عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - حامد الحمداني

صفحات: [1] 2
1
هكذا تم تشريع الدستور العراقي على مقاس التحالف الشيعي الكردي
حامد الحمداني                                     8/11/2019 
                                        
لم يكن الشعب العراقي مهيئاً للإنتخابات، بعد سقوط نظام الطاغية صدام وهو الذي حُرم من الديمقراطية طيلة عقود عديدة، حيث سيادة الحزب الفاشي الواحد، والقائد الدكتاتور الواحد، والعنف الذي لا مثيل له الذي استخدمه في قمع حقوق وحريات الشعب، وفرض الطاعة العمياء لسلطته الغاشمة عليه.

كان ينبغي التريث في إجراء الانتخابات، وتشريع الدستور الدائم لفترة انتقالية تمتد إلى ثلاث سنوات على الأقل ريثما يتم إعادة الأوضاع الطبيعية في البلاد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية التي جرى تهديمها من قبل المحتلين الأمريكيين، لكي تتهيأ الأجواء لمرحلة الانتخابات، وتشريع الدستور الدائم للبلاد.

لكن أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والأحزاب القومية الكردية أصرت على الاستعجال بإجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي، بعد عقد التحالف بين الطرفين، وتشريع الدستور الجديد، على الرغم من مقاطعة الطائفة السنية التي تشكل الأغلبية الساحقة في محافظات نينوى، والأنبار، وصلاح الدين، وديالى، وجانب كبير من محافظة كركوك.

وهكذا جاءت الانتخابات على أساس طائفي من جهة، وقومي من جهة أخرى، واستغلت الأحزاب الطائفية الشيعية معانات الطائفة على أيدي عصابات صدام حسين وأجهزته القمعية، من جهة، وتأثيراتها الطائفية والدينية من جهة أخرى، لكي تضمن أصوات الطائفة الشيعية، فيما صوت أبناء القومية الكردية لقوميتهم بعد كل الذي أصابهم من نظام طاغية العصر صدام وحزبه الفاشي، ولم يكن لبرامج الأحزاب السياسية وخططها المستقبلية أي دور في نتائج الانتخابات التي جاءت بمجلس يكرس الطائفية، والعرقية، ويخلق استقطابا خطيراً يهدد بصراع طائفي والعرقي.

ومما زاد في الطين بله أن جرى على عجل تشريع دستور دائم على أيدي نفس القوى الطائفية والقومية، فجاء الدستور طائفي المحتوى رجعي التوجه من خلال فرض العديد من المواد والبنود المتعلقة بالشريعة.

وتبعاً لنتائج تلك الانتخابات تشكلت حكومة طائفية وعرقية لا يمكن أن تلبي طموحات الشعب العراقي في الديمقراطية الحقيقية، وتأمين حقوق الإنسان وحرياته الشخصية والعامة، بل لقد تمادت الأحزاب الطائفية وميلشياتها في الإعتداء على الحريات الشخصية والدينية للمواطنين من خلال عمليات القتل والتهجير للأخوة المسيحيين والصابئة، ومن خلال فرض نمط الحياة المتخلف على المرأة العراقية بفرض الحجاب عليها، وقد تعرضت المرأة التي خالفت هذا الفرض للقتل والخطف والإرهاب، وتحولت مدارس العراق إلى حسينيات وجوامع لتعميق التخلف في المجتمع العراقي، واتخذ الإرهابيون من الجوامع والحسينيات قواعد ومراكز لهم، ومخازن للأسلحة التي تستخدمها في تنفيذ جرائم ميليشياتهم بحق المواطنين، وكل ذلك جرى باسم الدين، والدين برئ من أفعال هذه العصابات المتخلفة وقياداتها التي تسلطت على شعب العراق بقوة السلاح، فلم يعد المواطن يأتمن على حياته حتى وهو في بيته، وأعادت هذه العصابات شعب العراق القهقرى عشرات السنين.

كان الشعب العراقي ينتابه القلق حول طبيعة الدستور الذي سيجري تشريعه من قبل اللجنة المشكلة لهذه المهمة، والتي هي بطبيعة الحال شكلت من عناصر أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، والأحزاب القومية الكردية، وكانت شكوك المواطنين تدور حول الأمور الهامة التالية:
1 ـ توجهات تحالف القوى المتحالفة في الانتخابات؟
2 ـ طبيعة التحالفات التي انبثقت عنها تشكيل الحكومة الجديدة، واختيار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء؟
3ـ موقف القوى المتحالفة من مسألة صياغة الدستور؟
4 ـ العلاقة المستقبلية بين الدين والدولة؟
5 ـ الموقف من المرأة التي تمثل نصف المجتمع؟
6 ـ الموقف من قضية الفيدرالية، وأية فيدرالية تريد الأحزاب الكردية.
7ـ الموقف من قوى الفاشية والظلام التي تمارس الأعمال الإرهابية في البلاد؟
8 ـ هل سيشهد العراق وحدة وطنية، أم سيدخل في صراعات طائفية جديدة؟
9 ـ هل يمكن إعادة بناء العراق الجديد دون قيام حكومة وحدة وطنية؟

أسئلة كثيرة وهامة كانت تتطلب الإجابة عليها بكل صراحة وشفافية لكي يحكم الشعب العراقي على السلطة الجديدة، ولكي يطمئن على مستقبله ومستقبل الوطن، و
كان المطلوب من السلطة الجديدة التي ستتولى تشريع الدستور الدائم للبلاد الإفصاح عن برنامجها السياسي، ومشاريعها المستقبلية فيما يخص الدستور الذي تطمح إلى تشريعه بكل شفافية، ودون أي لبس أو غموض، والحذر من محاولة فرض دستور لا يلبي حاجات المجتمع العراقي في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ذلك أن أية محاولة لفرض دستور إسلامي سوف لن يكون إلا مدخلاً لصراعات خطيرة لا مصلحة للشعب فيها، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وتقدم خدمة للقوى المعادية للشعب.

كان الشعب يتطلع إلى أن تسود الحكمة لدى القوى المتحالفة في الانتخابات لكي تحافظ على الوحدة الوطنية، والسير بالعراق نحو الديمقراطية الحقيقية، وتجنيب الشعب أية صراعات جديدة، والحرص على مشاركة كافة القوى الوطنية في السلطة، وفي صياغة الدستور بما يلبي طموحات الشعب التواق للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وكان على السلطة الجديدة الحذر من ربط الدين بالدولة، واستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية وحزبية، وليكن شعار الجميع الدين لله، والوطن للجميع.
كما أن السلطة كانت مدعوة للإفصاح عن موقفها من المرأة التي تمثل نصف المجتمع والتواقة للتمتع بكامل حقوقها وحرياتها على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات، حيث سيكون موقف السلطة من هذه المسألة هو المحك للحكم على ديمقراطية السلطة المنشودة.

وكان على السلطة أن تعالج موضوع الفيدرالية للشعب الكردي بما يضمن حقوقه القومية، وعدم تعرضه مستقبلاً لمثل تلك الحملات الفاشية التي تعرض لها خلال العقود الماضية، مع ضمان وحدة الوطن العراقي أرضاً وشعباً، في ظل الإخاء الوطني، واحترام خصوصية الشعب الكردي.

وكانت السلطة مدعوة كذلك إلى الإسراع في محاكمة أركان النظام الصدامي، والعناصر التي تلطخت أيديها بدماء أبناء الشعب البررة دون تلكأ أو تردد، فلا بد أن يأخذ كل ذي حق حقه بموجب القانون، والعمل على استئصال الفكر البعثي الفاشي، وليس البعثيين من المجتمع العراقي، وتربية أبنائنا منذ الطفولة على القيم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ونبذ الفكر الفاشي العدواني.

كان ما يثير المخاوف والقلق الشديد لدى أبناء الشعب ما كان يدور وراء الكواليس بين أعضاء لجنة كتابة الدستور المؤلفة أغلبيتها من أحزاب الإسلام السياسي الشيعية الطائفية، بالإضافة إلى ممثلي القائمة الكردية، من التوجهات التي بدأت تظهر للسطح حول مساعي الأحزاب الدينية لفرض نظام حكم قائم على أساس ديني وطائفي، ومحاولة تفتيت العراق، وتحويله إلى دول الطوائف الذي أوصل الشعب إلى حالة من اليأس القصوى، والقلق الشديد على مستقبله ومصيره، وهو يعيش حالة من التدهور الشديد في كافة مجالات الحياة، فلا أمان، ولا كهرباء، ولا وقود، ولا ماء صالح  للشرب، ولا صرف صحي، ولا خدمات صحية حقيقية، ولا سكن، وملايين العاطلين تعاني شظف العيش والبؤس، والمخدرات فُتحت أمامها أبواب العراق، وتجارة الرقيق الأبيض تزدهر يوماً بعد يوم، ولم تبقَ مختصة بالمرأة اليوم، بل بدأت تنافسها تجارة الأطفال التي أصبحت منظمة تتولاها عصابات متخصصة، وفوق كل هذا وذاك نجد شرطة الأحزاب الطائفية تطلق النار على المواطنين المحتجين على أوضاعهم السيئة، وفقدان الخدمات الأساسية كما جرى في بغداد والسماوة والديوانية والبصرة، وغدا العراق نهباً للطامعين في الثروة الوطنية، وانتشار الفساد في كافة أجهزة الدولة وفي كل المستويات، فأي مستقبل كان ينتظر للعراق وشعبه إذا استمر الحال على ما هو عليه؟

لقد كانت مخاوف الشعب وقلقه على مصيره أمراً واقعاً ومشروعاً بعد كل الذي جرى على الساحة العراقية حيث سلبت ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي بشقيها الشيعي والسني كل الحقوق والحريات العامة والشخصية للمواطنين، وتدخلها الفض في حياتهم وخصوصياتهم صغيرها وكبيرها، وكان انتهاك حقوق وحرية المرأة قد أصابها في الصميم، فقد فرض عليها الحجاب بقوة السلاح والتهديد بالقتل سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو صابئية، ودفع المئات منهن حياتهن على أيدي القتلة المجرمين من أدعياء الدين، وعاد المجتمع العراقي القهقرى عشرات السنين، وجرى تهجير مئات الألوف من المواطنين المسيحيين والصابئة من العراق هرباً من طغيان قوى الظلام والفاشية الدينية الجديدة.

 وفي ظل تلك الظروف الخطيرة، وسيادة قوى الظلام السوداء على الشارع العراقي بقوة السلاح جرى إعداد الدستور الذي حمل معه بذور الصراع والعنف، وتمزيق النسيج الاجتماعي.
 وعلى الرغم من أن قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الذي وضعه المحتلون الأمريكيون كان العمود الفقري للدستور الجديد، فقد استطاعت قوى الأحزاب السياسية الشيعية فرض ديباجة ذات مضمون طائفي صريح، والعديد من المواد والفقرات التي أعطت للدستور بعداً طائفياً، ولاسيما وأن الطائفة السنية كانت قد قاطعت الانتخابات عن جهل وقصر نظر خطير، ولم تشترك في كتابة الدستور، في الوقت الذي كان ينبغي أن يمثل الدستور العقد الاجتماعي بين سائر أطياف ومكونات المجتمع العراقي، ولذلك كان للطائفة السنية التي تمثل الأغلبية الساحقة في محافظات الموصل، وصلاح الدين، والأنبار، وديالى، وجانب كبير من مواطني محافظة كركوك،  اعتراضات كثيرة عليه، مما عمق الأزمة السياسية المستحكمة، وصعد من التدهور الأمني في البلاد بشكل خطير.

كما استطاعت الأحزاب القومية الكردية إدخال العديد من المواد والفقرات التي تتناقض مع المادة 13 من الدستور، وسأتعرض لها عند مناقشة بنود الدستور، والتناقضات التي ضمتها مواده، وما يشكله هذا التناقض من مخاطر جسيمة على مستقبل العراق.

لقد أصرت أحزاب الطائفة السنية على عدم الانخراط في العملية السياسية والمشاركة في الانتخابات القادمة إذا لم يجرِ إعادة النظر في العديد من مواد الدستور، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الفيدرالية، وقضية الثروة الوطنية، وفي المقدمة منها النفط والغاز، وكذلك طبيعة السلطة التي تؤمن التوازن المطلوب بين مكونات المجتمع العراقي.

وقد استطاعت الإدارة الأمريكية إقناع أحزاب الطائفة السنية بالانخراط بالعملية السياسية بعد أن وعدتها بإعادة النظر في المواد المختلف عليها، وعلى وجه الخصوص فيما يخص مبدأ الفيدرالية وتقاسم الثروة، وما يزال البرلمان يراوح مكانه دون أن نشهد هذا التعديل الذي بدونه لن يشهد العراق سلاماً ولا استقراراً.

 نظرة في الدستور الدائم
1 ـ الديباجة:
ومن خلال هذه الديباجة يتبين لنا النفس الديني والطائفي للدستور، ويثير الخلافات الطائفية والصراع، مما لا ضرورة له، ولا بد من إعادة النظر فيه ليأتي بتأكيد على علمانية الدستور، وفصل الدين عن الدولة.   
2 ـ المادة الثانية: أولا: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع:                                                      .                       
أـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.             .                             
ب ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.               .                     
ج لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
وفي هذه المادة نجد التناقض الصارخ بين الفقرات أ، ب، وج، فكيف ومن يحدد الثوابت الإسلامية؟ أنها مجرد أفخاخ أريد بها لصبغ الدستور بالصبغة الدينية، مما سيؤدي إلى الصراع والنزاع، ولاسيما وأن مكونات الشعب العراقي تضم المسلمين والمسيحيين والصابئة والأيزيدية. وهي تتطلب إعادة النظر بها من جديد.                                 
3 ـ المادة 115 والمادة 121 وتناقضها مع المادة 13
4 المادة (7):
أولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون. 
وهذه المادة تتطلب إجراء التعديل عليها بما يتفق مع تعديل قانون اجتثاث البعث                                                                                                 
والتأكيد على مكافحة الفكر البعثي الفاشي.
ثم أن هذه المادة تظهر لنا أن ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي قد انتهكت المادة المذكورة بممارسة الإرهاب والتكفير والطائفية بأبشع صورها وأشكالها.
5 ـ المادة (9):                                                           .                                                   
أولاً: أ ـ تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، تراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق ولا تكون أداة في قمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة.                             .
ب ـ يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة.
وهنا تبدو الأحزاب الإسلامية والقومية الكردية قد خالفت مخالفة صريحة نص الفقرة ب وكونت لها ميلشياتها الخاصة في تحدي صريح للدستور.
6 ـ المادة (10): العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيه.
لماذا جرى زج هذه المادة في الدستور، فكل العتبات والحسينيات والجوامع والكنائس ينبغي أن تكون لها حرمتها، وحق ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز.   
7 ـ المادة (12):                                                      .                                                               
أولاًـ ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي.
وفيما يخص هذه المادة فبرغم مرور 8 سنوات على سقوط نظام صدام فإن الأحزاب الطائفية الدينية بشقيها الشيعي والسني ترفض تنفيذ هذه المادة، وتصر على الاحتواء العلم لعبارات دينية.
8 ـ المادة 13:                                                         .
1- عدم جواز تشريع أي قانون يتعارض مع هذا الدستور سواء كان هذا التشريع مركزيا (اتحاديا) أو محليا (إقليميا). ويحكم القضاء المختص بعدم دستورية التشريع الذي يخالف هذه القاعدة.                                    .                                                               
2- تكون قواعد هذا الدستور ملزمة في جميع أنحاء الوطن وبدون استثناء.        .                  .
3- يعد باطلا كل دستور إقليمي أو أي نص قانوني أخر إذا تعارض مع أحكام الدستور العراقي.
 وهنا تأكيد صريح على أن أي تشريع في إقليم أو محافظة يتعارض مع هذا الدستور يعتبر باطلاً وغير دستوري، لكننا نجد أن المادتين، وهذه المادة الأساسية في الدستور تتعارض تمام المعارضة مع نص المادتين 115، و121 التي جعلت من هاتين المادتين فوق المادة 13 الأساسية، ويشير هنا بهذا الصدد أستاذ القانون الدكتور عيسى الزهيري إلى هذا التناقض قائلا:
أن المواد (115) و (121) من الدستور العراقي الجديد تشكلان خطورة بالغة على مستقبل النظام الدستوري العراقي بسبب استبعادهما للمبادئ الدستورية المتعارف عليها، ولتغليبهما المصلحة المحلية للأقاليم والمحافظات على المصلحة الوطنية العامة عند تعارضهما أو تناقضهما.

 لذلك وجب تعديلهما بما يتطابق مع هذه المبادئ كما يجب إعادة النظر في مشروع قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الذي اعتبر مجلس المحافظة سلطة تشريعية بخلاف ما هو معروف في النظام الإداري اللا مركزي الذي يعتبر مثل هذا المجلس مجرد سلطة تنظيمية لا يمتد اختصاصه إلى التشريع.                       
  9ـ المادة (36):                                           .
تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:                                    .
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.                 .
ثانيا: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.       
ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون. 
وهنا نجد في العبارة [تكفل الدولة، وبما لا يخل بالنظام العام والآداب] إمكانية الاختلاف في تأويل هذه العبارة، وما هي الأمور التي تخل بالنظام العام والآداب؟ ولاسيما أن ما حصل ويحصل في العراق اليوم من تجاوز على حريات المواطنين الشخصية باسم مخالفة الآداب العامة، وفرض الحجاب على المرأة، وفرض إطالة اللحية، وطريقة حلاقة الرأس، ومنع صالونات الحلاقة وقتل أصحابها، وكل هذه الاعتداءات جرت باسم حماية الآداب العامة. لذلك فإن إلغاء هذه الفقرة أمر ضروري، وهناك قوانين عقابية تحاسب على ذلك بموجبها.                         
10ـ المادة (41):                                    .
أولاً: أتباع كل دين أو مذهب أحرار في:                               .
 أ ـ ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية.                  .
ب ـ إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً: تكفل الدولة حرية العبادة وحماية أماكنها.   
وهنا نجد التمييز بالنسبة للشعائر الدينية المتعلقة بالطائفة الشيعية، فهل ضرب الزناجيل والسيوف وإسالة الدماء هي من الشعائر الدينية؟ أن الشهيد الحسين أسمى وأعظم من أن يرتضي تلك المشاهد المؤلمة التي نقلتها القنوات التلفزيونية إلى مختلف دول العالم، وأن تمجيد مآثر الحسين والإقتداء به هي السبيل الأمثل لذلك.
11 ـ المادة (109):                                  .
النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات.
وهذه مادة صريحة تتعارض مع الإجراءات التي اتخذتها حكومة إقليم كردستان العراق بعقد العديد من العقود مع شركات أجنبية لاستثمار النفط والغاز في منطقة كردستان، وإصرارها على ذلك رغم تحذير وزير النفط العراقي من كون هذه الإجراءات غير دستورية، بل تجاوزت الحكومة ذلك بالرد على وزير النفط قائلة في كل مرة تعترضون على العقود سنوقع عقدين جديدين، وهذا يشكل انتهاكاً صارخاً للدستور. 
المادة (110):                                        .
أولا: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون.                 
 
ثانيا: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.
في هذه المادة استغلت حكومة إقليم كردستان بتفسير الفقرة ثانياً لصالح إجراءاتها في توقيع العقود مع العديد من الشركات خلافا للمادة 109 الصريحة، ولا بد من إعادة النظر في الفقرة الثانية لإزالة هذه الثغرة في الدستور، وحصر مسألة رسم السياسات النفطية بالحكومة الاتحادية.

12 ـ  المادة (112):                                                         .
كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية تكون من صلاحيات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحية الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية لقانون الإقليم في حالة الخلاف بينهما.
وهنا تبدو الأمور معكوسة تماماً مما يشكل مخالفة صريحة للدستور، فهذه المادة تشبه ذلك الذي يقف على رأسه وليس على أقدامه، وتتطلب تعديل هذه المادة بقلبها على الوجه الصحيح.     

وأخير جاءت المادة 140 من الدستور حول ما سمي بالمناطق المتنازع عليها، والتي تضم محافظة كركوك ونصف محافظة الموصل، وديالى، والتي باتت كبرميل بارود يمكن أن ينفجر في أية لحظة ليشعل حرباً قومية بعد تلك الحرب الطائفية التي شهدتها البلاد عامي 2006و2007 على أيدي القوى الطائفية بشقيها الشيعي والسني، وما برحت التهديدات من جانب القيادات الكردية تتولى بين آونة وأخرى لإشعال فتيل الحرب.                                                                       
وأخيراً أستطيع القول أن الدستور الجديد جاء مفصلاً على مقاس أحزاب التحالف الكردي بامتياز، ومن هنا يتبين لنا السبب في إصرار الأحزاب الكردية على التمسك بالدستور بصيغته الحالية، وتعارض إجراء أي تغير عليه، وكأنه قرآن مقدس منزل من السماء، في حيت تجري التعديلات، بل وتبدل الدساتير في مختلف بلدان العالم تبعاً لتطور الظروف، ومتطلبات حاجات المجتمع في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن إعادة النظر الجذرية في الدستور باتت ضرورية جداً من أجل تطمين سائر مكونات المجتمع العراقي إلى مستقبلها، والحفاظ على اللحمة الوطنية من التمزق ، وقطع دابر الصراع الذي لا يجني منه أي طرف كسباً، بل خسارة لسائر الإطراف الوطنية، ولا شك أن العراق بما يمتلكه من خيرات وفيرة وطاقات بشرية خلاقة قادر على أن يحقق لسائر أطياف الشعب الحياة المرفهة في ظل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، إذا ما تسنى له قيادة حكيمة، نظيفة اليد، مؤمنة بعراقيتها، وتضعها فوق كل الاعتبارات الدينية والقومية والطائفية، وتحت شعار العراق فوق الجميع. 









                           



2
 
نص وثيقة تقاسم حزبي البرزاني والطلباني وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية الحكم في العراق
حامد الحمداني                             6/11/2019

بسم الله الرحمن الرحيم

  الاسس والمبادئ المتفق عليها بين الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الوطني الكردستاني لعمل الحكومة الانتقالية:

 
  افرزت الانتخابات العامة حالة جديدة في الساحة السياسية العراقية ما يستوجب شحذ الهمم وتكاتف القوى الوطنية والاسلامية الاساسية العامة وخصوصا الفائزة منها للعمل المشترك ووضع الية وبرنامج عمل الحكومة الوطنية تعكس المهمات الكبيرة لاستحقاقات المرحلة القادمة وبذل كل الجهود من أجل تنفيذ هذا البرنامج ولإنجاح العملية السياسية، ولبناء العراق الدستوري الديمقراطي الاتحادي التعددي الموحد الذي يشعر فيه المواطن بكامل المواطنة المتساوية في ممارسته لحقوقه الفردية والجماعية لنجعل من العراق بلد الجميع من قوميات واديان ومذاهب يُراعى ويُحترم فيه الاسلام العظيم السمح المتعايش بمبادئه الخالدة مع بقية الديانات والمعتقدات في العراق وابنائها كالمسيحيين والصابئة والايزيديين وغيرهم.  بلد تتحد فيه القوميتان الكبيرتان العربية والكردية اللتان تشكلان الثقل الاعظم للشعب العراقي دون عزل او تمييز عن الدور الكبير الذي يحتله التركمان والكلدان والاشوريين وبقية المكونات بما يؤمن الحقوق المنية والقومية لكل الافراد ومكونات الشعب العراقي بلدا تتأخى فيه الاغلبية الشيعية مع السنة بمكانتهم التاريخية ليعمل الجميع من اجل عراق موحد ديمقراطي اتحادي تعددي.           .     
 
  ان طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها الشعب العراقي نحو مرحلة دستورية مستقرة تتطلب تشييد البناء على اسس واضحة المعالم لجميع مكونات الشعب العراقي بأطيافه وتياراته السياسية، سيما وان للكثير من اطراف الحركة الوطنية والاسلامية العراقية تحالفات سابقة فيما بينها لمناهضة النظام الدكتاتوري المقبور، وتعاون بناء في مختلف المجالات بعد سقوط ذلك النظام تكلل بالانتخابات الرائعة التي استطاع شعبنا ان ينتصر فيها والتي تمخضت عن فوز كبير للقائمتين الكبيرتين الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، مما يوفر ارضية ممتازة للكتلتين بالتعاون انشاء الله مع بقية الكتل واللوائح لاجتياز هذه المرحلة الحساسة سوية وهذا شرف كبير يكتب لنا جميعا يسجله التاريخ وتشيد به الاجيال القادمة لتعزيز الحالة الديمقراطية لبناء العراق على اساس العدالة والانصاف والمشاركة، ويتفق الطرفان على                   
   الاسس التالية لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية:                      . 
 
  1. الالتزام بقانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية واعتبار ان مهمة المرحلة الانتقالية هي اعداد الدستور الدائم والسير قدما في قيام حكومة منتخبة وفق دستور دائم.

  2. تشكيل حكومة وحدة وطنية والاخذ بمبدأ المشاركة والتوافق وتمثيل المكونات العراقية مع الاخذ بنظر الاعتبار النتائج الانتخابية والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، وتوسيع دائرة الاشتراك في العملية السياسية والاجراءات لصياغة الدستور لكل المكونات والعناصر المقبولة والممثلة لأوساطها، والتي تنبذ الارهاب والتخريب دون تهميش او غبن.
 
  3. العمل على صيانة سيادة العراق وتعزيز استقلاله ووحدته والتعامل مع مسالة تواجد القوات المتعددة الجنسيات ضمن قرار مجلس الامن الدولي المرقم 1546 والاسراع في خطط استكمال بناء القوات المسلحة العراقية لتستطيع ان تتسلم المهام الامنية من القوات المتعددة الجنسيات عند استكمال المستلزمات عند الجانبين وتأكيد منهج الاستمرارية والتعاون بين الطرفين بما يحقق الغايات المعلنة بانتهاء مهمة هذه القوات في العراق.
  ان الاسراع في استكمال المستلزمات الذاتية وفق جدول زمني لتسليم القوات العراقية المهام الامنة كاملة سوف يهيئ الظروف لتقليل دور القوات المتعدد الجنسيات تدريجيا وصولا الى انهاء مهامها .

  4. عدم قبول واقع الحرمان والمظلومية والعزل والتمييز واللامساواة والتأخر التي اصابت المناطق والمدن بسبب السياسات العنصرية والطائفية والاستبدادية للنظام السابق خصوصا ما حصل في الجنوب وكردستان وحلبجة وبقية محافظات العراق، والبدء بتنشيط فكرة مجلس الاعمار خصوصا من أجل اعادة اعمار الجنوب وتلك المناطق وتشجيع السياحة الدينية وسياسات الاستثمار، والخدمات العامة كذلك اعطاء الاولوية للسياسات اللازمة في معالجة كل ذلك (المظلومين وضحايا الانفال والحرب الكيمياوية والانتفاضة الشعبانية، والسجناء والمفصولين والمهجرين، وعوائل الشهداء والمناطق المحرومة ... الخ) . كل ذلك دون الاخلال بمبدأ عدم التمييز بين مناطق العراق الا لتطبيق السياسات الإيجابية، وتوفير نفس فرص التطور والخدمات لكل المناطق بدون استثناء، وكذلك الحفاظ على مبدأ الاهلية والكفاءة من جهة ومبدا فاعلية الاجهزة وضرورة استمرارها على تادية واجباتها .

  5. يجب الحرص على وحدة الحكومة وعملها وتنسيق سياساتها وتبني مجلس الوزراء لنظام داخلي ينظم عمله بما ينسجم والتوافق السياسي في اتخاذ القرارات الاساسية السياسية والامنية والاقتصادية والادارية.

  6. الحكومة الانتقالية وبغض النظر عن التحالفات داخلها كل متحد، وعليه يجب الحرص على وحدتها وانسجام عملها وتناسق سياساتها، وفي حالة حصول خلاف في داخل الحكومة بين الائتلاف الموحد والتحالف الوطني الكردستاني وعند استعصاء الخلاف بينها فانه لا يصار الى حل التحالف والمطالبة باستقالة الحكومة الا في الحالات المسوغة لحل التحالف والمنصوص عليها ادناه:

 
  أ. مخالفة مبدا واحد او أكثر من المبادئ العامة المتفق عليها لسياسة الحكومة على نحو لا تسوغ هذه المخالفة ضرورة قاهرة تمليها ظروف داخلية او اقليمية او دولية يعترف بوجودها الطرف المنسحب.

  ب. اقالة عضو في موقع سيادي من موقع مجلس الوزراء او سحب الثقة منه دونما سبب قانوني وموافقة الطرف الذي ينتمي اليه هذا العضو.

  ت. اتخاذ أية إجراءات أو تدابير بواسطة الحكومة من شانها الغاء اي مطلب من المطالب الممنوحة لاي طرف من طرفي التحالف بموجب الاتفاق المبرم بينهما.
 
  ث. وقبل استقالة الحكومة يتبع الطرفان الوسائل التالية المتدرجة لحل هذا لخلاف:
 ... لقاء بين ممثلي الكتلتين داخل مجلس الوزراء.
  ... اجتماع ممثلي الطرفين من هيئة رئاسة الدولة ومجلس الوزراء وهيئة رئاسة الجمعية الوطنية.

  ... اجتماع بين رؤساء الاحزاب والقوى السياسية المنضوية داخل الكتلتين 

  ... في حالة عدم التوصل الى حل وأدى ذلك الى انسحاب أحد الطرفين من الحكومة تعتبر مستقيلة ويجري التشاور لتشكيل حكومة انتقالية جديدة خلال فترة اقصاها شهر واحد مع مراعاة ان لا تترك البلاد تحت فراغ دستوري او أمني او اداري لحين تشكيل الحكومة الجديدة تقوم الحكومة المستقيلة بتصريف الامور.
 
  7. اعادة الهيبة لعمل القضاء وارساء دولة القانون واتباع الاصول الادارية والمؤسساتية ورفض سلطة الفرد والقرارات الارتجالية وغير الاصولية واعتبار الوزارات ومؤسسات الدولة هوية وطنية وملكا للشعب وليست هوية لحزب او لوزير او لأهوائه وقراراته الشخصية ومنع اي استئثار او هيمنة او وصاية فكرية لأية فئة او جماعة بالتشكيلات الحكومية والادارية والمؤسسات العامة واحترام حرية الراي ومؤسسات المجتمع المدني والاسراع في محاكمة مجرمي العهد السابق وانزال اشد العقوبات فيهم للجرائم اللانسانية التي الحقوها بالشعب العراقي وذلك وفق اسس العدالة والقوانين المرعية.
 
  8 . تشكيل المحكمة الاتحادية المكونة من 9 اعضاء حسب الخطوات المبينة في قانون ادارة الدولة على ان يراعى في ذلك التمثيل العادل لكل البلاد على اساس التكافؤ بما يتناسب مع مكونات الدولة العراقية الاتحادية التاريخية والجغرافية وان تتوفر في اعضاء المحكمة المؤهلات والخبرة القضائية العالية، وان لا تسقط المحكمة تحت تأثير جماعة معينة، وان تتمتع بالحياد المطلق، وان لا يعتبر القاضي ممثلا لجماعة بل ممثلا للحقيقة والراي القانوني والقضائي المستقل تماما عن اية تأثيرات.

  9. تفعيل عمل الهيئات الواردة في قانون إدارة الدولة وعدم الالتفاف عليها مع مراعاة اهمية تسيير اداء عمل تلك الهيئات وفق الاهداف التي اسست من اجلها 
  10. حل الخلافات والمنازعات بين الجماعات وفق مواصفات التفاهم والتشاور والمواطنة والرغبة المشتركة للبناء الوطني والعيش بسلام بمراعاة حقوق الجميع وعدم اللجوء الى الاستفزاز او الاعتداء والتقيد بالقوانين والانظمة والاساليب التفاوضية وقواعد الاحتكام بما يرفع الظلم ويحقق العدل والوئام والسلام بين ابناء الشعب وجماعاته المختلفة .

  11. اتباع سياسة الصداقة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع دول الجوار ودول العالم وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد الحوار والتفاوض لحل الخلافات العالقة.               .
 
  ثانيا: العمل على اعداد مسودة الدستور:

  1. تتفق الاطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء اعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الاساسية المثبتة في قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الاطراف انها تسعى الى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنه.

  2 . ان تشترك الاطراف التي لم تفز في الإتخابات او التي لم تشارك فيها لأسباب اضطرارية وممثلو كل الفئات والجماعات التي هناك اتفاق عام على حاجتها للوحدة الوطنية وتقرير مستقبل البلاد الى ضرورة حضورها اللجان والنقاشات واعداد الصياغات التحضيرية لإعداد الدستور قبل طرحه على الجمعية الوطنية والاستفتاء العام وان يراعى تحقيق التوافق الوطني لكل اطياف الشعب العراقي .

  ثالثا: حقوق الاقاليم والمحافظات والمواطنين:

  تعزيز المكانة الخاصة لدور الاقاليم ومجالس المحافظات، واحترام نتائج انتخابات مجالس المحافظات وللمجلس الوطني لإقليم كردستان وتطوير التنسيق والتعاون بين الحكومة المركزية وحكومة اقليم كردستان والمحافظات وتوفير الميزانيات اللازمة لها واحترام مبدأ عدم التدخل في شؤونها ودورها المستقل في نطاق عملها وتطوير صلاحياتها كما ورد في قانون ادارة الدولة وفي الامر رقم 71 مع اعادة الاحترام والفاعلية لعمل الدولة لممارسة صلاحياتها وتأدية  مهامها وعدم التمييز بين العراقيين في كل انحاء العراق وحقهم المشروع في الاقامة والعمل والتنقل والتملك والتمتع بالحقوق والواجبات الاتحادية والاقليمية بكل مساواة وعدم تمييز، شرط ان لا يكون ذلك قد تم وفق سياسة عنصرية  او طائقية تفرض تغيير الواقع السكاني.
 
  رابعا: ازالة اثار سياسات النظام البائد في تغيير الواقع القومي والمذهبي والسكاني من خلال الهجرة القسرية وتوطين الافراد الغرباء:

  1. الاسراع في تطبيع الأضاع في المناطق المختلف عليها وبضمنها كركوك من خلال اعادة المهجرين واعادة توطين الغرباء الذين اسكنوا في هذه المناطق ضمن سياسة التغيير السكاني والتطهير العرقي وفق قانون ادارة الدولة وذلك بتوفير التخصيصات اللازمة لهيئة فض منازعات الملكية وهيئة تطبيع الاوضاع في كركوك وعلى الحكومة العراقية الانتقالية اتخاذ الخطوات العاجلة لتطبيق 1 و 2 و 3 و 4 من الفقرة (أ) من المادة 58 من قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية وتقوم الحكومة الانتقالية خلال فترة لا تتجاوز الشهر من تشكيلها بتفعيل اجراءات التطبيع بما فيها توفير التمويل لهيئة تطبيع الاوضاع في كركوك وهيئة منازعات الملكية .
 
  2 . التطبيق الكامل للمادة 58 من قانون ادارة الدولة الانتقالية بما يؤدي الى تحديد الانتماء الاداري للمناطق المختلف عليها بما فيها محافظة كركوك وعلى الرئاسة الانتقالية الاسراع في تقديم المقترحات بشان معالجة التلاعبات بالحدود الادارية لهذه المناطق الى الجمعية الوطنية الانتقالية وتوضع التسويات الضرورية بما يحقق الرغبة النهائية لسكان المحافظة بعد التطبيع وبعد المصادقة على الدستور الدائم.

  3. مواصلة الجهود لتصحيح الاوضاع في التمثيل الخارجي بما يعالج سياسات التمييز والعزل السابقة ويسمح لكل الكفاءات العراقية بحسن الحضور والتمثيل وان يعكس الوجه الخارجي للعراق واقع الشعب العراقي والمبادئ والسياسات التي يؤمن بها.
 
  4. التعامل مع الملف الامني واعطاء اولوية خاصة في اتجاهين رئيسيين:
  الاول : ايقاف المجازر والقتل اليومي ورفع التهديد التخريبي والارهابي عن السكان والذي مازال يشكله الخلل الامني المتمثل في بعض جوانبه الخطيرة بوجود عناصر بقايا النظام السابق والعناصر الفاسدة في بعض المؤسسات والاجهزة الأمنية، واعتبار ان الولاء للنظام الجديد هو شرط رئيسي يجب ان يتلازم مع  الكفاءات والاهلية من جهة وضمان استمرارية عملية بناء هذه الاجهزة وعدم تعريضها للتشويش او للتعطيل من جهة أخرى،  وكذلك باتخاذ الاجراءات الحاسمة لمنع تدخل الدول المجاورة في الشؤون العراقية وتشجيع الارهابيين وتوفير الاغطية الايديولوجية لهم ومحاربة المنظمات الارهابية الموجودة  في العراق وكشفها وتعريتها امام الشعب العراقي وانزال اقسى العقوبات بعناصرها وتطهير البلاد من كل المنظمات الارهابية.
 
  الثاني: وهو بناء القوات المسلحة العراقية وقوات الأمن بشكل ينسجم مع حاجات الاقاليم والمحافظات وقوى امنها الداخلي وتوفير التخصيصات المالية والتسليحية واللوجستيكية لذلك وبما ينسجم مع الضرورات السوقية ومتطلبات الدفاع الوطني والامن الداخلي للبلاد كلها والاسراع بتطبيق الامر 91 ( والذي يشمل 11 مؤسسة منها قوات البيشمركة وبدر وبقية التشكيلات التي قاتلت النظام بكل بسالة واخلاص ) وان تتحول العناصر المندمجة من القوات المشار اليها الى عنصر طبيعي في القوات المسلحة العراقية، وان يتم توفير التخصيصات لها وبشار الى تحويل قوى منها الى قوى أمن داخلي في الاقاليم والمحافظات او يتم استيعابها في المؤسسات المدنية او تتلقى التأهيل اللازم عبر ذلك من اجراءات لاندماجها واستيعابها .

  5. ان تعكس الموازنة العراقية وسياسات العرض والاستثمار والمنح الاجنبية حاجيات الشعب العراقي الراهنة والمستقبلية وخصوصا فئاته الفقيرة والمحرومة وضمان تطور العراق ليستعيد مكانته الطبيعية وكذلك ان تعكس الموازنة والسياسة المذكورة اعلاه حاجيات المحافظات  والاقاليم بشكل متوازن من جهة ويزيل الحيف عن بعض المناطق المتضررة والمظلومة من جهة اخرى وان تراعي الحكومة الانتقالية هذه الإعتبارت في خططها القادمة وفي موازنة 2006 مع الالتزام بتنفيذ موازنة 2005 بكل ما تتضمنها من الاهداف اعلاه .
 
  6. تقوم الحكومة العراقية بتأسيس وتشجيع شركات استثمار للثروات الطبيعية ومنها النفطية على المستويات الاتحادية وفي اقليم كردستان وفي المحافظات وان على الحكومة ان تضع الضوابط الاتحادية والاقليمية كذلك المحافظات بالاتفاق مع السلطات المحلية لأعمال الاستغلال والاستثمار بما يحقق التوزيع العادل للعوائد وفق نسب السكان وحاجيات المناطق من جهة وتحقيق المصالح الوطنية العامة من جهة اخرى.
   
  التواقيع:

  الائتلاف العراقي الموحد: عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية وخالدة العطية وفالح الفياض عضوا الجمعية الوطنية.
 
  التحالف الوطني الكردستاني: فؤاد معصوم عضو الجمعية الوطنية، ونوري شويس نائب رئيس الجمهورية، وبرهم صالح نائب رئيس الوزراء، وهوشيار زيباري وزير الخارجية المنتهية ولايتهم
 
 


3
هذا هو الطريق لإنقاذ العراق وشعبه
من الأزمة الراهنة!

حامد الحمداني                                           3/10/2019

إن الأزمة العراقية الراهنة، والصراع المرير الذي يميز العلاقات بين أطراف السلطة، بشقيه السياسي والعنفي، والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية الدينية والقومية الذي يعصف بالبلاد، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، وفضائح نهب المال العام التي أزكمت أنوف الشعب العراقي، والتي جاوزت عشرات المليارات من الدولارات، والفقر والبطالة والجوع، وملايين المهجرين والمهاجرين بسبب خطورة الوضع الأمني ومخاطره، وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد خراباً حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، والمخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، والمحاولات الرامية لتمزيق العراق وطناً وشعباً من قبل الأحزاب الحاكمة نفسها، ومحاولات الحكومة الضغط على البرلمان لإصدار قانون لإعفاء آلاف المزورين لشهادتهم، وهي جريمة مخلة بالشرف بموجب القانون، والمحالين للمحاكمة من قبل هيئة النزاهة، كل هذه العوامل والاسباب التي أوصلت الشعب العراقي الى مرحلة الانتفاضة ضد الطبقة الحاكمة الغارقة بالفساد ونهب ثروات البلاد تاركة المواطنين العراقيين في حالة بائسة من الفقر والجوع والتشرد والبطالة، ليهب في مظاهرات عارمة مطالبا بتحقيق حياة كريمة والعيش بسلام وأمان، ولجوء السلطة الى الوسائل القمعية في التصدي لانتفاضة الشعب مستخدمة الغازات المسيلة للعيون وصب الماء الحار على المتظاهرين، واستخدام الرصاص المطاطي واخيراً الرصاص الحي ضد مظاهرات الشعب السلمية، وارهاق دماء العشرات من المواطنين الشهداء ومئات الجرحى .
 
وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب والوطن، فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، لتلبية مطالب الشعب على وجه السرعة قبل فوات الأوان للخروج من الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد، وإن السبيل الى ذلك يتطلب الإجراءات التالية:


1ـ حل الحكومة العراقية الحالية، ودعوة الأمم المتحدة الى المساعدة بتشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بنظام صدام الساقط، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية أمدها ثلاث سنوات، واختيار رئيس مؤقت للبلاد من العناصر الوطنية المستقلة، المتسم بالنزاهة، ونظافة اليد، والأيمان بالعراق الحر الديمقراطي المستقل، والموحد أرضاً وشعباً.

2ـ حل البرلمان الحالي، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت يضم 150 شخصية عراقية من مختلف المناطق العراقية على أساس الكفاءة، والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لقضية البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.

3ـ يقوم أعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم، وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم، قبل مباشرتهم المسؤولية وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل  هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة، والمشهود لها بالنزاهة، ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة جميع السراق والمرتشين، وكل ناهبي أموال الشعب، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.
 
4ـ وقف العمل بالدستور الحالي المختَلًفْ عليه، والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالي يحمل بذور الحرب الأهلية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة النظر في كافة مواده من قبل لجنة دستورية مختارة من العناصر المختصة بالقانون الدستوري، والمشهود لها بالأمانة والنزاهة، والتوجه الديمقراطي، بما يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة، والشوفينية القومية، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب.

5ـ حل الحشد الشعبي وكافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون.

6ـ تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، والحرص على سيادة واستقلال العراق.

7ـ إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، ومنع نشاط كافة الأحزاب القائمة على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً، أو قومي شوفيني متطرف، عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً.
كما ينبغي منع الأحزاب السياسية تلقي الأموال من أي جهة أجنبية، ويحصر الدعم بالحكومة العراقية فقط من خلال وضع ميزانية خاصة للأحزاب.

8ـ مكافحة فكره الفاشي القومي والديني وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر.

9ـ الإسراع بمحاكمة كل العناصر المزورة، وناهبي المال العام، وعصابات القتل والجريمة من عناصر الميليشيات أمام محكمة جدية وعلنية دون إبطاء، أو تلكؤ، وإنزال العقاب الصارم بحقهم دون رحمة.

10ـ إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض، هي ملك للشعب العراقي دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعات المناطق التي كانت أكثر تضرراً، بسبب الحرب ضد عصابات داعش الإجرامية والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.

11ـ ينبغي إعادة النظر في كافة العقود الإستشمارية في مجال النفط والغاز، وكشف المتلاعبين بتلك العقود والأضرار التي سببوها للاقتصاد الوطني، ومحاسبتهم على الثروة التي امتلكوها خلال مدة الحكم السابق دون وجه حق.
كما ينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة، وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل الشهيد عبد الكريم قاسم، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة في العراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.

12ـ تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى، ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي وعلى قدم المساواة.

إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عنها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدراليات الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسعى في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني، والذي لن يخرج أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

13ـ تتولى الحكومة المؤقتة إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على أساس الكفاءة والخبرة، والأمانة والنزاهة، لكي تستطيع الحكومة إعادة بناء البنية التحتية المخربة، والنهوض بالعراق في كافة المجالات الصناعية والزراعية والاجتماعية والخدمية والصحية والتعليمية.
كما تتولى الحكومة معالجة البطالة المستشرية، وتأمين العمل الجدي والحقيقي لكل قادر على العمل، وعلى أساس الاختصاص، ومعالجة مسألة البطالة المقنعة التي ترهق ميزانية الدولة، والعمل على منع مزاولة الأطفال للعمل، وإعادتهم إلى مدارسهم حتى الدراسة الثانوية، وتأمين حياة كريمة للمواطن العراقي، ولا شك أن العراق الذي يمتلك من الثروات النفطية والغازية والمعدنية المختلفة لقادر على تحقيق ارقي مستوى معيشة للشعب إذا ما كان الحكم في أيدي أمنية ومخلصة ونظيفة اليد.

14ـ تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين من خلال سن قانون للضمان الاجتماعي والصحي، وتوزيع المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية على المحافظات بصورة عادلة، مع مراعات المحافظات الأكثر تخلفاً في هذه المجالات.
هذا هو الطريق الصائب والقادر على انتشال العراق وشعبه من الأزمة الخانقة التي يعيش في ظلها، وإن أية محاولة لإصلاح العملية السياسية الحالية ستبوء بالفشل وتقود العراق إلى منعطف خطير يصعب الخروج منه. 




4
من الذاكرة
                       دماء في الموصل!
حامد الحمداني              القسم الثاني 2/2                 18/9/2019
مَنْ نفذ الاغتيالات في الموصل؟              
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير، وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس، والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلى ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية أو المحلات، أو المعامل، و الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت إجرة قتل الإنسان [ 50 دينار]،وهذه أسماء بعض أولئك القتلة التي كان يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم :
 أسماء منفذي الاغتيالات:
1ـ زغلول كشمولة                        2 ـ شوكت نوري الأرمني            3  ـ يعقوب كوشان 4                         ـ محمد سعيد  السراج               6 ـ صبار الدليمي6                          ـ طارق عبد كرموش
 7 ـ نجم فتحي                              8 ـ موفق محمود
 9 ـ فهد الشكرة                             10 ـ هادي أبن الطويلة
 11 ـ عادل ذنون الجواري               12 ـ حازم بري
 13 ـ عارف السماك                       14 ـ أحمد جني
15 ـ نجم البارودي                         16 ـ طارق قباني
 17 ـ طارق نانيك                          18 ـ محمود، أبن البطل
 19 ـ قاسم، أبن العربية                   20 ـ عدنان صحراوية
 21 ـ طارق شهاب البني                 22 ـ فوزي شهاب البني   
 23 ـ جبل العاني                          24 ـ فاضل مسير
 25 ـ موفق، أبن عم فاضل              26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه
 27 ـ جنة ـ مجهول اسم أبيه            28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان لان أصحابها أرادوا ذلك، لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع، أو عقاب ولماذا الخوف مادامت السلطة تحميهم وتدعمهم!

 لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على أي من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين والممولين لتلك الجرائم.

 لقد ذهبت دماء الضحايا تلك هدراً حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.
 لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة، وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت. 
 وليست متوفرة عندي، وأنا أعيش في الغربة، بعيداً عن وطني، قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك، لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا.
 أسماء بعض الشهداء ضحايا جرائم الاغتيالات:
  1 ـ كامل قزانجي ـ محامي وسياسي بارز.
  2 ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة ـ شقيقة زوجتي.
  3 ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة.
  4 ـ فيصل الجبوري ـ مدير متوسطة الكفاح
  5 ـ زهير رشيد الدباغ ـ مدرس
  6 ـ شاكر محمود ـ معلم.
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر كبير السن لا علاقة له بالسياسة.
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ).
  9 ـ نافع برايا وعائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة، وضعت بسيارتهم.
 10 ـ ياسين شخيتم ـ قصاب، ونصير سلم.
 11 ـ عبد الإله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي (قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري.
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام.
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب.
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب ـ عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل.
 17 ـ سالم محمود ـ معلم.
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف.
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس.
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي.
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي.
 22 ـ أحمد ميرخان ـ (نقل إلى المستشفى جريحاً، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى).
 23 ـ عثمان جهور ـ كاسب كردي.
 24 ـ محمد زاخولي ـ كاسب، كردي.
 25 ـ سركيس الأرمني ـ صاحب كراج.
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس.
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف.
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية.
 30 ـ زكي عزيز توتونجي [بائع تبغ وسكائر]
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي.
 32 ـ نجاح ….. ـ طالب جامعي، قتله المجرم جبل العاني، أحد أفراد العصابة.
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب.
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل.
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي.
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية.
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب.
 38 ـ حمزة الرحو  ـ قصاب.
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ــ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري.
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه وخضراوات.
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب.
 43 ـ حاتم الحلة ــ طالب.
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر.
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب.
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر.
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر.
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم.
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف في بلدية الموصل.
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر.
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف.
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف.
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر.
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي.
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش.
 56 ـ جورج .... ـ سائق.
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية.
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب.
 59 ـ شاكر محمد.
 60 ـ فريد السحار.
61 ـ واصف رشيد ميرزا.
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل خلال ثلاث سنوات، وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب قليل من الضحايا من أبناء الموصل البررة.
لم يكتفِ انقلابيوا شباط بتلك الاغتيالات التي ذهب ضحيتها المئات من الوطنيين الشرفاء، بل صبوا جام غضبهم على السجناء الذين اعتقلهم عبد الكريم قاسم وأحالهم على المجالس العرفية التي حكمت عليهم بأحكام ثقيلة، حيث سارعوا إلى إعادة محاكمتهم بصورة صورية، والحكم عليهم بالإعدام وتم نقلهم إلى الموصل حيث جرى تنفيذ أحكام الموت بحقهم في شوارع الموصل، وهذه أسماء الشهداء
1 ـ شاكر محمود اللهيبي      2 ـ محمود تمي          3 ـ يحيى مراد
4 ـ هاني مجيد                 5 ـ بطرس شنكو          6 ـ سالم داود
7 ـ إبراهيم محمود الأسود    8 ـ ميخائيل ججو        9 ـ كوركيس داود
10ـ عزيز أبو بكر            11 ـ حنا قديشة           12 ـ إبراهيم داود
13 ـ غازي خليل              14 ـ إبراهيم داود        15 ـ متي اسطيفان
16 ـ أحمد علي سلطان      17 ـ خضر شمو          18 ـ عمر بابكر
19 ـ ميكائيل حسن          20 ـ إسماعيل محمد     21 ـ يوسف إبراهيم
22 ـ محمد شيت صالح     23 ـ رمضان أحمد       24 ـ عز الدين رفيق
25ـ سيدو يوسف الحامد   26 ـ عصمت بيرزوني  27 ـ صالح أحمد يحيى
28 ـ جاسم محمد أحمد     29 ـ أنور درويش        30 ـ شمعون ملك يكو
31ـ عبد محمود يونس     32 ـ خيري نشات        33ـ طاهر العباسي
34 ـ عبد الرحمن زاويتي 35 ـ عيسى ملا صالح   36 ـ طارق الجماس
 37 ـ ساطع إسماعيل

نتائج الاغتيالات، والحملة الرجعية في الموصل
 بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:
 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل أكثر من 30 ألف عائلة إلى بغداد والمدن الأخرى، طلباً للأمان تاركين مساكنهم، ومصالحهم، ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها.

2ـ شل وتدمير الحركة الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة.

3 ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة التي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي.

 لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد، هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، وتصفية كل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام من دماء أبنائه.
 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد، والعهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد .

 ولم يدر في خلد قاسم أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين لتدبير انقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم.

وبهذه المناسبة تعود بي الذاكرة إلي المقال الذي كتبه الشهيد [عبد الجبار وهبي ـ أبو سعيد] في صحيفة الحزب الشيوعي ـ اتحاد الشعب ـ في حقل، كلمة اليوم، بعنوان [سارق الأكفان] وكان المقال موجه بالتأكيد لعبد الكريم قاسم بالذات، أراد فيه أن ينبهه إلى ما ألت إليه أوضاع البلاد، والاستياء الشديد لدى غالبية الشعب العراقي عامة، وأهالي الموصل بوجه خاص.

 كان ملخص المقال أن أحد السرّاق كان يترصد المقابر، وينبش القبور، ويأخذ الكفن ليبيعه، ويترك الجثة في العراء.
 أخذ الناس يلعنون السارق على فعله، واستمرت اللعنات عليه حتى بعد وفاته، مما حزّ في نفس ولده الذي فكر في طريقة يجعل بها الناس يكفون عن لعنة أبيه.
 عاد الولد إلى فعلة أبيه، لكنه لم يكتفي بنبش القبور، وسرقة الأكفان، وإنما أخذ يمثل بالجثة، وينثر أشلائها.
 أحدثت فعلة الولد صدمة كبيرة لدى جميع الناس، جعلتهم يترحمون على سارق الأكفان السابق، الذي كان يكتفي بسرقة الكفن، دون تقطيع الجثة ونثر أشلائها، وهكذا خلّص الولد أبيه من اللعنات.
أراد الشهيد أبو سعيد أن يقول لعبد الكريم قاسم أن الشعب قد صار يترحم على عهد نوري السعيد، ويكفر بالثورة، ويتمنى عدم حدوثها، نتيجة لما آلت إليه أوضاع البلاد من تدهور، ومآسي لم يسبق لها مثيل.

موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟

لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً، لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [اتحاد الشعب] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها!! دون أن تدرك قيادة الحزب أن للسلطة يداً طويلة فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها، وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم:
[عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ].

 وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً، وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت لديه القناعة المطلقة بأن الحزب الشيوعي  سوف يقفز إلي السلطة ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك، ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية [ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية، التي كانت تصوّر أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة في العراق، حيث صرح رئيس جهاز المخابرات الأمريكية آنذاك [ ألن دلس] قائلاً:
 { أن اخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع في العراق}.
 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، ليس إلا، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك أسوة ببقية الأحزاب التي أشركها قاسم بالسلطة، في حين كان بإمكانه انتزاع السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.
 لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم واستفز البرجوازية الوطنية، واستفز الامبريالية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له.
لقد كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، لكن الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حول أمن الخليج، حالت دون إقدام الحزب الشيوعي على استلام السلطة، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئ، لا يستفز عبد الكريم قاسم، وذلك عن طريق اللقاءات والحوار، والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها على المطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة ائتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية، وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.
 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي القاضي بتحجيمه، وعزله عن جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه.
 أما قيادة الحزب فكانت بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم، آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب، لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب 360 ألف توقيع من رفاقه، ومؤيديه.
 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية، وتنامي عدد حوادث القتل يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق، بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.

 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، والدفاع عن النفس، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم، وكل الواقفين وراءهم.

 إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه متهماً المنادين به بالفوضويين!! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهظاً.
 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه، ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة
 لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى إغضاب
عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه والتي استغلها قاسم أبشع استغلال، بمهاجمة الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية واصفاً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو أوجنكيزخان!.

 لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً، وذريعة لضرب الحزب، وتحجيمه، وكانت أحداث كركوك تمثل جانباً من ذلك الصراع التاريخي بين الأكراد والتركمان وجرى تحميل أوزارها للحزب الشيوعي.

 لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء.










5

من الذاكرة
وثبة تشرين المجيدة عام 1952                                               
 حامد الحمداني                                            12/9/2019

لم تستطع وثبة كانون المجيدة عام 1948 أن تحقيق كامل أهدافها، فرغم أنها استطاعت أن تسقط حكومة [صالح جبرـ نوري السعيد]، وتسقط معها [معاهدة بورتسموث]، ورغم أنها استطاعت أن تهز العرش الهاشمي وتهدد وجوده، واضطرته مرغماً، على إقالة الوزارة، وتعين [السيد محمد الصدر] رئيساً للوزراءـ الذي كان يصنف من المعتدلين حينذاك ـ والذي بادر فوراً بالإعلان عن إلغاء المعاهدة المذكورة وإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين الذين شاركوا في الوثبة، وبذل الكثير من الجهود لتهدئة الأوضاع.

إلا أن الهدوء لم يستمر طويلاً بسبب تردي الأوضاع المعيشية للشعب من جهة، وعودة الوجوه[البورتسموثية] إلى واجهة السلطة من جهة أخرى، مما شكل تحدياً لمشاعر الشعب وإرادته، وزاد من توتر الوضع مبادرة هذه السلطة بإجراءاتها القمعية، وانتهاك الحريات العامة من جديد.

ففي عام 1949 أقدمت حكومة نوري السعيد على إعدام قادة الحزب الشيوعي،    [يوسف سلمان ] و[ زكي بسيم ] و[ حسين محمد الشبيبي ] وشنت حملة شعواء على القوى والأحزاب الوطنية التي شاركت في وثبة كانون المجيدة، وخنقت الحريات العامة والصحافة الوطنية، وأكمّتْ صوت الشعب.

وجاء تخفيض الدينار العراقي المرتبط بالباون الإسترليني، تبعاً لانخفاض الأخير من 4 دولارات و3 سنتات للجنيه الواحد إلى دولارين وثمانين سنتاً، والذي سبب أزمة اقتصادية حادة ضاعفت من معاناة الكادحين من أبناء الشعب والطبقة المتوسطة، وأعقب ذلك المفاوضات التي أجراها نوري السعيد مع شركات النفط، والتي جاءت لمصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية على حساب الشعب العراقي، مما أدى إلى موجه من الاحتجاجات على سياسة الحكومة وتفريطها بمصالح الشعب والوطن، ودفع نواب المعارضة في البرلمان، والبالغ عددهم 37 نائباً، إلى الاستقالة من عضوية المجلس احتجاجاً على سياسة الحكومة، مما صعد حدة التناقض بين الشعب والسلطة الحاكمة.
وجاء إضراب عمال الميناء في البصرة، المطالبين بحقوقهم، ولجوء الحكومة إلى القوة لكسر الإضراب، وسقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوف المضربين وأبناء الشعب ليزيد من حراجة الموقف، ومن تراكم الغضب الشعبي، مما دفع الأحزاب الوطنية إلى تقديم المذكرات إلى الوصي على العرش عبد الإله، والتي تضمنت شرحا وافياً لمدى التدهور الحاصل في أوضاع البلاد، وانتشار الفساد وقمع الحريات العامة، وحرية الأحزاب والصحافة وكم أفواه الشعب.
 لكن الوصي تجاهل تلك المذكرات والمطالب التي تضمنتها لمعالجة الأوضاع، ولجوئه إلى التطاول على السيد طه الهاشمي في مؤتمر البلاط، كل ذلك جعل الشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية في حالة من اليأس من إصلاح أوضاع البلاد ورفع من حدة التناقض بين الشعب والزمرة الحاكمة إلى الدرجة الحرجة، والتي كانت  تنذر بانفجار عنيف يتجاور انفجار كانون الثاني عام 1948.
كانت الجماهير الشعبية تعيش حالة من الغليان الشديد والغضب العارم من سلوك الحاكمين، وتجاهلهم لإرادة الشعب، وتنتظر الشرارة التي تفجر الانتفاضة. و جاء قرار عمادة كلية الصيدلة والكيمياء القاضي باعتبار الطالب المعيد لدرس ما، معيداً لكافة الدروس، مما أثار غضب الطلاب الذين سارعوا إلى إعلان الإضراب عن الدراسة في 16 تشرين الأول 1952. وأدركت الحكومة خطورة تطور الإضراب واندلاع المظاهرات وتوسعها فأسرعت إلى الإعلان أن القرار لا يشمل الصف المنتهي هذا العام.

لكن الطلاب واصلوا إضرابهم مطالبين بإلغاء القرار، ونتيجة الاستمرار الإضراب اضطرت وزارة الصحة إلى إصدار قرار جديد يقضي بإلغاء قرار العمادة، لكن الطلاب فوجئوا في اليوم التالي بوقوع اعتداء من قبل مجهولين داخل الحرم الجامعي على الطلاب الذين كانوا من النشطين خلال الإضراب، مما أدى إلى قيام المظاهرات الطلابية، وإعلان كافة طلاب الكليات الإضراب عن الدراسة، ثم تبعهم طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وأعلنوا إضرابهم عن الدراسة في 22 تشرين الثاني، تضامناً مع طلاب كلية الصيدلة.

بدأت موجة المظاهرات تأخذ منحاً جديداً، بعد أن أخذت الجماهير الشعبية تنظم إلى الطلاب المتظاهرين، وتطورت إلى مظاهرات سياسية تطالب بتحقيق المطالب التي تضمنتها مذكرات الأحزاب الوطنية إلى الوصي، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبسرعة تحولت الاحتجاجات على الأوضاع إلى مظاهرات تهتف بسقوط عبد الإله والحكومة، وإخراج الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين من البلاد.
 كان انطلاق المظاهرات الشعبية من [محلة الفضل]، حيث تصدت لها قوات الشرطة مستخدمة الأسلحة النارية ضد المتظاهرين الذين واجهوهم بالعصي والحجارة وبعض المسدسات، حيث وقعت معارك شرسة بين الطرفين، استبسل فيها أبناء الشعب مبدين بطولة خارقة. واستشهد نتيجة الصدام أحد المتظاهرين وجرح 14 آخرين، فيما أصيب 38 شرطيا بجراح. ونتيجة لتدهور الوضع سارع [ مصطفى العمري] إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي عبد الإله.

وفي 23 تشرين الثاني اتسع نطاق المظاهرات والاحتجاجات، وجرى المزيد من الصِدام مع قوات الشرطة، حيث أصيب 25 متظاهراً بجراح كان أغلبهم من العمال والكادحين مما ألهب الموقف، واندفع المتظاهرون الشيوعيون، و الديمقراطيون، ورابطة الشباب القومي، بالاستيلاء على مركز شرطة [قنبر علي] و[ مركز شرطة باب الشيخ ]، وتم الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة العائدة للشرطة، كما جرى إحراق [مكتب الاستعلامات الأمريكي ] قرب سوق الصفافير، وقد وقع جراء الصِدام مع الشرطة 12 شهيداً من العمال والكادحين، وكان رد فعل الجماهير الغاضبة على استشهاد هذا العدد الكبير من المواطنين أن اقدموا على حرق أحد أفراد الشرطة. وفي المساء كانت السيطرة قد خرجت من أيدي الشرطة، وعمت المظاهرات كل مكان. 

وهكذا أصبح الوضع خطيراً جداً في بغداد مساء يوم 23 تشرين الثاني، وحاولت الحكومة الاستعانة بقوات الشرطة السيارة المدربة خصيصاً لقمع المظاهرات، حيث نزلت إلى الشوارع واصطدمت بالمتظاهرين، ووقع المزيد من القتلى والجرحى حيث استشهد 23 مواطناً فيما قتل 4 من أفراد قوة الشرطة السيارة، وتم إحراق عدد من سيارات الشرطة، وانتهت المعركة ذلك اليوم بهزيمة قوات الشرطة السيارة، واصبح الوضع في بغداد خطيراً جداً، كما امتدت المظاهرات إلى سائر المدن العراقية الأخرى تضامناً مع جماهير بغداد، ولم يعد لقوات الحكومة القمعية أي سيطرة على الشارع العراقي، مما اضطر الوصي، وقد أصابه الرعب من خطورة الموقف، إلى قبول استقالة حكومة[ مصطفى العمري] واستدعاء رئيس أركان الجيش، الفريق [ نور الدين محمود ] لتأليف وزارة جديدة في ذلك اليوم 23 تشرين الثاني 1952، وتم إنزال الجيش إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى وجرى تأليف الوزارة على عجل، وجاءت على الشكل التالي :
1 ـ نور الدين محمود رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع والداخلية.
2 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للمالية.
3 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية، ووزيراً للاقتصاد وكالة.
4 ـ فاضل الجمالي ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ عبد الرسول الخالصي ـ وزيراً للعدلية، ووزيراً للمواصلات والأشغال وكالة.
6 ـ قاسم خليل ـ وزيراً للمعارف.
7 ـ رابح العطية ـ وزيراً للزراعة.
8 ـ عبد المجيد القصاب ـ وزيراً للصحة.

سارعت الحكومة الجديدة إلى إعلان الأحكام العرفية في نفس اليوم، وجرى تأليف المحاكم العرفية العسكرية، وأصدرت أمراً بمنع المظاهرات والتجمعات وحمل الأسلحة، منذرة المخالفين بإنزال أشد العقوبات بحقهم.

كما أعلنت الحكومة عن حل الأحزاب السياسية كافة وتعطيل معظم الصحف، حيث شمل التعطيل صحف الأهالي و لواء الاستقلال والجبهة الشعبية، لسان حال الأحزاب السياسية المعارضة، وكذلك صحف القبس، و النبأ، واليقظة، وصوت الشعب، والسجل، والحصون والأفكار، والوادي، والآراء، والعالم العربي، وعراق اليوم، والجهاد.

 لكن المظاهرات استمرت بعنفوانها متحدية الحكم العسكري الجديد، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط الحكم العسكري، ويطالبون بتشكيل حكومة مدنية برئاسة السيد كامل الجادرجي.
 وقام الجيش بالتصدي للمتظاهرين، وجرى إطلاق النار عليهم، حيث استشهد 8 مواطنين، وجرح 84 آخرين، أصدرت الحكومة قرارا بمنع التجول من الساعة السادسة مساءاً وحتى الساعة السادسة صباحاً، وقامت خلال الليل بحملة إعتقالات واسعة في صفوف أبناء الشعب، شملت ما يزيد على 3000 مواطنا، بينهم 220 شخصاً  من الوزراء السابقين، والنواب، والصحفيون ورؤساء الأحزاب وشخصيات سياسية معروفة، وجرى تقديمهم جميعاً إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حكم على أثنين منهم بالإعدام، وعلى 958 منهم بالسجن لمدد مختلفة، وعلى 582 آخرين بالغرامة، وعلى 294 بالكفالة، وتم الإفراج عن 1161 فرداً .
وبعد أن تم للحكومة إخماد الوثبة المجيدة بالحديد والنار، ومصادرة الحريات العامة وإغلاق الأحزاب والصحف، والزج بمئات الوطنيين في السجون، لجأت إلى بعض الإجراءات لتخفيف الغضب الشعبي العارم، وامتصاصه، فأصدرت عدة مراسيم تتعلق بخفض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة والمصدرة [المرسوم رقم 1] وإلغاء رسم الاستهلاك وضريبة الأرض عن المخضرات والأثمار الطرية [المرسوم رقم 2 ] ومرسوم تخفيض ضريبة الأملاك [المرسوم رقم 5 ] وغيرها من المراسيم الأخرى، لكن المرسوم الأهم كان [مرسوم رقم 6] الخاص بتعديل قانون الانتخاب وجعله على مرحلة واحدة، أي مباشراً بعد ان كان على مرحلتين.

 لكن تلك المراسيم، باستثناء المرسوم رقم 6، لم تكن إلا إجراءات تخديرية لم تستطع حل المشاكل المعيشية التي يعاني منها الشعب، وحتى مرسوم تعديل قانون الانتخاب فلم يكن سوى حبراً على ورق، ذلك أن التدخلات التي جرت أثناء الانتخابات التي جرت في 17 كانون الثاني 1953 كانت أكثر من مثيلاتها السابقة، حيث فاز فيها بالتزكية 76 نائباً من مجموع 135 نائباً، وقد وصل الأمر بجميل المدفعي، الذي تولى رئاسة الوزارة فيما بعد، أن صرح في 17 شباط وهو في قمة السلطة قائلاً:
{أنا اعتقد أن بعض الانتخابات غير المباشرة كانت قد جرت احسن من الانتخابات المباشرة الحالية}.
وأكد أحد وزراء نوري السعيد المزمنين السيد [عبد المهدي] أن الانتخابات لم تجرِ على الطريقة الصالحة، فقد جرى تهديد المرشحين غير المرغوب بهم بوجوب الانسحاب من الترشيح، وإلا ستجبرهم عصابات السلطة إذا ما أصروا على خوض الانتخابات، وقد جرى استدعاء متصرفي الألوية [المحافظين] وتم إبلاغهم بقوائم مرشحي البلاط وأمروا بالعمل على إنجاحها.

كما أكد صالح جبر ومحمد مهدي كبه وقوع التدخلات الحكومية في الانتخابات، وأعلن حزب الاستقلال اللحاق بالحزب الوطني الديمقراطي، والانسحاب من الانتخابات.
لم تثنِ إجراءات حكومة نور الدين محمود أبناء الشعب عن سعيهم للخلاص من الزمرة الحاكمة، وإنقاذ البلاد من الهيمنة الإمبريالية، وبدأت بذور الثورة تنمو في أحشاء المجتمع العراقي من جديد، لإسقاط ذلك النظام الذي كان هو والشعب على طرفي نقيض، مما جعل أي أمل في إصلاح الأوضاع السياسية في البلاد أمرٌ مستحيل، وأيقن الشعب وقواه الوطنية، والضباط الوطنيون في الجيش أن الطريق لإصلاح الأوضاع لا يمكن إلا بقلب النظام القائم، وإنهاء سلطة تلك الزمرة التي باعت نفسها ووطنها للإمبرياليين.
أما حكومة نور الدين محمود فقد أنجزت المهمة التي كلفها بها الوصي عبد الإله في قمع الوثبة الشعبية العارمة، ولم يبقَ أي مبرر لاستمرارها، وعليه تقدم نور الدين محمود باستقالة حكومته إلى الوصي في 23 كانون الثاني 1953، وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه، وكلف الوصي السيد جميل المدفعي بتأليف الوزارة الجديدة للمرة السادسة في 29 كانون الثاني 1953، وجاءت الوزارة على الشكل التالي :
1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء.
2 ـ علي جودت الايوبي ـ نائباً للرئيس.
3 ـ نوري السعيد ـ وزيراً للدفاع.
4 ـ توفيق السويدي ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ أحمد مختار بابان ـ وزيراً للعدلية.
6ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للمالية.
7 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
8 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد.
9 ـ حسام الدين جمعة ـ وزيراً للداخلية.
10 ـ عبد الرحمن جودة ـ وزيراً للزراعة.
11 ـ خليل كنه ـ وزيراً للمعارف.
12 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للصحة.
 13ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.

 ومن الملاحظ في التشكيلة الوزارية هذه أنها جاءت تضم أكبر تجمع لأقطاب السلطة الحاكمة منذ تأسيس الدولة العراقية، وجاءت معبئة كل قواها لإعادة البلاد إلى مرحلة ما قبل وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948، وكان لهؤلاء الساسة المخضرمين دور غير مشرف في تاريخ العراق السياسي، وكانوا منفذين لسياسة المحتلين البريطانيين، وعاملين بأمرهم.
لقد وقف عدد من النواب الوطنيين في البرلمان يهاجمون الحكومة الجديدة، ويفضحون رجالها، فقد قال نائب البصرة [عبد الرزاق الحمود] مخاطبا المجلس والحكومة قائلاً:
{ يتبادر لذهن قارئ يتلو قائمة هذه الوزارة أن العناصر المحافظة قد حشدت قواها، ونظمت صفوفها لتدعيم مركزها، والرجوع إلى عهد ما قبل الوثبة الوطنية عام 1948، وإذا استعرض أي عراقي هذه الأسماء يجد بعض هؤلاء هم الذين كتبوا بيمينهم تاريخ العراق السياسي الحديث أو معظمه على أقل تقدير، وهذا التاريخ فيه صفحات غير مشرفة، بل صفحات قاتمة فيها أمور تثير الأسى، وتحز في النفوس ....إن على الحكومة أن لا تفكر هذه الأيام في إرضاء المجلس، وهي مستطيعة حتماً، ولكني أتساءل إن كان بإمكانها إرضاء رجل الشارع ؟ لأنه إذا انفجر الشارع مرة أخرى فإنه سيكون كالبركان، يعصف بالجميع}.
أما الشيخ [محمد رضا الشبيبي] الذي شارك في العديد من الوزارات السابقة فقد قال:
{ إن البلاد مغلوب على أمرها، وإن الأجنبي الغاشم يتدخل في شؤونها، وإنه يلتزم فريقاً معيناً من الناس ويفرضهم فرضاً على البلاد، ويناهض كل فئة واعية لها آراؤها المحترمة، وتفكيرها السياسي الناضج منذ زمان طويل الى هذا اليوم. لقد انشطرت البلاد مع بالغ الأسف بسبب هذه السياسة، تجاهلنا جيل واعٍ حديث، تفكيره وآراؤه ومناهجه تختلف كل الاختلاف عن تفكيرنا نحن أبناء الجيل القديم الذين اشغلنا المناصب مراراً كثيرة، والذين أبينا أن نفسح المجال في أغلب الأحيان لغيرنا، أو أن نعد أناساً لإشغال هذه المناصب فيما إذا أنتهي أمرنا}.

لقد بقيت البلاد تحكم حكماً عرفياً، وبقت الصحف والأحزاب السياسية ملغاة، والبؤس والفقر يفتك بملايين المواطنين، وكان كل ما تفكر به الوزارة هو تثبيت ذلك لنظام الذي أسسه الإمبرياليون البريطانيون، وتنفيذ كل ما يؤمرون به من قبل السفارة البريطانية في بغداد، والتي كانت تتدخل بكل صغيرة وكبيرة. فلا يمكن أن تُشكل وزارة دون إرادتها ومباركتها.

لقد استمرت الأحكام العرفية طوال عهد هذه الوزارة والوزارة التي أعقبتها، وكانت برئاسة المدفعي نفسه، واستمر تعطيل الصحف، ولم يُسمح للأحزاب بممارسة نشاطها، رغم المذكرات التي رفعها كل من السادة[كامل الجادرجي] رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، و[محمد مهدي كبه] رئيس حزب الاستقلال إلى رئيس الوزراء، وطالباه فيها إنهاء الأوضاع الشاذة في البلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وعودة الصحافة الوطنية للصدور، واستعادة الأحزاب الوطنية لنشاطها السياسي.

 فقد بعث السيد محمد مهدي كبه بمذكرته الأولى في 31 كانون الثاني 1953، وبعث السيد كامل الجادرجي بمذكرته الأولى في 1 شباط 1953، ولما كان رد رئيس الوزراء غير مقنع، وكان مقتضباً، وحاول التهرب من الإجابة الصريحة، رافضاً إعطاء موعد محدد لإلغاء الأحكام العرفية، وعودة النشاط السياسي للأحزاب، وعودة الصحف الملغاة، فقد رد الزعيمان كبه، والجادرجي على رئيس الوزراء بمذكرتين جديدتين في 14 شباط 1953، اتهماه بالمراوغة وتجاهل المطالب التي قدماها له، والمعبرة عن تطلعات الشعب. لكن الحكومة كانت في وادٍ والشعب وقواه السياسية الوطنية في وادٍ آخر، مما دفع بالصراع بين الطرفين إلى التصاعد من جديد.
 لقد تجلى ذلك الصراع في الإضراب الذي حدث في دار المعلمين الابتدائية، على أثر فصل أحد طلابها في آذار 1953، واعتصام الطلاب في بناية الدار، ومسارعة طلاب كليتي الطب والصيدلة إلى إعلان الإضراب عن الدراسة دعماً لموقف طلاب دار المعلمين الابتدائية، كما تقدموا بمطالب سياسية تدعو إلى إلغاء الأحكام العرفية، وإشاعة الديمقراطية في البلاد.
وهكذا بدأت نذر الانفجار تتولد من جديد بسبب إصرار النظام القائم على السير في نفس الطريق الذي اختاره لهم أسيادهم الإمبرياليون، غير مبالين بمصالح الشعب وحقوقه المسلوبة، ودون الاتعاظ بالأحداث الماضية.






6

دراسة عن الحرب العراقية الإيرانية
                                         القسم الثاني
حامد الحمداني                                        11/8/2019     
           

أولاً: إيران تستعيد قدراتها، وتشن الهجوم المعاكس:

في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه، بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في تلك الحرب.

لقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري، مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية!، وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال، وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء، ولبس قسم منهم الأكفان، وهم يتقدمون الصفوف.
وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع الجيش الإيراني، والحرس الثوري من تطويق القوات العراقية، وخاض ضدها معارك شرسة، ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الجلاد صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.

 واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري، وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [ خرم شهر] وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة، واشتدت المعارك بين الطرفين، واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [خوزستان] في تموز من عام 1982، بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من القتلى، وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية، وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب، وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط .
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق، وأصروا على مواصلة الحرب، وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم.
وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان، حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها، مستغلاً قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام  1982 باجتياح لبنان، واحتلالها للعاصمة بيروت، وفرضها زعيم القوات الكتائبية [بشير الجميل] رئيساً للبلاد، تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني، لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه، مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة.
 إلا أن حكام إيران، وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي، وأصروا على مواصلة الحرب، وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان، لتقديم الدعم للشعب اللبناني، وقد رفض حكام العراق الطلب الإيراني كذلك.

وحاول حكام العراق بكل الوسائل والسبل وقف الحرب، ووسطوا العديد من الدول، والمنظمات، كمنظمة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب، وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران، في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين، حيث أُسقطت طائرته، ولف الحادث الصمت المطبق، وبقي سراً من الأسرار.

كما اغتيل رئيس وزراء السويد [أولف بالمه] الذي بذل جهوداً كبيرة من أجل وقف القتال، في أحد شوارع العاصمة السويدية، وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك، وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي، والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة.

لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب، من أعظم الأخطاء التي وقعوا فيها، ولا يمكن تبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال، فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988، إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين العراقي والإيراني، وبُددت ثروات البلدين، وانهار اقتصادهما، وتراكمت عليهما الديون، وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا، كما كانت شعاراتهم تقول.

لا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونوا عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية، وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة، وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة، والمعدات وقطع الغيار، والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين، من أجل إطالة أمد الحرب، وعليه كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين  بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية المجرمة والمتمثلة بصدام حسين وزمرته، والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً حيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب، أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال.

لقد كان أحرى بالنظام الإيراني، وبالإمام الخميني على وجه التحديد وهو رجل الدين الأول في إيران إيقاف القتال، وحقن الدماء، والعمل بقوله تعالى:
{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله }.
 وقوله في آية أخرى:
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين}،
كما جاء في آية ثالثة قوله:
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فاصلحوا بينهم }.

 تلك هي آيات قرآنية، تحث على السلام، وحل المشاكل بالحسنى والعدل. وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات، وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب، ليسوا صدام حسين وزمرته، وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين؟

ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين  ويمدوهم بالسلاح والمعلومات العسكرية، أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية استهدفت البلدين والشعبين والجيشين، من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج، وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟
 ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب خدمة كبرى للإمبرياليين، وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما؟

 لقد أعترف صدام حسين عام 1990، بعد إقدامه على غزو الكويت، في رسالة إلى الرئيس الإيراني [هاشمي رفسنجاني]، أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية، حيث ورد في نص الرسالة ما يلي :
{إن هناك قوى أجنبية كانت لها يد في الفتنة}.

لكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة، وبشكل دقيق، لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين أشعل الحرب بأمر أو تحريض أمريكي، وظن أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة ولعب دور شرطي الخليج، بعد أن كانت إيران على عهد الشاه تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً واسعاً على الخليج.

لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية، ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل، كما يقول المثل، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه البررة، وبدد صدام حسين ثروات البلاد، وأغرق العراق بالديون، ودمر اقتصاده، ولم يستفد من تلك الحرب سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما، ومن قبل الإمبرياليين أساس البلاء.

ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق كقيام ثورة [ شيعية ] تسقط نظام صدام، لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق لسبب بسيط وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني، ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة، وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج، وليس أدل على ذلك من إعلان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي دُعي بمبدأ كارتر، وجاء فيه ما يلي :
{إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية}.

هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج، والتي جهلها أو تجاهلها حكام البلدين، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب في القرن العشرين.



ثانيا: استمرار الحرب، وإيران تستكمل تحرير أراضيها:

اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام 1983 ـ 1986، حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين، واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان، أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب، وشنت هجوماً واسعا على القوات العراقية، مسددة له ضربات متواصلة استطاعت من خلالها تحرير مدن  [قصر شيرين] و[سربيل زهاب] و[الشوش]، وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية، ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح، والمعدات، وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه، والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تركوا في ساحات المعارك، ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية.

 ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة، وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً، وغضباً على صدام ونظامه الذي ورط العراق بتلك الحرب، وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف، فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب الموت الزؤام.

لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ  من المال، أو قطعة أرض أو شقة  أو دار، وكانت الحكومة السعودية، وحكام دول الخليج الأخرى تدفع الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى، ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي، بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب، واستنفذ كل موارد العراق النفطية  والبالغة 25 مليار دولار سنوياً، هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون، والتي جاوزت حدود أل 90 مليار دولار.

لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره، ومستوى معيشة شعبه، نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية وأراضي زراعية خصبة، ومياه وفيرة، ولكن الجلاد آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر، والوطن نحو الدمار والخراب.

ثالثاً:الجيش الإيراني يحتل شبه جزيرة الفاو وجزر مجنون الغنية بالنفط 

اشتدت المعارك بين الجيشين العراقي والإيراني، وبدت إيران في وضع يمكنها من شن الهجمات البشرية المتتالية، تارة على القاطع الجنوبي نحو البصرة، وتارة أخرى نحو القاطع الأوسط، حول مدن مندلي وبدرة وجصان، وتارة ثالثة نحو القاطع الشمالي المحاذي لكردستان، وكان الوضع في كردستان في غير صالح النظام، بالنظر إلى الجرائم التي أقترفها بحق الشعب الكردي، مما دفع الأكراد إلى الوقوف إلى جانب إيران رغبة في إسقاط النظام، واستطاعت القوات الإيرانية من احتلال أجزاء من المناطق في كردستان.

 أما هجماته في القاطعين الأوسط والجنوبي، فقد كان حكام العراق قد حشدوا قوات كبيرة مجهزة بشتى أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي أستخدمها صدام حسين لدحر الهجمات الإيرانية، موقعاً خسائر جسيمة في صفوف القوات الإيرانية والعراقية، حيث سقط عشرات الألوف من جنود وضباط الطرفين في تلك المعارك الشرسة التي تقشعر من هولها الأبدان، ولم يفلح الإيرانيون في الاحتفاظ بأي تقدم داخل الأراضي العراقية حتى نهاية عام 1985.

لكن الوضع أصبح خطيراً بالنسبة للعراق عام 1986، عندما استطاعت القوات الإيرانية الاندفاع نحو شبه جزيرة الفاو واحتلالها بأكملها بعد معارك دموية شرسة  ودفع فيها الشعب العراقي ما يزيد على 50 ألف من أرواح أبنائه، في محاولة من صدام حسين لاستعادتها من أيدي  الإيرانيين، وكان الإيرانيون يستهدفون من احتلالها قطع الاتصال بين العراق ودول الخليج العربي، التي كان العراق يحصل على الأسلحة والمعدات عن طريقها، إضافة إلى محاولة إيران منع العراق من تصدير نفطه عن طريق الخليج، وحرمانه من موارده النفطية اللازمة لإدامة ماكينته الحربية، وقد أضطر العراق إلى مد أنبوبين لنقل النفط إلى الأسواق الخارجية، الأول عبر الراضي التركية، والثاني عبر الأراضي السعودية بعد أن أصبح نفطه مطوقاً، وسيطرت البحرية الإيرانية على مداخل الخليج.  وأستمر الإيرانيون في تكثيف هجماتهم على القوات العراقية بعد احتلالهم شبه جزيرة الفاو وركزوا على منطقة [جزر مجنون] الغنية جداً بالنفط، واستطاعوا احتلالها بعد معارك عنيفة. 

رابعاً: النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل:

كاد صدام يفقد صوابه، بعد أن تطورت الأوضاع على جبهات القتال لغير صالح العراق، وبدأ يعبئ كل موارد البلاد لخدمة المجهود الحربي، كما أخذ يطلب المساعدة من دول الخليج، ومن السعودية بشكل خاص، وشعر حكام الخليج أن الخطر قد بدأ يتقدم نحو المنطقة، فسارعوا إلى تقديم كل أنواع الدعم، والمساعدة المالية، وحصل العراق في تلك الفترة على 12 مليار دولار، وكان عدد من الدول العربية كمصر والسعودية والكويت تقوم بشراء الأسلحة لحساب العراق.

غير أن حكام العراق وجدوا أخيراً أن السعي لإنشاء مصانع الأسلحة ذات الدمار الشامل يمكن أن تكون أداة فعالة لدفع الخطر عن البلاد، وتم إنشاء هيئة التصنيع العسكري، وبدأ العراق بإنتاج الأسلحة الكيماوية، مستفيدين من خبرة العلماء المصريين، وبعض العلماء الأجانب، الذين سبق وعملوا في برامج الأسلحة الكيماوية في عهد عبد الناصر، وأوقفها السادات من بعده، ثم بدأ العراق في إنتاج وتطوير الصواريخ من طراز[سكود]، وطوروا مداها لكي تصل إلى أبعد المدن الإيرانية.

  وكان الإيرانيون قد حصلوا على عدد من تلك الصواريخ، وضربوا بها العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى، حيث كانت تلك الصواريخ تطلق نحو العراق كل بضعة أيام أو أسابيع لتصيب الأهداف المدنية، وتفتك بالأبرياء، فقد أصاب أحد تلك الصواريخ مدرسة ابتدائية في بغداد، وقتل العديد من الأطفال وجرح أعداد أخرى، وكان الشعب العراقي ينتابه القلق الشديد كل يوم من هذا السلاح الخطير، حيث لا أحد يعلم متى وأين سيقع الصاروخ، وكم سيقتل من المواطنين الآمنين!.

وتمكن العراق من الحصول على أعداد كبيرة من تلك الصواريخ، وبدأ في تطويرها، وزيادة مداها، وبدأ حكام العراق يطلقونها على العاصمة الإيرانية والمدن الأخرى بكثافة، حتى جاوز عدد الصواريخ التي أطلقوها على المدن الإيرانية أكثر من [1000 صاروخ]، منزلين الخراب والدمار بها، وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، وأخذت الحرب تزداد خطورة وأذى للسكان المدنيين.

كما تمكن العراق من إنتاج كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية، واستخدمها في صد هجمات القوات الإيرانية منزلاً بها الخسائر الجسيمة في الأرواح، كما راح حكام العراق يعبئون صواريخ سكود بالغازات السامة، كغاز[الخردل] و[السارين] السامين، ثم بدءوا يتطلعون إلى تطوير ترسانتهم الحربية في مجال الأسلحة البيولوجية والجرثومية، وتمكنوا من إنتاجها وتعبئة القنابل بها.

أحدث برامج التسلح العراقي هذا، قلقاً كبيراً لدى إسرائيل، التي كانت تتابع باهتمام بالغ تطوير برامج التسلح العراقي، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلية [الموساد] بحملة ضد العلماء الذين ساهموا في تطوير البرامج، وضد الشركات الغربية التي جهزت العراق بالأجهزة، والمعدات اللازمة لتطويرها، وخاصة الشركات الألمانية والفرنسية والأمريكية والبلجيكية والسويسرية، التي بلغ عددها أكثر من 300 شركة.

كما قام الموساد باغتيال العالم المصري، والأمريكي الجنسية [يحيى المشد] الذي عمل في تطوير الأسلحة العراقية ذات الدمار الشامل، كما أغتال العالم البلجيكي، الدكتور[جيرالد بول] في بروكسل، حيث كان هذا العالم يعمل لإنتاج المدفع العملاق للعراق، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلي أيضاً بنسف توربينات المفاعل النووي [أوزيراك] في ميناء [مرسيليا] الفرنسي، حيث كان معداً لنقله إلى العراق. غير أن العراق واصل نشاطه في بناء مفاعل جديد بإشراف العالم النووي العراقي [جعفر ضياء جعفر]، الذي استطاع أن يحقق نجاحاً بارزاً في هذا المجال، وكان  ذلك يجري تحت سمع وبصر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين ومساعدتهم، من أجل إبقاء نار الحرب مشتعلة بين العراق وإيران. 

انتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث

7
دراسة عن الحرب العراقية الإيرانية
القسم الأول 1/3
حامد الحمداني                                 8/8/2019
تمهيد
منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 968 [عبد الرزاق النايف] بدأ نجمه يتصاعد حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، رغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.

وعندما حلت الذكرى الحادية عشر لانقلاب 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.

أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان وراءه!.

أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية وأبرزها:

1ـ إفشال التقارب الحاصل بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ما سمي بميثاق العمل القومي آنذاك، والذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.

2ـ احتواء الثورة الإسلامية في إيران، ولاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدأوا يتطلعون إلى تصدير الثورة، ونشر مفاهيم الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل إلى ذلك هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين الكبيرين في المنطقة بحرب سعت الولايات المتحدة إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، كما سنرى.

3ـ مكافحة النشاطات الشيوعية، في البلاد، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر أفكار الثورة الإسلامية في المنطقة.

4ـ بالإضافة لما سبق كانت تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، وتزعم العالم العربي قد طغت على تفكيره، ووجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته.

لم يكن انقلاب صدام ضد البكر بمعزل عن المخططات الأمريكية، فقد قام مساعد وزير الخارجية الأمريكي بزيارة لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر وبحث معه في مسالتين هامتين بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية:

المسألة الأولى: تتعلق بتطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل التي تحرص على عدم السماح بإقامة الوحدة بين العراق وسوريا.

 المسألة الثانية: دارت حول الأوضاع في إيران، بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وسعى الموفد الأمريكي إلى تحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري، وقيل بأن الرئيس البكر لم يقتنع بفكرة الموفد الأمريكي، وخاصة وأن البكر رجل عسكري يدرك تمام الإدراك ما تعنيه الحرب من ويلات ومآسي، وتدمير لاقتصاد البلاد.

وبعد انتهاء اللقاء مع البكر التقى الموفد الأمريكي مع صدام الذي كان آنذاك نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبحث معه نفس المواضيع التي بحثها مع البكر، وقد أبدى صدام كل الاستعداد للقيام بهذا الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.

لم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر، بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه، على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع وانتهاءً بكل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة.

لقد أخذت أجهزته القمعية تمارس أبشع الأعمال الإرهابية بحق العناصر الوطنية من ِشيوعيين وإسلاميين وقوميين وديمقراطيين، بالإضافة للشعب الكردي، وملأ السجون بأعداد كبيرة منهم، ومارس أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم، وقضى العديد منهم تحت التعذيب.

لقد كانت ماكنة الموت الصدامية تطحن كل يوم بالمئات من أبناء الشعب، لكي يقمع أي معارضة لحكمه، وحتى يصبح مطلق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات التي تتحكم بمصير الشعب والوطن، ولكي يعدّ العدة، ويهيئ الظروف المناسبة لتنفيذ الدور الذي أوكلته له الإمبريالية الأمريكية، في العدوان على إيران.

لقد وصل الأمر بصدام حسين أن جمع وزراءه، وشكل منهم فريق إعدام في سجن بغداد، لكي يرهب كل من تسول له نفسه بمعارضته، كما قام بإعدام عدد كبير من ضباط الجيش، لكي يصبح وحده الأقوى في المؤسسة العسكرية، رغم أنه لم يكن في يوم من الأيام عسكرياُ.
 
العلاقات العراقية السورية:
 رغم أن العراق وسوريا يحكمهما حزب البعث، إلا أن العلاقات بين الحزبين، والبلدين اتسمت دائماً بالخلافات والتوتر الذي وصل إلى درجة العداء والقطيعة لسنين طويلة، وتطور العداء بين الحزبين إلى حد القيام بأعمال تخريبية، وتدبير التفجيرات، وغيرها من الأعمال التي أدت إلى القطيعة التامة بين البلدين.

ولا شك أن لأمريكا وإسرائيل دور أساسي في إذكاء العداء والصراع بين البلدين الشقيقين، ذلك لأن أي تقارب بينهما ربما يؤدي إلى قيام وحدة سياسية تقلب موازين القوة بين سوريا وإسرائيل نظراً لما يمتلكه العراق من موارد نفطية هائلة، وقوة عسكرية كبيرة، بالإضافة إلى ما يشكله العراق من امتداد إستراتيجي لسوريا في صراعها مع إسرائيل، وهذا ما تعارضه الولايات المتحدة وإسرائيل أشد المعارضة.
وفي أواخر عام 1978، وأوائل عام 1979، جرت محاولة للتقارب بين البلدين، تحت ضغط جانب من أعضاء القيادة في كلا الحزبين السوري والعراقي، وقد أدى ذلك التقارب إلى تشكيل لجان مشتركة سياسية واقتصادية وعسكرية، وعلى أثر توقيع ميثاق للعمل القومي المشترك الذي وقعه الطرفان في تشرين الأول عام 1978، وقد أستهدف الميثاق بالأساس إنهاء القطيعة بين الحزبين والبلدين الشقيقين، وإقامة وحدة عسكرية تكون الخطوة الأولى نحو إقامة الوحدة السياسية بين البلدين، وتوحيد الحزبين.

 كان وضع سوريا في تلك الأيام قد أصبح صعباً بعد أن خرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، وعقد السادات اتفاقية [كامب ديفيد] مع إسرائيل مما جعل القادة السوريين يقرون بأهمية إقامة تلك الوحدة للوقوف أمام الخطر الإسرائيلي.

وبالفعل فقد تم عقد عدد من الاتفاقات بين البلدين، وأعيد فتح الحدود بينهما، وجرى السماح بحرية السفر للمواطنين، كما أعيد فتح خط أنابيب النفط [التابلاين] لنقل النفط إلى بانياس في سوريا، والذي كان قد توقف منذُ نيسان 1976.

وفي 16 حزيران تم عقد اجتماع بين الرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر في بغداد، ودامت المحادثات بين الرئيسين ثلاثة أيام أعلنا في نهايتها أن البلدين سيؤلفان دولة واحدة، ورئيس واحد، وحكومة واحدة، وحزب واحد، وأعلنا تشكيل قيادة سياسية مشتركة تحل محل اللجنة السياسية العليا التي جرى تشكيلها بموجب اتفاق تشرين الأول 1978، والتي ضمت 7 أعضاء من كل بلد، يترأسها رئيسا البلدين، وتجتمع كل ثلاثة أشهر لتنسيق السياسات الخارجية، والاقتصادية، والعسكرية.

تدهور العلاقات العراقية السورية:
لم تمضِ سوى بضعة أشهر على الاتفاق الذي عقده البكر والأسد، حتى أزيح البكر عن السلطة، وتولى صدام حسين قيادة الحزب والدولة في العراق، وبدا بعد إقصاء البكر، أن هزة عنيفة قد ألمت بالعلاقة بين قيادة  البلدين والحزبين، وبدأت الغيوم السوداء تغطي سماء تلك العلاقة.

وفي 28 كانون الأول 1979، جرى لقاء قمة بين الأسد وصدام في دمشق دام يومين، وقد ظهر بعد اللقاء أن الخلافات بين القيادتين كانت من العمق بحيث لم تستطع دفع عملية الوحدة إلى الأمام، بل على العكس تلاشت الآمال بقيامها، وهكذا بدأت العلاقة بالفتور بين البلدين من جديد، واتهمت سوريا القيادة العراقية بوضع العراقيل أمام تنفيذ ما أتُفق عليه في لقاء القمة بين الأسد والبكر.
أدى هذا التدهور الجديد في العلاقة بين الحزبين، إلى وقوع انقسام داخل القيادة القطرية في العراق، قسم وقف إلى جانب الاتفاق المبرم بين الأسد والبكر، وقسم وقف إلى جانب صدام حسين، فما كان من صدام إلا أن أتهم الذين أيدوا الاتفاق بالاشتراك بمؤامرة مع سوريا على العراق، وجرى اعتقالهم، وتعذيبهم حتى الموت، ثم أعلن صدام حسين، عبر الإذاعة والتلفزيون، أن هذه المجموعة قد تآمرت على العراق، وأحيلت إلى محكمة حزبية قررت الحكم عليهم بالإعدام وجرى تنفيذ الأحكام بحقهم.

لكن الحقيقة أن هذه المجموعة أرادت تحقيق الوحدة أولاً، والتخلص من دكتاتورية صدام حسين ثانياً، بعد أن أغتصب السلطة من البكر بقوة السلاح.
وهكذا ذهبت الآمال بتحقيق الوحدة أدراج الرياح، وتدهورت العلاقة بين البلدين من جديد، وفرض صدام حسين سلطته المطلقة على قيادة الحزب والدولة دون منازع، وأصبح العراق ملجأ لكل المناوئين للحكم في سوريا ابتداءً من [ أمين الحافظ] و[ميشيل عفلق] وانتهاءً بالإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى العراق بأعداد كبيرة، بعد فشل حركتهم في مدينة حماه عام 1982.

ولم يقتصر تدهور العلاقات بين البلدين على القطيعة، والحملات الإعلامية، بل تعداها إلى الصراع العنيف بين الطرفين على الساحة اللبنانية، حيث أدخلت سوريا عدد من قطعاتها العسكرية في لبنان ضمن قوات الردع العربية لمحاولة وقف الحرب الأهلية التي اندلعت هناك عام 1975.غير أن القوات المشتركة العربية انسحبت من لبنان فيما بعد، تاركة القوات السورية لوحدها هناك.

وانتهز صدام حسين الفرصة ليرسل إلى القوى الطائفية الرجعية المعادية لسوريا السلاح والعتاد والعسكريين لمقاتلة الشعب اللبناني، والقوات السورية والفلسطينية، وأصبح لبنان مسرحاً للصراع بين البلدين، واستمر الحال في لبنان حتى سقوط حكومة [ميشيل عون] حليف صدام ضد سوريا، وانتهاء الحرب الأهلية، وانعقاد مؤتمر الطائف للأطراف اللبنانية المتصارعة لحل الخلافات بينهم، وإعادة الأمن والسلام إلى ربوع لبنان الذي مزقته تلك الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً.

  وهكذا حقق صدام حسين للإمبريالية الأمريكية ما كانت تصبو إليه، حيث عادت العلاقات بين سوريا والعراق إلى نقطة الصفر من جديد، وتحقق الهدف الأول الذي رسمته له، وبدأت تتفرغ للهدف الثاني الهام، هدف التصدي للنظام الإيراني الجديد، وخلق المبررات لصدام لشن الحرب على إيران في الثاني والعشرين من أيلول عام 1980، تلك الحرب التي كانت لها نتائج وخيمة على مستقبل العراق وشعبه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وكانت سبباً مباشراً لأقدام صدام حسين على غزو الكويت، وبالتالي قيام حرب الخليج الثانية، التي جلبت على العراق وشعبه من ويلات ومآسي، وخراب ودمار لم يسبق لها مثيل.
العلاقات العراقية الإيرانية، ودور أمريكا في تأجيج الصراع بينهما
اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي]، حيث قام الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية المتعلقة باقتسام مياه شط العرب بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين أحدهما للعراق والآخر لإيران، وقيام شاه إيران والولايات المتحدة بدعم الحركة الكردية التي حملت السلاح ضد السلطة القائمة آنذاك، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود، واستمرت زمناً طويلاً، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي، واضطر حكام بغداد إلى التراجع، ووسطوا الرئيس الجزائري [هواري بو مدين] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين.

 وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية، وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975،وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد!، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع البعثيون إنهاءها، وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد.
 
وفي عام 1979 في أواخر عهد البكر وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية، وأتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة.

 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري، يقوده [حزب تودا الشيوعي] و [مجاهدي خلق]، ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ، فهي لا ترتاح لسيطرة للطرفين.
 لكن التيار الشيوعي كان يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.

وبناء على ذلك فإن مجيء الشيوعيين إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت الولايات المتحدة [أهون الشرين] بالنسبة لها طبعاً!، وهو القبول بالتيار الديني خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس، لتسلم زمام الأمور بعد هروب الشاه من البلاد، وهكذا تمكن التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران، من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة. فالعراق، وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.
 وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية تدعى [عربستان ].

لم يدرِ بخلد صدام حسين ماذا تخبئه له الأيام؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب؟ وكم ستكلف الشعب العراقي من الدماء والدموع، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين، فلقد صرح الرئيس الأمريكي [ ريكان ] حول الحرب قائلاً:

{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة}!!.
وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر، الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية، فقد صرح قائلاً :{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ تمنينا أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج أحد منها منتصراً وإنما كلا الطرفين مهزومين}!! .
وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.
 
لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون، وصور الأقمار الصناعية، تلك المجازر الوحشية التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وتفاخر صدام أمام القائم بأعمال السفارة الأمريكية بعد مغادرة السفير [كلاسبي] العراق وقبيل غزو صدام للكويت  بزهو قائلاً:
{ هل تستطيع الولايات المتحدة تقديم 10 آلاف شهيد في معركة واحدة؟ نحن أعطينا 50 ألف شهيد في معركة تحرير الفاو}.

هكذا وبكل وقاحة دفع صدام وأسياده الأمريكان أكثر من نصف مليون شهيداً من شباب العراق في عمر الزهور، ودون وازع من ضمير وأخلاق.
كانت مصالح الإمبرياليين الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن عميلهم صدام قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم، بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني شعب جار تربطه بنا علاقات تاريخية عميقة، تمتد جذورها لقرون عديدة.

كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .
لكن ذلك التقدم لم يدم طويلاً، وتمكن الجيش الإيراني من طرد القوات العراقية الغازية من إقليم خوزستان شّر طردة عام 1982، مكبداً القوات العراقية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، ولنا عودة إلى تلك الحرب، وتفاصيل مجرياتها، في حلقة قادمة.

بداية الحرب وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية  بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران وكافة المراكز الحيوية فيها ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية، وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة، وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين:

1 ـ الجبهة الأولى: في المنطقة الوسطى من الحدود  باتجاه [قصر شيرين]، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو محافظة ديالى و بغداد، وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال[ قصر شيرين].

2ـ الجبهة الثانية: في الجنوب نحو منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى حيث تطل على أعلى الخليج.
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل استطاعت القوات العراقية التي كانت قد استعدت للحرب من السيطرة على منطقة [خوزستان] بكاملها، واحتلت مدينة [خرم شهر] وقامت بالتفاف حول مدينة [عبدان] النفطية وطوقتها.

وعلى الجانب الإيراني قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية، وقصفت العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، إلا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية، وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها، حيث تم نصب المضادات أرض جو فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى، وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد.

 وهكذا فقد فقدت إيران أعدادا كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق، كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة، مما اضعف قدرات سلاحها الجوي، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين. وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب فيما يخص تجهيزها بالأسلحة، كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب.

 كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق، وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان، حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل، وقام السادات بالدور الموكول له، وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981، كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة والمدافع عيار 122 ملم طيلة سنوات الحرب.

لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي، حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي، فقد بلغ قيمة ما باعه السادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد، وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية، وكان صدام حسين مرغماً على قبولها.

أما الاتحاد السوفيتي فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق بعد توقف لفترة من الزمن  وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55  و250 دبابة طرازT 72)) كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات [ميك] و[سوخوي] و[ توبوليف] بالإضافة إلى الصواريخ.

كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل بمليارات الدولارات لشراء الدبابات والمدرعات وأسلحة أخرى، وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية، واستمرت العلاقات التسليحية مع البرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.

 وهكذا استمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب] و[الشوش] و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى.
                                   
كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي في العمق الإيراني عابرة نهر الطاهري، وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي بأمر من صدام حسين !!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله وتطويقه، رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهظاً من أرواح جنوده، ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش بعد عملية التطويق الإيرانية، والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي، واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان، وطرد القوات العراقية خارج الحدود.

إيران تبحث عن السلاح:
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن، وتمكنت تلك العناصرعن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وهما
[أودولف سكويمر] و[يلكوف نامرودي]، بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي[عدنان خاشقجي]الذي قام بدور الوسيط؟
 وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران حيث كانت تعتبر العراق يشكل خطراً عليها، وإن إضعافه وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل، ولم يكن تصرفها ذاك يجري بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة                                                                                                                                                                                        ورضاها واستراتيجيتها، إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين.
             
وفي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية، وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران، وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم.
إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى  تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها.

 وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى هي ما سمي [إيران ـ كونترا]على عهد الرئيس الأمريكي [رونالد ريكان] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور  [جون تاور] وعضوية السناتور [ادموند موسكي] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت] وذلك في 26 شباط 19987، وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران، وموضوع الحرب العراقية الإيرانية، وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:
الهدف الأول: يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.
الهدف الثاني: هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي.
 لقد قام الكولونيل [أولفر نورث] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس  الذي كان قد أصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى متمردي الكونترا في نيكاراغوا حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد، وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.

وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك، إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس[ريكان] ومستشاره للأمن القومي [مكفرن] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية  لإزالة ورم سرطاني في أمعائه، وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران حيث أجابه الرئيس ريكان على الفور: [أذهب وافتحه].

وبدأ الاتصال المباشر مع إيران حيث سافر [أولفر نورث] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها، وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران، لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي المتخلف، وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة.
ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران، على إسرائيل والولايات المتحدة فقط، وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة، ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.

 إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي
 انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي نظام صدام لبناء برنامجه النووي حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار.

وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد، وانغمار العراق في تلك الحرب، مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك. وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل، إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم] من اليورانيوم المخصب بنسبة 93%  وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية.

 لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية بعد أن غرقوا في خضم تلك الحرب المجنونة، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، ولم يدر في خلدهم أن تلك الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق الجلاد صدام الشعب العراقي بالدماء، ويعم بالبلاد الخراب والدمار، وينهار اقتصاد العراق.

انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية


8
في الذكرى الحادية والستين
ثورة 14تموز المجيدة وإنجازاتها
حامد الحمداني                                                    11/7/2019

لم تكن ثورة 14 تموز 1958 المجيدة حدثاً آنياً على الإطلاق، بل كانت في الحقيقة نتيجة تراكم كمي هائل من التناقضات بين الحاكمين والمحكومين عبر أربعة عقود من الزمن امتدت منذُ الاحتلال البريطاني للعراق إبان الحرب العالمية الأولى حتى قيام الثورة.
لقد خاض شعب العراق خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة صراعاً مريراً ضد الاحتلال البريطاني في بادئ الأمر، وتجلى ذلك الصراع في ذروته في [ ثورة عام 1920 ] ،عندما حمل الشعب العراقي السلاح بوجه المحتلين ،وأمتد لهيب الثورة ليشمل العراق كله ، من أقصاه إلى  أقصاه ،وقد كلفت تلك الثورة المحتلين خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات ،وأثقلت كاهل الاقتصاد البريطاني المتعب أصلاً، بسبب التكاليف الباهظة للحرب العالمية الأولى ،والتي كان لبريطانيا الدور الأساسي فيها .

وفي نهاية المطاف اضطرت بريطانيا إلى تغيير تكتيكاتها السياسية والعسكرية في العراق ولجأت إلى تأليف حكومة محلية موالية لها، وجاءت بالأمير فيصل ابن الحسين ملكاً على العراق، وجمعت حوله العديد من الضباط الشريفيين الذين خدموا في الجيش العثماني، كان منهم نوري السعيد، وجعفر العسكري، وياسين الهاشمي، وطه الهاشمي، وعلي جودت الأيوبي ومولود مخلص، وبكر صدقي، والعديد من الضباط الآخرين.

كما جمعت بريطانيا العديد من شيوخ العشائر حول النظام الجديد، وملّكتهم مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ومنحتهم سلطة واسعة على الفلاحين، وضمتهم إلى المجالس النيابية، ومجالس الأعيان، وبذلك خلقت بريطانيا طبقة حاكمة تعمل لخدمة مصالحها، وتخوض الصراع مع الشعب نيابة عنها، وكانت باكورة تلك الخدمات التي قدمتها الطبقة الحاكمة الجديدة للإمبريالية البريطانية إقرار معاهدة عام 1922، والتي أعطت لبريطانيا الهيمنة الكاملة على مقدرات العراق العسكرية والسياسية والاقتصادية، وجعلت من العراق واحة بريطانية.

وهكذا انتقل الصراع المباشر بين الشعب العراقي والإمبريالية البريطانية إلى صراع مباشر مع السلطة الحاكمة السائرة بركاب الإمبريالية، وخاض الشعب العراقي المعارك المتواصلة مع تلك السلطة، ودفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة من أجل تحقيق طموحه في الحرية والاستقلال ومن أجل حياة كريمة لأبنائه، وتوجيه موارد البلاد لتحقيق مستوى معيشي لائق بدل توجيهها لخدمة المخططات والمصالح الأجنبية قد تجلت تلك المعارك، وذلك الصراع خلال أربعة عقود من الزمن في الأحداث التالية:
1 ـ معركة الشعب ضد إقرار معاهدة عام 1922: التي قيدت العراق بقيود ثقيلة أعطت بموجبها لبريطانيا هيمنة مطلقة على مقدرات العراق، وقد فرضها المندوب السامي البريطاني على المجلس التأسيسي مهدداً إياه بالحل إذا لم يصادق عليها، وقد تصدى الشعب العراقي للمعاهدة بمظاهرات صاخبة، أنزلت الحكومة على أثرها قوات الجيش والشرطة إلى الشوارع، وقمعتها بالقوة المفرطة، ودفع الشعب العراقي تضحيات كبيرة في أول صراع يخوضه ضد الحكم الملكي وضد الهيمنة البريطانية.

2 ـ التصدي لمعاهدة 1930: التي عقدها نوري السعيد والتي كرست الهيمنة البريطانية على العراق من جديد. لقد مهدت السلطة بزعامة نوري السعيد والبلاط الملكي السبيل لإبرام المعاهدة، فاتخذت قراراً بحل المجلس النيابي، أتبعته بإجراءات قمعية لا دستورية، حيث عطلت أكثر من عشرين صحيفة وأحالت العديد من الصحفيين إلى المحاكم، ومنعت الاجتماعات والتجمعات والمظاهرات، وكممت أفواه الشعب، وقامت بأجراء انتخابات مزورة، أسفرت عن برلمان خاضع كلياً لإرادة السلطة والمندوب السامي البريطاني، واستطاع نوري السعيد إبرام المعاهدة المذكورة، على الرغم من رفض الشعب وقواه الوطنية لها، مما عمق التناقض بين الشعب وحاكميه، وتم قمع مظاهرات الشعب بالحديد والنار .

3 ـ الاحتلال البريطاني الثاني للعراق عام 1941: على أثر قيام حركة رشيد عالي الكيلاني، وقد خاض الشعب العراقي جنباً إلى جنب مع الجيش العراقي معارك الحرية ضد الاحتلال ودفع ثمناً باهظاً من دماء الشهداء البررة، لكن القوات البريطانية، بما تملكه من أسلحة ومعدات وجيش مدرب، تمكنت من فرض سيطرتها على العراق عسكرياً من جديد.

4 ـ وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948: احتجاجاً على قيام حكومة صالح جبر ـ نوري السعيد بتوقيع [معاهدة بورتسموث] بعد أن أوشكت معاهدة عام 1930 على الانتهاء، واحتجاجاً على الموقف الخياني للحكومة من القضية الفلسطينية وقيام دولة إسرائيل، وطرد السكان العرب من فلسطين والذين لا يزالون إلى يومنا هذا لاجئين في العديد من البلدان العربية والأجنبية، وقد استطاعت تلك الوثبة إسقاط حكومة صالح جبر ـ نوري السعيد.

5ـ وثبة تشرين المجيدة عام 1952: بسبب تردي الأوضاع المعيشية للشعب، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وانتهاك الحقوق والحريات العامة للشعب، وانتهاك الدستور وتعطيله، وإعلان الأحكام العرفية، وتعطيل البرلمان، وقد أوشكت تلك الوثبة الشعبية على إسقاط النظام الملكي آنذاك لولا إقدام الوصي على العرش عبد الإله إلى إنزال الجيش إلى الشوارع، وقمع الوثبة بالقوة العسكرية.
6 ـ عقد حلف بغداد: الذي ضم كل من العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا بالإضافة إلى ارتباط الولايات المتحدة باتفاقات ثنائية مع هذه البلدان، مما جعلها تهيمن هيمنة مطلقة على الحلف الذي كان موجهاً ضد الاتحاد السوفيتي آنذاك على الضد من مصالح الشعب.
 لقد مهدت حكومة نوري السعيد التوقيع على الحلف بشن حملة شعواء ضد الشعب وقواه السياسية الوطنية، وتصفيته لسائر الحقوق والحريات العامة، وغلق الأحزاب السياسية والصحف، وتعطيل الدستور، وحل البرلمان الذي جرى انتخابه للتو بعد افتتاحه وإلقاء خطاب العرش مباشرة بسبب فوز 11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع 121 نائباً، وأجرى انتخابات جديدة لبرلمان دعي بـ [ برلمان التزكية] حيث تم منع أي معارض للترشيح في تلك الانتخابات وفاز مرشحو الحكومة بالتزكية دون منافس.

7ـ انتفاضة الشعب عام 1956: على أثر العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي بسبب تأميم عبد الناصر لقناة السويس، ودعم حكومة نوري السعيد للعدوان، وقد تصدت حكومة السعيد لتلك الانتفاضة بأقصى درجات العنف الذي مارسته القوات القمعية للسلطة، وفي ظل الأحكام العرفية، والمحاكم العسكرية والسجون التي امتلأت بالوطنيين.

8 ـ قيام جبهة الاتحاد الوطني: التي ضمت الأحزاب الوطنية المعارضة، كل من الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحزب البعث، والتحالف الثنائي بين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني بعد رفض الأحزاب القومية انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني للجبهة بسبب فكرهم القومي الشوفيني المعادي للقومية الكردية.

 9 ـ قيام تشكيلات عسكرية معارضة داخل الجيش: وكان أهمها تنظيمات عبد الكريم قاسم، ومحي الدين عبد الحميد، ورفعت الحاج سري، وتنظيم الحزب الشيوعي، وقد توحدت هذه التنظيمات فيما بعد تحت اسم [اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار] عدا تنظيم الحزب الشيوعي الذي أعلن أنه سيساند أي تحرك عسكري لحركة الضباط الأحرار دون تردد، بسبب ظروف تنظيمية خاصة بالحزب، وقد قام بالفعل بدور بارز في تنفيذ وإسناد الثورة، وقد تم التلاقي بين جبهة الاتحاد الوطني واللجنة العليا للضباط الأحرار، وتم الاتفاق على التنسيق بين الجانبين السياسي والعسكري لتعبئة الجماهير الشعبية  لهذه الأحزاب لتمارس دورها لإسناد أي تحرك للجيش ضد النظام الملكي .
وبالفعل قامت الجماهير الشعبية بدورها المرسوم خير قيام وقدمت إسناداً فورياً لثورة الرابع عشر من تموز 1958 التي استطاعت بفضل ذلك الإسناد تحقيق النصر الخاطف خلال ساعات معدودة، وتم إسقاط النظام الملكي المرتبط بعجلة الامبرياليين، وإقامة الجمهورية العراقية.

لقد تشكلت في العراق ولأول مرة حكومة وطنية خارجة عن إرادة الإمبرياليين بقيادة الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، واستطاعت حكومة الثورة أن تقدم إنجازات كبيرة وهامة لا يمكن نكرانها محدثة ثورة اجتماعية حقيقية في حياة الشعب من خلال تصفية النظام الإقطاعي وتحرير الفلاحين الذين يمثلون 75% من أبناء الشعب من عبودية الاقطاعيين، ويمكننا إيجاز أهم الإنجازات لثورة 14 تموز من دون التوسع فيها في هذه العجالة بالتالي:
1 ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي: الذي جرى بموجبه تصفية الإقطاع وتحرير الفلاحين وتوزيع الأراضي عليهم، وعلى الرغم من الثغرات التي حواها القانون والتي استفاد منها الاقطاعيون، لكنه في كل الأحول كانت ثورة اجتماعية غيرت طبيعة المجتمع العراقي.
2 ـ إصدار قانون الأحوال المدنية: الذي صب في خدمة المرأة العراقية التي تمثل نصف المجتمع العراقي وأنصافها، والتأكيد على حقوقها المشروعة التي سلبها منها المجتمع الذكوري، والقانون يمثل جانباً آخر في الثورة الاجتماعية بلا أدنى شك.
3 ـ الخروج من حلف بغداد الذي ربط العراق بالمخططات العدوانية: حيث تم اتخاذ سياسة مستقلة، وبناء علاقات متكافئة مع سائر بلدان العالم وفي المقدمة الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، على أساس احترام سيادة واستقلال العراق والمصالح المشتركة.
4 ـ الخروج من منطقة الاسترليني: حيث كان الدينار العراقي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالباون البريطاني ينخفض كلما انخفض الباون، وهذا ما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية مما تسبب في تضخم نقدي، وارتفاع الأسعار، وحدوث أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة عانى منها الشعب العراقي أشد المعاناة، وبذلك تحرر العراق من الهيمنة النقدية البريطانية، وتمكن من تنويع مصادر العملات النادرة، واستلام موارده النفطية على أساس سلة من العملات الأجنبية من بينها الدولار الأمريكي وعملات أخرى.
5 ـ معركة النفط مع الشركات الاحتكارية، وصدور القانون رقم 80: الذي تم بموجبه سحب 99،5 %من المناطق العراقية الحاوية على خزين كبير من الثروة النفطية، بعد أن عجزت حكومة الثورة عن إقناع تلك الشركات باستثمار تلك المناطق بالنظر لحاجة العراق للتنمية الاقتصادية، مما اضطر الزعيم عبد الكريم قاسم إلى إصدار القانون المذكور وسحب تلك المناطق من الشركات الاحتكارية، والإعلان عن تأسيس شركة النفط الوطنية.

لقد وجه القانون ضربة كبرى للمصالح الاحتكارية الغربية، مما أثار حنق وحقد شركات النفط  على الثورة وقيادتها، وجعلها تصمم على اغتيال ثورة 14 تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم، وهذا ما تم بالفعل على أيدي عملاء الإمبريالية في حزب البعث وحلفائه القوميين الآخرين في انقلابهم المشؤوم في الثامن من  شباط 1963، حيث جرى اغتيال الثورة وقادتها، وقادة الحركة الوطنية والديمقراطية الأماجد، منهم قادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي، وفي المقدمة منهم سكرتير الحزب الشهيد سلام عادل وصحبه الأبرار بأسلوب التعذيب البشع الذي يندى له جبين الإنسانية.
6 ـ توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي : لغرض استكمال تحرره السياسي بالتحرر الاقتصادي، وبناء البنية التحية للعراق من خلال قيام الصناعة الوطنية  والمشاريع الحيوية التي يحتاجها العراق، وتحرير التجارة من هيمنة الإمبرياليين وشروطهم المجحفة، وقد استطاع العراق  الحصول على قرض من الاتحاد السوفيتي بمبلغ 55 مليون دينار بفائدة بسيطة لا تتجاوز2،5 % لتغطية نفقات التصاميم والمسوح، والبحوث، وكذلك المكائن والآلات والمعدات، والاستفادة منها خلال 7 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية.
وبموجب الاتفاقية تعهد الاتحاد السوفيتي بتقديم كافة المساعدات الفنية، والخبراء والاستشارات ونصب المشاريع، وتنفيذها، وتدريب العراقيين للعمل عليها، وقد شملت تلك المشاريع، الفولاذ والأسمدة، والكبريت، والأدوية، ومعامل إنتاج المكائن والآلات الزراعية ومعمل اللوازم والعدد الكهربائية، ومعمل المصابيح الكهربائية، ومحطة إذاعة، مع أربع مرسلات، ومعمل للزجاج، ومعامل للمنسوجات القطنية والصوفية والتريكو، ومعمل للتعليب وبناء سايلوات كونكريتية للحبوب، ومساعدات فنية لتأسيس خمس مزارع حكومية، ومشاريع الري والبزل للأراضي الزراعية، وتأسيس أربعة محطات لتأجير التراكتورات، هذا بالإضافة إلى القيام بأعمال المسح الجيولوجي، وتصليح الأجهزة الجيولوجية، كما نصت الاتفاقية على بناء خط سكة حديد جديد بين بغداد والبصرة.

لقد اعتُبرت تلك الاتفاقية خطوة جريئة من جانب حكومة الثورة لبناء القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي، وتحريره من التبعية للدول الإمبريالية. كما استطاعت حكومة الثورة أن تعقد مع الاتحاد السوفيتي اتفاقية أخرى لتسليح الجيش العراقي والحصول على الأسلحة المتطورة التي حرمه منها الإمبرياليين، وبأسعار تقل كثيراً جداً عن الأسلحة الغربية.

7 ـ إنجازات حكومة الثورة في الحقل الاجتماعي :
كان على حكومة الثورة أن تقوم بالعديد من الإجراءات ذات البعد الاجتماعي المتعلقة بحياة الشعب المعيشية منها:
1 ـ تخفيف الضرائب غير المباشرة عن أبناء الشعب.
2 ـ تخفيض إيجار المساكن، والمحلات التجارية.
4 ـ زيادة رواتب الموظفين والعمال، ووضع رقابة على الأسعار.
5ـ توزيع مئات الألوف من قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود، والموظفين والعمال لغرض بناء دور لهم عليها، وتقديم كل المساعدات الممكنة والقروض بشروط بسيطة لإنجاز بنائها.
6 ـ إلغاء حزام الفقر حول بغداد من الصرائف وبيوت الطين التي أقامها مئات الألوف من الفلاحين الهاربين من جور الإقطاع والعبودية والاستغلال، وقيام الحكومة ببناء مدينتي الثورة والشعلة، وتوسيع مدينة الحرية، وتوزيع آلاف المساكن على هؤلاء المعدمين والبؤساء.
7 ـ فتح معاهد الأيتام والأطفال المشردين، والأحداث الجانحين، والاهتمام بتربيتهم، ونشأتهم نشأة صالحة.
8 ـ تقليص ساعات العمل، وجعلها 8 ساعات، بعد أن كان العمال يعملون من شروق الشمس وحتى غروبها.
9 ـ تشجيع استثمار رأس المال الوطني في المشاريع الصناعية بدلاً من الاستثمار العقاري والمضاربة العقارية.
10 ـ تطبيق قانون الضمان الاجتماعي للعمال الذي صدر عام 1956، ولم ينفذ حتى قيام الثورة 
11 ـ فتح مجال الاستيراد والتصدير لكل فئات البرجوازية الوطنية، بعد أن كانت حكراً على كبار الرأسماليين المرتبطين بالنظام السابق.
12 ـ حماية الصناعات الوطنية أمام المنافسة الأجنبية.
13 ـ وضع حد لتهرب كبار الرأسماليين من دفع الضرائب.
14 ـ رفع معدلات التصدير للحبوب والجلود والتمور وغيرها.
15 ـ سن قانون ضريبي جديد، وشمول الإنتاج الزراعي بالضريبة، حيث كان الإقطاعيون لا يدفعون الضرائب عن الإنتاج.
16 ـ إلغاء تكبيل السجناء بالحديد، وتخفيض عقوباتهم إلى خمس المدة.
17 ـ سن قانون مكافحة البغاء، وإنشاء مراكز إصلاح إجبارية لكافة المومسات، من أجل   إصلاحهن، وتوجيههن نحو حياة جديدة ذات بعد إنساني، وتأمين مصدر دخل لهن.
18 ـ توسيع وتطوير كافة الخدمات الصحية، والتعليمية، وبناء الطرق والجسور، والمشاريع الصناعية، قدر توفر الامكانات المادية اللازمة لذلك.
19 ـ تأسيس جامعة بغداد، وتوسيع القبول فيها، من أجل تخريج الكوادر التي يحتاجها الوطن في عملية البناء والتطور والنمو في كافة المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والصحية وغيرها من المجالات الأخرى.
هذه هي أهم الانجازات التي حققتها ثورة 14 تموز بقيادة الشهيد عبد الكريم قاسم خلال عمرها القصير، والذي تخللته صراعات عنيفة بين القوى السياسية، وتآمر مكشوف ومتكرر من قبل القوى البعثية والقومية، وتحالفها مع القوى الإمبريالية حتى تم لهذه القوى اغتيال الثورة وقادتها، وقادة الحركة الوطنية، وإغراق العراق بالدماء.

ملاحظة: للإطلاع على المزيد من المعلومات عن ثورة 14 تموز راجع كتابنا [ ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها].



9
جمال عبد الناصر وثورة 14 تموز وقائدها
عبد الكريم قاسم
حامد الحمداني                                          1/7/2019

دأب العديد من الكتاب القوميين والناصريين على تزييف تاريخ العلاقات المصرية العراقية في الفترة التي أعقبت قيام ثورة 14 تموز المجيدة، والمواقف الخاطئة التي اتخذها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتي سببت للشعب العراقي من الكوارث والويلات والمصائب على يد انقلابيي 8 شباط 1963 بدعم مباشر من نظام عبد الناصر.
وكان من بين من كتبوا عن العلاقات العراقية المصرية على عهد عبد الناصر الشخصية المصرية التي لعبت دوراً أساسياً في التآمر على ثورة 14 تموز وقيادتها المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، والسعي المحموم لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر، السيد [أمين هويدي] الذي شغل منصب السفير المصري في بغداد آنذاك، والذي حاول تزييف الحقائق عن تلك العلاقة ومحاولته التغطية على الدور التآمري الذي مارسه ضد ثورة 14 تموز، ومحاولته تبرئة الرئيس عبد الناصر في كتابه [ عبد الناصر والعراق ]،  وبغية كشف الحقائق عن تلك الأحداث التاريخية، كي تكون الشعوب العربية على بينة منها، أرى لزاماً علي  وأنا الذي عايشت تلك الأحداث بأيامها وساعاتها بكل أمانة وموضوعية.

وقبل الولوج في هذه المتابعة أحب أن أؤكد للقارئ الكريم أنني لم أقف يوماً موقفاً معادياً من الرئيس عبد الناصر، بل على العكس من ذلك كنت أكن له كل الاحترام والمحبة لمواقفه وكفاحه ضد الهيمنة الإمبريالية على العالم العربي، شأني شأن الكثيرين من الجماهير العربية، ولقد كان لي شرف المساهمة في انتفاضة عام 1956 احتجاجاً على العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، واستنكاراً لمواقف حكومة نوري السعيد اللا وطنية، والمعادية لمصالح الأمة العربية بوجه عام و لمصر وعبد الناصر بوجه خاص .

لكن هذا لا يعني أننا ينبغي أن نسكت عن الأخطاء التي يرتكبها أي حاكم عربي ولاسيما تلك التي ارتكبها عبد الناصر بحق العراق وثورة 14 تموز 1958 وقائدها عبد الكريم قاسم، والتي لو لم يقع بها عبد الناصر، وسعى لتحقيق أوسع الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية التي دعا إليها العراق متمثلاً بحكومة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم ، وبسائر الأحزاب الديمقراطية، ومن بينها الحزب الشيوعي ، لكان للعرب شأن آخر غير هذا الواقع البائس الذي نشهده  اليوم ، كان يمكن للتعاون النزيه بين العراق والجمهورية العربية المتحدة أن يبعث الأمة العربية من جديد، لكن عبد الناصر كان عجولاً في أكل العنب فأكله حصرماً، وأطعم العراقيين شعباً وحكومة من ذاك الحصرم، ودفعته رغبته الجامحة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة ولما يمضي على ثورة 14 تموز سوى أيام قلائل، مستعيناً بحزب البعث والعديد من العناصر المدعية بالقومية العربية وعلى رأسها عبد السلام عارف، وسلك أسلوباً غير دستوري وغير ديمقراطي لتحقيق هذا الهدف، وشن حملة شعواء على قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية، متهماً الجميع بالشعوبية، حتى كأنما القومية كانت حكراً عليهم، وأن القوى التي عارضت الوحدة الفورية ودعت إلى قيام اتحاد فدرالي مع العربية المتحدة متجردين من قوميتهم !.

إن الوحدة العربية أمل عزيز لكل عربي محب لشعبه ووطنه، لكن العبرة في أسلوب قيام هذه الوحدة المرتكزة على الدستورية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، واحترام خصائص أقطارنا ظروفها الموضوعية. لكن عبد الناصر لم  يعير أي اهتمام لمسالة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في تطلعه لقيام وحدة عربية تستطيع الصمود والديمومة، وتلبي طموحات الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم، وكانت الوحدة المصرية السورية خير مثال لما آلت إليها الحال في سوريا بعد الوحدة التي لم تستطع الصمود سوى 3 أعوام، وانتهت بالانفصال .
لقد سعى البعثيون الذين كانوا يخوضون صراعاً مريراً مع قوى اليسار عام 1958، وأخص منها الحزب الشيوعي السوري الذي كان يتمتع بشعبية واسعة في صفوف الشعب السوري، مما أقلقهم وأقلق القوى القومية الأخرى وعلى رأسها شكري القوتلي[رئيس الجمهورية] من إمكانية وصول اليسار إلى السلطة، فسارعوا إلى عبد الناصر يطلبون الوحدة بدعوى خطورة النشاط الشيوعي آنذاك في سوريا.

وتلقف الرئيس عبد الناصر الطلب وقد امتلأ بهجة لتحقيق نواة لوحدة عربية من المحيط إلى الخليج، وجاءت الوحدة بين القطرين بولادة قيصرية ولما يكمل الجنين وتتحقق شروط الوحدة وعوامل استمرارها.
لقد وقع عبد الناصر في الخطأ الذي نبه إليه الحزب الشيوعي السوري الذي كانت له وجهة نظره وشروطه لقيام الوحدة الراسخة الحاملة لشروط بقائها   واستمرارها، لا كما زوّر دعاة القومية المزيفون مواقف الحزب الشيوعي واتهموه بمعاداة الوحدة.
 لقد قامت الوحدة بالتعاون بين البعثيين والقوميين في سوريا وهي تحمل بذور فشلها لافتقادها إلى أهم الركائز وهي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ولم يكد يمضي وقت طويل حتى بادر عبد الناصر إلى إلغاء الأحزاب السياسية، وقمع سائر الحريات التي كان الشعب السوري يتمتع بها، ولم يسلم منها حتى حزب البعث نفسه صانع الوحدة، وانقسم الشعب السوري على نفسه إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول ضم المعارضة الشيوعية والديمقراطية، والقسم الثاني ضم دعاة القومية الناصرية الذين أيدوا وساندوا إجراءات عبد الناصر في قمع الحريات الأساسية للشعب السوري، وبقي القسم الثالث وهم البعثيون الذين أخذت تتنازعهم الرغبة بين بقاء الوحدة ومقاومة الغاء دورهم السياسي في حكم سوريا الذي تركز في يد [عبد الحكيم عامر] و[عبد الحميد السراج]، وبدأت علامات فقدان الثقة بينهم وبين عبد الناصر آنذاك، وتعمقت الخلافات فيما بينهم بمرور الأيام حتى وقوع الانفصال عام 1961، وهكذا انتهت هذه التجربة خلال ثلاث سنوات، وكما قلنا آنفاً أنها كانت تحمل بذور فشلها منذ قيامها بسبب فقدان الديمقراطية.

ولم يتعظ الرئيس الراحل عبد الناصر بأخطائه التي أدت إلى الانفصال، وحاول تكرارها مع العراق ولم يكن قد مضى على قيام ثورة 14 تموز سوى أياماً، محاولاً فرض الوحدة الفورية مع مصر على العراق، وقدم أوسع دعم سياسي و حتى عسكري للقوى البعثية والقومية من أجل هذا الهدف، وقد جمعت حولها القوى الرجعية والاقطاعية التي تضررت مصالحها من قيام الثورة، وإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وعلى رأسهم الشيخ [أحمد عجيل الياور] الذي لعب دوراً رئيسياً في انقلاب الشواف في الموصل، لتقود حملة يتصدرها عبد السلام عارف بالدعوة للوحدة الفورية، وسيّروا المظاهرات الصاخبة في شوارع بغداد لهذا الغرض مما دفع القوى الديمقراطية وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي إلى تسيير المظاهرات المضادة رافعين شعار الاتحاد الفدرالي مع مصر، وداعين إلى احترام إرادة الشعب واحترام خصائصه وظروفه الموضوعية، وقد أدى ذلك الاختلاف والتباين في المواقف إلى شق الصف  الوطني إلى نصفين مما هدد الثورة ومستقبل الشعب العراقي بكوارث لا تعد ولا تحصى منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

فقد جرت محاولة الانقلاب التي أعد لها [رشيد عالي الكيلاني] بالتعاون مع عبد السلام عارف وزمرته، وانقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل والأحداث التي رافقته، ثم محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية والوثوب إلى الحكم، تلك المحاولة التي تم إفشالها بسرعة، ونجاة عبد الكريم قاسم من موت محقق، وتلاها بعد ذلك انقلاب 8 شباط الأسود الذي أغرق العراق بالدماء، وملأ السجون والمعتقلات بخيرة المواطنين المؤمنين بالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية.

وتوالت الانقلابات العسكرية بعد ذلك فكان انقلاب 18 تشرين الثاني الذي قاده عبد السلام عارف لإخراج البعثيين من الحكم، والمحاولات التي قام بها عارف عبد الرزاق لقلب حكم العارفين عبد السلام وعبد الرحمن، وتوجت انقلاباتهم في 17 تموز 1968 الذي أعاد لنا عصابة البعث لتعيث فساداً في ربوع عراقنا المنكوب بحكامه الذين أجرموا بحق الشعب والوطن طوال 35 عاماً من حكمهم البغيض.



10
اسرار انقلاب 17 تموز 1968
حامد الحمداني                                                  22/6/2019
 
لماذا أعد الانقلاب ؟
لاشك أن هناك أمور كثيرة تتعلق بالوضع السياسي في العراق كانت قد أقلقت الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين، وجعلتهم يستبقون الأحداث، ويدبرون انقلابهم ضد حكومة عبد الرحمن عارف، وكان أهم تلك الأمور ما يلي:
1 ـ ضعف سلطة عبد الرحمن عارف ، وتنامي النشاط الشيوعي من جديد، وظهور اتجاهات لدى الحزب، ولدى القيادة المركزية، للسعي لقلب الحكم بالقوة، واستلام السلطة، مما أثار قلق الإمبرياليين الذين وضعوا في الحسبان إمكانية إسقاط ذلك النظام الهش الذي يفتقر لأي سند شعبي، وتتآكله الصراعات بين الضباط المهيمنين على السلطة، وانشغالهم في السعي للحصول على المكاسب والمغانم، مما جعل الحكم في فوضى عارمة يمكن أن تسّهل عملية الانقضاض عليه، وتوجيه الضربة القاضية له.

كما أن محاولات القوى الناصرية تحقيق الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، كانت تسبب للإمبرياليين المزيد من القلق، لأن الوحدة تشكل أكبر خطر على وجودهم  في المنطقة وعلى إسرائيل، القاعدة المتقدمة للأمريكا، وسيفها المسلط على رقاب العرب.

2-  قرار حكومة طاهريحيى، في 6 آب 967 ، باستعادة حقل الرميلة الشمالي من شركة نفط العراق ، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية ، ومعروف أن هذا الحقل غني جداً بالنفط ، مما أثار حنق شركات النفط الاحتكارية التي اعتبرته تحدياً جدياً لمصالحها الإمبريالية .

3- عقد اتفاقية نفطية مع الاتحاد السوفيتي، بتاريخ 24 كانون الأول 967 ، تعهد الاتحاد السوفيتي بموجبها بتقديم كل المساعدات التقنية وتجهيزات الحفر لحقل الرميلة الشمالي ، واستخراج النفط وتسويقه لحساب شركة النفط الوطنية، وقد اعتبرت الإمبريالية هذا الأمر تغلغلاً سوفيتياً في هذه المنطقة الهامة التي تحتوي على نصف الخزين من الاحتياطات النفطية في العالم، واتخذت قرارها بالتصدي لهذا التغلغل المزعوم .
4-إقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية مع شركة [أيراب] الفرنسية للتنقيب والحفر واستخراج النفط في منطقة تزيد مساحتها على 11000كم مربع تقع في وسط وجنوب العراق، وذلك بمعزل عن الاحتكارات النفطية البريطانية والأمريكية، حيث اعتبر ذلك تجاوزاً على مصالحهما النفطية في المنطقة.
5- رفض حكومة عارف منح شركة [ بان اميركان ] الأمريكية امتيازاً لاستخراج الكبريت في العراق، حيث اكتشفت كميات كبيرة منه على نطاق تجاري مما أثار نقمة الحكومة الأمريكية.

كل هذه العوامل جعلت الإمبريالية تقرر قلب نظام عبد الرحمن عارف الهش، والإتيان بحكومة جربتها يوم دبرت انقلاب 8 شباط 1963، تلك التي أعلنت الحرب الشعواء على الشيوعيين، وكل الوطنيين، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وصفت كل منجزات الثورة التي دفع الشعب العراقي من أجلها دماء غزيرة .


ثانياً: كيف أُعدّ الانقلاب ؟ وَمنْ قاده ؟

جرت عملية الإعداد للانقلاب من قبل الدوائر الإمبريالية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة حيث سعت تلك الدوائر لتعاون العناصر الموالية لكلا الجانبين، فهناك البعثيون على الجانب الأمريكي، وعبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداؤد وزمرتهما على الجانب البريطاني حسث كان النايف يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، يما كان الداؤد يشغل منصب آمر الحرس الجمهوري.

سارع الإمبرياليون،عن طريق عميليهما الدكتور [ناصر الحاني]، سفير العراق في بيروت، وبشير الطالب، الملحق العسكري في السفارة المذكورة، والذي سبق أن شغل قيادة الحرس الجمهوري في عهد عبد السلام عارف، حيث تمت الاتصالات بالانقلابيين، وتجنيدهم من خلال السعودية، وقد قام النايف والداؤد بالاتصال بسعدون غيدان آمر كتيبة الدبابات المكلفة بحماية القصر الجمهوري، والملحقة بالحرس الجمهوري، واستطاعا جره إلى جانبهما.

وبعد أن تم للإمبرياليين تأمين اشتراك القادة الثلاثة في الانقلاب طلبوا من النايف الاتصال بالبعثيين ودعوتهم للمشاركة في الانقلاب. وجد البعثيون فرصتهم الذهبية للعودة إلى الحكم من جديد، وأعلنوا على الفور استعدادهم للمشاركة في الانقلاب، فقد ورد ذلك على لسان عبد الرحمن عارف في حديث له مع المؤرخ عبد الرزاق الحسني في اسطنبول، في18 شباط 1970، حيث قال:
{ إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال، وإن شركات النفط العاملة في العراق، والقوى التي تقف وراءها، كانت قد سعت منذُ منحت حكومته عقداً لشركة إيراب الفرنسية، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة ـ بان أميركان ـ الأمريكية، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف، هو الرجل الذي يحتاجون إليه، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين الدكتور ناصر الحاني و بشير الطالب، وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة وليس مجرد شكوك}.

أما عبد الرزاق النايف فقد أكد دوره في ذلك المخطط، بعد أن قام البعثيون بانقلابهم ضده، بعد مرور 13يوماً من تنفيذ انقلاب 17تموز 1968، ونفيه إلى خارج العراق، حيث عقد مؤتمراً صحفياً فضح فيه دوره، ودور شركائه البعثيين في الانقلاب، وعلاقاتهم بالإمبريالية حيث قال:
{أنا لا أنكر علاقتي بالأمريكيين، لكنهم هم الذين فرضوا علي التعاون مع البعثيين} وكان عراب الانقلاب الدكتور ناصر الحاني الذي أصبح وزيراً للخارجية عند وقوع الانقلاب وقد سارع البعثيون إلى اغتياله في أحد شوارع بغداد، ثم اتبعوه باغتيال النايف بعده في لندن، محاولين بعملهم هذا حجب نور الشمس بواسطة الغربال!.
     
كيف نفذ انقلاب 17 تموز 1968:
سارع عبد الرزاق النايف إلى إعداد خطة تنفيذ الانقلاب بالاشتراك مع إبراهيم عبد الرحمن الداؤد، وسعدون غيدان، واحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، وأنور عبد القادر الحديثي، حيث جرى الاتفاق فيما بينهم على تفاصيل خطة الانقلاب، معتمدين على كتيبة الدبابات التي كانت في القصر تحت إمرة سعدون غيدان، وجرى الاتفاق على أن يأخذ سعدون غيدان كل من أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي بسيارته الخاصة إلى داخل القصر الجمهوري ليقوموا جميعاً بالسيطرة على كتيبه الدبابات فجر يوم 17 تموز 1968، فيما يقوم عبد الرزاق النايف بالسيطرة على وزارة الدفاع، وأنيطت مهمة السيطرة على دار الإذاعة إلى إبراهيم الداؤد.

وفي فجر ذلك اليوم قام سعدون غيدان بإدخال الضباط المذكورين ـ وهم يمثلون حزب البعث ـ بسيارته الخاصة، وتم لهم على الفور السيطرة على كتيبة الدبابات المذكورة، وأحاطوا بها القصر، وقاموا بإطلاق 5 إطلاقات من مدافع الدبابات كخطوة تحذيرية لعبد الرحمن عارف، الذي استيقظ من نومه مذعوراً، وحالما وجد القصر مطوقاً بالدبابات، أعلن استسلامه على الفور، وطلب تسفيره إلى خارج العراق.
وفي الوقت نفسه تحرك عبد الرزاق النايف نحو وزارة الدفاع بمساعدة عدد من الضباط الموالين له وسيطر على الوزارة دون عناء، فيما توجه الداؤد إلى دار الإذاعة بعدد من الدبابات وسرية من الحرس الجمهوري وسيطر عليها دون قتال، و قام بإذاعة البيان الأول للانقلاب في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم 17 تموز 1968.

حاول الإنقلابيون في بيانهم هذا التغطية على الأهداف الحقيقية للانقلاب، وجرى ذلك تحت شعار حل القضية الكردية، وإحلال السلام في كردستان، وإقامة الديمقراطية في البلاد، وإتاحة الفرص المتساوية للمواطنين، وانتصار حكم القانون، والتأييد الحازم للقضية الفلسطينية، داعين إلى تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران، ولم ينسى البيان التهجم على الحكم السابق، واتهامه بشتى التهم، من رجعية وعمالة وغيرها.

وخلال الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تم للانقلابيين السيطرة على البلاد وانتهى كل شيء وجرى اعتقال رجالات نظام عارف، وعلى رأسهم رئيس الوزراء [طاهر يحيى]، وجرى على الفور تسفير رئيس الجمهورية، عبد الرحمن عارف بطائرة عسكرية إلى لندن، حيث كانت زوجته تعالج هناك، ثم انتقل بعد ذلك إلى تركيا واتخذها مقراً لإقامته لسنين عديدة، ولكونه لا يشكل خطراً على النظام، فقد وافق البعثيون على طلبه بالعودة إلى العراق، بعد سنين عديدة ليعيش حياته كمواطن عادي.
أما الشعب العراقي فقد أستقبل الانقلاب ببالغ القلق والاكتئاب، فالوجوه هي نفسها التي أغرقت البلاد بالدماء، إثر انقلاب 8 شباط عام1963.
الإنقلابيون يتقاسمون المناصب:
ما أن أستتب الأمر للانقلابيين حتى سارعوا إلى توزيع المناصب الهامة في البلاد فأعلنوا عن تعين أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية، فيما أصبح عبد الرزاق النايف رئيساً للوزراء، كما عُين إبراهيم الداؤد وزيراً للدفاع، وجاءت وزارة النايف على الوجه التالي:
1-عبد الرزاق النايف ـ رئيساً للوزراء.
2 -إبراهيم عبد الرحمن الداؤد ـ وزيراً للدفاع.
3 -ناصر الحاني ـ وزيراً للخارجية.
4 - صالح مهدي عماش ـ وزيراً للداخلية.
5 - عزت مصطفى ـ وزيراً للصحة.
6- مهدي حنتوش ـ وزيراً للنفط.
7 -جاسم العزاوي ـ وزيراً للوحدة.
8 - إحسان شيرزاد ـ وزيراً للأشغال.
9 - صائب مولود مخلص ـ وزيراً للمواصلات.
10 -ذياب العلكاوي ـ وزيراً للشباب.
11- صالح كبه ـ وزيراً للمالية.
12-محمد يعقوب السعيدي ـ وزيراً للتخطيطز
13 - طه الحاج الياس ـ وزيراً للإرشاد.
14ـ عبد المجيد الدجيلي ـ وزير الإصلاح الزراعي.
15 ـ خالد مكي الهاشمي ـ وزيراً للصناعة.
16 ـ محمود شيت خطاب ـ وزيراً للبلديات.
17 ـ عبد الله النقشبندي ـ وزيراً للاقتصاد.
18ـ عبد الكريم زيدان ـ وزيراً للأوقافز
19 ـ أحمد عبد الستار الجواري ـ وزيراً للتربية.
20 ـ أنور الحديثي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
21 ـ محسن القزويني ـ وزيراً للزراعة.
22 ـ رشيد الرفاعي ـ وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية.
23 ـ محسن ديزئي ـ وزيراً بلا وزارة.
24 ـ كاظم معله ـ وزيراً بلا وزارة.
25 ـ ناجي خلف ـ وزيراً بلا وزارة.
وبموجب هذه التشكيلة أصبح للبعثيين ثمانية مقاعد وزارية، فيما شغل الأكراد ثلاثة مقاعد، والإخوان المسلمون مقعدين، وشغل بقية المقاعد وعددها اثنا عشر مقعداً عناصر من مختلف الاتجاهات القومية والرجعية.
أما المراكز العسكرية الحساسة فقد جرى توزيعها على الوجه التالي:
1 ـ سعدون غيدان ـ قائداً للحرس الجمهوري، وقد كسبه البعثيون إلى جانبهم.
2 ـ حردان التكريتي ـ رئيساً للأركان، وقائداً للقوة الجوية .(بعثي)
3 ـ حماد شهاب ـ قائداً للواء المدرع العاشر، وهو أقرب واخطر وحدة عسكرية على بغداد وهو من العناصر البعثية أيضاً.

بدأ البعثيون منذُ الساعات الأولى للانقلاب يعملون بأقصى جهدهم لتثبيت مواقعهم في صفوف الجيش، واستغل حردان التكريتي فرصة سفر الداؤد إلى الأردن، لتفقد القوات العراقية هناك، بكونه رئيساً للأركان، بإجراء مناقلات لعدد كبير من الضباط الموالين لحزب البعث ، تمهيداً لمخططهم الهادف إلى إزاحة كتلة النايف، واحتكار الحكم لحزب البعث وحدة.

الصراع بين جناحي البعث والنايف:

منذُ اليوم الأول للانقلاب، بدت بوادر الخلافات بين كتلتي البعث والنايف، فلم كن أحدهما مرتاحاً لوجود الآخر في السلطة، إلا أن الظروف التي تحدثنا عنها سابقاً، وإرادة الإمبرياليين، هي التي جمعتهم في هذه التركيبة غير المتجانسة.
كانت صحيفة البعث [الجمهورية]، وصحيفة النايف [الثورة] على طرفي نقيض، وبلغ ذلك التناقض حداً أضطر فيه وزير الإرشاد إلى إصدار قرار في 24 تموز بدمج الصحيفتين بناء على أمر النايف، وطرد المحررين البعثيين من الصحيفة، كما قرر النايف إبعاد البعثيين من دار الإذاعة  ومنعهم من الدخول إليها، واستغل البعثيون قرارات النايف الاقتصادية، والتي صبت كلها بشكل سافر في خانة الإمبريالية الأمريكية، واتخذوها سلاحاً ضده.
لقد كانت باكورة توجهات النايف تلك قد تضمنت مايلي:
1 ـ إلغاء عقد شركة إيراب الفرنسية للنفط، والتي كانت قد عقدته حكومة عبد الرحمن عارف قبل وقوع الانقلاب.
2 ـ إلغاء قرار إعادة حقل الرميلة الشمالي إلى شركة النفط الوطنية.
3 ـ إلغاء شركة النفط الوطنية العراقية.
4 ـ محاولة منح شركة ـ بان أميركان ـ امتياز استغلال     الكبريت.
     
حزب البعث يحسم     الصراع، ويستولي على كامل السلطة:
     
منذُ اليوم الأول لانقلاب 17تموز     968، كان حزب البعث قد أتخذ قراره بإزاحة كتلة النايف، واستلام السلطة كاملة، وقد أشرنا إلى أن الحزب كان قد أستقطب كل من [حماد شهاب ] قائد اللواء المدرع العاشر، المكلف بحماية بغداد، و[سعدون غيدان] الذي أصبح قائداً للحرس الجمهوري بعد نجاح الانقلاب، هذا بالإضافة إلى تولي حردان التكريتي منصب رئاسة الأركان، وقيادة القوة الجوية، وتولي صالح مهدي عماش وزارة الداخلية، وفي المقدمة من كل ذلك تولي [احمد حسن البكر] رئاسة الجمهورية، ولذلك فقد كان الجو مهيئاً لحزب البعث لكي يضرب ضربته ويزيح كتلة النايف من طريقه.

وجاء سفر[إبراهيم الداؤد] وزير الدفاع إلى الأردن  لتفقد القوات العراقية المتواجدة في الأردن، فرصة لا تضيع للانفراد بالنايف، حيث قرر حزب البعث توجيه ضربته الخاطفة له في 30 تموز ـ ولما يمضي على الانقلاب سوى 13يوماً، فقد تحرك اللواء العاشر المدرع بقيادة اللواء حماد شهاب نحو بغداد، واحتل المرافق والنقاط الرئيسة فيها، وتمكن [صدام حسين] وبمعييته مجموعة من الضباط من اعتقال النايف، وتسفيره على متن طائرة عسكرية إلى خارج العراق، وجرى حل مجلس الوزراءk وتأليف وزارة بعثية جديدة، كما تم تأليف مجلس دعوه[مجلس قيادة الثورة] ومنحوه صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة.وجاء تأليفه على الوجه     التالي :
1 ـ أحمد حسن البكر ـ رئيساً للمجلس.
2ـ صدام حسين التكريتي ـ نائباً للرئيس.
3 ـ سعدون غيدان ـ عضواً
4 ـ عزت الدوري ـ عضواً
     5 ـ طه ياسين رمضان ـ عضواً
6 ـ عزت مصطفى ـ عضواً
ثم أضاف البعثيون إليه أعضاء جدد في 9 تشرين الأول من نفس العام ليصبح عدد هم 14عضواً، أما الأعضاء المضافة فهم كل من:
1ـ حردان التكريتي .
2ـ صالح مهدي عماش .
3ـ حماد شهاب.
4ـ عبد الكريم الشيخلي.
5ـ عبد الله سلوم السامرائي.
6 ـ شفيق الكمالي.
7 ـ عبد الخالق السامرائي.
8 ـ مرتضى الحديثي.
     ويتضح من تشكيلة لمجلس، مجلس الوزراء، والقيادة القطرية للحزب، أن العنصر السني كانت له الأغلبية المطلقة[ 85%] والعنصر الشيعي إلى [ 6%] ،     وكانت أغلبية القيادات من محافظتي تكريت والرمادي السنيتين .
     
موقف الشعب من انقلاب 17 ـ 30 تموز68 :
     
قابل الشعب العراقي انقلاب 17 ـ30 تموز بالقلق وعدم الارتياح بسبب التاريخ الدموي للبعثيين عندما جاءوا إلى الحكم إثر انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ، واغرقوا البلاد بالدماء ، واستباحوا حرمات المنازل ، وزجوا بمئات الألوف من الوطنيين في غياهب السجون ، ومارسوا     ابشع     أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ضدهم ، وفصلوا عشرات الألوف من أعمالهم ووظائفهم ومدارسهم وكلياتهم ، وصفوا كل مكاسب ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة .
وفي الوقت نفسه شعر البعثيون بالضعف، بسبب ابتعاد جماهير الشعب عنهم ، ودفعهم خوفهم من فقدان السلطة إلى اللجوء إلى الأساليب الوحشية والعنيفة لإخافة القوى العسكرية والسياسية ، ومنعها من القيام بأي تحرك ضد سلطتهم ، وقد توجوا عملهم ذلك بحملة إعدامات وحشية لعدد من المواطنين ، بتهمة التجسس للأجنبي!، وتعليقهم في ساحة التحرير، فقد اعدم البعثيون 29 ضابطاً وضابط صف رمياً بالرصاص، بالإضافة إلى 12 مدنياً أُعدموا شنقاً .
كما أقدم البعثيون على إعدام 77ضابطاً، في 7 شباط 1969، بتهمة الاشتراك في محاولة انقلابية    بقيادة الزعيم الركن عبد الغني الراوي ، شريكهم في انقلاب 8 شباط 963 ، والذي تمكن من الهرب إلى إيران .
لقد جرت حملة الاعدامات ،بعد محاكمات صورية سريعة ، من قبل طه ياسين رمضان ، الملقب بالجزراوي، ولقبه الشعب العراقي بالجزار ، وبمعييته عدد من أعضاء القيادة القطرية للحزب . وخلال دقائق، كانت المحاكمات تجري وتصدر قراراتها، وتنفذ أحكام الاعدامات بالضباط المتهمين بالمحاولة الانقلابية المزعومة، وقد ظهر بعد ذلك، أن العديد من أولئك المعدومين ثبت عدم تورطهم بالمحاولة المزعومة، وتم إرسال رسائل اعتذار إلى ذويهم !.
وبصرف النظرعن صحة أو كذب وقوع تلك المحاولة، فقد كان هدف البعثيين من هذه الجريمة إفهام القوى السياسية منها  والعسكرية أن حزب البعث سوف يضرب بيدٍ من حديد، كل من يفكر بالتصدي لحكمه الفاشي


11
احداث في ذاكرتي

نظام عبد الر حمن عارف والحزب الشيوعي

حامد الحمداني                                                    19/6/2019

موقف الحزب الشيوعي من نظام عبد الرحمن عارف:

منذُ أن أنتخب عبد الرحمن عارف رئيساً للجمهورية، بعد مقتل أخيه عبد السلام عارف، وقف الحزب الشيوعي موقف المعارض للسلطة العارفية، بل وزاد من معارضته تلك بأن شكل على عهد حكومة البزاز فصائل ثورية مسلحة دعاها بـ[قسائم الحسين].
كان تفكير الحزب هو التهيئة للانتفاضة الشعبية التي يمكن أن تقدم الإسناد لأي تحرك من قبل الجناح العسكري للحزب داخل الجيش، متخطياً المواقف الرسمية للاتحاد السوفيتي من نظام الحكم في العراق، وتحسن تلك العلاقة بين الطرفين إثر قيام البزاز بزيارة الاتحاد السوفيتي، حيث أعرب السوفيت عن تثمينهم لسياسة عدم الانحياز التي يتبعها العراق، وجهود البزاز لوقف القتال في كردستان.

 إلا أن الحزب الشيوعي لم يغير موقفه المبدئي من السلطة، واستمر على معارضته لها بكل الوسائل والسبل داعياً إلى إسقاطها، وتحرير الشعب العراقي من نير الدكتاتورية البغيضة، واستمرت قيادة الحزب في تشكيل الفصائل الثورية في الريف العراقي وفي المدن، لشن حرب أنصار ضد الرموز التي كانت تصرفاتها تتسم بالوحشية والقسوة.

إلا أن تلك المبادرات لم تثمر في إجراء أي تغيير ملموس، أو أي عمل ذو شأن ضد السلطة، والمعتقد أن قيادة الحزب فعلت ذلك من أجل إرضاء الكوادر وقواعد الحزب التي كانت تضغط على القيادة باستمرار للقيام بعمل من أجل إسقاط السلطة واستلام الحكم، فيما كانت اللجنة المركزية في صراع بين جناحيها [اليميني واليساري] حول السبل الواجب إتباعها لتحقيق أهداف الحزب الآنية والإستراتيجية، وساعد في إذكاء الصراع الانقسام الذي حصل في المعسكر الشيوعي بين أكبر دولتين فيه هما الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية.

لقد أدى ذلك إلى ظهور نواة للمعارضة داخل الحزب والتي دعيت آنذاك [الكادر الثوري] حيث طالبت بحرية نشر الآراء والإفصاح عنها، ودعت إلى رفض الرأي القائل بأن وحدة الحزب فوق المبادئ، وجاءت هزيمة 5 حزيران 967 1، وهزيمة العرب أمام إسرائيل لتزيد من نار الخلافات داخل قيادة الحزب من جهة وبين القيادة والقاعدة والكادر من جهة آخر.

انشقاق الحزب الشيوعي وتكوين القيادة المركزية:

في 17 أيلول 1967، انفجر الصراع داخل الحزب عندما أنشق قسم كبير من قيادة وكوادر وأعضاء الحزب بقيادة [عزيز الحاج] وعضوية [حميد خضر العاني] و[كاظم رضا الصفار] و[أحمد محمود العلاق] و[متي هندو] و[بيتر يوسف] وغيرهم من الكوادر المتقدمة في الحزب، وتمكن المنشقون من سحب جانب كبير من قواعد الحزب وكوادره، متخذين لهم أسم [الحزب الشيوعي العراقي - القيادة المركزية].

 ارتبطت القيادة الجديدة باسم [عزيز الحاج] الذي قاد الانشقاق، وأعلنت القيادة المركزية عن استقلالها في اتخاذ القرارات التي تهم العراق عن الحركة الشيوعية، ولكنها أكدت على تضامن الحركة العمالية العالمية، وأعلنت وقوفها مع التيارات الثورية في العالم أجمع.

أما موقف القيادة المركزية من النظام العارفي فقد كان موقفاً معادياً كلياً حيث دعت القيادة إلى تسليح جماهير الشعب، وإلى العنف الثوري، والنضال المسلح في كل مدن العراق وريفه، وقيام حكم ثوري ديمقراطي بقيادة الطبقة العاملة.

 أما ما يخص موقف القيادة المركزية بالنسبة لعلاقات العراق العربية، فقد أعلنت وقوفها إلى جانب الوحدة العربية الثورية ذات المحتوى الاشتراكي.

 كما سارعت القيادة المركزية إلى إدانة قرار مجلس الأمن الذي أيده الاتحاد السوفيتي في 29 تشرين الثاني 1947، والمتعلق بتقسيم فلسطين بين العرب وإسرائيل، والقرار الصادر في 22 تشرين الثاني 1967 الخاص بتسوية أزمة الشرق الأوسط، ودعت إلى القضاء على دولة إسرائيل، وقيام دولة ديمقراطية عربية يهودية، كحل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي، معتبرين قيام حركة المقاومة الفلسطينية، المتمثلة بحركة التحرير الوطني الفلسطيني الوسيلة الوحيدة لفرض الحل النهائي المنشود.

رد فعل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي على الانشقاق:

ذكرنا فيما سبق أن القيادة المركزية استطاعت سحب أعداد كبيرة من كادر الحزب والجانب كبير من قواعده نتيجة اليأس الذي أصابها من السياسة اليمينية للحزب منذُ عام 1959، وما سببته من كوارث على الحزب والبلاد، وأدت إلى وقوع ونجاح انقلاب الثامن من شباط 1963 والذي تتحمل قيادة الحزب جانباً كبيراً من المسؤولية عنه.

 وهكذا فقد أصبحت اللجنة المركزية في وضع صعب للغاية، وسارعت إلى الدعوة إلى عقد المؤتمر الثالث للحزب في كانون الأول 1967، وقد حضر المؤتمر 57 عضواً من الكادر الحزبي، منتخبين من اللجان المحلية وفرع كردستان، حيث لم يكن من السهل تأمين اجتماع لكل أعضاء الحزب في ظل العمل السري.

مثل أعضاء المؤتمر بنسبة 62 % من العرب، و31 % من الأكراد، و7 % من بقية الأقليات، وكان العمال في المؤتمر يمثلون ثلث مجموع الحاضرين
 اتخذ الحزب قراراً بإدانة الانشقاق، متهماً هذا العمل بالنشاط الهدام للحزب، وناشد العناصر الطيبة التي دعوها بالمخدوعة بالعودة إلى أحضان الحزب، وهذا يمثل دليلاً على مدى عمق وسعة الانشقاق.
 كما التزم الحزب فيما يخص مشكلة الشرق الأوسط بالخط السوفيتي المصري معتبرين أن حصر الحل بالحرب الشعبية كطريق وحيد عملاً ضاراً بالجهود الدولية لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي في 5 حزيران 1967.

 كما أنتقد المؤتمر الحكومة لعدم مشاركتها الفعالة في حرب حزيران، وتوجيه سلاح الجيش العراقي إلى صدور أبناء الشعب الكردي، واعتقال وطرد أعداد كبيرة من الجنود والضباط الوطنيين من صفوف الجيش.
كما أنتقد المؤتمر الاتفاقية النفطية مع شركة [إيراب] الفرنسية معتبراً إياها تفريطاً بالمصالح الوطنية وتشديد الهيمنة الإمبريالية على نفط العراق واقتصاده.

 أما الاتحاد السوفيتي فلم يكن راضياً عن الانتقادات التي وجهها المؤتمر للحكومة العراقية، وأقدم على غلق الإذاعة التي كانت تبث من ألمانيا الديمقراطية آنذاك باسم [صوت الشعب العراقي]، وقد استغلت القيادة المركزية ذلك القرار لفضح تبعية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي للحزب الشيوعي السوفيتي، متهمة الحزب بتلقي الأوامر من موسكو، ومؤكدة على أن تكون سياسات وقرارات الحزب منبثقة من الإرادة الوطنية بالدرجة الأولى وعدم الخضوع للإرادة السوفيتية.
لقد سبب الانشقاق الذي قاده عزيز الحاج ضررا بليغاً لجهود الحزب الرامية إلى إسقاط نظام عارف، واستلام السلطة، في ظل ظروف كانت مؤاتية، حيث كان النظام في أقصى حالات الضعف والتمزق، ولا يتمتع بدعم جماهيري على مستوى الشعب، بل كان يمثل مجموعة من الضباط الممسكين بالسلطة، والذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية، إضافة للصراع المحتدم بينهم وبين الضباط الناصريين، وقد فسحت تلك الظروف المستجدة الطريق أمام البعثيين وزمرة النايف والداود للانقضاض على نظام عبد الرحمن عارف، وتنفيذ انقلاب 17 تموز 1968، في الوقت الذي كان الحزب الشيوعي مشغولاً بتضميد جراحه التي سببها انشقاق عزيز الحاج، وسأتناول في حلقات قادمة انقلاب 17 تموز 1968 ، وعودة حزب البعث إلى السلطة من جديد، ومصير الانشقاق الذي قاده عزيز الحاج المأساوي على أيدي البعثيين الذين جربتهم الإمبريالية في انقلاب 8 شباط في حربهم الشعواء ضد الشيوعيين.








12
أحداث في ذاكرتي:

الحقيقة عن أحداث كركوك
وموقف عبد الكريم قاسم من الاحداث
حامد الحمداني                                             2019/6/11

قبل الولوج في تلك الأحداث التي وقعت في كركوك، في غمرة الاحتفالات بالذكرى الأولى لثورة الرابع عشر من تموز 958، لابد أن نستعرض أحوال المدينة، والظروف التي كانت سائدة فيها، والصراعات والمشاكل التي كانت تعاني منها، والتي كان لها الدور الأكبر في تلك الأحداث.
 التركيب السكاني لمدينة كركوك في الأحداث:
إن مدينة كركوك تضم أربع قوميات هي التركمانية والكردية والعربية والآشورية، وكانت العلاقات بين القوميتين الكردية والتركمانية يسودها   جوٌ من التوتر والريبة منذُ زمن طويل يمتد إلى أيام الحكم العثماني، وكان هناك صراعٌ للسيطرة على المدينة، ولما قامت ثورة 14 تموز 958 وقف الأكراد إلى جانب الثورة، وساندوها بشكل حاسم، فيما وقف التركمان بعيدين عنها على أقل تقدير، وكان لاصطفاف الأكراد مع جبهة الاتحاد الوطني ودفاعهم عن الثورة أثرٌ كبير في ازدياد حنق التركمان على الأكراد.
كما أن الأكراد لم يشعروا يوماً بالاطمئنان للتركمان الذين ظلوا يدينون بالولاء لتركيا، ولم ينس الأكراد ما فعلته الدولة العثمانية بهم. لقد أستمر تنامي الكراهية لتركيا بسبب موقفها من حقوق الشعب الكردي في جنوب تركيا الذي يشكل حوالي 15 مليون نسمة.
 فقد وقعت أحداث عديدة فيها، وكانت تلك الأحداث مؤشراً على عمق الهوة بين التركمان والأكراد، حيث قام التركمان باغتيال عدد من الأكراد، أذكر من بينهم سيد ولي ومحمد الشربتجي، ومهاجمة احمد رضا بـ [حامض الكبريتيك]. لكن أخطر تلك الأحداث كانت زرع قنبلة تحت سيارة الزعيم الكردي [مصطفى البارزاني] لمحاولة اغتياله، ولحسن الحظ تم اكتشاف القنبلة وتعطيلها قبل انفجارها، فقد كانت المحاولة ستؤدي لو قدر لها النجاح إلى مذبحة مفجعة.
 احتفالات الذكرى الأولى للثورة، ووقوع الأحداث:
 أقترب موعد الذكرى الأولى لقيام ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، وجرت الاستعدادات اللازمة للاحتفال بهذه المناسبة في مختلف أنحاء البلاد، وجرت اتصالات في كركوك مع الجانب التركماني من أجل أن يكون الاحتفال بهذه الذكرى مشتركاً بين كل القوى السياسية وكل القوميات، فثورة 14 تموز هي ثورة الشعب العراقي كله بمختلف فئاته وانتماءاته وقومياته، غير أن التركمان المتعصبين رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً، وأصروا على أن تكون احتفالاتهم منفردة، وفشلت كل المحاولات للجمع بين الأطراف.
 وعلى هذا الأساس تقرر أن تأخذ مسيرة الاحتفال خط سيرٍ بعيدٍ عن منطقة تجمعهم حرصاً على عدم وقوع  أي احتكاك بين الطرفين، وقد نظمت تلك المسيرة من قبل الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني تحت عنوان[مسيرة الجبهة الوطنية]،وتقرر أن تكون ساحة المدرسة الثانوية مكان تجمع المسيرة، ثم تنطلق إلى الشارع الرئيسي في [ قورية] ، مروراً أمام الثكنة العسكرية، قرب الجسر، بالقرب من القلعة القديمة، ثم إلى الجسر الثاني، حيث تتجه إلى شارع أطلس، ومن ثم تعود المسيرة إلى المكان الذي انطلقت منه في ساحة الثانوية، وقد قررت قيادة المسيرة عدم العبور إلى الصوب الصغير حيث منطقة تجمع التركمان تجنباً لأي احتكاك.
بدأت المسيرة بصورة نظامية، تعلوها الشعارات المقررة سلفاً والتي تدعو إلى وحدة القوى الوطنية، من أجل دعم مسيرة الثورة، وكان يتقدمها مجموعات كبيرة من الأطفال يحملون حمامات السلام، وهذا أكبر دليل على أنه لم تكن في نية القائمين بالمسيرة، ولا في تفكيرهم الاحتكاك أو التصادم مع القوميين التركمان، وكل ما قيل عن تصميم مسبق للمسيرة لمهاجمة التركمان أمرٌ عارٍ عن الصحة اختلقته الرجعية، وعملاء شركات النفط من أجل الإساءة للشيوعيين وحزبهم.
يلي مجموعة الأطفال في المسيرة مجموعة النساء، من رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ثم بقية المنظمات والنقابات المهنية والعمالية، والجمعيات الفلاحية، والتحق بالمسيرة عدد كبير من الجنود، وأفراد المقاومة الشعبية.
 وما أن دخلت المسيرة شارع أطلس ومرت قرب كازينو14 تموز حتى انهال عليها عناصر القوميون التركمان المتعصبون بالحجارة وقطع الطابوق من سطح الكازينو، ثم ما لبثوا أن انهالوا عليهم بالرصاص من كل جانب.

 حلت الفوضى بالمسيرة، بعد أن أخذ المشاركون يتزاحمون ويندفعون للخروج من الشارع الضيق، ودهس عدد منهم تحت الأقدام واستطاع بعض المشاركين في المسيرة شق طريقهم نحو مصدر النيران والحجارة، فيما راحت الجموع تزحف فوق بعضها البعض في جو من الفزع والفوضى، وكان منظر الأطفال والأقدام تدوسهم مؤلم جداً، كما سقط العديد من النساء بين الأرجل.

