستقل( 284 )كذلك قام خطيب صلاة الجمعة في ساحة الصدرين  بحشد الناس لأنتخاب قائمة تيار الاحرار

   * ومن محافظة ميسان جاءنا بان جماعات مجهولة تقوم بتوزيع البطاقات التعريفية في مركز القلعة لمرشحي قائمة (209) وايضاً  يقومون بالصاق الاعلانات الانتخابية على الجدران، وفي نفس المنطقة قام انصار قائمة 284 بلصق بوسترات على الجدران.

 *وفي مركز هاني بن عروة بقضاء العزير تأكد ان هناك عمليات تبديل صناديق الاقتراع  وجلب صناديق مملوء باستمارات مصوت عليها لحساب  "قائمة دولة القانون 302 و شهيد المحرب 290 وتيار الاحرار المستقل284"  .

* وفي محافظة البصرة هناك مسيرة قام بها مؤيدو قائمة حزب الولاء الاسلامي (208) انطلقت من مركز مدينة البصرة متجه الى مركز مدينة العشار.
كما نظمت قائمة الوحدة والعدالة ظهر اليوم مسيرة الية وزعت خلالها  منشورات تروج للقائمة.

* في محافظة الناصرية / قضاء الناصرية/ مركز الناصرية قام عدد من الاشخاص قرب مدرسة امنة للبنات بتوزيع منشورات دعائية اعلامية تخص القائمة (376) قائمة النزاهة والبناء  وكذلك قام اشخاص آخرون  في نفس المنطقة  بتوزيع منشورات دعائية اعلامية تخص القائمة 284 (قائمة تيارالاحرار المستقل).

*شهد  مركز مدينة الناصرية تظاهرة لحزب الولاء الاسلامي وهي تندد بالحكومة وتدعو الى انتخاب قائمة (284) وهناك جماعات فرعية من هذه التظاهرة بدأ بالاتجاه نحو منطقتي الشهداء والفداء في الناصرية للقيام بمظاهرات في تلك المناطق.

*في شارع النهر في الناصرية قام جماعة  بوضع ملصقات وتوزيع بطاقات تعريفية لمرشحي قائمة (284).

* في مدينة الرفاعي خرج شخص يرتدي  ثوب اصفر مكتوب عليه حزب الولاء الاسلامي كما هنالك جماعة تقوم بداعية انتخابية لقائمة تيار الاصلاح الوطني , واخرون يقومون بتوزيع ملصقات قائمة (284 ) وهناك شخص اخريقوم بتوزيع منشورات تأييد قائمة المؤتمر الوطني.

* في الشطرة جابت سيارة شوارع المدينة وهي تحمل لافتات لحزب الولاء الاسلامي وبداخلها شخص يستعمل مكبرأ للصوت وهو يردد: انتخبوا حزب الولاء الاسلامي ولاتنتخبوا الحرامية والسراق هؤلاء الخونة الذين يرضون بالخزي وركبوا الذلة.

 * في النجف وفي مركز المدينة  حي السعد قام تجمع الاصلاح المستقل ( 352 ) بمسيرة الية لصالح  تسلسل 1

* وفي مركز المدينة قام احد  انصار قائمة اتحاد النجف المستقل تسلسل 1  بالتجول
على دراجة نارية تحمل علم العراق وتحمل ملصقات تروج للقائمة.

 * وسجل مراقبونا في النجف واقعة قيام سيارة تحمل الرقم 69176  تابعة لقائمة ائتلاف دولة القانون302 بالترويج العلني للقائمة، كما جرت في النجف تظاهرة لانصار قائمة الولاء الاسلامي وهتفت ضد القوائم الاخرى، وقامت القوات الامنية بتطويق المظاهرة ومحاولة تفريق المتظاهرين.

*في محافظة السماوة خرقت معظم القوائم الصمت الاعلامي وقامت بتوزيع كارتات الدعاية الانتخابية في الشوارع.


وفي ما بعد الظهر رصد مراقبو منظمة تموز للتنمية الاجتماعية والمنتشرون في عموم المحافظات خروقات للصمت الاعلامي نجملها بالاتي:

*بغداد
1.   ارسال رسائل قصيرة عبرالهواتف النقالة الى مشتركي خطوط عراقنا تدعوة المواطنين الى انتخاب القائمة 265 وهي قائمة التوافق 
2.   توزيع بطاقات دعائية للمرشح محمد الربيعي في ملعب كمب سارة .
3.   في منطقة الوزيرية  وعند جامع مصطفى العمري بالتحديد قيام بعض الاشخاص بتوزيع بوسترات وصور لقائمة الدكتور طارق الهاشمي  .
4.   في منطقة الكيلاني محلة 133 قام احد الاشخاص بلصق بوسترات على الجدران لقائمة اتحاد المستقلين  الرقم 129
5.   في منطقة الشورجة تم توزيع كارتات دعائية للفنان ستار البصري المرشح ضمن قائمة تيار الاصلاح .
6.   في مدينة الصدر قطاع 21 قام بعض الاطفال بتوزيع كارتات دعاية للمرشح الملقب بالهادلي ضمن القائمة 174 وهي قائمة حزب الفضيلة الاسلامية.
7.   في منطقة زيونة وقرب احد الجوامع قام بعض الاشخاص بتوزيع بوسترات وبطاقات لقائمة جبهة التوافق .
8.   وجود البوسترات الخاصة بقائمة تيار الاحرار المستقل على جدران  مدرسة يافا الابتدائية  وهي احدى مراكز الاقتراع المرقمة 94019 في منطقة حي الرشاد.
9.   وجود بوسترات الحزب الاسلامي على جدران مدرسة الازاهير في منطقة الصليخ الجديد والتي ستكون يوم غد مركز اقتراع ذي الرقم 58006  وكذلك وجود لافتات لقائمة الحل على مسافة لاتتعدى الستت امتار . وبحسب قوانين المفوضية يجب ان تكون الدعايات والملصقات بمسافة لاتقل عن مائة متر من مراكز الاقتراع .

*محافظة بابل  / مركز المحافظ  :

 ممثلي الكيانات السياسية المدرجة ادناه قاموا بتوزيع كارتات انتخابية  وبوسترات صباح اليوم.
1-      290             قائمة شهيد المحراب والقوى المستقلة.
2-      302             ائتلاف دولة القانون.
3-      208             حزب الولاء الاسلامي.
4-      450             كتلة الصادقين المستقلين.



*محافظة ديالى

- في قضاء بهرز قام احد الاشخاص بتعليق لافتة للمرشح كريم عبد الله البياتي ضمن القائمة 455  وهي قائمة علماء ومثقفي العراق وذلك صباح اليوم الجمعة 30 /1
في بهرز ايضا لازالت الملصقات الاعلانية للمرشحة سعاد ابراهيم القريشي وقائمة علماء ومثقفي العراق على جدران مدرسة ام الشهيد علما ان هذه المدرسة ستضم مركزين انتخابيين يوم غد وهما المركز 504004 و المركز 504010 .
*محافظة البصرة:
 -انطلقت مسيرة قام بها مؤيدو قائمة حزب الولاء الإسلامي (208) من مركز مدينة المحافظة نحو مركز مدينة العشار. كما نظمت قائمة الوحدة والعدالة ظهر اليوم مسيرة الية وزعت خلالها  منشورات تروج للقائمة.

*خروقات القنوات الفضائية:
 الجدول أدناه يوضح الخروقات التي تم رصدها من قبل مراقبينا:

 



391
الانسحاب الامريكي المُعجّل..
بهدوء

 عبد المنعم الاعسم
mm13mm@live.com 
 
في الجدل حول مصير القوات الامريكية في العراق على ضوء استلام الرئيس الامريكي الجديد باراك اوباما لمهامه الاسبوع الماضي ثمة ثلاثة عناصر مهمة، الاول، ما اذا سيتخذ اوباما (حقا) قرارا استباقيا بالانسحاب، والثاني، مصلحة العراق واوضاعه الامنية في حال الانسحاب المسبق، المفاجئ (من طرف واحد) والثالث، مكان الاتفاقية الامنية في القرار الاستباقي. اما في حال تأكيد الادارة الجديدة(النهائي) على استمرار التزام الولايات المتحدة بالتوقيتات السابقة، فان مثل هذا الحديث، وكل الاستطرادات الاخرى، يصبح مضيعة للوقت في ابسط تفسير له.
 لا ينبغي، من وجهة نظري، استبعاد (احتمال) ان يتخذ الرئيس اوباما لقرار الانسحاب المسبق، وفق الدستور الامريكي، او ما تتيحه نصوص (وروح) اتفاقية الانسحاب، او اللتزام بالوعود التي قطعها للناخب الامريكي، وهذا ما يلزم ان يعيه المحلل الموضوعي، وقبل هذا، ان تعيه النخب العراقية التي تمسك بدفة الحكم، والجهات الامنية بالمقام الاول، وحسنا فعل وزير الدفاع حين اعلن(منذ يومين) عن استعداد العراق للتعامل مع احتمال الانسحاب المفاجئ للقوات الامريكية من العراق، بصرف النظر عما كان هذا التصريح يتطابق حقا مع اهلية القوات الامنية العراقية للنهوض بهذه المهمة الثقيلة.
 وبكلمة، فان الانسحاب المسبق، ربما في غضون الشهور الستة المقبلة وارد، واضمُ صوتي الى الذين يتوقعون اعلان قرب الانسحاب (او برمجة امريكية للانسحاب) في اية لحظة، اخذا بالاعتبار بان الرئاسات الامريكية السابقة اتخذت مثل هذا القرار في فيتنام ولبنان والصومال، ولا يصح (إلا جزئيا)الاعتقاد دائما بان مسألة الطاقة وسوق البترول، او الالتزامات الاخلاقية والوعود التي سربت الى السياسيين العراقيين، تحول دون اتخاذ قرار كان قد نوّه اليه اوباما كثيرا، قبل انتخابه، حتى صار كما لو انه الالتزام الاول الذي جاء به الى البيت الابيض.
 واحسب، ثانيا، بان الانسحاب وفق توقيتات معجّلة سيكون، في المدى البعيد، في مصلحة العراق، وحصرا، في مصلحة التغيير وبناء الدولة الاتحادية الديمقراطية القوية والموحدة. اقول، في المدى البعيد، دون ان يتجاهل المراقب احتمالات اندلاع صراع قد تفتحه اطماع اقليمية، او خلايا الارهاب المستورد، او فلول النظام السابق، او مليشيات مشطوبة، لكنه(في حال اندلاعه) سيتبلور الى صراع بين خيارين: الحرب الاهلية او السلام الاهلي، الزمر الاجرامية او الملايين الآمنة، الردة الى دوامة العنف او المضي الى البناء ودولة القانون. واعتقد ان من على جسر هذا الصراع سيعبر العراق مرحلة الانتقال الى الدولة المستقرة.
 من جهة أخرى فان الاتفاقية الثنائية بين الولايات المتحدة والعراق لن تمنع الرئيس اوباما من اتخاذ قرار الانسحاب المعجّل، فهي تحمل في ثناياها مفاتيح هذا القرار باتاحة حق تكييف الالتزامات (بالاتفاق بين الجانبين) وبمعنى آخر، فان الانسحاب المفاجئ لن يعطّل الاتفاقية الثنائية، كما لم يكن شن الحرب على العراق، قبل ست سنوات، قد عطّل ميثاق الامم المتحدة، او علّق التزامات الولايات المتحدة بنصوصه.. انها واحدة من معاني النظام القطبي العالمي الجديد، وقل العصر الامريكي.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“لا تتخذ حليفا لك ليس لديه شيء يخسره”.
مترنيخ
ـــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


392
عم ستسفر انتخابات المجالس؟
 محاولة استباق


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com
 
 انتخابات مجالس المحافظات في الحادي والثلاثين من الشهر الجاري ستكشف عن حقائق جديدة في خارطة الرأي العام، وقبل ذلك، في ما يتعلق باهلية ومستوى استعداد الكيانات والجماعات السياسية لكي تنخرط، عن قناعة وايمان وجدارة في اللعبة الديمقراطية، وبمعنى آخر، ان من بين ابرز النتائج التي ستأتي بها الانتخابات تتمثل في الحالة الجديدة لاتجاهات الجمهور وموقفه من الخيارات المطروحة، من جهة، وفي الشوط الذي قطعته اطراف العملية السياسية لكي تكون حواضن عن حق لمشروع الديمقراطية في العراق الجديد، من جهة اخرى.
 معروف، انه في كل انتخابات حرة، تعددية، ثمة نتائج غير متوقعة، او ما تسمى بالاختراقات، وقد تترتب على ذلك تطورات واصطفافات جديدة ربما تغير الكثير من المسارات والمصائر والاقدار، لذلك تنشغل مؤسسات قياس اتجاهات الراي العام، ومعاهد البحث والتنبؤ والمستقبليات في القراءة المبكرة للنتائج والاحتمالات والتوقعات، استرشادا بمجموعة من المؤشرات والحقائق والمعايير، ومن الطبيعي ان تتحول تلك القراءات الموثقة الى سلعة ثمينة قيد التداول والتسويق فتزدحم على مكاتبها اشهر الشركات العالمية والبنوك واسواق المال ومنافذ السياحة وصناعة القرار، ذلك لأن الجميع بحاجة الى مراجعة حساباته وخططه على ضوء نتائج الانتخابات، وبخاصة تلك النتائج غير المتوقعة.   .
 على ان  افتقار الحالة العراقية الى مؤسسات تتولى تقديم تصورات لنتائج الانتخابات، هو التعبير الطبيعي عن هشاشة خارطة الراي العام نفسه واضطراب المحددات الاجتماعية والسياسية للسكان، ودخول عوامل الطائفية والفئوية والقبائلية على تلك المحددات، فوق الاثر العميق لتركات الاستبداد ودورات العنف وانهيار الدولة وقيم العدالة والانضباط في المجتمع، واستطالة مرحلة الانتقال وتعقّد مجاريها واستحقاقاتها.
 وكل ذلك حال دون كفاية عمليات الرصد والقراءة في اتجاهات المستقبل التي تستمد حركتها من تناسب القوى المؤثرة في تشكّل الراي العام، وبكلمة، فانه لا يمكن تحديد صورة المستقبل (ونتائج الانتخابات هي موضوع المستقبل الذي نتحدث عنه) بدقة، واطمئنان بسبب اعتلال الحالة الاجتماعية في العراق وبطء عملية تشكل الراي العام، وطبعا، لا يقلل من هذه التحديات القول التبسيطي الشائع بان العراق يشترك في هذا الحال مع دول كثيرة في المنطقة، وهذا نصف الحقيقة، اما النصف الآخر فنجده في خصوصية العراق الناجمة عن ظروف انهيار الكيان القديم للدولة (بسب ثلاثة حروب متصلة) وعدم قيام الدولة البديلة حتى الآن.
 في هذه المقدمة، علينا ان نأخذ بالاعتبار تلك العلاقة الوثيقة بين ومسار الاحداث في العراق وصناعة الاستراتيجيات في العالم، فحتى إلاعلان عن النتائج النهائية لانتخابات مجالس المحافظات، وثيقة الصلة بالانتخابات النيابية التي ستليها، سيبقى العالم يضرب اخماسا باسداس.
 على انه ثمة في انتخابات مجالس المحافظات، وفي اي انتخابات حرة وتعددية، نوعان من النتائج، الاولى نتائج رقمية، والثانية سياسية، لكن النتائج السياسية تتأثر (أقول تتأثر) بخارطة توزيع القوة والنفوذ والحجوم وعدد المقاعد التي تحتلها الكيانات السياسية في قوام الحكومات المحلية، ويدخل في عداد المؤثرات ملف التحالفات والاصطفافات بين الكتل، وطبعا، قد تحتل كتل صغيرة موقعا يزيد على حجمها اذا ما كانت مقاعدها القليلة تحسم توازنا قلقا بين الكيانات الكبيرة في حال انضمت الى هذه او تلك من الكيانات المتنفذة.
 وأحسب أن الجديد في نتائج هذه الانتخابات يتمثل، اولا، في اهتزاز (ولا أقول انقلاب) تمثيل الكيانين الدينيين للطوائف العراقية، وسيعبر ذلك عن نفسه في اختراقات هنا وهناك، وفي دلالات تراجع نسبة التصويت لهما، وفي مظاهر سياسية واعلامية ودعائية عديدة.
 ويبرز الجديد، ثانيا، في تفاوت النفوذ، بين محافظة واخرى، بالنسبة لفرقاء الائتلاف الحاكم الذين يتسابقون الى مقاعد المجالس، فقد يحصل(يكتسح. يستأثر) مرشحو كابينة الحكومة(الدعوة) على عدد قليل من الحكومات المحلية، فيما يفرض منافسوهم في الائتلاف (مرشحو المجلس الاعلى) نفوذهم على عدد اقل من الحكومات المحلية لكنهم سيستقوون بحقائب ليست قليلة لهم في حكومات اخرى لتحسين مواقعهم لكي لا يصبحوا القوة الثانية في تسلسل قوى الائتلاف، وستكون الارقام المعلنة تحت حساب ومراجعة من نوع آخر يأخذ بالاعتبار التحضير للانتخابات النيابية، والحساسية المتفاقمة حيال مكانة رئيس الوزراء والخشية من ان يمسك بالرقم الحاسم في المعادلات السياسية. لكن الامر الواضح في هذا الجديد هو تناقص حجم الكتلة التصويتية لمعسكر احزاب الائتلاف الى ما يقارب النصف بالمقارنة مع حجمها في انتخابات المجالس السابقة.
 والجديد في النتائج، ثالثا، سيظهر في تشرذم معسكرالتوافق وكل القوائم الممتدة في الطيف السكاني الذي يتحرك فيه ويراهن عليه، مع ظهور مفردات منافسة جديدة (الصحوات. الزعامات المستقلة) لكن حجم التصويت لمجموع القوائم في هذا المعسكر لن يتناقص  كثيرا عما كان عليه في الانتخابات السابقة، وقد يرتفع قليلا ، بسبب انحسار تأثير الجماعات المسلحة والقاعدة ونفوذ حزب صدام، الامر الذي سيساعد على تحسن طفيف في الاقبال على التصويت في مناطق كانت قد قاطعت انتخابات الاعوام السابقة او نأت عن ممارسة هذا الحق تحت تأثير التهديدات ودورة العنف.
وإذ لا يمكن قراء نتائج انتخابات اقليم كردستان وكركوك، بسبب إرجاء الانتخابات الى بضعة اشهر فإن الانظار تتجه الى حصيلة المقاعد التي يمكن ان تحصدها القوائم الصغيرة التي كانت الضحية الاولى للاستقطابات الطائفية والقومية خلال الانتخابات السابقة، والآن، تتضارب التوقعات حول الموقع الذي يحتله مرشحوها في الحكومات المحلية.. لكن لا بد من الخوض في نهر التوقعات، فربما نصيب.
وعند الحديث عن القوائم الصغيرة وهي صفة (توضيحية. شكلية)لكيانات انتخابية يلزم الاشارة الى انها تأتي في ما بعد القوائم التي تتقاسم المقاعد الرئيسية في الحكومات المحلية وسلطة القرار، وهي القائمة العراقية والفضيلة وجبهة الحوار والحزب الشيوعي العراقي وحلفاؤه والقوائم التي تتبنى شعارات الديمقراطية وخيارات النظام الليبرالي(اسلامية. قومية. وطنية)وقسم كثير منها تشظت عن احزاب تدير دفة الحكم (الاصلاح- الجعفري) واخرى تحتفظ بحضور اعلامي ناشط دون وجود في الحكومة المركزية او الحكومات المحلية (الالوسي) ومنها قوائم بصفة مستقلة لكن عددا منها اخذ صفة الاستقلال (وكالة) عن (التيار الصدري) والآخر حملها(تكليفا) عن جهات حاكمة، والبعض الاخير مدسوس على صفة الاستقلال من حزب صدام او برسم دول مجاورة، دون قصد التقليل من شأن مرشحين مستقلين لهم حضور وسجل لا غبار عليهما.
 طبعا من التبسيط القول ان القوائم الصغيرة يجمعها توصيف سياسي واحد، لكنها جميعا تشترك(وإن على نحو متفاوت) في عدم الرضا حيال الوضع القائم والتحفظ على سياسات(او مفاسد) الحكومة، وتخوض حملتها الانتخابية في شعارات تطرح بدائل عن نهج المحاصصة والطائفية والتبعية، وتحمل الحكم وطبقته المتنفذة مسؤولية استشراء الفساد، وثمة الكثير من هذه القوائم تخوض المعركة باسم ساسة (وضد ساسة معينين) وغيرها باسم مراجع قبائلية، لا احد يعرف الى اي كفة ستميل في حال وصولها الى مقاعد مؤثرة في مجالس المحافظات.
 من خلال القراءة الموضوعية لاحتمالات نتائج الانتخابات يمكن القول ان القوائم الصغيرة(بمجموعها) ستحصد غالبية كبيرة من الاصوات، لكن هذه الاصوات ستوزع على مقاعد ليست موحدة ولا يجمعها برنامج او عقد او حتى ادنى مستوى من التنسيق، وما يتبقى من تلك الاصوات سيجري ترحيله الى القوائم الكبيرة في نظام انتخابي صمم ليضمن تحكّم “الكبار” ومن السابق للاوان التنبؤ باشكال التحالفات التي ستظهر من عباءة هذه النتائج، لكن، اغلب الظن، ان مثل هذه التحالفات ستتحقق في المجالس المحلية طبقا لخارطة المقاعد ومصالح المراكز السياسية التابعة لها.
 على ان ثمة قوائم صغيرة ستأكل من ماعون القوائم الام(الاصلاح من الدعوة مثلا) واخرى ستستعيد جمهورا فقدته في ظل الاستقطاب الطائفي (مدنيون) وثالثة ستخرج بنتائج افضل مما يتوقع(المؤتمر الوطني) ورابعة ستتراجع في عدد المقاعد دون النفوذ (الفضيلة. الصدريون. التركمان. مجلس الحوار)
وفي هذه القراءة سنأخذ بالاعتبار التقرير الخطير الصادر عن المركز الوطني للإعلام، شبه الحكومي، استنادا الى استطلاع اجراه على اربعة الآف وخمسمائة عراقي “من جميع المحافظات والقوميات والاديان” يؤكد حصول التيار العلماني على 42 في المائة، مقارنة بالتيار الديني 31 في المائة، واحسب ان النتائج لن تبتعد كثيرا عن هذه الارقام إلا في ما يتعلق بترسيم حدود التيار العلماني، الذي يبدو حتى الآن من غير قسمات سياسية واضحة المعالم.
لكن هذه القراءة ستكون ناقصة إذا لم نجب عن السؤال التفصيلي المهم: ماهي حظوظ الفئات الديمقراطية، غير الدينية، في هذه الانتخابات؟ الآن دخلنا المنطقة الملغومة من رحلة التوقعات.. فلنجرب.
 ان التيار الديمقراطي او الفئات الديمقراطية(والاصح: الجماعة الديمقراطية) مفهوم ومصطلح شائع في الادب السياسي العراقي، يأخذ خصوصيتة المحلية من تار يخ الكفاح الطويل من اجل الديمقراطية في العراق، إذ افرز على السطح تلك النخب التي ارتبطت بذلك الكفاح وصارت جزءا من الحالة الديمقراطية التي تحققت في منعطفات قليلة، وكانت ضحية لغيابها على يد حكومات الاستبداد والدكتاتورية.
 وإذا ما تجاوزنا البحث في علاقة المكوّن الكردي(وهو جزء عضوي من هذا الطيف) بالانتخابات، بسبب تاجيل انتخابات محافظات الاقليم، فان الموضوعية تلزم القول بان الحزب الشيوعي العراقي (مع اجيال من اعضائه وانصاره الذين ايتعدوا عنه او انتقلوا الى مواقع اخرى) يقف في قلب هذا الطيف، ويضع بصماته على هياكله وانشطته ومعاركه ، إخفاقا او نجاحا، مع الاخذ بالاعتبار حقيقة غاية في الاهمية وهي ان التطورات العراقية طوال ست سنوات اظهرت الى السطح شرائح وتجمعات وشخصيات ديمقراطية(وليبرالية) جديدة لم تخرج عن معطف الحزب الشيوعي ولا تمت لتاريخه ومنهجه بصلة. 
 تمتد الفئات الديمقراطية، المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات على طيف واسع من الاحزاب والتجمعات والشخصيات التي يجمعها خيار التعددية وبناء الدولة المدنية (غير الدينية وغير العسكرية او القومية) ونبذ العنف والطائفية السياسية واحترام حق الشعب الكردي في تقرير المصير، وفي داخلها(طبعا) الكثير من التباينات حيال  نظام الفيدرالية والتعاطي مع تركيبة الحكومة وسياساتها والموقف من المؤسسة الدينية وقضايا الاقتصاد، لكن القراءة المتمعنة في حركة الشارع تكشف عن تحول كبير، بخاصة في اوساط المتعلمين، لصالح خيار الديمقراطية والى جانب فئاتها، بل ان الكثير من شعارات الديمقراطيين(الانتقادية) اصبح مقبولا في الشارع، بعد ان اظهروا ابتعادهم عن دوائر الفساد والرشوة والاثراء والتعدي على المال العام.
 وتفيد المؤشرات الاستباقية بان رصيد الديمقراطيين من الاصوات سيكون كبيرا قد يصل الى اكثر من عشرين بالمائة منها وما يوازيها من حقائب الحكومات المحلية، وطبعا، سيتزايد تأثيرهم في حال تجمعوا على برنامج واحد، او متقارب، واحسي ان حصيلة النتائج ستسجل بعض الاختراقات، في محافظة او اكثر، لصالح التيار الديمقراطي، باسم قواه الرئيسية او باسم شخصياته الاجتماعية.
غير ان الاكثر اهمية يتمثل في ان خارطة المقاعد النهائية ستعطي للتيار الديمقراطي جرعة شجاعة وحماسة وتأمل للبحث في سبل تفعيل عمل هذا التيار ووحدة صفوفه او فعالياته، مقابل سؤال ثقيل عما اذا كان كانت القوى الاخرى ستسمح له ان يكون ورقة فاعلة في معادلات المستقبل.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"إذا ذكرت لكم ما لا تقبله عقولكم فلا تقبلوه".
الشافعي


393
غزة..
التكرار الباهض الثمن


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com
 
 مشكلة غزة هي مشكلة العرب، وعلى وجه الدقة، هي مشكلة هذا القوس الاقليمي الذي يقع الى جنوب العالم بالنسبة للجغرافيا الاقتصادية الدولية، فكلما تتعرض المنطقة ، او  دولة منها الى عدوان خارجي، حتى من الطبيعة، مثل الزلازل والفيضانات وعوارض التصحر والمجاعة، فانها سرعان ما تترك العدوان يحقق اهدافه، ويستنفذ زخمه، ويتربع على ارخبيل آمن من اراضيها، فيما هي تنشغل بالملامة والتخوين وسلسلة الاتهامات والتهديدات، ثم(خلال ذلك) تنقسم بين صقور وحمائم، او بين خنادق ومعسكرات، او بين محبذين للحرب حتى الموت، ومناصرين للسلام حتى الانبطاح، وفي النهاية، لا المتشددين كسبوا مجدا، ولا المنبطحين نالوا جزاءا. وحدهم النساء والاطفال وعابري السبيل من المدنيين دفعوا ثمن الحريق، قتلى ومعوقين ولاجئين في ارض الله الواسعة.
 ما يجري في غزة كارثة انسانية بالالوان الطبيعية، لا يمكن ان تبرر تحت اي ذريعة، ولا يمكن لمن يرتكبها ويغذيها ان يفلت الى الابد من العقاب العادل، فان حشرجة ام تنزف داخل منزلها حتى الموت، ومقتل طفل في مهده، وحصد ارواح بريئة من طالبات المدارس، وحشر مئات الالوف من البشر في محرقة الموت بجريرة غيرهم، تعيد حاضر العالم الى عصر الغابة، وترسم صورة مقربة عن تلك السياسة الغاشمة التي تقود اسرائيل في طريق الحروب والتوسع والعدوان.
 وما يجري في غزة، يكشف، بالاضافة الى الهمجية الاسرائيلية، تلك الشعارات المهلكة التي تخوض حروب التحرير، كل مرة، لا لتحرر الارض من المحتلين بل لتحررها من السكان الآمنين، نساء واطفالا وشيوخا، بوصفهم بشرا فائضين عن الحاجة، ولا لتستعيد ما  فقدته من ارض بل لتترك المزيد من الاراضي تحت دبابات المحتلين، ثم، ليرفع اصحاب تلك الشعارات العبثية علامات النصر فوق الخراب وجثث الضحايا دون ان يرف لهم جفن، او ترتجف فيهم ندامة.
 ما يجري في غزة، يا للغرابة، هو نفس ما جرى لفلسطين منذ ستين سنة: الحرب بالشعارات. والذين يسقطون قتلى في غزة الآن هم احفاد اولئك الضحايا الذين ماتوا تحت وابل  من القصف او دفنوا تحت خراب المنازل والبنايات، كما ان المتفرجين  اليوم هم ايضا تحدروا من اولئك المتفرجين الذين لم ينجدوا ابناء جلدتهم، بل تركوهم الى مصائر واقدار تنتحب عليها الاجيال والكتب والقصائد، وراحوا يتبادلون الاتهامات بالعجز والاستسلام والمغامرة وسوء التقدير والجبن في الوغى، وغيرها من عبارات تبرئة النفس من المسؤولية، فضاع الوطن.. وضاعت معه قطرة الحياء.
ــــــــــــــــــــ
كلام مفيد: 
"كل شئ يبدأ صغيرا إلا المصيبة".
مثل فلسطيني
                 

394
الانتخابات
بين اعلام الدولة.. والحكومة


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 الذي يجلس قبالة فضائية الحكومة اربع وعشرين ساعة(كما جلستُ)منذ ايام، وكان في ذاكرته صورة وإداء فضائية(واعلام) نظام ما قبل التغيير، سيعرف ان العراق يشق طريق الاعلام الحر ويضع علامات بارزة على هذا الطريق يمكن لها ان تتسع، مستقبلا، لكي تعبر الى ذلك الاعلام الذي لا يتغير بتغيّر الحكومات، ولا يخضع لابتزاز واملاءات القوى المتنفذة.. ولا يخاف.
 كان الاعلام الحكومي لعهد الدكتاتورية يتحد عضويا بطبيعة ذلك النظام، ويلتزم مشيئته وارادة الحلقة الضيقة التي تتحكم في رقاب المجتمع، ولا يخرج عن الواحدية البغيضة التي تكرس نفسها كنظرة وحيدة (وغيرها محرم)نحو العالم او نحو مصائر البلاد.. خياره هو الخيار الوحيد، وكلمته هي الكلمة الفصل، وصورة الدكتاتور هي الصورة والاطار والملهم، وقراره هو القدر المحتوم المفروض والمقنون، وضحتكه فرع من ابتسامة السماء، وغضبته لا تتراجع إلا بعد ان يطاح برؤوس ورقاب، ثم، لا احد يعرف متى يضحك ومتى يغضب، فيما كانت الشاشة الحكومية وإعلام السلطة رهن اهواء لا يعرف احد مقدماتها، وكان يطاح بمن لا يجيد الركض على حد السكين.
 اقول، كان ذلك هو ما توارثناه من إداء اعلامي وثقافة دعائية ذليلة، قبل ان ننتقل الى عهد اعلامي مفتوح، اختلطت فيه كل اجناس واتجاهات الاعلام بما فيها بصمات من الاعلام السابق للتغيير، واعلام الردة والتجهيل والخرافة، جنبا الى جنب مع اعلام الوعي والمعلومة النظيفة، في حين وقف الاعلام الحكومي مضطربا ومترددا بين جميع هذه الاجناس، بل انه تعثر في اكثر من موضع واخفق احيانا في تجسيد معنى ووظيفة "اعلام الدولة" العصرية.
 وتعدّ انتخابات مجالس المحافظات والحملة الانتخابية للقوائم والشخصيات المختلفة اختبارا مهما لكفاءة واهلية هذا الاعلام وقدرته على ان يكون حياديا في نقطة استيعاب دلالات الحملة والعمل على تطوير حق التعبير وتقاليد الفروسية الانتخابية، ويستطيع المراقب ان يرصد بعض الزلات والضعف على الرغم من الامكانيات الهائلة التي تضعها الدولة تحت تصرف الاجهزة الاعلامية التابعة لها.
 الوقت لا يزال مبكرا في الحكم النهائي على مهنية الاعلام الحكومي وحياديته بين المتسابقين.. واستباق الحكم الان مثل الحكم على متهم لم يرتكب جريمته بعد. 
  على ان ثمة حقيقتان ينبغي تثبيتهما قبل الخوض في قضية شائكة مثل "إعلام الدولة والانتخابات" الاولى، ان على سطح هذا الاعلام، في القيادات وغيرها، كفاءات اعلامية مهنية ممتازة لا تخطئ البصيرة التقاط بصماتها في مرافق مختلفة، كما لا تخطئ في تسجيل ان الكثير من هذه الكفاءات عاطلة او متفرجة او تعطي اقل بكثير مما يمكن ان تعطيه، والثانية، ان التابعية للدولة لم تجهّز في "تعليمات" او قوانين او تقاليد متراكمة واضحة الامر الذي ترك المجال امام اضطراب هذه العلاقة وتأويلها على نحو اعتباطي ومغلوط باعتباها علاقة مع الحكومة، والحكومة طبعا غير الدولة.     
 في كل الاحوال، وباستثناء دولة الحزب الواحد القمعية، يلزم وضع ترسيم، او مسافة محسوبة بين الحكومة و"اعلام الدولة" حين يجري الحديث عن دولة المؤسسات والقانون والتداول السلمي للسلطة ليس فقط لان الصحافة والاعلام سلطة رابعة تحتفظ باستقلال ومكانة خاصة بل ولأن الحكومات في الدولة الديمقراطية  تتغير فيما المؤسسة الاعلامية للدولة باقية، لكن، في غالب الاحيان تحاول الحكومات، حتى في الدول الديمقراطية العريقة، ان تتسلل عبر هذه المسافة لتقضم من سيادة الاعلام، وسِجل مؤسسة البي بي سي وعلاقتها بالحكومات البريطانية المتعاقبة، مثلا، زاخر بالمشاكل والاختراقات، والشكاوى.
 في هذا الملف الكثير من الصراعات والتجاذبات، إذ يتشكى اعلام الدولة من ضغوط او املاءات تمارسها الحكومات عليه، فيما تمكنت دول ديمقراطية عديدة من ضبط هذا الصراع وسد ابواب الشكوى والتجاوز بتشكيل مجالس ادارة مستقلة من كبار الاعلاميين المشهود لهم بالمهنية والنظرة المستقلة ومن خبراء ودبلوماسيين ورؤساء تحرير سابقين وتكنوقراط وممثلي الاحزاب الحاكمة والمعارضة، وبصلاحيات وآليات وضوابط تحول دون تدخل الحكومة في تفاصيل الخدمة الاعلامية واتجاهاتها، وذلك ضمانا لحياديتها وسلامة إدائها.
 فما هو حال الاعلام التابع للدولة لدينا؟
 حتى نقترب من هذه الصورة علينا ان نفتح الملف من ثلاث زوايا، الاولى، حداثة تجربة الاعلام الاحترافي المتوازن والقادر على بناء اعلام جديد وضعف وعي عناصر المهنية الاعلامية من العاملين والمسؤولين على حد سواء، والثانية، طبيعة مرحلة الانتقال التي يمر بها العراق من حيث التداخل بين الخيارات ودوامات العنف والاستقطاب الطائفي والتحديات واضطراب المعايير وتفاوت استيعاب موجبات دولة المؤسسات، والثالثة، ضعف فاعلية الجمهور في تصويب مسار الاعلام.
 على ان تعاقب اربع حكومات وثلاثة مراجع للتشريع واربعة تجارب انتخابية  في غضون اقل من ست سنوات، ساعد في اطالة يد مراكز الحكومات على اعلام الدولة واخضاعه لمشيئة "رئيس السلطة" وإن بنسب متفاوتة، وكانت الانتخابات في كل مرة تكشف عن هيمنة المركز الحكومي على شبكة الاعلام التي يفترض انها تابعة للدولة ، وقد عبرت هذه الهيمنة عن نفسها بربط الدعم المالي لهذا الاغلام  بضمان الولاء لرأس الحكومة، وتعيين الاكثر استعدادا للولاء و(احيانا)الاقل مهنية على راس المؤسسة الاعلامية، وهذا يفسر السبب في كثرة المسؤولين الاعلاميين الذين تركوا المؤسسة،  وكثرة الذين حلوا محلهم، مثلما يفسر سبب تضخم جيش وميزانية هذه المؤسسة. 
 ان انتخابات مجالس المحافظات التي يجري التحضير لها تعيد فرضية استقلال اعلام الدولة الى دائرة الضوء.. اعني الى دائرة الشكوى، فما هو المبرر، وما هو غير المبرر لهذه الشكوى؟.
من زاوية، لا يبدو الامر سهلا ان يقوم إعلام خرج توّا من تأثير مرحلة مظلمة بوظيفة اعلام دولة بالمعنى العصري لهذه الوظيفة، ومن هذه الزاوية يمكن ان نحشد الكثير من المعطيات عن مساعي الحكومات المتعاقبة لمنع تبلور إعلام دولة مستقل، وقد تظهر هذه المساعي بشكل فاقع عشية كل سباق انتخابي تنخرط فيه العملية السياسية في العراق، وببن ايدينا جملة تعديات (بعضها غير متداول) لرؤساء حكومات على سيادة السلطة الرابعة ومحاولات تدجينها، او توظيفها في خدمة حملتهم الانتخابية.
 على مسؤوليتي اشير الى ان موقف اعلام الدولة (حاليا) من التنافس في انتخابات مجالس المحافظات يتسم بقدر معين من الانضباط والحذر والنأي عن الدعاية المباشرة لاصحاب القرار السياسي، واضيف، ان الاداء الاعلامي لاقنية الدولة يسجل الان رصيدا طيبا في عدم الانحياز لكابينة الحكومة اذا ما وضعنا تجارب السنوات الست الماضية مقياسا، ومثلا للمقارنة، ولا ازعم انها الحيدة المهنية المطلوبة، فان هذه الحيدة تحتاج الى العديد من العناصر وتتجسد اخيرا في الفرص المتساوية التي ينبغي ان تتيسر للفرقاء المتنافسين للوصول الى الجمهور عبر اقنية الدولة.
 وإذ يُحرم على جميع المرشحين استخدام دوائر الدولة وابنيتها واقنيتها في الحملة الانتخابية تحت طائلة القانون، فان هذا وفرّ رادعا قانونيا يحول دون استخدام اعلام الدولة بالدعاية لمرشحي قوائم قريبة من الحكومة او من سلطة القرار فيها، وحرمان القوائم الاخرى منها، وحسب متابعات نشرت، فان اكثر من خرق جرى لهذا الالتزام (وكنت احد الذين سجلوا وقائعه لصالح مرصد يراقب سلامة الانتخابات) وان جهات معنية تحقق في شكاوى هنا وهناك من تجاوزات اعلامية لمراكز نفوذ، فيما عبر موظفون في اقنية اعلام الدولة عن عزمهم على احترام الهوية المستقلة والمتوازنة لهذا الاعلام.
من جهة اخرى، فان المتنافسين في انتخابات مجالس المحافظات ينالون فرصا مفتوحة لترويج شعاراتهم وبرامجهم الانتخابية، عبر الاعلام الحر او عبر وسائلهم الاعلامية او عبر اشكال الاتصال بالجمهور، وهذا بحد ذاته يقلل من الضغط على اعلام الدولة، وربما يقلل الحاجة له من جهة، وينهي احتكار الدعاية الانتخابية لاي طرف من الاطراف بما فيها سلطة القرار الحكومي من جهة اخرى، واحسب ان هذا التطور سيكون، في نهاية المطاف، في صالح بناء اعلام دولة عصري، وسيفتح الطريق نحو اعادة هيكلة هذا الاعلام وترشيقه وتأهيله مهنيا ووظيفيا لكي ينهض بمهامه المعرفيةوالتنويرية، فوق ان يكون اعلاما للشعب وليس لفئة من فئاته.. تعالوا نتفاءل قليلا.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"للنهر عقاب واحد لا يمارسه دائما، هو إغراق الذين يدخلونه قبل ان يتعلموا السباحة".
حكمة برازيلية     

395

حادث الحذاء..
سياسة وسايكولوجيا وحميّات


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live .com
 
اليوم اريد ان "اذهب الى الحج والناس راجعة" فادلو بدلوي، متأخرا، في قضية لم تطو بعد ولا يصلح اختصارها إلا بكلمة واحدة يتحاشاها اللسان، عادة، في محافل الادب والكتابة والكلام، ويسبق ذكرها العراقيون بعبارة "حشاكم" واعني كلمة (الحذاء) ذي الصلة بحادث إقدام صحفي عراقي على قذف فردتي ملبوسه على الرئيس الامريكي جورج بوش عقب انتهاء مؤتمر صحفي كان يعقده مع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، إذ خرجت الكلمة من حراجة التلفظ والحشمة وانضباط المخاطبة الى جميع فضاءات(وبذاءات) اللغة، والى اوسع محافل اهل الحكم والفلسفة والراي والسياسة والخيال
 والطرافة، ودخلت الى تمارين الدفاع والتبرير والتسويغ من اوسع ابوابها، والى حملة التنديد والاستنكار والتعفيف من جميع معابرها، والى تمارين التحليل والمشاوفة والتأمل من خلال صلة الحادث بحق التعبير عن الرأي من جانب، وصلته بالصراع السياسي في العراق ومشتقاته من جانب آخر، فضلا عن التداعيات وطشار المواقف التي ترتبت عليه من جانب ثالث.
 وسواء خرج الحادث عن ملكية صاحبه(الصحفي العراقي) بعد ان تخاجل منه، واعتذر عنه،  ويُعدّ (او يجري الاعداد) لكي يتبرأ علنا وعبر الشاشات الملونة من المدافعة عن مبرراته بوصفه تصرفا غير لائق،  كطريق(او شرط) لاطلاق سراحه، ام بقي لصق صاحبه، فان هذا لن يعني شيئا، ولن يغيّر من حقيقة ان الحادث نفسه، بلحظته وتوقيته، كان بمثابة زلزال إعلامي وسياسي وسايكولوجي غير مسبوق، ولم يكن ليقلل من صداه واثره (وحتى احتمال استمراره)التجاهل او محاولات تصريف شحناته في ما يعرف بالاحتواء، وقد تصل موجة ردود الافعال (وهي وصلت فعلا) الى تداخل عجيب بين تسفيه الحدث
 وبين الاعتزاز به، كمشتركان في مسؤولية إبداء الرأي "وكل مشتركين في شئ يلزم افتراقهما بشئ آخر" كما يقول الشهيد السهروردي.
 في كل الاحوال لابد من استخراج عنوان مثير من حادث الحذاء يتعلق بالاحتفاء العربي اللافت بالمبادرة (مقابل تحفظ عراقي بائن) فيما لم يكتفي التحليل السايكولوجي للحادث بالتفسير الشائع بان هذا الاحتفاء العربي هو التعبير التلقائي العفوي عن كراهية السياسة الامريكية في الشرق الاوسط انما مضى الى ابعد من ذلك الى (اللحظة) الحضارية- الثقافية التي تمر بها شعوب الاقليم، وقد كانت اكثر المعاينات في هذا المجال تتوقف عند "مازق" هذه اللحظة  وتشوهات السطح الذي تتحرك عليه، وقد وصف أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء محمد ضريف
 الترحيب العربي بالحادث بوصفه " نوع من التعويض النفسي عن هزيمة داخلية لدى المحتفلين، وشعور بالإحباط تجاه الأنظمة العربية التي لم تستطع رفع التحديات المطلوبة أمام شعوبها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا" فيما تحدث المفكر احمد ابراهيم الفقيه عن "الهستيريا التي اصابت العالم العربي"  باعتبارها، كما قال بالنص "حالة غير سوية يعاني منها العقل العربي" اما المفكر العراقي في علم الاجتماع قاسم حسن صالح فقد عاين الفعل بحذر شديد ناصحا الاخذ بنظرية "العوامل النفسية" وراء تصرف الصحفي العراقي كتعبير عن طبيعة الشخصية العراقية.
 السايكولوجية تقول اشياء كثيرة في دلالة ان يلجأ صحفي متاحة له ظروف وشروط ومنصة وورق وشاشة ومكان آمن وابواب السياسيين وكبار المسؤولين للسؤال او للتعبير عن رايه وسخطه فيتركها جميعا الى اعلان ذلك الراي بالحذاء، ولها كلام، طبعا، في ذلك المهرج السعودي الذي عرض شراء الحذاء المذكور بعشرة ملايين دولاء فتبيّن، بعد ذلك، انه نفسه لا يملك ثمن حذاء جدبد.
وحين يتعلق الامر بردود الفعل(العراقية) الناجمة عن حادث رمي الرئيس الامريكي جورج بوش بالحذاء فان المعاينة المتأنية ترصد البعد التالي: مؤيدو التغيير والعملية السياسية والحكومة وفئات شعبية ونُخب متعلمة وثقافية تخشى العنف والاضطرابات وعودة دوامة الارهاب والمليشيات استنكرت الحادث واستبشعت فعلة الصحفي، فيما وقفت شرائح مناصرة لـ"المقاومة" والعنف ونخب اعلامية وثقافية مناهضة للحكومة وللسياسات الامريكية ومجموعات محسوبة على دول تقاتل امريكا على الارض العراقية الى جانب "المبادرة" وتجملت بصاحبها.     
 لكن الحمية السياسية، في الدفاع عن الحادث او استنكاره، سقطت في التبسيط حين اعتبر المدافعون "رمي الحذاء" ردا مشروعا (وثورة)على مهانة جعلوا لها عناوين كثيرة، او حين افترض المستنكرون ان فعلة الصحفي استفزاز للاداب و(مؤامرة) حيكت في الظلام واستنبطوا منها روايات عدة، وثمة القليل، حتى الآن، من خرج من التبسيط الى التأمل في عمق المشهد، والادق، ان تأشيرات مهمة توصل لها البعض من المعاينين والكتاب واصحاب الراي سرعان ما ضاعت في مجرى النهر العكر وفي ضجيج الشعارات.     
 الموضوعية طبعا تلتمس لهذا التبسيط معاذيره اذا ما اخذنا في الاعتبار الطابع الدراماتيكي والمفاجئ والمثير للحادث، بل انها لا ينبغي ان تتجاهل بان رمي الحذاء نحو رئيس اكبر دولة في العالم وهو في حالة زهو بروتوكولية وعلى الهواء كان ينطوي على رد سياسي ما، كما ينطوي (ايضا) على فظاظة اخلاقية ما، دون ان يكون هذا التاويل كافيا إذا ما شئنا ان نذهب الى خلفيات صنعت الحادث.. خلفيات نسترشد لها في علم الاجتماع والسايكولوجيا وعلوم السياسة، ليس لتشريح دواعي إقدام الصحفي على فعلته(فان هذا شأن المحققين والقضاة) بل لكشف ما هو ابعد من ذلك: البيئة
 السياسية والثقافية- الحضارية(العراقية) التي انتجت هذا الحدث وتنتج احداثا وثقافات وممارسات مثله على مدار الساعة.
 لندع مؤقتا قضية المشروع واللامشروع في حق رمي الحذاء من قبل صحفي عراقي  نحو رئيس دولة اجنبية زائر(او محتل) ولنقترب اليه من زاوية اكثر علمية، فنحن، هنا، حيال تصرف انفعالي( شجاع او ارعن) ينحرف الى خارج المعقول والمتوقع بفعل كبت  متراكم (الكبت في السايكولوجيا له تعبيرات كثيرة) قد يمتد الى عقود وعقود في حياة المجتمع ليجد فرصته المواتية في الانفجار.. حسنا، كم لدينا من مثل هذا  التعبير الانفعالي اللامعقول عن المكبوتات مما نراه في الخرافات والعصبيات والثقافات المشوهة والملتاثة والتعديات على العقل والاخلاق والممارسات الجاهلية الغريبة،
 من ظاهرة الدروشة حتى ظاهرة النساء الانتحاريات؟.           
 هذه، برأيي، الحلقة التي ينبغي الإمساك بها، فان اعتلال المشهد الحضاري والثقافي لراهن العراق، وقيام مؤسسات سياسية واخلاقية بحماية هذا الاعتلال، سبب تفريخ مثل هذا السلوك الذي يخرج من انضباط العقل، ولعل اخطر ما يترتب على هذا السلوك، وسواه، تلك الحمية السياسية والاعلامية التي تبرره كحق للتعبير، او تصنع منه مثالا للبطولة التي ينبغي ان يحتذى بها.. و(يحتذى) هي الاخرى من مشتقات الحذاء.. يا للمصادفة. 
 والان، لنبتعد خطوتين عن ضغط السياسة والاعتبارات الاعلامية، فقد استنفذ حادث الصحفي شحنته وزخمه، وعاد الى ما كان ينبغي ان يكون مكانا له وهو ساحة القضاء، فماذا يختلف إقدام صحفي عراقي على رمي حذاء على رئيس دولة اجنبية (كتعبير عن رأي) عن إقدام شابة عراقية على قتل نفسها في مركز شرطة(كتعبير ايضا عن الرأي) عن مثقف (محامي. مهندس) يشكل حركة سياسية مسلحة(مهدوية) تؤمن مكانا لمنتسبيها في السماء (كشكل من اشكال الراي) عن عشرات العناوين من انشطة الجهل الانفعالية التي انفلتت من عقالها خلال سنوات الخروج من علبة القهر والاستبداد والدكتاتورية
 والكثير منها جرى تسييسه، وجرى تبنيه (وركوبه) من قبل احزاب سياسية ومنظومات عنف وعقيدة؟.
 حين نعاين المشتركات في ما نراه من سلوك غريب وغير مسبوق وخارج عن حدود المنطق من زاوية علم النفس فان علينا ان نتذكر امرين، الاول، بان علم النفس هو في حقيقته علم السلوك، وثانيا، ان في هذا السلوك اتجاهين، واحد نحو الارتقاء بموازاة التحضر وآخر الى الانكفاء لصق الخرافة، وفي هذا حصر الباحثون "محركات السلوك" في ثلاث مجموعات، الاولى، ما يحسه الفرد قبل ان يقدم على عمل مثير، والثانية، ما يجري في ذهنه قبل فترة طويلة من الفعل، والثالثة، ما يعلق عليه في المستقبل من اهداف ونتائج إذا ما قام بالفعل.
 وفي جميع الاحوال، فان البيئة المتوترة واللحظة التاريخية المأزومة تنتج سلوكيات انفعالية غير منطقية تنفذ بواسطة افراد يسعون الى تحقيق "راحة البال حيال حالة التوتر والقلق" كما يذهب العالم النفساني ثورندايك، او كما يقول ارسطو :"عندما توجد اللذة والالم فلا بد من وجود الرغبة" وقد تظهر بعض الافعال اللااخلاقية في السلوك كما لو انها نوع من المقامرة، لكن شوبنهاور يؤكد بان "المقامرة إعلان إفلاس الذكاء البشري" او انها تظهر كاعراض لفقدان العقل او المرض النفسي، ولهذا التفسير ما يبرره في الكثير من المعطيات والمعلومات عن الاضطرابات النفسية
 التي كان يعانيها اولئك الذين يقومون بالافعال الانقلابية غير المتوقعة وإن كان الكثيرون يدفنون اعتلالاتهم تحت سلوك منضبط من الخارج.
 قال لي مراسل لاحدى الفضائيات شهد وعاش (حادث الحذاء) ان الصحفي صاحب الفعل كان شديد الاضطراب والقلق طوال الطريق الذي كان يقطعه الى قاعة المؤتمر، وانه نزع فردة حذاء واعاد لبسها قبل ان يدخل القاعة، وقد اعترف نفسه في رسالته الى رئيس الوزراء بان ثمة عارض غير مريح داهمه ليرتكب فعلته، كما شاهدنا وتابعنا الحالة المضطربة للانتحارية العراقية ساجدة العتروس التي شاركت في محاولة تفجير فنادق اردنية وانخذلت قبل التنفيذ، مثلما يتداول محققون معلومات غاية في الاهمية عن مخبولين شاركوا في عصيانات جاهلية، وثمة ما يشبه هذا حدث لعدد كبير من الذين
 حرروا من سجون النازية، إذ انكفأ بعضهم الى مخلوقات عدوانية قبل ان تتعافى مجتمعاتهم..فمتى يتعافى مجتمعنا؟.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
   "ان هذا القديم كان جديدا
                  وسيغدو هذا الجديد قديما"
ابو الفضل الاندلسي
mm13mm@live.com



396
عن الطفل يسوع.. وعنّا


عبد المنعم الاعسم
mm13mm@live.com

الطفل يسوع شق الرحم الى صوت رعد شاهق، ومنه الى اغصان زيتون كثيرة، ورطب، لبشرية كانت  تتقاتل بشراسة وتكيد لنفسها، ثم الى خشبة بمقاس قامة واحدة، وتضحية اسطورية، ثم الى رسالة محبة وسلام، لا نزال نجددها ونتجدد فيها، بوصفها العلامة الدالة على اننا مخلوقات مسالمة، او على وجه الدقة، اننا ولدنا مسالمين قبل ان نتوزع الى اقدار متناحرة: ملائكة وشريرين، مثلما توزع اصحاب يسوع الى قديسين وغادرين.
وفي كل عام، منذ نيف والفين، نعيد قراءة حكمة الطفل النبي، ونشوف منها احوالنا وامتعتنا وسجلاتنا، ونستشرف منها طالعنا وايامنا المقبلة، فنتساءل أي عالم عجيب حل بنا؟ واية سنوات ضارية اغارت علينا؟ وماذا ينتظرنا من عالم واعوام؟ ثم نتواكل على غريزة البقاء بمواجهة قوى الفناء والردة لنعطي المسيح بعض دين في رقابنا يوم حضنا على المسرات، وان يكون خبزنا كفافا “وعلى الارض السلام” وهكذا ارتبط هذا اليوم، الفيصل بين عامين، بالتمنيات، ولو تأملنا دلالة ان يتمنى الانسان خيرا فاننا سنجد هناك مشغولية في المستقبل، فليس ثمة امنية موضوعة على توقيت الماضي الذي استنفذ اماني كثيرة كنا قد اطلقناها عشية اعوام سقطت من التقويم.
وما دمنا عراقيون  في لحظة حرجة من التاريخ، تهددنا الانواء المضطربة من كل جانب، فان الامنيات تتخذ شكل الحياة بمواجهة الموت، إذ نقف بين الموت والحياة، بين ان نستأنف مشوارنا على الخارطة، او ان نستقيل من الخارطة، فيما تشارف اللعبة على الانتهاء، حيث تحزم الجيوش الاجنبية حقائبها، وتعد للرحيل وسنكون، آنذاك، وجها لوجه مع بعضنا. متعددون في الانتماء والعقائد والاديان والملل، وموحدون في الجغرافيا وفصيل الدم وحنفيات الماء. نقبل بذلك لنربح الحياة، او نرفضه لنخسر الحياة. 
واحسب ان العام 2009 سيكون عام مخاضات عسيرة اذا ما اخذنا بالاعتبار ان للمخاض علامات، وقل اعراضا، تسبق بلوغ الاجنة أجَلها إذ يبدأ الرحم بالانقباض والتمرد على مساحته وقدره، ولنتذكر اننا سندخل هذا العام ثلاثة انتخابات، اثنان محلية وواحدة نيابية، وبمعنى ما اننا سنخوض معركة في غاية الخطورة والحساسية لا تتحمل العبث، وان الكثير من الملفات المؤجلة والاستحقاقات ستدق ابوابنا ولا مفر من الحل، وان احتقانات وتجاذبات وعض اصابع وتحالفات في مراكز القرار السياسي (وفي القاع ايضا) قد تأخذ مسارات مغايرة(وهي ستأخذ تلك المسارات حتما) فلا سبيل للعبور الى ضفاف النجاة  إلا حكمة العقل والمسؤولية، وبخلاف ذلك فاننا حيال مصير اسود كانت قد سبقتنا اليه امم نسيها التاريخ المكتوب. 
ــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“لا كلمة اضرّ بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: ما ترك الاول للاخر شيئا”.
                                 
  ابن عبدالبر القرطبي
 

397
ننتخبكم..
لكن بعد ان نفتش جيوبكم

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com
 
ايها المرشحون لانتخابات مجالس المحافظات..
 واخص منكم الذين تربعوا سنوات اربع على اقدار وانفاس الملايين، واخص فيكم مَن اضاع (ولا اقول لطش) ثروتنا الثمينة وعرقنا النبيل في مشاريع فاشلة، واخرى موهومة، وثالثة مُتبرع بها الى اقارب وابناء عمومة ومحسوبين ومنسوبين، ونسيتم (ولا اقول لطعتم) الوعود التي قطعتموها للناخبين عشية آخر انتخابات، فكان عرقوب مجنيّ عليه بالمقارنة معكم، واهنتم الدموع التي هرقتموها على المحتاجين، فكانت التماسيح ملائكة بالنسبة لكم.
 ايها الاخوة الذين يبتسمون لنا من فوق اعلانات انتخابية باهرة، ممن كانت لكم بصمات سوداء على متاعبنا اليومية الناجمة عن شحة الماء الصافي وانقطاع الكهرباء، وتردي العناية الصحية والاستشفاء، وضيق السكن، والغلاء، والبطالة، واعمال النصب، والرشوة، والفساد والإفساد، والتهريب، والتجارة باصواتنا وآمالنا الطيبة.. انكم لتحتاجون الكثير من الجهود لاسترداد ثقتنا وكسب(ولا اقول اختطاف) اصواتنا، بعد ان ضُمنت لكم حياة الرخاء وحُرّمت علينا، وتبخترتم بالنعيم وتركتم لنا الجحيم، ولذتم بالبنايات المحصنة والحمايات المتراصة وتركتمونا طعما للتفجيرات وانتقام البرابرة وفلول عصر البعث وقطعان الدشاديش القصيرة والانتحاريات المحشوات بنشارة الخشب والحشيش.
 انكم، واقصد المقصرين منكم حصرا، وما اكثركم، مطلوبون لحسابنا وعدالتنا عن مسؤوليتكم عما حصل لنا طوال هذه السنوات العجاف، إذْ قضيناها في تشييّع طوابير الضحايا، والانتظار الطويل لمنّة البطاقة التموينية، وإذلال مكاتب تعيين العاطلين وزجر حراسها، وقضيناها، ايضا، في الظلمات الدامسة، وعلى صفيح الخوف من المداهمات العشوائية، ومن عمليات "المقاومة" الهمجية، فلم نجد منكم عونا، ولا حضورا، ولا خشبة نجاة او شفاعة، فقدموا صفحاتكم، ايها الاخوان، واعرضوا جيوبكم على الملأ، واكشفوا لنا دليل الحرص والنزاهة والغيرة والشهامة التي تدعون.
 وانكم (ولا اشك في مقاماتكم ومنابتكم)قد حولتم المناصب الى تكيات، وتركتم الادارات والبرامج وخطط التنمية واعادة الاعمار واحياء المشاريع طي الصفقات والكسب الحرام، وكنتم السبب(ولا اقول الوحيد) في تضييق شهية المثابرة وفرص العمل على ابنائنا الى حد باتت وظيفة شرطي لأحدهم بعيدة المنال من غير رشوة تصل الى ملايين من الدنانير، ووظيفة معلمة لا تمر إلا عبر وكلاء وهبوا فنون اكل الاكتاف، ووظيفة مدير محتكرة للمتحدرين من عظم الرقبة، وسهلتم  لعتاوي الجريمة المهذبة السطو على المليارات و"خطوط" المساعدات الدولية.
 كونوا، ايها الاخوان، منصفين معنا لمرة واحدة بالاعتراف باخطائكم.. انظروا الى اي حد نحن مهذبون وطيبون إذ نسمي الخطايا اخطاءا، والى اي حد نحن اوفياء لخيار التغيير والحرية والديمقراطية إذ نتحدى قوى الردة وفلول طبول الحرب وعصابات الجهل والارهاب، فنخرج الى هواء التصويت الحر.. وتذكروا ان اصواتنا، هذه المرة، عزيزة علينا.. معزة دمع العين.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"الدهاء يحتاج الى ثياب، لكن الحقيقة تحب ان تسير عارية".
حكمة

398
المشهداني..
الاستقالة وما حولها

عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com

كان رئيس مجلس النواب محمود المشهداني سيصبح مثالا طيبا لثقافة التنحي بالحسنى عن المنصب (التي نفتقدها ونروّج لها) لو انه تنحى من غير سيل الشتائم التي وجهها لزملائه النواب ومن غير المخاشنات التي ظهر فيها(للأسف) بعيدا عن لياقة المركز الرفيع الذي يحمله، امانة دستورية وسياسية وأخلاقية، والحق إنه خسر فرصة ثمينة لترجمة تلك الغيرة على العراق التي طالما تحدث عنها الى الواقع.
وكان تنحي رئيس مجلس النواب، لو تم من دون إكراه، سيشجع القول بامكانية واحتمال ان يتنحى اخرون، في السلطة التشريعية وفي غيرها من السلطات، وفي اسلوب دستوري يتسم بالشفافية والفروسية، حين يصبح من المتعذر عليهم العمل الجمعي وخدمة البلد من موقعهم ذلك، والواقع، ان سلسلة الاعتذارات التي قدمها المشهداني طوال مشواره على رأس السلطة التشريعية جعلت من مبدأ الاعتذار (على الاقل بالنسبة لحالته) بمثابة لعبة هابطة لغرض الاحتفاظ بالمنصب، وفرّغت قيمة الاعتذار من مضمونها المتحضر.
ولو تمت الاستقالة في وقت مبكر وبالتراضي كان مجلس النواب سيدخر الوقت الثمين الذي صرفه في التجاذب والجدل غداة كل عاصفة ومشكلة يثيرها رئيسه المستقيل، لبحث وتشريع مشاريع قوانين نائمة تمس حياة الملايين وملفات معطلة تهم بناء الدولة وتحسين ادائها  ، فيما القت المفردات التي تحركت فيها ازمة رئاسة البرلمان بظلالها القاتمة على مأزق المحاصصة السياسية، فضلا عن الاحراجات التي واجهت مرجعيات المشهداني، وتحول مصيره الى ورقة تتقاذفها الكتل البرلمانية، ويحاول البعض اختزالها الى ورقة ابتزاز جنب اوراق الابتزاز الكثيرة والمتناسلة يوميا على سطح الاحداث.
وقد يقال ان العبرة بالنتائج، وان فاصلة مزعجة من التجربة الديمقراطية عبرها البرلمان العراقي في منتصف دورته، وان تحديا دستوريا واخلاقيا خاضه البرلمان باقل الخسائر، لكن المؤشرات الطيبة لا تزال قليلة عن انضباط مجريات ادارة الصراع بين الخيارات، في البرلمان وفي خارجه، لجهة تحقيق بيئة سياسية منتجة وايجابية بكفالة الدستور وقيم الديمقراطية واحترام الرأي وتغليب مصالح الشعب على المصالح الفئوية، وقد يشار هنا الى التعطيل غير المبرر لقوانين مهمة وخطيرة لا تزال قيد التشريع بسبب خلافات وفجوات وانعدام الثقة بين غرف النخب السياسية.
وإذ تبدأ المشاورات والاتصالات بين الفرقاء لاحلال رئيس جديد للبرلمان يخلف رئيسه المستقيل، فان للمراقبين مبرر المخاوف من دخول العملية السياسية في ازمة  او تشرذم، او هزة  فوق ما تعانيه من اعتلالات، والخشية من ان لا تستفيد مرجعيات المشهداني من هذه التجربة المريرة والضارة بها في جميع المعايير.
 وحتى يجري اختيار (وانتخاب) من يخلف المشهداني في موقعه ستكون الظنون مفتوحة على احتمال المزيد من المرمطات.. وإن كان بعض الظن إثم.
 
ـــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــ       
“كان اذا نزل الامر المُعضل بالخليفة عمر دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي جدد عقولهم.”.
                                   
ابن ابي الحديد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


399
انقلاب عسكري.. ومسرحية


عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com
 
اذا ما قمنا بتفكيك واعادة تركيب المعلومات التي نشرت واذيعت وتسربت(ولا يزال البعض منها طي الكتمان) عن اعتقال ما يزيد على عشرين جنرالا عراقيا من الجيش السابق(والشرطة) اعيدوا الى الخدمة مؤخرا، فاننا يجب ان نعبّر عن قلق جدي حيال نشاط ذي طبيعة تآمرية، تحت طائلة القانون، قبل ان ندخل في تضاعيف  الحدث وهوية المشروع التآمري  واصل التجويفات التي استقبلت ابطاله واحتضنتهم.
وسواء كان لهذا “المشروع” وظيفة عنوانها “انقلاب عسكري” ام كان له صفة “الجيب” المساعد لاعمال العنف والانشطة المسلحة المناهضة للتطبيع والاستقرار، فان ملف اعادة الجنرالات السابقين الى مواقع فاعلة في منظومة الامن والدفاع لا بد ان يفتح على مصراعيه، مراجعة وتدقيق، سيما وان الغالبية منهم كانوا قد اعيدوا في “قطار” المصالحة الوطنية  الذي لم يكن ليتحرك، في كل مرة، إلا بعد تزييت ماكنته بقرار اعادة وجبة من  اولئك الضباط.
في هذا الملف (اعادة الجنرالات الى الخدمة) ثمة اشارات غير مريحة لا تخطئهُا بصيرة المحلل، فمن جهة، رمت فئات سياسية بكل ثقلها لكي “لا يبقى جنرال سابق خارج الخدمة” وسوّقت شعارا مضللا يقول انه لا مصالحة وطنية من دون إغلاق هذا الملف ، ومن جهة اخرى، استسهلت فئات اخرى الاستعانة باولئك الجنرالات، في بروفات عسكرية استعراضية كادت ان تنتهي الى اصطدامات وبؤرة توتر لا احد يعرف مداها، ويمكن القول ان اضطراب التصريحات عن مخالفات المعتقلين بين تهمة الاعداد لانقلاب عسكري، او التورط في مساعدة الجماعات المسلحة من فلول النظام السابق  يعكس تداخلا في مسؤوليات فئات متنفذة فوجئت باتساع وخطورة و”حراجة” حركة الجنرالات مما لم يكن في المقدور لفلفة الامر.
في التفاصيل (اولا) لا ينبغي التقليل من شأن المعلومات التي تؤكد بان خلية الجنرالات كانت وراء الاختراقات الامنية  التي شهدتها العاصمة بغداد في الاسابيع القليلة الماضية، وسقط فيها عشرات المدنيين الابرياء، و(ثانيا) لا يمكن طي الشكاوى المبكرة من تزايد نفوذ انصار صدام حسين في مفاصل عسكرية  يجري استخدامها في مناطق حساسة من البلاد و(ثالثا)لا احد يمنع من التساؤل الذي يكبر يوما بعد آخر عمن وفر لإولئك الجنرالات غطاء التحرك الى هذا الشوط الخطير في وزارة الداخلية حصرا، وهل حصل ذلك عن غفلة ام سوء نية؟ و(رابعا) لا بد من اعادة بناء المعلومات والتعقيبات التي نشرت قبل ما يزيد على ستة اشهر حول اخطار حدوث انقلاب عسكري في العراق، وتدقيق خلفيات هذه القراءة، و(خامسا) ضرورة التحذير من توظيف ملف الجنرالات المتآمرين في حملة للتنكيل بالاعضاء والانصار السابقين لحزب صدام حسين اذ قطعت مسيرة العملية السياسية شوطا مهما (وإن كان متعثرا) في ترشيد التعامل مع هذا الوسط  وفق القانون، و(سادسا) هناك  علائم وتصريحات وتحركات تتجه الى مخاطر توظيف هذا الحدث في الدعاية الانتخابية.
وفي التفاصيل، ثمة مسرحية كوميدية قدمتها شاشة عربية عن  انقلاب عسكري كان سيحدث في العراق ليعيد احياء نظام سابق، لم تقل تلك الشاشة انه تدحرج الى ما وراء عقارب الساعة.                       
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“اللي باعك بالفول بيعه بقشوره”.
  مثل جزائري

400
ساعة الحقيقة..
لا ساعة الصفر

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com       
 
 فيما بدأنا نسمع ونقرأ انباء عن بروفات لساعة الصفر، غير ان الواضح اننا بدأنا  نقترب مما يوصف بـ"ساعة الحقيقة" التي غيبناها طويلا في كومة من المجاملات واعتبارات السياسة وتوافقات المرحلة، ودسسناها، سنوات وسنوات، تحت بساط العملية السياسية، وقبلنا ان تمر من فوق ذلك البساط خطايا كثيرة لا يمكن لها ان تمر في ظروف اخرى، وزعامات ما كان لها ان تتفرعن علينا لو ان الزمن غير هذا الزمن، وصفقات ما كان لها ان تتم في كواليس غير هذه الكواليس، وخرافات لم يكن لها مكان يوما لو لم نوفرلها التكيات والامتيازات الاضافية.
 وساعة الحقيقة لا تحل، عادة، قبل ان يتمايز الخيط الابيض عن الخيط الاسود، وقبل ان يبلغ السيل الزبى، وان تتحرر الفروض من مزاد المساومة على الحقيقة، وقبل ان يحل ذلك اليوم.. "يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون عليها".. وسنكتشف ان الذين فرطوا في ساعات الحظوظ الذهبية يقفون، حينها، في نقطة الحرج، فان"ساعة الحظ لا تعوّض" وان مآل الاقدار الى حساب: فهذا لك، وهذا عليك.. آنذاك ستهرب العيون الى دقات بيك-بن التي تزن ما يقارب من اربعة عشر طنا، او الى ساعة متروبوليتان للتأمين على الحياة في نيويورك. 
 لنتذكر ان حلول الساعة يطلق على يوم القيامة، وان ساعة الحقيقة نطلقها عندما نكف عن(او نفقد الصبرعن) طي الاكاذيب، وان اكبر سجن لساعة الحقيقة هو سجن المسكوت عنه، وان اكبر المستفيدين من اعتقال ساعة الحقيقة هم اولئك الصغار الذين صعدوا، وصعدوا، وصعدوا في غفلة، او صفقة، او طربكة، من غير كفاءة الصعود، ولا حقوق الوجاهة.. "فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ثم اولئك الذين حَطوا انفسهم (او حُطوا) في حيّز اوسع من مقاسهم، واكبر مما يستحقون، فصدقوا انهم كبار او "طناطل" وانهم في مأمن من ساعة الحقيقة التي لا تعدوعن كونها ذرات متناثرة من الاقدار شاءت الحياة ان توحد اسرارها وتبعث بها الينا حين نكون بامس الحاجة اليها، يوما.
 بعد هذا فان ساعة الحقيقة غير "ساعة الصفر".. الاولى، لحكمة المراجعة، والثانية لخيار التآمر.. الاولى للسلام المؤجل، والثانية للحريق المعجل.. الاولى لاعادة انارة الزوايا المعتمة، والثانية الى اضرام النيران والكراهيات في كل الزوايا.. الاولى محاولة لاحياء الصحيح من السبات، والثانية لوضع الصحيح على مرمى المدافع، وثمة في ساعة الحقيقة وساعة الصفر، حين يتشابكان، ويتسابقان، الكثير من حكم التاريخ المثيرة.. هل تتذكرون قصة امبراطور انتهت به الاقدار ان يبحث عن ملجأ ينهي فيه بقية حياته.
 وكلمن ذنبه على جنبه.
ــــــــــــ
كلام مفيد:     
"عندما نعرف ان احدهم يرقص على سُلّم فان علينا تهيئة انفسنا الى لحظة سقوطه".
دانيل دييغو

401
مهرجان كلاويزللثقافة الكردية 
الحرية مرت من هنا


عبد المنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 مهما احطتَ المهرجان الثقافي، اي مهرجان ثقافي في حال مثل احوال العراق، بحصانة النوع ورقابة التخصص فان السياسة ستكون هناك. وبكلمة، فان السياسة تملك مهارة اقتحام الميادين الاخرى بسهولة لافتة، فكيف اذا كان هذا الميدان يتخذ من الثقافة عنوانا له، فيما بين السياسة والثقافة مصاهرة ابدية، كما يقول البير كامو؟.
 لكن الحديث هنا، وفي مايلي، سيتجنب الخوض في شعاب تعريفات الثقافة والسياسية، وسيلتقط منهما اوراقا ومعاينات تصلح كشهادة واحدة (بانتظار شهادات اخرى) لمهرجان كلاويز الثقافي في مدينة السليمانية(من 20 الى 27 نوفمبر 2009) اذ اجتاز هذا العام معبره الثاني عشر.
 ماذا ينفع فعالية ثقافية، مثل فعالية كلاويز، تقدم، طوال ستة ايام، اجيالا من المولودات الادبية والفنية، ان تقول انها كانت ناجحة؟ هذا ما تخرج به حين تشد على يد الاستاذ ملا بختيار، مسؤول المهرجان، غداة كل فقرة بالقول: "انها فعالية ناجحة" فيرد عليك بسرعة وتواضع جم: "بوجودكم.." وطبعا لا يقلل من شأن ذلك الاستنتاج وهذه الحميمية  بعض الملاحظات والمآخذ ذات الصلة بالتنظيم والمقروءات، ويعقب رئيس لجنة المهرجان عبدالله طاهر برزنجي على الانتقادات التي تفر من افئدة مشاركين مخلصين: "لا تنسوا ايها الاخوان اننا من العالم الثالث".
 لكن المهم، قبل وبعد هذا المهرجان، ان ثمة خيط نور ساطع تلتقطه المعاينة الموضوعية يتصل بالاصرار على فتح باب المشاركة على مصراعيه، ويقولون لك، في كل مرة "ان هذا ليس بالضرورة افضل ما لدينا"و "ان ثقافة الاقصاء لا تجدي نفعا" ثم تقرأ في استهلالات المهرجان المدوّنة: "انه منبر حر لكافة الثقافات المتنوعة، واصيص لتفتح الورود الملونة الزاهية" وايضا: "ان حضنه مفتوح لمبدعي الشعوب المتآخية، ومثقفي المنطقة من الكرد والعرب والفرس والترك" .   
 هذا العام، كانت مشاركة الادباء العرب من العراق(ومن خارج العراق) اوسع و"اثقل" من جميع المهرجات الاحد عشرة، في العدد والقراءات والتفاعل(حوالي الاربعين مدعوا) وقد وصفها الامين العام لاتحاد الادباء والكتاب العراقيين الاستاذ فاضل ثامر بالانتقالة الجديرة بالاهتمام، مقارنة بالسنوات السابقة، والامر اللافت ان الكثير من المشاركين العرب كانوا يحرصون على الاستماع الى القراءات الكردية(من دون ترجمة) ويمكثون على اماكنهم لساعات طويلة، وقال لي احدهم، عن صواب: "اننا نلتقط بآذاننا موسيقى الشعر الكردي ونتفاعل معها، ونتابع اجواء المناقشات الادبية والفكرية بلغة اهلها، والمهم، اننا نعوّد آذاننا على استقبال اللغة الكردية الشقيقة إذ تترسب الكثير من مفرداتها في الذاكرة حتى تصبح اللغة نفسها اليفة ومحببة" وإذّاك تذكرت ما كان يردده رسول حمزاتوف بالقول انْ "ليس لدي مشكلة مع لغات الامم التي احبها.. وطبعا لا اكره اية امة".

