عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - Ali Abdulal

صفحات: [1]
1
"الدعوة السلفية" بالإسكندرية.. النشأة التاريخية وأهم الملامح

علي عبدالعال

نشأت الدعوة السلفية بالإسكندرية في سبعينيات القرن الماضي (بين عامي 72 ـ 1977) على أيدي مجموعة من الطلبة المتدينين، كان أبرزهم (محمد إسماعيل المقدم، وأحمد فريد، وسعيد عبد العظيم، ومحمد عبد الفتاح)، ثم ياسر برهامي وأحمد حطيبة فيما بعد، التقوا جميعا في كلية الطب بجامعة الإسكندرية، إذ كانوا منضوين في تيار (الجماعة الإسلامية) الذي كان معروفا في الجامعات المصرية في السبعينيات أو ما عرف بـ"الفترة الذهبية للعمل الطلابي" في مصر.

رفضوا جميعا الانضمام إلى جماعة (الإخوان المسلمين) متأثرين بالمنهج السلفي الذي وصل إليهم عن طريق المطالعة في كتب التراث الإسلامي، ومجالسة شيوخ السلفية السعوديين خلال رحلات الحج والعمرة، ثم تأثرهم بدعوة محمد إسماعيل المقدم، الذي كان قد سبقهم إلى المنهج السلفي من خلال سماعه لشيوخ جمعية (أنصار السنة المحمدية) منذ منتصف الستينيات، وقراءاته لكتب ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.

 وبمرور الوقت تكونت النواة الأولى للشباب السلفيين تحت اسم "المدرسة السلفية"، عام 1977م بعد انسحاب هؤلاء الطلاب المتأثرين بالمنهج السلفي من الجماعة الإسلامية، التي هيمن عليها طلاب الإخوان و"فرضوا منهجهم"، حيث شرع محمد إسماعيل في تأسيس النواة الأولى من خلال درس عام كان يلقيه كل يوم خميس في مسجد "عمر بن الخطاب" بالإبراهيمية، وكان هذا الدرس بمثابة الملتقى الأسبوعي لهذه المجموعة الصغيرة إلى جانب حلقة أخرى بمسجد "عباد الرحمن" في "بولكلي" صباح الجمعة، ولم يكن مع المقدم أحد في هذه الفترة غير زميله أحمد فريد، الذي يحكي في مذكراته عن هذه الفترة، قائلا: "كان الحضور في هذه الحلقة لا يتجاوز عشرة أفراد، ولم يكن معنا أحد من قادة الدعوة السلفية الآن، وكان الشيخ محمد يحفظنا متن "العقيدة الطحاوية"، وكذا "تحفة الأطفال"، وكلفني بتدريس كتاب "مدارج السالكين""(1).

الموقف من الإخوان المسلمون

لم يكن الدعاة السلفيون ـ في بدايات نشأتهم الأولى ـ بعيدين عن حركة الإخوان المسلمين فكريًا ولا تنظيميًا، إذ نشأ بعضهم في بيوت إخوانية، كالشيخ ياسر برهامي ـ الذي اعتقل والده وعمه من بين من اعتقلوا من الإخوان خلال الحقبة الناصرية ـ بينما عمل البعض الآخر بين صفوف الحركة في أول حياته.

لكنهم جميعا اتفقوا على رفض الانضمام إلى الجماعة، وقد تزعم هذا الرفض محمد إسماعيل المقدم الذي أصر على الاستمرار في دعوته التي كان قد بدأها قبل ذلك.

رفض السلفيون إعطاء البيعة لمرشد الإخوان مستندين ـ وقتها ـ إلى أن المرشد العام الأستاذ "عمر التلمساني" ـ الذي جمع صفوف الحركة بعد رحيل المستشار حسن الهضيبي ـ كان مجهولاً أي غير معلن عنه في ذلك الوقت، وقد رفض السلفيون إعطاء البيعة لشخص مجهول. وإزاء هذا الموقف احتج السلفيون بأنهم كانوا قد دعوا التلمساني لإلقاء محاضرة في إطار النشاط الطلابي بمدرج كلية الطب بالجامعة إلا أن بعض قيادات الإخوان أنكروا عليهم دعوته باعتباره لا يمثل الإخوان المسلمين، بينما أعلن عليهم فيما بعد أنه المرشد العام للجماعة.
 
وقد وقعت بعض الصدامات بين الطلاب السلفيين والإخوان المسلمين داخل جامعة الإسكندرية (عام 1980)، وكان طلاب الإخوان ما زالوا يعملون باسم الجماعة الإسلامية، يقول ياسر برهامي: "كنا نوزع أوراقا ونعمل محاضرات في ساحة الكلية ونسميها ندوة، ونتكلم فيها عن قضية التوحيد وقضايا الإيمان"، (2) فخطط الإخوان لمنع هذا اللقاء، ومنع خروج الطلاب للمشاركة فيه، فحصل الصدام الذي لم يكن السلفيون على استعداد له بينما كان الإخوان بعد خروجهم من معتقلات الحقبة الناصرية "مرتبين أمورهم"، حتى ظهر ارتباك شديد لدى السلفيين، التقوا على أثره واتفقوا على العمل بطريقة مرتبة، فجرى ما يشبه الاتحاد من أجل الدعوة بين هؤلاء الطلاب الذين يعرفون الآن بشيوخ الدعوة السلفية ورموزها، وتم الاتفاق بينهم على أن يتولى محمد عبد الفتاح أبو إدريس (قيِّم) المدرسة السلفية، أي مسؤلها الأول.

وبالرغم من هذه البداية التي شهدت ما يشبه الصراع بين السلفيين والإخوان إلا أن الباحث المدقق في الموقف السلفي يلحظ بسهولة هذه المساحة الكبيرة التي يراها السلفيون مشتركة بينهم وبين جماعة الإخوان المسلمين. بل وتنم كتابات عدد كبير من رموز الدعوة السلفية عن تقدير عال لتاريخ وجهود مؤسس حركة الإخوان الإمام حسن البنا، إذ لا يكاد يذكره أحدهم في ندوة أو خطبة أو مقال إلا ويتبع ذلك بالترحم عليه والدعاء له "رزقه الله منازل الشهداء".

ففي مقال له يهاجم وحيد حامد بسبب مسلسل "الجماعة" يقول الشيخ عبدالمنعم الشحات "مسلسل "الجماعة" لا يختلف عن "مسلسل العائلة" في الهجوم على الإسلاميين عمومًا، وعلى السلفيين خصوصًا، وزاد عليه هجومًا خاصًا على الإخوان، وتشويهًا متعمدًا لتاريخ مؤسس جماعتهم، وهو أمر يقتضي أن نرد على تلك الحملة الشاملة على دين الله، كما يقتضي الذب عن عِرض أحد أبرز رموز الدعوة في العصر الحديث الأستاذ "حسن البنا" -رحمه الله-".

ثم ينقل قول العلامة المحدث ناصر الدين الألباني -رحمه الله- ما معناه: "إن كانت للأستاذ "حسن البنا" أخطاء فهي مغمورة في بحر حسناته، ولو لم يكن لـ"حسن البنا" إلا تجديد شباب الدعوة لكفاه ذلك".

وتحت عنوان "الإخوان ضد السلفيين = انتصار النصارى والعلمانيين" كتب سيد عبد الهادي: "إن حملات الوقيعة بيْن جماعة "الإخوان المسلمين" و"التيار السلفي" تتزايد حدتها؛ لضرب الصحوة الإسلامية ككل، فتسقط في أعين الناس، ويكون المستفيدون هم أعداء الإسلام". وأضاف "للأسف.. انزلق بعض الأفاضل في هذا الأمر، وتوالت الاتهامات بين أكبر فصيلين في الدعوة الإسلامية، لا أقول في مصر فقط بل في العالم الإسلامي كله بدون مبالغة!". لكنه يرى أن "ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا".
وتابع "لا يصح بحال مِن الأحوال أن يصدق السلفيون أن الإخوان سوف يقضون عليهم إذا تمكنوا، وأنهم سيكونون أشد عليهم من الظالمين؛ فإننا نعتقد أن إخواننا في جماعة الإخوان المسلمين عندهم مِن الدين والورع ما يجعلهم لا يفكرون في ذلك؛ فضلاً عن تنفيذه".

أنصار السنة المحمدية

يؤكد السلفيون على الأثر الكبير الذي كان لجماعة "أنصار السنة المحمدية" في نشأة دعوتهم تاريخيا، خاصة وقد كانت أنصار السنة على منهج أهل السنة والجماعة الذي تميزت بنشره على يد شيوخها: محمد حامد الفقي، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الرحمن الوكيل، ومحمد علي عبد الرحيم، الذي كان للسلفيين في بدايات دعوتهم معه لقاءات ومجالسات.

لكن لماذا اختار السلفيون العمل خارج هذه الجماعة، التي كانت قائمة بالفعل وعلى منهج يلتزم الكتاب والسنة؟ وقد عملوا ضمن إطارها في كثير من البلاد، حتى حالت الظروف دون ذلك. يذهب الشيخ ياسر برهامي إلى أن مسألة عمل السلفيين ضمن جماعة أنصار السنة كانت تتوقف على شخصيات القائمين على الجماعة في المناطق المختلفة، "ففي الإسكندرية كانت هناك طائفة لا تستوعب الشباب ولا طاقاتهم"، على حد قوله، بل تكاد تحصر نفسها في قضايا شرعية بعينها "تتشدد جدا فيها وتهمل غيرها رغم أن الحق غالبا ما يكون في خلافها"، مثل قضية الاقتصار على الصحيحين في الاستدلال، ومثل قضية إخراج القيمة في زكاة الفطر، ومثل قضية إنكار المهدي، ولقد كان الوضع في الإسكندرية لا يحتمل أي تطوير للعمل من خلال الأوضاع القائمة آنذاك. في حين كان التعاون التام للسلفيين في وجود الشيخ محمد صفوت نور الدين وقبل أن يتولى رئاسة الجماعة، الذي كان يحضر لقاءات السلفيين في المحافظات المختلفة.

ورغم أن الظروف التي حالت دون بقاء السلفيين ضمن إطار "أنصار السنة" وصفها د.ياسر برهامي بأنها "خارجة عنا" إلا أن المتأمل في منهج الجماعتين ووسائل دعوتهما ومساحة الحركة يمكن أن يخرج بعدد من الأسباب، أهمها: ضيق المساحة المتاحة للعمل أمام السلفيين ضمن "أنصار السنة"، وهي الجمعية المعترف بها قانونا، وتشرف عليها رسميا وزارة الشؤون الاجتماعية، وتتلقى مساعدات من الدولة، فضلا عن المسائل الخلافية التي ذكرها برهامي، إلى جانب رغبة السلفيين في مساحة أكبر للعمل والحركة دون قيود.
 
التكفير والهجرة

وبينما كان السلفيون يضعون اللبنات الأولى لدعوتهم ظهرت جماعة "التكفير والهجرة" على يد شكري مصطفى، الذي استطاع بأسلوبه وذكائه أن يضم إليه عددا كبيرا من الشباب، اللذين نفذوا فيما بعد حادثة قتل وزير الأوقاف الأسبق الشيخ الذهبي، وقعت الحادثة بينما كان السلفيون بأحد معسكراتهم الإسلامية في استاد جامعة الإسكندرية صيف عام 1977، وكانت لها أصداء داخل المجتمع المصري، ولذلك وصفها الشيخ أحمد فريد بأنها "كانت فتنة بالفعل"، حرص السلفيون على نفيها عن أنفسهم والتأكيد على عدم تبنيهم لهذا الفكر، حسبما حكى فريد في مذكراته، قائلا: "خرجنا إلى المواصلات العامة ونحن نرتدي (فانلة) مكتوبا عليها "الجماعة الإسلامية.. ندعو الله عز وجل، ونتبرأ من جماعة التكفير وقتل الذهبي"؛ وذلك حتى لا تستغل الفرصة لضرب الصحوة الناشئة. ثم شرع محمد إسماعيل المقدم يدرس لهم ولمن حضر من الطلاب في المعسكر رسالة شرعية في الرد على جماعة التكفير.

ولعل هذه الحادثة على ما فيها من توصيف لموقف السلفيين من التكفير تضفي مزيدا من الضوء على النشاط الدعوي والحركي والطلابي الذي كان متاحا لهم في هذه الفترة داخل الجامعات، وهي الوسيلة التي أتاحت لهم فرصة التواجد وسط الشباب، من خلال العمل ضمن إطار "الجماعة الإسلامية"، حتى صار للسلفين وجودا واضحا ينافس وجود الجماعات الأخرى العاملة قبلهم.
كان نشاطا مكثفا تمثل في إقامة المعسكرات السنوية، حيث جرى تنظيم أكثر من معسكر بمبنى اتحاد الجامعة، وأمام كلية الهندسة، إلى جانب الخروج لرحلات العمرة التي يتفق عليها اتحاد الجامعة من خلال اشتراكات الطلاب، وكذا عمل الأيام الإسلامية واعتكافات رمضان، وطبع الكتيبات والمطويات الإسلامية كل ذلك كان يتم باسم تيار "الجماعة الإسلامية" و"اتحاد الطلاب"، كما كان من نشاط الدعوة المتاح في هذه الفترة ـ التي لم يكن بها حرس جامعي يضيق على الطلاب أنشطتهم ـ "قوافل الدعوة" التي تسير على طريقة جماعة (التبليغ) داخل الجامعة.. ففي هذه الفترة أراد الرئيس السادات أن يضرب الاتجاه الشيوعي داخل الجامعة بالجماعة الإسلامية، فخفف من قبضة القيود تدريجيا وبالفعل حتى انتقل بعض اليساريين إلى صفوف الجماعة الإسلامية.(3)
وقد جرى تنظيم عدد من المعسكرات الصيفية في الأعوام 77، 78، 79 كلها كانت ذات منهج سلفي، كان يوزع فيها كتاب (الأصول العلمية للدعوة السلفية)، وكان يدرس فيها كتاب (تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران)، وكلها كانت ذات صبغة سلفية.

معهد إعداد الدعاة

بعد انفصال "المدرسة السلفية" عن تيار الجماعة الإسلامية في الجامعات وتخرج هؤلاء الطلاب أطلق عليها "الدعوة السلفية" في العام 84-1985؛ وذلك لإثبات "شمولية دعوتها". على حد قول الشيخ عبد المنعم الشحات.