 لم يكن في تلك اللحظة من الممكن السيطرة على جموح وغضب الجماهير الشعبية بينما الرصاص والحجارة ما زالت تنهمر عليهم من القلعة القديمة، وقد أستمر إطلاق الرصاص منها ثلاثة أيام متتالية، ولم يسكت إلا بعد أن قام الجيش والمقاومة الشعبية بتمشيط القلعة، وقد جرت مشاركة المقاومة الشعبية بطلب رسمي من قيادة الفرقة الثانية بموجب توجيهات وصلتها من بغداد، وكان حصيلة تلك الأحداث مقتل [ 32 ] فرداً من التركمان، وتم اعتقال عدد آخر منهم وضعوا رهن التحقيق.
نتائج أحداث كركوك، وانعكاساتها:
 إن ما حدث في كركوك لم يكن إلا عدواناً أثيماً، دبرته القوى الرجعية المعادية لثورة 14 تموز ومسيرتها، ولم يكن عملاء شركات النفط بعيدين عن تلك الأحداث، ومحرضين عليها.
لقد جرى تضخيم تلك الأحداث، وفبركة وقائع لم تقع إطلاقاً وظهرت شائعاتهم التي كانت تقول أنه كانت هناك مجزرة  أُعد لها مسبقاً، وذهب ضحيتها المئات بل الألوف، ملصقين أشنع التهم بالحزب الشيوعي من أجل استعداء السلطة عليه، وجرى تصوير جثث عدد من القتلى من جهات مختلفة، لتضخيم عدد القتلى لكي يصوروا ما حدث وكأنه مجزرة كبرى قام بها الشيوعيون ضد التركمان، ولاحظوا هنا أن التركيز قد جرى على الشيوعيين وحدهم دون القوى الأخرى، في حين كان العداء المستحكم بين الأكراد والتركمان، وفي حين كان الحزب دائم الحرص على تمتين عرى الاخوة بين سائر مكونات الشعب، وكانت بيانات الحزب المنشورة في صحيفته [ اتحاد الشعب] خير دليل على ذلك ، فقد ورد في الصحيفة في عددها الصادر في 27 آذار 959 ما يلي :
{إننا ننبه أولئك الرجعيين الشوفينيين الذين يوغرون صدور التركمان ويثيرون المخاوف بين الكردي والعربي والتركماني ويزرعون في عين الوقت الفتن ويبثون الشكوك والأكاذيب بين الجماهير الكردية ضد إخواننا التركمان، إننا ندعو المواطنين الكرام إلى التزام جانب الحذر واليقظة، والتمسك بعرى الاخوة والاتحاد بين مختلف القوميات} .
 وفي شهادة مدير شرطة محافظة كركوك أمام المجلس العرفي العسكري حول الأحداث حيث تحدث قائلاً:
 {إن ما جرى بكركوك كان بسبب العداء المستحكم بين التركمان والأكراد، وبالنظر إلى الاستفزازات التي قام بها التركمان، والتي سبقت المسيرة، وفي أثنائها، اتخذت التدابير المقتضية من قبلنا، وفي حوالي الساعة السابعة عندما وصلت المسيرة إلى الجسر القديم وهي في طريقها إلى القلعة، اقتربت منها مظاهرة للتركمان، وكان أهلها يركبون سيارات تابعة للجيش، فتدخلت الشرطة، وحجزت بين الطرفين، وتقدمت المسيرة حتى وصلت إلى مقهى 14 تموز، وهي مقهى يرتادها التركمان، وعلى حين غرة انهالت الأحجار فوق رؤوس المشاركين في المسيرة، وصار هرج ومرج، ثم تطور ذلك إلى استخدام السلاح، ودوى صوت إطلاق الرصاص على المسيرة.
 أخذ الجنود يطلقون الرصاص لإسكات مصدر تلك النيران والحجارة، وُقتل نتيجة ذلك 20 فرداً من التركمان، وجرى سحل بعضهم، وهو أمرٌ مرفوض ومدان طبعاً، وكان من بينهم عطا خير الله وعثمان الجايجي صاحب المقهى، واثنان من أبناء مختار محلة الخاصة فؤاد عثمان، وبلغ عدد الجرحى من الطرفين 130 فرداً، وقد جرى خلال تلك الأحداث مهاجمة 70 مقهى ومحل تجاري عائدة للتركمان، وجرى نهبها أو إحراقها، وكان للأكراد دور كبير في تلك الأحداث}.
قاسم يهاجم الشيوعيين ويتوعد بمعاقبة المسؤولين:
 بدأت التقارير والصور والعرائض من قبل التركمان تنهال على عبد الكريم قاسم، وتتهم الشيوعيين بتدبير مجزرة في كركوك ضدهم، وصدّق قاسم تلك التقارير والصور، قبل أن يجري أي تحقيق، ربما لم يدرك ألاعيب الرجعية وعملاء شركات النفط التي غذت تلك الأحداث وضخمتها من أجل تمزيق وحدة القوى الوطنية، وبالتالي إضعاف السلطة وعزلها عن أشد المدافعين عنها.
وربما أراد قاسم نفسه بالذات تضخيم تلك الأحداث، واتخاذها مبرراً لإضعاف الحزب الشيوعي وتحجيمه، بعد أن تنامت قوته، وتوسع تأثيره على مجرى الأحداث في البلاد، فلقد سارع قاسم إلى عقد مؤتمر صحفي تحدث فيه عن الأحداث قائلاً: {إن الفوضويون يتوجهون إلى المنازل التي أُشروا عليها سابقاً في خرائطهم، فأخرجوا أصحابها، وفتكوا بهم }.
 وقد تبين فيما بعد أن دائرة الكهرباء هي التي قامت بوضع إشارات على الدور لأسباب فنية وإدارية تتعلق بعملها.
  وفي 2 آب 959 ذكر قاسم أن عدد القتلى كان ( 79 ) فرداً، ثم عاد في 2 كانون الثاني  وأكد أن عدد القتلى لا يتجاوز(32)  فرداً، وقد تأكد للمجلس العرفي العسكري أن عدد القتلى كان 32 فرداً منهم (29 ) تركمانياً و( 3 ) أكراد، وجرح ( 130 ) فرداً بينهم (6) أكراد.
 أستمر قاسم في مهاجمة الحزب الشيوعي، وكانت خطاباته عنيفة جداً، وتصريحاته لا تخلو من التهديد والوعيد، وكان رد فعله عنيفاً أثناء خطابه في كنيسة مار يوسف، وفي مؤتمره الصحفي، وفي حديثه مع وفد اتحاد نقابات العمال في 4 آب 1959. ففي خطابه في كنيسة مار يوسف قال قاسم:
{إن ما حدث أخيراً في مدينة كركوك، فأني اشجبه تماماً، وباستطاعتنا أيها الاخوة أن نسحق كل من يتصدى لأبناء الشعب بأعمال فوضوية، نتيجة للحزازات والأحقاد والتعصب الأعمى. أنني سأحاسب حساباً عسيراً أولئك الذين اعتدوا على حرية الشعب في كركوك بصورة خاصة، ثم أضاف قاسم قائلاً أولئك الذين يّدعون بالحرية، ويدّعون بالديمقراطية لا يعتدون على أبناء الشعب اعتداءً وحشياً. إن أحداث كركوك لطخة سوداء في تاريخنا، ولطخة سوداء في تاريخ ثورتنا. هل فعل جنكيز خان أو هولاكو هذا من قبل؟  هل هذه هي مدنية القرن العشرين؟  لقد ذهب ضحية هذه الحوادث 79 قتيلاً، يضاف إليهم 46 شخصاً دُفنوا أحياء!، وقد تم إنقاذ البعض منهم}.
 لكن قاسم ما لبث أن تراجع قليلاً عن كلامه قائلاً:
{إننا لا نلقي اللوم والمسؤولية على مبدأ أو حزب معين، الأفراد هم المسؤولون عن ذلك، وسنحاسبهم كأفراد ولا نريد اضطهاد المنظمات}.
  لقد كان قاسم في تلك الأيام على غير عادته، قد فقد توازنه، وانساق بشكل عاطفي أنساه ما أعتاد عليه من حكمة وحذر، وصبر وأناة، فكانت خطاباته تلقي الحطب على الحريق، وتبين أن ما ورد حول دفن الأحياء لا أساس له من الصحة، ولم يثبت خلال المحاكمات التي جرت أمام المجلس العرفي العسكري للمتهمين شيئاً من هذا القبيل.
 وتبين فيما بعد أن قاسم أراد استغلال تلك الأحداث كذريعة لتحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه وضربه، بعد أن تنامى نفوذه في صفوف الجماهير، وقد أرعبته مسيرة الأول من أيار 1959، والتي رفع خلالها الحزب الشيوعي شعار إشراكه في السلطة: {عاش الزعيم عبد الكريمٍ، الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم}.
 هكذا إذاً وجد قاسم أن استخدام أحداث الموصل وكركوك خير ذريعة لتوجيه ضربته للحزب، وكان من بين الإجراءات الأخرى التي اتخذها ضد الحزب إبعاد كافة الشيوعيين وأصدقائه من إدارة المراكز الوظيفية، وكان نصيبي أن أبعدني من إدارة مدرسة الفلاح بالموصل مع العديد من مدراء المدارس الأخرى، وأعاد كل العناصر الرجعية المعادية للثورة بدلاً عنا، علماً أنني كنت مديراً لعدة مدارس منذ عام 1953. كما أقدم قاسم على إبعاد إعداد كبيرة من الضابط من المحسوبين على الحزب عن
 الجيش، وأصدر قراراً بحل المقاومة الشعبية.
كما أصدر قرارات أخرى بحل قيادات النقابات، والجمعيات الفلاحية، وسلم قيادتها بيد العناصر الرجعية. وبعد كل هذا الذي جرى لابد لكل منصف وحيادي أن يسأل:
1 ـ مْن بدأ الاعتداء على المسيرة ؟ ومن أطلق النار وقذف الحجارة
 2ـ منْ زور الصور وصوّر الأحداث كأنها مجزرة كبرى قالت عنها إذاعة [صوت العرب] بأن عدد القتلى بلغ 3500 فرداً؟
 3 ـ هل خُدع قاسم بالتقارير التي نُقلت له عن تلك الأحداث؟ وهل كان من الصعب عليه الوصول للحقيقة؟
 4ـ هل كان قاسم يعرف الحقيقة لكنه أراد استخدام تلك الأحداث لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي؟
 5ـ هل كان بمقدور الحزب الشيوعي خلال تلك الأحداث السيطرة على الجماهير الغاضبة ومنع القتولات التي حصلت، وما رافقها من سحل للجثث؟
 إن الإجابة على هذه الأسئلة تلقي الضوء على تلك الأحداث التي كانت تمثل بداية الانتكاسة لثورة الرابع عشر من تموز، واستمرت في تراجعها حتى وقوع انقلاب الثامن شباط الفاشي عام963.
 لقد قام قاسم بتشكيل لجنتين تحقيقيتين، وأرسل الأولى إلى الموصل، والثانية إلى كركوك، وزودها مسبقا بأسماء ابرز الشيوعيين المعروفين في المدينتين المذكورتين مع مذكرات بإلقاء القبض عليهم، حيث جرى اعتقالهم، وطافت سيارات عسكرية مجهزة بمكبرات الصوت داعية الناس إلى التقدم للشهادة ضد المعتقلين، المتهمين بأحداث الموصل وكركوك، وأُحيل المعتقلون إلى المجالس العرفية العسكرية لتحكم عليهم بأحكام قاسية وطويلة، وسيق المحكومون إلى سجن نقرة السلمان السيئ الصيت الذي أنشأه نوري السعيد في وسط الصحراء بعيداً عن أهلهم وذويهم.
 وحينما وقع انقلاب 8 شباط عام 1963، وجد الانقلابيون الصيد في القفص حيث أسرعوا إلى إعادة محاكمتهم من جديد خلافاً للقانون، بعد أن استخدموا معهم أبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، وأصدروا بحق العديد منهم أحكام الموت، ونفذوها في شوارع الموصل وكركوك.
  رد فعل الحزب الشيوعي على إجراءات قاسم
جاء رد فعل الحزب الشيوعي على الهجوم الذي شنه قاسم عليه في مقال افتتاحي لصحيفة الحزب [اتحاد الشعب] وجاء فيه:
{قيل عنا بأننا نؤمن بالعنف ضمن إطار الحركة الوطنية، وبعلاقاتنا مع القوي الوطنية الأخرى. إن هذا محض دس وافتراء يقصد به التشهير ليس إلا، وكنا قد أكدنا في مقال افتتاحي معروف نُشر منذُ زمن بعيد، بأن الأسلوب هو المحك، ولكن يبدو الآن أن هناك نية مقصودة لُيقرن هذا الموقف الصحيح الثابت باندفاع بعض البسطاء، وغير الحزبيين من جماهير الشعب. نحن ندين بصورة مطلقة كل أشكال الاعتداء على الناس الأبرياء، وأي عمل من أعمال التعذيب حتى بحق الخونة. إن إدانتنا لهذه الممارسات هي إدانة مبدأية}.
وفي الثالث من آب 1959 نشر الحزب موجز التقرير الموسع لاجتماع اللجنة المركزية للحزب الذي أكد على إدانة كل شكل من أشكال الاعتداء، والعنف ضد الخصوم السياسيين، وكل أعمال القتل أو السحل أو النهب والحرق التي حدثت في كركوك، مؤكداً على أهمية الحلف بين الحزب والسلطة، وكافة القوى الوطنية من أجل دفع مسيرة الثورة إلى أمام لتحقيق أماني الشعب، مؤكداً السير بخطى ثابتة مع قيادة الثورة، وحماية مكتسباتها التي هي ثمرة تضحيات كبيرة عبر سنوات النضال الطويلة.
لقد أتسم موقف الحزب الشيوعي، بعد أحداث كركوك بالتراجع والانكماش، ولم يتخذ موقف الدفاع عن نفسه ضد الهجمة الشرسة التي شنتها القوى الرجعية ضده، وساعدها جهاز السلطة الموروث عن العهد الملكي، وكان لموقف قاسم من الحزب الأثر الحاسم في دعم تلك الهجمة من أجل تقليص دور الحزب وتحجيمه، وتوجيه الضربات المتتالية له.

هذه هي حقيقة ما جرى في كركوك، ولا بد لي في النهاية أن أقول بأن كل أعمال الاعتداء، والتمثيل بالجثث، وأعمال النهب والسلب والحرق هي عمليات مدانة بصرف النظر من أي جهة صدرت وتحت أي مبرر، فهي بكل تأكيد أعمال مرفوضة تتعارض ومبادئ حقوق الإنسان، وينبغي إدانتها.
إن الفيصل في مثل هذه الأحداث هي السلطة القضائية التي تمتلك الحق في إجراء التحقيق والمحاكمة، ومعاقبة المدانين بموجب القانون، وليس من حق أحد أن يجعل من نفسه فوق القانون، حيث تسقط هيبة الدولة، وتسود شريعة الغاب، وحيث يفتقد المواطنون الأمان.


13


أحداث في ذاكرتي
عبد السلام عارف يقود انقلابا عسكريا
ويسقط نظام البعث
حامد الحمداني                                                   8/6/2019
في الحادي عشر من شباط 1963، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف الذي نصبوه رئيساً للجمهورية صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية للحزب إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف، أو إزاحته من منصبه قائلاً:
{إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي خلال اجتماع القيادة في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه، لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع سارع حازم جواد لمقابلة عبد السلام عارف، وأخبره بما دار في الاجتماع، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}.

كان الخلاف الثاني بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم، وبرز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من ذلك أدى الأمر إلى تعميق الخلافات والصراعات فيما بين أعضاء القيادة.

وفي شهر حزيران 1963 ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام وراحة المواطنين.

 فقد كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب بشكل عام، والشيوعيين منهم بوجه خاص، قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم وإجرامهم.
إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [منذر الونداوي] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة، في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره.
وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش وعلى رأسهم عبد السلام عارف إلى مرحلة عالية من التوتر، وبدأ عبد السلام عارف يفكر في قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.
وجاءت الحرب التي بدأها البعثيون في كردستان في 1 أيار 63 لتزيد وضعهم حراجة، وتعمق الخلافات فيما بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم، وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم.

حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد، وطالب شبيب، التخلص من علي صالح السعدي وإخراجه من الحكومة، ومن مجلس قيادة الثورة، إلا أن الظروف لم تكن مواتية لمثل هذا العمل في ذلك الوقت.

ففي 13 أيلول عُقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من: هاني الفكيكي، وحمدي عبد المجيد، ومحسن الشيخ راضي، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وكريم شنتاف بتلك الانتخابات.

 وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر، فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الادعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين.

وفي الفترة ما بين 5ـ23 تشرين الأول جرى عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي وحمود الشوفي، حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس وقائد الحزب [ميشيل عفلق]، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي وحول المزارع التعاونية للفلاحين.

ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي والشوفي] داخل المؤتمر، وجعلته يصرح علناً [هذا لم يعد حزبي].
وبعد أن قوى علي صالح مركزه داخل القيادتين القطرية والقومية بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، وأخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقفه، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب.

 فقد وقف الونداوي، وحمدي عبد المجيد، ومحسن الشيخ راضي، بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد، وطالب شبيب، وطاهر يحيى ـ رئيس أركان الجيش ـ وحردان عبد الغفار التكريتي ـ قائد القوة الجوية، وعبد الستار عبد اللطيف ـ وزير المواصلات، ومحمد المهداوي ـ قائد كتيبة الدبابات الثالثة، إلى الجانب المعارض لجناح السعدي، بينما وقف أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش على الحياد، لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، وأنهما يؤيدان معارضيه في الخفاء.

كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية والناصرية والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين، فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف، واشتداد الصراع بين الجناحين، وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف السعدي نفسه عندما حاول جناح [جواد وشبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف.
وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 963 1، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية، وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما عيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية، وكان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي، ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة، وما يسمى بمجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.

وفي 1 تشرين الثاني صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم، وأصرّ على البقاء في منصبه في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام.

وفي11 تشرين الثاني عُقد مؤتمر قطري استثنائي لانتخاب ثمانية أعضاء جدد للقيادة القطرية لكي يصبح العدد 16 عضواً بموجب النظام الداخلي الذي تبناه المؤتمر القومي السادس [المادة 38 المعدلة من النظام الداخلي]، غير أنه ما أن بُوشر بإجراء الانتخاب حتى داهم 15 ضابطاً مسلحاً قاعة الاجتماع بقيادة العقيد محمد المهداوي الذي بدأ يتحدث أمام المؤتمرين بعصبية قائلاً:
{لقد اخبرني فيلسوف الحزب الرفيق ميشيل عفلق أن عصابة استبدت بالحزب في العراق، ومثلها في سوريا، وأن العصابتين وضعتا رأسيهما معاً، وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس، ولذلك يجب القضاء عليهما}.
 كما هاجم المهداوي قرارات المؤتمر القومي السادس واصفاً إياه بمؤامرة ضد الحزب، وطالب بانتخاب قيادة قطرية جديدة تحت تهديد أسلحة الضباط المرافقين له.
تظاهر المؤتمرون باختيار قيادة جديدة، واشترك الضباط بالتصويت، علماً بان بعضهم لم يكن بعثياً على الإطلاق، وجاء على رأس القيادة الجديدة [حازم جواد] بالإضافة إلى فوز أنصاره.
غير أن المهزلة لم تنتهِ إلى هذا الحد، فقد أسرع الضباط إلى اعتقال علي صالح السعدي، ومحسن الشيخ راضي، وحمدي عبد المجيد، وهاني الفكيكي، وأبو طالب الهاشمي، الذي كان يشغل منصب نائب القائد العام للحرس القومي، وجرى تسفير الجميع على متن طائرة عسكرية إلى مدريد.
امتداد الصراع إلى الشارع:
هكذا أنفجر الوضع المتأزم في ذلك اليوم، وامتد الصراع إلى الشارع، ففي صباح يوم 13 تشرين الثاني اندفعت أعداد غفيرة من مؤيدي علي صالح السعدي، ومن الحرس القومي إلى شوارع بغداد، وأقاموا الحواجز في الطرق، واحتلوا مكاتب البريد، والبرق والهاتف، ودار الإذاعة وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة فيها، و أسرع الونداوي إلى قاعدة الرشيد الجوية ومعه طيار آخر، وامتطيا طائرتين حربيتين، وقاما بقصف القاعدة المذكورة، ودمرا [5 طائرات] كانت جاثمةعلى ارض المطار.

وفي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم أذاع وزير الدفاع صالح مهدي عماش بياناً من دار الإذاعة حذر فيه أحمد حسن البكر من أن هناك محاولة لجعل البعثيين يقتلون بعضهم بعضاً وهذا ما لا يفيد إلا أعداء الحزب، كما وجه نداءً للعودة إلى العلاقات الرفاقية وإلى التفاهم والأخوة. وفي تلك الأثناء فرضت قوات الحرس القومي سيطرتها على أغلب مناطق بغداد، ورفض البكر وعماش إعطاء الأمر إلى الجيش بالتدخل، وأصبحت قيادة فرع بغداد للحزب هي التي تقود الحزب في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ حكم البعث، وطالبت تلك القيادة بإعادة السعدي ورفاقه إلى العراق، وممارسة مهامهم الحزبية والرسمية، غير أنها لم تفلح في ذلك، واضطرت إلى الموافقة على إحالة القضية إلى القيادة القومية لتبت فيها.
وفي مساء ذلك اليوم  13 تشرين الثاني  وصل إلى بغداد مؤسس الحزب [ميشيل عفلق] والرئيس السوري [ أمين الحافظ] بالإضافة إلى عدد آخر من أعضاء القيادة القومية للحزب. غير أن عبد السلام عارف لم يجر لهما استقبالاً رسمياً كما يقتضي البروتوكول والعرف الدبلوماسي، كما لم يحاول الالتقاء بالوفد، مما جعل الوفد يحس أن هناك جو غير طبيعي في بغداد، وأن لابد من أن يكون هناك أمراً يدبر ضد حكم حزب البعث.

حاول ميشيل عفلق ورفاقه في الوفد التصرف بشؤون العراق حيث أصدروا قراراً بنفي حازم جواد، وزير الداخلية، وطالب شبيب، وزير الخارجية، متهمين إياهما بأنهما أساس الفتنة، كما أصدر الوفد قراراً آخر بحل القيادة القطرية التي جرى انتخابها تحت تهديد الضباط الخمسة عشرة، وكذلك القيادة القطرية التي كان يقودها علي صالح السعدي، وأعلن عن تسلم القيادة القومية للمسؤولية لحين انتخاب قيادة قطرية جديدة.
هكذا إذاً كان تصرف عفلق والوفد الموافق له تجاهلاً لعبد السلام عارف بصفته رئيساً للجمهورية، كما أن الرابطة التي كانت تجمع الضباط البعثيين بالقيادة المدنية قد تفككت، ودبت الخلافات العميقة بينهم، وسارع الجناح المدني في الحزب يتحدى من اسماهم بأعداء الحزب، ودعا اتحاد العمال الذي يسيطر عليه الحزب إلى سحق رؤوس البرجوازيين الذين خانوا الحزب، وإعدام أصحاب رؤوس الأموال الذين هربوا أموالهم إلى الخارج.

 كما دعوا إلى تأميم كافة المشاريع الصناعية في البلاد، وكانت تلك الاندفاعات لجناح الحزب المدني كلها  تصب في خانة عبد السلام عارف الذي صمم على إزاحة حزب البعث عن السلطة، وأحكام قبضته على شؤون البلاد دون منازع أو شريك، بعد أن وصلت حالة الحزب إلى أقصى درجات التمزق والتناحر، وبعد أن عمت الفوضى أرجاء البلاد، وبلغ استياء ضباط الجيش الممسكين بالمراكز القيادية في الجهاز العسكري من تصرف القيادة البعثية مداه، قرر عبد السلام عارف بالتعاون مع تلك العناصر العسكرية توجيه ضربته القاضية لحكم البعث، وإنهاء سيطرتهم على مقدرات البلاد،  فقد استغل عبد السلام تلك الظروف البالغة الصعوبة التي مرّ بها حزب البعث، وبالتنسيق مع عدد من أولئك الضباط  وكان منهم :
1-عبد الرحمن عارف، شقيقه، قائد الفرقة الخامسة.
2 – الزعيم الركن عبد الكريم فرحان، قائد الفرقة الأولى.
3 – العقيد سعيد صليبي، آمر الانضباط العسكري.
4 – الزعيم الركن الطيار حردان التكريتي، قائد القوة الجوية.
5 – اللواء الركن طاهر يحيى، رئيس أركان الجيش.
هذا بالإضافة إلى العديد من الضباط الآخرين ذوي الميول القومية.
وفي فجر يوم 18 تشرين الثاني 1963 قامت طائرات عسكرية بقصف مقر القيادة العامة للحرس القومي في الأعظمية، ثم تقدمت الدبابات، والمصفحات لتستولي على كافة المرافق العامة في بغداد، ومقرات الحرس القومي، وحاول البعثيون مقاومة الانقلاب في بادئ الأمر، إلا أن الأمر كان قد حسم في نهاية النهار، فلم يكن باستطاعة الحرس القومي، وهو يحمل الأسلحة الخفيفة أن يقاوم الدبابات والمصفحات والصواريخ والطائرات.

 سارع أفراد الحرس إلى إلقاء سلاحهم، والتخلص منه، برميه في الحقول والمزارع والمزابل بعد أن هددهم عبد السلام عارف بإنزال العقاب الصارم بهم  إن هم استمروا على حمل السلاح أو إخفائه، وأجرى الجيش مداهمات لمساكن أفراد الحرس القومي بحثاً عن السلاح.
 كما جرى إلقاء القبض على أعداد كبيرة من البعثيين لفترة محدودة من الزمن، حيث تمكن الجيش من إحكام سيطرته على البلاد، وأخذ النظام فيما بعد يطلق سراح البعثيين المعتقلين  في حين بقي السجناء والموقوفين الشيوعيين والديمقراطيين في السجون، وجرى تنفيذ أحكام بالإعدام، كانت قد أصدرتها المحاكم العرفية على عهد البعثيين، بعد تسلم عبد السلام عارف زمام الأمور في البلاد، فقد كان العداء للشيوعية هو الجامع الذي جمع البعثيين والقوميين دون استثناء، ربما شيء واحد فقط قد تغير، هو تخفيف حملات التعذيب أثناء التحقيقات مع المعتقلين، واستمرت المحاكم العرفية تطحن بالوطنيين طيلة عهد عارف.

وفي مساء يوم الثامن عشر من تشرين الثاني 1963، تلاشت مقاومة حزب البعث وحرسه القومي في أنحاء البلاد، وتم لعبد السلام عارف وقادته العسكريين السيطرة التامة على البلاد، وبدأ على الفور بترتيب البيت، مانحاً نفسه صلاحيات استثنائية واسعة لمدة سنة تتجدد تلقائياً إذا اقتضى الأمر ذلك، وعمد عبد السلام إلى الاعتماد على الروابط العشائرية، وخاصة عشيرة [الجميلات]، فقد عين شقيقه [عبد الرحمن عارف] وكيلاً لرئيس أركان الجيش، رغم كونه ليس ضابط أركان. 
 كما عين صديقه، وأبن عشيرته [ سعيد صليبي ] قائداً لحامية بغداد، فيما أعلن عارف نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ثم رئيساً لمجلس قيادة الثورة. كما جاء عارف باللواء العشرين الذي كان يقود أحد أفواجه عند قيام ثورة 14 تموز، واتخذ منه حرسه الجمهوري الخاص به حيث اغلب عناصره من عشيرة الجميلات وغيرها من عشائر محافظة الأنبار المؤيدة له.
 
بدأ عبد السلام عارف حكمه معتمداً على ائتلاف عسكري ضم الضباط القوميين والناصريين، والضباط البعثيين الذين انقلبوا على سلطة البعث، فقد أصبح [طاهر يحيى] رئيساً للوزراء، و[حردان التكريتي] نائباً للقائد العام للقوات المسلحة، ووزيراً للدفاع، فيما عيين [أحمد حسن البكر] نائباً لرئيس الجمهورية والزعيم [رشيد مصلح] وزيراً للداخلية وحاكماً عسكرياً عاماً، ويلاحظ أن هؤلاء جميعاً من منطقة تكريت، ومن العناصر البعثية.

أما العناصر القومية والناصرية التي شاركت في الحكم فكان على رأسها الزعيم الركن[محمد مجيد] مدير التخطيط العسكري، والزعيم الركن[عبد الكريم فرحان] الذي عيين وزيراً للإرشاد و[عارف عبد الرزاق] الذي عيين قائداً للقوة الجوية، والعقيد الركن [هادي خماس] مديراً لجهاز الاستخبارات العسكرية، والمقدم [صبحي عبد الحميد]الذي عيين وزيراً للخارجية.
عبد السلام عارف يبعد العناصر البعثية عن الحكم:
رغم تعاون الضباط البعثيين مع عبد السلام عارف في انقلاب 18 تشرين الثاني 1963، ضد قيادتهم المدنية، واشتراكهم في حكومته الانقلابية، إلا أن عارف لم يكن يطمأن لوجودهم في السلطة، ولم يكن إشراكهم في الحكم من قبله سوى كونه عمل تكتيكي من أجل نجاح انقلابه ضد سلطة البعث وتثبيت حكمه، لكنه كان في نفس الوقت يتحين الفرصة للتخلص منهم ، وقد ساعده في ذلك الكره الشعبي الواسع النطاق للحكام البعثيين بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق الوطنيين طيلة فترة حكمهم البشع، وهكذا وبعد أن تسنى لعارف تثبيت أركان حكمه بدأ بتوجيه الضربات للعناصر البعثية تلك.
 ففي 4 كانون الأول 964 أعفى عارف المقدم [عبد الستار عبد اللطيف] من وزارة المواصلات، وفي 16 منه أزاح عارف [حردان التكريتي] من منصبه كقائد للقوة الجوية. وفي 4 كانون الثاني 1964 ألغي عارف منصب نائب رئيس الجمهورية وتخلص من [احمد حسن البكر] الذي كان يشغل المنصب، وعينه سفيراً بديوان وزارة الخارجية، ولم يبقَ إلا رشيد مصلح التكريتي، وزير الداخلية والحاكم العسكري العام، الذي ربط مصيره بمصير عارف، مهاجماً أعمال البعثيين وجرائمهم، وبذلك أصبح الحكم بقيادة عبد السلام عارف، وبرز الناصريون في مقدمة النظام، وبدأ النظام يقلد الجمهورية العربية المتحدة في أساليبها وخططها التنموية، حيث أقدمت الحكومة على تأميم المصارف، وشركات التأمين مع 32 مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، وخصصت الدولة 25% من الأرباح للعمال والموظفين العاملين فيها، وقررت تمثيلهم في مجالس الإدارة، كما أقدم النظام الجديد على تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز 1964، على غرار الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة، ودُعيت القوى السياسية في البلاد إلى الانضواء تحت راية هذا الاتحاد، وقد أستهوى هذا الإجراء، وتلك التحولات الاقتصادية جانباً من قيادة الحزب الشيوعي، حيث برزت دعوة لحل الحزب والانضمام إلى الاتحاد المذكور.

 لكن هذا الاتجاه لم ينجح في جر الحزب إليه بعد أن وقفت العناصر الحريصة على مصلحة الحزب ضد دعوة الحل والانضمام للاتحاد الاشتراكي، وبسقوط حكم حزب البعث انزاح الكابوس الذي خيم على الشعب العراقي بمختلف أطيافه، وخفت الحملات الفاشية التي كان يمارسها الحرس القومي المنحل، وتنفس المواطنون الصعداء، فقد كان سقوط حكم البعث عيداً حقيقياً لنا بعد تلك الجرائم الوحشية التي ارتكبوها بحق الشيوعيين والديمقراطيين،  والتي ذهب ضحيتها عشرات الألوف، على الرغم من أن الانقلابيين الجدد هم في واقع الحال شركاء البعث في انقلاب 8 شباط المشؤوم، وكل الجرائم التي ارتكبت في تلك الفترة من حكم البعث.






14
أحداث في ذاكرتي
انشقاق القوى القومية والبعثية
بقيادة عبد السلام
حامد الحمداني                                               5/6/2019
لم تكد تمر سوى أيام قليلة من عمر الثورة التي باركها الشعب بكل قواه السياسية الوطنية حتى ظهرت بوادر الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية، فقد كانت خطب عبد السلام عارف وهو يطوف المدن العراقي الواحدة بعد الأخرى، ويقوم بزيارة قطعات الجيش المتواجدة فيها تتناقض كلياً مع توجهات الثورة وأهدافها الآنية في الاهتمام بإجراء التغييرات الضرورية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يخدم حاضر ومستقبل العراق، وتحقيق العيش الكريم للشعب.

لقد سببت تلك الخطابات غير المسؤولة بلبلة كبرى في صفوف أبناء الشعب والقوات المسلحة من جهة، وإحراج الحكومة أمام مختلف دول العالم من جهة أخرى، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية عبد الجبار الجومرد أن أبدى انزعاجه مراراً وتكراراً مما يرد في خطابات عبد السلام عارف.

لقد تبنت القوى القومية والبعثية عبد السلام عارف ودعمته تحت شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، من دون مراعاة لاختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية بين البلدين، ومن دون مراعاة التركيب القومي للمجتمع العراقي، رافضين إتاحة الفرصة لإحداث التغييرات اللازمة في الهياكل السياسة والاقتصادية، والاجتماعية في الوطن.

بدأت تلك القوى منذُ الأيام الأولى للثورة تسيّر التظاهرات المطالبة بالوحدة الفورية دون أن تستخلص التجربة من وحدة سوريا مع مصر التي جرت بصورة مستعجلة، وأدت إلى ظهور تناقضات واسعة وعميقة بين البلدين، والتي قادت إلى الانفصال فيما بعد.

لقد اتهمت تلك القوى بقية القوى السياسية الوطنية بالشعوبية، والقطرية وغيرها من الاتهامات المشينة لأنها أرادت التريث في الأقدام على خطوة خطيرة كهذه بالنسبة لمصير الشعب والوطن، وإيجاد أفضل الوسائل والسبل الكفيلة بإقامة أوسع الروابط مع الجمهورية العربية المتحدة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وصولاً إلى الوحدة فيما بعد، على أن تكون قائمة على أُسس ديمقراطية حقه، ويقرر الشعب نفسه عبر انتخابات برلمانية حرة ونزيهة.
إن الوحدة العربية أملٌ كبيرٌ وعزيزٌ على كل عربي محب لأمته، غير انه كان من الضروري الأعداد لها بمنتهى التبصر والحكمة وعدم التسرع لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها الوحدة السورية المصرية، لكن عبد السلام عارف والسائرين وراءهُ، ومحاولات التدخل من جانب السفارة المصرية لفرض الوحدة، أدت إلى تعمق الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية.
ولم يكتف عبد السلام عارف بخطبه الجوفاء تلك، بل سارع إلى إصدار صحيفة [صوت الجماهير] الناطقة باسمه، وترأس تحريرها الدكتور الدكتور [سعدون حمادي] أحد قياديي حزب البعث مخالفاً بذلك قانون الصحافة، ومتجاوزاً كونه الشخص الثاني في حكومة الثورة، وقد أستخدم تلك الصحيفة لإشاعة مفاهيم غير متفق عليها فيما يخص قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ولعبت تلك الصحيفة دوراً خطيراً في شق الصف الوطني منذُ الأيام الأولى للثورة.

لقد حذر الزعيم عبد الكريم قاسم رفيقه في الثورة عبد السلام عارف من مخاطر تلك التصرفات وأثارها السلبية على مصير الثورة والشعب، وأضطر عبد السلام عارف تحت ضغط عبد الكريم قاسم إلى التنازل عن ملكية الصحيفة تلك، لكنه سلمها لحزب البعث لكي تستمر على سياستها الهادفة إلى شق وحدة الشعب وقواه السياسية الوطنية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، وخيمة ثورة 14 تموز المجيدة.

وبعد عشرة أيام من قيام الثورة زار العراق مؤسس حزب البعث [ميشيل عفلق]، والتقى برفاقه في حزب البعث العراقي مشدداً عليهم ضرورة العمل الجدي من أجل تحقيق الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة.

وفي 19 تموز سافر وفد عراقي برئاسة عبد السلام عارف وعضوية عدد من الوزراء إلى دمشق، والتقى الوفد بالرئيس [جمال عبد الناصر]، وجرت مباحثات بين الطرفين انتهت بالتوقيع على اتفاقية للتعاون تضمنت خمس نقاط هي:
  1ـ التأكيد على الروابط بين البلدين، وعلى المواثيق والعهود كميثاق الجامعة العربية، وميثاق الدفاع العربي المشترك.
  2ـ التأكيد على تنسيق المواقف بين البلدين فيما يخص الموقف الدولي، وتصميم الطرفين على التعاون والتنسيق ضد أي عدوان محتمل.
  3ـ التعاون بين الطرفين في مجال العلاقات الدولية، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة ودعم السلم العالمي.
 5 ـ التشاور والتعاون بين البلدين في كل ما يخص الشؤون المشتركة.
وخلال تواجد الوفد العراقي في دمشق أجتمع عبد السلام عارف مع الرئيس عبد الناصر بصورة منفردة، حيث دار بين الجانبين نقاش حول ضرورة إقامة الوحدة الفورية بين البلدين، وعاد الوفد إلى العراق، وعاد عبد السلام عارف يصعّد من حملته الرامية إلى الوحدة الفورية، ومُحدثاً شرخاً كبيراً في صفوف الثورة، والحركة الوطنية للشعب العراقي.

واستغلت الإمبريالية وعملائها من قوى الإقطاعيين والرجعيين الذين تضررت مصالحهم من قيام ثورة 14 تموز وإنجازاتها حيث وجدت ضالتها المنشودة في تمزيق وحدة الشعب وقواه السياسية، وبدأت تصب الزيت على النار مستغلة الشعارات التي رفعتها تلك القوى لا حباً بالوحدة ولا رغبة فيها، وهي التي سعت دوماً إلى تمزيق الصف العربي، بل لتمزيق وحدة الشعب العراقي وقواه الوطنية المنضوية تحت راية الثورة، لكي يسهل عليها تمرير مؤامراتها الهادفة إلى إسقاطها، وتصفية كل منجزاتها.

كان على الطرف الآخر من المعادلة، وأعني به كل القوى الديمقراطية والشيوعية التصدي لذلك الشعار غير المدروس، والذي رُفع في غير أوانه، حيث بادرت تلك القوى إلى رفع شعار [الاتحاد الفدرالي] مع الجمهورية العربية المتحدة، مع السعي لرفع تلك العلاقة إلى مستوى الوحدة الكاملة عندما تتوفر الشروط الموضوعية لها في المستقبل، وفي ظل جو من الحرية والديمقراطية.

وبدأ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي، مظاهرات بعثية وقومية تهتف بالوحدة الفورية، وأخرى شيوعية وديمقراطية تهتف بالديمقراطية والاتحاد الفيدرالي، وأخذ الصراع يتنامى في الشارع العراقي ويزداد تعمقاً يوماً بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئاً نحو العداء السياسي والخصومة الدموية بين البعثيين والقوميين من جهة، وبين الشيوعيين والديمقراطيين من جهة أخرى، وجرت احتكاكات بين المتظاهرين من كلا الجانبين، وتوسعت تلك الاحتكاكات لتصبح حالة من الصدام الشرس بين الطرفين حلفاء الأمس، وللحقيقة والتاريخ أقول أن الشيوعيين والديمقراطيين كانوا قد بذلوا أقصى الجهود من أجل إعادة اللحمة لجبهة الاتحاد الوطني، والسير معاً لتحقيق آمال وأحلام الشعب العراقي الذي قاسى عقوداً من الزمن من ذلك النظام القمعي الذي أمتهن حقوق الشعب وحرياته، والذي بدد ثروات البلاد في أمور لا تخدم مصالح الشعب المنهك، مما أبقاه في تخلف وجهل، وفقر مدقع.

كان الشعب العراقي يخوض خلال تلك الحقبة نضالاً متواصلاً من أجل حريته، وامتلاك ناصية أمره، لكن كل تلك الجهود التي بذلت في هذا السبيل ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الطرف المنشق قد عقد العزم على السير حتى النهاية في هذا الطريق، وهكذا تنافر القطبان اللذان كانا بالأمس القريب يعملان يداً بيد  من أجل انتصار الثورة ونجاحها، وتحقيق الأهداف التي ناضل شعبنا من أجلها.

ومما زاد في الطين بله دخول الجمهورية العربية المتحدة حلبة الصراع واضعةً كل ثقلها السياسي إلي جانب تلك القوى ضاربةً عرض الحائط بأهم ركن من أركان حركة التحرر العربي، ولم يكن الرئيس عبد الناصر يدري آنذاك أن أولئك الذين رفعوا تلك الشعارات لم يكونوا جادين في أقوالهم، بل أرادوا أن يكون التصاقهم به سلماً يصعدون بواسطته إلى قمة السلطة واغتصابها لا غير. لقد أثبتت الأحداث بعد اغتيال ثورة 14 تموز، على أيدي نفس تلك الرموز في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963عدم صدقيتهم وإيمانهم بالوحدة، فما أن تسلم البعثيون السلطة أثر نجاح انقلابهم المشؤوم حتى تنكروا لكل شعاراتهم، واستطابوا السلطة واضعين تلك الشعارات على الرف.
كذلك فعل عبد السلام عارف الذي أطاح بحكم البعث في انقلاب 18 تشرين الأول من نفس العام وأستحوذ على السلطة بصورة كاملة، فقد تنكر لكل أقواله وشعاراته حول الوحدة وحبه لعبد الناصر، تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها، فقد كانوا غير وحدويين إطلاقاً، وإنما استخدموا رصيد الرئيس عبد الناصر السياسي والوطني من أجل وثوبهم على السلطة.

 هكذا إذاً تعمقت الخلافات بين القوى السياسية، وأشتد التنافر بين القطبين الذين قادا ثورة الرابع عشر من تموز، عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف، وحدث شرخ كبير بين تلك القوى التي سعت قبل الثورة لأحداث التغيير المنشود، أمل الشعب، الذي ناضل وضحى من أجله خلال عدة عقود، ولم تفد جميع المحاولات لرأب الصدع والرجوع عن الخطأ.

لقد وقفت القوى الديمقراطية والشيوعية بكل ثقلها إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم من أجل الحفاظ على الثورة ومكاسبها وفي خضم ذلك الصراع تم رفع شعار[الزعيم الأوحد]، ذلك الشعار الذي ترتبت عليه أضرار كبيرة على مجمل الحركة الوطنية، وعلى مستقبل العراق السياسي فيما بعد، حيث شجع عبد الكريم قاسم الذي استهواه ذلك الشعار على التوجه نحو الحكم الفردي، بعيداً عن أمال الشعب في قيام حكم ديمقراطي سليم، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة للمجلس التأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق الحريات العامة، حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية تأسيس المنظمات المدنية الجماهيرية والمهنية، وتداول السلطة بشكل ديمقراطي سليم .
 لكن الحزب الشيوعي انجر هو وجماهيره وراء ذلك الشعار من أجل تغليب كفة عبد الكريم قاسم، والحيلولة دون اغتيال  الثورة وآمال الشعب التي عقدها عليها، وكان لذلك الموقف جانبه السلبي الخطير على مجمل مسيرة الثورة، حيث أخذ عبد الكريم قاسم يتحول شيئًا فشيئاً نحو الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، وتحجيم بل وضرب تلك القوى التي كان لها الدور الفاعل والرئيسي في رجحان كفته في ذلك الصراع مع القوى البعثية والقومية، وإتباعه لسياسة التوازن بين القوى المدافعة عن الثورة والمتآمرة عليها،وإطلاق يد الجهاز القمعي الذي أنشأه النظام السابق ضد الشيوعيين والديمقراطيين مما أدى إلى انعزاله عن الشعب وقواه الوطنية الديمقراطية، وسهل الأمر للإمبرياليين تنفيذ ونجاح مؤامراتهم الدنيئة يوم الثامن من شباط عام1963، واغتيال ثورة 14 تموز، والآمال التي عقدها الشعب عليها في تحقيق الحرية والديمقراطية والعيش الكريم.                                                                             

15


العراق بعد نجاح انقلاب 8 شباط
رحلة نحو المجهول
أحدث نجاح انقلاب 8 شباط 63 وجوماً كبيراً وقلقاً شديداَ لدى الغالبية العظمى من الشعب العراقي، إذا استثنينا قيادة وقواعد وجماهير الحزب الديمقراطي الكردستاني الذين خرجوا في مظاهرة في مدينة السليمانية يباركون نجاح الانقلاب ويعبرون عن فرحتهم بسقوط نظام عبد الكريم قاسم، وسارع سكرتير الحزب إبراهيم احمد إلى إرسال برقية للانقلابيين يبارك فيه الانقلاب قائلاً: {اليوم تعانقت الثورتان .......إلخ}!!.
 كما شارك الطلاب الأكراد في بغداد في الإضراب الذي أعلنه البعثيون والقوميون العرب قبيل الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم، وثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.
ومن المؤسف جداً أن تحصل القناعة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بأن إقامة نوع من التعاون مع تلك القوى البعثية والقومية لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم  يمكن أن يحقق لهم آمالهم في نيل الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي!!.
كان على قيادة الحزب والحركة الكردية أن تدرك النوايا الحقيقية لحزب البعث تجاه الشعب الكردي، ولاسيما وأن البيانات التي أصدرتها الجبهة القومية التي ضمت حزب البعث والقوميين قبل الانقلاب تنضح منها الشوفينية والكراهية للشعب الكردي وقضيتهم العادلة، فقد أصدروا بياناً في أواخر أيلول 1061 حول موقفهم من الحركة الكردية بعنوان:
[ بيان حول التطورات الأخيرة في شمال العراق ] وجاء في البيان :
{منذُ الانحراف الرجعي الذي قاده عبد الكريم قاسم بمعونة الحزب الشيوعي و"القوى الشعوبية" و"الاستعمار وعملائه" لعزل العراق عن الحركة التقدمية العربية، ظهرت في شمال العراق نزعات عنصرية مشبوهة تدعو زيفاً باسم الأكراد ومصلحتهم لتجزئة العراق، وتفتيت وحدته النضالية، واليوم ومنذُ الحادي عشر من هذا الشهر تجري المعارك المسلحة بين قوات الجيش ورجال العشائر الكردية الذين أعلنوا العصيان المسلح، ورفعوا شعار تجزئة العراق. والجبهة القومية تحمل  [قاسم] مسؤولية ما يصيب الجيش، وتحذر العناصر الكردية المخلصة من الانسياق وراء دعاة التجزئة والانفصال والسير وراء تلك القيادات المشبوهة}.
أما جريدة الاشتراكي، لسان حال حزب البعث العراقي، فقد نشرت تصريحاً لمصدر قيادي بعثي نشر في أيلول 1962 بعنوان: [حول الحركة المشبوهة في الشمال ] وجاء في تلك الصحيفة ما يلي :
{أن الحركة المسلحة التي قامت في شمال العراق منذُ أكثر من عام واحد أصبح استمرارها يمثل خطراً ليس على استقلال البلاد وحسن العلاقات بين الشعبين العربي والكردي فحسب، بل على وجود العراق ... إن هذه الحركة، وموقف قاسم منها تفوح منها رائحة التآمر والتواطؤ مع الاستعمار، فقيادة الحركة المسلحة بماضيها الملطخ بالدماء، والمتصف بالاعتداء، ونواياها العدوانية التي أفصحت عنها مراراً، وبغضها الأعمى يجعلها محلاً للشبهة والاتهام }. ثم عادت جريدة الاشتراكي في تشرين الثاني 1962 حينما كانت الاتصالات جارية بينهما
مع تبادل المذكرات، بنشر مقال بعنوان:[مخاطر الحركة المشبوهة في الشمال وموقف قاسم منها] ، وجاء فيها :
{إن الحركة الكردية المسلحة على الرغم من أنها معادية للحكم القاسمي إلا أنها بسبب ارتباطاتها وأساليبها واتجاهاتها لا يمكن أن تعتبر جزءاً من الحركة الوطنية في العراق، وباعتقادنا أن طرفي الفتنة [عبد الكريم قاسم] و[ قيادة الحركة الكردية] لا يمثلان رغبات الشعبين العربي والكردي ولا يعبران عن مصالحهما. وبعد كل هذا من حق  كل حريص على مصلحة الشعبين العربي والكردي أن يتساءل :
كيف حصلت تلك القناعة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بوعود أعداء الشعب الكردي لكي يمدوا إليهم أيديهم للتعاون على إسقاط حكم عبد الكريم قاسم ؟
لكن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني استمرت بمغازلة الانقلابيين من أجل إقامة التعاون بين الطرفين على الرغم من التحذيرات المتكررة التي وجهها الحزب الشيوعي لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني من مخاطر الانجرار وراء الانقلابيين لإسقاط  حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي سوف تصيب بكل تأكيد الشعب الكردي بصورة خاصة والشعب العراقي بصورة عامة بأفدح الأضرار.
 إلا أن قادة الحزب لم يأخذوا بتلك النصيحة، وأخذوا يتبادلون المذكرات واللقاءات مع الانقلابيين، حيث جرت اللقاءات بين [العقيد طاهر يحيى] ممثل الانقلابيين و[صالح اليوسفي]عضو المكتب السياسي للحزب، وكان آخر لقاء مع الانقلابيين قد جرى في بغداد بين [علي صالح السعدي] أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث والسيدين [ صالح اليوسفي] و[شوكت عقراوي] وذلك في 4 شباط 63 ، قبل انقلاب الثامن من شباط بأربعة أيام . 
لكن الانقلابيين لم يقدموا أي تعهد خطي لقيادة الحزب، بل مجرد وعود شفوية لا غير، ولا تلزم أحداً، وكان واضحاً أن الانقلابيين كانوا يستهدفون بقاء الحركة الكردية على الحياد في صراعهم مع قوات عبد الكريم قاسم .
وفي التاسع عشر من شباط 1963 ، وصل وفد كردي مفاوض إلى بغداد ضم السادة [جلال الطالباني] و[صالح اليوسفي] و [شوكت عقراوي ] ومثّل الانقلابيين [أحمد حسن البكر] رئيس الوزراء و[ صالح مهدي عماش] وزير الدفاع و[طاهر يحيى] رئيس أركان الجيش و[ حردان التكريتي ] قائد القوة الجوية، وتمخض اللقاء عن وعد بقرب إعلان الحكم الذاتي لكردستان.
لكن علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث سارع في اليوم التالي إلى اتهام قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بالتعاون مع الشيوعيين !!، قائلاً:
{ نحن لا نمثل كل العرب، وكذلك الوفد الكردي لا يمثل كل الأكراد، ولذلك يتوجب الدعوة لعقد كونفرنس شعبي واسع لانتخاب عناصر أخرى لعضوية الوفدين}وبذلك نسف السعدي المحادثات. ثم بدأ البعثيون يتحججون بخشيتهم من أن يثير إعلان الحكم الذاتي لكردستان انتقاد دعاة الوحدة العربية لتصرف الحكومة، وطلبوا من الوفد الكردي المفاوض التريث لبحث المشكلة الكردية جنباً إلى جنب مع مباحثات الوحدة مع عبد الناصر في القاهرة.
وبعد أيام جرى تشكيل وفد للتفاوض مع عبد الناصر، وقد ضم البعثيون السيد[جلال الطالباني] للوفد على مضض، وكان الطالباني ينوي عرض مطالب الشعب الكردي أمام الوفود المصرية والسورية والعراقية.
 لكن سفر الطالباني مع الوفد لم يلق قبول السيد البارزاني حيث صرح قائلاً:
{لقد أرسلت الطالباني للتفاوض في بغداد وليس في عواصم عربية}.
وفي 18 آذار عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره في كويسنجق     ضم 168 مندوباً بحراسة 2000 من قوات البيشمركة حيث تم دراسة الوضع السياسي العام، وقضية المفاوضات مع انقلابيي 8 شباط، وظهر في المؤتمر اتجاهان، الاتجاه الأول يمثله السيد جلال الطالباني، والذي دعا إلى الاستمرار في المفاوضات مع سلطة الانقلاب، والاتجاه الثاني ممثلاً بالسيد مصطفى البارزاني، والذي .يدعو للاستعداد للقتال من جديد. وفي النهاية تقرر تشكيل لجنة مكونة من 35 مندوباً كي تعد قرارات المؤتمر، وجرى انتخاب وفد مؤلف من 14 مندوباً برئاسة السيد الطالباني، سبعة منهم هم أعضاء الوفد المفاوض، والسبعة الآخرين مستشارين للوفد.
وفي نهاية المؤتمر تم إعداد مذكرة تتضمن المطالب الكردية من الحكومة العراقية أكدت على قيام الحكم الذاتي في إطار الجمهورية العراقية. كما طالبت المذكرة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الكرد، ورفع الحصار عن كردستان، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وأعمالهم، وسحب القوات العسكرية من كردستان، إضافة إلى مطالب أخرى تتعلق بالمنطقة التي سيشملها الحكم الذاتي، والقضايا المتعلقة بالاقتصاد والثقافة. وفي 30 آذار وصل الوفد الكردي المفاوض إلى بغداد برئاسة السيد جلال الطالباني، لكن أحمد حسن البكر ماطل في استقبال الوفد، مما دفع الوفد إلى التهديد بالعودة إلى كردستان.
لكن طاهر يحيى تدخل في الموضوع واستطاع إقناع الوفد بتأجيل المفاوضات إلى الأول من شهر أيار مدعيا أن المطالب الكردية قد أرسلت إلى القاهرة لدراستها .
وفي العاشر من نيسان تم في القاهرة توقيع الإتحاد الفيدرالي بين مصر وسوريا والعراق، وفي 24 نيسان تقدم الجانب الكردي بمذكرة تضمنت مطالب جديد أخذت بالحسبان قيام الاتحاد الفيدرالي المذكور حفاظاً على الوجود القومي الكردي في ظل الإتحاد الجديد.
أخذت الحكومة تماطل في الاستجابة للمطالب الكردية واضعة المسؤولية على عاتق الرئيس عبد الناصر، واقترحت على الوفد المفاوض عرض المطالب على عبد الناصر، وطلبوا من السيد جلال الطالباني السفر مع الوفد الحكومي إلى القاهرة واللقاء مع عبد الناصر.
 لكن عبد الناصر تجاهل موضوع الحكم الذاتي، ولم يقدم أي مقترحات حول القضية الكردية. أدرك السيد جلال الطالباني أن التفاوض مع البعث لا يعدو عن كونه مضيعة للوقت، وأنهم ليس بنيتهم الوفاء بوعودهم الكاذبة، فقرر العودة إلى كردستان من دون أن يمر ببغداد، فيما وضع النظام العراقي بقية أعضاء الوفد في الإقامة الجبرية.
 في 20 أيار أعادت الحكومة الحصار على كردستان وقطعت كل الطرق المؤدية إليها، وقامت بحملة اعتقالات واسعة شملت آلاف المواطنين الأكراد.
وفي 9 حزيران اعتقلت الحكومة الوفد الكردي المفاوض، وفي اليوم التالي أصدرت بياناً طالبت فيه باستسلام البارزاني وقواته خلال 24 ساعة، وبدأت الاستعدادات للحملة العسكرية الجديدة لقمع الحركة الكردية.





{29}
الانقلابيون يلاحقوني
وقرار بفصلي من الوظيفة واختفائي
في يوم الخميس السابع من شباط 1963 عدت من بغداد إلى مقر عملي في السليمانية بعد قضاء العطلة الربيعية بين الأهل والأقارب والأصدقاء في بغداد، كنا خلالها نناقش الأوضاع المتأزمة في بغداد وتصاعد النشاط التآمري لتحالف حزب البعث مع القوى القومية والرجعية، وتدهور الوضع الأمني، بسبب إضراب الطلاب وسواق سيارات التاكسي، الذي قاده حزب البعث وحلفائه القوميين من جهة، وتشتت الحاصل في صفوف الأحزاب الوطنية، والصراعات التي اتسمت بها العلاقات فيما بينها، وانشقاق الحزب الوطني الديمقراطي، والعلاقات التي تدهورت بين الزعيم عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الشيوعي من جهة أخرى، مما هيأ أفضل الأجواء لوقوع الانقلاب، ولاسيما وأن حكومة قاسم قد اكتشفت محاولة انقلابية كان من المزمع تنفيذها من قبل حزب البعث وحلفائه القوميين في 5 شباط ، أي قبل الانقلاب بـ 3 أيام ، وتم على أثرها اعتقال أمين سر حزب البعث [ علي صالح السعدي ] وعدد من قيادي الحزب.
كانت أيدينا على قلوبنا مما تخبئه الأيام لشعب العراق بوجه عام وللحزب الشيوعي بوجه خاص، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى أن الانقلابيين المدعومين من الولايات المتحدة وبريطانيا ينوون شن حملة تصفيه واسعة النطاق ليس فقط ضد الحزب الشيوعي فحسب، بل وضد كل جماهيره وأصدقائه، بالإضافة إلى العناصر الوطنية المقربة من عبد الكريم قاسم في صفوف الجيش وكان الإمبرياليون المهيمنون على شركات النفط الكبرى والذين فقدوا امتيازاتهم النفطية في العراق على أثر صدور قرار رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق الامتياز الغنية جداً بالمكامن النفطية ينتظرون ساعة الصفر بفارغ الصبر، وقد امتلأت قلوبهم غيضاً على ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وعلى الحزب الشيوعي الذي وقف منذ اللحظة الأولى لقيام الثورة إلى جانبها ودعموا قيادة عبد الكريم قاسم بكل ما أوتوا من قوة، وتصدوا لكل المحاولات الانقلابية التي جرت بتخطيطهم بدءاً من انقلاب الشواف، ومحاولة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية ومحاولة عبد السلام عارف قتل الزعيم، ومحاولة البعثيين قتل الزعيم في رأس القرية. وقد اعد الإمبرياليون محطة إذاعة في الكويت كانت تذيع أسماء القياديين الشيوعيين ومناطق سكناهم لاعتقالهم وقتلهم.


16
شهادة للتاريخ
في الذكرى الستين لانقلاب العقيد الشواف
الحلقة الثانية والاخيرة
حامد الحمداني                                                     23/3/2019

لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية، فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية، أي تغيير جوهري على أوضاع الموصل، وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها من جديد، مستغلة الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص  جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي.
 وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري، مرتدية رداء القومية العربية، وتحت راية الرئيس المصري عبد الناصر، وهي التي كانت حتى الأمس القريب من أشد أعدائه، ووضعت نفسها تحت تصرف العقيد الشواف، الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها.
غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم، الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة، ودافعت عنها،  وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها.

عبد الكريم قاسم يقلب ظهر المجن للحزب الشيوعي:
 لقد بادر عبد الكريم قاسم باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة، ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، وإحالهم إلى المجالس العرفية{ المحاكم العسكرية}، وحرض الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل، وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام.
ومن جهة أخرى أقدم عبد الكريم قاسم على سحب السلاح من المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، ومن ثم أقدم على إلغائها، وأجرى تغييرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة، والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين جرى إبعادهم على اثر فشل محاولة الشواف الانقلابية إلى مراكزهم السابقة، وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، و المفتي، والأرحيم، وغيرها من العوائل الأخرى، نشاطها المحموم  مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين  الذين كان لهم الدورالأساسي في إخماد تمرد الشواف.
و بادرت تلك العوائل، تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية والديمقراطية المؤيدة للثورة، ووجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية أكثر من 30 الف عائلة على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها وأعمالها ووظائفها، من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل، أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه، حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجرِ تحقيقاً ضد عصابات القتلة ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا، ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة مهما كانت ضعيفة وعاجزة، عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، وإلقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف  أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة، الذين بقوا مطلقي السراح، يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء، ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم  في وضح النهار .

إما أجهزة الأمن فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح، فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى، حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك، الدكتور [عبد الوهاب حديد ]، وهو من أبناء عمومة[ محمد حديد] وزير المالية.

 ولا بد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ  حركة العقيد الشواف وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، لنتعرف على أولئك الذين كان لهم الدور البارز في تلك الأحداث.
من كان يحكم الموصل؟
1 ـ مدير الشرطة ـ إسماعيل عباوي: إسماعيل عباوي من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش، الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936،ضد حكومة [ياسين الهاشمي].
 قام إسماعيل عباوي باغتيال[ جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال[ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد[مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس النواب، عندما وقع انقلاب الفريق [ بكر صدقي].
 أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش، بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939  بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.
  وقبل أحداث حركة الشواف بأيام أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل، لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، والسيطرة على الأوضاع في المدينة بعد دخول الجيش إليها بقيادة العقيد حسن عبود الذي عين فيما بعد آمراً للواء الخامس  بالموصل، وبقي المقدم إسماعيل عباوي مديراً لشرطة الموصل ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى للعناصر الديمقراطية والشيوعية فيها خلال ثلاث سنوات متوالية، حيث جرت حملة اغتيالات منظمة ذهب ضحيتها ما يناهز 1000 مواطن دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات باسم مجهول!!.
2ـ متصرف اللواء ( المحافظ) ـ العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي:
متصرف الموصل العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة، في الرابع عشر من تموز 958،  حيث كان آمر الفوج الأول، في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف، الذي كان آمر الفوج الثالث  في نفس اللواء. عين الدراجي آمراً للواء العشرين  بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية، إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه،  كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم،  ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4  تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد وعُين محافظاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى محافظة الموصل فيما بعد.
 ولاشك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم، بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على  إضعاف وعزل  عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8  شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف، بعد انقلابه على البعثتين، وزيراً للداخلية.
 لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل، شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين، وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان.
3 ـ مدير الأمن ـ  حسين العاني:
حسين العاني، كما هو معروف، من عائلة رجعية إقطاعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي ، كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً، ورغبتها في الانتقام أكبر ، وكان وجود العاني على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليون على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها، والتستر عليها وحمايتها.
كان جهاز الأمن يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح  لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً دون خوف  أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة، رغم شيوع أسمائهم، وتداولها بين الناس جميعاً.
وهذا مثال جرى لأحد أقرب أصدقائي هو الشهيد الأستاذ [ فيصل الجبوري] مدير ثانوية الكفاح بالموصل، الذي  أُطلق عليه النار من قبل أحد أفراد عصابة التنفيذ المدعو[عايد طه عنتورة] في 10 أيار 1960، ولم يفارق الحياة، وتم نقله إلى المستشفى، وكان يصرخ  بأعلى صوته[ قتلني عايد طه عنتورة . ولم يُتخذ أي إجراء ضد الجاني إطلاقاً، أما فيصل الجبوري فقد فارق الحياة في المستشفى في اليوم التالي.
 وهذا مثال آخر، حيث أطلق الرصاص على الشهيد [حميد القصاب] في محله الكائن بمحلة المكاوي، وشخص الشهيد بأم عينه الجاني، وأخذ يصرخ بأعلى صوته، وهو يصعد سيارة الإسعاف برجليه ودون مساعدة: قتلني [ محمد حسين السراج]، وتم نقله إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة في اليوم التالي، أما الجاني فلم يُستدعى للتحقيق، ولم تُتخذ أية إجراءات قانونية ضده.

 وأذكر أيضاً أحد أصدقائي، الشهيد [أحمد مال الله]، الذي أُطلق عليه الرصاص أيضاً، وأُصيب بجروح،  لكن أهله نقلوه على الفور إلى بغداد، حيث عُولج هناك في إحدى المستشفيات وتماثل للشفاء، لكن يد الغدر لاحقته بعد مدة واغتالته في أحد شوارع بغداد.

 أما الشهيد المدرس [ زهير رشيد الدباغ ] فقد دخل عليه أحد تلاميذ المدرسة المدعو[عادل ذنون الجواري ] إلى داخل الصف، وهو يدرس التلاميذ ، ليطلق عليه وابلاً من الرصاص من رشاشة كان يحملها، أمام 45 طالباً، دون أن يمسه أذى، أو يجري معه أي تحقيق، أما زهير، فقد أستشهد في الحال. ليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات غيرها جرت للمواطنين الأبرياء، وذهبت دماؤهم هدراً على يد تلك العصابات المجرمة، ولم يفتح فيها جميعاً أي تحقيق إلى يومنا هذا.
4 ـ آمر موقع الموصل ـ العقيد حسن عبود:
 العقيد حسن عبود، أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه، ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين، وتحجيم حزبهم،  وبالنظر للعلاقة التي تربطه بهم، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام، وأناط ذلك كله بجهاز الأمن  السعيدي، وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.

 كما أصدر قاسم أمراً بنقل كل الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين، والذين كان لهم الدور الحاسم في قمع انقلاب الشواف، إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، وفق منهج ُ تم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع، وبإشراف قاسم نفسه.
 وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود فيما يخص حفظ الأمن والنظام، ولم يعد له أي دور في ذلك، ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال، وأخيراً إلى التقاعد.


حملة الاغتيالات في الموصل :
 1ـ منْ مول ، ونظم الاغتيالات :
 بعد كل الذي جرى الحديث عنه حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا، أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون والمساندة للقائمين على تنظيمها وتمويلها.
 لقد كان على رأس تلك العصابة  يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية  والإقطاعية المعروفة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
  1  ــ عائلة كشمولة   2ــ عائلة الأغوات    3 ــ عائلة كرموش .
  4 ــ عائلة حديد       5 ــ عائلة العاني      6 ــ عائلة نوري الأ رمني
  7 ــ عائلة المفتي .   8 ــ عائلة عبد الرزاق وعبد القادر الإ رحيم   

 كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [ حاوي الكنيسة ] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك، بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات  كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز.

ورغم العديد من المقالات للعديد من الشخصيات الوطنية التي نشرتها الصحف، مطالبة بوقفها ومعاقبة القائمين بها، والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط عام 1963.
2 ـ مَنْ نفذ الاغتيالات؟             
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ  بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلي ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية، أو المحلات، أو المعامل، أو الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت إجرة قتل الإنسان [50 دينار]!!،وهذه أسماء بعض أولئك القتلة الذين كانوا يفاخرون بجرائمهم البشعة والتي يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم:

 أسماء بعض منفذي الاغتيالات :
  1 ـ زغلول كشمولة .
  2 ـ شوكت نوري الأرمني .
  3 ـ محمد سعيد حسين السراج .
  4 ـ طارق عبد كرموش .
  5 ـ يعقوب كوشان .
  6 ـ صبار الدليمي .
  7 ـ نجم فتحي
  8 ـ موفق محمود .
  9 ـ فهد الشكرة .
  10 ـ هادي أبن الطويلة .
 11 ـ عادل ذنون الجواري .
 12 ـ حازم بري .
 13 ـ عارف السماك .
 14 ـ أحمد جني .
 15 ـ نجم البارودي .
 16 ـ طارق قباني .
 17 ـ طارق نانيك .
 18 ـ محمود ، أبن البطل .
 19  ـ قاسم ، أبن العربية
 20 ـ عدنان صحراوية
 21 ـ طارق شهاب البني .
 22 ـ فوزي شهاب البني .
 23 ـ جبل العاني .
 24 ـ فاضل مسير .
 25 ـ موفق ، أبن عم فاضل .
 26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه .
 27 ـ جنة  ـ  مجهول اسم أبيه .
28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان، لان أصحابها أرادوا ذلك. لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع أ و عقاب، ما دامت السلطة تحميهم وتدعمهم.
لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على واحد من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم  لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين، والممولين لتلك الجرائم.
 لقد ذهبت دماء الضحايا هدراً، حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق، وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد، وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني، و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.

لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف  تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت.
 ليست متوفرة لدي، وأنا أعيش في الغربة  بعيداً عن وطني، قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك، لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا أذكر منهم :

 أسماء بعض الشهداء من ضحايا جرائم الاغتيالات
  1  ـ كامل قزانجي  ـ محامي وسياسي بارز.
  2  ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة.
  3  ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة .
  4 ـ فيصل الجبوري   ـ مدير متوسطة الكفاح.
  5 ـ زهير رشيد الدباغ  ـ مدرس .
  6 ـ شاكر محمود  ـ معلم .
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر .
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ) .
  9 ـ نافع برايا و عائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة، وضعت بسيارتهم
 10 ـ ياسين شخيتم  ـ قصاب، ونصير سلم .
 11 ـ عبد الإله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي  ( قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري .
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام .
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب .
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب .
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل .
 17 ـ سالم محمود ـ معلم .
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف .
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس .
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي .
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي .
 22 ـ أحمد ميرخان ـ ( نقل إلى المستشفى جريحاً ، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى ) .
 23 ـ عثمان جهور  ـ كاسب ، كردي .
 24 ـ محمد زاخو لي ـ كاسب ، كردي .
 25 ـ سر كيس الأرمني ـ صاحب كراج .
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس .
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف .
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية .
 30 ـ زكي عزيز توتونجي  ـ توتونجي [ بائع تبغ]
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي .
 32 ـ نجاح ….. ـ طالب جامعي ، قتله المجرم جبل العاني ،أحد أفراد العصابة.
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب .
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل .
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي .
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية .
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب .
 38 ـ حمزة الرحو   ـ قصاب .
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ــ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري .
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه ، وخضراوات .
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب .
 43 ـ حاتم الحلة ــ طالب .
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر .
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب .
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر .
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر .
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم .
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف .
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر .
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف .
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف .
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر .
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي .
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش .
 56 ـ جورج  ـ سائق .
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية .
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب .
 59 ـ شاكر محمد .
 60 ـ فريد السحار .
61 ـ واصف رشيد ميرزاـ تاجر.
62ـ جميل ألياس ـ طالب أعدادية
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل خلال تلك السنوات الممتدة من أوائل عام 1960 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط عام 1963، وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب ضئيل من أسماء الضحايا من أبناء الموصل البررة، ولم يكتفِ انقلابيي 8 شباط بالدم المسفوح هدراً بل نصبوا المشانق في شوارع الموصل للعشرات من السجناء.

أما الذين أعدمهم انقلابيوا 8 شباط 1963 فهم :
مجموعة الموصل
1 ـ مهدي حميد ـ ضابط في الجيش ـ قتل تحت التعذيب
2 ـ شاكر محمود اللهيبي ـ معلم
3 ـ إبراهيم محمد العباس [ أبراهيم الأسود ـ ضابط في الجيش
4 ـ عزيز أبو بكر ـ نائب عريف في الجيش
5 ـ غازي خليل محي الدين ـ نائب عريف في الجيش
6 ـ أحمد علي سلطان ـ نائب عريف في الجيش
7 ـ سيدو يوسف الحامد ـ نائب عريف في الجيش
8 ـ عز الين رفيق ـ جندي
9 ـ عصمت بيروزيني ـ جندي
10 ـ صالح أحمد يحيى ـ جندي
11 ـ جاسم محمد أحمد ـ جندي
12 ـ رمضان أحمد ـ جندي
13 ـ يوسف إبراهيم ـ جندي
14 ـ أنوردرويش يوسف ـ جندي
16ـ عبد محمد يونس ـ جندي
17 ـ شمعون ملك بكر ـ جندي
18 ـ محمد شيت صالح ـ جندي
19 ـ عمر بابكر ـ جندي
20 ميكائيل حسن اسماعيل ـ جندي
21 ـ خضر شمو ـ جندي
22ـ هاني مجيد هبونة ـ قصاب
23ـ  متي اسطيفان ـ معلم
24 ـ وعد الله النجار ـ نجار موبيليا
25 ـ ساطع اسماعيل الغني ـ قاضي
26 ـ طارق الجماس ـ تاجر اغنام
27 ـ طه الفارس ـ جندي
مجموعة تلكيف
28 ـ إبراهيم داؤودـ معلم ـ
29 ـ حنا قديشه ـ معلم
30 ـ كوركيس داؤود ـ معلم
31ـ ميخائيل ججو
32 ـ بطرس سنكو
33 ـ يحيى مراد

مجموعة دهوك
36 ـ عبد الرحمن زاويتي ـ معلم
37 ـ خيري نشأت ـ معلم
38 ـ طاهر العباسي ـ معلم
39 ـ عيسى ملا صالح ـ جندي
مجموعة كركوك
1 ـ حسين البرزنجي
2 معروف البرزنجي
3 ـ حسين خورشيد
4 ـ خليل إبراهيم عجم
5 ـ خورشيد محمد
6 ـ رحيم سعيد
7 ـ طالب عمر
8 ـ عادل حسين
9 ـ عبد الجبار بيروزخان
10 ـ عبد الحافظ شريف
11 ـ فاتح ملا داؤود الجباري
12ـ فتاح صالح
13ـ كريم رمضان أحمد
14 ـ مجيد حسن
15 ـ محمد حسن عزيز
16 ـ محمود علي
17 ـ محمود مجيد الشكرجي
18 ـ مختار برغش
19ـ مهدي مردان
20 ـ نجم الدين نادر شوان
21 ـ نعيم عنبر
22 ـ ملا نوري عبدالله
23 ـ أحمد محمد أمين
24 ـ إحسان حسين الصالحي
25 ـ نوري سيد ولي
26 ـ كريم خلف
27 ـ عطا جميل
29 ـ توفيق مصطفى


أما الذين قتلوا من أنصار الشواف خلال الانقلاب، وهم الذين قالت عنهم إذاعة صوت العرب 20 إلفا ، وتبين بعد اجراء محاكمات الشيوعيين من قبل المجلس العرفي العسكري برئاسة العقيد شمس الدين عبد الله بعد انقلاب  8 شباط أن عددهم كان 36 شخصاً نشرت صورهم الصحافة ، كما جرى تعليق صورهم اثناء الاحتفال الذي اقامه البعثيون في الموصل بذكراهم بعد انقلاب شباط ، وهم :
1 ـ أحمد السوري ـ صاحب مكتبة
2 ـ صالح حنتوش رئيس نقابة سواق السيارات
3 ـ حامد عبد الرحمن ـ عامل في الصحة
4 ـ إدريس كشمولة ـ تاجر
5 ـ فاروق إدريس كشمولة ـ طالب
6 ـ عبد الرحمن الأعضب ـ عامل أفران
7 ـ يونس خليل أحمد ـ رائد في الجيش ـ قتل خلال الانقلاب
8 ـ عزيز سليم ـ ملاحظ الاحصاء في التربية
9 ـ محمد فاتح البكري ـ طالب
10 ـ عبد الله محمد البزاز ـ عامل
11 ـ زكي عزيز الخشاب ـ عامل
12 ـ سعيد الخشاب ـ عامل
13ـ اسماعيل الحجار ـ صاحب ىمقهى
14 ـ هاشم الشكرة ـ معلم
15 ـ كريم كشمولة ـ ملاك
16 ـ شيت كشمولة ـ ملاك
17 ـ عادل سيد خضر
18 ـ احمد الحاج بكر
19 ـ عبد الرزاق شندالة
20 مصطفى الشيخ خليل
21 ـ نوري فيصل الياور ملاك اراضي
22 ـ حامد السنجري ـ غنام
23 ـ محمد خيري كشمولة ـ ملاك
24 ـ عقيل أحمد ملا إبراهيم
25 ـ داؤود السنجري ـ غنام
26 ـ فاروق عمر كشمولة ـ ملاك
27 ـ علي العمري ـ تاجر
28 ـ حفصة العمري
29 ـ عبد الله الجبوري  ـ قائمقام قضاء دهوك
30 ـ سعدالدين إبراهيم الجلبي ـ طبيب في دهوك
31 ـ قاسم الخشاب ـ مفوض شرطة دهوك
32 ـ أمجد المفتي ـ قاضي
33 ـ قاسم الشعار محامي
34 ـ هاشم عبد السلام ـ إمام جامع عجيل الياور
35 ـ توفيق النعيمي ـ رجل دين
36 ـ مصطفى الخشاب ـ عامل

الضباط المشاركين في الانقلاب الذين إدانهم المحكمة واعدمهم عبد الكريم قاسم
في شهر آب 1959
1 ـ محسن عموري ـ ملازم أول
2 ـ غانم عموري ـ ملازم
3 ـ نافع داؤود ـ نقيب ركن
4 ـ هاشم الدبوني ـ مقدم
5ـ صديق اسماعيل ـ نقيب
6 ـ علي توفيق ـ مقدم ركن
7 ـ اسماعيل هرمز ـ مقدم
8 ـ مجيد الجلبي ـ مقدم
9 ـ محمد امين عبد القادر ـ نقيب
10 ـ خليل سلمان ـ عقيد طيار
11 ـ توفيق يحيى أغا ـ نقيب
12 ـ زكريا طه ـ نقيب
13 ـ عبد الله ناجي ـ عقيد طيار
14 ـ قاسم العزاوي ـ نقيب طيار
15 ـ فاضل ناصر ـ ملازم طيار
16 ـ أحمد عاشور ـ ملازم طيار
17 ـ ناظم الطبقجلي ـ عميد ركن ـ قائد الفرقة الثانية
18 ـ رفعت الحاج سري ـ عميد ركن ـ رئيس الاستخبارات العسكرية

نتائج الاغتيالات، والحملة الرجعية في الموصل:
بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:

 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل، أكثر من 30 ألف عائلة إلى بغداد والمدن الأخرى طلباً للأمان، تاركين مساكنهم، ومصالحهم  ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها، وأن بقائهم في الموصل لا يعني سوى انتظار القتلة لينفذوا جرائمهم بحقهم، وعليه فقد كانوا مجبرين على التضحية بكل مصالحهم، ومغادرة مدينتهم التي نشأوا وترعرعوا  فيها حرصاً على حياتهم.

 2ـ  شل و تدمير الحركة  الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة .

 3ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة  والتي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي .
 لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد،  هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، و كل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام، من دماء أبنائه البررة.
 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد، و العهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد.

 ولم يدر في خلد قاسم، أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها كانت هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين في انقلاب 8 شباط 1963.

موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟
لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها !! دون أن تتخذ قيادة الحزب موقفاً صارماً من السلطة وهو يدرك أن لها اليد الطولى فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم [عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].

 وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت له القناعة المطلقة أن الحزب  بكل تأكيد  سوف يقفز إلي السلطة، ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك،  ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية[ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية التي كانت تصوّر الحالة في العراق أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة.
 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع، ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك، في حين  كان بإمكانه استلام السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.

 لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم، واستفز البرجوازية الوطنية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له.

 كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، لكن الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حول الخليج حالت دون إقدام الحزب الشيوعي على استلام السلطة، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئاً لا يستفز عبد الكريم قاسم، عن طريق اللقاءات والحوار والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها  للمطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة إئتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.

 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي  القاضي بتحجيمه  وعزله عن جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه  بعد أن اصبحت لديه القناعة!! أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من أحزاب اليمين المتمثلة بحزب البعث والقوميين رغم أنهم تآمروا عليه مرات عديدة، في حين لم يكن يدور في خلد الشيوعيين خيانة عبد الكريم قاسم ، بل ذادوا عن ثورة 14 تموز حتى النهاية، ودفعوا ثمناً باهظاً جداً .
 أما قيادة الحزب فكانت  بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات ، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى به المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة  لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب  360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.

 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية  وتنامي عدد حوادث القتل  يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق، بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.

 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم، وكل الذين يقفون وراءهم .

إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه، متهماً المنادين به بالفوضويين !! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم، التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهضاً من أرواحهم وممتلكاتهم، ومصير وطنهم.

 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة. لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى غضب عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه، ومواقفه من الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية، واصفاً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو، وجنكيز خان !!؟  لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً وذريعة لضرب الحزب وتحجيمه. 

لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها، وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته ، وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء.
 


17
شهادة للتاريخ
في الذكرى الستين لانقلاب العقيد الشواف
الحلقة الأولى
حامد الحمداني                                                     22/3/2019

لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية، فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية، أي تغيير جوهري على أوضاع الموصل، وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها من جديد، مستغلة الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص  جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي.
 وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري، مرتدية رداء القومية العربية، وتحت راية الرئيس المصري عبد الناصر، وهي التي كانت حتى الأمس القريب من أشد أعدائه، ووضعت نفسها تحت تصرف العقيد الشواف، الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها.
غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم، الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة، ودافعت عنها،  وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها.

عبد الكريم قاسم يقلب ظهر المجن للحزب الشيوعي:
 لقد بادر عبد الكريم قاسم باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة، ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، وإحالهم إلى المجالس العرفية{ المحاكم العسكرية}، وحرض الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل، وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام.
ومن جهة أخرى أقدم عبد الكريم قاسم على سحب السلاح من المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، ومن ثم أقدم على إلغائها، وأجرى تغييرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة، والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين جرى إبعادهم على اثر فشل محاولة الشواف الانقلابية إلى مراكزهم السابقة، وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، و المفتي، والأرحيم، وغيرها من العوائل الأخرى، نشاطها المحموم  مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين  الذين كان لهم الدورالأساسي في إخماد تمرد الشواف.
و بادرت تلك العوائل، تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية والديمقراطية المؤيدة للثورة، ووجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية أكثر من 30 الف عائلة على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها وأعمالها ووظائفها، من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل، أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه، حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجرِ تحقيقاً ضد عصابات القتلة ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا، ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة مهما كانت ضعيفة وعاجزة، عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، وإلقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف  أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة، الذين بقوا مطلقي السراح، يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء، ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم  في وضح النهار .

إما أجهزة الأمن فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح، فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى، حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك، الدكتور [عبد الوهاب حديد ]، وهو من أبناء عمومة[ محمد حديد] وزير المالية.

 ولا بد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ  حركة العقيد الشواف وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، لنتعرف على أولئك الذين كان لهم الدور البارز في تلك الأحداث.
من كان يحكم الموصل؟
1 ـ مدير الشرطة ـ إسماعيل عباوي: إسماعيل عباوي من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش، الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936،ضد حكومة [ياسين الهاشمي].
 قام إسماعيل عباوي باغتيال[ جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال[ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد[مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس النواب، عندما وقع انقلاب الفريق [ بكر صدقي].
 أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش، بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939  بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.
  وقبل أحداث حركة الشواف بأيام أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل، لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، والسيطرة على الأوضاع في المدينة بعد دخول الجيش إليها بقيادة العقيد حسن عبود الذي عين فيما بعد آمراً للواء الخامس  بالموصل، وبقي المقدم إسماعيل عباوي مديراً لشرطة الموصل ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى للعناصر الديمقراطية والشيوعية فيها خلال ثلاث سنوات متوالية، حيث جرت حملة اغتيالات منظمة ذهب ضحيتها ما يناهز 1000 مواطن دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات باسم مجهول!!.
2ـ متصرف اللواء ( المحافظ) ـ العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي:
متصرف الموصل العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة، في الرابع عشر من تموز 958،  حيث كان آمر الفوج الأول، في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف، الذي كان آمر الفوج الثالث  في نفس اللواء. عين الدراجي آمراً للواء العشرين  بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية، إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه،  كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم،  ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4  تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد وعُين محافظاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى محافظة الموصل فيما بعد.
 ولاشك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم، بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على  إضعاف وعزل  عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8  شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف، بعد انقلابه على البعثتين، وزيراً للداخلية.
 لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل، شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين، وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان.
3 ـ مدير الأمن ـ  حسين العاني:
حسين العاني، كما هو معروف، من عائلة رجعية إقطاعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي ، كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً، ورغبتها في الانتقام أكبر ، وكان وجود العاني على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليون على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها، والتستر عليها وحمايتها.
كان جهاز الأمن يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح  لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً دون خوف  أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة، رغم شيوع أسمائهم، وتداولها بين الناس جميعاً.
وهذا مثال جرى لأحد أقرب أصدقائي هو الشهيد الأستاذ [ فيصل الجبوري] مدير ثانوية الكفاح بالموصل، الذي  أُطلق عليه النار من قبل أحد أفراد عصابة التنفيذ المدعو[عايد طه عنتورة] في 10 أيار 1960، ولم يفارق الحياة، وتم نقله إلى المستشفى، وكان يصرخ  بأعلى صوته[ قتلني عايد طه عنتورة . ولم يُتخذ أي إجراء ضد الجاني إطلاقاً، أما فيصل الجبوري فقد فارق الحياة في المستشفى في اليوم التالي.
 وهذا مثال آخر، حيث أطلق الرصاص على الشهيد [حميد القصاب] في محله الكائن بمحلة المكاوي، وشخص الشهيد بأم عينه الجاني، وأخذ يصرخ بأعلى صوته، وهو يصعد سيارة الإسعاف برجليه ودون مساعدة: قتلني [ محمد حسين السراج]، وتم نقله إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة في اليوم التالي، أما الجاني فلم يُستدعى للتحقيق، ولم تُتخذ أية إجراءات قانونية ضده.

 وأذكر أيضاً أحد أصدقائي، الشهيد [أحمد مال الله]، الذي أُطلق عليه الرصاص أيضاً، وأُصيب بجروح،  لكن أهله نقلوه على الفور إلى بغداد، حيث عُولج هناك في إحدى المستشفيات وتماثل للشفاء، لكن يد الغدر لاحقته بعد مدة واغتالته في أحد شوارع بغداد.

 أما الشهيد المدرس [ زهير رشيد الدباغ ] فقد دخل عليه أحد تلاميذ المدرسة المدعو[عادل ذنون الجواري ] إلى داخل الصف، وهو يدرس التلاميذ ، ليطلق عليه وابلاً من الرصاص من رشاشة كان يحملها، أمام 45 طالباً، دون أن يمسه أذى، أو يجري معه أي تحقيق، أما زهير، فقد أستشهد في الحال. ليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات غيرها جرت للمواطنين الأبرياء، وذهبت دماؤهم هدراً على يد تلك العصابات المجرمة، ولم يفتح فيها جميعاً أي تحقيق إلى يومنا هذا.
4 ـ آمر موقع الموصل ـ العقيد حسن عبود:
 العقيد حسن عبود، أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه، ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين، وتحجيم حزبهم،  وبالنظر للعلاقة التي تربطه بهم، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام، وأناط ذلك كله بجهاز الأمن  السعيدي، وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.

 كما أصدر قاسم أمراً بنقل كل الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين، والذين كان لهم الدور الحاسم في قمع انقلاب الشواف، إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، وفق منهج ُ تم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع، وبإشراف قاسم نفسه.
 وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود فيما يخص حفظ الأمن والنظام، ولم يعد له أي دور في ذلك، ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال، وأخيراً إلى التقاعد.


حملة الاغتيالات في الموصل :
 1ـ منْ مول ، ونظم الاغتيالات :
 بعد كل الذي جرى الحديث عنه حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا، أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون والمساندة للقائمين على تنظيمها وتمويلها.
 لقد كان على رأس تلك العصابة  يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية  والإقطاعية المعروفة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
  1  ــ عائلة كشمولة   2ــ عائلة الأغوات    3 ــ عائلة كرموش .
  4 ــ عائلة حديد       5 ــ عائلة العاني      6 ــ عائلة نوري الأ رمني
  7 ــ عائلة المفتي .   8 ــ عائلة عبد الرزاق وعبد القادر الإ رحيم   

 كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [ حاوي الكنيسة ] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك، بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات  كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز.

ورغم العديد من المقالات للعديد من الشخصيات الوطنية التي نشرتها الصحف، مطالبة بوقفها ومعاقبة القائمين بها، والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط عام 1963.
2 ـ مَنْ نفذ الاغتيالات؟             
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ  بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلي ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية، أو المحلات، أو المعامل، أو الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت إجرة قتل الإنسان [50 دينار]!!،وهذه أسماء بعض أولئك القتلة الذين كانوا يفاخرون بجرائمهم البشعة والتي يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم:

 أسماء بعض منفذي الاغتيالات :
  1 ـ زغلول كشمولة .
  2 ـ شوكت نوري الأرمني .
  3 ـ محمد سعيد حسين السراج .
  4 ـ طارق عبد كرموش .
  5 ـ يعقوب كوشان .
  6 ـ صبار الدليمي .
  7 ـ نجم فتحي
  8 ـ موفق محمود .
  9 ـ فهد الشكرة .
  10 ـ هادي أبن الطويلة .
 11 ـ عادل ذنون الجواري .
 12 ـ حازم بري .
 13 ـ عارف السماك .
 14 ـ أحمد جني .
 15 ـ نجم البارودي .
 16 ـ طارق قباني .
 17 ـ طارق نانيك .
 18 ـ محمود ، أبن البطل .
 19  ـ قاسم ، أبن العربية
 20 ـ عدنان صحراوية
 21 ـ طارق شهاب البني .
 22 ـ فوزي شهاب البني .
 23 ـ جبل العاني .
 24 ـ فاضل مسير .
 25 ـ موفق ، أبن عم فاضل .
 26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه .
 27 ـ جنة  ـ  مجهول اسم أبيه .
28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان، لان أصحابها أرادوا ذلك. لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع أ و عقاب، ما دامت السلطة تحميهم وتدعمهم.
لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على واحد من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم  لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين، والممولين لتلك الجرائم.
 لقد ذهبت دماء الضحايا هدراً، حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق، وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد، وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني، و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.

لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف  تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت.
 ليست متوفرة لدي، وأنا أعيش في الغربة  بعيداً عن وطني، قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك، لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا أذكر منهم :

 أسماء بعض الشهداء من ضحايا جرائم الاغتيالات
  1  ـ كامل قزانجي  ـ محامي وسياسي بارز.
  2  ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة.
  3  ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة .
  4 ـ فيصل الجبوري   ـ مدير متوسطة الكفاح.
  5 ـ زهير رشيد الدباغ  ـ مدرس .
  6 ـ شاكر محمود  ـ معلم .
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر .
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ) .
  9 ـ نافع برايا و عائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة، وضعت بسيارتهم
 10 ـ ياسين شخيتم  ـ قصاب، ونصير سلم .
 11 ـ عبد الإله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي  ( قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري .
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام .
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب .
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب .
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل .
 17 ـ سالم محمود ـ معلم .
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف .
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس .
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي .
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي .
 22 ـ أحمد ميرخان ـ ( نقل إلى المستشفى جريحاً ، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى ) .
 23 ـ عثمان جهور  ـ كاسب ، كردي .
 24 ـ محمد زاخو لي ـ كاسب ، كردي .
 25 ـ سر كيس الأرمني ـ صاحب كراج .
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس .
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف .
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية .
 30 ـ زكي عزيز توتونجي  ـ توتونجي [ بائع تبغ]
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي .
 32 ـ نجاح ….. ـ طالب جامعي ، قتله المجرم جبل العاني ،أحد أفراد العصابة.
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب .
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل .
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي .
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية .
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب .
 38 ـ حمزة الرحو   ـ قصاب .
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ــ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري .
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه ، وخضراوات .
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب .
 43 ـ حاتم الحلة ــ طالب .
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر .
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب .
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر .
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر .
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم .
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف .
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر .
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف .
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف .
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر .
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي .
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش .
 56 ـ جورج  ـ سائق .
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية .
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب .
 59 ـ شاكر محمد .
 60 ـ فريد السحار .
61 ـ واصف رشيد ميرزاـ تاجر.
62ـ جميل ألياس ـ طالب أعدادية
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل خلال تلك السنوات الممتدة من أوائل عام 1960 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط عام 1963، وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب ضئيل من أسماء الضحايا من أبناء الموصل البررة، ولم يكتفِ انقلابيي 8 شباط بالدم المسفوح هدراً بل نصبوا المشانق في شوارع الموصل للعشرات من السجناء.

أما الذين أعدمهم انقلابيوا 8 شباط 1963 فهم :
مجموعة الموصل
1 ـ مهدي حميد ـ ضابط في الجيش ـ قتل تحت التعذيب
2 ـ شاكر محمود اللهيبي ـ معلم
3 ـ إبراهيم محمد العباس [ أبراهيم الأسود ـ ضابط في الجيش
4 ـ عزيز أبو بكر ـ نائب عريف في الجيش
5 ـ غازي خليل محي الدين ـ نائب عريف في الجيش
6 ـ أحمد علي سلطان ـ نائب عريف في الجيش
7 ـ سيدو يوسف الحامد ـ نائب عريف في الجيش
8 ـ عز الين رفيق ـ جندي
9 ـ عصمت بيروزيني ـ جندي
10 ـ صالح أحمد يحيى ـ جندي
11 ـ جاسم محمد أحمد ـ جندي
12 ـ رمضان أحمد ـ جندي
13 ـ يوسف إبراهيم ـ جندي
14 ـ أنوردرويش يوسف ـ جندي
16ـ عبد محمد يونس ـ جندي
17 ـ شمعون ملك بكر ـ جندي
18 ـ محمد شيت صالح ـ جندي
19 ـ عمر بابكر ـ جندي
20 ميكائيل حسن اسماعيل ـ جندي
21 ـ خضر شمو ـ جندي
22ـ هاني مجيد هبونة ـ قصاب
23ـ  متي اسطيفان ـ معلم
24 ـ وعد الله النجار ـ نجار موبيليا
25 ـ ساطع اسماعيل الغني ـ قاضي
26 ـ طارق الجماس ـ تاجر اغنام
27 ـ طه الفارس ـ جندي
مجموعة تلكيف
28 ـ إبراهيم داؤودـ معلم ـ
29 ـ حنا قديشه ـ معلم
30 ـ كوركيس داؤود ـ معلم
31ـ ميخائيل ججو
32 ـ بطرس سنكو
33 ـ يحيى مراد

مجموعة دهوك
36 ـ عبد الرحمن زاويتي ـ معلم
37 ـ خيري نشأت ـ معلم
38 ـ طاهر العباسي ـ معلم
39 ـ عيسى ملا صالح ـ جندي
مجموعة كركوك
1 ـ حسين البرزنجي
2 معروف البرزنجي
3 ـ حسين خورشيد
4 ـ خليل إبراهيم عجم
5 ـ خورشيد محمد
6 ـ رحيم سعيد
7 ـ طالب عمر
8 ـ عادل حسين
9 ـ عبد الجبار بيروزخان
10 ـ عبد الحافظ شريف
11 ـ فاتح ملا داؤود الجباري
12ـ فتاح صالح
13ـ كريم رمضان أحمد
14 ـ مجيد حسن
15 ـ محمد حسن عزيز
16 ـ محمود علي
17 ـ محمود مجيد الشكرجي
18 ـ مختار برغش
19ـ مهدي مردان
20 ـ نجم الدين نادر شوان
21 ـ نعيم عنبر
22 ـ ملا نوري عبدالله
23 ـ أحمد محمد أمين
24 ـ إحسان حسين الصالحي
25 ـ نوري سيد ولي
26 ـ كريم خلف
27 ـ عطا جميل
29 ـ توفيق مصطفى


أما الذين قتلوا من أنصار الشواف خلال الانقلاب، وهم الذين قالت عنهم إذاعة صوت العرب 20 إلفا ، وتبين بعد اجراء محاكمات الشيوعيين من قبل المجلس العرفي العسكري برئاسة العقيد شمس الدين عبد الله بعد انقلاب  8 شباط أن عددهم كان 36 شخصاً نشرت صورهم الصحافة ، كما جرى تعليق صورهم اثناء الاحتفال الذي اقامه البعثيون في الموصل بذكراهم بعد انقلاب شباط ، وهم :
1 ـ أحمد السوري ـ صاحب مكتبة
2 ـ صالح حنتوش رئيس نقابة سواق السيارات
3 ـ حامد عبد الرحمن ـ عامل في الصحة
4 ـ إدريس كشمولة ـ تاجر
5 ـ فاروق إدريس كشمولة ـ طالب
6 ـ عبد الرحمن الأعضب ـ عامل أفران
7 ـ يونس خليل أحمد ـ رائد في الجيش ـ قتل خلال الانقلاب
8 ـ عزيز سليم ـ ملاحظ الاحصاء في التربية
9 ـ محمد فاتح البكري ـ طالب
10 ـ عبد الله محمد البزاز ـ عامل
11 ـ زكي عزيز الخشاب ـ عامل
12 ـ سعيد الخشاب ـ عامل
13ـ اسماعيل الحجار ـ صاحب ىمقهى
14 ـ هاشم الشكرة ـ معلم
15 ـ كريم كشمولة ـ ملاك
16 ـ شيت كشمولة ـ ملاك
17 ـ عادل سيد خضر
18 ـ احمد الحاج بكر
19 ـ عبد الرزاق شندالة
20 مصطفى الشيخ خليل
21 ـ نوري فيصل الياور ملاك اراضي
22 ـ حامد السنجري ـ غنام
23 ـ محمد خيري كشمولة ـ ملاك
24 ـ عقيل أحمد ملا إبراهيم
25 ـ داؤود السنجري ـ غنام
26 ـ فاروق عمر كشمولة ـ ملاك
27 ـ علي العمري ـ تاجر
28 ـ حفصة العمري
29 ـ عبد الله الجبوري  ـ قائمقام قضاء دهوك
30 ـ سعدالدين إبراهيم الجلبي ـ طبيب في دهوك
31 ـ قاسم الخشاب ـ مفوض شرطة دهوك
32 ـ أمجد المفتي ـ قاضي
33 ـ قاسم الشعار محامي
34 ـ هاشم عبد السلام ـ إمام جامع عجيل الياور
35 ـ توفيق النعيمي ـ رجل دين
36 ـ مصطفى الخشاب ـ عامل

الضباط المشاركين في الانقلاب الذين إدانهم المحكمة واعدمهم عبد الكريم قاسم
في شهر آب 1959
1 ـ محسن عموري ـ ملازم أول
2 ـ غانم عموري ـ ملازم
3 ـ نافع داؤود ـ نقيب ركن
4 ـ هاشم الدبوني ـ مقدم
5ـ صديق اسماعيل ـ نقيب
6 ـ علي توفيق ـ مقدم ركن
7 ـ اسماعيل هرمز ـ مقدم
8 ـ مجيد الجلبي ـ مقدم
9 ـ محمد امين عبد القادر ـ نقيب
10 ـ خليل سلمان ـ عقيد طيار
11 ـ توفيق يحيى أغا ـ نقيب
12 ـ زكريا طه ـ نقيب
13 ـ عبد الله ناجي ـ عقيد طيار
14 ـ قاسم العزاوي ـ نقيب طيار
15 ـ فاضل ناصر ـ ملازم طيار
16 ـ أحمد عاشور ـ ملازم طيار
17 ـ ناظم الطبقجلي ـ عميد ركن ـ قائد الفرقة الثانية
18 ـ رفعت الحاج سري ـ عميد ركن ـ رئيس الاستخبارات العسكرية

نتائج الاغتيالات، والحملة الرجعية في الموصل:
بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:

 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل، أكثر من 30 ألف عائلة إلى بغداد والمدن الأخرى طلباً للأمان، تاركين مساكنهم، ومصالحهم  ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها، وأن بقائهم في الموصل لا يعني سوى انتظار القتلة لينفذوا جرائمهم بحقهم، وعليه فقد كانوا مجبرين على التضحية بكل مصالحهم، ومغادرة مدينتهم التي نشأوا وترعرعوا  فيها حرصاً على حياتهم.

 2ـ  شل و تدمير الحركة  الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة .

 3ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة  والتي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي .
 لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد،  هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، و كل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام، من دماء أبنائه البررة.
 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد، و العهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد.

 ولم يدر في خلد قاسم، أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها كانت هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين في انقلاب 8 شباط 1963.

موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟
لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها !! دون أن تتخذ قيادة الحزب موقفاً صارماً من السلطة وهو يدرك أن لها اليد الطولى فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم [عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].

 وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت له القناعة المطلقة أن الحزب  بكل تأكيد  سوف يقفز إلي السلطة، ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك،  ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية[ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية التي كانت تصوّر الحالة في العراق أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة.
 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع، ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك، في حين  كان بإمكانه استلام السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.

 لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم، واستفز البرجوازية الوطنية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له.

 كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، لكن الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حول الخليج حالت دون إقدام الحزب الشيوعي على استلام السلطة، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئاً لا يستفز عبد الكريم قاسم، عن طريق اللقاءات والحوار والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها  للمطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة إئتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.

 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي  القاضي بتحجيمه  وعزله عن جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه  بعد أن اصبحت لديه القناعة!! أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من أحزاب اليمين المتمثلة بحزب البعث والقوميين رغم أنهم تآمروا عليه مرات عديدة، في حين لم يكن يدور في خلد الشيوعيين خيانة عبد الكريم قاسم ، بل ذادوا عن ثورة 14 تموز حتى النهاية، ودفعوا ثمناً باهظاً جداً .
 أما قيادة الحزب فكانت  بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات ، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى به المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة  لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب  360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.

 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية  وتنامي عدد حوادث القتل  يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق، بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.

 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم، وكل الذين يقفون وراءهم .

إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه، متهماً المنادين به بالفوضويين !! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم، التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهضاً من أرواحهم وممتلكاتهم، ومصير وطنهم.

 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة. لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى غضب عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه، ومواقفه من الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية، واصفاً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو، وجنكيز خان !!؟  لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً وذريعة لضرب الحزب وتحجيمه. 

لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها، وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته ، وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء.
 


18
بمناسبةعيد المرأة العالمي
حقوق المرأة ومساواتها بالرجل رهن بتطبيق
شرعة  حقوق الانسان الدولية
حامد الحمداني                                                                 7/3/2019

يحتفل العالم هذا اليوم ،الثامن من آذار، بالعيد السنوي للمرأة ، ويجري الاحتفال بهذه المناسبة في وطني العراق في ظل ظروف بالغة الصعوبة منذ الغزو الأمريكي عام 2003 وحتى يومنا هذا، حيث سلم المحتلون الحكم في العراق لأحزاب الاسلام السياسي الغارقة في التخلف، والتي  انتهكت حقوق وحريات المرأة بشكل فض، وعادت بها القهقرة إلى ما قبل الثلاثينات من القرن الماضي، وجرى تهميش دورها في المجتمع وهي التي تمثل نصفه.

وجاءت الثورات التي اجتاحت العديد من بلدان العالم العربي لتزيد من الوضع تعاسة المرأة واعاقت ما كانت تصبو إليه في نيل حقوقها المغتصبة في ظل المجتمع الذكوري السائد، بل عادت إلى الوراء على اثر وصول أحزاب الإسلام السياسي إلى السلطة في العديد من  البلدان العربية، وما تزال بلدان عربية اخرى مسرحا لمعارك دامية معظم ادواتها احزاب اسلامية طائفية متخلفة عن العصر تهدف إلى انتزاع السلطة.

وعلى حين غرة ظهرت عصابات داعش وكأنها نزلت من السماء!! مدججة بكامل اسلحتها الحديثة في سوريا والعراق بوجه خاص، وليبيا وتونس والجزائر واليمن بوجه عام، مع ما تحمله من افكار موغله في الرجعية والتخلف لتجتاح المساحات الواسعة من الاراضي العراقية والسورية تنفيذا لأجندة اسيادها الامبرياليين، وتقترف اشنع الجرائم الوحشية بحق الانسان، تلك الجرائم التي نالت المرأة النصيب الأكبر منها، من قتل وسبي واغتصاب وتشريد، ونهب الممتلكات، وكل ذلك جرى ويجري باسم الإسلام، حتى بتنا نعيش اظلم عصور الهمجية، والعالم يعيش العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين!
 
إنها انتكاسة كبرى بالنسبة لحقوق المرأة لم تشهد له منذ الخمسينات من القرن الماضي، ومن عاش تلك الحقبة الزمنية يدرك البون الشاسع بين أوضاع المرأة آنذاك وأوضاعها اليوم في ظل هذه الانتكاسة، والردة الرجعية التي لم نشهد مثلها في العصر الحديث.

أنها لمأساة كبرى أن نجد المرأة اليوم وقد البسوها هذا القناع الأسود باسم ما يدعيه مسلموا هذا الزمان بالفضيلة، وكأنما هذا القناع الأسود هو الذي يحمي عفافها!!، وبدأت عمليات غسل الأدمغة التي يمارسها منظروا الإسلام السياسي، وقد امتلكوا السلطة لإعادة الحصان الجامح الذي انطلق مع قيام الثورات إلى حصنه من جديد                                                                               
                                                                                 
لقدانتكست حقوق المرأة التي ناضلت من أجلها عقوداً طويلة، وبات عليها أن تبدأ من نقطة الصفر من جديد، والسبب في كل ما جرى هو وصول الإسلام السياسي إلى قمة السلطة، فلا يمكن أن يبني الإسلام السياسي دولة ديمقراطية ويطبق شرعة حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بأخيها الرجل، ويحقق العدالة  الاجتماعية.                                                                                     
ولا سبيل إلى فرض وجود المرأة ومشاركتها النشيطة في الحياة السياسية والثقافية إلا من خلال كسر كل القيود التي تضمنها ما يسمى بالشرع الذي يفرضه أساطين الإسلام السياسي، فلا شرع في عصرنا هذا غير شرعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولابد أن تتحرر المرأة اقتصادياً لأنه السبيل الأهم لتحررها الاجتماعي، وهذا لن يتم إذا لم يجرِ تعبئة سائر منظمات المرأة، وبدعم فعّال ومتواصل من سائر القوى السياسية الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني لخوض المعارك الفاصلة مع قوى الردة والرجعية، لفرض إرادة التحرر من قيود المجتمع الذكوري والقوانين الرجعية التي تفرضها الشريعة التي عفا عليها الزمان، ولن تعد تلائم عصرنا.                                                     

لا يمكن، ولا أتصور، ولا أثق بكل ادعاءات أحزاب الإسلام السياسي بطرح برنامج ليبرالي حديث يتناسب مع فكرة الدولة المدنية، ويتضمن حقوق وحريات المرأة طالما هم متمسكون بما يسمى بالشريعة التي وضعت قبل 1400 عام فمن المستحيل أن تتلاءم الشريعة الدينية مع شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة منذ عام 1948، والتي تتجاهلها كل أنظمة الدول الإسلامية، ولا حل إلا بقيام دولة علمانية تتولى فصل الدين عن الدولة، ليبقَ الدين منزها من كل ما الصقه منظروا الإسلام السياسي من أدران، بغية تثبيت كيانهم السياسي وسيطرتهم وتحكمهم  بشؤون المجتمع، بدأً من رياض الأطفال وحتى الدراسات العليا، وليبًقَ الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه فقط، دون تدخل الدولة. 
                       
ولا بد أن اقول أن المرأة تتحمل جانبا من المسؤولية بسبب التخلف السائد في المجتمع نتيجة لعوامل متعددة بعضها يقع على عاتق رجال الدين، وبعضها الآخر على الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي، وبعضها الآخر على المرأة نفسها فلقد وجدنا الكثير من النساء ممن حملن حتى شهادة الدكتورة، وقد غطت نفسها بهذا الكيس ألظلامي الأسود، وتعلن صراحة أن من حق الرجل أن يضرب المرأة، وأن على المرأة إطاعة الرجل، وعدم مخالفة إرادته، لأن الإسلام يقول أن الرجال قوامون على النساء، وهذا ما سمعته في ندوة تلفزيونية مع نائبة في البرلمان العراقي، فكيف بالمرأة المحرومة من الثقافة، والمطمورة بين أربعة جدران، ومهمتها خدمة الرجل، وتلبية رغباته الجنسية، وتربية الأطفال، وتحضير الطعام، وتنظيف المسكن، دون إن تشعر بكرامتها المهانة، ودون أن تعترض على انتهاكها تحت تهديد الرجل. 
                                .                                                                                                                         
 اننا بحاجة للثقافة الذاتية فهي التي تجعل الرجل يحس بكونه يضطهد المرأة ويسلبها حقوقها، وإرادتها، وأن المرأة مخلوق لا يختلف عن الرجل، بل أستطيع القول أن ما تقوم به المرأة يعجز الرجل عن القيام به، دعك عن الحمل والولادة وآلامها ومخاطرها، ومع ذلك نجد المرأة وقد درست واجتهدت وحققت نجاحاً باهراً كطبيبة ومهندسة ومدرسة ومحامية وقاضية، بل وتبوأت في العديد من الدول أعلى مراتب السلطة كرئيسة دولة، أو رئيسة وزراء، في حين نجد الكثير من الرجال الأميين الذين لا يدركون من شؤون الحياة سوى فرض سيطرته على المرأة، وانتهاك حقوقها والاعتداء عليها.

أن الثقافة الذاتية لكلا الجنسين لا تأتِ إلا من خلال القراءة، والمخالطة الاجتماعية مع من يمتلكون جانبا واسعاً من الثقافة، فمن لا يقرأ يتحجر دماغه بلا أدنى شك، وعلى المرأة أن تهتم بالقراءة فهى السبيل لجعلها تدرك حقوقها وحرياتها، وتدفعها للنضال من أجل تحقيقها.
تهنئة من الاعماق لعيد المرأة، وعاش نضالها من أجل تحقيق أمانيها في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ولتتشابك ايادي كل المثقفين بيد المرأة لفرض شرعة حقوق الانسان التي اقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة كقانون الزامي في دستور البلاد .

19
الصراع الأمريكي الروسي وخيارات اوربا           
حامد الحمداني                                            21/2/2019

أظهر الرئيس الأمريكي ترامب في خطابه الذي ألقاه قبل يومين تهديداً صريحاً بغزو  ليس فنزويلا فحسب، بل اضاف اليها جمهوريتي كوبا ونكراكوا، بل زاد في اندفاعه مهددا بمحاربة كل الأنظمة الأشتراكية في امريكا اللاتينية، وفي اية دولة في العالم، وصب تهديداته على الشيوعية، وقد اتصف خطابه هذا بالعدوانية، وكأن الرعب قد تولاه من امكانية عودة الاتحاد السوفيتي من جديد، ومن أجل هذا الكابوس الذي يلاحقه، مارس الضغوط الشديدة على دول حلف الناتو الاوربية بدفع المزيد من أجل حمايتها من الخطر الروسي المزعوم، ومارس الضغوط على دول اوربا الشرقية التي كانت ضمن المعسكر الاشتراكي المجاورة لروسيا لنصب الصوريخ المتوسطة المدى على حدود روسيا، وتمادى في سعيه لحصاره بإحداث انقلاب في اوكرانيا، وتسليمها للقوى النازية، مما أدى الى قيام صراع بين روسيا واوكرانيا أدى بدوره الى انفصال الاجزاء التي غالبية سكانها من الروس وفي مقدمتها شبه جزيرة القرم التي تم اعادتها الى روسيا، وبدأت الاسلحة الامريكية تنهال على اوكرانيا، ومحاولة ضمها الى حلف الناتو، واعلن ترامب جملة من العقوبات على روسيا في محاولة لانهاك اقتصادها وتركيعها، ومارس الضغوط على اوربا لرفض شراء الغاز الروسي عبر الأنبوب الذي اقامته روسيا عبر بلغاريا بدلاً من اوكرانيا.

 لكن روسيا تجاوزت كل تلك الضغوط الاقتصادية، وتحدت الولايات المتحدة، وانذرت البلدان الأوربية المحاذية لروسيا من ان روسيا لن تتساهل في درء الخطر على حدودها، ولم ينتظر الرئيس الروسي بوتين الرد على مشاريع ترامب العدائية ضد روسيا حيث جاء خطابه في اليوم التالي لخطاب ترامب، في افتتاح المجلس الاتحادي الروسي، موجهاً إنذاراً صريحاً للرد على أي عدوان على روسيا فوراً، ليس فقط على الدول التي تنطلق منها صواريخ امريكا ضد روسيا، بل الدول التي يصدر منها قرار العدوان كذلك، في اشارة واضحة الى الولايات المتحدة الامريكية، ودعم الرئيس الروسي بوتين تحذيره بعرض لأحدث الأسلحة والصواريخ الهجومية، واشدها فتكاً، وأردف بوتين قائلاً ان روسيا لن تهدد احدا، ولن تبدأ بالعدوان، لكنها على اهبة الاستعداد للرد بكل قوة على مصادر العدوان، المراكز التي اصدرت قرار العدوان،وهو يقصد بذلك الولايات المتحدةالامريكية.                                                      .

إن الحرب الباردة القائمة اليوم بين أمريكا وروسيا باتت تشكل أعظم الاخطار على اوربا التي زرعت امريكا أراضيها بصواريخها الذرية، واسلحتها الفتاكة، تقابلها صوريخ روسيا المرعبة مما يؤدي بكل تأكيد الى تحويل الدول الاوربية الى ساحة حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر، وأن الحكمة تتطلب من دول الاتحاد الأوربي ان تسعى لعلاقات سلام وتعاون وتبادل المصالح الاقتصادية  بحكم الجيرة، وحماية شعوبها واوطانها من مخاطر الحروب المدمرة  والنأي بشعوبها من سياسة ترامب الخطرة التي تضع هذه البلدان بين المطرقة والسندان.

أن سياسة حافة الحرب التي يسير عليها ترامب هي لعب بالنار،  في ظل تسلح الطرفين بأخطر الأسلحة ذات الدمار الشامل، وأن أي خطأ يرتكبه احد الطرفين الماسكين بالزناد ، وهما على اهبة الاستعداد والترقب يمكن ان تنطلق الصواريخ العابرة للقارات والصواريخ  المتوسطة المدى والتي قد تفضي الى فناء العالم.                                                 

                                                 
                                                       

20
من ذاكرة التاريخ
الحرب العراقية الإيرانية
ودور الولا يات المتحدة في اشعالها
القسم الخامس والأخير
حامد الحمداني                                                  
 
أولاً: حرب الناقلات، وتأثيرها على إمدادات النفط:
عمل الطرفان المتحاربان العراق وإيران على منع كل طرف للطرف الآخر من تصدير نفطه، بالنظر إلى اعتماد كلا البلدين على واردات النفط لتمويل الحرب ولكون اقتصاد البلدين يعتمد اعتماداً كلياً على تلك الواردات، ولذلك وجدنا قوات البلدين تقوم بقصف المنشآت النفطية لكل منهما، واستمر القصف طيلة أمد الحرب.

كما قامت القوات الإيرانية بلغم رأس الخليج لمنع الناقلات من الوصول إلى ميناء البكر النفطي، مما اضطر العراق كما أسلفنا، إلى مد أنابيب لنقل النفط عبر الأراضي التركية والسعودية، فيما كانت سوريا قد أوقفت مرور النفط العراقي في الخط المار عبر أراضيها إلى ميناء بانياس، وميناء طرابلس اللبناني، منذُ نشوب الحرب.

 كما قامت الكويت ببيع النفط لحساب العراق، ونقله على ناقلاتها، مما دفع إيران إلى مهاجمة الناقلات الخليجية، حيث أصيب أكثر من 160 ناقلة منها 48 ناقلة كويتية، واضطر حكام الكويت إلى شراء الحماية لناقلاتها من الولايات المتحدة وقامت برفع العلم الأمريكي عليها لمنع إيران من مهاجمتها، كما قامت حكومة الكويت بتأجير 11 ناقلة سوفيتية لضمان عدم الاعتداء عليها، وحاولت شراء الحماية من الصين كذلك، لكن الولايات المتحدة عارضت ذلك خوفاً على مصالحها في الخليج.
 
أما حكام العراق فقد سعوا أيضاً إلى منع إيران من تصدير نفطها، وقامت طائرات من طراز [سوخوي 23]، وطائرات من طراز [ميراج] الفرنسية التي استأجرها العراق ، والمحملة بصواريخ [أكزوزسيت] والتي استطاع بواسطتها من الوصول إلى ابعد نقطة في الخليج لملاحقة الناقلات التي تنقل النفط الإيراني، وتدمير المرافئ التي تستخدمها إيران لتصدير النفط.
 وهكذا اشتعلت حرب الناقلات بين البلدين المتحاربين، وأصبحت عملية نقل النفط خطيرة وصعبة، ورفعت شركات التأمين رسومها على الناقلات إلى مستوى عالٍ جداً مما سبب في رفع أسعار النفط في الأسواق العالمية.

 وفي تلك الأيام قامت طائرة عراقية بضرب طراد أمريكي، في 18 أيار 1987، حيث اعتقد الطيار أنه طراد إيراني، وأدى قصفه إلى مقتل 28 فرداً من القوات الأمريكية، واعترفت الحكومة العراقية بقصف الطراد وقدمت اعتذاراً للحكومة الأمريكية، وتم دفع تعويضات لأسر العسكريين القتلى بمقدار 800 ألف دولار لكل قتيل، ولم يصدر أي رد فعل أمريكي ضد العراق فقد كانت العلاقات بينهما على خير ما يرام!!.

استمرت حرب الناقلات، بل وتصاعدت في السنوات الأخيرة من الحرب وأصبحت تمثل خطراً حقيقياً على تدفق النفط الذي من أجله أٌشعلت نيران الحرب وأصبح الخليج مملوء بالألغام، وأصبح استمرار الحرب يعطي نتائج عكسية، مما دفع الولايات المتحدة وحلفائها إلى التحرك لإنهائها بعد تلك السنين الطويلة من الدماء والدموع، والخراب والدمار الذي عم البلدين، وكان إنهاءها يتطلب دعماً كبيراً للعراق لأخذ المبادرة، وقلب موازين القوى لصالح العراق، وطرد القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وتوجيه الضربات الموجعة لإيران لتركيعها وإجبارها على القبول بوقف الحرب .

 وقد جرى ذلك الدعم بمختلف السبل، من تقديم المعلومات العسكرية  إلى تقديم شتى أنواع الأسلحة، وتقديم الخبرات، ومشاركة ضباط مصريين كبار، بالإضافة إلى القوات المصرية، والأردنية، واليمانية، وغيرها من السبل والوسائل، وبدأ العراق يعد العدة لشن الهجوم تلو الهجوم لطرد القوات الإيرانية من أراضيه.
 
ثانياً:المعارك التي خاضها العراق في العام الأخير للحرب:

 1ـ معركة تحرير الفاو:
في عام 1988، العام الأخير للحرب، تحول ميزان القوى مرة أخرى لصالح العراق، وبدأ النظام العراقي يعد العدة لتحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني وكان في مقدمة أهدافه تحرير الفاو، التي مضى على احتلالها 21 شهراً، فقد حشد النظام العراقي قوات كبيرة من الحرس الجمهوري، ومعدات لا حصر لها، كان من بينها 2000 مدفع، ومئات الدبابات والمدرعات، وبدأ الهجوم يوم 17 نيسان 988 واستطاعت القوات العراقية تحقيق انتصار ساحق على القوات الإيرانية بعد أن حولت المنطقة إلى كتلة من لهيب، ودفع العراق حياة خمسين الفاً من أبنائه ثمناً لتحرير الفاو !!.
2 ـ تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة:
 كان الهدف الثاني للنظام العراقي هو تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة وإبعاد القوات الإيرانية عن المدينة التي كانت طيلة الحرب هدفاً لقصف المدفعية الإيرانية، والهجمات المتتالية عليها بغية احتلالها، ولذلك فقد ركز النظام العراقي جهد قواته إلى تلك المنطقة، وخاض مع القوات الإيرانية معارك شرسة دامت ثلاثة أسابيع، وتمكنت القوات العراقية بعدها من تحرير كافة المناطق المحيطة بالبصرة، بعد أن قدم التضحيات الجسام.

3 ـ تحرير جزر مجنون:
بعد أن فرغت القوات العراقية من تحرير الفاو، كان أمامها الهدف الثالث، الذي لا يقل أهمية عن الهدفين الأولين، جزر مجنون، التي تعتبر من أغنى المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة، وقد تمكنت القوات العراقية بعد معارك عنيفة من تحريرها من أيدي الإيرانيين، وإلحاق الهزيمة بالجيش الإيراني.

4 ـ تحرير المناطق الحدودية الممتدة من البصرة إلى مندلي: 
انتقلت القوات العراقية بعد تحرير جزر مجنون إلى ملاحقة القوات الإيرانية التي كانت قد احتلت فيما مضى مناطق على طول الحدود الممتدة بين البصرة في الجنوب ومندلي  في القاطع الأوسط، واستمرت في توجيه الضربات للقوات الإيرانية التي أخذت معنوياتها تتراجع يوماً بعد يوم، واستطاعت القوات العراقية طردها من تلك المناطق، ودفعها إلى داخل الحدود الإيرانية.

5 ـ اختراق الحدود الإيرانية من جديد:
لم تكتفِ القوات العراقية من إزاحة القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وإنما طورت هجماتها، وأخذت تلاحق القوات الإيرانية إلى داخل الحدود، واستمر تقدم القوات العراقية في العمق الإيراني إلى مسافة 60 كم، مما جعل القوات الإيرانية في موقف صعب للغاية، وتنفس النظام الصدامي  الصعداء، واستمر في ضغطه على القوات الإيرانية لإجبارها على القبول بوقف الحرب التي عجزت كل الوساطات عن إقناع حكام إيران بوقفها.

ثالثاً:النظام العراقي يهاجم مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية:
في ليلة 13 آذار 1988، بادرت القوات الإيرانية بالهجوم على مدينة حلبجة الواقعة في القسم الشمالي الشرقي من كردستان، في سهل شهر زور، بمساعدة قوات البيشمركة العائدة للحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان النظام الإيراني يرمي من هجومه على المدينة التعويض عن هزائمه أمام القوات العراقية في القاطعين الجنوبي والأوسط، ولرفع معنويات جنوده المنهارة بعد تلك الهزائم.
بدأت القوات المهاجمة بقصف المدينة بالمدفعية لمدة ثلاثة أيام، ثم أعقبتها بالهجوم البري الذي دام يومين، حيث استطاع الإيرانيون من احتلال المدينة في 15 آذار، وتقهقرت القوات العراقية التي كانت متواجدة هناك تاركة أسلحتها ومعداتها في ارض المعركة، وبدأ الإيرانيون يتحدثون عِبر وسائل إعلامهم عن انتصارات حققوها في منطقة حلبجة، وبدأ المصورون يصورون القوات الإيرانية وهي تحتل المدينة.

أدرك الأهالي أن الأخطار تحدق بهم، وأن النظام الصدامي سوف لن يدع القوات الإيرانية تحتل المدينة، وكان أكثر ما يقلقهم هو إمكانية تعرضهم للضرب بالأسلحة الكيماوية، ولذلك فقد حاولوا مغادرة المدينة وإخلائها، لكن الإيرانيين منعوهم من ذلك. لكن القوات الإيرانية لم تمكث في المدينة، وبدأت تنسحب منها تاركة الأهالي، وقوات البيشمركة فيها، فقد توقعوا أن يشن النظام الصدامي الهجوم عليها بالأسلحة الكيماوية.

  وفي صباح يوم 16 آذار حلقت 8 طائرات حربية عراقية فوق المدينة، وبدأت بالقصف العشوائي مركزة على منطقتي [السراي] و[كاني قولكه].

وبعد الظهر جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بكل أحيائها وكانت تستهدف كسر زجاج النوافذ للدور تمهيداً لقصفها بالسلاح الكيماوي، لكي تنفذ الغازات السامة في كل مكان، ولكي تقتل  أكبر عدد من المواطنين.

وفي الساعة الثالثة والربع من عصر ذلك اليوم جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بالسلاح الكيماوي، مركزة القصف على أحياء [بير محمد] و[جوله كان] و[كاني قولكه] [والسراي]، ثم تلتها موجة أخرى من الطائرات بعد ساعة لتقصف المدينة من جديد مركزة القصف على كل أنحاء المدينة.

وتحدث أحد الناجين من تلك المجزرة البشرية التي ذهب ضحيتها أكثر من 5000 مواطن كردي أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، فقال:
{في البداية سمعنا صوت انفجارات مدوية تلاها بعد خمس دقائق انتشار ما يشبه الضباب الذي راح يقترب من الأرض شيئاً فشيئاً، وبدأت العيون تدمع وشعرنا بحرقة شديدة، وكانت الرائحة أشبه برائحة البارود، وتسرب الدخان الأبيض إلى كل المنازل، والمخابئ، وبدأ الناس يشعرون بالاختناق، وتدافعت جموعهم للخروج نحو الخارج لتشم الهواء، وكان الناس يصرخون كالمجانين، ويضعون أيديهم على عيونهم، وأنوفهم، ثم يسقطون على الأرض ويأتون بحركات متشنجة ويتقيئون، ويبصقون دماً، وأصيبت عيونهم بالعمى، وكانت أنوفهم وأفواههم تنزف دماً، وقد ازرقت بشرتهم، ثم بدأوا يفارقون الحياة، وكنت أرى الجثث في الشوارع والطرقات وفي كل مكان، وكان البعض منهم لا يزال ينازع الحياة، وقد شوهتهم الحروق، وبدت المدينة أشبه بمقبرة انتزعت الجثث فيها من قبورها، وتناثرت على الأرض، وقد استطاع البعض تصوير تلك المشاهد المرعبة التي تصف جرائم النظام الصدامي خير وصف}.

رابعاً:العراق يكثف حرب الصواريخ،ونهاية الحرب:

أخذ حكام العراق، بعد أن تسنى لهم دفع القوات الإيرانية إلى عمق أراضيهم يضغطون على حكام إيران من أجل القبول بوقف الحرب، وذلك عن طريق تكثيف حرب الصواريخ لإحداث حالة من الانهيار النفسي لدى الشعب الإيراني، فقد كانت الصواريخ تنهال على طهران والمدن الإيرانية الأخرى بشكل متواصل محدثة خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، وخلقت حالة من الهلع لدى الشعب الإيراني.

وفي ظل تلك الظروف صدر قرار مجلس الأمن رقم 579، والذي دعا إلى وقف القتال بين الطرفين وانسحاب القوات العسكرية إلى داخل حدودها الوطنية، ووجد حكام إيران أنهم قد أصبحوا عاجزين عن مواصلة الحرب، واضطر الزعيم الديني [آية الله الخميني] إلى إصدار أوامره بوقف الحرب في 18 تموز 1988، والقبول بقرار مجلس الأمن على مضض، حيث أعلن الخميني أنه يشعر وهو يصدر أمره بوقف الحرب، بأنه يشرب السم.

وهكذا توقفت الحرب بين العراق وإيران، بعد مجازر رهيبة استمرت طيلة ثمان سنوات، وذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان، من كلا البلدين، إضافة إلى آلاف المعوقين والأرامل واليتامى، وتدمير اقتصاد البلدين، وتخريب مرافقهما الاقتصادية، والأعظم من كل ذلك هو التأثير النفسي الذي تركته تلك الحرب المجرمة على أبناء الشعبين المغلوبين على أمرهما، والتي لم يجنيا منها سوى الدماء والدموع .

خامساً:النظام الصدامي يشن حملة الأنفال على الأكراد:

لم يكد النظام الصدامي ينتهي من معاركه الخمسة مع إيران، وتضع الحرب أوزارها، حتى التفت إلى منطقة كردستان، وقد امتلأ قلب صدام حسين حقداً على الأكراد فأصدر أوامره إلى قوات الحرس الجمهوري بقيادة المجرم العريق [علي حسن المجيد] الملقب [علي كيماوي] حيث ارتبط أسمه باستخدام السلاح الكيماوي ضد أبناء الشعب الكردي.
ففي 20 آب 1988، اليوم الذي جرى فيه إيقاف الحرب بين العراق وإيران اندفعت قطعان الفاشيين نحو كردستان  مستخدمة في بداية هجومها السلاح الكيماوي في منطقة واسعة جاوزت 6000كم مربع أصابت معظم القرى الكردية في المنطقة الممتدة من كركوك وحتى أقصى حدود كردستان.

كما قامت الطائرات صباح يوم 26 آب ب24 غارة بالأسلحة الكيماوية على مدن وقرى عديدة في كردستان، منها بابير،وكه ركو، وبليت ، وباروك، وزيوه وزيريج، وبازيان، ودهوك، والشيخان، والعمادية، وكانت الطائرات تتعقب الهاربين من جحيم الحرب، كما شاركت الطائرات المروحية في مطاردتهم، وبلغ عدد الفارين نحو الحدود التركية أكثر من 90 ألفا، وكان قسم منهم مصاباً بحروق جراء تعرضهم للأسلحة الكيماوية.

أعقب الهجوم البربري بالأسلحة الكيماوية اجتياح الحرس الجمهوري لكردستان، حيث أكتسحت القوات الفاشية المنطقة مبتدئة بالقرى المحيطة بكركوك لتمسحها من الوجود، وتتركها أكواما من الحجارة، ولتفتك بأبناء الشعب الكردي بأسلوب رهيب لم تشهد له كردستان من قبل، حيث لم يسلم من بطش القوات الغازية حتى الأطفال، ولم تنجوا الجوامع والكنائس من همجية الفاشيين البعثيين.
 لقد التُقِطتْ مكالمة هاتفية من علي حسن المجيد إلى قائد الفيلق الذي قاد الهجوم يقول له بالحرف الواحد: {لا تدع حتى الأطفال، لأنهم سيكبرون غداً ويحملون السلاح ضدنا}.

 وهكذا أباد الفاشيون ما يناهز على 180 ألف مواطن كردي دفنتهم الجرافات العسكرية في قبور جماعية مجهولة، وبأسلوب وحشي يندى له جبين الإنسانية.
كما تم نقل أعداد كبيرة من الأكراد إلى المناطق الصحراوية في جنوب العراق بسيارات الحمل، إمعاناً بإذلالهم، ونُهبت ممتلكاتهم ومواشيهم.

ورغم كل الجرائم التي أقترفها نظام صدام باستخدامه السلاح الكيماوي، ليس ضد القوات الإيرانية فحسب، بل وضد الشعب الكردي كذلك فإن تلك الجرائم لم تحرك مجلس الأمن، ولا حكومات الدول الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان، وشجع موقفهم حاكم بغداد على الإيغال بجرائمه ضد الإنسانية.
وبإلحاح من حكومة إيران وشكواها بأن العراق قد استخدم السلاح الكيماوي المحرم دولياً، اضطرت الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة خبراء إلى طهران في 26 شباط 1986 للتحقيق في الشكوى، وقد مكثت البعثة مدة أسبوع في طهران، ثم رفعت تقريرها الذي أكد على أن العراق قد استخدم الغاز السام في الحرب واضطر مجلس الأمن إلى أن يصدر قراراً يدين العراق لأول مرة !!!.
لكن ذلك القرار كان قد صيغ بشكل مائع ولم يؤدِ إلى إيقاف تلك الجرائم، بل استمر النظام العراقي في استخدامها حتى نهاية الحرب.

غير أن الغرب صحا فجأة، بعد عام 1989، بعد أن انتهت الحرب مع إيران، وبدأ يتحدث عن تسلح النظام العراقي بأسلحة الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية والجرثومية والنووية، فلقد تغيرت الحال بعد الحرب!، وخرج العراق منها يمتلك جيشاً جراراً، واقتصاداً منهاراً، ولديه ترسانة ضخمة من الأسلحة تجعله خطراً داهماً على مصالحهم في الخليج!، ووجد الغرب أن من الضروري نزع أسلحة العراق ذات الدمار الشامل من أجل ضمان أمن واستقرار الخليج!، ووجد إن الوقت قد حان لنزع هذه الترسانة الخطيرة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، والصواريخ البعيدة المدى، والقادرة على حمل تلك الأسلحة إلى مسافات شاسعة.

 كان لابد وان يجد الغرب الوسيلة والمبرر لذلك، فكان توريط صدام بغزوه الكويت لاتخاذ تلك الجريمة مبرراً لتدمير القوة العسكرية والاقتصادية للعراق، وتدمير البنية الاجتماعية للشعب العراقي، نتيجة للحصار الظالم الذي تم فرضه على الشعب العراقي، دون صدام وزمرته المجرمة، والذي تسبب في تلك الكارثة المفجعة حيث الجوع والفقر والأمراض التي أزهقت أرواح 4 ملايين من أطفال العراق، ومحت الطبقة الوسطى، وحولتها إلى ما دون خط الفقر، وتسببت في هجرة الملايين من العراقيين نحو بلدان اللجوء الغربية، وفقد العراق خيرة كوادره العلمية في مختلف المجالات، والتي تعتبر ثروة عراقية كبرى لا تعوض.

لقد كانت الحرب العراقية ضد إيران بالوكالة عن الولايات المحتدة، هي العامل المباشر لغزو صدام للكويت، وحرب الخليج الثانية عام 1991، والانتفاضة التي تلتها مباشرة، ومن ثم حرب الخليج الثالثة التي قادها بوش الأبن لإسقاط نظام صدام، واحتلال العراق، وما سببه الاحتلال من الويلات والمصائب والمآسي التي أوصلت الشعب للحرب الأهلية ما بين عامي 2006 و 2007 ، وما زال الشعب العراقي حتى يومنا هذا يعاني اشد المعانات من فقدان الأمن، والتفجيرات المستمرة التي تحصد كل يوم بالعشرات بل المئات من المواطنين الأبرياء، إضافة للفقر والبطالة والأمراض التي عمت المجتمع العراقي جراء حروب صدام الكارثية .
إن خير من وصف ما تسببه الحروب في  تدمير البنية الاجتماعية هو [ليون تلستوي] حيث يقول في كتابه المشهور [ الحرب والسلام ] :
{ إن سنة واحدة من الحروب تفسد المجتمع أكثر ما تفسده ملايين الجرائم لعشرات السنين}، ولنا بعد ذلك أن ندرك ما فعلته حروب صدام المجرمة منذ عام أن استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب 17 تموز 1968 وحتى عام 2003 بالمجتمع العراقي الذي كان بالإمكان لو تهيأت لو حكومة رشيدة مسالمة، نظيفة اليد، وذات كفاءة عالية، ان يعيش اليوم حياة رغيدة، في ظل بلد يرقى إلى مصاف بلدان العالم المتطورة، حيث يمتلك العراق كل المقومات المادية والبشرية والكفاءات العلمية لبلوغ هذا الهدف الكبير.


21
من ذاكرة التاريخ:
الحرب العراقية الإيرانية
ودور الولايات المتحدة في اشعالها
الحلقة الرابعة 4/5
حامد الحمداني                                                 9/2/2019
إيران تستعيد قدراتها العسكرية، وتشن الهجوم المعاكس
في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في الحرب، وقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية، وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال، وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء، ولبس قسم منهم الأكفان وهم يتقدمون الصفوف.

وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع الجيش الإيراني مدعوما بالحرس الثوري من تطويق القوات العراقية، وخاض ضدها معارك شرسة ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الدكتاتور صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.
 واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري، وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [خرم شهر]  وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة، واشتدت المعارك بين الطرفين، واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [خوزستان]  في تموز من عام 1982، بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من جنوده، وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية، وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب، وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط.

أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله، وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق وأصروا على مواصلة الحرب وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم، وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها، مستغلاً قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام  1982 باجتياح لبنان، واحتلالها للعاصمة بيروت، وفرضها زعيم القوات الكتائبية [ بشير الجميل] رئيساً للبلاد تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة.

 إلا أن حكام إيران وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي وأصروا على مواصلة الحرب، وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان، لتقديم الدعم للشعب اللبناني، وقد رفض صدام حسين الطلب الإيراني كذلك.
 حاول حكام العراق بكل الوسائل والسبل وقف الحرب، ووسطوا العديد من الدول والمنظمات كمنظمة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب، وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران، في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين، حيث أُسقطت طائرته، ولف الحادث الصمت المطبق، وبقي سراً من الأسرار، كما اغتيل رئيس وزراء السويد  [أولف بالمه] الذي بذل جهوداً كبيرة من أحل وقف القتال، في أحد شوارع العاصمة السويدية، وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك،  وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي، والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة.

لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب من أعظم الأخطاء التي وقعوا فيها، بل أستطيع تسميتها بالجريمة الكبرى التي لا يمكن تبريرها،  وتبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال، فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988 إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين العراقي والإيراني، وبُددت ثروات البلدين، وانهار اقتصادهما، وتراكمت عليهما الديون، وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا، كما كانت شعاراتهم تقول، ولا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونوا عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية تولى تنفيذها صدام حسين، وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة، وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة، والمعدات وقطع الغيار، والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين من أجل إطالة أمد الحرب، وعليه كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية  والمتمثلة بصدام حسين وزمرته، والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً، وحيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب،أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال.
لقد كان أحرى بالنظام الإيراني وبالإمام الخميني نفسه إيقاف القتال وحقن الدماء، والعمل بقوله تعالى : [ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ] وقوله تعالى في آية أخرى : [ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين] كما جاء في آية ثالثة قوله تعالى : [ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فأصلحوا بينهم ] تلك هي آيات من القرآن الكريم التي تحث على السلام  وحل المشاكل بالحسنى والعدل، وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات الكريمة هذه، وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب ليسو صدام حسين وزمرته وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين؟

ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين، ويمدونهم بالسلاح والمعلومات العسكرية، أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية استهدفت البلدين والشعبين والجيشين من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج، وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟
 ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب خدمة كبرى للإمبرياليين، وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما ؟

 لقد أعترف صدام حسين عام 1990 بعد إقدامه على غزو الكويت في رسالة إلى الرئيس الإيراني [هاشمي رفسنجاني ] أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية، حيث ورد في نص الرسالة ما يلي: [إن هناك قوى كانت لها يد في الفتنة]. (6)       
ولكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة، وبشكل دقيق، لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين أشعل الحرب بأمر أو تحريض أمريكي، وظن صدام أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة ولعب دور شرطي الخليج بعد أن كانت إيران على عهد الشاه تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً واسعاً على الخليج.

لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية، ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل، كما يقول المثل، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه، وبدد صدام حسين ثروات البلاد، واغرق العراق بالديون، ودمر اقتصاده، ودمر البنية الاجتماعية للشعب العراقي، وكان المستفيد من تلك الحرب الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما، ومن قبل الإمبرياليين الذين هم أساس البلاء.

 ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق،  كقيام ثورة [شيعية] تسقط النظام الصدامي، لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق لسبب بسيط وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني، ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة، وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج، وهذا ما أكده إعلان الرئيس الأمريكي [ جيمي كارتر]  في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي دُعي بمبدأ كارتر، و جاء فيه ما يلي :
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية}. (7)
هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج، والتي جهلها أو تجاهلها حكام البلدين، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب في القرن العشرين.

استمرار الحرب وإيران تستكمل تحرير أراضيها
اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام  1983 ـ 1986 ،حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب حيث شنت هجوماً واسعا على القوات العراقية مسددة له ضربات متواصلة، استطاعت من خلالها تحرير مدن[ قصر شيرين] و [ سربيل زهاب ] و [ الشوش]، وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية، ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات، وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه، والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تركوا في ساحات المعارك، ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية، ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة، وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً وغضباً على النظام الصدامي الذي ورط العراق بتلك الحرب، وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف، فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب الموت الزؤام.
 
لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ  من المال، أو قطعة أرض أو شقة  أو دار، وكان حكام دول الخليج، وفي المقدمة منهم حكام السعودية، يدفعون الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى، ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي، بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطيات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب، واستنفذ كل موارد العراق النفطية  والبالغة 25 مليار دولار سنوياً ،هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون، والتي جاوزت حدود أل 60 مليار دولار.
لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره، ومستوى معيشة شعبه نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية وأراضي زراعية خصبة، ومياه وفيرة، ولكن الدكتاتور آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر، ويسبب
 للوطن نحو الدمار والخراب.
سادساً:الجيش الإيراني يحتل شبه جزيرة الفاو، وجزر مجنون
اشتدت المعارك بين الجيشين العراقي والإيراني، وبدت إيران في وضع يمكنها من شن الهجمات  البشرية المتتالية تارة على القاطع الجنوبي نحو البصرة، وتارة أخرى نحو القاطع الأوسط ، حول مدن مندلي وبدرة وجصان، وتارة ثالثة نحو القاطع الشمالي المحاذي لكردستان، وكان الوضع في كردستان في غير صالح النظام بالنظر إلى الجرائم التي أقترفها بحق الشعب الكردي، مما دفع الأكراد إلى الوقوف إلى جانب إيران رغبة في إسقاط النظام، واستطاعت القوات الإيرانية من احتلال أجزاء من المناطق في كردستان.

أما هجماته في القاطعين الأوسط والجنوبي فقد كان حكام العراق قد حشدوا قوات كبيرة مجهزة بشتى أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي أستخدمها صدام حسين لدحر الهجمات الإيرانية موقعاً خسائر جسيمة في صفوف القوات الإيرانية والعراقية، حيث سقط عشرات الألوف من جنود وضباط الطرفين في تلك المعارك الشرسة والتي تقشعر من هولها الأبدان، ولم يفلح الإيرانيون في الاحتفاظ بأي تقدم داخل الأراضي العراقية حتى نهاية عام 1985 .
لكن الوضع أصبح خطيراً بالنسبة للعراق عام 1986،عندما استطاعت القوات الإيرانية الاندفاع نحو شبه جزيرة الفاو واحتلالها بأكملها بعد معارك دموية شرسة، ودفع فيها الشعب العراقي ما يزيد على 50 ألف من أرواح أبنائه في محاولة من صدام حسين لاستعادتها من أيدي  الإيرانيين، وكان الإيرانيون يستهدفون من احتلالها قطع الاتصال بين العراق ودول الخليج التي كان العراق يحصل على الأسلحة والمعدات عن طريقها، إضافة إلى محاولة إيران منع العراق من تصدير نفطه عن طريق الخليج، وحرمانه من موارده النفطية اللازمة لإدامة ماكينته الحربية، وقد أضطر العراق إلى مد أنبوبين لنقل النفط إلى الأسواق الخارجية الأول عبر الأراضي التركية، والثاني عبر الأراضي السعودية بعد أن أصبح نفطه مطوقاً، وسيطرت البحرية الإيرانية على مداخل الخليج، أستمر الإيرانيون في تكثيف هجماتهم على القوات العراقية بعد احتلالهم شبه جزيرة الفاو، وركزوا على منطقة [جزر مجنون] الغنية جداً بالنفط، واستطاعوا احتلالها بعد معارك عنيفة.
 
 سابعاً:النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل:
كاد النظام الصدامي يفقد صوابه بعد أن تطورت الأوضاع على جبهات القتال لغير صالح العراق، وبدأ يعبئ كل موارد البلاد لخدمة المجهود الحربي، كما أخذ يطلب المساعدة من دول الخليج، ومن السعودية بشكل خاص، وشعر حكام الخليج أن الخطر قد بدأ يتقدم نحو المنطقة، فسارعوا إلى تقديم كل أنواع الدعم والمساعدة المالية، وحصل العراق في تلك الفترة على 12 مليار دولار، وكان عدد من الدول العربية كمصر والسعودية والكويت تقوم بشراء الأسلحة لحساب العراق.
غير أن حكام العراق وجدوا أخيراً أن السعي لإنشاء مصانع الأسلحة ذات الدمار الشامل يمكن أن تكون أداة فعالة لدفع الخطر عن البلاد، وتم إنشاء هيئة التصنيع العسكري، وبدأ العراق بإنتاج الأسلحة الكيماوية، مستفيدين من خبرة العلماء المصريين، وبعض العلماء الأجانب الذين سبق وعملوا في برامج الأسلحة الكيماوية في عهد عبد الناصر، وأوقفها السادات من بعده، ثم بدأ العراق في إنتاج وتطوير الصواريخ من طراز [سكود]، وطوروا مداها لكي تصل إلى أبعد المدن الإيرانية، وكان الإيرانيون قد حصلوا على عدد من تلك الصواريخ، وضربوا بها العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى، حيث كانت تلك الصواريخ تطلق نحو العراق كل بضعة أيام أو أسابيع لتصيب الأهداف المدنية، وتفتك بالأبرياء، فقد أصاب أحد تلك الصواريخ مدرسة ابتدائية في بغداد، وقتل العديد من الأطفال وجرح أعداد أخرى، وكان الشعب العراقي ينتابه القلق الشديد كل يوم، من هذا السلاح الخطير، حيث لا أحد يعلم متى وأين سيقع الصاروخ، وكم سيقتل من الآمنين.

تمكن العراق من الحصول على أعداد كبيرة من تلك الصواريخ، وبدأ في تطويرها، وزيادة مداها، وبدأ حكام العراق يطلقونها على العاصمة  الإيرانية والمدن الأخرى بكثافة حتى جاوز عدد الصواريخ التي أطلقوها على المدن الإيرانية أكثر من [1000 صاروخ ]،منزلين الخراب والدمار بها، والخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، وأخذت الحرب تزداد خطورة وأذى للسكان المدنيين.

كما تمكن العراق من إنتاج كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية، واستخدمها في صد هجمات القوات الإيرانية منزلاً بها الخسائر الجسيمة في الأرواح، كما راح حكام العراق يعبئون صواريخ سكود بالغازات السامة كغاز[الخردل] و[السارين] السامين، ثم بدءوا يتطلعون إلى تطوير ترسانتهم الحربية في مجال الأسلحة البيولوجية والجرثومية، وتمكنوا من إ نتاجها وتعبئة القنابل بها.

أحدث برنامج التسلح العراقي هذا قلقاً كبيراً لدى إسرائيل التي كانت تتابع باهتمام بالغ تطوير برامج التسلح العراقي، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلية [الموساد] بحملة ضد العلماء الذين ساهموا في تطوير البرامج، وضد الشركات الغربية التي جهزت العراق بالأجهزة، والمعدات اللازمة لتطويرها وخاصة الشركات الألمانية والفرنسية والأمريكية والبلجيكية والسويسرية التي جاوز عددها  300 شركة.

كما قام الموساد باغتيال العالم المصري والأمريكي الجنسية [ يحيى المشد] الذي عمل في تطوير الأسلحة العراقية ذات الدمار الشامل، كما أغتال العالم البلجيكي  الدكتور [ جيرالد بول] في بروكسل، حيث كان هذا العالم يعمل لإنتاج المدفع العملاق للعراق، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلي أيضاً بنسف توربينات المفاعل النووي [ أوزيراك ] في ميناء  [مرسيليا] الفرنسي حيث كان معداً لنقله إلى العراق.
غير أن العراق واصل نشاطه في بناء مفاعل جديد بإشراف العالم النووي العراقي [جعفر ضياء جعفر] الذي استطاع أن يحقق نجاحاً بارزاً في هذا المجال، وكان كل ذلك يجري تحت سمع وبصر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين ومساعدتهم من أجل إبقاء نار الحرب مشتعلة بين العراق وإيران. 


22

الحقيقة حول انقلاب 8 شباط 1963 الفاشي
واغتيال ثورة 14 تموز المجيدة
حامد الحمداني                                                              7/2/2019
الظروف التي ساعدت، ومهدت للانقلاب:
في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم، من جهة أخرى تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة  والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة {سياسة عفا الله عما سلف} التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، واعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، إلى مراكز حساسة في الجيش.
وفي الوقت نفسه، أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، واحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، وتسريحه لعدد كبير من الضباط، كان من بينهم الدورة 13 للضباط الاحتياط البالغ عددهم [1700] ضابطاً، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية الوليدة، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
 كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال، والتي كان لها الأثر الحاسم في نجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية:
  لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً بكل تأكيد، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب، وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ما كان لها أن تحدث، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها.
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط،  لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتيال الزعيم الشهيد قاسم بالذات، وإغراق العراق بالدماء.
لقد وقع الزعيم عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من الرجعية وعملاء الإمبريالية.
 إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بزعامته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 1963، وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف: {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.
2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أحال على سبيل المثال قائد الفرقة الثانية في كركوك الشهيد الزعيم الركن [ داوود الجنابي]، وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959، كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [هاشم عبد الجبار] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله  في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى] المعروف بعدائه للقوى التقدمية ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري] والرئيس [كاظم عبد الكريم]، والمقدم [خزعل السعدي]، وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة، وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم.
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية، وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق] الذي أعاده للجيش بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة  ولآمرها دورهام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع.
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5ـ تنحية العقيد [عبد الباقي كاظم] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة، ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وجرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي]، والذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب.
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد سيد حسين] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد.
9ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13، الجامعيين المتخرجين عام 1959، والبالغ عددهم  1700 ضابط من الخدمة في الجيش، وهم خير أبناء الشعب المفعمين بالوطنية الصادقة، بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها.
10ـ اقالة المقدم الركن [سليم الفخري] المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها.
لقد وصفت صحيفة [صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للانتهازيين والرجعيين، بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها. كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب، وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب  عندما سارع الانقلابيون إلى الاعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن الزعيم الشهيدعبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي 9 شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة، واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير، غير المذاع، لما نجح الانقلاب.
11 ـ إقالة كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد.
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين والأطباء، والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم  في 11 حزيران 1962،  في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون، لكي يقعوا في أيدي الانقلابيون فيما بعد، وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم.
لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي احدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية. ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين.
لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
16ـ  قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان، وعباس مامند، المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [هولمز] بالشيوخ المتمردين، وتم إرسال [علي حسين أغا المنكوري] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست]، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران.
وفي بداية عام 1963، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية، إحدى أكبر مدن كردستان، أتابع مجريات تلك الحرب، وأتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً. ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي، بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية، بعد أن وقف منذُ البداية مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها.
17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين على الثورة وقيادتها.
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[ محسن الرفيعي]، ومن قبله [رفعت الحاج سري ]الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
 كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز.
18ـ قيام الطلاب البعثيين، والقوميين بإضراب عام، ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين، ولم تحاول كبح جماحهم وكسر الإضراب، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب.
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب، وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.
 من أعد وشارك في الانقلاب:
لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، بعد صراع مرير مع تلك الشركات، والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتها عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية، هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق. 
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة آنذاك، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية والإيرانية تحذيرهما من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على أي خطوة متهورة.
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل،غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة، محاولين إنهاء الثورة من الداخل، مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية وسائر القوى الرجعية والاقطاعية لتنفيذ أهدافهم الشريرة. فلقد ذكر [علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً [ لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي].
كما ذكر الملك حسين، ملك الأردن، في مقابلة أجراها معه [محمد حسنين هيكل] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [كريون] في باريس عن علاقة الانقلابيين البعثيين بالأمريكيين حيث قال الملك: {تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 1963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني أعرف الحقيقة.
لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهم تلك الاجتماعات  في الكويت!. وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها  الاستخبارات الأمريكية في الكويت، وكانت تبث إلى العراق، وتزود يوم 8 شباط المشؤوم رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم}.
كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث، طلب عدم ذكر أسمه، قد ذكر لمؤلف كتاب العراق، الكاتب[حنا بطاطو] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية، وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب.
لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء، والمشانق، والسجون، والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم بعد انقلاب شباط، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم وأفعالهم المشينة سماه [المحرفون].
من هم الانقلابيون؟
ضم فريق الانقلابيين حزب البعث بقيادة كل من : علي صالح السعدي، وأحمد حسن البكر، وطالب شبيب، وحازم جواد، ومسارع الراوي، وحمدي عبد المجيد، والضباط البعثيين كل من عبد الستار عبد اللطيف، والمقدم المتقاعد عبد الكريم مصطفى نصرت، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، ومنذر الونداوي، بالإضافة إلى القوى القومية التي ضمت كل من عبد السلام عارف وطاهر يحيى، وعارف عبد الرزاق، وعبد الهادي الراوي، ورشيد مصلح، وعبد الغني الراوي، وعدد آخر من صغار الضباط.
تنفيذ الانقلاب
أختار الانقلابيون الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 1963، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، فيوم الجمعة يوم عطلة، ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب، كما أن قيام الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر، ورغم وصول إشارة إلى وزارة الدفاع قبل ساعة ونصف من وقوع الانقلاب، إلا أن آمر الانضباط العسكري، الزعيم الركن عبد الكريم الجدة، لم يأخذ ذلك على مأخذ الجد، وأعتقد أن ذلك نوع من المزحة أوالخيال.
يقول أحد الضباط الوطنيين المتواجدين في وزارة الدفاع، وكان ضابط الخفر ذلك اليوم:{ دق جرس الهاتف في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم، الثامن من شباط، وأسرعت لرفع سماعة الهاتف وإذا بشخص مجهول يحدثني قائلاً: إنني أحد الذين استيقظ ضميرهم، ووجدت لزاماً على نفسي أن أبلغكم بأن انقلاباً عسكرياً سيقع ضد عبد الكريم قاسم في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم، ينطلق من قاعدة الحبانية الجوية، وكتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، ثم أغلق الهاتف، ثم يضيف الضابط الخفر قائلا: أسرعت بالاتصال بالزعيم عبد الكريم الجدة، آمر الانضباط العسكري، أبلغته بالأمر، فما كان منه إلا أن أجابني قائلاً:
 {هل أنت سكران يا هذا ؟ كيف يقع انقلاب عسكري في يوم 14 رمضان، والزعيم صائم !، والناس صيام !، وفي مثل هذا الوقت الذي تتحدث عنه ضحى، فلم يسبق أن وقع انقلاب عسكري في وضح النهار، ثم أغلق الزعيم الجدة سماعة الهاتف}.
كان ذلك الموقف من عبد الكريم الجدة ينم سوء التقدير للوضع السياسي في البلاد، فقد كان الجو السياسي مكفهراً، ونشاط المتآمرين يجري على قدم وساق، وإضراب الطلاب على أشده، كما أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 1963، وزع بصورة علنية، وعلى نطاق واسع، حذر فيه من خطورة الوضع ومما جاء فيه:
{ وهناك معلومات متوفرة تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، وووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع وفعال في صفوف الجيش}.
 إلا أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد، معتقداً  أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.
كان الأولى بعبد الكريم الجدة الاتصال بعبد الكريم قاسم فوراً، واستنفار كل الأجهزة، والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث، وأفراد الحرس القومي، الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح !!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الأوقاتي]، وذلك لخشيتهم من السلاح الجوي على مدرعاتهم.
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار وأردوه قتيلاً في الحال، وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة، وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة.
وفي نفس الوقت قام منذر الونداوي بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل، لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة، وبعد أن تم لهم ذلك بادروا إلى قصف وزارة الدفاع.
وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد، فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون،  بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.
 لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع، على الرغم من تحذير الزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة، وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد القريبين جداً من بغداد، لكن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة، وقصفها بالطائرات والمدفعية، قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.
ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له!!، ولكن خاب ظنه بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة  والمخلصة، واستبدلهم بعناصر انتهازية لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه، سواء بقي عبد الكريم قاسم أم نجح الانقلابيون. لقد أنتحر عبد الكريم قاسم، ونحر معه الشعب العراقي وكل آماله وأحلامه التي ضحى من أجلها عقوداً عديدة مقدماً التضحيات الجسام.
توجه [عبد السلام عارف] إلى [ معسكر أبي غريب]، حيث وصل مقر كتيبة الدبابات الرابعة، وانضم إليه [ أحمد حسن البكر]،واستقلا كلاهما إحدى الدبابات، وتوجها إلى دار الإذاعة، وبصحبتهما دبابة أخرى، وساعدهم حرس دار الإذاعة، المشاركين في الانقلاب على السيطرة عليها، ثم التحق بهم كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وهناء العمري، خطيبة علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث، أما خالد مكي الهاشمي فقد أندفع بدباباته متوجهاً إلى بغداد، رافعاً صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب التي ملأت شوارع بغداد لتدافع عن الثورة وقيادتها.
وفي نفس الوقت، وصل العقيد [عبد الغني الراوي] إلى مقر لواء المشاة الآلي الثامن في الحبانية، وتمكن بمساعدة أعوانه من الانقلابيين من السيطرة على اللواء المذكور، وتحرك به نحو بغداد، كما نزل المئات من أفراد الحرس القومي على طول الطريق بين الحبانية وأبو غريب، حاملين أسلحتهم وقد وضعوا إشارات خضراء على أذرعهم، وتقدمت قوات الانقلابيين بقيادة المقدم المتقاعد [عبد الكريم مصطفى نصرت]، وأحاطت بوزارة الدفاع، كما تقدمت قوة أخرى من الطرف الثاني لنهر دجلة، مقابل وزارة الدفاع، بقيادة العقيد طاهر يحيى متخذة لها مواقع مقابل وزارة الدفاع، وبدأت قصفها للوزارة بالمدفعية الثقيلة.
كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع، والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين. لقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة، منادين { باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يرد عليهم { إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسوف نقضي عليهم في الحال}!!.
 وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب، وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين، ولكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب، ولا عبد الكريم قاسم.
ثم يضيف رفيقي قائلاً: في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة، حيث مقر وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم .
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات. لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع خلال عشرة دقائق لاغير، وكانت مجزرة رهيبة لا  يمكن تصورها، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها.
 ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة، موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة، وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والخيانة.
وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب،  وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم، ومُورس التعذيب الشنيع بالبعض الأخر.
نذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان : {لى السلاح! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية}.
أيها المواطنون: يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال، والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين:
 لقد دق جرس الخطر ...استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة، استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس، فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع.
يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية، وكل مؤسسة، وكل حي وقرية  وسيُلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرات الكيلاني، والشواف، وآخرين. إننا نطالب بالسلاح}.
 ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات.
 ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل مسؤولية كبرى لعدم اخذ الاحتياطات لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم، ولا سيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة، فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره ، وخاصة في صفوف الجيش ؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش من العناصر غير المكشوفة على الرغم من تصفية قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه.
ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة. لقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب، وقدموا التضحيات الجسام، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين.
كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين في أول ساعات الانقلاب، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح.
ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً، ودفع حياته، ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.
عبد الكريم يحاول توجيه خطاب للقوات المسلحة:
في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول الزعيم عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب، والقوات المسلحة يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [كاسيت]، تحت أصوات القصف والانفجارات، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد[سعيد الدوري]، الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب،فقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها، رغم كل الأخطاء التي أرتكبها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع، ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع.
ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب.
أما [الحرس القومي] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع، وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم الثقيلة والخفيفة نحو كل من يصادفونه في طريقهم.
واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية، والكاظمية، وباب الشيخ، وحي الأكراد، والحرية، والشعلة، لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم.
 واصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على مئات الألوف من مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من [سلام عادل] السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب، كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من :
 جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي، أبو سعيد، وعزيز الشيخ، ومتي الشيخ، و محمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار، بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية، ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم.
موقف قطعات الجيش من الانقلاب:
 بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة والكفوءة من المراكز العسكرية، واستبدالها بعناصر انتهازية، وأخرى حاقدة وموتورة تتربص بالثورة وقيادتها، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة، ويجري التصدي للانقلابيين، وكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش من صغار الضباط، وضباط الصف، والجنود، حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا، ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش.
 ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط وضباط الصف والجنود للانقلاب، إلا انهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً.
وفي معسكر التاجي القريب من بغداد، حيث توجد هناك محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، وغير متكافئ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار، وضباط الصف والجنود.
كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في منطقة فايدة شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية، الذي كان يغطي ويخفي كل تحركات الانقلابيين دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم،  ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري.
ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، أصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية ولا الأمنية ساكناً، وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين.
أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين، ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء. كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي، المعروف بعدائه للثورة وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الثاني الآلي، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه.
في النهاية استطيع القول وبكل امانة أن كل الاحزاب السياسية والزعيم عبد الكريم قاسم يتحملون مسؤولية ضياع ثورة 14 تموز المجيدة.




23
الحرب العراقية الإيرانية
ودور الولايات المتحدة في اشعالها
الحلقة الثالثة
حامد الحمداني

بداية الحرب وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية  بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران وكافة المراكز الحيوية فيها ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية، وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة، وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين:

1 ـ الجبهة الأولى: في المنطقة الوسطى من الحدود  باتجاه [قصر شيرين]، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو محافظة ديالى و بغداد، وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال[ قصر شيرين].

2ـ الجبهة الثانية: في الجنوب نحو منطقة [ خوزستان ] الغنية بالنفط  وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى حيث تطل على أعلى الخليج.
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل استطاعت القوات العراقية التي كانت قد استعدت للحرب من السيطرة على منطقة [خوزستان] بكاملها، واحتلت مدينة [خرم شهر] وقامت بالتفاف حول مدينة [عبدان] النفطية وطوقتها.

وعلى الجانب الإيراني قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية، وقصفت العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، إلا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية، وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها، حيث تم نصب المضادات أرض جو فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى، وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد.

 وهكذا فقد فقدت إيران أعدادا كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق، كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة، مما اضعف قدرات سلاحها الجوي، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين.
وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب فيما يخص تجهيزها بالأسلحة، كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب.

 كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري  أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق، وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان، حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل، وقام السادات بالدور الموكول له، وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981، كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة والمدافع عيار 122 ملم طيلة سنوات الحرب.

لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي، حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي، فقد بلغ قيمة ما باعه السادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد، وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية، وكان صدام حسين مرغماً على قبولها.

أما الاتحاد السوفيتي فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق بعد توقف لفترة من الزمن  وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55  و250 دبابة طرازT 72)) كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات [ميك] و[سوخوي ] و[ توبوليف] بالإضافة إلى الصواريخ.
كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل بمليارات الدولارات لشراء الدبابات والمدرعات وأسلحة أخرى، وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية، واستمرت العلاقات التسليحية مع البرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.

 وهكذا استمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب ] و[الشوش] و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى.
                                   
كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي في العمق الإيراني عابرة نهر الطاهري، وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي بأمر من صدام حسين !!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله وتطويقه، رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهظاً من أرواح جنوده، ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش بعد عملية التطويق الإيرانية، والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي، واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان، وطرد القوات العراقية خارج الحدود.

إيران تبحث عن السلاح:
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن، وتمكنت تلك العناصرعن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وهما[أودولف سكويمر]و[يلكوف نامرودي]،بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي[عدنان خاشقجي]الذي قام بدور الوسيط؟
 وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران حيث كانت تعتبر العراق يشكل خطراً عليها، وإن إضعافه وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل، ولم يكن تصرفها ذاك يجري بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة                                                                                                                                                                                        ورضاها واستراتيجيتها، إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين.
             
وفي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية، وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران، وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم.
إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى  تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها، وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى هي ما سمي [إيران ـ كونترا]على عهد الرئيس الأمريكي [ رونالد ريكان] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور  [جون تاور] وعضوية السناتور [ ادموند موسكي ] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت] وذلك في 26 شباط 19987، وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران، وموضوع الحرب العراقية الإيرانية، وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:

الهدف الأول: يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.
الهدف الثاني: هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي.
 لقد قام الكولونيل [ أولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس  الذي كان قد أصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى متمردي الكونترا في نيكاراغوا حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد، وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.

وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك، إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس[ريكان] ومستشاره للأمن القومي [مكفرن] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية  لإزالة ورم سرطاني في أمعائه، وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران حيث أجابه الرئيس ريكان على الفور: [أذهب وافتحه].

وبدأ الاتصال المباشر مع إيران حيث سافر [أولفر نورث] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها، وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران، لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي المتخلف، وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة.
ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران، على إسرائيل والولايات المتحدة فقط، وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة، ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.

 إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي

 انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي نظام صدام لبناء برنامجه النووي حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار.
وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد، وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك. 
وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل، إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم] من اليورانيوم المخصب بنسبة 93%  وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية.
 لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية بعد أن غرقوا في خضم تلك الحرب المجنونة، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، ولم يدر في خلدهم أن تلك الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق الجلاد صدام الشعب العراقي بالدماء، ويعم بالبلاد الخراب والدمار، وينهار اقتصاد العراق.




24
من ذاكرة التاريخ
الحرب العراقية الإيرانية
ودور الولايات المتحدة في إشعالها
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                                     2019/2/4
العلاقات العراقية الإيرانية ودور أمريكا في تأجيج الصراع بينهما
اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي]، حيث قام الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية المتعلقة باقتسام مياه شط العرب بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين أحدهما للعراق والآخر لإيران، وقيام شاه إيران والولايات المتحدة بدعم الحركة الكردية التي حملت السلاح ضد السلطة القائمة آنذاك، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود، واستمرت زمناً طويلاً، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي، واضطر حكام بغداد إلى التراجع، ووسطوا الرئيس الجزائري [هواري بو مدين] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين 

 وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية، وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975، وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد!، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع البعثيون إنهاءها، وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد.
 
وفي عام 1979 في أواخر عهد البكر وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية  وأتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة.

 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري، يقوده [حزب تودا الشيوعي]و[مجاهدي خلق]، ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ، فهي لا ترتاح لسيطرة للطرفين.
 لكن التيار الشيوعي كان يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.

وبناء على ذلك فإن مجيء الشيوعيين إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت الولايات المتحدة [أهون الشرين] بالنسبة لها طبعاً!، وهو القبول بالتيار الديني  خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس، لتسلم زمام الأمور بعد هروب الشاه من البلاد، وهكذا تمكن  التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران، من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة، فالعراق وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما  تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.

 وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية تدعى [عربستان].

لم يدرِ بخلد صدام حسين ماذا تخبئه له الأيام؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب؟ وكم ستكلف الشعب  العراقي من الدماء والدموع، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين، فلقد صرح الرئيس الأمريكي  [ريكان] حول الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة}!!.
وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق  الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر، الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية، فقد صرح قائلاً:{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج أحد منها منتصراً ، بل كلا الطرفين مهزومين}!!.
وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.
 
لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون، وصور الأقمار الصناعية، تلك المجازر الوحشية التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وتفاخر صدام أمام القائم بأعمال السفارة الأمريكية بعد مغادرة السفيرة [كلاسبي] العراق، وقبيل غزو صدام للكويت  بزهو قائلاً:
{هل تستطيع الولايات المتحدة تقديم 10 آلاف شهيد في معركة واحدة؟ نحن أعطينا 50 ألف شهيد في معركة تحرير الفاو}.

هكذا وبكل وقاحة دفع صدام وأسياده الأمريكان أكثر من نصف مليون شهيداً من شباب العراق في عمر الزهور، ودون وازع من ضمير وأخلاق، كانت مصالح الإمبرياليين الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن عميلهم صدام قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم، بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني شعب جار، وليس من مصلحة العراق الدخول في حرب أمريكية بالوكالة ضد إيران.

كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .
لكن ذلك التقدم لم يدم طويلاً، وتمكن الجيش الإيراني من طرد القوات العراقية الغازية من إقليم خوزستان شّر طردة عام 1982، مكبداً القوات العراقية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، ولنا عودة إلى تلك الحرب، وتفاصيل مجرياتها، في الحلقة الثالثة.



25
من ذاكرة التاريخ:
الحرب العراقية الإيرانية
ودور الولايات المتحدة في إشعالها
الحلقة الأولى                                           حامد الحمداني   

تمهيد
منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 968 [عبد الرزاق النايف] بدأ نجمه يتصاعد  حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، رغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.

وعندما حلت الذكرى الحادية عشر لانقلاب 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن  إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان وراءه!.

أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح  الإمبريالية الأمريكية وأبرزها:
1ـ إفشال التقارب الحاصل بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ما سمي بميثاق العمل القومي آنذاك، والذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.
2ـ احتواء الثورة الإسلامية في إيران، ولاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدأوا يتطلعون إلى تصدير الثورة، ونشر مفاهيم الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل إلى ذلك هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين الكبيرين في المنطقة بحرب سعت الولايات المتحدة إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، كما سنرى .
3ـ مكافحة النشاطات الشيوعية، في البلاد، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر أفكار الثورة الإسلامية في المنطقة.
4ـ بالإضافة لما سبق كانت تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، وتزعم العالم العربي قد طغت على تفكيره، ووجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته .
لم يكن انقلاب صدام ضد البكر بمعزل عن المخططات الأمريكية، فقد قام مساعد وزير الخارجية الأمريكي بزيارة لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر وبحث معه في مسالتين هامتين بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية:

المسألة الأولى: تتعلق بتطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل التي تحرص على عدم السماح بإقامة الوحدة بين العراق وسوريا.

 المسألة الثانية: دارت حول الأوضاع في إيران، بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وسعى الموفد الأمريكي إلى تحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري، وقيل بأن الرئيس البكر لم يقتنع بفكرة الموفد الأمريكي، وخاصة وأن البكر رجل عسكري يدرك تمام الإدراك ما تعنيه الحرب من ويلات ومآسي، وتدمير لاقتصاد البلاد.

وبعد انتهاء اللقاء مع البكر التقى الموفد الأمريكي مع صدام الذي كان آنذاك نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبحث معه نفس المواضيع التي بحثها مع البكر، وقد  أبدى صدام كل الاستعداد للقيام بهذا الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.

لم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر، بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه، على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع وانتهاءً بكل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة.

لقد أخذت أجهزته القمعية تمارس أبشع الأعمال الإرهابية بحق العناصر الوطنية من ِشيوعيين وإسلاميين وقوميين وديمقراطيين، بالإضافة للشعب الكردي، وملأ السجون بأعداد كبيرة منهم، ومارس أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم  وقضى العديد منهم تحت التعذيب.

لقد كانت ماكنة الموت الصدامية تطحن كل يوم بالمئات من أبناء الشعب، لكي يقمع أي معارضة لحكمه، وحتى يصبح مطلق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات التي تتحكم بمصير الشعب والوطن، ولكي يعدّ العدة، ويهيئ الظروف المناسبة لتنفيذ الدور الذي أوكلته له الإمبريالية الأمريكية، في العدوان على إيران.

لقد وصل الأمر بصدام حسين أن جمع وزراءه، وشكل منهم فريق إعدام في سجن بغداد، لكي يرهب كل من تسول له نفسه بمعارضته، كما قام بإعدام عدد كبير من ضباط الجيش، لكي يصبح وحده الأقوى في المؤسسة العسكرية، رغم أنه لم يكن في يوم من الأيام عسكرياُ.
 
العلاقات العراقية السورية:
 رغم أن العراق وسوريا يحكمهما حزب البعث، إلا أن العلاقات بين الحزبين، والبلدين اتسمت دائماً بالخلافات والتوتر الذي وصل إلى درجة العداء والقطيعة لسنين طويلة، وتطور العداء بين الحزبين إلى حد القيام بأعمال تخريبية، وتدبير التفجيرات، وغيرها من الأعمال التي أدت إلى القطيعة التامة بين البلدين.

ولا شك أن لأمريكا وإسرائيل دور أساسي في إذكاء العداء والصراع بين البلدين الشقيقين، ذلك لأن أي تقارب بينهما ربما يؤدي إلى قيام وحدة سياسية تقلب موازين القوة بين سوريا وإسرائيل نظراً لما يمتلكه العراق من موارد نفطية هائلة، وقوة عسكرية كبيرة، بالإضافة إلى ما يشكله العراق من امتداد إستراتيجي لسوريا في صراعها مع إسرائيل، وهذا ما تعارضه الولايات المتحدة وإسرائيل أشد المعارضة.
وفي أواخر عام 1978، وأوائل عام 1979، جرت محاولة للتقارب بين البلدين، تحت ضغط جانب من أعضاء القيادة في كلا الحزبين السوري والعراقي، وقد أدى ذلك التقارب إلى تشكيل لجان مشتركة سياسية واقتصادية وعسكرية، وعلى أثر توقيع ميثاق للعمل القومي المشترك الذي وقعه الطرفان في تشرين الأول عام 1978، وقد أستهدف الميثاق بالأساس إنهاء القطيعة بين الحزبين والبلدين الشقيقين، وإقامة وحدة عسكرية تكون الخطوة الأولى نحو إقامة الوحدة السياسية بين البلدين، وتوحيد الحزبين.

 كان وضع سوريا في تلك الأيام قد أصبح صعباً بعد أن خرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، وعقد السادات اتفاقية [كامب ديفيد] مع إسرائيل مما جعل القادة السوريين يقرون بأهمية إقامة تلك الوحدة للوقوف أمام الخطر الإسرائيلي.

وبالفعل فقد تم عقد عدد من الاتفاقات بين البلدين، وأعيد فتح الحدود بينهما، وجرى السماح بحرية السفر للمواطنين، كما أعيد فتح خط أنابيب النفط [التابلاين] لنقل النفط إلى بانياس في سوريا، والذي كان قد توقف منذُ نيسان 1976.