2ــــــــــــــــــــــــــــــ   
افتتاح مهرجان كلاويز كان بمثابة رسالة لمن يعنيه الوقوف عند اللحظة التاريخية التي تمر فيها الشراكة العربية الكردية، وهذه المرة في بعدها الثقافي، وقد ساهمت كلمات الرئيس جلال طالباني(القاها جلال الماشطة) باسم الدولة العراقية الاتحادية وملا بختيار بإسم مركز كلاويز وبرهم صالح باسم الاتحاد الوطني الكردستاني، ووزير الثقافة لاقليم كردستان فلك الدين كاكه يي على التوالي، في التحريض على حماية هذه الشراكة مما يتهددها من علامات انكفاء في مسيرة التغيير، وفي تعمير الثقة في المستقبل على اساس جملة من المحصلات والمنجزات، ليس اقلها شأنا هذه اللقاءات الثقافية الطليقة.
وإذ انشغل الحضور بهموم المرحلة وصراع الخيارات في كلمات المسؤولين فقد داهمهم الشعر ليذكرهم بجدوى الامل، وجدارة البشر على ان يتآخوا وان يصنعوا عالما اكثر جمالا وروعة.   
لكن الاكثر تعبيرا عن روح الشراكة الكردية العربية الثقافية برزت في تلك القصائد والمساجلات واللوحات والاغاني والنصوص الابداعية التي اثثت ايام المهرجان بالحميمية والتحليق، ولخصت نفسها في رجاء العمل المثابر من اجل عقد حقيقي لحياة “نتساوى فيها جميعا” وإثرائها في فعاليات لا  تعرف المجاملة ونصوص لا تنكفئ الى الريبة، فيما ظهرت العينات الابداعية الكردية، على تنوعها وتفاوت متانة عودها، بافضل حلة عصرية، واوضح حساسية حيال التقليد، وذلك ما  وجدنا اثره المسبق في دليل المهرجان الذي اشار الى انه “في هذا الظرف والواقع الحالي للثقافة الكردية ينبغي ان نأخذ بنظر الاعتبار مستجدات العصر الثقافية والكردية”.
لكن يوما من ايام المهرجان(السبت 22/11) كان قد سجل نفسه في عداد الايام الاكثر تحليقا خارج الخصوصيت، والادق، انه حلق بالخصوصيات وصبواتها الى فضاء مفتوح، واشتغل في رسم لوحة انسانية عميقة المعاني ساهمت فيها اصوات شعرية كردية وعربية وفارسية، فاتحدت السلالات والايقاعات والصور في نشيد وجداني يعبر من فوق اللغات وبواسطتها الى الحضور، ومنه الى تاريخ، شعريّ وابداعي، ذي شأن لامم تعايشت طويلا وانتجت ثقافات لا تنطفئ. 
ومن القراءات الشعرية الى صالات الفن التشكيلي، الى معارض الكتب، الى اصبوحات البحوث والمناقشات، الى اماسي الغناء والموسيقى، الى اللقاءات وحلقات الجدل وتبادل الآراء الصغيرة، الى سيل الكتب والمجلات التي توزع على المشاركين، الى الصور التذكارية وتبادل العناوين والاصدارات، كانت ايام كلاويز الثقافية تتسارع نحو تشييد حقل للتسامح، من تجارب متباينة في ما بينها، ومدارس مختلفة في اتجاهاتها،  ورؤى متمايزة عن بعضها.. انه التنوع حين يحظى بالاحترام والرعاية والحماية، وهو الحرية حين تجد من يدافع عنها ويتمثلها في اشكال ابداعية، وهو، الى ذلك كله، مناسبة بدت فيها السليمانية حاضرة عريقة للثقافة الوطنية الكردية، ومضافة  لشهود عصر جديد من ثقافات اخرى.
 
3ــــــــــــــــــــــــــــ
لم تكن اللقاءات وحلقات الخواطر والمناقشات الجانبية التي عقدت على هامش مهرجان كلاويز، وشارك فيها ادباء ومبدعون من جميع الاجيال والمدارس والتجارب، باقل اهمية من فقرات برنامج المهرجان نفسه، فقد بدت من زاوية معينة كمهرجان آخر لكلاويز، او قل انها كانت حشوة اضافية لزخم المجادلات والافكار التي جرت على المنصات حول فروض تصويب النظرة الى الابداع والمبدعين في عالم متغير.
 ومن الثقافة الى السياسة، ومنهما الى الحياة والمسؤولية عنها، كانت الاراء تتشابك، وهي تدور على طاولات صغيرة في بهو (فندق آشتي) وفي مقاهي ومطاعم وزوايا، هنا وهناك.. تتفق، تنأى عن بعضها، تحلق بعيدا، ثم تدور على نفسها بحثا عن الوجوب والاختيار والحرية، وكانت حافات الافكار تصطدم ببعضها، فيتصاعد دخان السكاير، وتتصاعد معه حمية اللوم واللوم المتبادل. العزة بالاثم بالعزة بالولاء. التزام المقولات بالتزام المراجعة. حرية المبدع. الاحسان. الاذلال. الاعتقالات. التهديدات. الخارج. الداخل.. الى آخر ما ينشق عن هذه العناوين من شظايا.
 وهكذا، فما (ومَن) لم يحظ بفرصة وحظ المناقشة في حصص البرنامج المزدحمة يحد فرصته من النقاش خارج القاعة. ومن تلك الحلقات المتناثرة الى غرف النوم تنتقل حرارة المناقشات، لكنها هذه المرة تخف، تنبسط، تسترخي، وتستسلم الى نداء الشراكة الحميم في انقاذ الضمير المبدع وحمايته من العوز والانتقام والتلوث والخوف.
 المشهد الثقافي الكردي، باسئلته ورموزه وعلاماته، كان موضوعا يتصدر الموضوعات المتداولة، وكانت التخطيطات والمداخلات والاشارات المنشورة في مجلة كلاويز ومطبوعات اخرى، وطائفة كثيرة من الكتب والاصدارات (وعدد كبير منها مكتوب بالعربية او مترجم لها)  حول ملامح واتجاهات هذا المشهد قد ساعدت على تركيز الجدل واثرائه وعلى التقاط محسوسات النمو المضطرد في الكم الثقافي الابداعي على ميتوى اقليم كردستان، والاهم، في تسهيل التعرف الى الاصوات الجديدة للمنجز الثقافي الكردي، والاكثر اهمية يتمثل في تلك الحلقات التي جمعت ادباء من محافظات العراق(ومعتربين)بالكثير من الاسماء الجديدة في الابداع الثقافي الكردي.
  وإذ اتجنب توثيق هذه الانتباهات بالاسماء والاعلام التي حضرت وساهمت في المناقشات ذات الصلة، خشية ان تخذلني الذاكرة فاعبر اسما اوعلما، فانني لا بد ان اشير الى اسماء مهمة في عالم الادب الكردي غابت عن المهرجان فيما هي قريبة منه، في الجغرافيا والابداع، اذكر منها الشاعر الكبير شيركو بيكه س وصديقي الشاعر المبدع رفيق صابر والكاتب الرصين محيي الدين زنكنة، فيما علمت بالاسباب الصحية لغياب الاديب الكبير مصطفى رسول، وقد حملت حزني ثقيلا إذ غادرت مدينة السليمانية .. مدينة النجمة كلاويز.. دون ان اعوده في منزله، متمنيا له الشفاء العاجل ليعود الى بقعة الضوء التي ائتلقت طويلا  باوراقه وافكاره.

كلام مفيد:
“القليل المستمر يملأ حافظة النقود”.                                 
  مثل انكليزي


402
ما بعد التوقيع.. ماقبل الانسحاب


عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com

انسحاب القوات الامريكية، وما تبقى من القوات الاجنبية الاخرى، من المدن العراقية في غضون الشهور الستة المقبلة هو(في الحساب الاستراتيجي) الخطوة الاخطر في ما تتضمنه الاتفاقية الامنية من خطوات على الارض، عدا عن انه الاختبار الثقيل والمعيار الارضي لاستعداد وجاهزية الطرفين على ترجمة الاتفاقية الى الواقع.
غير ان لهذا الانسحاب فروض كثيرة يقتضي تحقيقها على الارض، وتتضمن شبكة معقدة ومتداخلها من الاجراءات الممنهجة والمخططة، بالغة الحساسية ، تكفي الاشارة هنا الى شرط تأهيل القوات الامنية العراقية من حيث التدريب والتسليح والبناء العلمي الاحترافي المتوازن، كما يقتضي (وهو المهم)انهاء اثار الاستعجال، والمحاصصة، وخطوط الطائفية ومبانيها، وتعشير وارتجاليات التطوع، والولاءات الحزبية والفئوية، والفساد والارتزاق في داخل المؤسسات الامنية، الامر الذي اصبح مطلبا ملحا، بل ودخل في صلب برنامج الاصلاح السياسي الذي شرّعه البرلمان والزم به الحكومة.
ولعل الاكثر اهمية وخطورة في ما يتعلق بتطبيق بنود الانسحاب من المدن يمكن رصده في ألزام الجانب العراقي بأدارة الملف الامني داخل المدن بكفاءة عالية تضع اساس مرحلة الانسحاب الناجز للقوات متعددة الجنسية وطي مرحلة الاحتلال الى الابد، وهذا “التحول” في المهمة الامنية، من الشراكة الى الاستفراد، يعني الشيء الكثير اذا ما اخذنا بالاعتبار حجم التحديات التي تواجه عملية التغيير وبناء العراق الجديد، وتتركز في عنوان الامن وتتفرع منها الى العناوين الاخرى، وينبغي القول انه على وفق ما يتحقق على الارض من نجاحات امنية مسجلة باسم القوات الامنية العراقية فانه لا يمكن الحديث عن عهد استرداد السيادة العراقية، ولا حاجة للتذكير هنا بـ”الآمال” التي تعلقها قوى العنف والارهاب والجريمة على فشل الجانب العراقي في تحمل الكفالة الامنية للمرحلة الاولى من الاتفاقية الامنية، كما لا حاجة للتذكير بان هذه القوى، مجتمعة، ستعمل بنشاط استثنائي من اجل الحيلولة دون تحقيق هذا التحول، وبمعنى آخر دون انسحاب القوات الامريكية من داخل المدن، لاسباب لم تعد خافية على المراقب.
والامر، بعد ذلك، ليس شأنا امنيا مجردا بل هو وثيق الصلة بملفات حساسة اخرى، لعل اخطرها ملف إنعاش وتفعيل العملية السياسية ونزع الالغام المؤجلة من طريقها وذلك بتغييرالمنهج السابق، لما قبل التوقيع، في تعاطي الكتل المتنفذة والاطراف والحكومة والبرلمان والاحزاب مع موجبات التطبيع، والتخلي عن سياسات ليّ الاذرع والكيد والسباق في “شراء” الولاءات واختراق البعض للبعض الآخر، والتمترس في الطائفية والمحاصصة، وبمعنى أدق، الخروج من نفق الذات السياسية الفئوية الى الذات الجمعية العراقية، بخاصة بعد ان ركب الجميع، علنا، ومن غير لف او دوران، وعلى واجهة الشاشات الملونة، في قارب الاتفاقية.. فهنا النجاة، وهناك الغرق.

ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

“الاهداف المستعارة شبيهة بالتقاط معطف عن طريق الخطأ في مطعم، فمن المحتمل ان نذهب بعيدا متخفين باهداف شخص آخر”.
جيلورد بريلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد

403
ماذا سيقول التاريخ فينا

عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com

قليلا ما نفكر في ما سيقوله التاريخ فينا يوما كجيل وطبقة سياسية وافراد لهم بصمات على سطح الاحداث، برغم ان هذا الامر جزء من علم المستقبليات المعاصر الذي ينشغل في التنبؤ لما يترتب على اتجاهات الصراع الراهن، وقد يتعلل البعض(في محاولة للتهرب) بالمفهوم السائد(نصف الحقيقة) عن التاريخ باعتباره شحاذا يقضي معظم اوقاته على موائد قادة الجيوش الجرارة ليمتعهم برطاناته ومدائحه، كما يتعللون بالقول ان كتابة التاريخ حرفة مضللة لتدوين (وتفخيم) دور الطغاة واضفاء اردية البطولة والعبقرية عليهم، خلافا لحقيقة الامر.
عنا، كجيل عراقي، سيقول التاريخ (كما افترض) اننا شغلنا النفس طوال مائة عقد من السنين في سلسلة من الانقلابات والصراعات واعمال الابادة والمخاشنة والتعدي، واننا انجبنا قتلة محترفين من طراز فريد، واضعنا فرصا جمة للحاق بعصر النور وانتاج المعارف، وغرقنا في متع افيون مستعارة من بطون الكتب الصفراء بوصفنا ورثة لاولئك الذين علموا البشرية، يوما، الكتابة وعلوم الفلك والمنطق والجبر، وقد يضيف التاريخ الى ذلك القول اننا كتبنا بضع قصائد جميلة لكنها لم تكن صالحة للترجمة الى اية لغة حية، وشيدنا مبان وفيرة بنوافذ صغيرة، ومحصنة، حتى لا تبان وجوه نسوتنا (شرفنا)من بين ستائرها المخملية، وربحنا عددا من الحروب والمباريات وسباقات الهجن والخيول وموائد القمار والوصول الى قلوب الراقصات في الملاهي الليلية، وكسرنا حواجز عدد الزوجات التي يمكن للفحول(العاطلة عن العمل) ان تحققها، وعدد الذرية التي نقذف بها الى الشوارع من غير حساب.
وسيقول التاريخ اننا اسسنا اغرب نظرية في كتابة التاريخ، الى جانب نظريات المادية التاريخية، والتحدي والاستجابة، والمقدر والمكتوب .. نظرية تقول اننا لم ننهزم في اي حرب طالما “الملك. الرئيس” لم يسقط خلالها، ولم نكلف النفس باحصاء عدد قتلانا وسبايانا واسرانا واحذيتنا التي تركناها على ارض المعركة، بل اننا منعنا الحديث عن الخسائر والخذلانات خشية انهيار المعنويات والعزائم ، ويومها رد اعلامي من حلقة الحكم الجهنمية حين سأله محاور “لماذا كنت تذيع اخبارا كاذبة عن انتصارات الجيش العراقي في صحراء الكويت فيما هو ينكسر عن فضيحة عسكرية مذلة؟” قائلا: “وماذا تريدني ان اقول للناس.. هل اقول لهم: لقد انهزمنا؟”.
وسيقول التاريخ، كما اتنبأ، ان جيلنا برع في التشهير بحكامه السابقين الذين يتساقطون الى المزبلة.. الى خارج السلطة، وبرع هذا الجيل اكثر، في تقليد حكمهم واعادة انتاج مخازيهم، والحفاظ على اسلابهم وقوانينهم، وكأن شيئا لم يكن.. وبراءة الاطفال في عينيه.
ـــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــ
“ليت ابي اكلني، ولم يبعني”.
محيي الدين زنكنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد


404
هل يعود البعثيون الى حكم العراق؟

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 
 سؤال تجيزه السياسة، ويقبله علم المصادفة، وتطرحه نظرية الاحتمالات، وتحمله عواصف الاحداث في العراق من بين مفارقات كثيرة، لكنه لا يزيد عن سؤال تنتجه البداهة دائما غداة كل تحول في التاريخ، ففي العهد الجمهوري بقي انصار الملكية يثرثرون زمنا طويلا عن حتمية العودة الى "عهد الاستقرار" المفقود،  مع تعديلات ضرورية على سطح الحكم تعالج مصادر شكوى الجمهور، وفي عهد انقلاب شباط كان القاسميون يرون عودة حكم 14 تموز امرا مفروغا منه يوما ما، وبعد انقلاب  البكر-صدام على العهد القومي الناصري في 17 تموز 1968 طمأن القوميون الامة انهم عائدون حتما الى حكم العراق، وإن طال الزمن.
 ومنذ خمس سنوات يصدر البعثيون بيانا تلو البيان عن قرب العودة الى القصر الجمهوري، رفق اسماء عديدة(بينها عزة الدوري) بدل صدام حسين، حتى ان فريقا منهم اسس واجهة سياسية باسم حزب العودة، وفي الاونة الاخيرة صاروا يوعدون بتحقيق التعددية السياسية واستقلال القضاء والتداول السلمي للسلطة، من دون ان يترافق ذلك مع مراجعة  نقدية واضحة لتجربة حكم البعث (الصدامي) في تلك المفاصل ذات العلاقة بنظام اللون  السياسي الواحد البغيض ومسخ القضاء واحتكار السلطة من الفرد المستبد ومصادرة الحريات تحت طائلة الاعدام والحكم بواسطة العائلة والحلقة الضيقة من الاتباع ومنع الاحزاب والتنكيل، حتى الموت بالمعارضين، فضلا عن سلسلة الحروب الكارثية التي ارتبطت باسم العهد البعثي، والتي تسببت في مقتل وتعويق وترميل وإذلال الملايين من العراقيين، وتسببت، في النتيجة النهائية، في وقوع العراق تحت احتلال القوات الاجنبية. 
 وبعيدا عن روح الانتقام والتعامل بالمثل فانه(في رأيي) من حق البعثيين كعراقيين ان يمارسوا العمل السياسي  المدني(اكرر: المدني) تحت اي اسم وضمن اية تصورات، وقد يذهب الكثير من العاملين في حقل السياسة والفكر الى اعتبار تحريم النشاط البعثي بالقانون ينطوي على اسلوب رث في محاربة الاتجاهات السياسية كان قد عفا عليه الزمن، فوق انه لا يحقق الهدف في زمن تعبر الافكار خلاله جميع الاسوار، وتعجز القوانين الرادعة عن تحجيم الراي ايا كان شكله. 
/غير ان مشكلة البعث تتمثل في انه، في غالب فصائله، لا يزال اسير ارثه التآمري  الانقلابي، ولم يتخلص من اغواء الدبابة ووهم السيطرة على الحكم بالقوة المسلحة والسيطرة على الاذاعة واعلان البيان رقم واحد، وتعليق جثث الخونة على اعمدة الكهرباء في الباب الشرقي، واعادة انتاج كذبة "ثورة 17 تموز" التي لم تكن غير عملية انقلاب جنرالات طامحين بالحكم سرعان ما سقطوا في فخ البعث.
 باختصار شديد، ان البعثيين لم يعيدوا النظر في ما الحقوه بالعراق وشعبه من كوارث وإذلال.. وهذا يجيب عن السؤال عما اذا يمكن للبعثيين(المنمطين) ان يعودوا الى حكم العراق..   ومن اي زاغور يمكن ان يتسرب مثل هذا المستحيل.
 قبل هذا علينا ان نعرف بان البرنامج السياسي للبعثيين(في جميع تسمياتهم)يقوم على ركنين اساسيين، الاول، ادانة الاحتلال الخارجي وحمل السلاح ضده، ثم ضد حكم العملية السياسية، والثاني، تبشيع مرحلة التغيير والتأسي على احوال المواطنين الصعبة وسط اجواء العنف وتراجع الخدمات واستفحال الفتن الطائفية.
وتحاول نشريات وكتابات البعثيين ان تبرئ النظام السابق وقيادة صدام حسين من المسؤولية المباشرة عما حل بالعراق كنتيجة لاشعاله ثلاثة حروب اضرمت اجواء التوتر وسباق التسلح في المنطقة وانتهت الى مجابهة مع العالم كله وبررت للولايات المتحدة وحلفائها ان تجتاح العراق وتسقط النظام في حرب خاطفة، وقف الشعب حيالها(والجيش النظامي ايضا) متفرجا، مغلوبا على امره، في افضل توصيف موضوعي، فيما استيقظ العالم كله على فضيحة الهزيمة الشنعاء للنظام وكرامته وشعاراته، ولا زلنا نستعيد وقائع الاستسلام المذل لكبار اركان النظام والقبض على الاخرين وهروب الكثيرين ناجين بجلودهم ومخازيهم.
ويشاء البعثيون وهم يتحدثون عن تردي الاوضاع الامنية والمعيشية و”الوطنية” في العراق بعد التاسع من نيسان 2003 ان يتجاهلوا السؤال المهم: كيف كان العراق قبل يوم من سقوط النظام؟ ففي الثامن من نيسان من ذلك العام كان ما يزيد على ستة عشر مليون من العراقيين يعيشون تحت نقطة الصفر من الفقر، فيما هجر مئات الالوف من الموظفين اعمالهم تحت طائل العوز والفاقة إذ لا تسد مرتباتهم معيشة اسبوع واحد لاسرهم، وبلغت جموع الهاربين، من الشباب بخاصة، الملايين خشية استخدامهم حشوات في ذخيرة حرب جديدة قد تشتعل في اي وقت، في وقت كان صدام قد ادمن اشعال الحروب، وكانت الشوارع تمتلئ بالعاطلين من مسرحي الجيش، وكان الاحتجاج على هذه الاوضاع المزرية مهما كان سلميا وعابرا يودي بصاحبه الى التهلكة وفي الغالب الى الموت، وفي غضون ذلك كانت الصحافة واقنية التعبير عن الرأي اسيرة وظيفة واحدة هي تزوير الصورة الكارثية للبلاد والتسبيح والتطبيل لالهة الموت والكوارث.
اما الحديث عن السيادة والوحدة الوطنية، فانه مقبول من البعثيين وغيرهم، بل وواجب على الجميع، لان هذه المفردات تدخل في قوام الدولة، اية دولة، طالما انها برسم ملكية الجميع، لكن، قبل هذا، ينبغي ان نتأمل شكل تلك السيادة التي كانت قائمة في عراق الثامن من نيسان 2003 ففي تقويم العالم ووثائق ومحاضر الامم المتحدة حقائق عن ثلث البلاد كانت خارج قبضة النظام الى كيان كردي شبه مستقل، وثلثها الاخر موصد امام النشاط الجوي والعسكري الثقيل للحكومة الموكول لها حماية السيادة الوطنية، فضلا عن محميات متبرع بها للجيش التركي بحدود عشرة كيلومترات على طول الحدود مع تركيا، وفضلا عن اكثر من عشرين قرار لمجلس الامن جعلت من السيادة الوطنية (وعائدات العراق وموارده)خرقة مسح حائلة، واخيرا هل نحتاج الى التذكير كيف كان خبراء وضباط غربيون يفتشون في غرف منام صدام حسين وقصوره عن اسلحة محرمة وكان يذعن لها صاغرا في كل مرة؟.
باختصار شديد، يحتاج البعثيون من ورثة حزب صدام حيبن  ان يتذكروا ان الجيل العراقي الذي عاش ايامهم تلك لم يمت بعد، وهذا ليس من بلاغة السياسة فانهم لم يتخلوا عن الشغل بالشعارات القومية المستهلكة ونفخها على الدوام، على الرغم من انهم عطروها بغيرة على العراق ونعي له (نعي سلطتهم السابقة حصرا) ولم يظهروا، بالرغم من كل ما حدث، أي ميل الى معاينة ظلال ومكان هذه الشعارات في الواقع الجديد في ظل التحولات العاصفة التي شهدها العراق والعالم، ولا يزالون يخشون من التحرك خارج بصمات وشخصية وافكار وسياسات صدام حسين، وجاء مشهد وتوقيت اعدامه(وموقفه ساعة الاعدام) والطريقة الكيدية(الجاهلية) التي تم فيها التنفيذ بمثابة “إلهام” اضافي لشحنة تلك الشعارات.
والآن، اصبح-كما يبدو- من المستحيل تطوير وترشيد حركة البعث الصدامي الى فضاء العمل المدني السلمي طالما رهن نفسه(الى الابد) في مقولات وفتاوى “المُلهم” فضلا عن استحالة انتاج ملهم آخر تمنحه الحياة فرصا اسطورية(مُنحت لقلائل في التاريخ) مثل الفرص التي سنحت لصدام حسين، واستحالة صنع عراق على صورة عراق نهاية ستينات القرن الماضي، واستحالة تلفيق طبقة جنرالات متنفذين قلبوا الوضع وسلموه لقمة سائغة بيد حفنة حزبية اتقنت لعبة التآمر والتصفيات السياسية.
يقول كثيرون، ومنهم بعثيون عقائديون، ان حزب (او احزاب) صدام حسين كف ان يكون على صلة بافكار ومنطلقات حزب البعث التاريخية التي ارساها المؤسسون الاوائل، وإذ لا تشكل هذه الملاحظة ادانة دامغة لسيرة البعث الصدامي باعتبار ان للحياة فروضا ومشيئات وأملاءات اخرى، لكن الشكوى تتمثل(عدا عن الانقلاب العقائدي) في التنكيل، وإسكات الصوت، بجيل الرواد البعثيين (وكذلك الشركاء من طلائع الحزب العراقي) على يد صدام حسين كونهم خرجوا على حدود العقيدة التي صارت تشكل نفسها من عجينة “القائد الضرورة” وجملة من الرطانات الصالحة لصعوده السريع.
ويبدو ان ورثة حزب صدام لا يجرؤون على تقليب تلك الصفحات خوفا من ان تفاجئهم الاسئلة التفصيلية، ومن جهة اخرى لم يعودوا يمتلكون سلطة صدام القاهرة لكي يمنعوا بالقمع اثارة الاسئلة الجديدة، كما لم يتمكنوا من وقف تطورات الاوضاع في العراق التي تقوم على قطيعة مع عهد الحزب الواحد، وإن نجحوا ، مع حلفاء لهم من عصابات القاعدة والجريمة المنظمة وجماعات قبلية واسلامية محلية مسلحة، في عرقلة تطبيع الاوضاع، وفي النهاية، منع تسريع اخراج القوات الاجنبية من البلاد.
وبصرف النظر عن التفاصيل، فان سياسات ومواقف البعثيين، لا تزال تدور في منظورات صدام حسين وتطبيقاتها السياسية، باستثناء محشورات لفظية خجولة عن التعددية السياسية واحترام حقوق الانسان، في حين تراجعت الى ادنى منسوب لها ثقة حلفائهم بهم، وليس انفراط التحالف مع القاعدة والجماعات الاسلامية القبلية المسلحة ، بعد انفراطها مع مجموعات اخرى مسلحة، سوى تكرار ذي مغزى عن عزلة بعث صدام حسين، تضاف الى ما يعانيه من سوء السمعة.. او من سمعة السوء، لا فرق.
ــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"الشرير، شخص يتفرج على غزال الحديقة وفي ذهنه اسياخ على نار".
محمد مستجاب

405
البيانات الامنية الرسمية..
واللامصداقية


عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com

ليس ذنبنا أن لا نصدق البيانات والتصريحات الرسمية عن القبض على مشتبه بهم من القيادات الارهابية لاننا لا نتعرف على سيرتهم ونشاطهم وكيف اصبحوا قتلة بامتياز، كما لا نرى وجه اولئك المقبوض عليهم على الشاشات، ولم نسمع اصواتهم عبرها، في حين يظهرون ذاتهم، او وكلاء لهم، في كل ساعة.، بحرية تامة ، من على اقنية الشبكة العنكبوتية وهم يتوعدون الشعب بالعقاب والقتل، ويتفننون في عرض عضلاتهم ورسائلهم المفخخة.
وليس الذنب ذنبنا ان لا نصدق التصريحات والبيانات الرسمية حول العثور على اسلحة وذخائر في مخابئ للارهابيين، لاننا، في الواقع، لم نر تلك الاسلحة والذخائر التي جرى العثور عليها ولا كيف تم الوصول اليها ولا أين تحقق ذلك على الارض، مقابل اننا نشاهد يوميا فضلة من الملثمين البرابرة يلوحون باسلحتهم من على بعض الفضائيات وهم يستعرضون عضلاتهم ويتوعدون بالمزيد..
والامر كله يتعلق في ما يسميه الاعلام المدرسي بالمصداقية التي اضاعتها- وليس الذنب ذنبنا في ذلك- البيانات والتصريحات الرسمية منذ زمن بعيد، ومن زاوية يبدو بان الجهات المسؤولة التي تحجب هذه المعلومات عن الشعب لا تعنيها المصداقية ولا اشاعة مناخ الثقة مع المواطن، وطوال سنوات خمس كان التفسير الشائع لطي الوعود التي سمعناها، اكثر من مئة مرة، عن قرب تبصير الشعب بالحقائق هو ان التصرف في تلك المعلومات خارج يد الهيئات الرسمية، وقد عللت الجهات الامنية العراقية ذلك علنا انها بيد القوات الاجنبية التي لا تعنيها المصداقية ولا سمعة البيانات والتصريحات الرسمية ولا تطمين الشعب الى ان النزيف اليومي من الدم له ما يوازي من الاحترام.
هذا بالاضافة الى اضطراب الاعلام الرسمي وتقاذف الاتهامات بالتقصير وتضارب التصريحات والتفسيرات والتعليقات بين هذا المسؤول أو ذاك، وبالاضافة، ايضا، الى ضعف الخامة الاعلامية الحكومية وسقم اللغة التي تتمدد عليها، والبناءات التي تقدم فيها، والى هشاشة عنصر الاقناع في الكثير من المطالعات والتعقيبات الرسمية خلال ملاحقة الاحداث، والى اقتصار التعاطي مع الاحداث على عنصر الدفاع الباهت عن النفس.. دفاع المستضعف العاجز الذي لا حول له ولا قوة.
ولعل التعبير الاكثر وضوحا عن ضعف الجاهزية الاعلامية الرسمية هو غياب ما يسمى بالمصدر الموثوق، حيث يسقط بعض المتحدثين الرسميين الى الاعلام في محذور (رد الفعل) والانسياق الى لغة التهديد الصوتية والتخفي وراء العموميات، الامر الذي تريده الاقنية العربية(وهي الان في طور الهجوم) وتستثمره لتدمير مصداقية المطالعة الرسمية وسط زخم كبير من المهاجمين ، ومن مختلف العواصم، ليبدو الاعلام الرسمي في حالة من اللهاث والاعياء والعزلة في نهاية المطاف.
اقول،ليس الذنب ذنبنا ان لا نصدقكم ايها الاخوة اصحاب التصريحات والبيانات الرسمية، فانتم بحاجة الى تملي هذه العلة ومآل الحال، قبل ان نضع كومة من القطن في آذاننا حين تطلون علينا من الشاشات الملونة، وهو فصل المقال.
ـــــــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــــــ
"عندما تصبح كل الايام متشابهة فمعنى ذلك ان الناس كفوا عن ان يلحظوا الاشياء الطيبة”
باولو لويلهم- روائي برازيلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة (الاتحاد) بغداد


406
التغيير الامريكي  في صالح العراق


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

اذا عرفنا بان سياسات الرئيس بوش لم تكن مقبولة في المنطقة التي تحركت فيها قضية العراق، في عهد الدكتاتورية وما بعدها، وانها جلبت للولايات المتحدة اعداء كثيرين، بعضهم شعر ان الوجود العسكري الامريكي في العراق يهدده بالصميم، والمهم، ان تلك السياسات، بمفرداتها المختلفة، اغضبت الجمهور العربي، واحرجت حتى اصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة فلم يكن لهم بد من مماشاة(او مراعاة) مزاج الرأي العام المناهض لادارة بوش.
اقول، اذا ما عرفنا كل ذلك، فاننا سنعرف لماذا وقفت الساحة العربية، بانظمتها ونخبها وجمهورها بالضد من ارادة العراقيين في اطاحة نظام صدام حسين، ولماذا حمّل الخطاب السياسي العربي معارضي صدام حسين مسؤولية ما حل بالعراق من احتلال وعنف على الرغم من ان المسؤولية تقع في المقام الاول على عاتق صدام حسين وحماقاته وحروبه، وجزئيا على دول المنطقة التي شجعت الدكتاتور على المضي في مغامراته.
ولئن تكوّن مزاج اقليمي عام معاد للعراق الجديد باسم معاداة امريكا فان دولا عدة تجاوزت الحدود وقواعد ومواثيق العلاقات الاخوية  وموجبات الشراكة الامنية الى استخدام الاراضي العراقية ساحة لتصفيات الحسابات مع ادارة بوش، والحقت افدح الاضرار بالحياة المدنية في العراق وتسببت في مذابح طائفية وسهلت مرور (ودربت) المقاتلين الاجانب، وتمادت في تحويل السيادة العراقية الى طاولة مفاوضات وصفقات وتبادل اوراق ومصالح مع الجانب الامريكي.
وبكلمة واحدة، كان العداء  الاقليمي لادارة وسياسات الرئيس بوش يجري تصريفه في العراق كمحطة رخوة بصيغة كريهة للاعتبارات السياسية وللتعامل مع شعب عريق لا ذنب له في ما حصل ويحصل، يضاف اليها سلسلة من التخبطات والاخطاء التي ارتكبتها القوات الامريكية وادارة بريمر ما دمر شبكة الادارات الحكومية والخدمات واثار غضب السكان إذ انعطف قطاع منه الى حمل السلاح واحتضان المشروع الارهابي الدولي.
ان فوز باراك اوباما في السباق الرئاسي الامريكي ورحيل ادارة بوش مسبوقا بخطاب التغيير ووعود استخدام السياسة والحوار طريقا الى انهاء وجود(والتزام سحب) القوات الامريكية في العراق من شأنه ان يخلق بيئة اقليمية افضل واكثر استرخاء، واقل مخاشنة،  تساعد في إنعاش وإظهار خطوط الفرز بين مصالح العراق(الامنية بخاصة) باعتبارها جزءا من المصالح الامنية لدول المنطقة وبين المصالح الامريكية، كما تساعد في وقف الاستطراد في التدخل في شؤون العراق الداخلية.
امريكا الجديدة، في ظل ادارة اوباما، لن تحتاج الى تخويف دول المنطقة بالنموذج العراقي.. وفي هذا سيجد العراق الجسر لاستعادة دوره في المنطقة، كقوة سلام  وشريك في الحالة الامنية الاقليمية.
 
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
 “ لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك .. إلا إذا كنتَ منحنيا” .
                                         مارتن لوثر


407
الاتفاقية بين معسكر (لا)..
ومعسكر (نعم)


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com       
 
 ينبغي ان نحسد اولئك الذين رفضوا فكرة عقد اتفاقية امنية، من أي جنس، مع الولايات المتحدة، واتكأوا على وسادة الـ(لا) الثابتة، فاستراحوا واراحوا، ووفروا على انفسهم عناء البحث في ما وراء النصوص والصياغات ومتابعة التصريحات والتحولات والتكتيكات و"خذ وهات" واعتصموا بحبل الرفض، وتغنوا به، وبوطنيته، وركبوه جذلين الى اسواق السياسة والاعلام، واعطوا لانفسهم حقا واحدا هو التصيد في بركة التناقضات التي يتخبط بها اصحاب (نعم) الذين توزعوا شذر مذر، وقسّطوا مواقفهم بـ(نعم، ولكن) او (نعم ولماذا) او (نعم وكفى) فيما راح اصحاب (لا) يتسلون (او يتشفون) في تحذيرات الامريكان المتكررة من تسويف الوقت واضاعة الفرص، وقد يتمنون (وهم يتمنون فعلا) ان يفقد الرئيس بوش صبره واعصابه في الوقت الاضافي لحكمه فيقلب الطاولةعلى الجميع، ليلملموا مشمورات الانفجار(شيلمهه؟)من الدويلات والجثث والمغانم والاحذية.
 بين اصحاب (لا) اسلاميون اصوليون يحشدون في جراب لائهم طائفة من الاحكام  الشرعية والايات القرآنية عن ذم العهود مع المشركين الظالمين والتشكيك في نيات الاستكبار والمستكبرين، وبينهم علمانيون يستعيرون لاءهم من اللاءات القومية والثورية العتيقة بوجوب تحريم التفاوض او الاعتراف اوالاتفاق مع العدو، وبين اولئك وهؤلاء من يتحين الفرص (التي تأتي ولا تأتي) لينخرط في التفاوض مع الامريكان من الابواب الخلفية المواربة، ويلطع لاءاته واحدة بعد الاخرى، واعذارهم في هذا كثيرة ومملة ومضحكة، ليس اقلها بؤسا القول: التفاوض من موقع قوة.
 وبين اصحاب(نعم) ثمة من  يقبل الاتفاق بتردد اليشتهي واليستحي، وبتأويلات من صلح الحديبية الى اتفاق يالطا مرورا بفروض تجنيب الامة اخطار الفناء، وبينهم، ثابتون في قبول الاتفاق بوصفه خيارا  يتكفل حماية الاستقرار والتغيير والتوازن الطائفي القلق وعذرهم ان هولاكو الاجنبي(حين دخل بغداد) حقق فضيلة ذهبية لم تتحدث عنها الكتب إلا بشكل عابر هو انه نزع فتيل الفتنة والصراع بين الطائفتين على السلطة في عاصمة الخلافة العباسية، وبينهم من يبحث عن مكان مناسب في القطار، او حصة من الحصص، او وجاهة في الترتيبات المقبلة، او من يبيع موقفه في مزاد الانتخابات وحساب الاصوات.. وفي هذا المعسكر غبار كثير، وخيوط متشابكة عديدة، وارادات هشة  ومخاتلة، واكداس من الملفات والرسائل والتعديلات، والورق التالف.
على ان معسكر (لا) إذ يبدو منسجما ومرتاحا وبعيدا عن غبار المعركة في المعسكر الآخر، ويعرض نفسه كحارس للسيادة والوطنية والعقيدة والدين، فهو مقابل ذلك ضائع على الخارطة، مفقود من التداول، يركض كمن يركض في صحراء بلا هدى يقوده الى الخلاص غير اوهام حدوث فراغ امني وسياسي قد يشغله هو ويقبض على ناصيته، ولا دليل يستدل به الى ذلك سوى فرضية عودة التاريخ الى الوراء، او في افضل التكهنات، خروج الامريكان من العراق ليختلط الحابل بالنابل ويحل العقاب بالجميع على يد الجميع، هذا فضلا عن الحقيقة التفصيلة عن تناحر وتناقض تيارات اللائيين بين من يرهن لاءه الى مشروع سياسي مثل اقامة دولة طاليبان في العراق او احياء حكم البعث المنقرض.. او من يرهن لاءه في اسطبلٍ يُمَنّ عليه بالعلف من الخارج.
ــــــــــــــ
كلام مفيد:
"ولا بد من شكوى اذا لم يكن صبرُ".
شاعر قديم


408
امريكا.. بعد الاتحاد السوفيتي
 

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com           
 
 كان تفكيك الاتحاد السوفيتي قد لزم اقل من عقد من السنين باطلاق عملية التغيير من عقالها  العام 1982، وتحديدا خلال المدة القصيرة التي لم تزد عن عام واحد، تولى فيها يوري أندروبوف منصب رئاسة الحزب والدولة قبل ان يحل الرئيس غورباتشوف بخيار التغيير المنهجي في البيروسترويكا.
 وبسبب التلازم بين وحدات التاريخ والتداخل في المنظومات المكونة للعالم المعاصر وتبادل التأثير بين احداثه وانهياراته فان الانظار اتجهت الى الكتلة الغربية التي تشكل طرف المعادلة الاخر في التوازن التاريخي العالمي، إذ  بدت للوهلة الاولى انها متماسكة وعصية على التغيير، بل وفي موقع القوة التي لا تقهر، وظهر للكثيرين ان هذا التماسك "القلق" مستمد من المخزون الهائل للقوة الامريكية الذي تعاظم بانهيار الاتحاد السوفيتي وانتقال العالم الى عصر العولمة، غير ان البعض القليل من المحللين والمتنبئين رصدوا في عمق الصورة مأزق النموذج الغربي، بل ولاحظوا، منذ صعود المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، واندفاع بوش الابن في تكريس السياسة التقليدية الامريكية المغامرة ان الولايات المتحدة تعدّ على نحو ما بديلها الذي ينسجم مع طبيعة العصر، ويستجيب لحكم التغيير.
 وليس من دون مغزى ان يعلن الرئيس الامريكي الجديد باراك اوباما، بعد دقائق من اعلان فوزه في السباق الانتخابي، بان "التغيير جاء لامريكا" والاهم  واللافت والاخطر والانقلاب جاء في تأكيده بان "قوة الولايات المتحدة منذ الان ليست في السلاح" وهي التعبيرات عن البرنامج الانتخابي الذي خاض به التنافس وحشد من خلاله الشارع الامريكي الذي زجه الرئيس بوش في سلسلة من الالتباسات والحيرة والخذلان، فيما ذكّرت انفعالات الملايين الامريكية المهمشة، السوداء والمهاجرة بخاصة، وهي تعبر عن بهجتها بهذا الانتصار ما حدث في تلك السلسلة من التظاهرات المليونية الانفعالية في موسكو وهي تحتضن خيار الغلاسنوست والتغير والتخلي عن الحكم الشمولي.
على ان شعار التغيير الذي رفعه اوباما منهجا لادارته المقبلة لن يكون، إذا ما نظرنا الى تجليات الامر المتسارعة، شعارا انتخابيا لاستدراج الاصوات الى اللون الازرق للحزب الديمقراطي، فثمة عاصفة هبت على الولايات المتحدة هي اكثر من تحول واقل من ثورة، وستجد تعبيراتها في منظومة من الاجراءات والسياسات الجديدة، ليس فقط على صعيد التزامات الولايات المتحدة الدولية وبخاصة حيال بؤر الصراع في افغانستان والعراق والشرق الاوسط وفي ملفات التسلح النووي والارهاب والمجاعة والبيئة، لكن ايضا، وفي المقام الاول،  ما يمس القضايا ذات الصلة بحياة الامريكيين بعناوينها الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية التي كانت تتخبظ في دورة من المآزق.
 نعم، لن يحدث التغيير بين ليلة وضحاها، فسيجد خنادق عميقة حياله، وقد تتكون جبهة واسعة وشرسة دونه، لكن حكم الرابع من نوفمبر لن يفقد زخمه بسهوله، ولن يجري تصريفه في اقنية الصفقات الجانبية، او الاحتيال عليه بدواعي الظروف الحساسة.. ولن يكون في مقدور القوى الامريكية المحافظة منع تفكيك دولة النخبة الواحدة، مثلما لم يكن في مقدور الحرس السوفيتي القديم وقف عمليات تفكيك دولة الحزب الواحد.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"الانظمة السياسية ليس كمثل الاسماء، لا يغيرها الزمن".
مانديلا



409
سباق المجالس..
تدقيق مبكر ومهم


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 لا ينبغي ان نصدق كثيرا القول السائد ان الكيانات الكبيرة التي كسبت مقاعد مجالس المحافظات سابقا ستنهار في السباق الجديد، وان اسلحة وقواعد وشعارات وصفقات المحاصصة والطائفية سترتد على اصحابها هذه المرة، وان رموز الفساد وحوامله ودواعمه لن تجد جمهورا ينتخبها الى مواقع حساسة تفسد فيها اكثر، وان الاعتبارات العشائرية تراجعت الى صالح الانتماء الوطني والمصلحة العامة، وان المزاج العام للناخبين العراقيين في نهاية العام الفين وثمانية يختلف جذريا عن مزاج نهاية العام الفين وخمسة مما يسد الطريق على محاولات تضليل الناخبين وشراء اصواتهم، وان اولئك الذين زعلوا على إداء المجالس السابقة"لأنها احرجتهم" سيكفون عن مباركة عتاوي تلك المجالس في الانتخابات المقبلة. 
 اقول، لا ينبغي ان نصدق ذلك كثيرا (وإن كنا نتمناه) فان جيوب الفساد والطائفية والعشائرية تتمترس على جبهة المعركة، وستدافع بشراسة عن مواقعها، واللافت هنا، ان طائفيين ومحاصصين وفاسدين، طوروا ادواتهم الدعائية، فصاروا يهاجمون الطائفية والمحاصصة والفساد، ويلقون مسؤوليتها على غيرهم، بصوت يعلو على اصوات معارضي (وضحايا) الطائفية والمحاصصة والفساد، وفي هذا تكمن مخاطر استمرار الحال على حاله، وإن بصورة اخرى قد تبدو للوهلة الاولى انها تحمل فصيلة دم اخرى اكثر نقاء.     
 اقول ايضا، ينبغي ان لا نبتلع، من دون حذر، المبالغات والتقارير والروايات عن إنقلاب وشيك في خارطة القوى المتجاذبة، المتصارعة، المتنافسة، وعن اهلية الملايين العراقية المكابدة لمعاقبة المرشحين الذين خذلوها طوال اربع سنوات عجاف، وإن كنا نعدّه(اذا ما حدث) بمثابة رد شعبي بليغ، فان ثمة على خلفيات الحراك الدائر في اقنية العملية السياسية والتحضيرات الانتخابية الكثير من المؤشرات على عزم القوى المحافظة والمتنفذة في مجالس المحافظات، وبخاصة في العاصمة ومحافظات موسرة واستراتيجية، على منع حدوث تغيير كبير وعمودي في الهيكلية التمثيلية القائمة للسكان، وطبعا في هيكلية السلطات المحلية. 
 لكن بالمقابل، لا ينبغي ان نستبعد حدوث ثغرات(اقول: ثغرات) في سدود الطائفية والمحاصصة والفساد، هنا وهناك، فقد ظهرت بعض ملامح التشظي والمخاشنة والتنصل عن المسؤولية والرغبة بالغيير في اكثر من ساحة ومعسكر، وبرزت على سطع هذا الحراك اصوات ومحاور ودماء جديدة ومستقلة(مستقلة حقا) لنشطاء تعلموا ممارسة التنافس واتقنوا ادواته ببصيرة طيبة وتحدّ لافت، كما استعادت انفاسها قوى الديمقراطية وتجمعاتها ومنظمات المجتمع المدني (غير التابعة) وفئات الليبرالية والاحتجاج والتنظيم المهني والنقابي انفاسها، وشغّلت دورتها الدموية على نحو اكثر فاعلية وثقة، وقد تنجح في تحسين وزنها التمثيلي، على الرغم من غياب الاطار الموحد، الحيوي والمفتوح، لاعمالها التحضيرية،
 باختصار شديد، لن تسفر انتخابات مجالس المحافظات عن تغيير كبير في الخارطة التمثيلية، لكن البعض(اقول: البعض) ممن اكلوا لحومنا سياكلون نشارة الخشب هذه المرة، وقد يمثلون دور اكباش الفداء في مسرحية هابطة.. وعلينا ان نفتح عيوننا وان لا نستسلم.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"وترى الجبال، تحسبها جامدة، وهي تمر مرّ السحاب".
عبدالكريم القشيري
ــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد       
 


410
هذا العلامة.. المعتدل


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

كنا مجموعة ممن نعد انفسنا من النخب الديمقراطية، الليبرالية، المتنورة، المعتدلة، فوجدناه، وهو الشيخ، بعمامته السوداء ووجهه البشوش ديمقراطيا، ليبراليا، متنورا، ومعتدلا، ربما، اكثر منا، ولما انتحينا جانبا هتفت عيوننا بصوت سري كورالي هامس: ما احوجنا الى علماء دين من امثال اية الله السيد حسين اسماعيل الصدر.
كان هذا في لندن، مساء الثلاثاء الماضي، وكان الحضور القليل متحدر من اطياف ديمقراطية مختلفة: عزة الشابندر. حميد الكفائي. فاروق رضاعة. غانم جواد. مصطفى الكاظمي وصاحب السطور، وكانت فاتحة الكلام، والكلام للسيد الصدر، التحذير من المغالاة، قال، لنعد الى قيم التسامح والاعتدال، قال، يكفينا من الحب قليلا لنعيد بناء بلادنا، قال، لا تفقدوا الامل، دعوه يضطرم في افئدتكم واقلامكم، و فجأة جاءني نداء ارسطو بكلمات عراقية بسيطة اعاد تركيبها سماحته: "كل نظام او اعتقاد او مبدأ يفسد حال الافراط فيه" نعم،  فثمة حتى الحب المفرط يقتل الحب، وثمة التدين المفرط يقتل الدين.
اصطفى الله، والكلام للعلامة السيد الصدر، الانسان ليكون خليفته  على الارض "الانسان كانسان" ولم يصطفيه مسلما او مسيحيا او حتى متدينا، فمن اعطاهم الحق ليحتكروا الله  سبحانه في دين واحد، او في مذهب واحد، او في اعتقاد واحد؟ ومن الذي خولهم بالتكفير والتخوين والتجييش باسم الدين او الطائفة؟ ومن حلل لهم تقسيم البشر على خنادق يقتل بعضهم البعض؟ اقول(والكلام لسماحة السيد الصدر) اننا نتطلع الى ترجمة شعارات الديمقراطية الى الواقع.. الى التطبيق، والقبول بالرأي والرأي الاخر، وهذا هو البديل عن الاقتتال والحروب والانشقاقات.
وجاء دورنا، فرمينا، كلٌ من منصته وزاويته، بحجاراتنا النبيلة من الشكوى والاحتجاج على ما يحدث، وعلى سياسات التمييز والاحتكار والمحاصصة، وعلى الفساد والإفساد، وعلى النهب والتهريب، وعلى التهريج والرطانة، وعلى الغش والغل والغدر واللهف والتعالي وصم الآذان والهروب الى الوراء، وعلى التدخل الخارجي والاملاءات والتواطؤ، وعلى التحزب والتمذهب، وعلى التجويع والإفقار والاذلال، وعلى هدر الثروات والملايين وماء الوجه، ونعينا، بصوت واحد، الوعود والشعارات والمقولات التي اكلت من لحمنا، وباعت قضيتنا في اسواق النخاسة وبازارات التهريج.
كان سماحته يتجول في شكاوانا المتناثرة، يلمّها، ويتنقل بين هتافاتنا المجروحة، يضمدها، ثم يعطينا مشوراته البرقية العميقة: انا، وعلى الرغم من كل ذلك، متفائل، وبصرف النظر عمن يتسبب في هذه الخطايا متمسك بحكمة التسامح والاعتدال والمحبة، وطننا الجميل (يضيف ويوجز ويختتم) يستحق ان نتحمل من اجله كل ذلك، والعبرة في المستقبل: "اما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض".
 
ـــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــ
" شعرت بالكآبة لأن لا حذاء لدي .. حتى التقيت في الشارع برجل لا ساقين له" .
                             
   هارود أبوت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة (الاتحاد) بغداد 25/10/2008

411
رؤوسكم مطلوبة.. مرتين   


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 الاغتيالات السياسية(وتسميها بعض التصريحات الرسمية: ملابسات) وصلت الى حد تجاوز الوصف كاحداث او  تحديات امنية إذ يتساقط من تفجيرات او رصاصات تنطلق من عتمة شخصيات سياسية وثقافية 'منتقاة ' وتهدد بجرّ المشهد السياسي والامني (اذا ما استمرت في ظل هذا التجاهل) الى الانهيار.. فكل طرف سيكون مطلوبا للطرف الآخر، وكل الاطراف مطلوبة للمجهول.. والاكثر من هذا ستكون رؤوس الجميع مطلوبة مرتين.. مرة، للجناة الذين لا  يتورعون عن تنظيم المذابح، ومرة اخرى،  للتاريخ الذي لا يرحم.
والامر، هنا، بحاجة الى المزيد من التحذير واطلاق صافرات الانذار  واليقظة، ففي هذا الجو العراقي المتوتر حيث تمتلئ خزانات السياسة واقنيتها وشعاراتها بالاحتقان والريبة وانعدام الثقة، يمكن (وهذا احتمال وارد وليس نبوءة فانتازية)ان تتسبب رصاصة كاتم صوت واحدة، لزعيم سياسي محدد، في تفليش كل ما تم بناؤه، وتغيير مسار الاحداث الى اللاعودة، ومَن لا يصدق (او يتوقع) ذلك يمكنه الاستدلال اليه من سلسلة الاغتيالات المشهورة في التاريخ إذ غيّر البعض منها أقدار امم وبلدان ومسارات(اغتيال الخليفة عثمان بن عفان) واضرم بعضها الآخر نيران لم يُخمد لهيبها حتى الان، كما هو الحال في اغتيال السياسي اللبناني رفيق الحريري.
لنفتح هذا الملف، منذ ان خرج قابيل من كهفه، قبل مائة الف عام، وانتحى جانبا وبيده صخرة ليفج بها رأس اخيه هابيل الذي مر في ذلك الوقت من امامه، ويقتله في الحال، ثم، بعد ذلك ابتليت الخليقة في سلسلة من المكائد والاغتيالات فسال دم كثير، وحُزّت رقاب وقتلت انفس، وسُمم واغتيل وذُبح دعاة ومصلحون وساسة وزعماء وقادة جيوش ومغامرون، في اجواء مُغبرة وملبدة بالريب والاحقاد  فيما عوقب مارة وعابرو سبيل ومشتبه بهم بجريرة غيرهم، جناة او ضحايا او شهود، لكن الكثير من تلك الاحداث تركت اثارا وجروحا وخرابا وفتن (اغتيال غاندي. اغتيال الملك عبدالله. اغتيال السادات) وثمة الكثير منها اصبح مضربا للامثال، او عنوانا لاثارة عورات الماضي، كما حدث في نهاية حياة راسبوتين وما حدث لكليب وجساس في قصة داحس والغبراء.
كما لا تزال حوادث موت  مثيرة حسبت في عداد المكائد وجرائم الاغتيال، وما جرى للاسقف بيكيت الذي اغتاله هنري الثامن ملك انكلترا، وكيف مات ابو الطيب المتنبي في الصحراء، او موت ملك العراق غازي او سقوط طائرة الامين العام للامم المتحدة داغ همرشولد، او مقتل الرئيس العراقي الاسبق عبدالسلام عارف وموت الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والغريب ان بعضها ضُمّ الى ملفات التاريخ كألغاز، منها استمرار البحث في خفايا اغتيال الرئيس الامريكي جون كندي ثم اغتيال قاتله اوزوالد، والبحث حتى الآن حول جمجمة توت عنخ آمون لمعرفة اسباب الكسر في مؤخرتها ما اذا كان وراؤه حدث عابر ام جريمة اغتيال بالساطور.
وقبل اغتيال النائب صالح العكيلي وبعده، دخلت جريمة الاغتيال السياسي في مفردات الملف الامني بوصفها الخطر الاكبر على هامش الاستقرار الذي تحقق منذ أواخر العام الماضي، لكن الاكثر خطورة(وغرابة) يتمثل في التقليل(او التهوين) من شأن هذه الاغتيالات من قبل الجهات المعنية، واقتصار ردود الفعل على تصريحات ادانة وحزن وتوعد، او في افضل الاحوال تشكيل لجنة للتحقيق في 'ملابسات' اغتيال احد الشخصيات، فيما البصمات الاولى على جسد الضحايا الذين يتساقطون يوميا امام منازلهم وفي منعطفات الطرق وخلال تفجيرات وهجمات متقنة واحترافية في طريقها لجر الوضع الامني والسياسي الى عواصف لا احد يعرف الى اين ستنتهي، وبخاصة في حال تطال هذه الاغتيالات (ومن يضمن ان لا تطال؟) شخصيات كبيرة تمسك باطراف الوضع القائم.. وليس ثمة أحد خارج الاستهداف، كما يعرف الجميع، وكما تقول خارطة هويات الضحايا.
وإذ يعتقد المسؤولون(او القتلة) بان الجمهور لا يعرف ولا يتعاون و'لا يتهم' فان واقع الحال يؤكد غير ذلك، فلكل حادث اغتيال بصمة لا تخطئها العين ولا تعبرها الفجيعة ولا تجهل موردها وتمويلها وغطاءها وادواتها الفراسة واليقين والكواليس وحتى البيانات والتقارير والتصريحات الاعلامية، والاكثر من ذلك ، فان ذوي الضحايا ورفاقهم وشهود الجريمة يشيرون الى وجوه القتلة بالعلائم والصفات والجهات، ويتبادلون معلومات تفيد التحقيق والعدالة، اذا ما شاءوا الوصول حقا الى الجناة الحقيقيين.
باختصار شديد، لم تعد الاتهامات الجائرة ضد الخارجين على القانون والعصابات الاجرامية المسلحة تكفي لتبشيع هذه الجرائم التي توصفها المعاهدات الدولية والاعراف والقيم بوصفها اشنع الجرائم كلها ، فان ثمة عنصر جديد يضاف الى خلفيات هذه الجرائم المتزايدة، يمكن وضعه تحت باب التصفيات السياسية والسعي الى خلط(او تمزيق) الاوراق للحيلولة دون دخول المشهد السياسي في حالة التهدئة، وهو الخيط الذي ينبغي امعان النظر فيه، والخطر الذي آن اطلاق صافرات الانذار حيالة.
وباختصار اشد، اذا لم يوضع ملف الاغتيالات في مركز الاهتمام، وفي قلب الخطة الامنية، وإذا لم يعاد النظر في سياسة التنديد الاعلامية ولفلفة جرائم الاغتيالات وطيها حين تتجه خيوط الجريمة الى 'اختراقات' في منظومة السلطة، او الى تواطؤات في بعض حلقات المسؤوليات الامنية، او الى اصابع وراء الحدود، او الى مراكز نافذة في الدولة والمؤسسة القبلية والدينية والسياسية، اقول، اذا لم تتغير سياقات التعامل مع الاغتيالات التي تكاد الآن ان تصبح يومية فان الوقت الذي ستضطر فيه الاحياء السكنية والاحزاب والمدن وحتى منظمات المجتمع المدني الى تشكيل فرق اغتيالات 'وقائية' ليس ببعيد، وهو اليوم الذي ندخل فيه مرحلة الصوملة، بكل رهاوة.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
'اذا كان الجور اغلب من الحق لم يحل لاحد ان يظن باحد خيرا حتى يعرف ذلك منه'.
موسى الكاظم(ع)
ــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

412
اعداء حكومة المالكي..
 وانصارها


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live .com
 
"من رسالة لم تبعث
الى الدكتور علي الدباغ".
باختصار شديد، ثمة لحكومة نوري المالكي اعداء، ليس بينهم مثلنا، نحن الذين ننتقد ونرصد ونلوم ونحتج، بالكلمة والتظاهر والنصيحة، لنكشف سقطات الاداء الحكومي وغث موظفيه ومحازبيه والمحسوبين عليه، وقد نوجع احيانا، ونعبر عن خيبة الامل في مستقبل التغيير وحل المشكلات القائمة على يد هذه الحكومة، لكن الامل والنيات تتمثل في المساعدة على التصويب والحض على سد الثغرات والتبصير بالاخطار المحدقة، وهي جميعا مسؤولية المراقب، ورسالة الكاتب، وامانة الانتماء الى التغيير.
 ولحكومة المالكي، فضلا عن الاعداء، حلفاء ومؤيدين ومحازبين، وملايين، ونحن منها، تؤيدها في ما هو سليم من المواقف وما هو مترجمٌ من الوعود والبرامج، وما هو محسوس على الارض من خدمات وتحولات، وتنفضّ الملايين عن الحكومة، ونحن منها، في حال تنكرت لوعودها وتخبطت في إدائها وعجزت عن ضبط  خطواتها وشبكتها الادارية، وقد تنقلب تلك الملايين، ونحن منها، على الحكومة حين تكف عن وظيفتها كمسؤولة عن حياة وامن المواطن وكمرجعية لحماية الدستور والقوانين وكجهة مسؤولة عن نزع فتيل الاحتقانات والفتن ودورات العنف. لكن الملايين قد تصبر وتنتظر فوق ما تحتمل مفعمة بامل العبور الى الاستقرار ودولة العدالة ومرحلة الرخاء، ولصبرها حدود، طبعا.
 ان كل الحكومات تحتاج الى مؤيدين، مثلما تحتاج السفن والغواصات الى ماء، وكل الحكومات تسعى الى توسيع مساحة التأييد لها، بل انها تقيس سمعتها وقوتها بمقياس التأييد الذي تحظى به وبعدد المؤيدين الذين يدخلون في رصيدها،  لكن اكثر المؤيدين إضرارا بالحكومات هم المتحزبين لها، اولئك الذين يدافعون عن الاخطاء والنواقص ومواطن الخلل بنفس حمية الدفاع عن المواقف الصحيحة والاجراءات السليمة، بل ان خطاياهم وزلاتهم تأكل من سمعة الحكومة ومكانتها ورصيدها، وقد تزيد من نقمة  الجمهور وتفضّه من حولها، ويا ما سقطت حكومات وزعامات بسبب خطايا ارتكبها متحزبون لها ومحسوبون عليها، وفي حافظة المرحلة التي يمر بها العراق ثمة الكثير من هذا الطفح يظهر على السطح مما يراه المراقب الموضوعي وتعيشه الملايين، يقابله-للاسف- ضعف واضح في اجراءات الاصلاح وهمم التصويب.
 اما اعداء الحكومة  فليس في حساباتهم تقويم الزلات، وليس في سرهم حسن الظن، وليس في نياتهم ممارسة النقد والتصويب،  بل انهم يبحثون عن تلك العثرات ويتسقطون الاخطاء والاعتلالات وينفخون في صور العجز والفشل الحكومي ويختلقون الروايات والاساطير والاكاذيب عنه، بالحق وبالباطل، ليصنعوا من كل ذلك تبريرا لاستخدام السلاح واضرام النيران وتدمير السلام الاهلي، ولا يتورعون عن اعمال القتل المروعة ولا عن اثارة الفتن الطائفية والكراهية القومية، وشعارهم التاليب على الحكومة، وإشغالها في دوامة العواصف الاعلامية المثيرة حتى اسقاطها، وقذف البلاد الى المجهول.
 في علم السياسة، والحروب، ثمة تحذيرات من التخبط في ترسيم حدود الاعداء والانصار، وتحذيرات، اكثر اهمية، من خطر توسيع دائرة الاعداء.. الخطر الذي يوصف احيانا بالانتحار.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"في غارتها على الاغنام، تفاجأ الذئاب انها ايقظت الرعاة، ايضا، من نومهم".
مجهول
       


413
ليتحد العالم ضد حثالات الموصل


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

ليتحد العالم لمواجهة الهمجية المنفلتة في الموصل، ليس فقط لانها تتحدى اتفاق المجتمع الدولي  العام 1957 لحماية السكان الأصليين ومنع إجلائهم، او انها  خارج أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتشريعات الخاصة بالحقوق الثابتة للمدنيين في مناطق سكناهم، او ضد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للسكان الاصليين، والمواثيق الدولية العديدة المتعلقة بمنع الاذى عن السكان الآمنين.
وليس فقط لان برابرة الموصل الذين يقيمون جاهلية باسم دولة العراق الاسلامية  وينفذون من خلالها مشروع الردة البغيضة، وليس فقط لانهم اصحاب سجل من جنس محترفي الاجرام وهواة اعمال الذبح والاستئصال التي يسجلون وقائعها على اشرطة الفيديو، او انهم دعاة الانكفاء الى الغابة والخرافة وغبار الماضي، وليس لانهم حثالة منبوذة مطلوبة للقصاص عن معاصيها وحفلات الدم التي تقيمها في الموصل والعراق، او انها سلالة تحدرت من فضلات الاجناس البشرية.
نعم، ليتحد العالم ضد هذه الحثالة التي اسفرت عن وجهها في اعمال القتل والاجلاء والتخويف ضد السكان المسيحيين في مدينة الموصل، وقبلها في العديد من مدن العراق، لسبب آخر ذي صلة بمشروعها التكفيري العنصري لتدمير العالم واضرام النار في حضارته.
والقضية، اولا، ان ما جرى وما يجري لمسيحيي الموصل، واختتم بقتلهم وتهجيرهم عن موطنهم ونسف منازلهم، كان قد جرى لمسيحيي البصرة وبغداد والعراق طوال سنوات، كما جرى لاتباع الديانات الازيدية والمندائية حيثما اقاموا وعاشوا، وقد جرى ذلك  في ظل صمت العالم الذي لم ينتبه كفاية الى ابعاد هذه'الغزوة' وشرورها، ولم يضعها على طاولة البحث بوصفها سقطة في النوع البشري الذي يأمل عن طريق الارهاب الى اعادة العالم الى عصر العتمة والخيام.
والقضية، ثانيا، خرجت جزئيا من مسؤولية الدولة العراقية التي اخفقت في حماية اصحاب الارض الاصليين بمواجهة غزاة متوحشين، بل انها استفزت مشاعرهم في تمرير قانون انتخابات مجالس المحافظات يتنكر لهم، من دون حتى استمزاج رايهم على وفق المادة (6) فقرة 1-أ من الاتفاقية الدولية رقم (106) حول حقوق السكان الاصليين تلزم الحكومات الاعضاء في الامم المتحدة 'باستشارة الشعوب المعنية، عن طريق إجراءات ملائمة، وخاصة عن طريق الهيئات التي تمثلها، كلما جري النظر في اتخاذ تدابير تشريعية أو إدارية يمكن أن تؤثر عليها بصورة مباشرة'.
والقضية، ثالثا، ان العصابات التي تدير حملة القتل والتهجير في الموصل تمثل نموذجا من عارض عالمي يهدد العلم والفكر والحرية والتعايش والسلام مما يقع تحت مسؤولية المجتمع الدولي والامم المتحدة حصرا.
مرة اخرى، ليتحد العالم لمنع هذه العاصفة من المرور.
 
ـــــــــــــــــــ
وكلام مفيد:
'يلاقيك مجرم، يعنى أن يمسك بك لغز في حالة اليقظة'.
         إيمانويل ليفيناس


414
لجنة دعم الديمقراطية: اعيدوا الفقرة 50 الى قاون المجالس

لندن:
دعت لجنة دعم الديمقراطية في العراق الى اعادة الفقرة 50 من قانون مجالس المحافظات السابق الى القانون الجديد من اجل حماية حقوق الكيانات المتآخية وترسيخ الوحدة الوطنية في العراق.
وفي الاتي نص بيان اللجنة:
تلقت لجنة دعم الديمقراطية في العراق، وجميع الديمقراطيين العراقيين ، باستغراب شديد تمرير واجازة قانون مجالس المحافظات بما يتضمنه من اجحاف ونكران لحقوق الكيانات العراقية التي كانت مثبتة في الفقرة (50) من القانون السابق، وخلافا للوعود والتطمينات التي نشرت على لسان ممثلي الكتل النيابية، بل وتعارضا مع الادعاءات التي سمعناها طوال السنوات الماضية عن الوحدة الوطنية واحترام حقوق الاقليات في العراق.
اننا لا يمكن ان ننظر الى هذا الموقف باعتباره غفلة غير مقصودة، بل هو جزء من منهج لقوى متنفذة في البرلمان كانت، قبل ذلك، تقف متهمة، او عاجزة، عن مسؤوليتها لما يتعرض له اتباع الديانات المسيحية والمندائية والايزيدية وجميع الكيانات الصغيرة في العراق، وقد جاء اسقاط الكوتة الخاصة بالكلدواشوريين السريان ليكمل هذا النهج التدميري الذي لا يختلف عن منهج الاستئصال الذي تحرمه القوانين الدولية وتدينه قيم الديمقراطية والوحدة الوطنية.
اننا إذ نثمن مواقف الاحزاب والمنظمات والشخصيات التي انتصرت لضحايا التهميش المتعمد نطالب باعاد الفقرة 50 من القانون السابق وضمها الى القانون الجديد والاعتذار الى ابناء شعبنا من  اتباع الديانات والقوميات المتآخية.     

لجنة دعم الديمقراطية في العراق –لندن
10/اكتوبر-2008



415
مسرحية انتخابية بعنوان: مستقلون


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 احزاب الدين والطوائف تحاول، مع اقتراب السباق الانتخابي، ان تخفف من اللون الغامق لهويتها، بعد ان تبهذلت سمعة المشروع والشعارات التي جاءت بها الى المسرح(وبعضها شعارات جاهلية)  في حين اعطتها الملايين العراقية التي زحفت الى صناديق الاقتراع فرصة تاريخية ثمينة لتجرب ترجمة وعود الرخاء والاستقرار والتغيير ورفع المظالم الى الواقع، فترجمت شيئا آخر الى ما وراء الواقع.
 هذا ليس موضع استغراب، بدليل تصريحات المرجع اليعقوبي الذي اضاف الى فشل الاحزاب الدينية 'تراجعا في الالتزام الديني' بين الجمهور، وبدليل(كذلك) ان الكثير من هذه الاحزاب تلجأ، في لعبة مكشوفة، الى تشكيل واجهات انتخابية ناشطة تقول انها مستقلة، وتزعم انها ديمقراطية، وتدعي انها ليبرالية، وفي هذا مؤشر ايجابي، من جانب آخر، عن احترام الجمهور للمستقلين، واخوانهم الديمقراطيين، وجيرانهم الليبراليين، فكيف اذا قدّم احد فرسان الحملات السابقة لنشر الايمان وقتل المحجبات وتحريم الغناء بصفة مستقل وديمقراطي وليبرالي في وقت واحد.
لكن الاستغراب يتمثل في الجواب على السؤال الوجيه(وقد سألتُ احدهم فعلا): مستقلٌ عمّن؟ فلا تظنن ان ياتيك الجواب الصحيح وهو انْ لا استقلال، ولا يحزنون، إذ سيقول لك: مستقل عن الاحزاب.
 سين: وأي احزاب؟.
 جيم: احزاب الحكومة.
 سين: لكنك من تلك الاحزاب سيدي؟.
 جيم: نعم، كنتُ.
 سين: ومتى هجرتها؟.
 جيم: مِن زمااااااااااان.
 سين: ولماذا؟.
 جيم: هكذا..(لا جواب)
 سين: وهل قصّرت تلك الاحزاب، او فشلت؟.
 جيم: ها؟.. قد تكون قصّرت، لكن فشلت؟.. استغفر الله.
 سين: وماذا يضمن ان لا تعود اليها بعد الانتخابات؟
 جيم: يمكن للذين يصوّتون لي ان يحاسبوني، بعد ذلك.
 سين: كيف؟.
 جيم: في المساجد او اللقاءات والزيارات.
 سين: وهل حاسبوا الذين اخطأوا او قصروا او لهفوا؟.
 جيم: الظروف.
 سين: ما بها؟.
 جيم: كانت صعبة.
 سين: والآن؟.
 جيم: تغيرت.. الناس صارت تعرف، وتحكي وتنتقد، ولا تصوّت عمياوي.. ولا ترحم.
س: وهل هذا هو السبب في ترشيحك مستقلا؟.
جيم: واسباب اخرى؟.
 سين: ما هي؟.
جيم: اشرحها لك بعد الانتخابات. 
 سين: اتمنى لك النجاح.
 جيم: من فمك لباب السماء.
 (ستارة)
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:       
 'يقول اهل الحبشة، ان آلهتنا سوداء البشرة ولها أنوف فطساء، ويقول اهل تراقيا:ان آلهتنا زرقاء العينين وحمراء الشعر.
(ب. وود- تقاليد الشعوب)
ـــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

416

كوليرا . كلور. كلاوات


عبدالمنعم الاعسم
 
 يضرب التسييس جميع مناحي حياتنا، لننظر، كيف نتعامل مع عارض الكوليرا، والى أي دهاليز و'كلاوات' انحدر الموضوع في ما يتعلق بمادة تعقيم المياه المستوردة، وللننظر ايضا، الى هذا التضارب بالتصريحات في حين ينتشر المرض انتشار النار في الهشيم.
على انه  ليست المرة الاولى التي يثار فيها الجدل حول مرض الكوليرا، كما ان محاولة محافظ الحلة تنزيه مادة الكلور المستوردة من تهمة التلوث مما نشر الكوليرا بين سكان المحافظة ليست سوى فاصلة في محاولات عبر التاريخ استهدفت تبرئة تجار الحروب من جرائم الابادة بسلاح الجراثيم، وقد يكون ثمة تضخيم اعلامي في 'فضيحة' الكلور، او ثمة تقصير لدى السكان في التزام تعليمات الوقاية الصحية، او ثمة 'انشغال مبرر' او'كلاوات' للسلطات المحلية والمسؤولين ودوائر الصحة في ما هو اغلى من حياة الاطفال، واهم من تأمين صحة الملايين.
 اقول، انها ليست المرة الاولى تدخل فيها مفردة الكوليرا ثقافتنا الصحية العليلة، ومعلوماتنا الشحيحة، فنعرف، فجأة، ان العراق، بعد السودان، من بين دول قليلة في العالم بقي موطنا لمرض طواه العالم منذ بعد سنوات قليلة من اكتشافه في مستشفى الاسكندرية في القرن التاسع عشرعلى يد عالم المكروبات الالماني روبرت كوخ بوصفه مرضا بكتيريا مُعديا قصير الأمد، قد تؤدي الى الوفاة اذا لم يتداركها الطب، وقد توصل كوخ الى ان جرثومة المرض انتقلت الى مصر بواسطة الجنود الهنود في القوة البريطانية التي 'حررت' ارض الكنانة من جيوش نابليون.
 وإذ نسى العالم مرض الكوليرا فقد اختزلت ذكرياته الى رموز وتضمينات تعبيرية تدخل في الاعمال الفنية والمسرحية والقصص والروايات، وقد استلهم ماركيز روايته الشهيره (الحب في زمن الكوليرا) من دلالات المرض في عرضه لحياة رجل وامرأة من المراهقة حتى بلغا السبعين، وصارت الكوليرا في بعض الكتابات كنية تخيلية للعوارض الفتاكة التي تضرب مجتمعات آمنة، مثل الارهاب والتطرف، كما جاء في قصة للجزائري عمر بولحيال عما اسماه الكوليرا البشرية. اما النظام السابق فقد اعتبر الاصابة بالكوليرا من الاسرار العسكرية التي تهدد من يتحدث عنها الى بفقدان حياته، فيدى الامر لمنظمة الصحة الدولية بمثابر لغز.   
 المفارقة، الان، تكمن في الحقيقة المروعة التي تتمثل في ان بلدا غنيا في الموارد والنخب والكفاءات والماضي العمراني ويصل فائض ميزانيته، فقط، سبعين مليار دولار هو الاول من بين بلدان العالم عرضة لانتشار مرض الكوليرا، فيما  يتقاذف المسؤولون جريرة انتشاره، بل ان مسؤولا في محافظة بابل التي فازت باكثر حالات الاصابة والموت عبّر عن امتعاضه من 'تضخيم' الامر، واستخدامه في الاعتبارات السياسية، في وقت داست جزمة الاعتبارات السياسية على كل عناوين الحياة العامة.
 ثم ماذا يهم المئات من ضحايا الاصابة بالكوليرا، في محافظة بابل، والملايين من المعرضين لها، ان يكون الكلور المستورد الذي يستخدم في التعقيم نافذا من اصله، ام كان غير نافذ، أم ان هناك تضخيم وراؤه اعتبارات سياسية، طالما ان حملة مكافحة وتطويق الوباء تجري باقل ما يمكن من الشعور بالمسؤولية، وباكثر ما يمكن من الثرثرة والتصريحات، في وقت نكتشف آلاثار الكارثية لتأجير وزارة الصحة والخدمات الصحية في البلاد 'حصة' ولسنوات عديدة، الى مليشيات حولت المرافق الصحية الى محاكم تفتيش وترسانات سلاح، واستخدمت الكلور والمعدات الطبية في مجالات اخرى.
ـــــــــــــــ
كلام مفيد:
'لو كنا هنودا، لرأينا الأشياء بعين أخرى'.
بارتولومو دى لاس كاساس
           


417
المنبر الحر / نهاية مدير عام !
« في: 01:07 28/09/2008  »
نهاية مدير عام  !

عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com
   
تدحرج الحظ السعيد (او العاثر كما سيظهر) لصاحبي وصديقي القديم (مجيد..) ليصبح عام 2004 موظفا كبيرا (مدير عام) في وزارة خدمية، وقد نال المنصب بصفة نادرة احتفظ بها في هذا الزمن العراقي (اليس عجيبا؟) هي الاستقامة والحيادية والنزاهة، وعُرف بصفحاته البيضاء وسيرته المهنية المتوازنة ورجاحة قراراته وسلوكه، وحُسن علاقاته مع رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء. 
وصل صاحبي الى منصبه في ظروف مشجعة ومتاحة (وربما اسطورية) هي ان المرفق الحكومي الذي يديره لا تتزاحم عليه المحاصصة المستنفرة، ولا تحسده العين المالحة، ولا تشتهيه العتاوي الجشعة، إذ يحتفظ بميزانية مالية محددة، غير قابلة للانتفاخ والفيضان، ولا تدخلها خطوط 'الصفقات' عابرة الحدود والقارات، وليس لديها نثرية 'مفتوحة' على الحبربشية والحمايات والاسماء الموهومة، وان الفواتير والشؤون المالية لا تمر من بابه، ولا تسلم عليه، ولا تستنجد به في حال انحرفت الى اليمين او الشمال.
وفوق ذلك اتخذ (مجيد)  عهدا على نفسه ان لا يدس يده او انفه او لسانه في شؤون الاحزاب والطوائف والقوميات والقبائل والمناطق والزعامات، وبقي على مسافة محسوبة من السياسة، يقيسها بوجدان نظيف، ويد عفيفة، وروح وطنية نقية مثل دمع العين، كما اقسم اغلض الايمان ان يترك الوظيفة والمنصب في اليوم الذي يُجبر على تعيين شخص لاعتبارات لا تمت للكفاءة بصلة، او على تعيين آخر في وظيفة هلامية(من وظائف هذه الايام) لكنه بالمقابل يتعامل بسخاء وانسانية مع اولئك الذين يتعرضون الى الاذى والتنكيل والاعتداء الارهابي والمسلح، من غير خوف من القانون او قواعد الوظيفة.
وعندما التقيته قبل شهور همس صاحبي في اذني بين الضحك والمرارة قائلا: 'الدائرة تضيق من حولي'  كيف؟ قال : إنهم اجروا تغييرات في طبيعة المرفق وفتحوا منه ثقبا الى مجرى النهب برفع ابواب الميزانية، وثقوبا اخرى الى  مجاري الصرف الصحي المرتبطة بما يسمونه 'مشاريع الاعمار'  قلت له : لماذا لم تستقل او تحيل نفسك على التقاعد؟، قال : أخجل من نفسي ان اهرب كما يهرب المشتبه بهم والمطعون بنزاهتهم بعد ان يبلغ ثراؤهم حد التخمة ويصير على كل لسان ، ومن مجرى الحديث عرفت ان وظيفة صاحبي صارت مرغوبة من الحلقة الشيطانية التي تنتشر باسم الولاء لمراكز النفوذ، وان صاحبي في موقف حرج، فلا هو منهم، ولا هو يريد ان يجاريهم.
بالامس جاءني الخبر الذي كنت اتوقعه: لقد ابعدوني بقرار من فوق من دون سبب معلن غير السبب الذي تعرفه، ان لا اشتري الوظيفة بالولاء.. ولك ان تعرف كم انا حزين لاني لم اسمع نصيحتك باستباق الاقالة بالاستقالة.. انها الانتخابات يا صاحبي.. مجيد.
انها الانتخابات يا اصحابي.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
'المفلس يجتاز السوق مسرعا' .                                   
مثل تركي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد)بغداد

________________________________________

418

ايتها الكلمة الساحرة..
شكرا لك


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

لولاكِ، ايتها الكلمة الساحرة.. ايتها النعمة اللغوية، يا خشبة النجاة، مَن كان سينقذ كلامنا من التشابك والحرج، ومِن هذه الخبصة الصوتية التي زجّتنا بها تصريحات المسؤولين؟ ولولاكِ، ايتها العزيزة، مَن كان سيسهل عبورنا الى ضفاف السلامة من بطش الباطشين، وغضب الغاضبين؟ ومَن كان سيسمح لنا بالدخول الى الغرف المحرمة التي تتكدس فيها الاسرار والفطائس والاوساخ؟.
ولولاكِ يا كلمة "البعض" العجيبة كيف سنوجه اصابع الاتهام بالتزوير والتلاعب وانعدام الكفاءة والتعدي على احيائنا وامواتنا الى وزير من الوزراء ومحافظ من المحافظين ورجل دين من بين رجال الدين، وعسكريا من العسكريين، وسياسيا من السياسيين من دون ان نلقى ما لا يُحمد عقباه، او-في افضل احوال المصير- ان نساق الى القضاء بتهم القذف والتشهير بحق ملائكة النزاهة والهمة والاخلاص.
فاننا نضعكِ، ببساطة، في توطئة الكلام، فنقول، مثلا: بعض الوزراء يسرقون" او "بعض الحاشية يتجاوزون او بعض المتنفذين ينقلون الملايين من الاموال السوداء لكي تُبيّض في القاهرة وبيروت او في عرض البحر او نقول بعض دول الجوار تتمدد ويتسترون عليها او بعض كبار المسؤولين يحاطون باسطول من المستشارين العاطلين عن العمل او نبرع احيانا باللف والدوران فنستخدم كلمة "البعض" بافراط مثل قولنا ‘بعض الامناء على المال العام ينهبون بعض المال بعلم بعض كبار المسؤولين، ويسكت بعضهم على بعض وهكذا نعفي انفسنا من المسؤولية، ونحمي رقبتنا من القصاص، ونحتفظ برضى الجميع، طالما لم نسم الفاسد باسمه، ولم نشر الى الشخص المعنيّ بالصوت والصورة، ولم نتهجأ بموصوف الجاني كما هو واردٌ في اسم يطلق التهديد، وكنية تطلق الرصاص.
ولعل احدث تصريح ذي بلاغة عن حضوركِ واهميتكِ وسحرك هو ما جاء على لسان النائب هادي العامري، منقولا يوم الاحد، (انتباه رجاء) يقول: ان بعض الوزراء في الحكومة العراقية  يتصرفون بشكل سيء في إدارة وزارتهم، لأنهم يعلمون أن كتلهم ستمنع أي استجواب لهم وتحول الأمر إلى قضية سياسية’ ولا بد من الاشارة الى ان الحديث بكِ ذي صلة بما يقوله "البعض" ان "بعض" المخالفات المالية والادارية و"بعض" شواهد قلة الكفاءة ترتبط بوزارة التجارة، حصرا.
عندما عدت الى قاموس اللغة وجدتك تزهين في اشتقاقين ينفعان في مزيد من الايضاح،  اولهما، ما يعود الى (بعّضَ) أي جزّأ الشيء الى اجزاء، كل واحدة منها (بعض) وجمعها (ابعاض) فنقول: بعض المرتشين، أي مرتش واحد من المرتشين، و(البعض) هنا (انتباه مرة اخرى رجاء) لا يعفي الابعاض الاخرى من ظنة الرشوة، اما ثانيهما، فيتزحلق الى البعوض( الحشرة الضارة) من اصل كلمة (بُعِض).. والمهم، هنا، كما يرد في السياق، ان معنى (ابعض المكان) صار مبعوضا، أي، كثر فيه البعوض.. كفانا شرّه.
 
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
‘ لا يمنح اللقلق الذي هو -شرير في طبعه- حبه إلا لأقربائه’.
                                                ماثور تلمودي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


419

وانا تلقيتُ الدعوة منذ سنوات
الصح والخطأ  في زيارة الالوسي الى اسرائيل


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

  سارجئ رأيي بزيارة النائب مثال الالوسي لاسرائيل الى حين، وقبل ذلك عليّ ان افكك لغز قضية خطيرة اثيرت في مناقشات مجلس النواب، وعُدّت من اسباب قراره سحب حصانة الالوسي النيابية، وقد عرفت بعنوان تلك القضية عندما دخلتُ في 'سين وجيم ' بالتلفون مع نائب شارك في المناقشة وتعاطف مع قرار المجلس، فكان هول المفاجأة التالية (انتباه): ان العراق في حالة حرب مع اسرائيل وفق قرار 'مجلس قيادة الثورة' المنحل.. كيف حدث ذلك؟ يجيب النائب: لان العراق الجديد لم يلغي جميع قرارات مجلس قيادة الثورة 'ونتعامل الآن مع الكثير من تلك القرارات بما فيها حالة الحرب مع اسرائيل، وتجريم العراقي الذي يزور دولة العدو' كما قال.
 في البداية، لابد من القول (وهذا رأيي) ان النظام السياسي في اسرائيل ليس ديمقراطيا، لان الديمقراطية النقيض لمنهج التوسع والتمييز العنصري وتحويل ابناء شعب آخر، وصاحب ارض وهوية، الى مواطنين من درجة دنيا، وهذه جميعها صفات هذا النظام الذي ادانه المجتمع الدولي، سلوكه العدواني في اكثر من اربعين قرار، وفي هذه البداية، مطلوبٌ القول (وهذا رأيي ايضا) ان حروب العرب مع اسرائيل لم تخرج عن طابع حروب بين انظمة استبدادية وعنصرية، ولم تكن مصالح الشعب الفلسطيني في اساس دواعي تلك الحروب، إلا في نطاق الشعارات التي يتأكد الفلسطينيون من بطلانها في كل حرب، إذ يتركهم العرب يسحبون قتلاهم الى مقابر في العراء، ويعطونهم-بدل ذلك- جرعات وعود ولاءات زائفة، وفتن تثير الصراع الدموي بين فصائلهم.
 والآن، هل ان العراق الحالي في حرب مع اسرائيل حقا؟ وقبل ذلك: هل ان العراق كان في حرب مع اسرائيل يوما؟ ثم بعد ذلك: هل نريد حقا ان يكون العراق في حالة حرب مع اسرائيل؟ وبعد كل هذه الاسئلة من يستطيع ان يجيبني على السؤال التالي، الاكثر اهمية من جميع الاسئلة: من بقي من الدول العربية متمسكا بخيار الحرب مع اسرائيل حتى يكون العراق الدولة الثانية في هذا الخيار؟.
 استطيع القول ان جميع الاسئلة هذه، تجيب عن نفسها بكل يسر، فلا العراق، الآن، ومن جميع الوجوه، في حالة حرب مع اسرائيل، ولم يكن يوما في حالة حرب معها إلا لتوظف هذه الحالة الزائفة في حرمان الشعب من الحرية والحقوق الديمقراطية ولفرض نظام سياسي فردي متوحش بذريعة التحضير للمعركة القومية التاريخية، كما اننا لا نريد ان نكون في حرب(او حالة حرب) مع اسرائيل، لأننا في حالة حرب شرسة مع الارهاب (الذي اعلن الحرب علينا) ولسنا مستعدون (وقل قادرون) على ان نخوض حربين في وقت واحد، عدا عن اننا لسنا فلسطينيين اكثر من الفلسطينيين الذين يبحثون الآن عن سبل لاستعادة حقوقهم غير سبيل الحرب، او حالة الحرب، فيما صفقت لهم دول العرب وجامعتهم ايذانا بنهاية كوميديا الحروب مع اسرائيل.
 وعندما اخرج المتناقشون في مجلس النواب فزاعة حالة الحرب مع اسرائيل النائمة، فانهم، في الواقع، اعلنوا هذه الحرب من جانب واحد، ليتركوننا نحلم، ثم نستيقظ، لنجد اسرائيل قد رميت في البحر.. (تصفيق).
 في هذا، تحكم اسرائيل طبقة متطرفة من غلاة القوميين والمتدينين اليهود، هي الوجه الآخر من تطرف اتباع الديانات الاخرى، وجميعا تُنتج ثقافة وافكار وممارسات الكراهية والعنف، وإنْ بنسب متفاوتة، اشير بهذا الى تراجع(اقول: تراجع) العنف في المرحلة الراهنة من التاريخ بين اتباع الديانة المسيحية الى ادنى منسوب لها، كما تنبغي الاشارة الى ان التطرف اليهودي، وتحول ذلك التطرف الى مؤسسة سياسية سبق، في التاريخ، اشكال التطرف في الديانات الاخرى، ولا حاجة، هنا، الى الدخول في شعاب الافعال وردود الافعال.
 وتفيد تجربة الصراع السياسي في مرحلة الاستعمار والحرب الباردة ان تضع بين ايدينا جملة من الحقائق، في مقدمتها، ان متطرفي الديانات اشتركوا، معا، في انتاج مبررات الحروب والعنف، وملأوا خزانات نفوس الاتباع بالكراهية والتشويهات الانسانية، واحياء نعرات الماضي، وتحديث “الصراع الديني” بشعارات وادوات جديدة، وتوظيف النص الديني في خدمة الشعارات السياسية، وتجميل الانحراف العنصري، وجر العلاقات الدولية الى التوتر والتصادم.
 في تفاصيل تلك الحقائق، نجد ان متطرفي الاديان يتصرفون كمتحالفين ضد السلام والاستقرار والوفاق وخيار التفاوض والحلول الوسط للازمات، ويتبادلون لغة(وحتى مفردات) التشكيك باية مبادرة لتسوية الخلافات، ويعودون الى نصوص وخرافات وقراءات عتيقة لترويج استحالة التعايش بين اتباع الديانات، بل انهم يتقنون سبل اثارة بعضهم البعض، ومَن يقلب النشرات والخرائط والفتاوي والهرطقات المتداولة ومواقع الانترنيت المختلفة سيكتشف التداخل (وحتى الانسجام) في فكر ومنهج وشعارات متطرفي الاديان، وسيجد ما هو اخطر من كل ذلك، بانهم، معا، لا يعترفون بوجود اختلاف او تمايز، او صراع، او معتدلين في صفوف اتباع الديانة الاخرى.. فالكل سواسية.. والكل مطلوب للقصاص.
 واللافت، انه كلما تتسع مساحة الاعتدال السياسي، وخيارات الحوار والتفاوض، واتجاهات العقل والحكمة، يشعر المتطرفون بالخطر، فيبادرون، كلٌ من جبهته الدينية والقومية، في ما يشبه التنسيق، الى العمل (حتى باساليب متشابهة) لتدمير فرص السلام، والسعي الى اعادة البيئة السياسية الى نقطة التوتر والحرب، وبين ايدينا ملفا زاخرا عن هذه الدوامة، اشير بهذا الى الصراع العربي الاسرائيلي المديد الذي لم يكن له ان يستمر مايزيد على ستة اجيال لولا تحكم قوى التطرف والعنصرية اليهودية مقابل الشرائح القومية والدينية الاسلامية المتطرفة في اللعبة العبثية للحرب والسلام، فانه طوال هذه السنوات المديدة من الصراع كان الطرفان يمولان بعضهما بالمزيد من اسباب وغذاء ومبررات التطرف.
 احسب انني اقتربت من إبداء الرأي في سحب حصانة النائب مثال الالوسي بسبب زيارته الى اسرائيل.. والتوطئة اعلاه تفيد في الدخول الى الموضوع، والقول: ان حمية مجلس النواب لسحب الحصانة عن النائب مثال الالوسي بسبب زيارته اسرائيل، والسرعة اللافتة في اتخاذ القرار، والتوافق غير المسبوق بين النواب (غير المتوافقين اصلا) والاصرار على عدم الاسترشاد بالمحكمة والقضاء والدستور، او حتى بتشكيل لجنة تحقيق او عن احالة الموضوع على اللجنة البرلمانية المختصة، كل ذلك يثير التأمل، ليس في ذات (الزيارة) بل في خلفيات ومبررات واصول وتجهيزات قرار سحب الحصانة النيابية، غير زعم 'حالة الحرب مع اسرائيل' لأن العراق (اولا) ليس في مثل هذه الحالة، وان الالوسي(ثانيا) زار اسرائيل قبل ان يكون نائبا بحوالي عام، وزكّت سيرته وصفحته هيئات القضاء ولجان التدقيق في المرشحين، ثم انتخبه العراقيون الى المجلس وهم يعلمون بتلك الزيارة و(ثالثا) ان غالبية المصوتين على تخوين الالوسي كانوا من اكثر المتحمسين على إجلاء فلسطينيي العراق(وهم ضحايا الاحتلال الاسرائيلي) والقائهم، في اسوأ الظروف، على الحدود الغربية. 
 هل نحتاج، قبل ذلك الى اثارة السؤال عما اذا كانت الزيارة الثانية خاطئة في الاصل والتوقيت؟ هذا امر يخص الالوسي نفسه، وقد نختلف في الموقف اذا ما وضعنا انفسنا محله، بين مَن يقول، انه ما كان له ان يقوم بزيارة اسرائيل، ومَن يقول، ماذا في الامر اذا كانت الزيارة ليست رسمية ولا تستهدف مناصرة النظام السياسي العنصري في اسرائيل؟.
 اقول، قد نختلف في زاوية النظر الى خطوة النائب الالوسي. بالنسبة لي كنت ساتجنب مثل هذه الزيارة، واشير هنا الى سابقة تعود الى عام 1997 إذ تلقيتُ وصديقي الصحفي زهير الجزائري دعوة لحضور مؤتمر اتحاد الكتاب والفلسطينيين في رام الله بفلسطين، وللوهلة الاولى قبلنا الدعوة التي حملها الينا مراسل وكالة انباء (وفا) الصحفي الفلسطيني احمد سيف، وكنا سنراجع السفارة الاسرائيلية في لندن ونقطع تذاكر سفر الى تل ابيب، غير اننا، بمراجعة أخرى، نظرنا الى الامر من جانب آخر، إذ كنا صوتين ثقافيين معارضين للدكتاتورية الحاكمة التي اشترت نصف الاقنية الاعلامية العربية وهي مستعدة لتدوير الزيارة بعيدا عن هدفها في التضامن مع الفلسطينيين، وستتمدد الحملة (طبعا) الى هجوم تخوينيّ كاسح على المعارضة التي تحاصر (ونحاصر معها) اعلاميا في ذلك الوقت.. وفي الاخير صرفنا النظر، آسفين، عن الفكرة.
 باختصار شديد، ان قرار تعليق عضوية مثال الالوسي في مجلس النواب بسبب زيارته لاسرائيل(قبل احالته الى التحقيق والقضاء) كان قرارا سياسيا كيديا، ومسلوقا، ومثّل قاسما مشتركا لـ'اهواء' وحسابات، وتصفيات حساب، ومواقف، وصمت، وحراجة النواب الذين صوتوا على القرار، مع الاخذ بعين الاعتبار عنصرين مهمين في السياق، الاول، يحق للنواب وغيرهم معارضة الزيارة انطلاقا من اسباب قومية او دينية، والثاني، ثمة مسافة شاسعة بين معارضة الزيارة وقرار تعليق العضوية، إذ لعبت في هذه المسافة اعتبارات لا يبررها اختلاف الرأي، ولا يقبلها النص الدستوري، ولا تهضمها التطورات (الانقلابية) نحو التفاوض والتطبيع بين اسرائيل والعرب.
  في بعض تعليقات معارضي الزيارة جرى تحميل مثال الالوسي جريرة قيام اسرائيل على ارض فلسطين، وفي فيلم (السفارة في العمارة) يسأل عادل امام محتجين على تأجيرشقته للبعثة الدبلوماسية الاسرائيلية في القاهرة: هوّا انا اللي جبت اسرائيل للبلد ولّه همّه؟.

ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
'الناس المستيقظون، لهم عالم واحد. أما النائمون، فلكل واحد عالمه'.
هيراقليطس


420

الصحوات: تفاهم.. ام سوء تفاهم؟


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

ما يجري داخل حركة ما يسمى بـ 'الصحوات'التي تأخذ على نفسها جانبا من الحملة على تنظيمات القاعدة والجماعات الارهابية الاخرى في بغداد والانبار وصلاح الدين وديالى والموصل يثير الكثير من الحيرة، والتأمل، فيما تلقي التصريحات الرسمية حول الموقف من هذه الحركة ودورها واستيعاب المتطوعين فيها الكثير من الغموض، يزداد ويتعمق اذا ما مررنا بمواقف الاحزاب السياسية المعنية بالامر من سبل التعامل مع الصحوات ومصير مئات الالوف من عناصرها، كما يواجه المراقب لهذه اللوحة بصمات الجانب الامريكي على اكثر من فاصلة، وبخاصة ما يتعلق بمبادرة تشكيل الصحوات وطريقة تمويلها والمهمات التي تضطلع فيها.
معروف ان ثمة ظروف مهدت لتشكيل حركة الصحوات، وبيئات احتضنتها، وجهات شجعتها ورعتها ومدتها بالمال والسلاح، الامر الذي يحتاج الى وقفة متمعنة اخرى، غير ان الامر الملح يتمثل في تحول هذه الحركة من وسيلة الى حل لمشكلة الارهاب الى وسيلة لاثارة المزيد من الانشقاق والاضطراب، على خلفية مجموعة من الاخطاء والانتهاكات، وبخاصة، بعد ان تسربت الى صفوفها عناصر القاعدة والجماعات الاخرى، فضلا عن عناصر ارتكبت مذابح بحق المدنيين الامنين، ومثالا على ذلك ما اعلن عن دور رئيس صحوة العامرية(ابو العبد) في تنظيم اعمال قتل جماعي لمواطنين يجري اختطافهم بدواعي الانتقام الطائفي.
وفي هذا المفصل نطالع يوميا تهديدات من قبل قيادات الصحوات بالعودة الى حمل السلاح ضد الحكومة وشكاوى من احزاب الحكومة من تمدد الصحوات الى خارج صلاحياتها، كما نطالع وقائع صراعات بين صحوات واحزاب لها نفوذ في مناطقها، بالاضافة الى عمليات اغتيال وتصفيات فاجعة جرت في الرمادي وتكريت وديالى والموصل، ولعل ما يجري في ديالى من صراع لا يترك مجالا للشك في ان الجانب الحكومي ضائع بين الصحوات التي تمثل ابناء طائفة ومناهضيها من ابناء طائفة اخرى، وربما هذا، حصرا، ما دفع الناطق باسم خطة فرض القانون الى اتهام ‘جهات سياسية’ بتخريب العلاقة بين الحكومة والصحوات، بل انه اتهم الامريكان بفرض لون طائفي واحد على حركة الصحوات، فيما المطلوب ان تكون ممثلة لجميع الطوائف، وهو قول يحتاج الى معاينة من جميع الزوايا، ومن داخل الاسباب التي تقف وراء هذه الشكوى.
وإذا ما تمعن المراقب في سطور التصريحات والتصريحات المضادة، فانه سيكتشف ان المشكلة الرئيسية المطروحة على فرقاء هذا الملف تتمثل في قواعد التعامل بين الصحوات والحكومة، والتعامل هذا يتضمن ميزانية الحركة ورواتب افرادها وطبيعة وحدود مهماتها وهياكلها واشكال علاقتها بالقوات الامنية الحكومية، ويبدو ان ما اعلن عن استيعاب ستة الاف من افراد الصحوات في القوات الحكومية، والنية بقرب صرف رواتب متوقفة لـ 50 الف من الافراد لم يكن ليرضي قيادات الحركة التي تتحدث مئتي الف من الافراد الذين يحملون السلاح ويسدون المنافذ امام تحرك العصابات الارهابية.
وبعبارة، فان الصحوات تحولت الى كرة في ملعب الصراع السياسي في العراق يجري تقاذفها بالكثير من العبث واللامسؤولية.. والمهارة ايضا.
من جانب آخر يبدو ان المخاشنة بين القوات الامنية الحكومية وجماعات الصحوة كانت بمثابة بشرى سارة بالنسبة للمجموعات الارهابية المسلحة التي سرعان ما اتخذت تكتيك جديد يعمق الصراع بين الجانبين، ويفتح الطريق امام عناصر الصحوات الى الانسحاب او التعاون معها، فقد اعلن 'امير' القاعدة ابو عمر البغدادي استعداده الى اعلان العفو عن اولئك الذين 'هجروا الجهاد' وقاتلوا ضد 'دولة العراق الاسلامية' كما دعا عزة الدوري وريث قيادة فلول البعث انصاره المسلحين، في بلاغ صوتي، الى عدم مقاتلة عناصر الصحوات، في لفتة لها مغزى عما قيل عن تراجع بعض شيوخ قبائل الانبار عن دعم حركة الصحوات، وثمة، غير ذلك وهذا، بعض المؤشرات عن اصابع عواصم خليجية في تجهيز موقد الصراعات بالحطب، وطبعا يلعب المال هنا دور الساحر في حرائق يضرمها البشر.
 لكن، اهم خيوط الصراع داخل الصحوات، وفيما بينها وبين القوات الامنية والاحزاب الناشطة في مناطقها، ينبغي تتبعه من النقطة التي بدأت منها مبادرة (او انقلاب عشائرالانبار اولا) نحو تشكيل مجموعات مدنية ريفية تقاتل القاعدة ومجموعات'المقاومة' الاخرى، ونعني بها شعور سكان قبائل المناطق الغربية بالذعر من اتساع نفوذ دولة مجاورة للعراق الذي 'صُوّر' لهم انه في طريقه الى ابتلاع العراق كله وانهاء هويته الوطنية، وكما افاد القيادي السابق في احدى الجماعات المسلحة(ابو عزام) في مؤتمر صحفي مصغر عقده في عمان بقوله 'أن الفصائل السنية المسلّحة التي قاتلت الأميركيين خلال السنوات السابقة كانت تفعل ذلك 'نيابة عن دولة مجاورة' فالسنة كانوا يعانون من نفوذ تلك الدولة من جهة وتشدد القاعدة من جهة أخرى ويدفعون ثمن ذلك بضعف تمثليهم بمؤسسات الدولة التي سيطر عليها الاخرون، بينما بقوا هم خارج اللعبة' ثم وجد ابو عزام وقيادات اخرى في صفوف المسلحين أنّ تغييراً استراتيجياً لا بد أن يبدأ، وبالفعل، قاموا بمفاوضات مع الأميركيين، وبالتحديد في الشهور الأخيرة من عام 2006، ما وصل في النهاية إلى فكرة تشكيل 'صحوات عشائرية' داخل المجتمع السني.
تشكيل الصحوات ودخولها الناشط في دورة الاحداث السياسية والامنية خلق، بالمقابل، حساسية لدى بعض خطوط الاحزاب الطائفية المتنفذة، وصار ينظر لها بمثابة محاولة لانتاج توازن جديد في المعادلة السياسية والطائفية قد يقلب الكثير من الترتيبات لما بعد 2003 وقد يؤثر في خارطة الانتخابات المقبلة، وليس من دون مغزى ان يسجل الناطق باسم خطة فرض القانون في بغداد على حركة الصحوات انها تمثل لونا طائفيا واحدا، وذلك في معرض حديثه عن امكانات ضم عناصر الحركة الى القوات الامنية.
على ان الذين ينكرون حقيقة ان حركة الصحوات كانت قد قصمت ظهر تنظيم القاعدة في اكبر مناطق نفوذها، وفي حيزها الجغرافي الاستراتيجي على طول حدود التمويل والمناورة، يتوزعون على عدد من الزوايا، من بينهم اولئك الذين يصرون على انها صفقة، ليس إلا، بين القوات الامريكية وحكومة بغداد وايران ودول الخليج ومشايخ افراد وربما الاتحاد الاوربي والجامعة العربية.. طبقا لخيال اصحاب نظرية المؤامرة.

ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
' النصيحة بعد وقوع المحذور كالدواء بعد الموت'.
حكمة

421
 
مقاربة في اربع لوحات من داخل المشهد:   
من المسؤول عن تحجيم السلطة الرابعة في العراق؟


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 اعتقالات الصحفيين العراقيين، من قبل السلطات المحلية والقوات الاجنبية تحولت، بالاضافة حالات الزجر والاعتداء والتهديد والقتل المتكررة، الى ملف ساخن يجري تداوله على نطاق واسع في المحافل الانسانية المعنية بالسلامة المهنية للصحفيين وحريتهم وظروف عملهم في حين يجري الحديث عن تحرك في عواصم اوربية لجهة صياغة تصورات ومذكرات وعهود تأخذ طريقها الى الامم المتحدة تقضي باعتبار "حماية الصحفيين" في العراق شأنا انسانيا ينبغي وضع  مسؤوليته، بحسب اصحاب هذا التحرك، تحت "انتداب" المجتمع الدولي، وتذهب بعض الاصوات الى اعتبار العراق "منطقة كوارث" اعلامية.
  ومن الطبيعي ان تضر هذه "الحركة" المتعاطفة مع الصحفيين العراقيين وشركائهم الاجانب، في سمعة العراق، وحصرا، في سمعة العملية السياسية، والحكومة والاحزاب العاملة والمتنفذة، وتلقي بظلال من الشكوك حول تطبيقات الديمقراطية والحريات الدستورية وحقوق التعبير والوصول الى المعلومات والحقائق، وينبغي القول، ان حافظة الانتهاكات التي تتعرض لها الخدمة الصحفية في العراق تنتفخ كثيرا باضطراد، بحيث لم تبق جهة من الجهات العراقية خارج من شبهة التعدي على حرية التعبيرعن الرأي.     
 وخارج هذه "الحركة" المتعاطفة، ثمة الكثير من المعطيات المقلقة عن احوال الخدمة الاعلامية في العراق، فان التقارير التي تصدرها جماعات حقوق الصحفيين في العراق والعالم تجمع على تردي ضمانات الحياة والحرية والعيش الآمن للصحفيين العراقيين، وللصحفيين الاجانب الذين يعملون في العراق ويتعاملون، ميدانيا، مع اخباره واحداثه، ويشار هنا، الى انه لم تشهد الخدمة الصحفية اخطارا ، كما هي في العراق، منذ الحرب الفيتنامية، بل ان عدد ضحايا الاعلاميين الذين سقطوا في العراق يزيد على عدد ضحاياهم في العالم طوال خمسين عاما، ما يثير تساؤلا وجيها حيال هذه المفارقة: العالم ينشغل بالاخطار التي تحيق بالصحفيين والصحافة في العراق فيما الجهات العراقية المعنية تنشغل بالهروب من مسؤوليتها في التخفيف من تلك الاخطار والتجاوزات.
 يمكن ان يضيف المراقب الى هذه اللوحة المحبطة، حقيقة اخرى تتعلق بحالة التشرذم المتناسل (والتناحري) داخل الوسط الصحفي العراقي، إذ تعمق خلال انتخابات نقابة الصحافيين في الشهر الماضي، وما يقال عن دور في هذا التشرذم  لعبته خطوط متنفذة في الحكم لها مصلحة في إضعاف الجسم المهني الصحفي في البلاد.
/ لكن اخطر نتائج هذا التدهور يمكن قراءته في تراجع المادة الانتقادية في الصحافة العراقية، وتزايد المساحات التي تمتدح الحكومة باذلال، وتلمّع الساسة وزعماء الاحزاب باسفاف، وتعيد انتاج لغة المداهنة واللف والدوران حول رائحة الفضائح والفساد، وتعود الى الواجهة، للاسف الشديد، اللغة الخائفة من قطع الارزاق.. وطبعا: الخائف لا يخيف.

2-

 شهد العام الماضي تصاعدا كبيرا في نسبة اعتقالات واحالات صحفيين، في بغداد وخارجها، الى القضاء بتهم التجاوز على القانون و"تلفيق المعلومات" والتعاون مع الارهاب، كما شهد ملاحقات واستدعاءات آخرين من قبل الشرطة بمقاسات مخيفة، هذا غير القتل والتهديد والاعتداءات بالضرب، ويُخشى ان ترتفع مناسيب "القمع عبر القانون" الى الحد الذي يقضي على ما تبقى من "فتات" حرية الرأي في الصحافة المكتوبة.
 وثمة الكثير من المرات استنجد صحفيون وجماعات التضامن مع الاعلاميين برئيس الحكومة او البرلمان او المجالس البلدية بوجوب حماية الصحافة والصحفيين وحرية التعبير من قرباج وانكشارية السلطات المحلية، وثمة القليل من اللفتات "الديمقراطية" المنصفة تلقتها المهنة واصحابها ردا على مناشداتها، فيما اعتبرت "المنحة" المالية والمكرمات والاوسمة التي قدمتها الحكومة الى الصحفيين الاعضاء بالنقابة، بمثابة إحسان على الطريقة الشائعة المذلة التي يتكرم بها افراد "محسنون" على الصحفيين والكتاب، محسوبة على اعتبارات ذات رائحة غير طيبة كفاية.
 هذا عدا عن ضغوط وتهديدات جماعات العنف والجريمة والفساد والمليشيات وبعض خطوط المؤسسة الدينية والمشايخ والتكيات(ولها ادوات داخل الحكومة) إذ  تضع جميعا، بحسب مصالحها ومشيئاتها وخلفياتها العقائدية والطائفية والسياسية، خطوطا حمراء صارمة (غير مكتوبة طبعا)على حرية التعبير ووجهات النظر وحقوق الانتقاد في الصحافة المكتوبة وصارت معروفة ومتداولة لدى الكتاب والمحررين وادارات الصحف بما جعل منها رقيبا غير معلَن، او شبحا، او كابوسا، او سلطة فوق السلطات، فيما الخبر الصحفي يهرب الى العموميات اذا ما مرّ  بتلك الحُفر، والرأي يلوذ بالرطانة إذا ما حاول ان يقترب من المحرمات. اما دم نقيب الصحفيين شهاب التميمي فقد توزع، بعدالة متناهية، على جميع تلك الخانات.
 وليس من دون مغزى ان يجد الرأي المُطارد، المحرم، المنبوذ، المتمرد، الهارب من الصحافة المكتوبة، مكانه الطبيعي في صفحات مواقع الرأي على شبكة الانترنيت التي تتزايد مساحاتها وخدماتها الاعلامية في العراق بالطول والعرض، على الرغم من العوائق ذات الصلة بشحة الكهرباء واضطراب وضعف شبكات الاستقبال والتعديات المسلحة التي تعرضت لها مقاهي الانترنيت العام الماضي، ومَن يتابع هذه المواقع العراقية سيتعرف على جانب مهم من اتجاهات الرأي(الآخر) المخبوء في داخل الاوساط المتعلمة، كما سيتعرف على عناوين الممنوعات في الصحافة المكتوبة، ولا يحتاج المحلل الموضوعي الى مزيد من البحث عن اسباب تخفي الكثير من الكتابات اللاذعة وراء اسماء مستعارة، ونستطيع القول انها، وغيرها من حالات الهروب الى ملاذات النشر الآمنة، تشكل ادانة للطبقة السياسية المتنفذة، وللكوابيس التي ترتدي حريرا يُبهج .. وقفازات تخنق.

3-
النظام الشمولي، الدكتاتوري، السابق، حالَ دون قيام صحافة حرة مستقلة في العراق، اولا، ودون تشكيل كتلة مؤثرة في المجتمع، وفي سلطة القرار، من جمهرة الكتاب والصحفيين(ثانيا) وبعبارة موجزة، ان صدام حسين لم يسمح بوجود السلطة الرابعة في المجتمع حين الحقَ الصحافة واجهزة الاعلام الاخرى في جهاز ووظائف السلطة  التنفيذية، حالها حال اجهزة الثقافة والتعليم والشرطة والامن، وصارت الصحافة تنفذ ما ينفذه الموظف التابع من توجيهات صارمة واوامر حديدية، ومن البديهي ان تنحط سمعة الصحافة الحكومية والصحفيين الحكوميين في عيون الجمهور. 
وهنا ينبغي الاستدراك لدحظ البعض من الاراء التي تذهب الى اعتبار جميع الصحفيين الذين عملوا في صحف الدولة الشمولية(او كتبوا في نطاق وظيفتهم) كانوا على قناعة  (وحماسة) متساوية من تلك الفروض، فثمة بينهم مَن ارتبط عضويا ومصيريا وعقائديا و"امنيا"بالنظام، وقاتل عنه، وهرب معه، ويواصل حتى الآن خطاب ومنتوجات صدام الاعلامية، او يعيد انتاجها بكلفة مكشوفة، فيما الاخرون جميعا ضحايا للمشيئة المذلة للدكتاتورية، وبعضهم نأى بنفسه عن الردح والتمسح، وثمة من هذا البعض مَن وقف بشجاعة باهرة ضد املاءات ومنهجيات النظام فكتب بمختلف الطرق مقطوعات كانت بمثابة تحريض غير مباشرعلى الدكتاتورية، واعدم او هرب أو اختار الصمت عدد منهم، لا نزال نتداول اسماءهم بالكثير من التبجيل والاعتزاز. 
وإذا شئنا الدقة التاريخية، فان نظام الدكتاتورية قام بتفتيت نواة وملامح السلطة الرابعة التي كانت تتشكل في مجرى تطور الاداء الصحفي في العراق منذ اربعينيات القرن الماضي إذ لعبت الصحافة غير الحكومية دورا رائدا في صناعة الرأي العام، وتنويره، وتعبئته من اجل قضايا الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية. ولا نكتشف شيئا خارقا بالقول ان ضيق وعداء ومناهضة صدام حسين للصحافة المستقلة ليس سوى وجه من وجوه ضيقه وعدائه للرأي الآخرالمستقل، وهو بالتالي التعبير المنطقي عن منهج الواحدية الذي اخضع كل فعاليات المجتمع الابداعية لهراوته.
في هذا يكمن خطر الهيمنة، الحكومية والحزبية، على الاقنية الصحفية في العراق الجديد، وبوجيز الكلام، خطر انحسار اثر وتأثير (وغياب) الصحافة المستقلة، الطليقة، الحرة، غير المراقَبة، وغير الخائفة، وغير المدّاحة، التي تُعدّ حاضنة السلطة الرابعة، والتي من دونها لا يمكن الحديث عن سلطة رابعة، او إعلام حر، او كتلة صحفية في العراق.
الحديث عن احوال الصحافة العراقية الراهنة، وهي تخوض معركة الانتقال الى التغيير، لايمكن ان يعبر من فوق تلك الاصوات الصحفية الشجاعة التي لم تذعن للاملاء وفروض الوظيفة والخوف.. وعليها نراهن.

4-
البُعد الآخر لتدهور حرية الصحافة المكتوبة في العراق نتلمسه في تراجع كفاءة المادة الصحفية، واعني حصرا، الكفاءة الانتقادية، وهنا ينبغي استدراك القول في صيغة سؤال مشروع: ماذا سيبقى من حاجة للصحيفة إذا ما كفت عن ان تكون صوتا انتقاديا، وحيزا للاحتجاج، ومساحة للتعبير الحر عن الاراء، وزاوية لتصويب السياسات والمواقف؟ بل اي مجتمع ذلك الذي تُحشر صحافته المكتوبة في وظيفة التفرج والمديح والرطانة؟ هل ثمة حاجة للتذكير بالآثار الكارثية لمنهج صحافة حكم الفرد التي حُددت وظيفتها في امتداح الدكتاتور، وتأليهه، طوال ثلاثة عقود من الزمن.
 وإذ يعوّل(في مثل احوال العراق) على الصحافة المستقلة، المهنية، لكي تلعب دورا رائدا في تنمية تقاليد انتقاد الظواهر وبناء قواعد التعبير الحرعن الاراء، فقد كانت السنوات الخمس الماضية مريرة وشاقة ومحبطة بالنسبة لعشرات الاقنية الاعلامية المستقلة التي اضطرت تباعا (بسبب حصار الدولة الجديدة واعلامها واحزابها)الى التوقف، او الانسحاب الى الخارج، او الانضمام تحت خيمة موسرة لتكف ان تكون مستقلة، فيما اختارت اقنية اخرى هوية طائفية فاقعة كسبيل للاستقواء على استحقاقات الاستمرار.
 اما الصحافة الممولة من الحكومة، والاحزاب، وتدور في فلكهما، أوقريبة منهما، فانها، بالرغم من استقطابها لكتاب وصحفيين  واداريين مرموقين ومهنيين واصحاب رأي يعتد به، ورصيد يشار له، انتهت الى مشاريع فئوية، متخندقة في رسالة تخدم اصحاب النعمة والامر، ولا تتجاوز املاءاتهم ومشيئاتهم ومصالحهم، وقد نقف في كثير من الاحيان امام  مفارقات  محيرة، يكون فيها السياسي المتنفذ اكثر جرأة في التعبير عن الرأي، وانتقاد الاخطاء والممارسات والجهات من المقالات التي تنشر في الصحيفة التي تتبعه.. هل تتذكرون تصريحات عدي صدام حسين الانتقادية التي لا يجازف صحفي عراقي في مجاراتها او تمثُلها.
 ومن الطبيعي، في مثل هذا الانكفاء في وظيفة النقد والتصويب والاعتراض، ان يتراجع انتشار وتداول واقتناء الصحف المكتوبة في العراق، فان مؤشرات اقنية التوزيع المحلية( وما يعرفه الباعة واصحاب المكتبات) عن سوق الصحف تضع بين ايدينا ارقاما مخيفة عن تردي مناسيب الاقبال على قراءة الصحف، وعما يمكن ان يكون قطيعة بين الجمهور والصحافة المكتوبة، وقد قام فريق من الاعلاميين في احدى الدورات الاعلامية ببغداد، وبمقترح مني، بعملية استبيان لطائفة من المتعلمين حول اسباب امتناعهم عن اقتناء وقراءة الصحف المكتوبة فجاء في مقدمة الاسباب ما يلي: ' لم تعد الصحف تمارس الانتقاد الجرئ كما يجب'.   
 لقد ناقشتُ، هذه المعطيات كثيرا في بغداد مع زملاء احترم تجربتهم وارائهم ومواقعهم، واستمعت الى شكاوى من هذا الحال، وضيق الكثيرين منهم (بمن فيهم مسؤولين في صحف) حيال صعوبات واستحالة و'مخاطر' تسمية الاشياء كما هي، والتعرض للمسؤولين باسمائهم  ومواقعهم، والتسفيه بخرافات وبُدع وفتاوي ما انزل الله بها من سلطان، والتصدي لفاسدين بعناوينهم ومقاماتهم.
 بصراحة، الحاجة ماسة لحركة تصحيح وانقاذ لاحوال الصحافة المكتوبة في العراق.. ودعوني اقول: الحاجة ماسة لحركة انقلابية، بالرغم من اني اكره الانقلابات، فلي منها طعنات.. ولي فيها مطاعن .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة (الاتحاد) بغداد


422
جملة مفيدة
ــــــــــــــــ
عبدالمنعم الاعسم

النخب المغتربة..
ما الذي يمنعها  من العودة ؟.
/دعوة رئيس الوزراء الاخيرة الى "النخب العراقية المثقفة في الخارج" للعودة الى الوطن والمشاركة في عمليات الاعمار والتغيير ليست جديدة، إذ يمكن ضمها الى سلسلة من المبادرات والندوات والمؤتمرات التي جرت طوال عام، في الداخل والخارج، وذلك ارتباطا بتراجع اعمال العنف في البلاد، ثم بانحسار سيطرة الجماعات الخارجة على القانون، واخيرا باعادة تشكيل الفريق الحكومي وإملاء الحقائب الوزارية الشاغرة.
/وتعتبر اسئلة ساذجا، القول: لماذا لم تستجب تلك النخب الى الدعوات الرسمية المتكررة؟ او: لماذا لم تترجم  الى اجراءات تلك التوصيات والافكار والمقترحات العملية التي قدمت الى الجهات المعنية حول تسهيل عودة (والاستفادة من)النخب العراقية المثقفة؟ بل، ولماذا عاد صفر اليدين(وبمرارات) الى اماكن هجرتهم الالوف من الاكاديميين والمهنيين والخريجين والعاملين في مجالات الثقافة والفن والصحافة والابداع؟ ثم: الم تقتنع الجهات المعنية، حتى الآن، بفشل الإهابات العاطفية لاقناع النخب العراقية بالعودة الى الوطن؟.
/نعم، لقد عاد بضعة مئات من الاطباء والمهنيين والخبراء، ووجدوا طريقهم الى مراكز عمل وبناء (وهناك شكاوى من تعامل يواجهها العديد منهم)غير ان الامر يتعلق بمئات الالوف من الكفاءات العلمية والمهنية ممن تحتاجها(او تفتقر لها) الدولة وحركة البناء والتغيير في جميع المجالات، فيما انحسرت، الى حد بعيد، تلك الحساسيات الاهلية المبكرة حيال المغتربين والكفاءات العائدة، وبعض المخاوف من المزاحمة على المراكز والفرص، بعد ان اصبح واضحا بان العراق الجديد بحاجة الى ملايين من الكفاءات والخبرات الوطنية التي تتوفر لدى المغتربين.
/وبصراحة، فان العائق الاداري الاول(عدا عن الظروف الامنية العامة) يتمثل في طبيعة واثر قواعد المحاصصة الفئوية السياسية في شبكة ادارة الدولة، إذ يصطدم الهائدون (والذين ينوون العودة) وغالبيتهم الساحقة من المستقلين وغير المحسوبين على القوى المتنفذة في الحكم، بضيق(وطائفية وفئوية) الاقنية التي يدخلون منها الى الخدمة، فلكل قناة مدخل، ولكل مدخل قابض ارواح، ولكل قابض ارواح حارس، ولكل حارس صيغة واليات وقواعد وتعليمات وحبربشية.. والكلام كثير عن ذلك، لا تتسعه مجلدات. 
/ وليس من دون مغزى ان يُعارَض (او يُهمل) الاقتراح العملي الذي تقدمة جميع المؤتمرات والندوات المتخصصة بالنخب بتشكيل مركز وطني او مرجعية ادارية وطنية، واحدة، مهنية ومستقلة وبصلاحيات واضحة، لتنظيم استقبال العائدين ومراجعاتهم وتسهيل تعيينهم او إشراكهم في عملية البناء ومرافق العمل، وذلك بديلا عما يجري بترك العائدين يطرقون ابواب الوزارات والادارات (المؤجرة للاحزاب) لتتفنن في التعامل معهم بوسائل الزجر والتشكيك والتطفيش، وتضطرهم الى خيانة قيمهم وكفاءاتهم العلمية باللجوء الى الرشوة والواسطات.   
/اغلب الظن، ان احدا من هذه النخب لا ينتظر ان يستقبل بالحفاوة والتصفيق، لكن لا يصح ان يستقبل بمن يقول له: إشجابك، يمعوّد.. مو كاعد ومستريح؟.
ــــــــــــــــ
"الاشياء من اجل ان تبقى يجب ان تتحرك".
 اخوان الصفا
mm13mm@live.com

           
 
الاهابات والوعود..
هل تعيد اللاجئين والنخب المثقفة؟

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com     

 لا بد، اولا، من الفصل المنهجي بين قضية اللاجئين العراقيين الى كل كل من سوريا والاردن وبعض دول المنطقة، وبين ملف النخب العراقية المهاجرة من الاكاديميين والعلماء والمهنيين والمثقفين ورجال الاعمال، لأن لكل منهما ظروفه واسبابه وحلوله، وثانيا، ان الاهابات والدعوات العاطفية والمناشدات والوعود لم تعد تنفع في اقناع ملايين العراقيين المغتربين بسلامة وضرورة العودة الى الوطن إن لم تكن مسبوقة باجراءات ملموسة تستوعب مشاطلهم ومتطلباتهم.. تلك هي المشكلة.
 والآن، تتفاعل مشكلة اللاجئين (النازحين) العراقيين في كل من سوريا والاردن مع اقتراب بدء العام الدراسي الجديد، اذ يواجه عشرات الالوف من تلاميذ وطلاب مختلف الدراسات مصائر مجهولة، وصعوبات مالية ومعيشية كبيرة فوق طاقة عائلاتهم، فضلا عما يترتب على مخالفات الاقامة والحاجة اليومية للسكن والطعام وطرق ملاحقة اللاجئين ممن يتعذر عليهم تسديد الفواتير المتناسلة للمخالفات، وثمة الكثير من الروايات والحوادث المفجعة والمخيفة والجديرة بالتأمل عن تلك التبعات والتداعيات.
على ان ثمة هروب من المشكلة من جانب الجهات العراقية المعنية بالقول انها مشكلة مالية او معيشية تتصل بصعوبة كلفة اللجوء وعجز مليوني عراقي عن تأمين اجور العودة الى بلادهم، او تغطية مخالفات الاقامة في البلدين المجاورين، ويحرص اصحاب هذه النظرة، على الظهور كمحسنين يبادرون الى اقتراح(وتخصيص) مبالغ مالية تساعد العائلات المهاجرة على العودة الى الوطن، وقد تابعنا طوال اكثر من عام وقائع تلك المبادرات التي سرعان ما ترتطم بجدران الفشل فترتد الى السؤال الوجيه: اين المشكلة؟.
  اما تكرار القول بان الوضع الامني في العراق تحسن كثيرا وان العوائق الامنية ازيلت من امام الراغبين في العودة الى بلداتهم واحيائهم ومنازلهم، فانه لا يعدو عن نصف الحقيقة، فيما النصف الآخر يتمثل في اثار التهجير الطائفي للعائلات وضعف الاجراءات التي اتخذت لنزع فتيل الاحتقان الطائفي في قوس من الاحياء المختلطة، وسوء موقف الجهات الامنية والحكومية حيال ضحايا التهجير، وانعدام التوازن والحيادية في تقديم الخدمات الاستثنائية للتخفيف من مصاعب العائلات المنكوبة، من الطائفتين، وعدم الالتفات الى المناشدات التي اطلقها سكان مناطق تعرضت الى اكتساح المليشيات بوجوب إنصافهم وتأمين معيشتهم واستمرار وظائف معيليهم، اسوة بضحايا هجمات العصابات التكفيرية في مناطق واحياء اخرى.
 ان ضعف الاستجابة لمبادرات الحكومة العراقية المتكررة لجهة اعادة اللاجئين العراقيين في البلدين المجاورين، وقلة عدد العائدين بالرغم من الظروف القاسية التي يعانيها اللاجئون، وتتفاقم كل يوم، ينبغي ان يكون موضع مراجعة وبحق، بروح المسؤولية الوطنية، لطرق وسبل واجراءات التعامل مع هذا الملف، والانطلاق، اولا وقبل كل شئ، من الاسباب(على الارض العراقية) التي تحول دون عودة آمنة وكريمة للاجئين، وذلك في ابعادها السياسية والاجتماعية والمالية، المتشابكة في حالة الامن وبخاصة في ما يتعلق بانضباط التعامل المتوازن مع العائدين.   
 وينبغي ان لا نقلل من شأن الدور السلبي الذي تلعبه سلطات الدولتين المجاورتين في تعميق المصاعب التي تعانيها العائلات العراقية وابنائها، وتكرار التراجع عن وعودها وقراراتها بالتخفيف من سياسة الزجر والتضييق والملاحقة (والتمييز) ضد من تسميهم مجازا 'الضيوف' العراقيين، وبلغ الامر بهما الى دفع هذه المضافة، كورقة ابتزاز الى طاولة العلاقات الاقتصادية(شمّوا رائحة النفط) بين البلدين، لتتحول من قضية الى سلعة.. وثمة هناك، مَن هم اشطر منا في البازار.
 اما دعوة رئيس الوزراء الاخيرة الى 'النخب العراقية المثقفة في الخارج' للعودة الى الوطن والمشاركة في عمليات الاعمار والتغيير فانها ليست جديدة، إذ يمكن ضمها الى سلسلة من المبادرات والندوات والمؤتمرات التي جرت طوال عام، في الداخل والخارج، وذلك ارتباطا بتراجع اعمال العنف في البلاد، ثم بانحسار سيطرة الجماعات الخارجة على القانون، واخيرا باعادة تشكيل الفريق الحكومي وإملاء الحقائب الوزارية الشاغرة.
 وتعتبر اسئلة ساذجا، القول: لماذا لم تستجب تلك النخب الى الدعوات الرسمية المتكررة؟ او: لماذا لم تترجم  الى اجراءات تلك التوصيات والافكار والمقترحات العملية التي قدمت الى الجهات المعنية حول تسهيل عودة (والاستفادة من)النخب العراقية المثقفة؟ بل، ولماذا عاد صفر اليدين(وبمرارات) الى اماكن هجرتهم الالوف من الاكاديميين والمهنيين والخريجين والعاملين في مجالات الثقافة والفن والصحافة والابداع؟ ثم: الم تقتنع الجهات المعنية، حتى الآن، بفشل الإهابات العاطفية لاقناع النخب العراقية بالعودة الى الوطن؟.
 نعم، لقد عاد بضعة مئات من الاطباء والمهنيين والخبراء، ووجدوا طريقهم الى مراكز عمل وبناء (وهناك شكاوى من تعامل يواجهها العديد منهم)غير ان الامر يتعلق بمئات الالوف من الكفاءات العلمية والمهنية ممن تحتاجها(او تفتقر لها) الدولة وحركة البناء والتغيير في جميع المجالات، فيما انحسرت، الى حد بعيد، تلك الحساسيات الاهلية المبكرة حيال المغتربين والكفاءات العائدة، وبعض المخاوف من المزاحمة على المراكز والفرص، بعد ان اصبح واضحا بان العراق الجديد بحاجة الى ملايين من الكفاءات والخبرات الوطنية التي تتوفر لدى المغتربين.
 وبصراحة، فان العائق الاداري الاول(عدا عن الظروف الامنية العامة) يتمثل في طبيعة واثر قواعد المحاصصة الفئوية السياسية في شبكة ادارة الدولة، إذ يصطدم الهائدون (والذين ينوون العودة) وغالبيتهم الساحقة من المستقلين وغير المحسوبين على القوى المتنفذة في الحكم، بضيق(وطائفية وفئوية) الاقنية التي يدخلون منها الى الخدمة، فلكل قناة مدخل، ولكل مدخل قابض ارواح، ولكل قابض ارواح حارس، ولكل حارس صيغة واليات وقواعد وتعليمات وحبربشية.. والكلام كثير عن ذلك، لا تتسعه مجلدات. 
 وليس من دون مغزى ان يُعارَض (او يُهمل) الاقتراح العملي الذي تقدمة جميع المؤتمرات والندوات المتخصصة بالنخب بتشكيل مركز وطني او مرجعية ادارية وطنية، واحدة، مهنية ومستقلة وبصلاحيات واضحة، لتنظيم استقبال العائدين ومراجعاتهم وتسهيل تعيينهم او إشراكهم في عملية البناء ومرافق العمل، وذلك بديلا عما يجري بترك العائدين يطرقون ابواب الوزارات والادارات (المؤجرة للاحزاب) لتتفنن في التعامل معهم بوسائل الزجر والتشكيك والتطفيش، وتضطرهم الى خيانة قيمهم وكفاءاتهم العلمية باللجوء الى الرشوة والواسطات.   
 اغلب الظن، ان احدا من هذه النخب لا ينتظر ان يستقبل بالحفاوة والتصفيق، لكن لا يصح ان يستقبل بمن يقول له: إشجابك، يمعوّد.. مو كاعد ومستريح؟.

ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
'تاج القيصر لا يمكن ان يحميه من الصداع'.
مثل روسي










423
كامل شياع
وحموضة المثقفين العرب



عبد المنعم الاعسم
 mm13mm@live.com
 
من غير المعقول ان لا يثير اغتيال مثقف وباحث عراقي مرموق مثل، كامل شياع، احتجاج ادباء ومثقفي العالم العربي ومنظماتهم واعلامهم، وان لا نشاهد  رفة عين، او نسمع اسفا او رثاء، وحتى "مجاملة" تقتضيها اداب المواساة حيال حدث هز وجدان مثقفي العالم فوقعوا على بركة دمه الساخنة، باسم منظمة الثقافة والتربية الدولية (اليونسكو) التابعة للامم المتحدة احتجاجا مدويا.
في مجلس عزاء الكاتب الراحل في لندن هذا الاسبوع شارك كتاب وصحفيون عرب شجعان لا يزيدون على عدد اصابع اليد الواحدة، وفي صفحات ثقافية لعدد من الصحف العربية (لا تزيد عن ست صحف حسب تنقيبي) نُشرت تعليقات خجولة، بعضها من دون توقيع، وبعضها الاخر باسماء غير معروفة، والبعض الثالث كأنه لم يقل شيئا، وحين سألت صديقا فلسطينيا، باحتجاج، عن هذه الحموضة الثقافية العربية المخزية قال لي: هذه ثقافة هزمت نفسها منذ ان راهنت على السلاح والشعارات، وتوزعت على موائد الانظمة وتيارات الاسلام التكفيري والمتطرف، وقد ذكرني بهجاء محمود درويش لاولئك المثقفين "الصوتيين" العرب في مرثيته الى ممدوح عدوان، بالقول انهم "يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا.. يأنفون من الانتباه الى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق الى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة".
وفي اتصال بكاتب سوداني نزيه لفت نظري الى ان الكثير من الادباء العرب قد يشعرون بالامتعاض والغضب حيال مقتل كاتب عراقي كبير مثل كامل شياع، لكنهم ينأون عن التعبير عن هذا الشعور، اولا، خشية تيار الهمجية الجارف في الساحة العربية، وثانيا، امتناع الاقنية والصحافة العربيةعن نشر وجهات نظر منصفة بالنسبة للعراق، وثالثا، ما له علاقة بالموقف من "النوع" المعرفي الذي يمثله كامل شياع مما يطرح بديلا عن السائد الثقافي العربي المتواطئ والضائع.
على ان هذا ليس سوى فاصلة واحدة، على سطح الحال الثقافي العربي المنزلق الى  خيانة المسؤولية، فان فصول الحصار العربي للعراق، في المجال الثقافي، وبخاصة ما تعلق بفضيحة تعليق عضوية اتحاد الادباء العراقيين في اتحاد الادباء العرب، والتأويلات الجاهلية لهذا الموقف، كشف عن انحطاط مريع في مكانة المثقفين والثقافة العربية، وأشّر الى صورة محبطة لمستقبل هذه الثقافة.
وليس من دون مغزى ان يلاحظ كاتب عربي هو جورج قرم تحوّل المثقفين العرب الى "رموز سياسية محضة، كتاباتهم في غالبيتها صحفية الطابع، تهتم فقط بالحدث اليومي وتؤوله حسب اهوائها". اما الباحث التونسي المعروف هشام جعيط فقد قرر القول ان "الوضع العام في الدولة وفي المجتمع لا يشجع إطلاقا على المعرفة والبحث والتفكير، وأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول إنه لا وجود لمثقف عربي باستثناء قلة قليلة جدا، ولا وجود لمفكرين، وذلك لان همهم الأول هو ادعاء التفكير فيما هو سياسي".
ان دم كامل شياع، هو الاخر، سجل شهادة بوفاة المثقف العربي الطليعي الذي لا يخاف.
 
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد
"أنعي لكم.. أنعي لكم
نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمة".
                                       
  نزار قباني


424

جريدة الاتحاد الاربعاء 27/8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كيف تكون ساذجا.. جيدا

جملة مفيدة / زاوية يومية
يكتبها / عبد المنعم الاعسم

"إهداء الى رحمن الجابري"

 ساكون هذه المرة ساذجا ومسالما، وعلى جانب كبير من الهدوء، وحسن الظن، ومن الذين يسمونهم "من اهل الله" الذين لا يعرفون حراميا واحدا، ولا نصابا من النصابين، ولم يسمع عما قيل حول مهربي نفط يتحولون، فجأة، الى مصلحين ورؤساء قبائل، ولم يقرأ عما كتب بصدد فاسدين هرّبوا ملايين الدولارات باكياس الزبالة في سيارات الدولة التي تحمل حصانات مثل نصل السكين، الى خارج البلاد.
واستميح قرّائي المعذرة لهذه المعابثة، وهذا اللعب بالوقت الثمين، واعتمد على رحابة صدرهم ليتحملوني، هذه المرة، لجوجا وبريئا واطرشا بالزفة، واستدرجهم الى استراحة حسن النية، ووسادة الاحلام الوردية، وانصحهم بوجوب الثقة العمياء بالمستقبل، والايمان الفطري بالحتميات وبانه لا يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف، وليدعوا ارجلهم بالماء الفاتر كلما داهمتهم الشائعات عن الفساد وسوء سيرة الحبربشية.
اقول، ساكون مفرط الطيبة، هذه المرة، لكي ادعو الحكومة، ثم مجلس النواب، الى اصدار قانون يمنع "كبار الموظفين" من تعيين اقاربهم (من الدرجة الرابعة) موظفين في المرافق التي يديرونها، ويتضمن القانون، في مواده الفرعية التدقيق في ملفات وشهادات وكفاءات و(طرق تعيين) اقارب المسؤولين (من الدرجة الرابعة) ممن عينوا في وظائف ومواقع مهمة في فترة بعد صعود الموظف الكبير الى منصبه.
وطبعا، فان السذاجة هنا تتطلب الافتراض بان ثمة في الحكومة، او ابناء عمومتها، من يضع الله بين عينيه فيمسك هذا الاقتراح الطيب ويهرع به الى الاستشارية القانونية، التي ستفرح لهذه المبادرة وتحولها الى فقرة على طاولة البحث، ثم، لتصبح قانونا، والقانون اجراءات، والاجراءات الى فرص عمل لاصحاب الكفاءات ممن ليس لديهم اقارب (من الدرجة الرابعة) يحلون ويربطون.
وساعترف هنا، بان الذي دعاني الى هذه المغامرة الساذجة بمناشدة الحكومة إصلاح ماكنتها بادخال دماء جديدة من الكفاءات العراقية التي لا تملك "واسطات" هو مقال كتبه الصحفي الصديق، المقيم في صوفيا، محمد خلف عن نماذج صارخة لموظفين عراقيين مرموقين لا كفاءة لهم سوى علاقة الرحم بمسؤولين كبار، وقد افزعتني المعلومات التي اوردها، وحرت في تفسير واقعة تقرب من الخيال، إذْ يخاطب دبلوماسي من المعينين بـ"الواسطة" اجتماعا لنظرائه العرب بالقول: عليكم ان تعرفوا بان اليهود ليسوا اعدائنا بل المسيحيين" فاصبح الرجل موضوعا للنكتة، وصارت الدولة التي بعثته مندوبا عنها موضوعا للشفقة.
السذاجة بعد ذلك تقتضي ان يصدق الساذج بان اصحاب الشأن سيذكرون له هذا الجهد النبيل، ويكون الساذج مثل بطل قصة شعبية كان قد اشترى من السوق سمكة وحمل معها من البائع وصفة بطهي شهي، وقبل ان يصل بها الى منزله اختطفها هر، فصار الساذج يضحك من الهر قائلا: خذها، لكن من اين لك بالوصفة.. وللقصة ربّاط، طبعا.
ـــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
"الحقيقة هي بذاتها افضل نكتة".

برنارد شو

425
لم ينكفئ الامن..
لكن شيئا من هذا حدث

عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com         
 قد يِعتبر اصحاب كابينة رئيس الوزراء ان الاعتراف بوجود ثغرات امنية و'انتصارات' حققتها قوى العنف والجريمة في الاسابيع القليلة الماضية من شأنه ان يطعن بهيبة الحكومة، ويعطي جرعة من التشجيع والثقة بالنفس للجماعات المسلحة، وقد يرى المسؤولون (وهم يرون فعلا) بان تجاهل الاختراقات التي حققها الارهابيون والخارجون على القانون في غضون الفترة القليلة الماضية سيطمْئن المواطنين الى 'اقتدار' السلطات الامنية على كبح جماح هذه الاختراقات، واظن ان مثل هذه التعبئة الاعلامية وذلك الاعتقاد عفا عليهما الزمن، في وقت يتابع الملايين من العراقيين، وعلى مدار الساعة، اخبار الهجمات والمفخخات والضحايا الذين يتساقطون بتزايد ملحوظ، وسط فضاء اعلامي مفتوح، ومتداخل.. وربما، وايضا، وسط ضعف، ولهاث، الالة الاعلامية الرسمية وتضارب خطابها واحداثياتها.. هل اذكركم بكوميديا حرب ديالى، حيث لا نعرف مَن يقاتل مَن؟.
 في مثل هذا الحال، ومن مصلحة الحكومة، ودواعي الحفاظ على هيبتها وسمعتها ومصداقيتها، ومن لوازم التعبئة المنهجية للشعب، واحترام مخاوفه وقلقه، ولضمان الحاق الهزيمة بقوى العنف والجريمة، اقول، في مثل هذا الحال، ينبغي وقف مهزلة 'كل شئ هادئ على الجبهة الشرقية' والبدء بمصارحة الرأي العام بما يحدث من اختلال امني يضرب مفاصل رخوة في الدولة، واسبابه، وسبل تعديل موازينه، إلا اذا كانت السلطات الامنية، او مفردة منها، متورطة في هذه الاختراقات، او عاجزة عن القيام بواجب حماية حياة ابناء الشعب، واميل الى الاعتقاد بان شيئا من هذا يحصل فعلا.
 ما يلفت الانتباه ان التصريحات الرسمية تواصل، من دون كلل ولا ملل، نشر الصورة الزاهية عن الاوضاع الامنية، وعلى نطاق واسع، اعتقادا منها بان مثل هذه الصورة تشجع دول المنطقة على اعادة علاقاتها الدبلوماسية مع العراق، وانها تدفع الشركات والاستثمارات العالمية الى التعجيل بالمشاركة في عمليات اعادة الاعمار وتحريك الدورة الاقتصادية العراقية الراكدة، وهو منظور مغرق بالوهم، ولا اقول بالجهل، ذلك لأن دول المنطقة والمؤسسات المالية والتجارية الدولية تراقب بعين'كشرة' ما يجري في العراق، وانها تتلقى (عدا عن الاخبار)تقارير ميدانية، واستخبارية، مدفوعة الاجر، ثم تبني مواقفها فوق سطح هذه المعلومات.
 نعم، ان مشروع العنف والجريمة والتجييش والخروج على القانون، المستورد والمنتج محليا، قد اندحر في العراق(وفي العالم ايضا) وهو، موضوعيا، قد استنفذ شحنته وظلالاته، وبدأ، منذ حين، عَدّه التنازلي، لكن من الخطورة والاستغراق في التبسيط ان نعتقد انه استسلم الى مشيئة الهزيمة، او انه غير قادر على توجيه ضربات موجعة ودامية الى الجسد الامني في العراق، ويمكن الاستدلال باحدث المعاينات الدولية المحايدة، للقول بان الارهاب الدولي، في صفته الاسلامية المتطرفة، وفي موصوفه الجهادي والمليشوي الشائع غير قادر على تجديد، او تطوير، او تأهيل نفسه، وبالتالي غير قادر على الاحتفاظ بمعادلة الحرب على العالم والمدنية باسم(او بزعم) الحرب على امريكا، وهذا بحد ذاته مصيرٌ يمكن ان يُستثمر، ايجابيا، في العراق لو اُحسن التعاطي معه وفق سياسة تعبوية علمية، لاتخفي الحقائق عن الشعب، ولا تدس الاخفاقات خلف اللوحة الزاهية لحالة الاستقرار.. وطي لغة الاقتدار التي شبعنا منها.
ــــــــــــــــ
.كلام مفيد:
'النجاح كالنهر، كلما ازداد عمقا قلّ ضوضاؤه'.
حكمة يابانية


426
كامل..
من اية جهة اغاروا عليك؟


عبد المنعم الاعسم
mm13mm@live.com
 
لا سبب لرحيلك الفاجع العاجل عنا، عزيزي كامل، مقتولا، ثم محمولا فوق الاعناق، ملفوفا بالراية والمناديل والدموع، غير انك فائض عن حاجة البرابرة، زائد على مقاسهم، عابر كل تاريخهم وابجدياتهم، وانك، فضلا عن ذلك، كامل، وهم ناقصون، وانك كاتب ومفكر وطليق، وهم جهلة ومغلقون، وانك مطلوب للمحبة، وهم مطلوبون للقصاص .. انها اسباب كثيرة، كما ترى يا صديقي لأن يغتالوك في وضح النهار، يكفي ان اسمك ينهض على احرف ساطعة اربع، وهم يخوّضون في الجريمة المروعة بلا اسماء. انت المقاوم الحق، بما في قلبك من ايمان بجدارة الفقراء ان يتحرروا من العوز، وباستعداد السنابل ان تستقوي على ريح عارضة، وبفضيلة الكتاب ان يتحدى .. اقول، انت المقاوم الباسل، وهم القتلة الجبناء: لك المجد، ولهم العار.   
حقا ان استشهاد الاحبة غربة، فكيف اذا كان احبة الشهيد غرباء عن اوطانهم، والشهيد غريب في وطنه، فيما الوطن يغترب يوما بعد آخر في طابور من الجنائز، وبين صف من السيارات المفخخة، وطي مواخير ومستنقعات وحدود تقذف بحثالات ملثمة، مدربة على القتل.. قتل اشرف النساء والرجال، واجمل الاطفال.   
لكن نبأ  سقوطك بارقا نحو التراب، او ارتفاعك مؤتلقا للنجوم، لم يكن مرقّما في قائمة اخبار شهداء ذلك اليوم، لاننا اعتقلنا عن تفسير ما يحدث، فما عسانا نقول لخواطرك الفكرية وقد انكفأت في ارواحنا وجحضت عيونها؟ وماذا سنقول لاوراقك الناصعة البياض وانتباهاتك العميقة ونبوءاتك المبكرة حين تتحول جميعا الى علامة استفهام عن مسؤوليتنا عما حدث لك ولاحلامنا وللوطن؟ هل يكفي القول انك انتهيت الى سهم، انطلق الى جهات مجهولة ولن يستدير؟ ام نقول انها خسارة فادحة، فنغسل وجوهنا بماء الفجيعة والخذلان والمواساة؟.
اقول، ماذا سيحل بكتبك؟ آه.. اتذكر في حزيران الماضي، يوم كنا على موعد غداء في إدارة إذاعة الناس ببغداد إذ تأخرتَ عن الموعد، فانقذفنا الى قلق عليك. قال صديقنا  ومظيفنا خليل الموسوي انك، في العادة، لا تتأخر، والتأخر عن موعد في بغداد يحرك الظنون ويبرر المخاوف، غير انك، فجأة مثل بشرى، وصلتَ الينا مسبوقا بقهقهة قطعتْ الرصيف، وعبرتْ من فوق ضجيج مولدات الكهرباء المشاكسة، ودخلتَ حاملا ابتسامتك وكتبا، تماما كما كنتُ اراك، فتى تحمل الكتب وتعكف عليها، قبل ما يزيد على خمس وثلاثين سنة في حي الحرية، الاولى، ببغداد، واتذكر، في لقائنا، قبل عام، في مقهى بحي كنزنكتن بلندن، إذ لم تنفكّ تتحدث عن سحر الكتاب، ورسالته.
ايها الباسق، الهادئ، الفيلسوف، المثابر، المفكر، الطيب القلب، الواثق بما حوله، الساخر مما يهدده، اسألك، من اي جنب جاءتك الرصاصة؟.
آه انها لتوجعنا جميعا.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــ
فلا تبعد، فكلٌ سوف يبقى
                          شعوبا يستدرّ بها المدار
 