وخلال مرحلة الانتشار والتوسع، منذ منتصف الثمانينات، أسست الدعوة السلفية معهد "الفرقان لإعداد الدعاة" في الإسكندرية عام 1986، كأول مدرسة إسلامية ذات منهجية سلفية لتخريج الدعاة، وشرع الدعاة السلفيون يشرفون عليه ويضعون مناهج التدريس لطلابه، وقد لاقى هذا المعهد سمعة طيبة حتى ذاع صيته بين الراغبين في طلب العلم الشرعي بكافة فروعه (فقه، تجويد، حديث، أصول، توحيد، قرآن) حتى من بين خريجي الأزهر. وفي فترة وجيزة خرج المعهد عددا من الدعاة حملوا مشعل الدعوة السلفية في مصر، انتشروا في عدد من المحافظات والأقاليم حتى صارت الدعوة السلفية بفضله تصدر دعاتها إلى كل أقاليم القطر المصري وخارجه، وهم الذين هيؤوا لها فيما بعد هذا المدد السلفي الذي بات ملحوظا، على الرغم من أنهم اختاروا منهجاً دراسياً متعمقاً يفوق عمقه المناهج التي تدرس في المعاهد الدينية الرسمية وغير الرسمية.

كما أصدرت الدعوة السلفية في هذه المرحلة مجلة (صوت الدعوة) وهي مطبوعة إسلامية شهرية ظلت تصدر دون انتظام إلى حين تم إيقافها نهائيا سنة 1994م، وكانت تهتم بكل ما يتعلق بالمنهج السلفي من خلال مقالات شرعية مطولة يكتبها الدعاة السلفيون.

ولم يتوقف النشاط السلفي في الإسكندرية على الجوانب التعليمية والدعوية فحسب، بل تعداه إلى جوانب اجتماعية وإغاثية ككفالة الأيتام والأرامل، وعلاج المرضى، وغير ذلك من النشاطات جرى العمل فيها من خلال "لجنة الزكاة" التي كان لها فروع في كل منطقة وحي من مناطق وأحياء الإسكندرية.

وقد استلزم هذا الانتشار السعي إلى ترتيب هذا العمل متعدد المجالات سواء داخل الإسكندرية أو خارجها، لاسيما مع ازدياد أعداد المنتسبين إلى السلفية والمتأثرين بمنهجها. لذلك أنشأ السلفيون "المجلس التنفيذي" ليدير شؤون الدعوة في المناطق المختلفة بطريقة مركزية منظمة. وأيضا تم تشكيل "لجنة المحافظات"، و"اللجنة الاجتماعية"، و"لجنة الشباب" كل ذلك خلال السنوات مِن 86 إلى 1992.
حيث تم تكوين أول جمعية عمومية للدعاة - وليس لعموم الإدارة - الذين تم اختيارهم مِن قِبَل المنتسبين للدعوة؛ "بناءً على الكفاءة والأمانة المنهجية، والدعوية، والسلوكية، والخلقية"، على حد قول الشحات، ثم اختارت الجمعية العمومية "القيم" ـ وهو المسؤول الأول عن الدعوة ـ ونائبه ومجلس الإدارة بالاقتراع السري المباشر، وانتهى الأمر باختيار الشيخ "محمد عبد الفتاح أبو إدريس" قيمًا، والشيخ "ياسر برهامي" نائبًا، وعضوية كل من: الشيخ محمد إسماعيل، والشيخ أحمد فريد، والشيخ أحمد حطيبة، والشيخ سعيد عبد العظيم، والشيخ علي حاتم. وكانت قرارات المجلس التنفيذي تـُتخذ بالأغلبية مع ترجيح جانب "القيِّم" ـ الذي هو بمثابة رئيس الدعوة السلفية ـ عند التساوي.

ولما كانت الدعوة "جزءا من واقع مليء بالحسابات المعقدة"، على حد تعبير الشيخ ياسر برهامي، فقد استفز توسع السلفيين الأجهزة الأمنية التي شرعت في التضييق عليهم، محاولة تفكيك الروابط التنظيمية لهذا التجمع الأصولي الذي جذب في فترة محدودة عشرات الآلاف من الشباب المتدينين، وبلغ هذا التضييق ذروته في القضية التي تم فيها توقيف قيم الدعوة السلفية الشيخ أبو إدريس، والشيخ سعيد عبد العظيم عام 1994، وهي القضية التي تم فيها وقف مجلة "صوت الدعوة"، وإغلاق معهد "إعداد الدعاة"، الذي جرى تسليمه لوزارة الأوقاف على أساس أن الوزارة سوف تستمر في العمل وهي التي سوف تشرف عليه، إلا أن ذلك لم يحدث وتوقف العمل فيه تماما، كما جرى حل "المجلس التنفيذي"، واللجنة الاجتماعية، ولجنة المحافظات.

ولم يبق للسلفيين من مجالات عمل سوى الجامعة وبين الطلائع، وهو ما لم يتم الاعتراض عليه من قبل الأجهزة الأمنية في هذه الفترة وظل مستمرا حتى عام  2002، العام الذي تم فيه إيقاف العمل في الجامعة والطلائع والعمل خارج الإسكندرية، وقد كان السفر والتنقل ممنوعاً على الدعاة السلفيين خارج الإسكندرية منذ أواسط التسعينيات.

وإزاء هذا القمع والاستهداف المبيت على ما يبدو ينفي السلفيون أن يكون العمل في الجامعة والمحافظات ـ المبررات التي كانت مطروحة آنذاك ـ هو السبب في استفزاز الأجهزة الأمنية ضدهم، بل يرجعون أسباب هذه الضربات الأمنية المتتابعة إلى الأحداث العالمية والحرب الأمريكية على ما يسمى الإرهاب التي كانت في ذلك الوقت ذات تأثير كبير على مستوى العالم وكان لها انعكاساتها على المستوى المحلي.

شيوخ السعودية

تقر "الدعوة السلفية" بالفضل لشيوخ السلفية السعوديين، وخاصة: الشيخين عبد العزيز بن باز، ومحمد بن صالح بن عثيمين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخين عبد الله بن قعود، وأبو بكر جابر الجزائري، الذين زارا الدعاة السلفيين في الإسكندرية عام 1986 وجالساهما وحاضرا في مساجدهم، وكان لهذه الزيارات أثرا كبيرا في تدعيم موقف السلفية، خاصة الزيارة التي قام بها الشيخ أبو بكر الجزائري الذي زار كل مساجد الدعوة السلفية تقريبا، وألقى محاضرات قوية في المنهج السلفي بالإسكندرية، كما جرت مناقشات منهجية بينه وبين السكندريين.
 
ولكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ثم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، قيمة كبرى لدى السلفيين، يتداولونها فيما بينهم، ويتدارسونها، ويستقون منها أسس المنهج، حتى تعد كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من الأئمة الذين نقلوا منهج السلف ودونوه وشرحوه كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب والإمام الطبري وابن كثير والشوكاني والبغوي وابن رجب، هي القوام الأساسي للمنهج العقدي والفكري والفقهي للاتجاه السلفي. يقول الشيخ ياسر برهامي: "إن الدعوة تقدر جميع علماء أهل السنة القدماء والمعاصرين، والمواقف التي اتخذتها (…) كانت نتيجة دراسات على ضوء كلام أهل العلم ولا تخرج في مجموعها عنهم في معظم قضايا المنهج، منظرة تنظيرا متقنا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يمثل مرحلة مهمة جدا في تنظير كلام السلف، وعند تنزيل كلامه على أرض الواقع رجعنا لكلام العلماء المعتبرين من المعاصرين".
 
كان ابن تيمية قد ظهر في عصر متأخر تراجع فيه المذهب السني أمام طغيان الفلاسفة والمتصوفة وفرق الشيعة فجدد فهم الإسلام على منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين.. وتعددت الميادين التي خاضها في سبيل إحياء المنهج، حتى خاض معارك ضارية في مواجهة خصومه الذين تمكنوا من سجنه. وقد شهد في حياته غزو التتار لبلاد المسلمين، حتى سقطت بغداد في أيديهم عام 656هـ ، فاشترك بنفسه في جهاد التتار وتوجيه الأمة لمواجهتهم، كما عاصر دولة المماليك، لذلك أضفى ابن تيمية على مؤلفاته طابعا خاصا يتميز بحرارة الجدل، وعنف الخصومة، وقوة الحجة. يقول علاء بكر: "بذل ابن تيمية المحاولات تلو الأخرى في كتبه ومناقشاته لإثبات أن السلف كانوا أهل نظر ودراية إلى جانب كونهم أهل نقل ورواية، وأنهم آثروا عدم تضييع جهودهم وأوقاتهم في محاولات عقيمة، إذ رأوا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكفاية، وأقاموا البناء كاملا في العقيدة والشريعة والعبادات والنظم والأخلاق جميعا".
 
كما كان للشيخ محمد بن عبد الوهاب (توفي 1206 هجرية) حياة ودعوة شبيهة بما كان عليه الإمام ابن تيمية فقد جاء والأوضاع متردية في نجد وما حولها من الجزيرة العربية، حيث انتشار البدع والخرافات، وشاع بين الناس صرف العبادات لغير الله والتعلق بالأشجار والأحجار وقبور الأولياء، فعمل على تصحيح العقائد، واتخذت دعوته الإصلاحية الطابع الديني السياسي، إذ ألف الكتب والرسائل في الدعوة إلى التوحيد وعقائد السلف، وتحالف مع أمير الدرعية (محمد بن سعود) الذي ناصر دعوته وأمنها حتى انتشرت.

الموقف من السرية والعمل التنظيمي

بالرغم من اتساع الرقعة التي يشغلها السلفيون من الخارطة الإسلامية في مصر إلا أنهم يعملون بلا تنظيم هرمي ينخرطون فيه ويسير شئون دعوتهم. وعلى عكس "الإخوان" و"الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" و"حزب التحرير" ليس في أدبيات السلفيين كلمة "تنظيم" على الإطلاق، بل يستعيضون عنها بمصطلح "العمل الجماعي"، ويرون ذلك تحصيل حاصل؛ لأن كلمة "جماعي" تغني عندهم عن كلمة "تنظيمي".
 
أما تعريفهم للعمل الجماعي فهو: "التعاون على ما يُقدر عليه من إقامة الفروض الكفائية مثل الأذان، وصلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، والأعياد، والدعوة إلى الله، والقيام على حقوق الفقراء والمساكين، وتعليم المسلمين وإفتائهم بمقتضى الشرع، وسائر ما يقدر عليه من فروض الكفايات".
 
إذ أن لهم تأصيل شرعي في كافة تفريعات العمل التنظيمي، مثل: البيعة، والسرية، والشورى، ووجود الإمام من عدمه، وأيضا قضية "المسمى"، وهم يستمدون موقفهم في العمل الجماعي (التنظيمي) من فتاوى وكتابات عدد من العلماء القدامى مثل ابن تيمية، والإمام الجويني، والعز بن عبد السلام، ومن العلماء المعاصرين الإمام الألباني، وعبد العزيز بن باز، وابن عثيمين، وعبد الرحمن بن عبد الخالق، الذي يقول في كتابه "أصول العمل الجماعي": "إن أي جماعة تجتمع على مقتضى الكتاب والسنة والالتزام بإجماع الأمة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم هي جماعة مهتدية راشدة ما دام أن اجتماعها وفق هذه الأصول ووفق قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]"، ولا يفرق عبد الخالق في تأسيس الجماعات بين حالتي حضور الإمام وغيبته، مؤكداً "أن وجود الإمام العام لا يلغي وجود الجماعة الصغرى، وجماعة الدعوة والبر والإحسان.. فإذا كان الإمام العام راشداً قائما بالحق فإن الجماعة الصغرى سند له وقوة".
 
وبشكل عام يرى السلفيون جواز ومشروعية العمل الجماعي (المنظم)، بشرط تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وهو ما يلزم عندهم أشياء منها: عدم المصادمة مع الحكومات المدنية؛ لأن ذلك يجر على الدعوات كثيراً من المفاسد ويجعل الناس تستهين بدماء المسلمين، والبعد عما يفهم منه خطأ البيعة والسرية حال التمكن من الجهر بالدعوة، فتكون السرية حينئذ مخالفة للمقصود منها، وعدم التعصب للجماعة، بل يكون التعصب للحق.
 
وفي إطار الجدال حول "البيعة" المعروفة لدى "الإخوان" و"الجماعة" و"الجهاد"، وقضايا أخرى مثل "السرية" و"الخروج على الحاكم"، يرى السلفيون أن البيعة ليست شرطاً للعمل الجماعي، بل يرون إمكانية وجود عمل جماعي بغير بيعة، وكذلك عمل جماعي علني غير سري، وأيضا من دون خروج على السلطات القائمة، بل يرون أن هذا هو الأصل والأكثر شيوعاً لديهم.
 
فقد سئل الشيخ ياسر برهامي عن رأيه في البيعة التي تأخذها الجماعات لقادتها؟ فأجاب: "أقول بلا مداراة، ولا مداهنة، ولا كذب لمصلحة الدعوة، ولا تعريضا - كما يحاول البعض أن يتهمنا - ليس عندنا بيعة، وإنما نرى تحقيق التعاون على البر والتقوى.. وأن هذا لازم لنا من غير بيعة"، وهو يرى أن مسألة البيعة حصل فيها "نوع من الخلل في الفهم؛ لأن البيعة التي رآها بعض العلماء جائزة على الطاعات أو مشروعة، ظنها الناس أنها بالمعنى السياسي، وتحولت على يد الإخوان من بيعة تشبه البيعة الصوفية إلى البيعة السياسية، وأصبح المرشد بمنزلة الإمام والحاكم على أفراد الجماعة".
 
وهو يفرق بين معان مختلفة للبيعة بعضها سياسي "وهذا يكون للإمام الممكن"، لكن هناك بيعة أخرى على الطاعات، ويضرب برهامي مثالاً لذلك بالمبايعة على إقامة الصلاة، حيث إن "الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع الناس على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وهو أمر مشروع إذ هو نوع من العهد، كأن أقول لك مثلا: عاهدني بأن تحافظ على صلاة الجماعة، عاهدني على أن تحقق التعاون على البر والتقوى، عاهدني بأن تحافظ على طلب العلم".
 
أما بالنسبة لـ"العلنية" فهي اختيار فكري لدى السلفيين، غير متأثر بالظروف الأمنية أو غيرها؛ لأن "السرية" كمبدأ مرفوضة عندهم تماماً، رغم كونهم يعترفون بأنها (السرية) منهج نبوي قديم، كما كان عليه الحال في دار (الأرقم بن أبي الأرقم) ودعوات الأنبياء في كثير من الأحيان، وقد سئل ياسر برهامي عن شعار (السلمية والعلنية) الذي رفعه السلفيون، فذهب إلى: "أن الأصل في الدعوة العلن والبيان، ونحن في واقعنا لا نحتاج إلى سرية، وقد تمكنا من الدعوة العلنية بحمد الله"، وبالنسبة للسرية يوضح أنها "سرية وهمية أضر من العلنية"، أما (السلمية) فبها يحصل أنواع من الخير ودفع الشر لأهل الإسلام، لكن "لا يعني ذلك أن كل أحوال المسلمين في كل مكان وزمان كذلك، فنحن لا نبطل الجهاد بالقوة والسنان، وموقفنا واضح من الجهاد في بلاد المسلمين التي نزلها الأعداء، كأفغانستان والبوسنة وفلسطين والشيشان والعراق"، على حد قوله.
 