وفي 16 حزيران تم عقد اجتماع بين الرئيس السوري حافظ الأسد، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر في بغداد، ودامت المحادثات بين الرئيسين ثلاثة أيام أعلنا في نهايتها أن البلدين سيؤلفان دولة واحدة، ورئيس واحد، وحكومة واحدة، وحزب واحد، وأعلنا تشكيل قيادة سياسية مشتركة تحل محل اللجنة السياسية العليا التي جرى تشكيلها بموجب اتفاق تشرين الأول 1978، والتي ضمت 7 أعضاء من كل بلد، يترأسها رئيسا البلدين، وتجتمع كل ثلاثة أشهر لتنسيق السياسات الخارجية، والاقتصادية، والعسكرية.

تدهور العلاقات العراقية السورية
لم تمضِ سوى بضعة أشهر على الاتفاق الذي عقده البكر والأسد، حتى أزيح البكر عن السلطة، وتولى صدام حسين قيادة الحزب والدولة في العراق، وبدا بعد إقصاء البكر، أن هزة عنيفة قد ألمت بالعلاقة بين قيادة  البلدين والحزبين، وبدأت الغيوم السوداء تغطي سماء تلك العلاقة.

وفي 28 كانون الأول 1979، جرى لقاء قمة بين الأسد وصدام في دمشق دام يومين، وقد ظهر بعد اللقاء أن الخلافات بين القيادتين كانت من العمق بحيث لم تستطع دفع عملية الوحدة إلى الأمام، بل على العكس تلاشت الآمال بقيامها، وهكذا بدأت العلاقة بالفتور بين البلدين من جديد، واتهمت سوريا القيادة العراقية بوضع العراقيل أمام تنفيذ ما أتُفق عليه في لقاء القمة بين الأسد والبكر.
أدى هذا التدهور الجديد في العلاقة بين الحزبين، إلى وقوع انقسام داخل القيادة القطرية في العراق، قسم وقف إلى جانب الاتفاق المبرم بين الأسد والبكر، وقسم وقف إلى جانب صدام حسين، فما كان من صدام إلا أن أتهم الذين أيدوا الاتفاق بالاشتراك بمؤامرة مع سوريا على العراق، وجرى اعتقالهم، وتعذيبهم حتى الموت، ثم أعلن صدام حسين، عبر الإذاعة والتلفزيون، أن هذه المجموعة قد تآمرت على العراق، وأحيلت إلى محكمة حزبية قررت الحكم عليهم بالإعدام وجرى تنفيذ الأحكام بحقهم.

لكن الحقيقة أن هذه المجموعة أرادت تحقيق الوحدة أولاً، والتخلص من دكتاتورية صدام حسين ثانياً، بعد أن أغتصب السلطة من البكر بقوة السلاح.
وهكذا ذهبت الآمال بتحقيق الوحدة أدراج الرياح، وتدهورت العلاقة بين البلدين من جديد، وفرض صدام حسين سلطته المطلقة على قيادة الحزب والدولة دون منازع، وأصبح العراق ملجأ لكل المناوئين للحكم في سوريا ابتداءً من [ أمين الحافظ] و[ميشيل عفلق] وانتهاءً بالإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى العراق بأعداد كبيرة، بعد فشل حركتهم في مدينة حماه عام 1982.

ولم يقتصر تدهور العلاقات بين البلدين على القطيعة، والحملات الإعلامية، بل تعداها إلى الصراع العنيف بين الطرفين على الساحة اللبنانية، حيث أدخلت سوريا عدد من قطعاتها العسكرية في لبنان ضمن قوات الردع العربية لمحاولة وقف الحرب الأهلية التي اندلعت هناك عام 1975.غير أن القوات المشتركة العربية انسحبت من لبنان فيما بعد، تاركة القوات السورية لوحدها هناك.

وانتهز صدام حسين الفرصة ليرسل إلى القوى الطائفية الرجعية المعادية لسوريا السلاح والعتاد والعسكريين لمقاتلة الشعب اللبناني، والقوات السورية والفلسطينية، وأصبح لبنان مسرحاً للصراع بين البلدين، واستمر الحال في لبنان حتى سقوط حكومة [ميشيل عون] حليف صدام ضد سوريا، وانتهاء الحرب الأهلية، وانعقاد مؤتمر الطائف للأطراف اللبنانية المتصارعة لحل الخلافات بينهم، وإعادة الأمن والسلام إلى ربوع لبنان الذي مزقته تلك الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً.

  وهكذا حقق صدام حسين للإمبريالية الأمريكية ما كانت تصبو إليه، حيث عادت العلاقات بين سوريا والعراق إلى نقطة الصفر من جديد، وتحقق الهدف الأول الذي رسمته له، وبدأت تتفرغ للهدف الثاني الهام، هدف التصدي للنظام الإيراني الجديد، وخلق المبررات لصدام لشن الحرب على إيران في الثاني والعشرين من أيلول عام 1980، تلك الحرب التي كانت لها نتائج وخيمة على مستقبل العراق وشعبه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وكانت سبباً مباشراً لأقدام صدام حسين على غزو الكويت، وبالتالي قيام حرب الخليج الثانية، التي جلبت على العراق وشعبه من ويلات ومآسي، وخراب ودمار لم يسبق لها مثيل.


26
الجيش العراقي ودوره السياسي في البلاد
حامد الحمداني                                           2019/1/28   
   

الجيش حسبما تنص عليه كافة دساتير الدول هو حامي الوطن، مهمته الدفاع عنه من أي عدوان خارجي يتهدده، وهو بطبيعة الحال واجب مقدس على كل مواطن عسكرياً كان أم مدنيا، لكن الأنظمة المتتابعة التي حكمت العراق لم تلتزم بهذه المهمة، بل استخدمت الجيش لأغراض داخلية تتعلق بحماية أنظمتها، وغالباً ما استخدمته ضد الشعب.


 كان تأسيس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني 1921، على أثر  ثورة 30 حزيران 1920 ضد الاحتلال البريطاني للعراق تلك الثورة التي انتشر لهيبها ليشمل كافة أنحاء العراق من أقصى جنوبه حتى أقصى شماله، والتي كلفت بريطانيا ثمناً باهظا في الجنود والمعدات، واضطرت على أثرها تغيير أسلوبها في حكم البلاد المباشر، فقررت الإتيان بالأمير فيصل ابن الحسين ملك الحجاز ونصبته ملكاً على العراق، وإقامة ما سمي بالحكم الوطني.

وقد رأت بريطانيا أن تنشئ جيشاً عراقياً يأخذ على عاتقه حماية الأمن الداخلي لدعم الحكم الملكي، مستعينة بمجموعة من الضباط الذين كانوا يسمون بالشريفيين[نسبة للشريف علي بن الحسين ملك الحجاز] الذين خدموا في الجيش العثماني والبالغ عددهم 62 ضابطاً، والذين اعترفت [المس بيل] بأنهم كانوا موالين صادقين لبريطانيا.

لقد أنيط بهم تشكيل وقيادة جهاز الحكم، وكان في مقدمتهم نوري السعيد، وجميل المدفعي، وعلي جودت الأيوبي، وياسين الهاشمي، محمد أمين زكي، وأمين العمري، وجعفر العسكري، بكر صدقي، ورشيد عالي الكيلاني، وعبد المحسن السعدون، وتوفيق السويدي وشاكر الوادي، ومصطفى العمري، الذين تداولوا على السلطة طيلة الحكم الملكي.

وقد أناطت بريطانيا تشكيل الجيش العراقي بنوري السعيد الذي تولى رئاسة الوزارة 14 مرة، وكان يحتفظ في اغلب وزاراته بمنصب وزارة الدفاع، وحتى لو لم يتولى هذا المنصب فإنه كان يحتفظ بمنصب المفتش العام للقوات المسلحة الذي أناطه به الملك فيصل الأول، وبذلك كان يشرف عملياً على شؤون الجيش.

لقد أرادت بريطانيا من هذا الجيش الذي شكلت وحداته الأولى في 6 كانون الثاني 1921 ليكون حامياً للنظام، وقامعاً للحركات الثورية التي كانت تندلع بين حين وأخر، وقد استخدم نوري السعيد الجيش لقمع مظاهرات الشعب احتجاجاً على معاهدة 1922، وقمع ثورات العشائر في الفرات الأوسط، وثورة الأكراد في كردستان، كما جرى استخدام الجيش بقمع ثورة الآشوريين في سميل، والأيزيدية في سنجار.

ولم يكد الجيش العراقي يشتد عوده حتى بدأ العديد من قادته ينشدون لهم موقعاً مميزاً في مراكز الحكم في البلاد، وكان باكورة تلك النشاطات الانقلاب الذي قاده الفريق بكر صدقي  في 27 تشرين  الأول 1936 بالاتفاق مع الإصلاحيين الذين كان على رأسهم السيد حكمت سليمان، الذي تولى رئاسة الوزارة بعد نجاح الانقلاب، وإسقاط حكومة ياسين الهاشمي، والسيد جعفر أبو التمن، والسيد كامل الجادرجي، وقد جاءت الوزارة بأغلبية من الإصلاحيين.

لكن بكر صدقي بدأ يتجاوز حكومة الإصلاحيين محاولاً فرض إرادته وهيمنته على السلطة، مما دفع الوزراء الإصلاحيين إلى الاستقالة باستثناء رئيس الوزراء حكمت سليمان، لكن بريطانيا ما لبثت أن دبرت له عملية اغتيال في الموصل، وتحريك بعض قطعات الجيش في الموصل وبغداد، لإجبار حكمت سليمان على الاستقالة. وقد لعب نوري السعيد والعقداء الموالين له صلاح الدين الصباغ  وفهمي سعيد الدور الرئيسي في الانقلاب.

واستمر الجيش في لعب دوره في سياسة البلاد على اثر حركة رشيد عالي الكيلاني الذي استعان بالعقداء الأربعة قادة الجيش وهم كل من صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد، وكامل شبيب، ومحمود سلمان، حيث جرى إقصاء [الوصي عبد الإله] وتعيين [شريف شرف] بدلاً عنه، وتشكيل حكومة برئاسة رشيد عالي الكيلاني .

لكن بريطانيا سارعت إلى إنزال جيوشها في البصرة، والتي زحفت إلى بغداد وأسقطت حكومة الكيلاني، وهرب الكيلاني والعقداء الأربعة واستطاعت بريطانيا إلقاء القبض على قادة الجيش في إيران، وتم إحالتهم إلى المحكمة العسكرية التي حكمت عليهم بالإعدام، وجري تنفيذ الحكم بهم في ساحات بغداد، أما الكيلاني فقد وصل إلى ألمانيا، وبقي برعاية هتلر حتى نهاية الحرب حيث تمكن من الهرب والوصول إلى السعودية التي منحته اللجوء السياسي هناك.

وفي عام 1952 تم استخدام الجيش ضد وثبة الشعب، حيث تم تشكيل وزارة برئاسة رئيس أركان الجيش نور الدين محمود وتم إنزال الجيش في   الشوارع، وتصدى للمتظاهرين وأوقع فيهم الكثير من الضحايا، والقبض على المئات منهم حيث تم إحالتهم للمجالس العرفية، وتم الحكم عليهم بالسجن لمدد مختلفة.

كما تم استخدام الجيش وقوات الشرطة السيارة لقمع انتفاضة عام 1956 على أثر العدوان الثلاثي على مصر، والتي امتدت لتشمل مدن وقصبات العراق كافة، وتم قمع الانتفاضة بالحديد والنار.

كانت تلك السياسات الرعناء قد حفزت العديد من ضباط الجيش لتشكيل منظمات ثورية تهدف إلى إسقاط النظام الملكي، واستطاعت تلك المنظمات أن توحد جهودها في اللجنة العليا للضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي استطاعت تفجير ثورة 14 تموز 1958 وتسقط النظام الملكي، وتعلن الجمهورية بالتعاون والتنسيق مع جبهة الاتحاد الوطني.

كان عبد الكريم قاسم وعدد من رفاقه الضباط في اللجنة العليا يمثلون نوعاً ما، ولحد ما،  الوجه الديمقراطي لثورة 14 تموز، لكن الأغلبية كانت ذات توجهات قومية ضيقة الأفق، وطامعة بالسلطة، ولا يعنيها خدمة الشعب، وكان على رأسها عبد السلام عارف الشخص الثاني في قيادة الثورة، وقد سعى هؤلاء الضباط منذ الأيام الأولى للثورة للتآمر عليها والوثوب إلى السلطة، فكانت محاولة انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل، ومحاولة عبد السلام عارف اغتيال  الزعيم عبد الكريم، ومحاولة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية، ومحاولة حزب البعث اغتيال الزعيم في رأس القرية،والاستيلاء على السلطة.

وأخيراً تكللت مؤامرات القوى القومية والبعثية بانقلاب 8 شباط 1963 الفاشي بتخطيط وإسناد ودعم من قبل الإمبريالية الأمريكية، وبالتعاون مع عبد الناصر مع شديد الأسف. ثم أعقب ذلك انقلاب عبد السلام عارف وزمرته من الضباط القوميين في 13 تشرين الثاني 1963ضد حلفائه البعثيين الذين أتوا به إلى قمة السلطة.
 لكن عبد السلام عارف ما لبث أن دُبرت له مؤامرة لقتله على أيدي البعثيين الذين زرعوا له قنبلة في طائرته السمتية في طريقه إلى البصرة انتهت بموته، حيث تولى أخوه عبد الرحمن عارف السلطة بدعم وإسناد من الجناح العسكري القومي العروبي المهيمن على السلطة في البلاد من أتباع عبد السلام عارف.

 اتسم حكم عبد الرحمن عارف بالضعف وتخللته الصراعات بين مختلف الكتل العسكرية القابضة على السلطة، وجرت محاولات لانقلابات عسكرية من قِبل أعوان عبد الناصر، وكان أبرزها محاولة عارف عبد الرزاق الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء.
 وجدت الولايات الأمريكية وحليفتها بريطانيا أن الوضع الهش لنظام عبد الرحمن عارف، والمخاطر التي كانت محدقة بالنظام من قبل القوى اليسارية من جهة، والقوى الناصرية من جهة أخرى، لا يطمئن، وحرصاً منهما على مصالحهما في العراق والمنطقة، حيث أقدمتا على تدبير انقلاب عسكري بالتعاون مع زمرة [عبد الرزاق النايف] و[إبراهيم عبد الرحمن الداود] ، و[سعدون غيدان] من جهة، وحزب البعث من جهة أخرى، فكان انقلاب 17 تموز1968 الذي أطاح بنظام عبد الرحمن عارف.

لكن البعثيين لم يكونوا مرتاحين للشراكة مع النايف وزمرته، ولاسيما وان لهم تجربتهم مع عبد السلام عارف الذي نصبوه رئيساً  للبلاد في انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، ثم انقلب عليهم بعد تسعة اشهر واسقط حكمهم، وتولى السلطة المطلقة في البلاد، فبادروا إلى تنفيذ انقلاب ثانٍ في 30 تموز [أي بعد 13 يوماً من انقلابهم الأول] ضد حكومة رئيس الورزاء عبد الرزاق النايف، وتسفيره إلى خارج البلاد،  ومن ثم اغتياله في لندن بعد أن فضح علاقات البعثيين بالأمريكان، واستولى البعثيون على السلطة الكاملة في البلاد بزعامة العميد أحمد حسن البكر، وبمعاونة صدام حسين.

بدأ البعثيون يعيدون النظر في تركيبة الجيش من أجل فرض هيمنتهم المطلقة عليه، فاخترعوا مؤامرة مدبرة ضد نظام حكمهم، وقاموا بحملة إعدامات واسعة  بعد محاكمات شكلية غير قانونية طالت عدداً  كبيراً من الضباط القوميين، في مسرحية استهدفت إرهاب الضباط ومنعهم من القيام بأي تحرك ضد حكمهم .

واستمروا في عملية تدجين الجيش وإبعاد كل ضابط يُشك في ولائه لهم  وفرضوا هيمنتهم المطلقة عليه من خلال فرض الانتماء للحزب على جميع الضباط وحتى المراتب، وأكثر من هذا منعوا أي نشاط سياسي أو حزبي داخل الجيش ما عدى حزب البعث، وفرض النظام البعثي حكم الإعدام على كل من يُشك في انتمائه لأي حزب سياسي، وبوجه خاص الحزب الشيوعي، وجرى إعدام أعداد غفيرة من الشيوعيين طيلة مدة حكمهم.

وبعد أن انقلب صدام حسين على سيده أحمد حسن البكر، وتولى السلطة المطلقة في البلاد، وفرض نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبة عسكرية [مهيب ركن] وبدأ يفرض سطوته على الجيش بأقسى الوسائل الإرهابية تمهيداً لشن الحرب على إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، تلك الحرب التي دامت 8 سنوات، وقد جيّشَ صدام حسين خلالها كل أبناء الشعب بالقوة، وخلق له جيشاً عرمرماً، ومنح الرتب العسكرية لحزبيين من دون مؤهلات، ومنح ارفع الرتب العسكرية لحسين كامل، وصدام كامل، وعلي حسن المجيد، وعزت الدوري، وأعداد كبيرة من أبناء عشيرته التكارتة الأميين، بغية إحكام سيطرته على الجيش، وجرى تنفيذ أحكام الإعدام بحق الكثيرين من الضباط بحجة عدم تنفيذ أو مخالفة الأوامر الصادرة منه، وهو الذي يجهل العلم العسكري جهلاً تاماً.
كما سخر كل مدخرات وموارد البلاد للتسلح مما أدى ذلك إلى نتائج وخيمة على اقتصاد البلاد، وتراكم الديون الهائلة على العراق، وبغية معالجة أزمته الاقتصادية أقدم على غزو الكويت في 2 آب 1990، تلك الجريمة التي ساقت الجيش العراقي إلى حرب مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبعض الحلفاء العرب، وأدت إلى كارثة للجيش العراقي لم يعرف لها مثيلاً من قبل.

وأندحر جيش صدام، وتم فرض شروط وقف إطلاق النار في خيمة صفوان، وتم فرض نزع أسلحة الدمار الشامل على نظام صدام الذي  قبلها صاغراً من أجل بقاء نظامه، وبقائه على رأس النظام.
 لكن مراوغاته المستمرة، ولعبة القط والفار التي مارسها مع الولايات المتحدة جعلها تقرر إسقاط حكمه، وبذلك تحقق هدفين في آن واحد، التخلص من نظام صدام حسين الذي احترقت أوراقه، وفرض هيمنتها المطلقة على العراق طالما يطفو العراق على بحر من النفط،  فكانت الحرب التي شنتها في 20 آذار 2003، والتي انتهت بانهيار نظام صدام في 9 نيسان بعد أن دامت الحرب الدموية عشرين يوماً، وجاءت على الأخضر واليابس كما يقول المثل، حيث دمرت البنية التحية للعراق بكاملها، ولم تسلم أية منشأة مدنية كانت أم عسكرية من التدمير، ومن نهب الميليشات ، وكان أخطرها سرقة أسلحة الجيش العراق من قبل الميليشيات التابعة للأحزاب القومية الكردية، والعصابات البعثية بعد أن أصدر الحاكم المدني الأمريكي [ بريمر] قراراً بحل الجيش، وسائر الأجهزة الأمنية، تاركاً البلاد لعصابات الجريمة من جهة، وتحول إعداد غفيرة من منتسبي الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية إلى حمل السلاح والقيام بنشاط إرهابي بعد أن تم طردهم من وظائفهم دون مورد، وبذلك اقترفت الولايات المتحدة خطأً جسيماً، بل جريمة كبرى بحق الشعب والوطن، حيث تركت البلاد دون جهاز أمني يتولى حماية الأمن والنظام العام، ويحمي سيادة البلاد مما تسبب في وقوع وتواصل الأعمال الإرهابية في البلاد، وبعد أن شكلت قوات الاحتلال مجلس الحكم، وأصدرت قانون إدارة الحكم الذي نصت إحدى مواد القانون على تولي شخصية مدنية لوزارة الدفاع في خطوة لأبعاد العسكر من الهيمنة على الحكم من جديد لمنع أي محاولة لقيام انقلاب عسكري في البلاد، وإبعاد الجيش عن السياسة والانتماءات الحزبية كما أدعت!!.

لكن الذي جرى بعد أن سلم المحتلون الأمريكان مقاليد الحكم لقوى الإسلام السياسي جاء على العكس من ما أعلن عنه المحتلون عند حلهم الجيش فتحول الجيش من جيش صدام إلى جيش يضم كافة ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي، وتولي عناصر أمية لا علاقة لها بالجيش مناصب عسكرية عليا، وكان لهذا الإجراء نتائج وخيمة عند ما شنت ميليشيات الإسلام السياسي الشيعية الحرب الأهلية بين عامي 2006 و2007، واقترفت من الجرائم الوحشية البشعة ما فاقت كل تصور، وأدت على تشريد اكثر من 4 ملايين مواطن من بيوتهم ومدنهم هرباً من بطش الميلشيات تلك، وكانت تلك الميلشيات تمارس جرائمها وهي تلبس اللباس العسكري للجيش والشرطة.

إن الجيش العراقي بتركيبته الحالية بات أشبه ببرميل بارود، لا يلبث أن ينفجر عند أية أزمة سياسية يمكن أن تعصف بالبلاد، طالما بقي مرتعاً لعناصر ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي، حيث يهدده الانقسامات بسبب ولاء أفراده لأحزابهم السياسية.

ولقد وضح غزو عصابات داعش للعراق عام 2014 هشاشة هذا الجيش، وضحالة قياداته، وقيادة السلطة الحاكمة التي سلمت نصف العراق لهذه العصابات، حيث القت 3 فرق عسكرية كامل أسلحتها لهذه العصابات، ونزعت لباسها العسكري، وولت هاربة تاركة محافظات الموصل والانبار وصلاح الدين، وديالى تحت رحمة تلك العصابات المجرمة التي دمرت البنية التحية وسائر المدن وأشاعت أبشع أنواع الإرهاب والتعذيب والذبح والاغتصاب تاركة أكثر من 4 ملايين مواطن يعيشون في الخيام هرباً من بطش عصابات داعش، ودمار مساكنهم. وتمت دعوة السيد السيستاني الشعب إلى التطوع لمحاربة داعش، وابلت جموع غفيرة من أبناء الشعب  بلاءاً حسناً في الحرب ضد داعش، وبمساعدة قوى أجنبية بإمرة الولايات المتحدة استطاع الجيش العراقي الذي جرى أعادة تدريبه وتسليحه من القضاء على عصابات داعش، وتحرير كافة المدن من طغيانها.
لكن أحزاب الإسلام السياسي استغلت هذه الجموع التي هبت لقتال داعش، وهي المهيمنة على البرلمان، لإصدار قانون لخلق جيش رديف للجيش ودعوه ب[الحشد الشعبي] تحت قيادة أحزاب الإسلام السياسي الموالين لإيران.     

أن معالجة هذا الوضع الخطر للجيش والقوى الأمنية يتطلب إعادة النظر الجذرية بتكوين الجيش على أساس الولاء للشعب والوطن، وليس للأحزاب السياسية، ولا بد من إبعاد عناصر الميليشيات هذه عنه، ومنع أي نشاط سياسي داخل الجيش، وتثقيف أفراده بالثقافة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، واحترام حقوق وحريات المواطنين.
 أما مصير الحشد الشعبي فالحل إما أن تضم العناصر غير المنتمية لأحزاب الإسلام السياسي منه لقوات الشرطة والجيش وتسريح كل من ينتمي من قريب أوبعيد لأحزاب الإسلام السياسي، أو إعادة العمل بقانون خدمة العلم لجميع المواطنين من أعمار 18 حتى 35 عاماً، حرصاً على الأمن والنظام العام في البلاد، والحيلولة دون وقوع صراع مسلح أو حرب أهلية مرة اخرى، فقد كفى الشعب العراق ما عاناه طيلة عقود طويلة.



27
من الذاكرة
البعثيون والشيوعيون والديمقراطي الكردستاني
1/2
حامد الحمداني                              24/1/2019

البعثيون القيادة الكردية:
كان استمرار الحرب في كردستان يشكل أحد المخاطر الجسيمة على السلطة حزب البعث في أيامها الأولى، ولذلك فقد سعت هذه السلطة  للتفاوض مع القيادة الكردية للوصول إلى وقف القتال، وقد أثمرت اللقاءات التي جرت بين قيادة حزب البعث وزعيم الحركة الكردية السيد مصطفى البارزاني إلى ما سمي  باتفاقية [11 آذار للحكم الذاتي] .

 تنفس البعثيون الصعداء في تلك الأيام،  ووجدوا تعويضاً لهم عن العلاقة مع الحزب الشيوعي، وقد بدا في تلك الأيام وكأنه لا يوجد في الساحة السياسية غير حزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتعرضت العلاقة بين البعثيين والشيوعيين إلى الانتكاسة عند إقدام حكومة البعث على تفريق تجمع للشيوعيين يوم 21 آذار احتفالاً بعيد النوروز بالقوة.

 كما تم في تلك الليلة اغتيال الشهيد [محمد الخضري] عضو قيادة فرع بغداد للحزب في أحد شوارع بغداد. ورغم إنكار البعثيين صلتهم بالجريمة، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنهم كانوا هم  مدبريها، وقد أتهمهم الحزب الشيوعي بالقيام بحملة اعتقالات ضد العديد من الشيوعيين في أنحاء البلاد المختلفة.

وفي 1 تموز عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره العام، وألقى السيد [كريم أحمد] عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي كلمة في المؤتمر دعا فيها إلى إيقاف الإجراءات القمعية للسلطة ضد العناصر الوطنية، وركز على شعار الحزب الداعي للديمقراطية للشعب العراقي والحكم الذاتي لكردستان، مما أثار رد فعل قوي من جانب السلطة البعثية الحاكمة، وخاصة بعد أن قامت صحيفة الحزب الديمقراطي الكردستاني [التآخي] بنشر نص الخطاب.

 لكن الغزل استمر بين قيادة حزب البعث وقيادة الحزب الشيوعي لإقامة جبهة الاتحاد الوطني على الرغم من الإجراءات الوحشية  التي اتخذتها لقمع التجمع الذي أقامه الحزب في ساحة السباع بمناسبة عيد النوروز، وعلى الرغم من حملات الاغتيالات التي طالت العديد من الكوادر الشيوعية.
البعثيون والقيادة المركزية للحزب الشيوعي:
منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17 ـ 30 تموز 968 وقف الشعب العراقي من الانقلاب موقفاً سلبياً منهم، حيث كان مدركاً أن الوجوه التي جاءت إلى الحكم هي نفسها التي قادت انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، ولا تزال تلك الجرائم التي ارتكبوها بحقه وحق القوى السياسية عالقة في الأذهان.

 كان همّ البعثيين آنذاك هو تثبيت حكمهم، وتبييض صفحتهم السوداء فلجئوا إلى اتخاذ بعض الخطوات لاسترضاء الشعب وقواه السياسية وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي الذي يتمتع بتأييد ودعم جانب كبير من أبناء الشعب، حيث ركزوا كل جهودهم لجره إلى التعاون معهم وصولاً إلى التحالف، وإقامة الجبهة الوطنية معه، وكان  من جملة تلك الإجراءات:
1ـ إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في 5 أيلول 968 وإطلاق سراحهم.     
2ـ إصـدار قـرار بإعادة كافة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم في 12 أيلول 968.                                                 
3-احتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد.

غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية لجرّ الحزب الشيوعي، والقيادة المركزية المنشقة عن الحزب، لتشكيل جبهة وطنية عريضة.
 فقد كان المطلوب من حزب البعث تشريع دستور دائم للبلاد، عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس تأسيسي، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وحرية الصحافة، وحرية النشاط الحزبي والنقابي، وهذا ما لم توافق عليه قيادة حزب البعث.

ولذلك لجأت القيادة المركزية [الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي] إلى الكفاح المسلح ضد  سلطة البعث، وجرى مهاجمة دار صدام حسين، وصلاح عمر العلي وإطلاق الرصاص على الدارين، لذلك قرر البعثيون العمل على اعتقال قيادة الحزب [القيادة المركزية] وكوادرها، وتصفية تنظيماتها.

 وفي شباط عام 1969، استطاع البعثيون إلقاء القبض على زعيم التنظيم [عزيز الحاج] وأعضاء قيادته، وسيقوا إلى قصر النهاية، أحد أهم مراكز التعذيب لدى البعثيين لإجراء التحقيق معهم، وهناك أنهار عزيز الحاج، وقّدم اعترافات شاملة عن تنظيم حزبه مكّنت البعثيين من إلقاء القبض على أعداد كبيرة من كوادر وأعضاء الحزب، وجرى تعذيبهم بأبشع الوسائل من أجل الحصول على المعلومات عن تنظيمهم، حيث استشهد العديد منهم تحت التعذيب كان من بينهم  القائدين الشيوعيين [متي هندو] و[أحمد محمود العلاق]، بينما انهار القيادي الثالث [بيتر يوسف] ملتحقاً برفيقه عزيز الحاج، مقدماً كل ما يعرف عن تنظيم حزبه، حيث كافأ البعثيون كلاهما بأن عينوهما سفيرين في السلك الدبلوماسي، في فرنسا والأرجنتين، وذهب ضحية اعترافاتهم عدد كبير من الشيوعيين الذين استشهدوا تحت التعذيب الشنيع، وزُج في السجون بأعداد كبيرة أخرى منهم .

 وبذلك تسنى للبعثيين توجيه ضربة خطيرة للقيادة المركزية لم يتعافى الحزب منها إلا بعد مرور سنة على تلك الأحداث، حيث تسلمت قيادة جديدة بزعامة المهندس [إبراهيم علاوي]، وبادرت تلك القيادة إلى تجميع قوى الحزب، وتشكيل تنظيمات جديدة، وبدأت تمارس نشاطها من جديد.

 إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي  بسبب فقدان الثقة التي  سببتها اعترافات قادة الحزب عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار.

البعثيون والحزب الشيوعي:
التزم الحزب الشيوعي [اللجنة المركزية] جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث، ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على تنفيذ جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والإعداد لإقامة الجبهة!!.

فقد أقدمت حكومة البعث على الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ووقعت في 1 أيار 1969 عقدا مع بولونيا لاستثمار الكبريت وطنياً، كما تم عقد اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي وبولونيا في 5 تموز 969، ومن ناحية أخرى قام الحزبان البعث والشيوعي بنشاطات مشتركة في اجتماعات مجلس السلم العالمي، وانتخابات نقابة المحامين عام 970، وسمح البعثيون للحزب الشيوعي بإصدار مجلة [الثقافة الجديدة]، كما تم تعيين الشخصية الوطنية المعروفة السيد[عزيز شريف] وزيراً للعدل في 31 كانون الأول 1969.

لكن تلك الإجراءات لم تكن لترضي الحزب الشيوعي الذي كانت له مطالب أساسية هامة تتعلق بالحريات الديمقراطية، وأعلن الحزب أن دخول السيد عزيز شريف الوزارة بصفته مستقلاً، وأن دخول أي شخصية وطنية في الوزارة ليس بديلاً عن حكومة جبهة وطنية، وأن تمثيل كل الأحزاب الوطنية في السلطة على أساس برامج ديمقراطية متفق عليها هو الطريق الصائب.

البعثيون يطرحون شروطهم للتحالف مع الحزب الشيوعي:

في العاشر من تموز تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط:
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي!.                                                         
2ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية!.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية!.                       
4ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والشرطة!.
5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وبين وحزب البعث.
6 ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير كامل الأراضي الفلسطينية.     
                             
 ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني، عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاثة.

وفي 27 تشرين الثاني أبدى الحزب الشيوعي رد فعل إيجابي على البرنامج في بيان له صادر عن المكتب السياسي داعياً حكومة البعث إلى تحويل البرنامج إلى نص مقبول لدى جميع الأطراف التي دُعيت للعمل المشترك، ووضع نهاية حاسمة لعمليات الاضطهاد والملاحقة والاعتقال ضد سائر القوى الوطنية.
ثم جرت بعد ذلك لقاءات ومناقشات بين الأطراف دامت أشهراً حول سبل تحويل البرنامج إلى وثيقة للعمل المشترك دون أن تسفر عن توقيع أي اتفاق.
لكن البعثيين أصدروا قراراً في 4 أيار 972 يقضي بتعيين أثنين من قادة الحزب الشيوعي في الوزارة وهما كل من[مكرم الطالباني] الذي عيّن وزيراً للري، و[عامر عبد الله] الذي عيّن وزيراً بلا وزارة، إلى جانب وجود أعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني سبق أن جرى تعينهم في الوزارة.

أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة، فلم تكن تلك الخطوة مبررة من وجهة نظر كوادر وقواعد الحزب من دون أن يكون هناك برنامج متفق عليه يحقق طموحات الحزب في إيجاد نظام ديمقراطي حقيقي، وفرص متكافئة لكل حزب للقيام بنشاطاته السياسية في جو من الحرية الحقيقية. 
 
إلا أن قيادة الحزب اتخذت قرارها بالموافقة على المشاركة في الحكومة بعد نصيحة قدمها لهم رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي [كوسجين]!. كان أمل الحزب الشيوعي أن تتحول هذه المشاركة إلى اتفاق حقيقي بين الأحزاب الثلاثة على برنامج يحقق طموحات الجميع، واقترحت قيادة الحزب على حزب البعث منح مجلس الوزراء صلاحيات أوسع لإدارة شؤون البلاد التي أحتكرها مجلس قيادة الثورة البعثي، كما اقترحت تعديل الدستور المؤقت بما يحقق السير بهذا الاتجاه، وطالبوا بإطلاق حرية الصحافة، وإصدار صحيفة الحزب بشكل علني، ووعد البعثيون بدراسة هذه المقترحات.

غير أن الأمور استمرت على حالها السابق أكثر من سنة، ولاسيما وأن ظروف البلاد كانت تستدعي التعجيل بهذا الاتجاه بعد اشتداد الصراع مع شركات النفط، وقرار حكومة البعث بتأميم شركة نفط العراق العائدة للشركات الاحتكارية في الأول من حزيران 1972، واستمرت العلاقات بين الحزبين على وضعها ذاك حتى وقوع محاولة ناظم كزار الانقلابية  حيث دفعت حكام البعث إلى الاتفاق على برنامج للعمل الوطني.


28
شهادة للتاريخ
عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي
الحلقة الرابعة والأخيرة 4/4
حامد الحمداني                                    20/1/2019
بعد كل الإجراءات التي أقدم عليها عبد الكريم قاسم بضرب الحزب الشيوعي، وانتزاع كافة المنظمات والاتحادات النقابية والطلابية، وتسليمها للقوى الرجعية، وبعد أن أزاح كل القيادة العسكرية والأمنية التي كان يشك بعلاقتها بالحزب، وبعد أن ازاح كل رؤساء الدوائر ذوي الفكر التقدمي، وأعاد تلك العناصر المعادية التي كانت في مراكزها قبل الثورة، وبعد أن امتلأت السجون بالمناضلين الذين ذادوا عن الثورة وحموها من كيد أعدائها، بات نظام عبد الكريم قاسم معزولاً عن الجماهير، وبات استمرار بقائه في الحكم في مهب الريح الصفراء التي أخذت تقترب شيئاً فشيئا بعد أن هيأ لها قاسم الظروف المواتية للانقضاض على الثورة واغتيالها في انقلاب عسكري دموي خططت له الدوائر الامبريالية، ونفذته العناصر العميلة من البعثيين والقوميين والقوى الرجعية الأخرى.

ولا شك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، بعد صراع مرير مع تلك الشركات، والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام تلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتهم عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية، هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق.
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة، وتحذيره للامبريالين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية، وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة، قبل الإقدام على أي خطوة متهورة.

وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة لإسقاط الثورة من الداخل مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية لتنفيذ أهدافهم الشريرة.

أختار الانقلابيون الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 1963، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، فيوم الجمعة يوم عطلة ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب كما أن قيام الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر، ورغم أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 963 وزع بصورة علنية، وعلى نطاق واسع، محذراً من خطورة الوضع ومما جاء فيه:

{هناك معلومات متوفرة تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين، والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، ووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع، وفعال في صفوف الجيش}.

إلا أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد، معتقداً أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.
كان الأولى بعبد الكريم قاسم استنفار كل الأجهزة، والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث، وأفراد الحرس القومي، الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح!!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الاوقاتي].
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار، وأردوه قتيلاً في الحال، وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية، وتم إبلاغهم باغتيال الاوقاتي، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة، وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة.
وفي نفس الوقت قام منذر الونداوي، بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل، لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة، وبعد أن تم لهم ذلك بادروا إلى قصف وزارة الدفاع.
وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد، فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون، بالاستناد إلى جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.

لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع، على الرغم من تحذير الزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد القريبين جداً من بغداد، لكن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة، وقصفها بالطائرات والمدفعية، قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.

ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له!! ولكن خاب ظنه، بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة، واستبدلهم بعناصر انتهازية، لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له، وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه، سواء بقي عبد الكريم قاسم، أم نجح الانقلابيون.

لقد أنتحر عبد الكريم قاسم، ونحر معه الشعب العراقي وكل آماله، وأحلامه التي ضحى من أجلها عقوداً عديدة مقدماً التضحيات الجسام.

كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع، والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين. فقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة منادين {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يرد عليهم :{ إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسوف نقضي عليهم في الحال}.

وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب، وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين، ولكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب، ولا عبد الكريم قاسم.

ثم يضيف رفيقي قائلاً: في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات، تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة حيث وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور، وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم.
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات.
لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع، خلال عشرة دقائق لا غير، وكانت مجزرة رهيبة لا يمكن تصورها، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها.

ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والمتآمرين.
وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين، والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب، وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم، ومُورس التعذيب الشنيع بالبعض الأخر.

الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويصدر بياناً يدعو إلى مقاومتهم:!
منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان:
{إلى السلاح! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية.
أيها المواطنون، يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال، والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين:
لقد دق جرس الخطر ...استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس، فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع.

يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية، وكل مؤسسة، وكل حي وقرية، وسيُلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرات الكيلاني، والشواف وآخرين.

إننا نطالب بالسلاح}. ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك الإجراء لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات، ولا شك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة.
فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره، وخاصة في صفوف الجيش؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش، على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه.
ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة.
لقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب، وقدموا التضحيات الجسام، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين.

كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين في أول ساعات الانقلاب، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح.

ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً، ودفع حياته، ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.

وفي الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب والقوات المسلحة يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [كاسيت]، تحت أصوات الانفجارات والقصف، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد [سعيد الدوري]، الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب.

لقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.

كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع، ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم، لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع.

ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب.

أما [الحرس القومي] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع وهاجموا مراكز الشرطة واستولوا على الأسلحة، وبدأوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم.

واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة والشاكرية والكاظمية، وباب الشيخ، وعقد الأكراد والحرية والشعلة، لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم، وأصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على نصف مليون مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من الشهداء[سلام عادل]السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب، واستشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من: جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي المعروف بـ [أبو سعيد]، وعزيز الشيخ ومتي الشيخ، ومحمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار، بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب الوحشي رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم .

بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة، والكفوءة من المراكز العسكرية، واستبدالها بعناصر انتهازية، وأخرى حاقدة وموتورة، تتربص بالثورة، وقيادتها، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة، ويجري التصدي للانقلابيين، وكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش، من صغار الضباط، وضباط الصف، والجنود، حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا، ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش.
ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط، وضباط الصف والجنود للانقلاب، إلا أنهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً دون محاكمة.
وفي معسكر التاجي، القريب من بغداد، حيث توجد هناك محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، غير متكافئ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار، وضباط الصف والجنود.

كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف، والجنود في منطقة فايدة، شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.

أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية، الذي كان يغطي، ويخفي كل تحركات الانقلابيين، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم، ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري في البلاد.

ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، أصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية، ولا الأمنية ساكنا، وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام مجيد عبد الجليل، ومدير الاستخبارات العسكرية محسن الرفيعي مع الانقلابيين.
أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [خالد كاظم] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين. ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء.

كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي، المعروف بعدائه للثورة، وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه.
استسلام عبد الكريم قاسم ورفاقه للانقلابيين وإعدامهم:
أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر]، المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم [عبد الكريم الجدة]، أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب، القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي]، رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد]، مدير الحركات العسكرية، [وقاسم الجنابي] السكرتير الصحفي لعبد الكريم، والملازم [كنعان حداد] مرافق قاسم.

ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف، طالباً منه باسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه، ورعايته له، بالسماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام.

وفي صباح اليوم التالي، 9 شباط، خرج [يونس الطائي] صاحب صحيفة الثورة، المعروف بعدائه للشيوعية، والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [الثورة]، خرج للقاء الانقلابيين، وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة، حيث قام بدور الوسي! بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين!!، لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته، وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد، وكان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، حيث نقل عبد الكريم قاسم، وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي، وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية ولم يمسه أحد بسوء عند دخوله مبنى الإذاعة.
إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه، وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ، أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن والدجال [يونس الطائي]، الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه، وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة.

وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة، أنبري له عبد السلام عارف وعلي صالح السعدي بالشتائم المخجلة، التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع فقد توجه السعدي إليه قائلاً: [لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة، وهل هو موجود بيننا؟] وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال السعدي.
وقد أجابه عبد الكريم قاسم [غير موجود هنا بشرفي] لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً [ومن أين لك بالشرف]، وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً: إن لي شرفاً أعتز به].
وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة، وكان كل همه أن ينتزع من عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثورة، إلا أن عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة، وقد طلب عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية، تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون ليطلع عليها الشعب، إلا أن طلبه رُفض، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي قطعات من الجيش من التحرك ضدهم .
قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه، وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم، 9شباط 1963، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم عبد الغني الراوي، والرئيس منعم حميد، والرئيس عبد الحق، فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم رافضين وضع عصابة على أعينهم، وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي، وسارع الانقلابيون إلى عرض جثته، وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات في محاولة لأضعاف روح المقاومة لدى جماهير الشعب والحيلولة دون تحرك أية قطعات عسكرية ضد الانقلاب.
لقد حكم الانقلابيون البعثيون وحلفائهم القوميين مدة تسعة أشهر، كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء والمشانق، والسجون والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم، بعد انقلاب شباط، بعد أن قاد انقلاب 18 تشرين ضد حكم شركائه البعثيين، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم، وأفعالهم المشينة، مشفوعاً بتلك الصور البشعة لجرائمهم بحق الشيوعيين والديمقراطيين والقاسميين سماه [المحرفون].

















29
شهادة للتاريخ/
عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي
الحلقة الثالثة 3/4
حامد الحمداني                                                18/1/2019
أولاً: انشقاق الحزب الوطني الديمقراطي، ودور الحزب الشيوعي
تفاقمت الخلافات بين أقطاب الجناحين، اليميني واليساري داخل الحزب الوطني الديمقراطي بسبب المواقف التي وقفها جناح محمد حديد من مسألة تجميد نشاط الحزب بناء على طلب عبد الكريم قاسم، أثناء غياب رئيس الحزب الأستاذ كامل الجادرجي عن العراق، مما دفع الجناح اليساري في الحزب إلى إعلان عدم اعترافه بقرار التجميد، معلناً عزمه على مواصلة نشاط الحزب، وتحدي قرار القيادة اليمينية للحزب، وكان على رأس هذا الجناح كل من السادة:
1 ـ عبد الله البستاني     2 ـ عبد المجيد الونداوي             3 ـ علي عبد القادر
4 ـ نايف الحسن          5 ـ حسان عبد الله مظفر             6 ـ ناجي يوسف
7 ـ علي جليل الورد     8 ـ حسين أحمد العاملي              9 ـ سليم حسني
10 ـ عادل الياسري
تصاعدت الأزمة بين الجناحين عندما عاد الجادرجي إلى بغداد، ووجه انتقاداً شديداً لقرار التجميد، ولمحمد حديد، نائب رئيس الحزب، طالباً منه ومن زميله هديب الحاج حمود الاستقالة من الوزارة بعد إقدام عبد الكريم قاسم على تنفيذ حكم الإعدام بالضباط المشاركين في محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، ولعدم امتثال الوزيرين لطلبه سارع الجادرجي إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب، ومن عضويته كذلك.
كان لقرار الجادرجي بالاستقالة أثره الكبير على تفاقم الأزمة بين الجناحين داخل الحزب، وخصوصا بعد فشل المساعي التي بذلها الجناح اليساري لعودة الجادرجي لقيادة الحزب، وتباعدت مواقف الجناحين عن بعضهما، نظراً لما يكنه قادة الجناح اليساري للحزب من احترام وتقدير لشخص الجادرجي، واعتزازاً بقيادته التاريخية للحزب.
وبسبب تفاقم الأزمة داخل الحزب، أقدم جناح محمد حديد على تأسيس حزب جديد باسم [الحزب الوطني التقدمي]، وتقدم بطلب إجازة الحزب في 29 حزيران 1960، وضمت هيئته المؤسسة كل من السادة:
1ـ محمد حديد                2 ـ خدوري خدوري           3 ـ محمد السعدون
4 ـ نائل سمحيري           5 ـ عراك الزكم                 6 ـ سلمان العزاوي
7 ـ عباس حسن جمعة     8 ـ رجب علي الصفار         9 ـ د.جعفر الحسني
10 ـ د. رضا حلاوي     11 ـ عبد الأمير الدوري         12 ـ عباس جودي
13 ـ حميد كاظم الياسري 14 ـ عبد الرزاق محمد
وقد تمت إجازة الحزب دون أي تأخير، واستمرت قيادة الحزب في دعم سياسة عبد الكريم قاسم، وخاصة فيما يتعلق بمواقفه من الحزب الشيوعي، ومن الملاحظ أن أغلبية قيادة الحزب جاءت من بين العناصر البرجوازية، ومن الملاكين، ورجال الصناعة، الذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد من تنامي قوة الحزب الشيوعي.
ثانياً: الحزب الشيوعي يحاول تكوين جبهة وطنية ديمقراطية جديدة:
نتيجة للشرخ الكبير، الذي حدث في صفوف جبهة الاتحاد الوطني، خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، وانسحاب الأحزاب القومية منها ومن الحكومة، لم يبقَ في الجبهة سوى الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، وحتى العلاقة بين هذين الحزبين أخذت بالتردي يوماً بعد يوم بعد اتساع المد الشيوعي وسيطرته على الشارع العراقي، وهيمنة الحزب الشيوعي على كافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والعمالية، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وتلك كانت أحد الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الحزب الشيوعي، والتي سببت ابتعاد الحزب الوطني الديمقراطي، وبشكل خاص جناحه اليميني عنه، وسعيه الحثيث لكبح جماح الشيوعية، وتحريض عبد الكريم قاسم على الوقوف بوجه الحركة الشيوعية حرصاً على مصالحه الطبقية.
كان على الحزب الشيوعي، الذي حرصت قيادته على اعتبار تلك المرحلة هي مرحلة الوطنية الديمقراطية، عدم استفزاز البرجوازية الوطنية، واستبعادها عن النشاطات الديمقراطية، والاستئثار بكافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، والفلاحية.
أخذت العلاقات بين الحزبين بالتردي، كما أسلفنا يوماً بعد يوم حتى وصلت إلى طريق اللاعودة، عندما حدث الانشقاق في صفوف الحزب الوطني الديمقراطي، ومن ثم استقالة رئيسه الأستاذ كامل الجادرجي، ومن ثم استقالة الجناح اليميني بزعامة محمد حديد من الحزب، وتأليفهم [الحزب الوطني التقدمي].
لقد لعب الحزب الشيوعي دوراً في ذلك الانشقاق عندما دفع، وشجع العناصر اليسارية في الحزب الوطني الديمقراطي، إثر قرار الجناح اليميني تجميد نشاط الحزب، إلى تشكيل قيادة جديدة للحزب، ومواصلة النشاط السياسي.
وهكذا أقدم عدد من الشخصيات السياسية المحسوبة على الجناح اليساري على إصدار بيان يستنكر فيه إقدام محمد حديد وكتله على قرار تجميد نشاط الحزب، بتحريض من الحزب الشيوعي.
فقد أصدر الحزب الشيوعي بياناً في 22 مايس 1959 بعنوان [حول إيقاف نشاط الحزب الوطني الديمقراطي]، شجب فيه قرار التجميد، داعياً العناصر اليسارية في الحزب إلى مواصلة النشاط السياسي.
وعلى أثر ذلك أصدرت الكتلة اليسارية في الحزب، والتي ضمت كل من السادة:
1 ـ عبد الله البستاني          2 ـ عبد المجيد الونداوي          3 ـ علي عبد القادر
4 ـ نايف الحسن              5 ـ حسان عبد الله مظفر           6 ـ ناجي يوسف
7ـ علي جليل الوردي        8 ـ حسين أحمد العاملي            9 ـ سليم حسني
10 ـ عادل الياسري
بياناً في 22مايس 9591، حول رفض قرار التجميد، ومما جاء في البيان:
{ونحن إذ نعلن مخالفتنا لقرار التجميد فإننا ندعو أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي المؤمنين بأداء واجبهم الحزبي في هذه الظروف إلى الاستمرار في النشاط الحزبي، كما نعتبر أن الذين أصدروا قرار وقف نشاط الحزب ومن يؤيدهم من أعضاء الحزب إنما قرروا ذلك بالنسبة لأنفسهم فقط}.
لقد كانت تلك الخطوة من جانب الحزب الشيوعي، والجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي خطوة انفعالية بلا شك عمقت من الشرخ بين الحزبين من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى، فقد كان واضحا أن قاسم قد قرر أن يقف بوجه الحزب الشيوعي مهما فعل، أضافه إلى دفع العلاقة بين الحزبين إلى مرحلة اللاعودة.
لكن الحزب الشيوعي ذهب إلى أبعد من ذلك عندما دعا الجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي، والجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى إقامة [جبهة وطنية ديمقراطية جديدة]، وتوصل معهما إلى مشروع ميثاق جديد للجبهة المذكورة، في 28 حزيران 1959، وتضمن الميثاق الجديد البنود التالية:
1ـ صيانة الجمهورية، والحفاظ على خط سيرها، باتجاه الديمقراطية، وتطهير كافة مؤسسات الدولة، والقوات المسلحة من العناصر المعادية للثورة، وإحلال العناصر المخلصة والكفوءة محلها.
2ـ التضامن مع كافة البلاد العربية المتحررة في كفاحها ضد الاستعمار والصهيونية.
3 ـ السير على سياسة الحياد الإيجابي، ومقاومة الإمبريالية.
4 ـ تعزيز الأخوة العربية الكردية، والسعي من أجل الوحدة الوطنية.
5ـ اعتماد مبدأ الديمقراطية الموجهة، وإشاعة الحريات الديمقراطية، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة، لكل القوى التي تدافع عن الجمهورية، ومكاسب ثورة 14 تموز المجيدة.
وقد وقع على ميثاق الجبهة عن الحزب الشيوعي كل من السادة:
1 ـ عامر عبد الله           2 ـ عبد القادر إسماعيل          3 ـ زكي خيري
4 ـ عزيز الحاج            5 ـ بهاء الدين نوري              6 ـ كريم أحمد
7 ـ محمد حسين أبو العيس
فيما وقعها عن الجناح اليساري للحزب الوطني الديمقراطي كل من السادة:
1 ـ المحامي ناجي يوسف        2 ـ صلاح خالص         3 ـ المحامي أحمد الجلبي
4 ـ عبد المجيد الونداوي             5 ـ علي جليل الوردي     6 ـ نايف الحسن
6 ـ حسين أحمد العادلي
أما الجناح اليساري للحزب الديمقراطي الكردستاني فقد وقع عنه كل من السادة:
1 ـ حمزة عبد الله             2 ـ خسرو توفيق          3 ـ عزيز صالح الحيدري
4 ـ نوري شاويس            5 ـ نزار أحمد             6 ـ شمس الدين المفتي
7 ـ صبغة الله المزيوري
سارع الموقعون على ميثاق الجبهة الجديدة إلى إرسال مذكرة إلى عبد الكريم قاسم تشرح فيها الأوضاع السائدة في البلاد، والمخاطر التي تجابه الثورة ومكاسبها، وأهمية الوحدة الوطنية في الكفاح ضد الاستعمار والرجعية، وتعلن فيها عن إقامة الجبهة، وأهدافها، وفيما يلي نص المذكرة:
نص مذكرة الجبهة الوطنية الديمقراطية للزعيم عبد الكريم قاسم:
سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم المحترم:
منذُ أنْ وطأ الاستعمار بلادنا، وطوال سنوات الكفاح المريرة، في العهد المباد، كان العمل من أجل وحدة الصف الوطني، هدف الشعب الأسمى، وسلاحه التعبوي الحاسم لتحقيق انتصاراته، وبالعكس كانت الفرقة، أحد الأسباب الرئيسية للانتكاسات، وفي غمرة الكفاح الوطني، في ظروف مده وجزره، ومن خلال تجارب النجاحات والإخفاقات، انبثقت فكرة الجبهة الوطنية الموحدة وتبلورت، وغدت ستار الشعب الحقيقي. وكان لابدّ للقوى والأحزاب والعناصر الوطنية أن تستجيب لإرادة الشعب في الوحدة، فتضافرت جهودها، واتحدت صفوفها، وأدركت كل واحدة منها بتجربتها، وتجربة الحركة الوطنية عموماً، وبالاستناد إلى تقدير موضوعي، أن أية قوة بمفردها، وبدون مساندة الشعب، لن يكون بمستطاعها تحقيق مهمة الانتصار على الاستعمار وأعوانه.
وبفضل تضامن الجيش والقوى السياسية، وبفضل جهودهما المشتركة، بصرف النظر عن تباين الأساليب، وتفاوت الطاقات العملية، وبفضل مساندة الشعب الحازمة، كُتب الانتصار الساحق والسريع لثورة 14 تموز الظافرة عام 1958.
إن هذه الحقيقة لم تفقد أهميتها وصحتها بعد الانتصار، وبعد تحقيق أهداف الشعب في ضرب النظام الملكي الاستعماري الإقطاعي، وفي إقامة نظام حكم جمهوري وطني متحرر، فلم يكن بإمكان أي قوة بمفردها أن تصون الثورة وجمهورية الرابع عشر من تموز، فقد آزر الشعب جيشه الباسل، وحكومته الوطنية، ووقف الجيش مع الشعب، واستندت الحكومة على الشعب وقواه الوطنية المناضلة المخلصة، وظل المخلصون لإرادة الشعب ومبادئ الثورة، وانتم على رأسهم متمسكين في كل الظروف والأوقات العصيبة التي مرت بجمهوريتنا بشعار [وحدة الصفوف] هذا الشعار الذي التزمت به ودافعت عنه الغالبية الساحقة من القوى الوطنية، ولم تشذ عنه سوى العناصر والجماعات التي تضافرت جهودها مع جهود الطامعين، والقوى المعادية للجمهورية، من الاستعماريين، والإقطاعيين. ولولا وعي الشعب ويقظته ويقظة القوى الوطنية لكان بمستطاع تلكم الزمر المعادية والمفرقة شق وحدة الشعب وتلاحم صفوفه، والتسبب في جلب الكوارث الحقيقية على البلاد.
بيد أن الشعب فوت الفرص على الأعداء والطامعين ومفرقي الصفوف، وبقي صامداً موحداً تحت زعامتكم، وقد أصبح ذلك ممكناً بفضل وحدة الجيش والشعب بقيادتكم الحكيمة الحازمة، هذه الوحدة التي كانت العامل الأساس الذي مكن البلاد من تخطي المؤامرات والهزات التي تعرضت لها والقضاء عليها بتفوق باهر، وسرعة فائقة.
وكما أن الشعب وقواه الوطنية، وقيادة البلاد، أدركت أهمية الوحدة الوطنية وضرورتها التي لا غنى عنها، فقد أدرك الاستعمار وأعوانه الطامعون كذلك، عظم وخطر وحدة الصف على مشاريعهم، ومؤامراتهم، ومآربهم الهادفة إلى نسف كيان الجمهورية، وضرب زعامتكم.
لقد ركز الاستعمار خلال الأشهر الأخيرة بوجه خاص كل جهوده من أجل بث الشكوك والريبة داخل القوى الوطنية بغية الإخلال بوحدتها، وتأليب بعضها ضد البعض الآخر، لفتح الثغرات، والنفوذ منها، جرياً على سياسة [فرق تسد]، وتعلمون سيادتكم أن الاستعمار لا ينهج لتحقيق أغراضه سُبلاً مكشوفة يمكن تمييزها بسهولة ويسر، بل يعمد، وهو العدو المسلح بتجربة واسعة في هذا المضمار، إلى استخدام أعقد الخطط، وأكثر السبل الماكرة، وغير المباشرة، والملتوية والخبيثة.
ولئن كان الاستعمار أخفق في نسف استقلال البلاد، وقلب الحكم الجمهوري الديمقراطي، والإطاحة بزعامتكم، فإن هدفه هذا لم يتغير، ولن يتغير، حيث لا يمكن للاستعمار أن يتخلى عن مساعيه، ودسائسه، في سبيل إرجاع نيره المهشم، واستعادة نفوذه المنهار، حتى لو أدى ذلك إلى إغراق الوطن في بحر من الدماء الزكية.
إن مما يأسف له كل مخلص، حدوث بعض الأمور والملابسات والمواقف التي صدرت من هذا وذاك من الأطراف الوطنية، والتي أدت إلى تقوية أمل المستعمرين، وانتعاش مقاصدهم اللئيمة ضد بلدنا الحبيب، وكان من نتائج ذلك مع الأسف، هذه البلبلة الواضحة التي سرت في صفوف الشعب، وقواه الوطنية، وخلخلت الصف الوطني.
إننا حينما نشير إلى هذا الوضع المؤسف، فنحن لا نتطير منه بحال من الأحوال، ولسنا مساقين بنظرة التشاؤم، وإنما نستند إلى وقائع ملموسة، اطلع عليها الرأي العام، وتحسستها أوسع الجماهير، والعناصر الوطنية المخلصة، وفعلت فعلها السلبي في سريان القلق المشروع في الأوساط الشعبية، والجماهير محقة كل الحق في استنتاجاتها وشعورها، خاصة وأن الشعب تعلم من خلال تجربته، وتجارب الأمم الأخرى، أن الاستهانة بالأعداء المتربصين، سواء كانوا داخليين أم خارجيين، هي داء وبيل، أصابت عدواه حركات وطنية كثيرة، وأدت بها إلى الانتكاس والخذلان.
ومما لا ريب فيه أن المخلصين كافة لا يوجد بينهم من يرغب، أو يقبل مثل هذا المصير لثورتنا المباركة المظفرة، التي هي كما أكدتم سيادتكم دائماً للشعب إنها حصيلة دماء غزيرة وعزيزة، وجهود وآلام بذلتها الملايين من أبناء الشعب خلال سنوات طويلة من الكفاح، والعذاب المتواصل، وقد آن للشعب المكافح الصابر عقوداً من السنين، بل دهوراً، أن يحصد الثمار، ويتمتع بحريته الكاملة، وحقوقه الديمقراطية العادلة، وخيرات بلاده الوفيرة وهذا ما يناضل من أجله كل المخلصين، كما سبق لسيادتكم أن صرحتم به دائماً.
إن الواقع للوضع المؤسف هذا الذي أشرنا إليه قبل قليل قد أثار، ولم يكن بالإمكان أن لا يثير، أقصى درجات اليقظة لدى الشعب، وحفز وعيه على الاستعانة بتجاربه، وتجارب الأمم الأخرى التاريخية، فبرز على الألسن، كما تغلغل في القلوب أكثر من أي وقت مضى شعار وحدة [الصف الوطني] وتقويته، والدفاع عنه وعن الجمهورية، و مكاسب ثورة الشعب وجيشه المقدام.
وما كان لهذه الرغبة النبيلة الواعية لدى جماهير الشعب إلا أن تنعكس على مختلف قواه الوطنية التي يقف على رأسها ويرعاها سيادتكم.
ونحن كجزء من هذه القوى الوطنية حملنا شعورنا بالمسؤولية، إزاء هذا الوضع الراهن، وإزاء مهمة الحفاظ على مكاسب الشعب، وعلى تضافر الجهود، ودفعنا إلى التقارب بين بعضنا، لدراسة المعالم المميزة للظرف الذي يكتنف الجمهورية، وتحديد واجباتها فيها.
ولقد توصلنا بنتيجة دراستنا للعوامل التي أدت إلى الإخلال بوحدة الصف الوطني والإساءة إليه، وتحري الحلول الممكنة، والعملية التي تساعدنا على بعثها مجدداً، وعلى أفضل وجه، وتوصلنا إلى مواصلة نشاطنا في [جبهة الاتحاد الوطني]، واتخاذ جميع الخطوات المقتضية لإعادة حيويتها، وتحويلها إلى واقع ملموس وجهاز وطني فعّال، قادر على تعبئة، وتوحيد صفوف الشعب.
وبناء عليه، فقد تم الاتفاق فيما بيننا على إقرار [ميثاق إنشائي] نبلور ونصوغ فيه وجهة نظرنا المشتركة في المسائل الكبرى التي نصت عليها بنود الميثاق، والتي تواجه البلاد في الظرف الراهن، سواء ما يتعلق منها بصيانة الجمهورية، أو بتخطيط وبناء مستقبل البلاد، وهذا الميثاق الوطني هو عهد مقدس بين القوى المنضوية، أو التي ستنضوي في المستقبل تحت لواء جبهة الاتحاد الوطني، والتي ستمارس نشاطها المشترك تحت قيادتكم الحكيمة.
وما من شك أن ما جاء في هذا الميثاق قد يحتمل الإضافة، أو التعديل، متى ما أرادت الأطراف المشتركة فيه، أو متى ما ارتأت القوى الوطنية ضرورتها.
وباعتقادنا أن خطوتنا هذه من أجل وحدة الصفوف ستكون ذات أهمية كبرى، وأكثر جدوى، في خدمة الجمهورية، كلما ضمت جبهة الاتحاد الوطني قوى شعبية أخرى، وإمكانيات جديدة.
إننا إذ نتقدم إليكم بصورة من ميثاقنا الوطني الذي تم اتفاق كلمتنا عليه، برغم الاختلاف في اتجاهاتنا، وميولنا السياسية، نحن القوى المؤتلفة في جبهة الاتحاد الوطني، لنا وطيد الأمل بأننا سنجد من لدن سيادتكم كل التشجيع، والرعاية، وتقبلوا فائق احترامنا.
                                                               بغداد 28 حزيران 1959
ثالثاً ـ عبد الكريم قاسم يتجاهل المذكرة ويواصل سياسته تجاه الحزب الشيوعي:
إن عبد الكريم قاسم، الذي كان قد عقد العزم على ضرب الحزب الشيوعي والحد من نشاطه، والسير في طريق الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، تجاهل تلك المذكرة، وتجاهل الجبهة، بل وأوغل أكثر فأكثر في سياسته الهادفة إلى تجريد الحزب الشيوعي من كل أسباب قوته، وجماهيريته، وتوجيه الضربات المتلاحقة له، ولم تفد الحزب تلك العبارات التي أطرى بها على قاسم، وسياسته الحكيمة!! في زحزحته عن مواقفه تجاه الحزب بل جعلته يندفع أكثر فأكثر في هذا السبيل، مصمماً على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه السياسي، استناداً لقانون الأحزاب والجمعيات الذي أصدره في 1 كانون الثاني 1960.
أما محمد حديد ورفاقه في الحزب الوطني التقدمي فقد رفضوا الانضواء تحت راية تلك الجبهة، معللين ذلك بأن الحزب الشيوعي قد عمل من وراء ظهر الأحزاب، وأن تلك الجبهة هي من صنع الشيوعيين، ورفضوا أي نوع من التعاون مع الحزب الشيوعي، ومع الجبهة المعلنة.
وهكذا فإن هذه الجبهة لم تستطع أن تؤدي مهامها، وتحقق أهدافها، نظراً لتعقد الظروف السياسية، وتدهور العلاقات بين أطراف القوى الوطنية من جهة، ومواقف عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، إضافة للشرخ الذي أصاب الحزب الوطني الديمقراطي، وانعزال القوى القومية، وتنكبها لمسيرة الثورة، ولجوئها إلى التآمر المسلح والمكشوف لإسقاطها، والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.



30
من ذاكرة التاريخ
عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي
الحلقة الثانية 2/4
حامد الحمداني                                                              18/1/2019
عبد الكريم قاسم يوجه ضرباته للحزب الشيوعي:
بدأ عبد الكريم قاسم، بعد أن أرعبته مسيرة الأول من أيار يخطط لكبح جماح الحركة الشيوعية في العراق، وجاءت أحداث الموصل وكركوك لتعطي له المبرر لبدء حملته الشعواء ضد الحزب عبر خطاباته المتلاحقة والتي كان يهدف منها إلى تشويه سمعة الشيوعيين، متهماً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو وجنكيز خان!!، اللذان دمرا بغداد، وسفكا دماء مئات الألوف من أبنائها، ليتخذ من ذلك الحجة لتقليم أظافر الحزب الشيوعي وتجريده من أسباب قوته، وإنزال الضربات المتلاحقة به، ومن أجل تحقيق هذا الهدف اتخذ العديد من الإجراءات التي كان أهمها ما يلي:
أولاً ـ حل المقاومة الشعبية:
كان أول ما فكر به عبد الكريم قاسم لتحجيم الحزب الشيوعي، هو تجريده من أقوى سلاح يمتلكه، المتمثل بهيمنته على قوات المقاومة الشعبية، فقد بدا واضحاً، وبشكل خاص، بعد وقوع انقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل، أن المقاومة الشعبية فرضت سيطرتها على الشارع العراقي، وفي كافة المدن العراقية، وكان واضحاً أيضاً أن الهيمنة الحقيقية على تلك القوات كانت بيد الشيوعيين وأصدقائهم، وعلى ذلك أقدم عبد الكريم قاسم على الخطوة الأولى المتمثلة في سحب السلاح من قوات المقاومة الشعبية، وبعد إن تم تجريد المقاومة من سلاحها، أصبح من اليسير على قاسم أن يصدر قرار حلها، وهذا ما تم بالفعل، وخلال فترة وجيزة.

رضخ الحزب الشيوعي للقرار، فقد كان الحزب قد اتخذ سياسة التراجع، حرصاً منه ـ كما كان يظن ـ على العلاقة مع عبد الكريم قاسم، لكن تلك السياسة لم تجلب ِللحزب نفعاً، فبقدر ما كان الحزب يتراجع، بقدر ما كان عبد الكريم قاسم يندفع في إجراءاته ضده.
لكن الخسارة الحقيقية الكبرى الناجمة عن إجراءات قاسم كانت ليس للحزب الشيوعي وحده، وإنما للثورة، ولقاسم نفسه، الذي دفع حياته ثمناً لتلك الأخطاء، فلو لم يلجأ قاسم إلى حل المقاومة الشعبية، ومحاربة الحزب الشيوعي، لما استطاع انقلابيي 8 شباط تنفيذ جريمتهم بحق الشعب، والوطن عام 1963.

ثانياً ـ تصفية قيادات المنظمات، والاتحادات، والنقابات الوطنية:
كانت خطوة عبد الكريم قاسم التالية، بعد حل المقاومة الشعبية، تتمثل بسحب كافة المنظمات الجماهيرية، واتحاد النقابات، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وكافة النقابات المهنية، كنقابة المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وسائر المنظمات الأخرى، من أيدي الشيوعيين، لكي يجرد الحزب الشيوعي من جماهيريته في تلك المنظمات والاتحادات والنقابات ذات التأثير الكبير على سير الأحداث.

لم يكن عبد الكريم قاسم ولا البرجوازية الوطنية المتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي بقادرين على استقطاب تلك المنظمات والاتحادات، والنقابات والسيطرة عليها، فكانت النتيجة أنْ وقعت جميعها تحت سيطرة أعداء الثورة، والمتربصين بعبد الكريم قاسم نفسه، وبالحزب الشيوعي سند الثورة العنيد والقوي.

لقد فسح عبد الكريم قاسم المجال واسعاً أمام تلك القوى الشريرة، من بعثيين ومدعي القومية من الرجعيين وأذناب الاستعمار، لكي يسيطروا سيطرة كاملة على تلك المنظمات والاتحادات والنقابات، بأسلوب من العنف والجريمة لم تعرف له البلاد مثيلاً من قبل.

كانت العصابات البعثية، والقومية، وقد لفّت حولها كل العناصر الرجعية، تترصد لكل من يبغي الوصول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب قيادات تلك المنظمات والاتحادات والنقابات بأسلحتها النارية، وسكاكينها، وعصيها، وحجارتها، لدرجة أصبح معها من المتعذر حتى للمرشحين الديمقراطيين والشيوعيين الوصول إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم، أليست هذه هي الديمقراطية التي أرادها عبد الكريم قاسم؟
أن قاسم، شاء أم أبى، قد وضع السلاح بأيدي أعداء الثورة والشعب، لكي يتم نحر الجميع يوم الثامن من شباط 1963.

ثالثاً ـ تصفية القيادات الوطنية في الجيش، والجهازين الإداري، والأمني:
كانت الخطوة الثالثة لعبد الكريم قاسم تتمثل في تصفية نفوذ الحزب الشيوعي في الجيش، وفي الجهازين الإداري والأمني، فقد قام عبد الكريم قاسم بحملة واسعة جرى خلالها إحالة أعداد كبيرة من العناصر الشيوعية، أو العناصر المؤيدة للحزب الشيوعي إلى التقاعد، وأحلّ محلهم عناصر إما أنها انتهازية، أو معادية للثورة في صفوف الجيش، وجهازي الشرطة والأمن، والجهاز الإداري، كما أبعد أعداد كثيرة أخرى من المناصرين للحزب الشيوعي إلى وحدات غير فعالة، كدوائر التجنيد والميرة، أو جرى تجميدهم في إمرة الإدارة، أو تم نقلهم إلى وظائف مدنية ثانوية، بالإضافة إلى اعتقال أعداد أخرى منهم.

ولم يكتفِ قاسم بكل ذلك، بل التفت إلى الكليات، والمدارس، ليزيح كل العناصر الشيوعية، ومناصريهم من مراكزهم الإدارية، وليعيد تسليمها إلى تلك العناصر الحاقدة على الثورة، والتي وقفت منذ اللحظة الأولى ضدها، وكانت أداة طيعة بيد السلطة السعيدية السابقة.

وهكذا مهد قاسم السبيل للرجعية، والقوى المعادية للثورة لاغتيالها، واغتيال آمال الشعب العراقي وأحلامه التي ناضل طويلاً من أجلها، وكان باكورة نتائج السياسة التي سار عليها عبد الكريم قاسم وقوع محاولة اغتياله هو بالذات، ومحاولة اغتصاب السلطة في 7 تشرين الأول 1959، على أيدي زمر البعثيين في شارع الرشيد.

رابعا : محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم واغتصاب السلطة:
في 7 تشرين الأول 1959، جاء أول الغيث من القوى المعادية للثورة وقيادتها، ففي ذلك اليوم جرت محاولة خطيرة لاغتيال عبد الكريم قاسم، في رأس القرية، بشارع الرشيد، وهو في طريقه إلى بيته في العلوية دون حماية، حيث كان يرافقه مرافقه الخاص [قاسم الجنابي] بالإضافة إلى سائقه فقط.
قام بتدبير المحاولة حزب البعث، بالتعاون مع جانب من القوميين المتعاطفين معه، لكن من المؤسف أن تكون للجمهورية العربية المتحدة وعبد الناصر اليد الطولى فيها، فقد ذكر[علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث، في [نضال البعث] في الصفحة 17، أن فؤاد الركابي الذي كان أمين سر الحزب آنذاك، قد تلقى بواسطة [خالد علي الصالح] و[أياد سعيد ثابت] مبلغاَ من المال من الملحق العسكري المصري العقيد [عبد المجيد فريد] لتسهيل عملية تصفية عبد الكريم قاسم جسديا.

أصيب عبد الكريم قاسم بعدة رصاصات في كتفه وصدره، وقتل سائقه، وجرح مرافقه [قاسم الجنابي]، وتم نقل عبد الكريم قاسم إلى مستشفى السلام على الفور، حيث اُجريت له عمليات جراحية لاستخراج الرصاصات من جسمه، ومكث في المستشفى فترة من الزمن.
وفي أثناء تبادل إطلاق النار بين المهاجمين من جهة، وعبد الكريم قاسم ومرافقه من جهة أخرى، قتل أحد المهاجمين البعثيين المدعو [عبد الوهاب الغريري] واستطاع المحققون من التوصل إلى كل المدبرين، والمساهمين، والمنفذين لتلك المحاولة، التي تبين من سير التحقيقات إنها لم تكن تستهدف ليس فقط حياة عبد الكريم قاسم وحده بل كان هناك مخطط انقلابي واسع للاستيلاء على السلطة، وإغراق البلاد بالدماء.

الحزب الشيوعي يذود عن سلطة عبد الكريم قاسم:
كان سرعة تحرك الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية الأخرى، وجماهير الشعب الغفيرة، ونجاة عبد الكريم قاسم من الموت بتلك المحاولة المجرمة قد حال دون تنفيذ بقية المؤامرة التي تبين اشتراك عدد من كبار الضباط فيها، ومن جملتهم رئيس مجلس السيادة[نجيب الربيعي] الذي توجه إلى وزارة الدفاع، مقر عبد الكريم قاسم، وقد لبس بزته العسكرية، وهو محال على التقاعد منذُ بداية الثورة، لكن سيطرة العناصر الوطنية على الوزارة أسقط في يده، واستطاعت السلطة إلقاء القبض على ما يقارب 75 فرداً من المتآمرين، فيما هرب عدد آخر منهم إلى سوريا، وكان من بينهم [صدام حسين] أحد المشاركين الفعليين في تنفيذ محاولة الاغتيال.

لقد كان دور الحزب الشيوعي في إفشال مخططات القوى الرجعية، وأسيادهم الإمبرياليين مشهوداً، لقد وقف إلى جانب عبد الكريم قاسم، يذود عن سلطته، على الرغم من كل ما أصابه منه، ولم يفكر الحزب في استغلال الفرصة والوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك في ذلك اليوم لفعل ونجح بكل يسرٍ وسهولة، فقد كان كل شيء تحت سيطرته في ذلك اليوم.
لكن الحزب الشيوعي بقي مخلصاً لعبد الكريم قاسم، معتبراً إياه قائداً وطنياً معادي الاستعمار أولاً، ومعتبراً ما أصابه منه لم يكن سوى مجرد أخطاء ثانياً، ومعتقداً أن الظروف المستجدة سوف تؤكد له خطأ سياسته ومواقفه من الحزب ثالثاً.

إلا أن عبد الكريم قاسم الذي خرج من المستشفى بعد شفائه، عاد من جديد إلى نفس سياسته السابقة تجاه الحزب الشيوعي، ساعياً إلى إضعافه وتحجيمه، دون الاتعاظ بالتجربة الخطيرة التي مرً بها لتوه، بل على العكس من ذلك لم يمض ِوقت طويل حتى أصدر عبد الكريم قاسم قراراً بالعفو عن المجرمين الذين أدانتهم محكمة الشعب، قائلاً قولته المعروفة{عفا الله عما سلف} لكن عفوه ذاك كان مخصصاً لأولئك المجرمين الذين أرادوا قتله، وأعداء الشعب والثورة، ومستثنياً كل الوطنيين المخلصين، الذين زج بهم في السجون، بل وأكثر من ذلك صادق في الوقت نفسه على تنفيذ عقوبة اعدام العضو في الحزب الشيوعي [منذر أبو العيس] وحدد يوم تنفيذ الإعدام ‎في فجر اليوم التالي إلا أن المظاهرة الجماهيرية الكبرى التي أحاطت بوزارة الدفاع مقر عبد الكريم قاسم، أجبرته على إيقاف التنفيذ، وبقي الشهيد أبو العيس في السجن حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، حيث نفذ الانقلابيون حكم الإعدام فيه.
خامساً:عبد الكريم قاسم يحاول تجميد نشاط الحزب الشيوعي:
في محاولة من عبد الكريم قاسم لاحتواء الحزب الشيوعي، توجه بطلب إلى الأحزاب السياسية لتجميد نشاطها بحجة أن العراق يمرّ بفترة انتقال، متناسياً أن الأحزاب السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني كان لها الدور الكبير في التهيئة والإعداد لثورة 14تموز، وتقديم الدعم الكامل والسريع لها حال انبثاقها، مما أدى إلى شل قوى النظام السابق ومنعه من القيام بأي تحرك ضد الثورة.

كان هناك في الحقيقة حزبان يعملان بصورة علنية بعد انسحاب القوى القومية والبعثية من السلطة، ولجوئها إلى العمل السري، وهذان الحزبان هما الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، وكان قصد عبد الكريم قاسم من طلبه ذاك حرمان الحزب الشيوعي من نشاطه العلني، بعد أن جرده من سلطانه على المنظمات المهنية والنقابات والاتحادات العمالية والفلاحية والطلبة.
سارعت القيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، وقد سرها ذلك الطلب، منتهزة فرصة وجود زعيم الحزب، الوطني البارز [كامل الجادرجي] خارج العراق  في رحلة للاستشفاء في موسكو، معلنة قرارها بإيقاف نشاط الحزب تلبية لدعوة عبد الكريم قاسم مستهدفة من ذلك إحراج الحزب الشيوعي، ودق إسفين جديد بينه وبين عبد الكريم قاسم.
لكن الحزب الشيوعي تجاهل الطلب هذه المرة، وشن حملة واسعة، في جملة من المقالات التي طلعت بها صحيفة الحزب [اتحاد الشعب] على ذلك الطلب، وعلى الجناح اليميني في الحزب الوطني الديمقراطي، لقراره بتجميد نشاط الحزب، وأستمر الحزب الشيوعي على نشاطه، رافضاً أي تجميد.

أما الأستاذ [كامل الجادرجي] زعيم الحزب فقد وجه نقداً شديداً للقيادة اليمينية للحزب عند عودته إلى بغداد، على قرارها بتجميد نشاط الحزب، وأدى ذلك الموقف إلى حدوث تصدع كبير في قيادة الحزب، وخاصة بعد ما طلب الأستاذ الجادرجي من عضوي الحزب في الوزارة [محمد حديد] و[هديب الحاج حمود] الاستقالة من الوزارة، ورفض الوزيران طلب زعيم الحزب الجادرجي، مما دفع الأستاذ الجادرجي إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب وعضويته، واحتجاب صحيفة الحزب [ صدى الأهالي] الغراء مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد.

خامساً: عبد الكريم قاسم يرفض إجازة الحزب الشيوعي:
نتيجة لعدم التزام الحزب الشيوعي بالطلب الذي دعا إليه عبد الكريم قاسم بتجميد نشاط الأحزاب السياسية، محاولة منه منع الحزب الشيوعي من ممارسة نشاطه السياسي، أقدم على إصدار قانون الأحزاب والجمعيات في 1 كانون الثاني 1960، في محاولة منه لحرمان الحزب الشيوعي من إجازة ممارسة النشاط السياسي بصورة قانونية.
وعلى أثر صدور القانون تقدم الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، بطلباتهم لإجازة أحزابهم، إلا أن الحزب الشيوعي فوجئ باعتراض وزارة الداخلية على ميثاق الحزب طالبة إجراء تغير وحذف لعدد من العبارات الواردة في الميثاق، في حين وافقت على إجازة الحزبين الآخرين فوراً.
ومع ذلك فقد أعاد الحزب صياغة ميثاقه من جديد، وأجرى التغيرات التي طلبتها وزارة الداخلية، إلا أن الحزب فوجئ مرة أخرى بحكومة عبد الكريم قاسم تجيز حزباً مسخاً بزعامة [داؤد الصايغ] يحمل أسم الحزب الشيوعي العراقي، وضمت هيئته المؤسسة عددا من الشخصيات غير المعروفة لدى الشعب العراقي، وهم:
1 ـ داؤد الصائغ              2 ـ إبراهيم عبد الحسين              3 ـ جميل العلوي
4 ـ زكية ناصر               5 ـ كاظم الشاوي                      6 ـ سالمة جاسم
7 ـ عجاج خلف               8 ـ عبد محسن                        9 ـ كاظم محمد
10 ـ جاسم محمد            11 ـ سليم شاهين
غير أن ستة من هؤلاء ما لبثوا أن استقالوا من الحزب، بعد أن أدركوا أن في الأمر مؤامرة على الحزب الشيوعي لمنع نشاطه.
أوقع انسحابهم من الهيئة المؤسسة داؤد الصايغ والسلطة في حيرة، وأسرعت السلطة في اختيار بديل عنهم من العناصر النكرة، التي لا يعرف أحدُ عنهم أي تاريخ نضالي، وقيل أن عدد منهم من رجال الأمن، في حين جمع الحزب الشيوعي أكثر من 360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.

لقد كان عبد الكريم قاسم قد صمم على عدم منح الحزب الشيوعي الإجازة، لكي يصبح الحزب بموجب القانون غير شرعي، وبالتالي خارجاً على القانون، وليتخذ من ذلك ذريعة لضربه، ومطاردة رفاقه، ولم يدرك قاسم أنه بعمله هذا، إنما يوجه السهام إلى صدره، وصدر الثورة.

وهكذا فقد تم رفض طلب إجازة الحزب مجدداً، ولكن هذه المرة بحجة أن هناك حزب شيوعي مجاز بهذا الاسم، ومع ذلك تدارست قيادة الحزب الوضع، واتخذت قراراً بتقديم طلب جديد باسم [اتحاد الشعب] ومع ذلك رفضت وزارة الداخلية الطلب من جديد، ولم يحاول الحزب الاعتراض لدى محكمة التمييز ـ حسب نص القانون ـ حيث وجد أن لا فائدة من ذلك، فقد عقد عبد الكريم قاسم العزم على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه بصورة قانونية، وبالتالي ملاحقة رفاقه من قبل الأجهزة الأمنية.

سادساً ـ السلطة ترفض إجازة الحزب الجمهوري:
لم يكتفِ عبد الكريم قاسم وحكومته برفض إجازة الحزب الشيوعي، بل تعدى ذلك إلى رفض إجازة الحزب الجمهوري، الذي كان قد تقدم بطلب تأسيسه في 12 شباط 1960، نخبة من الشخصيات السياسية المشهود لها بالوطنية، وهم السادة:
1 -عبد الفتاح إبراهيم        2ـ  مهدي الجواهري          3-أحمد جعفر الأوقاتي
4 ـ صديق الأتروشي         5 ـ د . طه باقر                  6 ـ د. عبود زلزلة
7 ـ عبد الرزاق مطر              8 ـ عبد الحميد الحكاك          9ـ صالح الشالجي 
10 ـ د.عبد القادر الطلباني  9ـ د. عبد الأمير الصفار      12 ـ جلال شريف
13 ـ رفيق حلمي            14 ـ د.عبد الصمد نعمان       15 ـ نيازي فرنكول
16 ـ حسن الأسدي    17 ـ عبد الحليم كاشف الغطاء      18 ـ نايف الحسن
91 ـ شاكر الحريري       20 ـ حسن جدوع                 21 ـ سليم حلاوي
22 ـ سعيد عباس          23 ـ مهدي فريد الأحمر
غير أن عبد الكريم قاسم رفض إجازة الحزب المذكور بحجة أنه يضم عناصر ماركسية لها علاقات طيبة بالحزب الشيوعي.  وهكذا أصرّ قاسم على مواصلة السير في الطريق الخاطئ الذي أبعده عن جماهير الشعب وقواه الوطنية، وترك نفسه أعزلاً أمام قوى الردة التي أخذت تتحين الفرصة لتوجيه ضربتها القاضية له ولثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.
عاد الحزب الشيوعي إلى نشاطه السري الذي اعتاد عليه أيام الحكم الملكي، وتعرض الألوف من رفاقه وأصدقائه إلى الاعتقال، والإحالة للمجالس العرفية التي كان يرأسها العقيد [شمس الدين عبد الله]، و[العقيد شاكر مدحت السعود]، واللذان أصدرا أحكاماً قاسية على الألوف من كوادر وأعضاء الحزب وصلت حتى الإعدام، ليجد انقلابيوا 8 شباط هذا الصيد الثمين بالقفص وينفذوا حملة إعدمات واسعة لم يعرف لها العراق مثيلاً من قبل شملت المئات من المناضلين الذين ذادوا عن الثورة وسلطة قاسم بالذات.

الى اللقاء مع الحلقة الثالثة


31
شهادة للتاريخ:
الحقيقة حول انقلاب الشواف بالموصل
الحلقة الثالثة والأخيرة
 حملة الاغتيالات في الموصل
1ـ منْ مول، ونظم الاغتيالات:
بعد كل الذي جرى الحديث عنه حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا، أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون والمساندة للقائمين على تنظيمها وتمويلها. لقد كان على رأس تلك العصابة يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية والإقطاعية المعروفة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
1 ــ عائلة كشمولة   2 ــ عائلة الأغوات        3 ــ عائلة كرموش   4 – عائلة حديد
  5 -عائلة العاني   6 ــ عائلة نوري الأرمني  7 ــ عائلة المفتي    8 ــ عائلة الإرحيم
كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [حاوي الكنيسة] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك، بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز. ورغم العديد من المقالات للعديد من الشخصيات الوطنية التي نشرتها الصحف، مطالبة بوقفها ومعاقبة القائمين بها، والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط عام 1963.
2 ـ مَنْ نفذ الاغتيالات؟
إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلى ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية، أو المحلات، أو المعامل، أو الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت أجور قتل الإنسان [50 دينار]!، وهذه أسماء بعض أولئك القتلة الذين كانوا يفاخرون بجرائمهم البشعة والتي يتداولها الموصليون آنذاك على ألسنتهم كل يوم:
أسماء بعض منفذي الاغتيالات:
1 ـ زغلول كشمولة         2ـ شوكت نوري الأرمني      3 ـ محمد سعيد حسين السراج
4 ـ طارق عبد كرموش    5 ـ يعقوب كوشان               6 ـ صبار الدليمي
7 ـ نجم فتح الله              8 ـ موفق محمود                9 ـ فهد الشكرة
10 ـ هادي أبن الطويلة   11 ـ عادل ذنون الجواري       12 ـ حازم بري
13 ـ عارف السماك       14 ـ أحمد جني                     15 ـ نجم البارودي 
 16 ـ طارق قبان          17 ـ طارق نانيك                  18 ـ محمود أبن البطل
 19 ـ قاسم أبن العربية   20 ـ عدنان صحراوية            21 ـ طارق شهاب البني 
  22 ـ  نيازي ذنون       23 ـ جبل العاني                   24 -  فوزي شهاب البني 
25 ـ عايد طه عنتورة   26 ـ جنة ـ مجهول اسم أبيه
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان، لان أصحابها أرادوا ذلك، لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع أو عقاب، ما دامت السلطة تحميهم وتدعمهم.
لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يتم القبض على واحد من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين، والممولين لتلك الجرائم.
لقد ذهبت دماء الضحايا هدراً، حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق، وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد، وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني، والإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.
لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت.
نتائج الاغتيالات، والحملة الرجعية في الموصل:
بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:
1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل، أكثر من 30 ألف عائلة إلى بغداد والمدن الأخرى طلباً للأمان، تاركين مساكنهم، ومصالحهم ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها، وأن بقائهم في الموصل لا يعني سوى انتظار القتلة لينفذوا جرائمهم بحقهم، وعليه فقد كانوا مجبرين على التضحية بكل مصالحهم، ومغادرة مدينتهم التي نشأوا وترعرعوا فيها حرصاً على حياتهم.
2ـ شل وتدمير الحركة الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة.
3ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة والتي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي، مما مهد السبيل لاغتيال الثورة وقادتها في المقدمة الزعيم عبد الكريم نفسه.
لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد، هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، وكل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام، من دماء أبنائه البررة.
لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد، والعهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد.
ولم يدر في خلد قاسم، أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها كانت هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين في انقلاب 8 شباط 1963.
موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟
لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [اتحاد الشعب] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها!، دون أن تتخذ قيادة الحزب موقفاً صارماً من القتلة ، ومن السلطة، وهو يدرك أن للسلطة  اليد الطولى فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم [عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].
وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت له القناعة المطلقة أن الحزب بكل تأكيد سوف يقفز إلي السلطة، ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك، ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية[ محمد حديد ] رئيس الحزب الوطني التقدمي، والذي انشق عن الحزب الوطني الديمقراطي بعد خلاف محمد حديد مع رئيس الحزب كامل الجادرجي دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية التي كانت تصوّر الحالة في العراق أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة، حتى ان رئيس جهاز المخابرات الامريكية [ الن فوستر دلس]شقيق وزير الخارجية الامريكية جون فوستر دلس، قد صرح يومذاك قائلاً {إن اخطر ما يواخه عالمنا اليوم هو الوضع الخير في العراق}، وكان بذلك يقصد خطر قفز الحزب الشيوعي إلى السلطة بالعراق.
ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع، ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك، في حين كان بإمكانه استلام السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.
لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم، واستفز البرجوازية الوطنية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له.
كان على قيادة الحزب أن تسلك طريقاً آخر هادئاً لا يستفز عبد الكريم قاسم، عن طريق اللقاءات والحوار والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها للمطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة ائتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.
لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي القاضي بتحجيمه وعزله عن جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه بعد أن أصبحت لديه القناعة!! أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من أحزاب اليمين المتمثلة بحزب البعث والقوميين رغم أنهم تآمروا عليه مرات عديدة، في حين لم يكن يدور في خلد الشيوعيين خيانة عبد الكريم قاسم، بل ذادوا عن ثورة 14 تموز حتى النهاية، ودفعوا ثمناً باهظاً جداً.
أما قيادة الحزب فكانت بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى به المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب 360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.
لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية، وتنامي عدد حوادث القتل يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.
لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم، وكل الذين يقفون وراءهم، إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه متهماً المنادين به بالفوضويين !!، وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم، التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهضاً من أرواحهم وممتلكاتهم، ومصير وطنهم.
إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة، لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى غضب عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك ما زالت ماثلة أمامه، ومواقفه من الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية، لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً وذريعة لضرب الحزب وتحجيمه.
 لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها، وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته، وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة بيديه، لقد اخطأ الحزب في اثارة مخاوف عبد الكريم قاسم، لكن عبد الكريم قاسم عالج الخطأ بخطأ بالغ الخطورة عندما اعلنها حرباً على الحزب الشيوعي، السند الوحيد والقوي لثورة الرابع عشر من تموز ولقيادته هو بالذات ، وبذلك عزل نفسه، وبات حكمه في مهب الريح، وبذلك مهد السبيل لنجاح انقلاب 8  شباط 1963 المشؤوم بتخطيط ودعم مباشر من قبل الامبريالية الامريكية والبريطانية، ذلك الانقلاب الذي جلب  الدمار والخراب والقتل والويلات والمصائب للشعب العراقي منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، فكل ما حدث ويحدث للعراق وللعراقيين اليوم هو نتاج مباشر لذلك الانقلاب الفاشي المشؤوم.





32
شهادة للتاريخ:
الحقيقة حول أحداث انقلاب الشواف بالموصل
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                        10/1/2019
لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية، فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية، أي تغيير جوهري على أوضاع الموصل، وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها من جديد، مستغلة الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي.
وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري، مرتدية رداء القومية العربية، وتحت راية الرئيس المصري عبد الناصر، وهي التي كانت حتى الأمس القريب من أشد أعدائه، ووضعت نفسها تحت تصرف العقيد الشواف، الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها، غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم، الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة، ودافعت عنها، وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها.
عبد الكريم قاسم يقلب ظهر المجن للحزب الشيوعي:
لقد بادر عبد الكريم قاسم باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة، ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، وإحالهم إلى المجالس العرفية{المحاكم العسكرية}، وحرض الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل، وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام، ومن جهة أخرى أقدم عبد الكريم قاسم على سحب السلاح من المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، ومن ثم أقدم على إلغائها، وأجرى تغييرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة، والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين جرى إبعادهم على اثر فشل محاولة الشواف الانقلابية إلى مراكزهم السابقة، وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، و المفتي، والأرحيم، وغيرها من العوائل الأخرى، نشاطها المحموم مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين الذين كان لهم الدور الأساسي في إخماد تمرد الشواف، و بادرت تلك العوائل، تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية والديمقراطية المؤيدة للثورة، ووجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية أكثر من 30 الف عائلة موصلية على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها وأعمالها ووظائفها، من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل، أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه، حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجرِ تحقيقاً ضد عصابات القتلة ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا، ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة مهما كانت ضعيفة وعاجزة، عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، وإلقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة، الذين بقوا مطلقي السراح، يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء، ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم في وضح النهار .
إما أجهزة الأمن فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح، فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى، حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك، الدكتور[عبد الوهاب حديد]، وهو من أبناء عمومة[ محمد حديد] وزير المالية. ولا بد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ حركة العقيد الشواف وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، لنتعرف على أولئك الذين كان لهم الدور البارز في تلك الاحداث.
من كان يحكم الموصل؟
1 ـ مدير الشرطة ـ إسماعيل عباوي: من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش، الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936 ضد حكومة [ياسين الهاشمي].
قام إسماعيل عباوي باغتيال [جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال [ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد [مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس النواب، عندما وقع انقلاب الفريق [بكر صدقي].
أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش، بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939 بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.
وقبل أحداث حركة الشواف بأيام أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل، لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، والسيطرة على الأوضاع في المدينة بعد دخول الجيش إليها بقيادة [العقيد حسن عبود] الذي عين فيما بعد آمراً للواء الخامس بالموصل، وبقي المقدم إسماعيل عباوي مديراً لشرطة الموصل ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى للعناصر الديمقراطية والشيوعية فيها خلال ثلاث سنوات متوالية، حيث جرت حملة اغتيالات منظمة ذهب ضحيتها ما يناهز 1000 مواطن دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات باسم مجهول!!.
2ـ متصرف اللواء (المحافظ) ـ العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي:
متصرف الموصل العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة، في الرابع عشر من تموز 1958، حيث كان آمر الفوج الأول، في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف، الذي كان آمر الفوج الثالث في نفس اللواء.
عين الدراجي آمراً للواء العشرين بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية، إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه، كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم، ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4 تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد وعُين محافظاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى محافظة الموصل فيما بعد.
لا شك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم، بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على إضعاف وعزل عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8 شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف، بعد انقلابه على البعثتين، وزيراً للداخلية.
لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل، شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين، وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان.
3 ـ مدير الأمن ـ حسين العاني:
حسين العاني، كما هو معروف، من عائلة رجعية إقطاعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي، كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً، ورغبتها في الانتقام أكبر، وكان وجود العاني على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليون على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها، والتستر عليها وحمايتها.
كان جهاز الأمن بالموصل يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً دون خوف أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة، رغم شيوع أسمائهم، وتداولها بين الناس جميعاً.
وهذا مثال جرى لأحد أقرب رفاقي هو الشهيد الأستاذ [فيصل الجبوري] مدير ثانوية الكفاح بالموصل، الذي أُطلق عليه النار من قبل أحد أفراد عصابة التنفيذ المدعو[عايد طه عنتورة] في 10 أيار 1960، ولم يفارق الحياة، وتم نقله إلى المستشفى، وكان يصرخ بأعلى صوته[ قتلني عايد طه عنتورة]، ولم يُتخذ أي إجراء ضد الجاني إطلاقاً، أما فيصل الجبوري فقد فارق الحياة في المستشفى في اليوم التالي.
وهذا مثال آخر، حيث أطلق الرصاص على الشهيد [حميد القصاب] في محله الكائن بمحلة المكاوي، وشخص الشهيد بأم عينه الجاني، وأخذ يصرخ بأعلى صوته، وهو يصعد سيارة الإسعاف برجليه ودون مساعدة: قتلني [ محمد حسين السراج]، وتم نقله إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة في اليوم التالي، أما الجاني فلم يُستدعى للتحقيق، ولم تُتخذ أية إجراءات قانونية ضده.
وأذكر أيضاً أحد أصدقائي، الشهيد [أحمد مال الله]، الذي أُطلق عليه الرصاص أيضاً، وأُصيب بجروح، لكن أهله نقلوه على الفور إلى بغداد، حيث عُولج هناك في إحدى المستشفيات وتماثل للشفاء، لكن يد الغدر لاحقته بعد مدة واغتالته في أحد شوارع بغداد.
أما الشهيد المدرس [ زهير رشيد الدباغ ] فقد دخل عليه أحد تلاميذ المدرسة المدعو[عادل ذنون الجواري] إلى داخل الصف، وهو يدرس التلاميذ ، ليطلق عليه وابلاً من الرصاص من رشاشة كان يحملها، أمام 45 طالباً، دون أن يمسه أذى، أو يجري معه أي تحقيق، أما زهير، فقد أستشهد في الحال. ليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات غيرها جرت للمواطنين الأبرياء، وذهبت دماؤهم هدراً على يد تلك العصابات المجرمة، ولم يفتح فيها جميعاً أي تحقيق إلى يومنا هذا.
4 ـ آمر موقع الموصل ـ العقيد حسن عبود:
العقيد حسن عبود، أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه، ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين، وتحجيم حزبهم، وبالنظر للعلاقة التي تربطه بهم، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام، وأناط ذلك كله بجهاز الأمن السعيدي، وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.
كما أصدر قاسم أمراً بنقل كل الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين، والذين كان لهم الدور الحاسم في قمع انقلاب الشواف، إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، وفق منهج ُ تم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع، وبإشراف قاسم نفسه.
وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود فيما يخص حفظ الأمن والنظام، ولم يعد له أي دور في ذلك، ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال، وأخيراً إلى التقاعد.

33
شهادة للتاريخ:

الحقيقة حول انقلاب الشواف بالموصل
الحلقة الأولى 1/3
حامد الحمداني                               2019/1/8
تناول العديد من الكتاب والمهتمين بمتابعة الأحداث التاريخية، المحاولة الانقلابية الفاشلة للعقيد الشواف في الموصل في الثامن من آذار 1959 ضد القيادة الوطنية لثورة الرابع عشر من تموز ،وما رافقها من أحداث، وقد اتسمت معظم الأقلام التي تناولت تلك الأحداث بالتشويه أحياناً وبالضبابية أحياناً أخرى، مما يدفعني إلى إلقاء الضوء على تلك الأحداث التي عايشتها بكل دقائقها، لا ابتغي في عرضي هذا سوى الحقيقة التي أرجو أن يطلع عليها الجميع.
منُذُ الأيام الأولى لثورة الرابع عشر من تموز 1958 حدث شرخ خطير في صفوف الحركة الوطنية التي كانت بقيادة أحزاب {جبهة الاتحاد الوطني}، و{اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار} قاده عبد السلام عارف بدعم من حزب البعث، وجانب كبير من القوى القومية الذين سيروا المظاهرات في شوارع بغداد مطالبين بالوحدة الفورية الاندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة خلافاً لرأي أغلبية القوى والأحزاب الوطنية التي رفعت في المقابل شعار{ الاتحاد الفدرالي} كخطوة أولية مؤكدة على إقامة أوثق الروابط بين العراق والجمهورية العربية المتحدة بزعامة عبد الناصر، وصولاً في المستقبل إلى إقامة وحدة حقيقية تقوم على أسس ديمقراطية ترعى مصالح الشعب العراقي، والذي خرج لتوه من هيمنة القوى الإمبريالية والنظام الملكي المدعوم من قبلهم، ومن قبل القوى الرجعية والإقطاعية.
لم تكن تلك القوى التي رفعت ذلك الشعار{الوحدة الفورية} صادقة في دعواها بل كانت ترمي إلى الوثوب إلى السلطة، وإزاحة القوى الديمقراطية وقيادة عبد الكريم قاسم، وهي لو كانت جادة في دعواها لحققت الوحدة عندما اغتالت ثورة الرابع عشر من تموز في انقلابها الدموي الفاشي في الثامن من شباط عام 1963 سواء في عهد حكم حزب البعث، أو حكم عبد السلام عارف الذي قاد انقلاب 17 تشرين ضد حكم البعث، وكذلك عندما عاد البعثيون إلى الحكم إثر انقلاب 17 تموز 1968على حكومة عبد الرحمن عارف، بل على العكس من ذلك اتخذوا موقفاً معادياً من عبد الناصر، واستمروا على مهاجمته في كافة وسائل إعلامهم ومن ضمنها الإذاعة والتلفزيون حتى ساعة وفاته.
لقد سعت تلك القوى إلى تعميق الخلافات والانقسام في صفوف القوى الوطنية مستخدمة كل الوسائل والسبل، على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها الأحزاب الوطنية، وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي، إدراكاً منها لخطوة المرحلة التي كانت تمر بها ثورة الرابع عشر من تموز، وهي ما تزال في أيامها الأولى، ولا سيما وأن الإمبرياليين كانوا قد انزلوا قواتهم العسكرية في لبنان والأردن، وأوعزوا إلى حلفائهما تركيا وإيران الشاهنشاهية بحشد جيوشها على حدود العراق بغية الإجهاز على الثورة، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
واستمر الانقسام في صفوف القوى الوطنية في أوائل عام 1959 حتى بلغ مداه، ورفضت القوى القومية والبعثية أي دعوة للتعاون والتلاحم من أجل مصلحة الشعب والوطن.
انتخابات المنظمات الديمقراطية والنقابية:
لقد جرت في تلك الأيام انتخابات النقابات، والمنظمات الجماهيرية، وبذل الحزب الشيوعي جهوداً كبيرة من أجل لمّ الشمل، والخروج بقائمة موحدة في الانتخابات، ولكن القوى القومية والبعثية رفضتا ذلك رفضاً قاطعاً، وأصرتا على خوض الانتخابات بصورة منفردة قاطعة الطريق على أي تقارب أو تعاون.
كان في مقدمة الانتخابات التي جرت نقابة المعلمين، حيث جرت الانتخابات بروح ديمقراطية، وبإشراف ممثلين عن القائمة الديمقراطية، والتي ضمت الشيوعيين، والديمقراطيين والبارتيين، والقائمة الجمهورية التي ضمت البعثيين والقوميين، وقد لفوا حولهم كل العناصر الرجعية المناهضة للثورة أساساً، تلك القوى التي وجدت فرصتها في هذا الانقسام للظهور بمظهر القومية الزائفة، والوحدوية!،في حين أنها كانت، ولعهد قريب من أشد أعداء الوحدة وعبد الناصر، ولا تزال تلك الأحداث في ذاكرتي عندما فازت {القائمة الديمقراطية المهنية للمعلمين}، وكنتُ أحد مرشحيها بفارق كبير، وأعترف ممثلي{القائمة الجمهورية} بتوقيعهم على محاضر الانتخابات بعد فرز الأصوات بان الانتخابات قد جرت في جو ديمقراطي لا تشوبه شائبة، وكانت نقابة المعلمين، تمثل قطاعاً كبيراً من المثقفين، وقد تجاوز عدد أعضائها أكثر من خمسة وخمسون ألف معلم، ومدرس وأستاذ جامعي آنذاك.
كانت الانتخابات تلك خير مقياس لتوزيع القوى، حيث كان لها دور فاعل في الحياة السياسية للبلاد، وجرت بعد ذلك انتخابات الطلاب، حيث جرى الاستقطاب بين القوى السياسية، على غرار ما جرى في انتخابات نقابة المعلمين، وفازت القائمة الديمقراطية، المسماة بـ {اتحاد الطلبة} فوزاً ساحقاً، وتبع ذلك انتخابات نقابة المهندسين، والأطباء، والعمال والجمعيات الفلاحية، وفشلت تلك القوى الرافضة للتعاون في الحصول على أي مكسب فيها. لقد تعمق الاستقطاب في صفوف الحركة الوطنية، وأخذ التباعد يتسع يوماً بعد يوم، وأخذ الجانب الخاسر في التنافس الحر منحى آخر يستند إلى العنف في تحقيق ما عجز عن تحقيقه عن طريق التنافس الديمقراطي الحر، وبدأت عقولهم تفكر في استخدام القوة والعنف لتغيير الأوضاع لصالحهم.
العقيد الشواف يركب الموجة:
وجد العقيد عبد الوهاب الشواف ـ آمر موقع الموصل ـ فرصته الذهبية في ركوب الموجة، فقد كان يشعر بأنه قد أصابه الغبن الكبير عند ما عُيّن آمراً للواء الخامس، وآمر موقع الموصل، وكان يطمح في الحصول على منصب وزاري، أو منصب الحاكم العسكري العام، عند قيام الثورة، حتى لكأنما قامت الثورة لتوزيع المناصب على القائمين بها، وليس من أجل خدمة القضية الوطنية.

كنت في تلك الأيام مديراً لإحدى مدارس الموصل مسقط، وكنت أرى وأحس والمس ذلك الصراع يتطور ويتعمق، والانقسام يبلغ مداه، ويتحول إلى عداء واعتداء، وتحول ذلك الجانب الخاسر في الانتخابات إلى عصابات تنتشر هنا وهناك تتحين الفرص للاعتداء على العناصر الديمقراطية والشيوعية، بوجه خاص، وكانت توجيهات الحزب الشيوعي آنذاك تقضي بعدم الانجرار وراء تلك الأعمال وتجنب الصدام، وكان أمله في إعادة الصواب إلى رشد تلك القوى والعودة إلى التلاحم والتعاون من أجل مصلحة الشعب والوطن، وديمومة الثورة ونضوجها، وتعمقها من أجل تحقيق أحلام الشعب العراقي الذي ضحى من أجلها سنين طويلة.
الإعداد للانقلاب:
كان الحزب الشيوعي يدرك معنى الانقسام في صفوف الحركة الوطنية، والمخاطر التي تسببها، وفعل كل ما يمكن من أجل إعادة اللحمة للقوى الوطنية، إلا أن كل محاولاته ذهبت أدراج الرياح، وراحت تلك القوى تعد العدة، وتهيئ لمحاولة انقلابية في مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، وكانت تحركاتهم وإعدادهم لذلك الانقلاب بادية للعيان وتجري على قدم وساق، فيما كان الجانب الثاني من الاصطفاف المتمثل بالشيوعيون والديمقراطيون،والبارتيين ـ يراقبون الأوضاع بدقة، فالخطر لا يعني عبد الكريم قاسم وحده، أو الثورة وحدها، وإنما يعني أيضاً تعرض كل القوى المساندة للثورة للتصفية إذا ما تحقق النصر لمحاولتهم الانقلابية، و كان العقيد الشواف، وعدد من الضباط القوميين، والبعثيين ينشطون بهذا الاتجاه وينسقون مع القوى الرجعية للإعداد لتك المحاولة.
وفد مؤتمر المعلمين يقابل عبد الكريم قاسم:
أنتهز أعضاء المؤتمر الأول لنقابة المعلمين في الموصل ـ وكنت احدهم ـ وجوده في بغداد، لحضور المؤتمر المنعقد في شباط 1959، الفرصة وطلب مقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم لأمرٍ هام يخص الثورة والجمهورية وأمنها.
وافق عبد الكريم قاسم على استقبال الوفد في مقره بوزارة الدفاع، وحضر الوفد في الوقت المحدد، ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى حضر الزعيم عبد الكريم قاسم، ودخل القاعة وسط التصفيق والهتاف باسم الثورة وقيادتها. بدأ الزعيم الحديث موجهاً كلامه للوفد مرحباً به وقائلاً:{إنني كنت واحداً منكم أنتم مربي الأجيال، نعم لقد كنت معلماً في إحدى قرى الشامية بعد تخرجي من الإعدادية، وقبل أن أدخل الكلية العسكرية، وأنا فخورٌ بذلك}.
وتحدث الزعيم طويلاً عن دور المعلم في المجتمع، وبعد نهاية حديثه، طلب من الوفد الحديث. بدأ أكبر أعضاء الوفد سنا الشهيد {يحيى الشيخ عبد الواحد} المعروف {يحيى ق} والذي كان مشهوداً له بالمواقف الوطنية أيام الحكم الملكي والمواقف الجريئة ضد حكم الطاغية نوري السعيد، وناله بسبب مواقفه تلك صنوفٌ من الاضطهاد، والاعتقال، وأستحق محبة الشعب العراقي وقواه الوطنية.

بدأ يحيى بالحديث عن أوضاع الموصل المتدهورة، والنشاط التآمري الذي يجري على قدم وساق، موضحاً للزعيم أن العراق في خطر، وإن الثورة في خطر كذلك إذا لم تسارع حكومة الثورة في معالجة الأمور بأسرع وقت ممكن من أجل نزع الفتيل قبل حدوث الانفجار، مشيراً إلى العناصر التي تقود ذلك النشاط، وعلى رأسها العقيد الشواف، وزمرة من الضباط القوميين والبعثيين المتعاونين معه، بالإضافة إلى القوى الرجعية والإقطاعية، وعلى رأسها شيخ مشايخ شمر الإقطاعي الكبير والنائب السعيدي المزمن{أحمد عجيل الياور}.
وتحدث يحيى عن السلاح الذي كان المتآمرون ينقلونه عبر الحدود السورية ويخزنوه في الموصل، وكذلك عملية تسليح قبائل شمر، والتي تدين بالولاء لرئيسها، والحاقد على الثورة، وعلى قانون الإصلاح الزراعي الذي جرده من سلطانه. كما تحدث يحيى عن نشاط عملاء شركات النفط في عين زالة في الموصل في هذا الاتجاه.
إلا أن الزعيم عبد الكريم قاسم رد على الوفد بعباراته المشهورة: {الصبر والتسامح والكتمان والمباغتة} هذه العبارة التي كان يرددها دائماً.
وقد رد عليه يحيى قائلاً: يا سيادة الزعيم: إن هناك حكمة تقول الوقاية خيرٌ من العلاج، إن انتظار حدوث الكارثة ومعالجتها بعد ذلك أمرٌ خطيرٌ جداً، إذ ربما تكون لها إمتدادات في مختلف أنحاء العراق، ولربما تؤيدها غيرها من القطعات العسكرية في مناطق أخرى، وربما تنجح تلك المحاولات في اغتيال الثورة، وفي أحسن الأحوال حتى لو قامت المحاولة وفشلت فلا أحد يستطيع تقدير خسائرها وأضرارها، لذلك فأن منع وقوعها أفضل بكثير من انتظار وقوعها والقضاء عليها. كان جواب عبد الكريم قاسم غير متوقع إطلاقاً، لقد غضب قاسم من حديث يحيى وأجاب قائلاً:{إننا ندرك الأمور إدراكاً جيداً، وإن العقيد الشواف هو أحد الضباط الأحرار، وأنتم تهولون الأمور، وتضخمونها، نحن أقوياء واثقون من أنفسنا}.
وعاد الأستاذ يحيى مخاطباً الزعيم قاسم قائلا: سيادة الزعيم: إننا لا نطلب من سيادتكم سوى طلب بسيط، فنحن لا نطلب أن تعاقب أحدا، أو تسجن أحداً، وكل ما نطلبه هو نقل زمرة الضباط المذكورة، وتفريقها في مناطق أخرى، منعاً لوقوع الواقعة. لكن الزعيم قاسم رفض ذلك رفضاً قاطعاً، وأجاب بحدة:{إن هذه الأمور تتعلق بنا وحدنا، ونحن لا نسمح لأحد بالتدخل فيها}.

وهكذا فقد بدا جو اللقاء مكفهراً، مما حدا بالمرافق الأقدم للزعيم الشهيد وصفي طاهر إلى التدخل لتحسين الجو قائلاً:{ إننا لا نهاب الشواف، ونحن قادرون على جلبه إلى هنا هاتفياً في أية لحظة}. وأخيراً بدا عبد الكريم قاسم يغير اتجاه الحديث، عارضاً منجزات الثورة، وطموحاتها المستقبلية، وبعد ذلك أنتهي اللقاء، وغادر الوفد وزارة الدفاع والكل يضرب أخماساً بأسداس، كما يقول المثل، ويسأل بعضه بعضا: هل ستقع الواقعة؟ بل متى ستقع بالتأكيد؟ وكيف ستكون النتائج؟
عاد الوفد إلى الموصل والقلق بادٍ على وجوه الجميع، فقد كان الجو مكفهراً وينذر بالخطر. وفي تلك الظروف البالغة الخطورة، قرر الحزب الشيوعي، وحركة أنصار السلام التي يساهم فيها الحزب بنشاط كبير تحدي المتآمرين، وتوجيه تحذير إليهم بأن مدينة الموصل سوف لن تكون مسرحاً لاغتيال الثورة ومنجزاتها، وأن الشعب العراقي سوف يقف بالمرصاد لأي تحرك، معلناً عن تنظيم مهرجان لأنصار السلام في الموصل في أوائل آذار 1959.

استعدت القوى الديمقراطية، والشيوعية والبارتية لذلك اليوم الموعود، وتقاطرت الوفود من أنحاء القطر للمشاركة في ذلك المهرجان، وكانت التظاهرة من الضخامة وحسن التنظيم ما أقلق قوى الظلام، وأثار غضبها، فنصبت الكمائن لتصب جام غضبها على المسيرة، وأمطرتها بوابل من الحجارة وحتى بالرصاص فجرح من جرح، وأدى ذلك إلى وقوع صدامات عنيفة مع المهاجمين.

أكفهر الجو، ونزلت قوات كبيرة من الجيش والشرطة لإيقاف الصدام، وانتهى ذلك اليوم، وعادت الوفود إلى مدنها، وخيم الوجوم على الموصل وأبنائها، وتصاعد القلق كثيراً، فقد بدا واضحاً أن الوضع قد ينفجر في أية لحظة، وبالفعل لم يكد يمضِ سوى يومين حتى نفذ المتآمرون فعلتهم، بادئين ليلة 7/8آذار باعتقال معظم القادة، والنشطاء في الأحزاب، والمنظمات الديمقراطية، وبوجه خاص منتسبي الحزب الشيوعي، وقد جرى الاعتقال بأسلوب الاحتيال، حيث طلب الشواف اللقاء معهم في مقره للتداول حول الأوضاع السياسية المتدهورة وسبل معالجتها، ولبى من لبى ذلك النداء ووقع في الفخ الذي نصبه الشواف لهم، واختفى من أختفي مشككاً بأهداف الاجتماع، وكان ما كان، فقد جرى أُخذَ الجميع بالشاحنات العسكرية معتقلين، وأودعوا الثكنة الحجرية.
تنفيذ الانقلاب: وفي الصباح كان المتآمرون قد أعدوا إذاعة منصوبة في شاحنة طويلة تحمل صندوقا كبيراً[ كونتينر]كانت قد وصلتهم من الجمهورية العربية المتحدة عبر الحدود السورية، وبادروا إلى إعلان بيانهم الأول معلنين قيام الانقلاب، ومطالبين عبد الكريم قاسم بالاستقالة، وفيما يلي نص البيان الذي أذيع في تمام الساعة السادسة والنصف من صبيحة ذلك اليوم 8 آذار 1959.

نص بيان العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابي :
أيها المواطنون: عندما أعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة في صبيحة 14 تموز الخالد، عندها حطم الاستعمار وعملائه، وقضى على النظام الملكي، وأقام بمؤازرتكم وتأييدكم النظام الجمهوري الخالد، عندما فعل جيشكم ذلك كله لم يدر بخلده ولا بخلدكم، أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد، وتزول طبقة استغلالية بشعة، ليحل محلها فئة غوغائية تعيث بالبلاد والنظام و القانون فساداً، ويُستبدل مسؤولون وطنيون بآخرين يعتنقون مذهباً سياسياً لا يمت لهذه البلاد العربية الإسلامية العراقية بمصلحة. أجل لم يدر بخلد جيشكم الباسل ولا بخلدكم أنتم أيها المواطنون الاُباة، وقد انصرم على قيام ثورتكم الخالدة ثمانية أشهر، ولم تكن بلادكم الوفيرة الخيرات إلا مسرحاً للفوضى، والبطالة، فيتحطم اقتصادها الوطني، وتتعطل مشاريعها العمرانية، وتنتزع الثقة من النفوس، ويختفي النقد من الأسواق، وتعيث بالبلاد مقابل ذلك فئة ضالة باغية لا دين لها ولا ضمير، تخلق لها صنماً به لوثة في عقله وتعبده، ولا تخشى الله، وتنادي به رباً للعالمين، وتُسخر موارد الدولة لتخلق منه زعيماً أوحداً، ومنقذاً أعظم.
هذا الزعيم الذي خان ثورة 14 تموز، وعاث بمبادئها وأهدافها، ونكث بالعهد، وغدر بإخوانه الضباط الأحرار، ونكل بهم، وأبعد أعضاء مجلس الثورة الأشاوس، ليحل محلهم زمرة انتهازية رعناء، وقادته شهواته العارمة إلى تصدر الزعامة، وأعتمد على فئة تدين بعقيدة سياسية معينة لا تملك من رصيد التأييد الشعبي غير التضليل، والهتافات الغوغائية، والمظاهرات، وغير الزبد الذي يذهب جفاء، وركب رأسه، وأعلنها دكتاتورية غوغائية، فنحى زعماء الثورة عن المسؤولية، وأطلق للإذاعة والصحف عنان الفوضى، تخاصم جميع الدول، وشنها حرباً عدوانية على الجمهورية العربية المتحدة التي جازفت بكيانها من أجل نجاح الثورة، ودعم كيانها وكيان الجمهورية، وأستهتر بدستور جمهوريتنا المؤقت، وسلب مجلس السيادة المؤقت كل مسؤولياته الدستورية، وأحتكرها لنفسه، وأعلنها حرباً شعواء على الجهات الوطنية، والعناصر القومية المخلصة فزج في المعتقلات آلافاً من المواطنين الأبرياء بما لم يسبق له مثيل حتى مع الطاغية نوري السعيد ولا المجرم عبد الإله، ولم يجرأ على فعلته الإجرامية أحد، وأنحرف منفذاً أوامر الجهات الغوغائية عن أغلى وأثمن ما يعتز به العراقيون عرباً وأكراداً، ألا وهو السير بسفينة البلاد إلى التضامن مع سائر البلاد العربية المتحررة، وأعلنها حرباً شعواء على الأمة العربية لدرجة أن صار الهتاف بسقوط القومية العربية شعاراً له ولزمرته الباغية الفاجرة، وسلك في سياسته الخارجية مسلكاً وعراً، فلم يتقيد بمبادئ الثورة التي ترى من سياسة الحياد الإيجابي شعاراً لا يمكن الانحراف عنه.
لهذه الأسباب كلها، أيها المواطنون الأباة في شتى أنحاء جمهوريتنا الخالدة، عزمنا باسم العلي القدير، بعد اتفاقنا مع أخينا الزعيم الركن {ناظم الطبقجلي} قائد الفرقة الثانية، ومع كافة الضباط الأحرار في جيشكم الباسل، وبعد مشاوراتنا مع سائر العناصر السياسية المخلصة عزمنا في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ جمهوريتنا على تحرير وطننا الحبيب من الاستعباد والاستبداد، وتخليصه من الفوضى، معلنين لكافة المواطنين عرباً وأكراداً وسائر القوميات العراقية الأخرى التي يتألف من مجموعها شعبنا العراقي الأبي الكريم إننا المحافظون على العهد متمسكون بأهداف ثورة 14 تموز الخالدة، مراعون مبادئ دستور جمهوريتنا الفتية نصاً وروحاً، عاملون على حسن تنفيذ وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وتطبيق سياسة اقتصادية اشتراكية ديمقراطية تعاونية، ونطالب بحزم وإصرار تنحي الطاغية المجنون وزمرته الانتهازية الرعناء عن الحكم فوراً، والقضاء على السياسة الغوغائية التي أخذت تمارسها فئة ضالة من شعبنا لكي يسود النظام وحكم القانون في أرجاء وطننا الحبيب، ونعلن في هذه اللحظة التاريخية للعالم أجمع أن سياستنا الخارجية منبثقة من مصالح شعبنا وأمتنا، وإننا إذ نتبنى سياسة الحياد الإيجابي الدقيق إزاء الدول الأخرى، نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا، نعلن باسم الشعب العراقي أننا سنحافظ على التزاماتنا الدولية بوصفنا عضواً في الأمم المتحدة، ونعتز بصداقة البلاد التي أدت لنا ولأمتنا العربية أجل العون في محنتها الماضية، ومن تلك البلاد الاتحاد السوفيتي وسائر البلدان الاشتراكية، والى جانب هذا نعلن بإصرار تمسكنا باتفاقاتنا النفطية مع الشركات الأجنبية مراعين في ذلك مصالح اقتصادنا، وحقوقنا الشرعية، وسنضمن بحزم سير أعمال الشركات النفطية بكل حرية. ويسرنا أن نفتح صفحة جديدة من الصداقة القائمة على أساس الند للند مع كل دولة، ونود أن نوضح بجلاء أن أي تدخل خارجي في شؤوننا الداخلية من أي دولة كانت في هذه الفترة التي تسبق قيام مجلس السيادة بمسئوليته الدستورية ليؤلف وزارة شرعية في العاصمة بغداد، بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة، فأن هذا التدخل يعتبر ماساً باستقلال وسيادة جمهوريتنا، ويؤدي ذلك إلى أوخم العواقب.
أيها المواطنون: إننا، إلى أن يستجيب عبد الكريم قاسم فينصاع للحق، ويتنحى عن الحكم فوراً، والى أن يمارس مجلس السيادة سلطاته، ليؤلف وزارة بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة، قد أخذنا على عاتقنا بعد الاتكال على الله ، مسؤولية إدارة البلاد، طالبين من إخواننا المواطنين الكرام شد أزرنا وعوننا بالإخلاد إلى الهدوء والسكينة، دون أن يلزمونا إلى اتخاذ تدابير من شأنها الأضرار بالممتلكات، أو إلى سفك الدماء، وليكن كافة أبناء الشعب مطمئنين إلى إننا سنكون عند حسن ظنهم بتولي المطالبة بتحقيق أمانيهم، ونحذر في الوقت ذاته العناصر الهدامة من أننا سنأخذهم بالشدة إن عرضوا حياة المواطنين وحياة الأجانب وممتلكاتهم للخطر، وليعلم الجميع أن حركتنا الوطنية تستوي عندها جميع الفئات والهيئات، وأنها تحفظ لهم حقوقهم في الحرية إن لم يتجاوزا حدود القانون المرسوم، والله ولي التوفيق
                                                          العقيد الركن عبد الوهاب الشواف
                                                                    قائد الثورة 8 آذار 1959
نظرة فاحصة في بيان الشواف :
بنظرة فاحصة لبيان العقيد الشواف، يتبين لنا أن الشواف لم يكن سوى رجل متعطش للسلطة والتزعم، فلقد تجاوز قائده ورفيقه الزعيم {ناظم الطبقجلي} قائد الفرقة الثاني التي كان اللواء الذي يقوده العقيد الشواف تابعاً له، متخذاً له صفة قائد الثورة، مما دفع الزعيم الركن الطبقجلي إلى عدم التحرك والمشاركة في الانقلاب، على الرغم مما ورد في البيان حول الاتفاق معه لتنفيذ الانقلاب.

كما أن الحركة كانت قد اعتمدت على الدعم الخارجي من قبل الجمهورية العربية المتحدة، فقد أرسلت للانقلابيين محطة إذاعة متنقلة، منصوبة فوق شاحنة كبيرة، مع كمية كبيرة من الأسلحة بالإضافة إلى الدعم الإعلامي الكبير عبر محطتي إذاعة دمشق، وصوت العرب من القاهرة، وكان من المنتظر تقديم الدعم الميداني للحركة لو قدر لها الصمود فترة 48 ساعة، ولكن سرعة قمع الحركة حال دون ذلك.
حاول العقيد الشواف مغازلة شركات النفط، وكسب ودها من أجل دعم انقلابه، مطمئناً إياها بأنه سيلتزم بحزم بالاتفاقيات المعقودة مع الشركات، ويضمن مصالحها!.
لم يكن العقيد الشواف صادقاً بمواصلة تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وهو الذي لف حوله العناصر الرجعية والإقطاعية، والتي كان على رأسها شيخ مشايخ شمر{احمد عجيل الياور} الإقطاعي الكبير، حيث جرى تسليح القبائل الموالية له وزجها في الحركة، كما ركز العقيد الشواف في بيانه على حملته الشعواء على الشيوعيين متهماً إياهم بنفس التهم التي كان{نوري السعيد} يستخدمها ضدهم، في العهد الملكي في محاولة لكسب ود الغرب ودعمهم لحركته.
واستخدم العقيد الشواف شتى النعوت والكلمات البذيئة بحق الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي تعبر عن الضحالة، وعدم النضوج، ونال استهجان غالبية الشعب العراقي، الذي يكن الولاء لقيادته.
لقد تبين أن حركة العقيد الشواف لم تكن سوى حركة لمجموعة من الضباط المغامرين التواقين إلى السلطة، ولا يستندون إلى أي قاعدة شعبية، ولا عسكرية، فقد وقف فوج الهندسة التابع للواء القائم بالحركة بكافة ضباطه وجنوده ضد الحركة الانقلابية منذُ اللحظة الأولى، وقاومه بقوة السلاح، أما الجنود وضباط الصف الذين كانوا بإمرة الانقلابيين، والذين انساقوا تحت وطأة الخوف من قادتهم، فسرعان ما انتفضوا على ضباطهم المتآمرين، وانضموا إلى جانب السلطة، ومقاومة الانقلاب.
وخلال المعارك التي دارت بين الانقلابيين والقوى المساندة للسلطة، سقط من بين الانقلابيين (47) فرداً، وذلك حسبما ورد في تقرير الطب العدلي، وأكده المقدم{يوسف كشمولة} أحد المشاركين في الحركة الانقلابية خلال الاحتفال الذي أقيم في ملعب الموصل إحياءاً لذكرى انقلاب الشواف، بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام وإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم .
كما أن المجلس العرفي العسكري الذي أقامه انقلابيوا 8 شباط، قد أكد العدد المذكور في حين أن الإنقلابيين قتلوا عشرات الجنود حيث كانوا قد نصبوا رشاشاتهم على منارة جامع باب الجديد.
في ذلك الحين كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة تذيع أخباراً مذهلة عما سمته بالمجازر التي وقعت في الموصل، وادعت أن عدد القتلى من البعثيين والقوميين قد جاوز ( 20)ألفاً، في محاولة منها لإثارة القوى القومية والبعثية للانتفاض على حكومة الثورة وإسقاطها.
لقد سُخرت هذه الإذاعة في تلك الأيام للهجوم على حكومة الثورة، وعلى القوى الديمقراطية والشيوعية، مستخدمة أبذأ الكلمات والعبارات التي لا تليق بدولة كان لها من الاحترام والحب لدى الشعب العراقي إبان العهد الملكي ما يفوق الوصف، وخاصة عندما خاضت مصر بقيادة عبد الناصر معركة السويس عام 1956ضد العدوان الثلاثي البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، ويتلهف لسماع إذاعة{صوت العرب}.
لقد تكشف للأمة العربية وللعالم أجمع زيف وكذب تلك الإذاعة عما كانت تبثه من أخبار المجازر المزعومة في الموصل، وأساليب التحريض الرخيصة ضد ثورة 14 تموز وقيادتها، ليس حباً بالعراق وشعبه، ولا حرصاً على مصالحه، وإنما حباً في السيطرة على العراق، وضمه قسراً للجمهورية العربية المتحدة، دون أخذ رأي الشعب العراقي في مثل هذا الأمر الخطير الذي يتعلق بمصيره ومستقبله.
كان من المؤسف أن ينبري الرئيس عبد الناصر في خطاباته آنذاك، يومي 11 و13 آذار لمهاجمة عبد الكريم قاسم، واصفاً إياه بالشعوبي تارة، وقاسم العراق تارة أخرى، ومركزاً حملته على الشيوعيين، متهماً إياهم بالعمالة لموسكو، وبخيانة الأمة العربية، كما صورت أجهزة إعلامه الأحداث التي جرت خلال وبعد القضاء على تمرد الشواف بأنها أحداث رهيبة.
لقد كان ذلك الموقف من عبد الناصر من الأخطاء الكبرى في سياسته تجاه العراق وثورته فقد كان الأحرى بالرئيس عبد الناصر أن يمد يده لعبد الكريم قاسم من أجل دعم ونهوض حركة التحرر العربي، ومكافحة النفوذ الإمبريالي في أنحاء العالم العربي، والعمل على إيجاد أحسن الوسائل والسبل للتعاون، والتضامن مع العراق، واتخاذ الكثير من الخطوات التي تعزز التعاون والتكامل في مختلف المجالات
الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والثقافية وغيرها من المجالات الأخرى، وصولاً إلى إقامة أفضل أشكال الارتباط بين البلدين حين تتوفر الشروط الموضوعية والضرورية لنجاحها وديمومتها. إن الوحدة العربية هي فعلاً أمل كل الملايين من أبناء شعبنا العربي، لكنها ينبغي أن تقام على أسس صحيحة ومتينة، وبأسلوب ديمقراطي بعيداً عن الضم وأساليب العنف.
فشل تمرد الشواف:
لم تصمد حركة العقيد الشواف الانقلابية سوى أقل من 48 ساعة، فقد كان رد الفعل لحكومة الثورة، والحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب البارت الكردي، وسائر الجماهير الشعبية المساندة للثورة سريعاً وحازماً، حيث جرى التصدي للانقلابيين، وقام فوج الهندسة التابع للواء المنفذ للانقلاب بالإضافة إلى جانب كبير من الجنود وضباط الصف، وآلاف المسلحين العرب والأكراد، والذين نزلوا إلى الشوارع للتصدي للانقلابيين، وإفشال خططهم للإطاحة بالثورة وحكومتها، وقامت طائرات من سلاح الجو العراقي بقصف مقر قيادة الشواف الذي أصيب بجروح خلال القصف، ونقل إلى المستشفى الميداني في معسكر الغزلاني، حيث قتل هناك على يد النائب ضابط المضمد يونس، وبمقتله تلاشت مقاومة الانقلابيين، وهكذا فشل تمرد الشواف، وتمت السيطرة على المدينة خلال أقل من 48 ساعة، وتم اعتقال عدد من الضباط المتآمرين، فيما هرب البعض الآخر إلى سوريا، وذهب ضحية ذلك الانقلاب حوالي (135) فرداً من الجنود والضباط، الوطنيون الذين ساهموا في قمع الانقلاب.
الأحداث التي رافقت قمع المحاولة الانقلابية:
لا أحد يستطيع أن ينكر وقوع أحداث وتصرفات وأخطاء ما كان لها أن تحدث قامت بها عناصر معينة، أساءت إساءة كبرى للحزب الشيوعي، فقد جرى قتل وسحل عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية، وجرى نهب وحرق بيوتهم من قبل عناصر غوغائية لاصلة لها بالحزب الذي كان عاجزاً عن إعادة الأمن والسلام في المدينة حتى دخول قوات عسكرية بقيادة العقيد حسن عبود، وهي أعمال مرفوضة في كل الأحوال، و بعيد كل البعد عن الروح الإنسانية، ولا تتفق والمبادئ الشيوعية.
ولا بد ان أشير إلى منظمة الحزب في الموصل خطأً جسيماً عندما نصّبَ عدد من كوادر الحزب أنفسهم حكاما وقاموا بمحاكمة عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية وحكموا على (17) منهم بالإعدام، وجرى تنفيذ الحكم في منطقة الدملماجة في ضواحي الموصل، وهذا أمرٌ لا يمكن قبوله إطلاقاً.
لقد كان الأجدى بأولئك القادة اعتقال هؤلاء الأشخاص وتسليمهم للسلطة الشرعية لتحيلهم بدورها إلى المحاكم المختصة لمحاكمتهم، والحكم على من يثبت مشاركته في المحاولة الانقلابية، فليس من حق أحد أن يمارس السلطة القضائية ويصدر وينفذ الحكم من دون تخويل .
كما أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه، الذي جرى تحذيره كما ورد سابقاً، من حدوث ما لا يحمد عقباه، ولكنه صمّ أُذنيه عن سماع التحذير، ورفض اتخاذ أي إجراء لمنع وقوع الكارثة، في حين كان بإمكانه أن يفعل ذلك.
والأنكى من كل ذلك فأن الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه اتخذ فيما بعد من تلك الأحداث ذريعة ليصفي نفوذ الحزب الشيوعي في العراق، موجهاً الاتهامات لهم، ولاصقاً بهم الجرائم، بعد أن كان قد أستقبل وفداً من قيادة الموصل للحزب، بعد قمع انقلاب الشواف وخاطبهم قائلا بالحرف الواحد :{ بارك الله فيكم، وكثّر الله من أمثالكم من المخلصين لهذا البلد}.
عبد الكريم قاسم يستغل أحداث الموصل لضرب الحزب الشيوعي:
لم يمضِ سوى بضعة أشهر على ذلك اللقاء حتى بادر قاسم إلى اعتقال كافة الشيوعيين النشطين، وأودعهم سجن بغداد، ثم أحالهم الى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم أحكاماً قاسية وصلت حتى الإعدام، وأبقاهم رهائن في السجن لكي يأتي انقلابيوا 8 شباط 1963،وينفذون فيهم حملة إعدامات بشعة، ويعلقون جثثهم على أعمدة الكهرباء، في شوارع الموصل بعد أن مارسوا أشنع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم .
لقد كان موقف الزعيم قاسم الجديد، خير مشجع لنشاط الزمر الرجعية، والعناصر التي شاركت في محاولة الشواف الانقلابية، والتي تكّن أشد العداء له، ولثورة الرابع عشر من تموز، ولم يدرك قاسم أن عمله هذا إنما يعني انتحاره هو، ونحر الشعب العراقي، ونحر الثورة كذلك.
لقد اتخذت تلك القوى من موقفه الجديد ذريعة لهم لشن حملة واسعة من الاغتيالات استمرت أكثر من ثلاث سنوات، وذهب ضحيتها مئات الوطنيين الأبرياء، وسوف أعود إلى هذا الموضوع في الحلقة القادمة.
وللحقيقة والتاريخ أقول أن الحزب الشيوعي لم يكن يستحق من قاسم هذا الجزاء رغم كل ممارساته الخاطئة، فقد كان الحزب وفياً لقيادته، سانده وحماه وحمى الثورة في أشد الأيام صعوبة وخطورة، ولم يفكر يوماً في خيانته، أو محاولة سلب السلطة منه آنذاك، في حين أن فرصاً كثيرة كانت لدى الحزب للسيطرة على الحكم بكل سهولة ويسر لو أراد ذلك.
لقد كانت مواقف قاسم تلك من الحزب الشيوعي أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اغتيال الثورة، وأغتياله هو بالذات. لقد جرد نفسه من كل سند يحميه، وأخذ منه الغرور مكانه، معتقداً أن تلك القوى المعادية لمسيرة الثورة ستعود إلى رشدها، وتغير موقفها من السلطة، لكن الواقع كان يشير إلى تنامي الخطر الرجعي والنشاط التآمري على المستويين المحلي والدولي، من أجل إسقاط الثورة، وهذا ما تم فعلاً على يد تلك الزمرة الانقلابية يوم 8 شباط 1963 ،ويذكرني هنا قول الشهيد{جلال الاوقاتي} قائد القوة الجوية آنذاك، حيث قال:
{إن الزعيم عبد الكريم قاسم، سوف يدمر نفسه، ويدمر الشعب معه}.
لقد حكم الإمبرياليون بالموت على الزعيم عبد الكريم قاسم منذُ اللحظة التي قاد فيها ثورة 14 تموز ضد النظام الملكي المرتبط بهم، وقد حاولوا اغتيال الثورة في أيامها الأولى، بالتدخل العسكري المباشر، عندما نزلت القوات البريطانية في الأردن، و الأمريكية في لبنان، وعندما حشدت تركيا قواتها على طول الحدود العراقية، لكن موقف الاتحاد السوفيتي الداعم للثورة، وتهديدهم للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق حال دون ذلك، وأضطر الإمبرياليون إلى تغير خططهم في إسقاط الثورة.

وعندما أقدم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، واستطاع انتزاع 99،5 %من المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة، بلغ استفزاز الثورة لهم أقصى درجاته، وجعلهم يركزون جهودهم بشكل محموم لإسقاط الثورة.
لكن قاسم لم يتعظ بدروس التاريخ، ووقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه مصدق، وانتهى إلى الموت صبيحة التاسع من شباط 1963، وحلت الكارثة الكبرى بالشعب العراقي حيث جرّت تلك الأحداث المآسي، والويلات على شعبنا منذُ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا.

انتهت الحلقة الأولى، وتليها الحلقة الثانية






























34

كيف ننهض بمستوى المعلم
2/3
حامد الحمداني                                                                 3/1/2019
إن النهوض بمستوى المعلم منوط بلا شك بوزارة التربية والتعليم، حيث بإمكانها الارتفاع بمستوى ثقافة المعلم وتجدده وتطوره وذلك عن طريق السبل التالية:
1ـ فتح دورات تربوية وتثقيفية للمعلمين كل سنة، لتنمية وتجديد معلوماتهم في كافة مجالات الحياة المختلفة، بشكل تجعل المعلمين يندفعون إلى الدخول بهذه الدورات عن رغبة وارتياح، وذلك بمنح المعلمين أجوراً إضافية لساعات الدراسة، ومنح المعلمين المتفوقين امتيازات خاصة كالترفيع، ومنح القدم، وتدرج المركز الوظيفي.
ومن المستحسن جداً الأخذ بنظام المعلم الأول، حيث تكون مهمة المعلم الأول للمادة في المدرسة بالإضافة إلى التعليم، القيام بالأشراف التربوي والتعليمي على عمل معلمي نفس المادة والطلاب معاً، وبهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفوس المعلمين الرغبة في الانخراط في هذه الدورات، والنجاح فيها وفي التنافس فيما بينهم في مجال عملهم الوظيفي.
ولا شك أن عنصر الرغبة هام جداً في تحقيق ما تهدف إليه هذه الدورات، وبدونها لا يمكن أن نحقق التجدد والتطوير المنشود لمعلمينا وبالتالي تصبح هذه الدورات مضيعة للوقت والجهد والمال.
2ـ مساعدة وتشجيع المعلمين في الدخول إلى الكليات المسائية، والعمل على إيجاد وتشجيع الدراسة بالمراسلة في هذه الكليات، ولا شك أن ألوفاً من المعلمين سوف يندفعون للدراسة والتتبع بسرور واشتياق، وخصوصاً العاملين منهم في القرى والأرياف، حيث الفراغ الهائل الذي يعانون منه هناك.
ولابد وأن أشير هنا إلى نقطة هامة وهي محاولة الكثير من المعلمين الحاصلين على الشهادات العالية الانتقال من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي، وأن هذا العمل يسبب ضرراً بالغاً لقضية التربية في المدارس الابتدائية بسبب فقدان العناصر الكفوءة والنشطة في ملاك التعليم الابتدائي، وبالتالي تأخره وانحطاط مستواه.
أن بقاء المعلم الحاصل على الشهادة العالية أمر ضروري كي يساهم في رفع مستواه وتطويره بشرط أن ينال حقوقه كاملة أسوة بزملائه مدرسي المدارس الثانوية.
3ـ ضرورة قيام وزارة التربية وجهاز الأشراف التربوي بإعداد الندوات التربوية للمعلمين، وجعلهم يقفون على آخر التطورات الاجتماعية والتربوية في مختلف بلدان العالم من جهة، والوقوف على نماذج من الأساليب التربوية والخبرات والتجارب التي حصل عليها المعلمون خلال عملهم، وعلى نماذج للمشاكل التي يصادفونها في المدرسة وطرق وأساليب علاجها.
4ـ ضرورة تعميم مديريات التربية على كافة المدارس بأن تعقد كافة المدارس ندوات شهرية يساهم فيها المعلمون والآباء والأمهات، وتطرح خلالها القضايا التربوية التي تجابههم سواء كان ذلك في البيت أو المدرسة، وطرق علاجها، على أن تكون هذه الندوات المدرسية إجبارية، وعلى أن تقدم كل مدرسة خلاصة البحوث والمناقشات والنتائج التي خلص إليها المجتمعون والمجتمعات في هذه الندوات، وإرسالها إلى مديريات التربية، وعلى مديريات التربية إعداد جهاز خاص ذي قدرة وقابلية على دراسة تلك المحاضر وتنسيقها، بغية الوقوف على كافة الجوانب السلبية والإيجابية في أوضاع مدارسنا وطلابنا وطالباتنا، من أجل معالجة علمية لجوانبها السلبية، وتعميق وتعميم جوانبها الإيجابية، وبذلك تساهم مساهمة فعالة ليس فقط في رفع مستوى المعلم والمعلمة فحسب، بل وفي رفع مستوى الآباء والأمهات أيضاً.
5ـ ضرورة خلق الروابط والاتصالات وتبادل الخبرات بين المعلمين في مختلف بلدان العالم بغية الوقوف على أحدث الأساليب التربوية والتعليمية التي تنتهجها وكيف تعالج هذه البلدان مشاكل المعلمين والطلاب في آن واحد.
وبالإضافة إلى ذلك فإن السفرات التي يقوم بها المعلمون على شكل وفود توسع من معلوماتهم وخبرتهم، وتزيد من فهمهم لأحوال المجتمعات البشرية، وطريقة معيشتهم.
كما إن نقابة المعلمين تستطيع أن تلعب دوراً بارزاً وفعالاً في هذا الخصوص، وذلك عن طريق الاتصال بنقابات المعلمين في نختلف البلدان لتسهيل هذه المهمة.
6ـ إن من الضروري أن تصدر نقابة المعلمين صحيفة أسبوعية على الأقل، واقترح أن تكون باسم [المربي] حيث أن الصحف تقوم بدور هام جداً في حياة المجتمع، فهي تعكس المشاكل وتطرح الحلول لها، وتناقش مختلف الآراء وبإمكان صحيفة [المربي] أداء الأمرين الهامين التاليين:
أـ عكس المشاكل التربوية التي تجابه البيت والمدرسة، ومناقشتها، ووضع الحلول الصائبة لها.
ب ـ عكس مختلف الأساليب التربوية في دول العالم المختلفة كي يمكن للمعلم الوقوف عليها والاستفادة منها.
وبالإضافة إلى صحيفة المربي فإن على نقابة المعلمين أن تصدر مجلة تربوية شهرية يساهم فيها كبار رجال الفكر والتربية لتقديم البحوث التي تساهم في رفع مستوى المعلم وتقدم .
7ـ إن تحديد عدد الساعات التي يقوم بتدريسها المعلم من جهة، وتحديد عدد طلاب كل صف من جهة أخرى أمران هامان يؤثران تأثيراً بالغاً على إمكانياته وكفاءته ورفع مستواه.
أن حشر العدد الكبير من الطلاب والطالبات في صف واحد وإرهاق المعلم أو المعلمة بالحصص سيقلل حتماً من نشاطهما وحيويتهما من جهة، ولا يتيح لهما فرصة العمل المثمر، والتتبع والدراسة وتطوير قدراتهما، وقابليتهما من جهة أخرى.
لقد أدركت الدول المتقدمة أهمية هذه النقطة فسعت إلى تقليص عدد طلاب الصف إلى أدنى حد ممكن، وكذلك قلصت عدد الحصص الأسبوعية لكل معلم، ليتمكن من أداء واجبه على الوجه الأكمل.
غير أن الحال في مختلف الدول النامية ودول العالم الثالث مختلف تماماً، فالمعلم والمعلمة مرهقان جداً، والصفوف لا نكاد نجد مكاناً للمرور فيها حيث حُشرت فيها أعداد كبيرة من الطلاب والطالبات، بحيث أصبح من العسير على المعلم والمعلمة التفرغ لهم، وحتى معرفة أسمائهم وحفظها، كما أصبح من العسير عليهم إعطاء الواجبات البيتية وتصحيحها على الوجه الأكمل، وأصبح من العسير أيضاً دراسة مشاكل الطلبة وحلها بشكل تربوي سليم، فكيف يستطيع المعلمون والمعلمات أداء واجباتهما على الوجه الأكمل إذا كان الصف الواحد قد حُشر فيه أكثر من خمسين طالب وطالبة، ولا أغالي إذا قلت أن بعض المدارس يزيد عدد طلابها على ثمانين طالباً ؟
إن 20 إلى 24 طالباً وطالبة في كل الصف من جهة، و18 إلى 20 حصة للمعلم والمعلمة من جهة أخرى كفيلان برفع مستوى المعلم والتعليم والتربية على حد سواء.
8 ـ هناك مسألة هامة جداً تلعب دوراً خطيراً في حياة المعلم وتحدد مدى فاعليته وإخلاصه، واندفاعه في أداء واجباته، إنها مسألة تأمين الحياة السعيدة له، وذلك بتأمين حاجاته المادية، وخصوصاً لمعلمي القرى والأرياف.
إن واقع المعلم يكشف لنا عن مدى الضنك، وعدم الكفاية الذي يعاني منه، وإن الواجب يقتضي إعطاء مسألة تأمين الحاجات المادية للمعلم الأهمية المطلوبة وإعطائها الجدية والاهتمام اللازمين، بغية رفع إمكانيات المعلم وجهاديته، وتفرغه لعمله، ومن بين ذلك منحه المخصصات المهنية الإضافية أسوة بغيره من الأطباء والمهندسين والفنيين وغيرهم، في حين أن هؤلاء يمارسون عملهم في عياداتهم ومكاتبهم بعد الدوام والذي يدرّ عليهم دخلاً وفيراً!
أليست عملية التربية والتعليم مهنة تستحق هذه المخصصات؟
أليست هذه المهنة اشق المهن وأصعبها؟
فلماذا نبخل على المعلم بمثل هذه الامتيازات التي يستحقها بكل جدارة شأنه شأن الآخرين؟
إن عمل المعلم لا ينتهي بانتهاء الدوام المدرسي، كبقية الوظائف، بل على العكس يستمر عمله في البيت أيضاً، حيث يقوم بتصحيح الواجبات البيتية للتلاميذ، ويحضر الدروس لليوم التالي، علاوة على الجهود التي يبذلها في النشاطات اللاصفية لطلابه، والتي تأخذ من وقته الشيء الكثير.
أليس من حق المعلم بعد هذا أن يمنح ليس فقط المخصصات المهنية، بل أن تكون له امتيازات أخرى من شأنها أن تدفعه للعمل بجد ونشاط، وتخفف من شعوره بأنه خلق معلماً وسيبقى كذلك. إن بإمكان الدولة أن تعمل الكثير من أجل إرضاء طموح المعلم منها:
أ ـ منح المعلمين المخصصات المهنية.
ب ـ تأمين المساكن الصحية المريحة للمعلمين وخاصة في القرى والأرياف.
ج ـ منح المعلمين تخفيضات في وسائل النقل وغيرها.
إن هذه الامتيازات من شأنها أن تستثير في المعلم روح العمل والمثابرة فيؤدي واجباته بسرور وانشراح.
9ـ إن جهاز التعليم يضم في صفوفه عناصر غير جديرة بأي حال من الأحوال للقيام بهذا الواجب المقدس، بل على العكس من ذلك فإن وجودهم وبقائهم فيه خطر كبير على عملية التربية والتعليم، ولأجل معالجة هذه الأمور الحساسة ينبغي لوزارة التربية القيام بما يلي:
أ ـ تطهير جهاز التعليم من كافة العناصر الخاملة والكسولة والتي يثبت فشلها، ونقلهم إلى وظائف أخرى.
ب ـ هناك عناصر لا يشجع سلوكها وأخلاقها على البقاء في سلك التعليم، وينبغي التخلص منها إن سلك التعليم ينبغي ألا يفتح أبوابه إلا لمن اتصف بأسمى المثل الإنسانية، والأخلاق الفاضلة، لأن التلاميذ يقلدون معلميهم في أعمالهم وسلوكهم وتصرفاتهم، وكما أسلفنا فإن عملية التربية ما هي إلا عملية تفاعل بين المعلمين والتلاميذ، وما العادات والأخلاق، والتصرفات التي تظهر لدى التلاميذ إلا انعكاساً لعادات وتصرفات وأخلاق مربيهم سواء كان ذلك في البيت أم المدرسة.
ج ـ هناك العديد من المعلمين الذين بلغوا من العمر حداً جعل طاقاتهم للعمل محدودة، وبالتالي عجزوا عن القيام بواجباتهم التربوية بالشكل الذي يؤمن الفائدة المرجوة، لذلك فإن من الأفضل إحالتهم على التقاعد دون إبطاء، مع تكريمهم بالشكل الذي يستحقونه، جزاء ما قدموه من خدمات لأبناء شعبهم ووطنهم، وليحل مكانهم العناصر الشابة الكفوءة كي يستطيعوا حمل الرسالة بجد ونشاط.

35
المعلم ودوره في تربية وإعداد أجيالنا
1/3
حامد الحمداني                                     3/1/2019
أولاً: الصفات التي ينبغي توفرها في المعلم:
أن المهمة الملقاة على عاتق المعلم هي بكل تأكيد شاقة وجسيمة، فهي تهدف إلى إعداد الأجيال المتلاحقة، جيلاً بعد جيل، اجتماعياً وأخلاقياً وعاطفياً، والعمل على تهيئة كل الوسائل والسبل التي تمكنهم من تنمية أفكارهم وشخصياتهم بصورة تؤهلهم للوصول إلى الحقائق بذاتهم، وبذلك يكونون عناصر فعالة ومحركة في المجتمع.
إنها تهدف إلى إذكاء أنبل الصفات والمثل الإنسانية العليا في نفسية الجيل الصاعد وجعلهم يدركون حاجات المجتمع، ويتفاعلون معه، من أجل تحقيق تلك الحاجات، وبالتالي تطوير المجتمع، ورقيه وسعادته.
أن المعلم يستطيع بكل تأكيد أن يؤثر إلى حد بعيد بتلاميذه، وإن هذا التأثير ونوعيته ومدى فائدته وفاعليته يتوقف بالطبع على إعداد المعلم، وثقافته وقابليته وأخلاقه، ومدى إيمانه بمهمة الرسالة التي يحملها، وإدراكه لعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فإن كل أعمال المعلم وسلوكه وأخلاقه وصفاته تنعكس تماماً على التلاميذ الذين يقوم بتربيتهم وتعليمهم. . وعلى هذا الأساس فإن عملية النهوض بمدارسنا ومجتمعنا تتطلب منا أن نحدد الصفات التي ينبغي توفرها في المعلم، والشروط الواجبة في اختياره، والتي يمكن تحديدها بالتالي:
1- ينبغي للمعلم أن يكون ذا مظهر جذاب، حيث أن المظهر، وشخصية المعلم وهندامه تؤثر جميعها تأثيراً فعالاً في نفسية التلاميذ، وتجعلهم يقتدون به ويتخذونه مثلاً أعلى بمظهرهم وهندامهم وشخصيتهم.
2 ـ ينبغي للمعلم أن يتصف بروح الفكاهة والمرح لكي يستطيع جذب انتباه التلاميذ نحوه، وجعل الدرس محبوباً إليهم حيث يندفعون إليه بشوق وسرور. إن نفسيته، وروحه المرحة ذات تأثير بالغ على نفوس التلاميذ، وعلى مدى نجاحه في أداء مهمته في آن واحد، ولو أجرينا استفتاءً لدى التلاميذ حول شعبية المعلمين، والدروس التي يحبونها أكثر من غيرها لتأكد لدينا بشكل قاطع أن المعلمين الذين يتمتعون بهذه الصفة هم على قدر كبير من الشعبية، وأن دروسهم هي على قدر كبير من الرغبة لدى التلاميذ.
3 ـ ينبغي للمعلم أن يكون حسن التصرف في تربية أبنائه التلاميذ، وحل مشاكلهم بروية وحكمة، فالمعلم يجابه خلال عمله كل يوم مشاكل لا حدّ لها أخلاقية وتربوية وتعليمية، وإن تذليل هذه المشاكل وحلها يتوقف على أسلوب المعلم وحكمته وحسن تصرفه.
ولابد أن أشير بهذا الخصوص إلى أن أساليب العنف ضد الأبناء التي تمارس من قبل الوالدين في البيت منذ الطفولة المبكرة نتيجة الجهل في أساليب التربية تسبب الضرر البليغ لشخصية الأطفال، وتخلق لديهم العديد من الصفات السيئة والخطيرة كالخوف والانكماش والخنوع وضعف الشخصية والتمرد على المجتمع.
4ـ إن الوعي الاجتماعي لدى المعلم أمر مهم جداً، ولا يمكن الاستغناء عنه لأي معلم ناجح، ذلك أننا كما أسلفنا أن عملية التربية والتعليم هي عملية تفاعل اجتماعي تتطلب دراسة وفهم المجتمع دراسة وافية، والتعرف على ما يعانيه مجتمعنا من مشاكل وعيوب، وكيف يمكن معالجتها وتذليلها.
إن كل معلم يعزل نفسه عن المجتمع ولا يشارك في فعالياته ومنظماته الاجتماعية لا يمكن أن يكون معلماً ناجحاً.
5 ـ أن على المعلم أن يكون محباً لتلاميذه متفهماً لحاجاتهم
وسلوكهم، والعوامل المحددة لهذا السلوك والتي تتحكم فيه واعني بها الدوافع الإنسانية[الغرائز] ذلك أن الغرائز تلعب دائماً دورا حاسماً في تحديد سلوك الفرد خيراً كان أم شراً، وهنا تبرز أهمية المعلم ودوره المؤثر في صقل تلك الغرائز وتوجيهها الوجهة الصائبة والخيرة، حيث أن الغرائز لا يمكن أن قهرها، بصقلها والسمو بها إذا ما عرفنا كيف نتعامل مع أبنائنا التلاميذ، ولا شك أن المعلم هو خير من يستطيع التعامل مع هذه الغرائز إذا ما أدرك حقيقتها ومدى تأثيرها في سلوك أبنائنا التلاميذ، وعلى العكس من ذلك نجد هذه الغرائز إذا تركت وشأنها فكثيراً ما توجه صاحبها نحو الوجهة الضارة الشريرة .
إن غريزة التنازع على البقاء على سبيل المثال كانت تعني في المجتمعات المتخلفة البقاء للقوي والموت للضعيف، غير أنه بفضل التطور والتقدم الحاصل للمجتمعات البشرية على مدى العصور، وبفضل ما توصل إليه العلم والعقل الإنساني يمكن أن تكون صراعاً ليس بين إنسان قوي وآخر ضعيف، أو أمة قوية وأخرى ضعيفة، بل بين المجتمع الإنساني ككل وبين الطبيعة، وتسخير هذا الصراع لتهيئة الوسائل والسبل للسمو بمستوى حياة الإنسان المادية والمعنوية، فكل تطور في ميادين العلوم والصناعة والزراعة وكافة مجالات الحياة الأخرى يهيئ ويوفر كل حاجات الإنسان ومتطلباته.
6 ـ ينبغي للمعلم أن يكون ميالاً للتجدد والتطور بشكل مستمر حيث أن الأساليب التربوية قد تطورت تطوراً كبيراً عما كانت عليه في الماضي، فلا يوجد شيء في الوجود بحالة ثابتة جامدة، بل إن كل شيء في حالة تغير وتطور مستمر، ولابد للمعلم لكي ينجح في عمله أن يطور نفسه، ويطور معلوماته، ويجددها باستمرار، عن طريق التتبع والمطالعة، والوقوف على أحدث النظريات التربوية، وتجارب الآخرين في مضمار العلم والثقافة، والوقوف على آخر التطورات الحاصلة في عالمنا في شتى شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
إنه من المؤسف أن نجد الكثير من المعلمين ينتهي من الدراسة والتتبع حال استلامه شهادة التخرج، فكأنما قد بلغ درجة الكمال، وكأنما العلم والمعرفة قد انتهيا عند هذا الحد حيث ينتهي به هذا الاعتقاد إلى التخلف والجمود.
لنسأل أنفسنا:
كم كتاباً يقرأ كل معلم خلال السنة؟
كم محاضرة تربوية ألقيت في كل مدرسة خلال السنة؟
كم دورة تربوية وثقافية نظمها الجهاز التربوي للمعلمين؟
وبالتالي كيف يمكن للمعلم أن يكون متجدداً ومتطوراً إذا لم يواكب التطورات الحاصلة في كافة المجالات التربوية والاجتماعية في شتى بقاع العالم كي ينهل منها، ويطور معارفه بما يخدم العملية التربوية.



36
المدرسة
من هنا تبدأ نهضة العراق
الحلقة الأولى
حامد الحمداني                                                           4/12/2018
                               
المدرسة كما هو معروف هي تلك البيئة الصناعية التي أوجدها التطور الاجتماعي لكي تكمل الدور الذي مارسته الأسرة في تربية وإعداد أبنائها، ومدهم بالخبرات اللازمة لدخولهم معترك الحياة فيما بعد ، فهي لذلك تعتبر الحلقة الوسطى والمهمة التي يمر بها الأطفال خلال مراحل نموهم ونضوجهم لكي يكونوا جاهزين للقيام بمسؤولياتهم في المجتمع مستعينين بما اكتسبوه من المهارات المختلفة والضرورية لتكيفهم السليم مع البيئة الاجتماعية الكبرى، ذلك لأن المدرسة ليس سوى مجتمع مصغر ومنزه، وخالي من جميع الشوائب التي تتعلق بالمجتمع الكبير لكي يتمرن فيها الأطفال على الحياة الفضلى، وعلى التعاون الاجتماعي، والإخلاص للجماعة وللوطن.
ولقد أصاب المفكر والمربي الكبير [جون ديوي] كبد الحقيقة عندما عرّف المدرسة بأنها [الحياة] أو أنها [النمو] أو أنها [التوجيه الاجتماعي] ورأى أن عملية التربية والتعليم ليست أعداد للمستقبل، بل إنها عملية الحياة نفسها، ودعا المربين إلى الاهتمام بثلاثة أمور هامة وضرورية لتربية النشء حددها بما يلي:
1 ـ تعاون البيت والمدرسة على التربية والتوجيه.
2ـ التوفيق بين أعمال الطفل الاجتماعية وأعمال المدرسة.
3ـ وجوب إحكام الرابطة بين المدرسة والأعمال الإنتاجية في البيئة.
ولقد أكد[ديوي] وجوب دراسة الطفل وميوله ورغباته، وضرورة جعلها أساساً في التعليم، كما أكد على التوجيه غير المباشر وغير الشخصي عن طريق الوسط الاجتماعي، وشدد على أهمية التفكير والتحليل، وفهم معنى الأشياء في حياة الطفل، وإتاحة الفرصة للأطفال لكي يجمعوا الحقائق ويرتبوها ويستنبطون منها النتائج ثم يمحصونها ويعرضونها على محك الاختبار حتى تنجلي وتظهر حقيقتها.
لقد قلب التطور الكبير لمفاهيم التربية والتعليم في عصرنا الحالي المفاهيم التي كانت سائدة فيما مضى رأساً على عقب، وبما يشبه الثورة في المفاهيم التربوية فبعد أن كانت المدرسة القديمة لا تهتم إلا بالدراسة النظرية وحشو أدمغة التلاميذ بما تتضمنه المناهج والكتب الدراسية لكي يؤدوا الامتحانات بها والتي لا تلبث أن تتبخر من ذاكرتهم، أصبحت التربية الحديثة ترتكز على وجوب اعتبار الطفل هو الذي تدور حول محوره نظم التعليم، وأصبح النظام في المدرسة يمثل الحياة الاجتماعية التي تتطلب المساهمة في الأعمال الاجتماعية، فالطفل لا يستطيع أن يكتسب عادات اجتماعية بغير الاشتغال في الأعمال الاجتماعية. والتربية في حقيقة الأمر هي عملية تكوين النزعات الأساسية الفكرية والعاطفية في الإنسان تلقاء الطبيعة، وتلقاء أخيه الإنسان.
ولقد صار لزاماً على المدرسة أن تشبع حاجة التلاميذ للأمن وتعطيهم الفرصة لإدراك وفهم أسرار العالم المادي، والعالم الاجتماعي، وتهيئة الفرصة لهم للتعبير الحر عن نزعاتهم المختلفة، التي تمكنهم من كسب المهارات العقلية، واللغوية والاجتماعية.
ولكي تؤدي المدرسة مهامها التربوية على وجه صحيح، كان لابد من ربطها بالمجتمع، وهو ما أخذت به المدرسة الحديثة، حيث أصبحت جزءً لا يتجزأ منه، لا تختلف عنه في شيء سوى كونها مجتمع مصغر، ومشذب، وخالي من الشوائب التي نجدها في المجتمع الكبير، وأصبح النظر إلى دور المدرسة في المجتمع هو النظر إلى الثقافة بمعناها الواسع، أي بآدابها وعلومها وفنونها وعاداتها وتقاليدها، بكافة نواحيها المادية والتكنيكية، وقد تطلّبَ ذلك إعادة بناء المدرسة بحيث تلعب دورين أساسيين في خدمة المجتمع الذي تنشأ فيه وهما:
1 ـ نقل التراث بعد تخليصه من الشوائب.
2 ـ إضافة ما ينبغي إضافته لكي يحافظ المجتمع على حياته أي بمعنى آخر تجديد المجتمع وتغييره وتطويره بشكل مستمر بما يحقق الخير والسعادة لبني الإنسان.
ولا بد لي أن أكد على سيادة مبدأ الديمقراطية في المدرسة، وفي الوسائل التربوية التي نعتمدها في الوصول إلى أهدافنا التربوية التي نسعى إليها ما دمنا نعتبر المدرسة هي الحياة وأنها صورة مصغرة من المجتمع.
كيف تستطيع المدرسة أداء مهامها:
لكي تستطيع المدرسة أداء مهامها التربوية على الوجه الأكمل يتطلب منها أن تراعي الأمور التالية:
1ـ ينبغي للمدرسة أن تكون المكان الذي يعيش فيه الأطفال عيشة حقيقية، ويكتسبون الخبرة الحياتية التي يجدون فيها ابتهاجاً ومعنى، وعليها أن تحول مركز الجاذبية فيها من المعلم والكتاب إلى الطفل وميوله وغرائزه وفعالياته بصورة مباشرة، فمهما يقال عما يدرسه الطفل من علوم وغيرها، فإن العملية التربوية الحقيقة لا يمكن أن تعطي ثمارها إذا لم يمارس التلميذ حياته فيها.
2 ـ ضرورة عدم تجاهل المدرسة لوضع الأطفال الفطري وميولهم، وأن تعمل على إشباع غرائزهم وصقلها بروح من المحبة والعطف والحنان لكي يحس الأطفال أنهم يعيشون الحياة حقاً داخل المدرسة، وأن أي أسلوب آخر في التعامل معهم، وخاصة أسلوب العقاب البدني، لا يؤدى إلا إلى عكس النتائج المرجوة.
3ـ ينبغي للمدرسة أن تسعى لأن يأتي الأطفال إليها بأجسامهم وعقولهم، ويغادرونها بعقل أغنى وأنضج، وجسم أصح، وهذا لا يتم بالطبع إلا إذا وجدوا في المدرسة ما يشبع ميولهم ورغباتهم، وتتاح لهم الفرصة لممارسة ما تعلموه من خبرات خارج المدرسة.
4ـ ينبغي للمدرسة أن تحول غرفة الصف إلى ورشة حقيقية يستطيع الأطفال من خلالها إشباع حاجاتهم وميولهم وتجعلهم جزء من المجتمع، ويتعلمون العيش المباشر، وتجهزهم بدافع حقيقي، وتعطيهم خبرة مباشرة، وتهيئ لهم الاتصال بالأمور الواقعية.
كما ينبغي تنظيم جلوس الأطفال داخل الصف بالشكل الذي يشعرهم أنهم يمارسون عملاً مشتركاً، ولا تقيدهم بالجلوس على الرحلات أو المقاعد الضيقة والمنعزلة التي تجعل الطفل يشعر بالملل والسأم ينتظر بفارغ الصبر نهاية الدرس والتحرر من مقعده الممل.
5ـ ينبغي إشراك أولياء أمور التلاميذ في إعداد الخطط التربوية، والاستعانة المستمرة بهم في معالجة وحل كل المشاكل التي تجابه أبنائهم، وأن تكون المدرسة على اتصال دائم بهم سواء عن طريق اللقاءات الشخصية، أو الاتصال الهاتفي أو عن طريق الرسائل، ذلك لآن الآباء والأمهات على معرفة كبيرة بكل ما يتعلق بسلوك أبنائهم، ويتمتعون بالخبرة في التعامل معهم. وفي الوقت نفسه تستطيع المدرسة أن تقدم لذوي الطلاب، أباء وأمهات، الكثير من الخبر والتجارب التي تعينهم على التعامل مع أبنائهم بشكل تربوي صحيح.
6ـ إن بناية المدرسة ذات تأثير بالغ على العملية التربوية والتعليمية، وعلى نفسية التلاميذ فالمدرسة بحاجة إلى صفوف دراسية واسعة، وذات تهوية جيدة وشبابيك واسعة تسمح بوصول الضوء بحرية، بالإضافة إلى الإنارة الكافية، وأن تكون مجهزة بكل ما يلزم من الأجهزة والأدوات الضرورية للعملية التربوية والتعليمية، كما أنها بحاجة إلى الساحات المناسبة للنشاطات الرياضية المختلفة ، وقاعات للنشاطات الرياضية، والنشاطات اللاصفية من تمثيل وخطابة ورسم وحفلات وغيرها من النشاطات الأخرى، وكذلك الورش اللازمة لممارسة المهن التي يتدرب عليها التلاميذ، وينبغي أن تتخلل المباني المدرسية الحدائق الكافية كي تبعث نوعاً من البهجة والسرور في نفوس التلاميذ، ومن الضروري إشراكهم في زراعتها والعناية بها، وإتاحة الفرصة لهم بدراسة النباتات وأنواعها وتصنيفها، وسبل وقايتها من الأمراض التي قد تصيبها مما يحول هذا الجهد إلى دراسة حقيقية لعلم النبات نظرياً وعملياً، مما يرسخ الدرس في عقول التلاميذ .
وأخيراً ينبغي الاهتمام بتنظيم المقاعد والمناضد الدراسية بالشكل الذي يجعل العمل داخل الصف جماعياً فلا يشعر التلاميذ بالملل، ويتحول الصف إلى ورشة عمل ينهمك فيه التلاميذ بكل جد ونشاط وفي جوٍ يسوده التعاون فيما بينهم، وبإشراف معلمهم وتوجيهاته.
تعاون البيت والمدرسة:
ذكرنا فيما سبق أن البيت هو البيئة الاجتماعية الأولى للطفل التي يتعلم فيها الكثير من الخبرات التي تساعده على التكيف مع المجتمع الأكبر، حيث يلعب الآباء والأمهات دوراً كبيراً وأساسياً في تربية وتنشئة أبنائهم خلال السنوات الست الأولى من أعمارهم حيث ينتقل الأبناء إلى المدرسة التي تعتبر المرحلة الوسطى في حياتهم، والتي هي صورة مصغرة للمجتمع الكبير الخالي من الشوائب، حيث يكتسب الأبناء خلال مكوثهم في المدرسة الخبرات الحياتية التي تؤهلهم لممارسة عملهم في المجتمع الكبير على الوجه الأكمل.
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نؤكد أن الدور الذي قام ويقوم به البيت تجاه الأبناء لا يمكن فصله عن دور المدرسة بهذا الخصوص، فكلاهما يكمل بعضه بعضاً.
ويستطيع الآباء والأمهات تقديم مساعدة قيمة للمدرسة في عملها التربوي بما يملكونه من الخبرات والتجارب التي اكتسبوها بتربية أبنائهم، كما يمكنهم الحصول على المزيد من الخبرات من المدرسة، وخاصة من خلال المتخصصين في معالجة المشاكل السلوكية للأطفال والمراهقين.
وبناء على ذلك فعلى المدرسة أن تهتم بالتواصل المستمر مع أولياء أمور التلاميذ سواء كان ذلك عن طريق مجالس الآباء والأمهات والمعلمين الدورية والمنتظمة وإجراء الاتصالات الشخصية المستمرة، والاتصالات الهاتفية، وإرسال الرسائل لكي يكون الآباء والأمهات على صله وثيقة بأحوال أبنائهم في المدرسة من الناحيتين السلوكية والدراسية، ولكي يعملوا مع إدارة ومعلمي المدرسة يداً بيد، على تذليل كل المصاعب التي تجابههم.
ولقد سبق و تحدثنا عن الأسرة وأنواعها، وظروف كل منها، والأساليب التربوية التي تتعامل بها مع أبنائها بشيء من التفصيل، وهو ما يمكن أن يقدم للمدرسة معلومات هامة وضرورية تساعدها على تفهم أحوال التلاميذ في البيت، وما يعانونه من مشاكل ومصاعب، وتأثيراتها على سلوك الأبناء، والوسائل الكفيلة بمعالجة السلوك المنحرف لديهم، فلا يكفي للمربي أن يتعرف على أحوال تلاميذه في المدرسة فقط، وإنما ينبغي التعرف على الظروف التي يعيشها التلميذ في البيت لكي يكوّن له صورة واضحة عن المشاكل التي يعاني منها داخل أسرته مما يسهّل عليه فهم الأسباب المؤدية للسلوك المنحرف لدى العديد من التلاميذ ، وبالتالي إمكانية مجابهة تلك الانحرافات والتغلب عليها بأقل ما يمكن من الجهود والتضحيات
وهكذا نجد أن المدرسة لها الدور الأكبر في إعداد أبنائنا الإعداد الصحيح القائم على الأسس العلمية والتربوية القويمة و إن المهمة العظيمة والخطيرة الملقاة على عاتق المدرسة تتطلب الإعداد والتنظيم الدقيق والفعال للركائز التي تقوم عليها المدرسة والتي تتمثل فيما يلي:
1ـ إعداد الإدارة المدرسية.
2 ـ إعـداد المعلمـين.
 3 ـ إعداد جهاز الأشراف التربوي.
 4 ـ إعداد المناهج والكتب المدرسية.
5 ـ  نظام الامتحانات وأنواعها وأساليبها.
6 ـ تعاون البيت والمدرسة.
7 ـ الأبنية المدرسية وتجهيزاتها.

إن هذه الركائز جميعاً مترابطة مع بعضها البعض، وكل واحدة منها تكمل الأخرى، ويتوقف نجاح العملية التربوية والتعليمية في المدرسة على تلازم وتفاعل هذه الركائز ببعضها، وكلما توطدت وتعمقت حركة التفاعل هذه كلما استطاعت المدرسة تحقيق ما تصبو إليه من خلق جيل واعٍ ، متسلح بسلاح العلم والمعرفة، وملتزم بالأخلاق والمثل الإنسانية العليا.، وسأتناول في حلقات قادمة مسألة إعداد هذه المرتكزات بشيئ من التفصيل.