المهلهل التغلبي في رثاء اخيه
 

427
كركوك..
شهادة في الازمة والخلفيات


عبدالمنعم الاعسم
 mm13mm@live.com

وصلتُ مدينة كركوك وشاهدتها، لاول مرة في حياتي، في نهاية عام 1960، إذ عُينت معلما في ناحية ليلان، قرية بيانلو الكردية، التي تبعد مسافة ثلاثين كيلومترا عن مركز المدينة، غير اني حين اعتقلت في انقلاب شباط 1963 فوجئت باثنين من الشهود يقفان امام المجلس العرفي(الثاني) يتحدثان عن دوري في ما يسمى باحداث كركوك الدامية التي كانت قد اندلعت قبل وصولي بحوالي عام ونصف، وقد رويا، بافادة غير منسقة، كيف كنت ارشد المتظاهرين الى منازل بعض التجار التركمان للتنكيل بهم، واخذتْ المحكمة علما بهشاشة التهمة وزيفها، غير ان المدعي العام، الجلاد، راغب فخري اصر على ادانتي بتهمة "اشاعة الفوضى" باعتباري من "الشيوعيين الخطرين" فصدر الحكم عليّ عاما واحدا كنت قد قضيته، موقوفا في معتقلات كركوك، السجن العسكري ، القلعة، السراي.. ولم يطلق سراحي آنذاك، فقد كانت مطالعة راغب فخري ذريعة للسلطة لارسالي محجوزا في سجن السلمان لعام آخر.
ولم انقطع عن كركوك، فقد زرتها مرات عديدة. في العام 1976 كانت قرية بيانلو قد اتسعت كثيرا، وحين مررتُ بالمنطقة نهاية عام 2005 ضمن فريق دولي يراقب عملية التصويت على الدستور في اقليم كردستان والموصل وكركوك لم اجد اثرا للقرية، فقد كانت كما لو ان غزاة من الهمج قد مروا بها، إذ سويت بالارض خلال عمليات الانفال وقتل من سكانها، الذين تشبثوا بارضهم، العشرات، فيما اقامت(او اقيمت) على مشارفها وقرب ناحية ليلان بضع عائلات من المزارعين العرب الذين جلبتهم سلطات الحكم السابق من وسط العراق.
لم اكن خلال سنوات عملي في كركوك مهتما، بوصفي عربي، بالحساسيات القومية، في المدينة، ولم اكن أؤمن بفضائل وامتيازات امم على اخرى، ولم اكن اعرف سببا واحدا يجعلني متحيزا لشعب ضد شعب اخر، فيما كانت لي صداقات وعلاقات وطيدة بمثقفين من قوميات كركوك المختلفة، وهم نواة تلك المجموعة الثقافية الابداعية الرائدة التي سميت بـ"مجموعة كركوك" وابرز اسمائها القاص جليل القيسي وشاءت الاحداث ان يجمعني المعتقل بعد شباط الاسود بالمع رواد تلك المجموعة: فاضل العزاوي. انور غساني. مؤيد الراوي. سركون بولس. زهدي الداوودي. نور الدين الصالحي، وشاعر تركماني اتذكر ان اسمه صلاح،  واخرون من العرب والكرد والتركمان.
لكن عمليات الاغتيال اليومية التي كانت تضرب في المدينة وتطال شخصيات كردية وشيوعية وتركمانية يسارية وضعتني، كما وضعت الكثيرين، امام مشغولية امنية وقائية دائمة، من شروطها، معرفة الخارطة القومية لسكان المدينة، إذ تغير عصابات القتل من احياء تركمانية معروفة، قورية. تسعين. القلعة. الماس. صاري كهية. زندان، مقابل احياء كردية تتعرض يوميا الى غارات انتقامية: شورجة. إمام قاسم. رحيم اوة.
 تركمان كركوك طيبون ومسالمون، واصحاب تقاليد الفة وكرم وثقافة اجتماعية ضاربة في التاريخ، وقد شكلوا وسطا مدينيا يمكن وصفه بالارستقراطي الشرقي، واللغة التركمانية، لغة رقيقة ومهذبة وذي رنين شجي، وكانت لغة الشارع في كركوك في ستينيات القرن الماضي(ولغة المثقفين ايضا) حتى في الاحياء الكردية، ولهذا الامر صلة موضوعية بحركة العمل والسوق والتجارة والبناء التي يمسك بها، تاريخيا، تركمان كركوك، وتقبض اقلية منهم (ضباط الجيش العثماني وسليلو موظفي الادارة العثمانية وعائلاتهم) على غالبية عقارات المدينة، وثمة في حافظة التاريخ مما لا يمكن التقليل من شأنه وهو الادب التركماني الذي وجد في كركوك حاضنة منتجة له موصولة بادب الكرد العريق ودفقات الادب العربي.. وكنت احفظ قصيدة تركمانية مغناة قريبة من قلبي، من بين ابياتها: ثلاث شجرات تين/ في اعتاب القلعة/ لا تسحب سلاسلي/ فذراعاي تؤلماني.
 والحق انه ما كان العرب في كركوك، حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي، يشكلون نسبة سكانية لها شأن بالنسبة لمدينة كركوك الادارية.. اقول: سكانية.. فثمة احصائيات تفيد انهم لم يكونوا ليشكلوا اكثر من 12 بالمائة من مجموع سكان كركوك، واضيف، ان غالبية العرب ينتمون مناطقيا الى قضاء الحويجة وعشائريا الى قبيلة العبيد الممتدة الى خارج حدود المدينة، لكن نسبتهم ونفوذهم في دوائر الدولة، وفرص التوظيف، والنفوذ، وبخاصة في اجهزة الشرطة والجيش، كانت اكثر بكثير من نسبة الكرد والتركمان والكلدواشوريين مجتمعين، وهذه الحقيقة بحاجة الى تأمل وبحث عميقين والى معاينة متجردة ومنصفة، وكان صديقي المربي والمناضل طيب الذكر شاهر الشاوي، وهو من عرب كركوك، ومن اسرة عريقة، يلفت نظري دائما، آنذاك، الى خطر ولاعدالة هذا التوازن السلبي في حقوق المواطنة بالمدينة، وقد اشار لي مرة الى ان المرافق الحكومية في بلدة التون كوبري التي يسكنها الكرد والتركمان وليس بينهم، حينها سوى ثلاث اسر عربية، تضم وحدها ثمانية عشر موظفا من اقاربه من بين موظفي الادارة التي لا يزيد عددهم ىنذاك الثلاثين.
  لكن التحليل الاكثر اهمية ينبغي، الان، ان يتركز في عمق الاسباب والدواعي والخلفيات التي دعت نظام صدام حسين الى تغيير الطابع الديموغرافي لمدينة كركوك، وحشر ما يصل الى نصف المليون من السكان العرب في حدود مدينة كركوك وتهجير ما يعادلهم من الكرد والتركمان والكلدواشوريين (حصة الكرد ثلاثة ارباع). اما التفسير  (الشائع) بان الهدف هو حماية مركز الثروة النفطية الوطنية العراقية فان ذلك يعد فضيحة عنصرية بالالوان الطبيعية، وتقسيم منهجي متعمد لـلمواطنة على اساس الولاء للسلطة، الامر المنافي لحقوق الانسان والمحرم وفق قوانين الارض والسماء على حد سواء، وهو ممنوع حتى في الدستور العراقي المؤقت الذي بقي مؤقتا حتى آخر يوم من عمر النظام، والامر الذي ينبغي التركيز عليه هو المعنى (السياسي والاجتماعي والسايكولوجي) لان يوضع شعب تحت الريبة في ولائه، والمعنى التفصيلي من وراء استمرار هذه الريبة حتى الان في ممارسات وتصريحات وكتابات، ما كان صلف الالة الاعلامية للنظام السابق ان تجرأ على نشره، بالصورة التي ينتشر فيها هذه الايام.
اقول، ان منهج الريبة حيال الاكثرية السكانية في كركوك هذا تعمق منذ اواخر السبعينات في سياسة منهجية واجراءات ادارية وعسكرية وامنية، موثقة، ولا احد ينكرها، وكان يشرف عليها ويقننها صدام حسين مباشرة، وقد طالت نتائجها اللإانسانية الكرد في المقام الاول والتركمان والكلدواشوريين في المقام الثاني، وعُُدّت في جميع وثائق منظمة العفو الدولية وحقوق الانسان التابعة للامم المتحدة والبيانات الحقوقية الدولية (وطبعا في وثائق المعارضة السابقة التي تحكم الآن) كسياسة استئصال عرقية غير مقبولة ولا شرعية، فيما اُجبرت الاف العائلات الكردية والتركمانية على التخلي عن انتمائها القومي اتقاء اعمال التنكيل والاجلاء، وضمانا للحفاظ على ممتلكاتها ومصالحها، واعرف، بنفسي، في الاقل، تاجرا وملاكا كرديين وعسكري تركماني متقاعد اضطروا الى "التحول" الى الانتماء العربي في ظل تلك الظروف، في حين اصبح ثمن الإفصاح عن قومية الكلدو اشوريين كارثيا على اصحابه.
  المشكلة، الان، تتمثل في ان ثمة " ارادة " في المشهد العراقي، ومن اصطفاف سياسي لفئات قومية ودينية، يدفع(لاسباب مختلفة) الى تكريس امتيازات الاقلية العربية في كركوك المستمدة من ملف اجراءات التعريب والعزل ومسخ حقوق المواطنة والمساواة، وقد عبر ذلك عن نفسه في مشروع "الثلث المتساوي" للمكونات الثلاث، الكردية، التركمانية، العربية، للسلطة الادارية في مشروع قانون مجالس المحافظات المصوّت عليه في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، وتشاء المياه العكرة في مجرى الصراع ان تغوي احزابا وفئات سياسية تركمانية في استسهال التحالف مع ساسة ومشايخ ومتنفذي الاقلية العربية، لبناء معادلة ترد الاعتبار لمنهج الريبة حيال الكرد، وتعرقل برنامج تطبيع الاوضاع في المدينة وخطة الاستفتاء، بذريعة إبقاء كركوك مدينة للتآخي، دون حساب دقيق ومسؤول لمعنى واخطار وتبعات إبقاء مئات الالوف من اكراد مدينة كركوك في حال "لاجئين" داخل بلدهم وعلى مشارف مساكنهم واملاكهم وقراهم.
  فلم يكن احد ليتحدث، طوال عقود الصهر والاجلاء والتعريب، كما يتحدثون الآن بحمية غريبة، عن كركوك كمدينة للتآخي، ولا عن كركوك كرمز للوحدة الوطنية العراقية، ومما يثير الاستغراب، ان دعاة الابقاء على"وتقديس" إرث الصهر العنصري في كركوك تجاوزوا في اندفاعهم حتى خطاب النظام السابق الذي كان يدير برنامجه القهري تحت اقل ما يمكن من الاضواء، واكثرما يمكن من الحذر، وقد ردّ، مرة، مندوب النظام السابق لدى الامم المتحدة نزار حمدون على احتجاج فرنسي حيال اعمال التهجير القسري في كركوك بالقول "انها اجراءات ادارية تمليها دواعي تنظيم الشؤون الاقتصادية والزراعية وتستهدف تطوير المنطقة" وتلقى الفاتيكان تفسيرات مشابهة للحملة المنظمة لاجلاء المسيحيين عن كركوك، وياليت المنافحين الجدد اعادوا انتاج هذه الذرائع البائسة بدل ذريعة حماية هوية كركوك التاريخية الاكثر بؤسا ، فلكي تبقى المدينة، حسبهم، رمزا للهوية العراقية الوطنية فانه ينبغي لا يديرها ممثلو الاكثرية الكردية، ولا ينبغي للاكثرية ان تقرر المصير الاداري للمدينة   وهم بذلك يربطون هذه الهوية، عن قصد (وبعضهم عن جهل) بعار الاستئصال والقهر والابارثيد الصدامي .
  ثم لماذا كركوك حصرا.. اقول، لماذا يراد لها "الان الان وليس غدا" ومع استمرار بصمات الاستئصال القومي ان تكون رمزا لوحدة العراق؟ اليست مدينة ديالى، مثلا، تضم اطيافا قومية ودينية ومذهبية مختلفة لتكون رمزا وطنيا للعراق؟ ثم، اليست مدينة الموصل هي الاخرى تشترك في هذا التنوع السكاني الوطني مع كركوك وديالى لتكون رمزا للهوية الوطنية العراقية؟ ثم، وايضا، ماذا نقول عن بغداد، ودجلتها ومساجدها وكنائسها ومعابدها وسكانها المتعايشين من العرب والكرد والتركمان والكلدواشوريين، ومن المسلمين والمسيحيين والصابئة المندائيين والايزيديين؟.
   ثم، اخيرا، من يتجرأ على الاجابة عن السؤال التالي: لماذا تخرج كركوك عن انتمائها العراقي في حال انضمت الى الاقليم الكردي؟ والسؤال التفصيلي: ماذا وراء التعامل مع اقليم كردستان كاقليم غير عراقي؟.
 اعرف ان جهلة وانصاف كتاب واصحاب مشاريع سياسية محلية واخرى محسوبة على جيران، وشوفينيين من اسلاب الفكر العنصري يركبون صهوة اليقظة "الوطنية" المفاجئة حيال كركوك، ولا يهمني امر مناقشتهم، لكني مهتم بتلك الاستطرادات التي يخشّ فيها كتاب وسياسيون يعرفون حقائق الامور وخلفياتها، لكنهم يضعونها فوق الرفوف العالية تماشيا مع تيار الريبة العارض.
  لقد كانت صورة الكردي في الثقافة السياسية (والتعاملات الحقوقية) للنظام السابق قد انتهت الى الشكل التالي: "شخصية متآمرة. غير مأمونة الجانب. انفصالية. مريبة" وكان الكردي الصالح، بالنسبة لصدام حسين، هو الكردي الذي يقاتل ابناء شعبه ويجلد ظهورهم ويتجسس عليهم، فيما الكردي المنصرف الى شؤونه، السوي، المنضبط، هو الاكثر خطورة ومدعاة للمراقبة والرصد.. انه تمييز عنصري نموذجي مما يدرس في الاكاديميات الاجتماعية الدولية، بكل ما ينتجه من آثار، وما يفرزه من ردود افعال وثقافات مشوهة، وطبقا لعالم الاجتماع الامريكي "إي فرانكلين فريزر" الذي بحث هذه الظاهرة في قارة امريكا اللاتينية، فان بعض نتائج هذا التمييز تظهر في بروز شرائح من القوميات المضطهدة تكفر بالاخاء القومي وجدوى الشراكة في الوطن الواحد، تتسع باتساع الحملة العنصرية وتضيق بانحسارها.
ولا اكتشاف مثير في القول بان مثل هذه الشرائح والتيارات برزت في الوسط الكردي، غير انه من الواجب الاستدراك بالقول انه بالرغم من اعمال الابادة والاذلال وامتهان الكرامات التي تعرض لها الكرد في العراق فانهم، وحتى الفئات الانتقامية منهم، لم يلجأوا الى التعرض بالمدنيين العراقيين ولم يفجروا السيارات بالمزدحمات ولم يضربوا شبكات الماء والكهرباء والخدمات، واقتصرت مقاومتهم المسلحة على الدفاع عن المواطنين الكرد الامنين من حملات القهر الحكومية المنظمة.
ويشاء كتاب وسياسيون عراقيون طائفيون وقوميون (وبعض الجهلة) ان يعيدوا احياء صورة الكردي"الصدامية" كشخصية مريبة وانفصالية، على خلفية النزاع حول المصير الاداري لمدينة كركوك، وتناسلت الاصوات والكتابات وتسريبات الكواليس حول النية المبطنة للكرد اقامة دولة مستقلة، برغم ان الزعامات الكردية والهيئة التشريعية للاقليم ومنظمات وهيئات ومراجع واحزاب كردية عديدة ومؤثرة تعلن، في وثائق وتعهدات، التزامها بالوحدة الوطنية العراقية، وبمبدأ الشراكة في الوطن الواحد، وبخيار العراق الاتحادي، وفي كل مرة يقول الكرد انهم عراقيون، تطلق فرقة الانشاد الشوفينية ندائها الاعلامي: "لاتصدقوهم، انهم انفصاليون" ولا يتوانى بعضهم من اللعب في ساحة الموضوعية الفارغة بالاستهلال في عبارة ‘الاخوة الاكراد" او "اننا نحترم حقوقهم ومطالبهم.. لكن’ او ‘لا نمانع بانفصالهم.. لكن ليقولوا ذلك".
وذهب البعض من الاصوات الى تحذير العرب (بمناسبة الحديث عن كركوك) من تكرار ضياع حقوق العرب في الاسكندرون وفلسطين والاهواز وسبتة ومليلة، ومنها من هبط في التأليب الصوتي الى تذكير العرب بانسلاخ الاندلس، وبذلك اثثت الجملة العنصرية ارضية ايديولوجية لترحيل قضية عراقية دستورية ادارية محلية الى اطار اقليمي وقومي يقع خارج دائرتها وطبيعتها وحدودها، وقد تكون، بحماقة منها، قد خلقت مقدمات سايكولوجية وسياسية لاستقلال المكوّن الكردي عن العراق، باعتباره خيارا بديلا عن الشراكة التي باتت متعذرة مع هذا الغبار العنصري.. الخانق.
 الى ذلك فان واقع مدينة كركوك الاداري والتاريخي (وانا اتحدث عن معاينات ومعايشة، عدا عن بيانات معترف بها) يتضمن حقيقتين متلازمتين، الاولى، ان اكثرية السكان، على مستوى منطقة كركوك، قبل وبعد التعريب والصهر والاجلاء، هم من الكرد، والثانية، ان ثمة سمات تركمانية تطبع هوية مركز المدينة، وقد قطعت المدينة عمرا مديدا في التعايش، واحتفظت بالكثير من هذا الامتياز، وليس في هذا ما يتناقض مع طبيعة الحياة وحقيقتها الجدلية: الوحدة في التنوع.
والسؤال الاستباقي الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن للاجراءات الدستورية (بعد الاستفتاء الحر) ان تضمن ضم كركوك، المدينة العراقية، بشفافية، الى الاقليم الكردي العراقي الاتحادي، مع احترام "الخصوصية" التركمانية لمركز المدينة والاستحقاقات الادارية والقومية لهذه الهوية؟ الجواب: نعم، لكن، في رأيي، ليس قبل ان تتحق اجواء الثقة، وتطوى الضغائن والحساسيات، وان تتقارب الخيارات ووجهات النظر، وتُشرّع القوانين الضامنة، وتُكيّف توقيتات التطبيع على ضوء ما يتحقق من نجاحات في احتواء التوتر، واحسب ان الذي يتكفل تحقيق هذه المهمة المركبة والمعقدة القيادات السياسية والاجتماعية والنخب الثقافية للاطراف المعنية في المقام الاول.
  من جانبي، كشاهد، لا اعتقد باستحالة نزع فتيل ارث التحامل وانعدام الثقة بين الكرد والتركمان، على الرغم من ان برك دماء سالت من نقطة الاحتكاك بين الطرفين في كركوك(احداث تموز 1959 وما تلاها من اغتيالات وردود افعال) فعلى سطح المشهد الكركوكي هناك مصالح تجارية واقتصادية متبادلة، وحركة سوق متداخلة، ومصاهرات عائلية مشتركة وعميقة بين كرد وتركمان المدينة، الامر الذي يشكل ارضية للتعايش والمواطنة المتكافئة ولصيغة ادارة اتحادية، واحسب انه، ومن زاوية موضوعية، ثمة العديد من المكاسب ستتحقق للتركمان في حال الانضمام الى الاقليم الاتحادي، إذ سيشكلون القومية الثانية في الاقليم بعد الكرد، وسيتصل تركمان كركوك بنظرائهم وابناء قوميتهم تركمان اربيل وتركمان بقية المدن الكردستانية بما يعني اثراء وتطوير "الهوية" التركمانية وتركيز حقوقها ووزنها بعد الشتات والتشرذم، وسيكون ذلك افضل بكثير من خياري "الاستقلال الاداري" او الارتباط بالمركز.
  واحسب ان على الادارة الكردية ان تضع سياسات ملموسة لاقليم كردستاني ذي قوميتين متآخيتين، وللحيلولة دون المساس بحقوق المواطنة وقيم الحياة المدنية والحقوقية، واستحقاقات الشراكة لجميع مكونات الاقليم الاخرى، وفي المقام الثاني، الكلدواشوريين.. لكن المهم يتمثل في البدء بترويج وتنفيذ هذا البرنامج من الآن، إذ تفتح الظنون والمخاوف والتدخلات الخارجية ابوب المشكلة نحو جهنم.. وما ادراك ما جهنم.   
  لا شك ان لتركمان العراق قضية قومية شأن القضايا القومية الاخرى في بلد اهينت قومياته وتعرضت الى الصهر والتعريب والتنكيل على يد نظام الابارثيد السابق، وكان سيمكن صياغة حقوق ومطالب التركمان باكثر البرامج وضوحا وشرعية وحيوية وواقعية لو احسنت النخب السياسية التركمانية بناء مواقفها وبرامجها على اساس القواسم المشتركة، القومية والديمقراطية، غير ان تشتت هذه النخب وتناحرها وتوزع ولاءاتها حوّل التطلعات القومية التركمانية من قضية لها فروض واولويات الى ورقة سياسية جرى توظيفها في مشاريع خارجية وطائفية وفئوية قاتلة.
تكفي الاشارة هنا الى الحقيقة التالية: فقد حصلت الجبهة التركمانية العراقية (اكبر تجمع رسمي لتركمان العراق) في انتخابات العام 2005 على مقعد نيابي واحد، فضلا عن مقعدين للتركمان على قوائم انتخابية طائفية، وهي، جميعا، ادنى بكثير من وزن التركمان السكاني، إذ يتراوح عددهم في العراق بين ثلاثة ملايين على حسب المصادر التركمانية، ومليون بحسب المصادر المستقلة.
وتكشف خارطة الاحزاب والفئات السياسية لتركمان العراق والعلاقات في ما بينها عن صورة معتمة ومحبطة لمستقبل القضية التركمانية، وقد ساهم عاملان آخران في تعميق هذا التشرذم والتناحر، الاول، ما يتصل بتدخلات مراكز النفوذ في تركيا في شؤون هذه الاحزاب، وتقريب بعضها واستبعاد بعضها الاخر، والثاني، ذي صلة بتاثير الاحزاب والتنظيمات الطائفية العراقية في شق الوسط التركماني العراقي واضرام الاحقاد بين سنة وشيعة القومية التركمانية، ومن يتتبع خلفيات مذابح امرلي وتلعفر وتازة وبعض احياء كركوك سيصل الى اسباب انتشار عصابات القاعدة وميليشيات الموت، وتناحرهما، في بلدات واحياء التركمان، كما سيصل الى حقيقة ان النخب السياسية التركمانية المتنفذة ارتضت لنفسها ان تكون في مستوى الضائع حيال هذه اللعبة الدموية بدل ان تكون في مستوى المسؤولية عن حماية التركمان وتأمين حياة افضل لهم، والغريب، انه في كل مرة، وفي كل مذبحة، تهرب تلك الاحزاب التركمانية عن التمعن في بصمات الجريمة وابطالها الى تأجيج الكراهية ضد القومية الكردية.
على ان موجبات الصراحة، هنا، تملي القول بان المنهج الخاطئ والقصير النظر والطائفي للاحزاب التركمانية المنضوية في (الجبهة) او التي تعمل مع الجماعات السياسية الطائفية او المرتبطة بمراكز النفوذ التركية، قد خلق في كركوك واطرافها بيئة مشحونة بالتوتر والكراهية القومية، وسهل انزلاق شرائح متطرفة ومتمذهبة من التركمان الى انشطة ارهابية وميليشياوية اجرامية، الحقت افدح الاضرار بمصالح الشعب التركماني، وقد اطلقت شخصيات تركمانية، اجتماعية وسياسية وثقافية معتدلة تحذيرات مخلصة ازاء من هذا المآل، وهي تحذيرات يصح ان نعوّل عليها في تصويب السياسات والمواقف وردود الافعال.. وإن جاءت متأخرة.
  على انه ثمة استدراكات مهمة، الاولى، لا يصح إغراق موضوع مصير وهوية مدينة كركوك، كردستانية، ام تركمانية، ام مدينة عراقية، في الشعارات او المصطلحات او اعتبارات الصراع السياسي في منعطفه الراهن، كما لا يصح ان يدس الموضوع عنوة في شعاب الوثائق والسجلات ويتقلب في متاهات التاريخ وبصمات موجات الغزو والحكم المتعاقبة، وللتحذير هنا ما يبرره، بعد ان اصبح لكل دعوة من الدعوات المطروحة وثائق وتفسيرات، وبعد ان تطوّع كتبة تاريخ وسياسة، في ليّ الحقائق وإنشاء سياقات تحت الطلب.
والمعاينة الموضوعية تقتضي القول ان ثمة مشكلات ومخاشنات حدثت بين كرد كركوك وتركمانها في العصر الحديث، وقد سماها المفكر الكردي المرموق كمال احمد مظهر في كتابه عن كركوك "شرخا" واعادها الى "عوامل مصطنعة" وقال بكلمات عميقة وموجزة "يتحمل الجميع، بدرجات متفاوتة، وزر خلقها واثارتها بصورة او باخرى" فما احوج المعنيين بهذه المشكلة ان يستدلوا بمنظور الدكتور مظهر العلمية والنزيهة الى جذور المشكلة، وما احوجنا الى تهدئة الخواطر مما شابها من سوء الظن والريبة.
  والثانية، اعرف ان سطورهذه الشهادة جاءت في وقت حساس، وانواء مضطربة، وان استطرادات منها لم تكن لتعجب البعض، ومن بين البعض هذا اصدقاء وكتاب وقراء احبهم، واحتفظ لهم باحترام وجهات النظر، اما اولئك الذين ركبوا مركب السفاهة والتشهير والتهديد والتأويلات التافهة، فانهم لن يشغلوا هذه الشهادة عن توقيع خاتمتها، والى الخاتمة تتجه السطور التالية:
  والثالثة، على الباحث الموضوعي الحذر من الخلط  بين امرين او التعسف في ربطهما، ويدخلان في قلب موضوع البحث (مشكلة كركوك) وهما قضية الشعب والقيادة السياسية، واحسب ان الحاجة ماسة للابتعاد عن التنظير، للقول هنا، ان قضية الشعب الكردي من حيث فروض حق تقرير المصير وحقوق المشاركة في ادارة الدولة الاتحادية على قدم المساواة مع المكونات الاخرى لا يصح ان تختزل الى مفردة ينظر اليها من خلال الموقف من القيادة السياسية الكردية، ولا يصح، بعد ذلك، ان يُعدّ الموقف (الايجابي)من القضية موقفا(ايجابيا بالضرورة) من القيادة، ولا ان يُحسب الموقف من القيادة موقفا من القضية عينها.
والامر، برأيي، يعود في جوهره الى علم المعايير، وهو واحد من ابرز العلوم الحديثة التي تنشغل في ضبط القياسات لأحوال الثابت والمتغير، وفي التفاصيل، له علاقة بمستوى نمو ورصانة الفكر السياسي السائد وخلفياته الحضارية، فانك حين تهاجم نيكولا ساركوزي لن تجد من يفترض ذلك بمثابة تعريض بالشعب الفرنسي، لكن الامر يختلف في حال انتقدت اداء الرئيس محمد حسني مبارك، مثلا، فانك ستصبح معاديا للشعب المصري في حساب الخطاب والفهم السياسي العربي (والشرقي) السائد.
واقول، نعم، لقد اتحدت القيادة الكردية بتطلعات الشعب الكردي، وكسبت ودّه وتأييده في مجرى الكفاح من اجل الحرية، لكنها تواجه الآن اختبار حماية هذه العلاقة وادارة الصراع الراهن، بنجاح، في اطار الدولة العراقية الاتحادية، وفصلها الدرامي مشكلة كركوك، وبناء الاولويات بالكثير من الحكمة وبُعد النظر، بما يخدم حق تقرير المصير للشعب الكردي، وما يجنب الكرد المزيد من الالام والحروب.. واحسب ان مفتاح هذا النجاح يتمثل في بناء وتطوير تجربة الاقليم ليكون اكثر رخاء وعدالة وديمقراطية.
ـــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"ماذا ستفعل حينما يكون الشخص الوحيد القادر على مسح دموعك ، هو من جعلك تبكي ؟".
حكمة انكليزية





428
المنبر السياسي / وسطية المالكي
« في: 10:28 21/08/2008  »
وسطية المالكي


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com


وقوف نوري المالكي "متوسطا" دائرة الازمات، في هذه اللحظات التاريخية، يستحق التأمل بعين الانصاف والمسؤولية، على الرغم من ان الوسطية، احيانا، قد تعبّر عن ضعف او هروب او عن حساب مغلوط للنتائج، وقد لا تحل مشكلة، وربما تفاقم المشاكل بتعليقها الحلول الناجعة على "نعمة" الصدف والانواء وعودة الحكمة الى العقول، لكن، ثمة في الكثير من التحولات والصراعات والتجارب واحداث التاريخ العاصفة تبرز الحاجة الى "رؤيا" تتوسط الخيارات والتجاذبات ومصادر الحريق المختلفة لتحول دون دخول اطراف الازمة الى حرب مفتوحة لا احد يقدر نتائجها الكارثية.
وفيما تحيطه الازمات والاستحقاقات السياسية والدستورية والائتلافية من كل جانب، وهي في طبيعتها متناقضة وشائكة، فقد انتقل المالكي الى نقطة الوسط  بين الجميع متواكلا على فروض مرحلة الانتقال وعلى تكتيك التأني، ولا اقول التهرب، حيال عواصف كانت ستقتلع، كل مرة، حكومته الهشة. انظروا، مثلا، كيف ادار معركة الاتفاقية الثنائية مع الولايات المتحدة، وكيف تعاطى مع ازمة كركوك، فقد خرج منهما، حتى الآن، من دون ان يخسر اوراقه، او حلفاءه، او شركاءه، او اولئك الذين هادنوه مؤقتا.
احسب ان المالكي، قبيل هذا الانتقال، لم يكن ضعيفا، او حتى وسطيا، في الحروب التي خاضها، من فرض القانون في بغداد الى صولة الفرسان في البصرة الى بشائر السلام في مدينة الصدر الى ام الربيعين في الموصل حتى بشائر الخير في  ديالى، فقد كان مبادرا في وقت فُقد الامل بوقف التدهور عند حد ممكن، وكان جريئا بالقدر الذي ينظر اليه من زاوية تحديه للميليشيات ونفوذها في بيئة متعاطفة(الى حد ما) معها، وكان متوازنا بالقدر الذي تمليه حقائق وظروف الاستقطاب(والتفتت) الطائفي والفئوي الشديد الذي يحيط حركته ويعيقها، بل انه خرج من جميع هذه المعارك وفي يده انجاز ذهبي عنوانه ‘تراجع العنف’ قدمه الى العراقيين كجرعة امل في الانتقال يوما الى عهد الاستقرار، الامر الذي لم يكن متوقعا حتى بالنسبة لاكثر المتفائلين في مستقبل التغيير في العراق، ولم يحسبه الكثيرون في رصيده، واحالوه الى نظرية المؤامرة او الى صفقة مع بوش او مع ايران، او مع كليهما.
ومن دائرة الوسط استطاع المالكي ان يعيد بناء وزارته بتسهيل عودة المنسحبين"السنة" اليها، وربما بعد ان شعرت كابينة التوافق ان مركب المالكي سيصل الى الضفاف الاخرى من دونها، كما استطاع ان ينهي"احتلال" الاحزاب "الشيعية" لابنية الحكومة، وان يفكك الكثير من العصابات والمحاكم الكيفية "الشرعية" التي تتخذ من المساجد والحسينيات مقرات لها، وان يمنع(او يخفف) تسييس المواكب والفعاليات الدينية والمذهبية، وان يداهم زمر القاعدة ويلاحق فلولها بضراوة، وكان سيحقق الكثير من النجاحات لولا عوامل كثيرة من بينها، وابرزها، ارث المحاصصة الذي لا يزال، بادواته وسياساته وفساده، يهدد المشهد بالعودة الى نقطة الصفر.
وسطية المالكي، بصراحة، انقذت العملية السياسية من انهيار في منتصف الطريق، وربما ارجأت هذا الانهيار الى يوم يقلب الفرقاء المركب على انفسهم..  وعلى من فيه.
ــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــ             
“لا تهاجم سبعة أشخاص إذا كان مسدسك لا يتسع سوى لست رصاصات فقط”.
                                 
من الانترنيت
 

429

عراق- سودان:
محاولة تشبيه


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com
عندما تلتقي بسياسيين سودانيين لا بد ان تسمع منهم كلمات شفقة على العراق، وعرضٍ لعناوين مثيرة عن آخر احداث القتل والموت العراقية، يختتمونها، في العادة بعبارة ‘نسأل الله ان لا تحدث لدينا والحق انها تحدث لديهم، ولا تشفى، طبعا، فالسودان، بلد طيب وشعبه، كما يقول الرحالة الالماني ب. كيرن، قلبه رقيق مثل دمع العين.
وفي زيارة لي، مع وفد دولي في آذار الماضي، الى معسكر’ابو شوك’ للاجئين شمال منطقة دارفور السودانية المنكوبة بالحرب الاهلية، خصني لاجئون حفاة وعطشى ومفجوعون بما حل بهم وعائلاتهم(بعد ان عرفوا اني من العراق) بالسؤال عما يحدث في العراق من مآس: قلت لهم متأسيا : لسنا باسوأ حال من حالكم.. بل لدينا من الامكانيات ما نستطيع ان نخفف من مصائبكم..’ ولعل المفاجئة الميدانية هنا تتمثل في البصمة العراقية(الطائفية) لماساة دارفور، فان الحرب الاهلية التي طحنت حوالي مليون من الانفس والقت الى العراء، وما وراء الحدود، بمليونين من السكان الامنين في افضع وابشع حالات المكابدة (لا ماء ولا طعام ولا أمن) هي حرب طائفية صامتة ومجهولة بالنسبة للكثيرين جرت وتجري بين طائفتين من المسلمين(مسلمون عرب ومسلمون افارقة) على خلفية صراع طويل، غذته ‘ مساجد الطائفتين’ بالتأليب، وعمقته السلطات المتعاقبة بتقريب طائفة وتهميش طائفة اخرى.
وفي التفاصيل، تدخلت دول الجوار(آه من لساني) فزاد الامر تعقيدا حين تُرجم التعاطف مع اللاجئين الى اكداس من السلاح والصواريخ ودموع التماسيح، وعلى عجل تشكلت جيوش واقيمت معسكرات تدريب، ثم جاءت الامم المتحدة بالمساعدات والاموال فتلقفتها حيتان الفساد والتهريب والنصب فضاع نصفها قبل ان تصل الى اللاجئين، وضاع النصف الثاني بين اجور لكبار الموظفين الدوليين وخدمات النقل(بالطائرات طبعا) والامن والحماية، ولم يصل منها الى الضحايا غير اسلاب الاوكسفام البالية و'تنكرات' مياة الشرب القليلة والمتقطعة التي لا تسد رمق العطاشى ولا يتبقى منها شيئا لغسل الايدي، ولم تكن مصائر المساعدات الامريكية المليارية للاجئي دارفور(ولا مساعدات العشر الكبار) بافضل حال من مساعدات رجال الخوذ الزرقاء الدوليين، وبانتظار القضاء الامريكي، بعد ان تهدأ الاوضاع، للنظر في مخالفات ارتكبت من قبل وكلاء وسماسرة وانتهت الى 'لطش' تلك المساعدات، وانتقالها من خيام اللاجئين المنكوبين الى موائد القمار على السواحل الفرنسية الحرة. اما العرب الموسرون، فقد اعفوا انفسهم من مسؤولية الاحسان بذريعة 'وجود اصابع صهيونية' في الازمة، وهي العكازة التي علقوا عليها ذنوبهم جيلا عن جيل.
لا ننسى امرا في غاية الدلالة بان 'القاعدة' مرت من هنا ايضا، وحين تكون في دارفور ستطالع دعوات للموت من اجل الفوز بالجنة، ونداءات بقتل الكفار الذين نصفهم مسلمون تراهم في خيام على طول الحدود والنصف الآخر لا ترى لهم اثرا، وليس من دون مغزى ان يكفر ايمن الظواهري حكومة السودان بزعم انها تتجه الى حل قضية دارفور'على الطريقة الامريكية' وضد 'حقوق الامة' وهو التعبير الصارخ عن مضمون المشروع الارهابي الدولي القائم على إدامة الصراعات الطائفية والعرقية، والذبح 'على الطريقة الاسلامية'. 
 الى ذلك فان قضية الجنوب السوداني، لا تختلف كثيرا عن قضية الشعب الكردي في العراق، إلا في البعد الديني(اكثرية مسيحية) هناك، والبعد القومي (الامة الكردية) هنا، فيما مرت القضيتان في سلسلة معقدة متشابهة، الى حد كبير، في الصراع مع الحكومات المركزية، وسلسلة، اكثر تعقيدا، في التفاوض مع تلك الحكومات، إذ تلجأ حكومة المركز الى التفاوض وهي ضعيفة، وحين تستقوي تشن الحرب. ولا حاجة للاستطراد في عرض النتائج الكارثية للحملات العسكرية الحكومية المديدة لاخضاع 'المناطق المتمردة' في سقوط ملايين القتلى وتدمير فرص التنمية والبناء ووقوع البلدين في قبضة مجموعات انقلابية عسكرية، ودكتاتورية، وقبلية.
 وطبقا لبرنارد لويس، مثلا، فان عدد ضحايا الحرب الأهلية في السودان بلغت خمسة أضعاف عدد قتلى الحروب العربية ـ الإسرائيلية مجتمعة، ولم يقتل الجيش العراقي طوال خمس وثلاثين سنة من حكم البعث الاخيرة اكثر من ستة اسرائيليين، فيما قتل في غضون اسابيع، وفي حملة واحدة من الحملات العسكرية المنهجية، مائة وثمانين الفا من الاكراد العراقيين، وسقط في حرب اخضاع الكرد ما يزيد على مائة الف من العسكريين، وفي هذا السياق كانت الحافظة الاعلامية والسياسية العربية مليئة باخبار 'الاصابع الاسرائيلية' التي تحرك جنوبيي السودان واكراد العراق، في محاولة لاضفاء الشرعية القومية والدينية على حرب الاستصال ضد شعوب تطالب بالمساواة والحرية وحقوق المواطنة، حتى ان كاتبا معروفا(فهمي هويدي) كتب غداة التوصل الى اتفاق السلام بين الخرطوم والجنوبيين السودانيين يقول: 'ان إسرائيل كانت الحاضر الغائب في عملية توقيع آخر البروتوكولات بين حكومة الخرطوم وحركة تحرير السودان'.   
  وشاءت معاهد الدراسات الدولية التي عنيت بقضايا الاثنيات والاقليات القومية في العالم العربي، واغلب الدراسات الاكاديمية التي تصدت الى هذا الملف، ان تفرد حيزا كبيرا لمشكلتي جنوب السودان وكردستان العراق بوصفهما مثالا صارخا على انتهاك حقوق الامم الصغيرة من قبل الامم الكبيرة في العالم الثالث، وعلى خطيئة وشوفينية النظام السياسي العربي والنخب الفكرية والثقافية والسياسية العربية في التعامل مع حقوق شعب جنوب السودان والحقوق القومية للشعب الكردي في العراق، وقد اجمعت تلك الدراسات المرموقة على ان مواطني هذه الشعوب المقهورة هم في بلدهم مواطنون من الدرجة الثانية، ليس في التطبيقات السياسية والامنية فقط، بل وايضا في طائفة من القوانين والتشريعات المحلية، عدا عن الامعان في ترويج نعرات الكراهية والازدراء  القومي ضد الشعوب والاقليات الاخرى في حصص التعليم الرسمي. 
 والمفارقة التاريحية تتمثل في ان قضيتي جنوب السودان وكردستان العراق، اخذتا الآن، وفي تاريخ متقارب، مسار الحل السلمية، في اتفاقات ودساتير وتشريعات تكرس الشراكة في الوطن الواحد، وتطوي نزعات وظنون الانفصال وتنهي حروب الاستئصال والقهر وتعترف للشعبين بحق تقرير المصير وبممارسة حقوق المواطنة الناجزة والمشاركة الدستورية في ادارة شؤون البلاد، ومن داخل هذه المفارقة تظهر امام هذا المسار السلمي للقضيتين تحديات متشابهة، هناك وهنا، وكانها من فلقة واحدة، من بينها تيار يحن الى جعجعة السلاح.. حنين الرذيلة الى كواليس المهربين، كما يقول همنغواي.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
' اللي بيرقص ما بيغطي دقنو'.

مثل سوداني


430
جدلية التوافق السياسي


عبدالمنعم الاعسم
mm13mm@live.com

 فجأة، صار الحديث عن مبدأ التوافق مادة للجدل في المحافل العراقية، السياسية والاعلامية المختلفة، فمن يعده ضروريا في مرحلة الانتقال التي يمر بها العراق، ومن يراه خطيئة تتعارض مع مبدأ الديمقراطية، ومفرخة للمحاصصات، وبدعة من بدع العهد الجديد والاكثرية الحاكمة، واحسب ان مناقشة هذا الموضوع تفترض، اولا وقبل كل شي، تحصينه من لوازم الصراع الفئوي، وتقلّب المواقف، ومزايدات سوق الاعلام، كما تفترض، في المقام الثاني، الاعتراف بان التوافق هو نقطة الوسط في الخيارات المتضاربة، وقد يكون اتفاقا يضم منسوبا متقاربا من المصالح والاهداف، يدرأ فيه المتصارعون خطر الانزلاق الى العنف في ما بينهم، او انهم يضعون فيه حشوة من الحرب ضد جبهات اخرى.
  في كل الاحوال، وقبل ان نستطرد في التعرض الى توافقات مجلس النواب على خلفية التصويت على قانون انتخاب مجالس المحافظات، فاننا بحاجة الى ان نقف قليلا عند مكان مبدأ التوافق على خارطة الصراع التاريخي الاوسع.
 لنتذكر بان هذا المبدأ كان منبوذا ومرفوضا في الادب السياسي الثوري، اليساري والقومي على وجه خاص، مثله مثل مبادئ الاصلاح والوسطية والمساومة والتهدئة والاعتدال والحوار وانصاف الحلول والتفاوض والمراجعة، وجميعها كانت تعني، (لدينا، نحن ورثة الفكر الثوري) خيانة لدماء الشهداء، وإنكار لتضحيات الاجيال، وتفريط بكفاح المناضلين من اجل الحرية، وكان لبعض وجوه هذا الرفض-طبعا- ما يبرره حيال حماية وحدة المعسكر الثوري(دولا وحركات) وتعبئة الجمهور والحفاظ على مكتسباته، وايضا لما له صلة بطبيعة الاستقطاب بين النظم الفكرية السائدة لما بعد الحرب العالمية الثانية، غير انه تحت خيمة الثورة وراياتها الحمراء كان ثمة وقائع معروفة عن نهج الاستبداد السياسي، وفرض حكم الحزب الواحد، ومصادرة حقوق الانسان. 
 وكانت السياسات والافكار الاخرى(المناهضة لمعسكر الثورة) تتمترس، بالمقابل، في المفاهيم المتطرفة والعدوانية والتجييش والمخاشنة وتنأى هي الاخرى عن خيار التوافق، وتدبر الكثير من الانقلابات العسكرية والمافوية التي تسفر عن وصفات حكم دكتاتورية وفاشية وشوفينية  وحتى قبلية  ودينية، وترعى اكثر الانظمة استبدادا في العالم، فيما كانت الحرب الباردة بين المعسكرين وثقافتها العسكرية ومنتوجاتها من الريب والجاسوسية والتآمر وسباق التسلح تلقي باكداس الحطب الى موقد هذا الاستقطاب الفكري، ولم يبق للتوافق من مكان إلا في نداءات بعض الاصوات الكنسية والوعظية ومعوقي الحروب وتجمعات المسنين، لا تكاد تصل الى المسامع كفاية.
 وفي غضون عقدين من السنين انتقل ازدراء التوافق، شيئا فشيئا، الى الكتلة الاسلامية 'الجهادية' المسلحة، التي انتشرت وتنامت بمقاسات اسطورية، فاعادت انتاج الغلو والتطرف ونبذ الاعتدال والوسطية والاصلاح في خطاب ديني مغلق، عدواني. تكفيري. ماضوي. طائفي. وفي ممارسات اتسمت بالدموية، سقط خلالها ملايين المدنيين الابرياء، هذا مقابل سياسات وممارسات غربية  متشددة، وعدوانية،  تنتمي الى ثقافة الحرب الباردة واسلابها الفكرية، والى جانب جيوب من الحركة الثورية انغلقت على الجملة المتشددة لما قبل تشكل العالم الجديد.
 التوافق ابن شرعي لعصر التحولات، لكن المشكلة تتمثل في انه قد يصبح ابنا عاقا  حين يُختزل الى صفقات مشبوهة تهدف الى تكريس الدكتاتوريات والمظالم، وقد يخرج هنا من التعريف المدرسي للتوافق الى معنى آخر اقرب الى التآمر.
  وبخلاف ذلك فانه لا مفر من التوافق على حلول وسط، متوازنة ومشرفة، بين الفئات والخيارات السياسية العراقية المختلفة وهي تقف عند منعطف تاريخي مفتوح على احتمالات تمتد بن الجحيم والمعافاة، والبديل عنه يتمثل في مواجهات كارثية لن تعود بالخير على ايّ منها، فيما تدخل قضية كركوك، في مختبر النوايا، وصدقية الالتزام بالعهود، والرغبة في ترجمة شعارات التعايش الى الواقع، على الرغم من ان الكثير من عناصر هذه الازمة مستمدة من ارث النهج الدكتاتوري الاستئصالي السابق، وكان سيتم التوصل الى حل لها لو ازيلت اثار تلك السياسة ولوازمها الشوفينية بروح العدالة والحكمة.
 التوافق، طبعا، ليس مبدأ للمحاصصة. الاول عملية تقريب وتجسير لوجهات النظر والمطالب والمشاريع والشروط المتباعدة والمتصارعة وفق قواعد سياسية تتسم بالحرص على نزع فتيل حريق قد يشب في اية لحظة وتجنيب البلاد المزيد من الانشقاقات والحروب، والثاني تقسيم للفرص والوزارات والمواقع والنفوذ والوظائف الحكومية وملازم الثروة والجاه على اساس طائفي وفئوي. الاول، ينطوي على تضحيات مبررة ببعض المصالح، والثاني على تشبث، غير مبرر، بالامتيازات. الاول، يتقرب من معالجة حالات التهميش بالنسبة لمكونات او فئات وكفاءات، والثاني يكرس حالات التهميش لمكونات وجماعات وكفاءات.       
 والتوافق، احيانا، وفي الظروف الاعتيادية(اقول، الظروف الاعتيادية) قد يضر بمبدا الديمقراطية، لانه يعطل واحدا من اركانها المتمثل بالتصويت الحر لنواب الشعب (او ممثلي قطاعات الراي العام)على المشاريع المطروحة، فهو، بمعنى ما، يقفز من فوق الممارسة الديمقراطية الى ما يشبه الصفقة بحيث لم تعد هناك اهمية لمناسيب الرأي المستقل، فتبتلع الاصطفافات التي تتم في الكواليس الفروق الثانوية  بين الخيارات، وتتهمش الاعتراضات والاصوات المستقلة، لكن ينبغي الاستدراك هنا بالقول ان مبادئ الديمقراطية ليست نصوصا مقدسة حتى في اكثر التجارب الديمقراطية عراقة، وان التوافق ليس محرما دائما في تلك التجارب ، ففي البرلمانات العريقة، والمجتمعات صاحبة الخبرة الطويلة في ممارسة الديمقراطية تلجأ الطبقة السياسية واحزابها (الحاكمة والمعارضة) الى مبدا التوافق في حال تواجه البلاد حالة حرب، او حين يتطلب الامر اتخاذ قرار استراتيجي يمس المصالح الكبرى،         
 والتوافق كمنسوب سياسي حي لمصالح متضاربة، او متجاورة، لا يلغي الفارق بين الحجوم، بل يعني بضبط الصلة السلمية في ما بينها، وقد دخل في السابق ويدخل الآن، وبهذا المعنى، في صلب العلاقات الدولية وفي اساس المعاهدات والموالتي تنظم سبل حل الازمات والحروب بين الدول، ويعود له الفضل في تجنيب البشرية الكثير من الويلات، ويعود اليه العقلاء لتسوية صراعات دموية وتداخلات معقدة.. وقد يعود اليه مجانين ركبوا رؤوسهم ردحا من الزمان، فاكتشفوا عبث الاوهام التي يمتطونها.
ــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
'تذكروا ان رجال الاطفاء لا يكافحون النيران بالنار.'.
يوثانت
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


431
المنبر الحر / موسم الارتزاق
« في: 17:09 30/07/2008  »
موسم الارتزاق


عبدالمنعم الاعسم
mm131mm@live.com

 شبههم صديق كاتب بـ'حشرة في مغسلة'  وقال انها تحاول الابتعاد عن الثقب بالتسلق فوق سطح املس في حين يداهمها السيل ويأخذها بالوعة ابدية، ومنذ ان حشرت الدولة بالحزب، وحشر الحزب بالفرد، وحشر الفرد بالطغيان والهوس، بدأت تتشكل طبقة الموظفين والاتباع مع قدر كبير من مهارة التسلق 'على السطوح الملساء، وقد تم ذلك بعقود ثلاث من السنين، ثرمت الدولة البوليسية المنفلتة الالاف منهم، وحصرا المغفلين ممن نسميهم اكباش فداء.   
 مسيرة السنوات العراقية الخمس افرزت في مشوارها الصعب تجارا وموظفين وطنيين، سيرة ونزاهة، فيما خلقت بالمقابل، وبسرعة اسطورية، بطانة من الجهلة احتلوا مواقع خطيرة ومقررة، لا يقلل من بشاعتها ما يقال بان دولا كثيرة ابتليت بهذه الظاهرة، وان ترسخ قواعد الادارة العصرية القائمة على تكافؤ الفرص والنزاهة والكفاءة من شانه ان يضيق من مساحة هذه البطانة بالتخلف، فيما التجارب الحية لعشرات الدول تؤكد ان حزام البطانة هذا يضرب من حول الفرص والمناهج والقيادات ويصبح بمرور الايام نفوذا لا يقهر حال نفوذ المماليك الذين اطاحوا بامبراطوريات عتيدة.
 وفي فترة قياسية قصيرة، تكون في الادارات الجديدة جيش من المنتفعين المحترفين وهم ما ينطبق عليهم المثل العراقي المعروف 'يأكل بالطرف، وينام بالوسط' في إشارة الي الحصيف بدناءة، الشاطر بانتهازية.. فالذي يجلس علي طرف المائدة، خلاف من يتوسطها، يكون مطلق الحرية في حركته ومناوراته في الاغارة علي أطايب الطعام، أما النائم في وسط النائمين فانه سيكون ناجيا من محاذير السطو أو التعريض أو تصفية الحساب من جميع الجوانب:
  وأصل المثل، كما تذكر كتب الامثال والكنايات ان ابن الفرات، وزير المقتدر العباسي، كان يحمي نفسه من الخصوم بان ينام وسط القاعة وحوله غلمانه، ويروي احد تجار بغداد انه قصد ابن الفرات وطرق بابه في الثلث الأخير من الليل 'لعتاب له عليه' لكن الحاجب أبطأ ساعة، ثم ادخلني من دار أخري حتي انتهيت الي مرقده، وهو علي سرير له، وحواليه نحو خمسين فِراشا لغلمان له، كأنهم حفظةً، وقد قاموا، وبعض الفرش تنقل، وهو جالس في فراشه، مرتاعا'.
 ان الجلوس بطرف مائدة الولائم والتوسط في قاعة النوم ليس سوي تخليق لافاعي عاشت علي آلام ومكابدات الملايين، وصورة اولية لجحافل الجراد التي تعد نفسها للهجوم علي المزروعات اذا لم تسدّ نوافذ الحدود امامها، وقد اختصرت دراسات الظواهر الجديدة في المجتمعات النامية توصيفهم بعبارة 'القطط السمان' وترجمها العراقيون الى 'هر المطابخ' ولنعترف ان الكثير منهم برعوا في الانتقال من رصيف الي رصيف ومن خانة الي اخرى، من غير ضجة أو جعجعة، وصاروا يعرفون مواسم الرزق، ويحفظون توقيتاتها  وموجبات التعامل معها.
اكتب ذلك ونحن على مشارف موسم الارتزاق الكبير: الانتخابات.
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

'بعض مواطني دولتي من دون حياء.. اطردوهم'.
فلاطون


432
ما لـم يقله رواندزي ..
في الاخطاء السياسية الكردية

عبدالمنعم الاعسم mm131mm@live.com

ناقوس الخطر” الذي دقه فرياد رواندوزي غداة التصويت السري للبرلمان على قانون المحافظات له ما يبرره، اولا، في نقطة الخوف من نتائج اقصاء الكرد عن الترتيبات الدستورية العراقية، وثانيا، في الالتفاف، لأول مرة، على قواعد التصويت العلني للنواب على مشاريع القوانين، وثالثا، في ما اشار اليه بالقول “ضرب التوافق الوطني” في صياغة التوجهات المصيرية،  ثم ليخلص الى ما هو اهم، بتوجيه الملاحظة الى القيادة الكردية على الوجه التالي: “ لم تعد المجاملات السياسية والعلاقات بين القمم تنفع، ما لم تنزل هذه العلاقات وبزي جديد الى الاخرين في مجلس النواب والمجالس الاخرى”.
وجيز كلام رواندوزي، إذا ما رفعنا عنه استطرادات الشعور بالخيبة من مواقف "بعض القوى السياسية التي تُحتسب الآن بانها قوى حليفة للكرد والتحالف الكردستاني" يمكن ان نجده في دعوته الفصيحة الى القيادة الكردية بوجوب “مراجعة علاقاتها” واعادة بناء تلك العلاقات وفق اسس اسماها “افقية وعمودية” واحسب انه نحت كلماته هذه من حساسية اللحظة المتوترة والمتداخلة في مهمته كمتحدث باسم الكتلة الكردستانية في مجلس النواب العراقي، وترك لنا فروض تأشير المزيد من دلالات اللوحة، موضع الجدل على نطاق واسع.
لقد تجاهل البعض(وربما الغالبية) من الساسة والنواب “العرب” معنى ونتائج إقصاء الكرد عن قضية تخصهم في المقام الاول، وكانت تناقش في اطار التوافق السياسي المدوّن في التزامات واليات معلنة، وسقطوا، بل كرروا سقوط النظام الشوفيني،  في ضيق الافق القومي، واثبتوا انهم لم يستوعبوا دروس الصراع بين الحكومات العراقية المركزية والكرد، واستسلموا لزهو “الانتصار” عن طريق “التصويت السري” ودفعوا العملية السياسية في طريق محفوف بخطر الانهيار، واصطفوا، من الوان متناقضة، وحتى متحاربة، في كابينة واحدة، لالحاق الهزيمة “الديمقراطية” بالكرد، عبورا من فوق حقيقة ان العراق يمر في طور انتقالي حساس ومؤقت وله استحقاقات واخطار، وهو الى ذلك  يتكون من قوميتين رئيسيتين شريكتين على اساس فيدرالي، وينبغي ان لا يُفرط بكيمياء هذا الاتحاد، او يجري الالتفاف عليه.
مقابل ذلك، ومن على سطح هذه الصراحة، والحاجة الى المراجعة، فان القيادة الكردية لم ترصد كفاية النتائج السلبية لـ “العلاقات بين القمم” وحصرا ابتعادها عن الجمهور العربي الغفير الذي بقي طوال السنوات الاربع الماضية تحت هيمنة الخطاب التظليلي، التشكيكي، العدائي حيال نيات الكرد وحقوقهم، وكانت الصورة الاكثر رواجا بين هذا الجمهور تتمثل بان الكرد يلعبون في ساحة الصفقات والمحاصصة بعيدا عن المبادئ، ويقفون وراء استقواء الميليشيات وهيمنة القوى الطائفية، وانهم يعدون للانفصال والانقلاب على الدولة العراقية وتفليشها، وقد عقدت اقنية اعلامية وزعامات وتيارات طائفية وقومية وقبلية تحالفا غير مقدس لترويج هذه الصورة التي بدت غير مقبولة ومفزعة للملايين التي خرجت توا من كابوس الدكتاتورية الشوفينية، بل ان الكرد بدأوا يفقدون التعاطف التاريخي من النخب المدنية العربية المتنورة والديمقراطية التي كانت الحليف الثابت لهم وصارت تنظر الى الاندفاع الكردي في التحالف “الحكومي” كأنه موجهة ضدها.   
وبدلا من محاولة احتواء هذه التداعيات السلبية فقد تردى الخطاب الكردي في نزعة الثقة المفرطة بالنفس، والانغلاق على وجاهة الحقوق القومية من غير آليات إقناع عملية ومناسبة، والانزلاق، احيانا، الى الخشونة التي سرعان ما تترجم كتهديدات، ونقل هذا الخطاب الى الشارع العربي الشعبي باساليب انعزالية ومفردات قابلة للتفسيرات الضارة، او عبر “وسطاء” لا مصداقية لهم، او إعلام  فئوي متضارب الرؤى والقسمات والحوامل،  وكانت “المحطات” الكردية في الوسط العربي (فروع الاحزاب والمنظمات) مشلولة وعاجزة وغائبة، ولا تملك لغة التفاعل مع السكان العرب الذين كانوا احوج ما يكونوا الى معرفة الحقائق.
واستطيع ان اقول بان اكبر إخفاق للخطاب الكردي الموجه الى الوسط العربي برز واضحا في مجال عرض وجهة النظر الكردية حيال قضية كركوك، وقد حفل هذا الخطاب بثغرات قاتلة، وشطحات متكررة تفتقد الى بناء الاولويات والحقائق والى حساب دقيق لردود الافعال، فبدلا من الدعوة السليمة، والمبررة، الى تطبيع الاوضاع في المدينة وتصفية آثار الاستئصال القومي الاجرامي واعادة السكان الكرد الاصليين الى منازلهم، وتحشيد القوى والرأي العام وراء هذه الدعوة، وعوضا عن التركيز على خيار التوافق السياسي والحل البديل الذي يجد له صدى طيبا بين الجمهور العربي، اقول، بدلا وعوضا عن ذلك، استطرد الخطاب الكردي الى استباق الامر باثارة فاصلة الهوية القومية للمدينة، التي لم تولف في مدونات قريبة من وعي جمهور عاش في قطيعة عن التفاعل الحر مع القضايا الانسانية، فيما انخرطت مكونات هذا الخطاب في مباريات التصلب واللاءات، فضاع معها الخيط الفاصل  بين ما يحتاجه الكرد من خطاب يطمئن مصالحهم في المدينة وما يحتاجه الجمهور العربي من خطاب يلتزم عراقية المدينة، وفي هذا الارتباك جاء دور مراكز الفتنة والتدخل الخارجي والتجييش والارهاب والطائفية، للاساءة الى الكرد وتضحياتهم ودورهم الرائد في الاجهاز على الدكتاتورية، وكان ينبغي، لمهندسي السياسة الكردية، التحسب لهذا الدور كفاية.
لا اقول ان القضية الكردية خسرت الوسط  الشعبي والديمقراطي العربي، لكن استطيع ان اقول، وانا مغمض العينين، بان “السياسات الكردية” المعبر عنها بالتحالفات والمحاصصة والخطاب السياسي والاعلامي، نأت بنفسها عن هذا الوسط، وتركته رهينة للريبة والتضليل.. واقول ايضا، بان الوقت لم يفت. 
 
ــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــ
“ لا تبحثوا عن أسباب الازمات في براميل البارود بل في حقول القمح”.
 
ديغول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد 

433
تنويه من عبدالمنعم الاعسم


الى جميع الاصدقاء والاحباء الذين يراسلوني واتواصل معهم  اود ان ابلغهم بتغيير عنواني الالكتروني، الى عنوان جديد، بعد ان تعرض رابط المراسلة الى تخريب يستكمل سلسلة من التهديدات التافهة، كما استميحهم عذرا إذا ما تعرضت شبكاتهم الى الاذى في حال استخدم عنواني السابق في عمليات تخريب مقصودة، وساكون ممتنا لجميع من يرسل لي متفضلا عنوانه المعتمد لاتواصل معه.
عنواني الجديد هو:
mm13mm@live.com



434


بلد المليــون أرملة.. مرثية

عبد المنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

ربما سيحتقرنا التاريخ يوما، نحن ابناء هذا الجيل العراقي، لاننا كنا شهودا متفرجين على مرحلة تعيش فيها مليون امرأة عراقية بصفة ارملة بنتيجة حروب ومعارك وعمليات ابادة قمنا بها، من مواقع عديدة وتحت شعارات مختلفة، فارسلنا فيها الرجال الى القبور والنساء الى الترمل، ثم وقفنا في وسط هذا الخراب من دون ان تهز شواربنا شهامة، او تفصّد جباهنا قطرة حياء.
اننا، منذ الان، ينبغي ان نرثي لحالنا في عيون المستقبل، إذ انتجنا كل هذا العدد الهائل من الارامل من بين نسائنا في غضون عقدين من السنين: فصفحاتنا سوداء، وافعالنا مشينة، وسيرتنا مخزية، واستجابتنا لنداءات الاستغاثة صفر. تصوروا، انشأنا وزارة لشؤون المرأة، وعهدنا لها مهمة معالجة قضية مليون ارملة لكن بـ13 موظفة وموظف فقط، فيما يتكدس الف ومائتان من العاملين في فضائية تلفزيون الدولة، غالبيتهم يتسكع بين اروقة البناية بلا عمل طوال ساعات الدوام 'المملة'.
كيف حدث هذا؟ بل وكيف نجد لهذه الجريمة البشعة، في كل يوم، تبريرا وتصريفا نبرئ ساحتنا منه حين تحل ساعة الحساب والمراجعة؟ ولماذا لا  نفكر جديا ومنهجيا في التخفيف من فجيعة هؤلاء الضحايا؟ ولم لا نعالج الامر مثلما عالجته دول اخرى خرجت بملايين الارامل من الحروب وذلك بحمايتهن من العوز، اولا، بايجاد فرص عمل، او معاشات، او امتيازات كريمة لهن، ثم، لنحمي كرامتهن وحياتهن في تشريعات انسانية تحول دون اضطهادهن وقتلهن، كما يجري الآن على مدار الساعة؟.
يقول قائد عمليات كربلاء ومدير شرطتها اللواء رائد شاكر جودت للصحفيين، إن عضوا في مجلس المحافظة اعتقل خلال أحداث الزيارة الشعبانية العام الماضي اعترف بقتله للعشرات من المواطنيين بينهم نساء ارامل، وقد عزا ارتكابه لهذه الجرائم الى فروض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان اولئك النساء حسبه لا يلتزمن الشريعة الإسلامية.
وذكر مصدر في محكمة الأحوال الشرعية في بلدة تكريت 'ان المحكمة لم تعقد قران اي أرملة خلال السنوات الاربع الماضية' ويقول محام متخصص بالاحوال المدنية في البلدة 'ان هناك موقف سلبي للمشايخ الدينية والقبيلية حيال الارامل اللواتي يعانين محنة فقدان ازواجهن 'على الرغم من ان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يتزوج امرأة بكراً سوى عائشة'.
وينقل صحفي عن امرأة عراقية اسمها خالدة عبد الكريم قولها: 'أنا ترملت منذ زمن بعيد عندما قتل زوجي في الحرب العراقية الإيرانية واستطعت إنقاذ أطفالي الأربعة من الفقر والعوز وعشنا نأكل يوما ونصوم اثنين، والحمد لله كبروا'.
وتدمع عيناها وهي تضيف:'إن الكارثة وقعت عندما قتل ولدي الكبير في أحد أحداث العنف التي شهدتها منطقتنا، وترك زوجة صغيرة و طفلين.. واصبحنا ارملتين في البيت'.
ونشر على نطاق واسع تقرير خطيريقول ان عصابات القاعدة تجند ارامل للقيام بعمليات انتحارية وتستغل يأسهن من الحياة لتحبذ لهم الموت طريقا لانهاء عذابهن، ويبين الباحث الاجتماعي، فارس العبيدي، ، بأن المجتمع العراقي في طبيعته 'متحفظ على مشاركة المراة في الحياة العامة' ويفسر سبب استخدام الارامل في اعمال التفجير بقوله أنهن 'غير مشكوك في أمر قيامهن بنوع كهذا من العمليات ولا يخضعن للتفتيش، وهذا ما يجعل استخدامهن أسهل من الرجال'.
ثمة بيننا المزيد من  هذه المخازي، مما يضعنا في مصاف 'الاشياء' ولا اقول 'الامم' التي انقرضت.. غير مأسوف عليها.
ـــــــــــــــــ
كلام مفيد:
'الاخبار السيئة لها اجنحة'.
مثل انكليزي


435
البراغماتية ..
نسخة عراقية منقحة

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
 
 في اكثر من تصريح وتلميح، وفي غير مرة واحدة من السطور المكتوبة، وفي عدد من المحافل والندوات، يطلق سياسيون ودعاة وكتبة عراقيون الدعوة الى البراغماتية كمنهجية شرعية  لعرض الخيارات والافكار والتنافس على المواقع والامتيازات، والبعض يبشر بنوع 'محسن' من البراغماتية على اساس المحاصصة و'اسكت عليّ اسكت عليك' مقابل مَن يشتم البراغماتية بعد ان يضمها، جهلا، الى العولمة والليبرالية والشيوعية والكوسموبوليتية والسادية والوجودية والاباحية، والبعض الآخر يحيطها بريبة، من جنس الريب التي تحاط بها، عادة، الاصطلاحات الاجنبية الغريبة، فكل ما يأتي من ما وراء المحيط يجب التوجس منه والتحسب من قدرته على غزو العقول.
وطبعا، ثمة من رفع شعار البراغماتية فوق جميع الشعارات في ظروف اختلطت فيها الشعارات ببرك الدم، وعدّها 'المنقذ' والوصفة الجاهزة والفلسفة السياسية المطلوبة  وخشبة النجاة للوصول الى الديمقراطية المنشودة، واخذ منها اجتزاءات، فوظفها في غير موضعها، واستند فيها الى تعريفات من غير سياقها، وصعد فيها، ومنها، الى صورة ساذجة تبيح لاصحابها 'اللعب على الحبال' باعتبار ذلك جوهر البراغماتية ومعناها في التطبيق.
 وفي هذا الجو من التضبيب والاضطراب المفاهيمي والسياسي، ينبغي التذكير بان البراغماتية توصيف ابتدعه النموذج الامريكي في الحياة السياسية. انها الطبيعة الامريكية في التصرف واسلوب العمل، وهي –في تعريفاتها المدرسية- تعني الوسيلة العملية او الذرائعية او التبريرية التي تحقق فائدة آنية، ولا يهم ان تتم بمختلف الاليات غير الاخلاقية، لكنها القانونية في ذات الوقت، وبمعنى آخر هي العمل اللااخلاقي في اطار القوانين المرعية، ويختصر ' ساندرس بيرز' مؤسس المذهب البراغماتي (اواخر القرن التاسع عشر) مذهبه بالقول ان جدوى اي مشروع وفكرة تتحدد في نتائجها، وقد ساعدت هذه  الفلسفية في تفريخ مذهب 'الغاية تبرر الواسطة'. ولنتذكر، للفائدة، الطريقة الدعائية المحمومة للتنافس بين المرشحين الديمقراطيين للرئاسة الامريكية،  هيلاري كلنتون وباراك اوباما، إذ استخدم الطرفان كل الاساليب اللا اخلاقية في التشهير ببعضهما فيما هما من حزب واحد، ثم سرعان ما ائتلفا بعد ان انتهت جولة التنافس على الترشيح.
وللعلم، ايضا، فان الكثير من الدراسات والمعاهد والهيئات والزعامات السياسية الاوربية ترفض الفلسفة البراغماتية، وتعده بمثابة وصفة امريكية خاصة للتنافس في ساحة العمل والسياسة والحياة، وتطعن في نظرية 'النتائج هي الاهم' وفي نزعة اقصاء الاخلاق عن السياسة.
وإذ نقترب من الصفحة الثالثة من تجربة الانتخابات التعددية فان البراغماتية تدق ابوابنا باسوأ العناوين وصور التنافس، وسيكون مفيدا، كلما يحمى الوطيس، ان نؤشر بعض الالاعيب والمسرحيات والصفقات التي يعلن اصحابها 'المهم هي النتائج، وجميع الاساليب مشروعة' والفارق ان اصحابنا لا يقبلون بجميع النتائج، فبعضها يقتضي الحرب.. وقطع الرقاب.
ـــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــ
'كن سيد الافكار لا عبدها'.
ادوارد ليتّون

436
خمسون 14 تموز وساعة الحقيقة

عبد المنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

هل نحتاج الى خمسين سنة اخرى لكي نتأمل ذلك الحدث العراقي الانقلابي الثوري المثير في الرابع عشر من تموز 1958 من زاوية المراجعة والنقد والتحليل المسؤول، وقبل ذلك، لكي نضع منهجا جديدا في النظر الى دلالة انتقال الدولة العراقية من العهد الملكي الى النظام الجمهوري والى تحليل نتائج هذا التحوّل ودور ابطاله بعيدا عن النظرة الجزئية، العاطفية، الجانبية، التبسيطية، الاحتفالية التي عفا عليها الزمن.
انها ساعة الحقيقة، ويمكن القول، انها ساعة الحقيقة المتأخرة، فقد كان علينا، منذ زمن بعيد، ان نتأمل هذا الحدث ودروسه وجوانبه المختلفة، بروح النقد، وفي منهج علمي يقوم على مبدأ المراجعة ، وبخاصة بالنسبة لنا، نحن شهود الحدث وابناؤه، فقد كنا نتحسب كثيرا حين نقترب من اسئلته المحرجة، ونبقى ندور من حولها، كما يدور السحرة من حول الاشجار المقدسة، وخسرنا فرصا كثيرة، كان يمكن ان نستثمرها في توظيف المناسبة لبناء وعي تاريخي اكثر عمقا، ومعارف سياسية، اكثر فائدة وأثرا.
وليس مبالغة في القول ان المنهج السائد الذي استخدم في تقويم حدث 14 تموز كان يتسم بالواحدية وبضيق و”فئوية” زاوية البحث، فثمة، انصار الثورة، مَن يدافع عن المناسبة ومنجزاتها ذات الصلة بانهاء تبعية العراق للاستقطابات الدولية وببعض المشاريع والاصلاحات ونزاهة ووطنية وشجاعة زعيمها عبدالكريم قاسم، لكنه ينكر خطاياها وذنوبها، ويحرّم حق النظر الى تخبط المرحلة واخطاء الزعيم والنزعة وانحسار الحياة المدنية، وهناك بالمقابل من يجرّم الحدث ويبشّع صفحاته ويختار مفصلا واحدا يتعلق بالنخبة العسكرية التي اطاحت بالعهد الملكي وتصارعت على السلطة محل نظام برلماني مدني، واستقرار وسلام اهلي.
وبين ايدينا مؤلفات عديدة وصفحات كثيرة عن اسرار وخلفيات حركة جيش الدولة للاطاحة بالنظام الملكي، تثير الخواطر الطيبة اكثر مما تثيره من الاسئلة عما حل بالثورة، ولماذا انتهت الى سلسلة من الانقلابات والحروب الداخلية، وسقوط العراق في دوامة التدخلات الخارجية والانظمة الدكتاتورية، وفي ما بين السطور هناك الكثير من يقول “كان ينبغي اعطاء الفرصة الكافية لقاسم” مقابل من يقول “ماذا لو اعطي المجال لتجربة النظام الملكي البرلماني” كما نجد من يدخل في عبث المقارنة بين عبد الكريم قاسم وصدام حسين، او بين الملك فيصل الاول وعبد الكريم قاسم، او بين النفوذ الغربي في العهد الملكي مقابل النفوذ السوفيتي في العهد الجمهوري، وهي مقارنات ساذجة تخرج، في اقل معانيها، عن منهج المراجعة العلمية لهذا الحدث.
خمسون عاما تكفي، كما اظن، لنتخلص من اثر الفكر التاريخي الواحدي الانتقائي، الى فكر ينفتح على الحدث من زواياه المختلفة.. انها، مرة اخرى، ساعة الحقيقة المتأخرة.
ـــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــ
“ الكذبه تجول حول العالم في حين أن الحقيقه تتبع أثرها “
سيرجون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

437
زلزال سايكولوجي..
المرأة العراقية انتحارية


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

شئ يقرب من الزلزال: العراق انتج 43 امرأة انتحارية قتلن انفسهن، وهو اعلى رقم في العالم من النساء الانتحاريات. 
كيف حدث هذا؟ ومن اية زاوية يمكن ان نحلل إقدام امرأة عراقية على قتل نفسها تحقيقا لهدف سياسي؟.
هل يكفي ان نقول انها تعبير عن وجدان وطني  طاغ إزاء وجود اجنبي غير مقبول، وله امثلة في التاريخ والحروب والثورات؟.
ام نقول ان تلك النساء الانتحاريات كن في حال الاستعجال الى دخول الجنة من اوسع ابوابها، الاستشهاد، مما لا تتوفر لهن مثل هذه الفرصة السعيدة السانحة في اي حال؟.
 وهل نستسلم الى التأويل الذي يذهب الى سقوط نساء عراقيات في حال من اليأس حيال الحياة بعد ان فقدن عزيزا او شريكا او عائلة كاملة وبقين وحيدات بكمدهن يحلمن بالانتقام للضحايا الاحباء؟.
 وهل ثمة صواب في القول ان قوى شريرة استغلت حال نساء عراقيات يغلين بالحقد الطائفي، او الحساسية الدينية الصوفية، لتصنع منهن انتحاريات بامتياز؟.
/وهل يمكن حقا ان تفكر ام عراقية، وأي ام اخرى، حملت انجبت وربّت اطفالا بنتائج هذا العمل الشنيع الذي قد يؤدي الى احتراق اطفال مارة انجبتهم امهات اخريات؟.
 وهل نضع مسؤولية هذا السقوط الروحي الاسود والفريد في دلالته ونتائجه، فقط، على عاتق الاحتلال او على عاتق الارهاب او على عاتق الطبقة السياسية او على عاتق الحظ العاثر للعراق والعراقيين، فنريح ونستريح؟.
 وإذ يحسن الدخول في شعاب جميع هذه الاسئلة المتشابكة وتكوين مقاربات عن تلك اللحظة المشحونة بالاسرار والتي انتقلت فيها امرأة عراقية، من حالة عادية الى حالة لا عادية.. من اعتزاز بالروح الى الافتداء بها.. من توليف آدمي الى توليف مشكوك بآدميته.. من حرمة الخوف على النفس الى بشاعة قتل الانفس.
 اقول، إذ ينبغي التعامل الجدي مع جميع هذه الاسئلة فان الامر المهم، والمدخل اليها، يتعلق بالحقيقة التالية: ان ثمة تغيير خطير جرى على الطبيعة العقلية لاولئك النساء، وهو امر يسميه علماء النفس "غسل الدماغ" او عملية "تطهير وطرد" للميول العادية التي اكتسبها عقل الانسان في مجرى حياته، ثم، إدخال و"غرس" ميول جديدة في العقل المغسول، وهي عملية ايحائية تتسلط على العقل الذي اصبح "نظيفا" من انسانيته ولقمة سائغة لحشوة املاءات جديدة.
 وطبقا لدراسات العلوم السايكولوجية فان العقل يمكن ان يُجرد من سويته ونظمة الطبيعية تحت عوامل كثيرة مثل الصدمات النفسية المفاجئة، والتهديد الداهم، والمواقف المرعبة، والارهاق العصبي فوق طاقة الانسان، والالام الجسمية الفظيعة، فضلا عن مفعول بعض الادوية، كل هذه تحفز ترهق الخلايا الدماغية وتوصلها الى الى الحالة الشديدة الحرج بحيث تفقد اي اثر للقيم السابقة.
في بعض تلك الدراسات السايكولوجية ثمة اشارة الى واحدة من مصادر غسل المخ وهي "التمذهب" الذي يعبر عن نفسه في هيمنة النعرة المذهبية الجامحة على عقل وسلوك الشخص المتديّن.. لا تعليق.
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد
" تصبح الشهادة، احيانا، تهلكة ومأزق لا يسمحان للميت ان يسمع وقع نعال الملائكة الذين يجيئون الى قبره".
رياض رمزي(الدكتاتور فنانا)





438
حمايات سين..
وحمايات صاد


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com 

الانتهاكات المسجلة باسم حمايات المسؤولين والنواب والقادة السياسيين بلغت، في عدد ضحاياها ونتائجها وفضائحها، ما بلغته الجريمة المنظمة من اثار شنيعة، والفارق، ان حمايات (البعض) من هؤلاء تتمتع بسلطات فوق القانون، وتتجنبها اجراءات الردع، فيما تقع حمايات (البعض الآخر) تحت طائلة الحساب الذي يستحق ولا غبار عليه.
بل ان الاجراءات واللجان التحقيقية وحملة الاستنكار والتشنيع تشمل انتهاكات حماية (سين)ولا تشمل انتهاكات حماية (صاد) وقد تترصد، تلك الاجراءات، انتهاكات الاولى وتغطي انتهاكات الثانية، وقد نستمع الى سلسلة من الدروس التي تلقى علينا حول وجوب احترام القوانين وتذكيرنا بان القانون فوق الجميع حين تكون حمايات(سين) قد اعتدت على مواطنين آمنين او شاركت في اعمال الاجلاء الطائفي في الاحياء المخلطة او حامت حولها شبهة ارتكاب الاغتيالات والقتل، فيما تتهرب(الاجراءات) من ملاحقة الجناة حين ينتموا الى حمايات (صاد).
وبعيدا عن الرموز الرياضية، اذكّركم، فقط، بالاجراءات الرادعة والاستثنائية التي طالت رئيس مجلس النواب محمود المشهداني وبلغت حد المطالبة باقالته حين قام احد افراد حمايته بمخاشنة احد حمايات النائبة غفران الساعدى في ايار 2006 وتكرر الامر مع المشهداني حين قام افراد حمايته في حزيران 2007  بالتعدي على نائب الائتلاف فرياد عبدالله، وقبل هذا وذاك، ثمة حادث اعتداء وزجر من حماية عمار الحكيم على الصحفيين والجمهور انتهى بالاعتذار عما حدث وبضعة ضمادات لجروح الضحايا، كما اذكركم بالحملة العسكرية وطبول الحرب التي طالت النائب عدنان الدليمي غداة الكشف عن اشتراك ثلاثة من حماياته في  التعدي على سكان حي العدل والتورط في عمليات اغتيال، فيما جرى السكوت عن اكثر من عشرين انتهاكا وجريمة سطو وقتل واقتحامات غير قانونية في وضح النهار مسجلة على حمايات وزراء وزعماء سياسيين وموظفين كبار جميعهم من الاغلبية البرلمانية والحكومية، لعل اخرها ما حدث في البصرة  في ايار الماضي من اعتداء على صحفيين من قبل حماية وكيل وزير الثقافة جابر الجابري، وبعدها اعتداء حمايات وزير التربية خضير الخزاعي قبل اكثر من اسبوع على طلاب محتجين على ظروفهم القاسية.
المشكلة تتمثل في ان اولئك وهؤلاء يدافعون عن حماياتهم حتى النفس الاخير، ويصورون الحماة كملائكة او قضاة او مبشرين، وسبب ذلك لا يثير العجب اذا ما عرفنا ان طاقم الحماة هم اخوة واقارب المحميّ، وانهم لا يقومون بتلك الاعمال الشنيعة من غير اشارات من يده او غمزات من عينه او توجيهات من عنده، وهم، عدا عن ذلك، اصحاب فضل محفوظ على حياته، وفضل كبير على صفقاته وخطوط تجارته وجريان ثروته، وفضل اكبر على مستقبله ومعاركه المقبلة.
من زاوية يبدو ان ارواحنا بيد الذين "يَحمون" وليس الذين "يُحمَون" فلا نعرف مَن ارحم من الثاني.
ــــــــــــــــــــ
كلام مفيد

" وعند جهينة الخبر اليقين".
شعر 
 

439
حرب العمارة.. بصراحة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
 
  في حرب العمارة لفرض الامن وهيبة الحكومة اختلطت اعتبارات حق الدولة في الحضور ومنع سوء استخدام السلطة المحلية مع حق الانسان ان يحتفظ بالكرامة والحرية والاعتقاد، ويلاحظ ان المتحاربين يتبادلون الان الاتهامات بخرق قواعد الحرب والتزامات الدستور، حتى بدا ان ثمة تناقض بين موجبات استعادة القانون وبين فروض حقوق الانسان، فيما هما شئا واحدا: إذ يمكن(بل يجب) فرض القانون وحماية حقوق الانسان في ذات الوقت، والمشكلة هنا، ان المعنيين في الصراعات العراقية يتذكرون حقوق الانسان، فقط، حين يكونوا ضحايا للانتهاكات، أو انهم يتذكرون هيبة الدولة فقط حين تخرج السلطة من ايديهم.   
 وبدءا، لاينبغي السكوت، تحت اية ذريعة، على الانتهاكات التي ترتبك في مدينة العمارة ضد المدنيين، ومن بينها التعدي والفظاظة والمداهمات غير المرخص لها من المحاكم واشاعة جو التاليب وتصفيات الحساب واثارة المشاكل القبلية، كما لا ينبغي السكوت على محاولات مطّ الحملة الامنية خارج الاهداف المعلنة لكي تشمل تيارا سياسيا له حضور في المعادلات او جمهورا غير موال للاحزاب المتصارعة، او لاحلال تكية دينية  محل تكية اخرى، ومليشيا مكان مليشيا اخرى.
 وبالتفصيل، فان طعون التيار الصدري في ممارسات جرت في العمارة، لها ما يبررها، وبخاصة حيال بعض بصمات الحملة الامنية وابتعادها عن دواعي استعادة السلام الاهلي والقانون نحو التنكيل بكل من يرتبط بهذا التيار ويؤازره ومن يحتفظ بثقل ونفوذ مستقل في المدينة، فثمة الكثير من التقارير والمعلومات تضع علامة استفهام كبيرة حول بعض اهداف الحملة الاخرى، الموازية، غير استعادة الاستقرار والقانون، وبتفصيل اكثر، ثمة حق للصدريين في اعادة بعض فواصل الحملة الامنية  في العمارة  الى الصراع الفئوي بين اجنحة الطبقة السياسية الشيعية المتنفذة، وربطها بالتجهيزات الخاصة بالانتخابات البلدية والنيابية المقبلة.     
  غير ان الغيرة على حقوق الانسان لا ينبغي ان تطوي تلك الصفحة البشعة من الانتهاكات التي عاشتها العمارة طوال عامين واكثر.. فقد كانت المدينة اسيرة مليشيا جيش المهدي  ومحامها الكيفية وسجونها، وكانت تقيم، في الواقع، حكومة محلية 'دينية' تعطي لنفسها حقوق دولة كاملة السيادة، في ظل تواطؤ او تفرج حكومات بغداد، وتتصرف بحقوق الانسان كما يتصرف القصاب بذبيحة لا حول لها ولا قوة، وكانت حقوق المواطنة، من الملكية حتى الملبس والتنقل والزواج والطلاق والسكن والعمل والراي والاعتقاد(وهي حقوق معترف بها بالدستور العراقي ومعاهدات الامم المتحدة) رهن ترخيص مجموعة مسلحة لم يسمع الكثير من افرادها بقيم اسمها حقوق الانسان، وبعضهم (على مسؤوليتي) يقرأ المكتوب بعيون غيره، كما يقال.
حرب العمارة، بعد ذلك، مبررة مثل اية حرب ضد الارهاب والمافيات وتجارة المخدرات وعصابات الجريمة.. برغم المعني المقزز لكلمة الحرب واصوات والقذائف وسيل الدماء. 
ـــــــــــــــــ
.كلام مفيد
'سألوا فرعون من فرعنك، قال: الذين سكتوا حتى اصبحت فرعونا'.
حدوتة مصرية
 

440
المنبر الحر / حياد مرجعية النجف
« في: 16:33 04/07/2008  »
حياد مرجعية النجف
عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com         
 