ومن ثم يرى السلفيون أنهم ليسوا بحاجة إلى ما اصطلح على تسميته بـ"التنظيم"؛ نظراً لأن جل دعوتهم منصب على العمل التربوي والدعوي داخل المساجد، وبالتالي فوحدة العمل عند السلفيين لا تحتاج إلى قدر كبير من العمق التنظيمي، حيث لا حاجة لأجنحة سياسية وأخرى اقتصادية، ونحو ذلك مما "يغري" الأحزاب والجماعات السياسية، ولعل طبيعة العمل السلفي الذي يبتعد عن السياسة ومعاركها، جعل اهتمام السلفيين موجهاً بالأساس إلى تربية الأفراد، ورفع مستواهم العلمي (الديني)، وقدرتهم على رؤية الواقع وقياسه بمقاييس شرعية.

ولعل ما سبق يفسر لنا طبيعة الحركة السلفية وعملها في الإسكندرية؛ إذ كان منصبا بالأساس على نشر المنهج السلفي من خلال الدروس والندوات والدورات العلمية، فهي حالة دينية في عمومها تهتم بالأبعاد العلمية والدعوية والتربوية، وهذه لا تحتاج إلى تنظيمات ولا عمل تنظيمي.


ولا يُخفي السلفيون أن العائق الأمني وما قد يجره من اتهامات وملاحقات كان نصب أعينهم وهم يتخلون طواعية عن العمل التنظيمي، مبتعدين بمنهجهم عن مسلك باقي الجماعات الإسلامية، وهم يعتبرون في ذلك بتجارب تاريخية مأساوية مرت على المجتمع المصري، وكانت نتيجتها سيئة على صحوة العمل الإسلامي، ليس في مصر وحدها بل في العالم، فهم يعدون العامل الأمني أحد العوامل التي تؤثر في رؤيتهم للتنظيم، وإن كان ليس العامل الوحيد.
 
فإلى جانب الحاجز الأمني يذهب السلفيون إلى أن ظروف النشأة لديهم - التي تختلف عنها لدى الإخوان - سبب آخر جعلهم لا يفكرون في مسألة التنظيم، فبينما أتاحت نشأة الإخوان القديمة تاريخياً فرصة أكبر من أجل تنظيم صفوفهم وترتيب وظائفهم وواجباتهم والتزاماتهم الإدارية، لم تكن نشأة السلفية الحركية لتهيئ جواً مساعداً للتنظيم، وهم يرون أن الواقع الحالي لا يسمح بأي صورة من صور التنظيمات السلفية، في حين تم التعامل مع الإخوان كأمر واقع مع محاولات عديدة لاستئصالهم لا تنجح غالبا؛ لأن التنظيم عند الإخوان قديم قدم دعوتهم ذاتها.
 
وفي حين تمثل قضية (السمع والطاعة) عاملا رئيسيا في الانضباط التنظيمي لدى الإخوان، يعول السلفيون على تقديم (الدليل الشرعي)، والنظرة الإسلامية الأصيلة للعلماء والدعاة من حيث احترامهم وتوقيرهم، مما يجعل حبهم وطاعتهم لازما من لوازم التعاون على البر يقوي البناء الروحي بين عناصر الحركة، وإن كان يلغي الارتباط التنظيمي أو على الأقل يضعفه. يقول الشيخ عبدالمنعم الشحات: "استطاعت الدعوة عبر عقود قيادة أبنائها دونما أطر تنظيمية أو بأطر ضعيفة؛ مما يؤكد متانة الروابط بيْن الدعوة وأبنائها". والسبب في ذلك "أنها تربيهم على إتباع الدليل؛ مما يجعله هو ومعلمه في النهاية - وإن تفاوت الفضل والسبق- في منزلة "كل يؤخذ مِن قوله ويُترك".
 
الدولة والنظريات السياسية

لم تسع السلفية في سابق عهدها إلى الصدام مع الدولة ونظامها الحاكم، كما فعلت "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد"، بل اتخذ دعاتها من الحديث النبوي: "والله لا يعطونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها"، شعارا لهم على حد قول الشيخ ياسر برهامي.

ولم يشارك السلفيون في أي عمل سياسي من قبل في مصر، بل كان لهم موقف يتمثل في عدم الاقتراب من أي مشاركة أو استحقاق سياسي في البلاد، وذلك لعدد من الأسباب منها:
 1ـ رفض "الديمقراطية" كنظرية غربية حاكمة للمنظومة السياسية في مصر، باعتبار ما فيها من مخالفات شرعية، وأيضا باعتبارها نظرية غربية ظهرت بعيدا عن قيم الإسلام ومبادئه، وأنها ليست الشورى البديل الإسلامي الأولى والأجدر بأن يكون حاكما للمنظومة السياسية. وينظر السلفيون إلى كون الديمقراطية لا تراعي الشروط الإسلامية فيمن يحكم أو يشرع القوانين، وقد تأتي "بكافر أو امرأة لحكم الدولة الإسلامية (…) أو تأتي بمن يجهر بعداء الدين"، على حد قول الدكتور سعيد عبد العظيم.
 
2ـ العداء الذي كان ينتهجه النظام الحاكم في مواجهة الإسلاميين ومن ورائه القوى السياسية والثقافية والإعلامية التي كانت تناصبهم هي الأخرى نفس العداء.
 
3ـ الموقف الدولي والإقليمي من أي انخراط إسلامي في العملية السياسية قد يفضي إلى وصولهم إلى سدة الحكم في مصر، وما كان يستلزمه هذا الموقف من تقديم تنازلات شرعية لا يرضاها السلفيون تجاه بعض القضايا.
 
ومع كل هذه الاعتبارات لم يغلق السلفيون كل الأبواب أمام النظام الديمقراطي، بل كانوا يرون أنه يمكن لهم المشاركة في ظل الديمقراطية واستثمارها لتطبيق الشريعة الإسلامية، بشرط عدم إقرار الباطل أو المشاركة في المنكر، إذ أن "آلية اختيار قيادة عن طريق الأغلبية أمر مقبول من حيث الجملة (…) وهي النقطة التي تحدث لبسًا لدى البعض بين جواز اعتماد مثل هذه الآلية كطريقة لاختيار القيادة أو لاتخاذ القرار، وبين الديمقراطية كنظام حكم"، كما يقول الشيخ عبد المنعم الشحات.
 
لكن وخلال طيلة حكم النظام السابق اقتصرت مشاركة السلفيين على دعم المرشحين الإسلاميين في النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، بينما كانوا يمتنعون عن التصويت لهم في الانتخابات البرلمانية لما يرون فيها من ضرورة الإقرار بـ"الباطل"، كحضور سن القوانين المخالفة لأحكام الإسلام.
 
في مقابلة أجريناها قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في عهد مبارك، سألتُ الشيخ عبد المنعم الشحات: هل من الممكن أن يؤيد السلفيون الإخوان باعتبارهم القوى الإسلامية الوحيدة التي ستشارك؟ فأجاب: هذا الأمر حدث في انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية؛ لكونها جهات غير تشريعية، ولا يلزم الداخل فيها إقرار بباطل ولا منكر (…) أما في الانتخابات النيابية فغير وارد للمخالفات الشرعية".
 
وفي رسالة "موقف الدعوة السلفية من الانتخابات البرلمانية " كتب الشيخ محمد إسماعيل المقدم: لو ذهب إنسان ينتخب الإخوان المسلمين فإننا لا نزجره؛ احتراماً للخلاف الفقهي في هذه المسألة، لاسيما إذا كان المرشح أمامه معادياً للإسلام أو من هؤلاء القوم الذين يستعينون بأمريكا التي تسن لنا السكين, (…) فقد يكون من وراء هذه المجالس خير، وهذا سوف يسرنا ولا يزعجنا, فدعهم يحاولون الإصلاح من هذه المجالس، ونحن لا نضلل المخالف لنا في هذه المسألة؛ لأنه يوجد فيها خلاف فقهي بين العلماء".
 
ويقر السلفيون بأن رفضهم الدخول في اللعبة السياسية جعلهم بعيدين عن "حالة الاستقطاب التي كانت تمارسها بعض الاتجاهات القومية، بل والعلمانية مع بعض الاتجاهات الإسلامية"، فبقيت الدعوة السلفية "لا تغازل أحداً ولا يغازلها أحد، بل بدا الأمر في بعض الأحيان على أنه لا يهابها أحد على نفسه"، كما يقول الشحات. واستمر الحكم في قضية مشاركة السلفيين في العملية السياسية تلخصه عبارة للشيخ ياسر برهامي (21- نوفمبر- 2010) يقول فيها: "ولو وجدت طائفة صالحة للمهمات العظيمة في قيادة الأمة وتغيرت الموازين الحالية؛ لكان لنا موقف آخر".
 
وما إن وقعت أحداث ثورة الـ 25 من يناير بما أوجدته من متغيرات جذرية داخل مصر، وجد السلفيون أن الظروف باتت مهيئة إلى حد يسمح لهم بمساحة لا بأس بها من المشاركة الايجابية، ومن ثم جاء إعلانهم رسميا المشاركة السياسية حسبما جاء في بيانهم بتاريخ 22-مارس-2011 .
 
ومؤخرا سمحوا لمن أراد من طلابهم خوض انتخابات الاتحادات الطلابية وغيرها "بناءً على قاعدة المصالح والمفاسد"، حسبما جاء على موقع "صوت السلف"  2-إبريل-2011 "فكل ما يُعين على تقليل الشر والفساد وإن لم يمنعه بالكلية، ويعين على تكثير الخير والصلاح ولو لم يؤد الواجب كله؛ فهو مشروع داخل في  قوله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة:2)".
 
وحيث يرى السلفيون في العمل السياسي "وسيلة مِن وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وأن الهدف والغاية هي تعبيد الناس لرب الناس. رأت "الدعوة السلفية" ـ بالرغم من إعلان مشاركتها السياسية ـ أهمية في الحفاظ على بقائها جماعة "دعوية"، تقديرا وحفاظا على رؤيتها لدور الدعوة المتمثل في: "حراسة  الدين"، و"السعي إلى إقامته".
 
وحفاظا على هذا الدور رأى السلفيون أنه لا ينبغي لهم الانشغال بتشكيل الأحزاب أو الانخراط بأنفسهم في سراديب العمل السياسي، إذ جاء في البيان الأول لـ "مجلس شورى العلماء" بتاريخ 10 /3 /2011 :"نفضل للعلماء والدعاة أن لا يترشحوا بأنفسهم حتى لا ينشغلوا عن الدعوة إلى الله، وإنما يقدمون من يتبنى قضايا الإسلام ومصلحة الأمة".
 
فقد استعاضت الدعوة السلفية عن المشاركة بالاكتفاء بأن تؤيد "من تراه صالحا" من القوى الإسلامية التي ستنخرط بنفسها في العملية السياسية. يقول عبد المنعم الشحات، وقد صار بعد الثورة المتحدث الرسمي للدعوة السلفية: "نحن نختار أن نظل دعوة، وإن كنا سنشارك في العمل السياسي باختيار الأصلح مِن الأحزاب السلفية -إن نجح تكوينها- وكذا الأصلح مِن أفراد أحزاب ذات مرجعية إسلامية أخرى: كالإخوان، وكذا مِن المستقلين الصالحين".
 
ولما كانت الدعوة السلفية "تسعى فيما تسعى إليه إلى إصلاح السياسة والحكم، ولكنها تنزل ذلك منزلته من أوامر الدين من حيث الأهمية والأولوية، وتسعى إليه  بالقدر الذي يتناسب مع القائمين بالدعوة". فقد وضع شيوخها ودعاتها ثلاثة معايير لمن سينال تأييدهم في الانتخابات :"الأول: إيمانه بالمرجعية العليا للشريعة  الإسلامية، كفاءته لأداء المهام التشريعية والتنفيذية، وثالثا: النزاهة"، وهي الشروط ذاتها التي يجب توافرها فمن سيدعمه السلفيون كمرشح للرئاسة.
 
وبالرغم من وجاهة هذه الرؤية إلا أنها ربما تدلل من جهة أخرى على أن السلفيين ما زالوا غير واثقين في هذه المتغيرات، التي حدثت على الساحة المصرية، إلى الحد الذي يجعلهم يطمئنوا لدرجة الانخراط بأنفسهم في المنافسة، وصولا إلى البرلمان، أو تشكيل حكومة، أو السيطرة على منصب الرئاسة، أو طرح رؤيتهم للتغيير المستمدة كاملة من الإسلام، والتي تهدف إلى تحكيمه في كل صغيرة وكبيرة بكافة مناحي الحياة.

نظريات الفكر الغربية

اتخذت السلفية موقفا معاديا على طول الخط من النظريات السياسية والفكرية الغربية كـ (الشيوعية، والديمقراطية، والليبرالية، والعلمانية، والاشتراكية، والرأسمالية) فانتقدت هذه النظريات وهاجمت الداعين إلى تطبيقها في العالم الإسلامي، معتبرة أنها مصطلحات وافدة تصطدم في الكثير من الأحيان بالسنن الشرعية والكونية، فلا يصح أخذها على عواهنها، ولا اعتمادها مقياسا وبديلا عن شرع الله، ولا ترديدها والترويج لها؛ لما تنطوي عليه من مخالفات شرعية، "حذرنا من لدغات الحيات والعقارب يقتضي منا أن نحذر المصطلحات الوافدة والتعبيرات المستوردة والموازين الخربة"، خاصة وأن الغرب يسعى بقوة إلى صبغ دول العالم بصبغته الحضارية والثقافية، بغرض محو هويتها وتشكيل أساليب ومظاهر الحياة فيها.
يقول أحمد السيد "نحن نرفض تقليد الغرب ونبحث عن الأصالة، ولا تأتي الأصالة بترقيع الشخصية بل بالارتباط بالعقيدة التي كانت حجر الزاوية في كيان هذه الأمة"، (9) مشيرا إلى أن السلفيين يفرقون بين "تقليد مقومات الشخصية والعقائد والتصورات"، وبين "النتائج العملية"، إذ لا وطن ولا جنسية للاكتشافات والأبحاث الإنسانية في الميادين المختلفة و"العلوم النافعة تأخذ ممن أفلح فيها"، أما "علوم الهدايا" فلا تُأخذ إلا من الكتاب والسنة.
 