37
علموا ابناءكم الحياة
الحلقة العاشرة والأخيرة
حامد الحمداني                                                            27/11/2018

التخأخر الدراسي
أسبابه، والوسائل الكفيلة بعلاجه

يتشكى الكثير من الآباء والأمهات من حالة التأخر الدراسي التي يعاني منها أبناءهم ، غير مدركين للأسباب الحقيقية وراء هذا التأخر وسبل علاجها، وقد يلجأ البعض منهم إلى الأساليب غير التربوية والعقيمة، كالعقاب البدني مثلاً في سعيهم لحث أبنائهم على الاجتهاد، ولاشك أن الأساليب القسرية لا يمكن أن تؤدي إلى تحسين أوضاع أبنائهم، بل على العكس يمكن أن تعطينا نتائج عكسية لما نتوخاه .
إن معالجة مشكلة التأخر الدراسي لدى أبنائنا وبناتنا تتطلب الاستعانة بالأساليب التربوية الحديثة القائمة على العلم، فهي المنار الذي يمكن أن نهتدي بها للوصول إلى ما نصبوا له لأجيالنا الناهضة من تقدم ورقي وهذا بدوره يتطلب منا أن الإجابة على الأسئلة التالية:
1 ـ كيف نحدد  التأخر الدراسي ؟
2 ـ ما هي أنواع التأخر الدراسي ؟
3 ـ ما هي مسببات التأخر الدراسي ؟
4 ـ كيف يمكن علاج التأخر الدراسي ؟
كيف نحدد التأخر الدراسي :
لكي نستطيع تحديد كون التلميذ متأخر دراسياً أم لا  ينبغي الاستعانة بالاختبارات التالية : (24)
1ـ اختبارات الذكاء .
2 ـ اختبارات القدرات .
3 ـ اختبارات التكيف الشخصي والاجتماعي.
وسأحاول أن أقدم لمحة موجزة عن هذه الاختبارات وما يمكن أن تكشفه لنا كل واحدة منها من معلومات هامة ومفيدة تساعدنا على التعرف على مستوى ذكاء التلميذ، وما إذا كان عمره العقلي يتناسب مع عمره الزمني، أم انه أعلى، أم أدنى من ذلك، وتدلنا على الوسائل التي يمكن الاستعانة بها لمعالجة أسباب تأخره، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، وملافات الهدرالذي يمكن أن يصيب العملية التعليمية والتربوية إذا ما أهمل هذا الجانب من الاختبارات.

أولاً: اختبارات الذكاء
الذكاء كما هو معلوم، القدرة على التعلم واكتساب الخبرات، وكلما زاد الذكاء، كلما زادت القدرة على التعلم، وطبيعي أن الأطفال جميعاً يختلفون بعضهم عن بعض بنسبة الذكاء، كاختلافهم في القدرة الجسمية سواء بسواء.
ولقد كان العلماء فيما مضى يهتمون بكمية الذكاء لدى الطفل بصورة عامة، إلا أن الأبحاث الجديدة كشفت أن للذكاء أنواع متعددة، فقد نجد تلميذاً متفوقاً في الرياضيات، ولكنه ضعيف في الإنشاء والتعبير. إن لاختبارات الذكاء أهمية قصوى وينبغي أن تأخذها مدارسنا بالحسبان لكي تستطيع أن تؤدي عملها بنجاح .
ماذا تكشف لنا اختبارات الذكاء؟
1ـ تعرفنا هذه الاختبارات إن كان تحصيل التلميذ متفقاً مع قدراته ، أم أن تحصيله أقل من ذلك ، وإلى أي مدى؟
2ـ تساعدنا على تقبل نواحي النقص، أو الضعف لدى التلميذ  فلا نضغط عليه، ولا نحمله ما لا طاقة له به، فيهرب من المدرسة، ويعرض مستقبله للضياع .
3ـ تساعدنا على تحديد نواحي الضعف وامكانية معالجتها.
4ـ توضح لنا الفروق الفردية بين التلاميذ، ولهذا الأمر أهمية بالغة جداً، لا يمكن لأي معلم ناجح الاستغناء عنها.
5ـ تساعدنا هذه الاختبارات على تحديد نواحي القوة والتفوق لدى التلميذ ، والتي يمكن الاستعانة بها على معالجة نواحي الضعف لديه .
6- تساعدنا هذه الاختبارات على توجيه التلميذ الوجهة الصحيحة، فلا يكون معرضاً للفشل وضياع الجهود والأموال. (25)
وهكذا يتبين لنا أن الاهتمام بمثل هذه الاختبارات يتسم بأهمية كبيرة إذا ما أردنا النجاح في عملنا التربوي، وتجنبنا إضاعة الجهود، وحرصنا على أحوال التلاميذ النفسية، وجنبناهم كل ما يؤدي إلى الشعور بالفشل، وضعف الثقة بالنفس، وعدم القدرة، والشعور بالنقص، وربما يلجأ التلميذ إلى الهروب من المدرسة إذا ما وجد نفسه غير قادر على القيام بواجباته المدرسية شأنه شأن بقية زملائه في الصف.
وتضم اختبارات الذكاء  نوعين:

 1 ـ نوع يقيس القدرة العقلية بصورة عامة: (26)
ويوضح لنا العلاقة بين [العمر العقلي]و[العمر الزمني]للتلميذ، وتعبرعنه هذه النتيجة بـ [ نسبة الذكاء ]  حيث تقاس نسبة الذكاء بحاصل قسمة العمر العقلي على العمر الزمني مضروباً في 100،  فلو فرضنا أن طفلاً عمره الزمني يعادل 10 سنوات، وأن نتائج اختبارات الذكاء بينت أن عمره العقلي يعادل 9 سنوات فإن نسبة الذكاء لديه تساوي 90% . ومن الواضح أن التلميذ المتوسط تكون نسبة ذكائه 100 %،
فمن كان نسبة ذكائه ما بين 80 إلى 90% كان ذكاء ذلك التلميذ دون المتوسط. ومن كان نسبة ذكائه من بين 90 إلى 110 فهو متوسط الذكاء .
ومن كانت نسبة ذكائه ما بين 110 إلى 120 كان ذكياً
ومن كانت نسبة ذكائه ما بين 120 إلى 140 كان ذكياً جداً .
ومن كان نسبة ذكائه ما فوق 140 كان التلميذ عبقرياً.

2 ـ نوع يقيس الأنواع المختلفة للقدرات العقلية:
 وهذا النوع يبين لنا موطن الضعف،وموطن القوة،إلى جانب الذكاء الكلي، وطبيعي أن هذا النوع أدق من الاختبارالأول.
كان علماء النفس  يعتقدون أن نسبة الذكاء ثابتة، وغير قابلة للتغيير، ولا زال البعض منهم يأخذ بهذه الفكرة، غير أن الدلائل تشير إلى أن النمو في قدرة الطفل العقلية لا تسير على وتيرة واحدة، ولا بشكل منتظم، بل تتخلله حالات من البطء، وحالات من السرعة، وهي تتوقف على طبيعة النمو  وعوامله المختلفة.
إن الذكاء يتأثر حتماً بالتفاعل بين عاملي [الوراثة] و[البيئة] وإذا ما تبين أن ذوي التلميذ لا يعانون من أي عوق أو تخلف عقلي أو اضطرابات نفسية، وإذا ما توفرت البيئة الصحية والطبيعية الملائمة، فإن النمو يجري على أحسن الوجوه.

غير أن هناك حقيقة لا ينبغي إغفالها أبداً وهي أن اختبارات الذكاء قد لا توصلنا إلى حد الكمال وذلك لوجود عوامل مختلفة تؤثر على مدى دقتها كالمرض والاضطراب النفسي والخبرة التي اكتسبها الطفل من بيئته لأنها تلعب دوراً مهماً في الموضوع.

وعلى كل حال يمكننا أن نحصل على النتائج المفيدة إلى حد بعيد إذا ما كانت الاختبارات التي أجريناها دقيقة، وإذا ما أخذنا في الاعتبار جميع العوامل المؤثرة في هذا المجال، وينبغي لنا أن نؤكد على أن نجاح التلميذ في اختبارات الذكاء لا يعني أنه لن يفشل في دراسته العليا، إذا ما اجبرالتلميذ على دراسة فرع لا يرغب به، وليست له القدرة عليه، ولذلك لابدّ أن تكون هناك اختبارات أخرى تحدد لنا الاتجاه الذي ينبغي للتلميذ أن يسلكه.

ثالثا: اختبار القدرات 
وهذا النوع من الاختبارات له أهمية خاصة، حيث أنه لا يعطينا فقط مستوى قدرة التلميذ في مجال ما، في الوقت الذي جرى فيه الاختبار، وإنما يتعداه إلى كشف المستوى الذي يمكن أن تبلغه قدراته في هذا المجال، إذا ما نال من مربيه في البيت والمدرسة، الرعاية والعناية اللازمتين.
ومن الأنواع الشائعة لهذه الاختبارات: (27)
1ـ الاختبار في القدرة الموسيقية .
2 ـ الاختبار في القدرة الفنية ، من رسم ونحت وتمثيل.
3 ـ الاختبار في القدرة الميكانيكية .
4 ـ الاختبار في القدرة الأدبية .
وبهذه الأنواع من الاختبارات نستطيع أن نحدد قابلية التلميذ في هذه المجالات،ومدى إمكانية تطوير هذه القابلية في أي من هذه المجالات، كي نوجهه الوجهة الصحيحة التي تمكنه من النجاح  فيها بتفوق .

رابعا: اختبارات التكيف الشخصي والاجتماعي: 
وهذه الاختبارات تكشف لنا عن ميول التلميذ، ومزاجه، ومشاكله الشخصية، وهي لا  تعطينا إجابات محددة صحيحة أو خاطئة عن الأسئلة المطروحة، والتي يطلب فيها من التلميذ الإجابة بما يشعر به بل تقيس جميع مظاهره الشخصية. وهذا النوع من الاختبارات له أهمية بالغة بالنسبة لعمليتي التربية والتعليم،وذلك لأن المعلم لا يستطيع أن يربي تلاميذه التربية الصحيحة، ويعلمهم بسهولة ويسر، إلا إذا فهم كل تلميذ فهماً صحيحاً، من حيث الميول، والرغبات والمزاج، والتعرف على المشاكل التي يعانيها في البيت والمدرسة، ويعمل على تذليلها.
بقي لي كلمة أخيرة أقولها بكل أسف ومرارة، أن المدارس في معظم ما يسمى بالعالم الثالث لا تهتم بهذه الأنواع من الاختبارات، وجل اهتمامها ينصب على اختبارات التحصيل الدراسي، بل لا أغالي إذا قلت أن الكثير من المعلمين لم يسمعوا عن هذه الاختبارات، ولا يعرفون شيئاً عنها، وهكذا بقيت الأساليب التربوية والتعليمية مبتورة، وسببت ضياع الجهود والإمكانيات لدى الأبناء، وعلى هذه المدارس أن تغير من أساليبها، لتلافي نواحي النقص فيها إذا شاءت النهوض بشعبها إلى مصاف الأمم المتقدمة الأخرى.

أنواع التأخر الدراسي:
يختلف التأخر الدراسي من تلميذ إلى آخر، ولكل نوع من التأخر الدراسي أسبابه وظروفه، وسبل معالجته، وإجمالاً يمكن تحديد أنواعه بما يأتي:
1 - التأخر الدراسي المرضي: ويتطلب هذا النوع علاجاً طبياً، وغالباً ما يكون علاجه صعباً، ولا شك أن العقل السليم في الجسم السليم ولا يمكن للتلميذ المريض أن يفكر وينجز مهامه الدراسية وهو يعاني من مرض جسدي .
2 ـ-  التأخر الدراسي غير طبيعي : وهذا النوع يمكن علاجه بالوسائل التربوية العلمية، وهو ما يمكن أن تقوم به المدرسة بالتعاون مع البيت، وهذا النوع من التأخر يمكن أن يكون في جميع الدروس، وقد يكون تأخراً في بعض الدروس، وقد يكون تأخراً في درس واحد فقط فقط، وقد يكون التأخر وقتياً  وقد يستمر وقتاً طويلاً ، ولكل نوع من هذه الأنواع مسبباته ووسائل علاجه. (28)
ما هي مسببات التأخر الدراسي ؟
إن أهم العوامل  المسببة للتأخر الدراسي هي التالية:
1ـ العامل العقلي:
كالتأخر في الذكاء بسبب مرضي أو عضوي .

2ـ العامل النفسي:
 كضعف الثقة بالنفس ،أو الكراهية لمادة معينة، أو كراهية معلم المادة بسبب سوء معاملته لذلك التلميذ، وأسلوبتعامل الوالدين مع أبنائهم .

3ـ العامل الجسمي:
 كون التلميذ يعاني من عاهة أو أي إعاقة بدنية.

4 ـ العامل الاجتماعي:
 ويتعلق هذا العامل بوضع التلميذ في البيت والمدرسة، وعلاقاته بوالديه ومعلميه وأخوته وأصدقائه.
 إن هذه العوامل كلها ذات تأثير مباشر في التأخر الدراسي لدى التلاميذ، وعلى ضوء دراستها نستطيع أن نعالج التلاميذ المتأخرين دراسياً والذين تثبت مقاييس الذكاء أن تخلفهم أمر غير طبيعي. ومما تجدر الإشارة إليه أن التأخر الدراسي لدى التلاميذ يصاحبه في اغلب الأحيان الهرب من المدرسة، والانحراف نحو الجرائم، من سرقة واعتداء وغيرها، ذلك أن التلاميذ الفاشلين في دراستهم يستجيبون أسرع من غيرهم لهذه الأمور بسبب شعورهم بالفشل،  وعدم القدرة على مواصلة الدراسة والتحصيل، ولو تتبعنا أوضاع وسلوك معظم المنحرفين لوجدنا أنهم خرجوا من بين صفوف التلاميذ المتأخرين دراسياً. (29)

كيف نعالج مسألة التأخر الدراسي:
 إن معالجة مسألة التأخر الدراسي  للنوع الثاني [غير الطبيعي] تتوقف على التعاون التام والمتواصل  بين ركنين أساسيينوهما البيت والمدرسة.
أولاًـ البيـت:     
 ونعني بالبيت طبعاً المهمات التربوية للآباء والأمهات، ومسؤولياتهم بتربية أبنائهم تربية صالحة، باستخدام الوسائل التربوية الحديثة القائمة على تفهم حاجات الأبناء ومشاكلهم وسبل تذليلها، حيث العائلة كما أسلفنا من قبل هي المدرسة الأولى التي ينشأ بين أحضانها أبناءنا، ويتعلموا منها الكثير. ولا يتوقف عمل البيت عند المراحل الأولى من حياة الطفل، بل يمتد ويستمر لسنوات طويلة حيث يكون الأبناء بحاجة إلى خبرة الكبار في الحياة، وهذا يتطلب منا:
1ـ الإشراف المستمر على دراستهم، وتخصيص جزء من أوقاتنا لمساعدتهم على تذليل الصعاب التي تجابههم بروح من العطف والحنان والحكمة، والعمل على إنماء أفكارهم وشخصياتهم بصورة تؤهلهم للوصول إلى الحقائق بذاتهم ، وتجنب كل ما من شأنه الحطّ من قدراتهم العقلية بأي شكل من الأشكال، لأن مثل هذا التصرف يخلق عندهم شعوراً بعدم الثقة بالنفس ويحد من طموحهم .
2ـ مراقبة أوضاعهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم بزملائهم وأصدقائهم، وكيف يقضون أوقات الفراغ داخل البيت وخارجه، والعمل على إبعادهم عن رفاق السوء، والسمو بالدوافع، أوالغرائز التي تتحكم بسلوكهم وصقلها، وإذكاء أنبل الصفات والمثل الإنسانية العليا في نفوسهم .
 3ـ  العمل على كشف مواهبهم وهواياتهم، وتهيئة الوسائل التي تساعد على تنميتها وإشباعها.
4ـ مساعد أبنائنا على تحقيق خياراتهم، وعدم  إجبارهم على خيارات لا يرغبون فيها.
5 - تجنب استخدام الأساليب القسرية في تعاملنا معهم، وعدم النظر إليهم، والتعامل معهم  وكأنهم في مستوى الكبار، وتحميلهم أكثر من طاقاتهم، مما يسبب لهم النفور من الدرس والفشل.
6 - مساعدتهم على تنظيم أوقاتهم، وتخصيص أوقات معينة للدرس، وأخرى للراحة واللعب مع أقرانهم .




38
  دراسة تربوية
علمو ابناءكم الحياة
الحلقة الثامنة
حامد الحمداني                                24 / 11 / 2018
التدخين والكحول

من المشاكل الخطيرة التي يتعرض لها أبنائنا هي إقبال الكثير منهم على عادتي التدخين وشرب الكحول السيئتين واللتين إذا ما أدمنوا عليهما تسببان لهم افدح الأضرار.
ولا شك أن الأبناء ميالون دائماً للتقليد، وأن أقرب من يقلدوه بالدرجة الأساسية الأباء والأمهات، إضافة إلى تقليد الأصدقاء، فعندما يرى الأبناء آبائهم وأمهاتهم يدخنون، أو يتناولون الكحول، فأنهم لابد وان يشعروا بالرغبة في تجريب ذلك ولسان حالهم يقول أن آبائنا وأمهاتنا يدخنون ويتناولون الكحول فلماذا لا نمارس نحن ذلك؟
  يقول الإمام علي عليه السلام في إحدى حكمه: 
         لا تنهى عن خلق وتأتي مثله       
                                    عـارٌ عليك إذا فعلت عظيم
  كما يقول الشافعي في هذا الصدد :           
        يا أيـها الرجـل المعلم غيره         
                                  هـلا لنفسك كـان ذا التعـليمُ
      تصـف الــدواء لذي الضنى             
                                    كيما يصح به وأنت سـقيمُ
فكيف نستطيع أن نقنع أبنائنا بمخاطر التدخين والكحول ونحن نمارس هذا العمل أمامهم ؟ وهل سيصدقوننا في دعوانا ؟ أن هذا أمر مستحيل، و بكل تأكيد سنكون لهم قدوة سيئة وسنتحمل مسؤولية كبرى في انحراف أبنائنا.
إن علينا أن نعطيهم المثال والقدوة الحسنة، وعلينا أن نوضح لهم وباستمرار مخاطر هاتين العادتين السيئتين على صحتهم وحياتهم، وخاصة بعد أن اثبت الأبحاث بما لا يقبل الشك أن اخطر مسببات السرطان بأنواعه هو التدخين، إضافة إلى مخاطر أمراض القلب والكليتين، وتسوس الأسنان ..الخ.
كما ينبغي أن نوضح لهم أن الإدمان على الكحول يجعل الإنسان يفقد سيطرته على تصرفاته، ويسبب له الكثير من المشاكل، ويفقده القدرة على التركيز، وبالتالي الفشل في وضياع مستقبله.
كما أن على الآباء والأمهات أن يلاحظوا أبنائهم ويتحسسوا روائحهم وروائح ملابسهم للتأكد ما إذا كان أبناءهم يدخنون أو يتناولون الكحول، ويجب أن يعرفوا كيف يصرف أبناءهم النقود ، وهل أن ما صرفوه مساوياً لما أعطوه لهم أم لا ؟ وأن يتأكدوا من مصادر النقود أن كانت تزيد عن ما أعطوه لهم ، إذ ربما يلجأ الأبناء إلى طرق غير مشروعة للحصول على النقود من أجل تأمين السجائر أو الكحول  وعليهم أن يتعرفوا على أصدقائهم، وعلى سلوكهم، من أجل إبعادهم عن
 رفاق السوء.
إن على المدرسة أن تقوم بدورها في تحذير التلاميذ من مخاطر هاتين العادتين عن طريق تقديم دروس عملية ونظرية مدعمة بوسائل الإيضاح البصرية والسمعية عن مضار هاتين العادتين السيئتين، والاستعانة بالأفلام التي يمكن الحصول عليها من وزارة الصحة، والتي تبين الأضرار الجسيمة التي تصيب المدمنين.
وتقع على عاتق الدولة مسؤولية حشد وسائل الأعلام  المتوفر لديها للتحذير باستمرار من أخطار الإدمان، وعرض نماذج لما تعرض له الكثير من المدمنين، ومنع التدخين في المحلات العامة، ومنع الدعاية لها. كما ينبغي أن  تلعب الصحافة دوراً فعّالا في هذا المجال.
خامساً : المخدرات 
إنها وبكل تأكيد أخطر ما يواجه أجيالنا اليوم، أنها تفوق كل المخاطر الأخرى التي يمكن أن يتعرض لها أبناءنا، إنها تسرق منا أبنائنا، وتحيلهم حطاماً، وتدمر مستقبلهم ، وتدفعهم إلى الجريمة من أجل تأمين النقود اللازمة لشرائها إذا ما أدمنوا عليها .
إن العصابات المجرمة الساعية إلى الإثراء السريع على حساب حياة أبنائنا ومستقبلهم يلجئون إلى أبشع أسلوب في جرهم إلى تناول المخدرات ، وبالتالي الإدمان، فهم يحاولون في بادئ الأمر تزويدهم بالمخدرات بصورة مجانية لعدة مرات ريثما يدمنون عليها فلا يستطيعون الاستغناء عنها، وبذلك يصبح المدمن مضطراً إلى اللجوء إلى مختلف الوسائل والسبل للحصول على النقود لشراء المخدرات  ويتحولون شيئاً فشيئاً إلى عناصر مدمنة على الأجرام . ورغم أن الدولة تكافح بكل الوسائل والسبل تهريب المخدرات إلى داخل البلد، وتتابع المشبوهين في المتاجرة فيها والمدمنين عليها، إلا أن هذا الأجراء وحده لا يكفي، لأن يداً واحدة لا تصفق.
أن مكافحة المخدرات تتطلب تعاوناً وثيقاً بين الدولة من جهة وأولياء أمور الأبناء والمدرسة من جهة أخرى، وعلى الأباء والأمهات والمعلمين وإدارات المدارس أن تراقب أوضاع التلاميذ وتصرفاتهم وعلاقاتهم داخل المدرسة وخارجها. ولاشك أن تصرفات الأبناء وسلوكهم وعلاقاتهم بغيرهم، وخاصة من غير المحيط المدرسي، يمكن أن تكشف لنا عما إذا كان الأبناء يتناولون المخدرات أم لا، وبالإمكان ملاحظة جملة من التغيرات التي تطرأ على المراهقين الذين يتعاطون المخدرات والتي من أبرزها: (15)
1ـ الفقدان المفاجئ للاهتمام بالأسرة وبعلاقاتهم الطويلة المدى بأصدقائهم.
2 ـ مصاحبة أصدقاء وأفراد غير معروفين سابقاً.
3 ـ تدني مستوى التحصيل الدراسي المفاجئ.
4 ـ تقلب المزاج، والاكتئاب.
5 ـ ضعف النشاط والحيوية.
6ـ سرعة الاستثارة الغضب، والصراع غير العادي مع أفراد الأسرة.
7 ـ بُطء الكلام واضطرابه.
8 ـ نقص الوزن أو زيادته بصورة ملحوظة.
9 ـ الرجوع إلى المنزل مخموراً أو متبلداً.
10 ـ إحضار المواد المخدرة إلى المنزل والتباهي بامتلاكها.
11 ـ ممارسة السرقة.
12 ـ طلب النقود بصورة غير عادية ودون مبرر واضح.
13 ـ التحذير من قبل المعلمين أو الجيران أو الأقران.

أسباب توجه المراهقين نحو المخدرات:

 أن أهم الأسباب التي تشجع المراهقين على تناول المخدرات يمكن إجمالها بما يلي :
1ـ عامل البيئة والظروف الأسرية التي يعيش فيها الفرد، وخاصة الأبناء الذين تربطهم علاقات ضعيفة بالوالدين.
2ـ السلوك المتسم بالقسوة والرفض من قبل الوالدين، والذي يقابله التمرد والسلوك المضاد للمجتمع من قبل المراهقين.
3 ـ التصدع الأسري والانفصال والطلاق بين الوالدين.
4 ـ استخدام المواد المخدرة من قبل أحد الوالدين أو كليهما.
ومما تقدم يتبين لنا أن هناك خصائص عامة مشتركة تميز البيئة الأسرية التي ينتمي إليها مدمني المخدرات وذوي الاضطرابات السلوكية.
  أن على الأهل قبل كل شيء أن يكونوا القدوة الحسنة، والمثال الجيد لأبنائهم أولاً، وأن يراقبوا ويدققوا في أوضاعهم، ويحرصوا على معرفة كيفية حصول الأبناء على النقود، وهل أن ما لديهم وما يصرفوه يزيد على ما يُعطى لهم، والبحث والتدقيق عن مصدر تلك النقود الزائدة. إن عليهم الحرص على كون أصدقاء أبنائهم ممن يتصفون بالأخلاق الفاضلة والسلوك الحميد.
 ولاشك أن اللجوء إلى العنف إذا ما شعر الأهل بتناول أبنائهم المخدرات لا يمنعهم من نبذ هذه الآفة، وان السبيل الصحيح لمعالجة ذلك هو الاتصال بالمؤسسة الصحية التي تقوم بمعالجة المدمنين حيث أن لديها الوسائل الكفيلة بإنقاذ أبنائنا من هذا الوباء الوبيل، ومن تلك الوسائل استخدام العقاقير الطبية والتحليل النفسي، وتعديل السلوك في الأماكن المنعزلة [المصحات] هذا بالإضافة إلى جهود البيت والمدرسة في هذا السبيل .
كما أن علينا أن نتعاون في كشف العصابات التي تسعىإلى بث هذه السموم في المجتمع ، وإبلاغ السلطات عنهم لكي يتم تقديمهم إلى المحاكم المختصة لينالو عقابهم الذي يستحقونه وإنقاذ أجيالنا من شرورهم.

39
دراسة تربوية
علموا ابناءكم الحياة
الحلقة التاسعة
حامد الحمداني                                      27 / 11 /2018

مشاكل التأخر الدراسي

يتشكى الكثير من الآباء والأمهات من حالة التأخر الدراسي التي يعاني منها أبناءهم ، غير مدركين للأسباب الحقيقية وراء هذا التأخر وسبل علاجها، وقد يلجأ البعض منهم إلى الأساليب غير التربوية والعقيمة، كالعقاب البدني مثلاً في سعيهم لحث أبنائهم على الاجتهاد، ولاشك أن الأساليب القسرية لا يمكن أن تؤدي إلى تحسين أوضاع أبنائهم، بل على العكس يمكن أن تعطينا نتائج عكسية لما نتوخاه .

إن معالجة مشكلة التأخر الدراسي لدى أبنائنا وبناتنا تتطلب الاستعانة بالأساليب التربوية الحديثة القائمة على العلم، فهي المنار الذي يمكن أن نهتدي بها للوصول إلى ما نصبوا له لأجيالنا الناهضة من تقدم ورقي وهذا بدوره يتطلب منا أن الإجابة على الأسئلة التالية:

1 ـ كيف نحدد التأخر الدراسي؟
2 ـ ما هي أنواع التأخر الدراسي؟
3 ـ ما هي مسببات التأخر الدراسي؟
4 ـ كيف يمكن علاج التأخر الدراسي؟

كيف نحدد التأخر الدراسي:
لكي نستطيع تحديد كون التلميذ متأخر دراسياً أم لا ينبغي الاستعانة بالاختبارات التالية :
1ـ اختبارات الذكاء .
2 ـ اختبارات القدرات .
3 ـ اختبارات التكيف الشخصي والاجتماعي. (24)
وسأحاول أن أقدم لمحة موجزة عن هذه الاختبارات وما يمكن أن تكشفه لنا كل واحدة منها من معلومات هامة ومفيدة تساعدنا على التعرف على مستوى ذكاء التلميذ، وما إذا كان عمره العقلي يتناسب مع عمره الزمني، أم انه أعلى، أم أدنى من ذلك، وتدلنا على الوسائل التي يمكن الاستعانة بها لمعالجة أسباب تأخره، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، وملافات الهدرالذي يمكن أن يصيب العملية التعليمية والتربوية إذا ما أهمل هذا الجانب من الاختبارات.

أولاً: اختبارات الذكاء:
الذكاء كما هو معلوم، القدرة على التعلم واكتساب الخبرات، وكلما زاد الذكاء، كلما زادت القدرة على التعلم، وطبيعي أن الأطفال جميعاً يختلفون بعضهم عن بعض بنسبة الذكاء، كاختلافهم في القدرة الجسمية سواء بسواء. ولقد كان العلماء فيما مضى يهتمون بكمية الذكاء لدى الطفل بصورة عامة، إلا أن الأبحاث الجديدة كشفت أن للذكاء أنواع متعددة، فقد نجد تلميذاً متفوقاً في الرياضيات، ولكنه ضعيف في الإنشاء والتعبير. إن لاختبارات الذكاء أهمية قصوى وينبغي أن تأخذها مدارسنا بالحسبان لكي تستطيع أن تؤدي عملها بنجاح.

ماذا تكشف لنا اختبارات الذكاء ؟
1ـ تعرفنا هذه الاختبارات إن كان تحصيل التلميذ متفقاً مع قدراته ، أم أن تحصيله أقل من ذلك ، وإلى أي مدى؟
2ـ تساعدنا على تقبل نواحي النقص، أو الضعف لدى التلميذ فلا نضغط عليه، ولا نحمله ما لا طاقة له به، فيهرب من المدرسة، ويعرض مستقبله للضياع .
3ـ تساعدنا على تحديد نواحي الضعف وامكانية معالجتها.
4ـ توضح لنا الفروق الفردية بين التلاميذ، ولهذا الأمر أهمية بالغة جداً، لا يمكن لأي معلم ناجح الاستغناء عنها.
5ـ تساعدنا هذه الاختبارات على تحديد نواحي القوة والتفوق لدى التلميذ ، والتي يمكن الاستعانة بها على معالجة نواحي الضعف لديه .
6- تساعدنا هذه الاختبارات على توجيه التلميذ الوجهة الصحيحة، فلا يكون معرضاً للفشل وضياع الجهود والأموال. (25)
وهكذا يتبين لنا أن الاهتمام بمثل هذه الاختبارات يتسم بأهمية كبيرة إذا ما أردنا النجاح في عملنا التربوي، وتجنبنا إضاعة الجهود، وحرصنا على أحوال التلاميذ النفسية، وجنبناهم كل ما يؤدي إلى الشعور بالفشل، وضعف الثقة بالنفس، وعدم القدرة، والشعور بالنقص، وربما يلجأ التلميذ إلى الهروب من المدرسة إذا ما وجد نفسه غير قادر على القيام بواجباته المدرسية شأنه شأن بقية زملائه في الصف. وتضم اختبارات الذكاء نوعين:

1 ـ نوع يقيس القدرة العقلية بصورة عامة: (26)
ويوضح لنا العلاقة بين [العمر العقلي]و[العمر الزمني]للتلميذ، وتعبرعنه هذه النتيجة بـ [ نسبة الذكاء ] حيث تقاس نسبة الذكاء بحاصل قسمة العمر العقلي على العمر الزمني مضروباً في 100، فلو فرضنا أن طفلاً عمره الزمني يعادل 10 سنوات، وأن نتائج اختبارات الذكاء بينت أن عمره العقلي يعادل 9 سنوات فإن نسبة الذكاء لديه تساوي 90% . ومن الواضح أن التلميذ المتوسط تكون نسبة ذكائه 100 %،
فمن كان نسبة ذكائه ما بين 80 إلى 90% كان ذكاء ذلك التلميذ دون المتوسط. ومن كان نسبة ذكائه من بين 90 إلى 110 فهو متوسط الذكاء .
ومن كانت نسبة ذكائه ما بين 110 إلى 120 كان ذكياً
ومن كانت نسبة ذكائه ما بين 120 إلى 140 كان ذكياً جداً .
ومن كان نسبة ذكائه ما فوق 140 كان التلميذ عبقرياً.

2 ـ نوع يقيس الأنواع المختلفة للقدرات العقلية:
وهذا النوع يبين لنا موطن الضعف،وموطن القوة،إلى جانب الذكاء الكلي، وطبيعي أن هذا النوع أدق من الاختبارالأول.
كان علماء النفس يعتقدون أن نسبة الذكاء ثابتة، وغير قابلة للتغيير، ولا زال البعض منهم يأخذ بهذه الفكرة، غير أن الدلائل تشير إلى أن النمو في قدرة الطفل العقلية لا تسير على وتيرة واحدة، ولا بشكل منتظم، بل تتخلله حالات من البطء، وحالات من السرعة، وهي تتوقف على طبيعة النمو وعوامله المختلفة.
إن الذكاء يتأثر حتماً بالتفاعل بين عاملي [الوراثة] و[البيئة] وإذا ما تبين أن ذوي التلميذ لا يعانون من أي عوق أو تخلف عقلي أو اضطرابات نفسية، وإذا ما توفرت البيئة الصحية والطبيعية الملائمة، فإن النمو يجري على أحسن الوجوه.
غير أن هناك حقيقة لا ينبغي إغفالها أبداً وهي أن اختبارات الذكاء قد لا توصلنا إلى حد الكمال وذلك لوجود عوامل مختلفة تؤثر على مدى دقتها كالمرض والاضطراب النفسي والخبرة التي اكتسبها الطفل من بيئته لأنها تلعب دوراً مهماً في الموضوع.
وعلى كل حال يمكننا أن نحصل على النتائج المفيدة إلى حد بعيد إذا ما كانت الاختبارات التي أجريناها دقيقة، وإذا ما أخذنا في الاعتبار جميع العوامل المؤثرة في هذا المجال، وينبغي لنا أن نؤكد على أن نجاح التلميذ في اختبارات الذكاء لا يعني أنه لن يفشل في دراسته العليا، إذا ما اجبرالتلميذ على دراسة فرع لا يرغب به، وليست له القدرة عليه.
ولذلك لابدّ أن تكون هناك اختبارات أخرى تحدد لنا الاتجاه الذي ينبغي للتلميذ أن يسلكه.

40
دراسة تربوية
علموا ابناءكم الحياة
حامد الحمداني                            الحلقة السادسة                23/ 11 /2018     
                                 
                                                   { السرقة }
السرقة نوع من السلوك يعّبر به صاحبه عن حاجة شخصية  أو نفسية، وهي كصفة الكذب ليست عادة فطرية، بل مكتسبة وأساسها الرغبة في التملك بالقوة، وبدون وجه حق،أو بسبب العوز والحاجة، وخاصة عند ما يجد الطفل زملائه يحصلون من ذويهم على كل ما يشتهون ويطلبون، وعدم قدرته على إشباع حاجاته ورغباته أسوة بزملائه، وهذه الصفة ذات تأثير اجتماعي سيئ جداً، لأن ضررها يقع على الآخرين، ولمعالجة هذه الظاهرة لدى أبنائنا يتطلب منا أولاً أن نتعرف على دوافع السرقة، والتي يمكن تلخيصها بما يلي :
 دوافع السرقة :
1 ـ دوافع ظاهرية : وتتلخص هذه الدوافع في :
أ- الرغبة في إشباع الحاجة، ويتمثل أخطرها لدى المراهقين المدمنين على المخدرات.
ب ـ الرغبة في إشباع الميول والعاطفة والهوايات.
      ج ـ الرغبة في التخلص من مأزق.
       د ـ الرغبة في الانتقام .

2 ـ دوافع لاشعورية: وهي ناجمة عن علاقة السارق بالبيئة التي يعيش فيها، والعلاقات الاجتماعية السائدة فيها، حيث يتعلم الأبناء من ما حولهم من الأولاد المنحرفين سلوكياً.
ولابد أن أشير إلى أن السرقة لها حالات مختلفة، فقد تكون السرقة فردية، وقد تكون جماعية، وقد يسرق الشخص نوعاً معيناً من الأشياء، أو أنواعاً متعددة، وقد يكون السارق تابعاً، وقد يكون متبوعاً، وقد تكون السرقة رغبة ذاتية، وقد تكون بالإكراه، ولاشك أن لكل واحدة من هذه الأنواع طريقة معينة للعلاج تختلف عن الأخرى.

كيف نعالج مشكلة السرقة ؟
يرى علماء التربية وعلم النفس أن السرقة تتطلب أن يكون لدى السارق مهارات عقلية وجسمية هامة تمكنه من القيام بهذا العمل الخطير والضار، وقد تم تحديدها بما يلي :
   أ ـ سرعة الحركة، وخصوصاً حركة الأصابع .
   ب ـ دقة الحواس، من سمع وبصر.
   ج ـ الجرأة وقوة الأعصاب.
    د ـ  الذكاء.
    و ـ الملاحظة الدقيقة والاستنتاج. (14)

وطبيعي أن هذه المهارات تكون ذات فائدة عظمى بالنسبة لأبنائنا إذا ما وجهت توجهاً خيراً وصحيحاً، وإن بالإمكان أن نوجهها كذلك إذا اتبعنا الأساليب التربوية الصحيحة.
 فلو وجدنا مثلاً طفلاً يمد يده إلى شيء لا يملكه، فيجب أن نعلمه بشكل هادئ أن عليه أن يستأذن قبل أن يأخذه، لأن هذا الشيء لا يعود إليه، وينبغي عدم اللجوء إلى التعنيف وكيل الأوصاف القاسية من لصوصية وغيرها لآن هذا الأسلوب له نتائج عكسية لما نبتغي.
كما أن علينا أن لا نصف الطفل عند قيامه بهذا العمل للمرة الأولى بأنه لص أو ما شابه ذلك، حيث أن لهذا التصرف تأثير سييء على مستقبل الطفل، بل علينا أن نتتبع دوافع السرقة لنتمكن من اتخاذ الوسائل الكفيلة بعلاجه، ونعمل على إشباع رغبته التي دفعته للسرقة بالطرق والأساليب الصحيحة لنجعله قادراً على ضبط رغباته والتحكم فيها.

كما أن علينا أن نخلق لدى الطفل شعوراً بالتملك الشخصي، ونعلمه ما يخصه وما لا يخصه،  وكيف يحافظ على الأشياء التي تخصه. ولابدّ لنا أن نخصص لأبنائنا مصروفاً يومياً، مع الأشراف على طريقة صرفهم للنقود، وتعويدهم على عادة الادخار.

 إن الطفل الذي يرى زملائه يصرفون النقود ويشترون داخل المدرسة وخارجها ، ولا يجد لديه ما يشتري به أسوة بزملائه  ربما يلجأ إلى الحصول على النقود أو الأشياء بطريق غير شرعي، وغير سليم.

وأخيراً فأن تعزيز الصداقة بين الأبناء وأصدقائهم، والمعاملة الطيبة التي يلقونها في البيت والمدرسة من قبل الآباء والأمهات والمعلمين والإدارة عامل هام لمنع وقوع السرقة، فمن المعروف أن الصديق لا يفكر بالسرقة من صديقه.

 إن علينا أن نستغل الجوانب الإيجابية لدى أبنائنا من أجل رفع مستواهم العقلي والاجتماعي، وجعلهم يشعرون  بقيمتهم في المجتمع عند ما يكونوا أمناء، كما أن إشباع حاجاتهم المادية يجعلهم لا يشعرون بوجود تباين طبقي بين طفل وآخر، وهذا هو أحد الأسباب الهامة التي تمنع وقوع السرقة بين أبنائنا.

ولابد أن أشير إلى أن الطفل الذي ينشأ في بيئة تحترم الصدق قولاً وعملاً، غالبا ما ينشأ أمينا في أقواله وأعماله، وخاصة إذا وفرنا له حاجاته النفسية الطبيعية ، من الاطمئنان والحرية والتقدير والعطف ، والشعور بالنجاح ، فإذا ما وفرنا له كل ذلك فإنه لن يلجأ إلى التعويض عن النقص، أو التوجه نحو القسوة أو الانتقام وغيرها من الاتجاهات التي تجد في أنواع الكذب صوراً مناسبة للتعبير عن نفسها.

 ثالثاً : التشاجر، والتخريب، وحب الاعتداء :
من المشاكل التي نواجهها لدى أبنائنا سواء كان ذلك في المدرسة أو خارجها، هي الميل الموجود لديهم للتخريب وللتشاجر والاعتداء على بعضهم البعض، والانتقام والمعاندة والمشاكسة والتحدي والاتجاه نحو التعذيب والتنغيص وتعكير الجو العام، وإحداث الفتن.
 ويصاحب الاعتداء والتشاجر عادةً حالة من نوبات الغضب بصور ودرجات مختلفة، والغضب كما هو معروف حالة نفسية يشعر بها كل إنسان، لكنهم يختلفون في أساليب التعبير وفي ردود أفعالهم عند ما تنتابهم نوبة الغضب.
 فقد يلجأ أحدهم إلى الضرب او إلى التخريب والاعتداء على الممتلكات وغيرها، و قلما يمر يوم واحد دون أن نجد العشرات من الحوادث من هذا القبيل، ولابد أن نسأل أنفسنا:
 لماذا يحدث هذا الميل لدى الأبناء ؟ وما هي سبل العلاج ؟
لقد ذكرنا فيما سبق أن لدى كل إنسان استعداد فطري متأصل  [غريزة المقاتلة والخصام ]، ونحن لا  يمكننا أن نقتلع هذه الغريزة مطلقاً، وإن أي محاولة من هذا النوع ليس فقط سيكون مصيرها الفشل، بل أنها سوف تؤثر تأثيراً سلبياً بالغاً على شخصية الطفل، بحيث يغدو جباناً، ومنطوياً على نفسه  يتملكه الخوف، ويتسم بضعف الشخصية.

 فالواجب يقتضي منا أن نعمل على توجيه هذه الغريزة نحو البناء لا الهدم، وعلينا أن نخلق جيلاً شجاعاً يعتد بشخصيته، وأن نغرس فيه روح المحبة للإنساني، وأن نخلق البيئة اللازمة لأبنائنا التي تستطيع إعطاءهم الأمن والاحترام والتقدير، وأن نهيئ لهم نشاطاً اجتماعياً مفيداً يعبرون فيه عن نوازعهم، ويستخدمون طاقاتهم في مختلف المجالات الرياضية والاجتماعية والأدبية وغيرها.

ولا بدّ أن أشير هنا إلى أن الوراثة لها دور كبير في انحراف الأبناء، فلا بدّ والحالة هذه من دراسة الأوضاع العائلية في كل حالة بصورة دقيقة، والوقوف أوضاع وسلوك أبويه واخوته، لكي نستطيع معالجة ذلك بشكل صحيح. ينبغي علينا أن لا نقيد حرية أبنائنا بشكل قاسٍ، وطبيعي يجب أن لا نمنحهم الحرية المطلقة ليفعلوا ما يشاءون، إذ أن كلا الحالتين تؤديان إلى ضرر بليغ.

كما أن على الآباء والأمهات والمعلمين أن لا يقابلوا غضباً بغضب، بل ينبغي معالجة المشاكل بحكمة وهدوء ودراية، وأن نوجه الأبناء الميالين للعنف نحو الألعاب الرياضية والفن والرسم والمسرح  لكي يستنفذوا طاقاتهم في هذا المجال، وعلى المربين أن يشيعوا داخل المدرسة جواً مشبعاً بالود والمحبة تجاه التلاميذ بحيث يشعرونهم أنهم يعيشون في جو عائلي حقيقي تسوده المحبة ويتصف بالتعاطف والتعاون بين أفرادها.



41

علموا ابنائكم الحياة / الحلقة السادسة
حامد الحمداني                            2018 / 11 / 18


المشاكل السلوكية المكتسبة

يقصد بالمشاكل السلوكية المكتسبة العادات السيئة التي لا ترجع إلى أية دوافع فطرية، بل يكتسبها الأبناء من المحيط الذي يعيشون فيه، عن طريق التقليد، فهي إذا ليست حتمية، وبالتالي يمكن تجنبها إذا ما نجحنا في تربية أبنائنا تربية صالحة وحذرناهم من عواقب هذا السلوك الذي لا يجلب لهم إلا الشر والأذى، ويمكننا أن نحدد أهم تلك العادات السيئة والخطرة والتي تصيب أبنائنا بأفدح الأضرار، والتي ينبغي أن نعير لمعالجتها أهمية خاصة بما يأتي :
1 ـ الكذب .   
2ـ السرقة .   
3 ـ التشاجر وحب الاعتداء .
4ـ التدخين والكحول .   
5 ـ المخدرات
وسأحاول فيما يلي أن أقدم نبذة عن هذه الآفات وسبل حماية أبنائنا من أخطارها.
1 ـ الكذب :
الكذب من ابرز العادات الشائعة لدى الأبناء، والتي قد تستمر معهم في الكبر إذا ما تأصلت فيهم، وهذه العادة ناشئة في اغلب الأحيان عن الخوف، وخاصة في مرحلة الطفولة،من عقاب يمكن أن ينالهم بسبب قيامهم بأعمال منافية للأخلاق، أو بسبب محاولتهم تحقيق أهداف وغايات غير مشروعة، ويكون الغرض منه بالطبع حماية النفس. وللكذب صلة بعادتين سيئتين أخريين هما السرقة والغش، ويمكن إجمال هذه الصفات الثلاثة السيئة بـ [ عدم الأمانة ]، حيث يلجأ الفرد للكذب لتغطية الجرائم التي يرتكبها للتخلص من العقاب، وقد وجد الباحثون في جرائم الأحداث بنوع خاص أن من اتصف بالكذب يتصف عادة بصفتي الغش والسرقة، فهناك صلة وثيقة تجمع بين هذه الصفات، فالكذب والغش والسرقة صفات تعني كلها [عدم الأمانة].
يلجأ الكثير من المربين إلى الأساليب القسرية لمنع الناشئة من تكرار هذه العادة، غير أن النتائج التي حصلوا عليها هي أن هؤلاء استمروا على هذا السلوك ولم يقلعوا عنه، وعلى هذا الأساس فإن معالجة الكذب لدى أبنائنا يحتاج إلى أسلوب آخر، إيجابي وفعّال، وهذا لا يتم إلا إذا درسنا هذه الصفة وأنواعها ومسبباتها، فإذا ما وقفنا على هذه الأمور استطعنا معالجة هذه الآفة الخطيرة.
أنواع الكذب : (11)
1 ـ الكذب الخيالي :
كأن يصور أحد الأبناء قصة خيالية ليس لها صلة بالواقع، وكثيراً ما نجد قصصاً تتحدث عن بطولات خيالية لأناس لا يمكن أن تكون حقيقية. إن علينا كمربين أن نعمل على تنمية خيال أطفالنا لكونه يمُثل جانباً إيجابياً في سلوكهم، وذو أهمية تربوية كبيرة، وحثهم لكي يربطوا خيالهم الواسع بالواقع من أجل أن تكون اقرب للتصديق والقبول.
غير أن الجانب السلبي في الموضوع هو إن هذا النوع يمكن أن يقود صاحبه إلى نوع آخر من الكذب أشد وطأة، وأكثر خطورة إذا لم أن نعطيه الاهتمام اللازم لتشذيبه وتهذيبه .
2 ـ الكذب الإلتباسي :
وهذا النوع من الكذب ناشئ عن عدم التعرف أو التأكد من
أمر ما، ثم يتبين أن الحقيقة على عكس ما رواه لنا الشخص
الشخص فهو كذب غير متعمد، وإنما حدث عن طريق الالتباس، وهذا النوع ليس من الخطورة بمكان. وهنا ينبغي أن يكون دورنا بتنبيه أبنائنا إلى الاهتمام بالدقة وشدة الملاحظة تجنباً للوقوع في الأخطاء.
3 ـ الكذب الادعائي :
وهذا النوع من الكذب يهدف إلى تعظيم الذات، وإظهارها بمظهر القوة والتسامي لكي ينال الفرد الإعجاب، وجلب انتباه الآخرين، ومحاولة تعظيم الذات، ولتغطية الشعور بالنقص، وهذه الصفة نجدها لدى الصغار والكبار على حد سواء. فكثيراً ما نجد أحداً يدعي بشيء لا يملكه، فقد نجد رجلاً يدعي بامتلاك أموال طائلة، أو مركز وظيفي كبير، أو يدعي ببطولات ومغامرات لا أساس لها من الصحة، وعلينا في مثل هذه الحالة أن نشعر أبنائنا أنهم إن كانوا اقل من غيرهم في ناحية ما فإنهم احسن من غيرهم في ناحية أخرى وعلينا أن نكشف عن كل النواحي الطيبة لدى أطفالنا وننميها ونوجهها الوجهة الصحيحة لكي نمكنهم من العيش في عالم الواقع بدلاً من العيش في عالم الخيال الذي ينسجونه لأنفسهم، وبذلك نعيد لهم ثقتهم بأنفسهم، ونزيل عنهم الإحساس بالنقص.
4 ـ الكذب الانتقامي :
وهذا النوع من الكذب ناشئ بسبب الخصومات التي تقع بين الأبناء وخاصة التلاميذ، حيث يلجأ التلميذ إلى إلصاق تهم كاذبة بتلميذ آخر بغية الانتقام منه، ولذلك ينبغي علينا التأكد من كون التهم صحيحة قبل اتخاذ القرار المناسب إزاءها، وكشف التهم الكاذبة، وعدم فسح المجال أمام أبنائنا للنجاح في عملهم هذا كي يقلعوا عن هذه العادة السيئة.
5 ـ الكذب الدفاعي :
وهذا النوع من الكذب ينشأ غالباً بسبب عدم الثقة بالأباء والأمهات بسبب كثرة العقوبات التي يفرضونها على أبنائهم، أو بسبب أساليب القسوة والعنف التي يستعملونها ضدهم في البيت مما يضطرهم إلى الكذب لتفادي العقاب، وهذا النوع من الكذب شائع بشكل عام في البيت والمدرسة.
فعندما يعطي المعلم لطلابه واجباً بيتيا فوق طاقتهم ويعجز البعض عن إنجازه نراهم يلجئون إلى اختلاق مختلف الحجج والذرائع والأكاذيب لتبرير عدم إنجازهم للواجب، وكثيراً ما نرى قسماً من التلاميذ يقومون بتحوير درجاتهم من الرسوب إلى النجاح في الشهادات المدرسية خوفاً من ذويهم.
وفي بعض الأحيان يكون لهذا النوع من الكذب ما يبرره حتى لدى الكبار، فعندما يتعرض شخصاً ما للاستجواب من قبل سلطات الأنظمة القمعية بسبب نشاطه الوطني، يضطر لنفي التهمة لكي يخلص نفسه من بطش السلطات، وفي مثل هذه الأحوال يكون كذبه على السلطات مبرراً.
إن معالجة هذا النوع من الكذب يتطلب منا آباء ومعلمين أن ننبذ الأساليب القسرية في تعاملنا مع أبنائنا بصورة خاصة، ومع الآخرين بصورة عامة كي لا نضطرهم إلى سلوك هذا السبيل.
6 ـ الكذب الوقائي [ الدفاعي :
وهذا النوع من الكذب نجده لدى بعض الأبناء الذين يتعرض أصدقاءهم لاتهامات معينة فيلجئون إلى الكذب دفاعاً عنهم . فلو فرضنا أن تلميذاً أقدم على كسر زجاجة إحدى نوافذ الصف، فإننا نجد بعض التلاميذ الذين تربطهم علاقة صداقه وثيقة معه ينبرون للدفاع عنه، نافين التهمة رغم علمهم بحقيقة كونه هو الفاعل.
وعلى المربي في هذه الحالة أن يحرم هؤلاء من الشهادة في الحوادث التي تقع مستقبلاً لكي يشعروا أن عملهم هذا يقلل من ثقة المعلم بهم، وعليه عدم اللجوء إلى الأساليب القسرية لمعالجة هذه الحالات، وتشجيع التلاميذ على الاعتراف بالأخطاء والأعمال التي تنسب لهم، وان نؤكد لأبناء أن الاعتراف بالخطأ سيقابل بالعفو عنهم، وبذلك نربي أبناءنا على الصدق والابتعاد عن الكذب.
7 ـ الكذب الغرضي [ الأناني ] :
ويدعى هذا النوع من الكذب كذلك [الأناني ]، وهو يهدف بالطبع إلى تحقيق هدف يسعى له بعض الأبناء للحصول على ما يبتغونه، فقد نجد أحدهم ممن يقتر عليه ذويه يدعي انه بحاجة إلى دفتر أو قلم أو أي شيء آخر بغية الحصول على النقود لإشباع بعض حاجاته المادية، وهذا يتطلب من الأهل أن لا يقتروا على أبنائهم فيضطرونهم إلى سلوك هذا السبيل.
8 ـ الكذب العنادي:
ويلجأ الطفل إلى هذا النوع من الكذب لتحدي السلطة سواء في البيت أو في المدرسة عندما يشعر أن هذه السلطة شديدة الرقابة وقاسية، قليلة الحنو في تعاملها معه، فيلجأ إلى العناد، وهو عندما يمارس مثل هذا النوع من الكذب فإنه يشعر بنوع من السرور.
ويصف الدكتور عبد العزيز القوصي حالة تبول لا إرادي لطفل تتصف أمه بالجفاف الشديد، فقد كانت تطلب منه أن لا يشرب الماء قبل النوم، لكنه رغبة منه في العناد كان يذهب إلى الحمام بدعوى غسل يديه ووجهه، لكنه كان يشرب كمية من الماء دون أن تتمكن أمه من ملاحظة ذلك، مما يسبب له التبول اللاإرادي في المنام ليلاً. (12)
9 ـ الكذب التقليدي:
ويحدث هذا النوع من الكذب لدى الأطفال حيث يقلدون آبائهم وأمهاتهم الذين يكذب بعضهم على البعض الآخر على مرأى ومسمع منهم، أو أن يمارس الوالدان الكذب على الأبناء، كأن يَعِدان أطفالهم بشراء هدية، أو لعبة ما، ولا يوفيان بوعودهما فيشعرون بأن ذويهم يمارسون الكذب عليهم، فيتعلمون منهم صفة الكذب التي يمكن أن تترسخ لديهم هذه العادة بمرور الوقت.
إن على الوالدين أن يكونا قدوة صالحة لأبنائهم، وأن يكونا صادقين وصريحين في التعامل معهم، فهم يتخذونهم مثالاً يحتذون بهم كيفما كانوا، فإن صلح الوالدين صلح الأبناء في غالب الأحيان ، وإن فسدوا فسد أبناؤهم.

10 ـ الكذب المرضي المزمن :
وهذا النوع من الكذب نجده لدى العديد من الأشخاص الذين اعتادوا على الكذب، ولم يعالجوا بأسلوب إيجابي وسريع فتأصلت لديهم هذه العادة بحيث يصبح الدافع للكذب لاشعورياً وخارجاً عن إرادتهم، وأصبحت جزءاً من حياتهم ونجدها دوما في تصرفاتهم وأقوالهم.
فهم يدعون أموراً لا أساس لها من الصحة، ويمارسون الكذب في كل تصرفاتهم وأعمالهم، وهذه هي اخطر درجات الكذب، واشدها ضرراً، وعلاجها ليس بالأمر السهل ويتطلب منا جهوداً متواصلة ومتابعة مستمرة.
كيف نعالج مشكلة الكذب ؟
لمعالجة هذه الآفة الاجتماعية لدى أبنائنا ينبغي لنا أن نلاحظ ما يلي:
1 ـ التأكد إذا ما كان الكذب لدى أبنائنا نادراً أم متكرراً .
2 ـ إذا كان الكذب متكرراً فما هو نوعه ؟ وما هي دوافعه ؟
3ـ عدم معالجة الكذب بالعنف أو السخرية والإهانة، بل ينبغي دراسة الدوافع المسببة للكذب .
4ـ ينبغي عدم فسح المجال للكاذب للنجاح في كذبه، لأن النجاح يشجعه على الاستمرارعليه.
5 ـ ينبغي عدم فسح المجال للكاذب لأداء الشهادات.
6ـ ينبغي عدم إلصاق تهمة الكذب جزافاً قبل التأكد من صحة الواقعة.
7ـ ينبغي أن يكون اعتراف الكاذب بذنبه مدعاة للتخفيف أو العفو عنه، وبهذه الوسيلة نحمله على قول الصدق.
8ـ استعمال العطف بدل الشدة، وحتى في حالة العقاب فينبغي أن لا يكون العقاب اكبر من الذنب بأية حال من الأحوال.
9 ـ عدم إرهاق التلاميذ بالواجبات البيتية.
10ـ عدم نسبة أي عمل يقوم به المعلمون أو الأهل إلى التلاميذ على أساس انه هو الذي قام به، كعمل النشرات المدرسية، أو لوحات الرسم وغيرها من الأمور الأخرى.

وختاماً ينبغي أن نكون صادقين مع أبنائنا وطلابنا في كل تصرفاتنا وعلاقاتنا معهم، وأن ندرك أن الطفل الذي ينشأ في محيط يحترم الصدق يتعود عليه، وأنه إذا ما توفر له الاطمئنان النفسي والحرية والتوجيه الصحيح فإن الحاجة تنتفي إلى اللجوء إلى الكذب . (13)


42


دراسة تربوية
علموا ابناءكم الحياة
الحلقة الخامسة
حامد الحمداني                                15/11/2018

12 ـ الغريزة الجنسية :
وتعتبر هذه الغريزة من أقوى الغرائز البشرية وأخطرها في الوقت نفسه، أنها غريزة البقاء للجنس البشري، والتي تتشابك مع غريزة الأبوة والأمومة لتكونا معاً اتحاداً مقدساً يجمع بين الذكر والأنثى لكي تنشأ الخلية الصغيرة في مجتمعنا أي [ الأسرة ] حيث يكّون مجموع الأسر المجتمعات البشرية.
تبدأ هذه الغريزة بالظهور منذ مراحل الطفولة الأولى بشكل بسيط وبدائي في بادئ الأمر، لكنها سرعان ما تتطور في بداية مرحلة المراهقة، وتشتد عنفواناً، حيث نجد الأبناء يميلون كل إلى الجنس الآخر[الذكر والأنثى ]، ويأخذ الجنس بالسيطرة على تفكيرهم باستمرار،ولذلك فأن مرحلة المراهقة تعتبر اخطر مراحل النمو، وأكثرها حاجة لإشراف الآباء والأمهات والمربين، وتقديم النصائح والإرشادات للمراهقين غير مكتملي النضوج، والذين يمكن أن يتعرضوا لأخطار كثيرة إذا أهملنا واجبنا تجاههم كمربين، وتركناهم يتخبطون في سلوكهم وتصرفاتهم .
ينبغي أن نعطي اهتماماً كبيراً للتربية الجنسية، سواء في البيت أو المدرسة ،وعدم التهيب من إعطاء أبنائنا وبناتنا المعلومات الكافية عن الحياة الجنسية، وينبغي لنا أن ندرك أن الاضطراب العصبي الذي نجده لدى المراهقين عائد في الواقع لتهديدهم من الاقتراب من المسألة الجنسية.

إن سياسة السكوت وحجب الحقائق الجنسية عن الأبناء تؤثران تأثيراً سلبياً بالغاً عليهم، إضافة إلى أنهم سيدركون أن ذويهم يكذبون عليهم، وهم سوف يجدون الحقيقة عاجلاً أم آجلاً، وعندما يكتشفونها فإنهم سوف لن يستمروا بمتابعة طرح الأسئلة على ذويهم، وسوف يستعيضون عن ذلك بالحصول على كل المعلومات المتعلقة بالحياة الجنسية من زملائهم الآخرين.

إن الكذب على الأبناء عملُ غير صحيح إطلاقاً وغير مرغوب فيه، وإن المعلومات عن المواضيع الجنسية ينبغي أن تعطى لهم تماماً بنفس اللهجة، ونفس الشيء من المعلومات عن المواضيع الأخرى، وأن تعطى بنفس الحديث المباشر. (8)

وإذا كان الوالدان غير قادرين على التحدث مع أطفالهم بشكل طبيعي في المواضيع المتعلقة بالجنس فسيدعونهم يستمعون إلى الآخرين الذين هم أقل تمسكاً بالتقاليد وقيم العائلة، وليس هناك أية صعوبة قبل البلوغ في جعل الطفل يبقى طبيعياً بالنسبة للجنس، تماما كما في المواضيع الأخرى، وحتى بعد البلوغ سوف تكون أقل بكثير عندما ينعمون بصحة سليمة أكثر مما عندما تكون عقولهم قد امتلأت بالرعب والحرمان غير المعقول. (9)
إن التضحية بالذكاء في سبيل الفضيلة عن طريق جعل الأولاد مشغولين ومتعبين جسدياً، كي لا تكون لديهم فرصة أو ميل للجنس يسبب لهم الأضرار التالية : (10)
1 ـ يغرس رعباً وهمياً في عقول الأولاد .
2 ـ يسبب نسبة كبيرة من الخداع .
3ـ يجعل التفكر في المواضيع الجنسية مشيناً ووهمياً .
4ـ يسبب تشوقاً فكرياً قد يظهر مخطئاً ومدمراً، وقد يصبح مؤذياً قذراً يفقد الراحة، ويعيق الإدراك.
إن من المهم في جميع تصرفاتنا مع الأطفال أن لا نشعرهم أن الحصول على فكرة عن الجنس هو شيء قذر وسري. إن الجنس موضوع هام جداً، ومن الطبيعي للمخلوقات البشرية أن تفكر به، وتتكلم عنه وخير لنا أن لا ندع أبنائنا يتعلمون عنه من الجهلة أو المراهقين المنحرفين فينزلقون وينحرفون، وخاصة ما نراه اليوم من انتشار الأمراض الفتاكة الناجمة عن فقدان الوعي الجنسي والصحي لدى المراهقين بصورة خاصة، والمنتشرة بشكل خطير في أنحاء العالم كمرض [ فقدان المناعة] الذي بات يهدد حياة مئات الملايين بالموت المحقق، وحيث لم يتوصل العلم لحد الآن إلى علاج شافٍ له، أو الوقاية منه، والذي يمكن أن يُنقله المصابون للآخرين الذين لا يملكون المعرفة والخبرة الكافية لتجنب هذا الوباء الوبيل.
13 ـ غريزة الضحك:
الضحك سلوك غريزي نجده بشكل واضح لدى الأطفال منذ المراحل الأولى، فهم يضحكون لأتفه الأسباب، وقد ينطلق الطفل بالضحك بصورة لاإرادية، ولاشك أن الضحك يؤثر تأثيراً إيجابياً على الصحة النفسية للأطفال وللكبار على حد سواء، وينفس عن الضيق والضجر الذي يشعر به المرء في حياته، وعليه فأن قمع هذه الغريزة لدى أبنائنا يعود بالضرر البليغ على حالتهم النفسية.
إن علينا أن ندعهم ينفسون عن ما في أنفسهم بالضحك والمرح حتى داخل الصف في المدرسة لكي لا نجعل الدروس عبئاً ثقيلاً عليهم، إن بضع دقائق من الضحك والمرح تخلق روح التجديد والنشاط لدى التلاميذ، وتجعلهم يقبلون على الدرس برغبة واشتياق، شرط أن يكون بحدود معقولة لا تدع العبث يطغي على الدرس، ولاشك أن المعلم العبوس، الذي يرفض أن يمنح تلامذته الابتسامة، ويستكثر عليهم الانبساط ولو لبضعة دقائق، يصبح درسه عبئاً ثقيلاً عليهم وبالتالي يكرهونه ويكرهون درسه معاً.
الخلاصة:
نستخلص من كل ما سبق أن الحقيقة التي ينبغي أن نضعها أمام أنظارنا هي أن الوقوف بوجه الغرائز ومحاولة استئصالها أو قمعها أو بترها أمرٌ ضار جداً، ومخالف للطبيعة البشرية، لأن الغرائز لا يمكن قهرها أو إلغائها، بل يمكن السمو بها وتوجيهها وجهة الخير، لكي تعود على أبنائنا بالفائدة التي من أجلها ولدت معنا هذه الغرائز، فمن المعلوم أن كل شيئ في الوجود يحوي على الجوانب الإيجابية والنواحي السلبية، ولاشك أن دورنا كبير وأساسي في التركيز على الجوانب الإيجابية لهذه الغرائز، وحثّ أبنائنا على التمسك بها، والتقليل من تأثيرات الجوانب السلبية، وبهذا نستطيع خلق الظروف الصحية لنمو أبنائنا أخلاقياً ونفسياً وجسمانياً، ولاشك أن هذا العمل ليس بالأمر الهين، وهو يتطلب منا عملاً مثابراً، ومتواصلاً حتى نستطيع أن نوصل أبناءنا إلى شاطئ السلامة والأمان.

43
دراسة تربوية
علموا ابناءكم الحياة
الحلقة الرابعة
حامد الحمداني                                               14/11/2018

أولاً ـ المشاكل السلوكية الفطرية:

ونقصد بهذا النوع من المشاكل تلك التي تنشأ أو تظهر لدى أبنائنا وبناتنا نتيجة لدوافع فطرية يطلق عليها عادة [الغرائز]، ولابد لنا قبل البحث في هذا النوع من المشاكل أن نستعرض تلك الغرائز البشرية لكي نقف على ما يمكن أن يسببه التعامل معها لأبنائنا من مشاكل سلوكية ومعالجتها، ذلك أن الغرائز البشرية هذه لا يمكن كبتها أومحوها أو تجاهلها على الإطلاق، ولكن يمكننا السمو بها وجعلها مصدر خير لأبنائنا ومجتمعنا، وبذلك نكون قد حققنا هدفنا في تنشئة أبنائنا  نشأةً صالحة وجنبناهم الكثير من الشرور، ذلك أن الغرائز يمكن أن تكون مصدر شر وأذى إذا ما تركت وشأنها، ويمكن أن تكون مصدر خير إذا ما سمونا بها وسيطرنا عليها بشكل علمي وعقلاني دون اللجوء إلى القسر والقمع الذّين يمثلان نقيضاً للطبيعة البشرية التي لا يمكن قهرها.

أنواع الغرائز [ الدوافع ] (6)
1 ـ غريزة الخلاص .
2 ـ غريزة المقاتلة .
3 ـ غريزة حب الاستطلاع .
4 ـ غريزة الأبوة والأمومة .
5 ـ غريزة البحث عن الطعام .
6 ـ غريزة النفور
7 ـ غريزة الاستغاثة .
8 ـ غريزة السيطرة .
9 ـ غريزة الخضوع .
10 ـ غريزة حب التملك .
11 ـ غريزة حب الاجتماع .
12 ـ غريزة الهدم والبناء
13 ـ غريزة الجنس .
14 ـ غريزة الضحك .
ولابد لنا أن نشير ولو بشكل موجز إلى كل واحدة من هذه الغرائز، وما يمكن أن تسببه للإنسان من سلوك إيجابي أو سلبي، وكيف يمكن السمو بها وتوجيهها لما فيه خير أبنائنا وبناتنا .
1ـ غريزة الخلاص :
وتستثار هذه الغريزة عادة عند شعور الأطفال بخطر ما  يجعلهم يلجئون إلى الهرب شعوراً منهم بالخوف، فلو فرضنا أن حريقاً شب في صف من الصفوف فإننا نجد الأطفال يتراكضون وقد تملكهم الرعب والفزع، لينجوا بأنفسهم من الحريق والموت، وهنا تظهر أيضاً انفعالات لغريزة أخرى هي غريزة [الاستغاثة ] فيعمد الأطفال إلى الصراخ وطلب النجدة، شعوراً منهم بالخطر، وقد يتحول الخوف إلى نوع من الهلع الحاد وينتاب الطفل مشاعر غريبة وفريدة إلى حد كبير.

ما هو موقفنا من هذه الغريزة ؟

 إن من الطبيعي أن يكون موقفنا منها ذا شقين :
 الشق الأول: تبيان مخاطر النار لأطفالنا، وما تسببه الحرائق من خسائر في الأرواح والممتلكات، كي نبعدهم عن اللعب والعبث بالنار، أو الاقتراب منها أو إشعالها، وأن نوضح لهم أن الحرائق تبدأ عادة بعود ثقاب، أو بشرارة نارية أو كهربائية، لكنها سرعان ما تشتد وتتسع بحيث يصعب السيطرة عليها بسهولة، وبدون خسائر مادية وبشرية كبيرة، وربما تكون كارثية.
الشق الثاني: ينبغي لنا أن لا ندع الخوف والهلع يسيطر على أبنائنا فيسبب ما سبق أن ذكرنا من مضار ومخاطر، ذلك أن الخوف والهلع في المواقف هذه يفقد القدرة على التفكير والتصرف الصائب وينبغي علينا أن نستثير فيهم روح الشجاعة والأقدام والاتزان، وعدم الارتباك والتصرف الهادئ في مثل هذه المواقف.

2 ـ غريزة المقاتلة :
 إن موقفنا من هذه الغريزة يجب أن يتصف بالحكمة والدقة. فلو أن أحد الأبناء تخاصم مع أحد زملائه لأنه وقف حائلاً أمام رغبته في تحقيق أمر ما، فعلينا أولاً وقبل كل شيء أن نتفهم السبب الحقيقي للنزاع، لكي نتعرف على ما إذا كان الموقف يستحق المقاتلة والخصام أم لا،  وينبغي أن نفهمه أن اللجوء إلى المقاتلة قبل استنفاذ الوسائل السلمية  أمر غير مقبول، وأن الواجب يقتضي منه مراجعة إدارة المدرسة إن كان متواجداً فيها، ومراجعة ذويه إن كان خارج المدرسة، إذ أن التسرع واللجوء إلى العنف يعرض النظام العام للانهيار فلا تستطيع المدرسة أن تؤدي عملها، و لذلك فعليه الاستعانة بإدارة المدرسة قبل اللجوء إلى استعمال القوة، وعلى إدارة المدرسة أن تأخذ المسألة بشكل جدي وتجري التحقيق اللازم في الأمر بشكل دقيق، ومعالجة المشكلة بشكل يجعل التلميذ يؤمن بأن مراجعته إدارة المدرسة يؤمن له حقه، إن كان على حق طبعاً، فلا يلجأ للقتال.

 ولا شك أن الأطفال والمراهقين ذوي الاضطرابات الأخلاقية يمارسون أحياناً سلوكيات تتسم بالعدوان والاندفاع والتدمير، على الرغم من الجهود المضنية التي تبذل من قبل المربين لتعديل سلوكهم، وهم يمارسون عملية انتهاك حقوق الآخرين باستمرار، ولا يلتزمون بالمعايير الاجتماعية بما يتناسب مع عمرهم الزمني، و يستمرون بممارسة هذا السلوك على الرغم من تعرضهم مراراً وتكراراً للعقاب، ويصرون على ممارسة [السلوك العدواني والمواجهة البدنية] مع الآخرين، كما يتسمون [بالعناد وعدم الخضوع ] و[ والإخفاق في الأداء ] سواء في المنزل او المدرسة، و[ تكرار الإهمال ]، و[التهرب من البيت أو المدرسة ] و[تخريب الممتلكات العامة والخاصة ] و[الانحراف الجنسي ] و[السرقة ] وغيرها من الآفات الاجتماعية الأخرى التي قد تتضمن مواجهة جسدية عدوانية [ السرقة بالإكراه ] أو[ الاعتداء الجنسي العنيف والاغتصاب ] وقد تمتد هذه السلوكيات إلى العراك مع الأقران، والاعتداء على الآخرين، والهجوم عليهم والاغتصاب والقتل. (7)
إن معالجة هذا النوع من السلوك المنحرف تتطلب جهوداً كبيرة، وأساليب معقدة، وصبراً وأناةً طويلين، ومتابعةً مستمرةً من قبل البيت والمدرسة معاً، وقد يتطلب ذلك علاجاً نفسياً وصحياً.
أن هناك البعض ممن يقف من المقاتلة موقفاً سلبياً بشكل مطلق فيسبب موقفهم هذا ببث روح المذلة والخنوع والانهزامية في نفوس الناشئة، فهناك مواقف ينبغي أن تتميز بالشجاعة والإقدام دفاعاً عن الحقوق المغتصبة، فالجندي الذي نطلب منه أن يدافع عن وطنه وشعبه ضد المعتدين لا يستطيع القيام بواجبه على الوجه الأكمل إذا قتلنا فيه صفات
الشجاعة والإقدام في المراحل الأولى من حياته.

ينبغي أن يكون موقفنا من هذه الغريزة موقفاً إيجابياً قائماً على أساس سيادة القانون والنظام أولاً، والدفاع عن الحقوق والكرامة ثانياً، فلا اعتداء على الأخوان والأصدقاء والزملاء والجيران، ولا خنوع وخضوع وجبن أمام المعتدين.

3 ـ غريزة الأبوة والأمومة :
تستثار هذه الغريزة في المراحل الأولى من حياة أبنائنا وبناتنا عند تعرض الآخرين لحادث ما، فيلجأؤن إلى مساعدتهم. وطبيعي أن هذه الغريزة تحمل جانباً خيراً بشكل عام، فعندما يسقط أحدهم ويصاب بجرح أو كسر في يده أو رجله نجد زملائه يسارعون إليه بحنو وعاطفة ليقدموا له المساعدة، وقد بدت عليهم علامات الحزن والأسى.

 إن هذه الغريزة لها أهمية قصوى في تربية أبنائنا على روح المحبة والتعاون، حيث أن المحبة والتعاون ركنان أساسيان من الأركان التي يبنى على أساسها المجتمع، وهي السبيل لتقدمه ورقيه وتطوره، ورفاهه.

أما في مرحلة النضوج فمعروف أن هذه الغريزة هي الأساس في بقاء وتطور المجتمعات حيث يطمح الأبناء والبنات البالغون في تكوين الأسرة، وإنجاب الأطفال وتربيتم في جو من الحنان والحب يصل إلى درجة التضحية بالنفس في سبيلهم، فنراهم يكدون ويتعبون طوال النهار من أجل تأمين الحياة السعيدة والعيش الهانئ لأبنائهم. ولولا هذه الغريزة لما تحملت الأم ولا تحمل الأب تبعات  المصاعب والمشاق التي يصادفونها في تربيتهم ومساعدتهم في بناء مستقبل يليق بهم .

4 ـ غريزة حب الاستطلاع :
تستثار هذه الغريزة لدى أبنائنا عندما يكون الأبناء أمام أمرٍ يهمهم معرفته، وقد يكون لهم معرفة  بجزء منه، وهذه الغريزة ذات أهمية كبيرة بالنسبة للناشئة لأن استثارتها تدفعهم إلى اكتشاف الحقائق بأنفسهم، والحصول على الخبرات التي يحتاجونها في حياتهم ، كما تدفعهم إلى الدراسة والتتبع باستمرار، حتى في الكبر، بغية الوقوف على كل ما يجري من تطور وتغير في فيما يحيط بهم .
وهناك نقطة هامة ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا هي أن هذه الغريزة يمكن أن يكون لها تأثير سلبي ضار في بعض الحالات، وينبغي أن ننبه أبنائنا بأخطارها، وسأورد هنا مثالاً على ذلك :
في أحد دروس العلوم شرح المعلم لتلاميذه كيف يمكن ممغطنة قطعة من الحديد، وذلك عن طريق لفها بسلك وربطها بتيار كهربائي.
وعندما عاد التلاميذ من المدرسة حاول أحدهم أن يقوم بالتجربة بنفسه، فأخذ قطعة الحديد ولفها بسلك ووصلها بالتيار الكهربائي بشكل غير صحيح فكانت النتيجة أن صعقه التيار الكهربائي وسبب له الوفاة.
لقد كان الواجب على المعلم أن يجري التجربة أمام التلاميذ بشكل يؤمن السلامة، و يحذرهم من خطورة الكهرباء إذا ما تمت التجربة بشكل خاطئ.

5 ـ غريزة البحث عن الطعام :
وهي من الغرائز الهامة لبقاء الحياة واستمرارها، وتظهر بعد الولادة مباشرة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون الطعام، وغالباً ما تستثار هذه الغريزة عند ما نشم رائحة الطعام الشهي أو تقع أبصارنا على الحلويات وغيرها، ويشعر الإنسان، عن طريق حاسة الذوق، بلذة كبيرة وهو يتناول ما يشتهيه من تلك الأطعمة والحلويات.
 إن هذه الغريزة تفعل فعلها لدى الكبار والصغار على حد سواء، ورغم أن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الطعام لكي يبقى على قيد الحياة، فأن تناول الطعام بغير اعتدال يعطي نتائج سلبية على صحة الإنسان، حيث يسبب السمنة والتي بدورها تسبب العديد من الأمراض الخطيرة كالسكري وأمراض القلب، وتسوس الأسنان، وغيرها من الأمراض الأخرى، مما يتطلب منا تعويد أبنائنا على العادات الغذائية الصحيحة .
كما أن هذه الغريزة تدفع بالكثير من الصبيان الذين لا يجدون لديهم النقود لشراء الحلويات إلى السرقة من المحلات لإشباع هذه الغريزة، ولذلك يجب على الآباء والأمهات إشباع هذه الرغبة لدى الأبناء، وعدم التقتير عليهم، لكي لا يتجهوا نحو السرقة التي يمكن أن تتأصل لديهم إذا ما استمروا عليها لفترة من الزمن .
6 ـ غريزة النفور :
هذه الغريزة نجدها لدى الصغار والكبار على حد سواء حيث أن الإنسان بطبيعته يتحسس الروائح أو المشاهد المختلفة، فنراهم ينفرون وتتقزز نفوسهم من الروائح الكريهة، أو من المشاهد المؤلمة، وعلى العكس نجدهم يتمتعون برؤية المشاهد الجميلة والمسرة، ويستمتعون بشم الروائح العطرة ولذلك نجد الأبناء، وخاصة المراهقين منهم يسعون إلى الاهتمام بمظهرهم ورائحتهم من أجل لفت انتباه الآخرين وخاصة من الجنس الآخر.
وهناك جانب آخر من النفور نجده لدى البعض تجاه البعض الآخر، وخاصة في صفوف المراهقين  بسبب لون البشرة، أو القومية أو الدين، أو غيرها من المبررات، وهو يمثل جانباً خطيراً يهدد سلامة المجتمع ويعمل على تمزيقه، وخلق استقطاب وتنافر وصراع يصعب معالجته إذا ما استمر وتوسع، دون أن يواجه على المستويين الرسمي والشعبي.    ولاشك أننا نشهد اليوم تصاعد موجة معاداة الأجانب من قبل العديد مـن المراهقين في مختلف البلدان الأوربية، بسبب لون بشرتهم أو جنسهم، ووقوع الاعتداءات البدنية الشديدة التي وصلت في بعض الأحيان إلى القتل، مما يستدعي الواجب من الحكومات والمجتمع أن يعطيا هذه المشكلة أهمية كبيرة، حيث يقيم في المجتمعات الغربية أعداد كبيرة من المهاجرين، والعمل على استنفاذ كل الوسائل والسبل لخلق روح من الألفة والمحبة والتسامح والتعاون بين أبناء هذه المجتمعات والمهاجرين، ومحاولة ربط جسور من الروابط التي تجعل التعايش فيما بينهم أمرٌ طبيعي بكل ما تعنيه الكلمة، ولاشك أن المسألة تتوقف علينا جميعاً ،كباراً وصغار، سواء كنا مواطنين أو مهاجرين، مسؤولين وغير مسؤولين ،أن نبذل أقصى ما يمكن من الجهود لمعالجة الوضع، فإذا ما تكاتفت الجهود الصادقة أمكننا تحقيق الهدف المنشود في خلق مجتمع تسوده المحبة والمودة والسلام.



44
دراسة تربوية
علموا ابناءكم الحياة
الحلقة الثالثة
حامد الحمداني                                                                        5/11/ 2018


2 ـ ضعف الثقة بالنفس:
 من المظاهر التي نجدها لدى أبنائنا الذين يشعرون بضعف الثقة بالنفس هي ما يلي:
1 ـ التردد : فالطفل أو الصبي الذي يعاني من ضعف الثقة بالنفس يتردد كثيراً عند توجيه سوآل ما إليه بسبب عدم ثقته بالقدرة على الإجابة الصحيحة.

2 ـ انعقاد اللسان : وهذا الوضع ناجم أيضاً عن عدم الثقة بالقدرة على الإجابة الصحيحة.

3ـ الخجل والانكماش : وهذا ناجم أيضاً من الخوف من الوقوع في الخطأ، ولذلك نجد البعض يتجنب المشاركة في أي نقاش أو حديث  لهذا السبب.

4ـ عدم الجرأة: حيث يشعر الإنسان بعدم القدرة على مجابهة الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها.
5ـ التهاون: حيث يحاول الشخص تجنب مجابهة الصعاب والأخطار التي تصادفه في حياته.
 
6ـ عدم القدرة على التفكير المستقل: حيث يشعر الفرد دوماًبحاجته إلى الاعتماد على الآخرين .
7ـ توقع الشر وتصاعد الشعور الخوف في أبسط المواقف التي تجابه الفرد.
ونستطيع أن نجمل كل هذه المظاهر بعبارة واحدة هي[الشعور بالنقص ].

مسببات الشعور بالنقص: 
1 ـ الخوف: وقد تحدثنا عنه فيما سبق.
2ـ العاهات الجسمية: فهناك العديد من الأبناء المبتلين بعاهات جسمية متنوعة، وهذه العاهات تجعلهم يشعرون بأنهم غير جديرين، وعلى الأهل و المعلمين أن يهتموا بهذه الناحية اهتماماً بالغاً، وذلك بأن يكون موقفهم من هؤلاء الأبناء طبيعياً وعادياً كبقية الأبناء الآخرين بحيث لا نشعرهم بأنهم مبتلين بتلك العاهات، دون عطف زائد عليهم، وعدم فسح المجال لزملائهم بالسخرية منهم وتذكيرهم بالعاهة، وحثهم على احترام زملائهم والتعامل معهم بشكل طبيعي مشبع بروح الاحترام، وأن أي سلوك أخر تجاه هؤلاء الأبناء يؤدي بهم إلى ما يلي :
 أ ـ التباعد والانكماش.
ب ـ الخمول والركود.
ج ـ النقمة والثورة على المجتمع وآدابه وتقاليده.
3 ـ الشعور بالنقص العقلي:
 فقد يكون هناك بعض الأبناء قد تأخروا في بعض الدروس لأسباب معينة لا يدركونها، أو لا يشعرون بها هم أنفسهم، وهي ربما تكون بسبب مرضي، أو لظروف اجتماعية، أو بيئية، أو اقتصادية، فعلينا والحالة هذه أن ندرس بجدية أوضاعهم وسبل معالجتها، وأن نقف منهم موقفاً إيجابياً كي نبعد عنهم روح الاستسلام والفشل، كما ينبغي على المعلمين أن لا يحمّلوا التلاميذ من الواجبات أكثر من طاقاتهم فيشعرونهم بأنهم ضعفاء عقلياً، ويخلق لديهم التشاؤم، والخجل، والحساسية الزائدة والجبن.
             
ثالثاً: العوامل الاجتماعية: ومن مظاهر هذه العوامل:
1 ـ الجو المنزلي السائد:
 ويتضمن علاقة الأب بالأم من جهة وعلاقتهما بالأبناء، وأساليب تربيتهم من جهة أخرى، فالنزاع بين الأم والأب، كما ذكرنا سابقاً، يخلق في نفوس الأبناء الخوف، وعدم الاستقرار، والانفعالات العصبية.
كما أن التمييز بين الأبناء في التعامل والتقتير عليهم، وعدم الأشراف المستمر والجدي عليهم،  يؤثر تأثيراً سيئاً على سلوكهم. وسوف أوضح ذلك بشيء من التفصيل في فصل قادم  حول أهمية تعاون البيت والمدرسة في تربية أبنائنا.

2 ـ الجو المدرسي العام:  هذا الجو يخص الأساليب التربوية المتبعة في معاملة التلاميذ، من عطف ونصح وإرشاد، أو استخدام القسوة والتعنيف، وعدم الاحترام، ومن جملة المؤثرات على سلامة الجو المدرسي:
 أ ـ تنقلات التلميذ المتكررة من مدرسة إلى أخرى:
أن انتقال التلميذ من مدرسة إلى أخرى يؤثر تأثير سلبياً عليه حيث سيفقد معلميه مع زملائه وأصدقائه الذين تعود عليهم، وهذا يستدعي بدوره وجوب التأقلم مع المحيط المدرسي الجديد  وهو ليس بالأمر السهل والهين، ويحمل في جوانبه احتمالات الفشل والنجاح معاً.

ب ـ تغيب الأبناء عن المدرسة وهروبهم منها :
وهذا أمر وارد في جميع المدارس، حيث أن هناك عوامل عديدة تسبب التغيب والهروب، ومن أهمها أسلوب تعامل المعلمين مع التلاميذ، وطبيعة علاقاتهم مع زملائهم، وسلوكهم وأخلاقهم .
ج ـ تبدل المعلمين المتكرر:
 حيث يؤثر هذا التغير المتكرر بالغ التأثير على نفسية التلاميذ، فليس من السهل أن تتوطد العلاقة بين التلاميذ ومعلميهم، وإن ذلك يتطلب جهداً كبيراً من قبل الطرفين معا، و يتطلب المزيد من الوقت لتحقيق هذا الهدف، وهناك أمر هام آخر هو وجوب استقرار جدول الدروس الأسبوعي، وعم اللجوء إلى تغيره إلا عندما تستدعي الضرورة القصوى.

دـ ملائمة المادة وطرق تدريسها:
 وسوف أتعرض لهذا الموضوع في فصل لاحق.

رابعاً: العوامل الجسمية والصحية:
إن لهذه العوامل تأثير كبير على التلاميذ، من حيث سعيهم واجتهادهم، وكما قيل :
{ العقل السليم في الجسم السليم }.
 أن التلميذ المريض يختلف في قابليته واستعداده للفهم عن التلميذ الصحيح البنية. كما أن التلميذ الذي يتناول الغذاء الجيد يختلف عن زميله الذي يتناول الغذاء الرديء.
 والتلميذ الذي يتمتع بصحة جيدة وجسم قوي ينزع إلى حب التسلط والتزعم، وقد يميل إلى الاعتداء والعراك والخصام،  فالعوامل الجسمية إذاً ذات تأثير بالغ على سلوك الأبناء ودراستهم. (4)

خامساً : العوامل الاقتصادية:
إن العوامل الاقتصادية كما هو معلوم لدى الجميع تلعب في كل المسائل دوراً أساسياً وبارزاً، ويندر أن نجد مشكلة أو أي قضية إلا وكان العامل الاقتصادي مؤثراً فيها، فالأبناء الذين يؤمن لهم ذويهم كافة حاجاتهم المادية من طعام جيد وملابس و أدوات، ووسائل تسلية، وغيرها يختلفون تماماً عن نظرائهم الذين يفتقدون لكل هذه الأمور التي تؤثر تأثيراً بالغاً على حيويتهم ونشاطهم وأوضاعهم النفسية، وقد يدفع هذا العامل تلميذا للسرقة، ويدفع تلميذاً من عائلة غنية إلى الانشغال عن الدراسة والانصراف إلى أمور أخرى كالكحول والتدخين والمخدرات وغيرها، مما تعود عليه بالضرر البليغ.
هذه هي العوامل الرئيسية التي تسبب المشاكل لدى الناشئة، ونعود الآن إلى استعراض كل تلك المشاكل والتي حددناه بقسمين رئيسيين :
1 ـ المشاكل السلوكية.
2 ـ مشاكل التأخر الدراسي.

أولاً : المشاكل السلوكية :
إن المشاكل السلوكية التي تجابه أبنائنا سواء كان ذلك في البيت أو المدرسة كثيرة ومعقدة، وأن معالجتها والتغلب عليها ليس بالأمر السهل مطلقاً، وهو يتطلب منا الخبرة الكافية في أساليب التربية وعلم النفس من جهة، والتحلي بالحكمة والصبر والعطف الأبوي تجاه أطفالنا سواء في البيت و في المدرسة من جهة أخرى، ولذلك وجدت أن من الضروري أن أتعرض لأهم تلك المشاكل مستعرضاً مسبباتها وأساليب معالجتها والتغلب عليها، ولسهولة البحث نستطيع أن نقسمها إلى قسمين رئيسيين: (5)

 1 ـ المشاكل السلوكية الفطرية .
 2 ـ المشاكل السلوكية المكتسبة .
وسنلقي الضوء على هذه المشاكل، وأنواعها ومسبباتها، وموقفنا منها، وسبل علاجها في الحلقة الرابعة

45
دراسة تربوية
علموا ابناءكم الحياة
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                                               8/11/2018

أولا: المشاكل التي تجابه أبنائنا:
يتعرض أبناءنا إلى العديد من المشاكل في جميع مراحل النمو، بدءاً من مرحلة الطفولة، فمرحلة المراهقة وحتى مرحلة النضوج، وطبيعي أن مرحلة المراهقة تعد أخطر تلك المراحل، ولكلا الجنسين البنين والبنات على حد سواء، حيث تحدث تطورات بيولوجية كبيرة لديهم تتطلب منا نحن المربين، آباء وأمهات ومعلمين،أن نعطي لهذه المرحلة من حياة أبنائنا أهمية قصوى، فقد تكون هذه المرحلة نقطة حاسمة في حياتهم وسلوكهم خيراً  كان أم شراً، وإذا لم نعطها ذلك الاهتمام المطلوب، والملاحظة والرعاية المستمرة فقد يؤدي بالكثير من أبنائنا إلى الانحراف، ولاسيما في ظل مجتمع غربي يختلف كل الاختلاف عن مجتمعاتنا التي نشأنا فيها والعادات والتقاليد التي تربينا عليها.                             

لكني لا يمكنني القول أن كل ما تربينا عليه من عادات وتقاليد هي صحيحة تصلح لأجيالنا الناهضة، وليس كل العادات والسلوكيات في المجتمع الغربي كذلك، ففي كلا المجتمعين هناك الجيد وهناك الرديء من هذه العادات والسلوكيات، وإن من واجبنا كمربين أن نعمل على تفاعل هذه العادات والسلوكيات في المجتمعات الغربية بشكل يمكن أبنائنا من اكتساب كل ما هو خير ومفيد، وبالمقابل بتقديم ما ينفع أبناء هذه المجتمعات من القيم الأصيلة، وتحذير الأبناء من تلك العادات والسلوكيات الضارة شرط أن يكون ذلك بأسلوب تربوي بعيد كل البعد عن أساليب العنف والقمع، وينبغي أن نُشعر أبناءنا في مرحلتي المراهقة والنضوج أن العلاقات التي تربطنا وإياهم هي ليست علاقة أب وأم بأبنائهم فقط، بل علاقة أخٍ كبير بأخيه الصغير، أوعلاقة أخت كبيرة بأختها الصغيرة ،الذين يحتاجون إلى تجاربهم في الحياة، وأن نكون حذرين من محاولة فرض أسلوب الحياة التي تربينا عليه قسراً على أبنائنا، فقد خلق الأبناء لزمان غير زماننا، ولاسيما أنهم يعيشون في مجتمع يختلف كل الاختلاف عن مجتمعنا مما يجعل الأبناء يعيشون حالة من التناقض بين مجتمعهم الصغير[ البيت] ومجتمعهم الكبير، ولاسيما انهم يقضون أغلب أوقاتهم خارج البيت،                    ولذلك نجد الكثير من الآباء والأمهات يعانون الكثير في تربية أبنائهم، ويحارون في مجابهة المشاكل التي يتعرضون لها، وكيفية التعامل معها، ولكي نتفهم طبيعة المشاكل التي تجابه أبنائنا كي يسهل علينا حلها والتغلب عليها فإننا يمكن أن نحددها في ثلاثة أقسام رئيسية :                                                                                           
 أولاً  : المشاكل والاضطرابات السلوكية .
 ثانياً :المشاكل والاضطرابات الشخصية .
 ثالثاً : مشاكل التأخر الدراسي .
وسأحاول فيما يلي أن أوضح كلاً منها بشيء من التفصيل، مستعرضاً لأنواعها ودوافعها، والأساليب التربوية التي تمكننا من التغلب عليها، وحماية أجيالنا الصاعدة من الانزلاق إلى الانحرافات السلوكية التي تهدد مستقبلهم، وتهدد سلامة المجتمع الذي يعيشون في ظله، ولاسيما وأنهم سيكونون هم صانعي المستقبل ورجاله، وعليهم يتوقف تطوره ورقيه وسعادته.                                                                                                     
                                                                                               
العوامل المسببة لمشاكل أبنائنا:
 أن العوامل المسببة لمشاكل أبنائنا السلوكية والشخصية والتأخر الدراسي  يمكن إجمالها بما يأتي :
1 ـ عوامل عقلية .
2 ـ عوامل نفسية .
3 ـ عوامل  اجتماعية  .
4 ـ عوامل جسمية .
5 ـ عوامل اقتصادية .
وسأقدم هنا تفسيراً مختصراً لكل من هذه العوامل كي تعيننا على فهم تلك المشاكل وسبل معالجتها
أولاً ـ العوامل العقلية
تلعب هذه العوامل دوراً هاماً في كثير من المشاكل ، وأخص منها بالذكر مشكلة التأخر الدراسي ، فمن المعلوم أن أكثر أسباب التأخر الدراسي هو مستوى النمو العقلي ، والقدرة على الفهم والاستيعاب، والذي يختلف من شخص إلى آخر ، فقد يكون التخلف العقلي [بسيطاً ]، وقد يكون [متوسطاً ]، وقد  يكون[ شديداً ]، وفي أقسى الحالات يكون [حاداً] . وهذا التخلف ناجم عن  ظروف معينة سأتعرض لها فيما بعد عندما أتحدث عن مشاكل التأخر الدراسي .                                                                                           
أما ما يخص المشاكل السلوكية لدى أبنائنا فلا شك أن هناك جملة من العوامل التي تسببها وأخص بالذكر أهم تلك المسببات والتي يمكن حصرها بما يلي: (1)
1 - التربية الأسرية.                                                                                      .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                       
2 - البيئة التي يعيش فيها الأطفال والمراهقين .
3 ـ العوامل الوراثية.
إن هذه العوامل تؤثر تأثيراً بالغاً على سلوكهم، كما أن النضوج العقلي يلعب دوراً هاما في هذا السلوك، مما سأوضحه عند بحث تلك المشاكل بالتفصيل من فيما بعد.

 ثانياً  ـ العوامل النفسية:
ونستطيع أن نوجز أهم العوامل النفسية التي تلعب دوراً هاماً في حياة أبنائنا وتسبب لهم العديد من المشاكل هي ما يلي :
 1 ـ الشـعور بالخـوف.
 2 ـ ضعف الثقة بالنفس.
ولابدَّ أن نقف على ما تعنيه هذه العوامل بالنظر لتأثيرها الخطير على سلوك الناشئة.
1 ـ الشـعور بالخـوف :
وهو حالة انفعالية داخلية وطبيعية موجودة لدى كل إنسان، يسلك خلالها سلوكاً يبعده عن مصادر الأذى. فعندما نقف على سطح عمارة  من دون سياج، نجد أنفسنا ونحن نبتعد عن حافة السطح شعوراً منا بالخوف من السقوط ، وعندما نسمع ونحن نسير في طريق ما صوت إطلاق الرصاص فإننا نسرع إلى الاحتماء في مكان أمين خوفاً من الإصابة والموت، وهكذا فالخوف طريقة وقائية تقي الإنسان من المخاطر، وهذا هو شعور فطري لدى الإنسان هام وضروري.                                                                                   

غير أن الخوف ذاته قد يكون غير طبيعي [ مرضي ] وضار جداً، وهو يرتبط بشيء معين، بصورة لا تتناسب مع حقيقة هذا الشيء في الواقع [ أي أن الخوف يرتبط بشيء غير مخيف في طبيعته] ويدوم ذلك لفترة زمنية طويلة مسببا تجنب الطفل للشيء المخيف مما يعرضه لسوء التكيف الذي ينعكس بوضوح على سلوكه في صورة قصور وإحجام، وقد يرتبط هذا الخوف بأي شيء واقعي، أو حدث تخيلي، كأن يخاف الطفل من المدرسة، أو الامتحانات ،أو الخطأ أمام الآخرين، أو المناسبات الاجتماعية، أو الطبيب والممرضة، أو من فقدان أحد الوالدين أو كلاهما، أو الظلام أو الرعد والبرق، أو الأشباح والعفاريت، وقد يصاحب الخوف لديهم نوبات من الهلع الحاد، ويتمثل ذلك في [سرعة دقات القلب]  و[سرعة التنفس]و[الدوار أو الغثيان] و[التعّرق الشديد] و[تكرار التبول والهزال] و[عدم السيطرة على النفس]، وكل هذا قد يحدث فجأة وبشدة ،وبدون سابق إنذار. (2) وقد يسبب الخوف لأبنائنا مشاكل وخصالاً خطيرة معطلة لنموهم الطبيعي تسبب لهم الضرر الكبير والتي يمكن أن نلخصها بما يلي:                            .                                           1- الانكماش والاكتئاب                                                                                   
2 ـ التهتهة                                                                                                   
3 ـ عدم الجرأة.                                                                                           
4 ـ الحركات العصبية غير الطبيعية.                                                                   
5 ـ القلق والنوم المضطرب.
6 ـ التبول اللاإرادي.
7 ـ الجـبن .
8 ـ الحساسية الزائدة.
9 ـ الخـجل.
10 ـ التشاؤم.
وفي هذه الأحوال علينا نحن المربين أباء وأمهات ومعلمين أن نقوم بدورنا المطلوب لمعالجة هذه الظواهر لدى أبنائنا، وعدم التأخر في معالجتها، كي لا تتأصل لديهم، وبالتالي تصبح معالجتها أمراً عسيراً، ويكون لها تأثيراً سيئاً جداً على شخصيتهم وسلوكهم. وعلى ومستقبلهم.                                                                                                 
إن مما يثير الخوف في نفوس أبنائنا هو خوف الكبار، فعندما يرى الصغير أباه أو أمه أو معلمه يخافون من أمر ما فإنه يشعر تلقائياً بهذا  الخوف، فلو فرضنا على سبيل المثال أن أفعى قد ظهرت في فناء المدرسة أو البيت واضطرب المعلم أو الأب وركض خائفاً منها فإن من الطبيعي أن نجد الأطفال يضطربون، ويهربون رعباً وفزعاً، مما يركّز في نفوسهم الخوف لأتفه الأسباب. ومما يثير الخوف أيضاً في نفوس الأطفال  الحرص والقلق الشديد الذي يبديه الكبارعليهم، فعندما يتعرض الطفل لأبسط الحوادث التي تقع له، كأن يسقط على الأرض مثلاً، فليس جديراً بنا أن نضطرب ونبدي علامات القلق عليهم. إن علينا أن نكون هادئين في تصرفنا، رافعين لمعنوياته، ومخففين من اثر السقوط عليه، وإفهامه أنه بطل وشجاع وقوي ...الخ، حيث أن لهذه الكلمات تأثير نفسي كبير على شخصية الطفل. كما أن النزاع والخصام بين الأباء والأمهات في البيت أمام الأبناء يخلق الخوف عندهم ويسبب لهم الاضطراب العصبيوهناك الكثير من الآباء والأمهات والمعلمين يلجاؤن إلى التخويف كأسلوب لتربية الأبناء وهم يدّعون أنهم قد تمكنوا من أن يجعلوا سلوكهم ينتظم ويتحسن.

غير أن الحقيقة التي ينبغي أن لا تغيب عن بالهم هي أن هذا السلوك ليس حقيقياً أولاً، وليس تلقائياً وذاتياً ثانياً، وهو بالتالي لن يدوم أبداً. إن هذه الأساليب التي يلجأ إليها الكثير من الأباء والأمهات والمعلمين  تؤدي إلى إحدى نتيجتين اللتين تتعارض مع ما نهدف إليه وهما:ـ                                                                                                       
 1 ـ عدم إقلاع الأبناء عن فعل معين رغم تخويفه بعقاب ما،  ثم لا يوقع ذلك العقاب فعند ذلك يحس الأبناء بضعف المعلم أو الأب أو الأم، وبالتالي يضعف تأثيرهم بنظر الأبناء. أما إذا لجأ المربي إلى العقاب فعلاً، وهو أسلوب خاطئ ومرفوض بكل تأكيد، فإن الطفل حتى وإن توقف عن ذلك السلوك فإن هذا التوقف لن يكون دائمياً أبداً، ولابد أن يزول بزوال المؤثر [ العقاب ]،لأن هذا التوقف جاء ليس عن طريق القناعة، بل بطريقة قسرية.       
 2ـ إن خضوع الأبناء يخلق فيهم حالة من الانكماش تجعلهم مشلولي النشاط ، وجبناء، ذلك أن الخضوع ومن دون قناعة يجعلهم  ضعيفي الشخصية، وكلتا النتيجتين تعودان بالضرر البليغ عليهم.                                                                                     
                                                                                 
  كيف نزيل الخوف عند الأبناء؟                                              .                                   
إن باستطاعتنا أن نعمل على إزالة اثر الخوف غير الطبيعي لدى أبنائنا باتباعنا ما يأتي:
1ـ منع الاستثارة للخوف، وذلك بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يسبب الخوف عندهم .                                                 
2ـ توضيح المخاوف الغريبة لدى الأطفال، وتقريبها من إدراكهم ، وربطها بأمور سارة، فالطفل الذي يخاف القطة مثلاً يمكننا أن ندعه يربيها في البيت.

3ـ تجنب استخدام أساليب العنف لحل المشكلات التي تجابهنا في تربية الأبناء. (3)

46
دراسة تربوية / علموا ابناءكم الحياة / الحلقة الاولى

حامد الحمداني


شهدت الأساليب التربوية في عصرنا الحاضر تطورات هامة جعلت المدرسة الحديثة تقوم على أساس تفهم حاجات التلاميذ ومشاكلهم، وأصبح جلّ اهتمامها حل هذه المشاكل بأسلوب تربوي صحيح وإشباع تلك الحاجات، إنها تهدف إلى تربية أبنائنا اجتماعياً و أخلاقياً وعاطفياً، والعمل على تهيئة كل الوسائل والسبل لنمو أفكارهم وشخصياتهم بصورة تؤهلهم للوصول إلى الحقائق بذاتهم وبذلك يكونون عناصر فعالة ومحركة في المجتمع .

إنها تهدف كذلك إلى إذكاء أنبل الصفات والمثل الإنسانية العليا في نفسية الأجيال الصاعدة، وجعلهم يدركون حاجات المجتمع ، ويتفاعلون معه، من أجل تحقيق تلك الحاجات، وبالتالي تطوير المجتمع ورقيه وسعادته، وعلى هذا الأساس نجد أن المربي وليس المناهج الدراسية والكتب المقررة للدراسة هي العناصر الفعالة والحاسمة في تحقيق ما تصبوا إليه المدرسة والمجتمع .

[ إن الاتصال عقلا بعقل ونفساً بنفس،وشخصية بشخصية هو لب التربية] كما يقول المربي الكبير[ قستنطين زريق]، فالمربي يستطيع أن يؤثر إلى حد بعيد بأبنائه، وهذا التأثير ونوعيته، ومدى فائدته يتوقف على المربي ذاته، على ثقافته وقابليته وأخلاقه، ومدى إيمانه بمهمة الرسالة التي يحملها، وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فأن كل أعمالنا وسلوكنا وأخلاقنا تنعكس تماماً على أبنائنا الذين نقوم بتربيتهم سواء في البيت أم المدرسة، لأن كلاهما يكمل بعضه بعضا، ولاشك أن البيت هو المدرسة الأولى، وأن الأم هي المربية الأولى التي أجاد في وصفها الشاعر الكبيرمعروف الرصافي
حيث قال:
الأمُ مدرســةٌ إذا أعــددتها
أعددتَ شعباً طيبَ الأعراقِ
الأمُ أسـتاذُ الأساتذةُ الأولـى
شَغلتْ مآثُرها مـدى الآفــاقِ

إنه لمن المؤسف حقاً أن الكثير من المربين لم يدركوا هذه الحقيقة، ولا زالوا يسلكون تلك الأساليب التربوية البالية التي لا تهتم إلا بتلقين أبنائهم مبادئ القراءة والكتابة والمناهج النظرية المقررة في المدارس، أما مشاكل الأبناء وأساليب حلها، والتغلب عليها فتلك مسائل ثانوية في نظرهم، وفي اغلب الأحيان يلجأ الأهل إلى استعمال العنف والقمع مع أبنائهم كوسيلة للتربية، فهل تحقق هذه الأساليب القسرية ما نصبو إليه نحو أجيالنا الصاعدة؟ وبكل تأكيد أجيب كلا وألف كلا، فأن هذه الأساليب تؤدي إلى عكس النتائج المرجوة.

أن علينا كآباء ومربين أن ننبذ هذه الأساليب بشكل مطلق، ونعمل على دراسة وتفهم حاجات ومشاكل أبنائنا، والأسباب المؤدية لتلك المشاكل، وسبل حلها.
إن أبنائنا الذين يمثلون اليوم نصف المجتمع، والذين سيكونون كل المستقبل، هم بحاجة ماسة وضرورية لتأمين الظروف النفسية والاجتماعية السليمة لتنشئتهم وإعدادهم لهذا المستقبل الذي ينتظرهم، إنهم بحاجة للرعاية العائلية الحقيقية الفاعلة، حيث ينبغي أن يجد الأطفال حولهم القيم السامية والقدوة الحسنة، والمثل الإنسانية العليا في محيطهم العائلي وخاصة في مرحلة المراهقة التي تعتبر من أهم المراحل التي يمرّ بها أبنائنا وأخطرها، والتي يتم خلالها تثبيت دعائم القيم، واستيعاب المعارف والمفاهيم والأفكارالتي تخلق منهم عناصر إيجابية نافعة في المجتمع.

إننا بحاجة إلى بذل المزيد من الاهتمام بالجوانب الوجدانية والاجتماعية لأبنائنا وتطوير الأساليب التربوية التي يمكن أن توصلنا إلى هذا الهدف، والابتعاد عن أساليب التلقين العقيمة المتبعة في تعليم المواد التحصيلية، وعلينا أن ندرك أن أبنائنا بحاجة إلى الخبرات التي تجعلهم قادرين على التعبير عن آمالهم وحاجاتهم وخبراتهم ومشاكلهم.

كما انهم بحاجة للتدرّب على أساليب التعبير والمناقشة وإبداء الرأي، والتعود على العمل الجماعي، حيث أن العمل الجماعي يمثل عصب الحياة الاجتماعية الذي ينبغي توجيه الاهتمام له في عملية التربية، والتي تمكن أبنائنا من تحمل المسؤولية تجاه النفس، وتجاه البيت والمدرسة، وتجاه الحي الذي يعيشون فيه، حيث تجعلهم قادرين على المشاركة في الاجتماعية التي يمكن أن تتدرج من العمل الخاص إلى العمل العام، ومن العمل الفردي إلى العمل الجماعي الذي يمكنهم من التفاعل الإيجابي بالمجتمع، وتجعلهم متوافقين مع أنفسهم ومع المجتمع.
وينبغي لنا أن نؤكد على أن النجاح في تربية أبنائنا لا يتوقف على البيت والمدرسة فقط، بل أن وسائل الإعلام تلعب دوراً هاما وأساسياً في التأثير على حياة أبنائنا ومشاعرهم وسلوكهم خيراً كان أم شراً، وأخص بالذكر منها التلفزيون والسينما والصحافة التي يمكن أن تكون عامل بناء وتثقيف وإصلاح، ويمكن أن تكون عامل تهديم وتخريب لسلوكهم إذا ما أسيء استخدامها.
لقد كان لي شرف العمل في المجال التربوي لمدة ربع قرن من الزمان كنت خلالها أقرأ بنهم، وأتتبع كل ما يقع تحت يديّ من الكتب والأبحاث المتعلقة بالتربية الحديثة محاولا الاستعانة بها لخدمة أبنائي التلاميذ، وتربيتهم وتنشئتهم النشأة الصالحة، ومن خلال دراساتي وتجربتي التربوية تلك، رأيت أن من واجبي أن أقدم هذه المساهمة المتواضعة حول سبل تربية وتنشئة أجيالنا الصاعدة ودراسة ومناقشة مشاكلهم وسبل معالجتها بما يحقق لنا الأهداف المرجوة في بناء جيل قويم قادر على أخذ زمام المستقبل، ومالكاً لكل المقومات التي تؤهله للنجاح .

47
من ذاكرة التاريخ

                                  اندلاع وثبة كانون الثاني المجيدة 1948
2/2
حامد الحمداني                                                             28/ 10/ 2018   
             
 
على أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها [صالح جبر ] مع[ارنست بيفن ] وزير الخارجية البريطاني اجتاحت البلاد موجة عارمة من الغضب الشعبي العارم ،ونشرت الأحزاب الوطنية في 18 كانون الثاني البيانات المنددة بالحكومة والمعاهدة ، وطالبت البيانات باستقالة حكومة صالح جبر، ورفض المعاهدة التي جاءت أقسى من معاهدة 1930 وأشد وطأة. 

سارع طلاب الكليات والمعاهد العالية إلى إعلان الإضراب العام، وتشكيل  [لجنة التعاون الطلابي] التي ضمت مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية، وقامت المظاهرات الصاخبة في بغداد، ثم ما لبثت أن امتدت إلى مختلف المدن العراقية في 18  كانون الثاني، وتصاعدت موجة المظاهرات في اليوم التالي عندما انضم إليها العمال والكادحين من سكان الصرائف المحيطة ببغداد، والكسبة والمدرسين والمحامين وسائر طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة، واتجهت المظاهرات إلى بناية مجلس النواب، وكانت الجماهير تنظم إليها خلال مسيرتها والكل يهتفون بسقوط الحكومة، وحلّ المجلس النيابي، ورفض المعاهدة .
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان أذيع من دار الإذاعة هددت فيه بقمع المظاهرات بكل الوسائل والسبل  وقد شكل البيان استفزازاً كبيراً لجماهير الشعب دفعهم إلى تحدي السلطة، وأعلن طلاب المدارس كافة تضامنهم مع جماهير الشعب، وتحدي بيان الحكومة.
وفي 20 كانون الثاني انطلقت المظاهرات الواسعة يتقدمها طلاب كلية الشريعة، هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة، وجابهتهم قوات كبيرة من الشرطة مطلقة الرصاص على المتظاهرين، مما أوقع العديد من الشهداء والجرحى الذين نقلوا إلى المعهد الطبي، والمستشفى التعليمي بجوار كليتي الطب والصيدلة، وقد أدى ذلك الصدام إلى انتشار لهيب الوثبة في بغداد وسائر المدن الأخرى، وتصاعدت موجات المظاهرات التي اشتركت فيها جميع فئات الشعب من الطلاب، والعمال، والمثقفين، والكسبة، والكادحين من سكان الصرائف، واشتبكوا مع قوات الشرطة التي لم تستطع مجابهة المتظاهرين، وولت هاربة رغم السلاح الذي كانت تحمله بين أيديها، ولازلت أذكر تلك الأيام المجيدة من تاريخ كفاح الشعب العراقي بدقائقها، حيث كنت أحد الطلاب المشاركين فيها بالموصل وشاهدت شرطة النظام وهي تولي هاربة من غضب الجماهير الشعبية، وأسفرت تظاهرات يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني في بغداد عن استشهاد أربعة من الطلاب والمواطنين، إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى، لكن تلك التضحيات كانت حافزاً قوياً دفع جماهير الشعب على مواصلة الكفاح حتى تحقيق أهدافها في إسقاط الوزارة والمعاهدة معاً .
وفي يوم الأربعاء 21 كانون الثاني توجهت جماهير الشعب نحو المستشفى التعليمي لاستلام جثث الضحايا، لكن الشرطة فاجأتهم بوابل من الرصاص وحاولت الجماهير الاحتماء في بناية كليتي الطب والصيدلة، وبناية المستشفى ولاحقتهم الشرطة داخل البنايات المذكورة، وقتلت أثنين منهم، وكان أحدهم طالبا في كلية الصيدلة مما أشعل الموقف، ودفع عميدي كليتي الطب، والصيدلة وأساتذة الكليتين إلى الاستقالة احتجاجا على انتهاك حرمة الكليّتين، واحتجت الجمعية الطبية العراقية ببيان شديد اللهجة على تصرف الحكومة.
وتدهور الوضع في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة والوصي على العرش [عبد الإله] الذي سارع  لدعوة أعضاء الحكومة وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية الوطنية إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في 21 كانون الثاني لتدارس الوضع والخروج من المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها فيه، وكان من بين الحاضرين الشيخ [ محمد الصدر ] و[جميل المدفعي ] و [حكمت سليمان] و[ حمدي الباجه جي ] و[ارشد العمري] و[نصرت الفارسي]  و[ جعفر حمندي ] و [محمد رضا الشبيبي] و[ ومحمد مهدي كبه] زعيم حزب الاستقلال و[ كامل الجادرجي ] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي و[ وعلي ممتاز الدفتري ] ممثلا لحزب الأحرار، و[عبد العزيز القصاب] و[ صادق البصام ] ونقيب المحامين [ نجيب الراوي]، وجرت في الاجتماع نقاشات حامية حول تطور الأوضاع بين الموالين للسلطة والمعارضين لها، وقد اتهم الوزير[ عبد المهدي ] المتظاهرين بأنهم عناصر شيوعية هدامة ورد عليه السيد كامل الجادرجي بقوله:
 [ إن المتظاهرين هم عناصر وطنية وقومية عربية صرفه ] (16)
شعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف، وعدم استطاعة الحكومة مجابه الشعب وبعد مداولات دامت أكثر من خمس ساعات أصدر الوصي بياناً إلى الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة، ومما جاء في بيانه قوله : { إذا كان الشعب لا يريد هذه المعاهدة فنحن لا نريدها أيضاً }.

لقد أراد الوصي أن يمتص ببيانه هذا الغضب الجماهيري العارم الذي بات يهدد النظام، وهو في حقيقة الأمر كان مرغماً على تلك الخطوة، وهذا ما أكده وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] نفسه للسيد عبد الرزاق الحسني بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 من أن الوصي عبد الإله أصّر في بادئ الأمر على استخدام الشدة والعنف مع المتظاهرين، وحصدهم حصداً!، وبرر سكوته عن ذلك طيلة تلك المدة إرضاءً للوصي، وتستراً على موقفه من قصة رفض الشعب للمعاهدة التي عقدت بمعرفته وبتوجيهاته. (17)

أدى بيان الوصي عبد الإله إلى حدوث انشقاق في صفوف الأحزاب الوطنية، فقد  انشق حزب الاستقلال القو مي داعياً جماهير حزبه إلى التوقف عن التظاهر بعد بيان الوصي، فيما أصرت بقية القوى الوطنية على مواصلة الكفاح حتى سقوط حكومة صالح جير، وقيام حكومة حيادية تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتطلق سراح كافة المعتقلين السياسيين، وفي الوقت الذي كان الوصي يسعى بكل جهده لتهدئة الوضع طلع علينا صالح جبر ـ رئيس الوزراء-  بتصريح في لندن، في 22 كانون الثاني، يتهم المتظاهرين بأنهم عناصر هدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941
 بعد إسقاط  حكومة الكيلاني على يد جيش الاحتلال البريطاني.
وقد توعد جبر في تصريحه بالعودة إلى بغداد لسحق رؤوس العناصر الفوضوية!، وكان صالح جبر بتصريحه هذا قد صب الزيت على النار، فانطلقت مظاهرات عارمة ضد الحكومة.
وفي 25 منه أعدت الحكومة البريطانية طائرة خاصة لنقل صالح جبر وبقية أعضاء الوفد إلى بغداد لمعالجة الوضع، وكبح جماح المعارضة الوطنية، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في مطار بغداد لذي طوقته الجماهير، واضطرت إلى الهبوط في القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وتم نقله والوفد المرافق له بواسطة المصفحات والمدرعات، إلى قصر الرحاب خفية، حيث التقى بالوصي بحضور نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وقد اتهم صالح جبر وكيله جمال بابان بالتهاون في قمع المظاهرات، وطلب من الوصي منحه الصلاحيات اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية خلال 24 ساعة.(18)

لكن جمال بابان أكد استحالة إنهاء المظاهرات دون استقالة الحكومة، وأيده في موقفه جميل عبد الوهاب، وزير الشؤون الاجتماعية، فيما وقف نوري السعيد إلى جانب صالح جبر داعياً إلى استخدام أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين، فما كان من جمال بابان إلا أن قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على انتقادات صالح جبر.
وفي ليلة 26 / 27 كانون الثاني أصدر صالح جير بياناً يحذر فيه أبناء الشعب من التظاهر، ويتوعدهم بإنزال العقاب الصارم بهم، وخول متصرفي الألوية [المحافظين] وأمين العاصمة، ومدراء الشرطة صلاحية استخدام السلاح لتفريق المظاهرات، وإنزال قوات كبيرة من الشرطة لتحتل المراكز الحساسة في العاصمة ، وبقية المدن الأخرى .
وتحدت الجماهير الشعبية صالح جبر ونوري السعيد، واجتاحت شوارع بغداد وسائر المدن الأخرى مظاهرات هادرة، منددة بالحكومة ومطالبة بسقوطها وسقوط المعاهدة، وبات الوضع خطيراً جداً في تلك الليلة، حيث كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق من قبل الشعب من جهة، والحكومة وقواها القمعية من جهة أخرى، انتظاراً لصباح اليوم التالي 27 كانون الثاني.

 فلما حلّ ذلك الصباح تحولت شوارع بغداد والمدن الأخرى إلى ساحات حرب حقيقية، فقد نشرت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة المزودة بالمصفحات في الشوارع الرئيسية، فيما نصبت الرشاشات الثقيلة فوق أسطح العمارات العالية ومنارات الجوامع، استعداداً للمعركة الفاصلة.

وفي الساعة التاسعة صباحاً بدأت الجماهير الشعبية في الأعظمية، والكاظمية، وفي جانبي الكرخ، والرصافة تتجمع في الساحات العامة، ثم انطلقت في مسيرتها للالتقاء ببعضها، وقابلتها قوات الشرطة بوابل من رشقات الرصاص استشهد على أثرها أربعة من المتظاهرين، ووقع العديد من الجرحى، مما زاد في اندفاع الجموع الهادرة واندفاعها وإصرارها على التصدي لقوات القمع، وتقدمت مظاهراتان من جهة الأعظمية، ومن جوار وزارة الدفاع لتطويق قوات الشرطة التي حاولت الانسحاب إلى شارع  [غازي] سابقا، والكفاح حالياً، ولاحقتها جموع المتظاهرين مشعلة النيران بسياراتها ومصفحاتها، واستولت الجماهير على مركز شرطة [العباخانة]، وتوجهت إلى ساحة  الأمين [الرصافي حالياً] في طريقها للالتحام بجماهير الكرخ عبر جسر المأمون [ الشهداء حالياً ] .
كانت قوات الشرطة قد استعدت عند مدخل الجسر، حيث نصبت رشاشاتها فوق أسطح العمارات، ومنارات الجوامع عند طرفي الجسر في جانبي الكرخ، والرصافة لمنع مرور المتظاهرين عبر الجسر، ومعهم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين المندفعين نحو الجسر، واستطاعت قوات الشرطة إيقاف زحف الجماهير نحو الجسر من جانب الرصافة في بادئ الأمر، مما دفع بجماهير الكرخ إلى الاندفاع نحو الجسر بغية عبوره، والالتحام بجماهير الرصافة المتواجدة في ساحة الأمين.

 وعند منتصف الجسر جابهتهم قوات الشرطة بنيران رشاشاتها المنصوبة فوق منارة جامعي [ الوزير] و[الآصفية] في جانب الرصافة، ومنارة جامع [ حنان ] في جانب الكرخ، ومن المدرعات الواقفة في مدخل الجسر، وقد استشهد ما يزيد على 40 مواطنا، وجرح اكثر من 130 آخرين، وتناثرت جثث الضحايا فوق الجسر.
اشتد ضغط الجماهير في ساحة الأمين على قوات القمع، مما أجبرها على الانسحاب نحو الجسر، وتقدم المتظاهرون عبر الجسر، ومرة أخري أنهمر عليهم الرصاص واستشهد عدد آخر وجرح الكثيرون، لكن الجموع ازدادت بأساً واندفاعاً أوقع الهلع في صفوف قوات القمع التي خافت أن تقع في أيدي الجماهير الغاضبة فولت هاربة تاركة ساحة المعركة تملأ جثث الشهداء والجرحى .

حاول عبد الإله استخدام الجيش ضد الشعب، وأجرى اتصالا تلفونياً مع رئيس أركان الجيش الفريق  [صالح صائب الجبوري] في 27 كانون الثاني، حوالي الساعة الثالثة والنصف عصراً، طالباً منه إدخال عدد من قطعات الجيش إلى شوارع بغداد، لكن الجبوري حذر الوصي من مغبة إدخال الجيش في شوارع بغداد، ولاسيما وانه لا يزال يعاني من مرارة الاحتلال البريطاني عام 1941، وأكد الجبوري للوصي عدم ضمان وقوف الجيش ضد الشعب، وبرغم أن الوصي كان متحمساً لقمع الانتفاضة لكنه اضطر للأخذ برأي الجبوري طالباً منه البقاء على اتصال دائم بالقصر حتى ينجلي الوقف.(19)

وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد، قدم 20 نائبا في البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب، بالإضافة إلى استقالة وزير المالية [ يوسف غنيمة] ووزير الشؤون الاجتماعية [ جميل عبد الوهاب]، وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ [محمد الصدر] و[ نوري السعيد ] لبحث الموقف وسبل الخروج من الأزمة، و كان نوري السعيد يلح على الوصي بقمع الحركة الشعبية، وطالبه بإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول لاحتواء المظاهرات.

 لكن الشيخ محمد الصدر نصح الوصي بإقالة الوزارة لتهدئة الأوضاع، ولاسيما وأن المظاهرات قد امتدت إلى جميع المدن العراقية، وفقدت الشرطة سيطرتها على الموقف، وأشعل المتظاهرون النار في مكاتب الإرشاد البريطانية، في السليمانية، وكركوك، والموصل.
وهكذا أخذ الوصي برأي الشيخ الصدر على مضض، رغم كونه كان في الواقع يسعى لقمع  الحركة الشعبية، وأوعز إلى رئيس الديوان الملكي [أحمد مختار بابان ] للاتصال بصالح جبر، والطلب منه تقديم استقالة حكومته في 27 كانون الثاني 1948، اليوم الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة أعلن فيه استقالة الحكومة، وداعيا الشعب للإخلاد إلى الهدوء !.

حقق الشعب في وثبته هدفان ، فقد اسقط المعاهدة، واسقط الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين البريطانيين، على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي لو تسنى للجماهير الوصول إليهما.
الشيخ محمد الصدر يؤلف الوزارة الجديدة :
 حاول الوصي عبد الإله تكليف الشيخ محمد الصدر بتأليف الوزارة الجديدة، نظراُ لتمتعه بمركز ديني كبير، إضافة إلى كونه من الطائفة الشيعية، حيث وجد أن الشيخ الصدر هو خير من يستطيع تهدئة الأوضاع .
لكن الصدر اعتذر عن المهمة رغم إلحاح الوصي، مما اضطره إلى تكليف أرشد العمري، وقد حاول العمري بالفعل القيام بهذه المهمة لكنه جوبه بمعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التي لازالت تذكر الأعمال التي قام بها عند تشكيل وزارته السابقة، فهو بالنسبة للأحزاب الوطنية والشعب غير مرغوب فيه، وهكذا فشل العمري في مهمته.
وفي الوقت نفسه أصدرت الأحزاب الوطنية [ الوطني الديمقراطي، والاستقلال، والأحرار ] بيانا إلى الشعب عن تلك الأحداث التي عصفت بالحكومة، وتضمن البيان ستة مطالب من الحكومة القادمة وهي:
1 ـ الإعلان الرسمي عن بطلان معاهدة بورتسموث .
2 ـ إجراء تحقيق دقيق عن مسؤولية إطلاق النار على أبناء الشعب.
3 ـ حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
4 ـ احترام الحريات الدستورية.
5 ـ إفساح المجال للنشاط الحزبي.
6 ـ حل مشكلة الغلاء بشكل يوفر للشعب قوته.(20)
كما قام زعماء الأحزاب الثلاثة بالاتصال بالشيخ الصدر طالبين منه الرجوع عن موقفه، والقبول بتأليف الوزارة، ونزولاً عند رغبتهم قبل الصدر المهمة رسمياً في 29 كانون الثاني 1948، وتشكلت الوزارة على الوجه التالي :
1ـ محمد الصدر ـ رئيساً للوزراء .
2 ـ جميل المدفعي ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ حمدي الباجه جي ـ وزيراً للخارجية .
4 ـ ارشد العمري ـ وزيراً للدفاع .
5 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للعدلية .
6 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للاقتصاد .
7 ـ محمد رضا الشبيبي ـ وزيراً للمعارف .
8 ـ نجيب الراوي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
9 ـ صادق البصام ـ وزيراً للمالية .
10 ـ محمد مهدي كبه ـ وزيراً للتموين .
11 ـ جلال بابان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
12 ـ نصرت الفارسي ـ وزيراً بلا وزارة
13 ـ داود الحيدري ـ وزيراً بلا وزارة .
14 ـ محمد الحبيب ـ وزيراً بلا وزارة .
وهكذا جاءت وزارة الصدر من نفس الفئة الحاكمة، باستثناء محمد مهدي كبه، ومن العناصر المعروفة بولائها للمحتلين البريطانيين، ممن لا يرتاح إليهم الشعب ولاشك أن للسفارة البريطانية دوراً في اختيار الوزراء، وكانت وزارة الصدر مجرد وزارة تهدئة بعد تلك الوثبة الجبارة التي أوشكت أن تطيح بالنظام واستطاعت إسقاط حكومة صالح جبر، وإسقاط المعاهدة، ومن أجل تهدئة الأوضاع أقدم الصدر على تنفيذ الإجراءات التالية :
1 ـ أتخذ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 31 كانون الثاني قراراً بإلغاء معاهدة بورتسموث، وإبلاغ الحكومة البريطانية برغبة العراق بعقد معاهدة جديدة تحقق طموحات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال الناجزين، وقد عارض القرار الوزير عمر نظمي، المعروف بولائه التام للإنكليز، وقدم استقالته من الحكومة احتجاجا على القرار!!.
2ـ قررت الحكومة في 2 شباط تأجيل جلسات مجلس النواب لمدة 50 يوماً، لامتصاص غضب الجماهير، لكن الحملة اشتدت على المجلس من قبل الأحزاب الوطنية والصحافة والاحتجاجات الشعبية طالبين حلّ المجلس وأجراء انتخابات حرة ونزيهة، ولم ترَ الوزارة بداً من النزول عند الضغط الشعبي وضغط الأحزاب الوطنية والصحافة، واضطرت إلى اتخاذ قرار بالطلب من الوصي بإصدار الإرادة الملكية بحل المجلس النيابي في 22 شباط، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
3 ـ كانت حكومة صالح جير قد اتخذت العديد من الإجراءات ضد الصحف، أحالت العديد من محرريها ومدراها المسؤولين إلى المحاكم، وأصدرت الأحكام الجائرة بحقهم، بسبب مواقفهم المناهضة لمعاهدة بورتسموث، وقد اتخذ مجلس الوزراء قراراً بعودة الصحف المعطلة للصدور من جديد، وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، والذين صدرت بحقهم الأحكام بالسجن، كما جرى إطلاق سراح معظم الطلاب الذين اعتقلوا خلال أحداث الوثبة، وأعادتهم إلى مدارسهم وكلياتهم .
4 ـ قرر مجلس الوزراء فسح المجال للنشاط الحزبي، بعد أن كانت الحكومة السابقة قد ضيقت عليها بكل الوسائل والسبل، ومنعتها من ممارسة نشاطها بحرية بسبب مناهضتها لمعاهدة بورتسموث.
5 ـ طلبت الحكومة سحب البعثة العسكرية البريطانية من الجيش العراقي في 22 آذار 1948، والتي كانت المهيمن الحقيقي على الجيش، وتم لها ذلك.
6 ـ سعت الحكومة إلى الاتصال بمجلس الطعام الدولي لغرض الحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل لمعالجة أزمة الخبز التي سببتها حكومة أرشد العمري.
7ـ وافقت وزارة الداخلية على جمع مبلغ 50 ألف دينار لغرض توزيعها على عائلات الشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال الوثبة الوطنية.
ورغم كل هذه الإجراءات استمرت المظاهرات تجوب شوارع بغداد احتجاجاً على عدم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء الشيوعيين، وعلى رأسهم مؤسس الحزب[يوسف سلمان] فهد، ورفيقيه[ زكي بسيم] و[حسين محمد الشبيبي] أعضاء المكتب السياسي، وكذلك المطالبة بفسح المجال لحزب الشعب، وحزب التحرر الوطني، الذين ألغت حكومة العمري إجازتيهما، للعمل الحزبي من جديد، ومطالبة الحكومة باتخاذ سياسة أكثر حزماً تجاه الهيمنة البريطانية على  العراق، وتجاه القضية الفلسطينية التي كان يعتبرها العرب آنذاك قضيتهم الأساسية، والوقوف ضد المخطط الإمبريالي الأنكلوـ أمريكي الهادف إلى تقسيم فلسطين، وإقامة كيان سياسي لليهود فيها، وتشريد أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف بقاع العالم في ظروف حياتية غاية في الصعوبة .



48
من ذاكرة التاريخ
انتفاضة الشعب العراقي عام 1956
                                       
حامد الحمداني                                                               23/10/2018
كان موقف الشعب العراقي، وحكومة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر، على طرفي نقيض، فلقد اتسم موقف الحكومة السعيدية بالتشفي من مصر وعبد الناصر بشكل علني وصريح، وراحت الإذاعة العراقية تحاول صرف أنظار الشعب عن العدوان الذي دعته [التطورات والملابسات السياسية ] ، كما راحت الإذاعة تبث الأغاني الممجوجة، التي كان التشفي ينبعث منها، مما أثار سخط واستنكار وتقزز الشعب منها ومن الحكومة المتواطئة مع الإمبريالية، والتي سخرت مطاراتها للطائرات البريطانية، ومستشفياتها لجرحى المعتدين، وضخت النفط إلى ميناء حيفا في إسرائيل لتجهيز طائرات وجيوش المعتدين بالوقود .(4)
يقول السيد [ناجي شوكت] أحد رؤساء الوزارات السابقين في مذكراته عن موقف الحكومة السعيدية من العدوان ما يلي : { كانت إذاعة بغداد تذيع تسجيلات خليعة، وإن نسيت،لا أنسى مدى عمري ذلك المذيع الوقح الذي كانت آثار الشماتة والاستهزاء بكل القيم الإنسانية تنطلق من فمه المسعور، في الوقت الذي كان الشعب العراقي برمته يغلي كالبركان، ويطلب مساعدة مصر في محنتها، ووجوب مساندتها بالأرواح والأموال}. (5)

أما نوري السعيد، الذي كان في لندن حينما أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، فقد اجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني [ انطوني إيدن ] حاثاً إياه على ضرب مصر، وبرهنت الحوادث على أن نوري السعيد كان على علم مسبق بقرار الهجوم على مصر،  وعاد إلى بغداد مسرعاً، ليقوم بدوره المرسوم في دعم العدوان، ولإحكام سيطرة الحكومة على الغليان الشعبي الذي اجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه. (6)

وما كاد العدوان الثلاثي يبدأ على مصر الشقيقة حتى سارع عبد الإله إلى عقد اجتماع لمجلس الوزراء في البلاط، لبحث الوضع في مصر، واعتقدت السلطة الحاكمة في بغداد أن النظام في مصر على وشك الزوال، وكان المجتمعون يتطلعون إلى الأخبار ساعة بعد ساعة، منتظرين استسلام مصر، وقد أتخذ مجلس الوزراء قراراً بإعلان الأحكام العرفية في 1 تشرين الثاني، وتشكيل أربعة محاكم عسكرية في محاولة منه لمنع الشعب من التحرك ضد النظام العميل للإمبريالية، بسبب مواقفه الخيانة من القضايا العربية، وفي مقدمتها العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة . (7)

كما أجرى نوري السعيد اتصالاً مع الحكومة الأردنية، وتقرر على أثرها إرسال قوات عراقية إلى الأردن، في 14، و15 تشرين الثاني، وكان واضحاً أن الغرض من إرسال القوات كان لتهديد سوريا التي وقفت إلى جانب مصر، وقطعت مرور النفط عبر أراضيها وقامت بنسف المضخات، ولم يكن قصد الحكومة إسرائيل، كما ادعت، فقد أجرى نوري السعيد اتصالات سريعة مع حكومتي واشنطن ولندن لإفهام إسرائيل بأن العراق ليست له نية بالتحرش، أو الاعتداء على حدودها، وقد سُرت الولايات المتحدة وبريطانيا لهذه المبادرة، كما ُسرت إسرائيل واطمأنت .

وفي الوقت الذي كان الجيش المصري يتصدى للمعتدين بكل قوة وبسالة، كان نوري السعيد يضخ النفط إلى إسرائيل، عبر أنبوب حيفا، كما كانت الطائرات البريطانية المعتدية تقلع من قاعدتي الشعيبة والحبانية، لتضرب أهدافها في بور سعيد و السويس، وفي الوقت الذي قطعت سوريا، والسعودية علاقاتهما مع بريطانيا وفرنسا احتجاجاً على العدوان الغاشم على مصر، فإن نوري السعيد رفض أن يفعل ذلك، مدعياً أن القرار سيكون كارثة على العراق ‍‍‍‍‍. (8)

هكذا استفز النظام العراقي مشاعر الشعب العراقي، وداس على كل القيم العربية، ليثبت ولائه وخنوعه التام للإمبريالية، مما دفع الشعب العراقي للانتفاضة ضد النظام رغم كل الاحتياطات التي اتخذها، وفي المقدمة منها إعلان الأحكام العرفية، وتشكيل المحاكم العسكرية لإخافة المواطنين ومنعهم من التحرك.

ابرق السيد [كامل الجادرجي] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي  والذي كان موجوداً في مصر لمتابعة تنفيذ قرارات المؤتمر الشعبي العربي، حينما وقع العدوان، إلى رئيسي مجلسي الأعيان والنواب، في 14 تشرين الثاني، البرقية التالية:
{ إن لجنة الاتصال للمؤتمر الشعبي العربي تستنهض ضمائركم لتبادروا بإنزال العقوبة بحق المتآمرين الذين ارتكبوا الجناية العظمى، بالسماح للبترول العربي في العراق أن يتدفق إلى حيفا، لتستخدمه إسرائيل  والإنكليز والفرنسيين، للقضاء على الأمة العربية. إن التاريخ سيسجل موقفكم، وإن الأمة العربية بأجمعها تنتظر ما سوف تتخذونه على هذه المؤامرة الاستعمارية المنكرة، وعلى المتآمرين من أعوان الاستعمار، وفقكم الله سبحانه وتعإلى لما فيه رضاه، ومصلحة الأمة العربية } (9)

وقد استخدمت تلك البرقية دليل إدانة ضد الأستاذ الجادرجي فيما بعد، وقد رد رئيس مجلس الأعيان على البرقية ببرقية جوابية يستنكر فيها ما جاء في برقية الجادرجي، ويدافع عن حكومة نوري السعيد وقدم 61 أستاذاً جامعياً مذكرة مسهبة إلى الملك، استنكروا فيها سياسة حكومة نوري السعيد المعادية لمصالح الأمة العربية، وسياسة القمع الذي مارسها ضد الطلاب والأساتذة، وجماهير الشعب، وانتهاكه لحرمة المدارس والكليات، وطالبوا باحترام الحرم الجامعي، وضمان حرية الفكر، وإطلاق سراح الطلاب المعتقلين، وإجراء تحقيق عادل في تجاوزات الحكومة، وغيرها من المطالب الأخرى .(10)
كما قدم 35 شخصية سياسية ودينية ووطنية مذكرة مسهبة إلى الملك، في 20 تشرين الثاني شرحوا فيها تأمر وخيانة نوري السعيد، وطعنه للامة العربية في الصميم، ودعت الملك إلى معالجة الأمر قبل فوات الأوان . (11)
كما قدم نقيب المحامين [ سعد عمر ] مذكرة احتجاج أخرى في 29 تشرين الثاني، إلى رئيس الوزراء، بسبب قيام الحكومة باعتقال العديد من المحامين، واستنكر تلك الإجراءات اللا قانونية، وطالب بإطلاق سراح المعتقلين على الفور .
لكنّ النظام أصرّ على السير في ركاب الإمبريالية، وتحدي مشاعر الشعب، التي انفجرت بركاناً انتشرت حممه في طول البلاد وعرضها، واندفعت جماهير الشعب،  غير هيابة من حكومة العمالة، وجهازها القمعي، ومجالسها العرفية ومراسيمها الموغلة في العدوان على الدستور، وحقوق وحريات المواطنين، وعمت المظاهرات جميع المدن العراقية، ووقعت الاشتباكات العنيفة بين الجماهير وقوات الحكومة القمعية.

ففي بغداد أندفع أساتذة وطلاب الكليات والمعاهد العالية، والمدارس، الذين هزهم العدوان الثلاثي الغاشم على الشقيقة مصر، والموقف الخياني لحكومة نوري السعيد من العدوان،  يومي 3 و 4 تشرين الثاني في مظاهرات عارمة  متحدين الأحكام العرفية، وقوات القمع السعيدية، حيث وقع صدام عنيف بين الطرفين أسفر عن استشهاد طالبين وفتاة صغيرة، ووقوع عدد كبير من الجرحى وتم اعتقال أعداد أخرى من الطلبة.

لكن المظاهرات الطلابية استمرت دون توقف، حتى بلغت أوجها يوم 21 تشرين الثاني 1956، حيث أعلن طلاب المدارس والكليات الإضراب العام عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرة ضخمة، اصطدمت مع قوات القمع السعيدية، وقد أبدى الطلاب بسالة منقطعة النظير في تصديهم لقوات القمع، وأوقعوا فيها [58 إصابة] كان منهم مدير الشرطة، و3 ضباط شرطة، ومفوضان، و54 شرطياً، كما وقعت إصابات كثيرة في صفوف المتظاهرين من الطلاب والأهالي الذين انضموا إلى المظاهرة .(12)

وعلى أثـر ذلك أعلنت الحكومة إغلاق كافة الكليات، والمعاهد العالية، والمدراس الثانوية والمتوسطة، واعتقلت [378  طالباً] من الإعدادية  المركزية،  وثانـوية الكرخ، وتم طـرد 37 طالباً من مدارسهم . (13)
وفي الوقت نفسه، أصدر وزير المعارف [ خليل كنه ] أمراً وزارياً بإلغاء تسجيل كافة طلاب المدارس، وإعادة تسجيلهم من جديد،بعد حصولهم على كتاب موافقة من مديرية التحقيقات الجنائية [الأمن العامة] ومنع قبول أي طالب في الكليات والمعاهد والمدارس، إذا لم يحصلوا على موافقة الجهات الأمنية، لكن تلك القرارات لم تثنِ الطلاب عن التظاهر، بل على العكس أدى تصدي قوات الأمن لهم إلى انتشار المظاهرات في معظم المدن العراقية، واشتباك المتظاهرين مع قوات القمع السعيدية. حيث وقعت معارك دامية بين الشعب وقوات الحكومة القمعية .

وكان أشد تلك المعارك، المعركة التي خاضتها جماهير مدينة [الحي] والتي استفزتها مواقف حكومة السعيد الخيانية، والجرائم التي اقترفتها قوات الحكومة القمعية في النجف الأشرف، فانتفضت هذه المدينة الباسل التي كان سكانها يشكون من ظلم الإقطاع، واستغلالهم البشع، وتفجرت تلك التراكمات ثورة عارمة ضد الطغيان السعيدي، وقامت المظاهرات الصاخبة التي تصدت لها قوات الشرطة القمعية، لكن جماهير الحي استطاعت هزم تلك القوات في 18 تشرين الثاني، بعد معارك دامية سقط خلالها العديد من الشهداء و الجرحى .
وفي اليوم التالي جاءت السلطة بحوالي 1500 فرد من قوات الشرطة السيارة إلى المدينة، حيث دارت معارك عنيفة بين الطرفين، وقامت قوات الشرطة بانتهاك حرمة البيوت وبأسلوب وحشي، حيث أخذت تقلع أبواب البيوت بالقوة وتجري التحري فيها، وتلقي القبض على كل من تشك في اشتراكه في المظاهرات، مما دفع سكان المدينة إلى إعلان الإضراب العام، أغلقت جميع المدارس والمحلات أبوابها، احتجاجاً على الأساليب البطش السعيدية، وسيق العديد من أبناء الحي ا لى المجالس العرفية التي أخذت تصدر الأحكام الجائرة بحقهم، وكان من جملة تلك الاحكام، حكم الإعدام الصادر بحق الشهيدين[ علي الشيخ حمود ] و[ مهدي الدباس ]، فيما حكم على الكثيرين بمدد مختلفة تراوحت بين السجن المؤبد، والسجن لبضعة سنوات.                                                        .                                                                                             
 وقد حاول لفيف من السياسيين إنقاذ حياة الشهيدين حمود والدباس، حيث قابل السيد [حكمت سليمان ] أحد رؤساء الوزارات السابقين ، والشيخ [محمد رضا الشبيبي ] من الوزراء السابقين، الملك فيصل الثاني، والتمساه عدم الموافقة على تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقهما، ووعدهما الملك خيراً، لكن الذي جرى أن الشهيد مهدي الدباس تعرض في سجنه، بعد الحكم عليه بالإعدام، لتعذيب وحشي شديد على أبدي الأجهزة الأمنية، وتوفي على أثرها تحت التعذيب، وقامت الحكومة على الأثر بنقل الشهيد الدباس مع الشهيد علي الشيخ حمود إلى الساحة العامة في الحي، حيث تم نصب مشنقتين لهما، على الرغم من أن الدباس كان قد فارق الحياة داخل السجن، ومع ذلك علق جسده على حبل المشنقة لتوهم السلطة المجرمة أبناء الحي بأنه قد تم تنفيذ حكم الإعدام به وبرفيقه، لكي لا تنكشف الجريمة، ولابد لي أن أشيد هنا بالموقف البطولي للشهيدين، فلقد قضى الدباس تحت التعذيب دون أن تنتزع منه السلطات الأمنية أي أسرار تتعلق بنشاط الحزب الشيوعي، بينما وقف الشهيد علي الشيخ حسين شامخاً فوق مشنقته وهو يهتف بحياة الشعب العراقي، والحزب الشيوعي، ويلعن المستعمرين وأذنابهم الخونة.                  .                                               
ورغم كل ما فعلته السلطة الحاكمة، ورغم كل إجراءاتها القمعية، فإن ذلك لم يجدها نفعاً، بل على العكس أنتشر لهيب الانتفاضة في مدن الكوفة والديوانية، والشامية والحلة  وكربلاء والناصرية والنجف والبصرة والعمارة والكوت، والموصل وأربيل وكركوك والسليمانية وعانه بالإضافة إلى بغداد.

ورغم أن السلطة الحاكمة زجت بكل قوات الشرطة وقوات الجيش للحيلولة دون قيام المظاهرات، ورغم زجها بالآلاف من المواطنين رهن الاعتقال، وتقديمهم إلى المجالس العرفية، وإصدار الأحكام الجائرة بحقهم، إلا أن المظاهرات والاحتجاجات تصاعدت ضد السلطة الحاكمة وكانت أشد المعارك قد وقعت في مدينة النجف الاشرف، مدينة البطولات الوطنية، فقد التهبت الأوضاع فيها عندما انطلقت تظاهرة طلابية من مدرسي [ الخورنق ] و[ السدير ]،حيث تصدت لها قوات الشرطة المدججة بالسلاح والمزودة بالسيارات المسلحة بالرشاشات، وبدأت بإطلاق النار على المتظاهرين، حيث أصيب [ 42 طالباً ] بجراح، وكانت جراح 11 منهم خطيرة، واستشهد الطالب [ عبد الحسين ] حفيد العلامة المعروف [ سيد فهمي الحمامي ]، كما استشهد طالب آخر من مدرسة السدير، وأخر من الأهالي، مما أدى إلى حالة من الهياج بين المواطنين الذين أعلنوا الإضراب العام، حيث أغلقت الحوانيت، والمحال التجارية، والمطاعم والمخابز، والصيدليات  احتجاجاً على الأعمال الإجرامية للسلطة، كما أضرب رجال الدين عن أداء واجباتهم الدينية، فلم يخرجوا لصلات الجماعة . (15)

وإزاء تطور الأحداث، وتصاعد موجة المظاهرات، أقدمت الحكومة على سحب شرطة المدينة، واستبدلتهم بإعداد غفيرة من الشرطة جاءت بهم من مناطق أخرى، من أطراف الموصل، خوفا من تهاون شرطة النجف في قمع المتظاهرين، ومع ذلك فلم تستطع السلطة السيطرة على المدينة، مما دفع بالحكومة إلى إنزال قوات الجيش إلى الشوارع، واحتلال المدينة .
لكن الإضراب استمر أسبوعاً كاملاً، وسط تحدي الشعب لقوات القمع، وواصلت التظاهر والتصدي لقوات القمع التي سارعت إلى إطلاق النار على المتظاهرين الذين لجئوا إلى مرقد الأمام علي عليه السلام، ولاحقتهم قوى الأمن، مواصلة إطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى استشهاد أثنين من المتظاهرين هما الشهيدين [ عبد الأمير ناصر ] و  [أموري علي ] ووقوع العديد من الجرحى.أدى الهجوم الوحشي على مرقد الإمام علي، عليه السلام، إلى تصاعد موجة التظاهرات والاحتجاجات، حيث خرجت المدينة عن بكرة أبيها تحاول انتزاع جثث الشهداء من المستشفى فيما أصرت الحكومة على عدم تسليمهم .

أدت الأحداث الدامية في النجف إلى قيام موجة من الاحتجاجات الموجهة من قبل كبار رجال الدين إلى الملك فيصل، حيث احتج كل من الشيخ [ عبد الكريم الجزائري ] والسيد [حسين الحمامي ]  والشيخ [ محمد كاظم الشيخ راضي ] و السيد [ محسن الحكيم ] والسيد [محمد صالح بحر العلوم ] إضافة إلى عدد من المحامين منهم [ موسى صبار ] و[ احمد الجبوري ]، في برقيات بعثوا بها إلى الملك فيصل، ونددوا فيها بإجراءات الحكومة، وطالبوا بإنزال أشد العقوبات بالمسببين باستشهاد أبناء النجف، وجرح العديد منهم.

أحدثت مصادمات النجف إلى رد فعل عنيف في بغداد، حيث أعلن المواطنون الإضراب العام، وأغلقت كافة المحال التجارية، والمطاعم والمخابز والصيدليات، وقامت الحكومة على الأثر بإصدار بيان في 28 تشرين الثاني، هددت المواطنين بإنزال اشد العقاب بهم إذا ما استمروا في إضرابهم.
أدرك البلاط الملكي أن الأمور أخذت تسير من سيئ إلى أسوأ، واستمرت الأحوال الأمنية بالتدهور، مما كان يهدد العرش بالذات، وعليه فقد دعا عبد الإله والملك فيصل الثاني رؤساء الوزارات السابقين، بالإضافة إلى نوري السعيد، ورئيسي مجلسي النواب والأعيان، والوزراء، وبعض الساسة، للتداول في التطورات الخطيرة التي تشهدها البلاد، وُطرح خلال المداولات موضوع استقالة حكومة نوري السعيد، وفسح المجال أمام العرش لتأليف وزارة جديدة تستطيع تهدئة الأمور، وتنقذ الموقف، وقد اتهم أحد الحاضرين نوري السعيد بأنه قد شجع [ انطوني إيدن ] عند وجوده في لندن، على شن العدوان على مصر بدلاً من أن يحذره من مغبة القيام بمثل هذا العدوان.(16)
 غير أن نوري السعيد أصرّ على موقفه، وتحديه للشعب، ومشاعره الوطنية، وحذر الملك وعبد الإله من خطورة التراجع أمام تحدي الشعب، مدعياً أن هذا الموقف قد يؤدي بالعرش، وهكذا انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي قرار حول الوضع، لكن عبد الإله أجرى مشاورات أخرى بعد الاجتماع مع عدد من السياسيين، كان من بينهم [ جميل المدفعي ] و[علي جودت الايوبي ] بغية تأليف وزارة جديدة، وقد اقترح المدفعي إبعاد نوري السعيد عن الحكومة، إشراك [حسين جميل] و[ مهدي كبه ] في الوزارة القائمة، أو تشكيل وزارة جديدة .

 ثم استدعى عبد الإله بعد ذلك كل من السيد [ كامل الجادرجي ] و[حكمت سليمان]  و[ محمد رضا الشبيبي ]، وطلب رأيهم في سبل حل الأزمة وإعادة الهدوء إلى البلاد، وقد أجمع الجميع على ضرورة إقالة حكومة نوري السعيد، وتشكيل حكومة جديدة، وحذر حكمت سليمان عبد الإله من مغبة استمرار الأوضاع على ما هي عليها .(17)

لكن نوري السعيد، وبدعم  أسياده الإمبرياليين البريطانيين، تمادى في غيه، وأصدر أمراً باعتقال قادة  الأحزاب السياسية الوطنية، وكبار الشخصيات المعارضة، فقد تم اعتقال السادة كامل الجادرجي، وحسين جميل، وصديق شنشل، وفائق السامرائي، وعبد الرحمن البزاز، وجابر عمر بالإضافة إلى العديد من رجال الدين، واحالهم إلى المجلس العرفي العسكري في 16 كانون الأول، حيث صدرت الأحكام، في 19 منه،بحقهم، وصبت الحكومة جام غضبها على الأستاذ الجادرجي، حيث حكم عليه بالسجن الشديد لمدة ثلاث سنوات بعد أن اتخذت الحكومة برقيته التي أرسلها إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان كدليل اتهام، وتم إيداعه السجن .
كما حكمت المحكمة على صديق شنشل،وفائق السامرائي بالمراقبة لمدة سنة، وعلى حسين جميل وسامي باش عالم بكفالة شخص ضامن بمبلغ 5000 دينار، لمدة سنة، وتم نقل شنشل إلى الإقامة الجبرية في [ قلعه دزه ]، وفائق السامرائي إلى [ حلبجة ] في السليمانية، وتم إبعاد عميد كلية الحقوق [عبد الرحمن البزاز] و [ جابر عمر ] و[محمد البصام ] و[ فيصل الوائلي ] و[ حسن الدجيلي] الأساتذة في كلية الحقوق،إلى [ بنجوين ]. كما أبعد رجال الدين إلى قرية [ شثاثة ] في كربلاء، وجرى فصل أكثر من 10 آلاف طالب من كلياتهم، ومدارسهم، والعشرات من أساتذة الكليات بقرار جماعي.(18)

وهكذا استطاع النظام قمع الانتفاضة الجماهيرية الكبرى بالحديد والنار، مستخدماً كل ما توفر لديه من الوسائل القمعية، وزج بالجيش ليقمع الانتفاضة، بعد أن هزمت قوات الشرطة القمعية أمام غضبة الجماهير، وعزمها على التصدي للنظام الخائن والعميل للإمبريالية وهذا ما أرادته بريطانيا عندما أسست الجيش العراقي، عام 1921، فقد أرادته لحماية السلطة الحاكمة المؤتمرة بأوامرها، وليس لأي هدف آخر، لكن بذور الثورة كانت تنمو في أحشاء هذا الجيش الذي هو جزء من الشعب، مهما عملت السلطة الحاكمة لإحكام سيطرتها عليه وتوجيهه نحو معاداة الشعب وقواه الوطنية.

49
من ذاكرة التاريخ

العدوان الثلاثي على مصر
وموقف حكومة نوري السعيد
حامد الحمداني                                     1/2                               19/ 10/ 2018

بعد أن تم لثورة 23 يوليو في مصر تحقيق جلاء القوات البريطانية من مصر، عام 1954، عملت القيادة المصرية جاهدة لتحرير قناة السويس من السيطرة البريطانية والفرنسية، تلك القناة التي شُقت بجهود مئات الآلاف من أبناء الشعب المصري الذي سكب أطناناً من العرق، وفقد عشرات الألوف حياتهم من أجل إتمامها .

فقد تم تسخير 60 ألف مصري شهرياً في أعمال الحفر، من دون أجور، وخلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1859 و 1864 مات من هؤلاء العمال ما يزيد على 100 ألف فرد، تحت الانهيارات الرملية، دون دفع أي تعويض عنهم.

بجهود أولئك المصريين تم إنجاز قناة السويس التي ربطت البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وأصبحت قناة السويس الشريان الرئيسي الذي يربط قارتي أوربا وأسيا ببعضهما، واختصرت الوقت والتكاليف على السفن، بعد أن كانت تدور حول رأس الرجاء الصالح، جنوب أفريقيا .
كان الرئيس عبد الناصر ينتظر الفرصة المناسبة ليحقق هذا الأمل للشعب المصري  في تحرير القناة، وكانت في تلك الأيام من عام 1956 تدور مباحثات بين مصر وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حول طلب مصر لتمويل مشروع السد العالي على نهر النيل العظيم، حيث كان هذا المشروع يتسم بأهمية كبرى للشعب المصري، كونه يوفر ثروة مائية كبيرة يمكن استخدامها في ري مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، ويكون مصدر طاقة كهربائية عظيمة كانت مصر بأشد الحاجة إليها لمشاريع التنمية الصناعية، والحاجات الاستهلاكية، هذا بالإضافة إلى كون السد ينقذ الشعب المصري من طوفان هذا النهر العظيم، الذي سبب للشعب الويلات والمآسي في فصل الفيضان، بدلاً من أن يكون مصدر خير ورفاه .

حاولت الدول الإمبريالية الضغط على الحكومة المصرية لتمرير مشروع [الدفاع عن الشرق الأوسط] وربط مصر بالمخططات الإمبريالية، لكن الرئيس عبد الناصر قاوم كل تلك الضغوط، ووقف موقفاً حازماً ضد حلف بغداد، ودفع الإمبرياليون إسرائيل للتحرش بالبلدان العربية المجاورة للضغط عليها، وأغدقوا عليها شتى أنواع الأسلحة، في حين حرموا البلاد العربية من الحصول على الأسلحة التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، مما حمل الرئيس عبد الناصر إلى عقد صفقات لشراء الأسلحة من المعسكر الاشتراكي .
                                                                     
أثار توجه عبد الناصر للدول الاشتراكية لشراء الأسلحة غضب الدول الإمبريالية وجعل الولايات المتحدة وبريطانيا تسحبان عرضهما لتقديم القروض لتمويل السد العالي، في 25 تموز 1956، بعد أن كانت هاتان الدولتان قد أعلنتا في 18 كانون أول 1955 عن عزمهما على تقديم تلك القروض
أما البنك الدولي، الذي تسيطر عليه تلك الدول، فقد أخذ يضع الشروط تلو الشروط التعجيزية الهادفة للتدخل في الشؤون الداخلية لمصر، ثم أعلن بعد ذلك في 24 تموز 1956 سحب موافقته لتمويل السد، بعد قيام مصر بشراء الأسلحة من الدول الاشتراكية،على أثر قيام المظليين الإسرائيليين بإنزال عسكري في قطاع غزة الخاضع للسيطرة المصرية آنذاك،وسفكوا دماء المئات من أبناء الشعب الفلسطيني.

وعلى أثر إعلان البنك الدولي، وبريطانيا والولايات المتحدة سحب عروضهم لتمويل السد العالي، وفي غمرة الاحتفالات بالذكرى الرابعة لثورة 23 يوليو، جاء رد الرئيس عبد الناصر فورياً وحازماً، فقد أعلن في 26 تموز 1956، باسم الشعب المصري [ تأميم قناة السويس ] وعودتها للسيادة المصرية  معلناً أن مصر تضمن حرية الملاحة في القناة للجميع، وإنها سوف تستخدم موارد القناة لتمويل بناء السد العالي،كما أعلن عن استعداد مصر لتعويض حملة الأسهم في القناة بموجب سعرها عند الإغلاق يوم تأميم القناة .

ومن جانب آخر أعلن الاتحاد السوفيتي عن استعداده لبناء السد، على أن تدفع مصر تكاليف بنائه بأقساط مريحة، من عائدات قناة السويس وما يوفره السد، مما أفقد الإمبريالية صوابها، وسارعت بريطانيا وفرنسا إلى تقديم احتجاج شديد اللهجة للحكومة المصرية، معتبران أن إقدام عبد الناصر على تأميم القناة ينطوي على أبعاد خطيرة النتائج على مصر.
والفعل جرى تجميد الأرصدة المصرية في بريطانيا وفرنسا، والولايات المتحدة . وسارع رئيس الوزارة البريطانية [ أنطوني إيدن ] إلى لقاء رئيس وزراء فرنسا [دي موليه] للبحث فيما يمكن اتخاذه من إجراءات ضد مصر، ودعت الدولتان إلى عقد مؤتمر في لندن يضم 24 دولة، في 16 آب 1956، لبحث موضوع التأميم، وتأسيس إدارة دولية للقناة، وكان من بين الدول المدعوة للمؤتمر، مصر والاتحاد السوفيتي، لكن مصر رفضت حضور المؤتمر، فيما أعلن الاتحاد السوفيتي رفضه لأي قرار بغياب مصر .

أما الولايات المتحدة، التي كانت تتوق لإزاحة النفوذالبريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط، والحلول محلهما، فقد أعلنت عن رفضها استخدام القوة ضد مصر، وتقدمت باقتراح تضمن البنود التالية :
1 ـالاستمرار في إدارة أعمال القناة بصفة كونها طريقاً مائياً حراً مع احترام سيادة مصر.
2 ـ أن تكون خدمة القناة مستقلة عن أي عمل سياسي.
3 ـ أن يضمن لمصر دخل معقول من واردات القناة.
4 ـ أن يعطى تعويض عادل لحملة أسهم القناة.

لقي الاقتراح الأمريكي قبول 18 دولة، وانتهت محاولات بريطانيا وفرنسا لإعادة السيطرة على القناة إلى الفشل، وأنهى المؤتمر أعماله في 23 آب 1956، بعد أن قرر إرسال محاضر جلساته إلى الحكومة المصرية، مع وفد خماسي برئاسة رئيس وزراء استراليا، المستر[منزيس] لكن الوفد لم يستطع تحقيق أي شيء من زيارته لمصر، وحاولت بريطانيا، في المؤتمر الثاني الذي عقد في لندن في 19 أيلول أن تؤسس جمعية المنتفعين بالقناة والتي تضم 15 دولة، لكن مصر رفضت الاعتراف بهذه الجمعية، وانتهت هذه المحاولة إلى الفشل أيضاً .

عند ذلك قررت بريطانيا وفرنسا، بالتعاون مع إسرائيل، اللجوء إلى القوة العسكرية لإخضاع مصر، وتم على عجل وضع الخطة اللازمة لذلك، وتتلخص تلك الخطة بمبادرة إسرائيل بمهاجمة سيناء والوصول إلى القناة، ليكون ذلك ذريعة لبريطانيا وفرنسا، بحجة خطورة إغلاق قناة السويس، والطلب من الحكومتان المصرية والإسرائيلية الانسحاب إلى مسافة 16 كم عن القناة، تمهيداً لإنزال قواتهما حول القناة، وإذا ما رفضت مصر ذلك خلال 12 ساعة فإن القوات البريطانية والفرنسية سوف يتم إنزالها في بور سعيد والسويس، لكن عبد الناصر رفض الإنذار البريطاني الفرنسي، وأعلن أن مصر ستقاوم أي اعتداء يقع على أراضيها .

وهكذا بدأت إسرائيل هجومها على سيناء، وتمكنت قواتها في 31 تشرين الأول من التقدم بسرعة صوب القناة، حيث كان عبد الناصر قد سحب معظم قواته من الجبهة الإسرائيلية، معتقداً أن الهجوم سيقع على القناة من قبل القوات البريطانية والفرنسية، ولم يتوقع أن تشترك إسرائيل في الهجوم وتكون البادئة فيه، وعلى أثر ذلك بدأت الطائرات البريطانية والفرنسية غاراتها الوحشية على [بور سعيد] و مدينة [السويس]، وجرى قصف باخرة مصرية كانت محملة بالأسمنت داخل القناة فغرقت فيها وبذلك أغلقت القناة أمام الملاحة الدولية .

أحدث الهجوم البريطاني الفرنسي رد فعل واسع وعنيف من قبل الشعوب العربية، وشعوب العالم اجمع، وحتى من قبل مجلس العموم البريطاني نفسه، حيث هوجمت حكومة [إيدن] على تصرفها، وطالب الكثير من النواب وقف القتال فوراً، وسحب القوات البريطانية والفرنسية، كما طالبت الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار فوراً، لكن القوات البريطانية استمرت في هجومها متجاهلة الأمم المتحدة والرأي العام العالمي، مما حدا بالاتحاد السوفيتي إلى الطلب من الولايات المتحدة القيام بإجراء مشترك لوقف الحرب.

لكن الولايات المتحدة رفضت الطلب السوفيتي، مما دفعه للعمل بصورة منفردة، حيث توجه بالإنذار التالي إلى كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل، في 5 تشرين الثاني 1956، على أثر الإنزال العسكري البريطاني الفرنسي في بور سعيد، وهذا نصه:

{ إن الحكومة السوفيتية ترى من الضروري لفت أنظاركم إلى الحرب التي تشنها الآن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، هذه الحرب التي يترتب عليها أخطر النتائج على السلم العالمي  وإننا نتسائل ماذا كان سيحدث لو أن بريطانيا وجدت نفسها معرضة لهجوم دول أكثر منها قوة، دول تملك كل أنواع الأسلحة المدمرة الحديثة، هنالك الآن دول ليست بحاجة إلى إرسال أساطيل بحرية، أو قوات جوية إلى السواحل البريطانية، ولكن بمقدورها استعمال وسائل أخرى، كالصواريخ . لقد عزمنا عزماً أكيداً على سحق المعتدين، وإعادة السلام إلى الشرق الأوسط، عن طريق استعمال القوة، ونحن نأمل في هذه اللحظة العصيبة، أن تظهروا الحكمة اللازمة، وتستخلصوا منها النتائج المناسبة}.

وقع هذا الإنذار موقع الصاعقة على الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، حيث أصبحت لديهم القناعة أن الاتحاد السوفيتي يعني ما يقول، ولذلك فقد رفضت الولايات المتحدة دعم العدوان، وتجاهلت كل النداءات التي صدرت من بريطانيا وفرنسا والداعية إلى وقوفها إلى جانب المعتدين.
 وفي الوقت نفسه خرجت الجماهير الغفيرة في المشرق العربي ومغربه، تعلن غضبها واستنكارها للجريمة، وتعلن وقوفها ضد العدوان، ومطالبة حكوماتها بالوقوف إلى جانب مصر في محنتها، وجرى نسف محطات ضخ النفط عبر الأنابيب من كركوك نحو بانياس وطرابلس، مما أدى إلى توقف تدفق النفط نحو الغرب، بالإضافة إلى إغلاق قناة السويس، مما أوقع الغرب في ورطة كبرى، حيث لم يعد بالإمكان نقل النفط من منطقة الخليج إلا عبر رأس الرجاء الصالح .

وهكذا باء العدوان بالفشل الذريع، واضطر المعتدون إلى إيقاف الهجوم، وسحب قواتهم من الأراضي المصرية، في 16 تشرين الثاني 1956، وبذلك انتهى العدوان، تاركاً آثاراً بارزة على حركة التحرر العربي، حيث أعطته زخماً هائلاً، وآمالاً عريضةً في مقارعة الإمبريالية، وتحرير البلدان العربية من نفوذها واستغلالها البشع، وسأتناول في حلقة قادمة موقف حكومة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر و رد الفعل العراقي الذي تمثل في وثبة عام 1956.



50
من ذاكرة التاريخ:
الملك فيصل يطلب من نوري السعيد تقديم استقالة حكومته
والمندوب السامي يرفض
حامد الحمداني                                                      17/10/2018
أدت سياسة نوري السعيد، وأساليبه القمعية التي استخدمها لفرض معاهدة 30 حزيران 1930 إلى خلافات عميقة في مجلسي النواب  والوزراء، وأدت تلك  الخلافات إلى استقالة السيد[ جميل المدفعي] من رئاسة مجلس النواب، ومن حزب نوري السعيد[حزب العهد] احتجاجاً على تصرفات الحكومة، وبالأخص وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي] إثر الهجوم العنيف الذي تعرض له في مجلس النواب من قبل نواب المعارضة، بسبب تصرفات الحكومة المخالفة للدستور، والمنتهكة للحريات، وقد بعث السيد المدفعي بكتاب إلى السعيد يعلن فيه استيائه من تصرفات وزير الداخلية غير القانونية، والتزام السعيد جانبها، وأعلن انسحابه من حزب العهد، وقد لخص المدفعي تصرفات وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي] بالتالي:
1 ـ تصرفاته المشينة خلال الإضراب الشعبي العام،  مما كان سببا في توسيعه توسعاً خطيراً.
2 ـ تطبيقه قانون العشائر على ذوات ليسوا من العشائر، وبينهم من كبار رجال القانون.
3 ـ تضيقه على كبار رجال الأمة، وتعقيبهم بالجواسيس بصورة لم يسبق لها مثيل، ومطارداته الشبيبة الوطنية لمجرد ما يظهروه من الشعور الوطني، شأن الشباب في جميع بلاد الله.
4 ـ وضع المراقبة الشديدة على حرية المخابرة، خلافاً لما هو مضمون في القانون الأساسي الذي حلفنا اليمين على التمسك به. 
5ـ تطبيقه الذيل الخاص بالعقوبات بحق رجال عرفوا بمقدرتهم وإخلاصهم، لكي يتسنى له تعيين بعض محسوبيه، ومروجي تصرفاته في محله.                                                                                             
6 ـ تفسيره القوانين كما تشتيهه أغراضه، وهتكه شرف رجال كانوا من أشد المخلصين.
7 ـ إصدار الكتب التهديدية السرية المملوءة بالبذاءات، وهتك الحرمات، وعليه أرجو اعتباري مستقيلاً من الحزب، وسأقدم استقالتي رسمياً من رئاسة مجلس الأمة أيضاً، وتقبلوا احترامي. (1)
                                                                   جميل المدفعي
                                                            16 تشرين الأول 1931   
               
وهكذا فضح المدفعي سلوك حكومة نوري السعيد المخزي، وانتهاكها للدستور، ونكثها لليمين باحترامه، والاعتداء على حقوق وحريات المواطنين التي نص عليها الدستور، واستغلال النفوذ بهذا الشكل المكشوف، فلم يعد أمام نوري السعيد إلا أن يقدم استقالة حكومته إلى الملك  فيصل في 19 تشرين الأول 1931، وتم قبول الاستقالة.
لم يكد المندوب السامي يبلغه خبر استقالة نوري السعيد حتى سارع إلى الملك فيصل طالباً منه أن يعيد تكليف السعيد بتشكيل الحكومة من جديدة، ومارس ضغطاً على الملك لكي ينفذ طلبه، فلم يكن أمام الملك من بد إلا أن ينفذ مشيئة المندوب السامي  على مضض، حيث كانت هناك مهام خطيرة يتطلب تنفيذها من قبل شخصية قوية ومضمونة، ولقد اثبت نوري السعيد أنه هو لا غيره ذلك الرجل القوي القادر على القيام بتلك المهمات التي تنتظر الحكومة الجديدة، وهكذا رضخ الملك فيصل لمشيئة المندوب السامي، وكلف نوري السعيد من جديد بتشكيل الوزارة، وباشر السعيد على الفور باختيار أعضاء وزارته بالتشاور مع المندوب السامي، والملك فيصل في اليوم نفسه، وكان عهد هذه الوزارة مليئاً بالأحداث أصر الإنكليز أن يتولى  السعيد معالجتها وأبرزها:
1 ـ تمرد بعض قوات الليفي الآشورية.
2 ـ اندلاع الثورة البارزانية.

معالجة تمرد قوات الليفي الآشورية
قوات الليفي الآشورية أنشأها البريطانيون لمساعدة قواتهم المحتلة للعراق في حفظ الأمن والنظام، والقيام بدور الحراسة للمعسكرات والقواعد البريطانية.
كان الآشوريون يطمحون بقيام دولة لهم في  دهوك وبعض المناطق الأخرى في شمال العراق، لكن آمالهم خابت بعد صدور القرار بضم العراق إلى عصبة الأمم، وتجاهل بريطانيا تلك المطالب، مما أثار استياء قوات الليفي العاملة في خدمة القوات البريطانية، حيث استقال ما يزيد على 1300 من قوات الليفي،  وتقدمواً للمندوب السامي بالمطالب التالية:
1 ـ الاعتراف بهم كشعب ساكن في العراق، وليسوا مجرد طائفة دينية أو عنصرية.
2ـ إيجاد كيان لهم في منطقة [دهوك]، والعمل على إعادة منطقة [حكاري] الواقعة تحت السيادة التركية، وإذا ما تعذر ذلك فيجب إيجاد موطن للآشوريين في العراق مفتوح لكل الآشوريين في داخل العراق وخارجه.
3ـ الاعتراف بسلطة زعيمهم الديني المار شمعون الدينية والدنيوية.
 4ـ عدم سحب السلاح منهم .
5ـ مطالب أخرى حول فتح مدارس ومستشفى ودار أوقاف آشورية.
 ورغم طلب المندوب السامي منهم التراجع عن مواقفهم فإنهم أصروا على مطالبهم، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن تأتي بقوة عسكرية من الإنكليز المتواجدين في مصر لتحل محلهم، حيث تم نقلهم على عجل بواسطة الطائرات.
 فلما وجدت قوات الليفي أن بريطانيا عازمة على عدم تلبية مطالبهم، تراجع قسم كبير منهم وعاد إلى الخدمة، أما القسم الآخر الذي أصر على موقفه فقد قررت السلطات البريطانية إقصاءهم نهائياً.
\
أما الحكومة العراقية فقد قررت في 2 تموز 1932، وبعد موافقة المندوب السامي، سحب السلاح من الليفي، ومنعت حمل أي سلاح إلا بإجازة رسمية، كما قررت وضع أفراد من الشرطة مع قوات الليفي في كافة المخافر.

السعيد يقمع الثورة البارزانية:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان، ولمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة [بازيان] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى]، والتي تتوسطها قرية [بارزان] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني،عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد.

رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة.

أخذ البارزاني يوسع  نفوذه في المنطقة، وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ [أحمد البارزاني] في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البارزانيين في 25 أيار1931، وكان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البارزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة، وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي قامت بنقله إلى
 مدينة [أدرنه]على الحدود البلغارية.
وفي تلك الأيام حاول الإنكليز إسكان الآشوريين في منطقة بارزان، فلما علمت الحكومة التركية بالأمر، وهي التي تكن الكره الشديد للآشوريين الذين وقفوا إلى جانب بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى، سارعت إلى إعادة الشيخ احمد البارزاني إلى منطقة الحدود العراقية. وعندما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية، تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليم الشيخ احمد. إلا أن  الحكومة التركية رفضت الطلب، مشترطة إصدار عفو عام عنه وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم، وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.

الملك فيصل يطلب من نوري السعيد تقديم استقالته
بعد أن أنجزت حكومة نوري السعيد المهام الموكولة لها، والمتمثلة بعقد معاهدة 30 حزيران 1930، وإدخال العراق في عصبة الأمم، ومنح العراق الاستقلال [الشكلي]، قدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 27 تشرين الأول 1932، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وكلف الملك فيصل السيد [ناجي شوكت] بتأليف الوزارة الجديدة في 3 تشرين الثاني 1932.