 يحتاج المتحدثون باسم المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، وللحاجة ما يبررها، التاكيد، اكثر من مرة، وآخرها قبل اسبوع، على انه سيكون حياديا بين المتنافسين في الانتخابات المقبلة، وانه –وهذا الجديد- ينظر بعدم الرضا الى استخدام اسمه ومقامه، في السابق، لكسب الاصوات، وتمرير سياسات وسلوكيات ومواقف اضرت بمصالح الجمهور والبلاد وانتجت صراعات وصفقات شنيعة، واساءت، قبل كل شئ، الى سمعة المرجعية وهيبتها.
 واهمية التأكيد المتكرر على حياد المرجعية املتها، كما يبدو، تزايد محاولات بعض الاحزاب المتنفذة الاحتفاظ بمواقعها التمثيلية في السلطة والسطوة، عن طريق احتكار ورقة المرجعية، واختطاف التمثيل باسمها، ما عبرت عنها تصريحات وتلميحات في خلال مناقشة قانون الانتخابات، كما املتها كثرة من الدعوات التي اطلقها ممثلو ووجوه وشخصيات الوسط الشعبي في وسط العراق وجنوبه باجراء انتخابات تنافسية بعيدا عن تدخل المرجعية، بعد ان امعنت التنظيمات التي نالت تأييد المرجعية سابقا في التنكر لامانة الولاء وتحللت من التزامات الحد الادنى من فروض خدمة المواطنين والتعامل معهم بروح التضحية والمساواة واحترام الكرامات.     
 وفي هذه المرة، كان المتحدث باسم المرجعية واضحا بالاعلان الصريح عن ان 'المرجع السيستاني لا يمكن أن يدعم سرا أو علنا أية قائمة انتخابية' واكثر وضوحا في تسمية الاشياء باسمائها في عدم استعداد السيد السيستاني على ان يكون واجهة لتكرار واعادة ومواصلة التجربة السابقة التي وصفها المتحدث بـ'المآسي' وقال بالنص: 'المآسي، التي تلقاها الناس من تلك القوائم الانتخابية' والقول الفصل ايضا بإلنص غير القابل للتأويل على ان 'المرجعية الدينية ارتأت أن لا تدعم أية قائمة انتخابية في انتخابات مجالس المحافظات القادمة في ضوء ما أظهرته نتائج الانتخابات السابقة'.
 لنتذكر، فقط، بان القائمة الانتخابية التي تلقت دعم وتأييد المرجعية في الانتخابات السابقة، وكسبت اصوات الملايين باسمها وادارت الحكومة من زخم ثقلها الروحي والمعنوي وتحت معاينتها كانت تضم سبعة عشر جماعة سياسية دينية، سرعان ما تشظت، ولا تزال تتشظى، الى كتل وتحالفات وشخصيات متناحرة، كما تقاتلت على المناصب والنفوذ، وارتبطت باسم بعضها مليشيات وفساد  وتصرف  بالمال العام وانتهاكات بحق الملايين، وجرّت المدن والارياف التي صوتت الى جانب المرجعية الى حروب محلية وطائفية وتصفيات حساب ومزارع حشيش، وحوّلت الاحياء الى ترسانات سلاح وسواتر بين المتقاتلين، وسالت، في ظل ذلك، دماء زكية ودموع ساخنة، ولم يكن اصحاب الصراع وهوس الكسب الحرام  ليسمعوا  نصائح المرجعية ونداءاتها المتكررة بوجوب العودة الى العقل والاشفاق على المدنيين الابرياء والتوجه، بدل التقاتل، الى تأمين الخدمات والاستقرار ولقمة العيش الآمنة للملايين.
 لقد منحت مرجعية السيد السيستاني الى بعض(اقول بعض) الفئات السياسية الدينية فرصة تاريخية لتعبر الى ضفاف المستقبل كقوة شعبية، لكنها سقطت في منتصف الطريق، تلك هي العبرة التي تسجل لمقام السيد السيستاني.. لمن يعتبر طبعا.
ــــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــــ
'الاعتراف بالخطأ فضيلة'
حكمة

441
المعاهدة..
وجهان لمواقف دول الجوار


عبدالمنعم الاعسم

 لا يصح ان لا يأخذ العراق مخاوف وقلق جيرانه وشركائه في هذا القوس الاقليمي بعين الاعتبار حين يتجه الى عقد معاهدة عسكرية وامنية استراتيجية مع دولة مثل الولايات المتحدة لها مصالح وخصومات ومشاكل في المنطقة، ولا يصح-بعد ذلك-تجاهل قدرة هؤلاء الجيران على التشويش على المعاهدة والتأليب ضدها وارباك الاصطفاف الوطني وتشجيع اعمال التجييش والانشقاق والتبعثر في معسكر العملية السياسية.
 اقول، لا غبار على حق الجيران ودول المنطقة(وحتى دول اخرى لها مصالح في الاقليم) في التعبير عن الخشية من المعاهدة قيد البحث والنظر اليها بعين الريبة، وهو حق مكفول بحقائق المصالح المشتركة الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية المشتركة بين العراق وهذه الدول وترابط وتشابك الامن الاقليمي بينها، وتمثلا لطبيعة العلاقات والمصالح الدولية في مرحلة تاريخية تشهد استقطابات متسارعة وخطيرة.
 وبعيدا عن الانفعال والتطيّر فان على العراق ان يقدم الى جيرانه وشركائه في الامن الاقليمي، وبمثابرة وجدية، تطمينات كافية عن سلامة نياته،  والتزامه قواعد الجيرة والشراكة، وحرصه على تنمية العلاقات البناءة معهم، والحفاظ على مصالحهم وعزمه على تطوير اجواء الامن والاستقرار في المنطقة ، وعليه-قبل كل شئ- ان يقدم لهم تفسيرات مقنعة لدواعي التوقيع على مثل هذه المعاهدة وعلى انها غير موجهة ضد امنهم ومصالحهم، وسيكون ذلك في صالح العراق واستقراره وامنه، ويدخل، ايضا، في عداد عناصر القوة العراقية على طاولة المفاوضات مع الجانب الامريكي .
 وإذ تاخرت الحكومة العراقية في التحرك البرنامجي الجاد، والاستباقي، لجهة الاستماع الى مخاوف دول المنطقة، وغابت عن توضيح تصوراتها للمعاهدة وبنودها وظروفها وخلفياتها، وعن إظهار حسن النية والبصيرة وبعد النظر، من موقع الاستقلال، ومن زاوية الحقوق الامنية المتساوية، فان هذا خلق ردود افعال اقليمية ضارة بمكانة العراق وسمعة الحكومة و-اهم من ذلك- ضارة باجواء الاستقرار والعلاقات الودية مع هذه الدول وبمستقبل هذه العلاقات ، بل وادى هذا التأخر (والتهرب من مناقشة الملف) الى تداعيات وتوترات وريبة اقليمية، انتهت الى مواقف استفزازية وغير مقبولة من دول مجاورة بلغت حد التهديد والوعيد والتدخل السافر في الشأن العراقي.
 في قواعد العلاقات الدولية  وميثاق الامم المتحدة ثمة، باختصار، حقان متشابكان، الاول، حق الدول المستقلة بعقد  معاهدات مع اية دولة اخرى في اطار القانون الدولي، مقابل حق الدول الاخرى بالتعبير عن مخاوف من هذه المعاهدات ما اذا كانت تعتقد انها تشكل تهديدا لها، وحقها المشروع باتخاذ اجراءات وقائية سلمية لاحتواء خطر التهديد، ومن هذا الباب يمكن ان نطل على الوجه الثاني من مواقف دول الجوار من المعاهدة قيد الجدل.     
ومن وجهة النظر الدبلوماسية، كان الجانب العراقي سيكسب كثيرا لو انه عمل على احاطة الدول المجاورة باتجاهات التفاوض مع الولايات المتحدة لتوقيع معاهدة ثنائية بينهما، وكان سيعطي مثلا في حسن النية وتأكيد مبادئ الشراكة الامنية الاقليمية مع اولئك الجيران، على الرغم من انهم جميعا، ومن دون استثناء، يرتبطون بمعاهدات واتفاقات امنية وعسكرية مع دول اخرى، وان الكثير منها يهم العراق ويمس مصالحه وامنه، وآخر تلك المعاهدات هي المعاهدة العسكرية التي اعلن عنها بين ايران وسوريا، فيما العراق يقع بين الدولتين، وفي مرمى بنود هذه المعاهدة.
على ان هذا التأخر لم يكن مبررا للحملة الاستفزازية المنظمة لبعض دول الجوار ضد العراق، وبخاصة ايران، ومحاولاتها التدخل السافر في الشأن الداخلي العراقي حتى خارج موضوع المعاهدة، وبدت تلك المواقف كما لو ان اصحابها اوصياء على الدولة العراقية، او كأن العراق من توابع تلك الدول، وان شعبه قاصر عن التصرف وادارة شؤونه.
 ولعل اخطر ما في هذا المشهد، ما يتسرب من معلومات تكاد تكون مؤكدة، عن قيام اكثر من دولة مجاورة بدعم(اكرر: دعم) جماعات محلية منفلتة لخلق استقطابات في الخارطة السياسية، المضطربة اصلا، ولتجهيز ارضية جديدة لتصفيات حساب نائمة مع الاخرين على الارض العراقية، وقد تجسدت معالم هذا التدخل في انشطة وتحركات كيدية، مسجلة في مسؤولية دول الجوار واتباعها، تجاوزت انتقاد المعاهدة الى الامعان في تخريب النجاحات الامنية التي تحققت عن طريق زيادة تدفق الاسلحة والمعدات والاموال الى الجماعات المسلحة الخارجة على القانون، والمهزومة،  بل ان ايران اوقفت التزاماتها بتقديم مساعدات الى العراق في مجال الطاقة الكهربائية  والغذاء والدواء.       
وفي هذا الوجه من الملف تكمن، ايضا، واحدة من فضائح السياسة، ومفارقات المواقف، وازدواجية المعايير(التي شكوا منها يوما) إذ تنخرط دول  خليجية، مثل قطر،  في الحملة الاعلامية والدبلوماسية ضد العراق في وقت تستقبل على اراضيها اكبر ترسانة لاسلحة الولايات المتحدة الضاربة واكثر قواعدها نشاطا  عسكريا في المنطقة، والاكثر غرابة، هنا، ان دولا اقليمية تتخاشن مع جيرانها، وترتاب ازاء بعضها، وتتبادل الاتهامات، على مدار الساعة، بالتآمر والتدخل والتجييش، لكنها اتحدت ضد العراق وصارت تلقي عليه معايب وظنون تمارسها هي باكثر الاساليب انتهازية. 
نعم، ثمة تقصير من الجانب العراقي في التحرك لتبادل الرأي مع الدول المجاورة حول بنود المعاهدة العراقية الامريكية، وثمة حق لهذه الدول ان تعبر عن ارتيابها وخشيتها من ان تكون عرضة للتعدي، لكن على هذه الدول، المعنية بكرامتها، ان لا تدوس، الى هذا الحد، على كرامة العراقيين، بالتصرف كوصية عليهم.     
ــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


442
الامل..
هذه المعركة النزيهة


عبدالمنعم الاعسم  
الامل الذي يعيشه العراقيون، الان، ليس ممارسة غريزية عفوية انطلقت من احتباس شديد في الحياة اليومية، وليس رجاء يائسا مكبوتا فرّ من مكابدات مديدة يعانونها، ولا هو امنية يائسة يلقونها من افئدتهم المهمومةعلى قارعة الطريق، وليس جرعة من التهدئة الخادعة يدارون بها دوامة الاخطار والتفجيرات وليالي الرعب والجثث والموت، وغارات الكوابيس والضغوط.
وهو الى جانب ذلك غير قابل للملكية للحكومة او لاية مؤسسة سياسية، وليس حصيلة لمنة جهة او مرجعية او تكية، كما انه ليس معادلة رياضية تنطلق من افتراض استُهلك كثيرا عن قيام الثورة في حال استنفذ الشعب حكمة الانتظار وامكانيات التغيير السلمي للواقع، فان (ثورة الامل) قد تنصرف، كما يقول 'اريك فروم' الى مدارات ابعد من دائرة علم الثورات الاجتماعية.. الى السايكولوجيا، مثلا، ويشاء 'الدوس هاكسلي' ان يجعل في كتابه (افضل العوالم) من الامل قوة سحرية لصناعة التغيير.   
الامل العراقي البائن على سطح المشهد الاجتماعي-السياسي الجديد هو،  باختصار، احساس نبيل ومعرفي لما يحيط مشروع الحياة الذي تتشبث به الملايين، وما تتطلع اليه من افاق انشقت عن صبرها وتضحياتها، ولما انحدرت اليه سطوة العنف  ومؤسساتها وسمعتها نحو اضعف هامش لها منذ سنوات، وهوتعريف لتفاعل الذات الشعبية المدنية مع ضوء ساطع، هذه المرة، في النفق الطويل الذي حشرت فيه على يد الرطانات المسلحة المختلفة، وهو باب قد يفضي الى الفعل الشعبي البناء والتغييري بعد سنوات ثقيلة اوصدت فيها جميع الابواب، وخوضت طوالها جميع المشاريع المعلنة في الوحل وسوء السمعة، وتصدعت خلالها صورة الكيفيات الشللية والفئوية والطائفية .
قلت 'قد تفضي' استدراكا لمحذور الانكفاء، فقد يُهزم هذا الامل الذي تعيشه الملايين العراقية في العبور الى ضفاف الحياة المدنية الجديدة خلال معركة الايام المقبلة، وامتحان الانتخابات، والحملة الامنية لدحر الارهاب وفرض القانون وتفكيك مستعمرات العنف الاهلية، اخذا بالحسبان ان مؤسسات وزعامات سياسية نافذة تنظر(الآن) بقلق  الى هذا التحول في المزاج الشعبي، وتعد العدة للانقضاض عليه، او اعادته الى دوامة الانتظار والتخويف واليأس. 
الذي يناقش المارة وسواق السيارات وعمال المطاعم ونساء الاسواق وباعة الخضر والقماش والادوات المنزلية حول مستقبل الاوضاع وبصدد ما جرى في البصرة وحي الصدر وما يجري في الموصل سيكتشف ان العراقيين اتحدوا بفكرة واحدة تتمثل في استحسان قيام سلطة واحدة هي سلطة الدولة، والاستعداد للانضمام اليها عن وعي يعبر من فوق مشيئات الطوائف، كما سيكتشف ان ثمة وعي لمصادر الخوف من ان تتخلى الحكومة الاتحادية عن وظيفتها تحت ضغط محاكم المساجد وفروض المحاصصة، ومن ان تتخاذل امام تدخل الجيران واملاءات اصحاب القوة والمال.. ولهذا الخوف ما يبرره، بل وما يجعله مشروعا، في وقت ظهرت توا مؤشرات الضيق من حق العراقيين في ممارسة الامل، ببيانات وزعت في البصرة، تحذر من التمادي في التحرر من سلطة الخوف والردة.
ــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــ
'ينام عميقا من لا يملك ما يخاف من فقدانه'.
سايكولوجيا


443
المنبر الحر / دردشة مع ارهابي
« في: 09:42 25/05/2008  »
دردشة مع ارهابي   

عبدالمنعم الاعسم 
 مرة اخرى، بعد ثلاث سنوات، وفي بغدادايضا، اقف(صدفة) امام عراقي من افراد شبكة القاعدة برتبة داعية(اعلامي) احاوره عن قرب من موقع الند للند، فكلانا طليقين، لكن كلانا مطلوب للاخر خارج المكان الذي جمعنا، وهو منزل صديق قديم في حي عُرف بالسخونة: هو مطلوب لي، او على وجه الدقة للعدالة وحكم القانون اللذين اؤمن بهما عن جرائم بحق المدنيين لا ينكرها، وعن دعوة للردة لا يتنصل عنها ، وانا مطلوب له بظنة الكفر وجريرة التحريض ضد  التطرف ومشيئة محاكم الشارع التي يستطيع ان يعقدها صاحبنا في اية لحظة فيكون حاكما وجلادا في آن.
 وكما اظهر "الامام الارهابي" في المرة السابقة ثقافة شديدة الاضطراب حيال الحياة ورسالة التسامح ومعنى الدولة والقوانين والمستقبل، فقد شاء هذا الداعية (ابو براء) ان يتحدث عن القيم والانسان والموت بعبارات إنشائية كانها نشيد مدرسي حفظه عن ظهر قلب، واصر ان يمر بالزمن كفضلة من الحياة لا لزوم لها .. يا للعجب!.. هكذا قلت مع نفسي.. أي فكر هذا؟..  فالزمن عنده ماض فقط, فتوحات واسماء وقصص متجهمة تنتهي، عادة، بالجنة او عذاب النار.
عبثا حاولت ان اجرجر الداعية الى الحديث عما يجري هذا اليوم، هنا في العراق، او في مكان آخر، وما سيجري يوم غد، فقد كان بابا موصدا، وحين سألته عما يريدون ان يحققوه للعراق في المستقبل ردد بصوت مسموع "المستقبل.. المستقبل" ثم اطلق ضحكة سرعان ما قطعها وعاد عنها الى التجهم والاستعاذة من الشيطان الرجيم وكأنه ارتكب معصية وجوب الاعتذار من الخالق.
 كان الجدار سميكا بيننا، لحد اني لم اكد اسمع كل ما يقول. وحتى اشجعه على الافصاح عن ارائه حاولت ان امثل دور الساذج الذي لا يعرف إلا طراطيش الاخبار، وقد حققت هنا نجاحا محدودا، وعندما قلت له ان عليكم ان تشرحوا اراءكم  وتتناقشون حولها حتى لاعدائكم كنت كمن لدغته في موضع حساس فقد جاءني منه صوت مبحوح ذكرني بصوت ايمن الظواهري: انهم لا يفهمون غير لغة القوة.. ثم ماذا نقول لنسائنا اللواتي ينتظرن بفارغ الصبر امرا بالهجوم الاستشهادي، ويستعجلن الوصول الى رحاب النبي؟ هل نقول لهن عليكن ان تنتظرن حتى يقتنع الكفار بارائنا؟ .
 قلت لابي براء: لكن، الم يتناقض هذا مع الاية القرانية "وجادلهم بالتي هي احسن" او مع " ولكم دينكم ولي دين"؟ فاعتدل الرجل في جلسته وكأنه قبض علي متلبسا بجريرة الجهل وضعف الحجة، وقال: انهم جاءوا غازين الى ارض الاسلام، ولم يبركوا فرصة للجدال والمناقشة ولا لكفاية حق الدين، فاستحقوا القصاص. ولم أشا ان احاججه باسباب الهجوم على مركز التجارة الدولي ولا الهجمات على قطارات مدريد وانفاق لندن وملاهي بالي حتى اظهر له الجهل مدخلا الى نقاش كنت انتظره بفارغ الصبر.. وساعاود الى عرضه.
لم يكن هذا اللقاء مع (ابو براء) الارهابي صدفة، ولم يكن مخطط له ايضا.. باختصار كانت ثمة "مشكلة عائلية" تربطه باصحاب المنزل، واحسب انه غامر بهذه الزيارة واللقاء بـ(غريب) والحديث معه، فان افراد القاعدة ينقطعون، عادة، عن اسرهم واقاربهم، وينصرفون عنها الى علاقات جديدة باسر اخرى من "المجاهدين" واحسب ايضا ان الدائرة ضاقت من حول افراد تنظيم القاعدة، وبخاصة في العاصمة، بعد ان  قطعت اوصالهم وفككت ملاذاتهم (معسكراتهم السرية) في شارع حيفا والفضل والاعظمية وهور رجب والعامرية وابو غريب والطارمية  إذ اصبحت هذه الاحياء  فخاخ لهم.
 سألت (ابو براء) بسذاجة باردة: هل انتم الذين قتلتم المطران فرج رحو في الموصل؟ ردّ بسرعة ممزوجة بفخر وعناد: نعم.. ماذا في ذلك؟ قلت: لكن النبي محمد حرم قتل عصفور عابر، واورد في حديث له ان عصفورا قتله صياد شكا الى ربه يوم القيامة  بالقول ""يا رب ان فلانا قتلني" ابتسم الرجل ساخرا، وقال كمنتصر: مشكلتكم هي انكم لا تعرفون اصل الاحاديث التي توردونها، او انكم تجتزئون منها ما يفيد حجتكم، واضاف " تكملة الرواية هي قول العصفور ان فلان قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة".
* وهل في قتلكم للمطران المسالم منفعة تذكر؟
ـ نعم، بل منافع كثيرة لو تعلمون.
*ما هي؟
ـ المحكمة الشرعية التي قضت بقتله تعرف تلك المنافع، ونحن نثق في قراراتها، ثم انظر كيف عم الكفار النحيب والخوف والكمد.
* ولم القتل؟ ولم تتفاخرون بالقتل؟.
ـ لان الله سبحانه امرنا بقتل الكفار بقوله "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" وقال في سورة المائدة " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ".
وفيما كنت اجاهد للاحتفاظ بانضباط  شكلي فوق غليان لا امسك عنه وبدور الساذج المشغول عن هموم السياسة الى اعالة اسرته. سألته: انكم تجازفون بحياتكم.. الا تفكرون بحياة مدنية وبمسرات الدنيا؟ قال: جميع هذه المسرات خادعة.. انها ضلال وكفر وتطيل وقوفك ام حساب الاخرة.. المجاهدون الذين يفتدون بارواحهم في سبيل الله  موعودون بمسرات الجنة، يوم يستقبلهم الملائكة بالتهليل ويزفونهم الى مسرات الجنة.. خالدين فيها ابدا.
المكان الذي التقيت فيه صاحبنا تحول الى كابوس كانه فُرّغ من الاوكسجين والالوان والعيون.. كل شئ  معتم، وكل الكائنات متشابهة ومن غير عيون، حتى ضاق العالم شيئا فشيئا عن فسحة صغيرة، لا تزيد عن قبر.
من داخل القبر جاءني صوت (ابو براء) يقول وهو يتوعد باصبع غليظ يرتجف: موعدنا الحساب.
 لا ادري هل كان (ابو براء) قد قبض عليّ متلبسا بتمثيل دور الجاهل وانا امطره بوابل من الاسئلة المدرسية 'المصنعة' الساذجة عن الحياة والموت والتسامح والشهادة واولي الامر واهدار الدم، ام انه كان مسرورا بلقاء متعلم، او نصف متعلم، يجهل اصول الدين وملازم الجهاد في نصرة الاسلام لكي يكسب مثابة الله عن موعظة حسنة يقدمها باللسان، إن لم يقدمها بالقلب 'وهو اضعف الايمان'.
 ولم يكن الرجل لينكر انه ارهابي، لكنه كان يتحدث عن ارهابيان، او مفهومان للارهاب، الاول، ارهاب الاسلام لاعدائه 'وترهبون عدو الله' والثاني ما اسماه بارهاب القوى الصليبية والصهيونية والكافرة.. الاول مشروع ما دام يتم، بالنية المسبقة، على يد المجاهدين بصرف النظر عن الاذى والموت الذي قد يصيب الابرياء، والثاني ضد الشرائع، على الرغم من المجاهدين انفسهم عملوا في خدمته عقودا، ونالوا عونه ودعمه وسلاحه في الكثير من الاحوال.
 وحين سألته عما إذا يعتبر نسف جسر الصرافية أو تفجير سوق الصدرية  وذبح عراقيين ابرياء امورا مشروعة امران تقرب فاعلها الى الجنة ورضى الله ورسوله، صمتَ قليلا، ثم ارسل اليّ نظرة استنكار وريبة وراح يشتم الامريكان والشيعة والاكراد والحكومة بسيل من العبارات المتداولة في خطب الظواهري، ثم قال من غير حماس: انهم يغسلون عقول السذج من ابناء الامة ويجعلون منهم ابواقا لهم. نسف الصرافية اوقع نصف بغداد بيد المجاهدين، وتفجير الصدرية كان تفجيرا لبؤرة كانت مستنقعا للخوارج، لكن الصليبيين عملوا على تزوير الحقائق وارادوا ان يطفئوا نورالله بافواههم، خسئ شانهم.
 اردت، بحذر كبير، ان اجر (ابو براء) الى الحديث عن سبب عدائهم للحياة المدنية: للشوارع والاثار والحدائق والالعاب الرياضية والفنون والانشطة الترفيهية والسياحة وحفلات الاعراس والتعليم العام، لكنه كان يتهرب من هذا المفصل من الحديث مكتفيا بالقول: ان دولة العراق الاسلامية المظفرة ستهدم 'بعد ان تستيقظ الامة' كل ما بناه الكفر والاحتلال والانظمة العلمانية في هذا البلد وستلقي به الى المزبلة لتبني بدله عراقا جديدا هو عراق الخلافة الذي يقدم الاسلام الحقيقي الى العالم على هدى دولة طاليبان الشهيدة، وعندما الححت بطلب المزيد من الايضاحات لم يتحرك خارج حدود الجمل الانشائية التي بدت كنصوص مرخص بها، ممنوع عبورها.   
 في مناقشة (ابو براء) العراقي الذي يقاتل في صفوف شبكة القاعدة ظهرت لي جملة من الحقائق، منها موصول بالمأزق الذي تتخبط به الجملة الاسلامية الجهادية المتطرفة، وعزلتها، واستنفاذ شحناتها الدعائية والتعبوية، وانحسار حماستها وجاهزيتها وتفاؤلها بالنصر القريب، ومنها-وهو المهم- ما يتصل بانهيار حلم تصنيع بيئة عراقية دينية سلفية شديدة التطرف والعدوان، قابلة لاستقبال واحتضان المشروع الارهابي الطاليباني، لكن الاكثر اهمية هو ان (ابو براء) كان خلال حديثه مشتتا بين ثلاث نزعات متصارعة، عراقية رافضة للبربرية المستوردة من وراء الحدود، وطائفية مريضة تجد بالمذابح الجماعية ضد اتباع الطائفة الاخرى شفاء لها، وغريزية بمواجهة الغريب الوافد، جيوشا وافكارا ومدنية.
 وجهت الى (ابو براء) سؤالا عن سبب نكسات القاعدة في العراق، فلم يجد تعليلا  لذلك غير العودة الى الماضي.. قال: لقد انكسر المسلمون في معركة احد، لكن الانتصارات توالت بعد ذلك. قلت 'لكن التاريخ لا يكرر نفسه دائما.. ثم من قال بان القاعدة هي الاسلام نفسه؟' وهنا، في هذا السؤال،اكتشفنا بعضنا بعضا كما لو في صدفة: اكتشف الرجل اني لم اكن ساذجا.. واكتشفت انه لم يكن سعيدا بحشوة الرطانات التي تعلمها.
ــــــــــــــــــ
'لا مخلوق اشجع من الحصان الاعمى'. 
حكمة يونانية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة ( الاتحاد) بغداد





444
جملة مفيدة
ـــــــــــــــــ
عبدالمنعم الاعسم

متى يتصلب عودهم؟

 /الجدل حول اعادة تشكيل الوزارة يثير السؤال عما اذا كانت الطبقة السياسية الجديدة(واخص بالذكر التشكيلات التي ولدت بعد 9/4/03)  قد استفادت حقا من تجربة السنوات الخمس الماضية من عمر التغيير، وما إذا شبت عن الطوق وتخلت عن تلك المناورات المدرسية الساذجة لكي تتاهل لدور اكثر فاعلية ومسؤولية قبل ان يجتازها قطار المرحلة، ويمزقها استحقاق التغيير.
/وقد يقال ان الحاجة الى المراجعة وامعان النظر في نتائج تجربة المحاصصة السياسية تهم جميع الاحزاب والفئات والكيانات السياسية العراقية من دون استثناء، بمن فيها الجماعات المعارضة للعملية السياسية، وهو قول صائب وسليم، لكن حصيلة هذه السنوات اشّرت لنا صورة فاضحة لتخبط الزعامات الجديدة، وقد عبرت عن نفسها في الموقف المضطرب من العودة الى صفوف الوزارة، على اوضح ما يكون.   
/ومن هذه الزاوية يمكن القول ان البناء السياسي الجديد في العراق يحتاج الي رؤيا سياسية جديدة تضع جانبا تلك الاساليب والمنطلقات الرثة القائمة على خيار المحاصصة، فيما الرؤيا السياسية الجديدة بحاجة الي إرادة مجتمعية متبصرة تحل محل إرادة الفرد التي اختزلت الارادات وصادرت التنوع.. وفي أساس هذا المشروع التاريخي البديل تتعزز تشريعات إقامة الاحزاب، وفرص ظهور الزعامات السياسية على نحو سليم.. فالحياة الحزبية، الطليقة والحرة تمثل هوية البناء الجديد ومبررها والمانع امام خداع الجمهور وتجهيزه بقيادات لا تستحق ولا تملك مؤهلات هذا اللقب /على ان النظرة الموضوعية لدور الاحزاب في العهد الديمقراطي المنشود تتجاوز التبسيط المتداول عن حق الحزب، أو مجموعة الاحزاب المتكافئة، في إدارة الحكومة وبسط سيطرتها علي مقاليد السياسة العامة الي ما هو أخطر من ذلك، ونعني به حق الاحزاب الاخري، أو التحالفات، في الامتيازات السياسية والاعلامية المتكافئة للتعبير عن مواقفها أو لمعارضة الحكومة من دون قهر أو تحجيم.. فالديمقراطية الجديدة تمنع هيمنة حزب (أو أحزاب) الحكومة علي الامتيازات العامة التي تحكمها مبادئ المشاركة.
لقد غرس نظام الدكتاتورية البائد مفاهيم متوحشة في ثنايا الدولة الموروثة، وبالتحديد، في ثنايا الوعي السائد، حول حقوق السلطة علي المواطن وامتيازات حزبها إزاء الاحزاب الاخري وقد جري ذلك تحت عنوان (الاحتكار المطلق) لكل شيء، بما فيه التحكم في مصير البلاد وإرسال الملايين معصوبي العيون الي ساحات حرب كارثية دون ارادتهم، وليس من غير مغزي، ان تتسلل مثل هذه النزعات السياسية المدمرة، ولو بأشكال متفاوتة، الي الوسط السياسي الذي يفترض ان يكون بديلا عن النظام السابق، مثل هوس السلطة، وازدراء الحياة الحزبية، والتوعد بالاخرين، وميول الاسئثار، عدا عن غياب النظرة السياسية الي معادلة (الحكم والمعارضة) وهو الامر الذي يعد ركنا اساسا في النظام الديمقراطي.
 /وإذ تشترط الحياة الحزبية السليمة إشاعة ثقافة الاقناع والتفاعل، وتحريم أساليب الاغواء أو الاكراه أو الرشى طريقا الي استقطاب الجمهور فان بعضاً من الممارسات السياسية تكفي للتحذير من الردة الى ذلك الكابوس.. ومن يقلل من شأن هذا الخطر عليه ان يتملى جيدا اسباب تأخر اعلان اعادة بناء الهيكلية الوزارية الجديدة.
ـــــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــ
"النزعة الدكتاتورية هي ام الكبائر".
نجيب محفوظ
malasam2@hotmail.com



445
المنبر الحر / قضية طارق عزيز
« في: 23:22 02/05/2008  »
قضية طارق عزيز



عبدالمنعم الاعسم
malasasm2@hotmail.com

للوهلة الاولى، يبدو ان السؤال (او الاعتراض) مشروعا حول معنى مساءلة رجل دبلوماسي عن جريمة اعدام وحشية طالت رجال اعمال وتجار مدنيين ابرياء في محاكمة كيفية مخالفة لابسط قواعد العدالة، فشؤون الدبلوماسية، كما هو معروف، ابعد ما تكون عن شؤون السوق المحلية والاسعار وملف المخالفات إن وُجد فعلا، والدبلوماسيون ابعد ما يكونون عن المشغولية في قضايا التجار والتجارة، فكيف إذا كان الامر يتصل بمسؤول قاد دبلوماسية الدولة طوال اكثر من ثلاثة عقود من الزمن؟ 
ويبدو، ان وجاهة هذا التساؤل البريء في الظاهر، براءة الذئب من دم يوسف، لم يعد يدور في محافل واقنية وتصريحات محسوبة على النظام السابق، بل تجاوز الى نقابات محامين وهيئات اقليمية وحتى اوربية تعني(في الظاهر) بالعدالة، وقد نقلت شاشات ملونة تعليقات لمدافعين(او منافحين) بلغات مختلفة وهم يستبشعون وجود وزير للخارجية في قفص الاتهام، في قضية تتعلق بمحاكمة لتجار عراقيين جرت قبل ما يزيد على عقدين من السنين، وقد افترض بعضهم (وهنا السقوط المهني) براءة المتهم بصرف النظر عما ستقدمه المحكمة الجنائية العراقية من ادلة ووقائع عن علاقته بالجريمة.
على انه من السابق للاوان القول ان طارق عزيز، الذي سلم نفسه طواعية الى القوات الاجنبية، سيدان (او سيبرأ) عن تهمة التورط في مجزرة التجار العراقيين، غير ان سجل وزارةالخارجية العراقية تحت قيادة طارق عزيز لم يكن نظيفا من جرائم تصفيات واغتيالات تمت من خلال اقنية الدبلوماسية وتحت عباءتها لاكثر من سبعين شخصية عراقية وعربية واجنبية، ساحاتها الكويت وعدن والخرطوم والقاهرة  وعمان وبيروت ولندن وباريس، وينبغي ان نتذكر هنا جرائم اغتيال حردان التكريتي في الكويت وامين رشدي في عدن ومهدي الحكيم في الخرطوم وطالب السهيل في بيروت وغيرهم كثيرون على يد رجال طارق عزيز، وقد طرد، بسبب ذلك، الكثير من سفراء النظام واعتقل وحوكم دبلوماسيون احترفوا الاجرام واعمال الشقاوة، وامتدت اصابع الاتهام (وهذا المهم هنا) الى “مهندس الدبلوماسية العراقية” الذي يقف الآن في قفص الاتهام ليتساءل ببراءة منكسرة: ما علاقتي، انا الدبلوماسي ووزير الخارجية باعدام تجار؟” .
الوجه الثاني لقضية طارق عزيز يمكن ان نرصده في الحقيقة التالية: ان تحويل الدبلومسية العراقية الى فرع من فروع دولة المخابرات، والى ذراع ضاربة مضرجة بالدم والجريمة، والى جهاز يطارد العراقيين ممن يعارضون الدكتاتورية في كل عواصم العالم، تم على يد “هذا الماثل امامكم” حصرا وتحت امرته فعلا، وكان لبعثاته الدبلوماسيته الناعمة، آنذاك، محاكم شوارع تنتشر في كل عواصم العالم.. تحكم وتهدر الدماء.
والوجه الثالث لهذه القضية يتلخص في سؤال استباقي: لماذا لم تنظر المحكمة الجنائية في ملف الاغتيالات الخارجية التي سجلت في مسؤولية طارق عزيز، وهناك محاكمات في عواصم عديدة اشارت الى دوره المباشر فيها.   
اما الذين يتباكون على براءة طارق عزيز، فليس كل بكاء هنا نبيل .. الم يات اخوة يوسف اباهم عشاء يبكون؟.   
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“اكثر الشهود صدقا هي قمصان الجناة”.
                                       امل دنقل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

446
دردشة
على مشارف مدينة الصدر


عبدالمنعم الاعسم
 malasam2@hotmail.com

  سالني مراسل اجنبي، في بغداد،  كان يتابع اخبار المعارك ووقائع العصيان المسلح في مدينة الصدر:
* من هم هؤلاء المسلحون؟ وما هو انتماؤهم السياسي؟.
* قلت، انهم موزعون على ثلاثة مجموعات، الاولى، مجموعة من المجرمين المحترفين ممن لا ينتمون الى جهة سياسية، ولهم مصلحة "مهنية" في انفلات الوضع الامني في الحي وفي غياب سلطة القانون حصرا، ولديهم تنظيمات تشبه الى حد بعيد هياكل المافيات التقليدية، وهي اخطر المجموعات واكثرها دموية، والفئة الثانية، جمهرة من العاطلين(اغلبهم من افراد الامن والجيش السابق) الذين يتعاطفون مع التيار الذي يقوده السيد مقتدى الصدر وهم ينتضمون في ما يشبه الخلايا التي يقودها "اشقياء" او "زعماء احياء" او طامحون سياسيون يؤمّنون اجورا لافراد مجموعاتهم بمختلف الطرق والوسائل، وقد ترتبط بعض مجاميعهم بجهات خارجية تمدهم بالسلاح والمال، اما الفئة الثالثة، فانهم الملتزمون بقيادة الصدر والمنخرطون في ما يسمى بجيش المهدي، وهم اكثر تنظيما وانضباطا، لكنهم ايضا، اكثر تدريبا واعدادا سياسيا من غيرهم.
  *ثم سألني المراسل: وماذا يريدون من مقاتلة الحكومة؟ اقصد ما هي اهداف هذا العصيان المسلح الذي يتسبب يوميا بسقوط ضحايا بالعشرات؟.
 *قلت له: على الرغم من ان جميع هذه الفئات تقاتل القوات الامنية بطرق حرب العصابات وتتعاون في ما بينها للحيلولة دون دخول الحكومة الى مدينة الصدر، لكن من الواضح ان لكل فئة من هذه الفئات اهداف ومصالح، فمسلحو الجريمة المنظمة يدافعون بشراسة عن "مدينة" من غير حكومة ولا استقرار، فان نفوذهم وحركتهم وجرائمهم واعمال الاختطاف التي يتفننون ويبرعون فيها وينفذونها في الحي وخارجه، ستكون في مهب الريح في حال استتباب الامن وفرض سلطة القانون، فيما تتركز اهداف فئة العاطلين على تامين معيشة، او فرص عمل، لهم ولاسرهم، وفي سبيل ذلك لا يتورعون عن ارتكاب الجرائم واعمال العصيان تحت شعارات طائفية تحاكي شعارات الصدريين، اما اهداف التيار الصدري وانصاره فهي سياسية ومليشياوية، عنوانها وقف المداهمات والاعتقالات ضد انصار التيار والاعتراف بـ"سلطة" جيش المهدي باعتباره المفوض عن سكان المدينة والممثل لهم، وقد تتجاور الاهداف طابعها المحلي الخاص بمدينة الصدر الى ملفات سياسية مثل التضامن مع مسلحي البصرة او الرد على بعض مواقف الحكومة والسياسات الامريكية في العراق.
*ثم عاد يسألني: وما هو الحل برأيكم؟ اعني، كيف السبيل الى استقرار هذا الحي؟
قلت: الحل موزع على اربعة مستويات، الاول، انهاء عسكرة مدينة الصدر وتفكيك خلايا الجريمة المنظمة باعتباره ضرورة وطنية  وليس مطلبا حكوميا فقط، والثاني، انهاء خيار الحل العسكري والحصار الصارم القائمان على ردود فعل، او على  العقاب الجماعي للسكان، وثالثا، التعجيل بتقديم خدمات لمليونين من سكان الحي وتوفير فرص عمل لعاطليه بما يقلص اسباب الانخراط في هذا العصيان المسلح، ورابعا، عودة زعماء التيار الصدري الى حكمة العقل بالانتقال الى النشاط المدني وانهاء التشكيلات المسلحة الخارج على القانون والكف عن تقديم الغطاء للعصابات الاجرامية ، بما يعزل مشروعهم السياسي عن تلك المشاريع الارهابية والاجرامية.
*واخيرا سألني المراسل الاجنبي: وماذا سيحدث بخلاف ذلك؟ قلت متسائلا: وهل قرأت في اسطورة قديمة عن شعب انقسم الى شطرين احياء ينحبون على قبور اموات.

447
لا ينبغي الصمت.. اغيثوهم


عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

اختطاف المدنيين الابرياء يدخل في عداد ابشع جرائم العصر، واختطاف المدنيين الابرياء ثم استخدامهم في الصراعات السياسية امعان مضاعف في الجريمة البشعة، واختطاف الابرياء ثم قتلهم، تنكيلا او ثأرا، يمثل سقوطا في نوع البشر الذين يرتكبون جريمة الاختطاف، اما اختطاف المدنيين الابرياء ثم قتلهم وتغييب اثارهم بحيث لا تعرف مصائرهم، احياء ام اموات، فان كلمة جريمة بشعة لا تعني شيئا يضاهي الحال المروّع للضحايا والكابوس اليومي لاسرهم.. فكيف اذا كان الضحايا فتاتان بعمر الورد، اختطفتا منذ اسبوعين من امام مدرستهما في بغداد.. وهذا ما حصل في ما حمله النداء التالي الذي تسلمته من اقارب الضحيتين بعنوان: "اغيثونا".. يقول:
“ها قد مر على أسرتين عراقيتين أسبوع ثقيل وكارثي(الآن اسبوعان) منذ فاجعة خطف الطالبتين هند وهيفاء في منطقه الحسينية-بغداد و من أمام ثانوية الخنساء للبنات ولم يظهر الى الان أي بصيص أمل يشير على الاقل إن الضحيتين على قيد الحياة.
الادهى والامرّ إن كل مناشداتنا وتوسلاتنا قد ذهبت أدراج الريح حيث لم تتدخل أي جهة رسمية أوحكومية، لا أقول لكشف الجناة وإنما لألقاء القبض عليهم لأنهم معروفون للقاصي والداني وهم عصابه (....) في المنطقة والتي يتزعمهما(....) الذي لديه سوابق جرمية كثيرة.
نناشد من خلالكم الرئيس جلال طالباني ونائبيه والسيد رئيس الوزراء وأعضاء البرلمان العراقي ومنظمات حقوق الانسان وحقوق المرأه وكل شرفاء العراق.. نناشدكم بتبني قضيتنا والتدخل السريع لأعاده المخطوفتين لأسرتيهما.
نخاطب ضمائركم الحية أن تعيشوا مشهدنا المأساوي وتمدوا يد العون لطالبتين بريئتين كانتا غاية في الهدوء والادب ولاشأن لهما أو لأسرتيهما الفقيرتين بالسياسة من قريب أو بعيد.
ورغم إن الاسرتين من الطائفة السنية الا إن لدينا صلات قربى وجيره بأخوتنا الشيعة ولم يحدث مايكدر صفو هذه العلاقة حتى في ذروة الاحتراب الطائفي الذي تسببت به القاعدة ولهذا كنا وما زلنا وسط أخوتنا وأهلنا في الحسينية.
أغيثونا...أغيثوا لهفتنا...يرحمكم الله.
أقارب المخطوفتين”.
اعتقد بان أي واحد منا يقرا هذا النداء ويضع نفسه في موضع الضحية، تحت الاختطاف، والعذاب الذي تتعرض له، والاذلال الذي تعانيه، ثم الموت الذي قد يكون نهاية لهذه المحنة سيسأل نفسه: ما العمل من اجل انقاذ حياة المختطفين من المدنيين الابرياء ؟ وما السبيل الى معاقبة اولئك الوحوش الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم المروعة؟ ثم ما حال الفتاتين هند وهيفاء الان بين يدي مختطفيهم؟ بل ما ذنبهما لكي يتعرضا الى الاختطاف، ثم المصير المجهول؟.
لا ادري ما الذي نعمله، نحن الذين نتحسس رقابنا كلما سمعنا عن حادثة اختطاف مروعة، لكنني اعرف اننا يمكن ان نشعر بالخجل من صمتنا حيال هذه الجريمة وعجزنا عن ان نعمل شيئا لاجمل وانبل ابنائنا.. اقول: يمكن ان نشعر بالخجل، واضيف: وبالعار.

ـــــ
كلام مفيد
ــــ

“ لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك .. إلا إذا كنتَ منحنيًا”.
مارتن لوثر
ــــــــــــــــ
جريدة (الاتحاد) بغداد

448
المنبر الحر / الوزارة.. الوزارة
« في: 17:40 18/04/2008  »

الوزارة.. الوزارة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

 ليس من دون مغزى ان يضع ملف اعادة بناء الحكومة نفسه الان على طاولة البحث بقوة، مندفعا الى الواجهة بعد احداث البصرة وتداعياتها الامنية والسياسية والاسترخاء النسبي في العلاقات بين الاطراف المشاركة في العملية السياسية  وتحت فروض اخرى كثبرة ليس اقلها شأنا الشلل الذي يضرب  دورة الخدمات واعادة البناء والمشاريع المختلفة، وبعد ان اصبحت مواقف الجهات المعنية بهذا الملف واضحة عند طلبات وشروط ومقترحات.
 وتفيد كواليس الاتصالات واللقاءات بين اركان الكتل المختلفة ان ثمة تقدم حصل في ما خص عودة المستقيلين من ممثلي كتلة التوافق والقائمة العراقية، وان التوقيتات والفرص التي يطلبها الفرقاء للمناقشة وتحديد مواقفهم ضاقت الى حد كبير، وان الهيكلية النهائية، وبدائلها، هي الان قيد اللمسات الاخيرة "وفد تعلن في اية لحظة" على حد ما ذكره لنا احد القريبين من دائرة المشاورات، ويستند المتفائلون بقرب طي هذا الملف الى اللهجة الجديدة الايجابية التي تحملها تصريخات المعنيين بالامر، على الرغم من ان تجربة عام من الجر والعر لم تشجع المراقبين على الثقة في صدقية الاقوال على الفضاء التي كثيرا ما تتناقض مع الافعال على الارض.
 ويبدو، في ضوء تحليل المعلومات والمؤشرات، ان ثمة في طريق اعلان الهيكلية الجديدة للوزارة مشكلات مركبة يتعلق بعضها، وربما اكثرها وضوحا، في واقع الخلافات والتجاذبات، والصراعات ايضا، داخل بعض المعسكرات المعنية، حيال الصيغ المطروخة لشكل الوزارة الاخير، وتظهر خطورة هذا المشهد في تحبيذ خيار "مط الفرص" وابقاء الازمة الوزارية معلقة من رجليها "حتى لا تتفاقم الخلافات وتتطور الى المزيد من التفتت والانشقاق" كما ورد ذلك منسوبا الى سياسي من الاكثرية البرلمانية.
 بكلمة موجزة، ان ثمة في الطبفة السياسية من يدفع الى ابقاء ملف الترميم الوزاري مفتوحا من غير تسوية  ظنا انه يكسب من هذا الحال اكثر مما يخسره، وانه في ظل وزارة مشلولة اقدر على اللعب والتاثير على المسار السياسي واكثر قدرة على المناورة، ويتوزع اصحاب هذه الارادة  والنيات على اكثر من طيف وخط، بالاضافة الى اركان الفساد وجيوب الجريمة المنظمة والمراهنين على تفجير الساحة السياسية، وكل هؤلاء يتحركون في فضلات الازمة الوزارية وعلى هامشها ومن خلال نتائجها وبالتنسيق مع بعض ابطالها.
 وبكلمة اكثر ايجازا، ثمة في طريق اعادة هيكلة الوزارة احجار كثيرة ونيات تعبرعن نفسها في ما يعلن من تصريحات متضاربة ومن تلميحات غير مريحة ومن نيات تنقصها النزاهة، فيما السؤال المشروع ينط هنا عما اذا سيبادر رئيس الوزراء الى السباحة ، مرة اخرى، ضد التيار وصولا الى الضفاف الاخرى.
ـــــــــــــــــــ
كلام مفيد

"لا تؤجل عمل اليوم الى غد".
حكمة
.






449
تأشيرات عما حدث ويحدث


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

على حائط مدرسة من مدارس منطقة المشتل شمال شرقي العاصمة بغداد (ويقال في اكثر من حائط وفي اكثر من حي) يمكن للمار ان يقرأ شعارات باللون الاسود تندد برئيس الوزراء نوري المالكي وبعضها يصفه بـ(ابو سفيان) ولا يخطئ احد في تعريف الجهة، او الجماعة، التي تقف وراء هذه الشعارات، وعلى شاشة احدى الفضائيات التي تناصب شخص رئيس الوزراء العداء (دون غيره) شاهدنا صبيان يمزقون صور المالكي وسمعنا طائفة من الهتافات والتنويهات بوجوب رحيل الحكومة، كما طالعنا تقارير دولية اضافية واخرى من منظمات انسانية تتحدث عن انتهاكات (لا اشك في الكثير منها)  ترتكبها القوات الامنية، العراقية والامريكية على حد سواء، وقد عرفت عائلتين (احتفظ بهويتهما) فقدتا اموالا ومقتنيات خلال مداهمات تعرضتا لها.
مقابل ذلك يمكنك ان تسمع في اكثر من مكان لمواطنين غير متحزبين ومن اصحاب اعمال ومثقفين بان المالكي كان على حق في التصدي للجريمة واعمال التهريب والمليشيات، وهو على حق بائن في دعوته الى التيار الصدري بالنأي عن دائرة هذه الانشطة التخريبية وعدم حمايتها او تسييسها، وتتكامل هذه التاشيرات مع حقيقة التحول في الاصطفاف السياسي على مستوى ممثلي الكتل الذين يتحدثون برضى عن ادارة المالكي لازمة البصرة ووجاهة حماسته لفرض سلطة القانون وهيبة الدولة، وبعض هؤلاء الساسة كانوا يتناقشون، عشية الازمة، لإعداد مذكرة نيابية بسحب الثقة عن المالكي وحكومته، وقد حضرت بنفسي جانبا من تلك المناقشات، وعلمت خلالها ان ما يزيد على سبعين نائبا ابدوا استعدادهم للتوقيع على المذكرة، وعندما سألت قائدا سياسيا، منذ يومين عما حل بهذا التحرك اجابني القول: الرجل كان في مستوى المسؤولية، وعلينا ان نثبت اقدامه سوى ان محسوبين على طاقمه خذلوه في معركته التي نعتقد انها معركة نزيهة وفي صالح دولة القانون.
وإذ يبذل الرئيس جلال طالباني، وهو داينمو الحلول الوقائية، جهدا استثنائيا لكي يعود التيار الصدري الى ميدان العملية السياسية بصفة مدنية وبعيدا عن إشهار السلاح فان المراقبين، وبينهم مراسلين اجانب، سجلوا اهمية هذا التحرك بوصفه مشروعا وقائيا يحول دون المزيد من التدهور الامني والسياسي على جبهة العلاقة بين التيار الصدري والحكومة، غير ان المؤشرات المقلقة في هذا السياق تأتي من زاويتين، الاولى، من تلك التصريحات “النارية” التي تنسب الى محسوبين على اركان التيار الصدري، والثانية، من محاولات تجري في المعسكر المقابل لاختزال معركة دولة القانون الى معركة امتيازات ومغانم ووزارات ومراكز وتصفيات حساب.
على انه ليس من دون مغزى ان يتراجع الطابع المبكر لمواجهات البصرة وتداعياتها  في بغداد بوصفها حربا داخل طائفة واحدة، الى طابع آخر ينبغي امعان النظر في قسماته واسئلته.. وسنحاول ذلك على قدر ما يسمح الاجتهاد وما يقع تحت المعاينة.
 
ــــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــ
“ ان الامة والعالم بحاجة الى متطرفين مبدعين.. لا جهلة”.
                        مارتن لوثر كينج
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد



450
دكتاتور في كتاب استثنائي لكاتب استثنائي


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

هل يمكنك ان تقرأ طوال خمسين سنة، وتعبّ  مئات الروايات والدواوين وكتب علم الاجتماع والدراسات المستقبلية وتصبر على اكمال قراءة موبي ديك وخطب صدام حسين ومؤلفات اسحاق دويتشر وبرزان التكريتي والمركيز دي ساد ونيتشة وامهات كتب التراث، بثلاث لغات حية، العربية والانكيزية والروسية ثم تؤلف كتابا واحدا لا تتجاوز صفحاته على المائة والاربعين صفحة عن صدام حسين إذ يتدحرج في مثل هذه الايام الى خارج المعادلة بعد ان تسببت حماقاته في احتلال العراق ؟.

 باختصار هذا ما حدث لرياض رمزي.. العراقي الذي دخل اول مرة، قبل اقل من عام، تجربة التاليف، وربما الكتابة، على الرغم من انه قادر على التاليف لسعة ما انجزه في المجال الاكاديمي،  ومقتدر على الكتابة لكثرة ما يحتفظ من انتباهات وشروحات وخواططر واوراق وربما صفحات مكتوبة .

 اعرف رياض رمزي منذ ما يقارب السبعة والاربعين سنة. كنا، في بغداد، مجموعة من الاصدقاء جمعتنا صبوات النضال والتغيير والثقافة، ورصّتنا ببعضنا اكثر قراءة المؤلفات، وقل سباق الركض فوق امهات كتب المرحلة في مختلف اجناسها، سوى ان رياض تأخر عن الكثير منا في الالتحاق بالكتابة وبالصحافة، لكنه سبق الكثير منا الى التهام الكتب  ومعارفها، فوق تعليقاته التي اشتهرت بخفة الروح، وطرافة الملاحظة، وليس في الامر غرابة كثيرة اذا ما عرفنا بان رياض رمزي جاء شلتنا من عائلة علم  ونضال، اشير بذلك الى والده، طيب الذكر، المناضل والمربي والكاتب عيسى غيدان ، والى شقيقه عصام غيدان الباحث الرصين في شؤون العمارة والبيئة، وقد زاملت الوالد حين عمل مصححا لغويا في جريدة 'طريق الشعب' في سبعينات القرن الماضي، كما عرفت الشقيق من خلال حضوره المثابر في المجالات النقابية والاكاديمية.

 وحين قلّبت كتاب رياض رمزي(الدكتاتور فنانا) الصادر عن دار الساقي في لندن – 2007 تساءلت مع نفسي قبل ان احفل بمضامين الكتاب: ما الذي اقنع رياض اخيرا ان يدخل تجربة التاليف؟ وسرعان ما اعانني الصديق الصحفي سعدي عبداللطيف العارف بالامر على الاجابة عن السؤال، فقد بعث الكاتب بمقالة الى مجلة (ابواب) التي تصدر في العاصمة البريطانية فلفت موضوعها العميق والاستثنائي انتباه محرر المجلة الكاتب اللبناني حازم صاغية لكي يتبنى فكرة الكتاب ويحض اصدقاء الكاتب ومعارفه على 'انتزاع' الهتاف الدفين من فؤاد رياض رمزي، اما هو فقد اضاف الى ذلك القول 'كان اخي عصام غيدان اكثر هؤلاء ثقة بنجاح مغامرة كهذه' ويعطيه دور  دليل الرحلة المضنية 'وعندما استدير اجده واقفا يشير بيده الى المكان ويراقب النتيجة بفضول.' كما فاض بالاعتراف بجميل موقف شريكته وحرصها على حماية المغامرة بالقلق الغريزي عليها.

 والآن، ماهي مغامرة رياض رمزي بالتحديد، وقد كتب عن صدام حسين شيئا مختلفا عما كتبه  الكثيرون بامتياز.. انه باختصار دخل على خلوة الدكتاتور ورصد من هناك حركاته تحت سطوة الاحلام الروائية الشائهة،  وفوق الكرسي 'لكني وجدت ان من يجلس على الكرسي قبالتي لم يكن غير بلادي'.

 عندما تقترب من شخصية صدام حسين لتحللها وتخرج في تعريف وجيز لها (ونحن في ايام سقوطه المدوي) عليك ان تتفحص ادوات الحفر التي تحملها جيدا، وان تحتسب للاسئلة الهامشية التي تعترضك سبيلك، على الرغم من ان الكثير من تلك الاسئلة ستبدو مضرجة بالدم، فثمة دماء على رداء رئيس الدولة السابق ليست، بالضرورة، دالة دكتاتوريته ودمويته وشناعة اعماله.

 واحسب ان هذا حصرا  كان قد ورد في بال رياض رمزي وهو يتجه الى تلك المهمة الشاقة في كتابه (الدكتاتور فنانا) يقول:'كنت ادرك انه شخصية عصية على التعريف، ولا يمكن إلا الحدس بما ينوي فعله، إذ برغم سهولة الوصول الى صوره وانصاب تماثيله التي ملأت ارجاء البلاد، يكاد يكون استخلاص منهجه في الحياة مستحيلا. لم تكن سلطته الموحلة تشبه غير ارض وعرة المسالك ومجموعة استثناءات من غير الممكن القياس عليها، فهو لم يجلس قبالة كاتب سيرة كي يساعده على الافصاح عن نفسه، بل استعان باثنين رسما صورة له وفق ما يشتهي هو، فلم يظفرا إلا بوجه من وجوهه العديدة، كقيصر الذي فضل قبل موته ان يتلفع وجهه الفعلي بحجاب. كان علي البحث عن وجه الوجوه ذلك'.

 ثم يمضي الكاتب في الحفر..'عندما تفحصت طريقته في الاداء وجدت انها تشي بوجود سر، ولم اكن اعرف ذلك السر، لكنني كنت اتشمم وجوده مثل سماع ترددات مبهمة لنغم بعيد لا يستطيع المرء ان يتعرف الى ايقاعه، إلا بايقاظ لحنه الغافي في الذاكرة، عن طريق طرق متواصل بمقدم حذائه... بيد اني كنت حذرا من إعلان وجود سر لغياب وسيلة فكرية تكشف عن طريقة تتيح الوصول اليه. تعين علي التريث طويلا بانتظار ان تستسلم العقدة وتُحل، هكذا كنت اشعر بوجود معنى مراوغ يفلت مني عندما اكون على وشك الامساك به..'.

 ويتقبل الباحث شروط التحدي، إزاء 'بطل' ادمن اثارة العواصف الرملية.. 'ان حربا طويلة خاضها البطل على مدى ثماني سنوات جعلته متمرسا في اثارة الخلافات. وما كان لخصام ان يحدث من دون ان تكون له حصة فيه. عندما انتهت الحرب مع ايران، كان البطل يبحث عن تلك الحروب السعيدة، فدعم المسيحيين في لبنان ضد سوريا، وهدد بحرق نصف اسرائيل، دخل في مواجهة مع بريطانيا عندما اعدم الصحافي البريطاني بازوفت، كان يتمنى المواجهات التي اطلق عليها تسمية شعبية (الكونة) بتوسل يضارع الابتهال' ويتوقف الكاتب ليذكرنا بالاتي: 'ان طفلا اصيب بعلة خطيرة في طفولته سينتج بطلا يوقف النمو الطبيعي لصانعه... عندما كان هذا الطفل يتشاجر مع آخرين كان الحدث لا ينتهي بانتهاء الشجار، بل يبدأ بانتهائه'.. 'عندما بدأت عمليات(ثعلب الصحراء) قال البيان الرسمي انهم جبناء لا يقاتلون وجها لوجه.. الممواجهة لديه معارك محورها الوحيد شجاعة بدنية وارادة' ويخلص هنا الى القول 'هذه هي دراما انقياد الشخص الى ظله. الجري وراء صورة بطله التي ابتدعها في حكاياته. عليه ان يضفي قوة غير عادية على بطله لادخال خوف غير اعتيادي لدى اعداء يظهرون قباله في المنعطفات'.

 ودائما يعيد رياض رمزي في مهمته القارئ الى محطات في سيرة بطله، الدكتاتور، ومن هناك يطلق حزمة ضوء على ما سيفعله هذا الشخص برهينته.. العراق.


451
المالكي انتصر ومقتدى لم يهزم


عبدالمنعم الاعسم – بغداد
malasam2@hotmail.com 
 
ثمة بعد وقف الاشتباكات في حروب البصرة ومدينة الصدر الاخيرة كلام كثير عمّن كسب، ومن خسر، ولا يخطئ المراقبون هنا في مهمة رصد مناسيب الكسب والخسارة لدى كل معسكر، إذا ما سلمنا بان الاشتباكات جرت بين الدولة والجماعات المدنية المسلحة.. بين القانون والخارجين عليه.. لكن المهمة ستزداد تعقيدا عندما يتطلب الامر تسمية الجهات السياسية التي خاضت الصراع بالنيابة عن الدولة من جانب والمتمردين عليها من جانب آخر، وبكلمة، لا يسع احد ان لا يأخذ بالاعتبار خلفيات هذه الحرب في الصراع بين التيار الصدري وانصاره والمتعاطفين معه وبين القوى المتنفذة في كتلة الائتلاف، إذ وصلت سلسلة المخاشنات والاصطدامات في المحافظات الوسطى والجنوبية الى ما يشبه الحرب المفتوحة بين الجانبين.
لقد ارادت الدولة فرض استتباب الامن في الحدود المتاحة وإنهاء ‘حكم المليشيات’ على مقاليد مدينة البصرة وسحب مفاتيح المصالح واعمال التهريب والعنف من يد المسلحين وتخفيف عسكرة الشارع البصري الذي ارهق السكان، ولم تكن هذه العناوين سرية، او بمثابة فرضيات، فقد طرحها رئيس الوزراء علنا خلال وجوده في البصرة، في حين خاض الصدريون المواجهة تحت شعارات درء التعديات والمداهمات والاعتقالات التي تقوم بها القوات الامنية، ومنع بغداد من فرض وصايتها وارادتها على البصرة التي تملك قيادات منتخبة وحصانة دستورية، ثم اضاف الصدريون، في حمية المجابهة، طلبا بوجوب انسحاب القوات الامريكية والبريطانية من المدينة، ثم تطور الى ‘انهاء الاحتلال في العراق’.
ومن هذه الزاوية فان’معسكر’ الحكومة ربح، في نهاية الامر، معركة تثبيت مرجعية القانون والدولة على الرغم من ان هذه المرجعية كان يمكن ان تتحقق باسلوب يوفر الدماء والخراب في  اكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد، في حين لم يهزم معسكر المعارضة الذي حاول(عبر بيان  زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر)  ترسيم الحدود بين مسلحين متمردين على الدولة، يستحقون العقاب القانوني، وجمهور موال لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر من حقه التعبير عن موقف معارض للحكومة واحزابها المتنفذة، ويجب الاستدراك هنا بان الكثير من الحروب الاهلية تنتهي الى ما انتهت اليه حروبنا العجيبة، بلا منتصر ولا مهزوم.. لا غالب ولا مغلوب، لكن خبراء الحروب الاهلية يعتقدون بان هذه النتيجة البلاغية ليست في صالح السلام الاهلي احيانا إذ انها تعني التحضير لجولات اخرى اكثر ضراوة.   
باختصار، الحكومة انتصرت في اكثر من جبهة، وهزمت في نقطة حسم المعادلات القلقة، في حين هزم معارضوها في اضفاء صفة الشرعية على العصيان على القوانين، واخلوا مواقع مهمة في الساحة، فيما انتصروا، مقابل ذلك، في جبهة التفاوض بالظهور في مظهر المسؤولية الوطنية كرقم لا يمكن العبور من فوقه.
 على ان كيمياء الهزيمة والانتصار لا تظهر، عادة، في عدد قتلى المحاربين فقط بل وايضا في النتائج النهائية، السياسية والعسكرية بوجه خاص للمعارك، اخذا بالاعتبار ان قتلى الجانبين هم ضحايا خسرهما الشعب العراقي قبل غيره، وان فداحة الخسارة يمكن قراءتها في حقيقة ان هؤلاء الضحايا ينحدرون من قطاع الشبيبة، في سن الانتاج والعطاء.. في وقت احوج ما يكون العراق الى سواعدهم.
ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

‘إذا ابتسم المهزوم فقد المنتصر لذة النصر’...
                                        وليم شكسبير

452
هذه الحروب العجيبة

 

بغداد تحت الصفر وفوق التحمّل


 

عبد المنعم الاعسم

alasam2@hotmail.com

 

 كنت سأسميها حروبا كوميدية لولا اني المح من فوق ساتر في اعلى البناية التي اقيم فيها ببغداد جثثا لاطفال تنقل من ساحة مواجهة بين مسلحين يصنعون لنا، بحماسة اسطورية، هذه الحروب، مما لا يجيز المزاح او الخروج على جدية الموقف.
لكن، برغم ذلك، ثمة الكثير مما يجري لما يسمونه في العاصمة 'نقاط التوتر' يبقى بمثابة كوميديا، ولنقل كوميديا سوداء، رسم دورنمات بعض ملامحها حين قرر انها انفجار في انفجار المساخر، او هي(رحم الله المتنبي) ضحك كالبكا، او بكاء جنوني يختم به الحشاشون، عادة، اماسي الحبور والعبث والمودات المشبوهة.
اي حروب هذه؟ مَن يقتل مَن؟ سألت شابا ريفيا يقف وراء راجمة صواريخ في حي مكتظ بالسكان: 'ماذا يحدث؟' هز لي كتفه اشارة بانه لا يعرف، ولا يريد ان يعرف.. وعلى حاجز آخر مُنع رجل عجوز من المرور. قال للصبيان المسلحين 'انا مصاب بالسكر. نفذت حبوبي، واريد تأمينها من صديق في الطرف الاخر' قالوا له: مُت بمنزلك افضل من ان تموت برصاصة طائشة'.
في التفاصيل.. اقصد في نقطة اندلاع هذه الحرب.. ثمة حق للقوات الامنية فرض القانون في اي مكان يتعرض فيه الى انتهاك وتجاوز، ومنع التعدي على الاستقرار الهش اصلا، وانهاء المظاهر المدنية المسلحة، وتفكيك عصابات الجريمة، لكن هذا الحق لا ينبغي ان ينفذ الى اعلان الحرب، ووضع بغداد العاصمة تحت نقطة صفر  وعلى سطح سياسي مخزون بالبارود والتوتر.
وفي التفاصيل، ايضا، شكاوى من انتهاكات ومداهمات واعتقالات عشوائية واعمال قصف وترويع وتجويع وقتل مجاني لا مبرر له، واتفاقات على التهدئة مُزقت ولم يُلتزم بها، مما يستدعي، بل ويوجب، إعلان الاحتجاج.. اقول، إعلان الاحتجاج، لا اعلان الحرب.
المراقب الموضوعي لا بد ان يسجل انه لا موجبات فرض القانون ولا الاحتجاج على الانتهاكات يبرران تحويل العاصمة واكثر احيائها ازدحاما بالسكان الفقراء الى ساحة حرب..وان هوامش التسوية السلمية القائمة على تصفية الجيوش غير النظامية من جانب ووقف الانتهاكات والتمييز السياسي من جانب آخر قائمة في هذه اللحظة التاريخية التي يمر فيها العراق، إلا اذا قيل بان محاولات احتواء الموقف استنفذت فرصها، ولا احسب انه قول حكيم اذا ما عملنا تشريحا دقيقا عن قرب لمجريات الامور .
ثم ان الحرب كخيار، وفي اي حال من الاحوال، وحتى من جانبها الاخلاقي المجرد، وحتى حين تكون حربا وطنية هي كراهية بشعارات اخرى، انها –في العادة- تعطي الفرصة لاي طرف من اطرافها لكي يرسم ملامح 'العدو' بالكثير من البشاعة ليصبح قتله مشروعا 'ويجهز الجندي عند ذهابه الى المعركة بابشع صورة عن الخصم' كما كتب رياض رمزي مؤلف (الدكتاتور فنانا) عن الحرب لدى صدام حسين من حيث هي 'تحويل الكراهية الى احدى ضرورات الحفاظ على النوع'.
انها ساعة الحساب ولا وقت لاضاعة الوقت.

 

2

صباح يوم الخميس 27/3 شاهدت صبيانا مسلحين يجبرون اصحاب المحال عنوة على إغلاق محلاتهم، وهم يتحدثون عن عصيان مدني بدأ توا ضد الحكومة والاحتلال، وشاهدتهم يصرفون تلميذات وتلاميذ مدارس الى منازلهم باطلاق الرصاص من فوق رؤوسهم (اي ذعر حل بالصغار وعائلاتهم؟)وسمعت، قبل ذلك، ان السيد مقتدى الصدر الذي دعا الى هذا العصيان اوصى برفع المصاحف واغصان الزيتون، وقرأت ان اصحاب العصيان لن يجبروا احدا غير مقتنع على المشاركة فيه، واخذت كل ذلك مأخذ حسن الظن والجد والثقة، وحين شاهدت بعض مظاهر التعدي والترويع في الشوارع، هذا الصباح، لم القِ بالمسؤولية على جهة، او كيان او حزب، لكني اكتشفت ان التقارير التي قرأتها طوال عام عن خارجين على القانون او متمردين على توجيهات السيد الصدر، او عن اختراقات في اجهزة السلطة لم تكن لتبالغ في الامر.

كما اكتشفت الشيء الاخطر من كل ذلك، متمثلا في ان ثمة ريح من الكراهية ونزعة الانتقام صارتا تضربان في مفاصل الوسط السياسي الذي خاض انتخابات العام 2005 وفاز فيها(الائتلاف الشيعي) ما يحمل على الاعتقاد بان ثمة إرادة مرسومة لتفجير هذه الساحة، يذهب الكثيرون الى انها من تدبير جهات وراء الحدود، واذهب الى انها علة داخلية في المقام الاول تتصل بخطيئة خلط الاوراق الدينية (الطائفية) والسياسية، وعدم الاحتراز كفاية إزاء محاذير المحاصصة، إذ انبتت الكثير من الاسئلة الشيطانية، ومقدمات لسلسلة من الحروب لا نعرف اين ستندلع لاحقا.

وحل منع التجوال، ثم حل معه خوف غريزي من المجهول يمكن قراءته بيسر في تلك الاستعدادات المحمومة لسكان العاصمة لادخار الطعام والشراب، والجاهزية الحذرة في التعامل مع المجابهات المسلحة في الاحياء والساحات العامة، والاحتماء من الهاونات والصواريخ والقذائف المجنونة، وعادت مرة اخرى دورة الغلاء والمتاجرة بقوت الناس، واختفت طائرات الورق التي كانت الى ما قبل يومين تحلق فوق السطوح الواطئة، واشتبكت خطوط الاتصالات مع بعضها، وهرع الكبار الى نشرات الاخبار، يقلبون التصريحات والتلميحات والنيات، واندس اطفال بعمر الورد مع حقائبهم المدرسية تحت التخوت والاسرة والسجاجيد، واختلطت اصوات مكبرات المساجد ببعضها، تحض على الحرب والقتال والكراهية وتدمير “العدو”.

احد القادة الفرنسيين الذين شاركوا في معركة واترلو الشهيرة قال عن سبب هزيمة جنوده في تلك المعركة امام القوات البريطانية: “المشكلة ان جنودي لم يقاتلوا عدوا يكرهونه” وفي موقع لبرابرة القاعدة تقول”وصية” لاحد الانتحاريين الذين فجروا سوق الحلة ما يلي: “انتظر بفارغ الصبر اللحظة التي سيهلك فيها على يدي اكبر عدد من اعداء الله.. انني ابغضهم”.

ترى، مَن يتعلم ممن؟   

3-

اشتبكت ظهر يوم الاحد 30/3 في بغداد مؤشرات غامضة ومخيفة عن سباق محموم بين ارادات تدفع(عن قصد او من دونه) نحو حرب داخل طائفة واحدة(الطائفة الشيعية) مرشحة لتصبح كارثة انسانية ووطنية وطائفية وبين ارادات اخرى تسعى لاحتواء خطر هذه الحرب ووضع حد للمجابهات المسلحة بين القوات الامنية العراقية والامريكية وجماعات مسلحة تتخذ من اسم جيش المهدي صفة لها، في وقت ازداد الامر تعقيدا مع  تمديد العمل بقرار منع التجوال لأجل غير مسمى، فوق الضغوط المعيشية على الملايين من سكان العاصمة المدنيين ونفاذ المواد الغذائية من المحال القليلة التي تفتح خلسة في ساعات قليلة من النهار، وبين كل قذيفة واخرى.

 الكثير من المراقبين ابدوا في تلك اللحظات الحرجة تشاؤما حيال وقف قريب للقتال آخذين بالاعتبار ما تناقلته الكواليس عن خناقات وتراشقات شهدتها جلسة سابقة لمجلس النواب بين نواب من الجانبين، وسرّب عدد من المراسلين، وكذلك بعض الاقنية الفضائية التي عكفت على تغذية الحريق بتقارير كيدية، صورة تشي بان الحال انتهى الى نقطة اللاعودة، فيما تناقل قليلون معلومات عن مبادرات وتحركات، واحدة منها في الاقل، انتقلت بطائرة عاجلة الى خارج الحدود لعقد لقاء حاسم اسفر عن اتفاق على الخطوط العريضة لتسوية الازمة مسبوقة بطائفة من المعلومات المتضاربة والشائعات عن خطوط متحمسة لوقف النزيف واخرى متمردة على التهدئة.

في هذا الوقت اصدر زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر بيانا يرقى الى  ذروة الشعور بالمسؤولية السياسية في منعطف خطير صارت عوائد الحرب معه تنصرف الى جيوب آخرين يتربصون بالطرفين، وقد انطلق البيان من الحرص 'على الدم العراقي العزيز' واعلن البراءة 'من كل من يحمل السلاح ويستهدف الاجهزة والمؤسسات الحكومية والخدمية ومكاتب الاحزاب' وحض على وقف عمليات الدهم والاعتقالات العشوائية من قبل السلطات،والتزم 'ادانة مرتكبي الجرائم وفق الطرق القانونية'.   

في مثل هذه الحروب تنشأ، عادة، ما تسمى بـ'الحواف' التي  تتصارع خارج الاتفاقات ومصالح الجمهور، بل وبالضد من تلك الاتفاقات والمصالح، وهي تشكل خطرا على اية تسوية إن لم يجري احتواؤها وكفّ تأثيرها على اجراءات التطبيع،  وهي مسؤولية القيادات السياسية في المقام الاول، ويشار بهذا الصدد، في حال الحرب الاخيرة، الى استمرار وجود خلايا مدنية مسلحة متصارعة على النفوذ والامتيازات، في الشارع، وفي اطار المؤسسات الامنية على حد سواء، والاخطر، ان التسويات المعلنة ابقت على هذه الالغام طي البساط مما ينذر بانفجارها مع اول احتكاك، سيما ونحن مقبلون في خلال الاشهر الستة المقبلة على التحضير للانتخابات البلدية المشحونة بالعناوين والخيارات والاختلافات اللافتة، وباسباب الاحتكاك حصرا.

على ان هذا ليس هو الخطر الوحيد الذي لا يزال يخيم على المشهد، فثمة الخطاب الدعوي المتشابك الذي جهّز ويجهّز اطراف الصراع في الطائفة الواحدة بذرائع التجييش، ووقود التحزب الفئوي، وقد تلقينا الكثير منه عبر مكبرات الصوت في مساجد وحسينيات، واحسب اننا(لكي نؤشر حدود هذا الخطر) بحاجة الى مراجعة  تلك المداخلات والبيانات والخطب التي اطلقت باسم دعاة وعلماء دين وفقه وذهبت، من مواقع متباينة، الى تحبيذ الحرب وتبرير دواعيها، ما يحمل على الخشية من انها حفرت مجرى عميقا من التحزب الاعمى في نفوس الموالين، على سطح عُطلت فيه مراصد الانواء، وينذر بالمزيد من العواصف

ــــــــــــــــــــ

. جريدة(الاتحاد) بغداد

 


453
مبادرة علاوي..

مصالحة.. نعم ولكن


 

ععبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

 

 

دعوة رئيس الوزراء السابق اياد علاوي الى عقد مؤتمر جديد للمصالحة بعد اسبوع واحد على انتهاء مؤتمر للقوى السياسية ناقش ملف المصالحة وشؤونها تعبر عن عمق الازمة  التي تضرب في مفاصل العملية السياسية في العراق، وسيكون الامر اكثر مدعاة للتأمل إذا ما اخذنا بالاعتبار ان فريق علاوي قاطع اعمال المؤتمر السابق، سوية مع فرق وشخصيات اخرى، وان ثمة فرق وشخصيات ستقاطع، بالمقابل، دعوته، وتشكك في جدواها وفي نيات اصحابها، لندخل في خندقة جديدة، وقل مفارقة سوداء اخرى، تحت عنوان المصالحة الوطنية: فبدلا من ان تكون المبادرة محاولة لطي صفحات القطيعة وانعدام الثقة فانها صارت تكرس القطيعة وانعدام الثقة، وقد يستخدم مقاطعو المؤتمر الجديد نفس ذرائع واطروحات ومفردات مقاطعي المؤتمر السابق.. و’جيب ليل وخذ عتابه’.

في فلسفة المثائل التقليدية، ثمة من يذهب الى القول انه حين ينعقد اجتماعان (او مشروعان سياسيان) باسم واحد  ولغرض(او هدف) متشابه فان احدهما لا حاجة له، ومن يقول ان احدهما متآمر على سميّه، وفي التطبيقات السياسية لهذه الفلسفة فان الامر يكرر نفسه كثيرا حين يكون الشعار (او العنوان) موضع التجاذب مقبولا من الرأي العام وقريبا من افئدة  الجمهور كما هو الحال بالنسبة لفكرة المصالحة الوطنية بين العراقيين، وثمة في حروب البلقان مثلا سابقا (والامثال تضرب ولا تقاس) يفيد ان اجتماعين عقدا في اثينا تحت شعار استعادة السلام بين شعوب المنطقة، فعلق المفكر السياسي (د. كميلاس) عليهما بالقول: ‘اقسم ان احدهما، لا اعرف من هو، ينعقد لصالح تجار الحرب’.

