المسيحيون في العراق قاب قوسين أو أدنى من الزوال !!!
لسنا بحاجة لأن نسبر اغوار التأريخ او ندور بفلكه ولكن الذكرى قد تنفع أحياناً، فقد كان المسيحيون يمثلون الغالبية العظمى من سكان العراق منذ اعتناقهم المسيحية والى زمن الفتوحات والغزوات الأسلامية وتطبيق نهج (أهل ذمة) عليهم رُغم اعتبارهم من أهل الكتاب، وما تلاها من حكم للخلافة الاسلامية فكانت اللبنة الأولى لقلق المسيحيين حيال مستقبلهم، ونتيجة لذلك فأن مدناً كبيرة ذات ثقل مسيحي خلت منهم. وفي التأريخ المعاصر حظي المسيحيون كأقلية على تمثيل نسبي للمشاركة في الحياة السياسية في العراق خلال العهد الملكي وما تلاه عند التحول الى النظام الجمهوري عام 1958 واتساع المد العلماني بعد ثورة عام 1968، ولكن هذا لم يمنع من ارتكاب الانتهاكات والمجازر بحقهم. وبعد سقوط النظام البائد عام 2003 والغزو الأمريكي للعراق وشيوع المحاصصة والتمييز الديني والعرقي مهد الطريق واسعاً لأضطهاد الأقليات ومنهم المسيحيين.
المسيحيون كأقلية تعرضوا لأستهداف ممنهج خلال العقد المنصرم من قبل المتطرفين السُنة ولموجات من العنف والقتل والتهجير القسري، والحكام الشيعة أهملوا الأمر تماماً عدا بعض الدعوات الخجولة التي تحفظ ماء الوجه. حيث لم يبقى لهم حضور يذكر إلا في بعض مناطق شمال العراق في قرى وبلدات من سهل نينوى، وكثيراً ما كانت من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وأقليم كردستان. وشهدت هذه المناطق نزوحاً وتهجيراً قسرياً لم يشهده المسيحيون من قبل، بعد احتلال ما يسمى بالدولة الاسلامية (داعش) لها. وأن سقوط الموصل وسهل نينوى بيد التنظيم المتطرف يمكن اعتباره المرة الأولى التي شعر بها المسيحيون بأنهم في خطر حقيقي يهدد وجودهم وحياتهم وحياة الأجيال القادمة. وهذا الأمر قد يستوجب اعادة رسم وهيكلة خارطة المنطقة من جديد بعد تحريرها من خلال استراتيجية دراماتيكية قد تطول او تقصر زمنياً، مما يشير الى علامات مقلقة للوجود المسيحي في العراق !!!
ومن البديهي فأن على المسيحيين اتخاذ قرارات حاسمة لمستقبلهم، لكن هذه الرؤية أصطدمت بالواقع السياسي والعسكري الهش والوضع الاقتصادي المتردي، مما حدا بالكثير منهم استعدادهم للهجرة للخارج هذه المرة خاصة وان بعض الدول عرضت اللجوء والهجرة اليها، وهذا الأمر صاحبه الكثير من التعقيدات والمخاطر والمعوقات، خاصة محاولات بعض الجهات السياسية والدينية منع وعرقلة هجرة المسيحيين بداعي الحفاظ على المسيحية في العراق دون أدنى محاولة لحمايتهم، والأمر كله لا يتعدى المصالح الفئوية والحزبية والدينية لتلك الجهات.
ان خيار الهجرة او البقاء شأن شخصي جداً ولكل فرد الحق في تقرير مصيره، لكن ليس من المنطقي ان توجه دعوات من قبل بعض الجهات السياسية والكنسية للمسيحيين البقاء في ارض آبائهم وأجدادهم بعد ان هجروا من بيوتهم ومناطقهم وعيشهم في مخيمات بلا عمل او مورد او مستقبل حتى وإن كانوا في اقليم كردستان الآمن وأحتوائه لهم كما سبقهم الكثير من المسيحيين من محافظات العراق الأخرى، واذا كان البعض من المسيحيين من سكنة الأقليم لا يرغب بالهجرة فأن الوضع يختلف مع الأكثرية التي تعرضت للقتل والتهجير، كما أن هذه الاكثرية المسيحية لم يعودوا مستعدين للتضحية أكثر في سبيل وطن يُعتبرون فيه أقلية ومواطنين من الدرجة..؟؟؟ وطغيان التطرف الأسلامي. واذا كان تشكيل ميليشيات مسيحية (ميليشيات لأنها لا تعتبر قوات نظامية بالمفهوم العسكري من حيث تشكيلها وتبعيتها ) يعني ان المسيحيين قد يسترجعون حقوقهم المهضومة أصلاً، وأن العودة الحميدة الى الديار ستكون مرهونة بمدى الأتفاقيات ووو.. التي ستبرم من قبل بعض الاحزاب والسياسيين المحسوبين على شعبنا.
داعش اصبح اليوم يمثل أكبر خطر على الأسلام والمسلمين محلياً وأقليمياً ودولياً، وأتهام الغرب بالإساءة الى الأسلام أصبحت بلا مبرر لأن الإساءة آتية من داخل أهل البيت من المحسوبين على الأسلام والمتحدثين بأسمه. وعلى الرغم من ان العالم أجمع يصنف مضطهدي المسيحيين من الداعين الى الخلافة الاسلامية على أنهم ارهابيين ومتطرفين دينياً وحتى أخلاقياً إلا إنه يراقب بصمت يصم الآذان تجاه ما يجري. لذا فالخطر الداهم على المسيحيين ينذر بمستقبل قاتم في ظل عدم وجود اصوات حكومية وسياسية وأسلامية تدعوا وتقدم شيئاً ملموساً لبقائهم وحمايتهم بالمعنى الحقيقي، وأن هذا الخطر سيشمل الجميع دون أستثناء وليس المسيحيين فحسب وعليهم الأستعداد لكبح جماحه اذا لم يستدركهم الوقت.
إذن وسط الكم الهائل من الوقائع والتحليلات والتوقعات والأستنتاجات ما هو مستقبل المسيحية والمسيحيين في العراق؟ ولمصلحة من تجريد النسيج العراقي من تنوعه؟ وإذا كانت الأجابة على هذه التساؤلات مرهونة بشعارات جاهزة من قبل سياسيين ومرجعيات دينية راغبين بتلميع صورهم إزاء الرأي العام او مؤيديهم فهذا مرفوض تماماً، لأن الأجابة يجب ان تكون على هيئة صورة متكاملة لدولة تكون فيها المواطنة الحقيقية هي التي تُعلي من شأن المواطن العراقي مهما كان انتمائه او عرقه او دينه وان لا يكون العيش المشترك هو الكلمة الفيصل في الوصول الى حقيقة الحفاظ على مكون اصيل من مكونات الشعب العراقي، فهل سيتحقق ذلك في عراق تتلاطمه امواج الطائفية والمحاصصة والتدخلات الأقليمية. نتمنى ان لا يصبح ما حدث ويحدث للمسيحيين في العراق مشابهاً لما حدث لليهود العراقيين بأنتهاء وجودهم.
طلال نفـسو
Talal_nafso@yahoo.com