ورغم أن استقالة السعيد جاءت بناء على طلبه كما جاء في كتابه الموجه إلى الملك، إلا أن الحقيقية كانت غير ذلك، وأن الملك فيصل هو الذي طلب منه تقديمها فقد جاء في البرقية التي طيرها المندوب السامي [هيوبرت همفري] إلى وزارة الخارجية البريطانية برقم 335 بتاريخ 29 تشرين الأول 1932 ما يلي :
[ إن الملك هو الذي طلب من السعيد تقديم استقالة حكومته لأنه فقد ثقة الملك، ولما عرض على الملك استعداده لجمع نوري السعيد بالملك رفض الملك ذلك، وقرر الانفصال عن السعيد، ولم تفد توسلاتي وتوسلات المستشار [ كورنواليس] لتثني الملك عن قراره.   
كان هدف الملك من طلب الاستقالة تقليص نفوذ نوري السعيد الذي تصاعد نجمه لدى البريطانيين بعد أن افلح في توقيع معاهدة 1930، وأصبح يتمتع بمنزلة كبيرة لدى المندوب السامي البريطاني والحكومة البريطانية، ونال ثقتهما، وأصبح يرى نفسه وكأنه الشخصية الوحيدة القادرة على إدارة شؤون البلاد.
كما هدف الملك فيصل من التغير الوزاري استمالة ما يدعى بالمعارضة المعتدلة، بعد الذي سببته معاهدة 30 حزيران 1930 الجائرة، والمقيدة لاستقلال العراق من جهة. وهكذا جاءت حكومة ناجي السويدي وسطاً بين الاتجاه الموالي لبريطانيا والاتجاه المعارض لسياستها، وللمعاهدة.
أما الرأي العام العراقي فقد كان بين متفائل ومتشائم من هذه الوزارة، ورأى البعض الأخر أن هذه الوزارة لا تعدو عن كونها وزارة انتقالية ليس إلا.

أما وزارة الخارجية البريطانية فقد كان رأيها أن هذه الوزارة لن تدوم طويلاً، فبريطانيا لا ترضى إلا بوزارة تكون ألعوبة بأيديها، وهي لم تعترض على تشكيلها لكي تهدئ الأوضاع في البلاد بعد الذي سببته حكومة نوري السعيد بعقد معاهدة 30 حزيران 1930.
كان على الوزارة الجديدة أن تلجأ إلى حل البرلمان الذي يتمتع فيه نوري السعيد بالأغلبية المطلقة لتقليم أظافره من جهة، ولإرضاء الشعب بعد أن زوّر نوري السعيد الانتخابات السابقة بشكل خطير.
 وحاول نوري السعيد ثني ناجي شوكت للحيلولة دون حل البرلمان واعداً إياه بتأييد نواب حزبه للوزارة.
غير أن الملك كان قد صمم على حل البرلمان، وأصدر الإرادة الملكية بحله في 8 تشرين الثاني 1932.
حاول نوري السعيد عرقلة قرار حل البرلمان بأن أوعز إلى نواب حزبه بعدم حضور الجلسة التي تتلى فيها الإرادة الملكية بحله، لكن ذلك لم يمنع من مضي الحكومة والملك قدماً في حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة. (4)

أما نوري السعيد فقد عقد اجتماع لقيادة حزبه في 10 تشرين الأول بعد يومين من قرار الحل، وأصدرت القيادة  بياناً يندد بالحل، وقررت كذلك إرسال مذكرة إلى الملك فيصل ادعت فيها عدم شرعية الحل، وفوضت نوري السعيد بمتابعة المذكرة.
ولما بلغ الأمر للملك فيصل، قرر إبعاد نوري السعيد عن العراق بتعينه ممثلاً للعراق في عصبة الأمم في 16 تشرين الثاني 1932.
كان أمام حكومة ناجي شوكت مدة أربعة اشهر تبدأ من تاريخ حل البرلمان لإجراء انتخابات جديدة حسبما نص على ذلك القانون الأساسي بمادته الأربعين، ولذلك فقد سارعت الحكومة إلى تعين يوم 10 كانون الأول 1932 موعداً لانتخاب المنتخبين الثانويين، وجرت الانتخابات في جو من اللامبالاة من قبل الشعب الذي كان يدرك أن الحكومات المتعاقبة تجري الانتخابات حسبما تريد هي والمندوب السامي والملك، شاء الشعب أم أبى.
ومع ذلك فقد رشح أعضاء من [ حزب الإخاء الوطني ] الذي يقوده الزعيم الوطني [جعفر أبو التمن] بشكل فردي، وفاز معظم المرشحين في الانتخابات، ولكن عددهم كان قليلاً. كما رشح عدد من أعضاء [الحزب الوطني] بزعامة [يسين الهاشمي] على الرغم من حدوث انشقاق في قيادة الحزب بسبب مطالبة البعض منهم مقاطعة الانتخابات وفاز عدد من المرشحين .

أما حزب نوري السعيد [ حزب العهد ] فقد كان حزب حكومة وبرلمان فلما ذهبت الوزارة وحُل البرلمان تلاشى الحزب، لكن عدد من أعضاء الحزب رشحوا في الانتخابات بصورة فردية، وفازوا فيها.

كانت حصة الأسد كما هو جارٍ عادة في كل انتخابات للحكومة، فقد فازت كتلة الحكومة بـ  72 مقعداً في المجلس المؤلف من 88 مقعدا ودعيت كتلة رئيس الوزراء [الكتلة البرلمانية]، لكن هذه الكتلة بدأت بالتفكك عندما عقد المجلس اجتماعه في 8 آذار 1933، على أثر تواصل هجمات المعارضة على الحكومة.

حاول ناجي شوكت بعد الانتخابات أن يوسع وزارته، ويدخل فيها عناصر ما كان يدعى بالمعارضة المعتدلة مثل [يسين الهاشمي] و[حكمت سليمان] لكن الملك لم يوافق على ذلك، وأثر بقاء الوزارة على حالها، وخيره بالبقاء على رأس الوزارة أو تكليف رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة، فما كان من ناجي شوكت إلا أن قدم استقالة حكومته إلى الملك في 18 آذار 1933، وتم قبول الاستقالة، وكلف الملك السيد رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة  في 20 آذار 1933.(5)

للإطلاع على المزيد من البحوث التاريخية والمقالات وسائر كتبي الرجوع إلى موقعي على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com

51
من ذاكرة التاريخ
الصراع على السلطة
وتولي عبد الرحمن عارف الحكم
حامد الحمداني                                           15/10/2018
                                     
لم يكد يذاع خبر مصرع عبد السلام عارف في حادث الطائرة المروحية حتى بدأ الصراع على قمة السلطة، وكانت أطراف الصراع تتمثل أساساً في جبهتين رئيسيتين، على الرغم من محاولة الزعيم الركن [عبد العزيز العقيلي] ترشيح نفسه للرئاسة كجبهة ثالثة، وهاتان الجبهتان هما:
1 ـ الجبهة الأولى: وتتمثل بالعسكريين الممسكين بزمام القوة، حيث يمسكون بأيديهم كل المراكز الأساسية في الجيش، وقد وقفت هذه الجبهة إلى جانب اللواء عبد الرحمن عارف، شقيق عبد السلام عارف، وكيل رئيس أركان الجيش آنذاك بالإضافة إلى قيادة الفرقة العسكرية الخامسة المدرعة.
2 ـ الجبهة الثانية: وتتمثل برئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز، ومن حوله كل العناصر المدنية المرتبطة مصالحها بمصالح الغربية، بشكل أو بآخر.
وبموجب الدستور فأن انتخاب رئيس الجمهورية في حالة شغور المنصب يتمّ من قبل مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الأعلى بصورة مشتركة.
وهكذا فقد بادر مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الأعلى بعقد اجتماع عاجل في 16 نيسان 1966 لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد طُرح في الاجتماع ثلاثة أسماء:
1ـ الأول:عبد الرحمن عارف، وكيل رئيس أركان الجيش، وقائد الفرقة الخامسة المدرعة.
2 ـ الثاني:عبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء.
3 ـ الثالث: الزعيم الركن عبد العزيز العقيلي، قائد الفرقة العسكرية الأولى.
وفي دورة الاقتراع الأولى حصل البزاز على 14صوتاً من مجموع  28صوتاً، فيما حصل عبد الرحمن عارف على 13 صوتاً، ونال عبد العزيز العقيلي على صوت واحد فقط هو صوته، وكان الضباط المصوتين لعبد الرحمن عارف 11ضابطاً من مجموع 12، باستثناء العقيلي، فيما صوت 14 من الوزراء للبزاز وعضوان لعارف، ولكون أن أحداً لم يفز بأغلبية الثلثين، كما نص الدستور فقد جرت دورة ثانية، كان فيها تأثير الضباط حاسماً، فقد أصروا على انتخاب عبد الرحمن عارف مهما كان الثمن، رافضين قبول تولي البزاز رئاسة الجمهورية، مما أضطر البزاز إلى سحب ترشيحه تحت ضغط العسكريين لصالح عبد الرحمن عارف، فقد كانت القوى المسيطرة على الجيش، وخاصة عدد من أقرباء عارف، وفي المقدمة منهم [سعيد صليبي] رجل النظام العارفي القوي، لها القول الفصل في عملية الانتخاب، كما أن عبد الناصر، والناصريين، وقفوا إلى جانب عبد الرحمن عارف ضد البزاز المعروف بولائه للغرب، هذا بالإضافة إلى أن عبد الرحمن عارف الذي يتسم بالضعف، وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد، وقلة طموحه، جعل البزاز ورفاقه يرضخون لانتخاب عارف، ويفضلونه على أي مرشح آخر، حيث اعتبروه أقل خطراً من غيره على مراكزهم في السلطة.
وهكذا تولى عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية، فيما بقي البزاز رئيساً للوزارة وكان نظام عبد الرحمن عارف امتداداً لنظام أخيه عبد السلام، وإن كان أقل عدوانية منه، وبقي محور النظام يستند على الحرس الجمهوري، وتعاون  الجمليين الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للحرس الجمهوري.
كان عبد الرحمن يفتقر إلى الدهاء والطاقة، ولا يتمتع بسلطة قوية لاتخاذ القرارات ويفتقد للحدس السياسي، والمعرفة بالشؤون العامة، وعدم القدرة على إدارة دفة الدولة، كما كان يفتقر إلى روح المبادرة والمناورة، حتى شعر كل من كان حوله  إلى انه لم يخلق ليكون رئيس دولة، فاقداً لأي طموح، ولذلك فقد كان العوبة بيد عدد من الضباط المتخلفين والأنانيين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية، معتمدين على الولاءات العشائرية والإقليمية.
 وكان [سعيد صليبي] يلعب الدور الأكبر من بين جميع الضباط في إدارة شؤون البلاد العسكرية، فيما أعتمد عارف على [خيرالدين حسيب]، ناصري من مدينة الموصل، في جميع الأمور المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والنفطية، أما الشؤون السياسية فكانت من حصة رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز.
 لم يسد في العراق على عهد عبد الرحمن عارف أي استقرار سياسي بسبب تصارع الأجنحة، المدنية منها والعسكرية، فلم يكن العسكريون راضين على وجود البزاز رئيساً للوزارة، واضطر البزاز في آخر الأمر إلى تقديم استقالة حكومته، تحت ضغط العسكريين، في 16  آب 1966.
لقد حاول البزاز خلال فترة حكمه الممتدة من 18 نيسان 965 إلى 16 آب 1966 إعادة الاعتبار للإقطاعيين، وكبار ملاكي الأرض القدامى، كما قدم لهم خدمات، وامتيازات حرمهم منها قانون الإصلاح الزراعي الذي شرعته حكومة عبد الكريم قاسم، فقد رفع معدل الفائدة المدفوعة للإقطاعيين عن ثمن الأرض المستملكة منهم بموجب القانون من 0,5% إلى 3 % سنوياً، وبذلك حمل الفلاحين المعدمين حملاً ثقيلاً ليست لهم القدرة على حمله، مما أدى إلى تدهور أوضاعهم الاقتصادية أكثر فاكثر،كما انه قام بتحديد قيمة مياه فروع الأنهر التي تتدفق لسقي تلك الأراضي، وبذلك حقق للإقطاعيين دخلاً كبيراً أقتطعه من دخول الفلاحين الكادحين، والضعيفة أصلاً .
لقد سعى البزاز إلى تقليص دور العسكريين وامتيازاتهم، وحاول تقليص ميزانية وزارة الدفاع، مما أثار غضب العسكريين عليه، ودفعهم إلى السعي للتخلص منه، مستغلين محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية في 15 آب 1967 ليطلبوا منه الإستقالة، ورضخ البزاز للأمر وقدم استقالة حكومته، وطلب عبد الرحمن عارف من الزعيم الركن المتقاعد [ناجي طالب] تأليف وزارة جديدة.
ومعلوم أن ناجي طالب هو أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار الذين ساهموا في ثورة 14 تموز 1958، وهو من مواليد1917، من مدينة الناصرية شيعي، ويمثل الاتجاه القومي في تلك اللجنة، وقد تولى عدة مناصب وزارية في عهد عبد الكريم قاسم، لكنه انشق عنه، وتحول نحو التعاون مع القوميين، وحزب البعث للإطاحة بحكومته، وشغل منصباً وزارياً في الحكومة الانقلابيون في8 شباط 1963، وقد عرف ناجي طالب بتذبذبه السياسي ما بين القومي المستقل والناصرين، وحاول الجمع بين الأجنحة العسكرية المتصارعة داخل السلطة باتخاذه المواقف المعتدلة.
تألفت وزارته من 7 ضباط، و12 مدنياً، من كبار موظفي الدولة الاختصاصين، لكن تناحر الأجنحة استمر في عهد وزارته، رغم محاولته الجمع بين القوميين والناصريين والبعثيين، الذين بدأوا بالظهور من جديد على المسرح السياسي، واستمرار الصراع من جهة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد إثر نشوب الخلافات مع شركات النفط، وبسبب خلافات تلك الشركات مع سوريا حول حصتها السابقة والمتراكمة عن عائدات مرور النفط عبر أراضيها  إلى مينائي بانياس، وطرابلس، وتوقف تدفق النفط، مما سبب انخفاضاً كبيراً في عائدات النفط التي كان العراق بحاجة ماسة إليها، ونتيجة لهذه الأوضاع قدم ناجي طالب استقالة حكومته.
تصاعد صراع الاجنحة وعارف يشكل الوزارة برئاسته:
نتيجة لتلك الظروف الصعبة، وتناحر الأجنحة العسكرية، وتكالبها على السلطة، أضطر عبد الرحمن عارف إلى تشكيل الوزارة برئاسته، وبذلك اصبح ممسكاً بالمنصبين، رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزارة، واتخذ له أربعة نواب لرئاسة الوزارة، يمثلون مختلف الأجنحة. فقد عين طاهر يحيى، بعثي سابق، وعبد الغني الراوي، قومي و ذو اتجاه إسلامي، وإسماعيل مصطفى، شيعي، من جماعة عبد العزيز العقيلي، وفؤاد عارف، عن القوميين الأكراد، وقد ضمت الوزارة كل من عبد الستار عبد اللطيف للداخلية، وشاكر محمود شكري للدفاع، وفاضل محسن الحكيم للمواصلات، وعبد الكريم فرحان للإصلاح الزراعي، بالإضافة إلى 16 شخصية مدنية، من اتجاهات مختلفة ولذلك فقد بدا منذُ الوهلة الأولى أن من الصعب جداً الجمع بين هذا التكوين ذي الاتجاهات والميول المختلفة، وأصبح بقاء هذه الوزارة مسألة وقت ليس إلا، وقد تسارعت الأحداث، حينما وقعت حرب 5 حزيران العربية الإسرائيلية عام 1967، والتي استمرت لمدة خمسة أيام فقط، وانتهت بهزيمة منكرة للعرب، واحتلال إسرائيل لكامل الضفة الغربية، وهضبة الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية.
لم يكن العراق  مستعدا لتلك الحرب، فقد كانت ثلثي قواته العسكرية مشغولة في بالحرب في كردستان، وبعيدة جداً عن ساحة المعارك التي تزيد على [1000كم]، ولم يكن لدى العراق سوى اللواء الثامن الآلي قريباً من الساحة،عند الحدود السورية الأردنية، حيث أوعز لها عبد الرحمن عارف بالتحرك إلى ساحة الحرب بأسلوب استعراضي لم يراعِ فيه جانب الأمان لقواته المتقدمة، وهو العسكري الذي كان بالأمس رئيساً لأركان الجيش، ثم اصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة، بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد.
لقد وقف عبد الرحمن عارف يخطب من دار الإذاعة والتلفزيون معلناً تحرك القوات العراقية إلى ساحة المعركة، وكان ذلك التصرف منه خير منبه لإسرائيل لتهاجم طائراتها القوات العراقية وهي في طريقها إلى سوريا عبر الصحراء منزلة بها الخسائر الكبيرة . ومن المحزن في تصرفات عارف وجهله، أنه وقف يخطب بعد نهاية الحرب قائلاً:
 {إن إسرائيل تعرف عنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا}، فيا للكارثة أن يقود العرب حكام بهذا المستوى.
لقد أثبتت تلك الحرب أن البونَ كان شاسعاً بين العرب وإسرائيل، فالحكومات العربية كانت على درجة خطيرة من التخلف يسودها الصراعات بين مختلف الأجنحة المتصارعة، والعسكرية منها بوجه خاص، حيث هيمن الضباط على معظم الأنظمة العربية، وعمت الفوضى في البلاد، وساد التخلف كل جوانب الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية  في حين كان الإسرائيليون قد هيأوا أنفسهم للحرب، وحولوا كل جهودهم وقواهم لتعزيز جيشهم، وأصبحت إسرائيل مسلحة حتى الأسنان بأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الحربية، ويقودها أناس يعرفون ما يفعلون، أفلس عاراً على الدول العربية التي تعد إمكانياتها المادية والبشرية عشرات أضعاف إسرائيل أن تستطيع إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية خلال ستة أيام؟





52
من ذاكرة التاريخ:
هكذا فرض نوري السعيد معاهدة
1930على العراق
 
حامد الحمداني                                                       10/10/2018
على أثر انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، شكل نوري السعيد وزارته الأولى في 23 آذار 1930، بناء على تكليف الملك فيصل الأول بطلب من المندوب السامي البريطاني، وكان ذلك التكليف باكورة هيمنته على سياسة العراق، حيث تولى الحكم أربعة عشر مرة منذُ ذلك التاريخ وحتى سقوط النظام الملكي إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولعب خلال تلك الحقبة دوراً خطيراً في حياة البلاد السياسية، واشتهر بإخلاصه التام للإنكليز، وبحملات القمع التي مارسها ضد أبناء الشعب، والمراسيم الجائرة التي كان يصدرها لكي يسكت أفواه المواطنين وقوى المعارضة العراقية، مستخدماً كل الوسائل والسبل المخالفة للدستور. كما اتخذ له موقفاً معادياً من حركات التحرر العربية إرضاءً  لأسياده البريطانيين. وقد جاءت وزارته على الشكل التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية.
2 ـ جميل المدفعي  ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ علي جودت الأيوبي ـ وزيراً للمالية.
4 ـ جمـال بابان ـ وزيراً للعدل.
5 ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع.
6 ـ جميل الراوي ـ وزيراً للأشغال والإسكان.
7 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف.
وقد أعلن نوري السعيد أن أمام وزارته مهمة التفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة على أساس الاستقلال، ودخول العراق إلى عصبة الأمم، لكن حقيقة الأمر أن حكومة نوري السعيد جاءت لفرض معاهدة 1930 الجائرة على العراق. (1)

إجراءات السعيد لتأمين فرض معاهدة 1930
بدأت المفاوضات العراقية البريطانية حول عقد معاهدة جديدة في 31 آذار 1930، وقد ترأس الوفد البريطاني المندوب السامي السير [هيمفريز]، وضم الوفد مساعده [الميجر يونك] و[المستر ستاجر]، فيما كان الوفد العراقي برئاسة [الملك فيصل الأول]، وعضوية [نوري السعيد] و[جعفر العسكري] و[رستم حيدر]، وقد لعب الملك دوراً بارزاً في المفاوضات، وكانت الحكومة تصدر كل يوم بياناً مقتضباً حول مجرى المفاوضات دون الدخول في التفاصيل، حتى جاء يوم 8 نيسان 1930 حين صدر بيان عن الحكومة يقول:
لقد تم الاتفاق بين المتفاوضين على ما يلي:
1ـ إن المعاهدة التي تجري المذاكرة حولها الآن ستدخل حيز التنفيذ عند دخول العراق في عصبة الأمم.
2ـ إن وضع العراق كما هو مصرح في المعاهدة سيكون وضع دولة حرة مستقلة.
3ـ عند دخول المعاهدة الجديدة حيز العمل ستنتهي حالاً جميع المعاهدات والاتفاقات الموجودة ما بين العراق وبريطانيا العظمى، والانتداب الذي قبله صاحب الجلالة البريطانية سينتهي بطبيعة الحال.
 لعب نوري السعيد دوراً أساسياً في عقد المعاهدة الجديدة بالنظر للثقة الكبيرة التي أولاها البريطانيون له، والاطمئنان إليه، وكذلك ثقة الملك فيصل.
كان الشعب العراقي يدرك أن المفاوضات لن تطول، وهذا ما كان، فقد أعلن بيان رسمي للحكومة  في 30 حزيران 1930 عن توقيع معاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا العظمى، وتنفذ حال قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وأن المعاهدة ستنشر في بغداد ولندن في وقت واحد يتفق عليه الطرفان.
باشر نوري السعيد المهام التي أنيطت به، وكان جُلّ همه أن ينجح في الامتحان الصعب، وينال ثقة الإنكليز، وقد فعل ذلك ونجح، وأصبح رجل بريطانيا القوي دون منازع، فكانت بريطانيا تنيط به تأليف الوزارة كلما كان لديها مهمة صعبة تنوي تنفيذها، وقد اتخذ نوري السعيد الإجراءات التالية تمهيداً لإقرار المعاهدة.
1ـ  حل المجلس النيابي
بعد أن أتمت الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة يستطيع من خلالها تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط.

وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز، وأحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة منددة بنوري السعيد وبالمعاهدة وبالإمبريالية البريطانية، فقد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق، بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة، وتقييد العراق بقيود جديدة. (2)

 السعيد يزور الانتخابات لضمان فرض المعاهدة:
بعد أن حلت الحكومة مجلس النواب، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط  والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو، وليس الشعب، وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول  1930 في جو مشحون بالإرهاب.

 فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية بالوكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه وأساليبه القمعية المعروفة لإرهاب المنتخبين الثانويين، وإجبارهم على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات، تنقلات واسعة بين رؤساء وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة.

لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل 88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى من قبل مجلس النواب، وجاءت المعاهدة على الوجه التالي. (3)

نص معاهدة 30 حزيران 1930: (17)
صاحب الجلالة ملك العراق.
وصاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
لما كانا راغبين في توثيق أواصر الصداقة، والاحتفاظ بصلات التفاهم وإدامتها ما بين بلديهما، ولما كان صاحب الجلالة ملك بريطانيا قد تعهد في معاهدة التحالف الموقع عليها في بغداد في اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية، بأن ينظر نظراً فعلياً في تمتين علاقاتنا في فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات، ولما كانت حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قد أعلمت الحكومة العراقية في اليوم الرابع عشر من أيلول سنة 1929 أنها مستعدة لعضد ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 بلا قيد ولا شرط، وأعلنت لمجلس العصبة في اليوم الرابع عشر من كانون الأول 1929 أن هذه هي نيتها، ولما كانت المسؤوليات الانتدابية التي قبلها صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق ستنتهي من تلقاء نفسها،عند إدخال العراق عصبة الأمم، ولما كان صاحب الجلالة ملك العراق، وصاحب الجلالة البريطانية يريان أن الصلات التي ستقوم بينهما بصفة كونهما مستقلين، وينبغي تحديدها بعقد معاهدة تحالف وصداقة.
فقد اتفقا على عقد معاهدة جديدة لبلوغ هذه الغاية، على قواعد الحرية والمساواة التامتين، والاستقلال التام، وتصبح نافذة عند دخول العراق عصبة الأمم، وقد عيّنا عنهما مندوبين مفوضين هما:
عن جلالة ملك العراق : نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حامل وسامي النهضة والاستقلال من الصنف الثاني.
وعن جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار، إمبراطور الهند اللفتنانت كولونيل السر[ هنري هيمفريز]المعتمد السامي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق اللذان بعد أن تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة قد اتفقا على ما يلي:
المادة الأولى: يسود سلم وصداقة دائمين بين صاحب الجلالة ملك العراق وصاحب الجلالة البريطانية، ويؤسس بين الفريقين الساميين المتعاقدين تحالف وثيق، توطيداً لصداقتهما وتفاهمهما الودي، وصلاتهما الحسنة، وتجرى بينهما مشاورة تامة وصريحة في جميع الشؤون السياسية الخارجية، مما قد يكون له مساس مصالحهما المشتركة.
ويتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن لا يقف من البلاد الأجنبية موقفاً لا يتفق ومعاهدة  التحالف هذه، أو قد يخلق مصاعب للفريق الآخر
                                                                                                                                   المادة الثانية: يمثل كل من الفريقين الساميين المتعاقدين لدى بلاط الفريق السامي المتعاقد الآخر ممثل سياسي [دبلوماسي] يعتمد وفقاً للأصول المرعية.

المادة الثالثة:إذا أدى نزاع بين العراق ودولة ثالثة إلى حالة يترتب عليها خطر قطع العلاقات بتلك الدولة، يوحد عندئذٍ الفريقان الساميان المتعاقدان مساعيهما لتسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية، وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً لأي تعهدات دولية أخرى يمكن تطبيقها على تلك الحالة.
المادة الرابعة: إذا اشتبك أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في حرب رغم أحكام المادة الثالثة أعلاه  يبادر حينئذٍ الفريق السامي المتعاقد الآخر فوراً إلى معونته بصفة كونه حليفاً، وذلك دائماً وفق أحكام المادة التاسعة أدناه. وفي حالة خطر حرب محدق يبادر الفريقان الساميان المتعاقدان فوراُ إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية.
إن معونة صاحب الجلالة ملك العراق في حالة حرب، أو خطر حرب محدق تنحصر في أن يقدم إلى صاحب الجلالة البريطاني في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر، والموانئ والمطارات، ووسائل المواصلات.
المادة الخامسة: من المفهوم بين الفريقين الساميين المتعاقدين أن مسؤولية حفظ الأمن الداخلي في العراق وأيضاً ـ بشرط مراعاة أحكام المادة الرابعة أعلاه مسؤولية الدفاع عن العراق إزاء الاعتداء الخارجي تنحصران في صاحب الجلالة ملك العراق.
مع ذلك يعترف جلالة ملك العراق بان حفظ  وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية بصورة دائمة في جميع الأحوال هما من صالح الفريقين الساميين المتعاقدين المشترك.
فمن أجل ذلك، وتسهيلاً للقيام بتعهدات صاحب الجلالة البريطانية وفقاً للمادة الرابعة أعلاه يتعهد جلالة ملك العراق بأن يمنح صاحب الجلالة البريطانية طيلة مدة التحالف موقعين لقاعدتين جويتين ينتقيهما صاحب الجلالة البريطانية في البصرة، أو في جوارها، وموقعاً واحداً لقاعدة جوية ينتقيها صاحب الجلالة البريطانية في غرب نهر الفرات.
وكذلك يأذن جلالة ملك العراق لصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الأراضي العراقية في الأماكن الأنفة الذكر وفقاً لأحكام ملحق هذه المعاهدة، على أن يكون مفهوماً أن وجود هذه القوات لن يعتبر بأي حال من الأحوال احتلالاً، ولن يمس على الإطلاق سيادة واستقلال العراق.

المادة السادسة: يعتبر ملحق هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.

المادة السابعة: تحل هذه المعاهدة محل معاهدتي التحالف الموقع عليهما في بغداد في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922 ميلادية، والموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية، وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني سنة 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية مع الاتفاقات الفرعية الملحقة بها، التي تمسي ملغاة عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وهذه المعاهدة في نسختين في كل من اللغتين العربية والإنكليزية، ويعتبر النص الأخير المعول عليه.

المادة الثامنة: يعترف الفريقان الساميان المتعاقدان بأنه عند الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة تنتهي من تلقاء نفسها وبصورة نهائية جميع المسؤوليات المترتبة على صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق وفقاً لأحكام وثيقة دولية أخرى، وينبغي أن يترتب على جلالة ملك العراق وحده، وعلى الفريقين الساميين المتعاقدين أن يبادرا فوراً إلى اتخاذ الوسائل المقتضية لتأمين نقل هذه المسؤوليات إلى جلالة ملك العراق.

المادة التاسعة: ليس في هذه المعاهدة ما يرمي بوجه من الوجوه إلى الإخلال أو يخل بالحقوق والتعهدات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الفريقين الساميين المتعاقدين وفقاً لميثاق عصبة الأمم، أو معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في اليوم السابع والعشرين من شهر آب سنة 1928 ميلادية.

المادة العاشرة: إذا نشأ أي خلاف فيما يتعلق بتطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها، ولم يوفق الفريقان الساميان المتعاقدان إلى الفصل فيه بالمفاوضة رأساً بينهما يعالج الخلاف حينئذٍ وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم .
المادة الحادية عشرة: تبرم هذه المعاهدة، ويتم تبادل الإبرام بأسرع ما يمكن، ثم يجري تنفيذها عند قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وتظل هذه المعاهدة نافذة لمدة خمس وعشرين سنة ابتداء من تاريخ تنفيذها، وفي أي وقت كان بعد عشرين سنة من تاريخ الشروع بتنفيذها، على الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما بناء على طلب أحدهما بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار على حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال.
وعند الخلاف في هذا الشأن يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم .
وإقراراً لما تقدم قد وقع كل من المندوبين المفوضين على هذه المعاهدة وختمها بختمه.
كتب في بغداد في اليوم الثلاثين من شهر حزيران سنة 1930 ميلادي الموافق لليوم الثاني من شهر صفر سنة 1349 هجرية.
          هنري هيمفر                                    نوري السعيد
ملحق
 فقرة رقم 1
يعين صاحب الجلالة البريطانية من حين لأخر مقدار القوات التي يقيمها جلالته في العراق وفقاً لإحكام المادة الخامسة من هذه المعاهدة، وذلك بعد مشاورة صاحب الجلالة ملك العراق في الأمر، ويقيم صاحب الجلالة البريطانية قوات في [الهنيدي] لمدة خمس سنوات، بعد الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وذلك لكي يتمكن صاحب الجلالة ملك العراق من تنظيم القوات المقتضية للحلول محل تلك القوات، وعند انقضاء تلك المدة تكون قوات صاحب الجلالة البريطانية قد انسحبت من الهنيدي.

ولصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الموصل لمدة حدها الأعظم خمس سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وبعد ذلك لصاحب الجلالة البريطانية أن يضع قواته في الأماكن المذكورة في المادة الخامسة من هذه المعاهدة، ويؤجر صاحب الجلالة ملك العراق مدة هذا التحالف لصاحب الجلالة البريطانية المواقع المقتضية لإسكان قوات صاحب الجلالة البريطانية في تلك الأماكن.
فقرة رقم 2
بشرط مراعاة أي تعديلات قد يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على إحداثها في المستقبل، تظل الحصانات والامتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية،  بما في ذلك الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها القوات البريطانية في العراق شاملة القوات المشار إليها في الفقرة الأولى أعلاه، وتشمل أيضاً قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف، وهي القوات التي يحتمل وجودها في العراق عملاً بأحكام هذه المعاهدة وملحقها، أو وفقاً لاتفاق يتم عقده بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وأيضاً يواصل العمل بأحكام أي تشريع محلي له مساس بقوات صاحب الجلالة البريطانية المسلحة، وتتخذ الحكومة العراقية التدابير المقتضية للتثبت من كون الشروط المتبدلة لا تجعل موقف القوات البريطانية فيما يتعلق بالحصانات والامتيازات أقل ملائمة من الوجوه من الموقف الذي تتمتع به هذه القوات في تاريخ الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 3
يوافق جلالة ملك العراق على القيام بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة في الفقرة الأولى من هذا الملحق، وتدريبها وأعالتها، وعلى منحها عين التسهيلات استعمال التلغراف واللاسلكي، التي تتمتع بها عند الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 4
يتعهد صاحب الجلالة ملك العراق بأن يقدم بناء على طلب صاحب الجلالة البريطانية، وعلى نفقة صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً للشروط التي يتفق عليها الفريقان الساميان المتعاقدان، حرساً خاصاً من قوات صاحب الجلالة ملك العراق لحماية القواعد الجوية، مما قد تشغله قوات صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً لأحكام هذه المعاهدة، وأن يؤمن سنّ القوانين التشريعية التي قد يقتضيها تنفيذ الشروط الآنفة الذكر.
فقرة رقم 5
يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يقوم عند كل طلب يطلبه صاحب الجلالة ملك العراق بجميع التسهيلات في الأمور التالية، وذلك على نفقة جلالة ملك العراق، وهي:
1ـ تعليم الضباط العراقيين الفنون البحرية والعسكرية والجوية في المملكة المتحدة.
2 ـ تقديم الأسلحة والعتاد والتجهيزات والسفن والطائرات من أحدث طراز متيسر إلى قوات جلالة ملك العراق .
3 ـ تقديم ضباط بريطانيين مجربين عسكريين وجويين للخدمة بصفة استشارية في قوات جلالة ملك العراق .
فقرة رقم 6
لما كان من المرغوب فيه توحيد التدريب والأساليب في الجيشين العراقي والبريطاني يتعهد جلالة ملك العراق بأنه إذا رأى ضرورة الالتجاء إلى مدربين عسكريين أجانب فإنهم يختارون من الرعايا البريطانيين.
ويتعهد أيضاً بأن أي أشخاص من قواته، من الذين يوفدون إلى الخارج للتدريب العسكري يرسلون إلى مدارس وكليات ودور تدريب عسكرية في بلاد جلالته البريطانية، بشرط أن لا يمنع ذلك صاحب الجلالة ملك العراق من إرسال الأشخاص الذين لا يمكن قبولهم في المعاهد، ودور التدريب المذكورة في أي قطر آخر.
ويتعهد أيضاً بأن التجهيزات الأساسية لقوات جلالته، وأسلحتها، لا تختلف في نوعها عن أسلحة قوات صاحب الجلالة البريطانية، وتجهيزاتها.
يوافق جلالة ملك العراق على أن يقوم عند طلب صاحب الجلالة البريطانية ذلك بجميع التسهيلات الممكنة لمرور قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف العسكرية عبر العراق لنقل وخزن جميع المؤن والتجهيزات التي قد تحتاج إليها هذه القوات في أثناء مرورها في العراق، وتتناول هذه التسهيلات استخدام طرق العراق، وسككه الحديدية، وطرقه المائية، وموانئه، ومطاراته، ويؤذن لسفن صاحب الجلالة البريطانية أذناً عاماً في زيارة شط العرب، بشرط إعلام جلالة ملك العراق، قبل القيام بتلك الزيارات للموانئ العراقية. (4)
                                                      دار الاعتماد  ن. س . ف
                                                     بغداد في 30 حزيران 1930
وقبل أن يعرض نوري السعيد معاهدته المشؤومة على مجلس النواب لجأ إلى تأليف حزب سياسي له ضم العناصر التي رشحها في الانتخابات لتكون سنداً له في تصديق المعاهدة فكان [حزب العهد]. وفي 4 تشرين الأول 1930 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بالموافقة على المعاهدة، وتم دعوة مجلس النواب إلى الاجتماع  في 16 تشرين الأول، واتخذ نوري السعيد احتياطات أمنية واسعة النطاق حول بناية المجلس الجديد في بناية جامعة[آل البيت]،التي ألغاها عند تشكيله لوزارته، والواقعة في الاعظمية، وأصدر قراراً بضمها إلى حدود أمانة العاصمة، حيث ينص الدستور على أن يكون مقر مجلس النواب في العاصمة. وفي اليوم المقرر لمناقشة المعاهدة من قبل مجلس النواب تقدم نوري السعيد إلى المجلس بالاقتراح التالي :
{لما كانت نصوص المعاهدة مع بريطانيا المنعقدة في 30 حزيران 1930 قد نشرت للرأي العام منذ مدة طويلة، وكانت انتخابات مجلس النواب قد جرت على أساس استفتاء الشعب فيها اقترح على المجلس الموقر أن يوافق على المذاكرة فيها بصورة مستعجلة}.
وقد تمت الموافقة على الاقتراح من قبل رئيس المجلس، و تم طرح المعاهدة بعد نقاش للمعارضة دام 4 ساعات للتصويت عليها، وقد صوت إلى جانب المعاهدة 69، وعارضها 13عضواً، وتغيب 5 أعضاء عن الحضور، وسط هياج وصياح المعارضة المنددة بالمعاهدة. (5)
 لم يبق أي عائق أمام نوري السعيد لتصديق المعاهدة، فالملك فيصل كان يرأس الوفد المفاوض أثناء عقد المعاهدة، ومجلس الأعيان يعيينه الملك، ويعمل بأمره.
أما المعارضة فقد أبرق أقطابها المعروفين السادة[جعفر أبو التمن] و[ناجي السويدي] و[يسين الهاشمي] إلى سكرتارية عصبة الأمم يحتجون على بنود المعاهدة التي لا تضمن للعراق استقلالاً حقيقياً، وتفسح المجال لبريطانيا باستغلال البلاد حسب ما تقتضيه أغراضها الاستعمارية.

 ماذا قال رجال الدولة البارزين عن المعاهدة؟ (6)
لم يكد نوري السعيد يحقق مهمته الأولى بالتصديق على المعاهدة حتى عمَّ استياء عام وهياج جماهير الشعب احتجاجاً على ربط العراق بعجلة الاستعمار البريطاني، ولم يستطع رجالات السياسة البارزين وأقطاب الحكم إلا أن يوجهوا النقد الشديد للحكومة، بالنظر لكونها قد قيدت العراق لسنوات طويلة، وربطته بعجلة بريطانيا خلافاً لمصالح الشعب والوطن، وأعلنوا رفضهم لها .
فقد قال [رشيد عالي الكيلاني] وهو من رؤساء الوزارات المخضرمين:
{إن أقل ما يقال عن هذه المعاهدة أنها استبدلت الانتداب الوقتي باحتلال دائم، وأضافت إلى القيود والأثقال الحالية  قيوداً وأثقالاً أشد وطأة}.
وقال [يسين الهاشمي]، وهو أيضاً من رؤساء الوزارات، والذي شكل العديد من الوزارات ما يلي:
 {لم تضف المعاهدة شيئاً إلى ما كسبه العراق بل زادت في أغلاله، وعزلته عن الأقطار العربية، وباعدت ما بينه وبين جيرانه، وصاغت لنا الاستقلال من مواد الاحتلال، ورجائي من أبناء الشعب أن لا يقبلوها}.
 
وقال [حكمت سليمان]، وهو رئيس وزراء سابق ما يلي:
{المعاهدة الجديدة تضمن الاحتلال الأبدي، ومنحت بريطانيا امتيازات دون عوض أما ذيولها المالية، فإنها تكبد العراق أضراراً جسيمة دون مبرر}.

أما السيد[محمد رضا الشبيبي] وهو وزير في وزارات عديدة فقد قال:
 {إنني أرتئي رفض المعاهدة وملحقاتها لأنها حمّلت العراق الكثير من المغارم والتبعات، ولم يكسب مقابل ذلك حقاً جديداً من الحقوق، في حين حصل الجانب الآخر على امتيازات وحقوق جديدة}.

أما السيد [عبد العزيز القصاب] وهو وزير في وزارات عدة فقد قال عن تلك المعاهدة ما يلي:
{ إن المعاهدة لا تلبِ رغبات الشعب، وجاءت هادمة لكل الجهود التي بذلت لتخفيف وطأة المعاهدات السابقة، وأنا ارفضها ويرفضها الشعب}.
 
وقال [حمدي الباجه جي] وهو رئيس وزارة سابق:
 { إن المعاهدة الجديدة تجعل كابوس الاستعمار البريطاني دائماً ومستمراً}.

وقال [يوسف غنيمة] وهو وزير سابق:
 {إن المعاهدة لا تتفق والاستقلال التام، ورغبات الشعب، وليست في مصلحة البلاد}.

وقال [كامل الجادرجي] وهو وزير سابق، وزعيم الحزب الوطني الديمقراطي، وأحد أبرز رموز المعارضة العراقية:
{إن نتيجة هذه المعاهدة وذيولها حمايةٌ بريطانية شديدة الوطأة، واحتلال دائم}. (7)
لكن المؤسف أن كل أولئك الساسة، باستثناء الأستاذ كامل الجادرجي، قد تنكروا لأقوالهم، واشتركوا في الوزارات التالية، ونفذوا بنود المعاهدة، وبلعوا تعليقاتهم حولها.

غير أن أكثر الشخصيات الوطنية عنفاً في مقاومة المعاهدة كان القائد الوطني البارز[جعفر أبو التمن] زعيم الحزب الوطني الذي بعث بمذكرة باسم الحزب إلى كل من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإيران وتركيا وإلى عصبة الأمم في1تشرين الأول 1930 أدان فيها أسلوب تأليف حكومة نوري السعيد، والأساليب غير الدستورية التي أقدم عليها، بتأجيل جلسات المجلس النيابي، ومن ثم حله دون أن يمض عليه خمسة أشهر، وقيامه بتعطيل أكثر من 20 صحيفة سياسية، وإحالة عدد من المحررين الصحفيين إلى المحاكم، ومنع الحكومة للاجتماعات العامة، وكمّ أفواه الشعب، وعقد معاهدة جائرة يرفضها الشعب لأنها تصب في خدمة الأغراض الاستعمارية البريطانية، وإجراء انتخابات مزورة لفرض المعاهدة التي رفضها الشعب وقواه الوطنية، وإن الحزب الوطني الذي أيدت سياسته أكثرية الشعب العراقي يعتبر أن هذه المعاهدة ملغاة وباطلة}.
كما أحتج عدد من الشخصيات السياسية الكردية على المعاهدة، وأبرقوا إلى سكرتارية عصبة الأمم عدة برقيات في 20، و26 تموز تستنكر عقد المعاهدة .
وقال عدد من أعضاء اللجنة الدائمة للانتدابات من ممثلي الدول في عصبة الأمم :
{ إن قبول العراق لهذه المعاهدة سيجعله بعد تحرره من الانتداب تحت الحماية البريطانية}.
وقال[ المسيو بار] العضو الفرنسي في اللجنة المذكورة:
{أنا شخصياً لا أحب أن أرى بلادي تدخل في مثل هذا التعهد الذي قبله العراق على نفسه}.
وهكذا أثبت نوري السعيد أنه أكثر إنكليزية من الإنكليز، وانه رجل الإمبريالية البريطانية دون منازع، وهذا ما أهله لكي يكون العمود الفقري الذي تستند عليه السياسة البريطانية في العراق، ومكنته من أن يشكل 14 وزارة، في الفترة الممتدة من منتصف حزيران 1930 وحتى سقوط النظام الملكي حين قامت ثورة 14 تموز 1958.
التوثيق
(1) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 7 .
(2) نفس المصدر ـ ص 17 .
(3) صحيفة صدى الاستقلال ـ العدد الرابع .تشرين الأول 1930
(4) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 19 .
(5) محاضر مجلس النواب 1930 ـ ص 57 .
(6) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص50 .
    (7) في غمرة النضال ـ ص 178 ـ سلمان الفياض


53
من ذاكرة التاريخ
نظام عبد السلام عارف
والبعثيون والشيوعيون والناصريون
حامد الحمداني                                                     11/10/2018

بعد سقوط حكم حزب البعث على أثر انقلاب 18 تشرين الثاني  1963الذي قاده رئيس الجمهورية عبد السلام عارف، حدث بعض الانفراج للوضع السياسي في البلاد، وخفت حملات الاعتقالات  والملاحقات، وتوقفت أساليب التعذيب ضد المعتقلين السياسيين التي كان يمارسها حزب البعث، كما حدثت تطورات في العلاقات بين القوى السياسية في البلاد، والعلاقات بين العربية المتحدة والعراق من جهة، والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، وكان في مقدمة تلك التطورات ما يأتي:
1ـ عودة العلاقات الطبيعية بين العربية المتحدة والاتحاد السوفيتي، وحدوث انفراج سياسي داخل مصر، تمثل في إطلاق سراح السجناء الشيوعيين، وتوّجت العلاقة الجديدة بزيارة الزعيم السوفيتي [خرشوف] للقاهرة، ولقاءه مع الرئيس عبد الناصر، مما أعاد العلاقة بين البلدين بعد الهجمات التي شنها عبد الناصر على الإتحاد السوفيتي.

2ـ توقف القتال بين الأكراد وقوات الحكومة بعد تدخل الرئيس عبد الناصر، وتوسطه بين حكومة عبد السلام عارف والقيادة الكردية.     
                       
3ـ عودة نشاط فرع الحزب الشيوعي في كردستان بعد توقف القتال، وكان تنظيم الحزب في كردستان قد نجا أغلبه من ملاحقة البعثيين إبان حكمهم الأسود.

4ـ استئناف العلاقات العراقية السوفيتية، واستئناف السوفيت تجهيز العراق بالسلاح، الذي توقف على أثر انقلاب 8 شباط 1963.

5ـ الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة بدفع من العناصر الناصرية.

كل هذه العوامل دفعت قيادة الحزب الشيوعي إلى إعادة تقييم موقفه من نظام عبد السلام عارف بعد نقاش للوضع السياسي في اجتماع موسع عقدته اللجنة المركزية للحزب في أواخر آب 1964.
لقد ظهر خلال النقاش داخل اللجنة المركزية تياران متناقضان، التيار الأول دعا إلى التعاون مع حكومة عبد السلام عارف، مثمناً توجه العراق والعربية المتحدة نحو ما سمي بطريق [التطور اللا رأسمالي] وباتجاه الاشتراكية!، وذهبت العناصر اليمينية في قيادة الحزب إلى أبعد من ذلك  فدعت إلى حل الحزب، والانخراط في الاتحاد الاشتراكي، معتبرين قيام عبد السلام عارف بانقلابه ضد البعثيين، وإنهاء سلطتهم الدموية، قد أوجد شروطاً أكثر ملائمة لنضال القوى المعادية للإمبريالية، من أجل الحفاظ على استقلالنا الوطني، والعودة إلى قافلة حركة التحرر الوطني للشعوب.

غير أن التيار الثاني في قيادة الحزب كان له تقيماً آخر، وموقفاً آخر من حكومة عبد السلام عارف، ذلك أن أعداداً كبيرة من الشيوعيين كانوا لا يزالون يقبعون في سجون النظام، كما أن السلطة العارفية كانت قد فسحت المجال واسعاً أمام العناصر الرجعية والشوفيتية لخلق الطائفية وترويجها، وتواجد أعداد كبيرة من تلك العناصر في مختلف أجهزة الدولة، هذا بالإضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية للشعب، وحالة عدم الاستقرار السياسي بسبب وجود التيارات المتناقضة داخل السلطة، فهناك عناصر رجعية ترتبط بشكل أو بأخر بالإمبريالية، وهناك عناصر ناصرية تسعى نحو التطور اللا رأسمالي، كما كان يجري في العربية المتحدة، ولكن  نتائج الاجتماع صبت  في خانة الإقدام على التعاون مع حكومة عبد السلام عارف.

 أدى اتجاه قيادة الحزب الشيوعي نحو التعاون مع السلطة العارفية إلى موجة من الاستياء في قواعد وكوادر الحزب الذين رفضوا هذا التوجه والتعاون مع شركاء البعثيين بالأمس في كل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب والوطن، والشيوعيين بوجه خاص، و تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، وتحدت تلك الكوادر مع جانب كبير من قواعد الحزب قرارات اللجنة المركزية رافضة إياها، في الوقت الذي أصرت فيه اللجنة المركزية على السير في الطريق الذي رسمه الاجتماع الموسع  مهما كان الثمن.

غير أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فقد حدثت تطورات داخلية، عربية ودولية، أفشلت مسعى القيادة اليمينية للحزب. فقد استُؤنفت الحرب في كردستان من جديد في 5 نيسان 1965، وشنت حكومة عبد السلام عارف الشوفينية حرباً شعواء ضد الشعب الكردي.

كما أن عبد الناصر أصيب بخيبة أمل مريرة بعبد السلام عارف، وأصبح على يقين أن عارف لا يؤمن إيماناً صادقاً بالوحدة، وإنما أتخذها وسيلة للوثوب إلى السلطة، فقد تظاهر النظام الجديد لعبد السلام عارف بالسير باتجاه إقامة أقرب اتفاق ممكن مع العربية المتحدة، في كل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
ففي 26 أيار 1964 أتفق عبد السلام عارف وجمال عبد الناصر على إقامة مجلس رئاسي مشترك، للتخطيط والتنسيق في المجالات المذكورة كافة باتجاه إقامة اتحاد دستوري بين البلدين فيما بعد.

وفي 16 تشرين الأول 1964 جرى توقيع اتفاقية الوحدة، وتكوين المجلس الرئاسي المشترك للقيادة السياسية الموحدة للعراق ومصر، وتعهد الطرفان بإقامة الوحدة بينهما خلال سنتين .

إلا أن تلك القيادة لم تجتمع سوى مرتين خلال هذه المدة، وجرى نسيانها فيما بعد، وانتهت إلى الزوال، فلم يكن عبد السلام عارف جاداً في إقامة الوحدة كسابقيه حكام البعث، وقد اثبتت التجارب والوقائع أن عبد السلام الذي كان أول من شق الوحدة الوطنية، وتأمر على ثورة الرابع عشر من تموز، وقائدها عبد الكريم قاسم بدعوى الوحدة الفورية مع العربية المتحدة لم يكن يهدف حقاً إقامة الوحدة، وإنما أراد استخدام مسألة الوحدة ورصيد عبد الناصر للوثوب إلى قمة السلطة، والاستئثار بها لوحده، وقد أدرك عبد الناصر أن عبد السلام عارف لا يتمتع بقاعدة واسعة في حكمه، وأن حكمه عبارة عن أقلية قليلة من الضباط لا سند شعبي لهم على الإطلاق، وأن عارف لا يختلف عن سابقيه حكام البعث بأي حال من الأحوال.

لقد كان انكشاف موقف عبد السلام عارف من الوحدة مع العربية المتحدة سبباً في حدوث شرخ كبير بينه وبين القوى الناصرية والحركية، وتطور ذلك الشرخ إلى صراع متصاعد، أدى في النهاية إلى تقديم الوزراء الناصريين والحركيين استقالتهم من الحكومة، وإلى محاولة هذه القوى قلب السلطة العارفية كما سنرى تفاصيل ذلك فيما بعد.

وهكذا اضطرت القيادة اليمينية للحزب الشيوعي العراقي إلى تغير سياستها تجاه السلطة العارفية، ودعت إلى إسقاطها، وقيام حكومة ائتلاف وطني تضم كل القوى والأحزاب السياسية الوطنية المعادية للإمبريالية.
وأشارت قيادة الحزب إلى فشل الاتحاد الاشتراكي، ونظرية الحزب الواحد، وهاجمت السياسة الاقتصادية للحكومة التي شكلها [ عبد الرحمن البراز]، وأعلن الحزب أن حكومة البزاز ترعى مصالح الإمبريالية البريطانية، وشركات النفط، وتحاول إعادة الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد، وإعادة الهيبة والسلطة لرجالات الإقطاع، والملاكين العقاريين، وكبار الرأسماليين.
 الحزب الشيوعي يطرح مسألة استلام السلطة

على أثر تلك التطورات السياسية السالفة الذكر طرح، الحزب الشيوعي في 9 تشرين الأول 1965  مسألة إسقاط حكومة عارف واستلام السلطة في الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب خلال الاجتماع مشروعان حول الموضوع:
المشروع الأول:
 قُدم من قبل [عامر عبد الله ] الذي رأى أن السلطة العارفية قد أصبحت معزولة  بعد أن خرج منها الناصريون، كما أن عودة الحرب في كردستان، وزج ثلثي الجيش العراقي فيها من جهة، واشتداد الخلافات بين عبد الناصر وعارف من جهة أخرى، جعلت الظروف في صالح الحزب لتوجيه الضربة القاضية لنظام عبد السلام عارف وإسقاطه، واستلام السلطة، معلناً أن مصير الحزب يتقرر هذه الأيام.
 المشروع الثاني:
 الذي طرحه [ بهاء الدين نوري ] فقد شكك في استطاعة الحزب لوحده القيام بالتغيير، وتخوّفَ من تشكيل جبهة واسعة ضد الحزب، وادعى أن جماهير الحزب غير مستعدة لمثل هذا العمل، كما أن الأوضاع الدولية والعربية لا تساعد على ذلك، رغم اعترافه بإمكانية نجاح التغيير!!، ولكنه رأى أن يسبق ذلك تعاون القوى السياسية المعارضة لحكم عارف، وقد أيده في موقفه [عبد السلام الناصري] فيما أيد موقف عامر عبد الله كل من [اراخاجادور] و[صالح دكلة ] وفي نهاية المناقشات خرج الحزب بستة قرارات كان أهمها القرار المتعلق بمسألة قلب السلطة العارفية والذي جاء فيه:
{ ومن الضروري التشديد على طريقة النضال التي تبناها الحزب، والتي تعتمد على الدور الحاسم إلى [هاء] ويقصد بذلك التنظيم العسكري للحزب، في الإطاحة بالسلطة الحاكمة، وسيجد [هاء] له دعماً في إجراءات ثورية أخرى سيتخذها الحزب، وفي العمل الشعبي الحيوي في ميادين مختلفة}.

لقد جرى الاتفاق في ذلك الاجتماع على الإعداد للعمل الحاسم، على أن يبذل كل جهد ممكن لقيام تعاون مع القوى الوطنية الأخرى، كالحزب الديمقراطي الكردستاني، والضباط القاسميين والعناصر القومية ذات التوجه الاشتراكي [الناصريين]، وأن لا يقوم الحزب بالحركة بمفرده إلا في حالة عدم حصول التعاون المنشود على أن يكون المكتب السياسي مقتنعاً بان الظروف ملائمة والنصر بمتناول اليد.
وفي ختام الاجتماع تقرر إرسال رسالة من قيادة الخارج إلى اللجنة المركزية للحزب في  العراق جواباً على رسالة الحزب، وكانت وجهة نظر القيادة في الخارج تمثل تياراً وسطاً بين جناحي اللجنة المركزية، ولكنها حذرت اللجنة المركزية من مغبة الإقدام على أي خطوة متسرعة مغامرة دون نضوج الشروط الموضوعية اللازمة للتغيير الثوري.

رفضت لجنة تنظيم الخارج الرأي القائل بإلغاء فكرة[العمل المستقل للحزب] ولكنها رأت أن على الحزب أن يحاول تحقيق التعاون الوطني كهدف ثابت له في جميع الأحوال والظروف، حتى ولو بدت تلك المحاولات صعبة التحقيق في ظل الظروف الراهنة، وما يعتريها من صعوبات، ورأت أن آفاق التعاون ستكون أوسع نطاقاً كلما زاد نفوذ الحزب بين صفوف الجماهير، ورأت أيضاً أن على الحزب أن يلجأ إلى خطة مستقلة إذا كانت جماهير الشعب على استعداد كامل للإطاحة بالسلطة، وتلكأت القوى الوطنية في استيعابها لهذه الإمكانية أو رفضتها، وعلى الحزب في هذه الحالة أن يسعى لتعبئة قوى واسعة من جماهير الشعب.
وفي حالة إقدام الحزب على خطة مستقلة فإن هذه الخطة يجب أن تؤكد على أن التعاون المشترك، والدعوة إليه من خلال الشعارات التي يتبناها الحزب أثناء تحركه وبعده.

 كما أيدت لجنة تنظيم الخارج مسألة الإعداد لانتفاضة جماهيرية شعبية من خلال نضال الجماهير نفسها، مع عدم الاستهانة بالعدو وأساليبه القمعية تجاه الحركات الشعبية، كما أيدت فكرة الاعتماد على الجهد الفعال لتنظيم الحزب، داخل صفوف القوات المسلحة في لحظة تطور الحركة الجماهيرية، ووصولها إلى حالة متقدمة [أي حالة الانتفاض الثوري]، أي استخدام عناصر الجيش الحزبية في الوقت المناسب تماماً لدعم الانتفاضة الجماهيرية، وإسنادها نحو تحقيق أهدافها.

 كما أن على الحزب أن يأخذ في الحسبان احتمال تطور الأوضاع إلى قيام حرب أهلية بسبب تواجد القوى الرجعية على الساحة من جهة، وكون الحزب الشيوعي يمثل الاتجاهات اليسارية التقدمية، وعليه فالواجب يقتضي الإعداد الجيد للتصدي للحرب الأهلية، ووضع الثورة الكردية بعين الاعتبار كعنصر مساعد.

كما حذرت لجنة تنظيم الخارج من التسرع بشكل مصطنع، أو محاولة القفز فوق المراحل الضرورية للتطور والنضج الطبيعي للحزب، والانتباه الدقيق لمحاولات الأعداء نصب فخ للحزب للإقدام على خطوة متسرعة لكي يوجهوا له الضربة القاضية، وفي الختام حددت الرسالة الأهداف الآنية للحزب ذات الأهمية الأكثر إلحاحاً وهي:
 1ـ السعي لتقوية مواقع الحزب داخل الجيش دون محاولة إحداث أي ضجة، والعمل على حماية التنظيم العسكري، وتطوير إمكانياته جنباً إلى جنب مع تطوير إمكانيات الجماهير الشعبية.

 2 ـ بذل الجهود المتواصلة من أجل التعاون الوطني، والسعي لتشكيل التحالفات مع القوى الوطنية التي لها الاستعداد للتعاون من أجل الإطاحة بالنظام .

3 ـ تثقيف جماهير الحزب ورفاقه بشكل هادئ وتدريجي من دون إحداث ضجة حول طرق نضال الحزب في المرحلة الراهنة، وتنشيط الحركة الجماهيرية ومنظماتها كافة، وتوحيد جهودها، وحثها على التحرك الجماهيري كالإضرابات والاحتجاجات على الحرب في كردستان، ودفع الفلاحين إلى مقاومة النظام وإعلان العصيان.
4 ـ التغلب على حالة القصور البارزة في الحزب، وأهمية إصدار صحيفة الحزب على فترات غير بعيدة ومنتظمة، والاهتمام بالكادر، وأهمية إجراءات الحماية لقيادة الحزب وكوادره، من أجل حماية أسرار الحزب الهامة.

وفي الختام وجهت قيادة الخارج انتقاداً إلى الإجراءات التي اتخذتها لجنة الحزب المركزية في الداخل حول الانتخابات، وإخراج [ناصر عبود] من عضوية اللجنة المركزية، وإدخال خمسة أعضاء جدد في اللجنة، بالإضافة إلى بقاء كافة الأعضاء السابقين، سواء الموجود منهم في الداخل أو الخارج.

 البعثيون يحاولون الإطاحة بحكم عبد السلام عارف:

لم يهدأ البعثيون، بعد أن غدر بهم شريكهم في انقلاب 8 شباط عبد السلام عارف الذي نصبوه رئيساً للجمهورية، ولجأوا إلى العمل السري لتجميع قواهم والتمهيد للقيام بانقلاب مضاد، ولاسيما بعد أن غدر عبد السلام عارف للمرة الثانية بالضباط الذين تمردوا على قيادتهم المدنية، وتعاونوا معه في انقلاب في 18 تشرين الثاني 963 1، ولاسيما وأن البعثيين كانوا يتخوفون من تجدد نشاط الحزب الشيوعي، وتنامي قدراته التنظيمية، وتوسع قاعدته، وينتابهم القلق من أمكانية قلب نظام عارف واستلام السلطة، بالإضافة إلى قلق المخابرات الأمريكية والبريطانية من اتساع نشط الحزب، وربما بتنسيق بين الطرفين بادر حزب البعث استعداداته لقلب نظام عبد السلام عارف.
فقد استطاع البعثيون تجميع قواهم وتنظيمها وإعدادها للعمل الانقلابي، وتقرر القيام بالحركة يوم 4 أيلول 1964 معتمدين في تحركهم على كتيبة الدبابات الرابعة التي استخدموها في انقلاب 8 شباط 1963، بالإضافة إلى 6 طائرات  [ميك عسكرية] يأخذ طياريها على عاتقهم قصف طائرة عبد السلام عارف يوم توجهه إلى مؤتمر القمة العربية بالإسكندرية.

غير أن جهاز استخبارات عارف كشف خيوط المؤامرة قبل تنفيذها وجرت على الفور حملة اعتقالات واسعة في كافة أنحاء العراق، وزُج بالبعثيين في السجون والمواقف، وسارع عبد الناصر إلى إرسال 600 عسكري إلى العراق لدعم نظام عارف، وعسكرت هذه القوات في مقر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب لشل حركتها، وهكذا تم لعبد السلام عارف إجهاض الحركة الانقلابية للبعثيين، وكنس كل بقايا العناصر البعثية في جهاز السلطة المدنية والعسكرية على حد سواء.

كما أجرى عبد السلام عارف تعديلاً وزارياً في 14 تشرين الأول 1964 أدخل بموجبه ثلاثة وزراء ناصريين في حكومته، وبذلك أصبح للناصريين ستة مقاعد وزارية في الحكومة، وأصبحوا في موقف أقوى تجاه العناصر القومية اليمينية داخل السلطة.
حاول الناصريون دفع سياسة السلطة نحو إجراء تغييرات أكثر عمقاً في المجالات الاقتصادية والسياسية، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الوحدة مع العربية المتحدة، مما أثار صراعاً داخل السلطة من جديد بين العناصر القومية ذات الاتجاهات المختلفة والمتناقضة، فقد حاولت كل مجموعة إزاحة المجموعة الأخرى من أمامها، وانتهى ذلك الصراع بانتصار الجناح اليميني في الحركة القومية، وإزاحة الناصريين من الحكم من جديد.

 استقالة الوزر اء الناصريين:
بدأ الناصريون يخسرون مواقعهم داخل السلطة منذُ ربيع عام 1965 ، تحت تأثير أسباب عديدة، منها ما يتعلق بالموقف من عبد الناصر، ومشروع الوحدة،  ومنها ما يتعلق بالأوضاع الداخلية، وخاصة  الاقتصادية منها، وما سببته مراسيم التأميم من تأثيرات سلبية بسبب عدم وجود الخبرة لدى أجهزة السلطة تمكنها من إدارة الشؤون الاقتصادية بعد التأميم، وزاد في الطين بله قيام أصحاب رؤوس الأموال بتهريب أموالهم إلى خارج البلاد، وتراجع النمو الاقتصادي، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، حيث بلغ عدد العاطلين المسجلين رسمياً 20 287 عاملاَ، ولذلك فقد بدأت العناصر اليمينية في الحكومة تدعوا إلى إعادة النظر في تأميم المشاريع التي جرى تنفيذها، والعدول عن الاتجاه الاشتراكي، وبالفعل نجحوا في إبطاء حركة التغيير التي بدأها الناصريون.
حاول الناصريون إحكام سيطرتهم على التجارة الخارجية في نيسان 1965، للحد من تهريب رؤوس الأموال، وتلاعب كبار الرأسماليين في الاقتصاد الوطني، إلا أنهم فشلوا في إقناع عبد السلام عارف بالسير في هذا الاتجاه، مما سبب تباعد المواقف بينه وبين الناصريين شيئاً فشيئاً،  وتطور هذا التباعد، وتعمقت الخلافات، وأصاب الناصريين اليأس من القدرة على التأثير على سياسة عارف، وأخيراً أضطر الوزراء الناصريون إلى تقديم استقالاتهم من الوزارة في 4 تموز 1965، وعلى الأثر توترت العلاقات بين عبد الناصر وعبد السلام من جديد.

حاول عبد السلام عارف تجنب القطيعة مع عبد الناصر، فأقدم على تشكيل وزارة جديدة برئاسة الناصري [ عارف عبد الرزاق ] في 6 أيلول 965، واحتفظ عارف عبد الرزاق بوزارة الدفاع، إضافة إلى رئاسة الوزارة.
 كما عين عبد الرحمن البزاز نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية والنفط، و عبد اللطيف الراجي، وزيراً للداخلية ليوازن بين الاتجاهين المتناقضين.

محاولة الناصريين الانقلابية:
 لم تُجدِ محاولات عبد السلام عارف نفعاً في رأب الصدع بينه وبين الناصريين، وذهبت تلك المحاولات أدراج الرياح، ولم تنجح في زحزحة مواقفهم، بل زادتهم اندفاعاً للقيام بانقلاب عسكري تزعمه [عارف عبد الرزاق] رئيس الوزراء ، ووزير الدفاع، ووكيل رئيس الجمهورية في 15 أيلول 1965، أثناء وجود عبد السلام  في الدار البيضاء لحضور مؤتمر القمة العربي. إلا أن العقيد [سعيد صليبي] آمر الانضباط العسكري، وآمر حامية بغداد، والساعد الأيمن لعبد السلام عارف، عرف بأمر تحركهم، فوجه لهم الضربة مسبقاً، وهرب الانقلابيون إلى خارج العراق.
 وهكذا وصلت العلاقة بين عبد السلام عارف  والناصريين إلى القطيعة التامة، ودخل الحكم العارفي في مرحلة جديدة من الحكم القبلي، فقد أصبح معظم رجالات الدولة وقادتها من قبيلة الجميلات، وأخذ سعيد صليبي يلعب الدور الرئيسي في إدارة دفة الحكم، وأصبح عبد الرزاق النايف ـ جميلي ـ مديراً للاستخبارات العسكرية، ولعب دورا كبيراً في الحفاظ على حكم عارف.
وفي الوقت نفسه أصبح عبد الرحمن البراز رئيساً للوزراء، ومُنح صلاحية إصدار القرارات، وتسيير شؤون البلاد.
 كما أقدم عبد السلام على حل مجلس قيادة الثورة الذي تألف من العسكريين، وانتقلت السلطة التشريعية إلى مجلس الوزراء، وأنيطت مسؤولية جهاز الأمن والاستخبارات بمجلس شكله حديثاً ودعاه بـ [ مجلس الدفاع الوطني ] بإشراف عبد السلام عارف نفسه.
حاول عبد الرحمن البزاز إضفاء صفة المدنية على جهاز الحكم، وإشاعة سيادة القانون، والتسريع لإقامة البرلمان، وإجراء انتخابات نيابية، وتنشيط الاقتصاد، وزيادة الإنتاج في القطاعين العام والخاص، وغيرها من الإصلاحات السطحية الأخرى، غير أن جهود البزاز لم ترَ النور، فقد كان الموت بانتظار عبد السلام عارف في 13 نيسان 1966، وإخراجه من الحكم بعد أربعة أشهر من تولي عبد الرحمن عارف شقيق عبد السلام عارف، بضغط من العناصر العسكرية التي كانت تتمتع بنفوذ كبير.
ففي الثالث عشر من نيسان  1966أعلنت محطتا الإذاعة والتلفزيون العراقية أن الرئيس عبد السلام عارف قد لقي مصرعه بحادث سقوط طائرة مروحية كان يستقلها مع بعض الوزراء، وكبار مساعديه في جنوب العراق قرب القرنة، ولم يُكشف النقاب عن حقيقة مقتل عبد السلام عارف، إذ أعلنت الحكومة أن الطائرة التي كان يستقلها عبد السلام عارف قد سقطت  بسبب هبوب عاصفة رملية، ولكن هناك الكثير من الشكوك حول حقيقة مصرعه، فهناك الصراعات الداخلية بين عارف والعناصر الناصرية من جهة، وبينه وبين البعثيين من جهة أخرى.

 كما كان هناك صراع بين الإمبريالية، والعناصر الناصرية التي أقلقها محاولاتهم المتكررة إلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة، وليس ببعيد أن تكون وراء مصرعه، وربما كان هناك ما هو أبعد من ذلك، حيث حاول عبد الرحمن البزاز، المعروف بولائه للبريطانيين، الوصول إلى كرسي الرئاسة، ودخوله في منافسة مع عبد الرحمن عارف المدعوم من قبل القوى العسكرية المهيمنة على الحكم.




54
من ذاكرة التاريخ

هكذا تم إسقاط نظام البعث
18 تشرين الثاني 1963
حامد الحمداني                                                                            9/10/2018

لم يكن حزب البعث يضم عنصر التجانس بين أعضائه، فقد كان أعضاءه وقيادييه ينتمون لطبقات  مختلفة، قسم منهم من الطبقة البرجوازية، وقسم من البرجوازية الصغيرة، ونسبة قليلة من العمال والفلاحين والحرفيين ذوي الدخل المحدود، ووجود نسبة عالية من الطلاب الذين لا تتجاوز أعمارهم  على الأغلب 20 عاماً بين صفوفهم، وعدم نضوج هؤلاء فكرياً وسياسياً وتنظيمياً. 

وبسبب هذا التباين في التركيبة القومية والطائفية والطبقية، فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات في التطلعات والتوجهات والأفكار والعواطف، كما كان معظم ضباطهم الذين قادوا انقلاب 8 شباط ضد نظام عبد الكريم قاسم من الطائفة السنية، في حين كانت قيادتهم القطرية تضم خمسة من الشيعة، وثلاثة من الطائفة السنية، ويرجع معظم أعضاء البعث من المناطق الريفية المختلفة، وعدم نضوج هؤلاء فكرياً وسياسياً، وحتى قياديي الحزب كانوا من هذا الطراز، كما وصفهم مؤسس الحزب عندما قال:
 {بعد الثورة ـ أي انقلاب 8 شباط ـ بدأت اشعر بالقلق من فرديتهم، وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب}.

 لقد كان الحزب عبارة عن تجمع لعناصر معادية للشيوعية التي لا يجمعها أي رابط أيديولوجي، وكان جُل همهم منصباً على حربهم الشعواء ضد الشيوعية، وظهرت بينهم تكتلات أساسها المنطقة أو العشيرة أو الطائفية، وهكذا كانت التناقضات والخلافات تبرز شيئاً فشيئاً على سطح الأحداث، والتي كان من أهمها:

1 ـ الموقف من عبد السلام عارف:

ففي 11 شباط 1963، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف، الذي نصبوه رئيساً للجمهورية صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي، أمين سر القيادة القطرية للحزب، إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف، أو إزاحته من منصبه، قائلاً:
{ إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي، خلال اجتماع القيادة الذي جرى في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه، لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع ذهب حازم جواد إلى عبد السلام عارف وأخبره بما دار في الاجتماع، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}.

2 ـ الموقف من قانون الأحوال المدنية:
الخلاف الثاني الذي حدث بين أعضاء القيادة القطرية حينما طُرح موضوع قانون الأحوال المدنية رقم 188 لسنة 1959الذي شرعه عبد الكريم قاسم، والذي اعتُبر ثورة اجتماعية أنجزتها ثورة 14 تموز فيما يخص حقوق المرأة وحريتها، وإطلاق سراح نصف المجتمع العراقي الذي تمثله المرأة من عبودية الرجل، وكان القانون قد ساوى المرأة بالرجل في الإرث، ومنع تعدد الزوجات إلا في حالات خاصة وضرورية، ومنع ما يعرف بالقتل غسلاً للعار، وغيرها من الأمور الأخرى، وقام عبد السلام عارف بإلغاء القانون في 18 آذار 1963، أثناء وجود علي صالح السعدي في القاهرة، وانقسم مجلس قيادة الثورة ذو الأغلبية البعثية وأعضاء القيادة القطرية حول مسألة الإلغاء، حيث أيده بعض الأعضاء وعارضه البعض الآخر، وفي نهاية المطاف فرض عبد السلام عارف أجراء تعديلات جوهرية على نص القانون أفرغته من محتواه فيما يخص حقوق المرأة .

3 ـ الموقف من الحركات السياسية القومية:
كان الخلاف الثالث بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم، و برز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من  ذلك أدى الأمر إلى تعمق الخلافات والصراعات فيما بين أعضاء القيادة.

4 ـ الموقف من الحرس القومي:
في شهر حزيران 1963  ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام  وراحة المواطنين.
 كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب بشكل عام والشيوعيين منهم بوجه خاص قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم وإجرامهم.
إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [ منذر الونداوي ] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره، وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، مما جعل عبد السلام عارف يصمم على قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.

5- الحرب في كردستان:
جاء تجدد الحرب في كردستان التي بدأها البعثيون في 10 حزيران1963  لتزيد وضعهم صعوبة، وتعمق الخلافات بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم، وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم .
حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد وطالب شبيب التخلص من علي صالح السعدي، وإخراجه من الحكومة، ومجلس قيادة الثورة، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية لمثل هذا العمل في ذلك الوقت.
ففي 13 أيلول عُقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من: هاني الفكيكي، وحمدي عبد المجيد، ومحسن الشيخ راضي، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز أحمد حسن البكر،  وصالح مهدي عماش، وكريم شنتاف بتلك الانتخابات.

 وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر  فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الإدعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين!.

وفي الفترة ما بين 5ـ23 تشرين الأول، عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث، في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي وحمود الشوفي، حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين، والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب [ميشيل عفلق] وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي، وحول المزارع التعاونية للفلاحين.

ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي و الشوفي] داخل المؤتمر في تركيبة القيادة القومية مما افقده القدرة على التأثير في مجرى الأحداث وجعلته يصرح علناً [ هذا لم يعد حزبي].

الخلافات بين الجناحين المدني والعسكري
بعد أن قوي مركز علي صالح داخل القيادتين القطرية والقومية و بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، و أخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقفه، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب، فقد وقف منذر الونداوي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي، بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب، إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد، وطالب شبيب، ورئيس أركان الجيش وطاهر يحيى، وقائد القوة الجوية حردان عبد الغفار التكريتي، ووزير المواصلات عبد الستار عبد اللطيف، وقائد كتيبة الدبابات الثالثة محمد المهداوي إلى الجانب المعارض لجناح السعدي، بينما وقف أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش على الحياد، لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، و يؤيدان معارضيه في الخفاء.

ثالثاً:الصراع بين البعث والضباط القوميين والناصريين والحركيين:
كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية والناصرية والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين، فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف، واشتداد الصراع بين الجناحين وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف من السعدي نفسه عندما حاول جناح [ جواد و شبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف، وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 1963، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما جرى تعيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية.
كان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي، ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة ومجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.

عبد السلام عارف يعفي الونداوي من قيادة الحرس والونداوي يرفض

في 1 تشرين الثاني  صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم، وأصرّ على البقاء في منصبه، في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام.
ففي11 تشرين الثاني عُقد مؤتمر قطري استثنائي لانتخاب ثمانية أعضاء جدد للقيادة القطرية لكي يصبح العدد 16 عضواً بموجب النظام الداخلي الذي تبناه المؤتمر القومي السادس [ المادة 38 المعدلة من النظام الداخلي ].
 غير أن المؤتمر لم يكد يباشر بإجراء الانتخاب حتى داهم 15 ضابطاً مسلحاً قاعة الاجتماع بقيادة العقيد [محمد المهداوي] الذي بدأ يتحدث أمام المؤتمرين قائلاً :
{لقد اخبرني الرفيق ميشيل عفلق، فيلسوف الحزب، أن عصابة استبدت بالحزب في العراق، ومثلها في سوريا، وأن العصابتين وضعتا رأسيهما معاً، وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس، ولذلك يجب القضاء عليهما}.
كما هاجم المهداوي قرارات المؤتمر القومي السادس واصفاً إياه بمؤامرة ضد الحزب، وطالب بانتخاب قيادة قطرية جديدة تحت تهديد أسلحة الضباط المرافقين له.
 تظاهر المؤتمر باختيار قيادة جديدة، واشترك الضباط بالتصويت،علماً بان بعضهم لم يكن بعثياً على الإطلاق، وجاء على رأس القيادة الجديدة [حازم جواد] بالإضافة إلى فوز أنصاره.
غير أن المهزلة لم تنتهِ إلى هذا الحد، بل أسرع الضباط إلى اعتقال [علي صالح السعدي] و[محسن الشيخ راضي] و[حمدي عبد المجيد] و[هاني الفكيكي] و[أبو طالب الهاشمي] الذي كان يشغل منصب نائب القائد العام للحرس القومي، وجرى تسفير الجميع على متن طائرة عسكرية إلى مدريد.

امتداد الصراع إلى الشارع

أنفجر الوضع المتأزم في ذلك اليوم، وامتد الصراع إلى الشارع، ففي صباح يوم 13 تشرين الثاني اندفعت أعداد غفيرة من مؤيدي علي صالح السعدي ومن الحرس القومي إلى شوارع بغداد،  وأقاموا الحواجز في الطرق، واحتلوا مكاتب البريد والبرق والهاتف ودار الإذاعة، وهاجموا مراكز الشرطة واستولوا على الأسلحة فيها.

 وفي الوقت نفسه أسرع منذر الونداوي إلى قاعدة الرشيد الجوية ومعه طيار آخر، وامتطيا طائرتين حربيتين، وقاما بقصف القاعدة المذكورة، ودمرا [5 طائرات] كانت جاثمة فيها.
وفي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم أذاع [صالح مهدي عماش] وزير الدفاع بياناً من دار الإذاعة حذر فيه [أحمد حسن البكر] من أن هناك محاولة لجعل البعثيين يقتلون بعضهم بعضاً، وهذا ما لا يفيد إلا أعداء الحزب، كما وجه نداءاً للعودة إلى العلاقات الرفاقية، وإلى التفاهم  والأخوة.

وفي تلك الأثناء فرضت قوات الحرس القومي سيطرتها على أغلب مناطق بغداد، ورفض البكر وعماش إعطاء الأمر إلى الجيش بالتدخل وأصبحت قيادة فرع بغداد للحزب هي التي تقود الحزب في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ حكم البعث، وطالبت تلك القيادة بإعادة السعدي ورفاقه إلى العراق، وممارسة مهامهم الحزبية والرسمية،غير أنها لم تفلح في ذلك، واضطرت إلى الموافقة على إحالة القضية إلى القيادة القومية لتبت فيها.


عفلق وأمين الحافظ في بغداد لمحاولة حسم الصراع:
 
وفي مساء ذلك اليوم الثالث عشر من تشرين الثاني، وصل إلى بغداد مؤسس الحزب[ميشيل عفلق] والرئيس السوري [أمين الحافظ] بالإضافة إلى عدد آخر من أعضاء القيادة القومية للحزب.
غير أن عبد السلام عارف تجاهل وصولهما، ولم يجر لهما استقبالاً رسمياً  كما يقتضي البروتوكول والعرف الدبلوماسي، كما لم يحاول الالتقاء بالوفد، مما جعل الوفد يحس أن هناك جو غير طبيعي في بغداد، وأن لابد من أن يكون هناك أمراً يدبر ضد حكم البعث.

حاول ميشيل عفلق ورفاقه في الوفد التصرف بشؤون العراق، فقد أصدروا  قراراً بنفي [حازم جواد] وزير الداخلية، و[طالب شبيب] وزير الخارجية متهمين إياهما بأنهما أساس الفتنة، كما أصدر الوفد قراراً آخر بحل القيادة القطرية التي جرى انتخابها تحت تهديد الضباط الخمسة عشرة، وكذلك القيادة القطرية السابقة التي كان يقودها علي صالح السعدي، وأعلن عن تسلم القيادة القومية للمسؤولية لحين انتخاب قيادة قطرية جديدة.

هكذا إذاً كان تصرف عفلق والوفد الموافق له، تجاهلاً لعبد السلام عارف بصفته رئيساً للجمهورية، وتجاهلا لسيادة واستقلال العراق، والتدخل الفض في شؤونه الداخلية، حيث وصل الأمر إلى أن يعين عفلق أعضاء في الحكومة ويقيل أعضاءً آخرين، وقد أدى تصرفه هذا إلى استياء الضباط العراقيين الممسكين بزمام الجيش.

كما أن الرابطة التي كانت تجمع الضباط البعثيين بالقيادة المدنية قد تفككت، ودبت الخلافات العميقة بينهم، وسارع الجناح المدني في الحزب يتحدى من اسماهم أعداء الحزب، ودعا اتحاد العمال الذي يسيطر عليه الحزب إلى سحق رؤوس البرجوازيين الذين خانوا الحزب، وإعدام أصحاب رؤوس الأموال الذين هربوا أموالهم إلى الخارج.
 كما دعوا إلى تأميم كافة المشاريع الصناعية في البلاد، وكانت تلك الاندفاعات لجناح الحزب المدني كلها تصب في خانة عبد السلام عارف الذي صمم على إزاحة حزب البعث عن السلطة، وأحكام قبضته على شؤون البلاد دون منازع أو شريك.

رابعاً:انقلاب عبد السلام عارف ضد البعث
بعد أن وصلت حالة الحزب إلى أقصى درجات التمزق والتناحر، وبعد أن عمت الفوضى أرجاء البلاد، وبلغ استياء ضباط الجيش الممسكين بالمراكز القيادية في الجهاز العسكري من تصرف القيادة البعثية مداه، قرر عبد السلام عارف بالتعاون مع تلك العناصر العسكرية توجيه ضربته القاضية لحكم البعث، وإنهاء سيطرتهم على مقدرات البلاد، فقد استغل عبد السلام تلك الظروف البالغة الصعوبة التي مرّ بها حزب البعث وبالتنسيق مع عدد من أولئك الضباط  وكان من بينهم :
1-الزعيم عبد الرحمن عارف قائد الفرقة الخامسة- شقيق عبد السلام .
2 – الزعيم الركن عبد الكريم فرحان، قائد الفرقة الأولى.
3 – العقيد سعيد صليبي، آمر الانضباط العسكري.
4 – الزعيم الركن الطيار حردان التكريتي، قائد القوة الجوية [ بعثي] .
5 – اللواء الركن طاهر يحيى، رئيس أركان الجيش.
هذا بالإضافة إلى العديد من الضباط الآخرين ذوي الميول القومية.
وفي فجر يوم 18 تشرين الثاني 1963 ، قامت طائرات عسكرية بقصف مقر القيادة العامة  للحرس القومي في الأعظمية، ثم تقدمت الدبابات، والمصفحات لتستولي على كافة المرافق العامة في بغداد، ومقرات الحرس القومي.

 وحاول البعثيون مقاومة الانقلاب في بادئ الأمر، إلا أن الأمر كان قد حسم في نهاية النهار، فلم يكن باستطاعة الحرس القومي، وهو يحمل الأسلحة الخفيفة أن يقاوم الدبابات والمصفحات والصواريخ والطائرات، وسارع أفراد الحرس  إلى إلقاء سلاحهم، والتخلص منه، برميه في الحقول والمزارع والمزابل بعد أن هددهم النظام العارفي الجديد بإنزال العقاب الصارم بهم إن هم استمروا على حمل السلاح أو إخفائه، وأجرى الجيش مداهمات لدور أفراد الحرس القومي بحثاً عن السلاح.

 كما جرى إلقاء القبض على أعداد كبيرة من البعثيين لفترة محدودة من الزمن، حيث تمكن الجيش من إحكام سيطرته على البلاد، وأخذ النظام فيما بعد يطلق سراح البعثيين المعتقلين  في حين بقي السجناء والموقوفين الشيوعيين والديمقراطيين في السجون، وجرى تنفيذ أحكام بالإعدام، كانت قد أصدرتها المحاكم العرفية على عهد البعثيين، بعد تسلم عبد السلام عارف زمام الأمور في البلاد، فقد كان العداء للشيوعية هو الجامع الذي جمع البعثيين والقوميين دون استثناء، ربما شيء واحد قد تغير، هو تخفيف حملات التعذيب أثناء التحقيقات مع المعتقلين، واستمرت المحاكم العرفية تطحن بالوطنيين طيلة عهد عارف.

عبد السلام عارف يحكم سيطرته على البلاد
في مساء يوم الثامن عشر من تشرين الثاني 963 ، تلاشت مقاومة حزب البعث وحرسه القومي في أنحاء البلاد، وتم لعبد السلام عارف وقادته العسكريين السيطرة التامة على البلاد، وبدأ على الفور بترتيب البيت، مانحاً نفسه صلاحيات استثنائية واسعة لمدة سنة، تتجدد تلقائياً، إذا اقتضى الأمر ذلك، وعمد عبد السلام إلى الاعتماد على الروابط العشائرية، وخاصة عشيرة [ الجميلات ]،  فقد عين شقيقه [عبد الرحمن عارف] وكيلاً لرئيس أركان الجيش، رغم كونه ليس ضابط أركان.   كما عين صديقه، وأبن عشيرته  [سعيد صليبي ] قائداً لحامية بغداد، فيما أعلن عارف نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة.
كما جاء عارف باللواء العشرين الذي كان يقود أحد أفواجه عند قيام ثورة 14 تموز، واتخذ منه الحرس الجمهوري الخاص به، واعتمد على العناصر المؤيدة له فيه من عشيرة الجميلات وغيرها من عشائر محافظة الأنبار.

بدأ عبد السلام عارف حكمه معتمداً على ائتلاف عسكري ضم الضباط القوميين والناصريين، والضباط البعثيين الذين انقلبوا على سلطة البعث فقد عيّن [ طاهر يحيى ] رئيساً للوزراء، و[حردان التكريتي ] نائباً للقائد العام للقوات المسلحة، ووزيراً للدفاع، فيما عيّن [أحمد حسن البكر] نائباً لرئيس الجمهورية، والزعيم[ رشيد مصلح ] وزيراً للداخلية، وحاكماً عسكرياً عاماً، ويلاحظ أن هؤلاء جميعاً من تكريت، ومن العناصر البعثية، أما العناصر القومية التي شاركت في الحكم فكان على رأسها الزعيم الركن [ محمد مجيد] مدير التخطيط العسكري، والزعيم الركن[عبد الكريم فرحان] الذي عيين وزيراً للإرشاد، و[عارف عبد الرزاق] الذي عيين قائداً للقوة الجوية، والعقيد الركن [ هادي خماس] الذي عيّن مديرا لجهاز الاستخبارات العسكرية، والمقدم [صبحي عبد الحميد]  الذي عيين وزيراً للخارجية .

 عبد السلام عارف يبعد العناصر البعثية عن الحكم:
رغم تعاون الضباط البعثيين مع عبد السلام عارف في انقلاب 18 تشرين الثاني 963 ضد قيادتهم المدنية، واشتراكهم في حكومته الانقلابية، إلا أن عارف لم يكن يطمأن لوجودهم في السلطة، ولم يكن إشراكهم في الحكم من قبله سوى كونه عمل تكتيكي من أجل نجاح انقلابه ضد سلطة البعث وتثبيت حكمه، لكنه كان في نفس الوقت يتحين الفرصة للتخلص منهم، وقد ساعده في ذلك الكره الشعبي الواسع النطاق للحكام البعثيين بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق الوطنيين طيلة فترة حكمهم التي دامت تسعةاشهر، وهكذا بعد أن تسنى لعارف تثبيت أركان حكمه، بدأ بتوجيه الضربات للعناصر البعثية تلك.

 ففي 4 كانون الأول 964 ،أعفى عارف المقدم[عبد الستار عبد اللطيف] من وزارة المواصلات، وفي 16 منه أزاح عارف [ حردان التكريتي ] من منصبه كقائد للقوة الجوية، وفي 4 كانون الثاني 64 ألغي عارف منصب نائب رئيس الجمهورية وتخلص من [احمد حسن البكر] الذي كان يشغل المنصب، وعينه سفيراً بديوان وزارة الخارجية. (7)

وفي 2 آذار 964، أعفى عارف [ حردان التكريتي ] من منصب وزير الدفاع وعين محله طاهر يحيى بالإضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء، ولم يبقَ إلا رشيد مصلح التكريتي وزير الداخلية والحاكم العسكري العام الذي ربط مصيره بمصير عارف، مهاجماً أعمال البعثيين وجرائمهم، وبذلك أصبح عبد السلام عارف الحاكم المطلق في البلاد، وبرز الناصريون في مقدمة النظام، وبدأ النظام يقلد الجمهورية العربية المتحدة في أساليبها وخططها التنموية، حيث أقدمت الحكومة على تأميم المصارف،  وشركات التأمين، و 32 مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، وخصصت الدولة 25% من الأرباح للعمال والموظفين العاملين فيها، وقررت تمثيلهم في مجالس الإدارة.

كما أقدم النظام الجديد على تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز 964، على غرار الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة، ودُعيت القوى السياسية في البلاد إلى الانضواء تحت راية هذا الاتحاد، وقد استهوى هذا الإجراء وتلك التحولات الاقتصادية جانباً من قيادة الحزب الشيوعي، حيث برزت دعوة لحل الحزب والانضمام إلى الاتحاد المذكور، لكن هذا الاتجاه لم ينجح في جر الحزب إليه، بعد أن وقفت العناصر الحريصة على مصلحة الحزب ضد دعوة الحل والانضمام للاتحاد الاشتراكي .


55
من ذاكرة التاريخ

مجزرة كاورباغي في كركوك

حامد الحمداني                                                              8 /10/ 2018
دأبت حكومة أرشد العمري، شأنها شأن الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم  في العهد الملكي، على إتباع  سياسة العنف ضد الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية ، التي كانت تندلع بين آونة وأخرى، سواء كانت دوافعها تتعلق بمطالب اجتماعية  أو سياسية، ولم يثنها تحذير الأحزاب السياسية في مذكراتها التي كانت ترفعها للوصي عبد الإله والملك فيصل الثاني فيما بعد،  ورؤساء  الحكومات، بل  كانت تمضي تلك الحكومات في سياستها، واستخدامها لأساليب العنف ضد أبناء الشعب المطالبين بحقوقهم المشروعة في الحياة الحرة الكريمة.

كان من بين تلك الأحداث التي تعاملت معها حكومة ارشد العمري بسياستها المعهودة والمتسمة بالعنف، المطالب السلمية التي تقدم بها عمال شركة نفط كركوك، والمتعلقة بتحسين احوالهم المعيشية، حيث كانوا قد تقدموا لشركة نفط كركوك بعدد من المطالب المعيشية على أمل أن تستجيب لها.

لكن الشركة تجاهلت تلك المطالب رغم كل التأكيدات والمذكرات المرفوعة لها، ولما يئس العمال من استجابة الشركة إلى مطالبهم  لجاءوا إلى الإضراب عن العمل في 3 تموز 1946 حتى تستجيب الشركة لمطالبهم التي تضمنت زيادة الأجور، وتهيئة دور سكن لعوائلهم، أو منحهم بدل إيجارالدار، وتخصيص سيارات لنقلهم إلى مقر عملهم في الشركة، ومنحهم إكرامية الحرب أسوة بعمال النفط في حيفا وعبدان، وأخيراً تطبيق قانون العمال الذي شرعته الدولة.

لكن حكومة ارشد العمري بدلاً من أن تقف إلى جانب العمال ومطالبهم المشروعة  لجأت إلى ممارسة كل وسائل الضغط والإرهاب لإجبارهم  على العودة إلى أعمالهم متجاهلة كل مطالبهم، غير أنها لم تفلح في ثنيهم عن مواقفهم، وإصرارهم على الاستمرار في إضرابهم حتى تلبي الشركة مطالبهم العادل
 وفي 7 تموز1946حضر وزير الاقتصاد السيد [بابا علي الشيخ محمود]إلى كركوك في محاولة للضغط على العمال المضربين بغية إنهاء إضرابهم، ولما فشل في إقناعهم عاد إلى استخدام أساليب التهديد والوعيد، وقد قابله العمال المضربون بتجمع جماهيري واسع في حديقة { كاور باغي }، حيث ألقيت خلال ذلك التجمع الكلمات التي عبرت عن حقوق العمال المشروعة، وإصرارهم على تحقيق مطالبهم العادلة.
لكن الحكومة كانت قد عقدت العزم على إنهاء الإضراب بالقوة، حيث أعدت لهم مذبحة شنعاء.  فقد أحاطت بهم قوات من الشرطة تتألف من فوجين، وبدأت بإطلاق النار على التجمع لتفريقه، وأدى ذلك العمل الإجرامي إلى استشهاد 16 عاملاً، فيما جرح أكثر من 30 عاملا آخر.

لقد تحدث القاضي السيد [جهاد الونداوي]عن تلك المجزرة التي ارتكبتها الحكومة بكل وحشية في تقرير له عن الجريمة قائلاً:
{لقد قتلت الشرطة 16 عاملا، أما الذين جرحوا فقد كانوا أكثر من 30 فرداً، أمتنع معظمهم عن مراجعة المستشفى خوفاً من السجن، وأن أحد مفوضي الشرطة قطع إصبع أحد العمال القتلى للاستيلاء على خاتمه!!.
 كما أن الشرطة فاجأت المضربين بإطلاق النار عليهم في وقت كانوا هم وذويهم بانتظار عودة ممثليهم الذين كانوا يفاوضون المسؤولين، وقد استمر إطلاق النار على المضربين زهاء ساعتين على الرغم من أنهم كانوا يهربون من وجه الشرطة}.
 
كما حاول رئيس المحاكم السيد [عبد القادر جميل] التدخل لتشخيص الجريمة وتحديد المسؤولية، لكن الإدارة والوزارة عارضته. ولم تكتفِ الحكومة بتلك الإجراءات الوحشية بل سارعت إلى إنزال قوات الجيش إلى شوارع كركوك بدباباتها ومدرعاتها، وأصدرت أمراً بمنع التجول في المدينة خوفاً من ردة فعل الشعب على تلك الجريمة النكراء، وهكذا لطخت حكومة أرشد العمري أيديها، مرة أخرى بدماء عمال نفط كركوك، وأضافت جريمة أخرى إلى جرائمها السابقة بحق الشعب.
لقد أشعلت [ مذبحة كاور باغي ] معركة الشعب وقواه السياسية الوطنية ضد الحكومة، واستنكرت الأحزاب تلك الجريمة المروعة، وأدانت الحكومة وحملتها مسؤولية ما حدث، وطالبت بمعاقبة المسؤولين عن المذبحة.

ونظراً للهياج الذي أحدثته تلك المذبحة لدى الشعب العراقي، ونظراً لإصرار الأحزاب الوطنية على إجراء تحقيق عن المجزرة، ومحاكمة المسؤولين عنها اضطرت الحكومة إلى الإعلان عن إجراء التحقيق، وكلفت نائب رئيس محكمة الاستئناف في بغداد السيد [احمد الطه] في 15 تموز بالسفر إلى كركوك، وإجراء التحقيقات اللازمة في وقائع المذبحة، وقد قام السيد احمد الطه بالمهمة، وقدم تقريره إلى وزارة العدل، وكان أهم ما جاء في التقرير ما يأتي:
1 ـ إن عمل المضربين كان سلبيا وليس إيجابيا، ( أي لم يبادروا بالعنف)
2 ـ لم يكن من اجتماعهم هذا ما يخشى منه على الأمن.
3 ـ إن الشرطة نفسها كانت تعلم بهم قبل الحادث وكانت تراقبهم، ولم يزيدوا في اليوم الأخير الذي وقع فيه الحادث في عملهم شيئاً.
4 ـ إن المجتمعين جميعا كانوا عزلاً من السلاح.
5 ـ إن كل ما قاموا به أن البعض منهم رجم الشرطة بالحجارة بعد أن ضربتهم
بالعصي، وأطلقت النار عليهم وفرقتهم.
6 ـ إن معظم القتلى والجرحى أصيبوا بعد أن أدبروا،( أي أصيبوا من الخلف) .
7ـ إن الشرطة تجاوزت في عملها حد المعقول في أمر تشتيت المجتمعين.
8 ـ إن الإدارة أوقفت أشخاصا ليس لهم يد في التحريض على نفس الحادث.

لقد اتهم التقرير كل من متصرف كركوك [حسن فهمي] ومدير الشرطة [عبد الرزاق فتاح] بإعطاء الأوامر، واعتُبر ضابط الشرطة [سعيد عبد الغني] المسؤول المباشر عن المجزرة.

ورغم أن الحكومة أعلنت تحت ضغط الرأي العام العراقي، والأحزاب السياسية الوطنية عن تقديم المسؤولين عن المجزرة للمحكمة، إلا أن الحكومة لم تكن جادة في ذلك، بل أرادت امتصاص غضب الشعب وثورته، وتهدئة الأوضاع.

 فلم تكن المحاكمة سوى مهزلة، حيث جرت محاكمة المتهمين الرئيسيين الثلاثة في محكمة جزاء كركوك، والتي أصدرت قرارها ببراءتهم، وأطلقت سراحهم، مما دفع بوزير الداخلية [عبد الله القصاب] إلى تقديم استقالته من الحكومة في 17 آب 1946، وقد أكد الوزير القصاب للسيد عبد الرزاق الحسني، مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، بعد قيام ثورة 14 تموز وسقوط النظام الملكي، أن السفارة البريطانية هي التي أمرت الحكومة بعدم إدانة المتهمين، بل وزادت في ذلك فطلبت عدم سحب المتهمين من وظائفهم في كركوك، أو نقلهم إلى أي مكان آخر، وطلبت كذلك عدم منح أي تعويض لذوي الشهداء والجرحى، بعد أن كانت الحكومة قد قررت ذلك من قبل ، وقد تراجعت الحكومة عن قرارها إذعاناً لطلب السفارة البريطانية.

كانت ردة الفعل على تلك المجزرة الرهيبة، وعلى سياسة حكومة أرشد العمري المعادية للشعب وحقوقه المشروعة شديدةً جداً تتناسب وتلك الجريمة النكراء، فقد أخذت الأحزاب تهاجم الحكومة بعنف عبر صحافتها فاضحة إجراءاتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وتدعوا الجماهير الشعبية للتظاهر ضدها، ودعت إلى إسقاطها.
وقد ردت الحكومة بتعطيل معظم الصحف، وخاصة الصحف الحزبية، وساقت مدرائها المسؤولين ومحرريها إلى المحاكم  بتهمة التحريض ضد السلطة، وكانت تعيد الكرة بعد كل محاكمة لتوجه اتهامات جديدة وتجري المحاكمات الجديدة لهم، وزجت بالعديد منهم في السجن.

وبسبب تلك الإجراءات اللادستورية دعت الأحزاب الوطنية الثلاثة، حزب الاتحاد الوطني، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، في 30 آب 1946 إلى عقد اجتماع عام حضره جمع غفير من أبناء الشعب جاوز 5000 مواطن، حيث ألقيت الخطب المنددة بالحكومة، والمعبرة عن سخط الشعب وقواه السياسية الوطنية من سياستها، والجرائم التي اقترفتها بحق الشعب، وسلبها لحقوقه الدستورية، وتجاوزها على الأحزاب وصحافتها.

وفي ختام الاجتماع تم الاتفاق على رفع مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى الحكومة والى الوصي على العرش [عبد الإله]،وقد جاء في المذكرة:
{إن الجموع الغفيرة المجتمعة بدعوة من حزب الاتحاد الوطني والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، لمناقشة الموقف السياسي الراهن هالها موقف الوزارة الحاضرة بمكافحة الأحزاب السياسية، ومحاولة شل نشاطها، وغلق صحفها، وإحالة رؤساء تحريرها إلى المحاكم، وسجن بعض أعضاء هذه الأحزاب لمجرد إبداء آرائهم في السياسة العامة، وهو حق من حقوق كل مواطن في بلد له دستور يحترم حرية الرأي، ويأخذ بنظام الحكم الديمقراطي.
غير أن الوزارة الحاضرة تجنبت الحكم الديمقراطي، واتجهت بحكم البلاد اتجاهاً استبدادياً مخالفا لأحكام القانون الأساسي، وهي تتعمد إهماله ولا تحترم ما فيه من نصوص عن حقوق الشعب وحرياته الديمقراطية، وقد وقع في عهدها من الأحداث الجسام ما روع العراقيين كافة، وما أنذرهم به من خطر جسيم يهدد كيان الشعب ومستقبله، وما أصبح معه العراقيون غير آمنين ولا مطمئنين على حقوقهم وحرياتهم  بل وحياتهم.
بالإضافة إلى ذلك لم تستطع أن تصون سيادة العراق وكيانه الدولي، ففي عهدها نزلت القوات البريطانية في البصرة، في الوقت الذي يطالب به الشعب العراقي بالجلاء، ولم تستطع الوقوف الموقف الصحيح لمعالجة مشكلة خطيرة تتعلق بكيان الشعب العربي الفلسطيني، بل بكيان ومصالح البلاد العربية كافة، وذلك بعرض القضية على مجلس الأمن الدولي، وهو مطلب الشعب العربي الفلسطيني، والشعوب العربية بصورة عامة، فهي بأعمالها التي أفصحت عن استهانتها بحقوق الشعب وحرياته، وقانونه الأساسي[ الدستور] غير جديرة بتحمل مسؤولية الحكم، ولا بالإطلاع بالمهمة التي أعلنت أنها تتولى الحكم لإتمامها، وهي مهمة انتقالية حيادية تتلخص بإجراء انتخابات حرة لمجلس جديد. فنحن نطالب بتنحي هذه الوزارة، وإقامة وزارة دستورية يرتضي الشعب سياستها}.
ونتيجة للضغوط التي تعرضت لها حكومة العمري اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها في 16 تشرين الأول 1946، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم، ودون أن تستطيع إجراء الانتخابات العامة.

               

56
من ذاكرة التاريخ
انقلاب رشيد عالي الكيلاني
 والعقداء الأربعة
الحلقة الثانية والاخيرة
حامد الحمداني                                                                4/10/2018

حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة الانقلابية:
بدا الوضع السياسي بعد تشكيل حكومة الهاشمي يميل نوعاً ما إلى الهدوء بعد تلك العاصفة التي حدثت بين الكيلاني والوصي، لكن النار كانت لا تزال تحت الرماد، فقد كان عنصر الثقة بين الوصي والهاشمي شبه مفقوداً، كما كانت الثقة بين الكيلاني ومن ورائه العقداء الأربعة المسيطرين على الجيش وبين الوصي قد تلاشت، وكان الوصي ومن ورائه السفارة البريطانية يعمل في الخفاء من أجل تشتيت شمل قادة الجيش تمهيداً للتخلص منهم، ومن الكيلاني.

 ومارست السفارة البريطانية ضغوطها على رئيس الوزراء من أجل إبعاد العقداء الأربعة عن أي تأثير سياسي في البلاد، كما ضغطوا على الهاشمي لقطع العلاقات مع إيطاليا، وكان الهاشمي يخشى رد فعل الشعب إن هو فعل ذلك، ونتيجة لتلك الضغوط أقدم الهاشمي بصفته وزيراً للدفاع وكالة، بتاريخ 26 آذار 1941 على نقل العقيد[ كامل شبيب ]إلى قيادة الفرقة الرابعة في الديوانية، ليحل مكانه صديق الوصي، والذي أواه في الديوانية، اللواء الركن [ ابراهيم الراوي]، كما أصدر قراراً آخر بنقل مقر قيادة الفرقة الثالثة التي يقودها العقيد [صلاح الدين الصباغ ] من بغداد إلى جلولاء.

كانت تلك الإجراءات التي اتخذها الهاشمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل، فلم يكد يبلغ القرار لقادة الجيش حتى قرروا على الفور التصدي له ورفضه، واتخاذ التدابير السريعة  والضرورية لحل الأزمة بصورة جذرية.

ففي مساء يوم 1 نيسان 1941، أنذر العقداء الأربعة قطعات الجيش في بغداد، وتم إبلاغها بما ينوون القيام به، حتى إذا انتصف الليل نزلت القوات العسكرية لتحتل المراكز الهامة والحساسة في بغداد كدوائر البرق والبريد والهاتف، والجسور ومداخل الطرق الرئيسية، وجميع المرافق العامة في بغداد وتوجه العقيد [ فهمي سعيد]، وبرفقته وكيل رئيس أركان الجيش [ محمد أمين زكي ] إلى دار رئيس الوزراء [ طه الهاشمي ] وأجبروه على الاستقالة، واضطر الهاشمي إلى تحرير كتاب استقالة حكومته إلى الوصي، وسلمها لهما، حرصاً على عدم إراقة الدماء  .(1)

أما الوصي فقد أيقضه الخدم من النوم، وأبلغوه أن هناك أوضاع غير طبيعية في منطقة القصر، وأن الجيش متواجد في المنطقة، فما كان من الوصي إلا أن صمم على الهرب مرة أخرى، واستطاع الإفلات من قبضة الجيش، ولجأ إلى السفارة الأمريكية، بعد أن تعذر عليه الوصول إلى السفارة البريطانية، وقامت السفارة الأمريكية بنقله إلى قاعدة الحبانية، ومن هناك تم نقله على متن طائرة حربية بريطانية إلى البصرة، حيث نقل إلى الدارعة الحربية البريطانية [ كوك شبير] الراسية قرب البصرة، وكان برفقته كل من [علي جودت الأيوبي] ومرافقه العسكري[عبيد عبد الله المضايفي] ثم لحق بهم [جميل المدفعي] وحاولت السفارة البريطانية الاتصال بأعضاء وزارة طه الهاشمي في محاولة لنقلهم إلى البصرة للالتحاق بالوصي، لكن العقداء الأربعة حالوا دون خروجهم .

كما نصبت القوات البريطانية للوصي إذاعة لاسلكية حيث قام بتوجيه خطاب إلى الشعب في الرابع من نيسان، وقامت الإذاعة البريطانية في لندن بإعادة إذاعة الخطاب مرة أخرى، وقد هاجم الوصي في خطابه الكيلاني والعقداء الأربعة، واتهمهم بالاعتداء على الدستور، والخروج على النظام العام واغتصاب السلطة.
كما أخذ الوصي يحرض قائد الفرقة الرابعة في الديوانية [إبراهيم الراوي]، وقائد حامية البصرة العقيد [رشيد جودت] وعدد من شيوخ العشائر الموالين للبلاط والإنكليز  للتمرد على الكيلاني وقادة الجيش، والزحف على بغداد، لكن الراوي وجودت رفضا السير مع الوصي بهذا الطريق الذي لو تم لوقعت حرب أهلية لا أحد يعرف مداها.

تشكيل مجلس الدفاع الوطني:
بادر العقداء الأربعة بعد هروب الوصي إلى تشكيل مجلس الدفاع الوطني، وتم اختيار[ رشيد عالي الكيلاني ] رئيساً للمجلس ليقوم مقام مجلس الوزراء.
وفي أول اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قرر المجلس إرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تحذرها من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وتقديم الدعم والمساندة للوصي عبد الإله، كما قرر المجلس إرسال قوات عسكرية إلى البصرة لمنع أي تحرك ضد مجلس الدفاع الوطني، وتم اعتقال متصرف البصرة [صالح جبر] الذي قطع صلاته ببغداد تضامناً مع الوصي، وتم تسفيره إلى بغداد.

عزل عبد الإله وتعين شريف شرف وصياً على العرش:
 رداً على تحركات الوصي الرامية إلى إسقاط حكومة الدفاع الوطني، وهروبه من العاصمة، وتعاونه مع المحتلين البريطانيين في هذا السبيل، فقد وجهت حكومة الدفاع الوطني إنذاراً له بالعودة إلى بغداد فوراً وإلا فإنها ستضطر إلى عزله من الوصاية، وتعين وصي جديد على العرش بدلا منه.
 ولما لم يستجب عبد الإله إلى الإنذار قررت حكومة الدفاع الوطني  عزله من الوصاية، وتعين [الشريف شرف] وصياً على العرش بدلاً عنه، وقد صادق البرلمان على هذا الإجراء في جلسته المنعقدة في 16 نيسان 1941 .


الكيلاني يشكل حكومة مدنية جديدة:
بعد أن تم تعين [الشريف شرف] وصياً على العرش، قدم مجلس الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني استقالته إلى الوصي الجديد شريف شرففي 12 نيسان 1941 لغرض تشكيل حكومة مدنية جديدة، وقد كلف الوصي الجديد شريف شرف السيد الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة في اليوم نفسه، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي :
1 ـ رشيد عالي الكيلاني ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية .
2ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للمالية .
3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للدفاع .
4 ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ رؤوف البحراني ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
6 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدلية.
7ـ يونس السبعاوي ـ وزيراً للاقتصاد.
8 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
9 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للمعارف.
وفور تشكيل الوزارة أعلن الكيلاني عن عزم الحكومة على عدم توريط العراق في الحرب، مع الالتزام بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، والتمسك بالتعهدات الدولية. وقد لاقت حكومة الكيلاني تأييداً كاسحاً من أبناء الشعب الحانقين على الاستعمار البريطاني وعملائه.

القوات البريطانية تسقط حكومة الكيلاني، وتعيد عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد:
تسارعت التطورات في البلاد بعد أحكام سيطرة رشيد علي الكيلاني والعقداء الأربعة على مقاليد الحكم، ولاسيما وأن الحركة قد لاقت تأييداً واسعاً من أبناء الشعب عامة، والذين كانوا يحدوهم الأمل في التخلص من الاستعمار البريطاني الذي أذاقهم الأمرّين، ولم يدركوا أن الأستعمار الألماني البديل أسوأ منه، وهكذا أصبحت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لبريطانيا، وتنذر بمخاطر كبيرة، وبناء على ذلك طّير السفير البريطاني [كورنوليس] برقية إلى المستر تشرشل ـ رئيس الوزراء ـ جاء فيها :
{ إما أن ترسلوا جيشاً كافيا إلى العراق أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان} .
فلما اطلع تشرشل البرقية أسرع بالإبراق إلى وزير الهند لإرسال قوات عسكرية، وإنزالها في البصرة على عجل
. (2)
كانت الحكومة البريطانية قد أبلغت العراق قبل وقوع الانقلاب أنها عازمة على إنزال قوات في البصرة لنقلها عبر العراق إلى حيفا في فلسطين حيث تقتضي ضرورات الحرب، وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية يحق لبريطانيا ذلك، بعد إبلاغ ملك العراق بذلك، ولذلك فقد اتصل القنصل العام البريطاني في البصرة بوكيل المتصرف يوم 10 نيسان، وأبلغه أن فرقة من الجيش الهندي على ظهر ثلاث بواخر حربية، وبحراسة طرادين حربيين وثلاث طائرات سوف تدخل المياه الإقليمية العراقية خلال 48 ساعة، وطلب منه إبلاغ حكومته بذلك للموافقة على نزول تلك القوات في البصرة. كما قام مستشار وزارة الداخلية [ادمونس ] في بغداد بزيارة رئيس الوزراء، الكيلاني، وابلغه بنفس الأمر. (3)

وعلى الفور أجتمع مجلس الوزراء وبحث الأمر، وبعد مناقشة مستفيضة اتخذ قرارا بالسماح للقوات البريطانية بالنزول، وفق الشروط التي اتفق عليها في 21 حزيران 1940، والتي نصت على نزول القوات لواء بعد لواء، على أن يبقى اللواء مدة معقولة، وهو في طريقه إلى فلسطين، ثم يليه نزول اللواء التالي، بعد أن يكون اللواء السابق قد غادر الأراضي العراقية، وعلى الحكومة البريطانية ابلاغ
 الحكومة العراقية بعدد القوات المراد إنزالها. (4)

كما قررت الحكومة العراقية إيفاد اللواء الركن [ إبراهيم الراوي ] إلى البصرة لاستقبال  القوات البريطانية، كبادرة حسن نية من الحكومة، لكن بريطانيا كانت  قد قررت غزو العراق، وإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة، وإعادة عبد الإله وصياً على عرش العراق، وكانت تعليمات القيادة البريطانية تقضي باحتلال [منطقة الشعيبة] في البصرة، واتخاذها رأس جسر لإنزال قواتها هناك، والانطلاق بعد ذلك إلى بغداد .
وفي يومي 17  و 18 نيسان 1941 نزلت القوات البريطانية في البصرة، وعلى الفور أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال [ايمسي] في رئاسة الأركان البريطانية، يأمره بالإسراع بإنزال 3 ألوية عسكرية في البصرة، وقد بدا واضحاً من تصرف تلك القوات أنها لن تغادر العراق، كما هو متفق عليه، بل لتبقى هناك حيث قامت بحفر الخنادق وإقامة الاستحكامات، وترتيب بقائها لمدة طويلة،
وفي 28 نيسان 1941 أبلغ مستشار السفارة البريطانية في بغداد وزارة الخارجية العراقية بنية بريطانيا إنزال  قوة أخرى قوامها 3500 جندي وضابط، في 29 نيسان، وقبل رحيل القوات التي نزلت في البصرة قبلها
.
وعند ذلك أدركت حكومة الكيلاني أن بريطانيا تضمر للعراق شراً، وأنها لا تنوي إخراج قواتها كما جرى عليه الاتفاق من قبل، بل لتستخدمها لاحتلال العراق من جديد، وعليه اتخذت قرارها بعدم السماح لنزول قوات بريطانية جديدة في البصرة قبل مغادرة القوات التي وصلت  إليها من قبل.
 كما طلبت الحكومة العراقية من السفير البريطاني تقديم أوراق اعتماد حكومته كدليل على اعتراف بريطانيا بالوضع الجديد في العراق.(5)
وفي الوقت نفسه قررت الحكومة العراقية القيام بإجراءات عسكرية احترازية لحماية العراق، وأصدرت بياناً إلى الشعب بهذا الخصوص، وقد أشار البيان إلى إخلال بريطانيا بنصوص معاهدة التحالف، وأن الحكومة قد قدمت احتجاجاً رسميا إلى الحكومة البريطانية، كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على التمسك بحقوق العراق وسيادته واستقلاله.
لكن الحكومة البريطانية تجاهلت مواقف الحكومة العراقية واحتجاجاتها، وأنزلت قوات جديدة في البصرة  في 30 نيسان، وحاولت تلك القوات قطع الطريق على القوات العراقية المتواجدة هناك، لكن القوات العراقية استطاعت الانسحاب إلى المسيب، مقرها الدائم، وكررت الحكومة احتجاجها على تصرفات القوات البريطانية، لكن الحكومة البريطانية تجاهلت ذلك الاحتجاج، وأقدمت على ترحيل الرعايا البريطانيين من الموظفين، وأصحاب الشركات، والعاملين فيها، كما أوعزت لهم بتهريب موجودات البنوك من العملات.
وهكذا أيقنت الحكومة أن الصِدام بين الجيشين العراقي والبريطاني أمر حتمي، وقررت اتخاذ عدد من الإجراءات العسكرية لحماية بغداد. فقد أرسلت عدداً من قطعاتها العسكرية إلى المنطقة القريبة من [الحبانية] حيث توجد قاعدة جوية بريطانية كبيرة، لكن ثلاث أسراب من الطائرات البريطانية قامت على الفور بقصف تلك القوات المتمركزة في [سن الذبان] بجوار بحيرة الحبانية وذلك صباح يوم الجمعة المصادف 2 أيار 1941، وبذلك اشتعلت الحرب بين العراق وبريطانيا، وقام على الأثر السفير البريطاني بإصدار بيان موجه إلى الشعب العراقي كان قد أعده سلفاً، هاجم فيه بشدة حكومة الكيلاني، واتهمها بشتى التهم، وبذلك كشف البيان عن جوهر السياسة البريطانية وأهدافها الاستعمارية العدوانية تجاه العراق .
وفي اليوم نفسه قدم السفير البريطاني إنذاراً للحكومة العراقية بسحب قواتها من أطراف الحبانية، وهدد باتخاذ أشد الإجراءات العسكرية ضدها. وعلى اثر تلك التطورات والأحداث المتسارعة أجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قرارات هامة للدفاع عن العراق، وكان منها:
1ـ إعادة العلاقات مع ألمانيا، والطلب بإرسال ممثلها السياسي على الفور، وطلب المساعدة منها.
2 ـ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي فوراً.
 3ـ نشر بيان صادر من رئيس الوزراء حول العدوان البريطاني على القوات العراقية.
4 ـ إرسال احتجاج إلى الحكومة البريطانية على تصرفاتها تجاه العراق .(6)

وعلى الأثر قام الوزير العراقي المفوض في تركيا بمقابلة السفير الألماني [فون بابن] وطلب منه تقديم كل مساعدة ممكنة للصمود بوجه القوات البريطانية، وقد أبلغه السفير الألماني أن تقديم المساعدة يتطلب مدة من الزمن، وسأله كم من الزمن تستطيع القوات العراقية الصمود أمام القوات البريطانية، وأخيراً تم الاتفاق على إرسال عدد من الأسراب من الطائرات الحربية الألمانية للدفاع عن مدن العراق التي أخذت تتعرض لقصف الطائرات البريطانية، ريثما يتمكن الألمان من تقديم مساعدة فعالة للحكومة العراقية .(7)
وفي الوقت نفسه غادر الدكتور [كروبا] سفير ألمانيا السابق في العراق متوجهاً إلى بغداد لفتح السفارة الألمانية، حيث وصلها في 18 أيار، وبصحبته 5 طائرات حربية، وبعثة عسكرية جوية برئاسة الفيلد مارشال [ فون بلومبرج ]. لكن المارشال الألماني أصيب قبل هبوط طائرته في مطار بغداد بصلية من الطائرات البريطانية، وقتل قبل نزوله في بغداد وذلك خلال اشتباك جوي مع الطائرات البريطانية.(8)
وفي الوقت نفسه تلقى العراق كميات من الأسلحة عن طريق سوريا ، حيث كانت ألمانيا وإيطاليا قد استولت على تلك الأسلحة بعد انهيار فرنسا.

 فقد حصل العراق على 15 ألف بندقية ، و354 مسدساً و5 ملايين خرطوشة مدافع رشاشة ، و9999 قنبلة عيار 75 ملم ، و 6000 قنبلة عيار 155 ملم و30 ألف قنبلة يدوية، و 6000 قنبلة زمنية، وغيرها من الأجهزة العسكرية والمتفجرات وأجهزة الاتصال اللاسلكية وغيرها .( 9 ) 

ورداً على سحب موجودات البنوك ، أعلن الكيلاني انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وحاول تغير العملة بالتعاون مع المانيا لكن الزمن لم يمهله لتنفيذ ذلك، فقد تصاعدت الأزمة بعد أن فتحت القوات البريطانية النار على القوات العراقية المتواجدة في البصرة، واستطاع الفوج العراقي الموجود هناك الانسحاب من المنطقة في 2 أيار 1941 .
أدى تصرف القوات البريطاني إلى هياج عام في صفوف الشعب العراقي، وتوالت فتاوى رجال الدين تدعو للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، وكان على رأسهم المرجع الديني الأكبر لطائفة الشيعة [أبو الحسن الموسوي الأصفهاني]، والإمام [ محمد حسين آل كاشف الغطاء ] اللذان دعيا الشعب العراقي للجهاد ضد المحتلين البريطانيين. كما ناصرت الشعوب العربية الشعب العراقي في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني.
القوات البريطانية تحتل العشار:
بعد أن عززت القوات البريطانية وجودها في البصرة بدأت بالزحف بقواتها الآلية نحو العشار فجر يوم الأربعاء  المصادف 7 أيار  1941، وتمكنت من احتلال جميع المرافق الحساسة، والجسور بعد معارك دامية مع الأهالي سقط خلالها عدد كبير من الشهداء والجرحى في معركة غير متكافئة مع جيش كبير ومنظم، وقيل أن اليهود قدموا مساعدات كبيرة لقوات الاحتلال التي أخذت تتصرف وكأنها سلطة حكومية في منطقة [العشار]، وصار مدير جمعية التمور الميجر [ لويد ] يتصرف وكأنه حاكم عسكري، حيث أصدر أمراً بمنع حمل السلاح، ومنع الاستماع إلى الإذاعات المعادية لبريطانيا، ومنع التجول، وغيرها من القرارات. وعلى أثر ذلك أمرت الحكومة موظفيها في البصرة بالانسحاب والعودة إلى بغداد.

 كما قررت الحكومة في 9 أيار إنهاء خدمات الضباط البريطانيين في الجيش  العراقي  وفي 11 منه قررت الاستغناء عن خدمات جميع الموظفين والمستخدمين البريطانيين، كما قررت في  13 أيار تخويل رئيس الوزراء صلاحية عقد اتفاقات لشراء الأسلحة من الدول الأجنبية.

القوات البريطانية تحتل الفلوجة:
استمرت المعارك مع القوات البريطانية حول الحبانية لكنها لم تكن متكافئة على الإطلاق، ففي الوقت الذي كان الجيش العراقي يمتلك الإرادة الشجاعة للدفاع عن الوطن، كان يعوزه السلاح والعتاد، في حين كانت القوات البريطانية تمتلك كل أنواع الأسلحة والطائرات، والخبرة القتالية، فقد أخذت الطائرات البريطانية تقصف القطعات العسكرية العراقية حول [ سن الذبان ] منذ صباح يوم 2 أيار.
كما أرسلت القيادة البريطانية في فلسطين قوة عسكرية أخرى تتألف من لواء خيالة وعدة كتائب مختلفة مجهزة بالآليات والمدفعية، مع قوة أخرى من رجال الفرقة العربية التي كان يقودها  القائد البريطاني [كلوب باشا] في شرق الأردن .
وفي 19 أيار بدأ الجيش البريطاني هجوماً واسعاً تحت غطاء جوي كثيف من الطائرات الحربية ضد الجيش العراقي، وخاض الطرفان معركة غير متكافئة استطاعت خلالها القوات البريطانية دحر القوات العراقية، وأسرت 320 جندياً و23 ضابطاً، وانسحبت بقية القوات باتجاه بغداد، وبذلك استطاعت القوات البريطانية احتلال [الفلوجة]الواقعة على مقربة من بغداد في 20 أيار 1941.
وفي اليوم التالي شنت القوات العراقية هجوماً معاكساً في محاولة لاستعادة الفلوجة، وكانت تلك القوات تتألف من فوجين، ومعززة بثمانية دبابات لكنها فشلت في هجومها بعد أن استشهد  273  جنديا و11 ضابطاً، وتدمير 7 دبابات. (10)

القوات البريطانية تزحف نحو بغداد، وهروب الكيلاني وقادة جيشه:
بعد اندحار القوات العراقية في معركة الفلوجة، بدأت الحكومة تنظيم دفاعاتها حول بغداد، حيث أصبحت القوات البريطانية على بعد 60 كيلومترا من العاصمة، لكن القوات البريطانية عاجلتها بهجوم كبير على ثلاثة محاور منطلقةً من الفلوجة يوم 27 أيار، وكان المحور الأول كان عن طريق [جسر الخر ] و المحور الثاني عن طريق الشاطئ الأيسر لنهر الفرات نحو [ أبو غريب]، أما المحور الثالث فكان عن طريق [سن الذبان ـ سامراء ـ التاجي ] . (11)

مهدت القوات البريطانية هجومها بقصف مركز بالطائرات على مدينة بغداد لأحداث أكبر تأثير نفسي على قوات الجيش العراقي والحكومة وأبناء الشعب، وبدا في تلك الساعات أن الأمر قد أفلت من أيدي الكيلاني والعقداء الأربعة، حيث أصبح احتلال بغداد مسألة وقت لا غير، ولذلك فقد قرر[ الكيلاني] وقادة جيشه [العقداء الأربعة] الهروب ومغادرة بغداد، والنجاة بأرواحهم، تاركين البلاد والشعب تحت رحمة المحتلين، حيث رحل العقداء الأربعة  إلى إيران مساء يوم 29 أيار 1941، ثم تبعهم رشيد عالي الكيلاني، وأمين الحسيني، وشريف شرف، ومحمد أمين زكي، ويونس السبعاوي.

وفور مغادرة قادة حركة أيار، تشكلت في العاصمة بغداد لجنة برئاسة أمينها [ارشد العمري] دعيت  [لجنة الأمن الداخلي]، وضمت اللجنة متصرف بغداد، ومدير الشرطة العام، وممثل الجيش الزعيم الركن [ حميد نصرت ] .(12)

 بدأت اللجنة مفاوضات مع السفارة البريطانية في بغداد على شروط وقف إطلاق النار وإعلان الهدنة تمهيداً لدخول القوات البريطانية إلى بغداد، وعودة الأمير عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
وفي 30 أيار توقف القتال بصورة نهائية، وعاد الوصي إلى بغداد في 1 حزيران 1941 تحت حراب المحتلين البريطانيين، وكان برفقته كل من نوري السعيد، وعلي جودت الايوبي، وداؤد الحيدري، وهكذا تخلص البريطانيون وعبد الإله من العقداء الأربعة والكيلاني، الذين لعبوا دور كبيراً في الحياة السياسية في البلاد، وتم إحكام الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد. (13)

لم يهدأ لبريطانيا والوصي عبد الإله بال إلا بعد أن تم اعتقال العقداء الأربعة، فقد بدأت المخابرات البريطانية تتابعهم حتى تسنى لها القبض عليهم واعتقالهم في إيران، وجرى تسفيرهم إلى جنوب أفريقيا معتقلين، كما تم اعتقال وزير الاقتصاد يونس السبعاوي، و مدير الدعاية العام صديق شنشل، وتم إحالة العقداء الأربعة إلى المجلس العرفي العسكري، والذي سبق أن حكم عليهم بالإعدام .
كما حكم المجلس العرفي العسكري على يونس السبعاوي بالإعدام أيضاً، وعلى صديق شنشل بالسجن لمدة 5 سنوات .
في نهاية الحرب العراقية البريطانية، سلمت بريطانيا العقداء الأربعة للحكومة العراقية حيث جرى إعدامهم في 6 كانون الثاني 1942، بعد إعادة محاكمتهم بصورة صورية أمام المجلس العرفي العسكري الذي أصدر قرار الحكم خلال جلسة واحدة، وبذلك تخلص الوصي من نفوذهما إلى الأبد.

أما رشيد عالي الكيلاني،  فقد تمكن من الوصول إلى تركيا، واستطاع السفير الألماني [فون بابن] أن ينقله مع أمين الحسيني إلى ألمانيا، حيث مكث فيها إلى أن أوشكت الحرب على نهايتها، وبات اندحار ألمانيا أمر حتمي، حيث هرب إلى سويسرا ومنها إلى السعودية.
حاول عبد الإله مرارا استرداده من السعودية إلا أن السعوديون رفضوا ذلك، وبقي هناك عدة سنوات أنتقل بعدها إلى مصر بعد قيام ثورة 23 يوليو، وبقي هناك حتى قيام ثورة 14 تموز عام  1958، وسقوط النظام الملكي في العراق.

التوثيق :
  (1) تريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 77 - عبد الرزاق الحسني
  (2) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 78
 (3) المصدر السابق، الحسني ـ ج5 ـ ص 76 .
  (4) نفس المصدر ـ ص 79 .
  (5) نفس المصدر ـ ص  87 .
  (6) فرسان العروبة ـ صلاح الدين الصباغ ـ ص 87 .
  (7) يقظة العالم العربي ـ  جان وولف ـ ص 120 .
   (8) ثورة العراق ـ كارتاكوز ـ ص 32 .
  (9) حديث الدكتور صائب شوكت مع الحسني في 8 نيسان 1975
  (10) ت ن و ، ع ـ الحسني ـ ج5  ـ ص81
  (11) مذكرات طه الهاشمي ـ ص 241 .
 (12) علي الشرقي ـ كتاب الأحلام ـ ص 170
  (13) ت ، و ، ع ـ الحسني ـ ج 5 ـ 79


57
من ذاكرة التاريخ
أسرار انقلاب بكر صدقي
عام 1936
حامد الحمداني                                                               26/9/2018

نبذة عن حياة بكر صدقي :
ولد بكر صدقي عام 1866 من أبوين كرديين، في قرية [ عسكر ] قرب كركوك، درس في الأستانة، حيث دخل المدرسة الحربية، وتخرج منها ضابطا في الجيش العثماني، وشارك في الحرب العالمية الأولى في آخر سنيها، وبعد نهاية الحرب واندحار الإمبراطورية العثمانية انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه البريطانيون المحتلون في 6 كانون الثاني 1921 برتبة ملازم أول.

رغم كون بكر صدقي من أبوين كرديين، فقد كانت له ميول قومية عربية، ولذلك فقد تلقفه أنصار القومية العربية من طبقة الحكام العراقيين، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن، في عهد الملك غازي، واشتهر بالقسوة والعنف عندما قاد الجيش العراقي ضد ثورة الآشوريين عام 1933، على عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد الحركة البارزانية، وضد ثورة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك السيد [ حكمت سليمان ] الذي أحبه كثيراً.

 الأعداد للانقلاب:
في أواخر عهد وزارة ياسين الهاشمي الثانية، اشتد الصراع بين الوزارة والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان بكر صدقي الذي شغل منصب قائد الفرقة العسكرية الثانية يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف [حكمت سليمان]، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقادها للتأييد الشعبي، وحين ذلك الحين اختمرت في فكر بكر صدقي فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري. (1)

كان بكر صدقي على علاقة وثيقة بالفريق [عبد اللطيف نوري] قائد الفرقة العسكرية الأولى، وقد عرض عليه بكر صدقي فكرة الانقلاب العسكري لإسقاط وزارة الهاشمي، وقد حبذ  الفكرة وتعهد على العمل معه جنباً إلى جنب، وبدأ الاثنان يهيأن لحركتهم، واستطاعوا أن يضموا إلى صفوفهم قائد القوة الجوية
 العقيد [محمد على جواد] .
سارت الأمور بتكتم شديد، مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها، وجاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936، ووجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه الفرصة، فقد كانت خطة المناورات تقتضي  إجراءها فوق [جبال حمرين]، بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد.

 وفي 29 تموز 1936 سافر رئيس أركان الجيش الفريق [ ياسين الهاشمي ] شقيق رئيس الوزراء في مهمة إلى خارج العراق، وأناب عنه الفريق [عبد اللطيف نوري]، مما سهل على الانقلابيين الأمور كثيراً.

كان موعد المناورات قد حُدد يوم 3 تشرين الثاني 1936 ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر بكر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات، وجرى الاتفاق على نقل الفرقة الثانية من [قرة تبة] إلى[ قرغان ] ليلة الثلاثاء 26/ 27 تشرين الأول على أن يجري تسلل وحدات الفرقة ليلة الخميس 28 / 29 منه إلى [ بعقوبة ] التي تبعد حوالي 60 كم عن بغداد .
كما جرى الاتفاق على نقل الفرقة الأولى من [ بلدروز ] في لواء ديإلى فجر يوم  الخميس 29 منه ، لتلتحق بالفرقة الأولى في بعقوبة، وجرى نقل العتاد للمدفعية من قبل بعض الضباط المؤتمنين في السليمانية، وقد جرى كل ذلك بتكتم شديد بحيث لم تستطع الاستخبارات العسكرية اكتشاف التحرك.

وفي يوم الثلاثاء المصادف 27 تشرين الأول، جرى لقاء قبل تحرك القوات الانقلابية بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، واتفقا على موعد تنفيذ الانقلاب وتفاصيل الخطة، وجرى الاتفاق على تسمية حركتهم [القوة الوطنية الإصلاحية] وطلبا من السيد [ كامل الجادرجي ] إعداد مذكرة إلى الملك غازي يطلبان فيها إقالة حكومة ياسين الهاشمي، وتكليف السيد [حكمت سليمان ] بتأليف الوزارة. كما تم إعداد بيان الانقلاب، وجرى إعداد عدد من الطائرات بقيادة قائد القوة الجوية العقيد[ محمد علي جواد]، وبذلك أصبح كل شيء جاهز للانقلاب. (2)
تنفيذ الانقلاب:
في ليلة الخميس المصادف 27 تشرين الأول 1936، زحفت قوات الجيش من قرغان وبلدروز إلى بعقوبة ووصلتها صباح اليوم التالي، حيث قامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد، واستولت على دوائر البريد والتلفون، وعدد من المواقع الاستراتيجية في المدينة، ثم واصلت القوات زحفها نحو بغداد في تمام الساعة
السابعة والنصف صباحاً، بقيادة بكر صدقي .
وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهرت في سماء بغداد 3 طائرات حربية يقودها العقيد محمد علي جواد، وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب وجاء فيه: 
{ أيها الشعب العراقي الكريم:
 لقد نفذ صبر الجيش المؤلف من أبنائكم، من الحالة التي تعانونها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية، دون أن تكترث لمصالحكم ورفاهكم، فطلبنا إلى صاحب الجلالة الملك غازي المعظم إقالة الوزارة القائمة، وتأليف وزارة من أبناء الشعب المخلصين، برئاسة السيد[حكمت سليمان] الذي طالما لهجت البلاد بذكره الحسن، ومواقفه المشرفة، وبما أنه ليس لنا قصد في هذا الطلب إلا تحقيق رفاهكم، وتعزيز كيان بلادكم، فلا شك في أنكم تعاضدون إخوانكم أفراد الجيش ورؤسائه في ذلك، وتؤيدونه بكل ما أوتيتم من قوة، وقوة الشعب هي القوة المعول عليها في الملمات.
وأنتم أيها الموظفون لسنا إلا إخوان وزملاء لكم  في خدمة الدولة التي نصبوا كلنا إلى جعلها دولة ساهرة على مصلحة البلاد وأهلها، عاملة على خدمة شعبكم قبل كل شيء، فلابد وأنكم ستقومون بما يفرضه عليكم الواجب الذي من أجله لجأنا إلى تقديم طلبنا إلى جلالة ملكنا المفدى لإنقاذ البلاد مما هو فيه، فتقاطعون الحكومة الجائرة وتتركون دواوينها، ريثما تؤلف الحكومة التي ستفخرون بخدمتها، إذ ربما يضطر الجيش، بكل أسف، لاتخاذ تدابير فعالة لا يمكن خلالها اجتناب الأضرار بمن لا يلبي هذه الدعوة المخلصة مادياً وأدبياً.(3)

                                                       قائد القوة الوطنية الإصلاحية
            الفريق بكر صدقي

وفي الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل السيد حكمت سليمان سيارته وتوجه إلى قصر الزهور حاملاً إلى الملك المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك، لإقالة وزارة السيد ياسين الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي [رستم حيدر] .(4)
وما أن بلغ نبأ الانقلاب ياسين الهاشمي حتى بادر إلى الاتصال ببكر صدقي الذي أبلغه خلال محادثته بالتلفون أن الملك غازي على علم بالانقلاب، ولم يكد ياسين الهاشمي ينهي المكالمة التلفونية مع بكر صدقي حتى سارع إلى التوجه إلى قصر الزهور لمقابلة الملك وتدارس الأمر معه.
سلم رستم حيدر المذكرة إلى الملك غازي، وكان يبدو على وجهه الذهول والاضطراب، وعلى الفور طلب الملك استدعاء كل من ياسين الهاشمي، وجعفر العسكري، وزير الدفاع، ونوري السعيد، وزير الخارجية، والسفير البريطاني، لتدارس الوضع.

 وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي وسأله إن كان على علم مسبق بالانقلاب فنفى الملك ذلك. وتحدث ياسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة فأن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابيين وإلا فأنه سيقدم استقالة حكومته. (5)

أما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير البريطاني أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث مالا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.

مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بإلقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، ودائرة البريد القريبة من مسكن ياسين الهاشمي ودار البرلمان، حيث قتل جراء القصف 7 أشخاص، وأصابت العديد  بجروح، واضطرت الحكومة إلى تقديم استقالتها إلى الملك في 29 تشرين الأول 1936 وتم قبول الاستقالة، وسارع الملك غازي إلى الطلب من  السيد حكمت سليمان  بتأليف الوزارة الجديدة، بناء على طلب الانقلابيين لكن حكمت سليمان طلب من الملك أن يوجه له تكليفاً خطياً لكي يشكل الوزارة. (6)

وفي الوقت الذي قدمت الحكومة استقالتها إلى الملك، فأنها عملت على إفشال الانقلاب. فقد بعث جعفر العسكري إلى عدد من قواد الجيش داعياً إياهم للتحرك لحماية بغداد إلا أن تلك الرسائل لم تستطيع أن تفعل شيئا.
وحاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيين نحو بغداد فاتصل ببكر صدقي وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته، وأنه يحمل رسالة من الملك.
كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري ـ صهر نوري السعيد ـ والرجل القوي في الوزارة، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله. وعندما توجه جعفر العسكري لمقابلة بكر صدقي وجد في استقباله النقيب إسماعيل عباوي مع عدد من الأفراد، وقام عباوي على الفور بتجريد جعفر العسكري من سلاحه وأجبره على ركوب السيارة منفرداً دون حمايته، ورافقه كل من النقيب [شاكر القره غلي] والرائد [ طاهر محمد ] مرافق الملك.
وعندما وصلت السيارة التي تقلهم إلى نهر الوزيرية توقفت السيارة، ونزل منها الجميع وأرسل عباوي سائقه العريف [إبراهيم خليل] ليخبر بكر صدقي بمقدم العسكري، ولم تمضِ سوى دقائق حتى وصل الضباط [جمال جميل] و[ جمال فتاح] و[محمد جواد أمين] و[ لازار برودس] حيث شهروا مسدساتهم على جعفر العسكري وأطلقوا عليه الرصاص فقتل في الحال، ولما وصل خبر مقتله إلى نوري السعيد  سارع إلى اللجوء للسفارة البريطانية التي استطاعت تهريبه إلى خارج العراق. (7)
استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد  حيث وصلت أبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر، واحتلت سدة [ ناظم باشا] المحيطة بالعاصمة، فلم يجد الملك بُداً من توجيه خطاب التكليف إلى السيد حكمت سليمان، في 29 تشرين الأول وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد دون أن تلقى أي مقاومة.
كان [حكمت سليمان] قد عقد قبل يومين اجتماعا في دار[السيد كامل الجادرجي ] وضم السادة [جعفر ابو التمن] و[ محمد حديد ]، لوضع قائمة بأسماء أعضاء الوزارة في حالة نجاح الانقلاب، وقد طرح في الاجتماع اقتراح حول اختيار [نوري السعيد] في منصب وزاري لتطمين الإنكليز، لكن الاقتراح لم يلقَ القبول فقد عارضه السيدان جعفر ابو التمن، وكامل الجادرجي، واقترح بدلا منه السيد [صالح جبر]، القريب من الإنكليز أيضاً. (8)

تشكيل حكومة الانقلابيين بأغلبية من الإصلاحيين:
أتم الانقلابيون تشكيل وزارتهم، وصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءاً وجاءت على الوجه التالي:
1 ـ حكمت سليمان ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ جعفر ابو التمن ـ وزيراً للمالية.
3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للعدلية.
4 ـ ناجي الأصيل ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ كامل الجادرجي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.
7 ـ يوسف إبراهيم ـ وزيراً للمعارف.
7 ـ أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش، بدلاً من طه الهاشمي، الذي أحيل على التقاعد.
أما ياسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد فقد غادروا العراق على الفور بمساعدة السفارة البريطانية، خوفاً من بطش بكر صدقي.

أسرع السفير البريطاني إلى لقاء الملك غازي، ورئيس الوزراء السيد حكمت سليمان ليقف على ما تنوي الوزارة عمله، وقد طمأنه حكمت سليمان بأن الوزارة تحترم تعهدات العراق، وتسعى للنهوض بالبلاد في كافة المجالات، كما لقي السفير من الملك كل ما يطمئن الحكومة البريطانية.

أراد بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية ياسين الهاشمي، ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني، إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة، فقد كان من أولى المهام بالنسبة للوزارة الجديدة تثبيت أقدامها وسلطتها، حيث لجأت إلى إجراء تغيرات واسعة في أجهزة السلطة الإدارية، والدبلوماسية، وإبعاد كافة العناصر المؤيدة للوزارة السابقة.
وفي الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة، وكان على رأس تلك المظاهرات السادة [محمد صالح القزاز] وهو من الشيوعيين المعروفين، وشاعر العرب الكبير [محمد مهدي الجواهري ]، وغيرهم من الوطنيين، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعو فيها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي، والعمل على رفع  مستوى معيشة الشعب  وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش، ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على بغداد فقط بل امتدت إلى سائر المدن العراقية.

حكومة الانقلابيين تحل المجلس النيابي:
بعد أن ثبتت الحكومة أقدامها، وبسطت سلطتها على كافة أنحاء البلاد، كانت أمامها الخطوة الثانية المتمثلة بحل المجلس النيابي الذي جرى انتخابه على عهد الحكومة السابقة، وهكذا استصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 31 تشرين الأول 1936، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
وفي الوقت نفسه تقدمت الحكومة بمنهاجها الوزاري الذي أكد على تعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه ومع بريطانيا لما فيه مصلحة الأطراف جميعا،ً وتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، وتحسين أدائه، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وتحسين أحواله الصحية والثقافية، وتوسيع الخدمات العامة، وتنظيم السجون، وجعلها أداة إصلاح للمسجونين، والعمل على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وملافات العجز في الميزانية، وتطوير الزراعة والصناعة في البلاد، وإصلاح الجهاز القضائي، وإعادة النظر في القوانين والمراسيم التي أصدرتها الوزارات السابقة.
كما أكد المنهاج على تقوية الجيش، وتدريبه وتسليحه، ليكون سياجاً حقيقياً للوطن، وإصلاح جهاز التعليم، وتوسيع معاهد المعلمين، وفتح المزيد من المدارس وإلغاء أجور الدراسة المتوسطة والثانوية وجعلها مجانية، وبناء المزيد من المدارس.
 وفي واقع الأمر كان لدى الوزارة الجديدة خططاً طموحة لتغير وجه العراق، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، ومع ذلك فقد استطاعت الحكومة القيام بالعديد من الإجراءات لتحسين الأوضاع فأطلقت سراح المسجونين الذين أدانتهم المجالس العرفية، وأعادت كافة الأموال المصادرة منهم، كما أعادت كافة الصحف التي أغلقتها الوزارات السابقة، وسمحت بدخول الكثير من الكتب التقدمية التي كانت ممنوعة في العهود السابقة، وإعادة الموظفين المفصولين لأسباب سياسية إلى وظائفهم، وأصدرت الحكومة قانون العفو العام.
بكر صدقي يتجاوز الحكومة،ويحكم من وراء الستار:
ما أن احكم بكر صدقي سيطرته على مقدرات البلاد حتى استهوته شهوة الحكم، أراد أن يحكم من وراء الستار، متجاوزاً حلفائه الإصلاحيين [حزب الإصلاح الشعبي] الذين يمثلون الأغلبية في الوزارة، وكان باكورة خطواته الطريقة التي جرى فيها انتخاب مجلس النواب.
 فقد عقد بكر صدقي مع فريقاً من ضباطه وعدد من القوميين اجتماعاً في داره لوضع الترتيبات للانتخابات، وإعداد قوائم المرشحين، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين، وقد جاءت قوائم المرشحين في معظمها من المؤيدين لبكر صدقي شخصياً، فيما كانت حصة الإصلاحيين أقل بكثير، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937، وجاءت النتيجة كما خطط لها بكر صدقي سلفاً.(9)

كان منهاج حزب الإصلاح الشعبي يرمي إلى إجراء تغيرات شاملة في حياة الشعب العراقي حيث دعا منهاجه إلى تحقيق ما يلي:
 1 ـ إجراء إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي شامل في البلاد.
 2 ـ  إعادة توزيع الثروة بصورة عادلة.
 3ـ  وتفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين.
 4 ـ  التقليل من الفروق الطبقية بين أبناء الشعب.
 5ـ  إطلاق كافة الحريات الديمقراطية كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة، وضمان حقوق الشعب، وحرياته العامة. وقد لقي منهاج الحزب هذا دعما كبيراً من الحزب الشيوعي، ومن عدد كبير من صغار الضباط، ولعب الحزب الشيوعي دوراً بارزاً في تحريك الجماهير للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم العامة.
أما بكر صدقي فقد أراد أن يجعل من نفسه[ أتاتورك العراق]، ويحكم البلاد على هواه، وقد ظهر فيما بعد أن تقرب بكر صدقي من الإصلاحيين وضمهم إلى الوزارة كان يهدف من ورائه استخدامهم وسيلة للوثوب إلى السلطة المطلقة، فلما أدرك الاصلاحيون أن الحكومة لا تحكم، وأن الحاكم الحقيقي هو بكر صدقي  لم يكن أمامهم سوى تقديم استقالتهم من الوزارة، وخصوصاً بعد أن أقدم بكر صدقي على استخدام القوة العسكرية ضد انتفاضة العشائر في السماوة  في 13 حزيران 1937، ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، حيث قضت تلك الأحداث على آخر أمل للإصلاحيين من البقاء في الحكم فأقدم السادة جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، ويوسف عز الدين على الاستقالة من الحكومة، وقد تضامن معهم صالح جبر وقدم استقالته من الحكومة أيضاً، فلم يبقَ في الوزارة سوى وزيرين فقط، هما نوري عبد اللطيف، وناجي الأصيل.

وفي الوقت الذي استقال الاصلاحيون من الوزارة، أخذ الاستقلاليون [القوميون] يتصلون ببكر صدقي ويحرضونه على العناصر الماركسية واليسارية التي أخذت شوكتها تشتد، أعربوا له عن استعدادهم الكامل لدعمه إذا ما وقف ضد هذا التيار الجديد، والعمل على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وإبعاد تلك العناصر من البرلمان الجديد، وقد وعدهم بكر صدقي بتحقيق ذلك، وتم ترقيع الوزارة بتاريخ 24 حزيران 1937، حيث دخل الوزارة كل من:
1 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للمالية.
2 ـ عباس مهدي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.
3 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدلية.
4 ـ جعفر  حمندي ـ وزيراً للمعارف.
5 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للداخلية.
مقتل بكر صدقي:
لقي الانقلاب الذي قاده بكر صدقي في 29 تشرين الأول 1936 ترحيباً حاراً، وتأييداً واسعاً من جماهير الشعب العراقي التواقة إلى إجراء إصلاحات حقيقية في البلاد تضمن الحقوق والحريات العامة للشعب، وتصون استقلال البلاد، وتعمل على حل مشاكل البلاد الاقتصادية، والتخفيف من معانات الشعب.
لكن الشعب العراقي أصيب بخيبة أمل كبيرة، بعد أن تبين له أن كل ما يهم بكر صدقي هو السلطة متناسياً ما وعد به الشعب.
وجاءت استقالة الوزراء الإصلاحيين من الوزارة لتزيد من انعزال حكومة بكر صدقي عن الشعب، وسحب الثقة بها، وبذلك فقد بكر صدقي وحكومته أهم عامل دعم وإسناد وهو الشعب.
كان الإنكليز ورجالاتهم من الساسة العراقيين يراقبون الأمور عن كثب، ويتحينون الفرصة للانقضاض على الانقلابيين، فقد كان قلق الإنكليز يزداد يوماً بعد يوم من توجهات بكر صدقي، وجاء زواج بكر صدقي من إحدى الغانيات الألمانيات ليزيد من قلق الإنكليز خوفاً من تقربه من ألمانيا، وأخيراً أخذت الأخبار تتوارد إلى السفارة البريطانية عن عزم بكر صدقي احتلال الكويت مما زاد في قلق الحكومة البريطانية، ودفعها إلى التعجيل في تحركها للخلاص منه بأسرع وقت ممكن.
 وجاءت الفرصة المناسبة عند ما قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، واتخذ الإنكليز قرارهم بتصفيته وهو في طريقه إلى تركيا .
غادر بكر صدقي بغداد  في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد محمد علي جواد قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار ، لكنه أحس بوجود مؤامرة ضده وقرر السفر بالطائرة.
وصل بكر صدقي إلى الموصل، ونزل في دار الضيافة وبصحبته محمد علي جواد، وقد وجد المتآمرون فرصتهم في الإجهاز عليه في الموصل حينما انتقل بكر صدقي إلى حديقة مطعم المطار البعيد والمنعزل، وبينما كان بكر صدقي جالساً في الحديقة مع قائد القوة الجوية محمد علي جواد، والمقدم الطيار[ موسى علي ] يتجاذبان أطراف الحديث، تقدم نائب العريف [عبد الله التلعفري] نحوهم  ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدساً تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي، اخرج مسدسه وصوبه نحو جمجمته ، وأطلق النار عليه فقتل في الحال ، ثم أقدم العريف على إطلاق النار على العقيد محمد علي جواد وقتله أيضاً.

وتم إلقاء القبض على القاتل، وأوسع ضرباً، وقد أعترف بأن الذي جاء به لينفذ الجريمة هو الضابط [محمود هندي] الذي اختفى بعد مقتل بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد، وتبين فيما بعد أن المتآمرين قد هيئوا عدة مجموعات لقتل بكر صدقي ووزعوها على [كركوك] و[التون كوبري ] و [أربيل ] و [الموصل ] على احتمال أن بكر صدقي سوف يمر من إحدى هذه الطرق في طريقه إلى تركيا  وقيل أن العقيد [ فهمي سعيد ] كان لولب الحركة، وأن الضابط [محمود خورشيد] هو الدماغ المفكر لعملية تنفيذ الاغتيال، وسرت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل هو الذي دبر عملية الاغتيال.
وفي صباح يوم الخميس 12 آب تم نقل جثمان بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد إلى بغداد، حيث شيعا إلى مثواهما الأخير تشييعاً رسمياً سار في مقدمته الوزراء  وكبار الضباط والأعيان والنواب والسفراء.
حاولت الحكومة إجراء تحقيق واسع لمعرفة الذين كانوا وراء عملية الاغتيال، وقد أرسلت لجنة تحقيقية إلى الموصل برئاسة نائب المدعي العام [انطوان لوقا] حيث باشر في إجراء التحقيقات أخذت تلك التحقيقات تتوسع شيئاً فشيئاً مما أثار خوف وقلق الضباط المشاركين في المؤامرة من أن تصل التحقيقات إليهم، فأعلن أمر حامية الموصل [ أمين العمري ] العصيان على بغداد واعتقال النائب العام، وجرى تمزيق أوراق التحقيق.
كما جرى تسريح كافة الضباط الموالين لبكر صدقي وللحكومة في بغداد، وأصدر بياناً يعلن فيه انفصاله عن حكومة بغداد .
ورغم اتصال الملك غازي بأمين العمري، ودعوته له لإطاعة أوامر القيادة العسكرية، إلا أن الانقلابيين أصروا على موقفهم، وطالبوا الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة[ جميل المدفعي ] كما رفضوا تسليم الضباط المتهمين بمؤامرة اغتيال بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد.

حاولت الحكومة بدفع من الضباط الموالين لبكر صدقي الزحف بالفرقة الثانية في كركوك إلى الموصل لإخضاع المتمردين على الحكومة. وفي المقابل حاول اللواء أمين العمري استمالة عدد من الوحدات العسكرية الأخرى إلى جانبه، واستطاع الحصول على دعم آمر معسكر الوشاش في بغداد [سعيد التكريتي] وساعده الأيمن المقدم [ صلاح الدين الصباغ ]، كما انضم إليهم آمر حامية الديوانية.

وهكذا بدا أن الجيش قد أنقسم على نفسه، وأن الأمور قد باتت خطيرة جداً، وتنذر بوقوع حرب أهلية يكون عمادها الجيش، ولذلك اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها إلى الملك غازي في 17 آب 1937، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.
إجبار حكومة حكمت سليمان على الاستقالة، وتكليف المدفعي:
سارع الملك غازي بعد استقالة حكومة حكمت سليمان إلى تكليف جميل المدفعي بتأليف الوزارة الجديدة، وكان واضحا أن التكليف جرى بضغط من السفارة البريطانية، وزمرة أمين العمري التي دبرت مؤامرة اغتيال بكر صدقي، حيث طالب أمين العمري الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتكليف المدفعي بتأليف وزارة جديدة، وقد صدرت الإرادة الملكية بتكليف المدفعي في 19 آب 1937، وجاءت على النحو التالي :
1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع.
2 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ عباس مهدي ـ وزيراً للعدلية، ووزيراً للخارجية وكالةً.
4 ـ جلال بابان ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات والمالية وكالةً.
5 ـ محمد رضا الشبيبي ـ وزيراً للمعارف.
وقد تم إضافة وزيرين جديدين للوزارة هما توفيق السويدي للخارجية، وإبراهيم كمال للمالية، وذلك في 19 آب من العام نفسه.
وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أعلن المتمردون في الموصل إنهاء تمردهم، وعادت الأمور إلى مجراها بعد أن تم التخلص من بكر صدقي وحكومته.

وهكذا تبين أن مقتل بكر صدقي لم يكن مجرد حادث فردي، وإنما هو انقلاب عسكري جرى تدبيره بتخطيط من الإمبرياليين البريطانيين،  وأزلامهم العسكريين والسياسيين، وكانت تلوح رائحة الانتقام من كل العناصر التي ساهمت وساندت وأيدت انقلاب بكر صدقي، وكان على رأس أولئك المتعطشين للانتقام نوري السعيد الذي وصل به الأمر إلى اتهام الملك غازي بالتواطؤ مع بكر صدقي .
لقد حاول نوري السعيد الذي عاد إلى بغداد بعد مقتل بكر صدقي، واستقالة حكومة حكمت سليمان، وتأليف الوزارة المدفعية، الضغط على جميل المدفعي، مستعيناً بثلاثة من كبار الضباط هم العقيد صلاح الدين الصباغ، والعقيد فهمي سعيد، والفريق طه الهاشمي، فما كان من المدفعي إلا أن توجه إلى السفير البريطاني يشكوه من تصرفات نوري السعيد، وطلب منه أبعاده إلى خارج العراق في الوقت الحاضر على الأقل، أو القبول بمنصب وزير العراق المفوض في لندن وبالفعل أوعز السفير البريطاني للسعيد بمغادرة البلاد، حيث بقي بعيداً عن العراق حتى تشرين الأول 1938.
كان باكورة أعمال وزارة المدفعي حل المجلس النيابي في 16 آب 1937، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة. كما قامت الوزارة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش المحسوبين على بكر صدقي على التقاعد، وعينت آخرين بدلاً منهم. كما شنت الحكومة في 18 تشرين الثاني حملة شعواء ضد المشتبه بقيامهم بنشاط شيوعي  وإحالتهم إلى المحاكم، التي أصدرت أحكاما بالسجن ضد معظمهم .
وفي 18 كانون الأول باشرت الحكومة بإجراء الانتخابات بنفس الأسلوب الذي درجت عليه الوزارات السابقة، حيث تقوم الحكومة بترشيح العناصر المؤيدة لها وتفرضهم على المنتخبين الثانويين فرضاً، وبذلك استطاعت الحكومة إبعاد كل العناصر اليسارية عن المجلس الجديد كما جرى أبعاد جميع العناصرالعسكرية.
 


58
من ذاكرة التاريخ

الأسرار الخفية وراء مقتل الملك غازي
حامد الحمداني                                                               24/9/2018

في صباح يوم الخامس من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي بصدور بيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه:
{ بمزيد من الحزن والألم ، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية، انتقال المغفور له سيد شباب البلاد جلالة الملك غازي الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة [نهر الخر]، بالقرب من [قصر الحارثية]، في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس، وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل  وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون }. (1)             
                                                                     بغداد في 4 نيسان 1939

 لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة اتجهت نحو السفارة البريطانية، وهتافات التنديد بالإمبريالية البريطانية وعميلها نوري السعيد  تشق عنان السماء، وامتدت المظاهرات الشعبية الهادرة إلى سائر المدن العراقية من أقصاه إلى أقصاه، وظهرت المنشورات التي وزعتها الجماهير، والتي تقول أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما قتل بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية وعملائها، وعلى رأسهم نوري السعيد بالذات، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد في تلك اللحظات لفتكت فيه ومزقته إرباً، ولذلك فقد هرب نوري السعيد بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية في الأعظمية، حيث  استقل زورقاً بخارياً من المقبرة إلى داره في جانب الكرخ .
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد .
كان رد فعل الجماهير الشعبية في الموصل شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة وتوجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل المستر [ مونك ميسن ]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد العميلة.

لكن ما يؤسف له هو مهاجمة الحي اليهودي في بغداد ووقوع عمليات النهب وحرق مساكن اليهود. وقد استغل نوري السعيد  الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين .

ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي  يتضمن  تقريراً طبياً صادرأً عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي :
{ ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول ، في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939 ، متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدم سيارة صاحب الجلالة، عندما كان يسوقها بنفسه، بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور، في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام، ولم يسترجع الملك وعيه حتى اللحظة الأخيرة}. (2)                                             
                                                             3/4 نيسان 1939
د . جلال حمدي   د . صبيح وهبي  د . صائب شوكت  د .إبراهام   د .سندرسن
 
وعلى اثر إعلان وفاة الملك غازي، تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وجرى الإعلان عن تولى الملك فيصل الثاني الملك، على أن يسمى وصياً عليه، نظراً  لصغر سنه، بعد دعوة مجلس النواب الذي سبق أن صدرت الإرادة الملكية بحله، وقرر مجلس الوزراء تعين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، وادعى نوري السعيد أن ذلك القرار كان  بموجب وصية الملك غازي نفسه، غير أنه لم يثبت أن هناك أي وصية من هذا القبيل، وكان معروفاً آنذاك أن الملك غازي كان يكره عبد الإله كرهاً شديداً، ولذلك فلا يعقل أن يوصي بالوصاية لعبد الإله، ويأتمنه على طفله، كما أن الملك غازي كان حسبما ورد في التقرير الطبي قد فقد شعوره فوراً ولم يسترجعه حتى وفاته. والحقيقة أن وصاية عبد الإله قد رتبت من قبل السفارة البريطانية
  وحكومة نوري السعيد .(3)
كما أن أحداً لم يقتنع بما أذاعته الحكومة عن اصطدام سيارة الملك ومقتله في الحادث، وهناك شواهد عديدة على أن الملك قد قتل نتيجة تدبير مؤامرة حبكتها السفارة البريطانية، وجرى تنفيذها من قبل نوري السعيد وعبد الإله، وأهم الشواهد على ذلك ما يلي:
‍1ـ قبل مقتل الملك بتسعة أشهر، وبالتحديد في 18 حزيران 1938، وُجد خادم الملك غازي الشخصي مقتولاً داخل القصر، وجاء تقرير خبير التحريات الجنائية  البريطاني أن القتل كان نتيجة إطلاق النار بالصدفة من مسدس القتيل نفسه ‍‍‍‍‍‍‍‍!!.

سبّب قتل الخادم رعباً في نفس الملك غازي لازمه لأيام، وبدأت الشكوك تنتابه حول مؤامرة لقتله فيما بعد، وكان شكّ الملك يحوم حول عبد الإله ونوري السعيد، وزوجته الملكة عالية ـ شقيقة عبد الإله ـ المنفصل عنها بصورة غير رسمية، وكانت تضمر له الكراهية والحقد.(4)

2 ـ إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة، لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، وهذا ما أثار الشكوك حول حقيقة مقتل الملك.

3 ـ كان بمعية الملك في السيارة، كل من خادمه، شقيق الخادم السابق القتيل، وعامل اللاسلكي، جالسين في المقعد الخلفي بالسيارة، ولكنهما اختفيا في ظروف غامضة، ولم يعرف أحد عن مصيرهما نهائياً، وقد أثارت عملية اختفائهما شكوكاً كبيرة حول مقتل الملك، وحول صدقيه حادث الاصطدام، واستمرت تلك الشكوك تحوم حول عبد الإله ونوري السعيد والسفارة البريطانية.

يقول الفريق نور الدين محمود، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش، ثم رئيساً للوزراء عام 1952، حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{أنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث }. (5)

أما العقيد صلاح الدين الصباغ، أحد قادة الجيش، فيقول في مذكراته :
{ قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939 وهو في السابعة والعشرين من عمره }. (6)

ويقول الأستاذ [ جان ولف ] في كتابه [ يقظة العالم العربي ] :
{ مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دون ما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة، فتعالى الهمس في بغداد متهماً بعض الجهات بتدبير الحادث }. (7)
وقال الأستاذ  [كارتاكوز ] في كتابه [ ثورة العراق ] ما يلي :
{ لعل مأثرة الملك غازي الرئيسية انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف، في حادث سيارة  يعتقد أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه } .(8)
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ عبد الرزاق الحسني  مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، في 8 نيسان ، 1975 بالدكتور [صائب شوكت] طبيب الملك غازي الخاص، وأول من  قام بفحصه قبل وفاته، وسأله عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي:
 { كنت أول من فحص الملك غازي  بناء على طلب السيدين [ نوري السعيد ] و  [رستم حيدر]  لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة  وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر، والذي كان معه في السيارة  لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمت بإعادة الذراع  إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك اليوم  وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى يومنا هذا . (9)
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد [ ناجي شوكت ] الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك وسأله عن حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{ لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر  والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، ورستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا من وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي }. (10)
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي، وتم نقل جثمانه إلى المقبرة الملكية في الاعظمية، في الساعة الثامنة من صباح يوم الخامس من نيسان على عربة مدفع، وسط موجة من الهياج اجتاحت جماهير بغداد الغاضبة، والمنددة بالاستعمار البريطاني وأعوانه القتلة. وانهمك المتآمرون بعد دفنه بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش .
كان مقتل الملك غازي هو الجانب الأول من مؤامرة نوري السعيد وأسياده الإنكليز، وكان الجانب الثاني يتمثل بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش، وولياً للعهد . ومنذ الساعات الأولى لمقتل الملك غازي عمل نوري السعيد جاهداً ليقنع مجلسا النواب والأعيان  والشعب العراق بما ادعاه بوصية مزعومة للملك غازي  بتكليف عبد الإله بالوصاية على العرش فيما إذا حصل له أي مكروه له.

إلا أن[ طه الهاشمي] قال في مذكراته: {أن الوصية التي عزاها نوري السعيد إلى الملك غازي كانت مزيفة دون شك } . (11)

أما وزير الدولة  السيد [ علي الشرقي ] فيقول في كتابه [ الأحلام ] ما يلي :
{ أوعز نوري السعيد إلى الملكة عالية أن ترفع كتاباً إلى مجلس الوزراء المنعقد للنظر في إقامة وصي على العرش  تشهد فيه أن الملك غازي قد أوصاها أن يكون عبد الإله وصياً على العرش إذا ما حدث له أي مكره }. (12)

وقال السفير البريطاني [ سندرسن ] في كتابه [Both Side of Curtain]:
{ كان معروفاً أيضاً أن الإنكليز كانوا يميلون إلى عبد الإله ، أكثر من ميلهم إلى الملك غازي }.(13)
ويقول الدكتور [ صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص ما يلي :.
إنه عندما  تأكد من وفاة الملك غازي  كان عبد الإله وتحسين قدري بالقرب مني حيث دنا تحسين قدري مني، وهمس في آذني أن الأمير عبد الإله يرجوك بأن تقول بأن الملك أوصاك قبل وفاته بأن يكون عبد الإله وصياً على ولده الصغير فيصل، ولكني رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، وقائلاً له : إن الملك غازي كان قد فقد وعيه فور وقوع الحادث وحتى وفاته }.(14)

ويقول طبيب الملك البريطاني [ سندرسن ] في كتابه [Thousand and One Night] حول مقتل الملك: { في خلال 20 دقيقة من وفاة الملك غازي، طلب إليّ رستم حيدر أن أعلن أن الملك غازي، وقبل أن يموت قد عّبر عن رغبته بأن يتولى عبد الإله السلطة كوصي على العرش، غير أني رفضت أن أفعل ذلك، لأن الملك لم يستعيد وعيه لحظة واحدة، وحتى لو ارتكبت جريمة مثل هذا الإدعاء الكاذب، فلابد أن يكون هناك الكثير من المستعدين لتكذيبه}. (15)
ورغم كل ذلك فقد اجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قراره بتولي عبد الإله الوصاية على العرش، وولاية العهد، ودعا نوري السعيد مجلسا النواب[المنحل] ومجلس الأعيان إلى عقد جلسة مشتركة في يوم الخميس المصادف 6 نيسان 1939 وكان عدد الحاضرين 122 عضواً فقط من مجموع المجلسين، وكلهم من مؤيدي نوري السعيد، حيث قاطع الجلسة عدد كبير من النواب والأعيان، لكي لا يكونوا شاهدي زور على جريمة الاغتيال، وقد عرض عليهم نوري السعيد قرار مجلس الوزراء، وتمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين، وبذلك تم تنصيب عبد الإله وصياً على العرش.
المراجع :
  (1) تاريخ الوزارات العراقية - الجزء الخامس - عبد الرزاق الحسني  ـ ص 77
  (2) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 78
 (3) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 76 .
  (4) نفس المصدر ـ ص 79 .
  (5) نفس المصدر ـ ص  87 .
  (6) فرسان العروبة ـ صلاح الدين الصباغ ـ ص 87 .
  (7) يقظة العالم العربي ـ  جان وولف ـ ص 120 .
   (8) ثورة العراق ـ كارتاكوز ـ ص 32 .
  (9) حديث الدكتور صائب شوكت مع الحسني في 8 نيسان 1975
  (10) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ ج5  ـ ص81
  (11) مذكرات طه الهاشمي ـ ص 241 .
  (12) علي الشرقي ـ كتاب الأحلام ـ ص 170
  (13) تاريخ الوزارات العراقية ـ عبد الرزاق الحسني الحسني ـ ج 5 ـ 79
  (13)  نفس المصدر السابق .
  (14) نفس المصدر السابق ـ ص 90 .
  (15) نفس المصدر السابق .


59
من ذاكرة التاريخ
الحرب العراقية الإيرانية
القسم الثالث والأخير
حامد الحمداني                         4/4                        25/8/2018

أولاً: حرب الناقلات، وتأثيرها على إمدادات النفط :

عمل الطرفان المتحاربان العراق وإيران على منع كل طرف للطرف الآخر من تصدير نفطه، بالنظر إلى اعتماد كلا البلدين على واردات النفط لتمويل الحرب ولكون اقتصاد البلدين يعتمد اعتماداً كلياً على تلك الواردات، ولذلك وجدنا قوات البلدين تقوم بقصف المنشآت النفطية لكل منهما، واستمر القصف طيلة أمد الحرب.

كما قامت القوات الإيرانية بلغم رأس الخليج لمنع الناقلات من الوصول إلى ميناء البكر النفطي، مما اضطر العراق كما أسلفنا، إلى مد أنابيب لنقل النفط عبر الأراضي التركية والسعودية، فيما كانت سوريا قد أوقفت مرور النفط العراقي في الخط المار عبر أراضيها إلى ميناء بانياس، وميناء طرابلس اللبناني، منذُ نشوب الحرب.

 كما قامت الكويت ببيع النفط لحساب العراق، ونقله على ناقلاتها، مما دفع إيران إلى مهاجمة الناقلات الخليجية، حيث أصيب أكثر من 160 ناقلة منها 48 ناقلة كويتية، واضطر حكام الكويت إلى شراء الحماية لناقلاتها من الولايات المتحدة وقامت برفع العلم الأمريكي عليها لمنع إيران من مهاجمتها، كما قامت حكومة الكويت بتأجير 11 ناقلة سوفيتية لضمان عدم الاعتداء عليها، وحاولت شراء الحماية من الصين كذلك، لكن الولايات المتحدة عارضت ذلك خوفاً على مصالحها في الخليج.
 
أما حكام العراق فقد سعوا أيضاً إلى منع إيران من تصدير نفطها، وقامت طائرات من طراز [سوخوي 23]، وطائرات من طراز [ميراج] الفرنسية التي استأجرها العراق ، والمحملة بصواريخ [أكزوزسيت] والتي استطاع بواسطتها من الوصول إلى ابعد نقطة في الخليج لملاحقة الناقلات التي تنقل النفط الإيراني، وتدمير المرافئ التي تستخدمها إيران لتصدير النفط.
 وهكذا اشتعلت حرب الناقلات بين البلدين المتحاربين، وأصبحت عملية نقل النفط خطيرة وصعبة، ورفعت شركات التأمين رسومها على الناقلات إلى مستوى عالٍ جداً مما سبب في رفع أسعار النفط في الأسواق العالمية.

 وفي تلك الأيام قامت طائرة عراقية بضرب طراد أمريكي، في 18 أيار 1987، حيث اعتقد الطيار أنه طراد إيراني، وأدى قصفه إلى مقتل 28 فرداً من القوات الأمريكية، واعترفت الحكومة العراقية بقصف الطراد وقدمت اعتذاراً للحكومة الأمريكية، وتم دفع تعويضات لأسر العسكريين القتلى بمقدار 800 ألف دولار لكل قتيل، ولم يصدر أي رد فعل أمريكي ضد العراق فقد كانت العلاقات بينهما على خير ما يرام!!.

استمرت حرب الناقلات، بل وتصاعدت في السنوات الأخيرة من الحرب وأصبحت تمثل خطراً حقيقياً على تدفق النفط الذي من أجله أٌشعلت نيران الحرب وأصبح الخليج مملوء بالألغام، وأصبح استمرار الحرب يعطي نتائج عكسية، مما دفع الولايات المتحدة وحلفائها إلى التحرك لإنهائها بعد تلك السنين الطويلة من الدماء والدموع، والخراب والدمار الذي عم البلدين، وكان إنهاءها يتطلب دعماً كبيراً للعراق لأخذ المبادرة، وقلب موازين القوى لصالح العراق، وطرد القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وتوجيه الضربات الموجعة لإيران لتركيعها وإجبارها على القبول بوقف الحرب .

 وقد جرى ذلك الدعم بمختلف السبل، من تقديم المعلومات العسكرية  إلى تقديم شتى أنواع الأسلحة، وتقديم الخبرات، ومشاركة ضباط مصريين كبار، بالإضافة إلى القوات المصرية، والأردنية، واليمانية، وغيرها من السبل والوسائل، وبدأ العراق يعد العدة لشن الهجوم تلو الهجوم لطرد القوات الإيرانية من أراضيه.
 
ثانياً:المعارك التي خاضها العراق في العام الأخير للحرب:

1 ـ معركة تحرير الفاو:
في عام 1988، العام الأخير للحرب، تحول ميزان القوى مرة أخرى لصالح العراق، وبدأ النظام العراقي يعد العدة لتحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني، وكان في مقدمة أهدافه تحرير الفاو، التي مضى على احتلالها 21 شهراً، فقد حشد النظام العراقي قوات كبيرة من الحرس الجمهوري، ومعدات لا حصر لها، كان من بينها 2000 مدفع، ومئات الدبابات والمدرعات، وبدأ الهجوم يوم 17 نيسان 988 واستطاعت القوات العراقية تحقيق انتصار ساحق على القوات الإيرانية بعد أن حولت المنطقة إلى كتلة من لهيب، ودفع العراق حياة خمسين الفاً من أبنائه ثمناً لتحرير الفاو !!.

2 ـ تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة:
 كان الهدف الثاني للنظام العراقي هو تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة وإبعاد القوات الإيرانية عن المدينة التي كانت طيلة الحرب هدفاً لقصف المدفعية الإيرانية، والهجمات المتتالية عليها بغية احتلالها، ولذلك فقد ركز النظام العراقي جهد قواته إلى تلك المنطقة، وخاض مع القوات الإيرانية معارك شرسة دامت ثلاثة أسابيع، وتمكنت القوات العراقية بعدها من تحرير كافة المناطق المحيطة بالبصرة، بعد أن قدم التضحيات الجسام.

3 ـ تحرير جزر مجنون:
بعد أن فرغت القوات العراقية من تحرير الفاو، كان أمامها الهدف الثالث، الذي لا يقل أهمية عن الهدفين الأولين، جزر مجنون، التي تعتبر من أغنى المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة، وقد تمكنت القوات العراقية بعد معارك عنيفة من تحريرها من أيدي الإيرانيين، وإلحاق الهزيمة بالجيش الإيراني.