اما اذا افترضنا بان فكرة المصالحة العراقية لم تختمر كفاية لدى المعنيين بها، او لدى جماهيرها الغفيرة، وان الامر بحاجة الى المزيد من المؤتمرات والبحوث والمبادرات، فانه لا يسع المتابع الموضوعي إلا القبول بهذا الافتراض، لكن المشكلة تتمثل في الطعون التي يتبادلها البعض من اقطاب هذه الفعاليات(الداعون والمقاطعون) مما يلقي بظلال من الشكوك حول مصداقية الحمية على العراق والغيرة على دماء العراقيين في اصل الدعوة للمصالحة، وقد يطلق عابر السبيل سؤالا عما يعني مقاطعة مؤتمر للمصالحة، غضبا منه، ثم يعقد المقاطعون  مؤتمرا يدعون اليه اصحاب المؤتمر المغضوب عليه، واحسب ان القول بان هدف المؤتمر الجديد هو ردم الثغرات التي رافقت المؤتمر العتيق(وهي ثغرات مؤكدة) سيرتد على اصحابه حين يعقدون مؤتمرا يتعثر هو الآخر في ثغرات يمكن ان نراها من الآن.

الحق، ان فريق علاوي (ومقاطعون غيرهم للمؤتمر السابق)  اخفقوا في تقديم اسباب مقنعة ومؤوّلة لموقفهم السلبي من مؤتمر الثامن عشر من مارس الذي شهد (على مسؤوليتي) اجواء مفتوحة امام وجهات النظر والملاحظات والبدائل، وقد هزمت الاسئلة اللجوجة المقاطعين عما منعهم-آنذاك- من المشاركة في المؤتمر وعرض برنامجهم الاصلاحي البديل على طاولة البحث.

والحق ايضا، انه لا ضرر من عقد مؤتمر آخر للمصالحة، وثالث ورابع، ولا مبرر للطعن المسبق في نتائجه طالما يؤدي الى إبقاء هذا الطريق، الذي لا طريق سواه لانقاذ العراق، مفتوحا، وطاما ان اللعب يجري تحت ابصارنا.. والعبرة في النيات.

ـــــــــــــــــ

كلام مفيد:

 ‘لا احد يمكنه اخفاء نياته المبيتة الى الابد اذا تذكر ان الحياة اختبار لا يخطئ للنيات’.         غاندي

454
لجان تحقيق.. ام بُدَع؟


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

تشكيل لجنة لكل مشكلة موضع خلاف بين السلطات بُدعة اخرى نضيفها الى بُدع كثيرة، حتى قضينا ما يزيد على اربع سنوات في تشكيل لجان لحل مشكلات وخلافات واستعصاءات، لم تُحل، بل وتفاقمت اكثر، والطريف في الامر ان بعض اللجان صارت تعقد اجتماعاتها خارج العراق، وقد التقيت مرة بصديق قال انه جاء الى مصر في اطار لجنة (وهمس: تحقيقية) تعقد اجتماعاتها في القاهرة، وقرأت تقريرا اثق به يقول ان اعضاء لجان تحقيقية نزحوا (وقل هربوا) الى خارج العراق، ومن هناك ارسلوا نتائج التحقيق الذي اجروه بصدد قضية تخص احدى المحافظات الوسطى.

  وتؤكد التجارب الادارية الحقيقة التالية: حين تشكل لجنة لكل مشكلة فأنك لن تحل اية مشكلة.. بل انك، بتشكيل هذه اللجان، ستخلق مشكلات اخرى، والبديل عن تلك الفوضى هو بناء نظام اداري مدني بصلاحيات واضحة. اما اللجان فانها تشكل لقضايا طارئة، لا سبيل الى حلها عبر الاجراءات الرسمية العادية.
لقد هرّبنا مشاكلنا الى بدعة “تشكيل اللجان” ثم هربنا اليها بعد ذلك من دون طائل. حتى انعدام الثقة بين الرؤوس السياسية شكلنا له لجنة خاصة، بقيت تجتمع على الشاشات الملونة، ثم انتهت الى الرفوف العالية، والنتيجة، تناسلت المشاكل في الادارة والعملية السياسية بطريقة شيطانية لتغطي الشاشة من اقصاها الى اقصاها، واصبح بامكان اي متابع (او متأمل ظريف) ان يحصي ما لا يقل عن الفين من المشكلات (بطريقة حسابية تقريبية) عصفت بنا، ويفترض انه لو شكلنا لكل مشكلة من هذه المشكلات لجنة من ثلاثة مسؤولين (في الاقل)على علاقة بظروف وطبيعة تلك المشاكل، فهذا يعني اننا سنصرف اكثر من سبعة آلاف موظف عن وظيفته لعدة اسابيع، وان نهدر اكثر من ثلاثين الف ساعة عمل، من اجل ان نحصل على تقارير تصف مشكلات وتقترح حلولا لها، لا تنفذ، طبعا، من دون قرار من الحكومة وموافقة الكتل السياسية التي لن توافق في الغالب، فتغطّ التقارير في نوم ابدي.
يمكن الاشارة هنا الى لجان كلفت بحل مشكلات تتصل بحياة قطاعات وشرائح اجتماعية، مثل اعمار مدن النجف والثورة والفلوجة وكربلاء، ومثل اعادة المفصولين وتعويض اسر ضحايا الارهاب، ومثل قضايا تخص الملكية والاملاك العامة والثروات الوطنية كالنفط والزراعة، ومثل اخطار تداعي شبكة الكهرباء وشحة المياه، ومثل ملف التهريب والفساد والتعدي على المال العام، ومثل اصلاح القضاء والتعليم وإنصاف العاملين في رحابه، ومثل قضايا رواتب المتقاعدين ومحدودي الدخل، ومثل إحياء الخدمات البلدية وانسنة الاحياء الشعبية، ومثل قضايا النقل العام والاتصالات والطرق الخارجية، ومثل سلم الرواتب والخدمة، ومثل استعادة الخدمات السياحية وحماية المتاحف، ومثل توسيع شبكة الخدمات الثقافية وتشجيع الابداع والتأليف والبحث، هذا بالاضافة الى لجان التحقيق في احداث (المهدوية) وجند السماء وحوادث البصرة والديوانية والموصل.
قال لي موظف شغل عضوية احدى اللجان المكلفة بمعالجة مشكلة موصولة بقضايا تجارية: عقدنا اربعة عشر اجتماعا متواصلا ووضعنا ايدينا على حلول عاجلة واخرى بعيدة المدى، كما وضعنا تصورا لميزانية وفق الحد الادنى، ثم رفعنا التقرير والتصورات والمقترحات منذ ثلاثة اشهر من دون ان نرى اي ظلال لها على الارض حتى الآن، بل ان المشكلة الجديدة التي برزت هي ان مواد ومكائن تعرضت للتلف خلال هذه الفترة وثمة مطالبون ومدعون لجأوا الى المحاكم.
هذه باختصار”براءة الاختراع” التي سجلت باسمنا.. تصفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

“الجودة لا تأتي صدفة أبدا، فهي نتاج نوايا حسنة”.
وليم فوستر


455
الى وزير التربية

إقرأ هذه السطور.. رجاء


 

عبدالمنعم الاعسم 

malasam2@hotmail.com


رسالة من معلم قديم تحمل طعم العلقم.. لكن –بما ان مراراتنا كثيرة- نذهب الى المهم

فيها، وهو يتعلق بما يشبه المفارقة، التي لو حدثت في بلد آخر لجرى تصنيفها في خانة الفضائح الادارية. اما صاحب الرسالة فهو عفيف عن ذكر اسمه، وقد ترك في امانتي كامل الاسم وصورا عن وثائق قضيته، التي لااشك في سلامة وصحة حرف واحد منها، عدا عن اني اعرفه، كما اعرف نفسي.
خلاصة الرسالة، ان صاحبها معلم مدرسة (هناك وثيقة) يحمل خدمة تزيد الآن على الاربعين سنة، اُعتقل في عهد الدكتاتورية (لأسباب سياسية، مؤكدة) وعندما خرج تعرض لملاحقة الاجهزة القمعية، واضطر للهرب الى بلد مجاور حاملا هوية عراقي معارض (هناك وثائق) ثم سبيت عائلته ووضعت تحت الشبهة بجريرة ابنها الهارب (هناك شواهد) وعندما سقط النظام هرع في شهر ايلول 2003 الى مديرية تربية الكرخ. وقف في طابور طويل، وقدم طلبا بالعودة الى الوظيفة اسوة بالمفصولين، قيل له: عليك تأمين رسالة من احد الاحزاب لتأكيد ادعائك كمعارض للنظام السابق، ولما تردد في ذلك لكرامة شخصية همس باذنه احد الموظفين “يمعوّد التزكية بعشرين الف دينار.. روح اشتريهه” فلم يراجع حزبا ولم يشتر تزكية من احزاب صارت تبيعها لكثير ممن لا علاقة لهم بالسياسة، وتمسك بفرضية التغيير، والعراق الجديد، وعهد العدالة، وبالصبر ايضا، ونام على ثقة لا تتزعزع بان قرار اعادته للوظيفة سيصدر يوما، لكن الايام والشهور وقوائم العائدين الى وظائفهم توالت، فملّ الانتظار، واضطر، مرة ثانية، الى مراجعة دائرة التربية، فكان الجواب انْ لا اثر لطلبه السابق، وتحت الحاحه واستغرابه نصحه موظف متعاطف ان يكتب طلبا آخر”من نسختين” واحدة لمدير التربية واخرى يحملها الى وزير التربية، وان عليه السعي لدى الوزارة لكي تصدر امر اعادته الى الوظيفة.
وإذ اخذ بنصيحة الموظف المتعاطف، فانه هدر من عمر الانتظار شهورا اخرى من غير طائل، وقد عبر خلالها سن الوظيفة ودخل عمر الشيخوخة، وصار حائرا ما اذا سيعاد الى مهنة التعليم ام يحال على التقاعد، وكلاهما نأيا عن متناول يده، مع ان حقه فيهما لا شك فيه، فحمل نفسه وطلب لقاء مع مدير تربية الكرخ (آنذاك) ازاد محمد سعيد الذي كان يفيض بالود والتعاطف والتفهم، وبعد شرح مستفيض، ابلغه ان وثائق المديرية اتلفت ومن المستحيل ان يعثر الموظفون على اثر لخدمته، واختصارا للمراجعة والانتظار عليه ان يقدم طلبا مباشرا الى وزير التربية، آنذاك، سامي المظفر.
ولأن صاحبنا يعرف ان الوزير المظفر يحمل سمعة طيبة وصفحات نظيفة وانه سيقدر حاجة معلّم سابق للاستقواء مع عائلته على مصاعب المعيشة، فقد تواكل على ذلك الافتراض وقدم طلبا ثالثا وهذه المرة بالاعادة الى الوظيفة والاحالة على التقاعد، وحاول عبثا اللقاء بالوزير، او باي موظف تنفيذي، لشرح قضيته، وفيما هو ينافح ويسعى ويتدافع امام الوزارة قدم له شخص قال انه يعمل لدى احد المحامين عرضا بان يتبنى قضيته ويسعى لحلها، وهو سيهئ له التزكية من “اكبر الاحزاب” مقابل مبلغ من المال، فرفض صاحبنا، وعذره ان حقه بائن، وان الطلب سيكون في غضون يومين على طاولة الوزير، وان الراشي يتسخ بالرشوة مثلما المرتشي، وانه في هذه الرشوة يشطب على حلمه الجميل بعراق آخر جديد، غير ان الانتظار طال، بل ان المراجعات صارت محفوفة بالمخاطر، وصفوف المراجعين مغرية للسيارات المفخخة وغارات المليشيات، فلم يجد بدا من ان يستسلم للخيبة، لكن نسمة من الامل دغدغته يوما بان يقدم طلبا رابعا، فلجأ الى كاتب عرائض قرب بناية الوزارة، فهو يعرف اللغة المناسبة لمخاطبة الوزير، وإنشاء المظلومية، وعندما اتمّ الطلب واستلم اتعابه همس لصاحبنا قائلا: عمي، هذي العريضة متفيد.. راح تضيع مثل اللي قبلها.. شوف لك واسطة.
انذاك قرر صاحب الرسالة ان يغار العراق الجديد، مرة اخرى الى المجهول، على امل ان تصل احدى طلباته النائمة- المفقودة الى.. معالي الوزير.

ــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــ
“الصبر.. فن إخفاء نفاد الصبر”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد


456
الحكومة العراقية الجديدة..

محاصصة باسم مستعار


عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

 دخلت جهود تشكيل الحكومة الجديدة(او استعادة قوامها السابق) برئاسة نوري المالكي مرحلة حرجة وسط سلسلة طويلة، ومملة، ومضنية من التأجيلات والتصريحات المتضاربة، والاحاديث المتكررة عن الخيارات، ويستطيع المراقب ان يجزم بان الايام المتبقية من شهر شباط- فبرايـــــر ستسجل نهايــــــــة الازمة الحكومـــية التي ابتدأت بانسحاب وزراء التيـــــــــار الصــــدري مطلع العام الماضي، ولحق بهم وزراء كتلة التوافق ثم وزراء القائمة العراقية.. اقول: نهاية الازمة الحكومية، واضيف: او بداية الحكومة المنتخبة الثانية.
وبحسب اخبار الكواليس، وهي شبه موثوقة، فان رئيس الوزراء وُضع -من قبل اركان المجلس السياسي- على تقويم صارم لمدة اسبوع، ثم مُدد لاسبوع آخر، لكي ينجز بناء وزارته، وفي غضون ثلاثة ايام من انطلاق العمل في كابينة الاتصالات ظهرت اشارات متضاربة من الكتل المنسحبة الثلاث(كلٌ من موقعه) حول انهاء القطيعة مع الحكومة او الاستمرار في الوقوف عند خط الانسحاب، على خلفية الكلام عن شروط مسبقة ووعود لاتُنفذ، وكلام آخر عن عصيّ يضعها المنسحبون، أو بعضهم، في دواليب محاولات المالكي.
  ولا ينبغي التقليل من اخبار اخرى عن وقائع تجاذبات واستعصاءات في الحلقة الضيقة لمعسكر الاكثرية البرلمانية التي امست من رأسين، المجلس الاسلامي وحزب الدعوة، وقد خرجت التباينات في وجهات النظر(او في الارادة) الى واجهات الاعلام، ما اضفى ويضفي على امكانيات نجاح المالكي في مهمة تشكيل حكومة متماسكة(وبلا محاصصة) ظلالا من الشكوك، يضاف الى ذلك الكثير من علامات(وقل مبررات) فقدان الصبر لدى حلفاء(الامريكان. الكرد) وضعوا ثقلهم الى جانب رئيس الوزراء الذي جرجر حكومته، بعزم، وبدعمهم، لعام ونصف وسط كثبان من الرمال والتحديات.
 اما معسكر التوافق فقد حيّر المحللين، ما اذا سيعود الى حكومة المالكي او سينأى عنها فاسحا الطريق الى فريق منه (خلف العليان) ليشغل المقاعد الشاغرة او بعضها، فيما تتحدث الكواليس عن خيار لا رجعة عنه بصدد تمثيل مجموعة صحوة الانبار في الوزارة، غير ان الرسائل الى يطلقها مركز التوافق حول شروطه التي لم تنفذ ولم تناقش كفاية تحمل على الاعتقاد انه لا يزال يراهن على بديل جديد لرئيس الوزراء، وقد يشاركه في ذلك مركز القائمة العراقية، وعديد من الاعضاء المستقلين في مجلس النواب.
  في موازاة ذلك ثمة، في كابينة الاتصالات التي يديرها المالكي، او صف المحسوبين عليها، مَن يتحدث عن عودة المنسحبين من الوزارة كما يتحدث الفقهاء عن “بيت الطاعة” او ما كانت تحمله بيانات العفو التي كان يصدرها صدام حسين لتشجيع “العودة الى الصف الوطني” ما يعيد الملف كله الى خط البداية، وثمة غيرهم يتحدث عن وزارة جديدة بوزراء تكنوقراط من خارج قواعد المحاصصة، ويستدرك غيرهم القول ان الوزراء الجدد سيكونون وزراء تكنوقراط لكن وفق مبدأ المحاصصة، فيما يضحك متفرجون، ونحن منهم، لهذه الطرفة المسلية.

 وثمة ما يحيّر المراقب الموضوعي الذي يحاول تكوين صورة مسبقة لشكل الحكومة الجديدة قيد الطبخ، وبخاصة القول المنسوب لرئيس الوزراء نوري المالكي انه يتجه الى تشكيل حكومة لا تلتزم مبدأ المحاصصة الطائفية والحزبية، وتزداد تلك الحيرة في ما اضيف، او تسرب، بان النية تتجه الـى 'إبقـــاء كبـــار موظفــي الـوزارات في مـواقعـهــم' مــا يعني استمرار اسوأ نتائــج المحاصصـــة واكثر خطاياها ثقـلا ومصدرا للشكوى.
 وفيمــا حاولــــتُ ان اشـكل خارطـة نظريـــة لهـــــذه الحكومة المقترحة، وعلـــى ضــــــــوء الاستقطابات الفئوية القائمة، وتمترس طبقة الموظفين الكبار فقد اخفقت في محاولتي، لأن الوزراء الجدد بدوا لي مثل ابطال مسرحية امريكية عنوانها (قرار اخير) حيث يدير مجلس من الغرباء شؤون قرية يكلمون سكانها ويسيّرون امورهم بواسطة مترجمين(وكلاء) يتصرفون في الترجمة والتعامل مع السكان خلاف اوامر وقرارات المجلس بغرض الإثراء والفساد، فتدخل حياة القرية في نفق من المشاكل والمفارقات، قبل ان يتم اكتشاف ان العِلّة تتمثل في زمرة الوكلاء.
  وتزداد الصورة اضطرابا حين يجري الحديث-في نفس الوقت- عن حكومة وحدة وطنية، فتتزاحم الاسئلة هنا عما اذا كان من الممكن ان تُشكل حكومة من خارج المحاصصة (مستقلة) وتكون في ذات الوقت حكومة وحدة وطنية(غير مستقلة) او عما اذا سيؤدي هذا الاضطراب في الخيارات الى العودة نحو حكومة محاصصة على قياس الحكومة ما قبل الانسحابات.. آنذاك، كأننا لم نفعل شيئا وقد بدأنا من الصفر وتمسح الجميع بوعودهم وشروطهم وشتائمهم ضد المحاصصة 'وابو المحاصصة' وقد نستيقظ يوما على حكومة محاصصة باسم مستعلر كمخرج للازمة، او سبيلا للالتفاف على سمعة المحاصصة المتردية.
ولعل آخر الايضاحات التي خرجت من كابينة رئيس الوزراء للاتصالات الجانبية اضافت عتبة (او قل عقبة) اخرى امام تشكيل الحكومة في غضون اسبوع او اسبوعين حين افادت بان عملية اجراء تقليص في الوزارات تعتمد على موافقة الكتل السياسية، ومدى استعدادها في التضحية بمقاعد وزارية خاصة بها، فضلاً عن التضحية بالمحاصصة الحزبية والطائفية ايضاً، وقد شدد ممثل احدى الكتل على استبعاد الموافقة على'الترشيق' والتضحية بالمقاعد، لأن ذلك، حسبه، يخل بما اسماه بالاستحقاقات الانتخابية وبالاوزان والحجوم الخاصة بالكتل.
  وفي كل الاحوال، فان المهم هو ترسيم مهمات الحكومة المقبلة، سواء كانت حكومة محاصصة ام غيرها، وهنا يشاء البعض ان يمعن في تبسيط وظيفة مثل هذه الحكومة فيتحدث عن وظيفة مركزية هي التحضير للانتخابات المقبلة، فيما الامر يلزم اقامة حكومة تصريف اعمال محايدة، لكن الوقت لا يزال مبكرا على موعد الانتخابات (اكثر من عشرين شهرا) وثمة استحقاق اكثر الحاحا يتمثل في اجراء الانتخابات المحلية وفق القانون الذي شرع مؤخرا، فضلا عن ملفات ملتهبة لا ينبغي ان تبقى معلقة 'من رجليها' الى ذلك الوقت.. إلا اذا كان اصحاب الشأن يعتقدون بسحر السايكولوجيا التي تقول: عليك ان تتحدث كثيرا عن الخبز ليشعر السامع بالتخمة.

 على ان المتابع لا يحتاج  الى الاطلاع على نص الرسالة التي وجهها رئيس الوزراء نوري المالكي الى الرئاسة وقادة الكيانات السياسية لجهة معرفة (او جس نبض) موقفها من كسر قواعد المحاصصة في تشكيل حكومة جديدة تضطلع بتنمية العناصر الايجابية في تطورات الاوضاع وتتولى ترجمة البرنامج المعطّل منذ عامين بسبب اضطراب احوال الوزارة والامن والعملية السياسية، فقد امكن، بفضل نسمة من الشفافية، معرفة الاتجاهات التي يفكر فيها المالكي، لكن المهم ما هو بين السطور من ايحاءات بازمة الثقة بين الفرقاء المعنيين، وغياب حسن الظن بين بعضهم، وربما ثمة في الرسالة محاولة لاحراج اولئك الذين يشتمون خطيئة المحاصصة ليل نهار بان جرّهم الى اختبار المصداقية، وقدر استعدادهم على التضحية بامتيازات السلطة وفتاتها.

 اقول،  ثمة في الرسالة(او ما ما تسرب من سطورها) اشارات مهمة ومتضاربة في آن، فماذا يمكن ان نفهم من انها ' تضمنت عرضا للأسس والمبادئ الواجب اعتمادها في تشكيل الحكومة الجديدة وهي عدم اعتماد مبدأ المحاصصة السياسية، والتمثيل العادل لمكونات الشعب العراقي، واختيار وزراء من ذوي الخبرة والمهنية، على أن تكون مهنية الوزراء مقدمة على انتمائهم الحزبي والسياسي'  وماذا يعني القول 'أن لا يتجاوز عدد الحقائب الوزارية 22 حقيبة، وأن يمنح رئيس الوزراء صلاحية اختيار الوزراء بالتشاور مع هيئة الرئاسة على أن يكون له القرار النهائي' غير الرغبة بالتمدد خارج الصلاحيات المحشور فيها مما لا تسمح به اليات(وقل قيود) ادارة الدولة وشؤونها.

 اعني، مَن الذي يقبل ان تكون هيئة الرئاسة في موقع الاستشارية فيما القرار النهائي في اختيار الطاقم الوزاري يبقى لرئيس الوزراء؟ وهل ثمة تفسير آخر لهذه العيارات غير ان رئيس الوزراء يريد ان يدفع عنه مسؤولية الجرجرة والتسويف والتعطيل ويلقيها في ساحة الاخرين، من اقرب حلفائه الى ابعد الممشككين في قدراته، على حد سواء.

 من زاوية يبدو ان عنوان المعركة المقبلة (وقل التجاذبات) ستجري تحت عنوان الصلاحيات، فرئيس الوزراء يشكو منذ شهور من انه لا يملك مفاتيح الابواب الموصدة في الازمة، وطبقا لاحاديث الكواليس، فان مساحة هذه الشكوى امتدت مؤخرا الى دائرة اقرب شركاء المالكي في الاكثرية النيابية، ويمكن تصديق الانباء التي ذكرت ان رئيس الوزراء ابلغ هؤلاء الشركاء انه لا يقبل ان يكون موظفا منفذا للاوامر، وان عليهم ان يترجموا فروض دعمه الى الواقع، لا أن يقاسموه صلاحيات ادارة الوزارة.

 وبعيدا عن هذه الدائرة الضيقة(معسكر الائتلاف) فان القوى الاخرى تنظر بعين الحذر الى فكرة رفع مناسيب صلاحيات رئيس الوزراء بصدد تشكيل حكومة جديدة، والبعض من اشد منتقدى المالكي يتحدثون (كلمة حق ..) عن خطر ظهور دكتاتورية جديدة.. والبعض منهم (إذا شئنا الصراحة) يقتفون اثر الدكتاتورية التي مضت الى المزبلة.

ــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

'إذا لم يسمع الأصم صوت الرعد فإنه سيرى حبات المطر'.

مثل افريقي

457
حكومة في عنق زجاجة


عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


 

 سِجلّ الحكومة العراقية الحالية.. حكومة نوري المالكي.. لا يشجع على التفاؤل انها تستطيع، بهذا المتاع الفقير، والتجاذبات والشائعات وسوء الظن، ان تعبر نهر الاسئلة الكبيرة المؤجلة طويلا الى ضفاف السلامة، الآن، او في المدى المنظور.

 وقوام الحكومة، بعد 'الفرار الجماعي' منها لا يساعد على النظر الى مستقبلها كحكومة مرحلة انتقالية، بشئ من الارتياح والثقة، ولا الى اكتافها على انها قادرة على تحمل  مسؤولية واستحقاقات الشراكة الوطنية الثقيلة، والمتنافرة .

 واعباء الحكومة، اذا ما احصيناها بالجملة والمفرق، لا تدع مجالا للشك في انها تتزايد وتتناسل بدل ان تتراجع، وبين ايدينا سلسلة طويلة من العناوين المشاكسة: كركوك. العلاقة مع اقليم كردستان. العلاقة مع المحافظات. الشراكة والوفاق. الدستور. الانتخابات البلدية. تهريب النفط. الفساد. الجيران. الامريكان. الاحتقان الطائفي النائم . الخ.

 الحكومة.. حكومة المالكي.. حاولت ان تحقق شيئا فاخفقت، وانجزت-بصرف النظر عن المسؤول المباشر- كل صفات العجز. يكفي انها شكلت الكثير من اللجان الخاصة باحتواء الازمات لم تخرج ولا لجنة واحدة بنتائج.

 وحكومة بمثل هذا الحال، لا بد ان تفسح المجال لبدائل عنها، هكذا يقول المنطق، غير ان هذا ليس سوى استنتاج عاجل، وقد يجرّ الوضع السياسي الى دوامة جديدة فوق الدوامة التي يمر بها.

 الشئ المهم، ان جميع الفرقاء المعنيين بصناعة الفرص الاخيرة اقتنعوا بوجوب بقاء رئيس الحكومة في موقعه، لفرصة اخرى، ولقطع الطريق على 'حركة كيدية' كانت ستحسب رحيله انتصارا لها، وسقوطا مدويا لخيار الائتلاف الحكومي الانتقالي العريض. لكن الصورة تبدو شديدة الحرج من زاوية الحاجة الى ترشيق الوزارة، او تغييرها بوجوه جديدة، او اعادة بنائها خلاف مبدأ المحاصصة.. وهذا الموضع  يسميه البلاغيون عنق الزجاجة كتعبير عن حالة الاستعصاء. 

 إذن، فان رئيس الوزراء، الذي حظي بثقة وتفويض اطراف العملية السياسية، سيكون امام مهمة مركبة، فمن جهة عليه إخراج حكومته من عنق الزجاجة الى الهواء الطلق، ومن جهة اخرى يحتاج الى خارطة طريق(رؤيا. قرار. جاهزية..) تمر في محطات الازمة ولا تتركها من دون حل.

 على انه بين يدي المحلل الموضوعي، المتابع لازمة حكومة المالكي، القليل من المؤشرات على تحسن الانواء السياسية التي تحيط جهود اعادة هيكلة الحكومة، لكن فروض الامانة  تملى القول بان رئيس الوزراء قدم افكارا وتعاطيات بصدد عدد من القضايا الملتهبة هي على جانب كبير من المرونة والواقعية، وإن جاء بعضها متأخرا عن وقته.

 باختصار شديد، لا مفر من التغيير، وباختصار اشدّ،  ليس ثمة متسع من الوقت للمناورة، واضاعة الوقت.. والوقت من ذهب.

ـــــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

' عندما اريد ان احقق الفوز الاكيد لفريق ما فإنني أبحث عن لاعبين يكرهون الهزيمة'

روس روبرت


458


ضوء'ديمقراطي' في النفق

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

 في استقباله للجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي للتيار الديمقراطي العراقي المنشود وضع الرئيس جلال طالباني اشارة ضوء ساطعة للطريق المنهجي، السلمي، الصائب لتفعيل دور التيار الديمقراطي في المعادلة السياسية العراقية من زاوية رصدتْ بوضوح خطورة استمرار غياب هذا الدور في مجرى عملية التغيير، وقد اعاد الرئيس بناء المعادلة على نحو بالغ الاهمية حين ربط بين غياب التيار الديمقراطي والنقص الكبير في التركيبة السياسية في العراق الجديد.

   انه ضوء ”ديمقراطي” في هذا النفق الذي تتخبط فيه مسيرة التغيير، وتكمن اهميته، اولا، في ما اكده مام جلال على “ضرورة بذل كل الجهود الممكنة من اجل انتعاش التيار الديمقراطي وتوحيد صفوفه واشاعة الفكر الديمقراطي والثقافة الديمقراطية كأحد ركائز بناء الدولة المدنية والعصرية” وثانيا،  في  تنوع تمثيل الارادات الديمقراطية العراقية في تشكيلة اللجنة التحضيرية المفتوحة على الاتساع، بالطول والعرض، لكي تضم المزيد من الارادات التي التزمت خيار الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، وثالثا، في دقة وحراجة المرحلة التي يقف فيها العراق لكي يعبر الى ضفاف السلامة، والحاجة الى تيار ديمقراطي يعزز كفالة التحدي واستحقاق التعبئة.

   ولا بد من الاشارة الى ان نقطة التحرك الجديدة نحو تفعيل دور التيار الديمقراطي في العراق تستمد الكثير من فاعليتها من مؤتمر اربيل للوسط الديمقراطي العراقي(نيسان-2007) الذي رعاه رئيس اقليم كردستان الاستاذ مسعود بارزاني، ووضع خلاله ترسيما لتلك الضرورة التاريحية المؤجلة.. ضرورة بناء الصوت الديمقراطي الاتحادي الى جانب الاصوات العراقية الاخرى التي اخذت فرصا واسعة للتعبير عن برامجها وتصوراتها.. وجاء في بيانه الختامي “ان انبثاق برنامج للقوى والشخصيات الديمقراطية هو حاجة ملحة ومسعى وطني يصب في جهد كل القوى التي تعمل لخير العراق ووحدته وتقدمه، ولا يهدف الى عزل أو أي خصومة مع أي من القوى والتيارات الاخرى، بل التنافس معها بطريقة شريفة ونزيهة على اسس التعددية والتنوع التي هي جوهر العملية الديمقراطية. ان التيار الديمقراطي هو صوت الاغلبية التي همشت واجبرت على الصمت والتي حان وقت سماع صوتها بعد ان طغى طويلاً صوت الطائفية والكراهية والتعصب” وقال ايضا “.ويطرح التيار الديمقراطي العراقي برنامجه الاصلاحي، انطلاقاً من واجب والتزام وطني واخلاقي، ومن إيمان عميق من ان مشكلات الوطن لن تحل إلا من خلال عملية سياسية، تقوم على اساس المشاركة الحقيقية في صنع القرار بمشاركة الاحزاب وهيئات المجتمع المدني من جمعيات ونقابات وعبر التعبير الحر عن الرأي في وسائل الاعلام”.

  ان العراق الجديد (والكلام للرئيس طالباني موجها الى اعضاء الوفد ) يحتاج الى القوى الديمقراطية الحقيقية والفاعلة.. واظن ان الرسالة فصيحة وجديرة بالتفكير المسؤول.

ــــــــــــــــــــــــ

.. وكلام مفيد

ــــــــــــــــــــــــ

“افعل الشيء الصحيح فان ذلك سوف يجعل البعض ممتنا بينما يندهش الباقون”.

مارك توين

 


459


شفقة متأخرة.. ومغشوشة
عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

تضطرني عبارات الاسى والشفقة التي صارت تتكاثر علينا من دول عديدة ان ابدي نوعا من شعور الخشية والارتياب من ان وراء هذا “التحول الاخلاقي” حسابات غير اخلاقية، فاقول: يجب ان لا نطمئن الى تلك العبارات ، مع اني اكره موضع هذه الـ(يجب) في الكتابات والخطب السياسية.
اكرر: يجب ان نحذر، نحن العراقيين، من الاطمئنان الى لغة الاحسان التي تفيض، الآن، علينا من كل جانب، وبعضها خال من الصدق، او كما يقال من المصداقية.. فالاحسان لوجه الله وبلا ثمن مكانه دور العبادة وليس في ميادين السياسة وملفات الصراع بين الدول، او عند حاضرة تنتشر فيها رائحة بترول.
في النتيجة، ليس في اعناقنا دين للاخرين (صدقوني) سيما ان الكثير من مصائبنا (من تحت رؤوسهم) كما تقول عجائزنا، كما ان الشعور بالامتنان ينبغي (وكلمة ينبغي من اخوات يجب سيئة الصيت) ان لا يتحول من الاعتراف بالجميل الى شيء من الاذلال، حتى الى من ساعدنا في تهديم الجحيم على رؤوس اصحابه، فلهم حسابهم في ما أقدموا عليه، وكان لنا حسابنا في الترحيب برحيل حكم الشيطان على ايديهم، وإن كانت اكتافنا هي التي حملت جنازة النظام المثقلة بالخطايا الى المزبلة، وان مصائبنا- من الانفال وسواها- هي التي مهدت الطريق الى جرجرته نحو حافة السقوط.
ويجب ان نرى بعينين مفتوحتين الى حقيقة ان الدول الكبرى ليست جمعيات للاحسان والشفقة، وهي إذ تعطي باليد اليمنى تفكر الف مرة كيف تسترد عطاياها باليد اليسرى، وان لا نأخذ الارقام  التي يتحدثون عنها كمساعدات لنا قيد الدفع مأخذ جد، فهم حين يتأخرون عن تنفيذ وعودهم- وهو ما يحصل- انما يتأخرون في قراءة المستقبل، مستقبلنا، بحثا عن كفالة مؤكدة، ما إذا سيستعيدون تلك المساعدات؟ وباية طريقة قصيرة سيستعيدونها؟ ومن اية خاصرة سيأكلوننا؟ انها الحقيقة (إذا شئنا الحق) وهي ما يجب، ان ننطلق منه في التعامل معهم الان وفي المستقبل.. وهي، الى ذلك، مدخل مناسب لطرد شعورنا بالمهانة حين نستمع الى سيل من اخبار الاحسان الينا من دول غنية، وحتى من دول شريكة في الجامعة العربية، هي الاخرى، كما اظن، ليست (مضارب بدو) توزع الحسنات، على قارعة الطريق، لمن تقطعت به السبل، ولنتذكر اننا عشنا خمسة اعوام عجاف..والجميع يتفرج(ولا أقول يتسلى) علينا، واغلب الظن ان الجميع، بمن فيهم الجيران، كانوا يفكرون طوال الوقت بثمن الاغاثة وعائد النجدة في المستقبل.
ويجب (يجب للمرة الاخيرة) قبل هذا، ان لا نستطيب طعم الاحسان، ففي هذا الطعم خيط من المرارة البائنة..مرارة الوجع الذي شعر به ذلك الصوفي، في ما رواه الرواة.. قال:
جاء صوفي الى حلاق، وطلب منه ان يحلق له شعر رأسه بلا أجر، تبرعا في سبيل الله، فاجلسه الحلاق، واحضر له موسى أعمى، وباشر بحلاقة رأسه بدون اهتمام، فاوجعه، وجرحه في اكثر من موضع، وفي خلال ذلك سمعا صوت بعير يجعر في الم، فقال الحلاق متعجبا: ترى لماذا يجعر هذا البعير؟ فقال له الصوفي: لعلهم يزينوه ببلاش.
ــــــــــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــــــــ
“ُ من يحب الشجرة يحب أغصانها”.
                                    حكمة

460
المنبر السياسي / الموت لامريكا
« في: 10:11 26/01/2008  »

الموت لامريكا

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
 
فاجأني صديق قديم بالسؤال: لماذا لا تشتم امريكا؟ قلت: وماذا لو لم اشتمها؟ قال: انها الوطنية يا صديقي، واضاف، الآن اصبح واضحا بان الوطني هو من يشتم امريكا.. وسكتَ. قلت: وعلى هذا المنوال يصبح مَن لا يشتم امريكا فهو لا وطني. قال، مجاملا: "لا اعرف". ثم ترك لي تداعيات التفكير في الوطنية واللاوطنية، حين اختُزلت من قبل البعض الى شتم امريكا.
 قلت لذلك الصديق القديم: نعم انا لا اشتم امريكا، لأني لا اشتغل بالشتائم، وبالمقابل، لا اقبل بسياستها.. سياسة المحافظين الجدد. لكن ثمة في السياسات الامريكية(اقول السياسات) يمكن ان لا يٌشتم (بحدوده النظرية) وبخاصة ما له علاقة بحقوق الانسان ومناهضة الارهاب والحرب على المخدرات ومعارضة الدكتاتوريات وانظمة التخلف والدجل.. الخلاصة انا، احلل بمقدرة ما املك من بصيرة، قد تخطأ وقد تصيب، لكني لست مع البعض الذي يشتم بالجملة، امريكا ومنجزاتها وسياساتها وشعبها واسمها، واعرف ان الذين يزعجون ادارة امريكا وسياساتها ليسوا الذين يشتمونها بل الذين يحللون ويخاطبون العقل ويشتغلون به.
 المشكلة-قلت لصديقي- ان الكثير ممن يشتمون امريكا في ما حولنا من ساسة واعلاميين ودعاة ومهرجين، ويتفننون في توليف البلاغات الهجائية عليها  يعتقدون انهم(في ذم اقوى دولة في العالم) ينالون بذلك صفة الشجاعة وموصوف الوطنية، او انهم يكبرون ويستقوون بتلك الشتائم والبلاغات، الامر الذي يتصل بمركب سايكولوجي معروف، قد يتطلب التعرض اليه فصلا طويلا من الحديث.
 قلت للصديق: مهما شتمتَ امريكا وبرعتَ في تبشيع سياساتها وصورتها فانك لن تبلغ إلا نسبة قليلة من رصيد وبراعة ايمن الظواهري من شتائم للدولة الكافرة، ومن هذه الزاوية يصبح مهندس هجمات الحادي عشر من ايلول ومذابح الاسواق الشعبية في والحلة الصدرية والباب الشرقي  ومفجر انفاق لندن وقطارات مدريد ومقاهي الانترنيت في الدار البيضاء وكازينزهات السياح في بالي وعراب دولة العراق الاسلامية هو اكثر وطنية منك، ومن جميع اولئك الذين جعلوا من الشتائم الى امريكا بسملة يومية من غير طائل.
ثم، هل تحرمني ايها الصديق من سؤال يحيرني في موضوعنا هذا، وهو: لماذا ينبري الى شتم امريكا الان بحمية لافتة، ويتطرف بتلك الشتائم، اكثر الذين خدموا امريكا ورفلوا في نعمتها، ولهم خدمة طويلة في تسويق سياساتها وحماقاتها وحروبها(اسامة بن لادن. بعثيو انقلاب شباط وحرب ايران. اصحاب انظمة ونفط  عرب) ولماذا هم انفسهم اكثر الذين يتحدثون الان عن الوطنية؟.   
 اقول بايجاز، عندما يكون النقاش حول "الوطنية" ثم "الوطنية العراقية" فان فروض الموضوعية تلزم النظر الى التغيرات الكبيرة في المفاهيم القديمة للوطنية بوصفها "انتماء" لجغرافيا، لم يبق منها غير شعارات لم تميز في جوهرها بين الوطني واللاوطني. وبعيدا عن العراق، فان الوطنية الصينية الجديدة تعبر عن نفسها في التنافس مع السوق التجارية الغربية، والوطنية السودانية تظهر في الحنين الى عهدالبلد الاول في زراعة القطن، والوطنية الفلسطينية نرصدها في التشبث بما تبقى من فلسطين، والوطنية البريطانية تتجسد في التزام وحماية القوانين المحلية، وهكذا اتسعت صفة الوطنية بالطول والعرض حتى لم تعد بوصفها "غيرة على سيادة الوطن" بعد ان تطايرت اشلاء السيادات في العالم بفعل الدش والانترنيت وتكنولوجيا الفضاء، عابرة الحدود، بما حوّل الكون، بجميع دوله وسياداته الى قرية صغيرة، رغبنا بذلك، أم لم نرغب به.
 قلت لصديقي: اذا كنت مصرا على ان الوطنية تمنح لمن يشتم امريكا.. فالموت لامريكا مرتين، واللعنة على ام بوش مائة مرة.
ــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"قبل الاكل افتح فمك".
مثل سكوتلندي


461
احداث مخيفة.. وغامضة


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

 

الغموض عنوان مخفف لما جرى في البصرة والناصرية والشعلة من احداث مسلحة، وقبلها من اجراءات حكومية لافتة لجهة إبعاد رئيس هيئة النزاهة موسى فرج، ونقل(ويقال اعادة) رئيس هيئة الادعاء العام جعفر الموسوي، وسلسلة تعيينات (وتمردات) في قيادات الشرطة في عدد من المحافظات الوسطى والجنوبية، وسيتحول الغموض الى علامات استفهام كبيرة وعلى امتداد شاشة الاحداث اذا ما اعدنا الى الذاكرة سلسلة الشائعات التي تتناقلها الصحافة والاقنية الالكترونية والكواليس عما يمكن ان يسمى بتطورات او” كسر عظم” تجري في صفوف الكتلة الشيعية السياسية(معذرة للقارئ من هذا التوصيف الذي لم اجد له تسمية اكثر دقة).

على انه من التبسيط، وزيادة في الغموض، القول ان هذه الاحداث التي تتخذ اشكالا دموية وتشهيرية وتصفوية خطيرة مردها الى الصراع على السلطة والثراء وما يتفرع عنهما من الجاه والنفوذ والتهريب، فان الكثير من المعلومات تؤكد ان بعض ابطال الاحداث هم من السلطة ومن اصحاب الجاه والثروة وعناوينها الفرعية غير المشروعة، وثمة في مواقد الحريق الكثير ممن لايفكر في “وسخ الدنيا” المليئة بالجور والظلم،على امل ان ينال جنان الاخرة .

كما انه من الرجم بالغيب، والامعان في التعتيم، او التهرب من تسمية الاشياء باسمائها، التعلل بوجود اصابع من الخارج، الجيران، الطامعين، بوصفها مصدر الفتنة وأصل البلاء، فان “الخارج” لم يكف يوما عن التدخل في ثنايا الصراع، كما ان “نِعَم” الخارج لم تقف يوما عند حدود، ولم تقتصر بركاتها على طرف واحد وليس ثمة جهة متنفذة بعيدة عن شبهة الامتداد الى ما وراء الحدود.. و”مفيش حد احسن من حد” لكن سيكون الامر على جانب من التعسف  إن لم نشر الى عفة ونظافة يد العديد من ساسة واركان ومراجع هذا المعسكر.

المشكلة تتمثل في ان الذين اداروا الاحداث،سياسيا وعسكريا واعلاميا، اخفوا علينا نصف الحقائق وتركوا الساحة للاجتهاد والتهريج، بل ودفعوا الكثير من المحللين والمتابعين الموضوعيين (واستثني المهرجين واقنية الكيد الاعلامي) الى التشكيك بدقة تلك المفردات(مثل الفئة الضالة. المخربين. المتخلفين) التي استخدمت في توصيف حالة التمرد المسلحة التي ترافقت مع حلول عاشوراء، وذهب البعض الى الافتراض بان ما حدث قبلها في مدينة النجف وما يحدث الان لا يعدو عن كونه التعبير الصريح عن منهج تسييس ممارسة العقيدة الدينية في هذه المحافظات والغاء الخط الفاصل بين الطقوس ومؤسساتها المذهبية وبين ادارة الشؤون العامة وفروض بسط الامن.

ان الفرضية الشائعة حول  حرص الطبقة السياسية الشيعية (معذرة مرة اخرى) على اشاعة مناخ وموجبات الاستقرار في المحافظات الوسطى والجنوبية وتجنيب ملايينها الآمنة المزيد من التضحيات والاهوال وكبح العنف والارهاب تحتاج الى مزيد من التوثيق والاقناع.. التوثيق بالبصيرة، والاقناع بالعقل، قبل ان نفقد خيوط  بصيرة.. وبقايا عقل.

 

 

ــــــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

'أنا بحاجة لرأس كبير ولسان قصير'.

  بونابرت     

ــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة (الاتحاد) بغداد

462
المصالحة الوطنية العراقية..

قراءة في المسكوت عنه

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

' مامن احد لايشكل خطراً على احد'.
 رابوتيه

 

 

من لا ينفع نفسه لا يتوقع انه سينفع الاخرين بشيء، والمعادلة لا تستقيم إلا بنقيضها، فمن لا ينفع نفسه لا ينبغي ان يتوقع نفعا من الاخرين. اتحدث هنا في السياسة ، وعن الجامعة العربية والمصالحة بين العراقيين،حصرا، وساتوقف -مؤقتا- عند الشق الاول من المعادلة، إذ تحدثتْ الاخبار عن اجتماع وشيك لفرقاء النزاع العراقيين دعت له الجامعة العربية.
فالذين يسعون الى الجامعة العربية ان تبادر الى تقديم النفع الى العراق، في هذا الوقت، ينسون ان الجامعة نفسها تعيش حالة عجز عن تقديم النفع لغير العراق من الدول الاعضاء، بشهادة اقطابها واكثر الاعضاء حرصا عليها، بعد ان كفت الدول الاعضاء، من دون استثناء، عن الوفاء بالتزاماتها إزاء الجامعة، وهو التعبير المباشر عن سقوط ارادة العمل الجمعي على مستوى العالم العربي.
وقبل هذا كفت الجامعة عن تقديم النفع لاعضائها في ظروف حاجتهم خلال الفيضانات أو الزلازل أو الحروب الاهلية أو الجفاف او الارهاب.. وقبل هذا وذاك انتقلت الجامعة الى دور المتفرج في اكثر من انعطافة شهدها هذا الارخبيل الجغرافي العاصف من حروب وانشقاقات وخلافات، اللهم إلا من تصريحات لا شك في حرارتها، لكنها لا تغني ولا تسمن من جوع في نهاية المطاف.
على ان تعامل الجامعة العربية مع الازمة العراقية طوال اكثر من عقدين شهدا حربين اقليميتين خاضهما النظام الحاكم في العراق ضد جيرانه وحربا ثالثة تسبب فيها واختارها، وجنى على نفسه بها، يشكل مثالا لتخبط الجامعة العربية حتى في تطبيق بنود ميثاقها وقراراتها وعهودها، وليس من التجني القول ان الجامعة العربية بقيت رهينة سياسات تابعة لعاصمة المقر، وسياسات أخرى للترضية، وثالثة للتهرب من المواجهة وقول كلمة الفصل.
كان العراقيون والملايين من العرب يستجيرون بالجامعة لكنهم لم يجدوا هناك غير ابواب موصدة باردة ليمسوا كمن يستجير من الرمضاء بالنار، ويومها، قبل ما يزيد على ستين عاما، همس النحاس باشا، أول امين عام للجامعة العربية لوفد شعبي عربي حمل شكوى ضد السياسات الرسمية العربية: لا تعولوا علينا ايها الاخوة .. نحن منشغلون(وابتسم) بقضايا أخرى.

 

 

 

الرافضون كثيرون والمتحمسون لاوجود لهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 رحلة المصالحة الوطنية من يوم ولادتها كخيار في مؤتمر لندن في ديسمبر 2002 برعاية الولايات المتحدة حتى آخر منتدى لها عقد في ديسمبر الماضي في مكة برعاية منظمة المؤتمر الاسلامي، تذكّر المتابع برحلة مغامر مصري لف العالم كله على دراجته الهوائية وحين وصل الى مشارف منزله في حي المعادي بعد مشاق سنتين دهمته سيارة طائشة لتنهي رحلة مضنية ذهبت مشاقها سدى.

 قد يبدو هذا الاسقاط متشائما، لكنه الحقيقة المرة، وستبقى المصالحة الوطنية محكومة بمعادلة الاحباط حتى يثبت العكس، وعلينا ان لا نستبعد الشائعات التي انطلقت توا بان الجانب الحكومي العراقي تلقى اشارات مقلقة عن تراجع الحماس في الجامعة العربية لجهة عقد لقاء جديد، هو الرابع، لفرقاء الازمة العراقية، كان مقررا له ان يعقد في الشهر الجاري، وان السبب يعود الى ان 'اطراف مهمة' كانت قد حضرت مثل هذه اللقاءات ابدت عدم رغبتها في اللقاء المقرر في القاهرة، وفي ثنايا الاخبار نعثر على بيان صادر عن التيار الصدري وآخر عن حزب البعث(الدوري) يؤكدان علنا مقاطعة لقاء القاهرة، الى جانب تسريبات عن هيئة علماء المسلمين وجماعة الخالصي وجيوب في الاكثرية البرلمانية تشير الى فقدان الامل بجدوى اللقاء، كل من الزاوية التي يفهم بها المصالحة الوطنية.

 لا يصح ان يعالج موضوع المصالحة الوطنية العراقية من غير ان يجري تثبيت الحقيقتين التاليتين، الاولى، وجود تيارات سياسية وطائفية، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، من المحسوبين على الحكم وقواه المتنفذة والمحسوبين على معارضته ومجموعاتها المسلحة، ترفض خيار المصالحة، اصلا، وتعده بمثابة خيانة وتزكية للطرف الآخر واعترافا بشرعيته ودوره، والثانية، ان غالبية المشاركين في لقاءات المصالحة الوطنية والساعين الى تحقيقها يتهربون من الاحكام التي لا يمكن ان تتحقق المصالحة من دونها وفي مقدمة تلك الاحكام الاستعداد للتضحية بالامتيازات والمواقع والمطالب والشروط الى الحد الذي يصبح مقبولا من الجميع، وبكلمة، وعي فقه المصالحة القائم على الحلول الوسط التي تعني تفكيك منطق 'العفو العام' او 'العودة الى الصف الوطني'او تقاسم السلطة بين اسياد الحرب.

  بعض الرافضين للقاء المصالحة، ولفكرة المصالحة، من المشاركين في العملية السياسية ينطلقون من خندقة طائفية لأن المصالحة تبدأ من  النقطة التي تردم فيها الخنادق، وثمة البعض من شرائح هذا المعسكر تعيش وهم الانتصار بالحرب  ثم الفوز بالسلطة عن طريق الانتخابات، فكيف لها –من داخل هذا المنطق- ان تسلم السلطة لمن فقدها، او تتقاسمها معه، طواعية او بالمراضاة، فيما الرافضون للقاء والمصالحة  من المعارضين و'المسلحين' يخدعون انفسهم بانهم قاب قوسين او ادنى من الحكم، وانهم اهل لهذا الحكم واحق من غيرهم به، فكيف لهم-وفق رايهم- ان يعترفوا بشرعية حكم الاخرين ويحاورونهم كانداد، ثم ان يتعايشوا معهم متنازلين عن برنامج التجييش والسلاح؟ ويضرب بعض مفاصل هذا المعسكر عارض طائفي يمتد في جذوره الى تلك النعرات التي كرسها النظام الدكتاتوري السابق.

 في الخطاب الرافض لخيار المصالحة ثمة القليل مما يخاطب العقل، والكثير مما يعيد انتاج ثقافة الرفض في صيغتها المستعارة من ضجيج السيوف التي مضى اوانها. 

 والان مضى  ما يزيد على عام ونصف على المبادرة التي اطلقها رئيس الوزراء نوري المالكي ذي الاربع والعشرين نقطة لجهة تحقيق المصالحة بين الاطراف والكيانات العراقية المختلفة، والغريب ان احدا من المعنيين بالامر لم يعد اليها، او يراجعها، على الرغم من انها تتضمن افكارا والتزامات محددة في مجالات الدستور والاجهزة الامنية والعسكرية والمعتقلين والخطاب السياسي والاعمار والخدمات والنشاط الارهابي والتكفيري والمليشيات وحقوق الانسان، بالاضافة الى احترام الرأي المخالف للحكومة.
قد يكون السبب الرئيسي في فشل الخطة من ان تصبح قاعدة للمصالحة الوطنية يعود الى الظرف السياسي الذي انطلقت فيه والذي كان يتسم بالاستقطاب وانعدام الحياد والتقاذف بالاتهامات والتهديدات بين فصائل العملية السياسية وغياب الحد الادنى من اجواء الثقة بين قادتها وجمهورها، والغريب ان الخطة، بدلا من ان تناقش كفاية في الهواء الطلق من اجل تطوير واغناء منطلقاتها وتقليص بعض تضميناتها العمومية وترسيم الالتزامات على نحو اكثر وضوحا، فانها تعرضت الى الطعون في دواعيها والشكوك في نياتها، ولم تقتصر المواقف السلبية على معسكر التوافق الذي لم يكلف نفسه مسؤولية المناقشة والبحث فلجأ الى التشهير والتجييش، بل ان اطرافا محسوبة على الاكثرية البرلمانية القت امام الخطة بالكثير من الاعتراضات والحجارة.
وتواصل الموقف السلبي من الخطة حتى مع انعقاد مؤتمر الحوار في شرم الشيخ في مايو من العام الماضي لدعم المصالحة الوطنية في العراق وبحضور ممثلي ستين دولة، واللافت ان المالكي في كلمته اامام المؤتمر تجاوز خطته مؤكدا على الجوانب ذات الصلة بالعلاقات بين العراق وجيرانه وبقضايا الديون والمساعدة على مواجهة الارهاب، في حين تحولت الجهود المحلية لترويج خيار المصلحة الى نداءات من رجال دين من الطائفتين الاسلامية والى اجتماعات استعراضية لشيوخ ووجهاء القبائل انتهت ببركة دم حين فجر مسلحون اجتماعا لهم في فندق المنصور في حزيران 2007 اودى بحياة ستة منهم.
 وبدلا من ان يساعد الائتلاف الحكومي الموسع على تطوير وإغناء حشوة خيار المصالحة فان الانسحابات المتكررة من الوزارة، وبخاصة انسحاب وزراء التوافق الخمسة منها في آب 2007 القت بظلالها السوداء على هذا المشروع واعادته الى نقطة الصفر، على خلفية سؤال مشروع: اذا لم تتصالح اطراف الحكومة مع نفسها فما الحاجة لبحث فكرة المصالحة مع اطراف خارج الحكومة، او في موقع المعارضة منها؟.
الذين تابعوا لقاء البحر الميت الذي دعا اليه المعهد الامريكي للحوار في اكتوبر الماضي ، وهو لقاء ذو طبيعة بحثية، بين ممثلي شرائح وخيارات سياسية عراقية مختلفة يمكن ان يتوصل الى الاستنتاج التالي: ان فكرة المصالحة الوطنية لم تختمر تماما لدى السياسي العراقي مثلما هي مختمرة لدى المواطن العراقي.. الاول يحشرها في حسابات الربح والامتيازات والثاني يلجأ اليها اتقاء الخسارة والمزيد من الكوارث.

  على ان ثمة  ارتباك واضح رافق جهود المصالحة الوطنية منذ انطلاقها غداة سقوط نظام الحزب الواحد ووقوع العراق تحت هيمنة قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة، ويعبر هذا الارتباك عن نفسه في غموض (او التهرب المقصود من احكام)  مفهوم المصالحة بالنسبة لغالبية الاطراف السياسية، حتى اختزلت الى ما يشبه الصفقة السياسية بين فرقاء الازمة، كما اثقلت بمناقشات عقيمة عن الفيدرالية والدستور والهوية والثروة وتناسب الامتيازات بين الطوائف وقضايا تفصيلية كثيرة، ولجأت اطراف مشاركة في حوارات المصالحة الوطنية الى وضع شروط سياسية لا تخفي رائحة الطائفية او المنافع الفئوية او الاعتبارات الاقليمية مما لا يدخل في قوام العناصر التي تشكل معنى ومفهوم المصالحة الوطنية.

وبدلا من ان يجري ترحيل، ما يمكن ترحيله من الخلافات والمطالب والاعتراضات السياسية الى مرحلة ما بعد الاتفاق على خيار المصالحة واطارها العام، فقد جرت عمليات حفر وخندقة عند مواقف سياسية عقدية كان يمكن معالجتها مع احلال اجواء الثقة بكفالة عهد الشراكة وفي مجرى اعادة البناء وترسيخ نظام التعددية  والدستور، كما حصل في جنوب افريقيا، إذ بقيت عالقة الكثير من الملفات والقضايا المختلف عليها الى ما بعد التوقيع على ميثاق المصالحة الوطنية، وآنذاك انفتحت الافاق، رحبة وبعيدة عن التوتر والاحتقانات، امام تسوية تلك القضايا، ثم قبر الى الابد نظام الابارثيد، لكن على خطوات ترسخت بارادة المصالحة  القائمة على مبدأ الاستعداد للتضحية بالامتيازات وحُصنت بالثقة المتبادلة بين الفرقاء، وتحولت الى بيئة وطنية جرّت المجتمع كله الى بناء دولة مدنية تتعايش فيها الجماعات السكانية المختلفة. 

وكان على اطراف الازمة السياسية العراقية، التي التزمت خيار المصالحة ودخلت في سلسلة حوارات لتحقيقها، ان تدخل في التنافس على التضحية بالامتيازات والمواقع سبيلا لاقناع الجمهور بجديتها وحرصها على تجنيب البلاد المزيد من الويلات، ثم، ان تتجنب الاستغراق في تفاصيل الخلافات السياسية وان تنأى بنفسها عن املاء الشروط على بعضها وان تستثمر(وهذا امر مهم) تعاطف الشعب الجارف مع خيار المصالحة باعتباره مصدّاً امام حريق الحرب الاهلية الكارثي المخبوء في اجندة الارهابيين والطائفيين، ولو ان هذه الاطراف، تملّت جيدا معادلة المستقبل برجاحة العقل والمسؤولية لتوصلت الى النتيجة التالية: ما لا يمكن تحقيقه بالحوارات والسجالات المضنية وسياسات التهديد والابتزاز والمناورة وكسر العظم يمكن ان يتحقق في اجواء المصالحة والاسترخاء والشراكة، ولو بعد حين، اخذا بالاعتبار الحقيقة الاخرى الاكثر اهمية وهي انه في حال انهارت جهود المصالحة وسويت بالارض هوامش الحوارات بين اطراف الازمة فلن يبق، بعد ذلك، اثر للامتيازات والمواقع التي يتخانقون عليها، بل ستكون، اغلب الظن اطلالا.. وربما اعشاشا للقالق.

 

زعماء العالم مروا من هنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 من زاوية اخرى يبدو ان الكثير من ساسة العالم وزعمائه وضعوا اسماءهم في سجل المصالحة الوطنية، وقد غلبت على الكثير من مبادراتهم كلمات 'النخوة' والنصيحة والاستعداد لتقديم المساعدة، عدا عن انها، ومن دون استثناء، كما كان يؤكد الامين العام السابق للامم المتحدة كوفي عنان، تشدد القول على انه من دون اتفاق العراقيين انفسهم على جدوى المصالحة في ما بينهم فانه لا مستقبل لأي مبادرة تأتيهم من الخارج.

 ويبدو ان مبادرة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وهي آخر المبادرات الدولية التي يجري تداولها هذه، تمضي بهذا الاتجاه وإن كانت تفترق عما سبقها في نقطة جوهرية تتمثل في انها تعزل بوضوح قوى العنف والارهاب والمليشيات (المتطرفون) كما افادت الصحف الفرنسية، وهو امر له دلالته مثلما هو يقترب من جوهر استعصاءات عملية المصالحة الوطنية، إذا ما اخذنا بعين الاعتبار حقيقة ان ثمة فئات متطرفة انتقامية، مسلحة وغير مسلحة، تناهض خيار المصالحة، اصلا، وتسعى الى تخريب اية خطوة لجهة تنقية الاجواء وجمع الاطراف السياسية على طاولة الحوار.

مشكلة مبادرة الرئيس ساركوزي تتمثل في انها تعتمد المبادرة الفرنسية حول الازمة الحكومية اللبنانية قياسا وهيكلا للمصالحة العراقية، وذلك بعد حصول باريس على اجازة مرور(موافقة اولية) من دمشق الى طاولة الحوار اللبنانية، وهو قياس غير صالح طبعا للقضية العراقية إلا في حدود سياسية عمومية(تسوية الحساب مع الامريكان على ساحة مجاورة) بل ان علاقات فرنسا المتردية مع طهران (واختلافها في مابعد مع سوريا) قد تقف حائلا دون اي دور فرنسي في القضية العراقية، وربما لهذا السبب لم تحظ المبادرة الفرنسية الاولى في نوفمبر من العام الماضي بحماس في العراق وايضا، في دول الجوار المؤثرة، اضافة الى ان فرنسا لا تملك نفوذا في العراق يضاهي نفوذها التاريخي في لبنان.

على انه ينبغي الحذر في التعامل مع موجبات 'عزل المتطرفين' المناهضين للمصالحة الوطنية، فان الامر بحاجة الى مبضع تشريح شديد البصيرة والحكمة، فان للمتطرفين، من الطائفتين، ومن فئات تجييشية، نفوذ كبير على المعنيين المباشرين بخيار المفاوضة، بل ان بعض المشاركين في المفاوضات تبنوا افكار اولئك المتطرفين وسربوا اجندة الارهاب والمليشيات واملاءات دول الجوار الى طاولة الحوار، وثمة بعضهم اعلن من دون خجل انهم شاركوا في حوارات المصالحة لغرض 'التلصص على نيات الاخرين وعلى سبل تفكيرهم'.

الامر الايجابي، ذو الكلفة الباهضة، يتمثل في تراجع نفوذ وقوة القوى المسلحة  الاكثر تطرفا ودموية وايغالا بالجرائم، الامر الذي يشكل عاملا مشجعا للمضي قدما في تفعيل خيار المصالحة الوطنية ويستطيع المراقب ان يرصد في كومة الاخبار والتصريحات بعض المؤشرات الايجابية على وعي جديد لخيار المصالحة، وتناقلت الالسن بعض الاستعدادات للمرونة.. قلت الالسن، اما القلوب فعلمها في الغيب.. وما ادراك ما الغيب.   

463
المالكي.. بصراحة

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

انضمُ، شخصيا وعن صدق، الى الترحيب بعودة رئيس الوزراء نوري المالكي من رحلة العلاج، سالما معافى، متمنيا له النجاح في مهمة نقل الجسم الحكومي الى السلامة والمعافاة.. وهي فرصة –في نهاية الامر- لكي نعود الى حكمة الحياة الازلية انه من دون مراجعة وتشخيص وعلاج لا يستقوى الجسم على مصاعب العمر، ومن دونها، ايضا، لا تستقوي الحكومة على تحديات المرحلة.

ولا اخفي خشيتي من ان تكون مظاهر الترحيب الاستعراضية التلفزيونية بالسيد المالكـــــي في بغــــداد وحشــــود المهنئــين بصوره الشــخصية عــــادة اعلاميـــــة يتنافــــس عليهــــا الزعماء السياسيون الاخرون في المستقبل، فيعود الى الشاشات الملونة  ما كان قد قُبر مع النظام السابق، ثم تقفز بنا الذاكرة الى مهازل “بالروح بالدم” المقيتة، ولا اظن بان رئيس الوزراء بحاجة الى ذلك بعد ان قطع شوطا طويلا في عفة عن اغواء الدعاية والمديح.

على ان لوازم الصراحة  والمسؤولية  والحرص تضعنا امام فروض الاشارة الى خطورة المبالغة في الحديث، بهذه المناسبة، عما حققته الحكومة وطاقم المالكي من خطوات ونجاحات، والى الاستطراد الاعلامي في تجهيز صورة  غير واقعية عن الاوضاع، وعن احوال التشكيلة الوزارية وادائها وانسجامها ومصائر برنامجها وسياساتها والتزاماتها، ويذهب بعض انصار المالكي الى تبرير هذه المبالغة بالقول انها تساعد في تهدئة الرأي العام وتفوت الفرصة على اعداء الاستقرار واعادة البناء، وهو تبرير غريب يلحق الضرر بمصداقية الحكومة، لان الرأي العام لم يعد، كما كان في السابق، مدفونا في علبة الحصار والخوف واباطيل السلطة الغاشمة، ولم تعد حقائق الامور، الآن،  بعيدة عن بصره وبصيرته.

ان المعاينة الموضوعية لأحوال حكومة المالكي لا ترصد إلا نجاحات جزئية في مجال الامن، واقل من جزئية في مجال العلاقات الاقليمية والدولية، في حين تفاقمت ملفات لا تقل خطورة واهمية عن الامن والعلاقات الخارجية.. ملفات موصولة باداء الجهاز الحكومي المشلول بسبب استقالة نصف وزراء الحكومة وعجز رئيسها حتى الان، مع مرور اكثر من ستة اشهر من المحاولات والوعود، عن اعادة هيكلتها واستئناف برنامجها وعملها، او تسهيل عودة النازلين من قاطرتها.

ثم، لا يمكن للمراقب الموضوعي ان يفسرالاسلوب الذي تتعامل به حكومة المالكي مع التوقيتات الدستورية والهروب من الالتزامات المعلنة وبخاصة بصدد المادة 140 الخاصة بتطبيع الاوضاع في كركوك غير انه هروب من مسؤوليتها، كما لا يمكن السكوت عما يجري في البرلمان، وهو المرجعية التشريعية للحكومة، من مهازل وتجاذبات ومواقف اقل ما يقال عنها انها تُسقط هذه المؤسسة وحكومتها من اعين الجمهور، وتكشف عن اعتلالات العملية السياسية كلها.

للانصاف، ينبغي القول انه لا يصح القاء مفردات هذا الاعتلال على عاتق  رئيس الوزراء واعفاء حلفائه وشركائه من المسؤولية، لكن هذا لا يعدو ان يكون نصف المعادلة التي يمسك السيد المالكي بنصفها الآخر، وعلى الاقل، مطلوب ان يصارح الشعب.. لا ان يقدم له صورة زاهية عن واقع الحال.

ـــــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

“ ما هو طبيعي أفضل مدرسة لبناء عقل منتج”.   

                                       نظرية فيزيائية


464
انا المُوقع ادناه.. اناشدكم


 

 

عبد المنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

لقد خذلتموني ايها الاصدقاء.. عفوا.. اقول اشعر بالخذلان.. إذْ طويتم محنتي وقصاصاتي وخواطري بين مشاغلكم، وتعللتم بسوء الانواء والاحوال والحظوظ لتنكروا خطواتي بينكم، وقبلتم ان يندس اسمي، انا صديقكم الدكتور شاكر اللامي، طي النسيان، بذريعــة تزاحــــم اسـمـــاء الضحايـا في نشرات الاخبـــار، وزحمــة النائحـين والثكلـى والهائمين على وجوههم، وتواكلتم على القدر عله يأتيكم بخبر ما عني، وعلى الصدف علها تفك وثاقي وسر اختفائي، فيما انا مغيّب حين اختطفنـي ملثمــون بدشاديــش ولحـى ووجـــوه بدويــــة صفراء على اطراف مدينة بعقوبة منذ حوالي عام.

فاذا كنت لا ازال على قيد الحياة، انا الدكتور شاكر اللامي، فان فروض الوفاء لرفقة الكلمة وزمالة المهنة ومشوار الصداقة والنضال تلقي عليكم واجب البحث عني، والاهابة بالسلطات ومفارز الجيش والشرطة وجميع المواطنين والقرويين للاسترشاد الى حيث اكون، والاستدلال الى الخاطفين المتوحشين. اما اذا كنت قد فارقت الحياة طعما لبلطات الخاطفين وهمجيتهم فانني أأتمن دمي وقميصي لديكم، حتى تقتصوا من القتلة الذين الحقوني بشقيقتي الشهيدة، وحرموا زوجتي  مشوار حياة وعهد، واولادي حق رعاية احوج ما يكونون اليها، وطلابا قدمت لهم بعض معرفة وعلم وينتظرون المزيد.

أذكركم، انا شاكر اللامي، صاحب اللون الاسمر والصوت الهادئ والضحكة الهادرة، الحاصل على الدكتوراه في الادب الانكليزي، المحاضر  في جامعات ليبيا  وفنون بغداد الجميلة، الكاتب والصحفي والانسان، العضو في اتحاد الادباء والكتاب العراقيين، العائد من المنفى منذ اول اسبوع لسقوط النظام القاتل، المشبع بحبكم وحب العراق وحب العدالة، وأقول: انا في امس الحاجة اليكم.. الى صوتكم، يناديني عبر فضاء بارد اتوزع فيه بين الموت والمستحيل والحياة.     

وزعوا صوري، انا الدكتور شاكر اللامي، في كل مكان، ليس لأن حياتي اغلى من حيوات شركائي الاخرين من ضحايا التغييب الهمجي، من اشرف النساء واروع الاطفال وانبل الرجال واكرم الشيوخ، من الاطباء واساتذة الجامعات ورجال الاعمال والعمال والمزارعين والعابرين. وزعوها في الحارات والساحات ومفارق الطرق، لا لأني اراهن على شفقة محترفي الاجرام ومصاصي الدماء، ولكن لاني آمل ان يتحول الاسى علينا والصمت ازاء قضيتنا، نحن المختطفين، مجهولي المصير، الى حركة شجاعة قد تنجح في انقاذ حياة بعضنا، وقبل هذا من اجل تسليط الضوء على ابشع جريمة من جرائم العصر مسجلة باسم  العصابات المسلحة التي تنكل فينا وتحطم حياتنا وحياة عائلاتنا باسم تحرير العراق واعلاء كلمة الاسلام.

ادعوكم اصدقائي، انا الدكتور شاكر اللامي، ان لا تتخاذلوا امام مسؤوليتكم، وان لا تنهزموا امام الذئاب التي يجدر ان تسدوا عليها المنافذ حتى لا تختطف المزيد من الضحايا الابرياء.من اروع واجمل واشجع وانبل واشرف واسخى العراقيين.

ـــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

' يوم العدل على الظالم .. أشد من يوم الجور على المظلوم'.

              قول مأثور

 

465
اختراع قطري جديد.. دولة لا تشبه غيرها


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

 الفكرة بسيطة جدا: امارة قطر لم توجه الدعوة الى العراق لحضور القمة الخليجية التي ناقشت في الدوحة مؤخرا ملف "امن العراق" والسب هو ان بعض الاطراف العراقية "تشعر بانها لا تعامل كمواطنين كاملين" والكلام الاخير لرئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، ونقلته عنه وكالات الانباء.. و"البعض" الذي يعنيه المسؤول القطري الرفيع هم السنة العرب العراقيين طبعا، إذا شئنا الصراحة والايضاح، واقطع(اكرر: اقطع) انه لم يكن ليعني، باعتراضه، العراقيين من المسيحيين ولا الايزيديين ولا الصابئة المندائيين الذين تعرضوا ويتعرضون الى تهميش بالمذابح والاجلاء على يد مليشيات محلية مدللة من جانب، وعصابات مسلحة تحظى بمباركة امارة قطر، من جانب آخر.   
 والفكرة، كما ترون، تقوم على ثلاثة عناصر، الاول، اعلان وجود طائفة عراقية مهمشة، وهو امر قيد الجدل داخل العراق في المقام الاول، وله ابعاد حساسة وخطيرة  وتاريخية مما لا يمكن القول انه حال لا وجود له بالمرة، ولا الزعم انه ملفق من قبل حمد بن جاسم، وساقول اكثر من ذلك ان بعض الشعور(السني) بالتهميش  له ما يبرره باندلاع حملات اقصاء واجلاء تعرض لها سكان من الطائفة السنية بعد سقوط نظام الدكتاتورية، او في خلال نعرات انتقامية من فئات طائفية سياسية (شيعية) متطرفة وتجييشية، وبعضه  الاخر مبالغ فيه من قبل الفئات والمشايخ الطائفية السياسية (السنية) لدواعي المتاجرة والنفوذ والزعامة ولأغراض التسول في المحافل العربية.
 والعنصر الثاني يتعلق بسابقة اقليمية انقلابية خطيرة عنوانها الاتي: عزل الدولة التي "تشعر" بعض مكوناتها انها "لا تعامل كمواطنين كاملين" الامر الذي يمكن ان يكون سببا لعزل حكومة قطر، قبل غيرها، فان 43 بالمائة من سكانها (هم افراد قبيلة آل مرة) يعانون من اجراءات منهجية تضعهم كمواطنين من الدرجة العاشرة، بل ان فخذا كبيرا من القبيلة هو (فخيدة الغفران) تعرض الى اضطهاد سياسي بالجملة بظنة عدم الولاء لامير الدولة بعد تداعيات الانقلاب الفاشل عليه عام 1995واسقطت الجنسية، فعلا، عن 5266 عائلة منهم، وطبقا لرئيسهم الشيخ طالب بن شريم المري(المقيم في المانيا) فان الحكومة القطرية تستخدم سياسة عنصرية مقيتة ضد اصحاب البلاد الاصليين.
 طبعا، هذه ليست وقائع كيدية مفتعلة، للرد (بالمِثِل) على حمد بن جاسم، فللقضية  ملف كبير لدى مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والامم المتحدة، مما يلزم اي حكومة معلقة برقبتها مثل هذه الجثة ان تخجل من الحديث عن شعور المواطنة الكاملة في بلد آخر، وسيكون الامر اكثر بشاعة اذا ما اخذنا بالاعتبار( ونحن نتحدث عن القاعدة التي وضعتها قطر آل ثاني بعدم دعوة العراق الى القمة الخليجية) شكاوى التهميش والاقصاء الممنهج ضد الاقليات والكيانات الوطنية (بالاضافة الى قطر) في غالبية دول الخليج والجامعة العرابية ودول الشراكة الامنية الاقليمية، ما ينبغي ان يدخل في صلب هذه القاعدة، ويوجب عدم دعوة حكوماتها الى القمم والمؤتمرات الدورية، فثمة الاقباط والنوبيين في مصر، والاماريغ في الجزائر، والمسيحيين في السودان، والاكراد في سوريا، والشيعة في السعودية، والحضارمة والجنوبيين في اليمن، والسنة في ايران، والاكراد في تركيا.
 اما العنصر الثالث في الاختراع القطري الجديد فيمكننا قراءته في مهزلة ان يكون قدر العراق ومصيره لعبة بيد حمد بن جاسم آل ثاني.. انها نكتة، اليس كذلك؟.
ـــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
" إذا ابتسمت أتاك الأصدقاء، وإذا عبست أتتك التجاعيد".
جورج أليوت 

466
جداريات وصور "الزعماء" ..
مالذي تغير؟

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
 
في السياسة، قد يخترعون لنا اشياء لا وجود لها، حتى لتبدو انها صنعة اكثر من كونها علما من علوم المجتمع والحياة، ومن خلالها قد يضفون صفات انسانية على مخلوقات لا تستحقها، وقد يثير لدينا، خاطر ما، افكارا عجيبة عن الحياة لا جنس ولا مقاس ولا طعم لها، وذلك حين نرصد جملة من المفارقات، وكأن السياسة لا ذاكرة لها، او  كأن الساسة لا رؤوس لهم.
والسياسة قد تبرر للخطايا مثلما تبرر للعثرات، وثمة القليل من ابطالها من يعترف بخطاياه وعثراته، ويطلب السماح والعفو، يحدث ذلك عادة في المحاكم، والسبب يعود، في جزء منه، الى ما كان يسميه الجاحظ بالبطانة، او ما يسميه الادب السياسي الايراني بالحبربشية..فالبطانة والحبربشية يغوون الزعامات الفارغة بمواصلة الخطيئة والسقوط في العثرات. 
في حمية التحزب، والانحياز الاعمى  للقبيلة أوالنوع أوالمذهب أوالدين أوالزعيم، قد يضطرون –وانا اتحدث عن ظاهرات سياسية- الى النزول منزلة الاساءة الى الممدوح ، والمرء، كما يقول الامام علي، يتسخ بالمديح وبالتزلف، وقال لي مرة احد الذين عملوا مع النظام السابق ان (الرئيس) ابدى،مرة، انزعاجه من مديح الصحافة له، لكنه، بعد أيام –كما يقول الرجل- راح يتساءل عما حدث ليتوقف نشر صوره عندما كف المهرجون عن جلد العراقيين بتلك الابتسامة المتشفية بهم يوميا، وفي حارتنا كان المخبول ( خلودي) يحتج على الصغار الذين تعودوا على الاحتشاد خلفه ورميه بقشور الرقي، لكن خلودي، مثل الكثير من الساسة، كان يقف وسط الحارة حين لا يجد الصبيان وراءه، صائحا: "وينهم" .
الانحطاط السياسي في العراق فتح الباب(منذ العهد السابق) امام انحطاط فن الارتزاق ووجد تعبيره، الآن، في انتشار صور الساسة والمشايخ ، بشكل عشوائي مضحك، الساحات والمنعطفات وجدران العمارات العالية، رسمها (او ارتكبها) مبتدئون جهلة تفننوا في تصنيع البراءة والابتسامة على وجوه لا تبتسم في سرّها، والغريب مما نسمعه ان بلديات مدن اقامت مباريات لمن يرغب برسم صور كبيرة لساسة ومتنفذين مُطاعين.   
كنا نعتقد ان المشهد المقرف لجداريات وصور صدام حسين سيحل في ذاكرة  ساسة العهد الجديد كمخلفات استفزازية بائدة، وستشكل وحدها عقدا سياسيا واخلاقيا ضد هذه الظاهرة المعيبة، وليس من دون مغزى ان يهتم المراسلون الاجانب بنقل الجداريات والصور الجديدة  من على جدران المدن الصماء ومنعطفات الشوارع الكونكريتية واعمدة الكهرباء الباردة بالكثير من الاستغراب، ولم  يتوان مراسل فرنسي كان قد زار بغداد قبل عشر سنوات، من القول بعد ان زار العراق الشهر الماضي "شاهدتُ صورة كبيرة لزعيم محلي تنتشر من حولها مستنقعات من الصرف الصحي، وتنام تحت قوائمها الحديدية نعاج ضعيفة وجائعة". 
وهكذا فان السياسة تغوينا –إن لم نتحصن كفاية- على الاستطراد الفائض، وتكشف لنا المزيد مما لم يخطر على بالنا، فلم يكن برام ستوكر قد تخيل ان هناك مخلوقات تمص دماء البشر قبل ان يلتقي عام 1890 بشكل عابر بمصاص دماء من البشر  ليخترع من مشهده شخصية دراكولا.
 