وقد أصل السلفيون كتابات شرعية لإظهار أوجه تناقض النظريات الفكرية الغربية مع أحكام الإسلام، ومن أوائل هذه النظريات "العلمانية" كنظرية قامت على عزل الدين عن الحياة، يقول علاء بكر: "إن أوروبا عندما أقصت النصرانية المحرفة كدين عن الحياة، وأخذت بالعلم طريقها إلى التحضر، فقدت نور الوحي وهداه، ومن ثم كونت حضارة مادية بحتة، آلت بها إلى تسخير العلم في الشر كما تسخره في الخير"، يضيف : "إن الأخذ بأسباب العلم والتقدم العلمي بالصورة التي نراها الآن في العالم الغربي هو جانب إيجابي ينبغي الاقتداء بأوروبا فيه، أما افتقاد تعاليم السماء ونور الوحي وهدى الدين فجانب سلبي يهدد بتدمير هذه الحضارة بيد أبنائها وينبغي أن نتجنب اتباع أوروبا فيه".
 
وتجهر السلفية برفض "الديمقراطية" كنظرية سياسية للحكم رفضا تاما، إلى جانب رفض قيمها كـ "الأغلبية" و"حكم الشعب" وغيرها، لتناقض هذه المباديء مع أحكام الإسلام التي لا يمكن في ظلها الفصل بين الدين والدولة، على عكس الديمقراطية التي لا تراعي الشروط الإسلامية فيمن يحكم أو يشرع القوانين، فقد تأتي بكافر أو امرأة لحكم الدولة الإسلامية و"ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، أو تأتي بمن يجهر بعداء الدين، وهنا يتساءل سعيد عبدالعظيم "ما قيمة صندوق انتخابات يأتينا بيهودي"، و"ماذا نصنع إن أتى على رأس السلطة كافر، والإسلام يعلوا ولا يُعلى عليه"، (10) مشيرا إلى أن رأي الأكثرية الانتخابية هنا لا قيمة له إن كان سيخالف ما نص عليه الإسلام، فـ "الأكثرية" ـ وهي محور النظام الديمقراطي ـ "لا يجوز أن تغير شرع الله".
 
كما رفض السلفيون الدعوات القومية والوطنية المأخوذة عن الغرب، والتي قسمت الأمة الإسلامية وفرقتها فتحولت إلى دويلات تفصلها حدود سياسية، وتتحكم فيها دول الغرب الاستعمارية، حتى وجدنا الدعوة إلى "الطورانية" في تركيا، كما يقول علاء بكر، (11) والقومية العربية، وظهرت شعارات، مثل "مصر للمصريين"، و"الوطن فوق الجميع"، و"سوريا الكبرى"، والقومية الآشورية في العراق، و"كفاح الأكراد" لإقامة دولة قومية كردية.. وهي دعوات "تعارض ما جاء به الإسلام"، الذي يبني نظامه على المساواة بين كل الأجناس، ويهدف إلى إقامة دولة عالمية -لا قومية- ترفض التعصب لجنس أو لقوم أو لوطن، ويتساوى فيها جميع المسلمين في الحقوق والواجبات.
 
والحال نفسه بالنسبة لنظرتهم إلى (الشيوعية) التي "لا تؤمن بإله خالق لهذا الكون، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب!!"، ولا تؤمن بالغيبيات، ولا تعترف بيوم القيامة، ولا تعبأ بالمحرمات، ووضع أسسها النظرية "اليهودي كارل ماركس بمساعدة صديقه فردريك انجلز"، حسبما يقول علاء بكر، يضيف: وأشد مساوئ الشيوعية "ما أظهرته من عداء الأديان عامة والإسلام خاصة، إذ جعل ماركس بفكره الإلحادي القضاء على الأديان هدفه الأكبر"، وقام أتباعه "بهدم المساجد وإحراق المصاحف، وإلغاء تدريس الدين، واعتقال علمائه"، في البلدان الإسلامية التي خضعت لحكم السوفيت، مستشهدا بمقولة نقلها لستالين: "يسرني أن أعلن أن الاتحاد السوفيتي سجل نصراً كبيراً بالقضاء على العقيدة الإسلامية، واستئصالها من الوجود، فلم يبق من أتباعها إلا قلة هم في طريق التصفية والاضمحلال كما أن مساجدهم في طريق الزوال"، حيث تعرض المسلمون إلى حرب إبادة وحملات تهجير واضطهاد، أجبروا خلالها على تربية أبنائهم في بيئة ملحدة.
 
وفي مقابل رفض كل هذه النظريات الشرقية والغربية يقدم السلفيون رؤيتهم التي تتناقض مع كل ما سبق، فالإسلام دين ودولة، وهو يجعل الهداية في شرع الله - تعالى- ويستمد قوانين الأمة منه، في ظل ثوابت عقائدية وأخلاقية وتعبدية لا تتغير ولا تتبدل، ومنهج لمعاملات الأمة يجمع بين القواعد العامة والتفصيلات التي تراعى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فلقد أزال الإسلام ما كان قبله من قوميات وحضارات قديمة، وصنع لنفسه حضارة جديدة استمرت أكثر من ألف عام، انصهرت فيها كل الحضارات والقوميات التي سبقته في بوتقة الإسلام، لتنتج للبشرية حضارة زاهرة استوعبت علوم السابقين، وقدمت للدنيا علماء في شتى الفروع.
 
والإسلام وهو دعوة عالمية لا يفرق بين الأجناس والشعوب ولا يعرف القوميات، بل يسع الأرض كلها، وهذا لا يعني رفض وجود غير المسلمين في الدولة الإسلامية، أو إجبارهم على اعتناق الإسلام طالما بقوا في دولته؛ إذ لا إكراه في الدين، وإنما هم "أهل عهد وذمة، يخضعون لأحكام الإسلام المبنية على العدل والرحمة والإحسان، ولهم فيها الأمن والأمان لأرواحهم وأموالهم"، كما يرى أصحاب المنهج السلفي.
 
لذلك كان لابد من رد الدنيا ردا جميلا لكتاب الله ولسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فهذا هو الضابط والميزان للأقوال والأفعال، به توزن حركة المجتمع وتضبط به القلة والكثرة، والحاكم والمحكوم، وتنصبغ به السياسة والاقتصاد، والاجتماع والأخلاق، والمسجد والسوق، والحرب والسلم، قال - تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)(النساء:65)، فلا يجوز تحكيم العرف ولا العادة، ولا البيئة ولا النشأة، ولا مجاراة حركة المجتمع، أو موافقة طوفان وموجة تتصادم مع الكتاب والسنة. (21)
 
موقفهم من العنف وحركاته

يرى السلفيون في التفجيرات وعمليات القتل التي تستهدف الأجانب داخل الدول والبلدان الإسلامية "غدر ونقض لعهد الأمان" الذي دخلوا به الأراضي الإسلامية، "ولو كانوا فجاراً أو كفاراً"، كما يقول ياسر برهامي، لأنهم لم يدخلوا البلاد بقوة السلاح، "بل بأمان من المسلمين آحاداً ودولاً، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ)" (13). فأدنى المسلمين - ولو كان عبداً، أو امرأة، أو فاسقاً- إذا أجار كافراً حربياً، ودخل بلاد المسلمين بهذا الأمان؛ "لم يجز لأحد إخفار ذمته"، فضلاً عما تتضمنه هذه التفجيرات العشوائية من إصابة "المعصومين من المسلمين الذين تعج بهم طرقات المسلمين وشوارعهم وأسواقهم، من المصريين وغيرهم، فهي إذن تقتل مسلمين معصومين بالإسلام، وكافرين معصومين بالعهد والأمان".
 
ومن جهة أخرى تقدم هذه العمليات، التي لا يُقدم عليها سوى "جهال أغرار من الشباب الذين لم يجدوا غير "النت" لتلقي علومه وثقافته"، تقدم الحجة المساعدة لليهود وأعوانهم الذين "يستفيدون" بإحداث الوقيعة والعداوة بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة، كما أنها تشوه "صورة المسلمين الملتزمين" بإظهارهم في صورة سفاكي دماء الأبرياء والعُزَّل، والنساء والأطفال؛ وتعمل على صب البنزين على النار، وإظهار المجتمع المصري منقسماً متقاتلاً يعاني من أزمات لا حل لها إلا باجتثاث الإسلاميين، وسَنِّ التشريعات الحاسمة التي تقتلع "الإرهاب" و"التطرف" من جذوره. لذلك أيد السلفيون بشدة مراجعات الحركات الجهادية، لأنها كانت "سبباً عظيماً لمنع كثير من المنكرات"، وفتحت باباً لعلاقة جديدة بين الاتجاهات الإسلامية وأجهزة الدولة، قلـًّت فيها أعداد المعتقلين، وتحسنت فيها أوضاع السجون، خاصة بعدما كان يجري من "التضييق على الدعوة والدُّعاة".
 
لكن الموقف ليس ذاته بالنسبة للبلاد الإسلامية التي دخلها المحتل، فإنه "إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم"، كما يقول ياسر برهامي: "وهذا فرض عين على أهل البلد المقصود"، (18). فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم، "كان علي من قارب

2
الباسيج" وأخواتها.. ميليشيا القمع السلطوي في إيران

علي عبدالعال

"الباسيج" هي واحدة من أخلص الميليشيات المسلحة في الدولة الشيعية لنظام ولاية الفقيه، وخط الدفاع الأول عن حكومة الملالي في طهران، شكلت رأس الحربة في عمليات القمع التي جرت لتظاهرات المعارضة، منذ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي فاز فيها الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، المدعوم من مرشد الثورة على خامنئي.

والباسيج كلمة فارسية تعني "التعبئة" وهي تشير إلى تعبئة المتطوعين من أنصار ثورة الخميني، للدفاع عن الثورة في وقت السلم والحرب, وملاحقة المنشقين والمعارضين للنظام في جميع الأوقات.

وهي قوات صدامية، يتسلح أفرادها بالهراوات والسلاسل، وغالبا ما يحملون الحجارة، وأحيانا السكاكين، وغيرها من الأسلحة البدائية.. تضم مئات الآلاف من العناصر، وهناك تقديرات تقول إنهم يتجاوزون الثلاثة ملايين إيراني من الرجال والنساء، غالبيتهم من المدنيين إضافة إلى عدد من الوحدات المسلحة.

يرتدي أفراد الباسيج ملابس مدنية، ليسهل تحركهم، وخلال عملياتهم يقودون الدراجات النارية في أنحاء إيران لتمكنهم من خوض قتال الشوارع بسهولة، حيث يقوم رجل بالقيادة وآخر يقوم باستخدام العصى لضرب الحشود، فهي قوات شبه عسكرية، تتدخل لقمع أي تحرك معاد للنظام في حال اندلاع توترات يقف وراءها مدنيون، وكثيراً ما اتُهموا باستخدام الوحشية المفرطة، والقسوة تجاه مخالفيهم.

ميليشيا عقائدية تابعة للحرس الثوري

بأمر الخميني جرى تشكيل الميليشيا بعد أنتصار الثورة عام 1979، كقاعدة تغذية للحرس الثوري، وأناط بها مهمة أمنية وليست سياسية في الدفاع عن الثورة ومبادئها، ومع إندلاع الحرب مع العراق (عام 1980) أعتبر الانضمام إليها شكل من أشكال التطوع في الجيش خاصة لدى الذين أولعهم الحماس للإنخراط في هذه الحرب وما عرف بـ "الدفاع المقدس" ضد الرئيس العراقي صدام حسين.

ومنذ يناير 1980 وُضعت الباسيج تحت إمرة الحرس الثوري أو (الباسدران) قوات النخبة في الجمهورية الإيرانية، فبخلاف غالبية دول العالم، تتميز إيران بأن لديها بالإضافة إلى الجيش النظامي التقليدي وقوات الأمن الداخلي (الشرطة)، تنظيما عسكريا موازيا للقوات النظامية يتمتع بدور كبير ونفوذ واسع في البلاد، وهو جيش إيدلوجي تتلخص مهمته في حماية نظام ثورة الخميني، وهو يراقب الجيش الإيراني نفسه، ويشرف أفراد منه على قطاعات واسعة من الإقتصاد, ومؤسسات السلطة, ويخضعون مباشرة لإمرة مرشد الثورة علي خامنئي.

والباسيج أحد أجنحته التي يلزم أعضاءها بأمور عقائدية صارمة، ويفرض رقابة مشددة على قيادتها، وقد لعبوا دورًا كبيرًا خلال الحرب التي دامت 8 سنوات فأشتهر أفرادها بموجاتهم البشرية التي كانت تجتاح حقول الألغام لفتح الطريق أمام الدبابات، تحت قيادة الحرس الثوري، إذ كانوا يمرون عبر حقول الألغام بالمفاتيح البلاستيكية كرمز لدخول الشهيد إلى الجنة، كما عُرفوا بأسلوبهم الخاص في الهجمات الانتحارية.

ومنذ منتصف التسعينيات بدأت الباسيج بالتركيز على مكافحة الشغب وتأمين الوضع الداخلي وذلك عبر رصد التهديدات والعمل بمثابة قوة ميليشيات ساكنة، وفي عام 1993 انشأت نظام كتائب خاصة ذات طراز عسكري عرفت بلواء "عاشوراء" مهمتهم ابقاء الاضطرابات المدنية تحت السيطرة أو القضاء عليها عبر قمعها بالقوة.

أما الآن وقد أصبح "الباسيج" ـ بعدما تضخم عددهم وعدتهم ـ واحدة من أهم القوى الإيرانية، وانخرطوا في السجالات السياسية والفكرية الداخلية فضلا عن تطلعاتهم الإقليمية، فهم يقومون بالأعمال القذرة نيابة عن الحرس الثوري، فيخترقون الأحزاب، ويتمّ إرسالهم للإغارة على الجامعات، ومساكن الطلاب، وتحدثت مصادر عديدة عن دورهم المباشر في تزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح المرشح المحافظ.

الجناح نسائي (أخوات الباسيج)

وللباسيج جناح نسائي أسسته (مرضية دباغ) ـ حارثة الخميني في باريس ـ يدعى (أخوات الباسيج)، لعب الدور الأساسي في قمع الحركة النسائية التي ترافقت مع الاحتجاجات الحاصلة في البلاد بعد الانتخابات الرئاسية.

يعود تشكيل هذا الجناح إلى أحداث الحرب مع العراق، حيث شرع النظام الإيراني في تأسيس معسكر تدريبي خاص للنساء، ضم آلافاً منهن أُرسلن للجبهة، وكانت الكثيرات منهن على صلة قرابة بمقاتلين على الجبهة، فعملن بالتمريض والطبخ ورفع معنويات المقاتلين.