4 ـ تحرير المناطق الحدودية الممتدة من البصرة إلى مندلي: 
انتقلت القوات العراقية بعد تحرير جزر مجنون إلى ملاحقة القوات الإيرانية التي كانت قد احتلت فيما مضى مناطق على طول الحدود الممتدة بين البصرة في الجنوب ومندلي  في القاطع الأوسط، واستمرت في توجيه الضربات للقوات الإيرانية التي أخذت معنوياتها تتراجع يوماً بعد يوم، واستطاعت القوات العراقية طردها من تلك المناطق، ودفعها إلى داخل الحدود الإيرانية.

5 ـ اختراق الحدود الإيرانية من جديد:
لم تكتفِ القوات العراقية من إزاحة القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وإنما طورت هجماتها، وأخذت تلاحق القوات الإيرانية إلى داخل الحدود، واستمر تقدم القوات العراقية في العمق الإيراني إلى مسافة 60 كم، مما جعل القوات الإيرانية في موقف صعب للغاية، وتنفس النظام الصدامي  الصعداء، واستمر في ضغطه على القوات الإيرانية لإجبارها على القبول بوقف الحرب التي عجزت كل الوساطات عن إقناع حكام إيران بوقفها.

ثالثاً:النظام العراقي يهاجم مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية:
في ليلة 13 آذار 1988، بادرت القوات الإيرانية بالهجوم على مدينة حلبجة  الواقعة في القسم الشمالي الشرقي من كردستان، في سهل شهر زور، بمساعدة
قوات البيشمركة العائدة للحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان النظام الإيراني يرمي من هجومه على المدينة التعويض عن هزائمه أمام القوات العراقية في القاطعين الجنوبي والأوسط، ولرفع معنويات جنوده المنهارة بعد تلك الهزائم.

بدأت القوات المهاجمة بقصف المدينة بالمدفعية لمدة ثلاثة أيام، ثم أعقبتها بالهجوم البري الذي دام يومين، حيث استطاع الإيرانيون من احتلال المدينة في 15 آذار، وتقهقرت القوات العراقية التي كانت متواجدة هناك تاركة أسلحتها ومعداتها في ارض المعركة، وبدأ الإيرانيون يتحدثون عِبر وسائل إعلامهم عن انتصارات حققوها في منطقة حلبجة، وبدأ المصورون يصورون القوات الإيرانية وهي تحتل المدينة.

أدرك الأهالي أن الأخطار تحدق بهم، وأن النظام الصدامي سوف لن يدع القوات الإيرانية تحتل المدينة، وكان أكثر ما يقلقهم هو إمكانية تعرضهم للضرب بالأسلحة الكيماوية، ولذلك فقد حاولوا مغادرة المدينة وإخلائها، لكن الإيرانيين منعوهم من ذلك، لكن القوات الإيرانية لم تمكث في المدينة، وبدأت تنسحب منها تاركة الأهالي، وقوات البيشمركة فيها، فقد توقعوا أن يشن النظام الصدامي الهجوم عليها بالأسلحة الكيماوية.

  وفي صباح يوم 16 آذار حلقت 8 طائرات حربية عراقية فوق المدينة، وبدأت بالقصف العشوائي مركزة على منطقتي [السراي] و[كاني قولكه].
وبعد الظهر جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بكل أحيائها وكانت تستهدف كسر زجاج النوافذ للدور تمهيداً لقصفها بالسلاح الكيماوي، لكي تنفذ الغازات السامة في كل مكان، ولكي تقتل  أكبر عدد من المواطنين.
وفي الساعة الثالثة والربع من عصر ذلك اليوم جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بالسلاح الكيماوي، مركزة القصف على أحياء [بير محمد] و[جوله كان] و[كاني قولكه] [والسراي]، ثم تلتها موجة أخرى من الطائرات بعد ساعة لتقصف المدينة من جديد مركزة القصف على كل أنحاء المدينة.

وتحدث أحد الناجين من تلك المجزرة البشرية التي ذهب ضحيتها أكثر من 5000 مواطن كردي أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، فقال:
{في البداية سمعنا صوت انفجارات مدوية تلاها بعد خمس دقائق انتشار ما يشبه الضباب الذي راح يقترب من الأرض شيئاً فشيئاً، وبدأت العيون تدمع وشعرنا بحرقة شديدة، وكانت الرائحة أشبه برائحة البارود، وتسرب الدخان الأبيض إلى كل المنازل، والمخابئ، وبدأ الناس يشعرون بالاختناق، وتدافعت جموعهم للخروج نحو الخارج لتشم الهواء، وكان الناس يصرخون كالمجانين، ويضعون أيديهم على عيونهم، وأنوفهم، ثم يسقطون على الأرض ويأتون بحركات متشنجة ويتقيئون، ويبصقون دماً، وأصيبت عيونهم بالعمى، وكانت أنوفهم وأفواههم تنزف دماً، وقد ازرقت بشرتهم، ثم بدأوا يفارقون الحياة، وكنت أرى الجثث في الشوارع والطرقات وفي كل مكان، وكان البعض منهم لا يزال ينازع الحياة، وقد شوهتهم الحروق، وبدت المدينة أشبه بمقبرة انتزعت الجثث فيها من قبورها، وتناثرت على الأرض، وقد استطاع البعض تصوير تلك المشاهد المرعبة التي تصف جرائم النظام الصدامي خير وصف}.

رابعاً:العراق يكثف حرب الصواريخ،ونهاية الحرب:

أخذ حكام العراق، بعد أن تسنى لهم دفع القوات الإيرانية إلى عمق أراضيهم يضغطون على حكام إيران من أجل القبول بوقف الحرب، وذلك عن طريق تكثيف حرب الصواريخ لإحداث حالة من الانهيار النفسي لدى الشعب الإيراني، فقد كانت الصواريخ تنهال على طهران والمدن الإيرانية الأخرى بشكل متواصل محدثة خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، وخلقت حالة من الهلع لدى الشعب الإيراني.

وفي ظل تلك الظروف صدر قرار مجلس الأمن رقم 579، والذي دعا إلى وقف القتال بين الطرفين وانسحاب القوات العسكرية إلى داخل حدودها الوطنية، ووجد حكام إيران أنهم قد أصبحوا عاجزين عن مواصلة الحرب، واضطر الزعيم الديني [آية الله الخميني] إلى إصدار أوامره بوقف الحرب في 18 تموز 1988، والقبول بقرار مجلس الأمن على مضض، حيث أعلن الخميني أنه يشعر وهو يصدر أمره بوقف الحرب، بأنه يشرب السم.

وهكذا توقفت الحرب بين العراق وإيران، بعد مجازر رهيبة استمرت طيلة ثمان سنوات، وذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان، من كلا البلدين، إضافة إلى آلاف المعوقين والأرامل واليتامى، وتدمير اقتصاد البلدين، وتخريب مرافقهما الاقتصادية، والأعظم من كل ذلك هو التأثير النفسي الذي تركته تلك الحرب المجرمة على أبناء الشعبين المغلوبين على أمرهما، والتي لم يجنيا منها سوى الدماء والدموع .
خامساً:النظام الصدامي يشن حملة الأنفال على الأكراد:
لم يكد النظام الصدامي ينتهي من معاركه الخمسة مع إيران، وتضع الحرب أوزارها، حتى التفت إلى منطقة كردستان، وقد امتلأ قلب صدام حسين حقداً على الأكراد فأصدر أوامره إلى قوات الحرس الجمهوري بقيادة المجرم العريق [علي حسن المجيد] الملقب [علي كيماوي] حيث ارتبط أسمه باستخدام السلاح الكيماوي ضد أبناء الشعب الكردي.
ففي 20 آب 1988، اليوم الذي جرى فيه إيقاف الحرب بين العراق وإيران اندفعت قطعان الفاشيين نحو كردستان  مستخدمة في بداية هجومها السلاح الكيماوي في منطقة واسعة جاوزت  6000 كيلومتر مربع أصابت معظم القرى الكردية في المنطقة الممتدة من كركوك وحتى أقصى حدود كردستان.

كما قامت الطائرات صباح يوم 26 آب ب24 غارة بالأسلحة الكيماوية على مدن وقرى عديدة في كردستان، منها بابير،وكه ركو، وبليت ، وباروك، وزيوه وزيريج، وبازيان، ودهوك، والشيخان، والعمادية، وكانت الطائرات تتعقب الهاربين من جحيم الحرب، كما شاركت الطائرات المروحية في مطاردتهم، وبلغ عدد الفارين نحو الحدود التركية أكثر من 90 ألفا، وكان قسم منهم مصاباً بحروق جراء تعرضهم للأسلحة الكيماوية.

أعقب الهجوم البربري بالأسلحة الكيماوية اجتياح الحرس الجمهوري لكردستان، حيث أكتسحت القوات الفاشية المنطقة مبتدئة بالقرى المحيطة بكركوك لتمسحها من الوجود، وتتركها أكواما من الحجارة، ولتفتك بأبناء الشعب الكردي بأسلوب رهيب لم تشهد له كردستان من قبل، حيث لم يسلم من بطش القوات الغازية حتى الأطفال، ولم تنجوا الجوامع والكنائس من همجية الفاشيين البعثيين.
 لقد التُقِطتْ مكالمة هاتفية من علي حسن المجيد إلى قائد الفيلق الذي قاد الهجوم يقول له بالحرف الواحد: {لا تدع حتى الأطفال، لأنهم سيكبرون غداً ويحملون السلاح ضدنا}.

 وهكذا أباد الفاشيون ما يناهز على 180 ألف مواطن كردي دفنتهم الجرافات العسكرية في قبور جماعية مجهولة، وبأسلوب وحشي يندى له جبين الإنسانية.
كما تم نقل أعداد كبيرة من الأكراد إلى المناطق الصحراوية في جنوب العراق بسيارات الحمل، إمعاناً بإذلالهم، ونُهبت ممتلكاتهم ومواشيهم.

ورغم كل الجرائم التي أقترفها نظام صدام باستخدامه السلاح الكيماوي، ليس ضد القوات الإيرانية فحسب، بل وضد الشعب الكردي كذلك فإن تلك الجرائم لم تحرك مجلس الأمن، ولا حكومات الدول الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان، وشجع موقفهم حاكم بغداد على الإيغال بجرائمه ضد الإنسانية.
وبإلحاح من حكومة إيران وشكواها بأن العراق قد استخدم السلاح الكيماوي المحرم دولياً، اضطرت الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة خبراء إلى طهران في 26 شباط 1986 للتحقيق في الشكوى، وقد مكثت البعثة مدة أسبوع في طهران، ثم رفعت تقريرها الذي أكد على أن العراق قد استخدم الغاز السام في الحرب واضطر مجلس الأمن إلى أن يصدر قراراً يدين العراق لأول مرة !!!.
لكن ذلك القرار كان قد صيغ بشكل مائع ولم يؤدِ إلى إيقاف تلك الجرائم، بل استمر النظام العراقي في استخدامها حتى نهاية الحرب.

غير أن الغرب صحا فجأة، بعد عام 1989، بعد أن انتهت الحرب مع إيران، وبدأ يتحدث عن تسلح النظام العراقي بأسلحة الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية والجرثومية والنووية، فلقد تغيرت الحال بعد الحرب!، وخرج العراق منها يمتلك جيشاً جراراً، واقتصاداً منهاراً، ولديه ترسانة ضخمة من الأسلحة تجعله خطراً داهماً على مصالحهم في الخليج!، ووجد الغرب أن من الضروري نزع أسلحة العراق ذات الدمار الشامل من أجل ضمان أمن واستقرار الخليج!، ووجد إن الوقت قد حان لنزع هذه الترسانة الخطيرة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، والصواريخ البعيدة المدى، والقادرة على حمل تلك الأسلحة إلى مسافات شاسعة.

 كان لابد وان يجد الغرب الوسيلة والمبرر لذلك، فكان توريط صدام بغزوه الكويت لاتخاذ تلك الجريمة مبرراً لتدمير القوة العسكرية والاقتصادية للعراق، وتدمير البنية الاجتماعية للشعب العراقي، نتيجة للحصار الظالم الذي تم فرضه على الشعب العراقي، دون صدام وزمرته المجرمة، والذي تسبب في تلك الكارثة المفجعة حيث الجوع والفقر والأمراض التي أزهقت أرواح 4 ملايين من أطفال العراق، ومحت الطبقة الوسطى، وحولتها إلى ما دون خط الفقر، وتسببت في هجرة الملايين من العراقيين نحو بلدان اللجوء الغربية، وفقد العراق خيرة كوادره العلمية في مختلف المجالات، والتي تعتبر ثروة عراقية كبرى لا تعوض.

لقد كانت الحرب العراقية ضد إيران بالوكالة عن الولايات المحتدة، هي العامل المباشر لغزو صدام للكويت، وحرب الخليج الثانية عام 1991، والانتفاضة التي تلتها مباشرة، ومن ثم حرب الخليج الثالثة التي قادها بوش الأبن لإسقاط نظام صدام، واحتلال العراق، وما سببه الاحتلال من الويلات والمصائب والمآسي التي أوصلت الشعب للحرب الأهلية ما بين عامي 2006 و 2007 ، وما زال الشعب العراقي حتى يومنا هذا يعاني اشد المعانات من فقدان الأمن، والتفجيرات المستمرة التي تحصد كل يوم بالعشرات بل المئات من المواطنين الأبرياء، إضافة للفقر والبطالة والأمراض التي عمت المجتمع العراقي جراء حروب صدام الكارثية .
إن خير من وصف ما تسببه الحروب في  تدمير البنية الاجتماعية هو [ليون تلستوي] حيث يقول في كتابه المشهور [ الحرب والسلام ] :
{ إن سنة واحدة من الحروب تفسد المجتمع أكثر ما تفسده ملايين الجرائم لعشرات السنين}، ولنا بعد ذلك أن ندرك ما فعلته حروب صدام المجرمة منذ أن استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب 17 تموز 1968 وحتى عام 2003 بالمجتمع العراقي الذي كان بالإمكان لو تهيأت لو حكومة رشيدة مسالمة، نظيفة اليد، وذات كفاءة عالية، ان يعيش اليوم حياة رغيدة، في ظل بلد يرقى إلى مصاف بلدان العالم المتطورة، حيث يمتلك العراق كل المقومات المادية والبشرية والكفاءات العلمية لبلوغ هذا الهدف الكبير.

 تم البحث، وللمزيد من المعلومات يمكن الإطلاع على موقعي على الانترنيت التالي : www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com
حامد الحمداني

60
من ذاكرة التاريخ:

الحرب العراقية الإيرانية
حامد الحمداني                          الحلقة الثالثة                     28/8/2010
                                                   3/4
أولاً:إيران تستعيد قدراتها، وتشن الهجوم المعاكس:

في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه، بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في تلك الحرب.

لقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري، مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية!، وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال، وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء، ولبس قسم منهم الأكفان، وهم يتقدمون الصفوف.
وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع الجيش الإيراني، والحرس الثوري من تطويق القوات العراقية، وخاض ضدها معارك شرسة، ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الجلاد صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.

 واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري، وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [ خرم شهر] وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة، واشتدت المعارك بين الطرفين، واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [خوزستان] في تموز من عام 1982، بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من القتلى، وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية، وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب، وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط .
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان  الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق، وأصروا على مواصلة الحرب، وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم.
وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان، حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها، مستغلاً قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام  1982 باجتياح لبنان، واحتلالها للعاصمة بيروت، وفرضها زعيم القوات الكتائبية [بشير الجميل] رئيساً للبلاد، تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني، لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه، مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة.
 إلا أن حكام إيران، وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي، وأصروا على مواصلة الحرب، وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان، لتقديم الدعم للشعب اللبناني، وقد رفض حكام العراق الطلب الإيراني كذلك.

وحاول حكام العراق بكل الوسائل والسبل وقف الحرب، ووسطوا العديد من الدول، والمنظمات ،كمنظمة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب، وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران، في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين، حيث أُسقطت طائرته، ولف الحادث الصمت المطبق، وبقي سراً من الأسرار.

كما اغتيل رئيس وزراء السويد [أولف بالمه] الذي بذل جهوداً كبيرة من أجل وقف القتال، في أحد شوارع العاصمة السويدية، وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك، وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي، والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة.

لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب، من أعظم الأخطاء التي وقعوا فيها، ولا يمكن تبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال، فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988، إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين العراقي والإيراني، وبُددت ثروات البلدين، وانهار اقتصادهما، وتراكمت عليهما الديون، وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا، كما كانت شعاراتهم تقول.

لا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونوا عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية، وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة، وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة، والمعدات وقطع الغيار، والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين، من أجل إطالة أمد الحرب، وعليه كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين  بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية المجرمة والمتمثلة بصدام حسين وزمرته، والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً حيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب، أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال.

لقد كان أحرى بالنظام الإيراني، وبالإمام الخميني على وجه التحديد وهو رجل الدين الأول في إيران إيقاف القتال، وحقن الدماء، والعمل بقوله تعالى:
{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله }.
 وقوله في آية أخرى:
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين}،
كما جاء في آية ثالثة قوله:
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فاصلحوا بينهم }.


 تلك هي آيات قرآنية، تحث على السلام، وحل المشاكل بالحسنى والعدل. وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات، وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب، ليسوا صدام حسين وزمرته، وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين؟

ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين  ويمدونهم بالسلاح والمعلومات العسكرية، أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية استهدفت البلدين والشعبين والجيشين، من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج، وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟
 ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب خدمة كبرى للإمبرياليين، وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما؟

 لقد أعترف صدام حسين عام 1990، بعد إقدامه على غزو الكويت، في رسالة إلى الرئيس الإيراني [هاشمي رفسنجاني]، أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية، حيث ورد في نص الرسالة ما يلي :
{إن هناك قوى أجنبية كانت لها يد في الفتنة}.

لكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة، وبشكل دقيق، لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين أشعل الحرب بأمر أو تحريض أمريكي، وظن أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة ولعب دور شرطي الخليج، بعد أن كانت إيران على عهد الشاه تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً واسعاً على الخليج .

لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية، ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل، كما يقول المثل، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه البررة، وبدد صدام حسين ثروات البلاد، واغرق العراق بالديون ،ودمر اقتصاده، ولم يستفد من تلك الحرب سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم ، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما، ومن قبل الإمبرياليين أساس البلاء.

ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق كقيام ثورة [ شيعية ] تسقط نظام صدام، لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق لسبب بسيط وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني، ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة، وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج، وليس أدل على ذلك من إعلان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي دُعي بمبدأ كارتر، وجاء فيه ما يلي :
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية}.

هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج، والتي جهلها أو تجاهلها حكام البلدين، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب في القرن العشرين.

ثانيا:استمرار الحرب، وإيران تستكمل تحرير أراضيها:

اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام 1983 ـ 1986، حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين، واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان، أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب، وشنت هجوماً واسعا على القوات العراقية، مسددة له ضربات متواصلة استطاعت من خلالها تحرير مدن  [قصر شيرين] و[سربيل زهاب] و[الشوش]، وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية، ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح، والمعدات، وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه، والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تُركوا في ساحات المعارك، ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية.

 ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة، وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً، وغضباً على صدام ونظامه الذي ورط العراق بتلك الحرب، وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف، فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب الموت الزؤام.

لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ  من المال، أو قطعة أرض أو شقة  أو دار، وكانت الحكومة السعودية، وحكام دول الخليج الأخرى تدفع الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى، ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي، بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب، واستنفذ كل موارد العراق النفطية  والبالغة 25 مليار دولار سنوياً، هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون، والتي جاوزت حدود أل 90 مليار دولار.

لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره، ومستوى معيشة شعبه، نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية وأراضي زراعية خصبة، ومياه وفيرة، ولكن الجلاد آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر، والوطن نحو الدمار والخراب.

ثالثاً:الجيش الإيراني يحتل شبه جزيرة الفاو وجزر مجنون الغنية بالنفط 

اشتدت المعارك بين الجيشين العراقي والإيراني، وبدت إيران في وضع يمكنها من شن الهجمات  البشرية المتتالية، تارة على القاطع الجنوبي نحو البصرة، وتارة أخرى نحو القاطع الأوسط، حول مدن مندلي وبدرة وجصان، وتارة ثالثة نحو القاطع الشمالي المحاذي لكردستان، وكان الوضع في كردستان في غير صالح النظام، بالنظر إلى الجرائم التي أقترفها بحق الشعب الكردي، مما دفع الأكراد إلى الوقوف إلى جانب إيران رغبة في إسقاط النظام، واستطاعت القوات الإيرانية من احتلال أجزاء من المناطق في كردستان.

 أما هجماته في القاطعين الأوسط والجنوبي، فقد كان حكام العراق قد حشدوا قوات كبيرة مجهزة بشتى أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي أستخدمها صدام حسين لدحر الهجمات الإيرانية، موقعاً خسائر جسيمة في صفوف القوات الإيرانية والعراقية، حيث سقط عشرات الألوف من جنود وضباط الطرفين في تلك المعارك الشرسة التي تقشعر من هولها الأبدان، ولم يفلح الإيرانيون في الاحتفاظ بأي تقدم داخل الأراضي العراقية حتى نهاية عام 1985.

لكن الوضع أصبح خطيراً بالنسبة للعراق عام 1986، عندما استطاعت القوات الإيرانية الاندفاع نحو شبه جزيرة الفاو واحتلالها بأكملها بعد معارك دموية شرسة  ودفع فيها الشعب العراقي ما يزيد على 50 ألف من أرواح أبنائه، في محاولة من صدام حسين لاستعادتها من أيدي  الإيرانيين، وكان الإيرانيون يستهدفون من احتلالها قطع الاتصال بين العراق ودول الخليج العربي، التي كان العراق يحصل على الأسلحة والمعدات عن طريقها، إضافة إلى محاولة إيران منع العراق من تصدير نفطه عن طريق الخليج، وحرمانه من موارده النفطية اللازمة لإدامة ماكينته الحربية، وقد أضطر العراق إلى مد أنبوبين لنقل النفط إلى الأسواق الخارجية، الأول عبر الراضي التركية، والثاني عبر الأراضي السعودية بعد أن أصبح نفطه مطوقاً، وسيطرت البحرية الإيرانية على مداخل الخليج.  وأستمر الإيرانيون في تكثيف هجماتهم على القوات العراقية بعد احتلالهم شبه جزيرة الفاو وركزوا على منطقة [ جزر مجنون ] الغنية جداً بالنفط، واستطاعوا احتلالها بعد معارك عنيفة. 

رابعاً:النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل:
كاد صدام يفقد صوابه، بعد أن تطورت الأوضاع على جبهات القتال لغير صالح العراق، وبدأ يعبئ كل موارد البلاد لخدمة المجهود الحربي، كما أخذ يطلب المساعدة من دول الخليج، ومن السعودية بشكل خاص، وشعر حكام الخليج أن الخطر قد بدأ يتقدم نحو المنطقة، فسارعوا إلى تقديم كل أنواع الدعم، والمساعدة المالية، وحصل العراق في تلك الفترة على 12 مليار دولار، وكان عدد من الدول العربية كمصر والسعودية والكويت تقوم بشراء الأسلحة لحساب العراق.
غير أن حكام العراق وجدوا أخيراً أن السعي لإنشاء مصانع الأسلحة ذات الدمار الشامل يمكن أن تكون أداة فعالة لدفع الخطر عن البلاد، وتم إنشاء هيئة التصنيع العسكري، وبدأ العراق بإنتاج الأسلحة الكيماوية، مستفيدين من خبرة العلماء المصريين، وبعض العلماء الأجانب، الذين سبق وعملوا في برامج الأسلحة الكيماوية في عهد عبد الناصر، وأوقفها السادات من بعده، ثم بدأ العراق في إنتاج وتطوير الصواريخ من طراز[سكود]، وطوروا مداها لكي تصل إلى أبعد المدن الإيرانية.

  وكان الإيرانيون قد حصلوا على عدد من تلك الصواريخ، وضربوا بها العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى، حيث كانت تلك الصواريخ تطلق نحو العراق كل بضعة أيام أو أسابيع لتصيب الأهداف المدنية، وتفتك بالأبرياء، فقد أصاب أحد تلك الصواريخ مدرسة ابتدائية في بغداد، وقتل العديد من الأطفال وجرح أعداد أخرى، وكان الشعب العراقي ينتابه القلق الشديد كل يوم من هذا السلاح الخطير، حيث لا أحد يعلم متى وأين سيقع الصاروخ، وكم سيقتل من الآمنين!!.

وتمكن العراق من الحصول على أعداد كبيرة من تلك الصواريخ، وبدأ في تطويرها، وزيادة مداها، وبدأ حكام العراق يطلقونها على العاصمة  الإيرانية والمدن الأخرى بكثافة، حتى جاوز عدد الصواريخ التي أطلقوها على المدن الإيرانية أكثر من [1000 صاروخ]،منزلين الخراب والدمار بها ، وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، وأخذت الحرب تزداد خطورة وأذى للسكان المدنيين.

كما تمكن العراق من إنتاج كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية، واستخدمها في صد هجمات القوات الإيرانية منزلاً بها الخسائر الجسيمة في الأرواح، كما راح حكام العراق يعبئون صواريخ سكود بالغازات السامة، كغاز[الخردل] و[السارين] السامين، ثم بدءوا يتطلعون إلى تطوير ترسانتهم الحربية في مجال الأسلحة البيولوجية والجرثومية، وتمكنوا من إنتاجها وتعبئة القنابل بها.

أحدث برامج التسلح العراقي هذا، قلقاً كبيراً لدى إسرائيل، التي كانت تتابع باهتمام بالغ تطوير برامج التسلح العراقي، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلية [الموساد] بحملة ضد العلماء الذين ساهموا في تطوير البرامج، وضد الشركات الغربية التي جهزت العراق بالأجهزة، والمعدات اللازمة لتطويرها، وخاصة ،الشركات الألمانية والفرنسية والأمريكية والبلجيكية والسويسرية، التي بلغ عددها أكثر من 300 شركة.

كما قام الموساد باغتيال العالم المصري، والأمريكي الجنسية [ يحيى المشد]الذي عمل في تطوير الأسلحة العراقية ذات الدمار الشامل،  كما أغتال العالم البلجيكي، الدكتور[جيرالد بول] في بروكسل، حيث كان هذا العالم يعمل لإنتاج المدفع العملاق للعراق، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلي أيضاً بنسف توربينات المفاعل النووي [أوزيراك] في ميناء [مرسيليا] الفرنسي، حيث كان معداً لنقله إلى العراق. غير أن العراق واصل نشاطه في بناء مفاعل جديد بإشراف العالم النووي العراقي [جعفر ضياء جعفر]، الذي استطاع أن يحقق نجاحاً بارزاً في هذا المجال، وكان  ذلك يجري تحت سمع وبصر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين ومساعدتهم، من أجل إبقاء نار الحرب مشتعلة بين العراق وإيران. 

انتهى القسم الثالث ويليه القسم القسم الرابع والاخير
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com


61
من ذاكرة التاريخ
الحرب العراقية الايرانية
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                            2/4                             23/8/2018

بداية الحرب وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية  بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران وكافة المراكز الحيوية فيها ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية، وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة، وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين:

1 ـ الجبهة الأولى: في المنطقة الوسطى من الحدود  باتجاه [قصر شيرين]، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو محافظة ديالى و بغداد، وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال[ قصر شيرين].

2ـ الجبهة الثانية: في الجنوب نحو منطقة [ خوزستان ] الغنية بالنفط  وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى حيث تطل على أعلى الخليج.
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل استطاعت القوات العراقية التي كانت قد استعدت للحرب من السيطرة على منطقة [خوزستان] بكاملها، واحتلت مدينة [خرم شهر] وقامت بالتفاف حول مدينة [عبدان] النفطية وطوقتها.

وعلى الجانب الإيراني قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية، وقصفت العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، إلا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية، وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها، حيث تم نصب المضادات أرض جو فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى، وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد.

 وهكذا فقد فقدت إيران أعدادا كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق، كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة، مما اضعف قدرات سلاحها الجوي، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين. وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب فيما يخص تجهيزها بالأسلحة، في حين كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب.

 كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري  أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق، وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان، حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل، وقام السادات بالدور الموكول له، وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981، كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة والمدافع عيار 122 ملم طيلة سنوات الحرب.

لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي، حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي، فقد بلغ قيمة ما باعه السادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد، وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية، وكان صدام حسين مرغماً على قبولها.

أما الاتحاد السوفيتي فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق بعد توقف لفترة من الزمن  وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55  و250 دبابة طرازT 72)) كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات [ميك] و[سوخوي ] و[ توبوليف] بالإضافة إلى الصواريخ.

كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل بمليارات الدولارات لشراء الدبابات والمدرعات وأسلحة أخرى، وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية، واستمرت العلاقات التسليحية مع البرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.

 وهكذا استمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب ] و[الشوش] و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى.
                                   
كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي في العمق الإيراني عابرة نهر الطاهري، وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي بأمر من صدام حسين !!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله وتطويقه، رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهظاً من أرواح جنوده، ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش بعد عملية التطويق الإيرانية، والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي، واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان، وطرد القوات العراقية خارج الحدود.

إيران تبحث عن السلاح:
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن، وتمكنت تلك العناصرعن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراءالإسرائيلي آنذاك وهما[أودولف سكويمر]و[يلكوف نامرودي]،بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي[عدنان خاشقجي]الذي قام بدور الوسيط؟
 وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران حيث كانت تعتبر العراق يشكل خطراً عليها، وإن إضعافه وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل، ولم يكن تصرفها ذاك يجري بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة                                                                                                                                                                                        ورضاها واستراتيجيتها، إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين.
ففي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية، وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران، وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم.

إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى  تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها، وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى هي ما سمي [إيران ـ كونترا]على عهد الرئيس الأمريكي [ رونالد ريكان] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور  [جون تاور] وعضوية السناتور [ ادموند موسكي ] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت] وذلك في 26 شباط 19987، وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران، وموضوع الحرب العراقية الإيرانية، وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:
الهدف الأول: يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.
الهدف الثاني: هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي.

 لقد قام الكولونيل [ أولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس  الذي كان قد أصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى متمردي الكونترا في نيكاراغوا حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد، وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.

وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك، إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس[ريكان] ومستشاره للأمن القومي [مكفرن] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية  لإزالة ورم سرطاني في أمعائه، وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران حيث أجابه الرئيس ريكان على الفور: [أذهب وافتحه].

وبدأ الاتصال المباشر مع إيران حيث سافر [أولفر نورث] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها، وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران، لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي المتخلف، وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة.

ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران، على إسرائيل والولايات المتحدة فقط، وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة، ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.

 إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي:

 انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي نظام صدام لبناء برنامجه النووي حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار.

وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد، وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك. 
وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل، مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل، إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم] من اليورانيوم المخصب بنسبة 93%  وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية.

 لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية بعد أن غرقوا في خضم تلك الحرب المجنونة، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، ولم يدر في خلدهم أن تلك الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق الجلاد صدام الشعب العراقي بالدماء، ويعم بالبلاد الخراب والدمار، وينهار اقتصاد العراق.





62
من ذاكرة التاريخ:
الحرب العراقية الإيرانية
حامد الحمداني                                                     21/8/2018

منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 968  [عبد الرزاق النايف ] بدأ نجمه يتصاعد  حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، رغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.

وعندما حلت الذكرى الحادية عشر لانقلاب 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.

أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن  إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان وراءه !!.

أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح  الإمبريالية الأمريكية وأبرزها:

1ـ إفشال التقارب الحاصل بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ما سمي بميثاق العمل القومي آنذاك، والذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.

2ـ احتواء الثورة الإسلامية في إيران، ولاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدءوا يتطلعون إلى تصدير الثورة، ونشر مفاهيم الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل إلى ذلك هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين الكبيرين في المنطقة بحرب سعت الولايات المتحدة إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، كما سنرى .

3ـ مكافحة النشاطات الشيوعية، والإسلامية في البلاد على حد سواء، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر أفكار الثورة الإسلامية في المنطقة.

4ـ بالإضافة لما سبق كانت تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، وتزعم العالم العربي قد طغت على تفكيره، ووجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته .

لم يكن انقلاب صدام ضد البكر بمعزل عن المخططات الأمريكية، فقد قام مساعد وزير الخارجية الأمريكي بزيارة لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر وبحث معه في مسالتين هامتين بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية:

المسألة الأولى: تتعلق بتطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل التي تحرص على عدم السماح بإقامة الوحدة بين العراق وسوريا.

 المسألة الثانية: دارت حول الأوضاع في إيران، بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وسعى الموفد الأمريكي إلى تحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري، وقيل بأن الرئيس البكر لم يقتنع بفكرة الموفد الأمريكي، وخاصة وأن البكر رجل عسكري يدرك تمام الإدراك ما تعنيه الحرب من ويلات ومآسي، وتدمير لاقتصاد البلاد.

وبعد انتهاء اللقاء مع البكر التقى الموفد الأمريكي مع صدام الذي كان آنذاك نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبحث معه نفس المواضيع التي بحثها مع البكر، وقد  أبدى صدام كل الاستعداد للقيام بهذا الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.

لم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر، بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه، على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع وانتهاءً بكل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة .

لقد أخذت أجهزته القمعية تمارس أبشع الأعمال الإرهابية بحق العناصر الوطنية من ِشيوعيين وإسلاميين وقوميين وديمقراطيين، بالإضافة للشعب الكردي، وملأ السجون بأعداد كبيرة منهم، ومارس أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم  وقضى العديد منهم تحت التعذيب.

لقد كانت ماكنة الموت الصدامية تطحن كل يوم بالمئات من أبناء الشعب، لكي يقمع أي معارضة لحكمه، وحتى يصبح مطلق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات التي تتحكم بمصير الشعب والوطن، ولكي يعدّ العدة، ويهيئ الظروف المناسبة لتنفيذ الدور الذي أوكلته له الإمبريالية الأمريكية، في العدوان على إيران.

لقد وصل الأمر بصدام حسين أن جمع وزراءه، وشكل منهم فريق إعدام في سجن بغداد، لكي يرهب كل من تسول له نفسه بمعارضته، كما قام بإعدام عدد كبير من ضباط الجيش، لكي يصبح وحده الأقوى في المؤسسة العسكرية، رغم أنه لم يكن في يوم من الأيام عسكرياُ.
 
العلاقات العراقية السورية:
 رغم أن العراق وسوريا يحكمهما حزب البعث، إلا أن العلاقات بين الحزبين، والبلدين اتسمت دائماً بالخلافات والتوتر الذي وصل إلى درجة العداء والقطيعة لسنين طويلة، وتطور العداء بين الحزبين إلى حد القيام بأعمال تخريبية، وتدبير التفجيرات، وغيرها من الأعمال التي أدت إلى القطيعة التامة بين البلدين.

ولاشك أن لأمريكا وإسرائيل دور أساسي في إذكاء العداء والصراع بين البلدين الشقيقين، ذلك لأن أي تقارب بينهما ربما يؤدي إلى قيام وحدة سياسية تقلب موازين القوة بين سوريا وإسرائيل نظراً لما يمتلكه العراق من موارد نفطية هائلة،  وقوة عسكرية كبيرة، بالإضافة إلى ما يشكله العراق من امتداد إستراتيجي لسوريا في صراعها مع إسرائيل، وهذا ما تعارضه الولايات المتحدة وإسرائيل أشد المعارضة .
وفي أواخر عام 1978، وأوائل عام 1979، جرت محاولة للتقارب بين البلدين، تحت ضغط جانب من أعضاء القيادة في كلا الحزبين السوري والعراقي، وقد أدى ذلك التقارب إلى تشكيل لجان مشتركة سياسية واقتصادية وعسكرية، وعلى أثر توقيع ميثاق للعمل القومي المشترك الذي وقعه الطرفان في تشرين الأول عام 1978، وقد أستهدف الميثاق بالأساس إنهاء القطيعة بين الحزبين والبلدين الشقيقين وإقامة وحدة عسكرية تكون الخطوة الأولى نحو إقامة الوحدة السياسية بين البلدين وتوحيد الحزبين.

 كان وضع سوريا في تلك الأيام قد أصبح صعباً بعد أن خرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، وعقد السادات اتفاقية [ كامب ديفيد] مع إسرائيل مما جعل القادة السوريين يقرون بأهمية إقامة تلك الوحدة للوقوف أمام الخطر الإسرائيلي.

وبالفعل فقد تم عقد عدد من الاتفاقات بين البلدين، وأعيد فتح الحدود بينهما، وجرى السماح بحرية السفر للمواطنين، كما أعيد فتح خط أنابيب النفط [التابلاين ] لنقل النفط إلى بانياس في سوريا، والذي كان قد توقف منذُ نيسان 1976.
وفي 16 حزيران تم عقد اجتماع بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي أحمد حسن البكر في بغداد، ودامت المحادثات بين الرئيسين ثلاثة أيام أعلنا في نهايتها أن البلدين سيؤلفان دولة واحدة، ورئيس واحد، وحكومة واحدة، وحزب واحد، وأعلنا تشكيل قيادة سياسية مشتركة تحل محل اللجنة السياسية العليا التي جرى تشكيلها بموجب اتفاق تشرين الأول 1978، والتي ضمت 7 أعضاء من كل بلد، يترأسها رئيسا البلدين، وتجتمع كل ثلاثة أشهر لتنسيق السياسات الخارجية، والاقتصادية، والعسكرية.

تدهور العلاقات العراقية السورية
لم تمضِ سوى بضعة أشهر على الاتفاق الذي عقده البكر والأسد، حتى أزيح البكر عن السلطة، وتولى صدام حسين قيادة الحزب والدولة في العراق، وبدا بعد إقصاء البكر، أن هزة عنيفة قد ألمت بالعلاقة بين قيادة  البلدين والحزبين، وبدأت الغيوم السوداء تغطي سماء تلك العلاقة.
وفي 28 كانون الأول 1979، جرى لقاء قمة بين الأسد وصدام في دمشق دام يومين، وقد ظهر بعد اللقاء أن الخلافات بين القيادتين كانت من العمق بحيث لم تستطع دفع عملية الوحدة إلى الأمام، بل على العكس تلاشت الآمال بقيامها.
وهكذا بدأت العلاقة بالفتور بين البلدين من جديد، واتهمت سوريا القيادة العراقية بوضع العراقيل أمام تنفيذ ما أتُفق عليه في لقاء القمة بين الأسد والبكر.

أدى هذا التدهور الجديد في العلاقة بين الحزبين، إلى وقوع انقسام داخل القيادة القطرية في العراق، قسم وقف إلى جانب الاتفاق المبرم بين الأسد والبكر، وقسم وقف إلى جانب صدام حسين، فما كان من صدام إلا أن أتهم الذين أيدوا الاتفاق بالاشتراك بمؤامرة مع سوريا على العراق، وجرى اعتقالهم، وتعذيبهم حتى الموت، ثم أعلن صدام حسين، عبر الإذاعة والتلفزيون، أن هذه المجموعة قد تآمرت على العراق، وأحيلت إلى محكمة حزبية قررت الحكم عليهم بالإعدام وجرى تنفيذ الأحكام بحقهم. لكن الحقيقة أن هذه المجموعة أرادت تحقيق الوحدة أولاً، والتخلص من دكتاتورية صدام حسين ثانياً، بعد أن أغتصب السلطة من البكر بقوة السلاح.

وهكذا ذهبت الآمال بتحقيق الوحدة أدراج الرياح، وتدهورت العلاقة بين البلدين من جديد، وفرض صدام حسين سلطته المطلقة على قيادة الحزب والدولة دون منازع، وأصبح العراق ملجأ لكل المناوئين للحكم في سوريا ابتداءً من [ أمين الحافظ] و[ميشيل عفلق] وانتهاءً بالإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى العراق بأعداد كبيرة، بعد فشل حركتهم في مدينة حماه عام 1982.

ولم يقتصر تدهور العلاقات بين البلدين على القطيعة، والحملات الإعلامية، بل تعداها إلى الصراع العنيف بين الطرفين على الساحة اللبنانية، حيث أدخلت سوريا عدد من قطعاتها العسكرية في لبنان ضمن قوات الردع العربية لمحاولة وقف الحرب الأهلية التي اندلعت هناك عام 1975.غير أن القوات المشتركة العربية انسحبت من لبنان فيما بعد، تاركة القوات السورية لوحدها هناك.

وانتهز صدام حسين الفرصة ليرسل إلى القوى الطائفية الرجعية المعادية لسوريا السلاح والعتاد والعسكريين لمقاتلة الشعب اللبناني، والقوات السورية والفلسطينية، وأصبح لبنان مسرحاً للصراع بين البلدين، واستمر الحال في لبنان حتى سقوط حكومة [ميشيل عون] حليف صدام ضد سوريا، وانتهاء الحرب الأهلية، وانعقاد مؤتمر الطائف للأطراف اللبنانية المتصارعة لحل الخلافات بينهم، وإعادة الأمن والسلام إلى ربوع لبنان الذي مزقته تلك الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً.

  وهكذا حقق صدام حسين للإمبريالية الأمريكية ما كانت تصبو إليه، حيث عادت العلاقات بين سوريا والعراق إلى نقطة الصفر من جديد، وتحقق الهدف الأول الذي رسمته له، وبدأت تتفرغ للهدف الثاني الهام، هدف التصدي للنظام الإيراني الجديد، وخلق المبررات لصدام لشن الحرب على إيران في الثاني والعشرين من أيلول عام 1980، تلك الحرب التي كانت لها نتائج وخيمة على مستقبل العراق وشعبه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وكانت سبباً مباشراً لأقدام صدام حسين على غزو الكويت، وبالتالي قيام حرب الخليج الثانية، التي جلبت على العراق وشعبه من ويلات ومآسي ، وخراب ودمار لم يسبق لها مثيل.
العلاقات العراقية الإيرانية،ودور أمريكا في تأجيج الصراع بينهما:
اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي]، حيث قام الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية المتعلقة باقتسام مياه شط العرب بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين أحدهما للعراق والآخر لإيران، وقيام شاه إيران والولايات المتحدة بدعم الحركة الكردية التي حملت السلاح ضد السلطة القائمة آنذاك، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود، واستمرت زمناً طويلاً، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي واضطر حكام بغداد إلى التراجع، ووسطوا الرئيس الجزائري [هواري بو مدين ] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين.

 وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية، وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975، وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد!، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع البعثيون إنهاءها، وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد.

وفي عام 1979 في أواخر عهد البكر وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية، أتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة.
 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري، يقوده [حزب تودا الشيوعي]، ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ،
فهي لا ترتاح لسيطرة للطرفين. لكن التيار الشيوعي كان يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.

وبناء على ذلك فإن مجيء الشيوعيين إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت الولايات المتحدة [أهون الشرين] بالنسبة لها طبعاً!، وهو القبول بالتيار الديني  خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس ، لتسلم زمام الأمور بعد هروب الشاه من البلاد، وهكذا تمكن  التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران، من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة. فالعراق، وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما  تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.
 وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية تدعى [عربستان ].

لم يدرِ بخلد صدام حسين ماذا تخبئه له الأيام ؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب ؟ وكم ستكلف الشعب  العراقي من الدماء والدموع ، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين.
فلقد صرح الرئيس الأمريكي [ ريكان ] حول الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة}!!.
وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق  الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدين، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر، الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية، فقد ذكر في مذكراته تلك الحرب  قائلاً :{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ تمنينا أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج أحد منها منتصراً بل  كلا الطرفين مهزومين}!!.
وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.

لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون، وصور الأقمار الصناعية، تلك المجازر الوحشية التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وتفاخر صدام أمام القائم بأعمال السفارة الأمريكية بعد مغادرة السفير [كلاسبي] العراق وقبيل غزو صدام للكويت قائلا بزهو قائلاً:
{ هل تستطيع الولايات المتحدة تقديم 10 آلاف شهيد في معركة واحدة؟ نحن أعطينا 50 ألف شهيد في معركة تحرير الفاو}.

هكذا وبكل وقاحة دفع صدام وأسياده الأمريكان أكثر من نصف مليون شهيد من شباب العراق في عمر الزهور، ودون وازع من ضمير وأخلاق، كانت مصالح الإمبرياليين الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن عميلهم صدام قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم، بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني شعب جار تربطه بنا علاقات تاريخية ودينية عميقة، تمتد جذورها لقرون عديدة.

كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .

لكن ذلك التقدم لم يدم طويلاً، وتمكن الجيش الإيراني من طرد القوات العراقية الغازية من إقليم خوزستان شّر طردة  عام 1982، مكبداً القوات العراقية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، ولنا عودة إلى تلك الحرب، وتفاصيل مجرياتها، في حلقة قادمة.


63
هذا هو الطريق لإنقاذ العراق 
من ازمته الراهنة

حامد الحمداني                                              18/7/2018     
   
إن الأزمة العراقية الراهنة، والصراع المرير الذي يميّز العلاقات بين أطراف السلطة، بشقيه السياسي والعنفي، والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية الدينية والقومية الذي يعصف بالبلاد، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، وفضائح نهب المال العام التي أزكمت أنوف الشعب العراقي، والتي جاوزت مئات المليارات من الدولارات، والفقر والبطالة والجوع، وملايين المهجرين والمهاجرين، وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد خراباً حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، والمخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، والمحاولات الرامية لتمزيق العراق وطناً وشعباً من قبل الأحزاب الحاكمة نفسها، وصدار قانون لإعفاء آلاف المزورين لشهادتهم،
وهي جريمة مخلة بالشرف بموجب القانون، والمحالين للمحاكمة من قبل هيئة النزاهة، وقوات الاحتلال الأمريكية المهيمنة على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير ينذر بكارثة كبرى تهدد، وبشكل جدي، مصير ومستقبل العراق وشعبه.

وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب والوطن، فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، وعلى وجه السرعة قبل فوات الأوان، إذا أردنا صيانة الوحدة الوطنية، والقضاء على الإرهاب والإرهابيين، وعودة الأمن والسلام في ربوع العراق، والتوجه نحو إعادة بناء البنية التحتية للعراق الجديد، وفي المقدمة من هذه الإجراءات:

1ـ إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق حسب الاتفاقية الأمنية المعقودة بين الطرفين،إذا كانت هذه الدولة تحمل نوايا صادقة تجاه العراق والحرص على سيادته واستقلاله كما تدعي، على أن تُستبدلْ بقوات محايدة من الأمم المتحدة تتولى صيانة الأمن والنظام العام، والعمل على بناء جيش وأجهزة أمنية جديدة خالية من قوى الميليشيات الطائفية والأثنية، قادرة على حفظ الأمن والنظام بعد خروج قوات الأمم المتحدة.

2ـ تتولى الأمم المتحدة تشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية في الوقت الحاضر، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية أمدها ثلاث سنوات، واختيار رئيس مؤقت للبلاد من العناصر الوطنية المستقلة، المتسم بالنزاهة، ونظافة اليد، والأيمان بالعراق الحر الديمقراطي المستقل، والموحد أرضاً وشعباً.

3ـ تشكيل مجلس استشاري مؤقت يضم 150 شخصية عراقية من مختلف المناطق العراقية على أساس الكفاءة، والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لقضية البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.

4ـ يقوم أعضاء الحكومة والمجلس الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم، وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم، قبل مباشرتهم المسؤولية وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل  هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة، والمشهود لها بالنزاهة، ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة جميع السراق والمرتشين، وكل ناهبي أموال الشعب، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم بصورة علنية كي يطلع عليها الشعب لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.
 
5ـ وقف العمل بالدستور الحالي الطائفي و المختَلًفْ عليه، والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة النظر في كافة مواده من قبل لجنة دستورية مختارة من العناصر المختصة بالقانون الدستوري، والمشهود لها بالأمانة والنزاهة، والتوجه الديمقراطي، بما يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة، والشوفينية القومية، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب.

6ـ حل كافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون .

7ـ تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، والحرص على سيادة واستقلال العراق.
8ـ إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، ومنع نشاط كافة الأحزاب القائمة على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً، أو قومي شوفيني متطرف، عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً. كما ينبغي منع الأحزاب السياسية تلقي الأموال من أي جهة أجنبية، ويحصر الدعم بالحكومة العراقية فقط من خلال وضع ميزانية خاصة للأحزاب.
9ـ منع نشاط حزب البعث، ومكافحة فكره الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر.

10ـ إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض، هي ملك للشعب العراقي دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية  ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعات المناطق التي كانت أكثر تضرراً، والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.

11ـ ينبغي إعادة النظر في كافة العقود الإستشمارية في مجال النفط والغاز، وكشف المتلاعبين بتلك العقود والأضرار التي سببوها للاقتصاد الوطني، ومحاسبتهم على الثروة التي امتلكوها خلال مدة الحكم السابق دون وجه حق.
كما ينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة، وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل الشهيد عبد الكريم قاسم، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة في العراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.

12ـ تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى، ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطةبصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي وعلى قدم
 المساواة .
إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عنها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدراليات الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسعى في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني، والذي لن يخرج أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

13ـ تتولى الحكومة المؤقتة إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على أساس الكفاءة والخبرة، والأمانة والنزاهة، لكي تستطيع الحكومة إعادة بناء البنية التحتية المخربة، والنهوض بالعراق في كافة المجالات الصناعية والزراعية والاجتماعية والخدمية والصحية والتعليمية.

كما تتولى الحكومة معالجة البطالة المستشرية، وتأمين العمل الجدي والحقيقي لكل قادر على العمل، وعلى أساس الاختصاص، ومعالجة مسألة البطالة المقنعة التي ترهق ميزانية الدولة، والعمل على منع مزاولة الأطفال للعمل، وإعادتهم إلى مدارسهم حتى الدراسة الثانوية، وتأمين حياة كريمة للمواطن العراقي، ولا شك أن العراق الذي يمتلك من الثروات النفطية والغازية والمعدنية المختلفة لقادر على تحقيق ارقي مستوى معيشة للشعب إذا ما كان الحكم في أيدي أمنية ومخلصة ونظيفة اليد.

14ـ تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين من خلال سن قانون للضمان الاجتماعي والصحي، وتوزيع المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية على المحافظات بصورة عادلة، مع مراعات المحافظات الأكثر تخلفاً في هذه المجالات.
15 - الغاء قانون تقاعد اعضاء مجلس النواب وتخفيض رواتب الرئيس ورئيس الوزراء، والوزراء، والمدراء العامين، وتشكيل مجلس الخدمة يتولى امور التعيين في دوائر الدولة على اساس الكفاءة والعدالة بين المواطنين،وتحديد الرواتب والراتب التقاعدي وكل ما يتعلق بالمخصصات للدرجات العليا.
هذا هو الطريق الصائب والقادر على انتشال العراق وشعبه من الأزمة الخانقة التي يعيش في ظلها، وإن أية محاولة لإصلاح العملية السياسية الحالية ستبوء بالفشل وتقود العراق إلى منعطف خطير يصعب الخروج منه. 




64
محنة الشعب الفلسطيني ومسؤولية الحكام العرب
الحلقة الثالثة والأخيرة3/3
حامد الحمداني                                               18/5/2011

استئناف القتال، والولايات المتحدة تفرض هدنة جديدة:
عندما أكره مجلس الأمن الدول العربية على وقف القتال قي فلسطين اعتباراً من 11 حزيران 1948 وعين الوسيط الدولي [ الكونت برنادوت ] لوضع حل سلمي للمشكلة الفلسطينية !!، كان أحد شروط الهدنة هو عدم استفادة أي طرف من الأطراف لتعزيز قواته، أو تحريكها.

 لكن الحقيقة أن الصهاينة استفادوا من كل يوم، بل وكل ساعة لتعزيز مواقعهم، ولجلب الأسلحة والطائرات التي أخذت تنهال عليهم من الإمبرياليين الأمريكيين والإنكليز وغيرهم، فيما بقيت القوات العربية ملتزمة ببنود الهدنة، ولم تسعَ إلى تقوية مركزها، معتمدة على مصداقية مجلس الأمن!!.

لكن الدول العربية اضطرت في نهاية المطاف، وبعد أن وجدت التعزيزات العسكرية الصهيونية تجري ليل نهار، إلى استئناف القتال من جديد في 9 تموز، وفوجئت القوات العربية بأخذ القوات الصهيونية زمام المبادرة من أيديهم، وبدأت تهاجمهم بعنف، وخسرت القوات العربية  [صفد] و[الناصرة] و [اللد] و[الرملة] والعديد من القرى العربية، وتشرد الألوف الجدد من أبناء الشعب الفلسطيني، تاركين ديارهم وأملاكهم وأموالهم، هرباً من المذابح الصهيونية.

 وهكذا استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن تفرض على العرب هدنة جديدة، في 18 تموز 1948، وتخاذل الحكام العرب، وقبلت أربعة دول عربية هي مصر والأردن والسعودية واليمن  مبدأ التقسيم، فيما رفضت الحكومتان السورية والعراقية الهدنة، لكن الموافقة على القرار تم بالأكثرية وقبل العرب إجراء مفاوضات لعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في [لوزان ] بسويسرا.

 وقد استنكرت الأحزاب الوطنية في العراق قرار مجلس الأمن، وقبول الحكام العرب له، في بيان مشترك صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار.
 كما سيروا المظاهرات في بغداد يوم الجمعة المصادف 23 تموز 1948، احتجاجاً على قبول الهدنة، في حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً يدعو فيه إلى وقف القتال، وسحب الجيوش العربية، والقبول بقرار مجلس الأمن، وكان ذلك الموقف استمراراً لمواقفه الخاطئة من القضية الفلسطينية، والتي أضرّت بالحزب وشعبيته ضرراً بليغاً .

تطورات درامية في حرب فلسطين:
لعب الملك عبد الله، وقائد جيشه البريطاني [ كلوب باشا ] دوراً خيانيا مشهوداً، بعد أن تولى الاثنان قيادة الجيوش العربية في القاطعين الشمالي والشرقي من الجبهة .
 فبعد أن أقّر رؤساء الأركان العرب في اجتماع [ الزرقاء ] خطة عسكرية فعالة لمجابهة القوات الصهيونية، أعترض عليها كلوب باشا واستبدلها بخطة جديدة، فقد أدرك كلوب أن تنفيذ تلك الخطة سوف تفشل المخطط الإمبريالي الصهيوني، وخطة الملك عبد الله الطامع في الأرض الفلسطينية، وكان بإمكان تلك الخطة القضاء على القوات الصهيونية، ولكن إقدام كلوب باشا على إبدالها أدى إلى الفشل الذريع للجيوش العربية  وبالتالي أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة.

كان هذا على الجبهتين الشمالية والشرقية، أما على الجبهة الجنوبية التي حارب فيها الجيش المصري فكانت الخيانة اعظم، عندما جُهز الجيش المصري بالعتاد الفاسد، مما سبب كارثة للجيش، ومكّن القوات الصهيونية من محاصرته في الفالوجه، وإلحاق الخسائر الجسيمة به والاستيلاء على الفالوجة .

وعلى الأثر سافر رئيس الوزراء، مزاحم الباجه جي، إلى القاهرة، والتقى زميله رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي ] وبحثا الأحوال بعد سقوط الفالوجة، وجرى الاتفاق على إرسال لواء عراقي آلي مع فوجين سوريين لمساعدة الجيش المصري، وتم الاتفاق على موعد الهجوم على الفالوجة، ولما اطلع كلوب باشا على الخطة رفضها فوراً، وأعلن أن الجيش الأردني في منطقة القدس لن يسمح بمرور القوات العراقية والسورية، وبذلك أفشل كلوب باشا خطة رؤساء الأركان العرب لمساعدة الجيش المصري، والذي بقي يقاتل لوحده متحملاً ضغط القوات الصهيونية .

وبانكشاف هذه المؤامرة الجديدة على القضية الفلسطينية، قامت المظاهرات العارمة في بغداد احتجاجاً على تخاذل الحكومة، وضلوع العرشين الهاشميين في تلك المؤامرة، وقد وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، أصيب على أثرها أكثر من 200 من المواطنين بجراح، واعتقلت السلطات أعداد كبيرة أخرى منهم .

كما قام وفد من نواب المعارضة بمقابلة ولي العهد عبد الإله، ورئيس الوزراء الباجه جي، بعد اجتماع عقده نواب المعارضة، وقدموا مذكرة باسم المعارضة لهما، وقد دعت المذكرة إلى عدم التزام العراق بالهدنة التي تنتهكها إسرائيل باستمرار، والعمل فوراً على تقديم العون العسكري للقوات المصرية التي بقيت تقاتل لوحدها، وقطع النفط عن الدول الإمبريالية التي تدعم العصابات الصهيونية، وإنذار بريطانيا بإلغاء معاهدة التحالف معها إذا ما استمرت في سياستها الحالية .

كما فضحت المذكرة الدور الخياني لحكومة الأردن، وحذرت من أن  ترك مصر لوحدها سوف يؤدي إلى انهيار الجامعة العربية، وانعزال مصر عن القضايا العربية، وفقدان الأمل في قيام وحدة عربية.

 وقد وقّع على المذكرة كل من السادة النواب : خميس الضاري  ـ ذيبان الغبان  ـ داؤد السعدي ـ عبد الرزاق الظاهر  ـ محمد حديد ـ عبد الجبار الجومرد ـ عبد الكريم كنه  ـ فائق السامرائي  ـ إسماعيل الغانم  ـ  روفائيل بطي ـ عبد القادر العاني  ـ نجيب الصايغ ـ عبد الرزاق الشيخلي ـ هاشم بركات ـ حسن عبد الرحمن ـ جعفر البدر ـ ريسان كاطع ـ مصلح النقشبندي ـ خدوري خدوري  ـ جميل صادق ـ برهان الدين باش أعيان  ـ عبد الرحمن الجليلي  ـ محمد مهدي كبه  ـ حسين جميل و أركان العبادي ، وقد قدم النواب صورة من هذه المذكرة إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان .
وبالنظر لتطور الأحداث بهذا الشكل المتسارع، وشدة الانتقادات التي وُجهت للحكومة، ولخطورة الموقف، لم يجد مزاحم الباجه جي أمامه من طريق سوى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي، في 6 كانون الثاني 1949، وتم قبول الاستقالة على الفور، وكلف الوصي رجل بريطانيا القوي في العراق  نوري السعيد، لتأليف وزارته العاشرة  في اليوم نفسه .
مصير القسم العربي من فلسطين: 
بعد إعلان قبول الدول العربية بالهدنة الثانية، والقبول بتقسيم فلسطين، قدمت الحكومة المصرية اقتراحاً لجامعة الدول العربية يقضي بإعلان حكومة عموم فلسطين العربية، على أن يعّين [ احمد عرابي باشا ] حاكماً عليها، وقد أيد العراق الاقتراح المصري، وأيده فيما بعد كل من  لبنان والسعودية واليمن، وعارضه الملك عبد الله الذي كانت بريطانيا قد وعدته أثناء زيارته الرسمية للندن  في 21 شباط 1946 بضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارته [ شرق الأردن ]آنذاك، إذا ما حان الوقت لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولذلك جاءت معارضة الملك عبد الله، والتي اتسمت بالشدة،  وهدد باتخاذ أشد الإجراءات الهادفة إلى إحباط الاقتراح المصري .

ودبر الملك عبد الله، بالتعاون مع الإنكليز، ما سمي [مؤتمر أريحا ] والذي جاءوا له بعدد من الشخصيات الفلسطينية الموالية لبريطانيا، وللملك عبد الله، ليقرروا ضم الجزء العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن لتشكل دولة الأردن بضفتيه، فيما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وهكذا اختتمت المسرحية التي أخرجتها الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، ونفذها الحكام العرب، وكان ضحيتها ليس شعب فلسطين فحسب، بل الشعب العربي كله.

 فقد أصبحت إسرائيل مصدراً للعدوان والتوسع على حساب البلدان العربية، واضطرت هذه البلدان إلى خوض عدة حروب معها، وكانت إسرائيل توسع كيانها في كل مرة على حساب العرب، ناهيك عن أنهاك الاقتصاد العربي بسبب تلك الحروب، والتسلح المستمر منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

أثارت تلك المؤامرة الكبرى نقمة الشعوب العربية على حكامها، وأدركت هذه الشعوب أن الداء هو في وجود هؤلاء الحكام على رأس السلطة، وأن لا سبيل لإصلاح الأمور إلا بتغيير الأوضاع فيها، كما أن الجيوش العربية التي عادت إلى بلدانها، ومرارة الحزن والأسى بادية على وجوه الجنود والضباط المغلوبين على أمرهم قد أدركوا أن الحكام العرب هم أساس البلوى، فقد باعوا  أنفسهم للإمبريالية، ونفذوا مخططاتها في المنطقة العربية، وكان من بين أولئك الضباط قائد ثورة 23 يوليو في مصر [ جمال عبد الناصر ] و قائد ثورة 14 تموز في العراق الزعيم الشهيد[ عبد الكريم قاسم ].
 ونتيجة لتك التطورات التي أفرزتها الحرب، شهدت البلدان العربية بعد عام النكبة 1948 تغيرات كثيرة حيث اختفت رموز كثيرة من المسرح السياسي، فقد وقع انقلاب عسكري في سوريا في 30 آذار 1949 بقيادة [ حسني الزعيم]،  وقتل الملك عبد الله في 20 تموز 1951، كما جرى اغتيال رئيس وزراء مصر  [محمود فهمي النقراشي ]، واغتيال رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح ] إثناء زيارته الرسمية إلى عمان في 16 تموز 1951 .
أما في العراق فقد جرت المعارك في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية بين قوات السلطة القمعية والشعب، وتم إسقاط وزارة صالح جبر الموالي للإنكليز، وفي مصر جاءت ثورة 23 يوليو في  مصر، وتم إسقاط حكم الملك فاروق، أحد المسؤولين الكبار عن النكبة، وفي لبنان وقع انقلاب عسكري في 18 أيلول 1952  أطاح بالرئيس اللبناني [ بشارة الخوري]، وأخيراً تكلل نضال الشعب العراقي بالنجاح في ثورة 14 تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي الموالي للإنكليز.



65
في الذكرى االسبعين للنكبة
أضواء على القضية الفلسطينية
حامد الحمداني                                            15/5/ 2018
مقدمة حول القضية الفلسطينية
بدأت المشكلة الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 باندحار الدولة العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو] السرية، فقداحتلت بريطانيا العراق وفلسطين وشرق الأردن ومصر والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية.
وكانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917، عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده المشؤوم الذي عرف باسمه.
بدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وصلة الوصل بين مشرقه ومغربه، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد، قبل أن تجلوا تلك القوات، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل.
وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسَّ بالمؤامرة التي تحاك ضده، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين.
فقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح، وبقسوة ليس لها مثيل، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح
أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه، ولم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين.

وحين قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان [كتابها الأبيض] الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية.

 فقد اعترفت باستقلال فلسطين، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي.

 فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم، لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها ومستشاريها باسم الانتداب.

بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة الهاجانا] و[منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون]، وقدمت بريطانيا لهم السلاح، وكل المساعدات الممكنة، لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على السلاح  حتى ولو طلقة واحدة.

وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية] بعد الفورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين. وجاء تقرير اللجنة في 16 آذار 1946 مخيباً الآمال العربية واستفزازاً لها.
فقد جاء في التقرير خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود.
أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة، وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت الحكومة العراقية برئاسة جميل المدفعي، تحت ضغط الجماهير الشعبية، إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة،  لكن حكومة المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير.

وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان] بسوريا، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعلن عن قيام دولة صهيونية، لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين!!، بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وصحراء سيناء إلى أن عقد السادات معها معاهدة [ كامب ديفد ]، كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا.

ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني]
وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلوأمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين.

وفي 22 تشرين الأول من نفس العام عقد رؤساء العشائر العربية والكردية واليزيدية مؤتمراً في مدينة الحلة لبحث القضية الفلسطينية، وخرجوا بمقررات عديدة، كان أهمها إرسال المتطوعين إلى فلسطين للتصدي للعصابات الصهيونية، إلا أن تلك القرارات بقيت حبراً على ورق، ولم يجد تنفيذها النور، ولاشك أن الإنكليز كانوا وراء إفشال ذلك المؤتمر في تنفيذ قراراته.

وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع الأنكلو أمريكي، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي.

وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون.
وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [الهاجانا] و[ الماباخ ]،القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي.

سادت التظاهرات أرجاء البلاد، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني.

 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم، وقيام الكيان اليهودي، وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب.

 وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية.

وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان، وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة تذكر.

وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة، على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة.
وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم ، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تجاب مطالبهم.

وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين.

ومن جهة أخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين، وبالتنسيق معهم ومع الولايات المتحدة، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم.

ولم يكن الحكام العرب الذين نصبهم الإمبرياليون جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !.



66
من الذاكرة
الجبهة الوطنية لخوض الانتخابات عام 1954
حامد الحمداني                                              2/4/2018

رداً على سياسة السلطة الحاكمة المتجاهلة لإرادة الشعب دعت الأحزاب والقوى السياسية، وكافة المنظمات الديمقراطية والنقابات، إلى لقاء يهدف إلى تشكيل جبهة وطنية موحدة لخوض الانتخابات البرلمانية .
 وبالفعل تم اللقاء الذي حضره ممثلون عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي وحركة أنصار السلام ومنظمات الطلاب والشباب، والنقابات العمالية والمهنية كنقابة المحامين والأطباء، وممثلي الفلاحين، وتدارس الجميع موضوع ضرورة إقامة جبهة وطنية لخوض الانتخابات العامة، وقد تم التوقيع على الميثاق في 12 أيار 1954، وكان لهذا الميثاق وقع الصاعقة على الحكومة والبلاط الملكي، فقد تضمن الميثاق البنود التالية:
1ـ إطلاق كافة الحريات الديمقراطية كحرية الرأي، والنشر، والاجتماع، والتظاهر والإضراب، وتأليف الجمعيات، وحق التنظيم السياسي، والنقابي.
2ـ الدفاع عن حرية الانتخابات.
3ـ إلغاء معاهدة 1930، والقواعد العسكرية، وجلاء الجيوش الأجنبية، ورفض جميع التحالفات العسكرية الاستعمارية بما فيها الحلف التركي الباكستاني، وأي نوع من أنواع الدفاع المشترك .
4ـ رفض المساعدات العسكرية الأمريكية التي يراد بها تقييد سيادة العراق، وربطه بالتحالفات العسكرية الاستعمارية.
5ـ العمل على إلغاء امتيازات الشركات الأجنبية الاحتكارية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء دور نظام الإقطاع، وحل المشاكل الاقتصادية القائمة، ومشكلة البطالة المستفحلة، وغلاء المعيشة، ورفع مستوى معيشة الشعب بوجه عام، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها.
6 ـ العمل على إزالة الآثار الأليمة التي خلفتها كارثة الفيضان عام 1954، بإسكان جميع المشردين من ضحايا تلك الكارثة، وتعويض المتضررين، وتأليف لجنة نزيهة محايدة لتحديد مسؤولية المقصرين، واتخاذ كل ما يلزم لدرء أخطار الفيضان في المستقبل.
7ـ التضامن مع الشعوب العربية، في كفاحها العادل من أجل استقلال البلاد العربية، وتحرير فلسطين .
8 ـ العمل على إبعاد العراق والبلاد العربية عن ويلات الحرب.
وقد وقع على الميثاق كل من:
1ـ ممثل الحزب الوطني الديمقراطي
2 ـ ممثل حزب الاستقلال
3 ـ ممثل الفلاحين، نايف الحسن       
4 ـ ممثل العمال ـ كليبان صالح
5 ـ ممثل الشباب ـ صفاء الحافظ       
6 ـ ممثل الأطباء ـ د . احمد الجلبي 
7 ـ ممثل المحامين ـ عبد الستار ناجي     
 8 ـ ممثل الطلاب ـ مهدي عبد الكريم
 وطبيعي أن الخمسة الأخيرين كانوا يمثلون الحزب الشيوعي، بسبب الحظر المفروض على الحزب، وملاحقة أعضائه ومؤيديه، فقد جرى الاتفاق على تمثيل الحزب الشيوعي بهذه الطريقة .
أحدث إعلان ميثاق الجبهة الوطنية في 12 أيار 1954 زلزالاً  كبيراً لدى السلطة الحاكمة، التي أقلقها أشد القلق اللقاء الذي تم بين الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي بهذا الشكل العلني الواسع الذي ينم عن التحدي، وأخذت هذه السلطة تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون نجاح مرشحي الجبهة الوطنية في الانتخابات بكل الوسائل والسبل، من إرهاب وتزوير ورشاوى وغيرها.

وفي المقابل نشطت الجبهة الوطنية في تعبئة الجماهير الشعبية لخوض المعركة الانتخابية، وتحدي إجراءات السلطة مهما كلفها الأمر.

 ونشطت القوى المؤيدة للبلاط، وبضمنها حزبا نوري السعيد، وصالح جبر [الاتحاد الدستوري] و[حزب الأمة الاشتراكي] وشيوخ الإقطاع الموالين للبلاط، مكونين جبهة واحدة على الرغم من التنافس بين البلاط وكتلة نوري السعيد، والذي بدا واضحاً عند تأليف وزارة ارشد العمري التي لم يدخلها أحد من حزب نوري السعيد، لكي يضمن عبد الإله أغلبية موالية له في الانتخابات.

 تم تحديد يوم الأربعاء المصادف 9 حزيران للانتخاب، وكان النشاط من قِبل الطرفين يجري على قدم وساق، ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي جرت فيه تلك الانتخابات، والأيام التي سبقته، حيث كانت القوى الوطنية تعمل متكاتفة كخلية نحل في أعداد وتعبئة الجماهير للمشاركة في الانتخاب، والتصويت لمرشحي الجبهة الوطنية في الموصل.

 وكان لي شرف المساهمة النشطة بتلك الحملة الانتخابية، حيث عملنا المستحيل من أجل فوز كافة مرشحي الجبهة الوطنية، وإفشال مرشحي الحكومة والبلاط، رغم كل المحاولات التي بذلتها الإدارة، والأجهزة الأمنية للتلاعب في الانتخابات حيناً، وفي التهديد وإخافة الناس البسطاء حيناً آخر. لقد كان ذاك اليوم عيداً وطنياً كبيراً لدى أبناء الشعب في الموصل، فقد فاز مرشحو الجبهة الوطنية بالمقاعد الخمسة المخصصة لمدينة الموصل، آنذاك، وفشل كافة مرشحي السلطة والبلاط.
 وخرجت الجماهير الشعبية في اليوم التالي لتوديع النواب المنتخبين في طريقهم إلى بغداد لحضور الجلسة الأولى للمجلس النيابي، وقابلتنا الشرطة بالهراوات، وأخذت تلاحق جماهير الشعب، وتم اعتقال أعداد منا، واستطعتُ الهرب من أيدي شرطة نوري السعيد قافزاً فوق سياج المقبرة التي على يسار الطريق الذي سلكته المظاهرة لكني سقطت على الأرض، وكان فيها بقايا زجاج قنينة مكسورة فأصبت بجرح في ساقي واستطعت ربط الجرح بمنديل والسير في المقبرة على عكس الطريق لكي أصل إلى منطقة بعيدة عن أنظار الشرطة حيث خرجت للشارع واستأجرت عربة[ ربل] وعدت إلى البيت. لقد كان هربي قد أنقذني من الفصل من وظيفتي، حيث كنت آنذاك مديراً لمدرسة الحضر، وساعدتني الصدفة على التخلص من الاعتقال.

لكن الانتخابات التي جرت في بقية المناطق كانت بعيدة كل البعد عن التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب، وذلك بسبب هيمنة الإقطاعيين الواسعة، وبسبب تدخلات السلطة، وخاصة في بغداد، والمدن الرئيسة، فكانت النتيجة فوز 11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع عدد النواب البالغ  135 نائباً، فيما فاز حزب نوري السعيد [ الاتحاد الدستوري] بـ51 مقعدا، وفاز حزب صالح جبر [ الأمة الاشتراكي] بـ 21 مقعداً،فيما  فاز 38 إقطاعياً من أعوان السلطة الحاكمة بالتزكية دون منافس.

 رفعت الجبهة الوطنية مذكرة إلى الحكومة، وموجهة بالذات إلى وزير الداخلية، في 1 حزيران 1954، تحتج فيها على الانتهاكات الصارخة، والتدخلات غير المشروعة للسلطة في الانتخابات، وحرمان مرشحي الجبهة الوطنية من حق الدعاية الانتخابية، وعقد الاجتماعات الانتخابية والاتصال مع جماهير الشعب، وإشاعة الخوف والإرهاب بين الناس، واعتقال مؤيدي الجبهة الوطنية، وزجهم في السجون، بشكل سافر أمام أعين الجماهير الشعبية لإرعابهم ومنعهم من التصويت لمرشحي الجبهة الوطنية. كما جرى إبعاد مرشحي الجبهة الوطنية في الحلة والكوت عن مناطقهم الانتخابية مخفورين، حيث تم نقلهم بالسيارات المسلحة للشرطة.

كما جرت مذبحة في مدينة الحي عندما حاول أبناء الشعب تقديم المرشح المنافس للإقطاعي الكبير[عبد الله الياسين]، حيث قام رجاله البالغ عددهم أكثر من 100 مسلح بالاعتداء على أبناء الشعب، وقد ذهب ضحية الاعتداء المسلح أحد المواطنين وجرح 15 آخرين.
 أثارت المذبحة هيجاناً شديداً لدى الجماهير الشعبية، وهبت المظاهرات  المنددة بالإقطاع والسلطة الحاكمة، وقد شارك في المظاهرات سائر أبناء الحي نساءً ورجالاً، وقد تصدت لهم قوات الشرطة بكل الوسائل القمعية، حيث وقع المزيد من الجرحى، وألقت الشرطة القبض على 74 مواطناً، حيث أحيل  52 فرداً منهم إلى المحاكمة، وحكم على اثنين من  المناضلين الشيوعيين بالإعدام، وعلى الباقين بالسجن لمدد مختلفة.
 بهذا الأسلوب، وبهذا الجو الإرهابي أجرت السلطة الحاكمة الانتخابات، كي تضمن فوز مرشحي النظام، في محاولة مستميتة منها لمنع وصول أي معارض إلى قبة البرلمان.
ومع أن عدد الفائزين من مرشحي الجبهة الوطنية كان 11 نائباً فقط، فقد أقلق ذلك العدد السلطة الحاكمة كثيراً، وهالها أن ترى نخبة مثقفة واعية على مقاعد البرلمان، تقف بالمرصاد للمخططات الإمبريالية التي يراد بها ربط العراق بالأحلاف العدوانية، وبدأت تفكر بالتخلص منهم ومن هذا البرلمان منذ أن أعُلنت نتائج الانتخابات.

لم يعقد المجلس الجديد سوى جلسة واحدة فقط، في يوم الاثنين 26 تموز 1954، لسماع خطاب العرش، فقد صدرت الإرادة الملكية بتعطيله حتى تم حله على يد حكومة نوري السعيد التي خلفت حكومة أرشد العمري بعد الانتخابات، وصدرت الإرادة الملكية بحله في 3 آب 1954، لكي يجري نوري السعيد انتخابات جديدة، يحول فيها دون وصول أي معارض إلى البرلمان، فكانت النتيجة المجئ بمجلس التزكية المعروف، والذي سأتحدث عنه في حلقة قادمة .



67
من الذاكرة

مؤامرة رشيد عالي الكيلاني على ثورة 14 تموز
وقائدها عبد الكريم قاسم
حامد الحمداني                                                     31/3/2018

 رشيد عالي الكيلاني، رئيس وزراء سابق، ووزير مخضرم في العهد الملكي، حيث شغل العديد من المناصب الوزارية، ولعب دوراً كبيراً في تحريك العشائر لإسقاط العديد من الوزارات، والإتيان بغيرها، مستغلاً العشائرية والطائفية المقيتة.

 قاد الكيلاني في عام 1941 انقلاباً ضد حكومة [ياسين الهاشمي] بمعاونة قادة الجيش كل من العقداء الأربعة [صلاح الدين الصباغ ] و[ كامل شبيب ] و[محمود سلمان] و[فهمي سعيد] وشكل وزارة برئاسته، وعلى اثر ذلك هرب الوصي عبد الإله إلى القاعدة البريطانية في الشعيبة.
 لكن القوات البريطانية احتلت بغداد وأعادت الوصي عبد الإله إلى العرش من جديد، وهرب الكيلاني إلى خارج العراق، حيث تمكن من الوصول إلى المانيا، وبقي فيها إلى ما قبل سقوط برلين برعاية هتلر حيث هرب إلى سويسرا ومنها إلى السعودية، وأخيراً أستقر به المقام في مصر.
 وعندما قامت ثورة 14 تموز عام 1958، أصدرت حكومة الثورة قراراً بالعفو عنه، حيث كان قد حكم عليه بالإعدام، واعتبرت حركة أيار 1941 حركة وطنية، وأُعيد الاعتبار  لقادتها، وعليه فقد عاد رشيد عالي الكيلاني إلى العراق في الأول من أيلول 1958، بعد غياب دام 17 سنة مكرماً معززاً كأحد أبطال حركة مايس 1941، وقبل عودته قابل الرئيس عبد الناصر، وصرح بعد المقابلة أنه يشعر بوجوب إقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. قام عبد السلام عارف بزيارته في بيته، كما أستقبله عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع مرحباً به بوصفه قائداً لحركة أيار 941.

 لكن الكيلاني سرعان ما عاد إلى عادته القديمة ليشبع رغباته وشهوته للحكم ولم يمضِ على عودته سوي أيام قلائل حتى أصبح داره ملتقى لأصدقائه وأعوانه من الإقطاعيين والعديد من القوميين، وكان في مقدمة أولئك أبن أخيه[مبدر الكيلاني] والمحامي [عبد الرحيم الراوي] و[عبد الرضا سكر]، كما كان على علاقة وثيقة بسفارة الجمهورية العربية المتحدة.
فُوجئ الشعب العراقي في 8 كانون الثاني  1959 بإذاعة بيان من دار الإذاعة صادر من القائد العام للقوات المسلحة[عبد الكريم قاسم]جاء فيه : {أيها الشعب العراقي العظيم: بعون الله القدير، وبيقظة الشعب، تمّ اكتشاف مؤامرة خطيرة كان مقرراً لها أن تنفذ ليلة 8/9 لتعرض وحدة ومصير جمهوريتنا إلى الخطر وتشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، وتهدد الأمن الداخلي، هذه المؤامرة هي من تدبير بعض العناصر الفاسدة  أُعدت بمساعدة الأجنبي من خارج البلاد، وإن الأدلة والأموال والأسلحة التي كانت ستستخدم لتنفيذ هذه المؤامرة قد تم وضع اليد عليها، كما أن الضالعين والمدبرين لها قد أُحيلوا إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة[محكمة الشعب] لمحاكمتهم بتهمة الخيانة والتآمر على الوطن. إننا ندعو الشعب إلى مزيد من اليقظة والحذر من أجل المحافظة على النظام العام، وإحباط الأعمال الدنيئة للعناصر المخربة في جمهوريتنا الخالدة }.

كما قام تلفزيون بغداد بعرض جانب من الأسلحة والأموال التي تم ضبطها مع المتآمرين، لكنه لم يوضح البيان بادئ الأمر طبيعة المؤامرة، ولا أسماء القائمين بها، ولا الدولة التي كانت وراءها، غير أن راديو بغداد ذكر في اليوم التالي أن الرجعية التي تضررت مصالحها سبب قانون الإصلاح الزراعي، والشعارات القومية المزيفة، كانت وراء تلك المؤامرة.

 وبعد أسابيع من صدور البيان، تبين أن رشيد عالي الكيلاني كان على رأس تلك المؤامرة التي ضمت زمرة من الإقطاعيين وعدد من الضباط المحسوبين على الجناح القومي، وكان من بين تلك الزمرة أبن أخيه [مبدر الكيلاني] والمحامي [عبد الرحيم الراوي] و[عبد الرضا سكر] بالإضافة إلى عدد من شيوخ العشائر، وعدد من الضباط، كان بينهم مدير الشرطة العام العقيد [طاهر يحيى] وآمر الكلية العسكرية العقيد [عبد اللطيف الدراجي] ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية العقيد [رفعت الحاج سري]، والزعيم الركن [عبد العزيز العقيلي]  قائد الفرقة الأولى في الديوانية، والعقيد الركن[عبد الغني الراوي] أمر الفوج الثالث من اللواء الخامس عشر بالبصرة وغيرهم من صغار الضباط.

 كما تبين للمحكمة أن رشيد عالي الكيلاني كان على اتصال وثيق بسفارة الجمهورية العربية المتحدة، وبشكل خاص مع رجال المخابرات والملحقين العسكريين [عبد المجيد فريد] و[ طلعت مرعي ] و[ محمد كبول ].

كان من المقرر أن تقوم الحركة الانقلابية بتدبير الفوضى والاضطراب، وذلك عن طريق قطع خطوط الهاتف، وإخراج القطارات عن سكتها، واعتراض البريد، ووضع العوارض في الطرقات، وركز الكيلاني على جهود حركته في مناطق العشائر، في جنوب العراق والفرات الأوسط، وعندما يتم لهم إثارة القلاقل والاضطرابات والبلبلة يتقدمون بطلب استقالة عبد الكريم قاسم مدعين أنه قد أوصل البلاد إلى الخراب والانقسام!!، وإذا رفض الاستقالة يتحرك الضباط المشاركون في المحاولة لإسقاطه بالقوة، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الكيلاني، ويعلن نفسه حاكماً عسكرياً عاماً، وقائماً بمهام رئيس الجمهورية.
كما كان مقرراً تأليف مجلس لقيادة الثورة مؤلفاً من 15 عضواً، وتقرر أيضاً فور نجاح المؤامرة تأليف وزارة جديدة، وإعلان انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة، كما خطط المتآمرون لإلغاء قانون الإصلاح الزراعي، والقيام بحملة لإبادة الشيوعيين وأنصارهم .
لقد هيأ الانقلابيون الأسلحة المهربة من العربية المتحدة[ القطر السوري] لكي توزع على مناصريهم حال بدء الحركة، كما أُعدت الطائرات العسكرية في سوريا لإسقاط التجهيزات العسكرية في أي منطقة من العراق يكون المتآمرون بحاجة إليها، كما تلقى الكيلاني مبالغ نقدية من السفارة المصرية لتوزيعها على شيوخ العشائر، عن طريق المصرف الوطني للتجارة والصناعة. 
عيّنَ المتآمرون ليلة 8/9 من كانون الأول 958 للشروع بالمؤامرة، لكن المخابرات العراقية استطاعت كشف المؤامرة قبل وقوعها، حيث تمكنت من الوصول إلى عبد الرحيم الراوي، ومبدر الكيلاني، واستطاعت نيل ثقتهما، وتمكنت من الوصول إلى كثير من أسرارها، وتسجيل أحاديث المتآمرين بكل تفاصيل المؤامرة.

مَثلُ كل من رشيد عالي الكيلاني و مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة حيث جرت محاكمتهم ليلة 9/10 كانون الأول، وصدر الحكم على مبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي بالإعدام، ولم يثبت الاتهام ضد رشيد عالي الكيلاني، وتمت تبرئته من تهمة الاشتراك في المؤامرة.
غير أن المحكمة استدعته مرة أخرى يوم 15 كانون الأول بتهمة جديدة هي تحريض دولة أجنبية على القيام بأعمال عدوانية ضد العراق، بعد أن تقدم كل من[مبدر الكيلاني] و[عبد الرحيم الراوي] برسالة إلى رئيس المحكمة طالبين الحضور إلى المحكمة لتقديم إفادة جديدة عن دور[رشيد عالي الكيلاني] في المؤامرة، وقد استجابت المحكمة إلى طلبهما واستدعتهما للتحقيق من جديد، حيث تحدثا أمام الهيئة التحقيقية بالتفصيل عن دور رشيد عالي الكيلاني بالمؤامرة، وهكذا أصبح الاثنان شاهدا إثبات في قضية جديدة.

كما استقدمت المحكمة شهوداً آخرين كان من بينهم[عبد الرضا سكر]. وفي 17 كانون الأول صدر الحكم ضد رشيد عالي الكيلاني بالإعدام شنقاً حتى الموت.
لكن عبد الكريم قاسم لم يتخذ أي أجراء فعّال ضد الضباط المشاركين في المؤامرة، بل أكتفي باحتجازهم لفترة قصيرة ثم أفرج عنهم، وعين عدد منهم في مناصب مدنية، وشارك هؤلاء فيما بعد في اغتيال الثورة، وعبد الكريم قاسم نفسه، فقد كان لهم دور رئيسي في انقلاب 8 شباط 1963 وكان تصرف قاسم هذا يمثل أحد أخطائه الكبرى في مهادنته وتسامحه مع المتآمرين والعفو عنهم لكي يكرروا أفعالهم من جديد التآمر على الثورة وعليه هو بالذات.   
حرص قاسم على أن تجري المحاكمة في بادئ الأمر بصورة سرية، نظراً لعلاقة الجمهورية العربية المتحدة بها، لكي لا يجعل المحاكمة سبباً في زيادة التوتر بين البلدين، ولم ينبس عبد الكريم قاسم بكلمة واحدة بحق الرئيس عبد الناصر طوال مدة حكمه.
غير أن المحكمة ارتأت بعد افتضاح أمر[الكيلاني] واعترافات مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي أن تُجرى بصورة علنية، حيث افتضح دور العربية المتحدة في تلك المؤامرة.

 وعلى اثر ذلك تعرضت محكمة الشعب إلى حملة شعواء من العربية المتحدة، والعناصر القومية والقوى الرجعية وعملاء الإمبريالية، وشركات النفط، وشيوخ الإقطاع الذين تضررت مصالحهم من جراء قانون الإصلاح الزراعي، وجردوا من سلطانهم على ملايين الفلاحين، وفقدوا مراكزهم السياسية في البلاد.

 لكن مهما قيل عن [محكمة الشعب] ورئيسها الشهيد العقيد [ فاضل عباس المهداوي ] فأن تلك المحكمة كانت تمثل ضمير الشعب العراقي، فقد كانت تعقد جلساتها بصورة علنية، وتنقل للعالم على الهواء مباشرة عن طريق الإذاعة والتلفزيون، وتوكل المحامين للمتهمين، وتمنحهم حرية الدفاع عن أنفسهم واستدعاء شهود الدفاع.

 إن على الذين أدانوا و يدينوا محكمة الشعب ورئيسها الشهيد فاضل عباس المهداوي أن يحدثونا عن محاكم العهد الملكي، ومجالسه العرفية كمحكمة النعساني، ومحاكم انقلابيي 8 شباط 963 الفاشيين، وعن المحاكم الصدامية الذائعة الصيت، وجرائمها البشعة بحق الإنسانية التي أكدتها محاكمة المجرم عواد البندر رئيس ما كان  يسمى بمحكمة الثورة، والذي كان يصدر أحكام الإعدام بالجملة، ووصل به الأمر بمحاكمة العديد من المواطنين الذين كانوا قد استشهدوا في أقبية المخابرات تحت التعذيب الوحشي، والحكم بالإعدام على أطفال لم يتجاوزا الرابعة عشرة من العمر، وتنفيذ تلك الأحكام دون وازع من قانون ولا أخلاق ولا ضمير، فقد كانوا أولئك الحكام أدوات طيعة بيد الدكتاتور الأرعن صدام حسين الذي كان هو بالذات من يصدر الأحكام بالموت على المواطنين قبل أن تجري محاكمتهم الشكلية، ومن دون أن يكون لهم حق الدفاع الشخصي، ولا توكيل محامين للدفاع عنهم.


68
الماركسية هي الوسيلة الوحيدة للطبقة العاملة
 لتحقيق حلم البشرية
حامد الحمداني                                      25/3/2018
أحدث سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتكاسة كبرى ليس فقط بالنسبة لشعوب هذه البلدان وحلمهم في قيام عالم جديد قائم على أسس من العدالة الاجتماعية، وإنهاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان، بل أن الكارثة قد حلت بالعالم اجمع، بعد أن اصبحت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة القطب الأوحد والأقوى في العالم، وتحول هذا العالم في عهد العولمة إلى سوق مفتوح، وتداخل واسع النطاق للرأسمال العالمي والشركات المتعددة الجنسيات، ولاسيما بعد حصول هذا التطور السريع والكبير لوسائل الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ولم تعد الحدود تقف حائلاً أمام تداخل وهيمنة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

لقد أدى هذا التغيير الدرامي المتسارع إلى اشتداد الضغوط التي تمارسها الرأسمالية العالمية على الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم بعد أن فقدت سندها القوي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، واشتداد قبضة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الطبقة العاملة، واغتصاب حقوقها المشروعة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان العامل الذي هو العنصر الحاسم في خلق كل هذه المنجزات التي تشهدها البشرية في عالم اليوم، ولا تحصل لقاء جهدها الكبير سوى النزر اليسير، في حين تتكدس مئات المليارات في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية والكارتيلات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى.

لقد باتت الرأسمالية العالمية أكثر جشعاً في استغلال جهد الطبقة العاملة، وزاد من هذا الاستغلال التطور الهائل في وسائل الإنتاج ودخول عصر الأتمتة الذي حول العامل إلى آلة صماء لا تستطيع الفكاك من متابعة العمل ولو للحظة واحدة، حيث يفرض هذا التطور أن يسير العمل دون توقف في كل مراحل الإنتاج، فأي تأخر في أي من مراحل الإنتاج يؤدي إلى تأخر المراحل التالية، وهكذا تصبح الآلة هي التي تتحكم في عمل الانسان، ولذلك فلابد للعامل أن يتحول في نهاية المطاف إلى جزء من هذه الآلة حيث يستنزف أقصى طاقته في هذا العمل المستمر دون توقف.

إن هذا التطور في وسائل الإنتاج، وتصاعد الاستغلال لجهد الطبقة العاملة، وتصاعد الضغوط التي يفرضها طبيعة العمل لابد أن يفرض على الطبقة العاملة أن تغير أساليب نضالها المشترك كماً ونوعاً من خلال تنظيماتها السياسية والنقابية كي تستطيع فرض شروط عمل أفضل، وأجور تتناسب والجهد المبذول، والذي يحقق للطبقة العاملة مستوى من الحياة المعيشية تليق بالإنسان على المدى القريب، والسعي الجاد والمتواصل من خلال تنظيماتها الحزبية المسترشدة بالماركسية وتطويرها بما يتلاءم والعصر الحالي وخلق الظروف التي تمكن في نهاية المطاف نضال الطبقة العاملة من أجل تغيير حقيقي لعلاقات الإنتاج، وهو الذي يمثل الهدف الأبعد لنضال الطبقة العاملة.

إن فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لن تكون نهاية المطاف أبداً، والمجتمع الإنساني سبق أن مر بمراحل متعددة، وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى قد يصاحبه أخطاء وانتكاسات، كما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكن هذه التجربة والتجارب التي سبقتها، والتي ستليها، ستعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية كيف تستفيد من تجاربها وتتجاوز أخطائها، والسير الحثيث من أجل خلق عالم جديد، وعلاقات إنتاج جديدة تحقق حلم الطبقة العاملة، وسائر المجتمع الإنساني بحياة رغيدة خالية من الاستغلال واستعباد رأس المال.

أن الماركسية بما قدمته لنضال الطبقة العاملة وإنجازاتها كان كبيراً جداً، ولولا الأخطاء التي وقع فيها قادة الاتحاد السوفيتي الذين حولوا النظام الاشتراكي، والذي سعى مؤسس الدولة لنين لبنائه ليكون نموذج للعالم اجمع، إلى رأسمالية الدولة، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق الديمقراطية للشعب السوفيتي وشعوب المعسكر الاشتراكي، لكان عالم اليوم غير هذا العالم الذي بات فيه الرأسمال العالمي يتحكم بمصير الشعوب، لكن هذا التحكم لن يستمر إلا إلى حين.
ستبقى الماركسية هي السبيل الذي يهدي البشرية لتغيير الواقع الذي تعيشه اليوم، وتعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية أساليب النضال لتحقيق حلم البشرية في مجتمع عادل لا مكان فيه للاستغلال، مجتمع لا مكان فيه للفقر والعوز والبطالة، مجتمع تتحقق في ظله كامل حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد.
 إن منظري الرأسمالية مهما حاولوا تلميع وجهها لن يفلحوا أبداً في مسعاهم لسبب بسيط هو كون النظام الرأسمالي قائم في الأساس على استغلال الإنسان لجهد أخيه الانسان، فهو نظام تنتفي فيه العدالة، وستكون الرأسمالية في نهاية المطاف عاجزة عن تقديم حل حقيقي وإنساني للتناقض الحاصل بين المستغِلين ( بكسر الغاء) والمستغَلين (بفتح الغاء) إلا من خلال نظام بديل يؤمن للإنسان العدالة الاجتماعية الحقيقية الخالية من الاستغلال والاستعباد. تحية للطبقة العاملة وشغيلة الفكر، والمجد لشهداء الطبقة العاملة وشغيلة الفكر في العالم أجمع.


69
صدام والفخ الأأمريكي
غزو الكويت وحرب الحليج الثانية
الحلقة الثلاثون [الأخيرة]
حامد الحمداني                                           21/3/2018
حرب الخليج الثالثة وسقوط نظام صدام
جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول2001، والتي أدت إلى تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك، والهجوم على البنتاجون بطائرات مُختطفة من قبل عناصر مجرمة من تنظيم القاعدة لكي يتخذها الرئيس الأمريكي بوش ذريعة لغزو العراق وتدميره، وإسقاط نظام صدام، وقد شجعته على القيام بذلك الحرب الخاطفة في أفغانستان التي أسقطت نظام طالبان.
 ففي شهر أيلول من عام 2002 وبعد عام على أحداث سبتمبر التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بوادر الاستعداد الأمريكي لغزو العراق، حيث طالب الرئيس بوش قادة العالم خلال جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يواجهوا الخطر الجسيم للنظام العراقي، وكان بوش يبدو عليه وهو يخاطب قادة العالم، الحزم والعزم لغزو العراق موجهاً تهديداً صريحاً للمترددين من قادة الدول لكي يشاركوا إلى جانب الولايات المتحدة، وإلا فالولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا ستتصرفان بمفردهما.
 وفي الشهر نفسه نشر رئيس الوزراء البريطاني [توني بلير] ملفا عن قدرات العراق العسكرية، وفي نوفمبر تشرين ثاني 2002 عاد مفتشو الأسلحة التابعين للأمم المتحدة إلى العراق بموجب قرار جديد للأمم المتحدة يهدد العراق بتحمل العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن انتهاك بنود القرار. وفي  آذار 2003 أصدر رئيس لجنة التفتيش الدولية في العراق [هانز بليكس] تقريرا بأن العراق زاد من تعاونه مع المفتشين ويقول إن المفتشين بحاجة إلى مزيد من الوقت للتأكد من إذعان العراق.
 لكن سفير بريطانيا في الأمم المتحدة صرح في 17 مارس/ آذار 2003 بان السبل الدبلوماسية مع العراق قد انتهت، وتم إجلاء مفتشي الأمم المتحدة من العراق، ومنح الرئيس بوش صدام حسين مهلة 48 ساعة لمغادرة العراق أو مواجهة الحرب، وفي الوقت نفسه كانت عملية نقل القوات الأمريكية والبريطانية يجري على قدم وساق إلى الكويت والسعودية استعداداً لعملية الغزو، فقد كان قرار الغزو قد اتخذ من قبل جورج بوش وتوني بلير في لقائهما بوشنطن.
لكن صدام حسين رفض الخروج من العراق على الرغم الدعوات التي وجهها العديد من الحكام العرب لتفادي الحرب، وإنقاذ العراق من ويلاتها المدمرة، وعلى الرغم من الدعوة التي وجهها الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة لصدام بالخروج، واستعداده لاستقباله وأفراد عائلته، وفي حمايته، لكن صدام آثر مرة أخرى أن يكرر القرار الخاطئ الذي اتخذه بعد غزو الكويت برفض سحب قواته، وخاض حربا مع أكثر من 30 دولة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وكان  معلوماً منذ البداية أن مصير تلك الحرب بكل تأكيد هزيمة العراق وخرابه!.
في السابع عشر من آذار 2003 قامت الطائرات والصواريخ الأمريكية بقصف بغداد ومختلف المدن العراقية، وأعلن الرئيس الأمريكي بوش انطلاقة الحرب التي قادتها الولايات المتحدة للإطاحة بنظام صدام.
   كان القصف يجري على أشده، حيث تم استخدام أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية الأمريكية لتوقع أشد ما يمكن من الخراب والدمار بالبلاد، وبكافة المرافق الاقتصادية والخدمية فيها، ولم يكن بمقدور نظام صدام الصمود بالنظر لعدم تكافؤ القوى، وفقدان جيشه الحماية الجوية القادرة على التصدي لتلك الهجمات، ولا يملك الوسائل الحديثة للدفاع الجوي مما جعل الحرب محسومة سلفا، لكن صدام أصر على التصدي لقوات الغزو الأنكلو-أمريكية ولسان حاله يقول:عليَّ وعلى الشعب العراقي، وليأتي من بعدي الطوفان!!.
 وبعد أن استمرت الحرب الجوية لبضعة أيام شنت الجيوش الأمريكية والبريطانية هجومها البري الذي انتهى بهزيمة نظام صدام في التاسع من نيسان 2003، أي بعد عشرين يوماً من بداية الحرب، حيث اختفى الجيش العراقي على حين غرة، وتدفقت القوات الأمريكية والبريطانية على المدن العراقية، وفي المقدمة العاصمة بغداد، وهرب الدكتاتور صدام وأعوانه مخلفين وراءهم وطناً محتلاً، ودماراً هائلا طال جميع مرافق البلاد الاقتصادية والخدمية، وانتشرت الفوضى أرجاء البلاد، وانتهى المطاف بصدام متخفيا في حفرة بائسة، حيث القي القبض عليه فيها، وقدم للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الخاصة عن قضية تعتبر ثانوية جداً إذا قيست بالجرائم الكبرى التي اقترفها بحق العراق وشعبه، فلم تكن الإدارة الأمريكية راغبة في كشف إسرار العلاقة التي جمعتها بنظام صدام، وبوجه خاص أسرار الحرب التي خاضها صدام ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، وتجهيز النظام بأسرار وأجهزة إنتاج أسلحة الدمار الشامل التي استخدمها صدام ضد القوات الإيرانية، ومن ثم ضد أبناء شعبه في الشمال والجنوب، وقد حكمت عليه المحكمة بالإعدام، وتم تنفذ الحكم فيه في الثلاثين من كانون الأول 2006، وبذلك أسدل الستار عن تلك المرحلة المظلمة من تاريخ حزب البعث وسيده صدام في العراق.
لكن آمال الشعب العراقي بالحرية والديمقراطية التي وعده بها الرئيس الأمريكي بوش قد خابت وبان زيفها، وهذا ما كان متوقعاً بكل تأكيد، فقد جرى حلّ الجيش العراقي، والأجهزة الأمنية بأسلوب يتسم بالتهور، وحولت جانباً كبيراً من عناصره الذين ألقت بهم في سوق البطالة إلى عناصر إرهابية بدأت تمارس نشاطها الإجرامي إلى جانب أنصار نظام صدام المدحور، وحلفاء صدام من عناصر القاعدة التي بدأت تتدفق على العراق عبر الأراضي السورية والإيرانية والسعودية، لتحول العراق من جديد إلى جحيم لا يطاق، حيث تفجير السيارات المفخخة، والعبوات والأحزمة الناسفة لعناصر البعث وحلفائهم من عناصر القاعدة باتت تحصد أرواح المواطنين الأبرياء بالجملة كل يوم، وتدمر الممتلكات العامة والخاصة، وتستنزف ثروات البلاد.                                     .                                                                                                                      ومما زاد في الطين بله إقدام الولايات المتحدة على إقامة نظام حكم طائفي في البلاد، فقد شكل الحاكم المدني الأمريكي [بريمر] مجلس الحكم على أساس طائفي، وجاء بقادة الأحزاب الدينية الطائفية إلى سدة الحكم، وهذا ما مهد السبيل أمام قوى الإسلام السياسي إلى الهيمنة على مقدرات العراق بعد الانتخابات التي جرت في ظل ظروف غير مواتية، ولم يكن فيها الشعب العراقي مهيئاً لها، بعد أن خرج لتوه من تلك المرحلة المظلمة من تاريخ العراق التي دامت أربعين عاما، مارس خلالها نظام صدام أشد أساليب القمع ضد القوى الديمقراطية، فكانت النتيجة هيمنة قوى الإسلام السياسي على مجلس النواب، وجرى سن دستور طائفي للعراق أشعل نيران الحرب الطائفية عامي 2006و2007 والتي قادت البلاد نحو مرحلة ظلامية جديدة أشد قسوة، حيث بات الصراع الطائفي الذي تقوده المليشيات التابعة لهذه الأحزاب الطائفية يحصد أرواح المئات من المواطنين الأبرياء كل يوم، وبأساليب بشعة لم يشهد لها تاريخ الشعب العراقي مثيلاً من قبل.
 كان التعذيب والقتل وقطع الرؤوس ورمي الجثث في المزابل يجري كل يوم، وعلى قارعة الطرق طعاماً للكلاب السائبة، مما تسبب في هجرة الملايين من أبناء الشعب داخل العراق وخارجه، هرباً من طغيان المليشيات الإرهابية التي باتت هي التي تحكم العراق في واقع الحال، والتي أخذت تمارس العزل السكاني على أساس طائفي، وتجبر المواطنين على ترك مساكنهم وأملاكهم تحت التهديد بالقتل الذي طال الكوادر العلمية العراقية من العلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين الذين هجر معظمهم العراق، وهم ثروته الكبرى.
 كما امتدت أيادي العصابات الإرهابية إلى خطف الأطفال وابتزاز أهاليهم، مما حول العراق من جديد إلى جحيم لا يطاق، وقد تناولت بالتفصيل، في كتابي[حرب الخليج الثالثة] الصادر عام 2008 مرحلة ما بعد نظام صدام حسين، وما جرته على الشعب العراقي من ويلات ومصائب ومحن جاءت على كل آمال الشعب في الحياة الحرة الكريمة في ظل سيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان .



70
صدام والفخ الأمريكي
غزو العراق وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثامنة والعشرون
حامد الحمداني                                            17/3/2018
تصفية أسلحة الدمار الشامل العراقية
وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها باستسلام كامل لنظام صدام لكل الشروط التي فرضها الرئيس الأمريكي جورج بوش، وتحققت أهداف الولايات المتحدة في تحرير الكويت، وعودة أسرة الصباح إلى الحكم من جديد، وتدمير البنية التحتية للاقتصاد العراق، وتهديم بنيته الاجتماعية، والتفت الولايات المتحدة إلى الهدف الأهم للإستراتيجية الأمريكية، والمتمثل بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وفرض نوع صارم من الأشراف على مصانع الأسلحة، لمنع النظام العراقي من تهديد منطقة الخليج مرة أخرى.

فقد أصدر مجلس الأمن في الثالث من نيسان 1991 القرار رقم 687  والذي يطالب النظام العراقي بالالتزام دون قيد أو شرط ببروتوكول جنيف لحظر الاستعمال الحربي للغازات السامة والخانقة وما شابهها، ووسائل الحرب البكتريولوجية، وأن يصدّق على قرار حظر واستحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية والصاروخية، وتدمير تلك الأسلحة. كما طالب القرار أن يقبل العراق، دون أي شروط، القيام تحت إشراف دولي بالسماح لمفتشين تابعين للأمم المتحدة بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل، ووسائل أنتاجها وتدميرها، والتي تتضمن ما يلي:
1ـ جميع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وجميع محزونات العوامل الكيماوية، وما يتصل بها من منظومات فرعية ومكونات، وجميع مرافق البحث والتطوير والدعم والتصنيع.
2ـ جميع القذائف الصاروخية التي يزيد مداها عن 150 كم، والقطع الرئيسية المتصلة بها، ومرافق إصلاحها وإنتاجها.
كما طالب القرار في بنده التاسع من العراق أن يقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة في غضون 15 يوماً من تاريخ القرار بيانا بمواقع وكميات وأنواع جميع المواد المحددة، ويوافق على إجراء تفتيش عاجل في المواقع، وتدمير جميع هذه الأسلحة، ووسائل إنتاجها، تحت الرقابة الدولية، وأن يتحمل العراق كافة تكاليف تدميرها، ومصاريف فرق التفتيش، وأن يتعهد العراق بعدم إنتاج مثل هذه الأسلحة، وتخزينها مستقبلاً. (1)
 وتنفيذاً للقرار المذكور قدم النظام العراقي معلومات عن خمسة مواقع كانت قد دُمرت إثناء الحرب، وكانت مخصصة لإنتاج غازات [الخردل] و[النارين] و[التابون]، وأربعة مصانع لإنتاج المواد الوسطية، ومصنع لملئ قذائف المدفعية والصواريخ بالعتاد الكيماوي، والغازات السامة، مع محزونات من غاز السارين قدرت بحوالي250 طناً، وغاز التابون بمقدار 500 طن، وغاز الخردل  بمقدار 280 طنا.(2)
كما قدم نظام صدام معلوماته عن الصواريخ والقنابل الموجودة بحوزته والتي شملت ما يلي:
1 ـ 6620 رأس صواريخ حربية عيار 122ملليمتر معبأ بغاز السارين.
2 ـ 2500صاروخ من طراز [صقر] معبأة بغاز السارين.
3 ـ قنابل طائرات من طراز[د ب 2] معبأة بغاز السارين.
4 ـ 201 صاروخ من نوع الحسين والوليد وسكود.
5ـ 336 قنبلة طائرات معبأة بالغاز المزدوج مخزونة في قاعدة الوليد.
6ـ 140 قنبلة طائرات عيار 250 معبأة بغاز الخردل.
7ت 105 قنابل مدفعية عيار 155مللمترمعبأة بغاز الخردل. (3)

لم تقتنع الولايات المتحدة بما قدمه النظام العراقي من معلومات، وأسرعت إلى تقديم تحذير شديد للنظام العراقي، طالبة منه تقديم كامل المعلومات التي بحوزته عن تلك الأسلحة، وهددت بالقيام بقصف العراق مرة أخرى، إذا لم تتمكن بعثات التفتيش التي سترسلها من الوصول إلى أي مكان تريد تفتيشه، وفي حقيقة الحال فإن الترسانة التي يمتلكها نظام صدام من الأسلحة الخطيرة ذات الدمار الشامل  كانت أكثر بكثير مما تصوره العالم، وحاول النظام إخفاء ما بحوزته بكل الوسائل والسبل.

بدأت فرق التفتيش الدولية تتوافد على العراق، فقد وصلت في 14 أيار 1991 أول بعثة تضم 60 خبيراً، وقد خولها مجلس الأمن بتدمير الأسلحة العراقية خلال 45 يوماً، لكن البعثة المذكورة قدمت تقريرها الذي أشار إلى أن البحث عن الأسلحة العراقية يتطلب سنتين من البحث على أقل تقدير.(4) 
 و في 22 حزيران من نفس العام وصلت البعثة الثانية، وكانت تضم 16 خبيراً، ولحق بها فريق ثالث في 3 تموز1991، وانضم إلى الفريق السابق، وقامت فرق التفتيش بتدمير الأسلحة والمصانع الحربية التالية:
1ـ 137 صاروخاً بعيد المدى.
2 ـ 19 قاذفة صواريخ متحركة.
3 ـ 60 قاذفة صواريخ ثابتة.
4 ـ 150 ماكنة صناعية.
5 ـ تدمير 15 مبنى ومنشأة تابعة لسلاح الصواريخ.
6 ـ 30 رأس صاروخ حربي لحمل الأسلحة الكيماوية .
7 ـ 3000 قنبلة كيماوية جوية.
8 ـ 3600 صاروخ كيماوي مضاد.
9 ـ  1000 عتاد مدفعية كيماوية .
10 ـ 500 ماكنة لصنع الأسلحة الكيماوية.

أما في المجال النووي فقد تم تدمير ما يلي:
1 ـ تدمير 450 ماكنة صناعية ذات استخدام مزدوج.
2 ـ 4000 طن منتجات صناعية.
3 ـ 1500 طن من الحديد المارتيزي.
4 ـ تدمير ما مساحته 50000 متر مربع من المباني.
5 ـ نقل 208 كاسيت من الوقود النووي المخصب إلى روسيا.
6 ـ تدمير جميع مواقع ومنشآت السلاح البيولوجي.
حاول النظام العراقي بكل جهده إخفاء كل ما أمكن من أسراره النووية، وكان في ذهن بعثة التفتيش البحث عن كمية من اليورانيوم المخصب قدرت ما بين 20 إلى 30 كيلو غرام، كان العراق قد استطاع إنقاذها عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف المفاعل النووي العراقي عام 1981 أبان الحرب العراقية الإيرانية.(5)

استطاعت الولايات المتحدة الحصول على معلومات خطيرة عن البرنامج النووي العراقي من أحد المهندسين العراقيين العاملين في هذا المجال، والذي لجأ إلى الولايات المتحدة، حيث أبلغ المسؤولين الأمريكيين بوجود وثائق هامة قد خبأها النظام العراقي في وزارة العمل، سارعت الولايات المتحدة إلى إرسال بعثة جديدة إلى العراق رأسها الأمريكي [دافيد كاي]، وأحيطت البعثة علماُ بالمعلومات التي قدمها المهندس العراقي حيث  وصلت البعثة إلى بغداد، وانتقلت بصورة مباشرة إلى بناية وزارة العمل طالبة تفتيشها، حيث تم لها ذلك رغم اعتراض نظام صدام، وقد تم العثور على أضابير تحتوي على معلومات واسعة حول البرامج النووي العراقي، وأسماء العاملين فيه.

حاولت السلطات العراقية منع فرقة التفتيش من إخراج تلك الأضابير، لكن البعثة أصرت على أخذها، واضطر النظام إلى الرضوخ في نهاية الأمر، وتمكنت بعثة التفتيش من أخذها،
واستمرت فرق التفتيش تتابع وصولها إلى العراق منذُ 14 أيار 1991، وهي مخولة بالتفتيش في أي مكان تريده، وفي جميع أنحاء العراق، وفي كل زيارة كانت فرق التفتيش تكتشف أموراً جديدة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وخاصة الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، والصواريخ.

هروب حسين كامل ولقائه رئيس لجنة التفتيش إيكيوس
استطاعت الولايات المتحدة عن طريق عميل سري كبير الوصول إلى حسين كامل، ودعوته للخروج عن النظام ليكون رجل أمريكا الذي سيتولى السلطة في العراق إذا ما تعاون في كشف برنامج أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية والكيماوية، وكان مشعان الجبوري، الذي عمل في المخابرات العراقية، قد ادعى في تصريح له نشرته صحيفة الشرق الأوسط  بأنه كان قد حمل رسالة من حسين كامل في غاية الخطورة إلى القيادة الأمريكية حول برنامج أسلحة الدمار الشامل، والتي أشار فيها حسين كامل إلى أن نظام صدام لا مصداقية له، ولا يحترم وعوده، وأنه يخفي منذ أربع سنوات امتلاكه لبرنامج إنتاج أسلحة بيولوجيه، وأن حجم إنتاجها قادر على القضاء على الملايين من البشر.(6)
لكن الرواية التي نقلها كل من العالمين النوويين[جعفر ضياء جعفر] و[نعمان النعيمي] القريبين جداً من حسين كامل كانت الأقرب للحقيقة. فقد ذكر العالمان المذكوران في بحثهما المشترك والمنشور في [موقع الحياة] والمكون من 7 حلقات تحت عنوان [الاعتراف الأخير] تفاصيل دقيقة عن هروب حسين كامل، والمعلومات التي نقلها إلى رئيس لجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة[إيكيوس]، والتي تم نقلها مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أشارالبحث إلى أن حسين كامل كان قد أصيب في شباط (فبراير) 1994 بأعراض مرضية، حيث كانت تنتابه فجأة نوبة من فقدان الوعي لبضع دقائق يستفيق بعدها ناسياً كلياً ما حصل أثناء الحالة، وقد تولى فحص حالته الطبيب العراقي المتخصص بأمراض الجملة العصبية الدكتورسعد هاشم الوتري، وتقرر نقله إلى عمّان برفقة الدكتور الوتري، وتم استقدام طبيبً جرّاح فرنسي مشهور خصيصاً له، وقد أجرى له الطبيب المذكور عملية جراحية بالمخ في مستشفى مدينة الحسين الطبية العسكرية، وأزال ورم في دماغه، وجرى  فُحِص الورم فتبين أنه حميد غير سرطاني.     
وعند عودة حسين كامل إلى بغداد وجد أن قصي بن صدام قد نُصِّبَ مشرفاً على الحرس الجمهوري الخاص، وكذلك على قوات الحرس الجمهوري، وأخذ يشعر بأن سطوته أخذت تتقلص يوماً بعد يوم، ولم يبقَ له من إمبراطوريته الواسعة سوى وزارة الصناعة والمعادن، وهيئة التصنيع العسكري، وفي شهر حزيران (يونيو) من عام 1995 غادر حسين كامل على رأس وفد من هيئة التصنيع العسكري لزيارة بيلاروسيا عن طريق عمّان فموسكو.
 وفي اليوم التالي لمغادرته دعا صدام حسين قيادات فروع حزب البعث لمؤتمر قطري يتولى انتخاب قيادة قطرية جديدة للحزب، وفاتت على حسين كامل فرصة الصعود إلى عضوية القيادة القطرية ذات السلطة الواسعة إذ لا يُجيز النظام الداخلي للحزب ترشيح أي شخص للقيادة إن لم يكن حاضراً في جلسات المؤتمر القطري، ويضيف الدكتور جعفر قائلا: شخصياً لم أكن على علم عما إذا كان إجراء صدام هذا متعمداً لإبعاد حسين كامل عن قيادة الحزب أم لشأن آخر، ولا مطلعاً على ما خفي من دسائسه الداخلية، غير أنني كنت أدرك أن صدام لم يكن ليرضي بوجود عضوٍ جريء أو ذي فكر مستقل ليعتلي أي منصب قيادي في الحزب أو الدولة، وكان يحيط نفسه بتابعين ضعاف النفوس لا يقوى أحدهم أن يقول لصدام كلمة واحدة قد تغيضه، ويضيف البحث أن لقاءً انفرادياً قد جرى في عمّان بين الملك حسين بن طلال ملك الأردن وحسين كامل استغرق ساعتين كاملتين، وأغلب ظني أن هذا اللقاء كان تمهيداً لهربه من العراق، وربما يكون قد حصل على الضوء الأخضر من ملك الأردن.(7)
ويرى العالمان جعفر والتميمي بأن عدي، الابن الأكبر لصدام، بدأ ومنذ مطلع عام 1995 ينظر بعين الحسد إلى حسين كامل، حيث رآه منافساً قوياً على موقع الابن المدلل لصدام، وعلى حسابه بالذات، ولا بدّ أن يكون قد اقتنع بأن وجود حسين كامل خطر على مقامه، وعلى مستقبله السياسي، فبدأ ينبش في أفعال وتصرفات زوج أخته للسنين الماضية.
 لم يكن خافياً على أحد أن حسين كان يستغل الامكانات المادية والبشرية لهيئة التصنيع العسكري لبناء قصوره الخاصة، وتنظيم مزارعه العديدة والصرف على حفلاته الخاصة، وعلى مجونه، فبدأ عبد حميد محمود (المعروف بعبد حمود) منذ بداية 1995 يتحرى عن مخالفات حسين كامل، وتصرفه السابق غير القانوني بالمال العام، وربما فعل عبد حمود ذلك بتحريض من عدي، ولكن لا بدّ أن يكون قد استحصل موافقة رئيسه صدام على إجراءاته تلك، إذ كيف يجرؤ على طرح أسئلة على حسين كامل من دون إسناد قوي من صدام؟ (8)
 وبسبب تزايد الضغوط عليه، لا بدّ أن يكون قد أطلق العنان لتصوراته بإمكانية قيادة المعارضة في الخارج مع الحصول على دعم أميركي لعلّه يستطيع يوماً أن يطيح برأس عمه صدام، ويعتلي سدة الحكم في العراق، ولاسيما وأنه كان قد اطلع على عدد من التقارير الصحافية التي تشير إلى أن الإدارة الأميركية كانت تبحث عن جنرال تكريتي يستطيع قيادة المعارضة والإطاحة بصدام، وتراءى له بأنه ذلك الجنرال الموعود!، ناسياً أو متناسياً أنه كان شرطياً قبل أن يعينه صدام ضمن طاقم حراسته، وأن رتبة فريق أول التي يحملها على كتفيه لا تساوي أكثر من ثمن معدنها أو قطعة من القماش، وأنه لا يفهم من الشؤون العسكرية غير تسلسل الرتب.
وفي ضحى يوم الاثنين 7/8/1995 غادر حسين كامل بغداد في طريقه إلى عمّان في موكب ضمّ زوجته [رغد بنت صدام] وأولاده، وضمّ أخاه [صدام كامل] ومعه زوجته [رنا بنت صدام] وعدداً من أركان حاشيته، ونقل معه جميع موجودات هيئة التصنيع العسكري من العملة الصعبة ومقدارها 9.5 مليون دولار أميركي نقدا، ولم يكن باستطاعة أحد تفتيش حمولاته من الخزائن عند حدود البلدين، كما أنه غادر بطريقة رسمية بحجة اصطحاب عائلته في فسحة صيفية في بلاد الجيك.
ظهر حسين كامل تحت أضواء الإعلام يدلي بتصريحات ضد نظام صدام حسين، وهو الذي كان يمثل الشخص الثاني في النظام بعد صدام، ولاسيما وأنه أبن عمه، وقد زوجه ابنته، كما وزج أخيه صدام كامل أبنته الثانية، وقد بدأ يطلق العنان لتصريحاته متهماً صدام بالدكتاتورية والتسلط والغباء السياسي، وهكذا بدأت جموع رجال المخابرات العربية والأجنبية تنهال عليه في مقر إقامته الفخم في عمّان لاستطلاع ما يحمل من أنباء ومعلومات وهو يتباهى أمام الأضواء المسلطة عليه، والاهتمام الذي أولاه له رجال الإعلام والسياسة والمخابرات في عمّان. خشيَ صدام أن يطلق صهره العنان لتصريحاته فيكشف ما كان قد أخفاه من معلومات تتصل ببرامج أسلحة الدمار الشامل التي لم تبقَ سوى بعض المعلومات التي جرى إخفائها، حيث أن جميع الأسلحة سبق وأن دُمرت خلال صيف 1991، ويخلق للعراق أزمة جديدة مع مجلس الأمن، ولاسيما وأن الأمور كانت قد أوشكت على الانتهاء فأصدر أمره بدعوة الرئيس التنفيذي للجنة الأونسكوم، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العراق للتباحث مع الجانب العراقي، وأصدر أمره إلينا جميعاً بالإعلان إلى المفتشين عن كل ما كان حسين كامل قد أمرنا بإخفائه، وعدم البوح به، وظن بذلك أنه قد سحب البساط من تحت أقدام حسين كامل. (9)
وبعد أسبوعين من هروب حسين كامل التقى صدام مع كبار العلماء المسؤولين في هيئة التصنيع العسكري، لكي يتحدث إليهم عن هروبه وتصرفاته حيث قال مخاطباً إياهم: { لقد جمعتكم لأعتذر إليكم مرتين، مرة كوني قد عينتُ حسين كامل مشرفاً عليكم، ومرة ثانية كونه صهري ومحسوباً على عائلتي، إن ذلك الشخص كان مغروراً أو مصاباً بداء العظمة، وأن العملية التي أجريت لانتزاع ورم من دماغه قد أثرت سلباً على تصرفاته، واستشهد بما أخبره به وزير الصحة الدكتور[أوميد مدحت مبارك] حول تلك العملية وتبعاتها، وأضاف صدام قائلا: بأن السلطة سوف لن تحاسب أي منا على أي عمل سبق أن نفذه بأمر من رئيسهم السابق حسين كامل، إلاّ إذا كان ذلك العمل قد سبب ضرراً بليغاً للمصلحة الوطنية، أو عرّض أمن البلد إلى الخطر، ثم طلب أن يستمروا بأعمالهم بحسب سياقاتها إذ لا وجود لتغيير في البرامج أو في أساليب تنفيذها}. (10)
في 17/8/1995 وصل إلى بغداد كل من[ رولف إيكيوس ] المدير التنفيذي للجنة الأونسكوم، و[هانز بليكس] المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبقيا في بغداد مدة ثلاثة أيام حيث تم إبلاغهما بتفاصيل البرنامج المعجّل الذي كان حسين كامل قد أمر بتنفيذه في 17 آب من عام 1990، وقدم الجانب العراقي إليهما مجموعة ضخمة من الوثائق والتقارير التي كان حسين كامل قد أخفاها في موقع حساس، ثم نقلت بعد هروبه على عجل من ذلك الموقع إلى [مزرعة بيت حيدر]، ومن ثم سلمت إلى مفتشي الأمم المتحدة، فعُرفتْ منذ ذلك الوقت باسم [مجموعة وثائق قاعة الدجاج في مزرعة حيدر].
 عاد رولف إيكيوس إلى عمان في 22 آب 1995، وتم عقد لقاء مع حسين كامل وكان برفقته مجموعة من الخبراء العاملين ضمن مفتشي الأونسكوم، كما حضر اللقاء ممثلاً عن الديوان الملكي الأردني تولّى مهمة الترجمة، وقد سأل إيكيوس حسين كامل عن سبب امتناع الجانب النووي العراقي من التصريح بأن برنامج الطارد للتخصيب كان يجرى ضمن موقع الراشدية وليس ضمن موقع التويثة، وقد أجابه حسين كامل بأنهم فعلوا ذلك لتحويل أنظار المفتشين عن ذلك الموقع.
 ثم سأله عن ما إذا كان العراق ما يزال يمتلك من الأنشطة النووية، وقد نفى حسين كامل وجود أي نشاط، غير أن الوثائق والخرائط لا تزال موجودة ضمن مجموعة من المايكرو فلم. وعندما سأله إيكيوس عما إذا كان نشاط التسلح النووي الذي سبق إجراؤه في موقع الأثير مايزال قائماً؟ أجاب نعم، ولكن قبل حرب الخليج. وعند سؤاله عما إذا كان الهدف من القنبلة النووية العراقية الأولى هو تجربتها فقط أم استخدامها في الحرب أجاب أن العلماء كانوا في مراحل البحث والتطوير، ولم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة تصنيع القنبلة وبالتالي كانوا بعيدين جداً عن تجربتها. (11)
وبعد أن أكملتْ الجهات المخابراتية الأجنبية مهمتها، وحصلت من حسين كامل على جميع ما بجعبته من معلومات، ألقته الولايات المتحدة في قارعة الطريق، وسقط كما تسقط أوراق الأشجار في فصل الخريف، وتلاشت أحلامه في تزعم حركة العارضة العراقية التي قادتها الولايات المتحدة لتتولى السلطة بعد إسقاط نظام صدام حسين بزعامته، وقرر العودة إلى العراق، حيث بدأ يوسط المقربين من صدام لكي يحصل على وعد بالعفو من صدام شخصياً.
 وفي شباط/فبراير من عام 1996،عاد حسين كامل وأخوه صدام كامل وعائلتاهما إلى العراق، وقد استقبلهما عدي عند الحدود، لكنه أخذ أختيه وأولادهما بسيارته إلى بغداد، وترك حسين وأخاه يعودان إلى بغداد بمفرديهما، وفي اليوم التالي لوصول رغد ورنا إلى بغداد بصحبة عدي صدرت وثيقتا طلاقيهما من زوجيهما.
 وانتقل حسين كامل وأخيه إلى ببيت أختهما الكائن في منطقة السيدية، حيث كان كافة أفراد العائلة قد تجمعوا هناك، وفي اليوم التالي أحاطت مجموعة كبيرة مسلحة بقيادة علي حسن المجيد وعدي صدام بالمنزل، وحصلت مواجهة مسلحة بين المهاجمين وأفراد العائلة الذين قُتِلوا جميعاً، كما قُتل بعض المهاجمين، وجرى قطع رأس حسين كامل من قبل عمه علي حسن المجيد، حيث قدمه إلى صدام كدليل على ما أسماه غسل عار العائلة كما قال لصدام.
وفي نهاية عام 1998 وصل إلى العراق فريقي تفتيش من الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العراق، وكان الفريق 28 برئاسة [كاري ديلون] الذي وصل في 9 أيلول 1995، واستمر في عمله حتى 20 منه، والفريق 29 برئاسة[بول ستوكس] الذي وصل في 17 تشرين الأول 1995، واستمر في عمله حتى 24 منه، وقد قدم الفريقين تقريرهما لمجلس الأمن أشارا فيه إلى أن الجانب الفني العراقي كان متعاوناً إلى أبعد الحدود، حيث قاموا بإعلام المفتشين عن الكثير من الأمور التي كانوا في الأمس القريب يتخوفون من مجرد الاستماع إلى أية استفسارات عنها، حيث كانوا في السابق يحاولون التهرب من الإجابة على أسئلة المفتشين بشتى الوسائل على الرغم من ضعف حجتهم، وكان من بين ما صرحوا به للفريقين هو البرنامج النووي الوطني المعجّل للفترة من 17 آب 1990- 17 كانون الثاني 1991، وختمت الوكالة تقريرها بالقول إن تجربة العراق قد ولدت القناعة بأن أية دولة لا تلتزم ببنود معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يمكنها تطوير امكاناتها لإنتاج أسلحة نووية ضمن وقت قصير نسبياً، وذلك من خلال تصرفها بالمواد النووية الخاضعة للرقابة.
وفي الختام يعترف العالمان جعفر ضياء جعفر وعلي التميمي بأن ما كتبه المفتشون من رأي حول سلوك الجانب العراقي قبل هروب حسين كامل وما تبِعه هو عين الصواب، ويؤيد ما ذكراه وما يذكرانه الآن، وأن حسين كامل كان في الواقع سيفاً مسلطاَ على رقابهم، وكان يأمرهم بإخفاء المعلومات، ويجبرهم على إتباع مسلك الخديعة والامتناع عن التعاون مع المفتشين الدوليين، وكانوا يدركون أن البرنامج النووي الوطني قد انتهى وأصبح تماماً في خبر كان، ولا داع لإخفاء التفاصيل منذ البداية كي نُجنب أنفسنا عناء الكذب والتمويه، ونُجنِّب الشعب العراقي ما ترتب على كاهله من مآسي ومصائب لا حدود لها بسبب إطالة أمد الحصار. (12)
حاول النظام العراقي في النهاية إقناع المفتشين أن عملية نزع أسلحته قد اكتملت، ولم يعد يمتلك أية أسلحة للدمار الشامل، وليس لديه أية نوايا لإعادة أنشطته السابقة في مجال أسلحة الدمار الشامل، ولكن الأمور سارت على عكس ما كان نظام صدام يتمنى، فقد تدهورت العلاقة العراقية الأميركية عام 1998 بعد أن صدر تقرير عن اللجنة السياسية المشكلة في الولايات المتحدة في 3 حزيران من عام 1997 من قبل  شخصيات سبق أن عمِلت ضمن إدارة جورج بوش الأب لصياغة سياسة خارجية أمريكية للقرن الأمريكي الجديد، وقد توصلت هذه المجموعة  إلى قناعات سطرتها ضمن مذكرة بعثت بها إلى الرئيس [بيل كلنتون] في 26 كانون الثاني 1998 تحثه فيها على إزاحة صدام حسين معتبرة هذا الهدف بمثابة حجر الزاوية للسياسة الخارجية الأميركية.
 وجاء في توصية اللجنة بأن الولايات المتحدة الأميركية تمتلك السلطة ضمن قرارات مجلس الأمن بشأن العراق لاتخاذ إجراءات حاسمة، بما فيها عمليات عسكرية لحماية مصالحنا الحيوية في منطقة الخليج، وطالبت هذه المجموعة زيادة التخصيصات المالية للدفاع، وألحت على استخدام القوة الأميركية الهائلة للتدخل في الأحداث أينما كان ضروريا.



71
صدام والفخ  الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة السادسة والعشرون
حامد الحمداني                                         13/3/2018

حرب حزبي البارزاني والطالباني تشتعل في كردستان

على الرغم من سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، والإتحاد الوطني الكردستاني (أوك) على السلطة في كردستان بعد الانتفاضة، وتقاسمهم مقاعد البرلمان، ومجلس الوزراء، إلا أن التنافس والصراع بين الحزبين كان يتفاعل كل يوم، حيث سعى كل منهما  للهيمنة على السلطة المطلقة في كردستان، مما  تسبب في تصاعد الخلافات بين الحزبين، واستمرت العلاقات بينهما بالتوتر، والخلافات بالتصاعد حتى وصلت إلى مرحلة الصراع المسلح بينهما. (1)

 فقد اندلع القتال بين مقاتلي الحزبين في أواخر شهر آذار من عام 1994، واستخدم الطرفان كل ما تيسر لهما من الأسلحة في قتالهما الشرس بينهما، والذي دفع ثمنه الشعب الكردي المنكوب بحكامه الجدد، حيث قتل الألوف من أبنائه، ودمرت المدن والقرى، واتت الحرب بين الحزبين على البقية الباقية من الاقتصاد المدمر أصلاً، بسبب الحروب التي استمرت بينهم وبين النظام طوال عشرات السنين. (2)

ورغم جميع المحاولات التي بذلتها الأحزاب المنضوية تحت لواء الجبهة الكردية لوقف القتال بين بيشمركة الحزبين المتصارعين على السلطة والثروة، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، واستمرت المعارك بين الطرفين، رغم أنها تخللتها الهدنة لفترات من الزمن بعد جهود مضنية بذلتها العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية للجمع بين القيادتين، وحل المسائل المختلف عليها سلمياً، وبما يحقق الأمن والسلام للشعب الكردي الذي عانى الأمرين من تلك الحرب.

وهكذا ضاعت أحلام الشعب الكردي في العيش في سلام وهدوء، بعد تخلصهم من سلطة نظام صدام، ووجد نفسه في ظل ذلك الصراع، وفي ظل الحصار الدولي، وحصار صدام على منطقة كردستان، في وضع مأساوي ليس له مثيل، يعاني الجوع، وتفتك فيه الأمراض، وتتساقط فوق الرؤوس قنابل المتحاربين كل يوم منزلة الخراب والدمار والموت بالمواطنين الأبرياء. لقد كان المؤمل أن تكون تجربة الحكم الذاتي في المنطقة الكردية، وتجمع قوى المعارضة الوطنية فيها حافزاً، ومنطلقاً لتحرر العراق من سلطة الدكتاتور صدام بأيدي عراقية خالصة، لكن قتال الحزبين أضاع كل شيء.
ففي 12 تشرين الأول 1996 اندلعت جولة جديدة من الحرب أشد وحشية، وفتكاً بالأرواح، وتدميراً للممتلكات من مسلسل القتال الكردي - الكردي بين الحزبين، وشملت ساحة الصراع والحرب مدن السليمانية وكوسنجق، وجمجمال، وبلدات أخرى، واستخدم الطرفان كل الأسلحة المتاحة، منزلين أفدح الخسائر بالأرواح والممتلكات، ليس بين صفوف المتقاتلين وحسب، بل بين صفوف المدنيين المسالمين.

لقد كانت الذرائع والتبريرات التي ادعى  بها الطرفين لاستمرار القتال مرفوضة من الشعب الكردي ولا يمكن قبولها، وهي كانت في واقع الأمر تخفي وراءها أهداف حزبية ضيقة ترمي إلى الانفراد بالسلطة والثروة، وإن قيادة الحزبين يتحملان المسؤولية الكاملة عن كل المآسي التي حلت بالشعب الكردي، وبمسؤولية تدمير الجهد الوطني لأحزاب المعارضة الهادف إلى تخليص الشعب العراقي من حكم صدام.

ثانيا: قوات الطالباني تحتل أربيل وتطرد قوات البارزاني

وصلت ذروة الصراع بين حزبي البارزاني، والطالباني في أوائل عام 1995، عندما اقتحمت قوات بيشمركة الطالباني مدينة أربيل، عاصمة منطقة كردستان العراق، وسيطرت عليها، وطردت قوات البيشمركة التابعة للبارزاني منها. وبذلك فرض جلال الطالباني هيمنته على مؤسسات السلطة التنفيذية، وعطل المجلس التشريعي، وجرى خلال اقتحام المدينة، والسيطرة عليها بعد معارك عنيفة بين الطرفين، ووقوع خسائر جسيمة في صفوف المتحاربين، والسكان المدنيين على حد سواء، وجرت حملة تصفيات للخصوم السياسيين، وأدى ذلك إلى زرع الأحقاد والبغضاء، والعداء بين إفراد المجتمع الكردي.

وحاول قادة الأحزاب الوطنية المتواجدين على الساحة الكردستانية التوسط بين قيادة الحزبين لإيجاد مخرج للازمة التي تمخضت عن استيلاء قوات الطالباني على أربيل، حيث قدمت مشروعاً يقضي بإعلان الهدنة بين الطرفين المتحاربين، وبجعل مدينة أربيل منزوعة السلاح، وعودة المجلس التشريعي، ومجلس الوزراء إلى ممارسة مهامهم، والتوقف النهائي عن الملاحقة والاعتقال، وطرد العوائل، ومصادرة ممتلكات المواطنين ومنازلهم. وبالفعل استطاعت الوساطة تحقيق هدنة بين الطرفين في 7 نيسان 1995 واستمرت حتى الأول من حزيران، ولكن دون تحقيق أي تقدم في المفاوضات بين الجانبين لحل  الأزمة، وبناء على المساعي التي بذلتها القوى الوطنية، فقد جرى تمديد الهدنة حتى 15 تموز 1995.
القوات التركية تجتاح شمال العراق:
وفي 5 تموز 1995 أجتاح الجيش التركي شمال العراق، في المنطقة الوسطى من الحدود المشتركة بين البلدين باتجاه منطقة[الميسوري] في قضاء[ميركه سور] وقُدرت القوات التركية الغازية بلواءين مدرعين، تسندها الطائرات المقاتلة والمروحيات والمدفعية، بالإضافة إلى القوات المظلية، وادعت الحكومة التركية إنها تطارد المتمردين من أعضاء حزب العمال الكردستاني.
 لكن القوات التركية استهدفت في هجماتها ضد حزب العمال الكردستاني المناطق المأهولة بالسكان الأكراد، وقصفت بصورة عشوائية سبع قرى هي شيفي، وميروز، وسبندار، وبندرو، ودزو، وبازيان، مما أسفر عن تشرد أهالي المنطقة بعد تكبدهم خسائر كبيرة في الممتلكات، ووقوع عدد من الضحايا والجرحى.(3)

أدى الاجتياح التركي لكردستان إلى تعقيد الأزمة، وإلى تفاقم أوضاع  المواطنين الأكراد المعشية، وزاد من عمق المأساة التي سببها الصراع بين الحزبين (حدك) و(أوك)، فالحصار الاقتصادي الأمريكي على العراق من جهة، وحصار نظام صدام على المنطقة الكردية من جهة أخرى، والاجتياح التركي تارة، والإيراني تارة أخرى، لشمال العراق، بالإضافة للحرب الأهلية بين ميليشيات حزبي الطالباني والبارزاني، كل ذلك حول حياة الشعب الكردي إلى جحيم لا يطاق.   

رابعاً:البارزاني يستعين بصدام لاستعادة أربيل

في العاشر من آب 1996، دعا رئيس وزراء تركيا، نجم الدين أربكان، الذي كان في زيارة رسمية لإيران، إلى عقد قمة تركية عراقية إيرانية، لحل أزمة كردستان العراق، وأكد على أن تركيا ستستضيف اللقاء، وأنها ستدعو سوريا لحضوره، وقد لاقى الاقتراح التركي استحسان الحكومة الإيرانية وتأييدها.

غير أنه لم يمضي سوى أسبوع على اللقاء، حتى أنفجر القتال من جديد في كردستان في 17 آب 1996، وشملت المعارك مناطق [باليسان] و[وهيران] و [حرير] و[صلاوة] و[جومان] و[حاج عمران]، ورافق القتال قصف مدفعي إيراني لمنطقة [ راوندوز].

وبعد يومين من بدء القتال، بدأ نظام صدام بتحشيد قوات كبيرة من الحرس الجمهوري في مناطق كركوك والسليمانية، والموصل، وأصدر النظام قراراً بتعيين [علي حسن المجيد] الملقب بعلي كيماوي، محافظاً لكركوك، كما أصدرت قيادة الجيش أمراً إلى القطعات العسكرية المرابطة على خطوط التماس بأن تكون على أهبة الاستعداد، وأن تشدد سيطرتها على كافة المسالك، وإطلاق النار على كل من يتحرك في تلك المناطق.

ورغم أن تحشدات القوات العراقية كانت مكشوفة، فأن الولايات المتحدة لم تحرك ساكناً!!، ولم توجه أي تحذير للنظام العراقي من مغبة الإقدام على أي خطوة عدوانية ضد المنطقة الكردية، ولاسيما وأن هذه المنطقة قد وُضعت تحت الحماية الأمريكية منذُ انتفاضة آذار 1991.
وفي الساعة الرابعة من فجر يوم 31 آب اندفعت قوات صدام نحو مدينة[أربيل] وحاصرتها من اتجاهي الموصل وكركوك، وبعد أن مهدت لهجومها على المدينة بقصف مدفعي وصاروخي استمر 4 ساعات. وبرر النظام العراقي اقتحامه لأربيل بأنه تلبية لدعوة من السيد مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني!.

وفي الوقت نفسه أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البارزاني أن قواته بدأت بمهاجمة أربيل، وأن قواته تقاتل في ضواحي المدينة. وفي اليوم التالي الأول من أيلول دخلت مجموعات كبيرة من الدبابات العراقية وأحكمت سيطرتها على المدينة، وقد أسفرت المعارك عن وقوع خسائر جسيمة في صفوف المقاتلين الأكراد والسكان المدنيين، وقد مارست أجهزة أمن صدام التي رافقت القوات العسكرية، حملة مداهمات للبيوت، ومقرات الأحزاب السياسية المعارضة، وقامت باعتقال المعارضين للنظام وفق قوائم كانت قد جرى إعدادها سلفاً، وجرت حملة تصفية جسدية لعدد كبير من المعارضين للنظام العراقي، الذين كانوا قد لجأوا إلى منطقة كردستان العراقية، وجرى نهب وإحراق لكافة مقرات الأحزاب المعارضة.

أما الولايات المتحدة فلم تتعرض لقوات نظام صدام التي اقتحمت أربيل، على الرغم من كون هذه المنطقة قد كانت قد وضعت تحت الحماية الأمريكية فور انتهاء حرب الخليج الثانية، بعد إجهاض الانتفاضة الشعبية ضد نظام صدام، فقد تغاضت الإدارة الأمريكية عما أقدم عليه نظام صدام.
 لكنها استدارت على حين غرة  لتطلق  27 صاروخاً على مواقع عسكرية في جنوب العراق ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍في الأول أيلول، ثم أعقبتها بإطلاق 17 صاروخاُ آخر على المنطقة نفسها في الثالث من أيلول!!، وقرر الرئيس الأمريكي [ كلنتون] تمديد منطقة الحضر الجوي في جنوب العراق إلى خط العرض 33، وكأن أربيل واقعة في جنوب العراق !!.

إن كل متتبع للأوضاع السياسية آنذاك كان يدرك أن صدام حسين لم يكن قادراً على الأقدام على خطوة كهذه، وفي مثل تلك الظروف التي كان يمر بها النظام، دون تنسيق مع الولايات المتحدة ومباركتها، فقد كانت  للولايات المتحدة حساباتها في ذلك، وأن أهداف عديدة كانت قد حققتها من وراء هذه العملية وفي مقدمتها:
1ـ تأمين مرور النفط عبر الأنبوب التركي، بعد توقيع مذكرة التفاهم بين النظام العراقي والأمم المتحدة، حول تنفيذ قرار النفط مقابل الغذاء والدواء، والذي أشترط على نظام صدام استخدام هذا الأنبوب لنقل معظم النفط العراقي.
 ومعروف أن الطلباني على علاقة جيدة مع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعاً مع الحكومة التركية، والذي كان قد قام بنسف أنبوب النفط المذكور فيما مضى مرات عديدة، ويأتي ذلك لمصلحة تركيا التي تضررت كثيراً جراء الحصار المفروض على العراق، حيث كانت تجني مليارات الدولارات من عوائد مرور النفط العراقي عبر أراضيها سنوياً. ‍‍‍‍‍‍‍
2ـ أشعار أعضاء مجلس الأمن بأن العراق لازال قادراً على تهديد الأمن والسلم الدوليين، وان استمرار الحصار الظالم المفروض عليه مازال يتسم بأهمية كبرى لضمان الأمن والسلم الدوليين!!.

3ـ توجيه ضربة قاصمة لأحزاب لمعارضة العراقية التي اتخذت من منطقة كردستان منطلقاً لنشاطها ضد النظام، وإفشال أي محاولة لتغير النظام العراقي لا تأتي من تحت المعطف الأمريكي.

4ـ أشعار دول الخليج أن صدام حسين مازال قوياً، وانه يشكل تهديداً للخليج، من أجل بقاء القوات الأمريكية في المنطقة، وابتزاز دول الخليج، وحثها على شراء الأسلحة.

خامساً:الإدارة الأمريكية تدعو للمصالحة بين الطرفين

بعد الأحداث الدامية التي وقعت في أربيل بدأ الشعب الكردي يضمد جراحه التي سببتها الحرب المفجعة، ونشطت قيادات أحزاب الجبهة الكردستانية للسعي لجمع القيادتين الكرديتين من أجل التوصل إلى حل لخلافاتهما المستحكمة، وعودة الصفاء والوئام في ربوع كردستان العراق، ودخلت الولايات المتحدة على الخط  بما تملكه من تأثير قوي على الطرفين المتحاربين في سعيها لجمع القيادتين الكرديتين المتمثلتين بمسعود البارزاني، وجلال الطالباني، في واشنطن من أجل تحقيق المصالحة بينهما.

فقد دعت واشنطن القيادتين إلى الحضور في الولايات المتحدة لبحث الخلافات بين الطرفين، وإيجاد السبل الكفيلة لتجاوزها، وبالفعل تم اللقاء بين الطرفين وإجراء المباحثات حول السبل الكفيلة بعودة العلاقات الطبيعية بينهما، وعودة الأمن والسلام في ربوع كردستان، وقد تمت المصالحة  بحضور وأشراف[ ديفيد وليش] مساعد وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت آنذاك، حيث تم التوصل إلى عقد [ اتفاقية واشنطن ] في 17 أيلول 1998 التي وقعها السيدان مسعود البارزاني وجلال الطالباني  والتي دعيت باتفاقية [المصالحة والسلام].
وقد تضمنت الاتفاقية البنود التالية:
1 ـ إدانة الاقتتال في كردستان العراق والحيلولة دون عودته من جديد.
2 ـ إقامة حكومة موحدة على أساس نتائج الانتخابات  لعام 1992.
3 ـ توحيد الإدارتين الكرديتين مع بعضهما.
4 ـ استرجاع الإيرادات الكمركية إلى خزينة حكومة الإقليم الموحدة.
5 ـ تهيئة الأجواء لإجراء انتخابات جديدة في منطقة كردستان في عام 1999.
وفي 29 تشرين الأول من العام 1999 عقد اجتماع لأحزاب المعارضة العراقية في مدينة [نيويورك] بمساهمة الجانب الأمريكي، حيث جرى في ذلك الاجتماع بلورة ما دُعي بالمشروع الفيدرالي الديمقراطي البرلماني في العراق بعد إزاحة نظام صدام من الحكم، وقد بذل المؤتمرون جهوداً كبيرة في إقناع القيادتين الكرديتين بضرورة حل كل خلافاتهما، وتوحيد خطابهما السياسي، وعلى كافة المستويات.

كما أكد مؤتمر أحزاب المعارضة العراقية المنعقد في لندن بين الرابع عشر والسابع عشر من كانون الأول 2002 الذي جرى عقده برعاية أمريكية، وبإشراف السفير الأمريكي [زلماي خليل زادة] تحت شعار[العراق ما بعد نظام صدام حسين ] على إقامة ما دعوه بعراق ديمقراطي تعددي برلماني فيدرالي، وقد مكَّن ذلك المؤتمر القيادتين الكرديتين  من تنسيق مواقفهما، مما عزز موقف الكرد في المعادلة العراقية والإقليمية.

وفي 8 أيلول عام 2002 تم عقد مؤتمر لأحزاب المعارضة العراقية في مصيف صلاح الدين حضره ممثل الرئيس الأمريكي جورج بوش [زلماي خليل زادة]، وجرى فيه التأكيد على قرارات مؤتمر لندن، وعلى ضرورة إجراء الاستفتاء الشعبي على الدستور الفيدرالي المقترح لعراق ما بعد صدام، مما عزز التعاون والتنسيق بين سائر أطراف المعارضة العراقية، وبالتعاون مع الولايات المتحدة لإسقاط نظام صدام.

وفي الوقت نفسه وقع الزعيمان الكرديان مسعود البارزاني وجلال الطالباني على هامش المؤتمر اتفاقاً بين الطرفين لحل جميع الخلافات بينهما، وتمت الموافقة على إعادة البرلمان الموحد الذي جرى انتخابه عام 1992 تمهيداً لحل الخلافات التي لم يجرِ تنفيذها استناداً لقرارات مؤتمر واشنطن عام 1998، وقد تم تأليف لجنة من الطرفين تتولى حل الخلافات خلال مدة 6 أشهر. كما تقرر أن يعقد البرلمان الموحد أولى جلساته في 4 تشرين الأول 2002. لكن الخطوة الرئيسة القاضية بتوحيد الإدارتين والتي نصت عليها الاتفاقات السابقة لم ترى النور إلا بعد سنوات عديدة، باستثناء قوات البيشمركة التي مازالت على حالها.
لقد كانت تلك المصالحة بين البارزاني والطالباني في نيويوك، ومؤتمرات صلاح الدين و فبينا ولندن تحت الرعاية الأمريكية تستهدف تحقيق الأجندة الأمريكية التي بدأها الرئيس الأمريكي بوش الأب عام 1991 في حرب الخليج الثانية، والتي كان يعتزم الرئيس بوش الابن أكمالها بغزو العراق، وإسقاط نظام صدام في حرب الخليج الثالثة التي اندلعت في السابع عشر من آذار 2003، وأطاحت بنظام صدام إلى الأبد في التاسع من نيسان من العام نفسه، وليبدأ العراق مرحلة جديدة هي الأشد مرارة، والتي تناولتها في كتابي {حرب الخليح الثالثة}.



72
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الخامسة والعشرين
حامد الحمداني                                                   9/3/2018

انفصال المنطقة كردستان عن العراق
بعد المجازر التي اقترفها نظام صدام خلال وبعد قمع الانتفاضة الشعبية، حيث قتل ما يزيد على 300 ألف مواطن على أيدي قوات الحرس الجمهوري، والأجهزة الأمنية للنظام، وتشرد أكثر من مليون كردي تاركين مدنهم وقراهم في شمال الوطن، ومئات الألوف من المواطنين العرب في جنوب ووسط العراق هرباً من بطش النظام، وآلته الحربية.

 ومن باب الإحراج أمام الرأي العام العالمي لما جرى في العراق من استخدام صدام أقسى درجات العنف ضد ابناء الشعب، وعمليات القتل الوحشية، وامتلاء السجون السجون، والتعذيب الوحشي حتى الموت لكل من تشك السلطة البعثية في مشاركته في الانتفاضة الشعبية ضد نظام الطاغية صدام، وكل الذي جرى تحت سمع وبصر القوات الأمريكية التي احتلت جنوب العراق، قدمت الولايات المتحدة مشروع قرار إلى مجلس الأمن، والذي جرت المصادقة عليه تحت رقم 688 في 5 نيسان 1991، والمتعلق بحقوق بصيانة الإنسان في العراق، وما تتعرض له المواطنون العراقيون على أيدي طغمة صدام الفاشية.

لكن الولايات المتحدة لم جادة في سعيها لتأمين الحقوق المشروعة للشعب العراقي في الحرية والديمقراطية والسلام، وهي التي سمحت لقوات صدام باستخدام كل أنواع الأسلحة لقمع الانتفاضة الشعبية، فهي لا يهمها انتهاك نظام صدام لحقوق الإنسان، بل كل همها في كيف تحافظ على مصالحها في منطقة الخليج، وضمان تدفق النفط دون مخاطر.

ولذلك وجدنا أن  القرار المذكور، على خلاف كل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ضد العراق تحت البند السابع، والذي له قوة إلزامية للتنفيذ، لم يصدر هذا القرار بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولذلك فلم تكن للقرار صفة إلزامية تجبر النظام على تنفيذه، وبقي هذا القرار حبراً على ورق، وقد وجدت من الضروري أن يطلع القارئ الكريم على القرار:
ثانياً: قرار مجلس الأمن بفرض الحماية على المنطقة الكردية
 قرار رقم 688 ـ في 5 نيسان 1991 :
مجلس الأمن :
مشيراً إلى الفقرة السابعة من المادة الثالثة من ميثاق الأمم المتحدة، واضعاً نصب عينيه، واجباته ومسؤولياته المنصوص عليها في الميثاق، وبقلق شديد، بسبب عمليات القمع التي تستهدف لها السكان المدنيون في أنحاء كثيرة من العراق، وقد شمل في الآونة الأخيرة المناطق الكردية المأهولة، الأمر الذي أدى إلى اندفاع جموع غفيرة من اللاجئين نحو الحدود الدولية وعبورهم، مما نجم عنه غارات عبر الحدود قد تهدد السلام والأمن الدوليين في المنطقة.
وبإحساس عظيم منه بالأسي لما يعانيه الإنسان هناك من أهوال، وبعد تأمل بالتقريرين الذين رفعهما ممثلا تركيا وفرنسا لدى الأمم المتحدة في 3، و4  نيسان 1991، برقم 22435 / س، ورقم 22445 / س، وكذلك التقريران اللذان رفعهما الممثل الدائم لجمهورية إيران الإسلامية إلى الأمم المتحدة بتاريخ 3 ، و4 نيسان 1991، وقد سجلتا برقم 22436 / س، و22447 / س. معيداً تأكيده بالتزام الدول الأعضاء كافة بأمنها وسلامتها، واستقلالها السياسي، واضعا نصب عينيه تقرير السكرتير العام المرقم 22366 / س، والمؤرخ في 30 آذار 1991 يقرر:
1ـ يدين مجلس الأمن عمليات القمع التي يعانيها السكان المدنيون العراقيون في أنحاء كثيرة من البلاد، وقد شمل في الأيام الأخيرة المناطق الكردية المأهولة، وإن ذلك يؤدي إلى تهديد الأمن والسلام الدوليين في المنطقة.

2ـ  يطلب بأن يقوم العراق على الفور، كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن الدوليين في المنطقة، بوقف هذا القمع، ويعرب عن الأمل في السياق نفسه في إقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الإنسان، والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين.
3ـ يصر على أن يسمح العراق بوصول المنظمات الإنسانية الدولية على الفور إلى جميع من يحتاجون المساعدة في جميع أنحاء العراق، ويوفر جميع التسهيلات اللازمة لعملياتها.

4ـ يطلب إلى الأمين العام أن يواصل بذل جهوده الإنسانية في العراق، وان يقدم على الفور، وإذا اقتضى الأمر على أساس أيفاد بعثة أخرى إلى المنطقة، تقريراً عن محنة السكان المدنيين العراقيين، وخاصة السكان الأكراد، الذين يعانون من جميع أشكال القمع الذي تمارسه السلطة العراقية.

5ـ يطلب كذلك إلى الأمين العام أن يستخدم جميع الموارد الموجودة تحت تصرفه  بما فيها موارد وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة، للقيام على نحو عاجل بتلبية الاحتياجات الملحة للاجئين، وللسكان العراقيين المشردين.

6ـ يناشد جميع الدول الأعضاء، وجميع المنظمات الإنسانية أن تسهم في جهود الإغاثة الإنسانية.
7ـ طالب العراق بأن يتعاون مع الأمين العام من أجل تحقيق هذه الغايات                                                                                 8 ـ يقرر إبقاء المسالة قيد النظر.  (1)   
                                       
ثالثا: نظرة في قرار مجلس الأمن رقم 688:
 بقراءة متأنية لبنود هذا القرار، نجد انه قد ركز أغلبه على المنطقة الشمالية من العراق ذات الأغلبية الكردية،  بينما مرّ مرور الكرام على معانات المناطق الجنوبية والوسطى من العراق، من أساليب القمع الوحشية التي تعرض لها السكان، أبان الانتفاضة وبعدها، وخاصة الشيعة منهم، ولم تحاول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين فرض تنفيذ هذا القرار كما فرضوه على النظام العراقي تنفيذ القرارات السابقة المتعلقة بمصالحهم في المنطقة، فمصلحة الشعب العراقي ليست في قائمة مصالحهم واهتماماتهم، ولذلك فقد بقيت بنود هذا القرار حبراً على ورق، شأنها شأن القرارات التي أصدرها مجلس الأمن لسنوات عديدة ضد إسرائيل، ولم تنفذ منها شيئاً.

وبقي الشعب العراقي يعيش حياة بائسة في ظل الحصار الأمريكي على العراق، يفتقد الغذاء والدواء، جراء الحصار الجائر، وجراء انهيار العملة العراقية، وفقدانها للقوة الشرائية حيث تراجعت قيمته الحقيقية 10000 مرة، فبعد أن كان الدينار يعادل 3،3 دولار بات الدولار الواحد يعادل 3000 دينار، وفي الوقت الذي كان الشعب العراقي يعاني مرارة الجوع كان الدكتاتور صدام حسين  يرفض القبول بقرار مجلس الأمن المتعلق بيع النفط العراقي مقابل الغذاء والدواء، واستمر في رفضه خمس سنوات أوصلت الشعب العراق إلى المجاعة دون أن تتخذ الولايات المتحدة، ولا مجلس الأمن، أية إجراءات لإجبار صدام على إطعام الشعب العراقي الجائع، و إن كل الذي فعلته الولايات المتحدة هو إصدار القرارين التاليين:
القرار الأول:
 يحدد القرار الأول المنطقة الواقعة شمال الخط 32 من شمال العراق، منطقة آمنة، تحميها الطائرات الأمريكية والبريطانية المرابطة في تركيا، والمسماة  [كومفورت بروفايد] ومنعت الجيش العراقي من دخولها، وبذلك تسنى للمواطنين الأكراد الانفصال عن الجسد العراقي تحت الحماية الأمريكية والبريطانية.

 لقد اتصف رد صدام حسين على ذلك الإجراء بالغباء، وكان أشد ضرراً على وحدة العراق أرضاً وشعبا، فقد أقدم على سحب الموظفين والأجهزة الإدارية، وأساتذة الجامعة من المنطقة، وقطع الطاقة الكهربائية عن محافظة دهوك، وفرض على المنطقة حصاراً داخلياً، مما عزز نزعة الانفصال لدى القيادات الكردية والمواطنين الأكراد، فقد جاء رد الفعل الكردي على إجراءات صدام بإجراءات تصب في خانة الانفصال التام، حيث تم إجراء انتخابات برلمانية في المنطقة الكردية، كما جرى تشكيل حكومة كردية.
 القرار الثاني:
كان القرار الثاني يتعلق بسكان الجنوب الشيعة، فقد تضمن منع طائرات سلاح الجو العراقي ـ عدا الطائرات المروحيةـ  من الطيران فوق المنطقة الممتدة جنوب الخط 38، ولاشك أن هذا القرار يخدم مصالح الولايات المتحدة من حيث الأساس، ولم يغير شيئاً من حملات القمع ضد الشعب العراقي في الجنوب. فصدام لا يحتاج لعملياته القمعية في الجنوب إلى الطائرات الحربية، فلديه ما يكفيه من قوات الحرس الجمهوري، ومن الأسلحة الثقيلة، ما يستطيع فيه قمع الشعب في هذه المنطقة من العراق، والحقيقة إن الولايات المتحدة استهدفت من هذا القرار إبعاد الطائرات العراقية عن منطقة الخليج، وطمأنة حكام الكويت.

وفي واقع الحال فإن الولايات المتحدة هي التي سمحت لصدام بقمع الانتفاضة الشعبية، وسهلت لقوات الحرس الجمهوري العبور، وسمحت له باستخدام كافة الأسلحة المتوفرة لديه لقمع وتصفية الانتفاضة، والإبقاء على نظام صدام في السلطة، والحيلولة دون وقع العراق فريسة ببيد النظام الإيراني وذراعهم في العراق، والمتمثل بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وذراعها العسكري منظمة بدر الممولة والمسلحة والمدربة إيرانيا.

رابعاً: الطالباني والبارزاني يفاوضان نظام صدام
بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 688، في 5 نيسان 1991، وقرار الولايات المتحدة بإقامة منطقة حماية للأكراد في المنطقة الواقعة شمال خط العرض 38، ورضوخ نظام صدام للقرار، وبعد المعانات الشديدة  للشعب الكردي من آثار الحصار العراقي على المنطقة، ظهرت دعوات بين صفوف القيادات الكردية تدعو للتفاوض مع النظام على أساس بيان 11 آذار 1970، ولاسيما بعد أن عجزت الانتفاضة عن تحقيق ما كان يصبو إليه الأكراد.

رأى النظام العراقي أن يستغل هذه الدعوات في محاولة منه لإعادة سيطرته على المنطقة، فأرسل إشارات إلى القيادات الكردية، عن طريق برزان التكريتي ـ أخو صدام غير الشقيق ـ أعرب لهم فيها عن استعداد الحكومة للتفاوض مع القيادات الكردية.
وجاء الرد من القيادات الكردية على دعوة برزان التكريتي سريعاً، بالموافقة على أجراء المفاوضات، دون الرجوع إلى ما كان يدعى بلجنة العمل الوطني المشترك للمعارضة العراقية!، وتحفظ بعض القوى المنضوية تحت لواء جبهة الأحزاب الكردية.(2)

ففي 12نيسان 1991 توجه وفد كردي من الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، على مستوى أعضاء اللجنة المركزية إلى بغداد، وأجرى الوفد مباحثات مطولة حول مستقبل المنطقة الكردية، ومسألة تطبيق الحكم الذاتي الحقيقي. اعتبر ذلك الاجتماع تمهيداً لاجتماع جديد، على أعلى مستوى لبحث كافة الأمور المتعلقة بتطبيق اتفاقية 11 آذار 1975، وطلبت حكومة صدام حضور كل من السيد مسعود البارزاني، والسيد جلال الطالباني إلى بغداد.(3)
وبعد أسبوع توجه إلى بغداد وفد برئاسة جلال الطالباني، الذي التقى بصدام حسين،  وطلب صدام من القيادات الكردية أن تقدم مشروعا مفصلاً، وكاملاً، ودقيقاً يتضمن مطالبها.
وعاد جلال الطالباني إلى أربيل، وتم عقد اجتماع لكافة القيادات الكردية لتدارس نتائج
 اللقاء الذي تم بين صدام حسين وجلال الطالباني، ووضع مشروع جديد حول إقامة حكم ذاتي حقيقي للمنطقة الكردية، لتقديمه لنظام صدام تضمن المشروع البنود: (4)
1ـ  يتم تطبيق الحكم الذاتي الذي نص عليه اتفاق 11 آذار 1970، مع ضم محافظة كركوك لمنطقة الحكم الذاتي.
2 ـ  إطلاق سراح السجناء السياسيين في جميع السجون العراقية كافة.
3ـ  تسهيل عودة جميع اللاجئين الأكراد، بالتعاون مع الأمم المتحدة، ومنظمات غوث اللاجئين.
4ـ  اعتماد التعددية السياسية والديمقراطية في العراق، وأجراء انتخابات حرة ونزيهة لانتخاب مجلس تأسيسي، ووضع دستور دائم للبلاد.
5ـ  ينبغي أن يتم ضمان الاتفاق بواسطة أطراف دولية عبرالأمم المتحدة
 ويمكن أن تشمل هذه الضمانات مشاركة طرف ثالث في تلك المفاوضات، وتوجه بعد ذلك وفد كردي عالي المستوى ضم كل من:
1 ـ جلال الطالباني ـ زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني.
2ـ سامي عبد الرحمن ـ سكرتير عام حزب الشعب الديمقراطي.
3 ـ رسول مامند ـ سكرتير عام الحزب الاشتراكي.
4ـ  نتشيرفان البارزاني ـ نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني.
5 ـ عمر فتاح ـ قائد الجناح العسكري للحزب الديمقراطي الكردستاني.
6ـ فاضل مصطفى ـ عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي.
7ـ عمر عثمان ـ عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي. 
8ـ فريدون عبد القادرـ عضو المكتب السياسي للاتحاد الوطني.

أما الوفد العراقي فقد تالف من كل من:
1 ـ صدام حسين ـ وقد شارك في اجتماع يومي 21، 22 نيسان.
2 ـ عزت إبراهيم الدوري ـ نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.
3 ـ طه ياسين رمضان ـ نائب رئيس الجمهورية.
4 ـ سعدون حمادي ـ رئيس الوزراء.
5 ـ حسين كامل حسن المجيد ـ وزير الدفاع.
6 ـ علي حسن المجيد ـ وزير الداخلية.
وقد جرت المباحثات بين الوفدين حول المشروع المقدم من الطرف الكردي، مساء يوم 21 نيسان بحضور صدام حسين  الذي تحدث في الاجتماع عن أهمية الروابط الوثيقة بين القوميتين العربية والكردية، واعترف صدام بأنه أخطأ في سياسته تجاه الأكراد، وأعلن عن التزامه بإجراء انتخابات عامة، والمحافظة على التعددية السياسية، وحرية الصحافة، لكنه رفض القبول بمطالب القيادات الكردية حول ضم محافظة كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي، والبند الخامس المتعلق بالضمانات الدولية.(5)
عاد الوفد الكردي بعد نهاية المحادثات إلى أربيل للتشاور، ثم عاد بعد أيام إلى بغداد مرة أخرى لمناقشة المسائل المختلف عليها مع حكومة صدام.                                                                                                                                                     
 ولكن المحادثات لم تصل إلى أي نتيجة، وباءت تلك المحاولات بالفشل، وعاد الوفد الكردي إلى أربيل، وقد بدا واضحاً أن هناك العديد من نقاط الخلاف بين الطرفين وكان أبرزها: (8)
1ـ رفض نظام  صدام أن تشمل الضمانات المطلوبة من الجانب الكردي مشاركة طرف ثالث في المفاوضات لحل الخلاف حول تحديد مناطق الحكم الذاتي، كما رفض النظام رفضاً قاطعاً ضم محافظة كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي.
2ـ إصر نظام صدام على عودة أجهزة الأمن والاستخبارات إلى منطقة الحكم الذاتي، ومعاودة نشاطها من جديد، وقد رفض الجانب الكردي ذلك.
3ـ إصرار نظام صدام على عدم السماح بالنشاط السياسي في صفوف الجيش لغير حزب البعث، وقد قدم الجانب الكردي اقتراحاً بأبعاد الجيش عن الحزبية، إلا أن صدام رفض الاقتراح.
4ـ استمرار الخلاف حول مسألة الديمقراطية والحريات العامة، فقد طالب الوفد الكردي بإطلاق حرية الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة، وأجراء انتخابات حرة ونزيه لانتخاب مجلس تأسيسي يقوم بوضع دستور دائم للبلاد، وتشكيل محكمة دستورية عليا، وإشاعة الديمقراطية في البلاد.
وكان النظام العراقي يراوغ حول هذا الموضوع، ويحاول إقامة مؤسسات صورية خاضعة لأشرافه ونفوذه، ولم يكن جاداً في تحقيق الديمقراطية في البلاد.(6)

وإثر فشل المحادثات بين الطرفين، بدأ النظام بممارسة الضغوط على منطقة الكردية من جديد ، حيث فرض حصاراً اقتصادياً عليها، وسحب الإدارة المدنية والموظفين، وقطع الرواتب عن الموظفين والعمال الأكراد، وقطع الطاقة الكهربائية عن محافظة دهوك، وقطع جميع الاتصالات مع منطقة كردستان. (6)

لقد كان واضحاً منذُ البداية أن المفاوضات لا يمكن أن تنجح بين نظام  أوغل في جرائمه بحق الشعب العراقي، عرباً وأكراداً وسائر القوميات الأخرى على حد سواء، وبين سلطة قيادات قومية كردية وجدت نفسها على حين غرة مستقلة عن سلطة حكومة صدام حسين، تحت الحماية الأمريكية والبريطانية.

وكان واضحاً بأنه حتى لو تم  توصل نظام صدام مع الوفد الكردي إلى أي اتفاق، فلن يكون إلا اتفاقاً مرحلياً اضطرته ظروفه الصعبة إلى قبوله، وعندما تتحسن ظروفه يسارع للتنصل من الاتفاق، ويبدأ بالتنكيل من جديد بالشعب الكردي، فنظام من هذا النوع لا يمكن أن يؤمن
بالديمقراطية وحقوق الانسان.


73
بمناسبة عيد المرأة في الثامن من آذار

حقوق المرأة في ظل حكم أحزاب الاسلام السياسي
تعود للعصور الظلامية!
حامد الحمداني                                               8/3/2018

لم تقدم التحولات التي حدثت في العراق على وجه الخصوص والعالم العربي بوجه عام للمرأة ما كانت تصبو إليه في نيل حقوقها المغتصبة في ظل المجتمع الذكوري السائد، بل عادت إلى الوراء على اثر وصول أحزاب الإسلام السياسي إلى السلطة في العديد من  البلدان العربية، وما تزال بلدان عربية اخرى مسرحا لمعارك دامية معظم ادواتها احزاب اسلامية طائفية متخلفة عن العصر تهدف إلى انتزاع السلطة.

وعلى حين غرة ظهرت عصابات داعش وكأنها نزلت من السماء!! مدججة بكامل اسلحتها الحديثة في سوريا والعراق بوجه خاص، وليبيا وتونس والجزائر واليمن وشبه جزيرة سيناء بوجه عام، مع ما تحمله من افكار موغله في الرجعية والتخلف لتجتاح المساحات الواسعة من الاراضي العراقية والسورية تنفيذا لأجندة اسيادها الامبرياليين، وتقترف اشنع الجرائم الوحشية بحق الانسان، تلك الجرائم التي نالت المرأة النصيب الأكبر منها، من قتل وسبي واغتصاب وتشريد، ونهب الممتلكات، وخاصة ما جرى بالنسبة للأخوات والأخوة الأيزيديين في سنجار، وكل ذلك جرى ويجري بإسم الإسلام، حتى بتنا نعيش أظلم عصور الهمجية والعالم يعيش العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين!
 
إنها انتكاسة كبرى بالنسبة لحقوق المرأة لم تشهد له منذ الخمسينات من القرن الماضي، ومن عاش تلك الحقبة الزمنية يدرك البون الشاسع بين أوضاع المرأة آنذاك وأوضاعها اليوم في ظل هذه الانتكاسة، والردة الرجعية التي لم نشهد مثلها في العصر الحديث.

أنها لمأساة كبرى أن نجد المرأة اليوم وقد البسوها هذا القناع الأسود باسم ما يدعيه مسلمو هذا الزمان بالفضيلة، وكأنما هذا القناع الأسود هو الذي يحمي عفافها!!، وبدأت عمليات غسل الأدمغة التي يمارسها منظرو الإسلام السياسي، وقد امتلكوا السلطة لإعادة الحصان الجامح الذي انطلق مع قيام الثورات إلى حصنه من جديد                                                                                 
لقد انتكست حقوق المرأة التي ناضلت من أجلها عقوداً طويلة، وبات عليها أن تبدأ من نقطة الصفر من جديد، والفضل في كل ما جرى هو وصول الإسلام السياسي إلى قمة السلطة، فلا يمكن أن يبني الإسلام السياسي دولة ديمقراطية ويطبق شرعة حقوق الإنسان، ومساواة المرأة بالرجل، ويحقق العدالة الاجتماعية.   
ولا سبيل إلى فرض وجود المرأة ومشاركتها النشيطة في الحياة السياسية والثقافية إلا من خلال كسر كل القيود التي تضمنها ما يسمى بالشرع الذي يفرضه أساطين الإسلام السياسي، فلا شرع في عصرنا هذا غير شريعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا بد أن تتحرر المرأة اقتصادياً لأنه السبيل الأهم لتحررها الاجتماعي، وهذا لن يتم إذا لم يجرِ تعبئة سائر منظمات المرأة، وبدعم فعّال ومتواصل من سائر القوى السياسية الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني لخوض المعارك الفاصلة مع قوى الردة والرجعية، لفرض إرادة التحرر من قيود المجتمع الذكوري والقوانين الرجعية التي تفرضها الشريعة التي عفا عليها الزمان، ولن تعد تلائم عصرنا.

لا أتصور، ولا أثق بكل ادعاءات أحزاب الإسلام السياسي بطرح برنامج ليبرالي حديث يتناسب مع فكرة الدولة المدنية، ويتضمن حقوق وحريات المرأة طالما هم متمسكون بما يسمى بالشريعة التي وضعت قبل 1400 عام، فمن المستحيل أن تتلاءم الشريعة الدينية مع شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة منذ عام 1948، والتي تتجاهلها كل أنظمة الدول الإسلامية، ولا حل إلا بقيام دولة علمانية تتولى فصل الدين عن الدولة، ليبقَ الدين منزها من كل ما الصقه منظرو الإسلام السياسي من أدران بغية تثبيت كيانهم السياسي وسيطرتهم وتحكمهم  بشؤون المجتمع، بدأً من رياض الأطفال وحتى الدراسات العليا، وليبًق الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه فقط، دون تدخل الدولة. 
                       