كلام مفيد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
 " إذا اصبح الشيطان جسرا، إعبر النهر سباحة ".
مثل كردي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد
 


467
اعتذر لكم مائة مرة ..
فليعترف الضاري مرة واحدة

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

السؤال الاول هو: إذا سقط رجل اعلامي وكاتب متابع، مثلي، ضحية نصب اعلامي، ومشتْ عليه فرية محسوبة بالارتزاق والكيد والسفاهة، فما حال المواطن العراقي البسيط الذي تغير عليه، من كل جانب، عواصف اعلامية صفراء على مدار الساعة؟ انها مفارقة سوداء جديرة بالملاحظة والتأمل والمراجعة.
وقبل هذا، لا ادري ما اذا كان الاعتذار يكفي لوحده عن غفلة لي، ما كان لها ان تحدث لو عاينتُ بعين الحذر خبر المذبحة المزعومة التي تعرضتْ لها، في حي الشعب ببغداد، عائلة من احد عشر فردا غالبيتهم من النساء والاطفال تعود لأحد الصحفيين المقيمين في الخارج يدعي انه يعارض الحكومة والاحتلال، فاتضح، بعد ذلك ان المذبحة لا وجود لها، وان الصحفي مهرج.
باختصار، هزني خبر المذبحة، ولم اجد، للوهلة الاولى، ما  يحول دون احتجاجي على "غارة" تحصد عائلة عراقية بكاملها، فهرعت الى انسانيتي ووطنيتي كي انقذهما من ظنة التواطؤ مع"جريمة" شنيعة بكل المقاييس، فكتبتُ ما كتبت، قبل ان يسطع النور في صالة الحقيقة ليظهر ان القصة، من اولها الى لآخرها، تنتسب الى خواطر السفهاء الاعلامية الشائعة بغرض التكسب والتجييش، وربما باغراض اخرى اجهلها.
في التفاصيل انضم الشيخ حارث الضاري الى المسرحية المفبركة و" اخذ من خاطر" الصحفي النصاب، وقرأ الفاتحة على ارواح عائلة عراقية لم تمت، كما انضمت الى الحفلة الكوميدية شاشات ملونة لا احد يشك في خلفيات حماستها الفاقعة لمثل هذه الحفلات، واغرب ما في التفاصيل ان ابطال المسرحية اخذتهم العزة بالاثم فتمسكوا بالنص على الرغم من بطلان اعمدته، وان الصحفي المزعوم استمر في اللعبة حتى بعد ان بادرت والدته الى تكذيب الرواية واعلان شقيقاته التبرؤ من اسمه.
وطوال نهار كامل كنت اسعى، عبثا، للاتصال بوالدة الصحفي الدعي، او احدى شقيقاته، لكي اعتذر لهن عن زلتي، فكفاني الدكتور علي الدباغ الناطق باسم الحكومة   عناء البحث فقال مشكورا: "لقد تحدثت شخصيا مع والدة ضياء الكواز وانكرتْ تماما ان العائلة تعرضت الى تصفية جسدية" واستدرك القول "ان فردا واحدا من العائلة تعرض الى حادث في الكوت والعائلة جميعا سالمة، ولم تتعرض الى اي اذى" ثم جاءت وكالة الصحافة الفرنسية ومنظمة مراسلون بلا حدود واقنية اذاعية وتلفزيونية عراقية وعربية بوقائع الكذبة المخجلة.
لا انسى ان اول من لفت انتباهي الى زلتي بالتضامن مع "نكبة" الدعي هو الاعلامي الزميل انور عبدالرحمن ناشر موقع صوت العراق على شبكة الانترنيت، إذ همس لي حال قراءته لمقالتي وقبل ان ينكشف زيف الرواية "الخبر ليس صحيحا.. انني اعرف صاحبه.. هناك الكثير من الاكاذيب في سجله.. إنتبه عيوني".
والان، بعد كل ما حدث، اطلب الغفران من تلك العائلة العراقية الطيبة، وأقبَل عيون اطفالها واحدا واحدا، واعتذر مائة مرة من كل قارئ اطلع أو قرأ ما كتبت، واطلب من الشيخ الضاري ان يعتذر، مرة واحدة، لتلك العائلة التي شيعها الى مثواها وهي على قيد الحياة، فيما لم يشارك في تشييع عشرات الالوف من العراقيين الذين قتلوا على يد عصابات يخصها بالتأييد المباشر والدعم العلني، وقد اصر على موقفه الاخير من مسرحية حي الشعب حتى بعد ان بان الحق وزهق الباطل.. ان الباطل كان زهوقا.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــ
" أذا خسرنا الحرب .. لا غرابة.
لأننا ندخلها
بمنطق الطبلة و الربابة .."
                  نزار قباني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

468
جملة مفيدة
ــــــــــــــــــ
عبدالمنعم الاعسم


مذبحة مدينة الشعب..
الصحفي مطلوباً


 لا اعرف عبارة مواساة، في اللغة، اي لغة، يمكن ان تخفف من فجيعة انسان فقد، مرة واحدة، احد عشر فردا من عائلته، شقيقتان وزوجاهما واولادهما، في مذبحة انتقامية لا سابق لوحشيتها وسفالتها إلا في هذه البلاد التي رماها حظها العاثر بمواجهة عاصفة صفراء ليست مجهولة المهب، وعلى طريق قطاع طرق منفلتين ليسوا بلا اسماء.
  وماذا يمكن ان نقول للصحفي المنكوب ضياء الكواز، من كلمات، لكي يستقوي على فجيعة عائلته المأساوية؟ وأي يد يمكن ان نمدها اليه لتجمع امطار دموعه وجمرات لوعته؟ وأي توصيف صالح يمكن ان نلقيه  على جريمة اغتيال جماعية ضُمّت الى سجل الجرائم المتوحشة؟ وما الذي سنكتبه في تقاويم هذه البلاد عن سبب واحد يدعو الى انتزاع سبعة اطفال من فراش النوم واطفاء النور في عيونهم برصاص غزير؟.
 على ان ثمة ثلاث قضايا اثارتهما هذه المذبحة التي تشكل فصلا جديدا في جرائم الابادة الجماعية، الاولى تتمثل في القتل من اجل شفاء الغليل، او القتل بـ"الجريرة"  ففي حافظة الاعمال الاجرامية الانتقامية، لهذه المرحلة العراقية، ثمة الكثير من البشاعات وامثلة القتل والاختطاف، غير ان الاكثر بشاعة من كل ذلك تتمثل في الانتقام من شخص بجريرة آخر شفاء للغليل.. الانتقام من الابن بجريرة والده، ومن الاخ بجريرة اخية، والام بجريرة ابنها، وجميعها مستعارة من اخلاق الغابة ومن تقاليد عهود ما قبل الحضارة
  والقضية الثانية، ما يتصل بارهاب الصحفيين والكتاب او اغتيالهم واختطافهم، اذ بلغ الارهاب، في هذه المذبحة، حدا خطيرا بتمديد حدوده لتشمل اسر الصحفيين وعائلاتهم، ففي البداية كان تهديد عائلاتهم وابتزازه، والآن إبادتها الجماعية بما يشبه الانفال، مما يخلق جوا من الريبة ازاء امكانية حماية اصحاب الراي والكتابة الحرة ممن يعارضون العهد القائم، او مناهضي احد اطرافه المتنفذة، او منتقدي فئة موالية لدولة مجاورة، او ممن يتصدون، بالقلم،  للفساد او التدخل الاقليمي او قوات الاحتلال او المربعات الطائفية او الزعامات او المافيات، هذا عدا عن التهديدات واعمال الاختطاف والقتل الى واجهت وتواجه اولئك الذين يناهضون المشروع الارهابي البربري.
 اما القضية الثالثة التي تطرحها جريمة مدينة الشعب، فيمكن رصدها في الصمت المخجل للجهات الرسمية التي لم تحركها مذبحة طالت عائلة عراقية بريئة لاعلان تعاطفها مع الضحايا.. او في الاقل اعلان براءة ردائها من جريمة نفذت بسيارات محسوبة على الحكومة، ومن قبل طرف سياسي يتجه له مليون اصبع بوصفه "مشتبه به" باراقة دماء طاهرة على قياس جرائم اخرى ارتكبها ذي ماركة مسجلة باسمه.
ـــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــ
"باب الصبر ما عليه ازدحام".
مثل مغربي   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

469
فعلنا بالنساء..ما لم يفعله هولاكو

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء 25  نوفمبر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  ماذا عملنا بانفسنا؟.
  وأية سمعة معيبة سنتركها الى الاجيال المقبلة؟.
  لقد دخلنا على هيئة ثيران الى متاحف الخزف فنطحنا كل ما يمت الى النساء بصلة.. الثريات والاباريق وخواطر الاجنحة والفتيات الطائرات وسلام الارواح الزجاجية، من دون احتساب لشناعة هذه الهمجية؟.
 من اين جئنا بهذه الجلافة: دشاديش قصيرة، وغربان ريفية سود، ورطانات من الخرافة، ومحاكم شوارع، وفتاوى بعناوين مخيفة، وجيوش باسماء عجيبة نكتشف كل يوم اثرها المروّع في ديالى والبصرة والديوانية وكربلاء واحياء العشائر في بغداد.
 ماذا حل برؤوسنا؟.
 لقد اجتاح التتر العراق، باسم الوثنية، واحتلوه مئتي سنة ولم يغتصبوا امرأة عراقية واحدة، واجتحنا كربلاء سنتين، باسم الاسلام، فاغتصبنا خمس وعشرين فتاة عراقية، هي حصيلة رسمية اعلنها مسؤولو المحافظة، بالصوت والصورة.
 ثم اجتحنا الديوانية فغنمنا الكثير الكثير، من بينها بكارة سبع فتيات رماهن حظهن العاثر في طريقنا، واقمنا هناك ولائم دموية باذخة، حسدتنا الكواسرعليها. 
 لقد تعاقب على البصرة اربعمائة حكم جائر لم يجرؤ واحد منهم ان يهين النساء بالطريقة التي نهينهن بها، ولم يقتلهن كما نقتلهن ، ولم يجرؤ احد ليذل المسيحيين ويجليهم ، فحكمنا البصرة شهورا أهنّا خلالها النساء، وفرضنا عليهن ملازمة المنازل، ثم هجّرنا من المدينة المسبية نصف سكانها المسيحيين.
 اننا نأتي بما لم يأت به من قبلنا الهمج.. لماذا؟.. ولماذا الف مرة، نجعل من نسائنا مختبرا لفحولاتنا الريفية السياسية الفاجرة؟ وكيف تسنى لنا ان نكسي تلك الافعال الشنيعة بآيات من الذكر الحكيم، ووعود اليوم الذي ستمتلئ فيه الارض عدلا وسلاما.   
 طبقا لما يقوله شاهد منا، وهو اللواء الركن عبدالجليل خلف الشويلي قائد شرطة البصرة، فان مجموعات مسلحة من بين ظهرانينا قامت بقتل خمسة عشر إمرأة في شهر واحد، ورمت بجثثهن في الشوارع مع بيّنات عن محاكم دينية اقيمت لهن، وقال، ان إرهاباً جديداً يمارس عبر التهديد بالقتل ضد النساء بشكل خاص، في كل مكان، وهناك فئة تحدرت من صلبنا  احترفت مطاردة النساء اللواتي لم يلتزمن الزي الموحد(الكفن) كلباس شرعي، وتفننت في التمثيل  باجساد الضحايا، فروضَ مسميات عدة  "وهي في الحقيقة عصابات إجرامية  لم تشهدها مدينة البصرة من قبل" كما قال قائلنا.
 تعالوا نحصي جرائمنا بحق انفسنا: اقسمت اربعة فتيات جئن من بين ضلوعنا "بالله العظيم" ان مسلحين بلحى ونصف عمائم  ولهجات ريفية اغتصبوهن في مساجد، ثم هددوهن بالقتل في حال افشاء السر.
 والغريب اننا نعرف اسماء الفاعلين وارقام هواتفهم المحمولة، ونجد لهم الاعذار، وبعضهم يحمل لقب نائب في البرلمان العراقي.
 ثم ما الذي –بعد كل ذلك- نعدّ للغد من ولائم التنكيل ببعضنا، ومن حفلات الاغتصاب والمهانة بحق نسائنا، حيث نتبارى في تدمير الجسور التي نعبرها الى المستقبل، ونتنافس على البخشيش الذي يُلقى به الينا من وراء الحدود؟ واي دفاع مخزٍعن انفسنا سيكون حين تهب نساء العراق الى حساب طال امده، لندفع ضريبة الجرائم التي نرتكبها بحقهن، أو ضريبة الصمت الذي نتسلى به في غيبوبة.. وفي ضمائر منقعة بالخل ابداً؟.
 
كلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
"دع الطفل يصرخ ولا تصرخ عليه".
                              مثل عُماني
 
ـــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

470

فعلنا بالنساء..
ما لم يفعله هولاكو

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد النساء 25  نوفمبر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  ماذا عملنا بانفسنا؟.
  وأية سمعة معيبة سنتركها الى الاجيال المقبلة؟.
  لقد دخلنا على هيئة ثيران الى متاحف الخزف فنطحنا كل ما يمت الى النساء بصلة.. الثريات والاباريق وخواطر الاجنحة والفتيات الطائرات وسلام الارواح الزجاجية، من دون احتساب لشناعة هذه الهمجية؟.
 من اين جئنا بهذه الجلافة: دشاديش قصيرة، وغربان ريفية سود، ورطانات من الخرافة، ومحاكم شوارع، وفتاوى بعناوين مخيفة، وجيوش باسماء عجيبة نكتشف كل يوم اثرها المروّع في ديالى والبصرة والديوانية وكربلاء واحياء العشائر في بغداد.
 ماذا حل برؤوسنا؟.
 لقد اجتاح التتر العراق، باسم الوثنية، واحتلوه مئتي سنة ولم يغتصبوا امرأة عراقية واحدة، واجتحنا كربلاء سنتين، باسم الاسلام، فاغتصبنا خمس وعشرين فتاة عراقية، هي حصيلة رسمية اعلنها مسؤولو المحافظة، بالصوت والصورة.
 ثم اجتحنا الديوانية فغنمنا الكثير الكثير، من بينها بكارة سبع فتيات رماهن حظهن العاثر في طريقنا، واقمنا هناك ولائم دموية باذخة، حسدتنا الكواسرعليها. 
 لقد تعاقب على البصرة اربعمائة حكم جائر لم يجرؤ واحد منهم ان يهين النساء بالطريقة التي نهينهن بها، ولم يقتلهن كما نقتلهن ، ولم يجرؤ احد ليذل المسيحيين ويجليهم ، فحكمنا البصرة شهورا أهنّا خلالها النساء، وفرضنا عليهن ملازمة المنازل، ثم هجّرنا من المدينة المسبية نصف سكانها المسيحيين.
 اننا نأتي بما لم يأت به من قبلنا الهمج.. لماذا؟.. ولماذا الف مرة، نجعل من نسائنا مختبرا لفحولاتنا الريفية السياسية الفاجرة؟ وكيف تسنى لنا ان نكسي تلك الافعال الشنيعة بآيات من الذكر الحكيم، ووعود اليوم الذي ستمتلئ فيه الارض عدلا وسلاما.   
 طبقا لما يقوله شاهد منا، وهو اللواء الركن عبدالجليل خلف الشويلي قائد شرطة البصرة، فان مجموعات مسلحة من بين ظهرانينا قامت بقتل خمسة عشر إمرأة في شهر واحد، ورمت بجثثهن في الشوارع مع بيّنات عن محاكم دينية اقيمت لهن، وقال، ان إرهاباً جديداً يمارس عبر التهديد بالقتل ضد النساء بشكل خاص، في كل مكان، وهناك فئة تحدرت من صلبنا  احترفت مطاردة النساء اللواتي لم يلتزمن الزي الموحد(الكفن) كلباس شرعي، وتفننت في التمثيل  باجساد الضحايا، فروضَ مسميات عدة  "وهي في الحقيقة عصابات إجرامية  لم تشهدها مدينة البصرة من قبل" كما قال قائلنا.
 تعالوا نحصي جرائمنا بحق انفسنا: اقسمت اربعة فتيات جئن من بين ضلوعنا "بالله العظيم" ان مسلحين بلحى ونصف عمائم  ولهجات ريفية اغتصبوهن في مساجد، ثم هددوهن بالقتل في حال افشاء السر.
 والغريب اننا نعرف اسماء الفاعلين وارقام هواتفهم المحمولة، ونجد لهم الاعذار، وبعضهم يحمل لقب نائب في البرلمان العراقي.
 ثم ما الذي –بعد كل ذلك- نعدّ للغد من ولائم التنكيل ببعضنا، ومن حفلات الاغتصاب والمهانة بحق نسائنا، حيث نتبارى في تدمير الجسور التي نعبرها الى المستقبل، ونتنافس على البخشيش الذي يُلقى به الينا من وراء الحدود؟ واي دفاع مخزٍعن انفسنا سيكون حين تهب نساء العراق الى حساب طال امده، لندفع ضريبة الجرائم التي نرتكبها بحقهن، أو ضريبة الصمت الذي نتسلى به في غيبوبة.. وفي ضمائر منقعة بالخل ابداً؟.
 
كلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
"دع الطفل يصرخ ولا تصرخ عليه".
                              مثل عُماني
 
ـــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

471
من له مصلحة بالقطيعة

بين العراق وجيرانه العرب؟


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com 
         

 

الدعوات لانفتاح العراق على الدول العربية، او انفتاح الدول العربية على العراق، امر واحد في نهاية المطاف، يعني، قبل كل شئ، ان ثمة مشاكل وتوترات وتجاوزات ومظالم حالت لسنوات دون هذا الانفتاح، واسست لقطيعة و'ملف ريب' بين الجانبين، لكن الخاسر الاول(اقول، الاول) من اجواء التوتر بين العراق وجيرانه العرب ، في كل الاحوال وفي جميع المقاييس، هو العراق، وتكفي الاشارة هنا الى ان عصابات المتسللين الاسلاميين للقتال والتفجير وتنظيم المذابح الجماعية والتجييش ضد العراق مصدرها  بعض هؤلاء الجيران، أو حدودهم، او في ظل تواطؤهم مع الارهاب، في اكثر التوصيفات تهذيبا.

 وبمعنى ما، فان خفض مناسيب التوتر مع الجيران العرب من شأنه ان يساعد في خفض المشكلات الامنية، إن لم  يساعد في انعاش التجارة والدورة الاقتصادية والسياحية العراقية، ولا يستطيع ان ينكر هذه المعادلة، او يدفع بالضد منها، سوى اولئك الذين يمنون النفس بخنق العراق وقص اجنحته الاقليمية مما سيجعله لقمة سائغة للمشروع الطائفي او رديفه المشروع الطاليباني، وليس من دون مغزى ان يجد غلاة الطائفيين من مؤيدي العهد الجديد وغلاة الارهابيين من مناهضيه انفسهم في خندق واحد في معارضة انهاء التوتر مع الدول العربية، وإن انطلق كل منهما من موقع مختلف.

 وحين نفتح سجل الازمة على مصراعية سنجد في معسكر العهد العراقي الجديد من عمل ويعمل(او دعا ويدعو) من اجل تقليص هامش الاتصال العراقي بجيرانه العرب سعيا الى اختصار شبكة الاتصالات الاقليمية بمنفذ واحد، في ظل مشروع(او وهم) هو الاخطر في مجرى اعادة بناء الهوية الوطنية العراقية.

 لكن الصورة لن تكتمل من دون الاشارة الى الدور التخريبي الذي لعبته قوى الارهاب وانصارها في المعارضة الجديدة في تسميم علاقات العراق بجيرانه العرب، من خلال تهديداتها للحكومات العربية بوجوب مقاطعة العراق، او من خلال اعمال الاختطاف والتفجير التي طالت البعثات الدبلوماسية العربية في العراق، وشملت خطوط التجارة البرية، وشبكات الاتصال، ومبادرات اعادة الاعمار وكل الانشطة الاعلامية والدبلوماسية والخيرية العربية في العراق.

 ويمكن ان نضيف الى هذه اللوحة حملة التشهير والتجييش التي نظمها انصار الارهاب في العراق لثني الدول العربية عن التواصل مع الحالة العراقية، والحيلولة دون مساعدة العراقيين على اختصار فترة الاحتلال لاجلاء القوات الاجنبية من بلادهم، ما ادى الى اطالة هذه الفترة وخلق تعقيدات امنية وسياسية ادت الى نزوح الملايين من العراقيين الى خارج الحدود، وفي حافظة هذه الانشطة الكثير من المذكرات والبيانات والمناشدات التي وجهتها الجماعات المعارضة المرتبطة بالارهاب الى الحكومات وفئات الراي العام العربية تحض فيها على عدم ارسال البعثات الدبلوماسية الى العراق، ولم يجف بعد مذبح الدبلوماسي المصري ايهاب الشريف قبل عامين على يد عصابات القاعدة.

ــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

 

'لا يؤخذ العلم من سفيه'.

مالك بن انس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد

472
النائب النجيفي و'الناجون من النار'

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


 

النائب اسامة النجيفي (من القائمة العراقية)  يطمح ان ينجو من النار من اقرب جسر الى الجنة، بالانفتاح على (الناجون من النار) وهو 'الوسام' الذي يعلقه مقاتلو القاعدة على صدورهم  وهم يتوجهون الى تفجير انفسهم في الاسواق وطوابير العمال وشبكات النفط والبنايات السكنية للعراقيين، وإلا لماذا صار يغازل الارهابيين ويعفيهم من مسؤولية العنف والقتل الجماعي؟ ولماذا احتج مؤخرا على اغلاق مكتب هيئة علماء المسلمين في جامع ام القرى؟.

 في الحقيقة، لم يكن موقف النجيفي الاخير من حلفاء الناجين من النار  ليدعو الى الاستغراب، على الاقل بالنسبة الى الذين يعرفون افكاره ومواقفه ومعاركه (الجديدة!) داخل قائمته وخارجها، ما اصبح معروفا بان الرجل بدأ يحمل مشروعا مناهضا ( لا منتقدا، مثلنا) للعملية السياسية، بالرغم من انه يتمتع بارفع الامتيازات التي نالها من الانتساب المبكر لهذه العملية.. امتياز الحصانة البرلمانية.

ولو اقتصر احتجاج النجيفي على حدود الاجراء الذي اتخذته مرجعية الوقف السني باغلاق مكتب حارث الضاري(حليف القاعدة المعلن) في بيت من بيوت الله لامكن تفهم هذا الموقف من باب حماية الحقوق المدنية للهيئات الدينية، او من زاوية الطعن باجراء يحتاج الى مساند قضائية، لكن المفارقة تكمن في افتضاح النعرة الطائفية المتطرفة للنجيفي، فقد عارض سابقا في اكثر من تصريح استخدام بيوت الله لصالح الجهات الحزبية، وتوظيفها في الصراع السياسي، في حين ان هيئة علماء المسلمين التي تعاطف معها لا تختلف في الشكل والمضمون عن اية هيئة سياسية عراقية إلا في كونها اكثر تطرفا من غيرها، فضلا عن انها داعية حرب وتجييش وانشقاق طائفي بامتياز، وقد قامت بالتبرير لجرائم الناجين من النار مما تعف عنها الذئاب المفترسة.

 يستطيع النجيفي ان يعود الى فتاوى الضاري وان يقلب صفحات جريدة الهيئة ليكتشف ان رقبته، كنائب ووزير سابق وشريك في العملية السياسية، مطلوبة للقصاص في فتوى اصحاب مكتب ام القرى تقضي بتخوين 'كل من تعاون مع الاحتلال' وقد يتذكر خطاب استقالة النائب عبدالناصر الجنابي الذي دعا النواب الى الالتحاق بـ'الناجون من النار' وطبعا يتذكر سلسلة محاولات الاغتيال التي تعرض لها شخصيا  من عصابات القاعدة منذ ان كان وزيرا للصناعة عام 2002 حتى 16 من تموز الماضي حيث حاول مسلحو جند الاسلام، حلفاء القاعدة والضاري، قتله في هذا اليوم.

لكن الوجه الآخر الاكثر غرابة في تحولات النجيفي الى التطرف  والاقتراب من معسكر الناجين من النار ظهر في سلسلة تصريحات اطلقها ضد الكرد واقليم كردستان في تلك الحلقات التي تتطابق مع الارهابيين، وقد فاض من بين سطورها ضيق واضح من استقرار الاقليم واستتباب الامن فيه وتطور تجربته، وبلغ به الامر ان استعدى الدولة التركية على  اكراد العراق الذين حملهم مسؤولية الازمة الحدودية وبرر للقوات العسكرية التركية ان تتمدد في الاراضي العراقية، دون ان تاخذه الغيرة على سيادة العراق، التي طالما تحدث عنها، في اقل تقدير.

 لقد تجاوز النجيفي ، في اكثر من مرة، قواعد الجدل السياسي  والاختلاف وحق انتقاد اداء القيادات الكردية وتحالفاتها السياسية، الامر الذي اصبح مقبولا في اطار فروض الاختلاف وتبادل الرأي، غير ان هذا شيء واعادة انتاج شعارات الارهابيين والدفاع عن وكلائهم وتبني تبريرات الاجتياح التركي للسيادة العراقية شيء آخر، لا يخفي بشاعته القول بان العملية السياسية تعاني من اعتلالات، فالبديل الذي يقدمه النجيفي عن هذه العملية العليلة مشوّها.. وذو انياب مفترسة.   

 

كلام مفيد:

 “ الحقيقة دائماً تؤلم من تعوّد على الأوهام”.

بيدل   

473
جولة مام جلال

وافضليات الجغرافيا

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

 القراءة الاولى لوقائع 'الزيارة العربية' التي يقوم بها الرئيس جلال طالباني تضع امام المراقب جملة من المؤشرات لعل اولها تتمثل في وعي ضرورة تفكيك عزلة العراق عن امتداه العربي ومعالجة 'ملف الريب' بين العهد الجديد وبين المجموعة العربية، بما يتضمنه من عناوين معقدة وشائكة ومتداخلة، وكان الرئيس طالباني قد احسن، خلال وجوده في القاهرة، استغلال مناسبة ليست سياسية، هي الدورة الرياضية العربية، من اجل فتح مسارات هادئة على خارطة العلاقات الاقليمية لانعاش حوار، او على وجه الدقة تبادل الرأي، لجهة بناء حسن الظن بين العراق  ودول الجامعة العربية.

 على طاولة اللقاءات مع الزعماء العرب وضع مام جلال حقائق الحال العراقي بكل التباساته وتناقضاته، من مستقبل القوات الامريكية حتى التهديدات التركية مرورا بعناوين الصراع الداخلي، حتى ان صحفي مصري اعترف ان الذي يلتقي بالرئيس طالباني يجد لديه صورة بالالوان الواقعية للوضع العراقي، كما  تعامل بذات الواقعية، مع مشغوليات الراي العام العربي، في لقاءاته بمنافذ الاعلام، وكان واضحا في دلالة دعوته الصحافة المصرية الى 'نقل حقائق ما يدور في العراق على حقيقتها بسلبياتها وإيجابياتها'. واكثر وضوحا في شرح الموقف من ارث النظام السابق، وبخاصة ما تعلق بالحزب الحاكم سابقا واعضائه ورايه بصدد اجتثاث البعث 'فان غالبية البعثيين كانوا مغلوبين على أمرهم، وان النظام السابق كان يهدد ويعدم من يقف ضده، وانهم انضموا على غير رغبتهم للبعث، ويجب التفرقة بين من ارتكب جرما ضد الشعب العراقي ومن لم يرتكب شيئا ضد العراق'. 

 في 'ملف الريب' بين العراق وشركائه العرب ثمة الكثير مما يحتاج الى الحكمة والصبر وبعد النظر لمعالجته، وقد وضع الرئيس طالباني مسالك للمضي قدما نحو تصحيح شبكة العلاقات بين الجانبين، وتفكيك  الضغائن والمحاذير والمواقف المسبقة، اخذا بالاعتبار ثلاثة حقائق مهمة، الحقيقة الاولى، ان ثمة في العراق من يغذي عمدا فكرة العزلة عن الدول العربية حصرا، ويحض على الهروب من احكام الخارطة الى المجهول، والمبالغة في افتراض وجود نيات عدائية 'تاريخية' لدى المجموعة العربية ضد العراق والثانية، وجود ارادات في الجانب العربي، انظمة وهيئات سياسية واعلامية، تمعن في ايذاء العراق، وتتفنن في تحشيد الاغاليط على وطنية العراقيين.

 اما الحقيقة الثالثة، فيمكن قراءتها في وقائع جولة الرئيس طالباني العربية، وتتمثل في انحسار اجواء الريب والحساسية، وتراجع شعارات التجييش والانتقام والقطيعة في الجانبين العراقي والعربي، الامر الذي يدعو الى مواصلة هذا الخط الذي يساعد العراق على استعادة موقعه ويعجل بانهاء وجود القوات الاجنبية على اراضيه ويساهم في تعزيز الامن الاقليمي لما فيه منفعة الجميع.

 باختصار، مطلوب ان نقرأ جولة الرئيس طالباني العربية من زاوية الحقيقة الجغرافية الثابتة: ليس بمقدور العراق ان يغير الغرافيا، لكن بمقدوره يستعين بافضلياتها.   

ـــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

' نصف المعرفة أكثر خطورة من الجهل'

برنارد شو

474
عن 'نشرة بوخارست'

الاعلامية


عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com     

 
 عندما استلمت العدد الاول من النشرة الاخبارية الصادرة عن السفارة العراقية في بوخارست توزعت بين انطباعين مبكرين: الاول ان هذه النشرة  مبادرة استثنائية و'دسمة' في مادتها، وشجاعة في مهمتها التي تدخل في صلب العمل الدبلوماسي الاعلامي الذي تفتقده الهيئات الدبلوماسية العراقية في الخارج، عدا عن انها غنية باللمسات الصحفية المهنية في اعداد وصياغة الاخبار الخاصة برومانيا وبالعراق معا.

 اما الانطباع الثاني، فهو شعور سري بان هذه النشرة لن تستمر، وانها ستتوقف بعد عددين او عشرة اعداد في اقصى التقديرات المتفائلة، قياسا على تجارب رائدة، هنا وهناك، حاولت ان تقدم شيئا طيبا من اجل عراق اتحادي جديد قبل ان تضيع وتتلاشى في زحمة الضجيج والخيبات والتأليب المنهجي على كل صوت نبيل وعلى كل بقعة ضوء شجاعة.

 صباح اليوم (14/11/2006)استلمت العدد التسعين من نشرة (سفارة جمهورية العراق- بوخارست) وقبل ان اطالع عناوين ومضامين الاخبار تأملت، كاعلامي، دلالة هذا العدد في سؤال صريح عما يمنع البعثات الدبلوماسية في الخارج من اصدار مثل هذه النشرة الرصينة، وبخاصة تلك السفارات التي تعمل في ساحات مهمة ومؤثرة حيث تقدم المئات من المطبوعات والاقنية الاعلامية، على مدار الساعة،  صورة العراق واحداثه بطرق ومضامين موجهة بقصد الاساءة للشعب العراقي  التجييش عليه وعلى حقه في الانتقال الى حياة كريمة ومستقرة.

 في هذا العدد نطالع اخبارا عن آخر التغييرات في صفوف الحكومة الرومانية، مما يشير الى مهارة العين الفاحصة التي تختار المهم من عناوين الاحداث والتطورات، وفيه ايضا خبر ذي قيمة كبيرة حول استقلال المؤسسة الاعلامية في بلد يقص حديثا شريط التجربة الديمقراطية الدستورية بعد عهد طويل كان الاعلام عربانة ملحقة بحكم الفرد الدكتاتور.. يقول الخير نصا: 'الرئيس الروماني ترايان باسيسكو بعث برسالة الى التلفزيون المحلي طالبا منحه فرصة فرصة لتوجيه رسالة الى الرومانيين بشأن موضوع الاستفتاء على نظام الانتخابات الفردي وذلك في اخر يوم للحملات الانتخابية،وقد نفى المتحدث باسم الرئاسة الرومانية  فالرين توركاين المعلومات التي تناقلتها بعض وسائل الاعلام بشأن قيام الرئيس باسيسكو باجبار  مدير محطة تلفزيزن رومانيا 1  الكساندرو ساسو  للظهور في احدى برامج التلفزيون'.'.

 وفي الاخبار العراقية تستعرض النشرة جملة من الاخبار التي اختيرت بعين دبلوماسية ذكية عن لقاءات الرئيس طالباني وتصريحاته في القاهرة، وزيارة وفد عراقي الى الفاتيكان وتطور العلاقات العراقية البلغارية بالاضافة الى خبر عن اقرا ميزانية العام 2008.

 سيتساءل البعض: هل ان اعداد مثل هذه النشرة من الصعوبة والاستحالة ما يدفع الى امتداح بعثة بوخارست، وسنجيب حالا: اذا كان الامر سهلا وغير مستحيل، كما يزعم، فما الذي يمنع البعثات الاخرى من الخروج الى الفضاء الطلق لتقوم بهذا الواجب الذي يدخل في عداد واجباتها الرئيسية.

 استدراك: عدد من السفارات العراقية في الخارج ليس معنيا بالعتاب، فهي تقدم مبادرات اخرى في مجال الخدمة يمكن رصدها بالعين المجردة، وبعضها تحول الى تكايا تدير ملل ونحل منتسبيها.. للاسف.

ـــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

' خير الدروب ما أدى بسالكه إلى حيث يقصد'.

ميخائيل نعيمة 

 


475
المنبر الحر / حكاية النائب سين
« في: 11:28 15/11/2007  »
حكاية النائب سين


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

قد يكون النائب (سين) في حقيقته اكثر من نائب واحد، وقد يكون (نموّنة) من اكثر من قائمة واتجاه، وربما يكون ملتزما بالعلن اواصر المذهب بالسياسة مثل كثيرين من النواب، او يكون علمانيا بالسر مثل قليلين لا يؤمنون بتلك الاصرة التي تمددت على عرض الدستور.. المهم ان للنائب (سين) حضورا  على واجهات الفضائيات وفي مانشيتات الصحافة،  وهو يتبادل الاتهامات مع زملائه وخصومه بلسان صاحب فضل، وبهمة صاحب حق، وبلغة صاحب وجدان.. وهو في واقع الامر لا يملك من ذلك شيئا.

يستيقظ النائب(سين) صباحا في منزله الذي يبعد عن بناية مجلس النواب مسافة عشرة صافرات انذار تطلقها ست  سيارات من نوع الدفع الرباعي رواحا ومجيئا من المنزل الى البناية، اخذا بالاعتبار ان هذه الرحلة اللوجستية تتم احيانا على سبيل التمويه او جس النبض او نقل مختصات من جنس الاسرار او شؤون التجارة التي يقوم بها اشقاء او ابناء او اقارب  بالنيابة.

الامر الاول في برنامج النائب  المعنيّ لهذا الصباح هو الاطمئنان الى السلامة الامنية لحياته، وفي الغالب ستكون غير مشجعة(طبقا لنشرة اخبار الصباح واتصالات يجريها حراس موثوق بمعلوماتهم!) فيصرف النظر عن حضور جلسة اليوم، سيما ان هذه الجلسة ستناقش موضوعات تثير الصداع  وفقدان الشهية، عدا عن الوجوه المكررة والخطابات المكررة والمزحات الجانبية المكررة.

غيابات النائب (سين) عن جلسات الدورة السابقة زادت على النصف، ثلاث منها  بسبب المرض(ما له خُلُك!) وقد حصل على تقرير صحي من طبيب لم يكشف عليه (على الثقة!) وتغيّب اربع جلسات لاسباب امنية قضاها متخفيا في منزل آخر (مكان طوارئ!) باعتبار ان حياته اثمن بكثير من حياة الالاف الذين صوتوا له والذين لا يجدون غير الشوارع يتقون بها التفجيرات والهاونات واعمال الاختطاف، وبالمناسبة، فان النائب (سين) تعرض الى محاولتي اختطاف شغلت المحافل النيابية، فترة، لكن شركاء له في قائمته غمزوا بها قائلين في المرتين: ‘لا صحة للحادث’.

وثمة  جلسات كثيرة غاب عنها النائب(سين) من دون سبب يعرفه احد، وهناك جلستان غاب عنهما لغرض الزيارة(مطلوب نِذِر!) واثنتان لاسباب عائلية، وواحدة لدواعي اتصال هاتفي طويل جدا من الخارج، وواحدة بسبب النسيان، وقد طرح اسمه، اكثر من مرة، كنائب يفتقد لروح المسؤولية، وبخاصة في المرات التي يتعذر فيها تأمين النصاب القانوني للجلسة،  وقد بدا صاحبنا يتضايق من الحديث عن غياب النواب المتكرر، ويشعر ان اكثر من اصبع يشير اليه، ويوجه له الاتهام بعدم احترام صفته البرلمانية، وقد شكا مرة من احد شركائه في القائمة من ان الاخير صاح في محضر نواب كثيرين بصوت عال، واشار اليه غمزا 'لا احد انتخب احدا، كلنا جئنا بالواسطة'.

نائبنا بدأ، منذ حين، مشغولا في مصيره (مصير مقعده النيابي طبعا!) في الانتخابات المقبلة، فدخلت حساباته في سلسلة من الاضطرابات، وبخاصة ما تعلق منها بالجمهور، ثم تلقى نصائح بوجوب التخلي عن خيار البرلمان لأن الجمهور الذي يفترض ان يصوت له غير راض عليه، بل ان سمعته صارت بالمزبلة، تلاحقها الشائعات من كل صوب، لكن كيف له وان الدولة خصصت له عشرة ملايين دينار رواتب لحمايته الشخصية، في حين انه يحتفظ بـاربعة عشر شرطياً من جهاز الشرطة في المحافظة التي ينتسب لها، وتدفع لهم رواتب بحدود 12 مليون دينار، هذا عدا عن امتيازات دورية ومخصصات تغطي شبكة الاتصالات واسطول الحماة والمرافقين والحبربشية الذين يديرون اعمالا ومصالح، لا احد يعرف مصيرها جميعا حين ينشمر صاحبنا خارج قبة البرلمان.. الى حالة انعدام الوزن.

ـــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

'لدى كل واحد منا  سببان لعمل شيء ما.. سبب جيد، وآخر حقيقي'.

توماس كارلايل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد

476
سد الموصل.. ما هي الحقيقة؟
 

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


 

بين ما ذكرته صحيفة الواشنطن بوست الامريكية وعززه السفير رايان كروكر بان سد الموصل 'يتعرض لخطر حقيقي بانهيار وشيك'  و ان الحاجة ماسة 'لبناء سد بديل عنه' وبين ما اعلنه مؤخرا مدير عام سد الموصل عبدالخالق ذنون من انه ' لا توجد اي تصدعات في جسم السد، وهو سليم مائة في المائة' مسافة كبيرة جديرة بالتساؤل والقلق.. التساؤل عن هذا التعامل الامريكي  الغريب مع ملف حساس يمس كرامة الدولة العراقية، بحيث بدا سد الموصل كما لو انه فضيحة من فضائح هوليوود التي يتسابق نحوها  مغامرون وطلاب شهرة لتسجيل انفسهم في عداد الشهود.

اما القلق فيتبدى من سلسلة التصريحات الرسمية التي تنفي تماما وجود مشكلة في سد الموصل وكأن القضية ملفقة برمتها، ما يتعارض مع واقع الحال، ومع بديهية 'لا دخان من غير نار' إذ نخشى ان تكون التطمينات قد اخفت  كارثة مبيتة، في وقت شبعنا حد التخمة من الكوارث المتناسلة.

وحسنا فعل وزير الموارد المالية الدكتور لطيف رشيد في اعادة بناء حقيقة ازمة سد الموصل بطريقة مهنية مقنعة بتأكيده على 'ان التقارير الاخيرة التي اصدرها الاميركيون كانت، نوعا ما، مبالغا فيها، ووضع السد ليس كما صوروه له وضخموه' وكان محقا في التذكير بان وزارته 'هي من يأخذ قرار بناء السدود بعد اجرائها للدراسات المعمقة من كافة الجوانب، ووفقا لخطوات علمية جيدة، وليس وفق ما يراه البعض او ما يصرح به بعض السياسيين والدبلوماسيين او حتى الفنيين' وكان الوزير بمستوى المسؤولية في مصارحته الشعب بالقول'نعم، هناك بعض المشاكل الفنية في السد، وهي مشاكل قديمة وليست جديدة كانت قائمة قبل عملية بناء السد، وتتمثل في جيولوجية الارض التي انشئ عليها السد، وقد اتخذنا خطوات علمية هندسية ومشاورات من الفنيين في الوزارة واخصائيين عالميين وشركات اجنبية حول معالجة المشاكل' مؤكدا 'ان عملية معالجة السد مستمرة الى ان يتم ايجاد حل جذري ونهائي للمشكلة'.

ان الطريقة التي قدمت فيها الصحافة والدبلوماسية الامريكية مشكلة سد الموصل الى الجمهور والاعلام بعيدة عن اللياقة والامانة والمسؤولية، وتنطوي على فظاظة لا سابق لها في التعامل مع مشكلة عراقية حساسة ، فضلا عن انها اعطت للدعاية المناهضة لاستقرار العراق مادة اضافية لكي تدخلها في دورة التهريج والتحريض بالحديث عن قرب تدفق مليارات المكعبات من المياه دفعة واحدة واحتمال غرق ما يصل الى نصف مليون من العراقيين، بل تبرعت الجهات الامريكية المعنية طواعية بموضوع مناسب لاثارة المزيد من الهلع بين السكان الامنين وحملهم على الاستعداد للنزوح، بكل ما يترتب على ذلك من مشكلات امنية واقتصادية واجتماعية فوق طاقة الوضع القائم وخارج قدرته على احتواء التداعيات الناجمة عن مثل هذه الحماقات.

والاكثر من هذا وذاك، فان ازمة سد الموصل كشفت عن فضيحة اخرى يمكن قراءتها في دخول جهلة واميين ومهرجين سوق المناقشات من على الشاشات العربية الملونة حول موضوع هندسي وعلمي وجيولوجي.. وبعضهم لم يعرف الفرق بين اسم الموصل واسم الموصول.

 ـــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

' كن حذراً من الرجل الذي لا يرد لك الصفعة'.

برنارد شو

     

477
الفساد كارثة.. ومهنة


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


 

دائما ننسى الاثر الكارثي العميق الذي تتركه الطعون بنزاهة اصحاب النزاهة، سواء كانت هذه الطعون تستند الى بينات ووقائع او انها تنطلق من شبهات وظنون، فان الجمهور-ومن حقه ذلك- سيتشكك في وجود موظف واحد(او مسؤول) بعيد عن شبه الفساد والكسب الحرام، ويطال الشك، بخاصة، اولئك الموظفين والمسؤولين المؤتمنين على المال العام وذوي الصلة بدورة المال والتجارة والاستثمار وتمتد الشكوك الى جميع منافذ الادارة والاقتصاد بالطول والعرض، إذ يتداول المواطنون (بالسر والعلن) معلومات تثير الفزع عما يحل بثروة الوطن، وعن ابطال الفساد واقاربهم وابنائهم واحفادهم، وعن فنون التغطية على جرائم النهب، وعن مصائر لجان التحقيق في تهم الاختلاس وتصريف القضايا من الابواب الخلفية.

الاثر الكارثي، ايضا، بالاضافة الى “كفر” الجمهور بالنزاهة واصحابها، يمكن قراءته في زعزعة ثقة الموظف (او المسؤول) النزيه في جدوى النزاهة، وتراجع همته في رصد الفساد، وتحوله، في افضل الاحوال، الى مراقب سلبي لاعمال “الغرف” والنهب والسطو، والى الخوف من التصدي الى عتاوي المرحلة، وربما-وهو الاخطر- سيكون مضطرا الى التواطؤ مع هذه الجريمة بالصمت خشية التنكيل او الاختطاف او التجريف، وما لا تحمد عقباه، والمشكلة ان احدا لا يعرف، في مثل هذا المناخ الملبد بالفضائح والاتهامات والشائعات، من بقي من الموظفين والمسؤولين خارج نادي الفساد.

سيتساءل الكثيرون: اين القضاء؟ وسيرد كثيرون على ذلك بالقول ان جهاز القضاء لا يزال ضعيفا ومضطربا وتحت ضغوط هائلة، ويقول حكماء بان القضية اكبر من القضاء، وهي ذي صلة بحال المرحلة، من  اداء الاحتلال الى شلل الحكومة الى عجز البرلمان الى جيوب دول الجوار الى فساد الاحزاب السياسية.. واخيرا الى براعة ابطال الفساد في تمثيل دور الورع والتضحية والخوف من الله، ومن اليوم الآخر.

وعلى هامش هذه الكارثة، وربما على مرمى منها، تشكلت ثقافة هجينة عن شرعة  نهب اموال الكفرة، ونوازع غريبة عن الكسب السريع و”اضرب واهرب” و”كل بالطرف ونم بالوسط” ويقول صديق في رسالة له بان آخر منتوجات الفساد المتداولة بين الجمهور هي “كل ووصوص” ويضيف “ان الوصوصة ترتبط هذه الايام بفنون سرقة اموال الدولة والتعيش من خطوط النهب وبظهور بوادر النعمة المفاجئة والثراء الغريب على بعض الموظفين والعاملين في الدوائر القريبة لمجرى المال، وعلى ابناء واحفاد الفاسدين الكبار”.

لدي رسائل تشيّب الرأس عن اسماء فاسدين يتمتعون بحمايات من تكايا دينية وامنية، ويملأون الصالة بالبكاء على قوت الشعب، والضحك على الذقون، والاكثر من هذا، عن ابناء يرثون المهنة عن ابائهم ليورثوها الى الاحفاد.

ــــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

 

“الإنسان الوحيد الذي لن يحسدك على موهبتك هو أبوك”

جوته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد

478
نزيهة الدليمي..

صوفية في زمن آخر

 

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

 

يبدو الان صحيحا الى حد ما بان الكتابة عن امرأة من الشرق هي مرثية بذاتها، كما كان يقول طه حسين، لكن الامر صحيح قطعا في حال الكتابة عن امرأة من العراق، وبخاصة حين تكون هذه المرأة، مثل نزيهة الدليمي التي سبقت الكثير من بنات جلدتها، من هذه الخاصرة الشرق اوسطية، الى منصب وزيرة، وسبقتهن، ايضا، الى الانخراط في العمل السياسي السري ثم المسلح، وكانت قد سبقتهن الى الجمع بين انبل مهنتين، واقول خدمتين: الطب والشأن الوطني.

الآن، بعد شهر، سكن الموت في جسد نزيهة الدليمي التي قدمت لنا موتا جليلا يضاهي مأثرة حياتها الجليلة، واخشى ما اخشاه ان تكون هذه الانسانة والطبيبة والمناضلة والقائدة النسائية العراقية، ضحية لتلك اللعبة التي اخترعناها من خضم مآزقنا والتباساتنا.. لعبة النسيان.. إذ نأسف، عادة، على موت اسم كبير، ثم سرعان ما ندسه تحت مشغولياتنا اليومية العجيبة  ليصبح ذكرى، ليس إلا.

في المرات القليلة، المتباعدة في السنين والعواصف والامكنة، التي التقيت فيها بنزيهة الدليمي، لم تكن إلا متحدة مع نفسها، مثل اتحاد قبيلة افريقية، ومنسجمة مع عقلها انسجام صوفي مع قيم المحبة والعطاء والافتداء.

في جلسات استراحة، هنا وهناك، كنت اشعر، في حضورها، باننا محروسين بعينين رحيمتين وذهن متوقد، وبملاحظات عن الحياة والعمر، وحين اتذكر تلك المرات التي كانت تتحدث فيها عن مشاوير النضال ومفارقات الاقدار واوراق منسية من دفاتر رفاقها، ازداد اقتناعا بان العمر لا يعدو عن جلسة عابرة، وان نزيهة الدليمي قد تركت، غير هذه الحكمة الثمينة، وصايا نبيلة عن  جدوى التضحية في سبيل قضية الوطن، وخواطر عميقة الاثر عن حب الناس العاديين العابرين الى المجهول. كانت تدرب رفاقها ورفيقاتها على اختزال العطاءات والتفاعل مع العالم الى خدمات مجدية. 

مرة تحدثنا كثيرا بحضور نزيهة الدليمي،  وكنا نخبة نتبادل الخشونة  والاراء، والتحليلات وسوء الظن، فاكتفت “الدكتورة” بالصمت، وعندما الححنا عليها بطلب التعليق، قالت: بدل ان نحصر النقاش في غرفة وحلقة  من الاصدقاء لنخرج الى الناس نسألهم ثم نحلل اجاباتهم.. هناك سنجد بعض الحقيقة وربما الحقيقة كلها.

وعندما نطالع حياة نزيهة الدليمي التي كان اسمها يوما على كل لسان، في العراق وفي المحافل العالمية، لا نجد الكثير من السطور عن “بطولات الانا” لامرأة كانت بطلة حقا، ولديها الكثير مما تفخر به وما يمكن ان تصنع منه “انا” متزاحمة مع غيرها. كانت “اناها” وبطولتها الحقيقة تظهر في انها لا تتحدث عن نفسها ، وفي امتياز التواضع الجم، ونكران الذات الطيفي، ويمكن القول ان مشوار حياتها  وفصوله اللصيقة بتلك الصبوات والاحلام النقية  يرسم لنا شخصية صوفية بامتياز.. صوفية في زمن آخر، تجسدت في عودتها، جسدا،  الى تراب الوطن الذي احبته وبذلت من اجله كل ما تملك، تكتفي بالقليل من منشآت الحياة، وبالكثير من ذلك الحب الطيفي.

لم تكن نزيهة الدليمي لتنخذل امام الاسئلة، او لتخون عمرها.. لكن المفارقة الحزينة شاءت ان تخذلها الاسئلة في اخر المشوار، ويخونها العمر في شائك الظروف.

ــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

 “لو لم تستطع أن تطعم مائه شخص، فأطعم واحدا على الاقل”

الأم تيريزا

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 جريدة (الاتحاد) بغداد

479

طابور شوفيني
 بانتظار الدبابات التركية


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

 
بعض(اقول: بعض)التصريحات والبيانات التي تنتقد(على الخفيف) التجييش العسكري التركي على العراق لا تخفي اماني واحلام (شوفينية) دفينة بان تكون العملية التركية بمثابة عقاب للشعب الكردي وخارطة طريق، تكملها اطراف اقليمية ومحلية، لتصفية حالة الاستقرار في اقليم كردستان العراق ووأد تجربته واعادته الى “بيت الطاعة” والمؤسف ان تصطف في هذا الطابور الشوفيني انظمة مجاورة واقنية اعلامية عربية بالاضافة الى ساسة ووعاظ سلاطين عراقيين شاءوا ان ينقحوا النسخة الشوفينية المستهلكة بعبارات الغيرة الزائفة على الوطن.
ومن تناغم، لا يخفى على الراصد، بين اصوات ترتفع لتحمّل الكرد مسؤولية الازمة العراقية التركية وبين تزايد حمى الحرب على الجانب التركي، تفيض اللوحة بخطوط شوفينية تغذيها تصريحات بعض السياسيين العراقيين الذين يقولون الشئ ونقيضة، ويقومون بتهريب الكراهية الدفينة لتجربة الاقليم والحقوق القومية للكرد بغلاف من عدم الرضا اللفظي إزاء التحضيرات التركية للحرب، ومنذ ايام امتلأت الشاشات الملونة بوجوه، تفيض بامارات التشفي ازاء الكرد وذهب بعضها، الى ازجاء النصائح الباردة الى الجنرالات الاتراك بوجوب الرأفة بالعراق، مقابل التوعد بالكرد.
كان بيان هيئة علماء المسلمين حول الازمة العراقية التركية(3/10) نموذجا للاستخفاف بالسيادة العراقية والحقد الشوفيني ضد الكرد، فيبدأ بالاعلان عن تفهم الهيئة “لأسباب ودوافع الأمن القومي التركي” ثم يدعو الساسة الأتراك “بما عرف عنهم من بعد نظر” إلى “عدم التسرع” ثم “ان الهيئة تثق في قدرة الساسة الأتراك في البحث عن بدائل تقيهم المخاطر التي تهدد أمنهم” وصل البيان الى المطلوب وهو إن الكرد “بحكم علاقاتهم المشبوهة مع جهات خارجية” يتحملون المسؤولية الكاملة “عن هذه المشكلة وغيرها من المشاكل المدمرة التي ألمت بالبلاد” وما العملية التركية الا ردا على “سوء تصرفهم وعدم مراعاتهم لحقوق الجوار” حيث “دفعوا تركيا بهذا الاتجاه” بل واجازت هيئة علماء المسلمين للجنرالات الاتراك حق “الضغط على الساسة الأكراد لوقف سياساتهم” والضغط هنا هو الحرب طبعا، فيما عبر البيان في الختام عن “امتنانه للموقف التركي عام 2003، وهو موقف يشكرهم عليه العراقيون وسيبقون محتفظين به في ذاكرتهم”.
المشكلة هي ان الشوفينية، مثل اية نعرة او لوثة سيئة السمعة، لا يمكنها ان تخفي وجهها القبيح مهما القت عليه من مساحيق الورع والتوبة والغيرة.. انها تصفق، هذه المرة، لطوابير الدبابات التي تغير على الوطن الذي تتباكى عليه يوميا عبر الشاشات الملونة.
ـــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:
“اسوأ انواع الساسة هم اولئك الذين احترفوا تقديم النصائح لكل زمان”.
برنارد شو


480
الوجه الخلفي للرسالة التركية


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com
الخطاب الذي بعثت به تركيا الى العراق والعالم كله واضح، هو غريب لأنه يقول: نريد القضاء على التمرد المسلح الذي يتخذ من الاراضي العراقية مركزا لنشاطه لكن بالطريقة التي نراها نحن وبالسبل التي نقررها نحن، وليذهب العالم ومعاهداته وتحذيراته الى الجحيم، لكن الوجه الخلفي لهذا الخطاب يقول من دون مواربة: لدينا اهداف من وراء التجييش على العراق غير استئصال حزب العمال الكردستاني في مناطق اقليم كردستان العراق.
في تفاصيل المظروف التركي اسئلة اكبر من كل هذا المسرح الذي يعده الجنرالات الاتراك لعملية مثيرة للاحتجاج في كل مكان، هو التالي: هل تشكل المجموعة الكردية المتمردة تهديدا للسيادة التركية حقا؟.
الخطاب التركي استفزازي بجميع المقاييس السياسية والدبلوماسية والاخلاقية، إذا اخذنا بالاعتبار ان مايزيد على خمسين دولة من دول العالم، وبخاصة في قارتي اسيا وافريقيا، تواجه حركات مسلحة بهويات قومية ودينية وسياسية، وتتخذ من مناطق الحدود مواقع وهوامش لانشطتها العسكرية، وثمة الكثير من الدول المعنية (المغرب والجزائر مثلا) دخلت في مخاشنات واتهامات، لكنها سرعان ما استندت الى حكمة العقل وقواعد حل بؤر التوتر بالتفاوض تجنبا للمواجهات الحدودية، مجهولة النتائج.
لكن تركيا شاءت ان تخرج على تلك القواعد، وظهر موقفها الغريب جليا حين قدم العراق، واقليم كردستان معا، موقفين حظيا بتفهم اقليمي ودولي، الاول، تجريم استخدام الاراضي العراقية لتهديد امن واستقرار الدول المجاورة، وخص بالذكر الجماعة الكردية المسلحة التي تنتمي الى اكراد تركيا، والثاني، الاستعداد للتنسيق الميداني مع الجهات التركية لوقف اي عمل مسلح ينطلق من الاراضي العراقية لجهة تركيا، وقدم الوفد العراقي في انقرة خارطة تفصيلية للالتزامات والخطوات التنفيذية لترجمة (الاتفاق المفترض) الى الواقع. كان الرفض التركي قد كشف مرة واحدة بان “وراء الاكمة ما وراءها”وان القضاء على البي كي كي ليس هو الهدف من وراء الحمية العسكرية التركية، وقد ذهب الكثير من المحللين والمراسلين الدوليين صوب اثارة البحث في الاسباب الحقيقة من وراء التصعيد التركي العسكري على بلد يمر باكثر ظروفه حراجة منذ تشكيله على الخارطة الدولية المعاصرة.
يحق للمراقب ان يذكَر، على ضوء هذا التطور الخطير في الموقف التركي بان دول عالم اليوم تفكر الف مرة قبل ان تشن الحرب على جارتها لاسباب من جنس السبب الذي تدعيه تركيا، وهو ملاحقة جماعة مسلحة متمردة، وفي ذاكرة هذه الدول تلك الحرائق التي اودت بملايين البشر وثروات ودموع وتوترات بسبب مغامرات صدام حسين.
اتحدث عن دول عالم اليوم وعن معايير وقواعد واحكام وضعها المجتمع الدولي في ارقى الصياغات والتطبيقات.. واتساءل: من اي عقلية، إذن، تنطلق حسابات اصحاب الحرب التركية على العراق؟.
ـــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــ
“من المناسب ان يدعي المرء الحماقة احيانا”.
ميكافيلي


481
ايران.. برميل الشرق الايل للانفجار

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


 

بالاضافة الى برميل البارود الشمالي التركي الذي تجري محاولات نزع فتيله بخليط من  التحذيرات والتهديدات والمناشدات، فان  ثمة حركة محمومة تجري نحو تجهيز برميل آخر من شرق العراق الايراني، اكثر خطورة، لينضم الى تلك اللوحة المخيفة عن  بلاد تحيطها براميل البارود من كل جانب اذا ما اعدنا الى الذاكرة شكاوى دول مجاورة اخرى من ارتداد العنف عليها من العراق وتهديدات بعضها بتحضير براميلها وخنادقها في سباق مع انفجار اللغم العراقي الذي سيجر المنطقة الى جحيمه، ويفجر براميلها التي نراها اوالتي تحت البساط.

 يتحدث الاستراتيجيون والمحللون في كل مكان عن ان الضربة العسكرية الامريكية لايران خرجت من اطار المناقشات في الدائرة الضيقة لادارة الرئيس بوش الى حيز التجهيز في خطوات متصاعدة في كل يوم، تقابلها استعدادات على الارض في الجانب الايراني كما لو ان الحرب مقبلة في جميع الاحوال، وقد يشار هنا الى قرار واشنطن الاخير بمعاقبة جيش القدس، الذراع الخارجي لتصدير الثورة الايرانية، وحظر التعامل مع عناوينه التي تمتد عموديا الى مركز القرار السياسي الايراني، كما يشار الى جملة من المؤشرات على سطح الاحداث والتوقعات، من كواليس اوبك التي تعد دالة لا تخطئ الى حجم الاخطار التي تحيط سوق النفط، إذ ستنهار حواجز الاسعار(وقل يترتفع على نحو جنوني) بشطب مليوني ونصف برميل يوميا  هي حجم الانتاج الايراني) حتى ازمة الصواريخ الروسية ذات الصلة بمسرح الصراع الايراني الامريكي.

 التهديدات الايرانية بضرب القواعد الامريكية في العراق، هي الفصل الاكثر درامية بالنسبة للشعب العراقي ومصيره على الخارطة، إذ يدفع، للمرة العاشرة، بعد حروب صدام حسين وحروب التحجيم والحصار والتدخل والعمليات القيصرية، ثمن حماقات وصراعات وتصفيات حساب، ويستخدم الان بكل ملايينه كساتر ترابي، او رهينة، او ورقة مساومة لا تعادل وزنها البشري والجغرافي في حسابات اصحاب اللعبة. لننظر الى ان التهديدات الايرانية خصت العراق وحده بالانتقام من الامريكان فيما الضربة الامريكية ستنطلق ايضا، كما يؤكد جميع الاستراتيجيين، من انجيرلك التركية والسيلية القطرية، والسؤال هو لماذا ينبغي على العراقيين ان يكونوا كبش فداء لصراع المصالح الدولية والاقليمية.

 منذ فترة طرحت هذا السؤال على مسؤول روسي له موقع في الشرق الاوسط، فرد عليَ قائلا:' الحق عليكم، فقد جئتم بالامريكان، ثم جئتم بالايرانيين الى بلادكم، وعليكم تدبر النتائج' وقبل ان اعرض عليه كيف ان العراقيين ابرياء من هذا الظن وانهم مغلوبون على امرهم في جميع الاحوال، اظهر قصاصة من صحيفة الفيغارو الفرنسية وقرا علي تقريرا عسكريا امريكيا من تلك التقارير التي ترد على بعضها في الصحافة الامريكية.

 اقول، الشرق الايل للانفجار، بالتحضيرات والتهديدات، ليس لعبة اعلامية، ولا هو عض اصابع ، او محاولات جس نبض بين اعداء.. انه، بالنسبة للعراق، الفصل الثاني من معركة الوجود على الخارطة.

ـــــــــــــــــــــــــ

كلام مفيد:

' يستطيع الشيطان أن يكون ملاكاً، المشكلة هي اننا، احيانا، نكتشف حقيقته بعد فوات الاوان؟'.

تولستوي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد


482
على مسؤوليتي..

حرب الديوانية وزراعة المخدرات


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


 

مسؤولية الكاتب والامانة والاخلاق والغيرة على ارواح مواطني مدينة الديوانية وامنهم وكراماتهم تقتضي البحث في خلفيات الدوامة الامنية لهذه المدينة العراقية الطيبة، إذ لا تهدأ الدوامة قليلا إلا لتندلع على نحو اكثر عنفا وتدميرا، فيما السياسيون واصحاب الملف الامني والمسؤولون يواصلون لعبة تخدير الجمهور بجرعات اكسباير من التطمينات والتفسيرات واتفاقات بوس اللحى، او في افضل الاحوال، التعبير عن الشفقة الباردة على ما يحدث في الديوانية التي عرفت على مدى تاريخ العراق المعاصر كحاضرة مدنية حيوية وكمجتمع يقدم نفسه  مثلا  للسلام الاهلي.

 المسكوت عنه في هذه الدوامة التي تعيشها المدينة منذ اكثر من عام يتمثل في زراعة المخدرات في الحدود الادارية للمحافظة ، وطبعا، في الاموال التي تتدفق على اسياد الدوامة الامنية من هذه الزراعة المحرمة دوليا وصحيا واجتماعيا واخلاقيا، وغاليبة المنتفعين واوليائهم(من المؤكد) يعرفون الله وقبلة الصلاة والايات القرآنية التي تردع المتاجرة بالحرام، وتفيد مصادري التي اثق بها، واتحمل تبعة معلوماتها، فان صحفيين معروفين لديَ حاولوا دس بصيرتهم وكاميراتهم في الخطوط الحمراء لزراعة الخشخاش(الحشيشة) في المحافظة لكنهم تقهقروا إذ تلقوا تهديدات بالقتل بوجوب التخلي عن المحاولة، ويقول اكثر من مواطن ان هذه الزراعة المحمية باحزاب ومليشيات متنفذة تتمركز في الاراضي المروية جيدا في جنوب وغرب المدينة وعلى مشارف بلدات غماس. الشامية. الدغارة. الشنافية.

 ومن الطبيعي، كما يقول لي-عبر التلفون- موظف دولة في المحافظة 'ان لا يسمح مسلحون واصحاب سطوة فرض اجواء الاستقرار  في المدينة بما يوقف جميع الانشطة اللاقانونية واللاصحية' ويضيف 'تهريب الحشيشة عبر الحدود المتخمة ليس اخطر من تهريبه المنهجي الى اوساط الشباب الساخط والعاطل عن العمل إذ تتزايد اعدادهم في المحافظة وجميع مدن العراق على نحو مخيف' ومنذ شهور قليلة رصد الصحفي البريطاني المعروف باتريك كوك بيرن في الاندبندنت اسباب انتشار زراعة الحشيشة في هذه المنطقة تتمثل في 'غياب حكم القانون والتنابزات الاجتماعية والسياسية، وحرب الإرهاب والطوائف' وذهب الى ابعد من ذلك بالقول ' إن مزارعين على طول الفرات، الى الغرب من مدينة الديوانية، جنوب بغداد، أوقفوا زراعة الرز في أراضي مناطقهم التي اشتهرت بزراعته، واستبدلوه بزراعة الخشخاش' وعندما سألت محاميا من ابناء المدينة عن هذه المعلومات اكدها جملة وتفصيلا، واضاف قائلا 'ما كان لهذا ان يحدث من دون ترخيص، بل وتشجيع، وربما سباق وتنافس لساسة ومسلحين متنفذين في المنطقة'.

 الغريب في هذا الامر، المسكوت عنه، انه يجري مجرى ما حدث في افغانستان، ويتخفى، مرة بصوت عال، تحت ذريعة حاجة الفلاحين الفقراء وعائلاتهم الى موارد عيش يسدون به رمقهم، ومرة اخرى بحجة استخدامه اداة لتخريب نفوس الاعداء، ومرة ثالثة، بدواعي شرعة الجهاد في سبيل الله.. ذلك هو المسكوت عنه في حرب الديوانية اليومية، ولدينا الكثير من الاسماء واللاعبين بوجوه اتسخت بهذه الجريمة.

 اتفق مع كوكبرن تماما  بتحميل قوات الاحتلال مسؤولية 'التفرج' على زراعة وانتشار وتهريب الحشيش في العراق، اخذا بالاعتبار حقيقة ان الصحف الغربية نشرت طوال عامين المزيد من التقارير الميدانية عن هذه الزراعة التي انتقلت-لا احد يعرف كيف-  من افغانستان، كما نشرت وقائع عن محاكمات ومخالفات ارتكبها جنود امريكان وبريطانيين بالتعاطي مع ترويج وخطوط تهريب هذه السموم.

 ويمكن الاخذ بحذر، لكن من غير نفي، معلومات متداولة بحدود ضيقة عن دخول دول مجاورة وربما اجهزة دول في الشرق الاوسط على خط نشر المخدرات في العراق، وهو سلاح-كما معروف- يستخدم في ما يسمى بالحروب القذرة، ويبدو على ضوء ذلك ان العراق، الان، صار ضحية لجميع انواع الحروب، الكلاسيكية والارهابية والنفسية  والتوسعية والطائفية، واخيرا القذرة، ومما له مغزى هنا ان فائضا من تلك الحروب بدأ يتدفق، بالعكس، على الدول المجاورة، موصوفا بالاعمال الانتحارية والمخدرات والشحن الطائفي ومخزونات الاسلحة واصحاب اللحى والدشاديش القصيرة.

 وإذ تجمع التقارير على وجود رقابة صارمة في كردستان العراق تحول دون انتشار ترويج هذا النبت الشيطاني، فضلا عن الظروف البيئية الباردة وضيق الاراضي المروية غير الملائمة لزراعته، فان الكارثة تبرز اكثر فاكثر في مناطق وسط العراق، زراعة، وفي اقصى جنوبه، تهريبا وتجارة محرمة، وطبقا لتقرير دولي فان 'مهربي المخدرات يستعلمون لمدة طويلة العراق كنقطة عبور للهيرويين، المنتج في مختبرات الخشخاش بأفغانستان، ويرسل عبر إيران الى الأسواق الغنية في الخليج' ويضيف 'في الحقيقة، ليس من المحتمل أن يكون قرار المزارعين بزراعتها كان تلقائياً أو عفوياً، فإن هناك على ما يقال جهات سياسية ومسلحة تشجعهم وتحميهم،فاصبحوا مجهزين بسيارات جيدة، وأسلحة وليكونوا منظمين جدا ويقول ' العنف في الديوانية، مثلا، كان قد تصاعد خلال الشهرين الماضيين مدفوعاً بشكل أساس بأسباب التنافس على السيطرة على إنتاج أشجار الأفيون، لكنه سرعان ما اتسع ليصبح حرب عصابات عامة'.

ان تعويم مسؤولية اسياد الحرب في محافظات الوسط والجنوب عن زراعة وترويج سموم المخدرات في مسؤوليات اخرى لا يعني إلا شيئا واحدا هو اجبارنا على قبول زراعة الخشخاش في العراق باعتباره قدرا خارجيا او ارثا تاريخيا يعود في زراعته-كما يزعم- الى السومريين ماقبل ثلاثة الاف سنة ما يجدر الحفاظ عليه كموروث فولكلوري.. انها احدى اباطيل الحرب القذرة التي تشن علينا.

ـــــــــــــــــ

كلام مفيد:

'المجتمع كالسمك يفسد من رأسه'.