بلغ عددهن عام 1994 نحو 147 ألف مقاتلة تلقين التعليم والتدريب العسكري المتطور، وأطلقن لاحقاً وحدة طوارئ لقمع المنشقات داخل البلاد، فجرى على أيديهن اعتقال وتعذيب عدد كبير من المعارضات.

وتعد "مرضية حداد تشي دباغ" أبرز مؤسسي "أخوات الباسيج" وهي الملهمة لنسائه المقاتلات، تعرضت لملاحقة السافاك حتى اعتقلت قبل الثورة بأعوام وتعرضت للتعذيب عام 1972 بسبب عملها مع الدوائر المقربة من الخميني، أطلق سراحها بعد تدهور صحتها، وبعد خروجها تركت إيران بمساعدة محمد منتظري فسافرت إلى أوروبا وهناك أسست خلايا إيرانية وأخرى في لبنان أشرفت عليها شخصياً، حتى أصبحت موثوقة جداً لدى الخميني فعينها حارسة له عام 1978.

يعرفها الإيرانيون بـ (المرأة التي رافقت الإمام في منفاه) فهي المرأة الأشهر في إيران، شاركت في الثورة حاملة السلاح في أحياء طهران والمناطق، ودربت النساء عسكرياً، وحملت الأسلحة والصواريخ في مرتفعات كردستان القاسية، كما ترأست الحرس في منطقة همدان وتولت مسؤولية التعبئة النسائية في كل إيران.

شاركت دباغ في الحرب مع العراق، وانضمت إلى الحرس الثوري بدور قيادي بارز لتصفية منظمات المعارضة، كما أرسلت في وفد نهاية الثمانينات إلى موسكو للقاء جورباتشوف حاملة رسالة الخميني إليه برفقة آية الله جوادي، وفي التسعينات ترأست جمعية النساء في إيران ودخلت البرلمان خلال عدد من الدورات.

بعد الانتخابات

منذ انتخاب محمود أحمدي نجاد ـ العضو السابق في الحرس الثوري ـ عام  2005 أعطت الدولة هامشا أكبر لعناصر الباسيج، ولوحظ اهتماما متزايدا بتحسين قدرات هذه الميليشيا، ففي نوفمبر 2009 ذكرت صحيفة  (نيويورك تايمز) إن الحكومة شرعت في إنشاء ستة آلاف مركز لميليشيا الباسيج في المدارس الابتدائية بكل أنحاء البلاد.

وقد ردت الباسيج الجميل على ما يبدو بإعلان دعمها لنجاد قبل الانتخابات الرئاسية التي جرت في  12 يونيو 2009 ، ورغم أنه تدخل سافر من قبل جهاز أمني إلا أن قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، لم ينفه، مؤكدًا أن الباسيج المدنيين يشاركون في المسائل السياسية.

مثل وجود نجاد دليل على تنامي قوة النخبة المؤلفة في معظمها من قدامى المحاربين في "الحرس الثوري"، الذين يشكلون الأغلبية العظمى في مجلس الوزراء وأكثر من ثلث البرلمان، والذين استفادوا من توسع "الثوري" إلى أدوار غير تقليدية في قطاع الأعمال والصناعة.

وبدعم من الحرس الثوري قام نجاد بعمليات تسريح واسعة في صفوف الحرس والخارجية والأجهزة الأمنية والاقتصادية والتربوية لإقصاء كل من يشك في ولائه للتيار المحافظ ما اتاح السيطرة الكاسحة للثوري.

وهو ما بدت ثمرته في الانتخابات الأخيرة، التي سجل المراقبون خلالها تدخلات من قبل عناصر الباسيج لصالح المرشح المحافظ ما دفع المرشح الإصلاحي مهدي كروبي إلى إدانة هذه الممارسات باعتبار أنها "غير القانونية والغريبة".

وفي أعقاب إعلان النتائج التي أثارت احتجاجات واسعة في البلاد أدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى ودخول إيران في فوضى لم تتمكن السلطات من السيطرة عليها حتى الآن اتهم أنصار المرشح مير حسين موسوي ميليشيا الباسيج بالوقوف خلف عمليات التزوير التي جرت لصالح نجاد، وبحسب شهادات الصحافة الأجنبية قبل إنتهاء الإقتراع بساعات, إستولى عناصر الباسيج على حواسب إحصاء الأصوات في وزارة الداخلية بعد طرد الموظفين منها, وأخفوا عددا من صناديق الإقتراع.

وخلال الاحتجاجات التي عمت البلاد في أعقاب النتيجة الانتخابية، أعلن قائد معسكرات تعبئة الباسيج العميد قاسم سليماني، الذي يدور حوله جدل بشأن اتهامات له بالتدخل في العراق ومناطق أخرى عبر فيلق القدس (الجناح العسكري الذي يقوم بعمليات خارج الحدود)، عن تعبئة 7 ملايين من عناصر الميليشيا لمواجهة ما سماه خطر "ثورة ناعمة" ينفذها الإصلاحيون. وفي تظاهرة لهم ارتدى الباسيجيون الأكفان أمام مقر مرشد الثورة علي خامنئي مطالبين السماح لهم بالجهاد ضد زعماء الإصلاح.

وقد أكد كثيرون ممن شاركوا في المظاهرات أن أفراداً مسلحين لا يرتدون زياً رسمياً، قد أفرطوا في استخدام القوة وارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك ضرب المتظاهرين في الشوارع، واستخدام الأسلحة النارية ضدهم. وقد التُقط شريط فيديو يظهر فيه أحد أفراد "الباسيج" وهو يطلق النار من مبنى تستخدمه الميليشيا خلال المظاهرات التي اندلعت يوم الاثنين 14 يونيو وقُتل خلالها ما لا يقل عن ثمانية أشخاص. كما وُزع على نطاق واسع شريط فيديو آخر تظهر فيه شابة من المتظاهرات، وهي تحتضر جراء جرح أصابها في الصدر تردد أن عناصر الباسيج ضالعين فيه.

وبثت قنوات التلفزة الإيرانية مشاهد لمجموعات متنقلة في لباس مدني ولسائق دراجة نارية وخلفه شخص مزود بعصى، يضربون المتظاهرين لتفريقهم.

وكان من الواجب أن يؤدي ظهور هذه الأشرطة وما حملته من أدلة إلى إسراع السلطات بإجراء تحقيق في الوقائع وإصدار تعليمات واضحة للحيلولة دون سقوط مزيد من القتلى والجرحى، وأن تسارع بإخلاء فرق "الباسيج" من الشوارع، إذ لا توجد وسيلة أمام الجمهور للتعرف على أعضاء هذه الفرق، ناهيك عن محاسبتهم عن الانتهاكات. كما ينبغي أن يُترك أمر التعامل الأمني مع أية مظاهرات لقوات الشرطة وغيرها من قوات الأمن المدربة والمجهزة على نحو ملائم، إلا أن ذلك لم يحدث.

وقبل وفاته انتقد المرجع الشيعي الإيراني المعارض حسين علي منتظري دور الباسيج في قمع الاحتجاجات. وقال منتتظري: إن ممارسات هؤلاء "تسير في طريق الشيطان". وأضاف في بيان رسمي : "إن قمع المتظاهرين عمل آثم وغير شرعي". وتساءل: "بأي سلطة ضربوا الشعب؟".

وفي أعقاب الأنباء التي ترددت عن دورهم في قمع المتظاهرين بالقوة المفرطة، وعلى ضوء التاريخ الطويل من الانتهاكات التي استخدمتها الميليشيا الموالية للسلطة، دعت منظمة العفو الدولية الحكومة الإيرانية إلى الكف عن استخدام هذه الفرق في التصدي للمظاهرات، كما اتهمت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (نافي بيلاي ) الباسيج بممارسة العنف ضد المحتجين, مذكرة بالأعداد الكبيرة من نشطاء حقوق الإنسان الذين ألقي القبض عليهم وزجوا في السجون.


وأوائل أكتوبر من العام الماضي 2009 أقال المرشد الإيراني علي خامنئي, قائد الباسيج حسين طيب, وعين الجنرال محمد رضى نجدي خلفا له. ورجح المراقبون أن تكون الإقالة محاولة لتهدئة الرأى العام الداخلي الغاضب, تجاه الاحداث, علما بان طيب لعب دورا اساسيا في القمع الدموي للتظاهرات السلمية.

3
انتقادات لحماس على الحسم العسكري ودعوات لدرء الفتنة

علي عبدالعال
 
وضع الخيار العسكري الذي لجأت إليه حركة المقاومة الإسلامية حماس لمواجهة إعلان (الإمارة الإسلامية) من قبل تنظيم "جند أنصار الله" بزعامة الشيخ عبد اللطيف موسى، الحركة في مواجهة انتقادات شديدة من قبل شخصيات إسلامية وجماعات، ومنذ انتهاء المواجهات التي انتهت بمقتل موسى وعدد كبير من أنصاره كانوا يتحصنون بمسجد ابن تيمية جنوب قطاع غزة، شهدت حماس موجة انتقادات.
 
كان الرد الأحرج لحماس من قبل أحد أبرز شيوخ السلفية في مصر الشيخ سيد حسين العفاني الذي أنكر على الحركة الحاكمة في غزة قتل الشيخ (أبي النور المقدسي) ورفاقه وقصف مسجد ابن تيمية بالصواريخ، ففي تعليق له على قناة "الخليجية" أثنى العفاني على الشيخ عبد اللطيف موسى مشيراً إلى أن المشايخ السلفيين في مصر يعرفونه ويزكونه، وكان العفاني قد قدم كتابا في العقيدة للمقدسي تحت عنوان (الياقوت والمرجان في عقيدة أهل الإيمان). ومن الجدير بالذكر أن الشيخ العفاني هو صاحب كتاب (شذا الرياحين من سيرة واستشهاد الشيخ أحمد ياسين) يرثي فيه الرعيل الأول من قادة حماس، كما له قصيدة يرثي فيها القيادي الدكتور نزار ريان بعد استشهاده في قصف إسرائيلي.
 
وتحت عنوان (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) قال زعيم تنظيم "جيش الإسلام" الشيخ ممتاز دغمش (أبو محمد المقدسي) إنه فجع بخبر مقتل الشيخ موسى، مستغرباً في بيان له "استرخاص (حماس) الدم المسلم" وضربها عرض الحائط بالنصوص الشرعية، وأوضح أن "مشايخ التيار السلفي الجهادي دعوا أتباعهم (...) إلى عدم الصدام مع حماس"، لكن "لم نسمع من قادة حماس ومرجعياتها كلمات ينبهون فيها على تحريم الدم المسلم"، محملا الحركة المسئولية كاملة إذ إن هناك أشياء كثيرة تجب على "ولي الأمر" قبل اللجوء إلى العلاج بالقوة.
 
كان "جيش الإسلام" قد شارك حماس في غارة عبر الحدود عام 2006 تم خلالها أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط ، إلا أن التنظيم اختلف بعد ذلك مع الحركة وخطف الصحفي البريطاني الان جونستون عام 2007 واحتجزه لأربعة أشهر قبل أن يفرج عنه تحت ضغط من حماس. كما خاض التنظيم معركة دموية ضد الحركة في 2008.
 
سيوف الحق تبايع الإمارة

ومن جهتها أصدرت "جماعة التوحيد والجهاد ببيت المقدس" بيانا حول ما أطلقت عليه "مجزرة مسجد ابن تيمية"، هاجمت فيه عناصر حركة حماس الذين "حاصروا بيت الله، ودكّوه بأسلحتهم الثقيلة على رؤوس من فيه"، واتهم البيان الحركة بأنها دأبت على حرب المجاهدين، فما مر عام على "مجزرتهم" بحق جيش الإسلام، ثم حربهم على جيش الأمة واعتقال أميره، "حتى وجدناهم يوجهون نيران أسلحتهم إلى صدور المشايخ وطلبة العلم والمجاهدين"، وأكد البيان وقوف التنظيم أفرادا ومجموعات بجوار "المظلومين (...) فالدم الدم، والهدم الهدم"، كما خاطب كتائب القسام قائلا: إنه "لم يبق لكم عندنا عذر، فقد وضحت الراية، وبانت النوايا".
 
وقد أعلنت "سيوف الحق" ـ وهي جماعة غير معروفة ـ البيعة للإمارة الإسلامية التي أعلنتها جماعة "جند أنصار الله"، وهددت باستهداف قادة حماس ومراكز الأمن التابعة لها، قائلة: "والله لنثأرن للدماء الطاهرة التي سفكت في بيت الله"، وطالب في يان لها سكان قطاع غزة بالابتعاد عن مراكز الشرطة والمقار التي يتواجد فيها الحمساويون... وكانت حركة "الجهاد الإسلامي" قد سارعت إلى انتقاد تصرف حكومة حماس، واعتبر القيادي خالد البطش أن "اشتباكات رفح تسيء إلى المشروع الإسلامي برمته، ولا تخدم مشروع الجهاد في أرض فلسطين".
 
وقد شهدت المنتديات الإسلامية ما يشبه حالة الاستنفار لبث البيانات والمقالات، إلى جانب الكلمات الصوتية الصادرة حول الأحداث، كما جرى بث صور ومشاهد تظهر جثث القتلى وما لحق بمسجد ابن تيمية والمنزل الذي تحصن به زعيم "جند أنصار الله". وقد رثى إسلاميون عديدون الشيخ عبد اللطيف موسى (المفضال) الذي كان "جبلا أشم في زمن قل فيه الرجال وتكالب فيه الأعداء"، كما وصفته المراثي بأنه كان "دائم الابتسامة، حنون على أمته، كما كان أسداً هصوراً أثناء تعليم الناس أمور دينهم من فقه وعقيدة".
 
وقد نفى من بقي من أنصاره "جند أنصار الله" الاتهامات التي وجهتها حماس إليهم، خاصة التكفير والتخطيط للقيام بعمليات تخريبية، وقالت الجماعة في بيان نعي قتلاها: "نؤكد رسميا ونكررها ثانية أننا لم نكن ننوي أن نفجر أي مقر أمني، أو نهاجم أي عنصر من حماس"، وأضافت "لم يكن لنا أي ضلع في أي تفجير حدث على الساحة الفلسطينية، ولم نكفر أحدا، ولسنا تبعا للقاعدة". وتوعدت الجماعة بالثأر متهمة حماس بأنها حصدت "أرواح المجاهدين والمدنيين" على حد سواء.
 