ولا بد أن اقول أن المرأة تتحمل جانبا من المسؤولية بسبب التخلف السائد في المجتمع نتيجة لعوامل متعددة بعضها يقع على عاتق رجال الدين، وبعضها الآخر على الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي، وبعضها الآخر على المرأة نفسها فلقد وجدنا الكثير من النساء ممن حملن حتى شهادة الدكتورة وقد غطت نفسها بهذا الكيس ألظلامي الأسود، وتعلن صراحة أن من حق الرجل أن يضرب المرأة، وأن على المرأة إطاعة الرجل، وعدم مخالفة إرادته، لأن الإسلام يقول أن الرجال قوامون على النساء، وهذا ما سمعته في ندوة تلفزيونية مع نائبة في البرلمان العراقي، فكيف بالمرأة المحرومة من الثقافة، والمطمورة بين أربعة جدران ومهمتها خدمة الرجل، وتلبية رغباته الجنسية، وتربية الأطفال، وتحضير الطعام، وتنظيف المسكن، دون إن تشعر بكرامتها المهانة، ودون أن تعترض على انتهاكها تحت تهديد الرجل.   
                                                                                                                                                     
 اننا بحاجة للثقافة الذاتية فهي التي تجعل الرجل يحس بكونه يضطهد المرأة ويسلبها حقوقها، وإرادتها، وأن المرأة مخلوق لا يختلف عن الرجل، بل أستطيع القول أن ما تقوم به المرأة يعجز الرجل عن القيام به، دعك عن الحمل والولادة وآلامها ومخاطرها وتربية الاطفال، ومع ذلك نجد المرأة وقد درست واجتهدت وحققت نجاحاً باهراً كطبيبة ومهندسة ومدرسة ومحامية وقاضية، بل وتبوأت في العديد من الدول أعلى مراتب السلطة كرئيسة دولة، أو رئيسة وزراء، في حين نجد الكثير من الرجال الأميين الذين لا يدركون من شؤون الحياة سوى فرض سيطرته على المرأة، ونتهاك حقوقها والاعتداء عليها.

أن الثقافة الذاتية لكلا الجنسين لا تأتِ إلا من خلال القراءة، والمخالطة الاجتماعية مع من يمتلكون جانبا واسعاً من الثقافة، فمن لا يقرأ يتحجر دماغه بلا أدنى شك، وعلى المرأة أن تهتم بالقراءة فهى السبيل لجعلها تدرك حقوقها وحرياتها، وتدفعها للنضال من أجل تحقيقها.

أجمل التهاني للمرأة اينما كنتِ من بقاع العالم بمناسبة عيدك الميمون في الثامن من آذار، وانحني لك إحتراماً وآجلالاً، وأنت تستحقين أكثر من هذا لما تقومين به من أعمال يعجز الرجل من القيام بها، وكما قيل { وراء كل عظيم امرأة }، فأنت أعظم من كل الرجال.


74
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثالثة والعشرون
حامد الحمداني                                                       7/3/2018
مؤتمر بيروت لقوى المعارضة العراقية:
في الوقت الذي كانت قوى الانتفاضة تشتبك في معارك ضارية مع قوات الحرس الجمهوري في أغلبية مدن العراق، وتقدم الضحايا تلو الضحايا، من أجل تحقيق حلم الشعب في إسقاط نظام صدام، دعت لجنة العمل المشترك لقوى المعارضة العراقية إلى عقد مؤتمر لها في بيروت، في 11 آذار 1991، لمتابعة تطورات الانتفاضة، وقد حضر المؤتمر بالإضافة إلى ممثلي 17 حزباً، المنظمين إلى لجنة العمل المشترك، كل من [المجلس العراقي الحر] و[الوفاق الوطني العراقي] و[الحركة الإسلامية في كردستان] و[المجلس الأعلى لعشائر العراق ] وعدد من الشخصيات السياسية المستقلة، من مختلف التيارات الفكرية والدينية، وعدد من ممثلي النقابات.

كما حضر المؤتمر ممثلين عن الجمهورية اللبنانية، والجمهورية العربية السورية ، وجمهورية إيران الإسلامية، ودولة الكويت، وممثلي حركات التحرر الوطني العربية، وممثلي المنظمات الدولية والإقليمية، وممثلي الهيئات الدبلوماسية المعتمدين في بيروت، والمنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، إضافة إلى مجموعة كبيرة من ممثلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية التي تابعت وقائع المؤتمر مما أعطى هذا الحضور
الكبير زخماً كبيرا للمؤتمر وشكل دعماً له.

بدأ المؤتمر بتلاوة التقرير الذي قدمته لجنة العمل المشترك، عن الأوضاع الراهنة، ومواقفها ونشاطاتها، ثم استمعت إلى كلمات الضيوف والمشاركين في المؤتمر، والذين أجمعوا على دعم الانتفاضة الشعبية والدعوة إلى توفير كل الإمكانيات والظروف المناسبة لتطويرها، وتحقيق أهدافها. وبعد إجراء مناقشات مستفيضة طيلة أيام 11، و12، و13 آذار، حول مستلزمات دعم الانتفاضة وتطويرها خرج المؤتمر بالتوصيات التالية:
1 ـ يوصي المؤتمر بالعمل على تشكيل هيئة للإنقاذ الوطني، ومعالجة الطوارئ التي تفرزها الانتفاضة.
2 ـ يوصي المؤتمر ببذل الجهود الضرورية، من أجل تجميد عضوية الحكومة العراقية الحالية في الأمم المتحدة، ووكالتها المتخصصة، والجامعة العربية، ومجموعة عدم الانحياز، والمؤتمر الإسلامي، استناداً إلى خرق هذه الحكومة لميثاق الأمم المتحدة، وقراراته ولوائحها المختلفة.
3ـ يوصي المؤتمر بتشكيل اللجان اللازمة لدعم العمل الميداني للانتفاضة، وتوفير متطلباته.
4 ـ يوصي المؤتمر بالسعي  للحصول على اعتراف عربي، وإسلامي، ودولي بالمعارضة العراقية كممثل للشعب العراقي، إلى أن يتم إسقاط النظام، وإقامة حكومة انتقالية ائتلافية تلتزم بأجراء انتخابات حرة.

5 ـ نظراً للأهمية الاستثنائية التي يجسدها مؤتمر المعارضة العراقية، وما توصل إليه في بيانه السياسي  يوصي المؤتمر بإرسال وفود إلى مختلف دول العالم، والمنظمات الدولية، ومؤسسات الرأي العام، لإبلاغها بنتائج المؤتمر، وطلب دعم الانتفاضة، ولتسهيل عمل هذه الوفود، وتوفير أفضل الفرص لنجاح هذا النشاط، يوصي المؤتمر بضم الأخوة أعضاء المؤتمر القادمين من البلدان المختلفة، إلى وفد المعارضة، عند زيارة البلدان التي يقيمون فيها، والاستفادة من إمكانياتهم وتجاربهم.

6ـ يوصي المؤتمر قوى المعارضة بتخصيص صندوق لدعم الانتفاضة، ولجمع كل أشكال المساعدة المالية، وفي المقدمة منها الدعم المالي من التجمعات العراقية في المهجر، والمؤسسات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان، ومن كل الداعمين لانتفاضة الشعب، للخلاص من الدكتاتورية.
7ـ يوصي المؤتمر بتشكيل لجنة لجمع المعلومات وتوضيحها، حول انتهاك نظام صدام لحقوق الإنسان الأساسية ، ومصادرتها، مثل الاعتقال الكيفي، والمحاكمات الصورية، والتعذيب، والاختطاف والسجن والإعدامات الجماعية، والعقاب الجماعي بحق الأحياء السكنية والمدن، واستخدام الأسلحة الكيماوية، وعمليات التهجير، وحرق القرى، وسياسة الأرض المحروقة، ومصير المفقودين، وجمع كل هذه المعلومات في وثيقة، وتقديمها إلى الهيئات الدولية المختلفة، وفي المقدمة منها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، حيث يوصي المؤتمر بإرسال وفد إليها للتحري والعمل على إطلاق سراح جميع المعتقلين والسجناء السياسيين، والطلب من السلطات العراقية تزويدها بالمعلومات الكاملة عن كل السجناء، وطبيعة الأحكام الصادرة بحقهم، كما نصت عليه لوائح الأمم المتحدة حول الحقوق المدنية، والسياسية المصادق عليها من قبل الحكومة العراقية، والضغط عليها،ومطالبتها بالكشف عن مصير المفقودين والمخطوفين .
8ـ يوصي المؤتمر بتنظيم حملة عالمية واسعة لمنع النظام من قمع الانتفاضة الجماهيرية بالحديد والنار، وخاصة منع استخدام الأسلحة الكيماوية، ويطالب الأمم المتحدة اتخاذ القرار بإنزال العقوبات الرادعة إذا ما لجأ النظام إلى ذلك.
9ـ  يوصي المؤتمر بتشكيل ممثليات،ولجان للمعارضة العراقية من مختلف البلدان التي يقيم فيها العراقيون.
10ـ أخذاً بنظر الاعتبار معانات شعبنا، نتيجة الحرب المفروضة عليه من قبل النظام، والنقص في المواد الغذائية والأدوية، والخدمات المختلفة، تعمل قوى المعارضة على تأمين المواد الغذائية والأدوية، عبر حملات المساعدة، ومطالبة هيئة الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدولية بإرسال لجنة منها لدراسة أوضاع الشعب المعيشية ومعالجة ومساعدة ضحايا الانتفاضة، والاتصال بجميع الدول المجاورة للعراق لفتح حدودها، وتسهيل وصول المعونات الغذائية والأدوية، والمساعدة على بناء المؤسسات الخدماتية.

كما أصدر المؤتمر عدد من التوصيات المتعلقة بالأعلام، بالتركيز على عراقية وشمولية الانتفاضة، وفضح كل محاولات التشويه التي تستهدف إيجاد المبررات لإبقاء صدام حسين في السلطة، عن طريق إثارة المخاوف من بديل المعارضة، والعمل على تكثيف الجهود لدعم الانتفاضة، بكل الوسائل الممكنة، كإصدار النشرات الدورية ، ومد وسائل الأعلام بأخبار الانتفاضة ، وتنظيم المؤتمرات الصحفية، وتعبئة كل الجهود الممكنة في هذا السبيل. (9)
و بقراءة دقيقة لتوصيات المؤتمر نجد أن أهم واجب كان ملقى على عاتق المؤتمرين قد أهمل، واقصد بذلك مسألة قيادة الانتفاضة، فقد كان ينبغي على المؤتمرين التوجه إلى المناطق المحررة، وتشكيل قيادة ميدانية مشتركة، سياسية وعسكرية للأخذ بزمام الأمور، وقيادة الانتفاضة نحو النصر النهائي، والتأكيد على أن تكون الشعارات المرفوعة محصورة بما اُتفق عليه من قبل المؤتمرين، وبشكل خاص، التأكيد على عراقية الانتفاضة، ووحدة القوى الوطنية، وإقامة البديل الديمقراطي التعددي، وحكومة ائتلاف وطني، تقوم بأجراء انتخابات حرة ونزيهة بأقرب وقت ممكن، وإقامة علاقات حسن الجوار والتعاون مع كافة الدول المجاوره .

  إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، وتُركت الانتفاضة دون قيادة كفوءة وقديرة تعوزها الخبرة السياسية والعسكرية، وبقي المجال مفتوحاً لشعارات دينية وطائفية ضيقة، فأساءت للانتفاضة، أرعبت دول الجوار، وجعلتها تنادي ببقاء نظام صدام بدلاً من قيام نظام شيعي طائفي، اعتبرته الولايات المتحدة يشكل خطراً كبيراً على مصالحها ومصالح الغرب، يتجاوز أخطار صدام ونظامه، فالولايات المتحدة لا يمكن أن ترتاح لقيام نظام من هذا النوع في العراق بأي حال من  الأحوال، ولذلك فقد رأت بقاء نظام صدام، بل وتقديم كل التسهيلات له لقمع الانتفاضة وإغراقها بالدم.

لم يكد نظام صدام يقمع الانتفاضة، وينكل بكل من شارك فيها، حتى خفت صوت قيادات المعارضة، ودبت الخلافات فيما بينهم، وانفرط عقدهم، وتطورت الأمور إلى حد المهاترات بين تلك القوى، على صفحات الصحف التي يصدرونها، وهكذا تلاشت الآمال التي كانت معقودة على لجنة العمل الوطني للمعارضة، وقيام  جبهة وطنية عريضة تقود نضال الشعب لإسقاط النظام الدكتاتوري. وعاد الجهاز القمعي لسلطة صدام يمارس أبشع الأساليب وحشية للانتقام من كل من يشك بأنه قد شارك، أو ساند، أو أيد الانتفاضة، فكانت حملات الإعدامات تجري كل يوم لمئات الموطنيين ، تحت سمع وبصر القوات الأمريكية والحليفة، ودون أن تبدي أي حراك على جرائم السلطة.     
لقد أخطأت القوى السياسية المعارضة عندما علقت أمالها على إمكانية دعم الولايات المتحدة لانتفاضة الشعب العراقي، وإسقاط صدام حسين، ذلك أن للولايات المتحدة حساباتها الخاصة التي تصب في خانة مصالحها قبل كل شيء، فلقد وجدت الولايات المتحدة أن بقاء صدام على رأس النظام، واستمراره في حكم البلاد، هو خير من يستطيع تنفيذ كل ما تطلبه، وما تضعه من شروط،، وقد سمحت له بالاحتفاظ بجانب كبير من قوات حرسه الجمهوري ليستطيع استخدامه في تثبيت حكمه، وقمع انتفاضة الشعب.

كما أرادت الولايات المتحدة بقاء صدام على رأس السلطة في العراق، لكي يبقى بعبعاً تهدد به دول الخليج لكي تكون لها ذريعة لبقاء قواتها وأساطيلها في المنطقة لتحميها من أي عدوان جديد قد يشنه النظام على بلدانها مستقبلاً، كما تدفع حكام تلك الدول لشراء وتكديس الأسلحة خوفاً من تهديد النظام العراقي، وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الولايات المتحدة كانت دائمة التفكير بإيران، وما تشكله من تهديد على مصالحها في الخليج، ولذلك فقد وجدت في بقاء نظام صدام كعامل توازن مع إيران في هذه المنطقة الهامة للمصالح الأمريكية أمر ضروري، فالولايات المتحدة لا تعير أي أهمية لمصالح الشعب العراقي ومصيره، وجلّ همها حماية مصالحها النفطية في الخليج.

لقد كان على قوى المعارضة العراقية أن تركز جهودها على الشعب العراقي، وعلى الشرفاء من أبناء الجيش لأحداث التغير في هيكلية النظام، دون إهمال الجانب الدولي والإقليمي، الذي له دوره بالتأكيد، وكان  بالإمكان الاستفادة منه في دعم الانتفاضة، لكن تصرف القوى الإسلامية التابعة للسيد باقر الحكيم والمسماة بمنظمة بدر، ورفعها الشعارات الطائفية كانت العامل الحاسم في قرار بوش الذي كان قد دعا الشعب العراقي لإسقاط نظام صدام بعد توقف الحرب ، إلى إبقاء نظام صدام على سدة الحكم في البلاد.

: قرار مجلس الأمن رقم 688: 
بعد المجازر التي اقترفها نظام صدام الفاشي خلال وبعد قمع الانتفاضة الشعبية، حيث قتل ما يزيد على 300 ألف مواطن على أيدي قوات الحرس الجمهوري، والأجهزة الأمنية للنظام، وتشرد أكثر من مليون مواطن كردي تاركين مدنهم وقراهم هرباً من بطش النظام، ومن باب الإحراج أمام الرأي العام العالمي، قدمت الولايات المتحدة مشروع قرار إلى مجلس الأمن والذي جرت المصادقة عليه تحت رقم 688 في 5 نيسان 1991، والمتعلق بحقوق الإنسان في العراق، وما تعرض  ويتعرض له على أيدي طغمة صدام الفاشية.

 ومن الجدير بالذكر أن القرار المذكور هو القرار الوحيد من بين جميع القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ضد نظام صدام الذي لم يصدر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولذلك فلم تكن للقرار صفة إلزامية تجبر نظام صدام على تنفيذه، وبقي هذا القرار حبراً على ورق وفيما يلي نص القرار:
قرار رقم 688 ـ في 5 نيسان1991: (10) 
مجلس الأمن:
مشيراً إلى الفقرة السابعة من المادة الثالثة من ميثاق الأمم المتحدة، واضعاً نصب عينيه، واجباته ومسؤولياته المنصوص عليها في الميثاق، وبقلق شديد، بسبب عمليات القمع التي تستهدف السكان المدنيون في أنحاء كثيرة من العراق، وقد شمل في الآونة الأخيرة المناطق الكردية المأهولة، الأمر الذي أدى إلى اندفاع جموع غفيرة من اللاجئين نحو الحدود الدولية وعبورها، مما نجم عنه غارات عبر الحدود قد تهدد السلام والأمن الدوليين في المنطقة.
 وبإحساس عظيم منه بالأسى لما يعانيه الإنسان هناك من أهوال، وبعد تأمل بالتقريرين الذين رفعهما ممثلا تركيا وفرنسا لدى الأمم المتحدة في 3، و4  نيسان 1991، برقم 22435 / س، ورقم 22445 / س، وكذلك التقريران اللذان رفعهما الممثل الدائم لجمهورية إيران الإسلامية إلى الأمم المتحدة بتاريخ 3 ، و4 نيسان 1991، وقد سجلتا برقم 22436 / س، و22447  / س . معيداً تأكيده بالتزام الدول الأعضاء كافة بأمنها وسلامتها، واستقلالها السياسي، واضعا نصب عينيه تقرير السكرتير العام المرقم 22366 / س، والمؤرخ في 30 آذار 1991 يقرر:
1ـ يدين مجلس الأمن عمليات القمع التي يعانيها السكان المدنيون العراقيون في أنحاء كثيرة من البلاد، وقد شمل في الأيام الأخيرة المناطق الكردية المأهولة، وإن ذلك يؤدي إلى تهديد الأمن والسلام الدوليين في المنطقة.
2 ـ يطلب بأن يقوم العراق على الفور، كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن الدوليين في المنطقة، بوقف هذا القمع، ويعرب عن الأمل في السياق نفسه في إقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الإنسان، والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين.
3ـ يصر على أن يسمح العراق بوصول المنظمات الإنسانية الدولية على الفور إلى جميع من يحتاجون المساعدة في جميع أنحاء العراق، ويوفر جميع التسهيلات اللازمة لعملياتها.
4ـ يطلب إلى الأمين العام أن يواصل بذل جهوده الإنسانية في العراق، وان يقدم على الفور، وإذا اقتضى الأمر على أساس أيفاد بعثة أخرى إلى المنطقة، تقريراً عن محنة السكان المدنيين العراقيين، وخاصة السكان الأكراد الذين يعانون من جميع أشكال القمع الذي تمارسه السلطة .
5ـ يطلب كذلك إلى الأمين العام أن يستخدم جميع الموارد الموجودة تحت تصرفه، بما فيها موارد وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة، للقيام على نحو عاجل بتلبية الاحتياجات الملحة للاجئين، وللسكان العراقيين المشردين.
6ـ يناشد جميع الدول الأعضاء، وجميع المنظمات الإنسانية أن تسهم في جهود الإغاثة الإنسانية.
7ـ يطالب العراق بأن يتعاون مع الأمين العام من أجل تحقيق هذه الغايات.
8 ـ يقرر إبقاء المسألة قيد النظر.
                                                                            مجلس الأمن
نظرة في القرار:
 بقراءة متأنية لبنود هذا القرار، نجد أنه قد ركز في أغلبه على المنطقة الكردية، بينما مرّ مرور الكرام على معانات المناطق الجنوبية والوسطى من العراق، من أساليب القمع الوحشية التي تعرض لها السكان، أبان الانتفاضة وبعدها، وخاصة الشيعة منهم.
كما أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لم يحاولوا فرض تنفيذ هذا القرار، كما فرضوا على النظام العراقي تنفيذ القرارات السابقة المتعلقة بمصالحهم في المنطقة، فمصلحة الشعب العراقي ليست في قائمة مصالحهم واهتماماتهم، ولذلك فقد بقيت بنود هذا القرار حبراً على ورق، شأنها شأن القرارات التي أصدرها مجلس الأمن لسنوات عديدة ضد إسرائيل، ولم تنفذ منها شيئاً، وكل الذي فعلته الولايات المتحدة هو إصدار قرارين متممين لقرار مجلس الأمن:
القرار الأول: نص على كون المنطقة الواقعة شمال الخط 32 من منطقة كردستان منطقة آمنة، تحميها طائراتهم المرابطة في تركيا، والمسماة  [كومفورت بروفايد] ، ومنعت الجيش العراقي من دخولها، وبذلك تسنى للمواطنين الأكراد الحصول على الأمان في كردستان العراق، وكان رد فعل صدام على ذلك أن سحب الموظفين والأجهزة الإدارية، وأساتذة الجامعة من المنطقة، وقطع الطاقة الكهربائية عن محافظة دهوك، وفرض على منطقة كردستان حصاراً داخلياً.
وجاء رد الفعل الكردي على إجراءات نظام صدام بأجراء انتخابات لمجلس وطني في كردستان، وتشكيل حكومة كردية، وأصبحت منطقة كردستان مركزاً لتجمع قوى المعارضة العراقية.                                                                                                                       
 القرار الثاني: الذي يخص سكان الجنوب ذو الأغلبية الشيعية ويقتضي بمنع طائرات سلاح الجو العراقي ـ عدى الطائرات المروحيةـ من الطيران فوق المنطقة الممتدة جنوب الخط 38.
ولاشك أن هذا القرار يخدم مصالح الولايات المتحدة من حيث الأساس، ولم يغير شيئاً من حملات القمع ضد الشيعة، فصدام لا يحتاج لعملياته القمعية في الجنوب إلى الطائرات الحربية، لكن الولايات المتحدة أرادت بهذا القرار أبعاد الطائرات العراقية عن منطقة الخليج، وطمأنة  الكويت.


75
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الحادية والعشرون
حامد الحمداني                                              3/3/2018
البارزاني والطالباني يستنجدان بالرئيس بوش:
بعد التطورات الخطيرة التي اجتاحت المنطقة الكردية في شمال العراق، وجه الزعيمان الكرديان [ مسعود البارزاني ] رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني و[جلال الطالباني ] رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني نداءً إلى الرئيس الأمريكي بوش طالبين منه حماية الشعب الكردي من هجوم قوات نظام صدام.

 وسارعت الولايات المتحدة و حليفتها بريطانيا إلى فرض الحماية على المنطقة الكردية الواقعة شمال خط العرض 32 فيما سمي بعملية {بروفايد كومفورت} ومنعت القوات العراقية من تجاوز هذا الخط ، كما منعت الطائرات من التحليق فوق هذه المنطقة، وبذلك أخذ النازحون الأكراد يعودون إلى مناطق سكناهم  تحت حماية الطائرات الأمريكية والبريطانية.

 وهكذا أسقط في يد صدام، واضطر للرضوخ للأمر، وسحب قواته من المنطقة، كما أقدم على سحب أجهزته الأمنية والإدارية، والمدرسين وأساتذة الجامعة من كردستان، وقطع الطاقة الكهربائية عن مدينة دهوك. وهكذا أصبحت منطقة كردستان العراق تحت حماية الولايات المتحدة وبريطانيا، وتخلص الأكراد من سيطرة نظام صدام، وجرى تنظيم إدارة جديدة في المنطقة من قبل الشعب الكردي، كما جرت فيما بعد انتخاب مجلس تشريعي، وتشكيل مجلس للوزراء بمعزل عن سلطة نظام صدام في بغداد.

أما في الفرات الوسط وجنوب العراق فقد تمّ ذبح الانتفاضة بقوة السلاح، تحت سمع وبصر القوات الأمريكية والحليفة، بل وبدعم منها، وأجرى النظام  الذي استطاع قمع الانتفاضة والبقاء في السلطة حملة تصفية وحشية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل لكل من تشك السلطة بمشاركته في الانتفاضة، وقدر عدد الضحايا بما يزيد على 300 ألف مواطن، هذا بالإضافة إلى تدمير المدن والقرى بأسلوب إجرامي بشع.

لقد خذلت الولايات المتحدة الشعب العراقي، وبان زيف ادعاء الرئيس الأمريكي بوش في أن يشهد سقوط صدام حسين ونظامه، فقد وجد بوش أن بقاء صدام على رأس النظام يحقق للولايات المتحدة مصالحها، فيما وجد أن سيطرة القوى الإسلامية الموالية لإيران يمثل أكبر الأخطار على مصالحهم في الخليج، ويهدد الأنظمة القائمة في هذه المنطقة الهامة، التي تحتوي على أكبر مصادر الطاقة في العالم . (4)
العوامل التي أدت إلى فشل الانتفاضة؟
عندما قامت الانتفاضة في الأول من آذار 1991، كانت كل الظروف الموضوعية ناضجة لانتشارها في كافة المدن العراقية بعد سنوات طوال من الحكم الدكتاتوري الاستبدادي، والجرائم التي ارتكبها نظام صدام بحق الشعب العراقي بكل فئاته وقومياته وطوائفه.
لقد أنتشر لهيب الثورة بأسرع مما كان يتصوره الكثير من الناس ليغطي العراق من شماله حتى جنوبه، ومما زاد في اندفاع الجماهير الشعبية للمشاركة في الانتفاضة، هو اشتراك عناصر واسعة من الجيش في إشعال لهيبها، وانضمام أعداد غفيرة من العسكريين إلى صفوف الانتفاضة، مما سهل كسر حاجز الخوف الذي أشاعه إرهاب النظام لسنين طويلة، وظهر لأول مرة أن الجهاز الذي اعتمد عليه صدام حسين في حماية نظامه، قد بدأ بالتداعي بعد الهزائم التي ألحقها النظام بالجيش العراقي في معركة غير متكافئة مع الولايات المتحدة وحلفائها، وتسبب ذلك في إذلال الجيش العراقي الباسل.

لقد بان للشعب العراقي أن نظام صدام بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط، ولم يشك أحد في نهاية نظام صدام وعصابته المجرمة بحق الشعب والوطن. لكن الأمور تغيرت بشكل مفاجئ بعد أن وضعت الولايات المتحدة وحلفائها ثقلهم إلى جانب النظام، ومهدوا السبيل لقوات الحرس الجمهوري لاستعادة المبادرة، وسهلوا لقواته المحاصرة جنوب الناصرية للعبور ومهاجمة المدن المحررة واستعادة السيطرة عليها، مستخدمة شتى أنواع الأسلحة من دبابات  ومدفعية وصواريخ وطائرات مروحية. وهكذا بدأ الحلم الجميل بإسقاط النظام يتلاشى شيئاً فشيئاً، نتيجة للأسباب التالية:
1ـ فشل قيادات الانتفاضة في استثمارها وتوجيهها وقيادتها، وبُعد هذه القيادات عن ساحة المعركة، عدا القيادة الكردية، وتواجدها خارج البلاد، فقد كان الأجدى بقيادات المعارضة التي اجتمعت في مؤتمر بيروت أن تتوجه إلى المناطق المحررة من العراق لتنشئ قيادة ميدانية مشتركة لكافة القوى والأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء ميثاق دمشق، وتوجيه الانتفاضة نحو تحقيق المبادئ التي أقرها الميثاق فيما يخص إسقاط نظام صدام، وإقامة النظام الديمقراطي التعددي، والعمل على تحقيق الأهداف العامة التي نص عليها الميثاق.
إلا أن شيئاً  من هذا لم يحدث، وتُركت الانتفاضة لتوجيهات بعض القيادات الإسلامية، وعلى رأسها قيادة السيد [ محمد باقر الحكيم ] الذي دخلت قواته المسماة [ قوات بدر]  من إيران إلى جنوب العراق، مما جعل الشعارات الطائفية تطغي على الانتفاضة. وزاد في الطين بله دخول قوات من حرس الثورة الإيرانية بصحبة قوات بدر التابعة لباقر الحكيم ليثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها، وحكام الخليج وعلى رأسهم السعودية، حيث وجدوا أن سيطرة قوى إسلامية موالية لإيران سوف يسبب  مخاطر كبيرة على مصالحهم، وعلى أنظمة الحكم في دول الخليج. وهكذا اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالوقوف ضد الانتفاضة وإجهاضها، واستمرار نظام صدام في حكم العراق.
لقد أخطأت القوى الإسلامية في محاولة الاستئثار بالانتفاضة، متجاهلة بقية القوى السياسية الوطنية التي انضوت تحت راية ميثاق دمشق، وتصورت تلك القوى أنها باتت على وشك استلام الحكم والاستئثار به، ولم تدرِ أنها بإجراءاتها تلك قد استفزت قوى التحالف الغربي، وأنظمة الخليج، بل وأرعبتها، ودفعتها إلى الوقوف ضد الانتفاضة، وإجهاضها.
2 ـ توقف زحف القوات الكردية نحو مدينتي الموصل وصلاح الدين بعد أن تم لها السيطرة الكاملة على منطقة كردستان، في حين كان الموقف يتطلب مواصلة الزحف نحو محافظتي الموصل وصلاح الدين للسيطرة عليهما من جهة، ولتخفيف الضغط على الجبهة الجنوبية والوسطى من جهة أخرى حيث كانت قوات الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط تخوض المعارك الباسلة ضد قوات صدام، وقد أتاح توقف زحف القوات الكردية الفرصة للنظام للاستفراد بقوى الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط، وتوجيه جهده العسكري لقمعها وتصفيتها، ومن ثم التحول نحو المنطقة الشمالية، والتنكيل بالشعب الكردي.

3ـ بسبب من ضعف قيادة قوات الانتفاضة، وسيطرة القوى الإسلامية عليها، واستبعاد القوى السياسية الأخرى، وقعت قوات الانتفاضة بأخطاء جسيمة، فقد اتخذت قيادة الانتفاضة في الجنوب والفرات الأوسط سياسة التصفية الجسدية ضد العناصر البعثية، وحتى ضد العديد من العناصر السنية في بعض الأحيان، في حين كان المفروض الابتعاد عن مثل هذه السياسة، ومحاولة جر جانب كبير من العناصر التي ارتبطت بحزب البعث لأسباب عديدة إلى جانبها. فمن المعلوم أن نظام صدام عمل بكل الوسائل والسبل على إجبار أبناء الشعب للانخراط في صفوف الحزب، سواء عن طريق التهديد والوعيد، أو عن طريق الإغراء المادي، والمكاسب الوظيفية وغير الوظيفية، مما جعل الكثيرين من أبناء الشعب ينتمون لحزب البعث، رغم عدم إيمانهم به وبقيادته وتوجهاته.

 لكن سياسة التصفية الجسدية للعديد من عناصر الحزب جعلت البعثيين يقفون ضد الانتفاضة مرغمين،  بينما وجدنا القوات الكردستانية سلكت طريقاً آخر استطاعت فيه جر جميع العناصر الكردية التي سخرها نظام صدام لمحاربة الحركة الكردية لسنين عديدة إلى صفوفها، وبكامل أسلحتها، مما أسقط في يد نظام صدام.

غير أن القوات الكردية أخطأت في عدم محاولتها الاستفادة من قدرات تلك القوات التي استسلمت، وألقت سلاحها، وهي بالتأكيد أعداد كبيرة جداً، وكان الأجدر أن تحاول كسب تلك القوات، وتعبئتها ضد النظام، ولاسيما وأنها كانت على درجة كبيرة من الضخامة، وتمتلك خبرات قتالية جيدة جداً، وقادرة على استخدام الأسلحة الحديثة التي كانت بحوزتها، ولو تم ذلك لكانت قوات الانتفاضة قد أصبحت في موقف أحسن بكثير، وربما استطاعت جر تشكيلات عسكرية أخرى إلى جانب الانتفاضة.
 4 ـ إن إهمال ميثاق دمشق، ومحاولة القوى الإسلامية الطائفية قطف ثمار الانتفاضة لنفسها، ومحاولة إقامة نظام طائفي في العراق، قد أقلق الطائفة السنية بالغ القلق، ولاسيما وأن معظم قيادات الجيش هم من الطائفة السنية. لقد كان الأجدى بتلك القوى أن تتجنب ذلك السلوك، وتؤكد على الشعارات الداعية للوحدة الوطنية، والنظام الديمقراطي التعددي، ومحاولة كسب وجر العناصر السنية في صفوف الجيش إلى جانبها، لكن تلك النظرة الضيقة للقوى الإسلامية الطائفية جعلت جانباً كبيراً من الطائفة السنية تفضل بقاء نظام صدام على قيام نظام حكم شيعي طائفي في العراق.

5ـ اعتماد قوات الانتفاضة على نظرية الدفاع المحلي، سواء في المنطقة الكردية أم في المنطقة الجنوبية والفرات الأوسط، وطبيعي أن هذه النظرية قد كلفت قوى الانتفاضة تضحيات جسيمة في مواجهة جيش منظم، ومجهز بمختلف الأسلحة الثقيلة. لقد كان الأجدر بقوات الانتفاضة تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة، في عموم العراق، وأن تكون هذه القيادة جماعية، لسائر قوى الانتفاضة، وأن تلتزم القيادة الموحدة بمقررات مؤتمر دمشق، وتعمل على تطبيقها.(5)

6ـ نفاذ العتاد لدى قوات الانتفاضة، وتعذر الحصول على أي دعم أو مساندة يمكنها من مواصلة التصدي لقوات النظام، ولو وفرت القوات الأمريكية هذا الدعم وقدمت العتاد والسلاح لقوات الانتفاضة لتغير سير المعارك لصالح الانتفاضة.  لكن الولايات المتحدة كانت قد قررت التخلي عن الانتفاضة، وأبتلع الرئيس بوش دعوته للشعب العراقي لإسقاط النظام لمنع هيمنة النظام الإيراني على مقدرات العراق.

هذه هي أهم العوامل التي أدت إلى إجهاض الانتفاضة التي دفع الشعب العراقي خلالها تضحيات جسام دون أن يحقق ما كان يصبو إليه في التخلص من صدام ونظامه، وإقامة البديل الديمقراطي التعددي، وبات على الشعب العراقي أن يتحمل لسنين عديدة أخرى المآسي والويلات من هذا النظام الفاشي، ويعاني من الحصار الظالم المفروض على العراق وما سببه من ويلات ومصائب للشعب .
                 

76
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة العشرون
حامد الحمداني                                           1/3/2018
ثالثاً:الهجوم المعاكس للنظام وانحسار الانتفاضة
بدأ انحسار قوة الانتفاضة بعد منتصف شهر آذار، حيث سمحت الولايات المتحدة وحليفاتها لقوات الحرس الجمهوري بالعبور، كما سمحت لنظام صدام باستخدام الطائرات الحربية، وصواريخ ارض ـ ارض، وسائر الأسلحة الأخرى، لقمع الانتفاضة، ووقفت قوات التحالف تراقب قوات النظام وهي توجه كل أسلحتها نحو الشعب العراقي الذي أنتفض على حكم الطاغية.

 وهكذا ابتلعت الولايات المتحدة كل دعواتها بإسقاط نظام صدام، لا بل ساعدته ومكنته من شن هجومه على قوى الانتفاضة و ضرب المدن  بكل ما توفر له من الأسلحة، فليس مهماً للولايات المتحدة مصير العراق وشعبه ، بل كل ما يهمها هو أن تحافظ على مصالحها النفطية في الخليج.
وفي الوقت الذي كان المواطنون في مدن الجنوب يتصدون لهجمات قوات صدام وطائراتها ودبابات، توقفت القوات الكردية عن زحفها نحو الموصل وصلاح الدين، وقد مكّن ذلك الموقف قوات صدام من تركيز جهدها العسكري على الفرات الأوسط والمنطقة الجنوبية للقضاء على قوات الانتفاضة، لتعود بعد ذلك إلى منطقة كردستان، وتنكل بالشعب الكردي أشنع تنكيل، وتسببت جرائم النظام بهجرة أكثر من مليون مواطن نحو الحدود التركية هرباً من بطش قواته.
ففي يوم الأحد 17 آذار هاجمت القوات النظام مدينة الكوت، واستبسلت قوات الانتفاضة في الدفاع عن المدينة أمام قوات الحرس الجمهوري وأسلحته المختلفة من الدبابات والصواريخ والمدفعية والطائرات السمتية، وتم في البداية إيقاف تقدم قوات النظام، واستطاعت قوات الانتفاضة إسقاط طائرتين سمتيتين، وتدمير عدد من الدبابات، وإنزال العديد من الخسائر في صفوف قوات صدام، لكن المهاجمين استطاعوا في نهاية الأمر السيطرة على جزء من المدينة بعد أن نفذ معظم العتاد لدى قوات الانتفاضة، وأصبح موقف قوات الانتفاضة صعباً جداً أمام قوات الحرس الجمهوري المجهز بمختلف الأسلحة الثقيلة،
وفي يوم الاثنين 18 آذار قامت قوات النظام  بهجوم واسع على مدينة كركوك بعد قصف مركز بالمدفعية والدبابات، واستطاعت القوات المهاجمة بعد قتال عنيف  من السيطرة على مقر المحافظة ومقر الفيلق الأول والمطار ومناطق آبار النفط .
وفي اليوم نفسه قصفت قوات النظام  مدن [خانقين] و[جلولاء] و[طوز خورماتو] و[كلار] والمجمع السكني [صمود] بصواريخ أرض ـ ارض، منذُ الساعة السادسة صباحاً، مستخدماً 4 قواعد للصواريخ في السعدية، مما أوقع أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى بين السكان المدنيين، ثم أعقب القصف هجوماً على طوز خورماتو  من خمسة محاور هي طريق كركوك، وطريق تكريت، وطريق بلان، وطريق ينجول وطريق سلمان بيك، مستخدمة الدبابات والطائرات السمتية والمدفعية الثقيلة، والقنابل الفسفورية والنابالم، مما تسبب في وقوع خسائر جسيمة في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء.

 وفي يوم الثلاثاء 19 آذار كان القتال يدور حول مدينة كربلاء، حيث هاجمتها قوات الحرس الجمهوري على محورين، محور المسيب، ومحور الرزازة، وحيث أحرزت القوات المهاجمة المتفوقة في المعدات والأسلحة الثقيلة تقدماً باتجاه المدينة وحاصرتها، وجرى قصفها بشكل مركز بمختلف الأسلحة الثقيلة، كما شنت قوات نظام صدام حسين هجوماً آخر على مدينتي النجف والكوفة بعد أن تمكن من جلب قوات كبيرة من الحرس الجمهوري بأسلحتها الثقيلة.

وقام صدام بتعين حكام عسكريين في مناطق الانتفاضة، من بين كبار الضباط الذين كان لهم دور إجرامي كبير في الحرب العراقية الإيرانية، فقد عين [ماهر عبد الرشيد]  حاكماً عسكرياً على قاطع الناصرية، و[طالع الدوري]  حاكماً عسكرياً على قاطع البصرة، و[هشام صباح الفخري] حاكماً عسكرياً على قاطع العمارة، و[طالب السعدون] حاكماً عسكرياً على قاطع الكوت، و[علي حسن المجيد] حاكماً عسكرياً على منطقة كردستان.

وفي يوم الأربعاء 20 آذار حققت قوات الانتفاضة انتصاراً لها في كركوك والسليمانية و أربيل وأجزاء من محافظة صلاح الدين، وبعض قرى محافظة نينوى، واستطاعت قوات الانتفاضة السيطرة على دار الإذاعة والتلفزيون في كركوك، و3 مطارات عسكرية ومدنية وجميع مناطق آبار النفط.
وقامت قوات صدام المنسحبة من مدينة كركوك بأخذ رهائن من المدنيين الأكراد ما يزيد على 15 ألف مواطن من النساء والأطفال والشيوخ، ثم قامت القوات بعد انسحابها من المدينة، بضربها بالقنابل الفسفورية والنابالم  والصواريخ، واستخدمت في قصفها الطائرات الحربية ذات الأجنحة والطائرات السمتية.

أما في المنطقة الجنوبية فكانت المعارك الشرسة يدور رحاها بين القوات صدام وقوات الانتفاضة في داخل مدن كربلاء والنجف والديوانية والسماوة، واستبسلت قوات الانتفاضة المدافعة عن المدن المذكورة رغم التفوق الكبير لقوات الحرس الجمهوري  في الأسلحة والمعدات والخبرة العسكرية، وقد ذهب ضحية تلك المعارك في مدينة النجف وحدها أكثر من 15 ألف مواطن، وتم اعتقال المرجع الأعلى للطائفة الشيعية السيد [أبو القاسم الخوئي] وجرى نقله إلى بغداد. وفي الوقت نفسه كانت المعارك الشرسة تجري داخل مدينة البصرة بمختلف أنواع الأسلحة، مما أوقع الخسائر الجسيمة في صفوف المدنيين. وفي يوم الخميس 21 آذار اقتحمت قوات الحرس الجمهوري  مدينة الناصرية رغم البسالة قوات الانتفاضة بسبب تفوق القوات المهاجمة في الأسلحة والمعدات.

وفي مدينة علي الغربي استطاعت قوات الانتفاضة السيطرة على مقر اللواء التاسع من الفيلق الثالث، وقد استسلم ما يزيد على 250 ضابطاً وجندياً بكامل أسلحتهم، وغنمت قوات الانتفاضة حوالي 500 بندقية آلية، و30 مصفحة وسيارة عسكرية. وفي يوم الجمعة 22 آذار شنت قوات الانتفاضة هجوماً على منطقة زين القوس، وتمكنت من قتل آمر الفوج، واستسلم أكثر من 100 ضابط وجندي لقوات الانتفاضة، واستولت على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات.

وفي يوم الاثنين 23 آذار جرت معارك عنيفة في منطقة فايدة شمال الموصل، على طريق دهوك، وأوقعت قوات الانتفاضة خسائر جسيمة في صفوف قوات النظام، وتم إسقاط طائرة سمتيه، واحتلت قوات الانتفاضة المزيد من الأراضي باتجاه مدينة الموصل.
وفي يوم الاثنين 25 آذار قامت طائرتان حربيتان وأربع طائرات سمتيه بقصف مدينة كركوك في الساعة التاسعة والربع صباحاً، ثم عادت الطائرات وقصفت المدينة مرة أخرى، في الساعة الواحدة والنصف ظهراً، مما أوقع الكثير من الضحايا في صفوف المدنيين،كما دار قتال عنيف حول مدينتي خانقين وجلولاء حيث استهدفت قوات صدام احتلالهما والتقدم منهما نحو كركوك.

وفي الجنوب استطاعت قوات الحرس الجمهوري دخول مدينة كربلاء، واستعادت السيطرة عليها، بعد أسبوعين من المعارك الدامية، وقد اتهمت قوات الانتفاضة قوات مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة والمتواجدة في العراق بالمشاركة إلى جانب قوات صدام في الهجوم على المدينة، كما استطاعت قوات صدام في 27 آذار استعادة مناطق واسعة من الجنوب وخاصة مراكز مدن البصرة، والعمارة، والناصرية من أيدي قوات الانتفاضة التي بدا عليها الإنهاك.
 وهكذا تلاشت آمال السيد محمد باقر الحكيم في السيطرة على البلاد حيث عقد مؤتمراً صحفياً في طهران أعترف فيه بانحسار الانتفاضة في المناطق الجنوبية والوسطى من العراق، واتهم قوات صدام بتدمير المدن المقدسة، وقتل الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ بأساليب وحشية يندى لها جبين الإنسانية.
وهكذا تمكنت قوات نظام صدام حسين من إعادة سيطرتها على مناطق الجنوب، والفرات الأوسط، وبدأت بدفع قواتها نحو المنطقة الشمالية.   ففي يوم الخميس 28 آذار بدأت تلك القوات هجوماً واسع النطاق على مدينة كركوك، واستخدم النظام  في هجومه على المدينة ستة فرق عسكرية مجهزة بكل الأسلحة الثقيلة من الدبابات والمدفعية والصواريخ، وبإسناد الطائرات الحربية والسمتيات، وقد أدى القصف العشوائي الشديد إلى وقوع الخسائر الجسيمة في صفوف المدنيين، وخاصة النساء والأطفال، واستطاعت قوات الحرس الجمهوري  بعد معارك شرسة من دخول المدينة.
كما استطاعت السيطرة على[طوز خورماتو] و[داقوق] وعدد كبير من القرى المحيطة بكركوك، حيث قامت قوات صدام بتدمير جميع القرى المحيطة بمدينة كركوك، واضطر أكثر من 100 ألف من السكان إلى التوجه إلى أربيل والسليمانية هرباً من بطش قوات صدام، فيما وقع أعداد كبيرة منهم بأيدي تلك القوات وجرى تصفيتهم جسدياً.

وفي يوم الجمعة 29 آذار قامت قوات صدام  بقصف مدينة جمجمال بالقنابل الفسفورية والنابالم موقعة الخسائر الجسيمة في صفوف سكانها المدنيين. ثم قامت قوات الحرس الجمهوري بمهاجمتها واحتلالها، والتقدم نحو مدينتي السليمانية وأربيل، مستخدمة كل ما تملكه من أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات، مما أدى إلى حدوث هجرة جماعية كبرى للشعب الكردي نحو الحدود التركية والإيرانية هرباً من بطش قوات صدام وأسلحتها الكيماوية التي كان قد أستخدمها في حلبجة من قبل، وذهب ضحيتها أكثر من 5000 مواطن خلال بضعة دقائق، وقدر عدد النازحين بأكثر من مليون مواطن.(3)

كان الوضع مأساوياً بكل معنى الكلمة، نيران القوات النظام من جهة، وقسوة المناخ، والبرد الشديد، والثلوج من جهة أخرى، مما سبب في وفاة أعداد كبيرة من النازحين.   ومما زاد في الطين بله إقدام الحكومة التركية على إغلاق حدودها بوجه النازحين الأكراد، مما جعلهم عرضة للتصفية من قبل الطائرات العراقية التي كانت تلاحقهم،  ومن قبل قوات الحرس الجمهوري الزاحفة.

77
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة التاسعة عشرة
حامد الحمداني                                         27/2/2018
الشعب العراقي ينتفض ضد نظام صدام

عوامل الانتفاضة الشعبية ضد نظام صدام:
لم تكن انتفاضة الأول من آذار 1991 ، ضد نظام صدام وليدة ساعتها أبداً، بل كانت نتاج تراكمات هائلة لمعاناة الشعب العراقي من الحكم الدكتاتوري الذي مارسه منذُ مجيئه إلى الحكم عام 1968 مستخدماً أبشع أساليب التنكيل والاضطهاد، ومصادرة حقوق وحريات الشعب، حيث لم يمضِ يوم واحد دون أن يغمس صدام  وجلاديه أيديهم بدماء خيرة الوطنيين من أبناء الشعب، لكي يقمع أية معارضة للنظام الحاكم ولسياسته المعادية لمصالح الشعب والوطن، ولم تسلم أية قوة سياسية من بطشه، بدءاً بالشيوعيين والديمقراطيين، وانتهاءً بالقوميين والإسلاميين، بل لقد جاوز كل ذلك، ليبطش بمعظم قيادات حزبه كذلك.
 لقد سنّ صدام القوانين الجائرة التي تبيح له إعدام كل من انتمى إلى أي حزب سياسي دون حزبه،  لكي يخلو له الجو لفرض دكتاتوريته على الجميع، ولكي يصبح حر اليدين في اتخاذ كل القرارات الخطيرة التي تتعلق بمصير الشعب والوطن، فكان أن أقدم على شن الحرب ضد الجارة إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، وبتخطيط منها، ودفع خلالها الشعب العراقي دماء غزيرة لمئات الألوف من خيرة شبابه، هذا بالإضافة إلى تدمير اقتصاد البلاد، واستنزاف ثرواتها، وإغراقها بالديون.

وما كاد الشعب العراقي يجر أنفاسه، ليعود إلى الحياة الطبيعية حتى فاجأه صدام حسين بجريمة أخرى بإقدامه على غزو الكويت، والتنكيل البشع بأبنائها، ونهب كل ما امتدت إليه يد النظام من أموال وممتلكات الدولة الكويتية وأبناء الشعب الكويتي على حد سواء، ووجدت الولايات المتحدة ضالتها المنشودة في إقدام صدام على غزو الكويت، لتنزل قواتها، وطائراتها الحربية في السعودية، ولتملأ الخليج بأساطيلها الحربية، بالتعاون مع حلفائها الغربيين، بغية توجيه ضربة قاصمة للعراق، مستخدمة كل الوسائل العسكرية المتاحة لها، ومن أحدث ما أنتجته مصانعها من تكنولوجيا الأسلحة، لتنزل أقصى ما يمكن من الدمار بالبنية الاقتصادية والعسكرية للعراق، وإلحاق أبلغ الأذى بالشعب العراقي، وفرض الحصار الاقتصادي عليه لتجويعه  وإذلاله وإفراغ العراق من كوادره وعلمائه، والعودة به خمسون عاماً نحو الوراء، ثم أوقفت الولايات المتحدة الحرب في 28 شباط 1991، بعد أن أعلن صدام حسين كامل استعداده لتنفيذ كل ما تطلبه الولايات المتحدة، لقاء
 بقاء نظامه، وبقاءه هو على رأس النظام.
لقد ورط صدام جيشه وشعبه ووطنه في حرب كانت نتائجها محسومة سلفاً لصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وأصرّ على البقاء في الكويت، وبدا الأمر وكأن صدام يريد حقاً إنزال الكارثة بشعبه ووطنه، فلم يشك اثنان في عدم قدرة صدام على الصمود بوجه أعتى وأقوى الدول الإمبريالية، بما تملكه من أفتك أنواع الأسلحة، وأشدها تدميراً،
وهكذا وقعت الواقعة، وحلت الكارثة التي توقعها الجميع، ودفع الشعب من جديد ثمناً باهظاً من دماء مئات الألوف من شبابه، وإنزال أقصى ما يمكن من الدمار بالبنية الاقتصادية، والعسكرية للعراق، وجرى إذلال جيشه وشعبه.

لقد أوقدت تلك النتائج المفجعة للحرب نار الحقد والغضب العارم على نظام صدام لدى الجنود المنسحبين من الكويت تحت وابل القذائف التي كانت ترسلها الطائرات الأمريكية والحليفة على رؤوسهم لإنزال أقصى ما يمكن من الخسائر البشرية بين صفوفهم.

 كان ذلك الغضب العارم لدى الجنود ينذر بالانفجار ليطيح بالنظام ورأسه صدام، الذي سبب كل تلك الكوارث التي حالت بالبلاد،  وأستمر على الرغم من ذلك يتشبث بالبقاء في السلطة، وهو الذي يتحمل كل نتائج الحرب المفجعة، ومما زاد في خيبة أمل الجنود العائدين من الحرب أن قوات التحالف لم تتعرض للنظام ورأسه صدام، ولا كان في حساباتها إسقاطه، فكان لابد وأن يتحرك الشعب في ظل تلك الظروف التي أنضجت الانتفاضة، لتسقط هذا النظام الذي سبب كل المآسي والويلات للعراق وشعبه.

ثانياً:انطلاق الانتفاضة الشعبية
في اليوم الأول من آذار 1991، وبينما كانت القوات العراقية تنسحب من الكويت، بحالة  من الفوضى الشديدة، وقد تملكها الحنق على سياسة النظام الذي أوصلها إلى تلك الحالة، توقف رتل من الدبابات والمدرعات المنسحبة في وسط مدينة البصرة، واستدارت إحدى الدبابات، ووجهت فوهة مدفعها نحو جدارية ضخمة للدكتاتور صدام ، وأطلقت قذائفها عليها، وراحت تلك الجدارية تهوى متناثرة على الأرض، وهكذا نكسر حاجز الخوف من جلاد العراق ونظامه، وتفجر بركان الغضب لدى أبناء الشعب والجنود المنسحبين، والتحمت جموعهم ببعضها، وراحت تندفع في مظاهرات ضخمة لم تشهد لها البصرة من قبل ضد حكم الطاغية صدام.

 ولم تمضِ سوى ساعات حتى سيطرت الجماهير المنتفضة على المدينة، وتم اعتقال محافظها، وجرى إطلاق سراح كافة السجناء من ضحايا نظام صدام، ورغم كل المحاولات التي قام بها النظام وحرسه الجمهوري لاستعادة المدينة، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، وأخذ لهيب المعركة يمتد كالنار في الهشيم إلى كافة أرجاء العراق من أقصاه إلى أقصاه.(1)
ففي 3 آذار، تم تحرير محافظة العمارة من قبضة النظام، بعد معركة عنيفة استمرت لمدة ساعتين، وانتهت باستسلام قوات النظام  وأخذ لهيب الانتفاضة يتصاعد بشكل متسارع ليمتد إلى مدن الكوت، والناصرية، وكربلاء، والنجف الأشرف، وعلى أثر هذا الامتداد لقوى الانتفاضة دخلت من جنوب إيران القوات الموالية لزعيم المعارضة الإسلامية[باقر الحكيم ] المعروفة بفيلق [ بدر] كما شوهدت مجموعات من حرس الثورة الإسلامية بعصاباتهم  يدخلون معها الأراضي العراقية، وكان ذلك يمثل تطوراً خطيراً للغاية على مصير الانتفاضة، وموقف الغرب منها، فقد حاولت هذه الحركة الإسلامية السيطرة على الانتفاضة والاستئثار بها، مما جعل الانتفاضة  تبدو وكأنها ثورة إسلامية، على غرار الثورة الإسلامية في إيران.

ومما ساعد على هذا التطور الخطيرفي مسيرة الانتفاضة، هو فقدان القيادة السياسية لأحزاب المعارضة العراقية جميعاً، فقد كانت معظم كوادر أحزاب المعارضة قد هجرت الوطن بسبب إرهاب النظام، ولم تستطع تلك الأحزاب أن تقدم شيئاً عملياً مهماً للانتفاضة سوى عقدها لمؤتمر بيروت وقراراته التي سرعان ما طواها النسيان.

استمرت قوى الانتفاضة في بادئ الأمر في اندفاعها، ففي يوم الاثنين المصادف 4 آذار استطاعت قوى الانتفاضة أن تبسط سيطرتها الكاملة على مدينتي [العمارة] و [علي الغربي ]، وانظم عدد كبير من قوات الجيش للانتفاضة، كما وردت أخبار عن سقوط مدينة النجف، ومدينة السليمانية في كردستان العراقية بأيدي قوات الانتفاضة.

وفي يوم الثلاثاء 5  آذار قامت لجنة العمل المشترك بنشاطات سياسية لدعم الانتفاضة تجلت في إرسال الرسائل إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة [ديكويار]، وإلى حكومات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وإلى حكومات الجوار سوريا وإيران وتركيا والسعودية والكويت، وإلى جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي داعية إياهم جميعاً إلى الوقوف إلى جانب الشعب العراقي ومساندته من أجل الخلاص من حكم الطاغية صدام ونظامه الفاشي،  وناشدهم تقديم العون الضروري من المواد الغذائية والطبية، وأكدت تلك الرسائل على أن هذه الانتفاضة هي انتفاضة الشعب كله، بكل فئاته وقومياته وأحزابه السياسية الوطنية، وأنها تستهدف الحرية، وتطبيق حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية للشعب العراقي كافة.

وفي يوم الجمعة المصادف 8 آذار وقعت معارك عنيفة حول البصرة، بين قوات النظام وقوات الانتفاضة، وتم خلال تلك المعارك دحر قوات صدام، وإحراق 10 دبابات، والاستيلاء على عدد من الدبابات الأخرى سالمة، وتم إحكام السيطرة على محافظة البصرة. حاولت قوات صدام القيام بهجوم جديد على البصرة على المحور الشرقي مستخدمة 12 دبابة، وتم لقوات الانتفاضة دحر الهجوم، بعد تدمير 4 دبابات والاستيلاء على الدبابات الثمانية الأخرى، واستسلام تلك القوات لقوى الانتفاضة.
وفي اليوم نفسه حدثت مظاهرات عنيفة في مدينتي الموصل والرمادي، لكن قوات صدام كانت قد استعدت لها وقمعتها بقوة.
وفي المنطقة الشمالية سيطرت قوات الانتفاضة الكردية على مدينتي أربيل وكركوك، ومناطق واسعة من كردستان العراق، واستولت على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات ووقع في الأسر وحدات كبيرة الجيش.
 وفي بغداد قامت مظاهرات صاخبة في أحياء الشعلة والحرية والكاظمية والثورة، لكن قوات صدام استطاعت السيطرة على الموقف بعد أن استعملت أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين، وكان النظام قد كثّف تواجد قواته في تلك الأحياء تحسباً لكل طارئ،  نظراً لما عُرف عن سكان هذه الأحياء من الكره الشديد لنظام صدام.
وفي يوم الثلاثاء  12 آذار جرت محاولات جديدة لقوى الانتفاضة في مدينة الثورة أحد أحياء بغداد، إلا أن قوات صدام قمعتها بشدة.

 وفي الفرات الأوسط استطاعت قوى الانتفاضة هذا اليوم من السيطرة على مدينة الحلة، بعد قتال شرس مع قوى النظام، وجرى اعتقال جميع المسؤولين الحكوميين فيها.
 وفي نفس هذا اليوم قامت قوات النظام بمحاولة لاستعادة كربلاء، والعمارة، بعد أن مهدت للهجوم بقصف مدفعي، واستخدمت الطائرات المروحية في قصف المدينتين كذلك .
وفي يوم الأربعاء 13 آذار أعلنت القيادة السياسية للجبهة الكردستانية سيطرتها التامة على كافة منطقة كردستان العراق، وأعلنت حل المجلسين التشريعي والتنفيذي، الذين أقامهما نظام صدام، وتشكيل إدارة مؤقتة لحين إجراء انتخابات عامة في كردستان العراق.
 
حاول نظام صدام إعادة سيطرته على المناطق المحررة في محافظة صلاح الدين و ديالى بقواته التي تعززها الدبابات، والطائرات المروحية، والمدفعية الثقيلة وخاصة في محور خانقين ـ جلولاء، محاولاً السيطرة عليهما، وعلى طوز خورماتو، وتصدت لها قوات الانتفاضة واشتبكت معها في معارك عنيفة طوال هذا اليوم، وتم إسقاط 4 طائرات مروحية تابعة للنظام.
وفي يوم الخميس  14 آذار، أحكمت قوات الانتفاضة سيطرتها على كافة محافظة العمارة، وقتل محافظها، وجرى تعيين محافظ جديد لها من قبل قوى الانتفاضة، وفي محافظة بابل تمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة على المحمودية القريبة من بغداد، وعلى المسيب، واليوسفية، وسدة الهندية، والقاسم، والحمزة، وتمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة على كافة مراكز الشرطة وأسلحتها، وتم إطلاق السجناء الوطنيين من سجونها. وخلال معارك الحلة قتل كل من المحافظ [عدنان حسين] ومدير الشرطة [ جبر محمد غريب ] وأمين سر حزب البعث لفرع الحلة [ طه ياسين] ومدير أمن الحلة المقدم [ مزعل ].

وفي الديوانية تمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة التامة على المدينة، وانظم محافظ المدينة إلى قوات الانتفاضة، فيما قتل أمين سر حزب السلطة[ خالد عبد الله التكريتي] كما سيطرت قوات الانتفاضة على مدينة النعمانية، وسيطرت على مراكز لشرطة، ودوائر الأمن فيها خلال ساعات رغم استخدام قوات النظام الطائرات المروحية ضد قوات الانتفاضة التي تمكنت من إسقاط 3 طائرات منها.
وفي الكوت كانت تدور معارك شرسة بين قوات الانتفاضة وقوات النظام طوال هذا اليوم، كما دارت معارك عنيفة في منطقة [كرمة على] شمال البصرة، واستطاعت قوات الانتفاضة تدمير العديد من الدبابات  التابعة للنظام، وقد دامت المعركة زهاء 9 ساعات. كما تم في هذا اليوم تحرير مدينة [ مخمور] التابعة لمحافظة أربيل، إضافة إلى قرى باكرك و ياسين أغا.
وفي هذا اليوم تعرضت مدينتي كربلاء، والنجف إلى قصف مدفعي وبالدبابات طالت الأحياء السكنية، ومراقد الأئمة التي أصيبت بإصابات مباشرة، وفتحت ثقوباً في قبابها، وفي هذا اليوم أيضاً تم تحرير مدينة [النشوة] شمال البصرة، واستسلم أعوان النظام  فيها لقوات الانتفاضة. وفي هذا اليوم أيضاً أنفجر بئران نفطيان في كركوك  نتيجة القصف المدفعي لقوات صدام واشتعلت النيران فيهما. وفي يوم الجمعة 15 آذار تم استيلاء قوات الانتفاضة على مدينتي [المشرح] و[الكحلاء]، وتم تطهير محافظة العمارة من قوات النظام تطهيراً تاماً. حاول نظام صدام هذا اليوم السيطرة على مدينة جلولاء، ودارت معارك شرسة بين قوات الانتفاضة وقواته، وانتهت المعارك بهزيمة قوات صدام، ومقتل أمر الفوج المهاجم الرائد [علي صالح الجبوري] واستولت قوات الانتفاضة على 4 دبابات سالمة. (2)

وهكذا استطاعت قوات الانتفاضة فرض سيطرتها على المناطق الجنوبية، ومنطقة الفرات الأوسط ، ومنطقة كردستان بكاملها خلال أسبوعين، وبدا نظام صدام في تلك الأيام قاب قوسين أو أدنى من السقوط .
 لكن سيطرة القوى الإسلامية على الانتفاضة ومحاولة الاستئثار بها، ورفعها للشعارات الطائفية والمتطرفة، وتدخل الحرس الثوري الإيراني، وعدم وجود قيادة ميدانية حكيمة تمثل القوى السياسية الوطنية المؤتلفة بموجب ميثاق دمشق، وضرورة رفع الشعارات الصحيحة التي تؤكد على الوحدة الوطنية، وإقامة نظام ديمقراطي تعددي، كل هذه الأمور جعلت قوى التحالف بقيادة الولايات المتحدة، وكذلك السعودية ودول الخليج تقلق من سيطرة القوى الإسلامية الموالية لإيران على الحكم في العراق، وما يسببه ذلك من خطورة على مصالحهم في المنطقة، وجعلتهم يضعون كامل ثقلهم إلى جانب نظام صدام، وتمكينه من استعادة سيطرته على البلاد من جديد.
وهكذا فتحت قوات التحالف التي كانت تطوق قوات الحرس الجمهوري في جنوب الناصرية الطريق إمام تلك القوات للعبور، بل لقد أقامت لها الجسور العسكرية لكي تستطيع التقدم نحو المناطق التي سيطرت عليها الانتفاضة، وبذلك بدأت مرحلة الانحسار للانتفاضة في 17 آذار1991.

78
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثامنة عشرة
حامد الحمداني                               24/2/2018
بدء الحرب البرية الخاطفة
بعد 43 يوماً متواصلاً من الهجمات الجوية العنيفة بالطائرات والصواريخ بعيدة المدى، استطاعت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إلحاق الخسائر الجسيمة بالقوات العراقية في الكويت، وجنوب العراق، بالإضافة إلى تدمير كافة المرافق الاقتصادية والعسكرية داخل العراق، أصبح الجو مهيئاً للهجوم البري، الذي أرادته الولايات المتحدة أن يكون خاطفاً وسريعاً، وبأقل ما يمكن من الخسائر البشرية في صفوف قواتها وقوات حلفائها.

 كان وضع القوات العراقية بعد تلك الهجمات الجوية الوحشية التي استمرت كل هذه المدة، وبعد أن انقطعت عنهم كافة الإمدادات الغذائية والمياه مأساوياً، حيث تواصلت عليه الهجمات الجوية وهي تلقي بقنابلها فوق رؤوسهم دون توقف.

الهجوم البري الخاطف [ حرب الـ 100 ساعة]
وفي24 شباط بدأت القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها هجومها البري على القوات العراقية  تحت وابل من قذائف المدفعية والدبابات، لم يعرف العالم لها مثيلاً من قبل، منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت الطائرات الحربية تركز هجماتها على القوات العراقية التي خرجت من مكامنها واستحكاماتها، لتصب عليهم حمما من القنابل الفتاكة، هي أحدث ما أنتجته مصانع الولايات المتحدة الحربية.

كان صدام حسين، قبل نشوب الحرب البرية قد وضع في حساباته أن الولايات المتحدة ستهاجم على جبهتين، الجبهة الأولى تنطلق من الأراضي السعودية حيث جرى تجميع القوات الأمريكية والحليفة هناك، والجبهة الثانية من البحر، حيث تقوم قوات المارينز بإنزال بحري على شواطئ الكويت، وبالفعل قامت القوات الأمريكية بمحاولة تضليلية، لتشعر القوات العراقية بأنها تنوي القيام بإنزال على شواطئ الكويت، وكان النظام العراقي قد ركز الكثير من قواته وأسلحته على طول تلك الشواطئ، لكن تلك المحاولة لم تكن سوى خدعة، وإشغال للقوات العراقية، وعزلها عن الميدان الحقيقي للمعركة.

 فقد كانت خطة الولايات المتحدة وحليفاتها بريطانيا وفرنسا هو مهاجمة العمق العراقي من داخل الأراضي السعودية، والقيام بحركة التفافية لتطويق القوات العراقية في الكويت وجنوب العراق، والإجهاز عليها، وبالفعل بدأت قوات التحالف بالتقدم نحو الحدود العراقية، مستخدمة أحدث طراز من الدبابات التي لم تستخدم من قبل، وهي من طراز A 1  و M 1 ، والتي يبلغ مدى نيرانها أبعد من أحدث الدبابات التي يملكها العراق، وهي من طراز T72، وهكذا كان بوسع الدبابات الأمريكية إصابة أهدافها بسهولة، دون أن تصيبها القذائف العراقية، واستطاعت تلك القوات من التقدم داخل جنوب العراق.

وهكذا اضطر صدام  إلى أصدار أمرٍ لقواته بالانسحاب من الكويت، والعودة نحو الأراضي العراقية، وانتهزت القوات الأمريكية والحليفة هذا القرار لترسل طائراتها، كي تصب حممها على تلك القوات المنسحبة، منزلة بها أقصى ما تستطيعه من الخسائر البشرية، وتدمير المعدات الحربية. لقد كانت تلك العملية جريمة نكراء بحق الجيش العراقي المنسحب، دون أي مبرر فقد امتلأت الصحراء بجثث الجنود العراقيين، وكانت الآليات العسكرية تسير على تلك الجثث، في الطريق المؤدي إلى البصرة، في جنوب العراق، حيث كانت الطائرات المغيرة تلاحق الجنود المنسحبين بنيرانها الكثيفة، دون وازع أخلاقي، وهذا العمل إن دل على شئ فإنما يدل على همجية الحضارة التي تدعيها الولايات المتحدة، واستهانتها بكل القوانين والأعراف الدولية والأخلاقية، فهي لا تتوانى عن أي عمل مهما كان، إذا كان ذلك العمل يخدم مصالحها الإمبريالية، حتى ولو اقتضى ذلك إبادة الشعوب، فالمهم أن تبقى مصالحها سالمة، وتمتلئ جيوب كبار أصحاب الشركات الرأسمالية بما تنهبه من ثروات الشعوب.

هزيمة نظام صدام، وتوقف الحرب
لم تدم الحرب البرية سوى 100 ساعة فقط، ليفاجئ الرئيس الأمريكي بوش العالم  يوم 28 شباط1991 بقراره وقف العمليات الحربية، بعد أن وافق صدام حسين على القبول بكل الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة عليه، مهما كانت تلك الشروط، فالمهم بالنسبة لصدام هو بقاء نظامه، وبقاءه على رأس النظام الذي أوصل العراق وشعبه إلى هذه الكارثة المخيفة والمرعبة.

وتقرر على الفور أن يعقد الجنرال شواردزكوف وكبار قادته العسكريين، مع كبار الضباط العراقيين الذين أنتدبهم صدام برئاسة [الفريق سلطان هاشم]، في خيمة صفوان، ومعهم توجيهات من صدام بأن لا يرفضوا أي طلب للجنرال شواردزكوف، وليعلنوا استعداد العراق لتنفيذ كل ما تطلبه الولايات المتحدة من العراق.
 أما  شروط بوش لوقف الحرب فقد كانت التالية:
1ـ تدمير جميع أسلحة الدمار الشامل العراقية من صواريخ بعيدة المدى والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، والمفاعل النووي.
2ـ أن يقوم النظام العراقي بتقليص عدد قواته العسكرية، ومنع تسلحه من جديد.
3ـ قيام فرق التفتيش التي سيعينها مجلس الأمن لغرض إجراء تفتيش دقيق وشامل عن كل الأسلحة العراقية ذات الدمـار الشامل، وتدمير كـل المنشآت، وكافة المصانع العسكرية الخاصة بها.
 4ـ تسليم كل الوثائق المتعلقة ببرامج التسلح العراقي منذُ عام 1980وحتى هذا التاريخ.
 5 ـ عدم وضع العراقيل أمام فرق التفتيش للوصول إلى أي بقعة من العراق للتأكد من تدمير كل الأسلحة المطلوب تدميرها، ومصانعها، ومخازنها.
6ـ وضع نظام للمراقبة المستمرة، عن طريق نصب كامرات حساسة ودقيقة في كافة المصانع الحربية للتأكد من أن النظام العراقي لا يخالف الشروط التي تم بموجبها وقف إطلاق النار.
7ـ إقرار النظام العراقي بدفع تعويضات الحرب، والتي تبلغ أرقاماً خيالية.
8 ـ استمرار الحصار الاقتصادي على العراق، واستمرار تجويع الشعب العراقي إلى أن يتم تنفيذ كافة قرارات مجلس الأمن الدولي. (3)
كان استمرار الحصار، في واقع الأمر، يعني استمرار الحرب ضد الشعب العراقي،  وليس ضد نظام صدام، وبأبشع صورها وإشكالها، فحرب التجويع بلا أدنى شك هي أسوأ أشكال الحروب التي عرفتها البشرية وأكثرها وحشية، حيث يفتقد الشعب العراقي الغذاء والدواء منذُ أن تم فرض الحصار في 2 آب 1990، واستمر ذلك الحصار حتى سقوط النظام في التاسع من نيسان عام 2003 على أيدي الجيوش الأمريكية والبريطانية.

 فقد كان مجلس الأمن يجدد الحصار كل شهرين، بحجة عدم تنفيذ النظام العراقي لشروط وقف إطلاق النار، ولم يكُن الشعب العراقي المنكوب بحكامه وبالولايات المتحدة  يدري متى تقرر الولايات المتحدة أن العراق قد نفذ تلك الشروط لترفع عنه الحصار.                                           لقد خلق ذلك الحصار المجرم وضعاً مأساوياً في العراق لا يمكن تصوره، ومهما حاول المتتبعون لتلك الأوضاع الكتابة عنها فإن أقلامهم تعجز عن وصف تلك المأساة.

لقد انهارت العملة العراقية حتى وصلت قيمة الدولار الواحد إلى 3000دينار، بعد أن كانت قيمته أقل من ثلث الدينار الواحد، أي ان الدينار العراقي انخفظت قيمته 10000 مرة وتدهورت القوة الشرائية للمواطنين من الطبقات المتوسطة والفقيرة إلى ما يقارب الصفر، بل لقد زالت الطبقة الوسطى من الوجود، وتحولت إلى طبقة فقيرة معدمة، وحتى الطبقة الغنية، فقد نالت نصيبها من تدهور الوضع الاقتصادي، فلقد أصاب الحصار بناره كل أبناء الشعب العراقي  ما عدا فئة من أزلام صدام ومريديه الذين اثروا على حساب جوع وشقاء الشعب العراقي، حيث يتاجرون بقوته، ويرفعون الأسعار كل يوم، بل كل ساعة، دون وازع أخلاقي.
إن ما يزيد على 4500 طفل عراقي كان يموت كل شهر، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، وفي واقع الحال فإن هذا الرقم هو أقل بكثير من الرقم الحقيقي، جراء فقدان الغذاء والدواء.  فقد أشار تقريرمنظمة الأغذية الدولية والزراعة الدولية التابع للأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون مواطن عراقي ماتوا جراء الحصار منذ عام 1990وحتى عام 1995، ومن بينهم 567 ألف طفل دون الخمس سنوات، وأن  أكثر من 4 ملايين عراقي معرضين للموت جوعاً إذا ما استمر الحصار.(4)

أما منظمة الصحة العالمية فقد ذكرت في تقريرها الصادر في آذار 1996 أن معدل الوفيات بين الأطفال قد ارتفع إلى أربعة أضعاف .(5)

لقد وصفت منظمة [ أصوات في البرية الأمريكية] في رسالة ساخرة بعثت بها إلى الرئيس بوش لدى زيارتها لمستشفيات الأطفال في العراق تقول فيها التالي: { لقد اكتشفنا أن أسلحة الدمار الشامل موجودة هنا في مستشفيات العراق حيث يموت مئات الأطفال الذين دون الخامسة كل يوم  يوم بسبب الحصار. (6)
ولا بد من العودة لحديث الرئيس الأمريكي [ ودرو ويلسن] في وصفه للحصار حيث قال{الحصار هو الدواء الساكت القاتل}.(7)

ورغم كل ما قيل، وما كتب، ورغم كل التقارير الرسمية وغيرالرسمية عن الوضع المأساوي للشعب العراقي، فإن الضمير الأمريكي بوجه خاص، والغربي بوجه عام لم تهزه كل تلك التقارير، فشعب العراق لا يعنيهم أبداً، والمهم هو تأمين مصالحهم الإمبريالية في منطقة الخليج، حتى ولو مات الشعب العراقي جوعا، أو مرضاً.

إن كل ادعاءات الرئيس الأمريكي بوش في خطاباته، من أن مشكلة الولايات المتحدة هي مع نظام صدام، وأن ليس لها مشاكل مع الشعب العراقي، وانه لا يكن للشعب العراقي العداء، لم يكن سوى محض افتراء ونفاق، ومحاولة خدع الرأي العام العالمي.  فقد اثبت الأيام، بعد انتهاء الحرب، أن صدام حسين قد نجا من العقاب، واستمر نظامه المسلط على رقاب الشعب، بل ودعمته الولايات المتحدة عندما قام الشعب العراقي بانتفاضته ضد النظام في 1 آذار 1991، بعد توقف الحرب مباشرة، ومكنته من سحب قواته المحاصرة جنوب العراق لضرب وقمع الانتفاضة، مستخدماً كل ما لديه من أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية والصواريخ والدبابات والمدفعية.

لم يكن في نية الولايات المتحدة إسقاط نظام صدام، بل أرادت إذلال الشعب العراقي وتجويعه، وإفراغ العراق من كوادره العلمية التي أخذت تهرب بالآلاف من جحيم العراق، حيث يقدر عدد الذين هجروا العراق، وانتشروا في بقاع الدنيا أكثر من ثلاثة ملايين عراقي. لقد أدى صدام حسين الدور الموكول له، وتنازل عن سيادة العراق واستقلاله، وأباح للإمبرياليين كل إسرار البلاد، وترك رجال مخابراتهم يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها، وترك أبناء الشعب العراقي فريسة للجوع والمرض، فالمهم هو أن يبقى نظامه، ويبقى هو على رأس النظام.

79
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة السابعة عشرة
حامد الحمداني                                           22 / 2 /2018
 
الفصل السادس:عاصفة الصحراء

العالم يحبس أنفاسه، والعراقيون يهربون من المدن:
بعد فشل اللقاء الذي تم بين طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف،أدرك الشعب العراقي أن الحرب أصبحت أمراً لا مفر منه.
كان القلق قد فعل فعله لدرجة أفقد الناس صوابها، فلقد أحس الجميع أن هذه الحرب لن تكون مثل غيرها من الحروب، كالحرب العراقية الإيرانية مثلاً، فالأمر هنا مختلف تماماً،  ذلك أن العراق لا يواجه جيش دولة واحدة، بل جيوش 28 دولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الجيوش، وعلى رأسها جيوش الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، بما تملك من أحدث أنواع الأسلحة، والتكنولوجيا الحربية التي لا يمكن بأية حال من الأحوال مقارنتها بما يمتلك العراق هذا البلد الصغير من بلدان العالم الثالث.

ولم يكن أحداً يشك بأن مسار الحرب هو بالتأكيد لصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وأن مصير الحرب قد تقرر قبل نشوبها، وأن كارثة كبرى ستحل بالعراق وشعبه، و مما أشاع القلق، بل والهلع في نفوس أبناء الشعب، وخوفهم من أن يلجأ صدام حسين إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، والبيولوجية في الحرب، لتردّ عليه الولايات المتحدة بالسلاح الذري والكيماوي، وكل الأسلحة الفتاكة الأخرى التي في ترسانتها، ولاسيما وأن صدام سبق أن استخدم السلاح الكيماوي ضد القوت الإيرانية في حرب الخليج الأولى، وضد أبناء الشعب الكردي في شمال العراق عام 1988، في حملة الأنفال السيئة الصيت، فما الذي يمنعه من استخدام أسلحته الكيماوية والبيولوجية ضد قوات الولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة إذا ما شعر أن وجوده قد أصبح في مهب الريح؟

ولذلك فقد سارع سكان بغداد وغيرها من المدن إلى مغادرتها هرباً من احتمالات الضربات النووية والكيماوية، وليبحثوا لهم عن مكان آمن. لقد كان منظر سكان بغداد، وهم ينزحون منها يثير الأسى والحزن في كل قلب، فلم يكن للشعب حيلة في ذلك، فهو شعب مسلوب الإرادة، وقد تسلطت على الحكم عصابة مجرمة، بالعنف والقوة، ونكلت به وبقواه الوطنية أبشع تنكيل، منذُ أن سطتْ على الحكم بانقلاب 17 تموزعام 1968، بوحي وتخطيط أمريكي، واشتدت حملات التنكيل الفاشية بعد أن سطا صدام حسين على الحكم، وقام بانقلابه على سيده [أحمد حسن البكر]، ليمتد تنكيله حتى بقادة حزبه، ناهيك عن الأحزاب الوطنية المعارضة لحكمه، لكي يفرض من نفسه أعتا دكتاتور عرفه العراق، وجعل من نفسه القائد العام للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبة عسكرية في العالم، وشن على الجارة إيران حرب كارثية لا مصلحة للشعب العراقي فيها، بالنيابة عن الولايات المتحدة، حيث دامت 8 سنوات دفع خلالها مئات الألوف من خيرة الشباب العراقي إلى محرقة الموت، دفاعاً عن مصالح الإمبريالية الأمريكية في الخليج.

ولم تكد تنتهي الحرب عام 1988، ويتنفس الشعب العراقي الصعداء، حتى بدأ صدام حسين يخطط لمغامرة جديدة، فكانت غزو الكويت، وظن صدام أن الولايات المتحدة ستسكت على مغامرته تلك، مكافئة له على حربه ضد إيران، فكانت حساباته خاطئة جداً، فالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لاتهمهم العلاقات مع صدام، بل إن ما يهمهم هو تأمين مصالحهم النفطية في الخليج، والحيلولة دون ظهور أية قوة تحاول الهيمنة على نفط الخليج، فكان لابد من تجريد العراق من أسباب القوة، وتصفية أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها، بعد أن انتهت الحرب مع إيران، وأدى صدام المهمة.

 وهكذا نصبت الولايات المتحدة الفخ لصدام، وسهلت له غزو الكويت، ولم تحاول أن تنهره عن الإقدام على فعلته، رغم أن أقمارها التجسسية، ومخابراتها العسكرية كانت تراقب عن كثب كل تحركات قوات صدام قبل الغزو، وتنتظرها ساعة بساعة، وها هو العراق يواجه ذلك اليوم جيوش الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبكل ما تملكه من أسلحة فتاكة، إضافة إلى اشتراك قوات عربية، مصرية، سعودية وسورية، مغربية، ومن كافة دول الخليج، فلم يجد أبناء الشعب أمامهم سوى هجر بغداد، والمدن الأخرى لعلهم ينجون من الموت، كانوا يعدون الدقائق انتظاراً لوقوع الكارثة التي لم يشك أحد بوقوعها الوشيك.

45 يوماً من القصف الجوي لكافة مرافق البلاد:
في الساعة الثالثة من فجر يوم الجمعة المصادف السابع عشر من كانون الثاني 1991، انطلقت أكثر من 2000 طائرة حربية نحو 700 هدف، كانت القيادة الأمريكية  قد حُددته سلفاً، كما انطلقت الصواريخ البعيدة المدى من السفن الحربية المتواجدة في الخليج العربي وخليج العقبة، والبحر الأحمر.
 ففي أعالي البحر الأحمر كانت هناك حاملات الطائرات [ساراتوجا] و[كندي] و[تيدور روزفلت] و[أمريكا] وعلى ظهرها ما يزيد على 200 طائرة قادرة على الوصول إلى أي نقطة في العراق، هذا بالإضافة إلى الصواريخ البعيدة المدى من نوع كروز، الموجهة تلفزيونياً،التي كانت على متنها، والقادرة على المناورة لإصابة أهدافها بدقة، وكانت القواعد الجوية الأمريكية في [حفر الباطن] و[الظهران] و[الرياض] في السعودية، والقواعد الجوية في البحرين، وقاعدة [انجرلك] في تركيا، وقاعدة [ديغو كارسيا] في المحيط الهادئ، حيث تقف على أهبة الاستعداد طائرات B 52  القاذفة الضخمة، والمعدة للغارات البعيدة المدى، والقادرة على حمل كميات ضخمة من القنابل الفتاكة.
وفي الخليج كانت الولايات المتحدة قد عبأت كل ما أمكنها من القطعات البحرية، وحاملات الطائرات المجهزة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية بالإضافة إلى القاعدة الكبرى للإمبريالية، وأعني بها إسرائيل، رغم التعتيم الشديد على النشاط الإسرائيلي في تلك الحرب، بسبب ما يمكن أن تسببه من حساسية وهياج لدى الشعوب العربية، مما قد يثير متاعب جمة للجهود الحربية الأمريكية غير أن الذي لا شك فيه أنه كان لإسرائيل دور هاماً تلعبه فيها، وخاصة القصف الجوي، كما أن قواعدها الجوية كانت منطلقاً للطائرات الأمريكية للهجوم على العراق.

راحت الطائرات الحربية الأمريكية والحليفة، وصواريخهم البعيدة المدى، تدك أهدافها المحددة سلفاً، بادئين بالقواعد الجوية، وأنظمة الدفاع الجوي، وقواعد الرادار، وقواعد إطلاق الصواريخ، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ومصانع هيئة التصنيع العسكري، والمنشآت النفطية والمصافي، والطرق والجسور، ومخازن المؤن، ومعامل الأدوية، وشبكات الصرف الصحي،  والمفاعل النووي، وما يقرب من 12 مصنعاً للصناعات الكيماوية والبتر وكيماوية.

ثم توسع القصف ليشمل كافة المنشآت الصناعية المدنية، بما فيها مصانع حليب الأطفال، والنسيج، والسكر، ومصانع الأجهزة المنزلية، كشركة الصناعات الخفيفة، وخلاصة القول كان القصف قد شمل كل القواعد الأساسية للاقتصاد العراقي دون استثناء، ولم تسلم بقعة واحدة من بقاع العراق، من بطش الطائرات والصواريخ الأمريكية والحليفة، بل حتى الملاجئ المعدة للمواطنين،  فقد بدا واضحاً أن الحرب قد أعدت لا لتحرير الكويت،  بل لتدمير العراق تدميراً شاملاً، كما أشار بيكر في لقائه مع طارق عزيز في جنيف. أما عملية تحرير الكويت فكانت لا تتعدى كونها تحصيل حاصل.

  وفي الوقت نفسه كانت طائراتهم تتسابق لشن الهجمات الوحشية والهمجية على القوات العراقية في الكويت، وجنوب العراق دون هوادة، ودون توقف، منزلة خسائر فادحة بالجنود والمعدات، بعد أن تم إخراج القوة الجوية العراقية من ساحة المعركة، أصبحت القوات العراقية تحت رحمة نيران الطائرات الأمريكية والحليفة. فقد استطاعت الهجمات الجوية المكثفة، والمتتالية، من تحطيم أنظمة الدفاع الجوي، وقواعد الرادار، وأنظمة الاتصالات، لدرجة أصبح من المستحيل أن تحلق أي طائرة عراقية في الجو دون أن تكون معرضة للإسقاط .
 وهكذا أصبحت أجواء العراق، ومناطق تجمع القوات العراقية مكشوفة تماماً، وهدفاً سهلاً للطائرات المغيرة، واضطر النظام العراقي إلى إخفاء ما أمكن من طائراته بين الدور السكنية، والشوارع ليقيها خطر الدمار في قواعدها الجوية، واضطرت أكثر من 144 طائرة إلى الهروب إلى إيران، والهبوط في مطاراتها، وقد سيطرت عليها إيران فيما بعد، معتبرة إياها جزء من التعويضات عن تلك الحرب التي أشعلها صدام  ضدها.
لقد وقع النظام العراقي، الذي يقوده صدام ، والذي جعل من نفسه قائداً عسكرياً، ومخططاً ميدانياً، وهو الذي لم يخدم حتى الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش، بأخطاء جسيمة في كامل حساباته، فلقد استهان بقدرات الولايات المتحدة وحلفائها، العسكرية والتكنولوجية، واعتقد أن هذه الحرب ستكون كسابقتها حرب الخليج الأولى.

 كما اعتقد أن الحرب البرية ستبدأ في نفس الوقت التي تهاجم به الطائرات الحربية والصواريخ الأهداف المحددة لها، ولم يدرْ في خلده أن الحرب الجوية ستستمر 45 يوماً متواصلاً، قبل أن يبدأ الهجوم البري، ثم أن إنذار الولايات المتحدة لصدام، وتحذيره من مغبة استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، سيؤدي بالولايات المتحدة إلى الرد الفوري والسريع، وبالأسلحة غير التقليدية [النووية]، وبذلك  فقد صدام القدرة على استخدام هذا السلاح، الذي طبل وزمر له في كل خطاباته، وهو يهدد ويتوعد به، وظهر أنه لا يستطيع استخدامه إلا ضد شعبه في شمال وجنوب العراق، وهو لو فكر في استخدام هذا السلاح لكانت الكارثة التي ستحل بالعراق وشعبه ما لا يمكن أن يتصورها العقل.

لقد أخطأ صدام كذلك حين أعتقد أن الهجوم البري سيكون من السعودية والخليج نحو الكويت مباشرة، غير أن الذي حدث أن القوات الأمريكية والحليفة قامت بهجوم التفافي من الأراضي السعودية نحو جنوب العراق، بغية تطويق القوات العراقية، وقطع طرق مواصلاتها، ومنع أي إمدادات عنها، وخاصة المياه والغذاء وبالفعل تمكنت القوات المهاجمة من الوصول حتى مدينة الناصرية، وحاصرت القوات العراقية بالجنوب وقطعت كل طرق المواصلات.

استمرت القوات الجوية والصاروخية تهاجم المرافق الاقتصادية في العراق، المدنية منها والعسكرية طوال 43 يوماً، بمعدل أكثر من 1000 غارة جوية يومياً  عدا الصواريخ التي كانت تطلقها السفن الحربية الراسية في الخليج والبحر الأحمر. لقد كانت حرباً جوية رهيبة بكل المقاييس، لم يشهد لها العالم من قبل، وخصوصاً وأنها حرب يقودها هذا التجمع الإمبريالي الكبير، وبكل ما يملك من وسائل القوة، ضد بلد صغير من بلدان العالم الثالث، أبتلى بدكتاتور أهوج، لا يفهم غير لغة الحروب، والدماء والقتل ضد أبناء شعبه، مما جعل الشعب غير قادر على الاعتراض على خططه الهوجاء، التي ساقت البلاد إلى حرب مستمرة لسنوات طويلة.
لقد وقع الشعب العراقي المنكوب بين فكي كماشة، صدام ونظامه الفاشي من جهة، والإمبريالية الحاقدة على العراق، والمصممة على تدمير بنيته الاقتصادية، وإفقاره وتجويعه حتى الموت، حفاظاً على مصالحها في الخليج من جهة أخرى، فالنفط بالنسبة للولايات المتحدة يستحق إبادة شعب بكامله دون وازع من ضمير، في عصر أصبحت فيه سيدة العالم دون منازع، ومستعدة لإنزال أشد الكوارث على رؤوس كل من يهدد، أو يحاول أن يهدد مصالحهم في الخليج.
لم يسلم أي هدف من غاراتهم الوحشية مهما كان صغيراً، ووصل بهم الأمر أن أقدموا على قصف ملجأ العامرية في بغداد، وإحراق  حوالي 1000 مواطن، من النساء والأطفال والشيوخ، الذين لجئوا إليه هرباً من غاراتهم الوحشية الرهيبة، فكانت كارثة، وجريمة  إنسانية كبرى، ستظل وصمة عار تلاحق أولئك القتلة الذين طالما تبجحوا بالدفاع عن الإنسان وحقه في الحياة، وتمسكهم باتفاقيات جنيف فيما يخص حماية المدنيين أثناء الحرب، ونراها في ذلك اليوم وهي تدوس بجزم قواتها العسكرية كل تلك القوانين والأعراف الدولية، وتحيل أجساد أولئك المواطنين الأبرياء أشلاء متفحمة.

 إن كل ما قيل، ويقال عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ما هي إلا محض هراء، وإن من يملك القوة في عالم اليوم، لا تثنيه تلك القوانين والقرارات، والاتفاقات الدولية عن فعل ما يروق له، فالقوة، والمصالح الاقتصادية، ونهب الشعوب، هي فوق كل القوانين، وكل المعاهدات الدولية.

في تلك الأيام الرهيبة، كنت أحد المواطنين العراقيين الذين سلموا مصيرهم، ومصير عوائلهم للأقدار، حيث كانت الغارات الجوية تتوالى على بغداد دون انقطاع، وكانت صفارات الإنذار ما تبرح تعلن نهاية غارة جوية، حتى تبادر إلى التحذير من غارة أخرى.
لقد ضاع الحساب، ولم نعد نميز بين نهاية غارة، وبداية غارة جديدة، واضعين أيدينا على قلوبنا، لا ندري متى ينزل صاروخ علينا، أو تلقي طائرة علينا قنابلها، وخصوصاً بعد أن قُصف ملجأ العامرية، وأُحرق كل من فيه، وبعد أن قصفت الطائرات سوق الخضار في مدينة الفلوجة، ومُزقت أجساد المئات من المواطنين الأبرياء بشكل رهيب، و كان الوضع مأساوياً بشكل فوق ما يتصوره العقل، حتى لكأن القيامة قد قامت في تلك الساعة.

كان أشد ما يرهب الإنسان هو حلول الليل بظلامه الدامس، حيث قُطعت القوة الكهربائية منذ الساعات الأولى من الهجوم الجوي، وبدأ الناس يفتشون عن المصابيح النفطية التي كان الناس يستعملونها قبل أكثر من ثمانين عاماً، وحتى تلك المصابيح تحتاج إلى النفط الذي أصبح من العسير الحصول عليه، كما كان البرد قد شهر سيفه هو الأخر في تلك الأوقات من السنة، حيث بقي الناس دون تدفئة، هذا بالإضافة إلى فقدان الماء والغذاء.
 ومما زاد في الطين بله، تلف المواد الغذائية المخزونة لدى المواطنين في الثلاجات والمجمدات التي توقفت عن العمل، بعد تدمير محطات توليد الطاقة الكهربائية، فقد دمر القصف الجوي محطات الطاقة الكهربائية بصورة جزئية أو كلية، ولم تنجُ من القصف سوى محطة النجيبية، التي تنتج 200 ميكاواط.
 أما المحطات التي دمرت فهي:
1 ـ محطة الناصرية          2 ـ محطة خزان سد سامراء      3 ـ محطة سد الموصل               
4 ـ محطة سد دوكان         5 ـ محطة خزان سد حديثة        6 ـ محطة التاجي الغازية
 
  7 ـ محطة النجف                8 ـ محطة الموصل الغازية     9 ـ محطة خور الزبير          10 ـ محطة صلاح الدين       11 ـ محطة بغداد الجديدة       12 ـ محطة الدورة
 13 ـ محطة بيجي                 14 ـ محطة الدبس               15  ـ محطة الحارثة

واستمرت الهجمات الجوية على المدن العراقية، وكافة المرافق الاقتصادية لمدة 45 يوماً، ألقت خلالها الطائرات ما يزيد على 130 ألف طن من القنابل والمتفجرات، من أحدث وأفتك ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية. لقد أرادت الولايات المتحدة أن ترهب العالم أجمع، بما تملكه من الأسلحة الفتاكة التي جربت على رؤوس أبناء الشعب العراقي لأول مرة، لكي تقول للعالم أنها أصبحت سيدة العالم أجمع دون منازع،  وأن لا أحد يستطيع الوقوف بوجهها، أو يعارض سياستها في الهيمنة على مصائر الشعوب.

 لقد أرادت الولايات المتحدة بشكل خاص إرهاب الشعب العراقي، ولإحداث أبعد التأثيرات النفسية فيه، وإفهام النظام العراقي أن من يحاول التحدي، أو التعرض للمصالح الإمبريالية في الخليج  سوف يتعرض إلى كارثة لا أحد يعرف أبعادها.

لقد تعرضت خطط الولايات المتحدة في إحداث الدمار الشامل في العراق إلى انتقادات شديدة في جميع أنحاء العالم، واستقبلتها الشعوب قاطبة بشعور من الاستهجان والغضب، ووصل ذلك الغضب والاستهجان إلى شعب الولايات المتحدة نفسها، حيث وجهت الانتقادات لاستمرار القصف الجوي طيلة 45 يوماً، في حين كان  القصف قد حقق أهدافه خلال الأيام الثلاثة الأولى من بداية الحرب، وقد رد وزير الدفاع ديك تشيني  على تلك الانتقادات، في مؤتمره الصحفي الذي عقده في 11 نيسان 991  قائلاً:

{ لا ينبغي أن يراود أحدنا الشك في أننا فعلنا ما كان لابد لنا أن نفعله!!. لقد كنا نريد أن ُنحدث أكبر قدر من التأثير على المجتمع العراقي، وكنا نتمنى لو لم نفعل ذلك !!، ولكن إذا كان علينا أن نحقق أهدافنا بأقل ما يمكن من الخسائر في الأرواح الأمريكية، فلا أظن أنه كان أمامنا خيار آخر!!، ولو كنا قد اكتفينا بالحد الأدنى من استعمال القوة الجوية لكان عدد العائدين من أفراد قواتنا العسكرية أحياء أقل من  العدد الذي عاد إلينا بالفعل}.(1)
أي كذبة مارسها ديك تشيني في تبريره لما حدث، وأية وقاحة مارسها فهل كان ضرب ملجأ العامرية، وإحراق 1000 مواطن مدني، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، عملا من الأعمال العسكرية حقاً!!؟

أما قائد عاصفة الصحراء، مجرم الحرب الجنرال شوردزكوف الذي لا يقل عن مجرمي الحرب من جنرالات النازية فقد كان  أكثر منه وقاحة واستهتاراً، حيث قال في حديث صحفي في 13 آذار 1991 ما يلي: { إن أهداف الضرب الجوي للعراق جرى توسيعه، وهذا صحيح، ولكن التدمير لم يلحق بالأبرياء!!، فالشعب العراقي ليس كله بريئاً لسببين، السبب الأول أن كثيراً من أفراده تحمسوا لغزو الكويت، والسبب الثاني إن الشعب العراقي قابل بحكم صدام حسين}.(2)
ولقد كذب [شوردزكوف] في كلا السببين، وتجنى على الشعب العراقي، وعلى الحقيقية، فما كان الشعب العراقي يوماً راضياً عن حكم الدكتاتور الأرعن، ونظامه الفاشي، وحروبه المجرمة، وظل  يعاني طيلة حكمه أبشع أنواع البطش والإرهاب والاضطهاد.

لقد تمادى هذا الجنرال الفاشي في وقاحته، لدرجة أن دعا إلى ما أسماه الحاجة إلى تحديد معنى جديد للمدنيين الأبرياء!!. وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل:أليس هذا الجنرال صورة حقيقية لمجرمي الحرب النازيين أبان الحرب العالمية الثانية؟ والذي يجب أن يعاقب على جرائمه بحق الشعب العراقي، والتي يفاخر بها علناً؟
أليس من العدالة أن يقف جورج بوش وديك شيني وكولن باول وولفتز وأضاربهم من صقور البيت الأبيض المسؤولين عن تلك الحرب الظالمة كمجرمي حرب، ويحاسبوا على الجريمة التي اقترفوها بحق الشعب العراقي المظلوم؟

الطائرات تركز هجماتها على القطعات العسكرية:
بعد أن استطاعت الطائرات المغيرة، والصواريخ، تدمير القواعد الجوية العراقية،  وقواعد إطلاق الصواريخ، وقواعد الرادار وطرق الموصلات، وقطعت الاتصالات، وأخرجت القوة الجوية من ميدان المعركة، أخذت تركز هجماتها على القطعات العسكرية المحتشدة في الكويت، وجنوب العراق.

 كان النظام العراقي قد حشد ما يزيد على 50 فرقة عسكرية، من مختلف الأصناف، معززة بما يزيد على 4000 دبابة، و3000 مدفع ثقيل، وما يزيد على 10000مدفع مضاد للطائرات، أقامها حول مواقع قواته، بالإضافة إلى 400 قاعدة لإطلاق الصواريخ، وما يزيد على 700 طائرة من مختلف الأنواع.

 كما أنشأت القوات العراقية نظاماً دفاعياً، وحواجز يمكن أن تتحول إلى جحيم من النيران، لكن القوات العراقية تبقى عاجزة عن مجابهة قوة عسكرية جبارة كالتي تملكها الولايات المتحدة وحليفاتها، وبما تملكه من مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، والتي استخدمت لأول مرة.
كانت القذائف تنهال على القوات العراقية من الجو دون توقف، بعد أن سيطرت الطائرات الأمريكية والحليفة معها على جو المعركة بشكل مطلق، مستهدفة كل الاستحكامات العسكرية، وملاجئ الجنود تقطعت السبل بالقوات العراقية بعد أن قُطعت المواصلات، نتيجة قصف كل الطرق والجسور التي تربطها بالعراق وبذلك انقطعت كل الإمدادات الغذائية والمياه، وأصبح الجيش كله في موقف صعب للغاية.
لقد كانت خطة الولايات المتحدة تقتضي بعدم الالتحام بالجيش العراقي عند بدء الحرب، لتفادي وقوع خسائر بشرية في صفوف قواتها، وقوات حليفاتها، اعتمدت على السلاح الجوي لإنزال أكبر الخسائر الممكنة بالجيش العراقي وإنهاكه، وإضعاف معنوياته إلى أبعد حد ممكن، ولتدمير كل ما أمكن تدميره من معداته، لكي يصبح الهجوم البري قادراً على إلحاق الهزيمة بالقوات العراقية بأقل ما يمكن من الخسائر.

وخلال تلك الضربات الجوية التي دامت قرابة الشهر والنصف، لم تخسر القوات الأمريكية والحليفة سوى 32 طائرة فقط، فقد كانت السيادة الجوية لها دون منازع  وكانت عمليات القصف بالصواريخ تجري من ارتفاعات عالية، لا تستطيع الدفاعات الجوية العراقية وصولها، بالإضافة إلى تدمير أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات في الأيام الأولى من الحرب، مما جعل الطائرات المغيرة في مأمن من أي تهديد أو خطر الإصابة.

كانت أعصاب صدام حسين  وكبار قادته العسكريين تكاد تنهار في تلك الساعات الحرجة، فقد كانوا يتوقعون التحام القوات البرية ببعضها في أول أيام المعركة، مما يفقد القوات الأمريكية والحليفة إمكانية استخدام السلاح الجوي ضد القوات العراقية، أو على الأقل يمكن أن يحد من تأثيرها.
لكن الحرب الجوية وحدها استمرت لأسابيع، وأضطر صدام حسين إلى لإيعاز لبعض قاطعاته العسكرية للهجوم على مدينة [الخفجي] في السعودية في محاولة لرفع معنويات جنوده التي أنهكها القصف الجوي لأسابيع من جهة ، ولكي يجبر القوات الأمريكية والقوات الحليفة على الاشتباك بالجيش العراقي من جهة أخرى.

وتقدمت بالفعل القوات العراقية، تحت وابل من القنابل والصواريخ، نحو مدينة الخفجي واحتلتها، واضطرت القوات الأمريكية والحليفة إلى القيام بهجوم معاكس مستخدمة شتى أنواع الأسلحة المتطورة، واستطاعت إخراج القوات العراقية من الخفجي، منزلة فيها خسائر فادحة في الأفراد والمعدات. لم يكن الهجوم على الخرجي سوى عملية انتحارية قام بها نظام صدام، غير مبالٍ بأرواح جنوده الذين ساقهم إلى حرب لا يرغبون فيها، ولا يؤمنون بها، ولا قادرين عليها.

إن الجيش العراقي، والحقيقة تقال، جيش شجاع بكل معنى الكلمة، والجندي العراقي على كامل الاستعداد للدفاع عن وطنه مهما غلت التضحيات، إلا أن صدام حسين ساقه إلى حرب عدوانية غير مبررة، ولا مصلحة للعراق فيها، مع الجارة إيران، استمرت ثمان سنوات، ولم يكد الجيش يجر أنفاسه بعد تلك الحرب المجنونة، حتى أقدم على اجتياح الكويت، وضمها للعراق بالقوة، متحدياً الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين نصبوا له هذا الفخ القاتل، ليتخذوا من الغزو ذريعة تمكنهم من تدمير العراق، وجيشه أبشع تدمير.

لقد أقدم صدام حسين على فعلته هذه دون أن يحسب أي حساب لاختلال مراكز القوة في العالم، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية تفكك الاتحاد السوفيتي، ودون أن يحسب حساباً للمعطيات الدولية الجديدة، وبروز الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم، تستطيع فرض إرادتها على كل من يحاول تهديد مصالحها بقوة السلاح، وبشكل خاص في منطقة الخليج التي يخرج منها نصف بترول العالم، وتحتوي على أكبر احتياطيات النفط في العالم أجمع. حاول صدام  إدخال الجماهير العربية في الحرب كطرف رئيسي، عندما أقدم على ضرب إسرائيل بصواريخه بعيدة المدى، لكي يجر إسرائيل إلى حرب مكشوفة، ولكي يحول الحرب من حرب عراقية إلى حرب عربية.

 فقد وجه صدام حسين 39 صاروخاً من طراز[سكود] إلى إسرائيل، غير أنه فشل في خططه هذه،  فقد استطاعت الولايات المتحدة أن تمنع إسرائيل من الانجرار إلى الحرب بصورة مكشوفة، لكي لا يؤدي ذلك إلى هيجان الرأي العام العربي، ويحرج الحكام العرب الذين شاركوا الولايات المتحدة في العدوان على العراق، وقد يتحول الهيجان إلى ما هو أبعد من ذلك وربما يؤدي إلى قلب تلك الأنظمة التي شاركت  في الحرب ضد العراق.

 ورغم أن الجماهير العربية، والحقيقة تقال، كانت قلوبها مشدودة إلى جانب العراق، إلا إنها لم تستطع أن تفعل شيئاً، بعد أن أخذتها المفاجئة، والاستعدادات التي أتخذها الحكام العرب لقمع أي تحرك ممكن في مهده، خوفاً من تطوره، وأصيبت الجماهير العربية باليأس، وهي تراقب سير الحرب الجوية، عبر شاشات التلفزة لأول مرة في التاريخ ، لحظة بلحظة، وترى الطائرات المغيرة وهي ترسل من أعالي الجو صواريخها الموجهة بأشعة الليزر، إضافة إلى الصواريخ التي تطلقها السفن الحربية المتواجدة في الخليج العربي، وخليج العقبة، وشواطئ إسرائيل، والموجهة إلكترونياً، لتصيب أهدافها بدقة متناهية.



80
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة السادسة عشرة
حامد الحمداني                                           20/2/2018
لقاء جيمس بيكر وطارق عزيز في جنيف
 نص رسالة بوش لصدام حسين:
 السيد الرئيس: {إننا نقف اليوم على حافة حرب بين العراق وبقية العالم، وهذه الحرب بدأت بقيامكم بغزو الكويت، وهي حرب يمكن أن تنتهي فقط بانسحاب عراقي كامل، وغير مشروط، وفق قرار مجلس الأمن رقم 678. وإنني اكتب لك الآن مباشرة، لأني حريص على أن لا تضيع هذه الفرصة، لتجنيب شعب العراق مصائب معينة، وأكتب لك مباشرة أيضاً لأنني سمعت من البعض أنك لست على علم بمدى عزلة العراق عن العالم نتيجة لما وقع، وأنا لست في مركز يسمح لي بأن أحكم ما إذا كان هذا الانطباع صحيحاً أم لا، وقد وجدت أن خير ما استطيع عمله هو أن أحاول بواسطة هذا الخطاب، أن اعزز ما سوف يقوله وزير الخارجية بيكر إلى وزير خارجيتكم، وحتى أزيل أي اثر للشك أو الالتباس، قد يكون في فكركم، فيما يتعلق بموقفنا، وما نحن مستعدون لعمله.

أن المجتمع الدولي متحد في طلبه إلى العراق أن يخرج من كل الكويت بلا شروط، ودون أي تأخير، وهذه ببساطة، ليست سياسة الولايات المتحدة وحدها، وإنما هي موقف المجتمع الدولي، كما يعبر عنه ما لا يقل عن 12 قراراً صادراً عن مجلس الأمن.

إننا نفضل الوصول إلى نتيجة سلمية!!، ولكن أي شيء أقل من التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 678 هو أمر غير مقبول بالنسبة لنا، ولن تكون هناك مكافئة للعدوان، ولن تكون هناك مفاوضات، لان المبادئ ليست قابلة للمساومة، وعلى كل حال فإن العراق إذا قام بالتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن، يستطيع أن ينظم إلى المجتمع الدولي، وفي المدى القريب، فإن البنيان العسكري العراقي يستطيع أن يهرب من التدمير، ولكن إذا لم تقم بالانسحاب من الكويت، انسحاباً كاملاً غير مشروط، فإنك سوف تخسر ما هو أكثر من الكويت.
 إن ما هو مطروح الآن ليس مستقبل الكويت، فالكويت سوف يتم تحريرها، وحكومتها سوف تعود إليها، ولكن المطروح هو مستقبل العراق، وهو خيار يتوقف عليك. إن الولايات المتحدة  لن تنفصل عن شركائها في التحالف، فهناك 12 قراراً لمجلس الأمن، و28 دولة بقواتها العسكرية لضمان تنفيذ هذه القرارات، وأكثر من 100 دولة التزمت بتنفيذ العقوبات، وهذا كله كافٍ ليؤكد لك أن القضية ليست العراق ضد الولايات المتحدة، ولكنه العراق ضد العالم، إن معظم الدول العربية والإسلامية تقف ضدك، وهي جميعها مستعدة لتعزيز ما أقول، والعراق لا يستطيع، ولن يستطيع أن يبقى في الكويت، أو يحصل على ثمن لقاء خروجه منها،  وقد يغريك أن تجد راحة في اختلاف الآراء الذي تراه في الديمقراطية الأمريكية، ونصيحتي لك أن تقاوم هذا الإغراء.  إن اختلاف الآراء لا ينبغي خلطه بالانقسام، ولا ينبغي لك، كما فعل آخرون غيرك، أن تقلل من أهمية الإرادة الأمريكية.

إن العراق بدأ يشعر بآثار العقوبات التي قررتها الأمم المتحدة، وإذا جاءت الحرب بعد العقوبات، فستكون تلك مأساة لك ولشعبك، ودعني أنبهك إلى أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع أي استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، أو أي تدمير للمنشآت البترولية في الكويت.
وفوق ذلك فإنك سوف تعتبر مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن أي عمل إرهابي يوجه إلى أي دولة عضو في التحالف، وفي هذه الحالة سوف يطلب الشعب الأمريكي أقوى رد ممكن عليك، ولسوف تدفع أنت وبلادك ثمناً فضيعاً إذا أقدمت على عمل من هذا النوع.  إنني لا اكتب لك هذا الخطاب لكي أهددك، إنما اكتبه لمجرد إخطارك، ولست أفعل ذلك لسعادة، فالشعب الأمريكي ليست له معركة مع شعب العراق!!.
السيد الرئيس:
إن قرار مجلس الأمن رقم 678، تحدد فرصة لاختبار حسن النوايا، تنتهي يوم 15 كانون الثاني حتى تنتهي هذه الأزمة دون عنف، واستغلال هذه الفرصة للهدف الذي أتيحت من أجله لتجنب العنف، هو خيار في يدك وحدك، وإني لآمل أن تزن خياراتك، وأن تنتقي منها بعقل لأن كثيراً سوف يتوقف على ذلك}.(9)
                                              جورج بوش

 وبعد ذلك تحدث طارق عزيز، موجهاً كلامه إلى بيكر قائلا:
{ لقد ظننت أننا جئنا هنا لنتحادث، وليس لنتخانق}.
ورد بيكر قائلاً: {نعم جئنا لنتحادث، ولكن على أساس}.
 ثم سأل بيكر طارق عزيز عما إذا كان يريد هو أن يتحدث أولاً، فأجابه طارق عزيز بأنه يريد أن يسمع منه كل شيء، وتحدث بيكر قائلاً:
 {إننا جئنا هنا ليس للتفاوض، وإنما جئنا لنحث العراق، كمحاولة أخيرة للانسحاب من الكويت، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وإن أمامكم مهلة أقصاها يوم 15 كانون الثاني [أي بعد 6 أيام فقط]، وهي بالتأكيد مدة قصيرة، ولكن هذا ليس ذنبنا بل ذنبكم انتم، فقد منحكم مجلس الأمن 45 يوماً، ولم تحاولوا تنفيذ تلك القرارات،  واقترحنا أن تقوم بزيارة واشنطن، وتلتقي بالرئيس بوش، وأن أقوم أنا بزيارة بغداد، والتقي بالرئيس صدام حسين، وخيرتكم في موعد زيارتي خلال 18 يوما،ً إلا أن رئيسكم أعتذر عن مقابلتي بحجة انشغاله وارتباطاته بمواعيد مسبقة، في حين كان رئيسكم يقابل شخصيات من السياسيين السابقين، كادوارد هيث، وولي برانت، وناكاسوني، وحتى الملاكم العالمي السابق محمد على كلاي، ومع احترامي لأولئك الساسة، إلا إنني أقول إنهم ليسوا في مراكز المسؤولية، في حين كنت أمثل بلدي، الولايات المتحدة  الطرف الرئيسي في الأزمة، وفي فترة من أخطر الفترات التي يمكن أن تقرر مصير السلم أو الحرب، وهو تصرف لا يمكن قبوله.

 ثم وجه بيكر إنذاره للعراق من أن انتهاء المدة الممنوحة للعراق دون أن ينسحب من الكويت سيجعل قوات التحالف مطلقة اليد لطرد قواته من الكويت، وعليكم أن تعرفوا أنكم أمام تحالف عسكري قوي يضم 28 دولة، بما فيها عدد من الدول العربية، ذات التأثير الكبير في العالم العربي، كمصر، والسعودية، وسوريا والمغرب، وبدأ بيكر يتحدث عن قوة التحالف الدولي ضد العراق، وما يملكه من أسلحة ومعدات، قائلاً:

{ إن 6 حاملات طائرات، وعلى ظهرها مئات الطائرات، في منطقة الخليج والبحر الأحمر، مع مجموعة كبيرة من القطع البحرية الأخرى المجهزة بصواريخ وتوماهوك، هذا بالإضافة إلى أن العراق محاط بمجموعة من القواعد التي تتمركز فيها أكثر من 2000 طائرة، وليس المهم عدد الطائرات، وإنما المهم نوع التكنولوجيا التي سوف تستعملها قيادة التحالف في تنفيذ ما أوكل لها}. ثم تحدث بيكر عن القوات العسكرية البرية للدول الحليفة، والتي جاوزت 350 ألفاً  وعن نوعية سلاحها، وقوة نيرانها، والتي لم يسبق استعمالها من قبل في أية حرب،  ثم أنتقل بيكر بعد ذلك إلى النقطة الحساسة في الحديث قائلاً:
{إننا ندرك أن لديكم مخزوناً من الأسلحة الكيماوية، ونحن ننصحكم، وكما نصح الرئيس بوش في رسالته، أن لا تحاولوا استخدام هذه الأسلحة، في أي مرحلة من مراحل الحرب، وإذا ما أقدمتم على ذلك، فسيكون رد الولايات المتحدة حازماً وقوياً، وبالأسلحة غير التقليدية}. وكان بذلك يشير إلى استعداد الولايات المتحدة لاستخدام الأسلحة الذرية والكيماوية ضد العراق.(10)

لقد أسهب بيكر في الحديث عما تملكه قوات التحالف من أسلحة ومعدات متطورة للغاية، ومستعرضاً ما سوف تؤدي الحرب بالعراق من خراب ودمار لم يعرف له مثيلً من قبل، مهددا بإعادة العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، وعندما انتهى بيكر من حديثه، التفت إلى طارق عزيز قائلاً: {الآن استطيع أن اسمع ما عندك}.

في تلك اللحظة كانت الأنظار متجهة إلى طارق عزيز، سواء من قبل أعضاء الوفد الأمريكي أو الوفد العراقي، ليسمعوا ماذا سيقول طارق عزيز، بعد كل الذي سمعه من بيكر، حيث تحدث عزيز قائلاً: {إن الصورة التي رسمتها الآن لقوات التحالف ليست جديدة علينا، وليست مفاجئة لنا، فنحن نعرفها من قبل، ونفهم ما تعنيه}.
ثم راح طارق عزيز يذكر بيكر بالدور الذي قام به العراق، لما أسماه بحماية أمن الخليج، ودفع ثمن عمله ذاك ثمناً باهظا، سواء في الأرواح أو الأموال، بالإضافة إلى ما سببته تلك الحرب ضد إيران، من تدهور الاقتصاد العراقي، ثم انتقل إلى جذور الأزمة الكويتية، وأدعى أن العراق بذل جهوداً كبيرة لتجاوز الأزمة مع الحكومة الكويتية، إلا أن حكام الكويت أصروا على موقفهم، مدفوعين بموقف الولايات المتحدة التي حاولت سد كل باب
 للتفاهم.
ورد بيكر على عزيز قائلاً:
 { إن صدام حسين قد خدع الرئيس مبارك عندما قال له بأنه سوف لن يستعمل القوة ضد الكويت، ولكنه فاجأ الجميع بالهجوم، واحتلال الكويت}. وحاول طارق عزيز أن يوضح لبيكر أن صدام لم يقل هذا الكلام بالضبط لمبارك، وإنما قال له، سوف لن يلجأ إلى القوة إلا بعد لقاء مؤتمر جدة، وما سيسفر عنه من نتائج.

ثم أنتقل بيكر إلى تهديدات صدام حسين لحرق نصف إسرائيل، ورد عليه عزيز بأن الحديث الذي نقل عن الرئيس صدام حسين مبتور، فقد قال صدام في خطابه إثر تهديد إسرائيل بضرب العراق بالقنابل النووية بأنه سوف يحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج، إذا ما اعتدت على العراق بالسلاح النووي.

 ورغم أن لقاء بيكر مع عزيز أستغرق 3 جلسات، خلال ذلك اليوم، إلا أن ما تحدث عنه بيكر خلال 45 دقيقة في بدء الاجتماع، كان هو جوهر اللقاء، فكل ما أراده بيكر، وسيده بوش، هو تحذير صدام حسين من استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ضد القوات الأمريكية والحليفة، مهددا العراق باستخدام الأسلحة النووية. أما أي حديث عن حل للأزمة، فقد فات أوانه، فقد اتخذت الولايات المتحدة قرارها بضرب العراق منذُ بداية الأزمة.
وفي نهاية الجلسة الثالثة، أُعلن عن أن بيكر وعزيز سوف يعقدان مؤتمراً صحفياً في الساعة السابعة حسب توقيت جنيف، بقاعة المؤتمرات بالفندق الذي جرى فيه اللقاء، وفي الموعد المحدد، تحدث بيكر أولاً قائلاً:
{ لقد تحادثت مع طارق عزيز حول ضرورة تطبيق العراق لقرارات مجلس الأمن، وأبلغته أن تنفيذ القرارات غير قابل للتفاوض، وإني لآسف أن أقول لكم أيها السيدات والسادة، إنني لم اسمع اليوم شيئاً يدل على مرونة في موقف العراق، ولا على استعداده للامتثال لقرارات مجلس الأمن، وقد قمت في نهاية اللقاء بالاتصال بالرئيس بوش، أبلغته بكل ما دار في اللقاء}. (11)
 وبعد أن أجاب بيكر على أسئلة الصحفيين، تحدث طارق عزيز فقال:
{ لقد جئنا إلى هذا الاجتماع بقلب وعقل مفتوحين، وبنية صادقة، وكنت أتمنى أن يقع هذا الاتصال المباشر بين العراق والولايات المتحدة في مرحلة مبكرة من الأزمة، فأن كل الفرص التي كانت متاحة قد أهدرت، فرصة بعد فرصة، حتى التقينا هنا في هذه اللحظات الأخيرة، وإني أود أن أشير إلى أن الولايات المتحدة تصرفت منذ اللحظة الأولى في الأزمة بطريقة لا تدع مجالاً للشك في نواياها الحقيقية. لقد حدثناهم طويلاً عن قضايانا العادلة، وكان ردهم أنهم يشكون فينا، وقلنا لهم لماذا لا تجربوا؟ لكنهم لم يكن لديهم الاستعداد}.
ثم انتقل طارق عزيز إلى رسالة بوش وما حوته من تهديد ووعيد، بقوله:
{إذا ما قررت الولايات المتحدة الاعتداء على العراق، فإن العراق لا يستغرب ذلك، فنحن نسمع التهديدات كل يوم، وقد قلت للوزير بيكر بأننا سندافع عن بلادنا بكل قوة، وإن الشعب العراقي شعب شجاع، وأن الأمة العربية لن تقبل إخضاع شعبها في العراق، وكسر إرادته، لأن إرادته جزء من إرادتها}.
وبعد نهاية الحديث، وجه إليه أحد الصحفيين سؤالاً عما إذا كان العراق ينوي مهاجمة إسرائيل إذا قامت الحرب؟ وكان جواب عزيز [نعم] . (12)

وهكذا  انتهى اللقاء إلى لا شئ، وبدأ العد العكسي لقيام الحرب التي أصبحت لا مفر منها، فصدام ركب رأسه، واقترف خطأً تلو الخطأ، لا بل جريمة تلو الجريمة حتى تراكمت أخطائه وجرائمه، وأوصلت الأزمة إلى هذا الحد الذي باتت فيه الحرب أمراً محتماً.

أما الجانب الأمريكي فقد نصب الفخ لصدام، ليغزو الكويت، لكي تجد الولايات المتحدة المبرر المطلوب لتوجيه الضربة الكبرى للعراق، وعملت بكل الوسائل والسبل لسد الطريق للحل السلمي للأزمة، من أجل إكمال السيناريو الذي أعده بوش للعراق وشعبه، حفاظاً على المصالح الإمبريالية في الخليج، من أي تهديد من جانب العراق مستقبلاً، وليكون درساً لكل من تسول له نفسه تهديد المصالح الغربية في هذه المنطقة الهامة من العالم، التي تنتج أكثر من نصف الإنتاج العالمي من النفط، وتحتوي على أعظم احتياطيات النفط في العالم اجمع.
أما مصير رسالة بوش لصدام حسين، فقد رفض طارق عزيز استلامها، كما رفض بيكر استعادتها، وتُركت الرسالة على طاولة المباحثات،عندما غادر الوفدان القاعة، وأُودعت في خزانة فندق الكونتنانتل.
غادر بيكر جنيف متوجهاً إلى السعودية، ليبلغ الملك فهد بقرار شن الحرب، إلا أنه لم يبلغه بساعة الصفر، لكنه أخبر الملك بأنه سوف يسمع من الأمير بندر، سفير السعودية في واشنطن، موعد ساعة الصفر، بكلمة السر[تصلكم الأشياء التي طلبتموها الليلة].

ومن ناحية أخرى عاد طارق عزيز إلى بغداد، وبصحبته برزان التكريتي، أخو صدام غير الشقيق، حيث قابلا صدام حسين فور وصولهما، وقدم طارق عزيز له تقريراً عما دار في الاجتماع.

وهكذا سارت خطى الحرب إلى غير رجعة، وأصدر الكونجرس الأمريكي قراراً يخول الرئيس بوش استخدام القوة ضد العراق، وصوت لصالح القرار 52 عضواً ضد 47 في مجلس الشيوخ، و250 ضد 30 في مجلس النواب، وبذلك أصبح بوش طليق اليدين، لشن الحرب على العراق.

بوش يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة مقابلة صدام:

في 12 كانون الثاني، دعا بوش السكرتير العام للأمم المتحدة [خافير بيرز ديكويلار] إلى لقائه في كامب ديفيد، على العشاء، وقد اعتذر ديكويار عن تلبية الدعوة بادئ الأمر، حيث أنه كان على وشك أن يغادر إلى أوربا، إلا أن بوش ألحّ عليه لحضور العشاء، وبعدها يكون في حل من أمره.

توجه ديكويار إلى كامب ديفيد، وتناول العشاء مع بوش، وخلال الحديث الذي دار بين بوش وديكويار، طلب  بوش من ديكويار التوجه إلى بغداد، والالتقاء بصدام حسين.
حاول ديكويار الاعتذار عن هذه المهمة، قائلاً: {إن الوقت قد فات، ولم يعد هناك متسع لفعل أي شيء}.

 وفي حقيقة الأمر، لم يرضَ ديكويار حشر أسمه في الأزمة، بعد أن أخذت الولايات المتحدة زمام الأمور كلها بيدها، وأحس أن ذلك قد يسبب إساءة إلى سمعته، إضافة إلى أن صدام حسين، الذي أصابه اليأس من موقف الولايات المتحدة في لقاء جنيف، لم يعد يعر أية أهمية لأي جهود جديدة، سواء من قبل الأمين العام، أو من قبل أي دولة أخرى. لكن بوش ألحّ على ديكويار أن يسافر إلى بغداد، ولو لعدة ساعات، وأمام ضغط بوش، تراجع ديكويار عن موقفه، ووافق على السفر إلى بغداد.

 وبالفعل أرسلت سكرتارية الأمم المتحدة رسالة مستعجلة إلى بغداد، تطلب تحديد موعد للأمين العام ديكويار لمقابلة صدام حسين، وجاء الرد بالموافقة، وتوجه ديكويار إلى بغداد في 13 كانون الثاني 1991، والتقى مساء ذلك اليوم بصدام حسين. وفي بداية الحديث مع صدام، تحدث ديكويار قائلاً:

{ في البداية أريد أن أؤكد لكم أنني لا احمل رسائل من أحد، ولا أعتبر نفسي مبعوثاً لأي شخص. أنا هنا رجل يمثل نفسه، وقد تتذكرون أنني قابلتكم قبل ذلك مرتين، أثناء الحرب مع إيران، وتتذكرون أنني كنت دائماً أحاول أن أقترب من المشاكل، على أساس غير متحيز، وأنا أقابلكم اليوم بنفس الروح، على أنني أريدكم أن تعلموا أنني يجب أن أكون في أوربا غداً، فلدي واجب هناك}.
 
ثم واصل ديكويار حديثه ليدخل في صميم الموضوع قائلاً:
{ إن العراق عضو في الأمم المتحدة، وهذه المنظمة تعمل على أساس قرارات تصدرها، ومن سوء الحظ أن تاريخ الأمم المتحدة يظهر أمامنا أن هناك قرارات لمجلس الأمن لا تنفذ، ولكن إن هناك قرارات لابد من تنفيذها، وأتصور شعوركم تجاه هذا الوضع، وكصديق لبلادكم، فإن قرارات مجلس الأمن بشأن أزمة الخليج هي من تلك القرارات التي يجب أن تنفذ، ولا نأخذ منها بالمثل السيئ لقرارات لم تنفذ، وأنا أريد إن أساعد لتجنب مواجهة تؤدي بهذه الأزمة إلى الحرب، وأنا لست ساذجاً لأتصور أننا نستطيع أن نحل هذه المشكلة الليلة، وكل ما أريده هو أن تعطني شيئاً أستطيع أن أبني عليه موقفاً يزيـل التوتر، وأن أحـرم دعـاة الحرب من فرصة يضنونها مؤاتية، وهذا هو كلما عندي}. (13)

وكان رد صدام حسين على ديكويار ما يلي:
{ صحيح أن الرأس هو الذي ينظم كل شيء، وسوف أفضي لك بسر، لقد أردتك أن تجئ إلى بغداد، ولا تجئ في نفس الوقت، فأنت السكرتير العام للأمم المتحدة، ونحن أعضاء في هذه العائلة، ونحن بالطبع نريد أن نراك، ونرى الأمم المتحدة تؤدي دورها. لكنني كنت قلقاً من مجيئك في هذه الظروف التي نسمع فيها قعقعة السلاح، فعندما لا تحمل من عندنا ما يرضيهم، فإنهم قد يستعملون مجيئك ذريعة للحرب}. وأضاف صدام قائلاً:

{إن العراق قدم مبادرات كثيرة لحل الأزمة، وكان على استعداد لقبول مبادرات كثيرة، ولكن الرئيس بوش كان يرفض كل واحدة منها بعد ساعة من صدورها، وإن القرارات التي أصدرها مجلس الأمن  هي في الحقيقة قرارات أمريكية، وليست قرارات الأمم المتحدة. إننا اليوم في عصر أمريكي، والولايات المتحدة تحصل على ما تريد هي، وليس على ما يريد مجلس الأمن}.

 ثم انتقل صدام إلى الحديث عن مسألة الانسحاب من الكويت قائلاً:
{ إننا لا نستطيع أن نقول كلمة الانسحاب في هذه اللحظة، بينما الجيوش الأمريكية تواجهنا، والحرب قد تقع في ظرف ساعات. وإذا قلت شيئاً عن انسحاب عراقي، دون أن يكون في مقابله شيئاً عن انسحاب أمريكي، فإن كل ما أكون قد حققته في هذه الساعة هو أن أعطي الأمريكيين فرصة لخلق بلبلة نفسية تمكنهم من الانتصار علينا!!}.(14)

 وكان رد ديكويار، بعد أن أنهى صدام حديثه أن قال جملته المشهورة: {إنني أشعر أن السيف قد خرج من غمده، وهو مُشهرْ فوق العالم وليس على رأسي فقط}. (15)

 وفي اليوم التالي 14 كانون الثاني، غادر ديكويار بغداد عائداً إلى أوربا، ولم يكن قد بقي على الموعد المحدد لانسحاب العراق من الكويت سوى يوم واحد فقط.
وهنا يتبادر لنا السؤال التالي:
هل كانت زيارة ديكويار التي كلفه بها بوش لبغداد تهدف حقاً لمنع الحرب؟
وأستطيع القول بكل تأكيد كلا، ذلك أن كل الذي أراده بوش هو إشعار العالم أن المشكلة ليست بين الولايات المتحدة والعراق، بل بين العراق والأمم المتحدة، وأن الأمم المتحدة قد بذلت جهودها، حتى أخر يوم من الفترة التي منحها مجلس الأمن للعراق للانسحاب من الكويت، ولكن العراق أصرّ على موقفه.
بدأ العالم يحصي الساعات، بل والدقائق، وهي تمر مثل كابوس هائل على العالم، ومرّ اليوم الأخير دون حدوث أي تغيير على أوضاع الأزمة، وبذلك أصبح العالم يترقب ساعة الانفجار.
 واتصل الأمير بندر بن سلطان، سفير السعودية في واشنطن، بالملك فهد في اليوم التالي 16 كانون الثاني 1991، وابلغه بكلمة السر[ساعة الصفر لبدء حرب الخليج الثانية].
وفي نفس اليوم، اتصل جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية، بوزير خارجية الاتحاد السوفيتي، الكسندر بسمرلنك، وابلغه بساعة الصفر، وعلى الفور دعا غورباتشوف القيادة السوفيتية إلى  اجتماع عاجل في الكرملين، وعاد وزير الخارجية السوفيتي إلى الاتصال بوزير خارجية الولايات المتحدة بيكر، لينقل له طلب الرئيس غورباتشوف بتأجيل العملية لمدة يوم واحد فقط، لكن بيكر رد عليه قائلاً:
{لقد فات الأوان والعمليات قد بدأت فعلاً} .






81
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الخامسة عشرة
حامد الحمداني                                 18/2/2018

بوش يقترح لقاء بيكر لصدام، ولقاء عزيز به:

في الثلاثين من تشرين الثاني، وبعد يوم من صدور قرار مجلس الأمن رقم 678، أقترح الرئيس الأمريكي بوش بأن يقوم طارق عزيز بزيارة للولايات المتحدة والالتقاء به، على أن يقوم وزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر بزيارة بغداد ولقاء صدام حسين، مدعياً أن الهدف من هذا اللقاء هو [المشي ميلا إضافياً من أجل السلام]!!.
 لكن بوش لم يكن صادقاً في دعواه إطلاقاً، وهو الذي رفض أي محاولة، ومن أي جانب للتوسط بين العراق والولايات المتحدة، من أجل إيجاد حل للأزمة، قائلاً: {إن خيار الحرب قد أصبح أمراً لابد منه}.

 لماذا إذاً عرض بوش اقتراحه هذا؟
إن كل ما أراده بوش هو محاولة خدع الرأي العام العالمي بصورة عامة، والأمريكي والعربي بصورة خاصة، والظهور بمظهر الحريص على السلام، واستنفاذ كل الوسائل لتجنب الحرب!!. غير أنه فشل في ذلك، وأخذت نواياه تظهر شيئاً فشيئاً، وتبين أنه عازم ليس على طرد القوات العراقية من الكويت، وإنما يسعى لهدف أبعد، يقضي بتدمير العراق عسكرياً واقتصادياً، وتصفية أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق، وإنهاء أي دور مؤثر له في منطقة الخليج بشكل خاص، والشرق الأوسط بشكل عام .

كما أراد بوش احتكار التصرف إزاء الأزمة، وعدم فسح المجال أمام الدول الأخرى، وبشكل خاص بعض الدول العربية، لمحاولة السعي من جديد، خلال فترة الـ 45 يوماً، الممنوحة للعراق لسحب قواته من الكويت، وإقناع العراق بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 660، والنفاذ بجلده من حرب مدمرة، لا أحد يستطيع تقدير نتائجها، وفي كل الأحوال فإن بوش كان عازما على ضرب العراق، وإن قراره لا رجعة فيه.

أحدث اقتراح بوش ردود فعل مختلفة لدى الدول العربية، ومنها العراق، ولدى بعض الدول الأخرى. فقد رأت دول الخليج، وبشكل خاص حكام الكويت  أن هذه المبادرة هي بادرة تراجع للولايات المتحدة ربما كانت بسبب تأثيرات داخلية من جانب الشعب الأمريكي، بينما رأت بعض الدول العربية الأخرى أنها يمكن أن تكون بادرة خير لحل الأزمة  وتفادي الحرب!، وإمكانية إقناع صدام حسين بالانسحاب قبل نهاية المدة الممنوحة للعراق.
وبالفعل توجه الملك حسين إلى بغداد، وتبعه ياسر عرفات، ثم نائب رئيس جمهورية اليمن، والتقى الجميع مع صدام حسين يوم 4 كانون الأول، طالبين منه استغلال المبادرة، وسحب قواته من الكويت، وتجنب الحرب، وبعد اللقاء أجتمع مجلس قيادة الثورة، برئاسة صدام، وأصدر بعد الاجتماع بياناً في 5 كانون الأول يعلن فيه الاستجابة للمبادرة الأمريكية، وأصدر صدام بعد ذلك قراراً بالسماح للرهائن الغربيين بمغادرة العراق خلال أسبوعين، لكي يقضوا عيد الميلاد مع ذويهم وذلك كبادرة حسن نية من النظام العراقي، بل وزاد النظام على ذلك، بأن تخلى عن مطالبته بربط قضية الانسحاب من الكويت بحل قضايا الشرق الأوسط، كما جاء في حديث صدام حسين مع القادة العرب الذين زاروا بغدادعندما قال:{إن ربط القضيتين هو ربط سياسي وليس ربطاً بتواريخ الأيام}. (3)

إلا أن الآمال التي عُقدت على مبادرة بوش سرعان ما تبخرت، وبدأت الأخبار تتسرب إلى النظام العراقي عن حقيقة أهداف المبادرة، والتطمينات التي قدمها بوش لحكام السعودية والكويت، من أن الولايات المتحدة لا زالت مصممه على تنفيذ خططها تجاه العراق.

وزاد في فضح موقف الولايات المتحدة، الخطاب الذي ألقاه [هنري كيسنجر] أمام لجنه القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي وجاء فيه: {لنقم بأية مبادرة نريد القيام بها، ولنعطِ أنفسنا حرية الحركة كما نشاء، ولكننا يجب أن نكون واثقين من أن حل الأزمة يجب أن يحقق نزع وسائل القوة العراقية  التي تلقي بظلها على جيرانه في المنطقة، وبدون هذا التغير الضروري في موازين القوى، فإن أي حل نتصوره للأزمة سوف يكون مجرد تأجيل لها}.  (4)

وهكذا أدرك النظام العراقي أنه أمام حرب لا مفر منها مهما فعل، معتبراً إياها قدر العراقيين الذي لا مرد له!، وتبدد التفاؤل بحل الأزمة، ليعود التشاؤم من جديد ينيخ بكواهل العراقيين المبتلين بطغيان صدام ورئيس الولايات المتحدة بوش، والذين كانوا يرقبون بقلق بالغ ما سوف يؤول إليه مصيرهم، ومصير العراق، وجاء تصريح بوش يوم 21 كانون الأول، كضربة قاضية لكل أمل في حل الأزمة حيث أعلن بكل صراحة قائلاً:

{أن انسحاب القوات العراقية من الكويت ليس كافياً لحل الأزمة  وإنما يتحتم نزع قوة العراق العسكرية، وإزالة مصانعه الحربية وقواعد صواريخه، وكافة منشآته النووية، وكذلك يتعين على العراق أن يدفع تعويضات كاملة عن كل الأضرار التي لحقت بجميع الأطراف في المنطقة}. (5)
أما رد فعل بوش على إطلاق سراح الرهائن، والسماح لهم بمغادرة العراق، فقد قلل من أهميتها قائلاً: {مع ترحيبي بإطلاق سراح الرهائن، فإن الإفراج عنهم لم يفعل شيئاً، وإنما صحح جريمة أرتكبها النظام العراقي حين أحتجزهم، في المقام الأول، وإن الإفراج عن الرهائن أزاح عن ضميري عبئاً معنوياً كبيراً}!!. (6)
ولاشك أن بوش كان يعني في كلامه أنه أصبح، بعد إطلاق سراح الرهائن قادراً على توجيه الضربة للعراق، دون أي عائق يمكن أن يسبب له انتقاد، إذا ما أصيب الرهائن في الحرب لو بقوا في العراق، وبعد كل هذه التطورات التي حدثت، أصبح موضوع لقاء طارق عزيز مع بوش، ولقاء بيكر مع صدام أمر لا طائل من ورائه، وبدا صدام وكأنه غير راغب في اللقاء، ولا يعلق عليه أي أمل في حل الأزمة.

كان المقرر أن يتم لقاء طارق عزيز بالرئيس بوش في واشنطن، ثم يليه لقاء بيكر بصدام في بغداد. لكن صدام أعتذر عن لقاء بيكر في وقت مبكر، بحجة انشغاله وارتباطاته، وطلب أن يكون اللقاء يوم 13 كانون الثاني، أي قبل نهاية المدة الممنوحة للعراق بيومين،  فيما أرادت الولايات المتحدة أن يكون اللقاء يوم 3 كانون الثاني.

وعادت الولايات المتحدة وغيرت موقفها من اللقاءين، واقترح الرئيس بوش أن يتم لقاء بين طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف، وتقرر الموافقة على اللقاء، وحدد له يوم 9 كانون الثاني 1991.

كانت الولايات المتحدة في تلك الأيام تبذل قصارى جهدها في تجميع كل المعلومات الممكنة، عن جميع المراكز العسكرية والمدنية الحساسة في العراق، من مصانع عسكرية، وقواعد إطلاق الصواريخ، وقواعد الرادار، ومراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومعامل البترو- كيماوية، ومصافي النفط، وجميع المنشآت النفطية، وطرق المواصلات والجسور، وجميع المصانع المدنية، ومحطات الطاقة الكهربائية، المفاعل النووي العراقي.
 وخلاصة القول كل القواعد الأساسية للاقتصاد العراقي، ولعبت الشركات الغربية واليابانية دوراً كبيراً في تقديم تلك المعلومات، حيث كانت قد قامت فيما مضى ببناء معظم تلك المنشآت، ولديها كل الخرائط المتعلقة بها، وكانت القوات الأمريكية والحليفة تعد العدة لتوجيه الضربة القاصمة لهذه الأهداف، وتدميرها تدميراً كاملاً.

ثالثاً: الموقف الفرنسي من الأزمة

 لقد اثبت الوقائع أن فرنسا التي ارتبطت بأوثق العلاقات مع النظام العراقي إبان حربه مع إيران، قد خدعت النظام في سعيها لمنع وقوع الحرب، والقيام بدور فاعل في حل الأزمة، وتبين أن فرنسا تشارك بشكل فعال في تنفيذ الخطط الأمريكية المعدة للعدوان على العراق، وأدى موقف الرئيس [ميتران] إلى استقالة وزير الدفاع الفرنسي [جان بيير شيفيمان] في 29 كانون الثاني 1991، بعد أن وجد أن الجيش الفرنسي قد تعدى الخطط المتفق عليها لتحرير الكويت، وتحول إلى الحرب ضد العراق، وأعلن بعد استقالته أن الحرب كان بالإمكان تجنبها لو شاءت الولايات المتحدة ذلك. (7)
ولكن الرئيس الأمريكي بوش كان قد عقد العزم منذ اليوم الأول لوقوع الأزمة على اللجوء إلى القوة العسكرية، لتوجيه ضربة قاصمة للعراق، وقيل آنذاك أن الرئيس الفرنسي ميتران كان قد بعث بالأميرال [جاك لاكساند] إلى الولايات المتحدة، ليبلغ الرئيس بوش بأنه يستطيع الاعتماد على فرنسا، كما يعتمد على بريطانيا بالضبط، وقد برر ميتران موقفه هذا فيما بعد، بأن  المصالح الفرنسية هي التي فرضت عليه سلوك هذا الطريق، وقديماً قال السير[ونستن تشر شل] رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية قولته المشهورة: {ليس هناك صداقات دائمة، بل هناك فقط مصالح دائمة}.

رابعاً: بيكر يسلم طارق عزيز رسالة تهديد لصدام من بوش:

أخذت الأيام تمر، منذُ صدور قرار مجلس الأمن رقم 678، دون أن يحدث أي تطور باتجاه انفراج الأزمة، بل على العكس كانت الولايات المتحدة وحلفائها يضعون اللمسات الأخيرة على مخططاتهم بضرب العراق، فيما بدا نظام صدام وكأنه قد سلم قدره للظروف، وبقي على إصراره في التشبث بالبقاء في الكويت، معللاً ذلك بأن الولايات المتحدة وحلفائها سيضربون العراق سواء خرج الجيش العراقي من الكويت أم لم يخرج.

لقد أضاف صدام  بموقفه هذا خطأ جديداً إلى أخطائه السابقة، فحتى في حالة إصرار الولايات المتحدة على ضرب العراق، فأن خروج القوات العراقية من الكويت كان سيسبب أكبر إحراج للولايات المتحدة إذا ما أقدمت على ضرب العراق، ويمكن أن يؤدي إلى فورة كبرى هيجاناً على امتداد الوطن العربي الكبير، وانقساماً في صفوف الدول العربية التي سارت في ركاب الولايات المتحدة، من أجل تحرير الكويت.

كما أن الرأي العام العالمي كان سيقف ضد تصرف الولايات المتحدة، بعد أن زال مبرر الحرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان سحب القوات العراقية من مناطق تجمعها في الكويت سيجعلها في مواقع أكثر أماناً فيما لو تعرضت للهجوم.
ولو أقدمت الولايات المتحدة على ضرب القوات العراقية، وهي تنسحب من الكويت، خلال المدة التي منحها مجلس الأمن للعراق، والبالغة 45 يوماً فإن ذلك سيعني لدى الرأي العام العالمي أن الولايات المتحدة قد خالفت قرار مجلس الأمن الدولي، واعتدت على العراق دون مبرر طالما هو في حالة انسحاب من الكويت.
إن إصرار صدام على المضي في مواقفه الرعناء لم يكن يعني سوى الانتحار المحتم بالنسبة للجيش العراقي، وللشعب العراقي، وهذا ما كانت تريده الولايات المتحدة بالضبط، وإن صدام نفسه يتحمل  مسؤولية كل ما سوف يحدث بعد نهاية المدة الممنوحة للعراق.
لم يبقَ أمام نظام صدام إلا الانتظار لما سيسفر عنه لقاء جيمس بيكر وطارق عزيز في جنيف، وربما علق صدام بعض الآمال على ذلك اللقاء المنتظر، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى عكس ذلك تماماً.
كان بوش ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الفترة التي منحها مجلس الأمن للنظام العراقي للانسحاب من الكويت دون قيد أو شرط  ولسان حاله يقول ليت صدام حسين يركب رأسه ويصر على البقاء في الكويت، لكي ينفذ المخطط المرسوم لضرب العراق.

وجاء الموعد المنتظر، يوم التاسع من كانون الثاني 1991، حيث وصل وزير الخارجية الأمريكية[ جيمس بيكر] ووزير خارجية العراق، [طارق عزيز] إلى جنيف، وجرى اللقاء بينهما في إحدى قاعات فندق [لكونتنانتل] في جو من الترقب والقلق عمّ العالم العربي بشكل خاص، والعالم بشكل عام. لقد وضع الشعب العراقي، ومعه الشعوب العربية، قلوبهم على أيديهم في تلك اللحظات الحاسمة، منتظرين ما ستسفر عنه نتائج اللقاء، وماذا سيحل بالعراق، إذا ما فشل الاجتماع، وبقيت الأوضاع على حالها، انتهت المدة الممنوحة للعراق للانسحاب من الكويت.
جلس الوفدان العراقي والأمريكي وجهاً إلى وجه إلى مائدة الاجتماع، بعد أن أجرى الوفدان مصافحة بعضهما البعض، وكانت الابتسامة الصفراء تبدو على وجه وزير خارجية الولايات المتحدة بيكرالذي أسرع إلى فتح حقيبته، وأخرج منها مظروفاً، وسلمه إلى طارق عزيز، قائلا له: { إن هذه الرسالة كلفني الرئيس بوش أن أسلمك إياها، لتسلمها بدورك إلى رئيسك صدام حسين}.

 تناول طارق عزيز الرسالة ووضعها جانباً، غير أن بيكر طلب منه أن يقرأ الرسالة، وقد أجابه عزيز إن الرسالة موجهة إلى الرئيس صدام حسين، وليس من حقي أن افتحها، وأقراها، لكن بيكر رد على عزيزعلى الفور قائلاً:
{ إن ما سوف نتحدث عنه هنا يتعلق بما ورد في هذه الرسالة، ولابد لك أن تقرأها أولاً لنستطيع التحدث فيما بعد}. (8)

تناول طارق عزيز الرسالة مرة أخرى وفتحها، وبدأ يقرأ ما ورد فيها، ولم يكد يفرغ من قراءتها، حتى دفعها إلى بيكر مرة أخرى قائلاً له: {إنني لا أستطيع أن انقل مثل هذه الرسالة إلى رئيسي، لأنها كتبت بصيغة لا يليق التخاطب بها بين الرؤساء، وهي لا تحتوي سوى عبارات التهديد والوعيد للعراق وقيادته}.

في الحلقة القادمة نص رسالة بوش لصدام

82
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الرابعة عشرة
حامد الحمداني                                        17/ 2/2018

تاسعاً:الغرب يكمل استعداداته الحربية

في الشهرين الأخيرين من عام 1990، أخذت الاستعدادات الغربية للحرب تتكامل،  فقد بلغ مجموع القوات التي تم حشدها في السعودية حوالي 350 ألفاً من الجنود والضباط، وما يزيد على 1000 طائرة حربية بالإضافة إلى ألوف الدبابات والمدفعية والصواريخ، وأعداد كبيرة من القطع البحرية، وحاملات الطائرات التي أخذت مواقعها في الخليج العربي، وخليج العقبة، وسواحل إسرائيل، وهي تحمل الصواريخ البعيدة المدى، والموجهة إلكترونياً، والقادرة على ضرب أي منطقة من العراق، بانتظار ساعة الصفر لبدء الحرب.

أما صدام حسين فقد أستمر في حشد قواته في الكويت، حتى بلغت 450 ألف ضابط وجندي، تساندها ما يزيد على 4000 دبابة و 3000 قطعة مدفعية، و800 طائرة حربية، إضافة إلى قواعد إطلاق الصواريخ البعيدة المدى.
 غير أن التكافؤ بين القوتين كان بعيد المنال، نظراً لما يمتلكه الغرب من التكنولوجيا الحربية المتطورة، هذا بالإضافة إلى عدم قناعة الجندي العراقي بتلك الحرب التي ساقه إليها صدام حسين دون مبرر، ولم يمض سوى سنتين على انتهاء حربه المجرمة ضد إيران والتي دامت 8 سنوات، ودفع ما يزيد على النصف مليون من الجنود والضباط حياتهم في تلك الحرب التي خاضها صدام حسين نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية.

كان تحشيد هذه الأعداد الضخمة من الجيوش من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، يتطلب أموالاً كثيرة جداً، ليس في وسع الولايات المتحدة تحملها لوحدها، ولذلك فقد ضغطت على دول الخليج بان تدفع نصيبها من التمويل. وسارعت السعودية والكويت، وبقية دول الخليج بسحب مدخراتها، وتقديمها إلى الولايات المتحدة. كما ضغطت الولايات المتحدة على اليابان، وألمانيا الغربية لتقدم نصيبها من تكاليف الحرب، واستطاعت أن تجمع ما يقارب 90 بليون دولار، دفعت منها ألمانيا 10 بلايين، واليابان 10 بلايين دولار أخرى، ودفعت السعودية والكويت وبقية دول الخليج الباقي.
بلغت حصة الولايات المتحدة من هذا المبلغ 54 بليون دولار، في حين بلغت تكاليف حربها 31 بليون دولار، أي أنها حققت ربحاً قدرة 23 بليون دولار.
 أما بريطانيا فقد حصلت على 6 بلايين دولار، في حين بلغت تكاليفها الحربية 3 بلايين دولار، أي إنها حققت ربحاً قدرة 3 بلايين دولار، كما حصلت تركيا على 3 بلايين دولار.
 أما إسرائيل فقد حصلت على6,5 بليون دولار، مع تسهيلات بقيمة 10 بلايين دولار لغرض إنشاء المساكن للمهاجرين اليهود إليها .(11)
وهكذا استطاعت الولايات المتحدة الحصول ليس على تكاليف الحرب فحسب، بل حققت ربحاً صافياً مقدار 23 بليون دولار، لقاء حماية المصالح الغربية واليابانية في منطقة الخليج.
 وفي أواخر شهر تشرين الثاني من عام 1990  كانت الاستعدادات الحربية الأمريكية قد اكتملت، تم إعداد الخطة التي سينفذها الجنرال [شوارتزكوف] التي أطلقت عليها الولايات المتحدة [عاصفة الصحراء]، والتي ارتكزت على المراحل التالية (12)
المرحلة الأولى: قيام السلاح الجوي بهجوم شامل على مراكز قيادات الجيش، وقواعد الصواريخ، والدفاعات الجوية، ومحطات الرادارات، والاتصالات، والمطارات الحربية، وطرق المواصلات، والجسور ومصانع الأسلحة بأنواعها، ومحطات الكهرباء، وبدالات الهاتف، والاتصالات السلكية واللاسلكية ومصافي النفط وكافة المنشآت النفطية وجميع المصانع المدنية.
 المرحلة الثانية: هجوم جوي شامل على القوات البرية العراقية المتواجدة في الكويت، وجنوب  العراق، لإنهاكها، وتحطيم معنوياتها، ذلك عن طريق القصف المركز والمستمر بأحدث ما توصلت له تكنولوجيا المصانع الحربية الأمريكية، وقطع الإمدادات الغذائية والمياه عنها، وقطع صلاتها بمقر القيادة العامة.   

المرحلة الثالثة:الهجوم البري الشامل لسحق الفرق العسكرية العراقية، وتدميرها، مع استمرار القصف الجوي لكافة المرافق الاقتصادية في  كافة أنحاء العراق، والتأثير على معنويات الشعب العراقي وإرهابه.

لقد كانت الخطة تعتمد على قوة السلاح الجوي في مرحلتي الحرب الأولى والثانية، وتجنب الالتحام بالقوات العراقية في البداية، لكي لا تقع خسائر كبيرة في صفوف قواتهم، وجعلت الهجوم البري، مرحلة متأخرة، لحين استكمال القصف الجوي لكافة الأهداف المحددة في المرحلتين الأولى والثانية، وكانت القوات الأمريكية والقوات الحليفة وأسلحتها من الضخامة والقوة أن بدت وكأن الغرب يعد لحرب عالمية ثالثة، وليس حرباً ضد بلد صغير من بلدان العالم الثالث. (13)

 لقد وقف الرئيس الأمريكي جورج بوش يخطب في الكونجرس الأمريكي قبيل بدء القوات لأمريكية والقوات الحليفة للحرب ضد العراق قائلاً:{ إنني احتفظ بالحق في الانتقال إلى مرحلة الهجوم العسكري لتحقيق الأهداف الأمريكية في الخليج}.
 وهذا هو واقع الحال، فلو لم يوجد النفط في منطقة الخليج  لما جاءت الولايات المتحدة وحلفائها بجنودهم إلى المنطقة، ولما أصدرت هذا العدد الكبير من القرارات ضد العراق. لقد اعتدت إسرائيل عام 1967 على البلدان العربية، واحتلت الضفة الغربية من فلسطين، وصحراء سيناء في مصر، وهضبة الجولان السورية، وأجزاء من غور الأردن، كما اعتدت على لبنان عام 1980، واحتلت العاصمة بيروت، وهي اليوم ما تزال تحتل الضفة الغربية، وتفرض الحصار الخانق على قطاع غزة، وتحتل الجولان السورية وأجزاء من جنوب لبنان، ومع ذلك نجد الولايات المتحدة لم تكتفِ بالسكوت عن العدوان فحسب، بل دعمت وساندت إسرائيل في عدوانها، ولم تحرك ساكناً على انتهاك كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، منذُ قيامها عام 1948 وحتى اليوم، دون أن تلقى العقاب من مجلس الأمن، والمجتمع الدولي، فقرارات مجلس الأمن لا تنطبق على إسرائيل، بل على العرب وحدهم!!.
مجلس الأمن يصدر قرار الحرب رقم  678

 في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1990، انتقلت الأزمة مرة أخرى إلى مجلس الأمن، بعد تحرك مكثف لوزير الخارجية الأمريكية [جيمس بيكر] لإقناع أعضاء مجلس الأمن بإصدار قرار يخول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين استخدام كل الوسائل الضرورية، بما فيها القوة العسكرية، لتنفيذ قرار المجلس رقم 660 القاضي بإخراج القوات العراقية من الكويت.
لقد استطاع بيكر أن يقنع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ومن بينهم الاتحاد السوفيتي، بالموافقة على مشروع القرار رقم 678  في 29 تشرين الثاني 1990  وضمنت الولايات المتحدة امتناع الصين عن التصويت، ولم يعترض على مشروع القرار سوى اليمن وكوبا، وهذا نص القرار:
قرار رقم 678 ـ 29 تشرين الأول1990
إن مجلس الأمن :
إذ يشير إلى ، ويعيد تأكيد قراراته 660 ، 661 ، 662 ،664 ، 665، 666، 667 669 ، 670 ، 674 ، 6777 ، لعام 1990 .
وإذ يلاحظ ، رغم كل ما تبذله الأمم المتحدة من جهود، أن العراق يرفض الوفاء بالتزامه بتنفيذ القرار 660، والقرارات اللاحقة، ذات الصلة المشار إليها أعلاه، مستخفاً بمجلس الأمن، استخفافاً صارخاً.
وإذ يضع في اعتباره واجباته ومسؤولياته المقررة بموجب ميثاق الأمم المتحدة، تجاه صيانة السلم والأمن الدوليين وحفظهما.
وتصميماً منه على تامين الامتثال التام لقراراته.
وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق:
1 ـ يطالب أن يمتثل العراق امتثالاً تاماً للقرار 660 (1990 )، وجميع القرارات اللاحقة، ذات الصلة، ويقرر في الوقت الذي يتمسك بقراراته، أن يمنح العراق فرصة أخيرة، كلفتة تنم عن حسن النية للقيام بذلك.
2 ـ يأذن للدول الأعضاء المتعاونة مع حكومة الكويت، ما لم ينفذ العراق في 15 كانون الثاني 1991، أو قبله، القرارات السالفة الذكر، تنفيذاً كاملاً كما هو منصوص عليه في الفقرة أعلاه ، وتنفيذ القرار 660 (1990 )، جميع القرارات اللاحقة، ذات الصلة، وإعادة السلم والأمن الدوليين في المنطقة.
3 ـ يطلب من جميع الدول أن تقدم الدعم المناسب للإجراءات التي تتخذ، عملاً بالفقرة 2 من هذا القرار.
4 ـ يطلب من الدول المعنية أن توالي إبلاغ مجلس الأمن تباعاً بالتقدم المحرز فيما يتخذ من إجراءات  عملاً بالفقرتين 2 ، 3 ، من هذا القرار.
5 ـ يقرر أن يبقي المسألة قيد النظر. (1)   
انتشى الرئيس الأمريكي بوش فرحاً لصدور هذا القرار، الذي يخوله باستخدام القوة العسكرية، فقد أصبحت يده طليقة للمضي بالمخطط المرسوم لضرب العراق .وجدير بالذكر أن جميع القرارات التي صدرت كانت بموجب الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
إن قرار مجلس الأمن هذا في حقيقة الأمر، لا يمثل الشرعية الدولية، ويخالف مخالفة صريحة ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على مسؤولية قوات الأمم المتحدة في صيانة السلام والأمن الدوليين، وتحت راية الأمم المتحدة. غير أن الولايات المتحدة جعلت من نفسها فوق الميثاق، وخولت نفسها، بالتعاون مع حلفائها الغربيين، صلاحية استخدام قواتهم المسلحة، ليس فقط لتحرير الكويت  بل لتدمير العراق، مدفوعين بحماية مصالحهم الإمبريالية في الخليج.
ولابد أن أشير هنا إلى تصريح الأمين العام للأمم المتحدة [خافير بيرز ديكويلار] بعد انتهاء الحرب ضد العراق، والذي عّبر فيه عن رأيه بكل صراحة حول الأزمة حيث قال:
{هناك جانب آخر من الأزمة أود أن أشير إليه، هو أن تنفيذ قرارات مجلس الأمن بالقوة لم يجرِ تنفيذه بالضبط كما أوردته المادة 42، وما تلاها في الفصل السابع من الميثاق، وبدلاً من ذلك فإن المجلس خول استعمال القوة لبعض الدول، والتحالف الذي نشأ بينها، وفي الظروف التي كانت قائمة، وبحساب التكاليف التي كانت مطلوبة، فإن مثل هذا الوضع لم يكن ممكناً تجنبه، وعلى أي حال فإن عمليات الخليج تدعونا إلى التفكير في إجراءات جماعية يتحتم إتباعها في المسائل المتعلقة باستعمال القوة لحفظ الأمن في المستقبل، بطريقة تتفق مع الحقيقة، وأن استعمال القوة محصور بمجلس الأمن بمقتضى أحكام الفصل السابع من الميثاق}.(2)
أن هذا التصريح يبين لنا أن الأمين العام للأمم المتحدة قد أعتبر تخويل مجلس الأمن للولايات المتحدة وحلفائها باستخدام القوة ضد العراق أمر غير قانوني، ويشكل تحدياً صريحاً لميثاق الأمم المتحدة، وأنه كان ينبغي أن يكون أي استخدام للقوة، من قبل قوات الأمم المتحدة، وتحت رايتها.
جاء قرار مجلس الأمن رقم 678 ، بمثابة صدمة كبرى للنظام العراقي، فقد صدر القرار بموافقة حليفه الاتحاد السوفيتي، وامتناع الصين عن التصويت، فلو أعترض هذان البلدان، أو أحدهما لكان قد سقط مشروع القرار، ولم يكن النظام العراقي يتصور أن يذهب الاتحاد السوفيتي إلى هذا الحد، وكان هذا التصور من قبل النظام، يدل على جهله بتطور الأوضاع الدولية، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وبشكل خاص الأوضاع في الاتحاد السوفيتي، وبداية تفككه، وانحسار سلطانه كأحد القوتين العظميين، بل وتحوله إلى تابع لسياسة الولايات المتحدة، التي أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، والتي تتحكم في مصائر الشعوب.
حاول صدام حسين الاعتراض لدى محكمة العدل الدولية، على قرار مجلس الأمن والطعن في شرعيته، إلا أن محاولته ذهبت أدراج الرياح، وتأكد النظام العراقي أن الولايات المتحدة ماضية في تنفيذ مخططاتها تجاه العراق، مهما كانت المعوقات، فالقوة قد أصبحت فوق القانون، بعد أن هيمنت الولايات المتحدة على مجلس الأمن، وأصبح المخرج الوحيد للنظام العراقي هو تنفيذ القرار 660، القاضي بالانسحاب من الكويت قبل الخامس عشر من كانون الثاني 1991، وهي المدة التي منحها القرار للعراق لكي ينسحب من الكويت، وقدرها 45 يوماً، وإلا واجه حرباً لا يمكنه الخروج منها سالماً.


83
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثالثة عشرة
حامد الحمداني                                            13/ 2/2018

سادساً: نظام صدام في حيرة!

أصبح النظام العراقي واقعاً في حيرة لا يعرف كيف يخرج منها، فهو في الوقت الذي كان يراقب عملية الحشد العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة تتسارع يوماً بعد يوم، ولهجة التحدي الصارمة للرئيس الأمريكي بوش وهو يعلن تصميمه ليس على طرد القوات العراقية من الكويت فحسب، بل ونزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتقليص قواته العسكرية، وهذا ما أعلنه بوش، ولكن ما كان قد أخفاه كان أعظم، فلقد صمم وخطط لتدمير البنية التحتية للاقتصاد العراقي، وإعادته إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، كما قال وزير خارجيته جيمس بيكرأثناء لقائه بطارق عزيز في جنيف.

لقد جعل الموقف الصارم للولايات المتحدة النظام العراقي يصعّد من تحديه، وإصراره على موقفه، فقد كان خوف صدام حسين من أن يقدم العراق على تقديم تنازلات للولايات المتحدة دون مقابل يمكن أن تؤثر على الموقف العام له، ويثبط همة القوات المسلحة، دون أن يحصل في المقابل على أي شئ.

 كما كان خوف صدام من نوايا الولايات المتحدة تجاه العراق حتى لو أقدم على سحب قواته من الكويت، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى أن بوش قد ذهب بعيداً في خططه لضرب العراق مهما كانت الظروف، ومهما فعل النظام العراقي، لأنه قد وجد فرصته التي ربما لا يستطيع الحصول عليها مرة أخرى، لإزاحة ما سماه خطر النظام العراقي على الخليج.

لقد حاول صدام حسين، عن طريق الاتحاد السوفيتي، ووسطاء آخرون الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة فيما إذا أقدم على الانسحاب من الكويت، بأن لا يتعرض العراق وجيشه إلى الهجوم، وحرص صدام على أن لا يتحدث عن الانسحاب بصورة علنية، بل ويعلن إصراره على ضم الكويت، وهذا ما أراده بوش بالضبط.

 لقد أراد بوش أن يفهم العالم أن لا مفر من استخدام القوات العسكرية ضد العراق، ولذلك فقد أعتبر صدام حسين أي حديث عن ضرورة الانسحاب عمل خياني يرمي إلى إضعاف معنويات الجيش، وأصدر إلى تعميماً إلى كافة أعضاء ومؤيدي حزبه بالامتناع عن الحديث عن الانسحاب. (7)
 وهكذا كتمَّ نظام صدام أفواه الشعب العراقي، ومنعه من إبداء رأيه في أهم مسألة تتعلق بوجوده ومستقبله، فقد كان الشعب العراقي مدركاً تمام الإدراك عمق الكارثة التي ستحل به، بسبب إصرار صدام على سياسته المتهورة، لكنه لم يكن يملك  حولاً ولا قوة، وسيف نظام صدام مسلط على رقابه، وهو ينتظر اللحظة التي يسوقه فيها الجلاد إلى المجزرة.

ورغم وجود عدد من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة لحكمه إلا أن أساليب القمع الوحشية، وحملات الاعتقالات والتعذيب، والإعدامات بالجملة، جعلت معظم قيادات الأحزاب المعارضة تختار المنفى مجالاً لعملها السياسي، تاركة جماهير الشعب العراقي دون قيادة فعالة، قادرة على تعبئتها والسير بها نحو إسقاط النظام هذا بالإضافة إلى عمق التناقضات في توجهات الأحزاب المعارضة، وكل ما استطاعت عمله هو عقد ميثاق دمشق، وإصدار عدد من القرارات التي لم تستطع أن تفعل شيئاً، وبقيت مجرد أوراق في مهب الريح.
سابعاً: المبعوث السوفيتي بريماكوف يقابل صدام:
في الوقت الذي كانت حرارة الأزمة تتصاعد، والحشود العسكرية تتوالى على السعودية، ظهرت في صفوف القادة العسكريين السوفيت اعتراضات شديدة على سياسة وزير الخارجية [شيفرناتزا]، تلك السياسة التي أصبحت متطابقة مع السياسة الأمريكية، وسببت قلقاً لهم، مما  دفع الرئيس [غورباتشوف]، بعد أن شعر أن العراق قد أعطى السوفيت إشارة حول إمكانية الانسحاب من الكويت إذا ما حصل على ضمانات بعدم تعرضه للعدوان الأمريكي، ليرسل مبعوثاً خاصاً له إلى بغداد، هو السيد [بريماكوف] العضو المرشح للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، وكان اختياره لهذه الشخصية بسبب العلاقة الوثيقة التي تربطه به من جهة، وعلاقات  بريماكوف وصلاته القديمة بصدام حسين، وطارق عزيز، حيث كان بريماكوف يقوم بزيارات متكررة للعراق عندما كان مندوباً لصحيفة البرافدا في الشرق الأوسط.

وصل بريماكوف إلى بغداد يوم 5 تشرين الأول، حيث عقد مساء ذلك اليوم اجتماعاً مع صدام حسين، وتباحث معه حول سبل الخروج من الأزمة، وأبلغ بريماكوف صدام حسين، وجهة نظر غورباتشوف، والتي تتلخص بكون الموقف قد بات خطيراً، وإن إصراره على مواقفه سوف يزيد من خطورة الوضع، وإن عليه أن يبادر بأسرع وقت ممكن إلى الانسحاب من الكويت.
كان صدام حسين يبدو عليه التردد والحيرة لكي يعلن عن رغبته بالانسحاب وهو يحدث لبريماكوف: { إنك تطلب مني أن أعلن الانسحاب، وكأن  هذه الكلمة السحرية التي يمكن أن تحل كل المشاكل دفعة واحدة، وأنا لن أقول هذه الكلمة ببساطة، وأضاف صدام قائلاً: وحتى لو انسحبنا من الكويت فإن ذلك لن يكون كافياً لجعل الولايات المتحدة تشعر بالرضا، وانتم ليست لديكم الضمانات التي يمكن أن تقدموها لنا ضد أي هجوم أمريكي}. (8)
وأخيرا أعرب صدام حسين عن قبوله بالانسحاب إذا ما حصل على الضمانات اللازمة بعدم الاعتداء على العراق، وعدم المساس بالنظام القائم. إلا أن بريماكوف أجابه بأن طلب الضمانات سينظر فيها الرئيس الأمريكي بوش، كشرط للانسحاب، وهو الذي أصر على أن يسحب العراق قواته من الكويت دون قيد أو شرط، ويشاركه في إصراره الكونجرس الأمريكي، وكذلك كافة الحلفاء الغربيين.

لم يستطع بريماكوف أن يحقق أي تقدم باتجاه حل الأزمة، فقد كان الغرب بزعامة الولايات المتحدة مصراً على ضرب العراق، و كان صدام حسين يخالجه نفس الشعور بأن الولايات المتحدة عازمة على تحطيم القدرات العسكرية والاقتصادية للعراق، وربما استغلت انسحاب الجيش من الكويت لتوجه له الطعنات في ظهره.

ثم انتقل بريماكوف إلى الحديث مع صدام حسين حول مسألة الخبراء السوفيت في العراق والبالغ عددهم [7830 خبيراً]، وضرورة السماح لهم بمغادرة العراق، وقد وافق صدام على مغادرة 1500 خبير كل شهر، وبعد انتهاء الزيارة، غادر بريماكوف العراق، ليقوم بزيارة الولايات المتحدة،  ويقابل الرئيس بوش، ويطلعه على ما دار في المباحثات التي أجراها مع صدام حسين.

 إلا أن الرئيس بوش لم يعر أي أهمية لتلك المباحثات، وكان جلّ اهتمامه ينصب حول معرفة شخصية صدام حسين وتصرفاته، ولم يزد على ذلك شيئاً، وكان في حقيقة الأمر لا يريد أن ينسحب صدام حسين من الكويت فلا يستطيع عندئذٍ تنفيذ السيناريو الذي أعده لتدمير العراق. وعندما ألح عليه بريماكوف ليسمع رأيه في سبل حل الأزمة، أجابه بوش بأنه سوف يلتقي بمستشاريه، ويتباحث معهم، وكان يريد بذلك التهرب من إعطاء أي جواب لبريماكوف، وعاد بريماكوف بخفي حنين دون أن يحصل على أي نتيجة من زيارته لواشنطن. (9)

 وفي طريق عودته إلى موسكو، توقف بريماكوف في لندن، حيث التقى رئيسة الوزراء  ماركريت تاتشر لإجراء مباحثات معها حول الأزمة، لكنه وجد تاتشر أكثر بأساً وصرامة وإصراراً على تدمير العراق من بوش، فقد ردت بعنف على بريماكوف قائلة:
{ نحن لا نريد لأي طرف أن يتدخل الآن لعرقلة هدفنا، وليس هناك خيار آخر غير الحرب}.
وعندما حاول بريماكوف أن يشرح لها رأيه في حل الأزمة، أجابته مقاطعة إياه: {لا، لا أريد أن اسمع شيئاً}.(10)
غادر بريماكوف لندن عائداً إلى بلاده، حيث قدم تقريراً للرئيس غورباتشوف عن  نتائج مباحثاته التي أجراها في كل من بغداد، وواشنطن، ولندن، واستمرت دقات  طبول الحرب بالتصاعد في الغرب، وأخذت الحرب تقترب شيئاً فشيئاً، ورأى غورباتشوف أن يبعث بريماكوف إلى بغداد مرة أخرى للالتقاء بصدام، وحثه على الانسحاب بأسرع ما يمكن، وبالفعل وصل بريماكوف إلى بغداد في أواخر تشرين الأول، والتقى بصدام حسين، ونقل له وجهة نظر الرئيس غورباتشوف بضرورة أن يعلن العراق انسحابه من الكويت، قائلاً له: {إن الأيام تمر في غير صالح العراق، وكل  يوم يمر تتغلب كفة المتشددين في الغرب، الذين يلحون على توجيه الضربة للعراق}.

لكن صدام حسين أصّر على موقفه بالحصول على ضمانات بعدم الاعتداء، وبتزامن الانسحاب مع انسحاب القوات الأمريكية والحليفة، ورفع الحصار عن العراق، والحصول على منفذ على الخليج. غادر بريماكوف بغداد متوجهاً إلى باريس لمقابلة الرئيس غورباتشوف الذي كان في زيارة رسمية لفرنسا، وليطلعه على نتائج رحلته إلى بغداد، وقام غورباتشوف بدوره بإطلاع الرئيس الفرنسي [فرانسوا ميتران] على تطورات الأزمة، ومحاولات بريماكوف نزع فتيل الحرب، وقد أكد ميتران  أن انسحاب القوات العراقية من الكويت دون قيد أو شرط، هو السبيل لتفادي الحرب. 

تاسعاً:صدام حسين،ومسألة الرهائن:
 ركزت الدول الغربية الكثير من اهتمامها لمسألة الرهائن، الذين أحتجزهم نظام صدام، وهدد بتوزيعهم على كافة المراكز العسكرية والاقتصادية، كدروع بشرية ضد أي هجوم محتمل من قبل القوات الأمريكية والحليفة. وقد سارع مجلس الأمن بإصدار القرار 664 في 1990 والذي دعا النظام العراقي إلى السماح للرهائن بمغادرة العراق، وحمله مسؤولية الحفاظ على حياتهم، لكن صدام أصر على احتجازهم مدعياً بأنهم ضيوف على حكومة العراق!!.
وإزاء هذا الموقف المتعنت من صدام حسين، باشرت الدول الغربية بإرسال العديد من الشخصيات السياسية، غير الرسمية إلى العراق، لمقابلة صدام حسين والتباحث معه حول مصير الرهائن، وكان من أبرز الشخصيات التي زارت العراق والتقت بصدام كل من[كورت فالدهايم] رئيس جمهورية النمسا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، و[ولي برانت] المستشار السابق لألمانيا الغربية، وزعيم الحرب الاشتراكي الألماني، و[إدوارد هيث] رئيس وزراء بريطانيا السابق و[ناكاسوني] رئيس وزراء اليابان السابق، وغيرهم من الشخصيات التي لعبت دوراً هاماً، يوماً ما في السياسة الدولية، وفي حقيقة الأمر، كان مجيء هؤلاء الزعماء إلى بغداد يرمي إلى تحقيق هدفين في آن واحد:
 الهدف الأول:
 السعي لإطلاق سراح الرهائن الغربيين، والسماح لهم بمغادرة العراق، قبل أن تقع الواقعة، وتنشب الحرب، وهم يدركون أن الحرب واقعة لا محالة، وبالفعل استطاع هؤلاء أخذ أعداد كبيرة من الرهائن معهم، عند مغادرتهم العراق، بعد الزيارة.
 الهدف الثاني:
 كان يرمي إلى التعرف عن كثب عما يدور في ذهن صدام حسين  وتكوين فكرة دقيقة عن شخصيته، وقد بذلت تلك الشخصيات جهوداً كبيرة في محاولة إقناع صدام بالسماح للرهائن بمغادرة العراق، محذرين من أن وجود هؤلاء لن يمنع الحرب، فأمام المصالح الاقتصادية الغربية في منطقة الخليج، يهون كل شيء.

كانت تلك الشخصيات تستغل وجودها في العراق ولقائها بصدام حسين لتثير معه مسألة الغزو العراقي للكويت، وخطورة الوضع بالنسبة للعراق  مؤكدين على ضرورة انسحاب القوات العراقية من الكويت فوراً لنزع فتيل الحرب. لكن صدام لم يكن مطمئناً إلى كل النصائح التي قُدمت له، وكان إحساسه أن الحرب ستقع سواء انسحب من الكويت أم لم ينسحب، وأراد صدام أن يخفف من غلواء الغرب حول مشكلة الرهائن، فأخذ يطلق سراح أعداد منهم عند كل زيارة للشخصيات السياسية العالمية، ويسمح لهم بمغادرة العراق بمعيتهم.
وفي نهاية المطاف قرر صدام حسين في 17 تشرين الثاني أن ينهي مسألة الرهائن لعلها تساهم في تهدئة الموقف، فأصدر قراراً بالسماح بمغادرة الرهائن جميعاً قبل حلول عيد الميلاد، وبذلك أسدل الستار على هذه المشكلة. لكن بوش وحلفائه الغربيين قابلوا خطوة صدام بكل برود، ولم تؤثر الخطوة على تصميمهم على توجيه الضربة القاصمة للعراق.