جبران خليل جبران

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة(الاتحاد) بغداد


483
قبل ان تهب العاصفة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


سؤال محير: لماذا تخلفت، وتتخلف، الحالة السياسية عن الحالة الامنية في البلاد؟ لنعد تركيب  السؤال على وجه آخر: الانفراج النسبي الامني لماذا لم ينعكس ايجابيا على الحالة السياسية؟.
الجواب يحتاج الى حساب كيميائي للمواقف، فان ثمن الانفراج السياسي-بصراحة- يتمثل في استعداد فرقاء الازمة لاختصار مطالبهم و"كبس" سقف امتيازاتهم الى المستوى الذي تمليه لوازم الشراكة وفروض انقاذ العراق وانهاء وجود القوات الاجنبية على ارضه. 
اذن تقربنا من الاجابة، فليس ثمة من هو مستعد للدخول في مباريات التضحية بالامتيازات و"الحقوق" مقابل معافاة الوضع السياسي.. ولهذا الحال الف مثال، لا تخفيه محاولات تغليف تلك المطالب والشروط بسيليفون مصلحة الشعب ووصفات الحقوق التاريخية واستحقاق المناسيب الانتخابية.
لكن، من السذاجة ان لا نحسب بان ثمة جهات وخطوط سياسية "مشبَخة" بين العملية السياسية وخارجها لا تريد(وقل: تخرب) اية جهود لانعاش مفاصل العلاقات بين قوى الازمة وتصريف الاحتقان السياسي، وليس ثمة مبالغة في القول بان هذا المعسكر يناهض، على نحو منهجي، اية خطوات لفرض هيبة الدولة وتامين الحد الادنى من الاستقرار وسلطة القانون، بل واصبح هذا المعسكر، على تناقض امتداداته وعقائده، جزءا عضويا من خيار ابقاء الحال على حاله.. خيار العنف وشل دورة الحياة المدنية في البلاد.
ومن السذاجة، ايضا، ان لا نضع في الحساب الجماعات المسلحة التي تقاتل هوامش الامن وشواهد السياسة بشكل سافر، وان لا نرصد "حركة" البعض من القوى الاقليمية لجهة تسميم الاجواء السياسية والامنية واستخدام مختلف الطرق والاساليب للحيلولة دون تقارب الخيارات العراقية عند تلك المشتركات التي تنهي دوامات العنف والجريمة والضياع.   
حيال هذه اللوحة تسقط الكتلة السياسية التي تحمل مشروع العملية السياسية العراقية في امتحان اللحظة التاريخية واختبار الامانة لبرنامج تحقيق الاستقرار واقامة الدولة الاتحادية الدستورية، وتهرع، بدلا من التنافس في تقديم تنازلات فئوية تنزع فتيل الازمة، الى اقامة حلقات مصغرة واستعراضات بوس لحى وجرعات طائفية فاقعة وترسيخ التبعية لما وراء الحدود والاستقواء بنزعات التوسع لدى اطراف اقليمية.
لقد استمعنا خلال الاسبوع الفائت الى طائفة من النداءات التي اطلقها اصحاب العملية السياسية بوجوب معالجة الوضع السياسي وازمة الحكومة والبرلمان والدستور والخدمات لكي يتحقق الانسجام مع التحسن النسبي للاجواء الامنية غير اننا لم نجد في كومة تلك النداءات  النداء الوحيد الكفيل، فعلا، في اعادة بناء وانعاش العملية السياسية: تعالوا نتخلى عن سقوف امتيازاتنا ومطالبنا قبل ان تهب عليها العواصف فتصبح في مهب الريح.   
ـ
ـــــــــــــــــــــــــ
وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــــــ
"انني املك حب بلادي ما يكفي للاقرار بخطئي والرجوع عنه".
                                                         
                                                 غاندي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

484
جدال عراقي كوميدي


 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com


حدث لي في القاهرة، ما حدث في لندن قبل ثلاثة اعوام ونيف وكتبت عنه آنذاك: ثمة بعض العراقيين يسألك وقبل ان تجيب يرد على جوابك الذي لم تقله.. وهذا ما حدث:
همس احدهم في اذني متسائلا: ماهي برأيك خلفيات توصية الكونغرس الامريكي؟ اقصد ماذا وراء هذه المبادرة من نيات وخطط واستراتيجيات؟ وقبل ان اجيبه عن سؤاله الوجيه بما يسمح من اجتهاد الراي، أمطرني بالسؤال الاخر الاكثر وجاهة، قائلا: وما علاقة الانسحاب البريطاني المفاجئ بهذه التوصية؟.
وفيما بدأت اعد نفسي للاجابة، فاجأني صاحبي بالقول: هل تسمح؟ قلت: نعم..قال: اني اختلف معك..قلت: لكني لم أقل شيئا لكي تختلف معي؟ قال: اعرف ماذا كنت ستقول..قلت: وكيف عرفت؟ قال: من قسمات وجهك، عرفت بانك ستقول ان القضية برمتها لا تستحق التعليق، ولهذا فانا أرى العكس..قلت: هل تسمح لي؟ قال: نعم، اسمح لك طبعا، لكن بعد ان اعرض رأيي، قلت: لكن رأيك سيكون ردا على رأيي الذي لم اعرضه..قال: لا يهم ..انظر.. ان التوصية هي خطة امريكية نائمة منذ 1917 عام وعد بلفور لاقامة وطن قومي لليهود وتستهدف شرذمة دول النفط العربية للهيمنة عليها..قلت: لكن..قال: بلا لكن، بلا بطيخ، فقد انكشفت اللعبة، وهناك اكثر من طرف اقليمي ينخرط في هذه المؤامرة، ولا يستبعد ان تكون ايران وتركيا والحبشة والباكستان متورطة فيها.
شعرت ان الرجل يهرس المعلومات بسرعة فائقة، بحيث يتعذر اللحاق به، بل وشعرت اني الهث ولا قبل لي بالتقاط الانفاس والامساك باطراف الحديث الذي صار مناقشة من طرف واحد، فاستجبت لمشيئته، وصرت في حال استسلام امام قذائفه الصاروخية..قال: نحن لا نعتب على الامريكان، فهم يريدون ان يخرجوا من العراق بعد ان يحلبوه ويفتتوه حتى يسهل اخضاعه، بل عتبنا على العرب الذين يمررون المشروع عن طيب خاطر. قلت: هل تسمح؟ قال: نعم، ساسمح لك، لكن عليك ان تتركني أكمل بقية وجهة نظري.. قلت: انك، أوردت اشياء كثيرة موضع رد وبدل، واعتقد..(قاطعني) بالقول: لا تعتقد، ارجوك، ولا تتعب نفسك، ان القضية ليست هامشية..القضية مفصلية، بل وبنيوية، فنحن حين نكتب فاننا نمثل شعبنا باكمله..قلت: على مهلك.. قال: لا، إن القضية..قلت :اسمح لي، قال: ساسمح لك، لكن دعني أوضح..قلت: انك نسيت بان..هتف قائلا: ها..الم اقل لك ان لدي بقية من الاراء.. قلت، وقد رفعت صوتي قليلا: انك تريد ان تقول..(قاطعني) وقد رفع صوته أكثر: انك تريد ان تؤكد بانه ما دام الموضوع في إطار الاختلاف وإبداء الرأي وعدم استخدام التهديد والاكراه فانه لا ينبغي أخذه مأخذ حرب.
وقبل ان يسمع ذلك الصديق ما كنت سأقوله شد على يدي، ومضى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

 

485
رسالة مفتوحة الى الدكتور اياد علاوي:

أيدناك.. فخذلتنا

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


 أحسب نفسي من متابعي مشوارك عن مسافة ليست بعيدة منذ ما يقارب العشرين سنة، واعرف بعضا مما لايعرفه الكثيرون عن معاركك وخصوماتك و”الاطارات” السياسية التي تحركت فيها ومنها، واحتفظ بقصاصات وفيرة من تلك الفترة، بعضها مما لا يصلح العودة اليه الآن، والاخر مما لا يمكن طيه بسهولة، واستطيع القول، إذْ اخفقتَ في ان تكوّن فريقا متواصلا معك من رفاقك واصحاب تجربتك وحلفائك، انك كنت اكثر جرأة ومناورة منهم، وربما، اكثر موهبة في التحرر من التزامات الشراكة السياسية(والحزبية) ولوازمها.. واكثر ازدراء للعمل على المكشوف.
واقطع اني لا اعرف إلا ما نشر وما اشيع من الاسباب التي دعت غالبية صحبة التسعينيات من شركائك الى الابتعاد عن جادتك التي بدت لهم وعرة ومكلفة، والنزول من مسارك الذي اعتبروه غامضا، وكان بينهم سياسيون معروفون، وعسكريون لامعون، ومثقفون وصحفيون وخبراء اقتصاد ودبلوماسية يشار لهم بالبنان، واعرف انك اخترت، بديلا عنهم، شخصيات اكثرهم لا يعترض، ولا يجيد غير تنفيذ الاوامر، وبعضهم يفتقر الى سجل له شأن، وحتى اكون منصفا، فان هذه المعابة تضرب صفوف الزعامة السياسية في العراق، إذ يفضل الكثير منها شركاء لا ينافسونهم على القيادة والامتيازات، ولا يقفون انداد لهم في صياغة السياسات والمواقف، وقد اجتهدُ قليلا لإقول ان هذه العاهة (الضيق من التنافس على الموقع القيادي) هي بعضٌ من سايكولوجية الاعجاب(والتأثر) الخفي بالاسلوب الاستبدادي للطاغية انتقلَ الى الطبقة السياسية العراقية من خلال الصراع الدموي المديد معه، وقد نجد ظلال هذا العيب في كثرة الانشقاقات في جميع الاحزاب، وإنْ بايات متفاوتة.
وفيما حل عهد التغيير في العراق، ورحل الدكتاتور، وتداخلت صفوف الكراسي ببعضها، وحل لاعبون محل لاعبين، وسقط الكثير من الفرضيات والاسماء، واختضت الخيارات والارادات والتحالفات، كنتُ من بين العديد من اصحاب الرأي الحر والبصيرة المستقلة نتهجأ دورك بالكثير من الحذر، وربما الاعجاب، وقد تواتر اقترابنا منك في خلال موقفك الصلب من المشروع الارهابي، ثم من صعود غول الطائفية البغيض، فوجدنا انفسنا امام صناديق الانتخاب الى البرلمان لنختارك عنوانا لصبواتنا الجديدة نحو عراق يخرج الى الهواء الطلق، لاطائفيا ولا طاليبانيا.
وكانت مربعات الاستقطاب وحافات الصراع الطائفية والخشية من انكفاء التجربة الديمقراطية الى نظام ديني قهري تدفع جماعة المثقفين الليبراليين وجمهورا واسعا من متعلمي المدن وشرائح مستقلة، الى المراهنة على زعامتك كصوت لرجاء الانتقال الى دولة المدنية والابداع، وكان الكثيرون منا يلتمسون العذر لبعض الاساليب والشعارات التي اعتمدتها في معركتك، ويتقبلونها على مضض في ظل التجييش الظالم الذي طالك من قوى العنف والطائفية ومن خيوط تتصل بالخارج، وايضا في مواجهة حملة الاغتيالات المنهجية التي طالت دعاة مشروعك وقائمتك الانتخابية، وبدلا من ان تقترب منا، اعني من الوسط الليبرالي الديمقراطي اللاطائفي، وتنصت الى مخاوفنا، فانك هربت الى الوراء وراهنت-كما يبدو- على المجهول.. فهُزمتَ، للاسف، وهُزمنا معك.
ثم، دعني اصارحك، اخي ابا حمزة، ان جزءا كبيرا من ثمن خسرانك للسلطة، ثم الانتخابات، دفعناها نحن، ابناء الجسم الثقافي الليبرالي المدني، وجميع المتشبثين بخيار الاعتدال والفصل بين الدين والسياسة والحاق الهزيمة بقوى البربرية الارهابية، على الرغم انك لا تحتفظ بعلاقة ودية مع هذا الطيف العراقي الواسع، بل وبينك وبينه ريبة قد تكون متبادلة. في هذا، كما اعتقد، مفارقة الاشياء، وخيط المرارة.
وقد ننكأ الجراح حين نفتح ملف مواقفك السلبية من محنة الادباء العراقيين، إذ اغار عليهم، وعلى اتحادهم النهاشون، من كل جانب، وطاردهم، بخسة، فرسان الثقافة الرسمية لدى دول الجامعة العربية، وحاصرتهم قفازات حكومة الدكتور الجعفري واهدرت دماءهم فضلات الارهاب والمليشيات المنفلتة، ولولا لفتة الرئيس جلال الطالباني الاخيرة لألقي بكراسي وطاولات الاتحاد المتداعية الى الشارع.. وانت، كأنك لا تعلم بما حل ويحل بهذه الجمهرة التي تبدع وطنا نقيا ونزيها ولا طائفيا هو الوطن الذي تتبنى الدعوة اليه، وقد اخبرني صديق من الاتحاد انهم حاولوا عبثا تحريك نخوتك يوم كنت في السلطة، ثم حين كنت خارجها، فلم تستجب مع انك احوج ما تكون الى هذه الجمهرة، حاكما او معارضا.. انك، باختصار، لم تفعل سوى انك زدت في حيرتنا حيرة.
ثم، ان سياسيا مثلك لا بد ان يكون شديد الاعتزاز بهذه الكوكبة اللامعة من السياسيين الذين سموا فوق الانانية الفئوية وغبار الطائفية وقبلوا زعامتك عن طيب خاطر، الباجه جي. حاجم الحسني. غازي الياور. حميد موسى. مهدي الحافظ. وائل عبداللطيف. خير الله البصري. صفية السهيل. حسين الشعلان، عزت الشابندر وآخرون، لكنك، للاسف، خسرتهم، وغيرهم الكثير، واحدا بعد الاخر، فلا يصح انهم جميعا كانوا على خطأ في الشكوى من انك كنت تنفرد في اتخاذ المواقف، وتصر على تمشية الرأي الذي تعتقد، في مرحلة شديدة التعقيد والتضارب والتنوع والتداخل وجوب مزيد من التشاور والتأني والاقناع واستمزاج الاراء.
وهكذا ضاعت تجربة طيبة، كنت على رأسها، وكانت ستسجل دالة رائدة في شراكة العمل السياسي في العراق الجديد، وتقلب، بشئ من الحكمة والصمود، الكثير من الاقدار السياسية ومعادلات الامر الواقع. بالضبط حين كانت الحاجة ماسة وضرورية الى اختبار صبرك في ادارة الرأي والاختلاف وبناء المواقف على اساس الشراكة.
لقد كانت مشيئاتك السياسية الاخيرة موضع تساؤل وحيرة في صفوفنا، نحن انصارك، او هكذا يفترض، اشير الى الاستقواء على استطرادات الحكم القائم بادوات خارجية مطعون بسلامة نياتها إزاء التغيير في العراق، وبالاستطراد في التعريض بمعسكر حاكم(الائتلاف) تتهمه بالطائفية واعتماد المحاصصة قدما نحو التحالف مع معسكر معارض (التوافق) متهم هو الاخر بالطائفية، ومتمسك، بل ومقاتل لتكريس المحاصصة، ثم، واخيرا، بالاتصال مع فلول حزب البعث، وكان هذا بمثابة رصاصة الرحمة على مشروع الليبرالية اللاطائفية المنشود، وعلى تجمعٍ علقنا على صدره أهلّة المستقبل، حين اختزلت القضية كلها كما لو انها صراعا على الكرسي.
من جانبي، لا اناهض، من حيث المبدأ، فكرة الحوار مع اعضاء الحزب الحاكم السابقين، وحتى مع حملة السلاح منهم، لكن ليس قبل ان يراجعوا، علنا، وبالصوت والصورة، ما ارتكبه حزبهم بحق العراق، وبحقنا، نحن الضحايا إذ لا تزال آثار سياطهم على جلودنا.
 وفي كل الاحوال، من حقك، أخي الدكتور أياد، بل من الواجب، كما أظن، أن لا تستسلم لمشيئة الامر الواقع، وان لا تجلس على “طاولة اللئام” ريثما يمنّون عليك بفتات طائفية مغشوشة، وكنتَ –في الحق- محقا في التشويش على محاولات استئصالك من اللوحة، كما كنت موضع إعجابي في بعض(أقول: بعض) حركات الالتفاف على ما كنت تسميه الخطوط الحمر التي تزايدت في طريقك، وأظن، مع ذلك، ان أكبر غلطة أرتكبتها تتمثل في أبتعادك عن الحليف الكردي، كظهير، في وقت لم تكن القيادة الكردية لتفرط بدورك، ولم يكن ليسرها، لإسباب تعرفها ويعرفها المتابعون، ان تكون ضعيفا على لوحة التجاذبات، وفي هذا الملف كلام كثير، قد تكون جزئيا على حق فيه.
غير ان الذي لا يُفهم هو خذلانك لحملة التصدي لطائفية في الحكم بالتقرب الى طائفية في المعارضة، ويحار من يراجع مسلسل الاخبار، ولقاءاتك الفضائية، في رصد مغزى حديثك عن جبهة تضم قوى طائفية، هي نفسها، تعد للقصاص منك، وقل –إذا احسنا الظن- تريدك ساعي بريد لنقل رسائل الى جهات امريكية، كما يحار في تأويل خلفيات اتصالك بقيادة عزة الدوري البعثية، فيما تعيد هذه القيادة يوميا انتاج فكر الثأر والكراهية والقتل، واستطيع ان اوفر على نفسي الحديث عن غيّ هذه القيادة وعدم اتعاضها مما حدث ويحدث، فاقترح عليك الاطلاع على موقعها الالكتروني (البصرة-نت) وهناك ستقرأ ما كتبوا عنك بالذات القول نصا: “ان حزبنا يؤكد بانه يرفض باي شكل وصورة عودة اياد علاوي للحكم لانه كبير الجواسيس واحد المجرمين الذين مهدوا للاحتلال ودمار العراق”.
وإذ أكرر القول إنني مع محاورة اعضاء حزب البعث، وضد نهج الاستئصال والاجتثاث، ومع بناء ارادة لطي صفحات الماضي، ومع خيار العفو، والتسامح، لكن لا استطيع ان ارى جدوى من خطوتك هذه إن لم تتزامن مع قيام تلك القيادة بمراجعةٍ جادة ونقدية لمرحلة حكم الدكتاتورية ونظام الحزب الواحد البغيض، وقد استمعتُ وقرأت الكثير من التبريرات عن تفاوضك مع قيادة الدوري، لكني، للأسف، خُذلت للطريقة التبسيطية التي دافع بها السيد اياد جمال الدين عن هذا الخيار، وكان بودي لو استمعَ الى ما ذكره لي قيادي بعثي وسفير سابق كان قد التقى رفاقه القدامي في عاصمة عربية وناقشهم طويلا، واجملَ رأيه بالقول: “الجماعة لا يريدون ان يتخلوا عن لغة الدم والقتل، وكأنهم ما زالوا في السلطة”.
والان، ثمة الكثير من الخواطر كنتُ، اخي ابا حمزة، ساتعرض لها في هذه الرسالة المفتوحة،  مما يشغلني، ويشغل الكثير من اصحاب الكلمة ورسالة الثقافة، والصبوات الطليقة غير المتحزبة، غير اني حاذرت من الاستطراد الى التفاصيل، واخترت التأشير على مشغوليات ساخنة، وهي مشغوليات – كما ترى- ليست ذاتية، ولا هي من فائض ردود افعال، او تخطيطات من خارج لوحة الصراع والمخاوف التي تعصف بنا.
وإذ اخاطبك، بهذه الصراحة، فاني احاور المشروع المدني اللاطائفي بامتداده العربي والكردي الذي اؤمن به، وافترض انه مشروعك قبل ذلك، حيث كان له، من بين امكانات اخرى، ان ينقذ البلاد من اهوال الحرب الاهلية، ويجنب العراقيين مآل الاقتتال العبثي، وكنت اعتقد ان الحياة وضعت هذا المشروع في قلب احتمالات التغيير.. وقبل بضعة اشهر كنتُ قد قلت لك هذا المفصل من الكلام امام اصدقاء.. واتذكر انك اومأت برأسك علامة الموافقة.
وبالامس ذهلتُ من تصريحك (بالتلفون) الى محطة سي ان ان وتعلن فيه انك لست ضد تسييس الدين، وتقول بالضبط “ان تسييس الدين حق طبيعي” وقد تساءلتُ عما بقي من علمانية اياد علاوي  بعد ان جرى تمزيق مشروعه اللاطائفي في حمية معارضة الحكم، في وقت جر الاسلام السياسي بلادنا الى المحرقة الطائفية والمجهول بعد ان عُرف على نطاق واسع، حتى بالنسبة للسذج، بان تسييس الدين في العراق ليس سوى عنوان لتوظيف الدين في خدمة الطائفية (اطروحة اياد جمال الدين المعروفة).
بل ان مراجع وعلماء دين ومصلحين اسلاميين عراقيين معروفين، من الطائفتين، صاروا يتلمسون خطر تسييس الدين على السلم الاهلي، ويراجعون خطايا السنوات الاربعة الماضية اذ الحق هذا الخيار الضرر الكبير بالاسلام والشريعة وتسبب في احراق وهدم الاف المساجد ومقتل مئات العلماء والوكلاء والخطباء والمؤذنين ليس على ايدي علمانيين (طبعا) بل على ايدي مهووسين بالاسلام السياسي واحزابه ومنظماته التكفيرية، وقد اصدر اية الله السيد اسحاق الفياض نداء رمضانيا الى المبلغين والمبلغات بوجوب الابتعاد عن تسييس الدين والحذر من توظيف مساجد الله في خدمة الزعامات السياسية.
لقد ساعدني احد المحللين السياسيين بالقول ان اجازة الدكتورعلاوي تسييس الدين محسوبة بدواعي تطمين جهات خليجية تتحسس ازاء فكرة فصل الدين عن السياسة، ولما كنتُ محصنا ضد نظرية المؤامرة فقد استبعدت هذا التأويل ولم اتبناه، غير اني سابقى بحاجة ماسة لرصد المنفعة السياسية من وراء هذه الاستدارة، او من وراء هذه الرحلة المضنية “الى الحج والناس عائدة” كما يقول المثل.
واخيرا احسب، عزيزي الدكتور اياد علاوي، ان الهاوية  المخيفة التي نقف على مشارفها تسمح لنا جميعا ان نتصارح، فليس ثمة وقت للمجاملة فيما نسمع صوت الدوي، من بعيد.

486
الكرد.. نجمة النارنج
عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

لا أتذكر أين قرأت أن حكيما وصف عصير قشور النارنج لجماعة ضربها عارض الأنتقام وتفننت بالثأر، وأرتكبت من أجل شفاء غليلها ما عفت عنه الذئاب والوحوش من أعمال مشينة، فأعيت نفسها وخذلت أجيالها، وكان، بعد تلك النصيحة، أن عم التسامح بين الجماعة وشركائها وجيرانها، وتكونت بعد ذلك-في ذلك الأرخبيل- حاضرة النارنج التي يضرب المثل بها في التسامح.
ويبدو لي أن هذه الحكاية الاسطورية أوحت لشاعر فلسطيني مهم هو ناهض الريس أن يطلق على ديوانه المشغول بقيم المودة أسم "مملكة النارنج" وربما هو السبب في أحتفاء الشاعر العربي الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي الذي يقاتل الأن ضد سلاطين الأنتقام الأحتفاء بهذا الديوان، بل انه تهجأ عمق معاني المقاومة في دلالة التسامح، وخسة الأنتقام في نزعة التطرف.
طبيا لم استرشد إلى علاقة عصير قشور النارنج بنعرة الإنتقام، فهو من هذه الناحية يفيد في "تقوية القلب والأمعاء وطرد الغازات" لكن ثمة في حكمة الحكماء سحر التأثير في الناس مما لا يصنعه الدواء، ولا يردعه الداء، فتهدئ النفوس وتطيّب الخواطر وتصنع المعجزات، وتحصن الملايين من الفناء المحتم في دورة الانتقام.. يقول الريس في قصيدة(مملكة النارنج):
"فهلمّ.. قد آن الأوان، لكى نميط لثامه
ونفك طلسم تلكم الأمشاج فيه
وذلك النسغ الذى ينساب منه إلى بنيه مرا
ويسري فى الجذوع النامية
فيصونها من غزو أسباب الفناء".
في نفقنا العراقي المظلم افتقدنا التسامح، وصار الثأر شعارا سياسيا للمرحلة، ودخلنا مأزق الكراهية ودوامة التفنن بالإنتقام ، وأضعنا الطريق الى معافاة أنفسنا من عارض الريبة والانتقام، وصرنا نبحث عن حكمة النارنج التي تذكرنا بالهوة التي نندفع فيها، وتحذرنا من المآل الذي نسير اليه، فشهقت اولى تلك النجوم من سماء كردستان، وجاءت طلائع النارنج من قرار كردي له هوية الانتساب الى عصر القانون والمدنية، إذ رفضت وزيرة الشهداء والمؤنفلين في حكومة إقليم كردستان جنار سعد عبدالله حضور ممثلين عن ذوي ضحايا الأنفال أو القصف الكيمياوي لمدينة حلبجه مراسيم تنفيذ حكم الإعدام بحق المجرم علي حسن المجيد الملقب بـ"علي الكيمياوي" وقالت "لا نريد أن يتحول الحكم القضائي الى مجرد عملية ثأر وإنتقام، فنحن نريد للقضاء أن يأخذ مجراه فيما يتعلق بمعاقبة المجرمين بحق الشعب الكردي". واشارت إلى أن "وزارة الأنفال أو أي جهة حكومية في الإقليم قد لا تحضر مراسيم تنفيذ حكم الإعدام بالمدانين، ويفترض أن يحضرها رجال الدين والقانون والمنفذون فقط".
أنْ تكون قريبا من نار الثأر وشفاء الغليل فانت تبتعد بأنسانيتك مسافة عصور، وأنْ تكون بعيدا عن شبهة الثأر فانت تقترب من جنسك، كانسان يستحق الحياة.. تلك هي حكمة ماء قشور النارنج الكردية.
ـــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــ
"التسامح فن الشعوب المتطورة".
افلاطون


487
لا تسيّسوا الدين.. ولا

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

عندما ابتذلت السياسة، وانحطت قواعد السباق نحو السلطة والهيمنة والجاه والثروة، وسقطت الستارة الشفيفة بين حدود الدين والسياسة، وبين المقدس وغير المقدس، واختلط الحابل بالنابل، والصحيح بنقيضه، والغث بالسمين، فقد جرّت هذه الاحوال الجامع والدعاة والمناسبات الدينية الى الابتذال، فصار لكل زعيم جامع
مؤمم، ولكل طامح سياسي خطباء متفرغون، ولكل حزب دربونة مقفلة، وانتشرت صور الساسة ورؤساء الاحزاب على الجدران التي لا يصح ان تشوّه، وفي اروقة بيوت الله التي لا يجوز ان تدنس، وتسلقت اسماء
الساسة باسقات المنائر في تزاحم مع اسماء الله الحسنى، فاينما تمدّ ناظريك ترتطم بوجه سبق ان طالعته على الشاشات الملونة، واينما تركن ظهرك تكون قد اتكأت على سخام تصريحات بليت، ولم يعد احد يفرق بين الشعائر والشعارات، وبين الكسب والتكسب، وبين الدعوة للحلال والدعاية للحرام، وبين التحسّب والتحزب.
وكل هذا مما عرفه الجميع وطفح به الكيل، بعد ان تمادى “المبلغون” في العبور من فوق الخطوط المحرمة، وتحدي حقوق الناس بالتفضيل بين الخيارات والمشيئات، وبتحويل الاتباع من امة واحدة الى صفوف متناحرة، واختزال رسالة التوعية الى شحذ المكاره وغرائز الانتقام، وقد حذر من ذلك، بين وقت وآخر علماء ومصلحون ومراجع نأوا بانفسهم عن دائرة الشبهة، وارتقوا باسمائهم عن ظنة التواطؤ، ووقفوا على مسافة محسوبة من نفاق الساسة الذين وظفوا الدين والمذهب في ما لا يصح ان يوظف، حتى ضاعت معاني الشراكة في المصير، واندحرت ومضات الحكمة، وتشكك اصحاب العقل في جدوى النصح، فلا احد يسمع، لأن صوت التجييش والتلميع والتحزب اقوى، ولأن المصالح تماهت في ما بين السطور المتراصة.
وقد شاء المرجع الكبير آية الله اسحاق الفياض احد المراجع الأربعة الكبار في النجف ان يذكّر خطباء الجوامع، بمناسبة حلول شهر رمضان، بخطوط الفضيلة والتسامح، وبلوازم التهدئة والاخاء، وبمحاذير الاستطراد في الدعاية الى السياسة والسياسيين، داعيا، في مفردات ومواجيز شديدة الوضوح بالدعوة نصّا: “ الى عدم تسييس الدين لمصلحة الأحزاب والطوائف من اجل تحقيق أغراض شخصية”.
وجاء في بيان وزعه مكتب المرجع الكريم وموجّه “الى المبلغين والمبلغات” بمناسبة شهر رمضان المبارك قائلا وبالنص ايضا: “على المبلغين والمبلغات كافة ان يتخذوا طريق الحياد في تبليغ الأحكام الشرعية وتثقيف الناس ولا يسيسوا الدين بتجيير المنبر وتكريس الشعائر الدينية لحزب أو طائفة أو شخص معين أو لتحقيق أهداف خاصة وأغراض شخصية” مؤكدا ضرورة “توحد السلطات العراقية الثلاث من اجل انقاذ البلد” واهاب بالمسؤولين “ان يتخلوا عن الأغراض والمصالح الذاتية والحزبية الضيقة”.
ان المطالبة بوقف تسييس المسجد، وبتفكيك خطوط التشابك بين الدين والتحزب، لم تعد ترفا فكريا، او رغبة بالمشاكسة والمزاحمة يختص بها دعاة العلمانية، أو ينفرد بها اصحاب الاتجاهات السياسية المدنية، بل صارت ضرورة تتصل بالسلم الاهلي وبموجبات نزع الاحتقان بين الديانات المتعايشة وبين الطوائف، بل وفي صفوف كل طائفة، بعد ان صار لهذا التسييس ضحايا، وامسى له منتفعون، وتكونت على هوامشه مصالح خارج الدين والاحكام الشرعية، واستطيع ان اتملى بان دعوة آية الله الفياض تنطلق من شرارة الشكوى التي تخرج من افئدة الملايين من جميع الاديان والطوائف، وربما من شريحة شعبية مدنية متنامية، تأمل ان لا يصبح الدين سلعة للمتاجرة، وان يبقى الجامع ملهما للتقوى والاحسان والتعبئة نحو الفضائل، لا بازارا للسياسة، ولا مرآبا للسيارات المفخخة.
ـــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــ
“إعرف الحق تعرف اهله”.
علي بن ابي طالب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

488
محمد عطا مرّ من هنا..
هذا اليوم


عبدالمنعم الا عسم
malasam2@hotmail.com

 يبدو اننا، لكي نتحدث بحرية عن الذكرى  السنوية السادسة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الانتحارية وعن قائدها الانتحاري، ينبغي ان نبدأ باستدراك القول بان الاسلام بريء مما فعله الانتحاريون ووجوب ان ننأى بانفسنا عن ظنة التحامل على الدين، ثم ننتقل الى شتم امريكا والمحافظين الجدد في البيت الابيض، دفعا لشبهة الدفاع عنها، في معرض الاحتجاج على ما جرى في ذلك اليوم الفاجع على يد تسعة عشر من المسلمين قتلوا اربعة آلاف موظف وشغيل وعابر سبيل ليس بينهم عسكري ولا مسؤول سياسي واحد.
إذن، الرفعة للاسلام واللعنة على امريكا وسياستها والمحافظين، القدامى والجدد،والى جهنم وبئس المصير.
وإذْ نبحث عمن نشتمه  قبل ان نبدي سخطنا على قائد المذبحة المصري الجنسية  فلن نجد غير نساء الارض، فان وصية محمد عطا التي وقعها العام 1996في مسجد القدس بهامبورغ الالمانية، وعثر عليها مؤخرا، تضمنت الرجاء "ان لا تمشي امرأة في جنازتي" من بين طلبات تتعلق باجراءات الغسل والدفن وبعض نصائح عن الحقوق الشرعية، وهذا يكشف لنا عن كهف الثعابين المدفون في داخل قلب وديانة هذا السفاح الذي قاد في ذلك اليوم مجموعة من معصوبي العيون الى طائرات نقل مدنية لتضرب بناية مركز التجارة الدولي في قلب  العاصمة الامريكية.
لوالد محمد عطا، المحامي المتقاعد الحاج محمد الامير عطا، قصة موازية تصلح ان تكون ديكورا للجريمة المروعة فقد توجه بعد اقل من اسبوع من الحادث الى احد مراكز الشرطة في القاهرة ليسجل دعوى ضد "الحكومة الصهيونية" متهما اياها بتلفيق حكاية تورط ابنه بالهجوم المثير في نيويورك، وقال للشرطة انه كان على اتصال هاتفي مع ابنه بعد يومين من هجمات سبتمبر، بل انه وبعد عام من الاحداث ابلغ صحيفة المانية ان الابن لا يزال على قيد الحياة، قبل ان يقيم مأتما له بعد ثلاث سنوات ويعلن خلاله ان "ان حرب الاسلام على الكفار بدأت ولن تنتهي إلا باعلان الخلافة على العالم كله".
عاش محمد عطا بمدينة هامبورغ مع اثنين من الخاطفين الـ19 الذين قادوا الطائرات الانتحارية هما اليمني مروان الشيحي واللبناني زياد الجراح، غير ان عطا زاد عليهم في ارادة الموت، وفي الانتقال بسرعة لافتة من الآدمية الى التوحش مختزلا ردة في النوع والخليقة تحتاج الى مليون سنة، فالتقطه اسامة بن لادن واختاره لمهمة هزت وجدان العالم بالنظر لهمجيتها التي لاحدود لها.
ومنذ ذلك اليوم تغير علينا، في العراق، فضلات محمد عطا وهي تتلوا ايات من الذكر الحكيم قبل ان تقيم سبتمبرا في كل يوم وفي كل منزل، ونضطر، لكي نحتج على ذلك ان نلعن امريكا، وان نكرر القول المعسول للشيخ القرضاوي بان الاسلام بريء مما يجري.
ـــــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد
"الحرب ضد الارهاب ما هي إلا صراع بين الحضارة والبداوة، بين المدنية والهمجية ، بين العلم والجهل.. بين الله والشيطان".
وفاء سلطان

489
اسماء قبيحة للنزوح

 

عبدالمنعم الاعسم

malasam2@hotmail.com

 

أن ينزح الملايين إلى خارج الحدود فان للإمر ما يبرره في وجود كوارث طبيعية عارضة ومفاجئة، من الحرائق والفيضانات والهزات الارضية، الأمر الذي تمر به جميع دول المعمورة من دون أستثناء في الغنى والبأس والموقع، غير إن دولا قليلة في عالم اليوم، أمعنت حكوماتها في فنون القسوة والتمييز والشوفينية والقمع فاضطر سكانها وأفرادها الى النزوح القسري طلبا إلى الحرية أو هربا من العقاب الجماعي وأنعدام حقوق الانسان.
ويمكن القول ان سجل العراق مليء بامثلة التهجير بالقوة، والاقتلاع من الجذور (الكرد الفيلية) كما انه زاخر بصفحات الهجرة طلبا الى الحرية حين كانت البلاد رهينة حكم الفرد الطاغية وحبيسة معتقل كبير، وقد زاد عدد الذين عبروا الحدود تلاحقهم مفارز الموت وطائرات السلطة على اربعة ملايين غداة انتفاضة آذار 1991 وتملك الامم المتحدة ومنظمات العفو وحقوق الانسان الدولية اكداسا من المعلومات الحية و الوثائق عن احوال هجرة العراقيين الى الدول المجاورة، ومنها الى ارض الله الواسعة.
وكان ملف النزوح القسري الى خارج الحدود العراقية سيقبر، أو هكذا يفترض، مع قبر اسبابه وأبطاله غداة هزيمة الدكتاتورية الحاكمة، بإعتبار إن النزوح بالقوة او التهديد بها عار في جبين أية حكومة تحترم نفسها وسمعتها، ومن المناسب الاشارة الى ان عددا كبيرا من الهيئات الانسانية العالمية نظمت حملات دورية من اجل تجريد اية دولة من عضوية الامم المتحدة تتسبب حكومتها في تهجير سكانها اوجماعات منهم على اساس العرق او العقيدة السياسية او الدينية، وكان نظام صدام حسين في صدارة تلك الدول المرشحة لتكون خارج المجتمع المتمدن في حال نجحت تلك الحركة الرائعة.
وشاءت الاحداث العراقية اللاحقة ان تعيد انتاج عار النزوح القسري الى خارج الحدود، وإن لاسباب متداخلة، بين طلب الحرية وطلب الامن، غير ان الاضافة الكارثية الى النزوح القسري هذا تمثلت في ظاهرة النزوح الداخلي الذي نتج عن فظاعات الفتنة الطائفية التي تحركت بفعل اعمال الارهاب المسلحة وانشطة المليشيات الانتقامية، وتنامت في ظل عجز السلطات او تشجيع بعض الاحزاب ذات النزعة الطائفية .
وتفيد آخر تقارير منظمة الهجرة الدولية(هذا الاسبوع) ان عدد النازحين العراقيين داخل بلادهم أرتفع بشكل مضطرد، مما يلقي ظلالا من الشك على البيانات الحكومية المبكرة عن تراجع مناسيب النزوح الداخلي، وكشف المتحدث باسم المنظمة جان فيليب شوزي ان بيانات الامم المتحدة تشير الى ان عدد النازحين منذ التفجيرات التي استهدفت المقامات المقدسة في سامراء قد زاد عن مليون شخص، وقال، ان 11 محافظة من بين 15 تمنع النازحين داخليا من الانتقال والعيش فيها.
النزوح اسم قبيح، لكن اسماءه الرديفة اكثر قبحا منه: الهجرة. النفي. التغريب. الاستئصال. الطرد، ويقول علماء وخبراء متخصصون في دراسة آثار النزوح، على مختلف صوره، ان قيم الاستقرار والفضيلة وروابط الاسر والتضامن بين الناس والشهامة والوطنية هي الخاسر الاكبر من هذه الظاهرة التي تعود باصولها الى العصور المظلمة.
يا لفداحة خساراتنا.. تعالوا نتأمل نتائج النزوح، قبل ان ننشغل بالبحث عن المسؤول عنه.

ـــــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــــ
"يا لحياة المنفى من مهنة شاقة".
ناظم حكمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
malasam2@hotmail.com


490
العراق ليس ضيعة لاحد.. نعم.. فهل هو لأهله؟

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


كان رد رئيس الوزراء نوري المالكي على منتقديه الامريكان والفرنسيين الذين اقترحوا صيغا حكومية بديلة عن حكومته سليما بمقاييس الكرامة، ومقبولا من زاوية العلاقات الطبيعية بين الدول بكفالة معاهدات الامم المتحدة، وصحيحا من حيث ان المقترحات ينبغي ان تناقش مع اصحاب الشأن قبل ان يجري تسويقها الى دورة الاعلام والتعليقات والجدل.
والخلاصة، هي ان العراق –كما قال المالكي- ليس ضيعة تابعة لإملاك وزير الخارجية الفرنسية بيرنار كوشنر الذي افترض بان اقامة حكم تكنوقراط هو الحل الانسب لتجاوز حالة الضياع في العراق، وهو، كما ذكر المالكي ليس مزرعة من مزارع عضو الكونغرس الامريكي السيدة هيلاري كلنتون، او حضيرة ابقار تابعة لزميلها الديمقراطي كارل ليفن، وسيكون من الطبيعي، ان لا يكون العراق، العضو المعترف به في الامم المتحدة والجامعة العربية والشريك الامني في منطقة نفطية واستراتيجية خطيرة، حديقة خلفية ملحقة لأية دولية من دول العالم، وليس نظامه السياسي معروضا للبيع وسباق المقترحات(والنيات المبيتة) بين الدول، وهو لم يصل بعد الى مرحلة شحّاذ على ابواب الدول المحسنة لكي يبادر رئيس جمهورية رومانيا ترايان باسيسكو الى مطالبة الامم المتحدة ان تضع العراق تحت حمايتها كدولة منكوبة ينبغي ان تتمتع بحق الانتداب الدولي، ولم يصل بعد الى حالة بلد من بلدان الف ليلة وليلة ليسمح الى القومي الروسي فلاديمير جيرونوفسكي القول: دعوني احكم العراق لاستعيده لكم من الغابة.
اقول: في كل الاحوال، ليس مسموحا لاحد ان يدوس بنعليه على ميثاق الامم المتحدة ويأخذ لنفسه حق الوصاية على بلد مستقل ومضطرب كالعراق، وكانت حمّية رئيس الوزراء ستصبح في محلها، وسليمة ومقبولة، لو ان اهل العراق من الساسة والمتنفذين واللاعبين واصحاب القرار والمليشيات وخطوط الولاء والكواليس، هم اكثر حرصا وخوفا وعطفا وغيرة على هذه الولاية.
وساكون واضحا بالقول: ان رئيس الوزراء خصّ الامريكان والفرنسيين بظنة العامل مع العراق كضيعة لهم، فيما خص غيره الايرانيين بمثل هذا التعامل، واتهم مسؤولون اخرون السعودية بالتورط في سباق الترتيبات في العراق، وجاءت سوريا وتركيا والكويت ومصر والاردن وقطر على لسان ومسؤولين اخرين مصادر للتدخل في العراق بوصفه ضيعة من ضياعهم.
وساكون اكثر وضوحا لاقول: نعم، ان العراق ليس ضيعة لأحد، ولا يجوز، في الظروف الطبيعية او في غيرها، ان تتعامل اي دولة، او اية جهة مسؤولة فيها، وكأن العراق معروض للبيع.. لكن (انتباه) سيكون كل هذا صحيحا لو أن اصحاب الشأن والنفوذ تعاملوا مع العراق باعتباره عراقهم.. وانه يعادل قطرة الحياء، في الاقل.
ــــــــــــــــــــــ
..وكلمة مفيدة
ـــــــــــــــــــــ
"اليدري يدري".
مثل عراقي 
 __________________________
جريدة(الاتحاد) بغداد

491
السفراء .. واشارات  مام جلال

عبدالمنعم الاعسم
   malasam2@hàtmail.com
فهمتُ من كلمة الرئيس جلال طالباني، الغاضبة والانتقادية، في مؤتمر السفراء العراقيين الذي عقد في بغداد ان ثمة حاجة ماسة للنهوض باداء ومضامين العمل الدبلوماسي العراقي، وربما قرأت لوما ما في ثنايا حديث مام جلال موجها الى البعثات العراقية في الخارج، وقد ازيد على ذلك اللوم القول، من موقع المتابع عن كثب، بان عددا كبيرا من رؤساء البعثات الدبلوماسية العراقية، لم يكونوا سفراء بالمعنى التفصيلي لهذه الوظيفة الخطيرة، ولم يملؤوا مناصبهم بالهيبة والمسؤولية، ولم يكن للكثير منهم وجود، ولا ظلال، في حملة الدفاع عن العراق وشعبه ومصالحه وعلاقاته مع الدول.

وطبعا، يحق لنا ان نتشكى من المواقف السلبية لدول عربية واجنبية عديدة، وان نضع خطوطا حمراء تحت بعض التصرفات الشائنة والمعادية من دول مجاورة واخرى نتعايش معها بكفالة الشراكة الاقليمية، غير اننا لا ينبغي ان نتغافل عن حقيقة موازية هي  ان ضعف واضطراب عمل البعثات الدبلوماسية وانعدام كفاءة بعض سفرائها قد فوّت علينا امكانية التقليل من اضرار تلك المواقف، إذ كان بامكان الجسم الدبلوماسي ان يقدم خدمة كبيرة للعراق الجديد، وان يحصر المشاكل التي عانتها البلاد مع الدول الاخرى في اضيق الحدود، وان يساعد الحكومة في اتخاذ خطوات مفيدة لتصويب التعامل مع الجيران والشركاء، لما فيه مصلحة العراق واستقراره.

من البديهي ان نستثني، هنا، عددا من السفراء والدبلوماسيين الذين حققوا نجاحات مرموقة في ساحاتهم، مما يشار له بالبنان، سواء في مجال العلاقة بالجاليات العراقية ام في العلاقة مع الحكومات والمؤسسات المختلفة، واليهم ينتسب ايضا موظفون ومخططون كبار في وزارة الخارجية، فيما تضم حافظة المتابعة عددا من اسماء السفراء والديبلوماسيين والموظفين الذين اساءوا الى العراق وحوّلوا ابنية البعثات الدبلوماسية الى تكيات وكواليس للصفقات الفئوية او الخاصة، وبينهم عدد ليس قليلا ممن حامت حوله شبهات الولاء للنظام السابق وخيانة الوظيفة والقسم الوطني، وغير اولئك وهؤلاء ثمة الكثير ممن لا يحمل كفاءة اكثر من منظم بعثات حج او ادارة موكب عزاء او كفاءة تملق ومزاحمة.

اقول، لا ينبغي ان نتشكى من مواقف الاخرين، ولا ان نلقي عليهم عجزنا، فيما نحن دون كفاءة التصدي لمسؤولية الدفاع عن مصالحنا، ومن يعيد قراءة كلمة مام جلال الى السفراء سيجد المدخل الى اولويات حل هذه المعادلة بقوله "يجب ان تلعبوا دورا فعالا في المجال السياسي والاعلامي وان تبينوا الانجازات التي تحققت في العراق" ثم.. ''يجب ان يكون دوركم كمقاتلين تدافعون عن العراق الجديد". وهي اشارات غير خافية الى حملة التجييش على العراق ومحاولات خنقه وابقائه على دوامة التخبط والعنف والمجهول.

من وجهة النظر المحايدة يمكن الاستدلال الى الاسباب الذاتية لهذا الخلل، او الى السبب الرئيس ذي الصلة بقاعدة المحاصصة البغيضة التي وزعت كل بعثة دبلوماسية الى جزر من الولاءات الطائفية والفئوية، مما لا مثيل له في الدول الاخرى، ولا مفر من اعادة النظر فيه.. ولا بديل عن الامل.

.. وكلام مفيد

"ان التقليد عصا العميان".

ابن رشد

492
حلٌ..  لكنْ مسكوتٌ عنه


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


بكلمة موجزة، إذا لم تكن الاطراف السياسية المتنفذة مستعدة للتخلي، بشكل جماعي، عن امتيازاتها ومكاسبها، وقلْ نصف تلك الامتيازات والمكاسب، وقُلْ  ربعها،  او بعض فتاتها، فاننا سائرون لا محالة الى الكارثة، غدا او بعد غد.
 آنذاك ستكتشف هذه الاطراف ان تلك الامتيازات والمكاسب والاسلاب لا تعدو عن كونها قبضة رماد، او قبض ريح، كما يقال، وستدفع هي، قبل غيرها، الثمن الباهض لهذا العناد، وتجر معها شعارات التغيير والتحرير واعادة الامن والبناء الى المحرقة وتدفع العراق، في نهاية المطاف، الى الاستقالة عن الخارطة.
 المطلوب لكي نتدارك الغرق، هو الدخول في تنافس آخر في الهواء الطلق ، غير هذا التنافس اليومي على المصالح الفئوية التي تُمطّ  عادة الى فتنة اسمها "ارادة الناخبين".. تنافس على التضحية بجزء من تلك المصالح، لكي نميّز بعد ذلك الحريص على انقاذ البلاد عن غيره، والمعنيّ بتوفير دماء الملايين عن سواه، والصادق في خوفه على الشعب عن المتآمر على طيبة نفوسنا وحيرتنا ومآسينا.
 لا حاجة للاستدراك والقول ان انفلات الاوضاع الى نقطة اللاعودة وانقذافها خارج الانضباط، وانهيار مشروع الدولة الجديدة، لن يعود بالخير والكسب على اولئك الذين يرقصون فوق الجثث ويفجرون السيارات ويبيعون نسف الجسور وشبكات الماء ومحن العراقيين بسعر الخردة في الاسواق العربية، ولا على اولئك الذين يراهنون على "المقاومة" ان تنطّ الى السلطة فسيجدونها جحيما او حفلة انتحار، ولن يعود بالخير، قطعا، على جيراننا الذين اتقنوا لعبة الخداع معنا، ومع انفسهم، بصدد جدوى تدمير العراق فوق رأس الامريكان حجرا فوق حجر. 
انه الحل المسكوت عنه، او المتهرَب منه، او المتآمَر عليه من قبل اطراف اللعبة الذين يتحدثون عن الازمة بكلام جميل ثم يلقون تبعتها على الاخرين، ويدعونهم الى التراجع والتضحية وهم لا يتراجعون ولا يضحون.
والاكثر، والافظع، من هذا، غانهم  بدلا من التنافس على التضحية (انتباه!) يعلنون بالصوت والصورة انهم يريدون المزيد من الاسلاب، ويمعنون في ايذاء مشاعرنا حين يضفون على هذه الاسلاب اسم "مصلحة الشعب" وعلى تلك المواقف صفة "المبدئية" وعلى ذلك التجييش ودق طبول الحرب كذبة "التكتيك" ونجد ان الجميع، وعلائم النعمة بادية عليهم، يغرف مجده وامتيازاته في النهار  من ذل الملايين وقوتهم ومكابداتهم وطوابير امواتهم، ويقضي ليله بالصلاة  وذكر الله، او تدقيق "الصادر والوارد" من الثروة الحرام، وفي تجهيز التصريحات والاكاذيب ليوم آخر.
في تجارب اخرى لحروب المصالح الفئوية وانشقاقات الزعامة وشراساتها، كما حدث في الصومال ويوغسلافيا السابقة وبعض دول الشرق الاقصى، خرج فرقاء الصراع بموصوف "اسياد الحرب" عارا ابديا موقع عليه بدماء الضحايا وخراب البلاد وعويل الامهات.. ويبدو اننا على موعد مع  اولئك الاسياد، إن لم يجربوا الحل العملي: ان يضحّوا بمصالحهم الانانية.. قبل فوات الاوان.
ــــــــــــــــ
كلام مفيد:
"إذا رأيت الامير سمن بعد الهزال فاعلم انه خان رعيته وخان ربه".
              مالك بن دينار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

493
قطيع بلحى.. ودشاديش قصيرة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com



مرة اخرى، اقولها، ولا استحي منها: صرت على استعداد ان اتخلى عن كل ما يجمعني بهذه المخلوقات الرقطاء التي جاءتنا من مجرات الجذام الاسلامية في افغانستان وقبائل الجوار، او من اقنية الصرف الصحي في بلادنا.. قطيع بلحى ودشاديش قصيرة، ومصاحف، وشعارات زائفة عن التحرير والمقاومة..قطيع ملأ مدننا الجميلة غبارا، ومنازلنا الامنة نواحا، وصباحاتنا ذعرا. اغلق الطرق بالراجمات والملثمين المنفلتين، ونسف جسر الصرافية، وفجر شارع المتنبي، وحوّل ساحات الباعة المتجولين الفقراء الى مهرجان من الاجساد المتناثرة.   
واحسب ان الكثيرين سيتبرأون، مثلي، حتى من لون البشرة، او من الابجدية، او من فصيلة الدم، أو من كل ما يمت لاولئك الذي ارتكبوا مذبحة سنجار بصلة، وقد يأتي يوم سيكون افضلنا سمعة لدى الاجيال هم اولئك الذين يصمّون آذانهم عندما تحضّ المآذن على الصلاة غداة كل مذبحة ترتكب بصيحة "الله اكبر" فمن منّا سيخبرها بالحقيقة التي نخفيها عن بعضنا، او نتبادلها بالسر، او نكتبها باسماء مستعارة؟ ومن منا سيحذر  تلك الاجيال من الاطمئنان الى اصحاب اللحى، وادعياء التحرير، ووكلاء منازل الجنة بعد الانتحار بشاحنة على الطريقة الاسلامية؟.       
ومرة اخرى، اقول: اشعر بالكراهية إزاء فضلات بشرية جهادية تحفظ القرآن من الغلاف الى الغلاف، وتقتل بالجملة جموعا من النساء والاطفال من غير تعيين بزعم اعلاء كلمة الله ومقاومة المحتل، لكن اشعر بما هو اكثر من الكراهية.. القرف.. إزاء علمانيين يعبرون عن اعجابهم باولئك الجهاديين القتلة، وينتسبون لهم، ويتبادلون صورهم واسماءهم ورطاناتهم، ويضعون احذية اولئك الهمج محل عقولهم هم.
مَنْ منا سيأخذ صورة تذكارية امام مجزرة سنجار وقبلها آمرلي  وتفجيرات عمال الافران  وطابور شغيلة البناء في الباب الشرقي وسوق الحلة وقلعة كركوك غير هؤلاء؟ ومن منا سيفخر بما حل بالايزيديين الطيبين غيرهم؟ ومَنْ غير تلك الكلاب السائبة سيعتز بجريمة بحجم جريمة قتل اربعمائة قروي بينهم مائة وثلاثين طفلا ؟ تصوروا حتى حارث الضاري قال "ان هذه الجريمة لا يقدم عليها إلا قتلة مجرمون محترفون" فغسل يديه، وتوجه نحو فاطر السماوات والارض بالدعاء ليشفي الضحايا.
اقول ايضا: يستطيع القطيع، بلحاهم، ودشاديشهم القصيرة ان يملأوا الشاشات الملونة بالموت الطائش وجثث الاطفال، من ابناء الايزيديين والمسيحيين والصابئة المندائيين. من الاكراد والعرب. من المارة وعمال المسطر وبنات المدارس، لكن ثمة غير تلك الشاشات ذاكرة الشهود التي لا يدنسها التضليل.
 اقول اخيرا: قد يغلقوا الشوارع، لكنهم لن يغلقوا الافق.
ـــــــــــــــــــ
وكلام مفيد:
"إنْ تذكرتَ حرفاً من اسمكَ واسم بلادك،
كنْ ولداً طيباً"
محمود درويش

494
الايزيديون.. رسالة الى العالم
 

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

 
يستطيع الايزيديون العراقيون الآن ان يسجلوا انفسهم في قائمة الشعوب المنكوبة، فقد تعرضوا للابادة الانسانية ثلاث مرات، اولا بفتاوى الجهلة التي قضت بتكفيرهم واهدار دمائهم طوال عقود طويلة من عمر العراق حتى امسوا مواطنين من الدرجة العاشرة، وامسى اصحاب الفتاوى فيما بعد الى مزبلة التاريخ، وثانيا، على يد قوات علي حسن المجيد التي وضعتهم بين خياري الموت والاجلاء والانفال، او التعريب قهرا وقسرا، وقد دكت طائرات الدكتاتورية قراهم، وطاردت شتاتهم، وسدت عليهم منافذ النجاة، في جرائم لا سابق لوحشيتها، لم تسمع بها الامم المتحدة ولا منظمة العفو الدولية، ولم تهتز لها شوارب القبائل وحكوماتهم.
ويتعرض الايزيديون منذ عامين، وللمرة الثالثة في تاريخ العراق، الى حرب ابادة همجية تشنها عصابات البدو المنفلتة التي ترفع المصاحف وشعارات التحرير وانقاذ العراق من”الفوضى الخلاقة” وليس اخر المذابح التي ارتكبتها يوم الثلاثاء الدامي في قريتي القحطانية والجزيرة في شمال الموصل سوى حلقة اضافية مروعة في مسلسل المذابح التي تعرض لها الايزيديون على يد قوى البربرية المسلحة، وقبل ذلك تعرض العمال والموظفون المتحدرون من الطائفة، في الموصل وبغداد، الى عمليات قتل جماعي، وحوربت واغلقت ودكت العديد من منافذ العبادة التابعة للايزيديين، وتلقت عائلات وقرى ايزيدية كثيرة بيانات تهديدية بوجوب التخلي عن ديانتها واعلان انضمامها عنوة الى الدين الاسلامي وكتابه "هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" وبخلاف ذلك،فان حياة الايزيديين جحيم ودماءهم مهدورة.
وقد يتساءل الكثيرون عما وراء هذا الحقد الاعمى ضد السكان الايزيديين العراقيين من قبل الطغمة الدكتاتورية، وقبل ذلك الجهلة من اصحاب الفتاوى، وبلغ ذروته الاجرامية، الان، على يد العصابات المسلحة، التكفيرية الاسلامية والعروبية الجرباء، وقد يعتقد الكثيرون بان الامر يتصل بتصفيات حساب لها علاقة بسقوط النظام السابق، او بوجود القوات الاجنبية فيما الحقيقة تتمثل في تطبيقات المشروع الارهابي في العراق، واهدافه وعناوينه الرئيسية، فكل فئة او ديانة او عقيدة او قرية او حارة او مدينة تصبح مطلوبة للقصاص طالما لا تنخرط في هذا المشروع، وهذا يفسر اعمال القتل الجماعية الوحشية التي تطال المزدحمات المدنية من الاسواق والجامعات وطوابير العمال من غير تعيين طالما تنصرف الى الحياة المدنية السلمية.
ان المذبحة التي ارتكبتها العصابات المنفلتة ضد  مئات من النساء والاطفال والمواطنين الايزيديين الامنين تعد رسالة فصيحة الى العالم لكي يتخلى عن موقف التفرج البارد، ولعل افضل موقف يمكن ان يخفف من مأساة هذه الطائفة الامنة، هو إغلاق منافذ الاوكسجين الاعلامي واللوجستي على هذه العصابات، وملاحقتها، حيثما تكون، وتحت اية خرقة تقاتل، ومن اي مستنقع حدودي تتسلل.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــ
“ لا ادري كيف يزاول انسان اعمال القتل
 ولا يحجر في اسطبل”.
انتوني كوين
ـــــــــــــــــــــــــــ

495
سعود الناصري..اي تراب اتسع لجسدك؟


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


 أفزعني خبر وفاتِك مرتين، مرة لأنك هُزمت في آخر معاركك النبيلة وكنتَ على مشارف الانتصار لتكسب أياماً أخرى، ومرة أخرى، لأني نمت تلك الليلة متواكلاً على أمل أن أسمع صوتَك في افتتاح الصباح.
 أعرف المدن التي رأتك، والكتب التي قرأتك والصداقات التي عبرتك، وفي اللحظات التي كنتَ تلفظ فيها أنفاسَك في دمشق، كنتُ أتهجى خواطرَك في موسكو، المدينة التي أحببت.. سألتُ عادل العبيدي، صديقُ مشوارِك الطويل، أين كان يسكن سعود الناصري في هذه المدينة المترامية الأطراف، فهزّ الرجلُ عصاه، وأشار الى كاتدرائية فاسيلي بلاجيني. قال، من هناك، الى جامعة موسكو، ثم تفارقنا في ظهيرة ذلك اليوم على بهاء اسمك ومكارم أيامك ورفيف روحِك، ولم نكن لنعرف أنك ستخذلُ رهانَنا على باللقاء يوما على كنبة بيتك في "غرين فورد" ولم يخطر ببالنا أنهم، في ذلك الوقت، كانوا يهيلون التراب عليك، وانك كنت تودِعهم بردائك الابيض.
 في اربعينك، اكتشفنا ان حزننا طويل، طويل عليك، كشجر الحور، والاكثر من ذلك اكتشفنا ان احزاننا الكثيرة المحتشدة لم تزاحم مكانك في افئدتنا المكلومة، بل صرت رمزا لكل تلك الاحزان وعنوانا لكل تلك الخسائر، واطارا لكل تلك الاوجاع، وفي اربعينك مررنا على تلك الصفحات التي تفيض بخواطرك الشهمة، واستمعنا الى صوتك يغني(ما يرجع دولاب الدنيا.. ليكدام يظل يدور) وعودك يصدح شجيا لميلاد اكيد.
 معذرة سعود.. مرة، وأنت تكافح الموت بضراوة، داهمتني فكرةٌ رعناء، أنك ميتٌ، وسرعان ما وطدتَها في خاطري، فقد اخترتُ لك مكانا تحت ظل عريشة في مقبرة "هاي غيت" على مسافة أمتار من قبر كارل ماركس ومنامَ اصدقاء كثيرين، وعلى روضة من الحصى والثيل النائم وأغصان الياس المتناثرة، وبلل من مطر عابر، ثم اكتشفتُ قسوتي، بالضبط حين رصدتك يوماً تكافح زحف الموت بهمة عجيبة كأنك أسيرٌ يفكّ قيودَه بأسنانه، فأيقنت، أو خدعت نفسي، أنك منتصر في هذه المعركة، وعذري ان حياتَك سلسلةً من المعارك اذا ما عرفنا بأن الابداعَ معركةٌ، والحياةَ معركةٌ، والكفاح من أجل العدالة معركةٌ، وقد جمعتَ في مشوارِك القصير الابداعَ والحياةَ والكفاح.
 لقد غادرتنا، أيها الصديق، وفي عينيك أسئلتُنا وصبواتُنا الكسيرة، وفي حقيبتِك دفاتر بيضاء هي شكلُ وجدانِك ولونُ دموعِنا، وقد كنتَ وفياً وفارساً وشهماً نحو شراكتنا الجميلة التي وقّعناها معا، وحفظنا، عن ظهر قلب، مواسمَها وخذلاناتِها ونصوصِها، وستبقى انتقالاتُك بين غبطة الكتابة ودندنات العود وخواطر البحث في مآزق الوطن دليلُنا إليك أينما تنام، وقد انتقلتَ، يا للفجيعة، من صداقة السرير الى رفقة التراب، وصعدتَ من مشقة الحياة الى مسرة الذاكرة..  فأي جنازة اتسعت لروحِك، أبا عمار، وأي قبرٍ طوى خافقيه على مقامِك، أيها الصديق.
ــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
"الطّيفُ يُقْنِعُنَا، وَالذّكرُ يَكفِينَا"
ابن زيدون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


496
المنبر الحر / خطاب البطانة
« في: 19:10 12/08/2007  »
خطاب البطانة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com

 
 لولا الاخطاء النحوية التي زادت على عشرة، لقلت ان ثمة "مثقف" وراء  الرد عليّ من قبل شرطة الناصرية  (نشر في  مقال سابق) حول موضوع اوامر القبض على صحفيين في المدينة، ولم اكن متجنيا عندما  وصفت حمية الدفاع عن قائد الشرطة ردا امنيا، ولم يغيّر من هذه  الصفة مدخل الرد  المتحذلق عن القطيع، واذا شئنا العودة الى بافلوف وتجاربه على الفئران، سيكون هذا النموذج في غير صالح صاحب الرد، في نهاية المطاف.
 حتى هذه التهمة الموجهة للصحفيين المطاردين كونهم من القطيع يمكن التساهل ازاءها، منعا للدخول في جدل عقيم عمن يحتاج الى ان ينحني امام كرسي(قائد الشرطة) دون ان يفطن الى ان هذا المسؤول لا يجلس عليه في تلك اللحظة، وقد نتساهل ايضا بصدد  الدرس المتأخر الذي القاه علينا صاحب الرد الاخ ناصر الماجدي عن الصحافة  باعتبارها “مهنة  المتاعب كما درسناها  وتعلمنا  أبجدياتها” وتحذيره اللبق لنا من  "تضليل  الراي العام" و"نسف التضحيات الجسام التي قدمتها قيادة شرطة ذي قار  ومديرها  اللواء الركن عبدالحسين الصافي" وعن تنكرنا للتسهيلات التي تقدم للصحفيين  من  قبل الشرطة “وابوابها مفتوحة” واصرارنا على تبني “الاخبار المزيفة والتجريح بالرموز الوطنية للمحافظة”.
 اقول سنعرض عن كل هذه الحمية المشبوهة المستعارة من منطق: "كل شيء على ما يرام، وكل نقد تخريب" وسنعتبر حديث صاحب الرد عن "العقد النفسية" للذين ينتقدون شرطة الناصرية بمثابة زلة لسان، وان الاعلان عن ان المنتقدين "سوف ينالوا  عقابهم الذي يستحقونه" من باب التهديد بالردع في جو ملبد بالتهديدات وغيرها من مفردات العنف، لكن الامر اللافت هو انتقال الرد من التعميم الى التخصيص، وهذه المرة ينال من كاتب  المقال حصرا، بالقول المبطن، لكن المفضوح.. "اما من يتهكم على قيادة شرطة ذي قار وهو يتسول  في  بلاد الغربة فانها اكبرمنه ومن اذياله" وهو قول تفيض منه شتيمة بائسة لا تفيد قائد الشرطة في شئ، لأن للمقامات قياسات معروفة غير صالحة للعبث.
 بيت القصيد: لا نستبعد ان يكون قائد شرطة الناصرية قد حقق شيئا لأمن  المدينة من خلال وظيفته، لكن لن نقبل فكرة ان الخطأ او التقصير بعيدان عن دائرته، وللاسف، فان انحطاط السياسة والمصالح، في حالنا العراقي، بعد تصدع مشروع التغيير، وظهور مشاريع شيطانية في حقوله، خلق من بين اشياء كثيرة ما يمكن تسميته بـ”خطاب البطانة” وما كان يسمونه في لبنان "لغة الاستزلام" ويتمثل ذلك بوجود جوقة مسلحة بالنصوص الجاهزة، تغير على"العدو" استرضاء لصاحب النعمة، المسؤول، من دون ان تتمعن جيدا في ما هو حق او باطل من المعركة، وكنا نعتقد ان ثمة عقيدة اعلامية جديدة حلت محل عقيدة “المسؤول الضرورة” في العراق الجديد، وان خطاب البطانة اندحر مع اندحار الدكتاتورية، وان الاستزلام ولى مع تحول ازلام النظام السابق الى متاجرين بالمخدرات اوبالمتطوعين الخليجيين للانتحار في العراق.
 ويبدو ان صاحب الرد لم يجد في ثقافته شتيمة  مناسبة غير “يتسول في بلاد الغربية” وقوله ان قائد الشرطة “اكبر منه ومن اذياله” مما لا يستحق معه الرد مخافة اتساخ الجملة المفيدة، بالسفاهة من الكلام.
 
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــ
"شرار الناس الذين يبيعون الناس"
                                  ابو ذر الغفاري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
جريدة(الاتحاد) بغداد

497
انسحاب التوافق.. خطوة في اتجاهين

عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


ايا يكون مستقبل علاقة جبهة التوافق بالعملية السياسية، وايا تكون صفة هذه العلاقة وموصف الالتزام بها، فان اعلان انسحاب الجبهة من وزارة نوري المالكي، لن يحسّن من موقعها واوضاعها إلا في حدود جزئية، ولو انها اجرت حسابا كيميائيا على مقادير الربح والخسارة من وراء معركتها هذه وبالطريقة التي استخدمتها لوجدت انها ستكسب وحدة مؤقتة بمواجهة عواصف التمرد في صفوفها التي ابتدأت بالنائب عبدالناصر الجنابي، فيما ستفقد اساس هذه الوحدة بالانتقال الى المنطقة الرمادية بين الحكومة و”المقاومة” وهي منطقة انواء عاصفة ومتقلبة وانشقاقات.
الشيىء غير المفهوم وغير المبرر، ان تستمر الجبهة فعالة في العملية السياسية ومعارضة للحكومة، فليس معروفا، على الاقل من الناحية النظرية، كيف ستؤدي الجبهة التزامها ضمن العملية السياسية من دون ان يسجل ذلك في صالح الحكومة، اخذا بالاعتبار حقيقة ان الحكومة كسلطة تنفيذية هي جزء عضوي من العملية السياسية، وفي خلفيات هذه المعادلة ثمة سؤال تفصيلي ذي صلة بقرار الانسحاب من الحكومة، هو: كيف ستكون جبهة التوافق معارضة ولا معارضة في نفس الوقت؟.
اما الحديث عن مطالب(شروط) الجبهة الاثني عشر، فقد كانت مشروعة وقابلة للنقاش وتلامس اشواق ملايين العراقيين، قدر ما هي فضفاضة ومحاولة للتنصل من مسؤولية النفس ازاء ما يحدث، وإذ يعترض المحلل السياسي على الحمية الانفعالية لرد فريق المالكي على تهديد الجبهة بالانسحاب فانه لا يقتنع بان الجبهة غير مسؤولة في الاقل عن ضبط الامن في بلدات ومناطق تتمتع فيها بنفوذ كبير وحاسم، بل ولا احد يعثر في الكم الهائل من بيانات الجبهة على تأويل مقنع لتمركز الجماعات المسلحة في تلك المناطق.
من جانب آخر فانه لا ينبغي التقليل من اثر خطوة الانسحاب هذه على اوضاع الحكومة المتدهورة اصلا، والعاجزة، منذ شهور طويلة عن اختيار عشرة وزراء لعشر حقائب بين شاغرة او مركونة على قائمة التغيير، فالذين يعتقدون ان مثل هذه الحكومة يمكن ان تمضي قدما على عجلتين اثنتين للائتلاف والتحالف يرتكبون خطأ وخطيئة، في وقت واحد، اما الخطأ فهو في نكران معنى ان يكون نصف وزرات الدولة من غير وزراء لأمد مجهول، والخطيئة تتمثل في تغذية شعور فريق المالكي بالاقتدار والقوة بالكثير من الاوهام.
اقول: إذا كان هدف جبهة التوافق من قرار انسحابها هو إرباك إداء حكومة المالكي واضعافها وترويج فكرة البحث عن بدائل لرئيس الوزراء وتصنيع مادة مثيرة للاعلام المناهض للحكومة واطرافها الفاعلة، فقد نجحت في ذلك الى حد بعيد، اما اذا اعتقدتْ انها ستخرج من هذه المعركة نظيفة الثياب، فانها لن تخدع سوى نفسها، اما مصلحة الشعب العراقي التي يتقاذف بها اطراف اللعبة وتتخفى تحت معطفها عناوين الكثير من المواقف والصراعات فانها بقيت في واد آخر.. تحت قذائف الجميع.
ـــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــــــ
“ خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد”.
أبو العلاء المعري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

498
اختلاف الراي.. يعترفون به ويصادروه



عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


ليس صحيحا القول، دائما وفي جميع الاحوال، بان الاختلافات ظاهرة حضارية، وكان ينبغي القول، دائما وفي جميع الاحوال، بان ادارة الاختلافات بعيدا عن العنف والاكراه والاستئصال والاســــــــــــــتئثار والامـــــــــــلاءهو ظاهرة حضارية، حصرا ، وقد نكون، في الحالة العراقية، قد عرفنا الاختلافات منذ زمن طويل، وعرفنا ايضا قمع الاختلافات وفرض الــــــــــرأي الواحد والحـــــزب الواحد والرئيس الواحد، ونجرب في هذه المرحلة ان نمارس الاختلافات على قاعدة الاحترام المتبادل للرأي.. اقول: نجرب.. لأنه في موازاة هذا التجريب يجري اعادة انتاج عار الدكتاتورية وتحريم "وتجريم" حق ممارسة الاختلاف، وفرض التقديس على منظومة اراء وعقائد ومنع سواها بمختلف اساليب القهر والمطاردة، وهذا يفسر تراجع التعبير عن الرأي المخالف والعقيدة المخالفة والخيار المخالف الى اقبية سرية.
واستعجل الاشارة هنا الى روايات وتسجيلات تتسرب عن حلقات عفوية من الشبيبة العراقية المهمشة، في مدن ومحافظات الوسط والجنوب، حيث تشعر بالحصار والعزلة والتمييز والاقصاء إزاء سطوة المليشيات والمؤسسة الدينية واحزابها حين تحولت الى كابوس بالنسبة لهذه الشريحة الشعبية الاكثر ابداعا وتماسا بالثقافة والفن وصناعة الفرح والفتوة، وقد تناقصت الى حد مخيف النوادي الرياضية والثقافية والفنية التي لا تلتزم فكرا ورأيا ومشيئات المتسلطين، ويشار الى استدعاءات الى مساجد وتحقيقات وعقوبات جسدية طالت الالاف من الشباب من قبل مشايخ ودعاة ورجال دين بتهم مزعومة عن التطاول على المقدسات، ونحتفظ برسائل ومذكرات وشكاوى كثيرة تفضح مناهج قهر حق الاختلاف، يحجم اصحابها عن كشف اسمائهم خوف التعرض الى الانتقام منهم، او من عائلاتهم.
وثمة غير هذه الظاهرة الكثير من الوقائع التي يتناقلها مثقفون ومتعلمون واصحاب رأي عراقيون عن انسحاب هوامش التعبير عن الرأي المخالف تحت تهديد القوى الظلامية والمسلحة والمتسلطة وحتى من عصابات الجريمة المنظمة، ويمكن الاستدلال من جرائم الاغتيال الوحشية للمئات من الكتاب والاكاديميين والصحفيين الى التهديدات التي تلقاها غالبيتهم لرأي او موقف عبروا عنه، ما فرض جوا كابوسيا على الحياة العامة، وحياة ابداع الافكار بشكل خاص.
وبمعنى آخر، فان توصيف الاختلافات بانها لا تعدو عن كونها (ظاهرة حضارية) تنطوي على تبسيط بارد للأمر، لان الاختلافات، في جوهرها، ليست كما يقال ظاهرة حضارية تتصل بعصر التنوير السياسي بل هي ظاهرة سابقة لهذا العصر ابتدأت بتشكيل الجماعات البشرية الأولى، فثمة خلافات بين السادة والعبيد حول شروط التابعية وخلافات في صفوف السادة أنفسهم بصدد السلطة وخلافات بين العبيد ــ أيضاً ــ حول سبل الخلاص من الرق، كما ان العصر الوسيط الذي سبق اندلاع الثورة الفرنسية شهد اختلافات عاصفة في المجتمعات الانسانية وفي مجال علوم السياسة والطبيعة معاً، وليس أدل على ذلك من مأثرة غاليلي في تحديها للكنيسة لاثبات حقيقة ان الارض تدور وليست ساكنة ما تركت أثراً ليس في مجال المنجزات العلمية بل والفكرية أيضاً.
غير ان عصر المدنية (الحضارية) الجديدة أثرى موضوع الاختلافات في الرأي وربطه ــ وهذا هو المهم في حقوق التعبير عن تلك الاختلافات وحق ممارستها، فضلا عن حقوق الحماية الدستورية لاصحاب الآراء المخالفة واشراكهم في تقرير مصائر المجتمع.. ذلك هو المفتاح.
ــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ــــــــــــــــــ
" إياك والغرور فإنه يظهر للناس كلهم
نقائصك كلها ولا يخفيها إلا عليك".
طه حسين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة(الاتحاد) بغداد

499
الارهاب.. تحت الخدمة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


السفلة بدأوا يضربون كل ما يقف امامهم من الاحياء والقرى وحفلات الاعراس وارتال السيارات والبنايات والاسواق وشبكات الكهرباء وطوابير العمال من غير تعيين. الشيء المعيّن والمطلوب قتله هو العراقي كذات، وبالتحديد العراقي الآمن، والثمن يتدثر بحقيقة بدأت تتكشف، وإن ببطء: اقتل عراقي، اي عراقي واجرك منزل في الجنة، او كمشة اموال قدر عدد الضحايا الذين يسقطون.
وكما ترى فان الممول الذي يدفع بسخاء يدير، عن تصميم، طاحونة مذابح لا سابق لها في التاريخ المعاصر، وقد ظهرت لعدد من المنقبين في خفايا هذه اللعبة الاجرامية حقائق مفزعة بان الكثير من خلايا الاجرام في العراق(انتباه) لم تعد ترتبط بتنظيم عقائدي، او سياسي، وان قيادة القاعدة في كهوف افغانستان لم تعدد تتحكم، منذ زمن طويل بتلك الخلايا الناشطة في العراق.. انها(كما تفيد التنقيبات) كلاب سائبة.. مأجورة.. تنفذ عمليات قتل لقاء اموال ولصالح دول وشركات تتناحر في الغالب مع بعضها، وقد استدرجت الى بالوعاتها متطوعين ساخطين على حياتهم من خارج الحدود عبأهم شيوخ وفتاوى لتنفيذ الهجمات الانتحارية في العراق.
اقول، ان تقارير خطيرة يجري تداولها بالكثير من الحذر تبحث في عمق الطور الجديد للنشاط الارهابي الاجرامي المسلح في العراق، وتوصلت الى معلومات تؤكد ان شبكة الخلايا الاستشهادية في العراق كفت عن ان تكون شبكات عقائدية، وتحولت الى "وكالات مأجورة" لدول عديدة ومتضاربة المصالح لكنها تتسابق لضبط مسارات الصراع المسلح في العراق على وفق اهدافها، ولولا ان يكشف خبير في الارهاب ومسؤول سابق في اجهزة الداخلية المصرية جزءا من هذا التطور بالوقائع لقلنا ان هذا الاستنتاج لا يعدو عن كونه فصل من فصول نظرية المؤامرة الشائعة.
بعد هذا نستطيع ان نصدق الانباء التي تقول بان دوائر المحققين العراقيين والجهات المعنية في مكافحة الارهاب وقفت معا على "معلومات خطيرة" وغير قابلة للدحض عن تورط دول "شقيقة وصديقة" في رعاية خلايا الاجرام في العراق وانها تستخدم طرقا معقدة في ادارة المذابح وضمان استمرارها واتساعها، بل ان بعض تلك المعلومات تشير الى ان نسف جسر الصرافية، مثلا، تم لصالح طرف من تلك الاطراف، وقد استلم وكلاء (يقيمون في عاصمة عربية) ثمن هذه الجريمة النكراء، وذُكر ان هؤلاء الوكلاء يجمعون بين سلطة النفوذ على المسلحين وسلطة الفتوى لشرعة "المقاومة" ولشريعة الابادة الجماعية للعراقيين.
وسيصبح السؤال بعد ذلك ساذجا عمن يتلذذ ويسعد ويطرب ويملؤه المجد والحبور والجذل امام مشهد صبايا وصبيان عراقيين تمزقوا اربا، وتطايرت اصابعهم وحقائبهم المدرسية في الهواء، ثم ناموا الى الابد تحت نثار البنايات وشظايا السيارات العابرة؟.
وسيصبح السؤال اكثر سذاجة عن مصلحة اولئك الذين خططوا لهذه المهرجانات الدموية التي سقط فيها رجال ونساء واطفال عابرون، وطالعَنا بها صباح قلعة كركوك وظهيرة قرية زركوش في ديالى ومساء عرس حي ابو دشير جنوبي بغداد؟ ومن اي جنس انحدرت تلك السفالة ؟ وعن اي بطن انشقت تلك الذئاب؟ والى اي بالوعة انضم اولئك الانتحاريين والمرتدين من سفلة الماضي؟.
على مسؤوليتي اقول: القضية اكبر من مخلوقات منبوذة تفجر سيارات مفخخة في جسور وقرى آمنة، وابعد من آيات قرآنية تحض على قتل العراقيين جهادا في سبيل الله، واعمق من القول ان دول المنطقة تخشى على نفسها من تجربة العراق.
فقط تأملوا.. ولا تخدعكم دموع التماسيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
"وضعت صحيفة كندية متخصصة في الفضائح جائزة مالية لمن يعرف سر زواج (عمر) ابن اسامة بن لادن من سيدة بريطانية اكبر من والده وقد تزوجت قبله اربع مرات ".
وكالات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

500
الفيحاء.. سنة رابعة


عبدالمنعم الاعسم
malasam2@hotmail.com


تدشن فضائية "الفيحاء" العراقية، هذه  الايام، عاما رابعا في مسيرتها المثيرة للاهتمام، والجدل ايضا، وسط  ازدحام "فضائي" لا سابق له على ابواب وسماء ومنازل وناظر العراقيين، بملامح عراقية واخرى لا ملامح لها.
ثلاث سنوات، يمكن ان تكون رمشة عين في عمر التجارب الاعلامية في مسعى الوصول الى الجمهور، لكنها ليست كذلك في حساب الاحداث العراقية العاصفة التي طحنت كما هائلا من الوقائع والانفس والسياسات والجيوش والمقامات والاقنية الاعلامية والثروات والخرائط والمغامرات، مما لم يسبق له نظير في التاريخ المعاصر.
 كانت الفيحاء قد دست نفسها، بحياء وتردد ومتاع بسيط، في هذا الكون العاصف من الانواء السياسية والاعلامية، وقد كان المتفائلون قليلين بمستقبل هذا الوليد الجديد الذي يواجه اقنية باذخة، سليطة اللسان، وموصولة بالنفط والمشايخ والوجاهات وبجيش من المستشارين والسماسرة، فيما هو فقير، رث الثياب، متعثر العبارة، لا يزال يقيم في البيدروم او في منازل من صرائف وتنك، ولا يجيد المخاطبة بالمعالي واللسان المهجّن، لكنه يحسن شيئا لا يحسنه الاخرون: الهتاف من الروح.
 اقول: ثمة القليل من المتنبئين مَن راهن على قدرة هذه "اللهجة النبطية" العراقية المنسية ان تتحبب الى هذا الحد، وان تدخل دورة المسامع والتداول بمواجهة لغة الصالات الفخمة، ولهجات سوق المياعة، وكان عهد الدكتاتورية قد الحق تحريم حقوق اللهجات العراقية بقمع حقوق الانسان العراقي، وكان لا بد من كسر هذا الباطون البارد، والامر كله بدأ كصورة للحلم مقابل صورة الواقع. حتى خيل للكثيرين انها لا تعدو عن كونها اذاعة وصورة.. أو صورة ناطقة.. بورتريت.. ولم تكن لتلفت نظر المتعاملين في بورصة الاعلام، لكنها، بالمقابل، مست نبضا حيا في قلوب جمهرة عراقية مهمشة، مكلومة، خائفة من المستقبل، سرعان ما تنامت بالعرض والطول، وقبل ذلك، تنامت على ارض الواقع مع تدهور "المشروع السياسي" للتغيير وسقوطه المدوي في المحاصصة والفساد والضحك على الذقون، ومع هجوم جحافل الردة والارهاب، والدشاديش القصيرة الانتحارية والجريمة المنظمة وفلول النظام السابق، ومع ظهور طفح الطائفية في السياسات والثقافات والاعلام وسوق الخردة.
لم يكن عود الفيحاء قويا، بل لا احد كان يتوقع ان تكون عصا موسى تلتهم كل هذه الخرافات والافاعي واستحقاقات التدهور، لكنها، منذ البداية، التصقت بفكرة بسيطة ومغامِرة، هي فكرة الانتصار، وإنْ لم يكن لتلك الفكرة ظلال على الارض او جيوش قيد الاوامر،  فكان ذلك مرهما، لنقل واهما، لاوجاع الملايين التي تكالب عليها الجيران والكلاب السائبة.. الملايين التي تكابد وتشيّع ضحاياها يوميا وتفزع من مشاهد الرؤوس المقطوعة على يد برابرة ومليشيات ورجال يفتون بآيات فصيحة، من مساجد،  بازهاق الارواح البريئة التي حرم الله قتلها.
مشكلة الفيحاء، هي مشكلة الانتصار نفسه.. بعيد، لكن لا مفر منه، وحتى تختصر الطريق اليه فهي بحاجة الى مزيد من انضباط الاداء والتوازن والحساب الدقيق لخفايا الايام والاحداث والاقدار.
لها الدعاء بالوصول.
ـــــــــــــــــــــــ
كلام مفيد:

صفحات: [1] 2