وقد ردت حركة المقاومة الإسلامية حماس على هذا السيل من الاتهامات في بيان وجهته إلى الشعب الفلسطيني، اعتبرت فيه تنظيمات السلفية الجهادية يشكلون حالات "القاسم المشترك بينها الحقد على حماس وعلى الحكومة"، متهمة إياهم بالقيام بتفجيرات استهدفت محلات إنترنت، وأفراح المواطنين، وبعض المدارس الأجنبية بغزة، قائلة "وأمام هذا الغدر لم يكن أمام الأجهزة الأمنية سوى الدفاع عن نفسها، وعن المدنيين".. كما حملت تنظيم "جند أنصار الله" المسئولية كاملة عما جرى.
 
تأكيدات على شرعية حماس

وفي إطار هذا التقاتل تدخلت أطراف وشخصيات إسلامية لتطويق الأزمة، إذ حرّم خطيب المسجد الأقصى الشيخ محمد حسين "قتل النفس البريئة"، معتبرا أن "الخاسر الأكبر من الاقتتال (الداخلي) هو الشعب وقضيته". في حين اعتبرت "رابطة علماء فلسطين" أحداث رفح خروج عن منهاج الإسلام، وقلب للأمور في القطاع؛ تهدف إلى التأليب على الحكومة الشرعية.
 
ومن جهته اعتبر الشيخ حامد العلي الأمين العام السابق للحركة السلفية في الكويت أن ما جرى في قطاع غزة إنما هـو "دُخَـان فتنة.. وقـى الله المسلمين شرَّها"، مشيرا إلى أنها "لا تفرح إلا الصهاينة" و"السلطة العميلة". وأشار العلي - وهو شخصية إسلامية معروفة- إلى أن المخرج من هذه الفتنة يكون بتدخل العلماء والعقلاء، لدرء هذا الشـرّ قبل أن يستفحـل، ولتجنب أسباب الانشقاق، والكـفُّ عن إعلان كلّ ما يوجب الفرقـة، ويزيد معاناة الشعب الفلسطيني، ويمعن في إضعاف خـطّ الجهـاد، مؤكدا على ضرورة إصلاح ذات البيـْن، ولملمة الجـراح، والأخذ بالرفـق، وترجيـح الجماعة على الفرقـة، ووحدة الصف على النزاع.
 
لكن من جهة أخرى انتقد الشيخ حامد العلي محاولات الخروج على حكومة حماس في غزة، مشددا على أن القطاع الآن "في ظلِّ توجه إسلامي لا نشكُّ في إخلاصه، ومعروف بمسيرته الجهادية المشرِّفة، وتضحياته الكبيرة"، وفي بيانه الذي نشرته حماس على موقعها الرسمي أكد العلي أنه من الواجب دعم هذا التوجُّه "والتعاون معه تعاونًا كاملا، والتنازل عن كلِّ ما يعارض هذا التعاون الواجب؛ إيثارًا للمصلحة العامة، ودرءًا لمفاسد الشقاق".
 
ومن جهته أصدر حزب التحرير الإسلامي بيانا استنكر فيه الأحداث التي وقعت، معتبراً قتل المسلم للمسلم جريمة عظيمة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، ودعا الحزب الأمة الإسلامية إلى وقف شلال الدم النازف في غزة، إذ "يجب ألا يفكر المسلمون بحل خلافاتهم بالسلاح"، وقال الحزب: "إننا ننظر وباستغراب إلى أعمال القتل ونتساءل هل هذه هي طريقة الإسلام"، معتبرا أن استرضاء الغرب (الكافر) والخوف من نقمته باتت تبرر قمع من يطالب بإمارة إسلامية بهذه الطريقة الوحشية، وناشد "التنظيمات والفصائل" أن تبقي على أسلحتها موجهة صوب "الكافر المحتل وألا يشار بها  لمسلم قط"، وأن يبقى همهم إيقاظ جذوة الصراع في فلسطين مع اليهود.
 
وعلى لسان عضو المكتب السياسي د. خليل الحية عبرت حماس عن أسفها للأحداث، مؤكدة أن الحكومة بذلت جهدًا كبيرًا للحوار وثني "جند أنصار الله" عن أفكارها. لكنْ للأسف قام هؤلاء الشباب بأعمال مخلَّة بالأمن، والتورُّط في تفجيراتٍ، فضلاً عن خروجهم على الشرعية، وشدَّد الحية على أنه بالرغم مما جرى فهم إخوةٌ لنا، داعياً "بالرحمة للدكتور عبد اللطيف موسى وجميع الشهداء ضحية هذه المواجهات في الجانبيْن". وقال : "نحن بدافعنا الوطني والإسلامي علينا الحفاظ على كل قطرة دم فلسطيني لمواجهة الاحتلال".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
/ علي عبدالعال
صحفي مصري
Ali Abdelaal
Egyptian journalist
0020126656895


4
"جند أنصار الله".. الطريق إلى الإمارة الإسلامية!

علي عبدالعال
 
تقدم "جند أنصار الله" نفسها باعتبارها جماعة إسلامية سلفية، يقوم فكرها على تحرير فلسطين بأكملها من الاحتلال اليهودي، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ترى الجهاد في سبيل الله وسيلتها، وعقيدة أهل السنة والجماعة منهجها..  لا تؤمن بالعمل السياسي من انتخابات وتشكيل حكومة وغيره طالما أن البلاد تعيش تحت الاحتلال.
 
وهي واحدة من بين عدد من المجموعات المسلحة الصغيرة التي ظهرت حديثًا في فلسطين خاصة في قطاع غزة وبدرجة أقل في الضفة، تشترك جميعها في تبني أفكار "السلفية الجهادية"، ويتشابه عملها وتحركها إلى درجة جعلت التقارير تتخبط في نسبة الأعمال المسلحة التي نفذت مؤخرًا إلى أي منها: جيش الإسلام، جيش الأمة، أنصار السنة، مجموعة "جلجت"، كتائب التوحيد والجهاد، جند أنصار الله، وثمة اتفاق على أن هذه المجموعات ظهرت جميعًا كردة فعل رافضة للنهج السياسي الذي خطته حماس لنفسها خاصة بعد سيطرتها على قطاع غزة، حيث حديثها المتكرر عن الديمقراطية، وعدم تطبيقها الأحكام الإسلامية، وقبولها بهدنة مع الاحتلال، وسعيها للتواصل والحوار مع الغرب، واستقبالها قادة غربيين على رأسهم توني بلير وجيمي كارتر، إلى جانب عدائها لأي مجموعة إسلامية جهادية تظهر في القطاع، ففي إعلانه (ولادة الإمارة الإسلامية) خاطب عبد اللطيف موسى، أمين عام "جند أنصار الله" قادة حماس الذين يسعون للحوار مع الغرب، قائلا: "يا حكومة حماس ممن تخشون.. من أمريكا.. من بريطانيا.. من فرنسا.. من الاتحاد الأوروبي .. فالله أحق أن تخشوه".
 
على خطى القاعدة

نشأت "جند أنصار الله" في جنوب قطاع غزة (رفح وخان يونس) معتمدة بشكل أساسي على أشخاص نشطوا في السابق بالحركة السلفية وفصائل وطنية وإسلامية أخرى، لكن سرعان ما انضم العشرات من الشبان إليها، فوسعت نشاطاتها إلى باقي أرجاء القطاع، يقول قادة التنظيم إنه "فصيل فلسطيني بحت، ذو توجهات إسلامية ووطنية، لا ينتمي لأي جهة خارجية، وإن كان يلتقي (فكريا) مع تنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن"، ومع ذلك فلم تتبن القاعدة عملهم، وتردد أنهم كانوا ينتظرون تنفيذ عمل جهادي كبير حتى يعلنوا انضواءهم تحت لواء تنظيم القاعدة، وربما يكون إعلان الإمارة الإسلامية على غرار "دولة العراق الإسلامية" هو ذلك العمل الذي كان يرجى من خلاله إعلان الانضواء.
 
في مقابلة صحفية جرت معه نفى (أبو أسامة) أحد الذين شاركوا في تأسيس التنظيم والتنظير له، أن يكون تنظيمه يتلقى "أي دعم مالي أو عسكري"، مشيرًا إلى أنه "لا يوجد أي مصدر تمويل خارجي للتنظيم"، فهو يقوم على تبرعات أعضائه، الذين يؤمنون بفكرة الجهاد بالنفس والمال، دون انتظار أي مكاسب أو امتيازات دنيوية، وعن أهداف التنظيم بخلاف مقارعة الاحتلال شدد أبو أسامة على أن تنظيمه لا يريد الخوض في أي سجالات داخلية رغم تأكيده على أن كثيرا من الأمور تحتاج إلى تغيير، غير أنه يفضل أن ينصب عمل تنظيمه على "مقاتلة اليهود وطردهم من أرضنا".
 
تقول بعض المصادر إن الجماعة ظلت تعمل وفق خلايا عنكبوتية منفصلة، لضمان أكبر قدر من السرية في العمل إلى أن أعلنت عن وجودها بالساحة الفلسطينية وتحديدا في غزة منذ بضعة أشهر بعد مقتل ثلاثة من أعضائها في هجوم شمال القطاع استهدف قاعدة للجيش الإسرائيلي، وكان عشرة مقاتلين من الجماعة قد امتطوا ظهور الخيول حاملين أسلحة وقذائف هاون، محاولة منهم لقتل وأسر إسرائيليين، لكن (غزوة البلاغ) كما أطلقوا عليها أُحبطت بسبب انكشاف المنطقة التي تم فيها الاقتحام، وعدم التخطيط الجيد، وانتهت باستشهاد خمسة من المقاتلين، ومع إن الاحتلال لم يعترف بخسائر فإن التنظيم أكد أن عددا من الجنود قتلوا وأصيب آخرون بعد تفجير جيب عسكري من نوع "همر"، وأشار إلى أن العملية ليست سوى بداية لسلسلة من العمليات ستستهدف الجيش الإسرائيلي في غزة وخارجها.
 
وفي أعقاب "غزوة البلاغ" سلطت صحيفة "معاريف" العبرية، الضوء على الظروف والعوامل التي ساعدت على تشكيل "جند أنصار الله" في غزة، زاعمة أن التنظيم قام في الأيام الأولى له بشراء قواعد تدريب من قادة في الذراع العسكري لـ"حماس"، لافتةً إلى أنه "اجتذب إلى صفوفه عشرات الشبان الغزاويين خصوصا أولئك الذين يعتبرون (حماس) تنظيمًا برجماتيًّا تنازل عن الجهاد من أجل مناعم الحكم". وقدّرت الصحيفة العبرية أن التنظيم يمتلك أكثر من 500 جندي، وأنه "خلافا للتنظيمات الأخرى فقد جنّد (جند أنصار الله) في صفوفه أشخاصا غير فلسطينيين منهم يمنيون ومصريون وباكستانيون وأفغان".
 
النقمة على حماس

يمثل جند أنصار الله أول فصيل فلسطيني مسلح يستند إلى مرجعية سلفية كاملة، تلقى أميره تعليمه في مصر وترددت تقارير غير مؤكدة أنه كان يواظب في مرحلة من حياته على حضور محاضرات شيوخ المدرسة السلفية في الإسكندرية، ومن بينهم الشيخ سعيد عبد العظيم، والشيخ محمد بن إسماعيل المقدم، والشيخ أحمد فريد، والشيخ أحمد إبراهيم، وقد كان عبد اللطيف موسى في بداية انطلاقته نائبا لرئيس "جمعية الكتاب والسنة" السلفية إلا أنه تبنى فكر الجهاديين واستولى على مسجد ابن تيمية الذي بني وأسس على منهج سلفي يدعو سلما الناس إلى الرجوع والاحتكام إلى الكتاب والسنة.
 
ويرفع تنظيم أنصار جند الله شعار "جمع شمل مجاهدي الأمة"، وكان قد وجه نداء للمجاهدين في أكناف بيت المقدس من "حماس" و"الجهاد" وباقي الجماعات والمجموعات التي تجاهد لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، يقول لهم فيه: "إن نحورنا دون نحوركم وصدورنا دون صدوركم". كما وجه رسالة أخرى إلى المجاهدين في أفغانستان والشيشان والعراق وكشمير والصومال والفلبين وفي كل مكان يجاهدون فيه في سبيل الله، قائلاً: "جزاكم الله خيرا عن الإسلام والمسلمين وسدد خطاكم وسدد رميكم وثبت أقدامكم، فوالله لن تُؤتوا من قبلنا (...) فإن الذي يفرحكم يفرحنا والذي يحزنكم يحزننا".
 
رغم ذلك، مثل وجود التنظيم تحديًا حقيقيًا أمام حماس في غزة خاصة مع تمدده واكتسابه عددا متزايدًا من الأنصار، لذا سعت الحركة إلى إنهاء وجوده أو تجريد مقاتليه من أسلحتهم، وكان التنظيم قد أعلن أنه يعتبر حماس التي تحكم غزة منذ عام 2007 حزبا علمانيا يسعى للاشتراك في البرلمانات والمجالس التشريعية، أكثر من كونه "حركة إسلامية" تسعى إلى تحكيم الشريعة؛ فيما وصفت حماس الجماعة بالتشدد أحيانا والتكفير أحيانا وبالعمالة أحيانا أخرى.
 
وقد جرى أول احتكاك بينهما في أعقاب انفجار استهدف حفل زفاف في خان يونس، أعلنت إثره "أنصار جند الله" أن مسلحي "حماس" حاصروا عددًا من أعضائها بتهمة الضلوع بالتفجير الذي نفت علاقتها به قائلة إن عناصرها اتهموا "ظلما وزورا". وقد سبق للجماعة أن اختلفت مع حركة حماس حول مصير مسجد "ابن تيمية" الذي يعد معقل الجماعة وأهم حصون السلفيين جنوب القطاع، حيث كانت الحركة تسعى إلى السيطرة عليه في حين قامت الجماعة بتوسعته، وطلبت "حماس" من أمير "جند أنصار الله" عبد اللطيف موسى المعروف بـ(أبي النور المقدسي) تسليمه باعتباره تابعًا للأوقاف، لكن الرجل رفض، مهددا الحركة بالمقاومة في حال اقتحامها المسجد.
 
معركة الإمارة الإسلامية
 
اندلعت الاشتباكات المسلحة بين حماس وأنصار جند الله واستخدمت فيها الأسلحة الرشاشة من العيار الثقيل، والقذائف المضادة للدروع، في أعقاب إعلان عبد اللطيف موسى باسم القيادة العسكرية لمسجد ابن تيمية قيام الإمارة الإسلامية في أكناف بيت المقدس، خلال خطبة الجمعة، حيث صرح وهو يحيط به عدد من المقاتلين: "سنقيم هذه الإمارة على جثثنا، وسنقيم بها الحدود والجنايات وأحكام الشريعة الإسلامية"، ثم توجه إلى حكومة حماس بالقول: "إما أن يطبقوا شرع الله ويقيموا الحدود والأحكام الإسلامية أو يتحولوا إلى حزب علماني".
 
وإلى جانب إعلان الإمارة ركزت خطبة عبد اللطيف موسى على "تطهير المجتمع من المنكرات"، وقد دعا إلى حمل السلاح وتجنيد الشباب في معركة "نصرة الإسلام وتمكين الشريعة الإسلامية من الحاكمية في قطاع غزة"، وهو ما ردت عليه وزارة الداخلية التابعة لحكومة حماس بالقول: إن أي مخالف للقانون يحمل السلاح لنشر الفلتان ستتم ملاحقته واعتقاله". مشددة على أنه غير مسموح لأي جهة أو أفراد بأخذ القانون باليد.
 
تتخذ الجماعة شعارًا لها راية سوداء مكتوب عليها "لا إله إلا الله" ومرسوم على الشعار سيفان وبندقية، وخلفهما خارطة للعالم باللون الأخضر.. وللجماعة موقع رسمي على شبكة الإنترنت تنشر من خلاله بياناتها ورسائلها، يحتوي على صور ومقاطع فيديو للتدريبات العسكرية إلى جانب خطب وكتب إسلامية توضح فكر الجماعة ومنطلقاتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
/ علي عبدالعال
صحفي مصري
Ali Abdelaal
Egyptian journalist

5
الملا كريكار يهاجم الإسلاميين الأكراد لعدم مطالبتهم بتحكيم الشريعة

علي عبدالعال

هاجم الشيخ فاتح كريكار، مؤسس جماعة "أنصار الإسلام" الكردية، الحزبين الإسلاميين الذين شاركا في الانتخابات الأخيرة بكردستان العراق، متهما إياهما بالخذلان لعدم مطالبتهما صراحة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الإقليم. واستنكر كريكار المقيم في منفاه بالنرويج أن يطالب الشيوعي الكردي "بتطبيق الشيوعية في زمن لم تبق من الشيوعية في بلادها إلا الاسم والتاريخ!"، في حين "يخجل الإخواني من طرح حاكمية شرع المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في بلاد صلاح الدين الأيوبي"، معتبراً أن الحل لكل قضايا المجتمع الكردي في "المطالبة الصريحة بتحكيم الشرع، وحماية حقوق الأكراد".

وفي تصريحات خاصة لموقع "الإسلاميون.نت" حمل نجم الدين فاتح كريكار بشدة على "الاتحاد الإسلامي الكردستاني" الذي يمثل جناح الإخوان المسلمين الأكراد، و"الجماعة الإسلامية" التي يتزعمها الملا علي بابير لأنهما شاركا في قائمة انتخابية واحدة مع أحزاب يسارية وعلمانية، في حين رفضا الدخول في تحالف انتخابي إسلامي خالص مع حزب "الحركة الإسلامية في كردستان"، وفي إشارة إلى موقفه الرافض لتأييد الحزبين، قال كريكار: "إن ما حملني على عدم تأييد الحزبين الإسلاميين: هو مشاركتهم بلا مشروع إسلامي شامل، في جانب، ولاتفاقهم مع حزبين علمانيين، في جانب آخر، وتركهم الحركة الإسلامية وحدها"، مضيفاً :"كان المفروض أن يوحدوا صفوفهم في قائمة إسلامية واحدة".

وقال الملا كريكار: "أن هناك جموعاً من أهل الإسلام لم يصوتوا لصالح الحزبين الإسلاميين"، مضيفاً: "بل أقول بيقين أن هناك في صفوف الحزبين الإسلاميين من صوت لصالح قائمة نوشيروان مصطفى"، وهو زعيم قائمة "التغيير" ذات التوجهات العلمانية، الذي ثمن كريكار جهوده لإنجاح حملته الانتخابية وتحقيقها نتائج جيدة أمام الحزبين الحاكمين: "الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود برزاني و"الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة جلال الطالباني، معتبراً "أن تقوية نوشيروان مصطفي بوجه الحزبين الطاغوتين" على حد قوله "سيكون لصالح الوضع الكردي عامة والانفتاح ثانية في المرحلة المقبلة".

وحول تهنئته زعيم قائمة "التغيير" وامتناعه عن فعل ذلك مع الأحزاب الإسلامية قال كريكار: "هنأت نوشيروان مصطفى في جرأته على مشروع التغيير وتوظيف طاقات مبعثرة لمشروعه في نزاله الانتخابي"، مضيفاً "ما فعله نوشيروان مصطفي كان المفروض فينا (الإسلاميون) فعله"، "ولكن غياب الجرأة عند الإسلاميين كان عاملاً مؤثراً في ابتعاد المحرومين من الإسلاميين" في إشارة إلى الذين لم يصوتوا لصالح الأحزاب الإسلامية.

وندد كريكار بهيمنة الحزبين العلمانيين الحاكمين على كافة مناحي الحياة في كردستان العراق، قائلاً: "كنا نقول ومنذ اليوم الأول: إن بلادنا تحت وطأة ميليشا حزبية، لا يحكمها قانون، ولا توجد محكمة دستورية تشتكي إليها"، حتى أن "تعليمات الانتخابات وتسير شؤونها ينظمها الحزبان الطاغوتيان الحاكمان". مرجعاً سبب ذلك إلى "أن أهل الإسلام فقدوا قوتهم العسكرية، وأدخلوا عنوة في قوالب المشروع الكفري الكردي المغالي في مراهقته العلمانية"، حسب وصفه، ومن ثم "فلن يحصلوا على أي مبتغى من الانتخابات".


6
عكستها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة
تحالفات الإسلاميين السياسية في كردستان

علي عبدالعال

جاء الإسلاميون في المرتبة الثالثة من بين القوى السياسية الفاعلة في كردستان العراق، وهو ما عكسته معطيات العملية الانتخابية الأخيرة (25/7/2009)، بالرغم من أن مكونات إسلامية كردية ظلت على موقفها الرافض للمشاركة السياسية. وقد برزت قوة الإسلاميين هذه المرة من خلال قدرتهم على التنظيم والحشد الجماهيري والاستفادة من التحالف مع أحزاب وقوى سياسية غير إسلامية. 

شارك الإسلاميون الأكراد من خلال ثلاث كيانات رئيسية هي: "الاتحاد الإسلامي الكردستاني" وهو الحزب الثالث في البلاد ويمثل جناح الإخوان المسلمين في كردستان، و"الجماعة الإسلامية في كردستان" التي تميل إلى التوجه السلفي ويقودها الشيخ علي بابير، و"الحركة الإسلامية في كردستان" التي فضلت خوض السباق الانتخابي دون تحالف.

شهد السباق الانتخابي تحالفاً من قبل "الاتحاد الإسلامي" و"الجماعة الإسلامية" مع قوى يسارية وعلمانية هي "حزب المستقبل" و"الحزب الاشتراكي الكردستاني"، ضمن قائمة "الخدمات والإصلاح"، وهو التحالف الذي اعتبره الشيخ علي بابير جائز شرعاً "بشروطه" لأنه يحقق المصلحة مستدلاً بـ "تحالف النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع قبيلة (خزاعة) في صلح الحديبية"،
ونفى بابير وهو مؤلف كتاب (التيار الإسلامي والعلماني: نقاط الاتفاق والافتراق) أن يؤدي التحالف إلى تخلي جماعته عن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية.

وهذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها الإسلاميون من تشكيل تحالف انتخابي وسياسي فاعل في إقليم كردستان يمثلون أهم مكوناته، ففي العام 2006 دخلت "الجماعة الإسلامية" ضمن التحالف الكردستاني بعد ما لم تتمكن من تكوين قائمة إِسلامية مع "الاتحاد الإسلامي"، وقد لاقى الإسلاميون نتيجة ذلك تحديات جمة داخل البرلمان في ظل عدم قدرتهم على إحراز أي تأثير يشير إلى وجودهم ضمن مكونات السلطة التشريعية في الإقليم، وخاصة أثناء مناقشة الدستور الذي وصف بأنه لا يراعي المبادئ الإسلامية، ما عرض صفوف التيار الإسلامي للانشقاقات آنذاك.

وبالنظر إلى نتائجها بعيدة المدى، وخروجها عن مألوف المشهد السياسي الكردي، وما عكسته من رغبة شعبية جارفة في التغيير، اعتبر مراقبون الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدها الإقليم نقطة تحول هامة في المعترك السياسي الكردي، سيكون لها ما بعدها من حراك سياسي، فرغم أن نتائجها لم تتمكن من الإطاحة بهيمنة الائتلاف الحاكم إلا أنها مهدت الطريق أمام نظام سياسي جديد وفاعل ببروز معارضة سياسية قوية تستند إلى الشعب.

فقد كشفت النتائج غير الرسمية عن حصول "القائمة الكردستانية" التي تضم حزبي "الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود برزاني، و"الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة جلال الطالباني  على 60% من الأصوات مقابل حصول المعارضة وعلى رأسها قائمتي "التغيير" و"الإصلاح والخدمات" على 40% ، وهي نتيجة فارقة مقارنة بالانتخابات السابقة التي هيمن فيها الإئتلاف الحاكم على أكثر من 80 % من الأصوات. وجاءت هذه النتيجة بالرغم من حدوث خروقات انتخابية وعمليات تزوير واسعة النطاق بشهادة المراقبين، كما جاءت أيضاً بالرغم من أن القوائم المعارضة خاضت الانتخابات من خارج السلطة وبعيداً عن أي امتيازات.

معارضة قوية والإسلاميون أحد أركانها

وعلى خلفية هذه النتائج، يتوقع على نطاق واسع تشكيل جبهة معارضة قوية في البرلمان المقبل تضم قائمة "الخدمات والإصلاح" إلى جانب قائمة "التغيير" التي جاءت ثانية في السباق الانتخابي، شريطة ألا تشارك أي منهما في الحكومة. فقد خاضت "التغيير" ـ التي يرأسها نشروان مصطفى، الزعيم السابق في حزب جلال الطالباني ـ حملتها الانتخابية تحت شعار محاربة الفساد، وعول عليها الناقمون في زعزعة الهيمنة التقليدية للحزبين الحاكمين، وبالرغم من عدم وجود إسلامي بين صفوفها إلا أن قادتها لا يمانعون في التحالف مع الإسلاميين.

ففي اتصال هاتفي مع موقع "الإسلاميون.نت" تحدث عبداللطيف ياسين، رئيس تحرير صحيفة "الأفق" الناطقة باسم الاتحاد الإسلامي، عن "مؤشرات" ترجح التحالف بين قائمة "التغيير" و"الإصلاح" التي يهيمن عليها الإسلاميون منها: الحديث عن اتصالات تجري بين الجانبين بهذا الشأن. وأشار الصحفي الكردي إلى أن التواصل بين القائمتين من خلال اجتماعات بين قادتهما كان حاصلاً قبل أن تبدأ العملية الانتخابية وخلالها، من أجل التنسيق فيما بينهما وضمان نزاهة سير العملية، ونفى ياسين الشائعات التي روجت في كردستان بأن زعيم "التغيير" كان يتزعم فصيلاً يسارياً مسلحاً يعادي الإسلاميين، مشيراً إلى أحد شعار حملة (نشروان مصطفى) الانتخابية، قوله تعالى ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾[ الرعد:11] ، كما أن الرجل لا يعرف عنه أي موقف يذكر ضد الإسلاميين".  وفي تصريح صحفي قال القيادي في الجماعة الإسلامية (زانا روستايي): "نتفق (مع قائمة التغيير) على أن كردستان في حاجة إلى تغيير"، وإذا ما جرى التحالف بين القائمتين ـ برأي مراقبين ـ فإن ذلك سيعزز من قوة المعارضة ويقودها إلى تشكيل جبهة قوية داخل البرلمان سيكون لها حتماً نصيب مؤثر في السلطة التشريعية.

ومن بين أهم معطيات العملية الانتخابية، تراجع شعبية الحزبين الحاكمين وخاصة "الاتحاد الوطني" بزعامة جلال الطالباني، الذي ضرب في معقله بمحافظة السليمانية، ما دفع بالحديث
عن إمكانية أن توتر هذه النتائج العلاقة بين الحزبين الكبيرين ("الاتحاد والوطني"، و"الديمقراطي الكردستاني") خاصة وأن الاتفاق بينهما ينص على تقاسم المقاعد التي يفوزون بها بنسبة 50 % لكل منهما، بالإضافة إلى المقاعد الوزارية أيضاً، حيث أفادت تقارير صحفية: بأن نتائج السليمانية أرعبت الطالباني، الذي سارع إلى دعوة قيادة الحزب لاجتماع في منزله.

وإذا تأكد أن "القائمة الكردستانية" لن تتمكن بمفردها من تشكيل الحكومة المقبلة إلا بإشراك إحدى القوائم المنافسة، أو إن شكلتها فبأغلبية بسيطة ستجعلها سلطة ضعيفة، فضلاً عن وجود معارضة برلمانية قوية، يتبين إلى أي حد باتت الساحة السياسية الكردية قريبة من التغيير تقوده وجوه جديدة. وفي تعليق له على الحراك الذي بات يشهده كردستان، يقول عمر عبدالعزيز رئيس مجلس شورى الاتحاد الإسلامي: "أن ميزان القوى السياسية سوف يتأرجح، والمعادلات الثابتة الجامدة سوف تتغيّر، وسيكون البرلمان القادم حيوياّ وفعاّلا، وستكون الحكومة مختلفة عن سابقاتها ".

ولم تكد تنتهي عمليات التصويت حتى شهدت الساحة الكردية عدد من التطورات، دلل مراقبون من خلالها على متغيرات هامة وإلى أي حد أربكت معطيات العملية الانتخابية القيادات الكردية التقليدية، فقد سارع الإئتلاف الحاكم إلى إعلان فوزه قبل أن تخرج النتائج الرسمية، وهو ما ردت عليه قائمتا "التغيير" و"الإصلاح" بدعوة الشعب الكردي إلى رفض النتائج، لأن الحزبان ما برحا "ينتهكان إرادة الشعب" بإعلانهما نتائج غير حقيقة، وطالبا بالتحقيق في شكاوى تزوير الانتخابات واتخاذ الإجراءات اللازمة، ولذلك أرجأت المفوضية العليا للانتخابات إعلان النتائج بسبب الطعون الكثيرة المقدمة من قبل القوائم السياسية، وأعلن رئيس المفوضية أن كثيرا من هذه الطعون والشكاوى "سيؤثر على طبيعة النتائج بشكل جوهري".

وكان إعلان الفوز من قبل الائتلاف الحاكم صاحبه عمليات ابتهاج وفرح نظمها مناصروه هاجموا خلالها مقرات الأحزاب والقوى المعارضة وأطلقوا النار على بعضها، وهو ما نددت به المعارضة إلى جانب منظمات دولية وحقوقية ألقت باللائمة على الحزبين الحاكمين، خاصة وأن المهاجمين رفعوا صور مسعود بارزاني ولوحوا بأعلام الحزب الديمقراطي الكردستاني. ونتيجة لذلك قام رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني ـ نجل شقيق مسعود بارزاني ـ بزيارة مقر "الجماعة الإسلامية" ولقاء الشيخ علي بابير للاعتذار وتبرئة ساحة الحكومة من الهجمات التي تعرضت لها مقرات الجماعة.. كما قدم اعتذار مماثل لصلاح الدين بهاء الدين، أمين عام الاتحاد الإسلامي الكردستاني، على ما بدر من ممارسات بحق الاتحاد في مدينة أربيل.

7

سركون بولص في العالم الآخر
أرقد بسلام أيها الشاعر الجميل

علي عبد العال

رحل عن عالمنا المزيف، الغريب والعجيب، الشاعر العراقي المبدع سركون بولص وانتقل صباح الثلثاء 23/10/2007 إلى العالم المجهول الذي يتمنى الناس، على الأخص المتدينين منهم، إنه العالم الأكثر نظافة من عالمنا الوسخ المليء بالشرور. الرحمة والسلام على روح الشاعر، الإنسان، المبدع، الذي ظل مخلصا لمعتقداته الأساسية مهما كانت بسيطة وواضحة أو معقدة حتى يومه الأخير.
كما يفرض علينا هذا المقام الحزين التوجه إلى ذوي الشاعر ومحبيه بالتعازي الحارة كما يليق به من حزن وفقدان للجميع.
يذكرني الشاعر الجميل سركون بولص بسيرة حياة عدد من الشعراء العراقيين كلهم ماتوا الميتة ذاتها؛ المرض، الحزن،البؤس، الفاقة، الغربة، الإهمال الرسمي، ويضاف إلى  العناصر الحيوية المخيفة مسحة التشرد الذاتي. رحلوا بما يشبه المفاجأة، قبل أوان رحيلهم ربما. رحلوا وهم يكتنزون جذوة الشعر الوقادة في قلوبهم الواهية من المرض، وموهبة الخلق والإبداع تخفق في أرواحهم الهائمة. بدر شاكر السياب، حسين مردان، عبد الأمير الحصيري، كزار حنتوش، جان دمو، كمال سبتي. هذا ما يتعلق بالشعراء العراقيين، أما ما يتعلق بشعراء العالم فتلك تكاد أن تكون ملحمة مترابطة في الحياة اليومية المتشابهة والمصير الواحد المتشابه في الكثير من التفاصيل. حتى أن بعض الشعراء من ذوي السن الكبيرة باتوا يحسدون ميتة هؤلاء الشعراء الحقيقيين بالرغم من الشهرة المزيفة الواسعة التي يتمتعون بها في شيخوختهم التي تقارب المراهقة في قياس عمر أصحاب الكهف.
ما دمنا في غمرة هذه الأحزان التي يخلفها غياب عزيز حتى تبارى المتبارون وتجمهر المتجمهرون ورفعت الشعارات وكتبت اللافتات وسنت رؤوس الأقلام الخبيثة. كما عندما مات النبي محمد العربي وقامت الشراذم تتبارى على الخلافة وهو لم يدفن بعد ولم يوارى الثرى. هكذا يقوم بعض الشعراء اليوم بتجيير شعر وإبداع سركون بولص لصالح المقاومة العراقية والوقوف بوجه الاحتلال الأمريكي للعراق. حتى لو كان لهذا الكلام من ملح فيجب التريث قليلا حتى يدفن الجثمان. على الأقل لنقرأ الفاتحة أو نرسم علامة الصليب على الصدر في المقال الأول الذي نرثي فيه رحيل الشاعر. فتولى احد الشعراء العراقيين المخضرمين مديحه لشاعرية سركون كونه شاعر ضد الاحتلال. حتى كاد أن يخلص إلى نتيجة أن سركون بولص لم يكن شاعرا إلا عندما وقف ضد الاحتلال الأمريكي للعراق.! ما عدا ذلك لم يكن سركون بولص شاعرا ومبدعا حقيقيا حسب مقاييس هذا الشاعر المقاوم المخضرم الذي يعيش في بلد استعماري عريق لازال يحتل هو الآخر بلده وبلدته على وجه التحديد. ولصق بالشاعر المبدع الذي لم نكد نتقبل صدمة الشعور برحيله حين طلت علينا هذه التهاليل السخيفة من الفرح المبطن بضمه إلى شعراء المقاومة العراقية، نقول هذا مع الاحترام الكامل للمقاومة العراقية الشريفة ضد الاحتلال.
سركون بولص شاعر عراقي أصيل ومبدع يفوق إبداعه الشعري الواعي في السنين الأخيرة ما كتبه أدعياء الشعر "المخضرمين" الذين ولى زمنهم الشعري منذ السبعينيات من القرن المنصرم. وما هذا البازار الذي يقومه البعض من شعراء المقاومة المزيفين الذين لم يرتقوا لكتابة نشيد للمقاومة حتى كتبه الراحل سركون بولص إلا للتلطي بدماء المبدعين للتورية عن العجز السياسي والعهر الثقافي والشحاذة العاطفية  المستندة إلى الشهرة التي لا تعرف الخجل.
وضع الشاعر "المخضرم" أسم الراحل سركون  بولص في البازار السياسي عندما نسب إليه موقفا سياسيا لا يتيح المجال لدولته تكريمه في هذا الوقت بحجة الوقوف ضد هذه الحكومة. وهذا الشاعر الذي يفتخر بولائه المفرط لحضارة المحتلين كان يطمح بمنصب في العراق الجديد لم يوفره له لا قوات الاحتلال ولا أبناء جلدته الذين يشتمهم ليل نهار. ونتذكر جيدا حين توفى الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في دمشق، وكان هذا الشاعر المخضرم في جوقة المعزين كواحد من أخوة البياتي، وبعدها بأيام قليلة ظهر مقاله الذي يحسد فيه الشاعر البياتي على المكان الذي دُفن فيه، بالقرب من ضريح العلامة الإسلامي البارز بن عربي في قلب العاصمة السورية دمشق معتبرا وصية البياتي بدفنه في هذا المكان بمثابة مؤامرة تاريخية لعبها البياتي بشطارة كأذكى لعبة ختم فيها مسيرته الطويلة. إنه حتى يحسد الأموات على القبور. عسى الله أن يكافئه بقبرِ يليق به وحده وليس يليق بالعراقيين.
تجرد الشاعر الراحل سركون بولص من جميع المظاهر البشرية المزيفة، وكان متقشفا بالزخارف اللفظية في شعره مقتصرا على المعنى مثل قصيدته بالضبط. عاش حياة بسيطة أقرب إلى التشرد والبوهيمية منها إلى البذخ والتهندم وباقي المظاهر الكاذبة التي تمنح الكائن شكلا جميلا من غير معنى حقيقي.
آخر مرة رأيته فيها كانت في مدينة كولونيا الألمانية بصحبة الشاعر خالد المعالي أواخر القرن الماضي. كان أشبه بكائن أرسطي متخما بالتأمل والدعابة الرصينة. وكان مريضا أيضا ويتمتع بإصرار غريب على إهمال المرض. فكان يدخن التبغ الذي يلفه بمهارة بأصابعه لفافة تلو الأخرى  بشراهة ودون انقطاع. أكلنا وشربنا في مطعمِ يملكه لبنانيون وأتراك. كان سركون بولص متقد الذهن ومتابعا للحركة الشعرية العراقيين بمختلف أسمائها الجديدة والقديمة. وكان قليل الكلام بشكل عام.
أرقد بسلام أيها الشاعر الحقيقي الجميل وأمنح روحك الهائمة بعض الراحة والسلام.     

8
محاكمة صدام حسين "التاريخية" ساذجة
هل ننتظر إلى أخرى شبيهة في 29 أكتوبر؟
علي عبد العال

أفسدتْ أول محاكمة عراقية مختصة تتهم الرئيس السابق صدام حسين طابع "الحدث التاريخي". وتلخصت "محكمة العصر" إلى مجرد اعتبار صدام حسين "مجرم جنائي". أي مجرم "عادي" يقتل الناس بغض النظر عن وضعه السياسي ومكانته في الدولة كونه "رئيس الجمهورية والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي والقائد العام للقوات المسلحة". وتم توظيف قاض مختص بالجرائم الجنائية هو السيد رزكار محمد أمين الذي وجد نفسه في ورطة حقيقية من حيث أنه يجب أن يقضي بالعدل والحرفية القانونية لمجرمين غير عاديين. إذ انهم رموز حكم وأعضاء في مؤسسات الدولة ليقاضيهم كمجرمين عاديين، أو في أسهل الأحوال، كقتلة "رسميين" في محكمة جنائية.
  وضع المحكمة وهويتها غير مقنعة وغير صحيحة. إرادة الإدعاء العام بدت بعيدة كامل البعد عن هيكلية المحكمة الجنائية التي كان محتواها الظاهر محاكمة هذا النفر من رموز السلطة على اعتبار أنهم مجرد أشخاص ارتكبوا جرائم جنائية مخلة بالقانون. وتحولت قضية "قضاء الدجيل" إلى مجرد "قضية جنائية". أي، وببساطة متناهية، أرادت المحكمة الجنائية تصوير الحدث كونه مثل أي خصام يقع في الشارع أو في مقهى ويتمخض عن مقتل ضحية ما. هذا هزال قانوني وهزال سياسي يستحق السخرية بحق.
الذنب لا يقع على عاتق رئيس المحكمة القاضي رزكار محمد أمين الذي بدا كيسياً ومتوازنا بحكم موقعه القانوني المتواضع. لكنه يقع على عاتق الدولة الجديدة التي تبدو حالها أكثر هزالا من هذه المحكمة، محكمة أبشع دكتاتور في العصر الحديث.

"العراق الجديد" يُعد بحق دولة جديدة بكل معنى الكلمة. بالأحرى دولة تحبو على الأربع بالمفهوم الدولي الجديد. لكن كان من الممكن بلوغ مرحلة الفطام بعد هذا الجهد والتضحيات التي استغرقت العامين وأودت بالكثير من الضحايا بشكل عشوائي ووفرت الكثير من الفرص للتطور لا للنكوص والتراجع.
هذا تهميش صارخ لما كان ينتظره الشارع العراقي بأوجاعه الحقيقية وأوراقه ضحاياه الثبوتية وأدلته القانونية. ومن ثم فسحت هذه المحكمة للمتهمين إلى تحويلها لمحكمة سياسية، بدل أن تكون محكمة جنائية كما كانت يجب أن تكون. ليس من المعقول لا قانونيا ولا جماهيريا أن يُحاكم صدام حسين كونه مجرد "مجرم جنائي" حتى واقعة الدجيل هي قضية سياسية بحت. نعرف جيدا أن صدام حسين وأعوانه يمكن أن يساقون للإعدام وفق لائحة الاتهام الخاصة بقضاء الدجيل، لكن الخلل بدا واضحا وكبيرا بين لائحة الإدعاء المطولة الركيكة و التي لخصت عدم رزانة المحكمة وعدم معرفة القضايا الرئيسية التي ستنعقد المحكمة تحت عناوينها، مما أربك القاضي البسيط والواضح الذي راح يلبي شروط المتهمين بسليقة "أخلاقية" وليست قانونية. حتى أنه تجاهل عدم نهوض المتهم الأول صدام حسين أمام انعقاد الجلسة وحضور القاضي كما هو مفروض في جميع محاكم العالم الجنائية.
  القاضي رائد جوحي هو المسؤول عن هذا الخطأ القانوني والقضائي الفادح. وهو يتحمل المسؤولية الكاملة عن سير هذه المحاكمة التي لا نود أن تجللنا بالخيبة مرة أخرى في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، تشرين أول /أكتوبر 2005. بدا القاضي رائد جوحي، على الرغم من شكله اللطيف والواثق، وحزمه المشكوك بأمره حتى الآن، لا يمتلك الإرادة الحقيقية، ولا الشعبية العراقية الحقيقة ولا السيادة اللازمة التي يتطلبها القضاء العادل. لذا جاءت المحكمة أشبه بالنكتة وأقل من المنتظر حتى بحساب أشد المعايير من التسهيل.
صدام حسين ليس "مطيرجي" قتل بعض أبناء الحارة بسبب الطيور. وليس هو "خليل أبو الهوب" لتقام من أجله محكمة جنائية تدينه بالقتل العمد. إنه رئيس الجمهورية العراقية والقائد العام للقوات المسلحة والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي أطاح بالعراق ومرغه وشعبه في الحضيض، وأباد بقرار رئاسي اقضيه وبشرا ودولة إلى الهلاك. أما أن نحاكمه على هذا القدر وأما أن لا نحاكمه من الأساس.

تجربة فريدة

إنها تجربة فريدة بحق. فلم يتسن للقضاء لا في الشرق المتخلف ولا في الغرب المتحضر، محاكمة دكتاتور بهذا الوزن الثقيل أمام العدالة، بل وأمام وسائل الإعلام بهذا النقل الحي والمباشر عبر الفضاء. فغالبا ما يقتص الحدث الجوهري منهم بالقصاص العادل، الموت قتلاً وسحقا بالأحذية وتمزيقا أرباً أربا. لكن هذا هو التاريخ يعيد الفرصة للعراقيين بسن القوانين الجديدة مرة أخرى. لذلك يبدو "الاختراع" العراقي على هذا الصعيد ضعيفا على نحو واضح. وهو وقع في ورطة محيرة تسمح له الوقوع فيها عندما أختار محاكمة دكتاتور العصر كونه "مجرم جنائي". وهي رغبة قضائية تحاول تجاهل الصفة السياسية لطبيعة المتهم.

 المنتظر والمأمول من القضاء العراقي، وعلى الرغم من هذه التجربة الفريدة في نوعها، إعطاء الفرصة الكافية لتشكيل محكمة مهنية مختصة بجرائم الحرب، وبالجرائم المرتكبة بحق الإنسانية والحقوق البشرية. وقد أتيحت مثل هذه الفرصة على مدى ما ينيف على العامين للقضاء العراقي لكي ينجز مثل هذه الأعمال الخالدة التي ستدخله التاريخ من جديد كشعب حضاري سنَّ أول القوانين في العالم. لكن يبدو أن قدرنا هو التسطيح والمهزلة التي نخجل شديد الخجل من كثر سذاجتها وانفتاحها على المجهول.  [/b] [/size][/font]

صفحات: [1]