84
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثانية عشرة
حامد الحمداني                                                 12/ 2/2018

رابعاً: مجلس الأمن يواصل إصدار القرارات بحق العراق:

في الفترة ما بين 13 أيلول، و29 تشرين الثاني أصدر مجلس الأمن 7 قرارات بحق العراق استهدفت تشديد الضغط، وإحكام الحصار على العراق، حيث صدرت القرارات 666 في 13 أيلول، و667 في 16 أيلول، و669 في 24 أيلول، و 670  في 25 أيلول، و674 في 29 تشرين الأول، و677 في 28 تشرين الأول و 678 في 29 تشرين الأول من عام 1990، وفيما يلي أهم ما جاء بهذه القرارات:
قرار رقم 666 ـ 13 أيلول 1990: (6)
  إن مجلس الأمن :
إذ يشير إلى قراره 661 في 1990 الذي تنطبق الفقرتان 3ج ، و4 منه على المواد الغذائية المستثناة، وبإدراك للظروف التي قد تستجد لتجعل من الضروري إرسال المواد الغذائية اللازمة للمدنيين في العراق والكويت، متوخياً التخفيف عن البؤس البشري، وبما أن اللجنة المشكلة بموجب الفقرة السادسة من ذلك القرار قد تلقت عدة رسائل من عدة دول أعضاء، وإذ يؤكد أن مجلس الأمن هو الذي يحدد وحده، أو من خلال اللجنة، ما إذا كان قد نشأت ظروف إنسانية، وإذ يساوره القلق البالغ لعدم وفاء العراق بالتزاماته المحددة بموجب قرار مجلس الأمن رقم  في1990 فيما يتعلق بسلامة رعايا الدول الثالثة ورفاتهم، وإذ يؤكد من جديد أن العراق يتحمل المسؤولية الكاملة في هذا الشأن، بموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة، حيثما أنطبق ذلك. وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يقرر:
1ـ تُبقي اللجنة الحالة فيما يتعلق بالمواد الغذائية في العراق والكويت قيد الاستعراض مستمرة، حتى يتسنى أن يحدد على النحو اللازم لأغراض الفقرة ج3 ، والفقرة 4 من القرار 661، ما إذا كانت ظروف إنسانية قد نشأت.                 
2ـ يتوقع من العراق أن يفي بالتزاماته بموجب قرار مجلس الأمن رقم 664 (1990 ) فيما يتعلق برعايا الدول الثالثة، ويؤكد من جديد أن العراق يبقى مسؤولاً مسؤولية كاملة عن سلامتهم ورفاههم، وفقاً للقانون الدولي بما فيه اتفاقية جنيف الرابعة، حيثما تنطبق ذلك.                                                                                                                           3ـ يطلب من الأمين العام، لأغراض الفقرتين 1، 2 أن يلتمس بصفة عاجلة ومستمرة، معلومات من وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة، وغيرها من الوكالات الإنسانية المناسبة، وجميع المصادر الأخرى، عن مدى توفر الأغذية في العراق والكويت، وأن ينقل هذه المعلومات بصفة منتظمة إلى اللجنة.                       
4 ـ ويطلب كذلك أن يولي اهتمام خاص عند التماس مثل هذه المعلومات وتقديمها للفئات التي يمكن أن تتعرض للمعانات بوجه خاص، مثل الأطفال دون سن الخامسة عشر، والحوامل، والوالدات، والمرضى والمسنين.                                   
5 ـ يقرر أن تقوم اللجنة إذا رأت، بعد تلقي التقارير من الأمين العام، أنه قد نشأت ظروف توجد فيها حاجة ماسة لإمداد العراق والكويت بالمواد الغذائية لتخفيف المعانات البشرية، بإبلاغ المجلس فوراً بقرارها المتعلق بكيفية تلبية هذه الحاجة. 
6 ـ يشير على اللجنة أن تضع في اعتبارها، عند صياغة قراراتها، أنه ينبغي أن يتم توفير المواد الغذائية من خلال الأمم المتحدة، بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أو غيرها من الوكالات الإنسانية، وأن يتم توزيع  المواد الغذائية بمعرفتها، أو تحت إشرافها، لضمان وصولها إلى المستفيدين المستهدفين.
 7 ـ يطلب من الأمين العام استخدام مساعيه الحميدة من أجل إيصال المواد الغذائية إلى العراق والكويت وتوزيعها وفقاً لأحكام هذا القرار، وغيره من القرارات الأخرى ذات الصلة.                                                                           
 8 ـ يشير إلى أن القرار 661 (1990)، لا ينطبق على الإمدادات المرسلة على وجه التحديد للأغراض الطبية، ولكنه يوصي في هذا الصدد بتصدير الإمدادات الطبية تحت الإشراف الدقيق لحكومة الدولة المصدرة، أو بواسطة الوكالات الإنسانية المناسبة.

 والجدير بالذكر أن هذا القرار بقي حبراً على ورق، واستمرت معانات الشعب العراقي بسبب فقدان الغذاء والدواء، فلم يكن ما يهم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين تأمين الحاجيات المادية الضرورية لشعب العراق، بل على العكس، كان في مقدمة أهدافهم تدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية للعراق، وإذلال شعبه.
 قرار رقم 667 ـ 16 أيلول 1990
وقد أدان هذا القرار انتهاك النظام العراقي للمقار الدبلوماسية في الكويت، واختطاف الموظفين الدبلوماسيين والرعايا الأجانب المتواجدين قي تلك المقار، وحمل النظام العراقي مسؤولية ذلك العمل، وطالب بالإفراج عنهم، وتأمين سلامتهم .
كما طالب القرار بأن يمتثل العراق بصورة فورية وتامة لالتزاماته الدولية، بموجب قرارات مجلس الأمن 660، 662، 664، واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، والقانون الدولي.
 قرار رقم 669 ـ 24 أيلول 1990
 وقد تضمن القرار الطلب إلى اللجنة المنشأة بموجب القرار 661 في 1990 بشأن الحالة بين العراق والكويت بمهمة دراسة طلبات المساعدة المقدمة في إطار أحكام المادة 50 من ميثاق الأمم المتحدة، والتقدم بتوصيات إلى رئيس مجلس الأمن لاتخاذ الإجراء الملائم بشأنها.
 قرار رقم 670 ـ 25 أيلول 1990
وتضمن هذا القرار فرض حصار جوي محكم على العراق، ومنع كافة الطائرات من الإقلاع من المطارات العراقية، أو الهبوط فيها، وفرض على جميع الدول عدم السماح لأي طائرة عراقية بالطيران في أجوائها، أو الهبوط في مطاراتها، ما لم تأذن اللجنة المكلفة من قبل مجلس الأمن بقيام الرحلة.
كما طلب القرار تشديد الحصار البحري على العراق والكويت، ألزمت جميع الدول باحتجاز أي سفينة عراقية تدخل موانئ تلك الدول.
كما أدان هذا القرار العراق لاستمراره باحتلال الكويت، وسوء معاملة القوات العراقية للشعب الكويتي، وطالب النظام العراقي الالتزام باتفاقية
جنيف الرابعة، والكف عن الانتهاكات التي يرتكبها ضد الشعب الكويتي.

قرار رقم 670 ـ 25 أيلول 1990
 وقد طالب هذا القرار جميع الدول بالالتزام الكامل بالقرار 661، ولاسيما الفقرات 3 ،4 ،5 منه،  وأكد القرار على تشديد الحصار الجوي والبحري على العراق والكويت، واحتجاز أي طائرة أو سفينة مسجلة في العراق، وعدم السماح بإقلاع أي طائرة إلى العراق أو الكويت ما لم يكن مرخص لها من قبل اللجنة الخاصة التابعة لمجلس الأمن.
 قرار رقم 674 ـ 29 تشرين الأول 1990
 وتضمن هذا القرار إدانة النظام العراقي لاستمراره باحتجاز الرهائن، وطالب بالسماح لهم بمغادرة العراق فوراً. وأتهم النظام بخرق ميثاق الأمم المتحدة.
وطالب جميع الدول أن تجمع كل ما في حوزتها من معلومات بشأن حالات الخرق الخطير من جانب حكومة العراق، وتقديمها إلى مجلس الأمن.
كما طالب القرار حكومة العراق بأن تكفل فوراً، توفر الأغذية والمياه والخدمات اللازمة لحماية ورفاه الرعايا الكويتيين، ورعايا الدول الأخرى.
وأدان القرار إقدام النظام العراقي على إعدام السجلات المدنية لسكان الكويت، والقيام بشكل غير مشروع بتدمير الممتلكات العامة والخاصة في الكويت أو الاستيلاء عليها، وحمل النظام العراقي المسؤولية عن كافة الخسائر والأضرار التي تصيب الممتلكات العامة والخاصة في الكويت، بموجب القانون الدولي.
وطلب القرار إلى جميع الدول بتقديم المعلومات ذات الصلة المتعلقة بمطالبتها، ومطالبات رعاياها وشركاتها في العراق بجبر الضرر، أو التعويض المالي، بغية وضع ما قد يتقرر من ترتيبات، وفقاً للقانون الدولي.
 قرار رقم 677 ـ 28 تشرين الثاني 1990
 وقد تضمن هذا القرار إدانة النظام العراقي لمحاولاته تغيير التكوين الديموغرافي لسكان الكويت، وإعدام السجلات المدنية التي تحتفظ بها الحكومة الكويتية، وكلف مجلس الأمن الأمين العام للأمم المتحدة بأن يودع نسخة من سجل سكان الكويت التي كانت قد صادقت عليها الحكومة الكويتية لغاية1 آب 1990 لدى مجلس الأمن.
خامساً:الموقف العربي الرسمي من الأزمة
بدءاً أقول، رغم أن أحداً ممن يحمل عقلاً سليماً، وفكراً ناضجاً، لا يمكنه أن يقرّ النظام العراقي على فعلته بغزو الكويت، ولا يقبل أن تحكم العلاقات العربية قعقعة السلاح، ويشجب العدوان على أي بلد كان، فكيف إذا كان البلد شقيقا.  إلا انه رغم كل ما جرى، ورغم كل الجرائم التي أقترفها نظام صدام، يتبادر لنا السوآل التالي:

هل خدم الموقف العربي الرسمي مصالح الأمة العربية؟
وللإجابة على هذا السؤال، بروح من الدقة والعقلانية، أستطيع القول أن ذلك الموقف، وبشكل خاص  موقف مصر وسوريا والمغرب، والسعودية، ودول الخليج، ليس فقط لم يخدم قضية العرب المصيرية، بل على العكس من ذلك قد أدى إلى انهيار لم يشهد له العالم العربي من قبل، وأدى إلى تهديم كل ما بنته الأمة العربية، عبر نضالها الطويل من أجل التحرر من ربقة الإمبريالية، وهيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأضاع جهود عشرات السنين، التي بذلتها الشعوب العربية، وغدت حركة التحرر العربي التي قادها جمال عبد الناصر، ورفدها الزعيم عبد الكريم قاسم، قائد ثورة الرابع عشر من تموز في العراق عام 1958، وانتصار ثورة الشعب الجزائري على المستعمرين الفرنسيين.

  لقد كان الأجدى بتلك الدول، السعي لحل الأزمة ببذل الجهود العربية المكثفة والجماعية، وعدم فسح المجال أمام الولايات المتحدة لتوجيه ضربتها لا للعراق فحسب، بل لمجمل حركة التحرر العربي، ولكن الحكومات العربية المذكورة آثرت السير في ركاب الولايات المتحدة، ودعمت مخططاتها، والتقت بذلك مع صدام حسين في إحداث ذلك الانهيار الذي لم يرَ العرب له مثيلاً من قبل.
إن ما نراه اليوم من نتائج تلك المواقف الخاطئة، من تفكك التضامن العربي، والصراع، والعداء بين الدول العربية، وتهالك الحكومات العربية على الارتماء في الحضن الأمريكي والصهيوني، وعقد معاهدات الصلح مع إسرائيل، من دون أن تحقق هدفاً جوهريا للأمة العربية، وقيام العديد من الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، في وقت لا تزال تحتل مساحات واسعة من الأراضي السورية واللبنانية والفلسطينية، وتماطل حتى في تطبيق الاتفاقات التي وقعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية.

إن كل هذا هو نتاج مباشر لجريمة نظام صدام في غزوه للكويت، ونتاج المواقف الخاطئة، والمتخاذلة للأنظمة العربية. لقد وصل الأمر لدى بعض حكام الخليج أن يمدوا أيديهم لتصافح قادة إسرائيل، والتعاون معهم، بدلاً من أشقائهم العرب، وأصبح معظمهم ينظر لشعب العراق نظرة عداء وكره شديدين، حتى لكأنما صدام هو الشعب العراقي، والشعب العراقي هو صدام!!، ودون أن يعيروا أي اهتمام لما يعانيه الشعب العراقي على أيدي صدام وعصابته المتحكمة برقابه.
 إن هذا الموقف، موقف اللا مبالاة لما يعانيه الشعب العراقي على يد جلاده، وعلى يد الإمبريالية الأمريكية على حد سواء، قد خلق فجوة كبيرة في علاقات الأخوة التي كانت تربط العرب ببعضهم، وسوف يأتي اليوم الذي تدرك فيه الأنظمة العربية مدى عمق الجريمة التي ارتكبت بحق العراق وشعبه، وبحق المصلحة العربية العليا.

إن نظام صدام حسين زائل لا محالة، مهما طال به الزمن، ولكن شعب العراق باقٍ لن يزول، وهو بلا شك سيتذكر دائماً وأبداً، المآسي والجوع و فتك الأمراض والحرمان الذي حلَّ بأبنائه، وستبقى تلك الصورة المرعبة في ذاكرته، وسوف تتناقل الأجيال القصص والحكايات حول تلك المآسي، وذلك الجوع، كما يتحدث شيوخنا عن جرائم الأتراك إبان الحرب العالمية الأولى، والمجاعة التي سببوها للعراقيين، وسوف يبقى شعب العراق يتذكر مواقف الحكام العرب الذين وقفوا بجانب العدوان على العراق وشعبه، وضغطوا على شعوبهم بكل الوسائل والسبل لمنعها من التعبير عن رأيها في تلك الحرب المجرمة، ولا شك أن هناك بوناً شاسعاً بين الشعوب العربية وحاكميها.


85
هكذا نجحت الامبريالية وأذنابها باغتيال ثورة 14تموز المجيدة
بقلم : حامد الحمداني                                                                  9/2/2018

لم تكن ثورة الرابع عشر من تموز 1958 انقلاباً عسكرياً كما يحلو لبعض الكتاب، بل كانت في واقع الأمر ثورة شعبية قادها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم بدعم وإسناد حاسمين من قبل جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 1957 وضمت الحزب الشيوعي  والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب البعث والعناصر القومية، فكان الدعم الشعبي الهادر بقيادة جبهة الاتحاد الوطني العامل الحاسم في نجاح الثورة.
التآمر على الثورة:
لكن الحزبين القوميين بقيادة عبد السلام عارف، الشخص الثاني في قيادة الثورة ما لبثا في التآمر على الثورة وهي في أيامها الأولى ومحاولة اغتصاب السلطة بدعوى إقامة الوحدة الفورية مع العربية المتحدة آنذاك بقيادة عبد الناصر، والتي أثبت التاريخ كذبها وتنكر أصحابها للوحدة المزعومة بعد انقلابهم المشؤوم في 8 شباط 1963.

ولقد وقفت الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني بصلابة دفاعاً عن الثورة ومنجزاتها، وكان موقفها آنذاك أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان .

لكن الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى ذلك بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل .
فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس، ومن يتحمل مسؤوليته؟
وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف ؟
في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه، ولم يكن عبد الكريم قاسم شوفينياً، بل كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة، وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة، وضم العديد منهم في حكومته.

فالطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقضاً ثانوياً، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني، وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل تناقضاً أساسياً .

كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم  قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.

فلماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟
وإنصافاً للحقيقة التي عايشت أحداثها بكل تفاصيلها بحكم ارتباطي بالحزب الشيوعي آنذاك أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء يتحملون مسؤولية ما حدث، واليوم وبعد مضي 55 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد .
لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، مما أدى إلى فقدان الثقة بين الطرفين، وبوجه خاص الحاح قيادة الحزب الشيوعي على اشراك الحزب في السلطة واستخدام اساليب الضغط على عبد الكريم قاسم من خلال المظاهرة المليونية التي قادها الحزب في الأول من ايار1959، ومن خلال المذكرة المسهبة التي رفعها الحزب لعبد الكريم قاسم والتي تطالبه باشراك الحزب في السلطة مما ادخل الشك في قلب قاسم من نوايا الحزب الشيوعي، وساهمت القوى اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة محمد حديد وكذلك الامبريالية الأمريكية والبريطانية في ادخال الرعب في قلب قاسم وتحذيره من نوايا الحزب الشيوعي لانتزاع السلطة منه، وكان رئيس المخابرات الامريكية [ ألن دالس] قد صرح في ذلك اليوم قائلأ: {أن اخطر ما يواجه عالنا اليوم هو الوضع في العراق}.
كما ان الحزب كان قد سيطر على المقاومة الشعبية حتى باتت جزءً من الحزب ، ووقعت بأخطاء كثيرة اثارت الريبة والشك في قلب قاسم جعلته يقدم على سحب السلاح منها بأقرب فرصة، ثم الغاها فيما بعد .
ثم التفت قاسم الى النقابات والمنظمات والاتحادات كافة والتي كانت كلها تحت قيادة الحزب وأقدم على حل تلك القيادات وسلمها للقوى الرجعية المتآمرة على الثورة وعلى قاسم بالذات.
لقد عالج قاسم اخطاء الحزب بأخطاء أشد وطأة وأكثر خطرا على الثورة ومصيره هو بالذات، وذلك عندما قام بعزل كل القيادات العسكرية التي يشك أن لها أية علاقة بالحزب من قريب او بعيد، وعاد الضباط الخونة الذين تآمروا عليه، وسلمهم الكثير من قيادة الجيش الذين قادوا فيما بعد انقلاب 8 شباط المشؤوم، ثم اقدم قاسم على إعفاء الوزراء الوطنيين، واصدر اوامره بعزل الموظفين الاداريين من درجة مدير عام حتى مدير مدرسة ابتدائية وسلم تلك المناصب للقوى الرجعية المشاركة في انقلاب الشواف، وعبد السلام عارف، ورشيد عالي الكيلاني، وبذلك هيأ الجو المناسب لإنقلابيي 8 شباط من عملاء الامبريالية الأنكلو امريكية لتنفيذ جريمتهم الكبرى بحق العراق والعراقيين.

لقد أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من اليسار وليس من جانب القوى اليمينية التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً .

 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً ، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبنينا .

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لدراسة وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك حيث من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله !!.

مسؤولية الزعيم الراحل :
ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني، واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة والتي يمكن أن نلخصها بالتالي :
1 ـ  لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها ، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل هو مسؤوليته الكاملة.

2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار [القوى الديمقراطية]  وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها بحيث تحولت الشكوك لدى الزعيم إلى القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته، كما ذكرنا آنفاً، سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها بدلاً من إصلاحها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم .
 لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح، حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب، مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963 .

3 ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القضية الكردية وقيادتها المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني، بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع تلك القيادة ، كما أن القيادة الكردية قد أخطأت في إيصال الخلافات مع عبد الكريم قاسم إلى حمل السلاح و  الصراع المسلح ، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963، على الرغم من أنه لم يكن يحمل أي أفكار شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي، وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، يؤكد هذا الموقف لديه، في حين أن القوى القومية التي نفذت انقلاب 8 شباط كانت غارقة في شوفينيتها وكراهيتها للشعب الكردي بحيث لم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية سوى أقل من أربعة أشهر، على الرغم من تحالفها مع الانقلابيين قبل وقوع الانقلاب، منزلة الخراب والدمار بكردستان بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية .

4 ـ لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية، سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية، ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية. لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب .

5 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً .

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة  والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
لقد كان على عبد الكريم قاسم إن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 63 .
6 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم :
كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد  والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب .

لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات]!، و[سياسة عفا الله عما سلف ] وأطلق سراح المتآمرين الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية والمحكومين بالإعدام، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس]، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها،  وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم  وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة.

تدهور العلاقة بين السلطة والقيادة الكردية:   
كانت ثالثة الأثافي في تدهور الأوضاع السياسية في البلاد ، وانقسام القوى الوطنية ، حدوث الخلافات العميقة بين قيادة عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مصطفى البارزاني ، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح ، واستخدام السلطة للجيش في حسم ذلك الصراع .

 بدأت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني  والسلطة بالتدهور عام 1961، عندما هاجمت صحيفة الحزب [ خه بات ] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة.
كان الرد من قِبل عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام، وفي 20 تموز 961 ، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تضمنت العديد المطالب .
لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد بقيادة اثنان من كبار الإقطاعيين هما كل من [رشيد لولان ] و[ عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها شاه إيران  زعزعة النظام الجديد في العراق وإسقاطه .

وهكذا اتخذ الحزب الديمقراطي الكردستاني من حشود القوات العراقية لقمع تمرد عباس مامند ورشيد لولان ورفاقهما ذريعة لحمل السلاح ومقاتلة القوات العراقية ، فقد استهل صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 961 ، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون البيشمركة  باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة.

كان على القيادة الكردية أن تقدر دوافع تلك الحركة، والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، وعدم تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية وأذنابها سواء كانوا عرباً كما هي الحال مع حزب البعث وحلفائه القوميين، أو كانوا من الكرد، كما هو الحال مع تمرد الاقطاعيين رشيد لولان وعباس مامند.

كما أن عبد الكريم قاسم فضل هو الآخر اللجوء إلى استخدام القوة، ورفض  الحوار وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول الصائبة للقضية الكردية حسب ما نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المؤقت.
 ظن الزعيم عبد الكريم قاسم أن اللجوء إلى السلاح سينهي الأزمة خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963 .
لقد رد الزعيم عبد الكريم قاسم  بدفع المزيد من قطعات الجيش في 9 أيلول 961، لضرب الحركة الكردية مستخدمأً كافة الأسلحة، والطائرات ، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان .

ولم تجدِ نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، وإيجاد حل سلمي للقضية الكردية، حيث شن الحزب الشيوعي حملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار [ السلم في كردستان، والديمقراطية للعراق ]  وقد أثارت تلك الحملة غضب الزعيم عبد الكريم قاسم على الحزب، وتعرض المئات من رفاق الحزب للاعتقال والتعذيب وحتى السجن وكنت أحدهم، لكن تلك الجهود باءت بالفشل، ولم تلقَ الاستجابة من الطرفين، واستمرت الحرب بينهما حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963 .

ومن المؤسف أن يقع قادة الحركة الكردية في خطأ جسيم آخر، عندما وضعوا أيديهم بأيدي انقلابيي شباط 963 ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية المشروعة على أيدي أولئك القوميين الفاشيين والمتعصبين.
 لقد كان موقفهم هذا أقل ما يقال عنه أنه ينم عن جهل بطبيعة حزب البعث، والقوى القومية المتعصبة المتحالفة معه، الذين لم يكّنوا يوماً المودة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 .

 وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط ، حتى بادر الانقلابيون في 10 حزيران 1963 إلى شن حملة عسكرية هوجاء على الشعب الكردي، لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي .
لقد تمزقت الوحدة الوطنية ، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها، ومع السلطة  جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء.

ولاشك أن عبد الكريم قاسم يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تلك الأخطاء، لأنه كان على قمة السلطة، وكان بمقدوره أن يفعل الكثير من أجل إعادة اللحمة للصف الوطني، ومعالجة المشاكل، والتناقضات التي نشأت، والتي يمكن أن تنشأ مستقبلاً بروح من الود والتفاهم، والمصلحة العامة لشعبنا ووطننا، والتحلي بإنكار الذات  وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح، لكنه اختار طريق الصراع مع الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني، وبات نظامه اعزلاً وهشاً وبذلك مهد السبيل لقوى الثورة المضادة لنحره، ونحر الشعب العراقي معه يوم الثامن من شباط المشؤوم عام 1963.

كان بمقدوره أن يعمل على إنهاء فترة الانتقال  ويجري انتخاب المجلس التأسيسي، وسن الدستور الدائم للبلاد  وإرساء الحكم على أسس ديمقراطية صلبه، ولو فعل ذلك لتجنّب، وجنّب الشعب العراقي كل تلك الويلات والمصائب والمصير المظلم الذي حلّ بالبلاد على أيدي انقلابيي 8 شباط 1963 منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، وهو لو شاء
 أن يؤسس له حزباً ويخوض الانتخابات لفاز فيها بكل تأكيد.

إن عبد الكريم قاسم، رغم كل أخطائه، يبقى شامخاً كقائد وطني، معادى للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير .


86
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الحادية عشرة
حامد الحمداني                                                9 / 2/2018
الفصل الرابع: تطورات أزمة احتلال الكويت
 أولاً : هذا ما فعله نظام صدام في الكويت!
 ثانياً: الدور الإسرائيلي في الأزمة.
 ثالثاً: موقف الاتحاد السوفيتي من الأزمة.
 رابعاً: مجلس الأمن يواصل إصدار القرارات بحق العراق.
 خامسا: الموقف الرسمي العربي من الأزمة
 سادساً: نظام صدام في حيرة.
 سابعاً : المبعوث السوفيتي بريماكوف يلتقي صدام.
 ثامناً : نظام صدام ومسألة الرهائن.
 تاسعاً:الغرب يكمل استعداداته الحربية.
أولاً: هذا ما فعله نظام صدام في الكويت:
 في الوقت الذي كانت الأزمة بين النظام العراقي والغرب تتصاعد، وحمى الاستعدادات الحربية تشتد  كان النظام العراقي يسابق الزمن لتشديد قبضته على الكويت، وكبح جماح أي مقاومة لاحتلاله  بأقسى الإجراءات، وأكثرها وحشية.
لقد عّين صدام حسين ابن عمه [علي حسن المجيد] حاكماً عاماً للكويت، وهو المعروف بوحشيته اللا متناهية، والذي لقبه الشعب العراقي بـ [علي كيماوي] حيث ارتبطت باسمه جريمة استخدام القنابل الكيماوية ضد الجنود الإيرانيين، وضد المواطنين الأكراد عند ما عينه الدكتاتور صدام حسين قائداً لحملة الأنفال السيئة الصيت ضد الشعب الكردي عام  1988، والتي ذهب ضحيتها الألوف من المواطنين الأكراد، وأباد أكثر من 5000 مواطن كردي بالسلاح الكيماوي في حلبجة خلال بضعة دقائق.

لقد مارس هذا الدكتاتور أبشع الأساليب عدوانية ضد الشعب الكويتي، كما مارس بشكل منظم عملية سرقة كل ما وقعت عليه يده، سواء ما كان يعود منها للدولة، أو للمواطنين الكويتيين، حيث كان نقل المسروقات يجري على قدم وساق بسيارات النقل الضخمة، العسكرية منها والمدنية، إلى العراق كغنائم، مثل ما كانت تفعل القبائل في القرون الغابرة عندما يغزو بعضها بعضاً. وهكذا لم يترك نظام صدام شيئاً في الكويت إلا وسطى عليه، بدءاً من الخزينة المركزية، في البنك المركزي الكويتي، من ذهب وعملات نادرة، ومروراً بكل المعدات والأجهزة المستخدمة في الدوائر والمؤسسات الكويتية، والمستشفيات والبنوك، وانتهاءً بالمحلات التجارية الخاصة، والسيارات، ومساكن المواطنين.
فلم يكن صحيحاً ما ادعاه صدام عن عودة الفرع إلى الأصل، بل كان عملية سطو مسلح مع سبق الإصرار، وجاء على كل شيء، كما تأتي موجات الجراد على المزارع فتتركها جرداء قاحلة خلال ساعات، وقد خلقت أفعال نظام صدام وزبانيته شعوراً من العداء الشديد لدى الشعب الكويتي تجاه العراق يصعب محوه لسنوات طوال.

وفي الخامس عشر من آب، أعلن نظام صدام ضم الكويت إلى العراق رسمياً واتخذ العديد من الإجراءات لمحو كل ما يشير إلى الكويت ككيان ودولة، فقد أقدم على إلغاء هوية الأحوال المدنية الكويتية، وقام بإبدالها بهوية الأحوال المدنية العراقية. كما أبدل أرقام السيارات الكويتية بالعراقية.
 وأعلن النظام العراقي أن الدينار الكويتي مساوياً للدينار العراقي، وجرى استخدامه في التعامل في الكويت، وأصر على تحدي العالم كله، والذي لم يعترف بإجراءاته ووقف ضدها، دون أن يبالي بما سوف تسببه مواقفه تلك من مآسي وويلات للشعب العراقي فيما بعد.
لقد ظن صدام أن بإمكانه أن يربح الحرب إذا ما نشبت، كما نجح في حربه مع إيران، وبلغ معه الغرور مداه، بحيث جعله يتبجح بقوته أمام عدسات التلفزيون قائلاً:
{ليس لدي أدنى شك، ولو واحد في المليون بأننا سنربح الحرب إذا نشبت}، وفاته أن نجاحه في حربه ضد إيران ما كان  ليتحقق لو لم تكن حرب أمريكية، خاضها صدام حسين نيابة عنها.
ثانياً: الدور الإسرائيلي في الأزمة
كانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية ـ الموساد ـ تراقب عن كثب، خلال سني حرب الخليج الأولى  جهود النظام العراقي في تطوير آلته الحربية، وحصوله على مختلف أنواع الأسلحة التي كانت تنهال عليه من الشرق والغرب على حد سواء.
 وسرعان ما تحولت حالة  الترقب لدى إسرائيل إلى حالة من القلق، بعد أن استطاع العراق أن ينشئ المصانع الحربية، ويطور الصواريخ التي حصل عليها من مصادر متعددة، ويزيد من مداها، لتصل إلى عمق إسرائيل، هذا بالإضافة إلى تصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، وسعيه الحثيث لتصنيع القنبلة النووية.

ورغم أن إسرائيل استغلت انشغال النظام العراقي بحربه ضد إيران، وأقدمت على ضرب مفاعله النووي عام 1981، إلا أن العراق استطاع أن يحتفظ بما يزيد على 13 كغم من اليورانيوم المنقى، والذي يكفي لصنع قنبلة نووية، وبذل النظام العراقي جهوداً كبيرة لإعادة بناء مفاعله النووي، وكان بعد حرب الخليج الأولى على وشك أن يستطيع إكمال برنامجه لإنتاج القنبلة النووية. وهكذا فقد بدأت إسرائيل بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية تشن حملة واسعة النطاق على العراق على لسان المسؤولين فيها، وعِبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الصهيونية العالمية في مختلف أرجاء العالم، وعلى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وهدد قادة إسرائيل بشن حرب وقائية ضده، لتدمير قواعد صواريخه، ومصانع أسلحته، ومفاعله النووي!، ورد صدام حسين على التهديدات الإسرائيلية قائلاً، عِبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، بأنه إذا ما تعرض العراق للهجوم من جانب إسرائيل، فسوف يرد عليها بالكيماوي المزدوج، ويحرق نصفها.(1)

وهكذا تصاعدت لهجة التهديد والتهديد المضاد بين الطرفين، ووصل الأمر إلى درجة التوقع بحدوث أمر ما بين العراق وإسرائيل.
 لكن صدام حسين استدار على حين غرة، من توجهه نحو إسرائيل إلى الكويت، ليغزوها في 2 آب 1990، وليثير الرأي العام العالمي ضد العراق.
وتنفست إسرائيل الصعداء، فقد وقع صدام حسين في الفخ الذي نصبته له الولايات المتحدة، ولن يستطيع الخروج منه، وبدأ الغرب، بزعامة الولايات المتحدة بتحشيد القوات العسكرية في السعودية استعداداً لتوجيه الضربة القاضية للعراق.

كان صدام في تلك الأيام يحاول كسب الرأي العام العربي، ويعوّل عليه في دعمه للضغط على الحكومات العربية لكي تقف إلى جانبه، عن طريق التهديد بضرب إسرائيل بصواريخه، وسلاح الكيماوي المزدوج الذي كان يفاخر به.

 وأرادت إسرائيل أن تسبق العراق، وتوجه ضربة واسعة لقواعد الصواريخ والمنشآت النووية، إلا أن الولايات المتحدة استطاعت أن تضغط على حكومة شامير اليمينية المتطرفة لتمسك أعصابها، لكي لا تسبب أية تحركات إسرائيلية رد فعل عربي، والشعبي منه بوجه خاص، مما يضيّع الفرصة على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين للسير بالمخطط المرسوم لضرب العراق.

وسارعت الولايات المتحدة إلى نقل مجموعات كبيرة من صواريخ [باتريوت] المضادة للصواريخ إلى إسرائيل، وتم الاتفاق بين الطرفين، الأمريكي والإسرائيلي على أن تشارك إسرائيل في المجهود الحربي الغربي من وراء الستار، لكي لا تتحول الحرب المقرر شنها على العراق، إلى حرب عربية إسرائيلية بإنجرار إسرائيل إلى حرب مكشوفة مع العراق، لاسيما وأن الولايات المتحدة استطاعت أن تجر مصر وسوريا والمغرب، بالإضافة إلى دول الخليج، إلى المشاركة في تأمين الغطاء العربي للحرب ضد العراق، بحجة تحرير الكويت، ولتدمير كافة المقومات الاقتصادية والعسكرية للعراق، كما خططت له الولايات المتحدة.

 وانصاعت إسرائيل لرغبة الولايات المتحدة، ولم تبدِ رد فعل ضد العراق، حتى عندما أطلق صدام حسين عليها عدد من الصواريخ بعيدة المدى، وهي المعروفة بالرد السريع والعنيف على أي هجوم عليها مهما صغر شأنه، وسارعت الولايات المتحدة بتعويضها بمليار دولار عن كل صاروخ سقط فوق إسرائيل، مدفوعاً من خزائن السعودية وبلدان الخليج.

ثالثاً: موقف الاتحاد السوفيتي من الأزمة
 في تلك الظروف التي وقع فيها الغزو العراقي للكويت، كان المعسكر الاشتراكي قد تهاوى، وبدأت عوامل التفكك والانهيار بادية للعيان في الاتحاد السوفيتي، وأصبح انهياره أمراً محتماً، وانكفأ من المسرح الدولي كقوة عظمى، وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، تلعب الدور الرئيسي في تقرير مصائر الشعوب، دون معارضة تذكر من جانب الاتحاد السوفيتي، بل على العكس من ذلك،  بدا الاتحاد السوفيتي منساقاً إلى تأييد الخطوات الأمريكية حيال الأزمة العراقية.

وقبل يوم من قيام العراق بغزو الكويت، كان وزير الخارجية الأمريكية [جيمس بيكر] في زيارة رسمية للاتحاد السوفيتي، حيث أجرى مباحثات مع وزير الخارجية السوفيتية [إدوارد شيفرنادزا] في فيلادوفسك، حول مختلف القضايا الدولية، ثم غادر بيكر في اليوم التالي أي إلى منغوليا في زيارة رسمية، ولم يكد جيمس بيكر يمضي سوى ساعات في منغوليا حتى أُبلغ بوقوع الغزو العراقي على الكويت.

سارع بيكر إلى الاتصال مجدداً بوزير الخارجية السوفيتي شفرناتزا، طالباً منه اللقاء من جديد، لبحث موضوع الغزو العراقي، وانعكاساته على الوضع الدولي، واستجاب شفرناتزا لطلب بيكر، الذي قطع زيارته على الفور، وتوجه إلى موسكو  حيث عقد مع الوزير السوفيتي اجتماعاً مطولاً معه حال وصوله، وناقشا معاً مسألة الغزو العراقي للكويت، وموقف الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة منه، وقد أتسم جو اللقاء بين الوزيرين بالتفاهم، حيث أكد الطرفان في بيان مشترك، استنكارهما للغزو، ودعيا العراق إلى سحب قواته من الكويت فوراً، ودون شروط ، وظهر بيكر وشيفرناتزا بعد نهاية الاجتماع بأنهما قد اتفقا على كل شيء، وبدا الاتحاد السوفيتي في مواقفه وكأنه قد فقد إرادته، وأصبح تابعاً للولايات المتحدة، وقد تجلى ذلك بجلاء عندما أجتمع مجلس الأمن في نفس اليوم 2 آب 1990 وأصدر قراره الأول رقم 660 ضد العراق، والذي طالب العراق بالانسحاب الفوري من الكويت دون قيد أو شرط، فقد وقّع المندوب السوفيتي على مشروع القرار دون تردد. (2)
ولابد أن أشير هنا إلى أن العراق الذي يرتبط مع الاتحاد السوفيتي بمعاهدة صداقة وتعاون، وعلاقات إستراتيجية، لم يحاول إبلاغ الاتحاد السوفيتي بعزمه على غزو الكويت واحتلاله، في حين أن بنود المعاهدة كانت تقتضي التشاور بين البلدين، مما اغضب الاتحاد السوفيتي.
لقد أخطأ صدام حسين عندما ظن أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يقف إلى جانبه ويدعمه، بموجب المعاهدة المعقودة بين البلدين، ولم يضع في حسبانه أن الظروف قد تغيرت، وتغير معها الاتحاد السوفيتي، وفقد قوة تأثيره في السياسة الدولية، وقد تجلى ذلك في تصريح للرئيس السوفيتي [غورباتشوف]،لأحد القادة العرب حيث قال:
 {إن غزو العراق للكويت مخالف لكل المواثيق والأعراف الدولية، وأضاف غورباتشوف قائلاً إن الأمريكيين قالوا لنا بان لهم مصالح حيوية في بترول الشرق الأوسط، وأنهم سيحاربون من أجل حمايتها مهما حدث، ونحن نتفهم وجهة نظرهم}.(3)

هكذا بدا موقف الرئيس السوفيتي من عزم الولايات المتحدة على الحرب دفاعاً عن مصالحها النفطية، وقد عّبر الرئيس الأمريكي بوش عن عظيم امتنانه وسعادته لموقف الاتحاد السوفيتي الجديد.
وفي 9 أيلول 1990،التقى الرئيسان [بوش] و[غرباتشوف] في هلسنكي بفلندا، في مؤتمر للقمة ضمهما، وكان بوش قد عقد العزم قبل هذا اللقاء على استخدام القوات المسلحة لضرب العراق، وإجباره على سحب قواته العسكرية من الكويت، وخلال اللقاء تحدث بوش عن تصميم الولايات المتحدة على استخدام القوة ضد العراق، وزاد على ذلك بأن طلب بوش من غورباتشوف المساهمة بقوات عسكرية معه في الجهد العسكري الغربي.  إلا أن غورباتشوف أعتذر عن المشاركة مدعياً بأنه قد وعد الشعب السوفيتي بأن لا يرسل جيشه للقتال خارج الاتحاد السوفيتي بعد تورطه في أفغانستان.

 كان واضحاً من رد غورباتشوف بأنه لا يعارض الخطط الأمريكية فيما يخص أزمة الخليج، وقد ظهر الرئيسان بعد اللقاء في مؤتمرهما الصحفي وعلامات الرضا والارتياح عما دار في الاجتماع بادية على وجهيهما.
لقد تجلى التجاذب السوفيتي الأمريكي في أجلى مظاهره عندما كان بيكر وشيفرناتزا مجتمعان لبحث مشروع القرار رقم 678  الذي قدمته الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن حول تفويض المجلس للولايات المتحدة وحلفائها باستخدام القوات العسكرية لطرد القوات العراقية من الكويت.

فلم يكن هناك أي خلاف جوهري بين الطرفين حول مشروع القرار، وكل  ما حدث هو خلاف بسيط حول صيغة القرار، فقد أرتئ [شيفرناتزا]عدم ضرورة استخدام عبارة [استخدام القوات العسكرية] والاستعاضة عنها بعبارة [باستخدام كل الوسائل الضرورية] بدلاً منها، مؤكداً للجانب الأمريكي أن العبارة الجديدة تشمل كل شيء، ومن ضمنها استخدام القوة العسكرية، وأضاف شفرناتزا قائلاً: {أنا وأنت ندرك ذلك تماماً}.

لقد أراد شفرناتزا التلاعب بالألفاظ والعبارات، ولم  يشأ أن يلزم نفسه بصراحة باستخدام القوة، فقد كان قلقاً من تطورات الأوضاع الداخلية في الاتحاد السوفيتي، حيث كانت الدلائل تشير إلى قرب وقوع انقلاب عسكري في البلاد يطيح بزمرة غورباتشوف ـ شفرناتزا، مما  قد يعرضه لمحاسبة قاسية على موقفه من استخدام القوة العسكرية، واستعاض عنها بعبارة مطاطية يمكن  تفسيرها كما يشاء الجانب الأمريكي.

تأثير الانقلاب العسكري الفاشل في الاتحاد السوفيتي في الأزمة:
في يوم 25 آب 1990، وقع بالفعل انقلاب عسكري في الاتحاد السوفيتي، عندما كان غورباتشوف في منتجعه على البحر الأسود، حيث  تم وضعه تحت الإقامة الجبرية، محاطاً بالحرس، إلا أن الانقلاب سرعان ما تهاوى وفشل، بعد يومين من وقوعه، وبرز[بوريس يلتسين] المطرود من عضوية المكتب السياسي، واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في عهد الرئيس [برجنيف]، وبدا يلعب دوراً كبيراً في تصفية أجهزة الجيش، والأمن، والدولة، والتخلص من كل العناصر التي كانت تدين بالولاء للحزب الشيوعي.

 لقد غدا الاتحاد السوفيتي وكأنه قد أصبح تابعاً يدور في فلك الولايات المتحدة، وباشرت السلطة الجديدة في الاتحاد السوفيتي عملية هدم كبرى لكل المنجزات التي حققها الشعب السوفيتي خلال 70 عاماً، وقدم من أجلها التضحيات الجسام، وحولته إلى شعب يرثى لحاله، إثر تحويل اقتصاده الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الرأسمالي على يد حكومة يلتسين، ولم يعد الاتحاد السوفيتي ذلك الند الذي كان يقف بالمرصاد لكل المخططات الإمبريالية الرامية إلى استعباد الشعوب، ونهب ثرواتها، بل لقد سكتت حكومة الاتحاد السوفيتي الجديدة، حتى عن الكلام والاعتراض على تصرفات الولايات المتحدة، وتحكمها برقاب الشعوب.
لقد تجلت مواقف الاتحاد السوفيتي  بكل وضوح، عند ما التقى طارق عزيز، وزير الخارجية العراقية  بالرئيس غورباتشوف، في 5 أيلول 1990، فقد تحدث غورباتشوف مع طارق عزيز حول الأزمة قائلاً: { إن غزو العراق للكويت يتناقض مع تفكيرنا الجديد، وعلى النظام العراقي أن يُقرَّ بأن للأمريكان مصالح حيوية في الشرق الأوسط، وإننا من جانبنا نعترف بهذه المصالح، ونعرف أن الولايات المتحدة على استعداد لاستخدام القوة العسكرية إذا تعرضت هذه المصالح للتهديد، ونحن في الاتحاد السوفيتي لا نستطيع أن نفعل شيئاً في هذا وأنتم في العراق لابدّ أن تجروا حساباتكم لمواقفكم على هذا الأساس}.(4)
ورد عليه طارق عزيز قائلاً:
{لقد كنا نتصور أنكم سوف تقفون معنا معنوياً على الأقل، للحيلولة  دون وقوع الحرب}.
وكان جواب غورباتشوف: {إن ما قمتم به عمل من أعمال العدوان، ونحن  لا نستطيع أن نساعدكم لا مادياً ولا معنوياً}.(5)
وهكذا اسقط في يد النظام العراقي، وبدا كورقة من أوراق الخريف، تذروها الرياح حيث يقف أمام أعتا الدول الإمبريالية، وأقواها عسكرياً، من دون أن يجد له أي عضيد يقف إلى جانبه، بل لقد استطاعت الولايات المتحدة جر معظم الدول العربية إلى جانبها، والمساهمة في الجهد العسكري ضده، وكان الشعب العراقي في حيرة من أمره، فيما يمكن أن تجره مغامرة صدام حسين الطائشة من خراب ودمار، وهو لا ستطيع أن يفعل شيئاً أمام فاشية النظام وقهره، مسلماً مصيره للأقدار.



87
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة العاشرة                             
حامد الحمداني                                                               6 /2/2018
رابعاً: نظام صدام في مأزق:
لم يقدر نظام صدام الأمور تقديراً صائباً، أوقع نفسه بالفخ الأمريكي، وجره تعنته إلى نقطة اللا عودة. فقد استهان صدام حسين بالتطورات التي حدثت على المستوى العالمي، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية تفكك الاتحاد السوفيتي، وظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، دون منازع، وقد أخذ صدام الغرور من تعداد جيشه، وأسلحته التقليدية منها، وأسلحة الدمار الشامل، الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، وصواريخه بعيدة المدى، إضافة إلى سعيه الحثيث لامتلاك القنبلة النووية.

فقد ظن صدام نفسه قادر على منازلة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين لهم مصالح كبرى في الخليج تجعلهم على استعداد لعمل كل شيء من أجل الحفاظ عليها، حتى لو أدت إلى حرب ذرية، ووصل الأمر بصدام أن يقف أمام عدسات التلفزيون، يستهزئ بقوة الولايات المتحدة، وتكنولوجيتها العسكرية قائلاً:
{إن طائرة الشبح التي يهددوننا بها لا تخيفنا، وإن بإمكان راعي الغنم أن يسقطها ببندقية البرنو!}، أضاف صدام قائلاً: { إنني واثق كل الثقة بأننا سننتصر إذا ما قامت الحرب، وإننا سوف نهزم الجيوش الأمريكية وجيوش حلفائها، ونعيد جنودهم إلى بلادهم بالأكفان!}.(8)
بهذه العقلية كان يفكر صدام حسين، وقد جعل من نفسه القائد الضرورة الذي لم تنجب الأمة العربية قائداً مثله من قبل. وقد بلغ به الغرور حداً جعله يفاجئ حتى اقرب أصدقاء العراق، في غزوه الكويت.
 فقد كان من المفروض أن يجري مشاورات مع الاتحاد السوفيتي، الذي تربطه به معاهدة صداقة وتعاون إستراتيجي، حول خططه لغزو الكويت، ويقف على حقيقة موقفه من مغامرته تلك، فلا ُيعقل أن ُيقدم بلد صغير كالعراق على تحدي الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، دون أن يكون له سنداً كالاتحاد السوفيتي.

 وهكذا فوجئ صدام بأن الاتحاد السوفيتي يقف ضد مغامرته، ولا يؤيده فيها، بل يطالبه بالانسحاب الفوري من الكويت، ويؤيد كل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ضد العراق.
 وبدلاً من أن يعيد صدام حساباته، ويتدارك الأمور قبل فوات الأوان، فإننا نجده يصعّد الأزمة أكثر فأكثر، فقد أعلن عن مطالب جديدة، بربط مسألة احتلال الكويت بمشاكل الشرق الأوسط، طالباً انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وذهب إلى أبعد من ذلك فطالب بتوزيع الثروة النفطية على الدول العربية الفقيرة. (17)
 كانت تلك كلمة حق  أراد بها باطل، فلو كان صدام يهتم بمصالح الشعوب العربية إلى هذا الحد، فقد كان الأولى به أن يهتم بمصالح شعبه أولاً وقبل كل شيء، لكنه بدلاً من أن ينهض بمستوى معيشة شعبه، زجه في حرب دموية لا مبرر لها، ولا مصلحة له فيها مع الجارة إيران، دامت 8 سنوات، وأغرق العراق وشعبه بالدماء، وجاءت الحرب على الأخضر واليابس، كما يقول المثل.

 وخرج العراق منها وهو مثقل بالديون، وقد فقد كل مدخراته، وأصيب اقتصاده بالانهيار التام، وبدلاً من أن يحاول صدام إصلاح أوضاع العراق الاقتصادية، عن طريق نبذ الحروب، وسياسة التسلح، وتبديد ثروات البلاد، فإنه لجأ إلى غزو الكويت، وأوقع العراق بمأزق جديد، يفوق بمئات المرات، المأزق الإيراني، ولم يحسب أي حساب لما يمكن أن تؤدي مغامرته هذه بالعراق من مآسي وويلات. لقد كان التساؤل على أفواه الجميع:
كيف جرأ صدام حسين على تحدي الولايات المتحدة؟
هل كان هناك أدنى شك بان صدام يقود العراق إلى معركة خاسرة؟

لقد كان المواطنون العراقيون في تلك الأيام يتساءلون عن سر موقف صدام، وكان في تقديرهم رأيين لا ثالث لهما، فأما أن يكون صدام قد أصابه مَسّ من الجنون، جعله يقنع نفسه بقدرته على دحر الجيوش الغربية، أو حصلت لديه القناعة بأن الولايات المتحدة، التي سهلت له الأمر للإقدام على مغامرته، حين التقى بسفيرتها [أيريل كلاسبي] أعطته الضوء الأخضر لاحتلال الكويت، تعويضاً لخسائره في حربه مع إيران، نيابة عنها، وأن ما تفعله من استعدادات حربية ما هو إلا زوبعة في فنجان لا تلبث أن تضمحل وتزول، وليست فخاً نصبته له الولايات المتحدة لتوقع العراق فيه، من أجل توجيه الضربة القاضية له، وتحطيم قدراته العسكرية والاقتصادية، وتعيد العراق إلى الوراء عشرات السنين.

وعندما أدرك صدام، بعد فوات الأوان، أن التحشيدات الأمريكية والحليفة في السعودية لا يمكن أن تكون لمجرد التهديد، أو لذر الرماد في العيون، والسكوت عن احتلال الكويت، وحاول أن يقدم التطمينات للولايات المتحدة لعله يثنيها عن القيام بالهجوم على العراق، فقد أبلغ القائم بالأعمال الأمريكي في بغداد بأن العراق لا ينوي مطلقاً التعرض للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، وبشكل خاص مصالحها النفطية، وأنه ليس له أطماع في السعودية، ولا أي بلد خليجي، وأن احتلال الكويت يتعلق بمسألة تاريخية تؤكد أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق. كما أبدى صدام حسين للقائم بالأعمال الأمريكي عن استعداده لإقامة علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، ورجاه أن ينقل كل ما دار في اللقاء إلى الرئيس بوش بصورة مباشرة، وقد وعده القائم بالأعمال الأمريكي بأنه سيفعل ذلك.
ومن جانبه، طالبه القائم بالأعمال بأن يسمح للرعايا الغربيين بمغادرةالعراق، حيث سبق لصدام أن أحتجزهم في العراق كرهائن، ليمنع كما أعتقد، الولايات المتحدة وحلفائها من ضرب العراق.
لكن صدام أبلغه انه يعتبرهم ضيوف على العراق !!، ولا خطر عليهم، إلا إذا كانت النية مبيته لضرب العراق، وانتهى الاجتماع بعد ذلك بين الطرفين.
وانتظر صدام حسين أي إشارة من الجانب الأمريكي، لكنه كان يحاول عبثاً، فقد كانت التحركات الأمريكية تجري بأسرع ما يكون لإكمال التحشد استعداداً للهجوم على العراق،
ولم يكن الرئيس بوش على استعداد لفتح أي قناة اتصال مع صدام حسين وإجراء أي نقاش معه، حتى ولو قرر العراق الانسحاب حقاً، فقد كانت الخطة قد تقرر تنفيذها مهما كانت الظروف لكي تنهي الولايات المتحدة التهديد العراقي لمصالحها في الخليج لسنين طويلة.
 وحاول صدام في آخر المطاف، وبعد أن أدرك أن الحرب باتت وشيكة، أن يوصل إشارات للولايات المتحدة عن نيته للتراجع، ونقل إلى ياسر عرفات أفكاراً جديدة لكي يوصلها بدوره، عن طريق وسيط آخر مقرب من مراكز السلطة في الولايات المتحدة، وكانت تلك الأفكار تتضمن ما يلي:
1 ـ موافقة العراق على الانسحاب من الكويت.
2 ـ موافقة العراق على عودة أسرة الصباح إلى الحكم من جديد.
3 ـ تواجد عراقي في جزيرة بوبيان، وعودة منطقة الرميلة الجنوبية للسيادة العراقية.
4 ـ تنازل الكويت عن الديون المستحقة على العراق.
5 ـ دخول قوات عربية بصورة مؤقتة إلى الكويت، لحين عودة أسرة الصباح إلى الحكم، وترتيب الأوضاع الأمنية في البلاد.

 لكن محاولات نظام صدام كلها ذهبت أدراج الرياح، ولم يعد له متسع من الوقت لأي مناورة للانسحاب من الكويت وحفظ ماء الوجه، فقد كان الأمر بالنسبة للولايات المتحدة أن صدام قد دخل المصيدة، ولا يمكن أن تطلقه من جديد.
لقد كان هَمْ الولايات المتحدة تأمين الحشد الكافي، بأسرع وقت ممكن، لضمان عدم تعرض السعودية لخطر هجوم عراقي، ولذلك فلم تتحدث في بادئ الأمر عن التصدي للعراق، بل ادعت بأنها جاءت بقواتها لحماية السعودية ودول الخليج الأخرى.

 وعندما أصبح لديها من القوة ما تستطيع حماية السعودية، أعلنت عن توجهاتها الحقيقية بأنها لن ترضَ فقط بسحب العراق لقواته من الكويت، أو طردها بالقوة، بل زادت على ذلك بأنها تريد نزع أسلحة العراق ذات الدمار الشامل.
 وفي حقيقة الأمر، وكما أثبتته الأحداث فيما بعد أنها كانت ترمي إلى أبعد من ذلك بكثير إنها كانت قد صممت على تحطيم البنية الاقتصادية للعراق، تحطيماً شاملاً، وإعادة العراق إلى ما قبل الثورة الصناعية، كما قال جيمس بيكر، وزير الخارجية، لطارق عزيز في لقاء [جنيف] قبيل نشوب الحرب بأيام .
استمرت الولايات المتحدة وحلفائها بتحشيد القوات العسكرية، وكان النظام العراقي يرد على ذلك التحشيد، بتحشيد المزيد من قواته حتى جاوزت النصف مليون عسكري، معززين بآلاف الدبابات والمدفعية والصواريخ، وكان الشعب العراقي يضع يده على قلبه، وهو في أقصى حالات القلق لما يمكن أن يحل به، وبالوطن، نتيجة تهور وغرور دكتاتور أهوج .

لقد تم إحكام طوق الحصار على العراق، وقُطعت السبل أمام نفطه، وتوقفت أنابيب النفط عن الجريان، أخذت السفن الحربية الأمريكية والحليفة تجوب مياه الخليج، وتوقف السفن المتوجهة إلى العراق، والقادمة من موانئه، وتفتشها، وتصادر حمولتها.
 كان النظام العراقي يعتقد بأن ليس بإمكان الولايات المتحدة منع العراق من بيع نفطه ونفط الكويت، لما يمكن أن يسببه المنع من نقص في الأسواق العالمية، ويؤدي بالتالي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وبالفعل فقد ارتفعت الأسعار من 13 دولار إلى ما يقرب 40 دولاراً، لكن الولايات المتحدة سارعت للتدخل، وطرحت من خزينها الاستراتيجي كميات كبيرة من النفط.

 كما أوعزت إلى أصدقائها من الدول المنتجة للنفط، وعلى رأسها السعودية ودول الخليج، إلى رفع معدلات الإنتاج، وعدم التقيد بحصص الإنتاج، وبدأ الإنتاج يتصاعد لدى معظم دول الأوبك التي كانت تواقة لزيادة إنتاجها متجاوزة حصص الإنتاج التي كانت قد أقرتها منظمة الأوبك، وهكذا عادت الأسعار إلى الهبوط من جديد.

وفي الوقت الذي حُوصر النفط العراقي والكويتي، وتوقفت موارد العراق النفطية، كانت الأرصدة العراقية في المصارف الأجنبية قد جُمدت، مما أوقع النظام العراقي في حيرة كبرى، لا يعرف كيف يخرج منها، وكل ما فعله هو لجوئه إلى التصعيد مرة أخرى، حيث أعلن النظام أن الرعايا الأجانب سوف يحجزون في كافة المرافق الاقتصادية والعسكرية كرهائن لمنع أي هجوم تشنه الطائرات الأمريكية والحليفة، مما أثار الغضب والاستنكار العالمي الواسع على زج المدنيين في مخاطر الحرب.

وعلى الفور بادرت الولايات المتحدة إلى تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن تحت رقم 664، في 18 آب 1990، والذي اقره المجلس، وقد عبر القرار عن قلق المجتمع الدولي من حجز الرعايا الأجانب، وطالب العراق بأن يؤمن مغادرتهم العراق على الفور، وحمل العراق مسؤولية أي ضرر يمس سلامتهم وصحتهم. وكان النظام العراقي قد أخلى كافة فنادق الدرجة الأولى في بغداد وحجز الرعايا الأجانب فيها. وفيما يلي نص القرار 664:
 قرار رقم 664
 إن مجلس الأمن :
إذ يشير إلى غزو العراق للكويت وإعلان ضمه إليه، وإلى القرارات 660، 661، 662، وإذ يشعر بالقلق البالغ بالنسبة لسلامة ورفاه رعايا بلدان ثالثة في العراق والكويت، وإذ يشير إلى التزامات العراق في هذا الشأن، طبقاً للقانون الدولي. وإذ يرحب بالجهود التي يبذلها الأمين العام من أجل إجراء مشاورات عاجلة مع حكومة العراق بعد أن أعرب أعضاء المجلس في 17 آب 1990، عن انشغالهم وقلقهم.
وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يقرر:
1ـ يطلب أن يسمح العراق بخروج رعايا البلدان الثالثة من الكويت والعراق على الفور، وأن يسهل هذا الخروج، ويسمح للموظفين القنصليين بأن يقابلوا على الفور وباستمرار أولئك الرعايا.
 2ـ يطلب أيضاً أن لا يتخذ العراق أي إجراء يكون من شانه تعريض سلامة، أو أمن، أو صحة أولئك الرعايا.
3ـ يؤكد من جديد ما قرره في القرار 662 في 1990، من أن قيام العراق بضم الكويت باطل ولاغٍ، ويطلب لذلك أن تلغى حكومة العراق أوامرها بإغلاق البعثات الدبلوماسية، والقنصلية في الكويت، وبسحب الحصانة من تلك البعثات، وأن تمتنع عن القيام بأي عمل من هذه الأعمال في المستقبل.
4ـ يطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة أن يقدم إلى مجلس الأمن في اقرب وقت ممكن، تقريراً عن مدى الالتزام بهذا القرار. (18)


88
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة التاسعة
حامد الحمداني                                                                  6/2/2018

ثالثاً: مؤتمر القمة العربي في القاهرة يبحث الأزمة:

 بعد تكامل وصول الوفود العربية، تقرر عقد القمة في صباح يوم الجمعة المصادف 10 آب، ومن دون أن يسبق ذلك مؤتمر لوزراء الخارجية لإعداد جدول أعمال للمؤتمر، وقد أعترض الوفد العراقي على هذا الإجراء، وطالب أن يسبق ذلك اجتماع لوزراء الخارجية، لوضع جدول الأعمال، ومناقشة وتقديم التوصيات للملوك والرؤساء لمناقشة الأزمة بصورة مباشرة .
 إلا أن الاعتراض كان قد ُرد بحجة عدم وجود الوقت الكافي لعقد اجتماع لوزراء الخارجية، وأن الأمر سيترك للملوك والرؤساء لمناقشة الأزمة بصورة مباشرة.
وفي تلك الأثناء، قدّم وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، مسودة قرار إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، الشاذلي القليبي، طالباً منه طبع نسخ منه وتوزيعه على الملوك والرؤساء قبل دخولهم القاعة.

أحدث المشروع هرجاً كبيراً في قاعة الاجتماع، واحتج العقيد القذافي عليه، وكان يشير إلى أن مشروع القرار قد تم وضعه من قبل الولايات المتحدة، باسم السعودية، وكان أهم ما ورد في مشروع القرار، هو أن القمة تستجيب لطلب السعودية ودول الخليج الأخرى بنقل قوات عربية إلى السعودية، لتنضم إلى القوات الأمريكية والحليفة، وفيما يلي نص القرار:

{ إن مؤتمر القمة العربية المنعقد في القاهرة  يومي 19 و20 محرم 1411 هجرية، الموافق ليومي  9 و10 آب/ أغسطس 1990 ميلادية:
بعد الإطلاع على قرار مجلس الجامعة العربية، الذي أنعقد في دورة غير اعتيادية في القاهرة يومي 2 و 3 ، آب 1990، وبعد الإطلاع على البيان الصادر عن المؤتمر التاسع عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية الذي صدر في القاهرة، في الرابع من آب 1990.
وانطلاقاً من أحكام ميثاق الجامعة العربية، وبشكل خاص الفقرة الرابعة من المادة الثانية، والمادتين 25، 51، وإدراكاً للمسؤولية التاريخية الجسيمة، التي تمليها الظروف الصعبة، الناجمة عن الاجتياح العراقي للكويت، وانعكاساته الخطيرة على الوطن العربي، والأمن القومي العربي، ومصالح الأمة العربية العليا يقرر‍‍‍‍‍‍‍‍:
1ـ تأكيد قرار مجلس جامعة الدول العربية الصادر في 3 آب 1990، وبيان منظمة المؤتمر الإسلامي في 4 آب 1990.
2ـ تأكيد الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي، رقم 660 ، بتاريخ  2 آب 990 و 661  بتاريخ 6 آب 990 ، ورقم 662 بتاريخ 9 آب 1990، بوصفها تعبيراً عن الشرعية الدولية.
3ـ إدانة العدوان العراقي على الكويت الشقيقة، وعدم الاعتراف بقرار العراق ضم الكويت إليه، ولا بأي نتائج أخرى مترتبة على غزو القوات العراقية للأراضي الكويتية، ومطالبة العراق بسحب قواته منها فوراً، وإعادتها إلى مواقعها السابقة على تاريخ 1 آب 1990.
4ـ تأكيد سيادة واستقلال الكويت، وسلامته الإقليمية، باعتباره دولة عضو في الجامعة العربية، وفي الأمم المتحدة، والتمسك بعودة نظام الحكم الشرعي الذي كان قائماً في الكويت قبل الغزو العراقي، وتأييده في كل ما يتخذه من إجراءات لتحرير أرضه، وتحقيق سيادته.
5ـ شجب التهديدات العراقية، واستنكار حشد القوات العراقية على حدود المملكة العربية السعودية، وتأكيد التضامن العربي معها، ومع دول الخليج العربي الأخرى عملاً بحق الدفاع الشرعي، وفقاً لأحكام المادة الثانية من معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية، والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ولقرار مجلس الأمن رقم 661 في 6 آب 1990 على أن يتم وقف هذه الإجراءات فور الانسحاب الكامل للقوات العراقية من الكويت، وعودة الشرعية إليها.
6ـ الاستجابة لطلب المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى لنقل قوات عربية لمساعدة قواتها المسلحة، دفاعاً عن أراضيها وسلامتها الإقليمية ضد أي عدوان خارجي.
7ـ تكليف الأمين العام لجامعة الدول العربية بمتابعة تنفيذ هذا القرار، ورفع تقرير عنه خلال 15 يوماً إلى مجلس الجامعة لاتخاذ ما يراه في هذا الشأن. (10)
أحدث مشروع القرار هذا هيجاناً للوفد العراقي، الذي صار يسأل أمين عام الجامعة العربية عن مصدر هذا المشروع، وكيف تم وضعه، وكيف تسنى وضعه دون مشاركة الوفود المشاركة في المؤتمر، وكان ردّ الأمين العام أنه لم يكن المسؤول عن وضع ترتيبات المؤتمر، وقد ردّ طارق عزيز مطالباً بإجراء تحقيق رسمي حول الموضوع، لكن الأمين العام أجابه بأن الأمر ليس في يده، وأن من الأفضل أن تتفاهم الوفود مع بعضها، دون توريط الأمانة العامة للجامعة في ما لا تملك سلطة عليه، وقد علق أحد مستشاري الملك حسين على المشروع قائلاً:
{إنني اشعر أنه مشروع مترجم عن الإنكليزية، وليس كتابة أصلية باللغة العربية}. (11)
 وكان يعني في قوله هذا، أن المشروع قد وُضع من قبل الولايات المتحدة. أما العقيد القذافي فقد امسك في يده بنسخة من المشروع وصار يصيح بأعلى صوته:
 {إذاً فهذا هو ما يريدونه منا إن نختم بأصابعنا عليه؟}!!. (12)
ثم التفت إلى الشيخ زايد، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة قائلاً له:
{لماذا تلجئون للأمريكان لحمايتكم؟ لماذا لا تختصرون الطريق
وتطلبون حماية من حكومة إسرائيل مباشرةً؟}.(13)
لكن الرئيس مبارك أسرع للإعلان عن بداية جلسة المؤتمر، رغم كل الاعتراضات، وبدأ بإلقاء كلمة الافتتاح، وتحدث عن انعكاسات الغزو العراقي للكويت، واصفاً إياه بالخطب الجلل، الذي لم تشهد له الأمة العربية مثيلاً من قبل، وقال محذراً: {إن الواجب أن نتحرك في إطار عالم اليوم، ونتحدث بلغته}.(14)
 وكان بذلك يشير إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة قد أصبحت في واقع الحال تحكم العالم، تحت مظلة ما أطلقت عليه بالنظام العالمي الجديد!!.
وبعد انتهاء مبارك من إلقاء خطابه أنفض الاجتماع على أن يعقد مرة أخرى بعد صلاة الجمعة، وتناول الغداء، وأخذ قسط من الراحة، وعاد المجتمعون في الساعة الرابعة والنصف عصراً.
كان الجو عاصفاً خلال الاجتماع، ووقعت مشادة حادة بين الوفدين العراقي والكويتي، أصيب على أثرها وزير الخارجية الكويتية، صباح الأحمد الصباح، ونقل إلى المستشفى.
 وادعى طه ياسين رمضان أن حكومة الكويت قد تآمرت مع الولايات المتحدة على العراق، وان الولايات المتحدة كانت تنوي إنزال قواتها في الكويت للاعتداء على العراق، ورد عليه الشيخ سعد، ولي عهد الكويت، ورئيس الوزراء، نافياً الإدعاء العراقي، وذكر بان الكويت كانت قد أبدت استعدادها للتنازل عن ديونها على العراق، والبالغة 30 بليون دولار، ولكن دون إعلان رسمي، وأن الكويت اعتذرت عن تأجير جزيرتي بوربا، وبوبيان، زمن الحرب العراقية الإيرانية لكي لا تُتهم الكويت بالتعاون مع العراق ضد إيران.

ثم تحدث الرئيس الجزائري، الشاذلي بن جديد قائلاً:
{إننا مطالبين بان نجد وسيلة عربية بحتة لحل الأزمة، وإلا فإننا نكون قد ضيعنا كفاح أجيال، إن أجيال من شعوبنا قضت عمرها في محاربة الاستعمار، ولا يعقل أن نجد الآن من يمهد الطريق للاستعمار لكي يعود إلى بلادنا من جديد بقوته العسكرية}. (15)

أما ياسر عرفات فقد أقترح إرسال وفد يمثل ثلاثة من ملوك ورؤساء الدول العربية إلى بغداد للقاء صدام حسين، وإقناعه بسحب قواته من الكويت. إلا أن اقتراحه رفض، فقد كان واضحاً أن المؤتمر لم ينعقد إلا ليوقع على مشروع القرار الذي وضعته الولايات المتحدة لإعطاء المبرر للحشد الأمريكي في السعودية، وتحت غطاء عربي، وقرار رسمي يصدر عن القمة، وإن أية محاولة لحل الأزمة لم تكن في الحسبان، فلقد قُضي الأمر، وبُوشر بالحشد والإعداد للهجوم المرتقب على العراق، وتوجيه الضربة القاضية له، ونزع أسلحته، وتحطيم بنيته الاقتصادية والاجتماعية لكي لا يستطيع النهوض من جديد لعقود طويلة.
ونهض الرئيس المصري حسني مبارك لينهي النقاش بطلب إقرار مشروع القرار الذي وضعته أمريكا قائلاً:{ إن لدينا قرار وزعناه في الصباح، وسوف أطرحه الآن للتصويت}.
ورغم اعتراض العديد من الوفود أصرّ مبارك على التصويت على القرار، وطلب من الوفود الموافقين على مشروع القرار رفع الأيدي، خلافاً لنظام التصويت المعمول به بالجامعة العربية والذي ينص على الإجماع. أخذ مبارك يعدّ الموافقين، وقد بلغ عددهم 11 عضواً، ورفضه كل من العراق وليبيا، فيما تحفظت عليه كل من السودان، وفلسطين، وموريتانيا، وامتنعت عن التصويت كل من الجزائر واليمن والأردن.

وسارع مبارك إلى إعلان موافقة الأغلبية على القرار، ورفع الجلسة وسط هياج، واحتجاج العديد من الوفود، وكان طبيعياً أن الولايات المتحدة أرادت أن يصدر القرار، بأي شكل من الأشكال، حتى ولو أدى ذلك إلى انهيار الجامعة العربية، فقد كان القرار غير دستوري، بموجب ميثاق الجامعة الذي ينص على الإجماع، وأدى ذلك إلى وقوع انقسام خطير في صفوف الأمة العربية‍، ما تزال تعاني منه حتى يومنا هذا.

وهكذا أفتتح قرار القمة العربية الطريق أمام الولايات المتحدة لتنفيذ الخطة المسماة [2000ـ90] تحت غطاء الشرعية العربية، ‍وأخذت الولايات المتحدة تجمع إلى صفها بقية الدول الأوروبية وغيرها من الدول الأخرى، وأقنعت الاتحاد السوفييتي بتأييد إجراءاتها، ولم يبقَ أمامها سوى إنجاز التحشد المطلوب، وأصبح نشوب الحرب مسألة وقت لا أكثر.
 أما الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسكرتيرها العام، فلم يكن لهما أي دور فاعل في الأزمة، وغدا مجلس الأمن أداة طيعة بيد الولايات المتحدة، وبدأت تتوالى القرارات ضد العراق، كما أرادها بوش،  وأخذت القوات بالتجمع في الأراضي السعودية استعداداً لليوم الموعود.



89
صدام والفخ الامريكي
غزو اتلكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثامنة
حامد الحمداني                                                               3/2/2018
الفصل الثالث
 مجلس الأمن في خدمة السياسة الأمريكية
أولاً ً: نظام صدام والولايات المتحدة ومجلس الأمن.
ثانيا:الملك حسين يحاول إنقاذ نظام صدام من ورطته.
ثالثاُ: مؤتمر القمة العربية في القاهرة يبحث الأزمة.
رابعاً: نظام صدام حسين في مأزق.
خامساً: الملك حسين يقابل الرئيس الأمريكي بوش.

أولاً: مجلس الأمن يصدر القرارات المتتابعة ضد العراق:
 
 بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية مرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي،   وتلاشي تأثيره الدولي حيث كان يقف نداً لمخططات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مجلس الأمن، وعلى الساحة الدولية في ظل سيادة القطبين الدوليين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، باتت الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم أجمع، واستطاعت فرض هيمنتها المطلقة على مجلس الأمن الدولي.

وهكذا سارعت الولايات المتحدة  إلى دعوة مجلس الأمن إلى اجتماع عاجل، في 2 آب 1990، ليقرر إعطاءها الغطاء الذي تحتاجه لتوجيه الضربة القاضية للعراق، وتصفية قدراته العسكرية، وتدمير بنيته الاقتصادية، واستطاعت استصدار عشرات القرارات الصارمة ضد العراق، دون أن تلقى معارضة تذكر من سائر أعضاء مجلس الأمن، وكان أقصى ما استطاعت الدول التي كانت ترتبط بعلاقات وثيقة مع نظام صدام في مجلس الأمن هو الامتناع عن التصويت، كما فعلت الصين، أو الغياب عن حضور الجلسة، كما فعل مندوب اليمن.
كانت بادرة تلك القرارات القاسية ضد العراق  هو القرار رقم 660، الذي صادق عليه ممثلي 14 دولة، وغابت اليمن عن حضور الجلسة، وهذا هو نص القرار:
 قرار رقم 660
إن مجلس الأمن
إذ يثير جزعه غزو القوات العسكرية العراقية للكويت في 2 آب / أغسطس 1990 وإذ يقرر أنه يوجد خرق للسلم والأمن الدوليين فيما يتعلق بالغزو العراقي للكويت وإذ يتصرف بموجب المادتين 39، و40 من ميثاق الأمم المتحدة يقرر:
 1 ـ يدين الغزو العراقي للكويت.
2 ـ يطالب بأن يسحب العراق جميع قواته فوراً ودون قيد أو شرط إلى المواقع التي كانت تتواجد فيها في 1 آب 1990.
3ـ يدعو العراق والكويت إلى البدء فوراً في مفاوضات مكثفة لحل خلافاتهما، ويؤيد جميع الجهود المبذولة في هذا الصدد، وبوجه خاص جهود جامعة الدول العربية.
4ـ يقرر أن يجتمع ثانية حسب الاقتضاء للنظر في خطوات الأخرى لضمان الامتثال لهذا القرار.  (1)

وفي حقيقة الأمر فأن هذا القرار لم يكن سوى تغطية للقرار الذي اتخذته الولايات المتحدة لضرب العراق، فقد سبق للرئيس بوش أن أبلغ الرئيس المصري حسني مبارك، عندما دعا إلى عقد مؤتمر للقمة العربية لبحث الغزو العراقي للكويت، وسبل معالجة الأزمة الناشئة عنه، إلى أن وقت القمم قد فات، وأنه قد أتخذ قراره بالتدخل العسكري.
وفي نفس ذلك اليوم كان بوش مجتمعاً مع رئيسة وزراء بريطانيا [ماركريت تاتشر] التي كانت في زيارة رسمية للولايات المتحدة، وقد أبدت تاتشر حماساً منقطع النظير في استخدام القوة العسكرية ضد العراق، وشدت من عزم بوش، وأعلنت أن بريطانيا تضع يدها بيد الولايات المتحدة في هذا السبيل.(2)

ثانيا:الملك حسين يحاول إنقاذ نظام صدام من ورطته
 وفي الثالث من آب وصل الملك حسين، ملك الأردن، إلى بغداد، في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، والتقى على الفور بصدام حسين، وبدأ الملك حسين يتحدث عن تطورات الأزمة، وخطورة الموقف، موضحاً لصدام حسين بأنه يعرف الغرب جيداً، إنهم عازمون على التدخل العسكري.
لكن صدام ردّ عليه قائلاً: {إن الغرب لا يستطيع إدخال الرعب في قلبه}.

وحاول الملك حسين أن يثني صدام عن مواقفه، مؤكداً له حتمية التدخل الغربي، وما سوف يجر من ويلات ومآسي ومخاطر جسيمة، ليس على العراق فحسب وإنما على مصير الأمة العربية جمعاء، ورجاه الانسحاب من الكويت  قبل فوات الأوان.

 كان صدام حسين في حالة من الارتباك والتردد، بعد صدور قرار مجلس الأمن، وحسب قول الملك حسين، أن صدام كان قد وعده بالانسحاب خلال أسابيع، وأنه ردّ عليه قائلا ً:
{أن أمامه ساعات، وليس أسابيع}.
 وأخيراً أبلغ صدام الملك حسين بأنه سيعرض اقتراحاته على مجلس قيادة الثورة، وأبدى موافقته على عقد القمة المقترحة، لكنه أعتذر عن حضورها شخصياً، وابلغ الملك حسين بأنه سيوفد عنه النائب الأول لرئيس الوزراء طه ياسين رمضان، لكنه اشترط عدم حضور أميرالكويت المؤتمر. (3)
غادر الملك حسين بغداد، وبينما كان في طريق العودة اتصل به صدام حسين، وهو في الطائرة، وابلغه موافقة مجلس قيادة الثورة على حضور القمة، شرط أن لا يصدر وزراء الخارجية العرب قراراً ضد العراق.

سارع الملك حسين إلى الاتصال بوزير خارجيته الموجود في القاهرة، وطلب إليه إبلاغ وزراء الخارجية العرب بما تم الاتفاق عليه مع صدام حسين.
غير أن مصر سارعت، قبل أن يجتمع وزراء الخارجية العرب، إلى إصدار بيان، بضغط أمريكي، يدين الغزو العراقي للكويت، ويطلب من العراق سحب قواته منها، وقد أدى ذلك إلى انقسام كبير في صفوف وزراء الخارجية العرب.

أسرع الملك حسين إلى الاتصال بالملك فهد ليبلغه أن صدام حسين وافق على عقد القمة المقترحة في جدة يوم 4 آب، كما وافق من حيث المبدأ على الانسحاب من الكويت.
كان الملك فهد في حالة نفسية متوترة، وابلغ الملك حسين أن لا فائدة من أي مؤتمر، وإنه يخشى من أن يكون هناك خدعة جديدة من صدام، وبدا واضحاً أن الضغط الأمريكي على مصر، والسعودية، وحكام الخليج قد أفلح في إفشال أي محاولة لنزع فتيل الحرب التي أعدت لها الولايات المتحدة عن سابق تصميم.

وفي اليوم التالي، بادر الملك فهد إلى الاتصال بالملك حسين، وابلغه أن
الصور التي ترسلها الأقمار الصناعية الأمريكية تظهر تقدم الدبابات والمدرعات العراقية باتجاه الحدود السعودية. أوقعت تلك الأخبار الملك حسين في حيرة، وأبلغ الملك فهد بأنه سيتصل بصدام فوراً، ويستفسر منه عن الأمر.

 وبالفعل اتصل الملك حسين بصدام، وسأله عما سمعه من الملك فهد، إلا أن صدام أنكر ذلك، وأخبر الملك حسين أن القوات العراقية على بعد 30 كم من الحدود السعودية.
 ثم عاد الملك حسين وسأل صدام عن موعد سحب القوات العراقية، فأجابه صدام بأن القوات العراقية قد باشرت فعلاً بالانسحاب، وقد عاد لواء عراقي إلى داخل الحدود العراقية، وأن سحب القوات يتطلب وقتاً.

 لكن صدام حسين لم يكن صادقاً في كلامه عن الانسحاب إطلاقاً، وكان يرمي إلى إنشاء حكومة وهمية في الكويت، ليس لها في الواقع أي وجود، بغية كسب الوقت، وإعلان ضم الكويت للعراق.
عاد الملك حسين إلى الاتصال بالملك فهد، وأبلغه عما دار بينه وبين صدام في المكالمة الهاتفية، وقد بدا الملك فهد غير مرتاح لكل ذلك، وغير مصدق لأي كلام يصدر من صدام، وطلب من الملك حسين أن يحضر بنفسه إلى جدة للتحدث مع الملك بالتفصيل عن واقع الأمور، إلا أن الملك فهد أعتذر عن استقباله، لانشغاله في أمور هامة وكثيرة، وأبلغ الملك فهد بأنه سيرسل الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية إلى عمان لبحث الموضوع.

 وعاد الديوان الملكي السعودي وأتصل بالديوان الملكي الأردني، وأبلغه بأن الأمير سعود سوف لن يتمكن من السفر إلى الأردن، بسبب حضوره اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وأن الملك فهد سيوفد إلى عمان وزير التعليم عبد العزيز الخويطر، كمبعوث خاص له.
واستقبل الملك حسين الوزير السعودي في عمان، وشرح له ما دار بينه وبين صدام حسين، وتحدث عن خطورة الموقف، وضرورة معالجة الأزمة عربياً، قبل أن تستفحل الأمور، وتؤدي إلى كارثة لا أحد يعرف مداها، كما أبدي الملك حسين تخوفه من أن تقدم السعودية على غلق أنبوب النفط العراقي المار عبر السعودية، ويؤدي إلى تعقد الأمور، ويدفعها نحو الصدام، وقد رد عليه الوزير السعودي أن ذلك مجرد إشاعات لا أساس لها من الصحة!!.
وعلى الجانب الأمريكي، كان الرئيس بوش قد جمع كبار جنرالاته المكلفين بتنفيذ خطة التدخل السريع [ 1002ـ 90 ]، بالإضافة إلى مستشاره للأمن القومي [برنت سكوكرفت‎] في الرابع من آب، ليضع اللمسات الأخيرة على خطط الولايات المتحدة بأسرع ما يمكن، ذلك أنه كان يشعر بالقلق لتحركات الملك حسين التي خشي أن تؤثر على الملك فهد، وتجعله يرضى بالحلول الوسط مع بغداد، مما يفشل المخطط الأمريكي لضرب العراق، وخاصة وأن الملك فهد لم يقرر بعد  حتى تلك الساعة الموافقة على نزول القوات الأمريكية والحليفة في السعودية، خوفاً من رد فعل صدام حسين.
 وخلال المناقشات اقترح جون سنونو على الرئيس بوش أن تشارك قوات عربية وإسلامية في التحشد، لتكّون غطاء للقوات الأمريكية والحليفة، واستهوت الفكرة الرئيس بوش، وقال على الفور إنه سوف يوفر الغطاء المطلوب بأسرع وقت، وطلب من وزير دفاعه [ديك تشيني] السفر إلى السعودية ويصطحب معه الجنرال [شوارتزكوف] قائد قوات التدخل السريع، للالتقاء بالملك فهد، وترتيب الأمور معه، وتم الاتصال بالملك، الذي أبدى كامل استعداده لاستقبال تشيني والوفد المرافق له.
 وفي الوقت نفسه أتصل بوش بالملك الحسن الثاني، ملك المغرب، والرئيس المصري حسني مبارك، والرئيس السوري حافظ الأسد، وتباحث معهم حول موضوع المشاركة في الحشد العسكري ضد العراق.
أما ديك تشيني، والجنرال شوارتزكوف، فقد غادرا إلى السعودية على عجل للقاء الملك فهد، حيث وصلا جدة يوم 6 آب 1990، يصحبهما نائب مدير وكالة المخابرات المركزية [روبرت جبتس].
  لكن الرئيس الأمريكي بوش الذي لم يكن راضياً بكل التحركات التي
يجريها القادة العرب لإنقاذ نظام صدام، مضى في تنفيذ مخططه، بعد أن وقع صدام في الفخ.
 وتقدم بمشروع قرار جديد إلى مجلس الأمن الدولي، يقضي بفرض عقوبات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية شاملة وقاسية على العراق  لم يسبق أن أصدر مجلس الأمن  مثلها من قبل في كل تاريخ الأمم المتحدة، وفيما يلي نص القرار:
 قرار رقم 661 ـ 6 آب 1990
 أن مجلس الأمن :
إذ يعيد تأكيد قراره  رقم 660 ، المؤرخ في 2 آب 1990، وإذ يساوره القلق إزاء عدم تنفيذ ذلك القرار، لأن غزو العراق للكويت لا يزال مستمراً، ويسبب المزيد من الخسائر في الأرواح، ومن الدمار المادي، وتصميماً منه على إنهاء غزو العراق للكويت، واحتلاله لها، وعلى إعادة سيادة واستقلال الكويت، وسلامتها الإقليمية.
 وإذ يلاحظ أن حكومة الكويت الشرعية قد أعربت عن استعدادها للامتثال للقرار 660، وإذ يضع في اعتباره المسؤوليات الموكلة إليه بموجب ميثاق الأمم المتحدة  للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
وإذ يؤكد الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس، فردياً وجماعياً، رداً على الهجوم المسلح الذي قام به العراق ضد الكويت، وفقاً للمادة 51 من الميثاق. وإذ يتصرف وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
1 ـ يقرر أن العراق لم يمتثل للفقرة 2 من القرار 660، في 1990، واغتصب سلطة الحكومة الشرعية في الكويت.
 2ـ يقرر نتيجة لذلك، اتخاذ التدابير التالية لضمان امتثال العراق للفقرة الثانية  من القرار 660، وإعادة السلطة إلى الحكومة الشرعية في الكويت.
3 ـ يقرر أن تمنع جميع الدول مما يلي:
(أ) ـ استيراد أي من السلع والمنتجات التي يكون مصدرها العراق أو الكويت، وتكون مصدرة منها بعد تاريخ هذا القرار إلى أقاليمها.
(ب) ـ أية أنشطة يقوم بها رعاياها أو تتم في أقاليمها، ويكون من شأنها
 تعزيز، أو يقصد بها تعزيز التصدير، أو الشحن العابر لأية سلع أو منتجات من العراق، أو الكويت، وأية تعاملات يقوم بها رعاياها، أو السفن التي ترفع علمها، أو تتم في أقاليمها بشأن أية سلع أو منتجات يكون مصدرها العراق أو الكويت، وتكون مصدرة منها بعد تاريخ هذا القرار، بما في ذلك على وجه الخصوص أي تحويل للأموال إلى العراق أو الكويت لأغراض القيام بهذه الأنشطة أو التعاملات.
( ج) ـ أية عمليات بيع أو توريد يقوم بها رعاياها، أو تتم من أقاليمها، أو باستخدام السفن التي ترفع علمها، لأية سلع أو منتجات، بما في ذلك الأسلحة أو أية معدات عسكرية أخرى، سواء كان منشأها في أقاليمها أو لم يكن، ولا تشمل الإمدادات المخصصة بالتحديد الأغراض الطبية، والمواد الغذائية، في ظروف إنسانية، إلى أي شخص أو هيئة في العراق أو الكويت، أو إلى أي شخص أو هيئة لأغراض عمليات تجارية يضطلع بها العراق أو الكويت، أو منهما، وأية أنشطة يقوم بها رعاياها، أو تتم في أقاليمها، ويكون من شأنها تعزيز عمليات بيع أو توريد هذه السلع أو المنتجات.
4 ـ يقرر أن تمتنع جميع الدول عن توفير أية أموال، أو مواد مالية أو اقتصادية أخرى للحكومة العراقية، أو لأية مشاريع تجارية أو صناعية أو لأية مشاريع للمرافق العامة للعراق أو الكويت، وأن تمنع رعاياها، أو أي أشخاص داخل أقاليمها، من إخراج أي أموال، أو موارد من أقاليمها، أو القيام بأي طريقة أخرى بتوفير الأموال والموارد لتلك الحكومة، أو لأي من مشاريعها، ومن تحويل أي أموال أخرى إلى أشخاص أو هيئات داخل العراق أو الكويت، فيما عدا المدفوعات المخصصة بالتحديد للأغراض الطبية، أو الإنسانية، والمواد الغذائية المقدمة في
 الظروف الإنسانية.
5 ـ يطلب إلى جميع الدول، بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة، أن تعمل بدقة، وفقاً لأحكام هذا القرار، بغض النظر عن أي عقد تم إبرامه، أو ترخيص تم منحه قبل تاريخ هذا القرار.
5ـ يقرر وفقاً للمادة 28 من النظام الداخلي المؤقت لمجلس الأمن،
 تشكيل لجنة تابعة لمجلس الأمن، تضم جميع أعضائه، كي تضطلع بالمهام التالية، وتقدم إلى المجلس التقارير المتصلة بعملها مشفوعة بملاحظاتها، وتوصياتها:
( ا) ـ أن تنظر في التقارير التي سيقدمها الأمين العام، عن التقدم المحرز
 في تنفيذ هذا القرار.
(ب)ـ أن يطلب من جميع الدول، المزيد من المعلومات المتصلة بالإجراءات التي أتخذها، فيما يتعلق بالتنفيذ الفعال للأحكام المنصوص عليها في هذا القرار.
7 ـ يطلب إلى جميع الدول أن تتعاون تعاوناً تاماً مع اللجنة، فيما يتعلق بقيامها بمهمتها، بما في ذلك توفير المعلومات التي قد تطلبها اللجنة، تنفيذاً لهذا القرار.
8ـ يطلب من الأمين العام تزويد اللجنة بكافة المساعدات اللازمة، واتخاذ الترتيبات اللازمة في الأمانة لهذا الغرض.
9 ـ يقرر، أنه بغض النظر عن الفقرات من 4 إلى 8 أعلاه، لا يوجد في
هذا القرار ما يمنع من تقديم المساعدات للحكومة الشرعية للكويت، ويطلب إلى جميع الدول ما يلي:
( أ ) ـ اتخاذ تدابير مناسبة لحماية الأصول التي تملكها حكومة الكويت الشرعية ووكالتها.
(ب) ـ عدم الاعتراف بأي نظام تقيمه سلطة الاحتلال.
10 ـ يطلب إلى الأمين العام أن يقدم إلى المجلس تقارير عن التقدم المحرز في تنفيذ هذا القرار على أن يقدم التقرير الأول خلال 30 يوماً.
11 ـ يقرر أن يبقى هذا البند في جدول أعماله، وأن يواصل بذل الجهود كي يتم إنهاء الغزو الذي قام به العراق في وقت مبكر. (4)

وهكذا أتمت الولايات المتحدة فرض أشد حصار عرفته الأمم المتحدة في تاريخها ضد العراق، وأصبح العراق عاجزاً عن بيع نفطه، وجمدت أمواله في الخارج، وأصبح عاجزاً عن تأمين الحاجات المادية والمعيشية للشعب.
 ولم يدرْ في خلد أحد، أن الحصار المفروض سوف يدوم سنوات طوال، وبحجج مختلفة، ليس ضد صدام ونظامه الدكتاتوري الفاشي، ولكن ضد الشعب العراقي المغلوب على أمره.
 وفي الوقت الذي صدر فيه هذا القرار، أستقبل الملك فهد، وكبار رجالات الدولة السعوديين الوفد الأمريكي برئاسة وزير الدفاع [ديك تشيني]، وتحدث الملك فهد عن علاقاته القديمة بالرئيس بوش، أكد أنه معجب بمواهبه، وصدقه ‍‍‍‍‍‍!.

 ثم تلاه في الحديث ديك شيني، مستعرضاً موقف الولايات المتحدة المؤيدة والمساندة للسعودية في كل الأحوال والظروف، وأبلغ الملك فهد قائلاً :{أن الرئيس بوش يضمن تماماً الوفاء بكل مستلزمات الأمن في المنطقة، وأنه يعتبر صدام حسين يمثل أكبر خطر على المنطقة، ولابدّ من التصدي له، وهذا ما تريده الولايات المتحدة، ولقد أجرى الرئيس بوش اتصالات واسعة مع الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين، من أجل حشد التأييد للإجراءات الأمريكية، وأضاف إن الرئيس بوش مصمم على الدفاع عن السعودية ضد أي هجوم محتمل من العراق، وأنه سيسعى إلى خنق العراق اقتصادياً،عن طريق الحصار الاقتصادي، الذي فرضه مجلس الأمن، بموجب قراره رقم}661. (5)
وبعد نقاشات مطولة، أعلن الملك فهد عن موافقته على استقبال القوات الأمريكية، والحليفة على الأراضي السعودية.
 وفي ختام اللقاء أعلن وزير الدفاع تشيني أنه سيغادر إلى بلاده، تاركاً فريق عمل في السعودية ليرتب الأمور لاستقبال القوات الأمريكية والحليفة، وقد طلب منه الملك أن يتم حشد القوات بكل هدوء، ودون ضجيج لئلا يقدم صدام حسين على العدوان على السعودية، قبل اكتمال الحشد.
وقبل أن يغادر تشيني جدة، أجرى اتصالاً هاتفياً مع بوش، ورئيس أركان الجيش الأمريكي، كولن باول، وابلغهما بموافقة الملك فهد بنزول القوات الأمريكية والحليفة في السعودية، طالباً المباشرة في الحشد.
وبالفعل صدرت الأوامر بالتحرك، وبدأت طلائع القوات الأمريكية تصل إلى السعودية، حيث وصلت الفرقة 82، المحمولة جواً، يوم 8 آب، كما هبطت 48 طائرة حربية طراز (F15) في قاعدة الظهران الجوية الضخمة. (6)
وفي طريق عودته، التقي وزير الدفاع الأمريكي تشيني بالرئيس المصري حسني مبارك في القاهرة، وتباحث معه حول مساهمة مصر في الحشد العسكري، وحول تقديم التسهيلات العسكرية لعبور حاملات الطائرات الأمريكية، المسيرة نووياً، لقناة السويس، ثم غادر تشيني إلى المغرب، والتقى بالملك الحسن الثاني، حيث تباحث معه حول مساهمة المغرب بالحشد العسكري ضد العراق.
 وفي صباح 8 آب، وقف الرئيس بوش يوجه خطابه عبر شاشات التلفزة الأمريكية والعالمية، ويتحدث عن العدوان العراقي على الكويت، وعن تصميمه على دحره، ومما جاء في خطابه قوله:
 {إننا نطلب انسحاباً كاملاً وفورياً غير مشروط، لكل القوات العراقية الموجودة في الكويت، وإن قواتنا ذهبت إلى السعودية في مهمة دفاعية‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍، ونأمل أن لا تبقي القوات في منطقة الخليج طويلاً ‍‍‍‍. إن هذه القوات مكلفة بالدفاع عن نفسها، وعن المملكة العربية السعودية، وعن كل أصدقائنا في الخليج}.‍‍‍‍‍‍(7)
وعلى الجانب العربي من الأزمة، راح الرئيس المصري مبارك يبذل محاولاته لإقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، وأتصل بسفير العراق في القاهرة نبيل نجم التكريتي، وحمله رسالة إلى صدام، ووضع تحت تصرفه طائرة خاصة تنقله إلى بغداد، ليعود بجواب من صدام في اليوم التالي إلى الإسكندرية، وعاد السفير ومعه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة [عزت الدوري].
وخلال اللقاء الذي تم بين مبارك، وعزت الدوري في الإسكندرية، أصر الأخير على أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، وأنه لا مجال للمفاوضات حول الانسحاب، وفي تلك الأثناء صدر بيان عراقي يعلن ضم الكويت إلى العراق رسمياً. (8)
وعلى اثر صدور قرار نظام صدام بضم الكويت للعراق رسمياً، سارع
مجلس الأمن إلى إصدار قرار جديد ضد العراق تحت رقم 662 بتاريخ
9 آب 1990، وهذا نصه:
قرار رقم 662- في 9 آب/أغسطس 1990
 : مجلس الأمن:
إذ يشير إلى قراريه 660 في 1990، و661 في 1990
وإذ يثير بالغ جزعه إعلان العراق اندماجه التام والأبدي مع الكويت.
وإذ يطالب، مرة أخرى بان يسحب العراق فوراً، وبدون قيد أو شرط، جميع قواته إلى المواقع التي كانت تتواجد فيها في 1 آب 1990.
وقد صمم على إنهاء احتلال حكام العراق للكويت، واستعادة سيادتها، واستقلالها وسلامتها الإقليمية، وقد صمم أيضاً على استعادة سلطة الحكومة الشرعية للكويت يقرر:
1 ـ إن ضم العراق للكويت، بأي شكل من الأشكال، وبأية ذريعة كانت، ليست له أي صلاحية قانونية، ويعتبر لاغياً وباطلاً.
2 ـ يطلب إلى جميع الدول والمنظمات الدولية، والوكالات المتخصصة، عدم الاعتراف بذلك الضم، والامتناع عن اتخاذ أي إجراء، أو الإقدام على أية معاملات قد تفسر على أنها اعتراف غير مباشر بالضم.
3ـ يطالب كذلك بأن يلغي العراق إجراءاته التي أدعى بها ضم الكويت.
4 ـ يقرر أن يبقى هذا البند في جدول أعماله، وأن يواصل جهوده لوضع حد مبكر للاحتلال. (9)
 وفي نفس اليوم التقى حسني مبارك خطاباً موجهاً للأمة العربية، تحدث فيه عن المخاطر الجسيمة لغزو الكويت قائلاً:‍
{ أن الصورة تبدو سوداء قاتمة ومخيفة، وما لم نتدارك الموقف فوراً، فان الحرب حتمية، أضاف بأن هذه الحرب إن وقعت فسوف تكون مفزعة، ومدمرة، وأردف قائلاً: {لا أحد يعرف مخاطر الحرب كما يعرفها هو، وانه يستطيع أن يقول أن الحرب ستكون شيئاً رهيباً فضيعاً، واختتم حديثه بالآية الكريمة، ألا قد بلغت، اللهم فاشهد}.
وكان ديك تشيني قد أطلع مبارك على خطة التدخل (1002ـ 90 )، وهاله مما سمع منه.
 وفي خلال حديثه، وجه مبارك عبر موجات الأثير، دعوة للقادة العرب لعقد قمة عربية عاجلة في القاهرة، لتدارس سبل حل الأزمة قبل وقوع الكارثة.
 بدأ الملوك، والرؤساء العرب يتوافدون إلى القاهرة، بعد ساعات من خطاب مبارك، وكان أول الواصلين العقيد القذافي، لكن صدام حسين لم يحضر، بل أرسل عنه طه ياسين رمضان، نائب رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى طارق عزيز، كما أن الملك الحسن الثاني أناب عنه رئيس وزرائه.



90
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة السابعة
حامد الحمداني                                                                1/2/2018

رابعاً: سوريا تدعو لعقد قمة عربية لبحث الغزو

 فور اجتياح القوات العراقية للكويت في 2 آب 1990، دعت الحكومة السورية إلى عقد مؤتمر قمة عربي عاجل لبحث الغزو العراقي، ودعت وزراء الخارجية العرب، الذين كانوا في القاهرة لحضور مؤتمر القمة الإسلامي، إلى عقد اجتماع عاجل للإعداد لمؤتمر القمة، لمعالجة الأزمة.
وبالفعل وجه الأمين العام لجامعة الدول العربية [الشاذلى القليبي] لوزراء الخارجية العرب، لعقد اجتماع في فندق [سمير أميس]، حيث يتواجد فيه معظم وزراء الخارجية العرب، وتم عقد الاجتماع في تمام الساعة العاشرة صباحاً، بغياب وزير الخارجية العراقي الذي ناب عنه سفير العراق في القاهرة، وجرى بحث الأزمة، والسبيل للخروج منها، وقد وجه وزراء الخارجية العرب استفساراتهم إلى ممثل العراق، لكن المندوب العراقي أجابهم بأنه غير مخول أساساً لحضور الاجتماع، وأن وفداً على مستوى عالٍ سوف يحضر إلى القاهرة، برئاسة نائب رئيس الوزراء [سعدون حمادي].

 ولذلك فقد تأجل الاجتماع حتى الساعة السابعة مساءً، حيث وصل سعدون حمادي والوفد المرافق له، وتم عقد الاجتماع مباشرة، ووقف سعدون حمادي يتحدث أمام المجتمعين عن حقوق العراق في الكويت، وعن تصرفات حكامه بخصوص عدم الالتزام بحصص الإنتاج، وسرقة نفط العراق من حقل الرميلة الجنوبي، وزحف الحدود الكويتية إبان الحرب مع إيران.
وفي الوقت الذي كان سعدون حمادي يتحدث أمام وزراء الخارجية العرب، وصل عزت الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة إلى جدة، بناء على اتفاق جرى بين الملك فهد وصدام حسين، إثر مكالمة هاتفية جرت صباح 2 آب، ليشرح للملك فهد الدوافع التي أدت إلى إقدام العراق على غزو الكويت من جهة، وليطمئن الملك بأن العراق لا يضمر للسعودية شراً.
 وقد أوضح عزت الدوري للملك أن الكويت هي جزء لا يتجزأ من العراق، وقد تمت إعادة الفرع إلى الأصل، مما أثار استياء الملك فهد الذي أجابه قائلاً: {إذا كان الأمر كذلك فما الفائدة من الحديث إذا؟}.
وفي نفس اليوم اتصل الملك فهد بالسفير السعودي في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، طالباً منه الاتصال بالحكومة الأمريكية، وحثها على الوقوف بحزم تجاه العراق، وعاد الأمير إلى الاتصال بالملك فهد مبلغا إياه بأنه سمع من مصدر في البيت الأبيض بان قوة مدرعة عراقية تتجه نحو الحدود السعودية، وأن الحكومة الكويتية قد تقدمت بطلب للحكومة الأمريكية للعمل على إخراج القوات العراقية من الكويت.

 وسأل الملك فهد إن كان ينوي تقديم طلب مماثل للولايات المتحدة، ومن المعتقد أن الحكومة الأمريكية قد سربت خبر تقدم مدرعات عراقية نحو الحدود السعودية، عن طريق السفير بندر، لكي ترعب الملك، وتجعله يوافق على نزول القوات الأمريكية، والقوات الحليفة في الأراضي السعودية.

وقد أبلغ الأمير بندر الملك فهد أن اجتماعاً هاماً سوف يعقد هذا اليوم برئاسة الرئيس بوش، في مكتبه بالقصر الأبيض، لدراسة الخيارات المتاحة للولايات المتحدة للتصرف إزاء الغزو العراقي للكويت، و كان الملك فهد في تلك الساعات الرهيبة في أقصى حالات القلق، وكان تفكيره يدور حول الظروف المحيطة بالغزو، وفي ذهنه ستة أسئلة يريد الإجابة عليها وهي:

1ـ هل كان أعضاء مجلس التعاون العربي على علم بالغزو؟
2 ـ هل أجرى صدام حسين مشاورات معهم قبل الغزو؟
3ـ هل سيكتفي صدام باحتلال الكويت، أم سيحاول غزو السعودية؟
4 ـ كيف سيكون رد الفعل الأمريكي تجاه الغزو؟
5ـ ما هو موقف الدول العربية تجاه الغزو؟
6 ـ هل بإمكان الدول العربية إقناع العراق بالانسحاب من الكويت؟

 خامساً: خلية نحل في القصر الأبيض الأمريكي؟

كان الرئيس الأمريكي بوش على موعد مع مجلس الأمن القومي الأمريكي، في غرفة العمليات الخاصة المحصنه ضد التصنت، وكان هناك في انتظاره [ديك  تشيني] وزير الدفاع، و[جيمس واكنز] وزير الطاقة، و[روبرت كميت] مساعد وزير الخارجية، و[كولن باول]، رئيس أركان الجيش، و[نورمان شوارتزكوف]، قائد قوات التدخل السريع، و[ريتشارد دارمان] وزير الخزانة، [ووليم وببستر]، مدير وكالة المخابرات المركزية، والجنرال [ برنت سكوكروفت] مستشاره للأمن القومي.
 كانت الأفكار التي تدور في ذهن الرئيس بوش، والتي طرحها على الحاضرين تتلخص بما يلي:
1 ـ أن الولايات المتحدة يجب أن تلعب الدور الرئيسي في الأزمة.
2 ـ أن لا تفاوض، ولا أنصاف الحلول مع النظام العراقي.
3 ـ أن تسعى الولايات المتحدة لتعبئة الرأي العام الدولي ضد العراق.
وبعد أن فرغ الرئيس جورج بوش من حديثه مع الحاضرين، تحدث وزير الطاقة عن آثار عملية الغزو على سوق النفط، والمخاطر الناجمة عنه، ثم تلاه وزير الخزانة، الذي أقترح فرض حصار اقتصادي شامل على العراق. (7)

 ثم جاء دور العسكريين، وهو بيت القصيد في ذلك الاجتماع، حيث أقترح كولن باول توجيه ضربة جوية فعالة وحاسمة للعراق، وتطبيق خطة التدخل السريع والمسماة [1002 ـ 90] وضرورة تحشيد الولايات المتحدة، وحلفائها قوة كبيرة تستطيع دحر القوات العراقية، وتدمير آلته الحربية، والبنى التحتية للاقتصاد العراقي.

كما جرى النقاش حول ضرورة الحصول على موافقة السعودية على الحشد العسكري الأمريكي على أراضيها، وانتهى النقاش بالمقررات التالية:
1 ـ الاتصال بالملك فهد، والحصول على موافقته على حشد القوات في السعودية.
2 ـ العمل على إغلاق أنابيب النفط العراقي المارة عبر السعودية، وتركيا.

3ـ الطلب من السعودية، ودول الخليج تقديم الأموال اللازمة لهذا الحشد، وتكاليف الحرب.
ثم تحدث وزير الدفاع [ديك تشيني] عن الخطة المعدة للتدخل السريع،  [1002ـ90] موضحاً مراحل تنفيذ هذه الخطة، والتي تتلخص بما يلي:
1 ـ المرحلة الأولى:
وتقضي بالعمل بأسرع وقت على ردع القوات العراقية من محاولة غزو السعودية، وذلك بإرسال فرقة مدرعة، وعدد من حاملات الطائرات المزودة بصواريخ كروز، وتوماهوك، مع عشرة أسراب من الطائرات الحربية، وبالإمكان تأمين ذلك خلال شهر.
2 ـالمرحلة الثانية:
 وتقضي بإكمال التحشيد في السعودية، لكي يكون للولايات المتحدة وحلفائها  قوة ضاربة، لا تقل عن 250 ألف عسكر مجهزين بأحدث الأسلحة والمعدات، قبل المباشرة في تحرير الكويت.
3 ـ المرحلة الثالثة:
 توجيه ضربات جوية لكافة المرافق الحيوية للعراق، بدء من المطارات العسكرية، والاتصالات، والرادارات، ومراكز تجمع القوات العراقية، وآلياته العسكرية، وانتهاءً بكل المرافق الحيوية، ومنشاته الاقتصادية، وطرق مواصلاته، وجسوره.
4 ـ المرحلة الرابعة:
 الهجوم العسكري البري لتمزيق القوات العسكرية العراقية، وإخراجها من الكويت، عن طريق القيام بالتفاف خلف القوات العراقية، من الأراضي السعودية، والدخول نحو الأراضي العراقية، لقطع الاتصال مع القوات العراقية في الكويت.(8)
أسرع الرئيس بوش، بعد الانتهاء من الاجتماع، إلى طلب الملك فهد على الهاتف، لأخذ موافقته على نزول القوات الأمريكية والحليفة في السعودية.
كان الملك فهد متردداً في جوابه، وقد تملكه الخوف من ردة فعل صدام حسين، وما يمكن أن يسبب نزول قوات أجنبية في الأراضي السعودية من مشاكل خطيرة مع العالم الإسلامي، وقد عرض عليه الرئيس بوش أن تكون القوات الأمريكية والحليفة بغطاء عربي، وذلك بدعوة الدول العربية للمساهمة بقواتها في الحشد، بحجة تحرير الكويت.

وفي تلك الأثناء كانت المحاولات تجري على قدم وساق، من قبل الملك حسين، والرئيس المصري حسني مبارك، المجتمعان في الإسكندرية، لعقد مؤتمر القمة العربية، والعمل على إقناع العراق بالانسحاب من الكويت، وحل المشاكل العالقة بين البلدين بالطرق السلمية.

لكن الرئيس الأمريكي بوش، سارع للاتصال بالرئيس  المصري حسني مبارك وأبلغه أن الخيار الوحيد لإخراج العراق من الكويت، هو الخيار العسكري، وأن وقت القمم قد فات، أضاف بوش أن غزو الكويت عمل عدواني لا يمكن قبوله من قبل الولايات المتحدة، ونعتبره تهديد مباشراً لأمن الولايات المتحدة، وأن الكونجرس، والرأي العام الأمريكي، ووسائل الإعلام يطالبوننا بالتصرف عسكرياً، وليس بقرارات الإدانة، وقد أعلنا موقفنا من العدوان رسمياً، ونحن ثابتون على موقفنا من صدام حسين الذي تحدى الولايات المتحدة، ونحن بدورنا قبلنا التحدي، وأن الولايات المتحدة سوف تتصرف وحدها، بصرف النظر عن قبول غيرها التنسيق معها، أم لا.

كما اتصل الرئيس بوش بالملك حسين، وأبلغه بقرار الولايات المتحدة، بالتدخل العسكري، وكان بوش يفتعل أقصى حالات الغضب، وقد حاول الملك حسين تهدئته، وطلب منه إعطاء فرصة للجهد العربي، ولو لمدة 48 ساعة، لكن بوش كان مصراً على دفع الأمور نحو المواجهة بكل تأكيد.

لقد وقع صدام في الفخ الذي نصبته له إدارة بوش في الكويت، وحلت الفرصة الذهبية لتدمير القوة العسكرية للعراق، وتهديم بنيته الاقتصادية، تدميراً شاملاً.

وفي لقاء الملك حسين والرئيس مبارك في الإسكندرية، سأل الملك حسين الرئيس مبارك إن كان قد استطاع التحدث مع صدام حسين، فكان جواب مبارك أنه لا يود التحدث معه لأنه خدعه حين قال له إنه لن يهاجم الكويت، مما سبب له إحراجاً كبيراً له وصل إلى حد اتهامه بخدع حكام الكويت.

وفي النهاية أقترح الملك حسين على الرئيس مبارك أن يتوجه بنفسه إلى بغداد، ويتحادث مع صدام حسين، بينما كان رأي مبارك عقد قمة مصغرة في جدة، شرط موافقة صدام حسين على الانسحاب، وعودة الشرعية.
 وفي المساء اتصل مبارك بصدام حسين، وابلغه أنه اتفق والملك حسين، على عقد قمة مصغرة في جدة، وأن الملك حسين سيتوجه إلى بغداد ليشرح لكم أهداف  وشروط هذه القمة.
 لكن مبارك عاد وأبلغ الملك حسين، بعد المكالمة، بان الحكومة المصرية سوف تصدر بياناً تطالب فيه العراق بالانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية، وقد رجاه الملك حسين تأجيل ذلك إلى ما بعد القمة المنوي عقدها في جدة، لئلا تؤدي إلى مضاعفات تفشل المساعي المبذولة لحل الأزمة، وكان من الواضح أن الرئيس مبارك لا يستطيع مخالفة رأي الولايات المتحدة، التي كانت تملي على حلفائها الحكام العرب ما تريد.


91

صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة السادسة
حامد الحمداني                                                            29/1/2018
                                                                                                                                                 
الفصل الثاني
صدام يغزو الكويت

أولاً: فشل مؤتمر جدة.
ثانياً: صدام يصدر الأمر بغزو الكويت.
ثالثاً: الفخ الأمريكي يصطاد صدام.
رابعاً: سوريا تدعو لعقد مؤتمر قمة عربي.
خامساً: خلية نحل في القصر الأبيض الأمريكي؟

أولاً: فشل مؤتمر جدة
في خضم تصاعد الأزمة بين الطرفين العراقي والكويتي، وفي ظل الحشود العسكرية العراقية، وتهديدات صدام حسين، وصل إلى جدة كل من الشيخ سعد العبد الله الصباح، ولي العهد الكويتي، وعزت إبراهيم الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي، في 31 تموز 1990، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن اللقاء الذي سيتم بين الطرفين هو لقاء الساعات الأخيرة، قبل وقوع الانفجار.

 فقد وصل المسؤولان، العراقي والكويتي، ولدى كل منهما تعليمات قيادته، بعدم إظهار أية مرونة أو تنازل، أو تراجع عن المواقف المعلنة، الكويت مدفوعة ومدعومة بقرار وجهد أمريكي بتحدي حاكم العراق، ورفض جميع مطالبه، لكي تدفعه الولايات المتحدة نحو الإقدام على مغامرته ضد الكويت، ولأجل إكمال بقية السيناريو الذي خططت له، لتوجيه الضربة القاضية للعراق.

والتقى الشيخ سعد وعزت الدوري في نفس اليوم الذي وصلا فيه بعد استراحة قصيرة، وكان من المقرر أن يكون اجتماعهما برعاية الملك فهد، غير أن الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة عليه حال دون ذلك، فقد عملت الولايات المتحدة بكل جهدها على إفشال ذلك اللقاء  قبل أن يبدأ.
وهكذا بدأ الاجتماع بمفردهما، حيث جرى نقاش حول مختلف جوانب الأزمة بين البلدين حتى ظهر ذلك اليوم، وقرر الطرفان تأجيل الاجتماع إلى ما بعد العشاء، حيث كانا مدعوين على مائدة الملك فهد.
وعلى مائدة العشاء، سأل الملك فهد عن سير المحادثات، وتمنى لهما الوصول إلى نتائج طيبة تنهي الأزمة، دون أن يتدخل في تفاصيل ما دار في الاجتماع.

عاد الطرفان بعد العشاء إلى الاجتماع مرة أخرى لمواصلة البحث حول القضايا المختلف عليها، دون أن تظهر أي علامة على اقتراب الطرفين من أي اتفاق. فالطرف الكويتي، عملاً بتوجيهات الأمير، رفض تقديم أي تنازل للعراق، والوفد العراقي أصر على جميع مطالبه، عملاً بتوجيهات صدام حسين، الذي كان قد هيأ كل شيء لغزو الكويت حال فشل مؤتمر جدة.
أنهى الطرفان محادثاتهما ليلاً، من دون أن يتوصلا إلى أي اتفاق حول أي من القضايا التي تم بحثها، وتقرر عقد لقاء آخر في بغداد، كما هو متفق عليه من قبل، وعاد عزت الدوري  في اليوم التالي، الأول من آب إلى بغداد، حيث أجتمع  بصدام حسين حال وصوله، وقدم له تقريراً عن كل ما دار في مؤتمر جدة.

في تلك الساعات الحرجة، كانت القوات العراقية قد صدرت لها الأوامر أن تكون على أهبة الاستعداد للتحرك، عند وصول الإشارة إليها، ولم يكن معروفاً إن كان صدام حسين ينوي احتلال الكويت كلها، أم أنه ينوي احتلال جزيرتي بوربا، وروبيان، وحقل الرميلة الجنوبي المتنازع عليه. لكن صدام حسين كان قد أتخذ قراره بغزو الكويت واحتلالها بصورة كاملة، فقد كان في تصوره أنه باحتلاله الكامل للكويت يحقق جملة أهداف في أن واحد، والتي تتلخص بالأتي:
1ـ أن احتلال الكويت سيجعل للعـراق إطـلالة واسعة على رأس الخليج، مما  يمكنه من تصدير نفطه بمرونة واسعة.
2ـ أن العراق سيضيف إنتاج الكويت البالغ مليون وثلاثمائة ألف برميل يومياً إلى حصته البالغة ثلاثة ملايين ونصف برميل يومياً، وبذلك يصبح العراق ثاني دولة منتجة للنفط في الخليج، ويستحوذ على ثلث الإنتاج.
3 ـ الاستيلاء على احتياطات الكويت المالية التي تقدر ما بين 150 إلى 200 مليار دولار.
4 ـ التخلص من الديون الكويتية، البالغة 30 مليار دولار.
5- إن احتلال كامل الأراضي الكويتية، واعتقال أو تصفية العائلة
الحاكمة، يمكن أن يمنع إنزال قوات أمريكية فيها، وإمكانية طلب مساعدة الولايات المتحدة، من قبل العائلة الحاكمة.

 هذه هي الأهداف والأفكار التي كانت  تدور في مخيلة صدام  حسين وهو يعد العدة لغزو الكويت، دون أن يحسب حساباً دقيقاً للنتائج المترتبة على مغامرته، في ظل التطورات الحاصلة في العالم، بعد تفكك المعسكر الاشتراكي، وبداية انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم، وتسلمها قيادة العالم دون منازع، وأنها لا يمكن أن تسمح لصدام حسين أن يستحوذ على ثلث نفط الخليج.
لقد أكد الرئيس الأمريكي السابق [جيمي كارتر] ذلك، أمام الكونجرس في 23 كانون الثاني 1980، من خلال ما سمي [بمبدأ كارتر]، والذي ورد فيه ما نصه: (1)
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى، للحصول على مركز سيطرة في منطقة الخليج، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية}.

 أما الرئيس[رونالد ريكان] الذي تولى الرئاسة بعد كارتر، فقد وقف أمام الكونجرس في 29 أيار1989 يخطب موجهاً كلامه للشعب الأمريكي قائلاً:
{إنني أود أن أتحدث إليكم اليوم عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة  وشعبها، وهي مصالح تتعرض للخطر في منطقة الخليج. إن الولايات المتحدة، وهي القوة الأساسية في العالم، وكذلك الدول المتحالفة معها، قد أدركت مدى ضعفهم، عندما يصبح اقتصادهم، وشعوبهم رهينة للأنظمة المنتجة والمصدرة للنفط في الشرق الأوسط، وإن الأزمة التي عانينا منها إبان حرب تشرين 1973 قد تتكرر مرة أخرى لو تمكنت أي دولة من فرض هيمنتها على الدول العربية الصديقة في الخليج، وإنني مصمم على أن الاقتصاد الأمريكي لن يصبح مرة أخرى رهينة لتلك الأوضاع، ولن نعود لأيام الصفوف الطويلة، المنتظرة للوقود، ولا للتضخم، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والإهانة الدولية، وسجلوا جيداً هذه النقطة}.(2)

أما الرئيس [جورج بوش] فقد سارع إلى إنشاء قوة للتدخل السريع، تتمركز في الولايات المتحدة، ولكنها تبقى على أهبة الاستعداد للانتقال جواً وبحراً إلى أي منطقة في العالم في حالة حدوث أي طارئ، وزاد بوش في اندفاعه للتخطيط لدفع العراق، وتوريطه في مغامرة الكويت، لتوجيه الضربة القاضية إليه، وتحطيم قدراته العسكرية، والاقتصادية، وتصفية أسلحة الدمار الشامل، التي امتلكها خلال حربه مع إيران.

وفي تلك الساعات الحرجة من اليوم الأخير من شهر تموز، واليوم الأول من شهر آب، كانت الولايات المتحدة، وأجهزة مخابراتها العسكرية، وأقمارها التجسسية، تراقب عن كثب أدق تفاصيل التحركات العراقية، ودرجة استعداداتها، وكانت تقارير المخابرات المركزية تشير بوضوح إلى أن الخطط والتحركات العراقية تستهدف احتلال الكويت، احتلالاً كاملاً.
كما أشارت أخر صور الأقمار التجسسية الأمريكية إلى أن الدبابات العراقية قد تقدمت إلى أقرب منطقة من الحدود بأعداد كبيرة، حيث كانت قد رصدت المسافات بين كل دبابة وأخرى ما بين 50 ـ 75 متراً، على طول الحدود، وكانت تقف وراءها المدفعية، والمدرعات، وكانت وضعية القوات العراقية تشير إلى أن قرار الهجوم قد أتخذ، وكذلك ساعة الصفر.
 ورغم كل ذلك، لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، ولم ترسل أي تحذير لحاكم العراق، بل على العكس من ذلك، كانت تنتظر بفارغ الصبر إقدامه على تنفيذ مغامرته ضد الكويت، وكل ما فعلته هو ترتيب الأوضاع داخل الكويت، لحماية العائلة الحاكمة.

فقد أبلغ مسؤول المخابرات الأمريكية مدير الأمن العام الكويتي في 31 تموز بما يلي:
 { نحن لا نريد أن نثير القلق في نفس أحد  بدون داعٍ، ولكننا نعتقد أن خطة الطوارئ الموضوعة سابقاً بشأن سلامة الأمير، والعائلة الحاكمة، يجب أن توضع موضع التنفيذ من باب الاحتياط}.
وعاد مسؤول المخابرات الأمريكي بعد ساعتين فأبلغ مدير الأمن العام
الكويتي بأن على الأمير أن لا يتواجد في المدينة هذه الليلة، وعليه أن يخرج من العاصمة بأسرع ما يمكن، إلى أحد بيوته القريبة من الحدود السعودية. (3)
 وفي مساء يوم الأول من آب، طلب المسؤول المخابراتي الأمريكي من جميع أفراد العائلة الحاكمة مغادرة مدينه الكويت، وبدء سريان خطة الطوارئ المعدة سلفاً، وعليه جرى تحرك أفراد العائلة الحاكمة نحو منطقة الخرجي السعودية، بطريقة لا تلفت النظر، وكان يبدو على ملامحهم الذهول الشديد.(4)

ثانياً: صدام يصدر الأمر بغزو الكويت

في الساعات الأولى من فجر الثاني من آب 1990، بدأت جحافل القوات العراقية بالتحرك نحو مدينة الكويت، فيما حلقت الطائرات العراقية فوق المدينة، وأنزلت القوات المظلية في مطارها واحتلته، و بدأت الانفجارات يُسمع دويها في مختلف أنحاء المدينة، وركزت الطائرات العراقية هجماتها على المراكز الحساسة فيها، ولم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى استطاعت القوات العراقية من الوصول إلى العاصمة، وإحكام سيطرتها عليها، دون مقاومة تذكر من الجيش الكويتي.

 إلا أن العائلة الحاكمة كانت قد غادرت الكويت إلى منطقة الخرجي السعودية قبل وصول القوات العراقية إليها، تطبيقاً لخطة الطوارئ التي وضعتها المخابرات المركزية الأمريكية، وسارع أمير الكويت إلى طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية لطرد القوات العراقية من الكويت، وإعادة الشرعية للبلاد.

أما النظام العراقي فقد سارع في صباح ذلك اليوم إلى الإعلان عن وقوع انقلاب عسكري في الكويت من قبل عدد من الضباط الشبان، على عائلة الصباح الحاكمة!!، وأعلن العراق، عن طريق الإذاعة والتلفزيون، أن قادة الانقلاب قد طلبوا المساعدة من العراق لمنع أي تدخل أجنبي، وقد تم تلبية الطلب، وإرسال قوات عراقية إلى الكويت، وأن هذه القوات سوف تبقى أسبوعاً أو بضعة أسابيع، ريثما يستقر الوضع،  ثم تنسحب من الكويت.
كما أعلنت حكومة العراق عن طريق الإذاعة والتلفزيون غلق الأجواء العراقية أمام الطيران المدني، وإغلاق الحدود، ومنع السفر إلى خارج العراق، تحسباً لكل طارئ. (5)

وفي حقيقة الأمر كان ادعاء حكام العراق على درجة كبيرة من السخف والغباء، فالقوات العراقية كانت قد جرى حشدها على الحدود منذُ مدة، وكانت تهديدات نظام صدام تتوالى كل يوم، وإن كل ما قيل عن وقوع انقلاب هو محض هراء، ولا وجود لمثل أولئك الضباط الانقلابيين، ولم تنطلِ تلك الأكاذيب على أحد، لا في العراق، ولا في الكويت، ولا في أي مكان من العالم .

لم يصدر أي رد فعل من جانب السعودية ودول الخليج في الأيام الأولى من الغزو،  فقد أصابهم الذهول، وتملكهم الخوف من أن يقدم صدام حسين على مواصلة غزوه لمنطقة الخليج بأسرها، وكانت أنظارهم في تلك الساعات العصيبة متجهة صوب الولايات المتحدة، منتظرين بتلهف وقلق رد الفعل الأمريكي على الغزو.

حاول الملك فهد الاتصال بصدام حسين عن طريق الهاتف، إلا انه أُبلغ من قبل مستشاره [احمد حسين] بان صدام غير موجود، وانه سوف يبلغه بان الملك فهد قد طلبه على الهاتف. وعاد الملك فهد واتصل بالملك الأردني حسين، الذي أرتبط بعلاقات وثيقة بصدام حسين، أيقضه من نومه، وبدأ يحكي له بما سمع عن اجتياح القوات العراقية للكويت، وطلب منه الاتصال بصدام  والاستفسار منه عما حدث.

 وبالفعل اتصل الملك حسين ببغداد، ولكن صدام لم يكن على الخط، بل كان وزير الخارجية طارق عزيز، وسأله الملك عن الذي جرى، فكان جواب طارق عزيز، بأنه مع الأسف لم يكن هناك طريقاً آخر !!، ووعد طارق عزيز الملك حسين بأن الرئيس صدام حسين سوف يتصل به، ويشرح له تفاصيل ما جرى.

أما الرئيس  المصري حسني مبارك، فقد أوقظ من نومه في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، بناء على إلحاح السفير الكويتي، وأٌبلغ بأن القوات العراقية قد دخلت قصر الأمير، واستولت على جميع المراكز الحساسة في العاصمة الكويتية، وجميع الوزارات، وقد تملكت الدهشة والقلق الرئيس المصري مبارك، وحاول الاتصال بصدام حسين، لكنه لم يكن في مقره، بل في مقر قيادة العمليات العسكرية.

 ثالثاً: الفخ الأمريكي يصطاد صدام:
أما على الطرف الأمريكي فلم يكن الغزو مفاجئاً لهم، بل كان الأمريكيون ينتظرون وقوعه بفارغ الصبر. كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصراً حسب توقيت واشنطن عندما بدأ الجيش العراقي اجتياحه للكويت، وكان الرئيس بوش يتابع عن طريق الصور التي تنقلها الأقمار الصناعية كل تحركات القوات العراقية ساعة بساعة، كما سارع إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي الأمريكي، وكبار مستشاريه السياسيين والعسكريين، وضم الاجتماع كل من:
1ـ  الجنرال سكوكورفت، مستشاره للأمن القومي.
2 ـ ديك تشيني ـ وزير الدفاع.
3 ـ جون سنونوـ رئيس هيئة مستشاري البت الأبيض.
4 ـ الجنرال دافيد كيرما ـ نائب سنونو.
5ـ ـ الجنرال بول وولفتزـ مدير التقديرات الإستراتيجية في وزارة الدفاع.
6 ـ رويرت كميت ـ مساعد وزير الخارجية، بالنظر لغياب الوزير في زيارة رسمية لموسكو.
 7ـ وليم وبستر ـ مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
8 ـ رتشارد كير ـ نائب رئيس وكالة المخابرات المركزية.
9ـ بويدن جراي ـ المستشار القانوني للرئيس بوش، وأجرى المجتمعون.                                   برئاسة بوش في القصر الأبيض تقيماً للوضع في منطقة الخليج،  والخطوات التي ستتخذها الولايات المتحدة ضد العراق، وصدر في ختام الاجتماع بياناً يتضمن القرارات التالية:
1ـ إن الرئيس بوش يدين بشدة الغزو العراقي للكويت، ويطالب بسحب القوات العراقية، وبدون قيد أو شرط، ولا يقبل بديلاً عن ذلك بشيء.
2 ـ تقرر إرسال قوة من الطيران الحربي إلى السعودية فوراً، وتضم 25طائرة من طراز F15.
3ـ  تقرر تجميد كل الأموال العراقية، والكويتية في كافة البنوك.
4ـ  تقرر إنشاء لجنة طوارئ دائمة لمتابعة الأزمة تضم كل من  كميت، وكيرما، و ولفوتتز، وكير، وكولن باول، رئيس أركان الجيش الأمريكي.
5ـ  إنشاء لجنة طوارئ تعمل تحت رئاسة مستشار الأمن القومي ـ برنت سكوكرفت.
وفي ختام الاجتماع طلب الرئيس بوش استدعاء الجنرال ـ شوارتزكوف  قائد قوات التدخل السريع إلى واشنطن لينضم إلى الاجتماع في صباح اليوم التالي، في مكتب الرئيس بوش، مع جلب خطط العملية المعدة للتدخل السريع {1002ـ 90 } في منطقة الخليج . (6)



92
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الخامسة
حامد الحمداني                                                                27/01/2018

عاشراً:جهود عربية لاحتواء الأزمة العراقية الكويتية:
بعد تصاعد الأزمة بين العراق والكويت، ووصولها إلى مرحلة الانفجار، بادر عدد من القادة العرب بالتحرك لاحتواء الأزمة، فقد تحركت المملكة العربية السعودية، بشخص الملك فهد، حيث أوفد وزير خارجيته [سعود الفيصل] إلى بغداد في 31 تموز 1990، حاملاً رسالة إلى صدام حسين عارضاً فيها إجراء محادثات على مستوى عالٍ بين الطرفين في جدة وتحت رعايته المباشرة من أجل التوصل إلى حل للأزمة، كما طلب الملك فهد من صدام حسين أن يعمل جهده لتهدئة الأوضاع،  وتهيئه الجو المناسب والهادئ لحل الخلافات بين البلدين الشقيقين.

 وبالفعل تم الاتفاق بين الأمير سعود الفيصل وصدام حسين على لقاء جدة، وجرى الاتفاق على أن يرأس الوفد العراقي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة [عزت الدوري] فيما يرأس الوفد الكويتي، ولي العهد، ورئيس الوزراء الشيخ [سعد العبد الله الصباح]، وفي نفس الوقت، وصل وزير الدولة الكويتي [عبد الرحمن العوضي] موفدأ من الحكومة الكويتية، وأجرى مع المسؤولين العراقيين محادثات مطولة حول الأزمة وسبل حلها.

كما تحرك الملك الأردني حسين باتجاه العمل لمعالجة الأزمة، فغادر عمان إلى الإسكندرية، للقاء الرئيس مبارك، والتباحث معه حول الوضع الخطر على الحدود العراقية الكويتية، والذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة، وجرى البحث في وسائل وسبل حل الخلافات العراقية الكويتية، وتم الاتفاق بينهما على أن يقوم الرئيس مبارك بزيارة بغداد، ولقاء صدام حسين.
وفي 24 تموز وصل الرئيس مبارك إلى بغداد، والتقى على الفور بصدام حسين، وأجرى معه نقاشاً مطولاً حول الأوضاع الملتهبة على الحدود العراقية الكويتية، وضرورة تهدئتها، والعمل على حل المشاكل بين البلدين بالطرق السلمية، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة بين الأشقاء.

 كان اللقاء الذي جرى بين الرئيسين مغلقاً، ولذلك فقد فسّر كل طرف ما دار في ذلك اللقاء، بعد وقوع الغزو، كما يشاء. فقد ذكر الرئيس مبارك أن صدام حسين كان قد وعده بعدم استخدام القوة، فيما قال صدام حسين، بأنه كان قد قال لمبارك بأنه سوف لن يستخدم القوة، انتظاراً لما قد تسفر عنه مباحثات جدة.
كان صدام حسين خلال لقائه مع مبارك حانقاً جداً على أمير الكويت وحكومته، وفي الوقت نفسه حاول صدام أن يكسب مبارك إلى جانبه قائلاً له: {إن الشيخ جابر يملك ثروة مقدارها 17 بليون دولار، تصور يا أبا علاء ـ يقصد مبارك ـ لو كان هذا المبلغ تحت تصرف الشعب المصري فكم من الأزمات الخانقة يمكن حلها ؟}.

وعندما أنتهي اللقاء بينهما قال مبارك لصدام، لابد أن أذهب إلى الكويت، لكي أطمئن الحكومة الكويتية. لكن صدام حسين رد عليه قائلاً: { بالله عليك يا أبا علاء لا تفعل ذلك، فهؤلاء الناس لا يعرفون الحياء}.

غادر مبارك بغداد متوجهاً إلى الكويت، والتقى أميرها الشيخ جابر، وولي عهده الشيخ سعد، وأبلغهما بأن العراق لا ينوي استخدام القوة ضد الكويت، ورجاهما إتمام اللقاء في جدة، والعمل على حل النزاع، بروح من الأخوة والتفاهم،  ثم غادر مبارك إلى جدة، والتقى بالملك فهد، وتحدث معه حول لقائه بصدام حسين، وأكد على ضرورة العمل على إنجاح مؤتمر جدة، وقد رد عليه الملك فهد بأن الأمير سعود الفيصل قد طمأنه بأن صدام حسين لا ينوي استخدام القوة، غير أن استمرار تحركات القوات العراقية يثير الشكوك والقلق حول نوايا العراق.

وعندما بلغ الولايات المتحدة أمر المؤتمر المزمع عقده في جدة بين العراق والكويت، وتحت رعاية الملك فهد لتهدئة الأوضاع، وحل النزاع، سارعت بالطلب من أمير الكويت بأن يكون موقف حكومته صلباً تجاه المطالب العراقية، وأن يرفض تقديم أي تنازلات لصدام حسين، ولا يخضع لتهديداته، مؤكدة بأن باستطاعة الحكومة الكويتية الاعتماد على حماية الولايات المتحدة.(17)

كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإفشال لقاء جدة، قبل انعقاده، وإيصال الأزمة إلى مرحلة الانفجار، فبدون إقدام صدام حسين على مغامرته بغزو الكويت، لا تجد المبرر لضرب العراق.

وفي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تحث الكويتيين على عدم تقديم أي تنازلات لصدام حسين، وتدعوها للوقوف بصلابة أمام تهديداته، فإنها أوعزت إلى سفيرتها في بغداد[غريل كلاسبي] في 24 تموز أن تطلب مقابلة صدام حسين، بحجة إبلاغه بقلق الولايات المتحدة من تطور الأحداث بين العراق والكويت.
 إلا أن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد كانت الولايات المتحدة تنتظر بفارغ الصبر أن يقدم صدام حسين على مغامرته بغزو الكويت، وكان الهدف من مقابلة السفيرة لصدام هو إبلاغه بأن الولايات المتحدة لا تنوي التدخل في الخلافات العربية، وأرادت بذلك أن توصل الإشارة لصدام بأنه حر اليدين في التعامل مع الكويت.
حادي عشر: السفيرة الأمريكية كلاسبي تلتقي وصدام
طلبت السفيرة الأمريكية [كلاسبي] المقابلة، وتمت الموافقة عليها في اليوم التالي، 25 تموز1990، وكان لدى صدام حسين شيئاً يريد أن يقوله للرئيس الأمريكي [جورج بوش]، قبل إقدامه على غزو الكويت،  فقد أراد أن يبلغ الرئيس بوش بأن العراق لا ينوي أبداً التعرض للمصالح الأمريكية في الخليج، وبصورة خاصة مصالحها النفطية كي يضمن حيادها!!.
وتمت المقابلة في 25 تموز، وبدأ صدام حسين الحديث مع السفيرة، مستعرضاً تطور العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، منذُ أن قطعها العراق إثر حرب 5 حزيران عام 1967، وحتى إعادتها عام 1980، قبل قيامه بالعدوان على إيران بحوالي الشهرين، وكان صدام حسين خلال حديثه الذي أستغرق 45 دقيقة يعمل جاهداً لتوضيح موقف العراق من الولايات المتحدة، وضرورة تفهم بعضهم للبعض الأخر، وداعياً إلى إقامة علاقات جديدة من التعاون، والثقة المتبادلة،  والمصالح المشتركة بين البلدين.

كما تحدث صدام حسين عن حربه ضد إيران، مذكراً الولايات المتحدة أن النظام العراقي هو الذي وقف بوجه المطامع الإيرانية، ولولا العراق لما استطاعت الولايات المتحدة إيقاف اندفاع حكام إيران نحو الخليج !!، فالولايات المتحدة لا تستطيع تقديم عشرة آلاف قتيل، في معركة واحدة !!، لكن العراق قدم أضعاف مضاعفة لهذا الرقم لحماية المصالح الأمريكية في الخليج.

 كان لسان حال صدام حسين يقول للسفيرة، ألم نحارب 8 سنوات نيابة عنكم، وخدمة لمصالحكم؟ مضحين بأرواح نصف مليون مواطن عراقي، ذلك أن قيمة الإنسان لدى هكذا دكتاتور لا تساوي شيئاً.

وبعد استعراض العلاقة الأمريكية العراقية، أنتقل صدام حسين في حديثه مع السفيرة إلى الوضع الاقتصادي في العراق، بعد حربه مع إيران قائلاً:
{إن العراق يواجه اليوم حرباً اقتصادية، وأن الكويت والإمارات هما أدوات هذه الحرب، فالدولتان تجاوزتا حصص الإنتاج، وأغرقتا الأسواق العالمية بالنفط، بحيث سبب ذلك انهيارا في أسعاره، وبالتالي خسر العراق ما يزيد على 7 بليون دولار سنوياً، في وقت هو أحوج ما يكون لها لإعادة إعمار ما خربته الحرب، والنهوض بمشاريع التنمية، التي توقفت خلال الحرب، وأخيراً الديون التي تراكمت على العراق، وأوجبت أن عليه أن يدفع فوائد لتلك الديون بما يتجاوز 7 مليارات دولار سنوياً، وإن العراق لا يمكن أن يرضى بهذا الوضع، إنهم يهدفون إلى إذلال شعب العراق}.
 لقد تناسى صدام أنه قد أذل شعب العراق منذ جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، وجعل من نفسه دكتاتوراً ليس له مثيل في عالم اليوم، وأشعل الحروب، وسبب لشعبه من المآسي والويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها.
وانتقل صدام إلى مسألة الحدود، موضحاً للسفيرة أن الكويت استغلت انشغال العراق في حربه مع إيران، وزحّفت حدودها نحو العراق، وقامت باستغلال حقل الرميلة الجنوبي، وسرقت من النفط ما قيمته 2400 مليون دولار.
 وأردف صدام قائلاً:{ إن حقوقنا سوف نأخذها حتماً، سواء غداً، أو بعد شهر، أو بعد عدة أشهر، فنحن لن نتنازل عن أي من حقوقنا}.

وأنتقل صدام بعد ذلك إلى محاولة تطمين الولايات المتحدة على مصالحها النفطية في الخليج قائلاً:{نحن نفهم تماماً حرص الولايات المتحدة على استمرار تدفق النفط، وحرصها على علاقات الصداقة في المنطقة، وأن تتسع مساحة المصالح المشتركة في المجالات المختلفة، ولكننا لا نفهم محاولات تشجيع البعض لكي يلحق الضرر بنا}.

ثم تحدث صدام بغرور كبير عن احتمالات المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة في المنطقة قائلاً:{ نحن نعرف أنكم دولة عظمى، ونحن دولة صغيرة، وأنتم قادرون على إيذائنا، غير أننا قادرون أيضاً على إيذائكم، على الرغم من كوننا دولة صغيرة، ونحن ندرك أنكم قادرون على جلب الطائرات، والصواريخ لضربنا، ولكننا سوف نستخف بكل هذا إذا شعرنا أنكم تريدون إلحاق الأذى بنا، فالموت أفضل لنا من الذل}. وأخيراً أختتم صدام حديثه بتوجيه التحية إلى الرئيس بوش، راجياً السفيرة أن ُتطّلع الرئيس على نص حديثه معها شخصياً.

وبعد أن انتهي صدام من حديثه، جاء دور السفيرة كلاسبي، التي شكرت بادئ الأمر صدام على حديثه معها، وأعربت عن حرص الولايات المتحدة على صداقتها مع العراق، وتطوير العلاقات معه في مختلف المجالات. ثم أضافت قائلة: { سيدي الرئيس أود أن أعلق على نقطتين أساسيتين وردت في حديثكم، النقطة الأولى حول موضوع الحرب الاقتصادية التي ذكرتموها، وأود هنا أن أقول باسم حكومتي، أن الرئيس بوش لا يرمي إلى الحرب الاقتصادية ضد العراق، وإنما يود أن تكون هناك علاقات أفضل بين البلدين، لكن الولايات المتحدة لا تريد أسعاراً عالية للنفط، وتود أن يكون هناك استقراراً لسوق النفط، فإن أي اضطراب لسوق النفط، وللأسعار، يؤثران تأثيراً بالغاً، ليس على اقتصادنا فحسب، بل اقتصاد جميع الدول الأخرى}. (18)

 وقد رد صدام حسين قائلاً: { أن سعر 25 دولار للبرميل ليس غالياً}.
 ثم انتقلت السفيرة إلى النقطة الثانية، والتي هي بيت القصيد في تلك المقابلة، فقد تحدثت عن الخلافات العربية- العربية، قائلة: {إن التوجيهات الموجهة إلينا، هي إننا لا ينبغي أن نبدي رأياً حول القضية، فلا علاقة للولايات المتحدة بها، ونحن نتمنى حل المشاكل بينكم بأي طريقة مناسبة، فنحن لا ننوي التدخل في هذه المشاكل}.(19)
لقد أرادت السفيرة أن تقول لصدام حسين، أنه حر في تصرفاته إزاء الأزمة مع الكويت، وفهم صدام أن الضوء الأخضر قد فتح أمامه ليقوم بمغامرته، التي كانت الولايات المتحدة تنتظرها بفارغ الصبر.

 وفي الوقت نفسه ضغطت الولايات المتحدة على حكومة الكويت لكي لا تقدم أي تنازلات للعراق مهما كانت خلال محادثات مؤتمر جدة المنوي عقده في 31 تموز، ومما يؤكد ذلك الموقف هوالخطاب الذي تم العثور عليه في مكتب أمير الكويت، بعد الغزو، والموجه من الأمير إلى الشيخ سعد، رئيس الوفد الكويتي المفاوض في مؤتمر جدة، والذي جاء فيه:

{نحن نحضر الاجتماع بنفس شروطنا المتفق عليها، والمهم بالنسبة لنا مصالحنا الوطنية، ومهما ستسمعون من السعوديين والعراقيين، عن الأخوة، والتضامن العربي، لا تصغوا إليه، فكل واحد منهم له مصالحه، السعوديين يريدون إضعافنا، واستغلال تنازلنا للعراقيين، لكي نتنازل لهم مستقبلاً عن المنطقة المقصودة، والعراقيون يريدون تعويض خسائر حربهم على حسابنا، وهذا لا يحصل، ولا ذاك،  وهذا رأي أصدقائنا في واشنطن ولندن. أصروا على موقفنا في مباحثاتكم، فنحن أقوى مما يتصورون}. (20)

 ومعلوم أن الشيخ جابر ما كان ليجرأ على تحدي العراق بهذا الشكل لولا الضغط والدعم الأمريكي!، فالكويت أضعف من أن تقف أمام جيش العراق حتى ولو ليوم واحد، لكن التوجيهات الأمريكية هي التي فرضت ذلك، وقد وضعت المخابرات الأمريكية خطة الحماية لحكام الكويت لتخرجهم سالمين، عند أول تحرك للقوات العراقية، لكي لا يقعوا بأيديهم، ولتكن ذريعة بيد الولايات المتحدة لإعادة الشرعية للبلاد.


93
صدام والفخ الامريكي
غزو الكويت، وحرب الخليج الثانية
الحلقة الرابعة
حامد الحمداني                                                              25/01/2018

سابعاً: تصاعد التوتر بين العراق والكويت:
 بدأت العلاقات بين العراق والكويت تأخذ مجرى خطيراً، فالكويت تصّر على سياستها النفطية، وزيادة إنتاجها، متخطية حصتها المقررة بموجب قرارات الأوبك والعراق يطالبها بالالتزام، والعمل على رفع الأسعار، وكانت الولايات المتحدة تعمل في الخفاء على إذكاء الصراع بين البلدين، وإيصاله نحو الذروة، لدفع صدام حسين إلى المخاطرة باجتياح الكويت، وقد نصبت له فخاً محكماً عندما أبلغته السفيرة كلاسبي أن الولايات المتحدة لا تتدخل في الخلافات بين الدول العربية، وفي تلك الأيام انعقد مؤتمر الأوبك مرة أخرى لبحث الوضع المتأزم بين العراق والكويت، ومسألة الأسعار، وضرورة الالتزام بحصص الإنتاج لكل دولة.

ومرة أخرى أصر الوفد الكويتي على تجاوز حصته من الإنتاج، بدفع من الولايات المتحدة، مما دفع صدام حسين إلى إرسال رسالة إلى أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح يطالبه فيها باتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها الحفاظ على مستوى معقول لأسعار النفط، والتقيد بحصص الإنتاج، لكن الرسالة لم تغّير مواقف الحكومة الكويتية، والتي هي إرادة الولايات المتحدة بالطبع، مما أدى إلى تصاعد التوتر بين الطرفين.

حاولت كل من السعودية والأردن التوسط بين الطرفين، لكن المحاولة لم تثمر، بل على العكس من ذلك ظهرت أشياء جديدة أخرى على سطح الأحداث. فقد أخذ صدام حسين يتحدث عن حمايته لأمن الخليج  بحربه مع إيران طيلة 8 سنوات!!، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء مئات الألوف من أبنائه، وردت الكويت على دعاوى العراق  بأنها قد ساعدت العراق، حيث قدمت له بعد أسابيع من بداية الحرب قرضاً بمبلغ 5 بلايين دولار، وأنها كانت تصدر لحساب العراق 125 ألف برميل من النفط يومياً للإيفاء بالتزامات العراق المالية المتعاقد عليها مع الدول الأخرى لغرض التسلح.

أما صدام حسين فقد رد على حكام الكويت قائلاً: { إن الأموال هي أرخص تكاليف الحرب، وإن القرض هو دين علينا أن نرده، وأن العراق خسر مئات البلابين، ومئات الألوف من أرواح أبنائه دفاعاً عن الخليج}!!.
وردت حكومة الكويت بأنها هي أيضاً تعرضت لنيران الحرب، حيث جرى قصف منشآتها النفطية، وناقلاتها، واضطرت لشراء الحماية من الدول الكبرى لناقلاتها.
 وجاء الرد العراقي متهماً الكويت بأنها لم توافق على إعطائه تسهيلات في جزيرتي [بوربا، وبوبيان]، وأن الكويت لو فعلت ذلك لاستطاع العراق تحرير الفاو منذ زمن طويل.

 وردت حكومة الكويت بأنها لو أعطت تلك التسهيلات للعراق، لتمسك بها، ورفض الخروج منها، ولم يكد صدام حسين يسمع الجواب حتى بادر إلى القول بأن الجزيرتين عراقيتان، وسارع حكام الكويت إلى الرد بأن النظام العراقي بدأ يكشف عن أطماعه في الكويت.

 وهكذا تصاعدت لهجة حكام البلدين إلى درجة تنذر بعواقب وخيمة، فقد اتهم العراق حكام الكويت باستغلال انشغال العراق في الحرب، للزحف داخل الأراضي العراقية، وتغير الحدود، وسرقة نفط حقل الرميلة الجنوبي، وأن الكويت باعت نفطاً من هذا الحقل ما مقداره[ 2000 مليون دولار].

وردت حكومة الكويت بأن العراق يرفض تثبيت الحدود بين البلدين، وأن له أطماع في الكويت، وأن ادعاء حكام العراق عن زحف مزعوم للحدود الكويتية تجاه العراق، وسرقة نفط حقل الرميلة الجنوبي لا أساس له من الصحة.

وفي واقع الحال كان العراق يتهرب دائماً من مسألة تثبيت الحدود بين البلدين بشتى الوسائل والأعذار، مدعياً بأن العراق منشغل في حربه مع إيران، وأن الوقت غير مناسب للبحث في هذا الموضوع.

وعندما انتهت الحرب، وعاد السلام إلى المنطقة، أرادت حكومة الكويت فتح باب الحدود من جديد، وتوجه ولي العهد الكويتي [ سعد العبد الله الصباح ] إلى بغداد، في 6 شباط 1989 لتقديم التهنئة للحكومة العراقية على انتهاء الحرب، ولفتح ملف الحدود.

وفي يوم وصوله، نشرت صحيفة القادسية ـ لسان حال وزارة الدفاع ـ مقالاً حول مسألة الحدود، قبل أن يطرحها الشيخ سعد، وكانت المقالة أشبه بعاصفة إعلامية، فقد أتهم المقال حكومة الكويت بقضم أراضٍ عراقية، وأعاد إلى الأذهان أن جزيرتي بوربا وبوبيان عراقيتان.

 أثار الشيخ سعد، في أول لقاء له مع السيد عدنان خير الله نائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، موضوع الحملة الصحفية، التي قيل آنذاك أن صدام حسين نفسه، هو الذي أملى المقال على الصحيفة، وأشار الشيخ سعد بأنه فكر في قطع الزيارة، والعودة إلى الكويت، وكان رد الوزير العراقي، أن قطع الزيارة ليس في صالح العلاقات العراقية الكويتية، وهكذا
رضخ الشيخ سعد للواقع، وعقد لقاءات مع طارق عزيز، وزير الخارجية، وعزت الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، وجرى خلال اللقاءات نقاش حول الحدود.
 ثم حان وقت لقاء الشيخ سعد بصدام حسين، وتحدث صدام مع الشيخ سعد، وكأنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع، وطلب من الشيخ سعد أن يلتقي مرة أخرى بطارق عزيز ويبحث معه الأمر، وأبلغه بأنه مخول بكل شيء، ثم التفت صدام إلى طارق عزيز قائلاً له:
 {لابد وأن تحلوا هذا الموضوع، شكلوا لجنة على أعلى مستوى، ودعونا ننتهي منه}.

أقترح طارق عزيز أن تكون اللجنة بمستوى الجانب الكويتي، أي أحد نواب رئيس مجلس قيادة الثورة، بالإضافة إلى وزيرا خارجية البلدين.
وفي نهاية أيلول 1989، قام أمير الكويت بزيارة رسمية إلى بغداد، غير أنه لم يجر التطرق خلال الزيارة إلى مسألة الحدود، إلا أن أحد الوزراء المرافقين للأمير سأل رئيس الوزراء سعدون حمادي عن إمكانية عقد معاهدة عدم اعتداء بين البلدين، على غرار المعاهدة العراقية السعودية، وقد أجابه سعدون حمادي بأن الوقت غير مناسب، قبل الانتهاء من مسألة تثبيت الحدود.

وهكذا عاد أمير الكويت إلى بلاده دون أن يحقق شيئاً، وبعد شهرين من تلك الزيارة اشتدت الخلافات بين البلدين حول موضوع الالتزام بحصص الإنتاج وسقفه، وحول مسألة الأسعار، واتهم صدام حسين كل من الكويت والإمارات العربية بتخريب اقتصاد العراق.

وفي كانون الثاني 1990، توجه سعدون حمادي إلى الكويت، وأجرى مباحثات مع وزير الخارجية صباح الأحمد الصباح، وطلب من الحكومة الكويتية قرضاً بمقدار [10 بلايين دولار]، وقد أجابه الشيخ صباح بأن الحكومة سوف تدرس الموضوع  وترد على العراق فيما بعد.
وبعد شهر تقريباً من تلك الزيارة قام الشيخ صباح الأحمد بزيارة إلى بغداد، وأجرى لقاءات مع المسؤولين العراقيين، ولمح خلال الاجتماع إلى الديون الكويتية على العراق، وأبلغهم أن الكويت لا تستطيع أن تقرض العراق أكثر من 500 مليون دولار]، تضاف إلى الديون السابقة، مما أثار غضب صدام حسين، وجعله يصمم على غزو الكويت.

ثامناً:المخابرات الأمريكية تراقب التحركات العسكرية العراقية

في السادس عشر من شهر تموز 1990 كشفت المخابرات العسكرية الأمريكية عن تحرك عراقي يضم 3 فرق عسكرية كاملة الاستعداد نحو الجنوب، باتجاه البصرة والكويت، وهذه الفرق هي [فرقة حمو رابي] و[فرقة المدينة المنورة ] و[فرقة توكلنا على الله] .
وعلى الفور أستدعى رئيس أركان الجيش الأمريكي [كولن باول] الجنرال [شور تزكوف]، قائد القيادة المركزية المخصصة للتدخل السريع في الشرق الأوسط ، حيث أكد له حقيقة تلك التحشدات.
وفي 30 تموز، كشف [والتر لانج] مسؤول المخابرات العسكرية في الشرق الأوسط، أن الحشد العسكري العراقي يبدو معداً للهجوم، وعلى أثر ذلك التقرير عن التحركات العراقية، أقترح رئيس أركان الجيش الأمريكي على وزير الدفاع أن توجه الحكومة الأمريكية تحذيراً للعراق، وقد طلب وزير الدفاع منه مهلة لأخذ رأي الرئيس بوش، ولما تم لقاء وزير الدفاع بالرئيس، عرض عليه اقتراح كولن باول. إلا أن الرئيس سارع للقول بأنه لا يرى ضرورة لتوجيه تحذير!!. (16)

لقد كان واضحاً أن الولايات المتحدة كانت تريد بالفعل أن يقدم صدام حسين على غزو الكويت لكي تجد المبرر الذي تريده لتوجيه ضربة قاضية للعراق، وتجرده من كل أسلحة الدمار الشامل، وتحطم بنية العراق الاقتصادية، وتعيده خمسون عاماً إلى الوراء.

تاسعاً:خطاب صدام حسين، ورسالته للجامعة العربية:

في 17 تموز 1990، وبمناسبة ذكرى انقلاب 17تموز 1968، ألقى صدام حسين خطاباً نُقل عبر الإذاعة والتلفزيون، تعرض فيه للوضع المتأزم في منطقة الخليج، وتدهور العلاقات العراقية الكويتية، والعراقية الأمريكية، وكان أهم ما ورد في الخطاب قول صدام:

{ أن الولايات المتحدة تستخدم دولاً عربية في تنفيذ مخططاتها تجاه العراق، عن طريق إغراق الأسواق العالمية بفائض الإنتاج من النفط، لكي يؤدي ذلك إلى خفض وتدهور الأسعار، وقد سعت إلى حث دول الخليج على عدم الالتزام بسقف الإنتاج، ونظام الحصص، وذلك بغية خنق العراق اقتصاديا}.

لم يحدد صدام حسين أسم الدول المعنية، إلا أن طارق عزيز، وزير الخارجية، قدم فيما بعد رسالة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، أثناء انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب في تونس، لبحث مسألة هجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل، وتضمنت الرسالة شكوى العراق من السياسة التي تتبعها حكومة الكويت، والإمارات، وما تسببه من أضرار للعراق.

 وذكرت الرسالة أن الكويت كانت قد استغلت انشغال العراق في حربه مع إيران، وقامت بزحف تدريجي مبرمج نحو الأراضي العراقية، وأقامت المنشآت العسكرية، والمخافر فيها، واستغلت حقل الرميلة الجنوبي باستخراج النفط منه، وبيعه في الأسواق العالمية، بما يتجاوز 2400 مليون دولار.
وبسبب ظروف الحرب فقد سكتت حكومة العراق آنذاك، مكتفية بالتلميح، فيما استمرت الكويت على إجراءاتها المذكورة، كما أشارت الرسالة إلى أن الكويت، ودولة الإمارات العربية المتحدة، قد خرقتا نظام الحصص، الذي أقره مؤتمر الأوبك، وقامتا بزيادة إنتاجهما من النفط، وإغراق السواق العالمية بالنفط، مما سبب في انخفاض أسعاره إلى أدنى
مستوى يصله منذُ عام. فبعد أن كان قد وصل سعر البرميل الواحد إلى 29 دولاراً، عاد وهبط إلى مستوى 11 دولار، وقد أضّر هذا العمل بمصالح العراق الاقتصادية بشكل خطير.

وفي ظل ظروف اقتصادية صعبة يمر بها العراق، بعد حربه الطويلة مع إيران، فقد خسر العراق خلال الفترة الزمنية الممتدة ما بين عامي 1981ـ 1990 حوالي[89 مليار دولار] وإن العراق يعتبر عمل الكويت والإمارات بمثابة عدوان عليه.

وقد ردت الحكومة الكويتية بمذكرة رسمية وجهتها إلى الجامعة العربية، ورفضت فيها الاتهامات العراقية، واتهمت العراق بأنه هو الذي أعتدى على أراضيها، وحفر آباراً فيها، واستولى على نفط كويتي، واختتمت المذكرة الكويتية بطلب إلى الأمين العام للجامعة لتشكيل لجنة تابعه تتولى تسوية النزاع مع العراق على الحدود. أما حكومة الإمارات العربية المتحدة  فقد أنكرت ما ورد في مذكرة العراق، وأعربت عن استغرابها لهذا الاتهام.

 وفي تلك الأيام، كانت تقارير الأنباء تشير إلى قيام العراق بحشد قواته في الجنوب  واستطاع أحد الملحقين العسكريين الغربيين أن يشاهد طابوراً من المركبات العسكرية وقد جاوزت[ 2000 مركبة]، وكانت الملحقات الغربية، ودول الخليج تتابع بقلق أنباء التحشد العسكري العراقي، ووصل الأمر بالسفير الكويتي إبراهيم الدعيج أن يرسل برقية إلى حكومته قال فيها:
{ إنني لا أريد التسبب في إثارة ذعرٍ لا مبرر له، ولكني تلقيت معلومات كثيرة عن تحرك قوات عراقية كبيرة إلى الجنوب، وإنني لم أشأ أن أسأل الحكومة العراقية عن أسباب ذلك التحشد، فأنا واثق بأن جواب الحكومة العراقية سيقول بأن المقصود بذلك إيران وليس الكويت، ولكن هذه التحركات تثير الشكوك}. (17)

أراد السفير الكويتي التأكد من تحركات القوات العراقية، عن طريق السفيرة الأمريكية [إريل كلاسبي]، حيث أقترح عليها زيارة الرئيس صدام  حسين، للتأكد من نواياه تجاه الكويت.
 ولم يدرك حكام الكويت في بادئ الأمر ما كانت تخططه الولايات المتحدة، ولا عن الفخ الذي نصبته للنظام العراقي، وتشجيعها له، بصورة غير مباشرة للإقدام على مغامرته في اجتياح الكويت، لكي تجد المبرر الضروري لتوجيه ضرباته القاضية للعراق، والتخلص من أسلحته ذات الدمار الشامل، وكافة مصانعه الحربية.



94
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثالثة
حامد الحمداني                                                             23/01/2018

ثالثاً: الولايات المتحدة وإسرائيل والموقف من العراق:

أصبح العراق، بعد نهاية الحرب مع إيران، بما يمتلكه من قوة، وسلاح، مصدر خطر على الخليج، وخاصة وأن أزمته الاقتصادية قد أصبحت من العمق ما يهدد بوقوع انفجار جديد في المنطقة، ولاسيما وأن العراق يحكمه نظام دكتاتوري متهور يقوده صدام حسين.
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل يراقبان عن كثب تسلح العراق، وخاصة في مجال الصواريخ البعيدة المدى، والأسلحة الكيماوية، والبيولوجية، والجرثومية، ومحاولات نظامه المتسارعة لتطوير قدراته النووية، بغية الوصول إلى إنتاج السلاح النووي، كل هذا أثار حفيظة الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبدأت الشكوك تتصاعد حول مستقبل القوة العراقية، ثم سرعان ما تحولت الشكوك إلى حقيقة واقعة، على الرغم من محاولات صدام حسين المحمومة لتحسين صورته أمام الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي أواخر عام 1989، توجه [طارق عزيز] نائب رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، إلى الولايات المتحدة، حيث قابل الرئيس [جورج بوش]، ووزير خارجيته [جيمس بيكر]، وأجرى الطرفان حواراً مطولاً وصريحاً حول العلاقات العراقية الأمريكية، حيث أصدر بعدها الرئيس بوش توجيهاً داخلياً إلى إدارته، يطلب منها أن تحرص على تنمية علاقات طبيعية مع العراق قائلاً: إن ذلك قد يساعد في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. (1)

ثم عاد الرئيس بوش في 16 كانون الثاني 1990، فأصدر أمراً رئاسياً جاء فيه:
{ إن زيادة حجم التجارة مع العراق يمكن أن يكون مفيداً للمصالح الأمريكية}.(2)
وبالفعل، حصلت [شركة  بكتيل]على عقود في العراق تصل قيمتها إلى [1200 مليون] دولار، وفي نفس الوقت أقدم العراق على وقف دعمه لميشيل عون في لبنان، واتخذ موقفاً مرناً من الصراع العربي الإسرائيلي، حيث أعلن حاكم العراق أن دول المواجهة مع إسرائيل حرة في الحركة للوصول إلى تسوية سلمية للنزاع العربي الإسرائيلي.

إلا أن تلك العلاقة لم تدم طويلا، إذ ما لبثت وسائل الإعلام الأمريكية التي تهيمن عليها الصهيونية العالمية، أن بدأت في الشهور الأولى من عام 1990 بشن هجومها على صدام حسين، متهمة إياه بالعمل على تهديد الأمن والسلام في الشرق الأوسط، والسعي لامتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل.
ورغم محاولات الملك حسين ملك الأردن، والرئيس المصري حسني مبارك لتلطيف جو العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، فإن تلك المحاولات لم تستطع تبديد شكوك الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبالنظر لما تمتلكه إسرائيل من تأثير كبير على السياسة الأمريكية، وعلى وسائل الإعلام الأمريكي والعالمي.

 فقد لعبت إسرائيل دوراً كبيراً في تخريب العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، وبدأت الصحافة الأمريكية، والغربية عموماً، تشن حرباً كلامية على النظام العراقي، وتصاعدت حرب الكلمات إلى حرب أعصاب، ثم إلى الكراهية، لتسير بعد ذلك إلى الحرب الحقيقية، وإراقة الدماء.

ففي 11 شباط 1990 قام [جون كيللي]، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، بزيارة إلى بغداد، وأجرى مباحثات مع صدام حسين حول العلاقات العراقية الأمريكية، وقد أثار صدام خلال المباحثات قضية الحملة الإعلامية التي تشنها الصحافة الأمريكية ضد نظامه، وحاول جون كيللي التخفيف من آثار تلك الحملة، مدعياً أن الصحافة تمثل وجهة نظرها، وهي حرة في الكتابة والتعبير، وهي ليست بالضرورة تعبر عن السياسة الرسمية للولايات المتحدة.(3)
وفي 15 شباط، صدر تقرير عن لجنه حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يتهم النظام العراقي بالقيام بممارسات منافية لحقوق الإنسان، من تعذيب، وقتل، وإعدامات، وقامت إذاعة صوت أمريكا بإذاعة التقرير، ثم أعقبته بتعليق يمثل وجهة النظر الرسمية للحكومة الأمريكية، وقد أحتوى التعليق على هجوم شديد على تصرفات الحكومة العراقية.

وفي 19 شباط، ألقت السلطات الأمريكية القبض على أحد عملاء النظام العراقي، بتهمة تدبير محاولة اغتيال معارض عراقي لاجئ في الولايات المتحدة، وقامت الحكومة الأمريكية على الأثر بطرد أحد أعضاء السفارة العراقية في واشنطن، وردت الحكومة العراقية على الإجراء الأمريكي، بطرد أحد أعضاء السفارة الأمريكية في بغداد.

وفي 20 شباط 1990، أعلنت إسرائيل أنها اكتشفت وجود وحدات عسكرية عراقية في الأردن، وعلى الأثر قامت الطائرات الأمريكية بطلعات استكشافية فوق الأردن، أعلنت بعدها الولايات المتحدة عن اكتشاف 6 قواعد إطلاق صواريخ عراقية قرب قاعدة ( H2 ) الجوية الأردنية، وقامت إسرائيل إثر ذلك بتكثيف حملاتها على العراق، واتخذ الكونجرس الأمريكي قراراً بوقف بيع القمح الأمريكي للعراق.(4)

وفي 21 شباط 1990 نشرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريراً عن حقوق الإنسان في العراق  يتألف من 12 صفحة، وصفت فيه حكام العراق بكونهم أسوأ مُنتهك لحقوق الإنسان، وممارسة التعذيب، والقتل دون محاكمة، أو إجراء محاكمات سريعة لا تتيح للإنسان الدفاع عن نفسه.

 لقد بدا وكأن الولايات المتحدة قد اكتشفت لتوها جرائم نظام صدام، التي مارسها  بحق الشعب العراقي منذُ تسلطه على الحكم في البلاد عام 1968، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، وسكتت عن حملة الأنفال الفاشية، وقتل سكان مدينة حلبجة عن بكرة أبيهم بالسلاح الكيماوي، فلم تكن كل تلك الجرائم تحرك ضمير حكام الولايات المتحدة، طالما لا تؤثر على المصالح الأمريكية، والإسرائيلية.

وفي 9 آذار تصاعدت الحملات ضد النظام العراقي، على أثر إقدام النظام على اعتقال الصحفي البريطاني [فازاد بازوفت] مراسل صحيفة الابزورفر البريطانية  بتهمة التجسس، حيث اتهمته بالقيام بزيارات لمنطقة عسكرية تضم مجمعاً لإنتاج الصواريخ، وأحالته إلى[محكمة الثورة] التي أصدرت عليه حكماً بالإعدام.

 ورغم جميع المحاولات التي قامت بها بريطانيا، وحلفائها الغربيين لإنقاذ حياته، فقد أقدم حكام بغداد على تنفيذ حكم الإعدام به في 15 آذار1990، وأدى ذلك الإجراء إلى تصاعد الحملات على النظام العراقي في الصحف الغربية، ووصفت صحيفة [الابزورفر] صدام حسين بأنه جزار بغداد، وكأن صدام حسين لم يصبح جزاراً إلا بعد أن أقدم على إعدام الصحفي بازوفت!!. (5)

وفي 18 آذار1990، أعلنت الحكومة البريطانية أنها عثرت على شحنات من أجهزة المتسعات التي تستخدم في التفجيرات النووية كانت في طريقها إلى العراق، وتمت مصادرتها. (6)

وفي نفس اليوم، وقف صدام حسين في اجتماع عام، أمام عدسات التلفزيون، وبيده مجموعة من المتسعات، وهو يتحدث باستهزاء قائلاً: {هذه هي المتسعات التي يتحدث عنها الإنكليز؟ لقد صنعها أبنائنا النشامى في هيئة التصنيع العسكري}.

وفي 27 آذار 1990 التقي صدام حسين  بملك السعودية [ فهد ] في حفر الباطن بالسعودية، وشكا له من الولايات المتحدة، وأبلغه بأن الولايات المتحدة تضمر الشرّ للعراق، وقد أجابه الملك فهد بأنه لا يعتقد ذلك، وأن الرئيس بوش رجل طيب!!، ثم انتقل صدام في شكواه للملك فهد إلى حكام الكويت، قائلاً:
{إن حكام الكويت قد رفعوا إنتاجهم النفطي عن الحصة المقررة في مؤتمر الأوبك، وأن هذا الإجراء قد أضر كثيراً، ليس بالعراق فحسب، بل وبالسعودية أيضاً، فقد أدى إلى انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهذا ما أدى إلى انخفاض دخل العراق بشكل كبير، ذلك أن انخفاض بمقدار دولار واحد لبرميل النفط  يعني خسارة العراق لمبلغ بليون دولار سنويا]، وقد وعد الملك فهد بالاتصال بأمير الكويت، والتباحث معه حول الموضوع}. (8)

 كانت هذه الشكوى مؤشراً واضحاً على نوايا الحاكم بأمره في بغداد. وفي الوقت نفسه وجه صدام حسين تحذيراً شديداً إلى الدول التي تتجاوز حصص الإنتاج، وطالب برفع سعر البرميل الواحد من النفط إلى مستوى 25 دولار، وعدم السماح بهبوطه إلى ما تحت 18 دولار، وكان موقف الحكومة السعودية مع الحفاظ على حصص الإنتاج، وأقدمت الحكومة على إعفاء وزير النفط [أحمد زكي يماني] من منصبه، بالنظر لمساعيه الكبيرة، والمكشوفة، في خدمة المصالح الأمريكية والغربية.

 وفي 29 آذار من نفس العام، أعلنت بريطانيا أنها عثرت على قطعة من مواسير المدفع العملاق، الذي كان العراق يسعى لتصنيعه في طريقها إلى العراق، وجرت مصادرتها. (9)

 وكانت المخابرات الإسرائيلية قد قامت قبل أسبوع من هذا التاريخ  22 آذار باغتيال العالم الدكتور [جيرالد بول] الخبير في صنع المدفع العملاق، في أحد فنادق العاصمة البلجيكية [بروكسل].
وفي 30 آذار 1990أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أن إسرائيل لابد أن توجه ضربة وقائية للعراق، في أي وقت تشعر فيه بأنه قد أصبح خطر عليها، ثم أعقبه رئيس الوزراء [ شامير] بالقول بأن إسرائيل ستوجه ضربة للعراق إذا أحست انه في طريقه لإنتاج قنبلة نووية. (10)

في الأول من نيسان رد صدام حسين على التهديدات الإسرائيلية قائلاً:{إن العراق سوف يرد على إسرائيل، إذا ما تجرأت على استخدام السلاح النووي ضد العراق، ويحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج}. (10)

وفي 3 نيسان 1990، أطلقت إسرائيل قمرأً تجسسياً، وأطلقت عليه أسم [الأفق]، وكان الهدف من إطلاقه مراقبة كل ما يدور في الجانب العراقي.
وفي 14 نيسان وقف رئيس وزراء إسرائيل شامير يهدد ويعلن بأن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحرية العمل لتدمير قواعد الصواريخ العراقية. (11)
وفي 19 نيسان، رد صدام حسين في مقابلة له مع وفد عربي من اتحاد نقابات العمال قائلاً:{إن أي هجوم من قبل إسرائيل على العراق سيواجه بحرب شاملة، لن تتوقف إلا بتحرير كامل الأرض العربية}.(11)
 وفي 19 نيسان، أعلن الرئيس الفرنسي [متران] أن فرنسا تؤيد جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وأن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن  سوف يجتمعون في تموز القادم لبحث الموضوع بجدية. (12)
وفي 21 نيسان، أعلن العراق أن طائرة استطلاع أمريكية، وطائرات الأواكس، قد حلقت في سماء العراق. (13)
وهكذا بدأت الحرب الكلامية، وتصاعدت بين النظام العراقي من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، حتى بدا وكأن الحرب على وشك الوقوع في الشرق الأوسط، بين العراق وإسرائيل، وكان صدام حسين ينتهز كل فرصة للتحدث عن قوته، وسطوته، وأسلحته، واستعداداته الحربية، ويهدد بضرب إسرائيل بالكيماوي المزدوج، ويتفاخر باستطاعة هيئة التصنيع العسكر إنتاج المتسعات، في الوقت الذي كان نظامه يعاني من أزمة ‎اقتصادية حادة لا يعرف كيف يخرج منها.


95
صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                         21/01/2018
الحرب العراقية الإيرانية ونتائجها الكارثية على العراق

 أولاً  :القوة العسكرية للعراق بعد الحرب العراقية الإيرانية.
 ثانياً  : الوضع الاقتصادي للعراق بعد الحرب.
 ثالثاً  : الولايات المتحدة وإسرائيل والموقف من العراق.
 رابعاً  : العراق يدعو لعقد قمة عربية في بغداد.
 خامساً:صدام يحول سهامه نحو الكويت.
 سادساً: صدام يوقع معاهدة عدم اعتداء مع السعودية.
 سابعاً: تصاعد التوتر بين العراق والكويت.
 ثامناً : المخابرات الأمريكية تراقب التحركات العسكرية العراقية
 تاسعاً: خطاب صدام حسين، و رسالتة للجامعة العربية.
عاشراً: جهود عربية لاحتواء الأزمة العراقية الكويتية.
أحد عشر: أسرار اللقاء بين السفيرة الأمريكية وصدام.

أولاً:القوة العسكرية للعراق بعد الحرب العراقية الإيرانية:

خرج العراق من حربه مع إيران، بعد ثمان سنوات من الدماء والخراب، وهو يملك جيشاً جراراً هو في واقع الحال أكبر جيش في الشرق الأوسط، ويمتلك ترسانة حربية ضخمة من شتى أنواع الأسلحة، التقليدية منها، وأسلحة الدمار الشامل الصاروخية، والكيميائية، والبيولوجية، والجرثومية، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الدبابات، والمدفعية، والطائرات، وكميات كبيرة من العتاد، والقنابل التي جرى حشوها بالغازات السامة، كغاز السارين، والخردل، هذا بالإضافة إلى أن العراق كان قد قطع شوطاً طويلاً في بناء مفاعله النووي لغرض الحصول على السلاح الذري.

 لقد كانت الأسلحة تنهال على العراق خلال سنوات الحرب من دول الشرق والغرب دون قيود، وكان النظام العراقي قد سخّر كل إمكانيات البلاد الاقتصادية وموارده النفطية من أجل التسلح، كما ساهمت السعودية دول الخليج مساهمة كبرى في دعم العراق اقتصادياً، لضمان تدفق السلاح إليه، بسبب خوفهم من المد الإسلامي الإيراني من جهة، وبضغط من الولايات المتحدة من جهة أخرى.
لقد قُدّرَ ما كان يملكه العراق من الطائرات عند نهاية الحرب، بما لا يقل عن 500 طائرة من مختلف الأنواع، ومن الدبابات 5000 دبابة، بالإضافة إلى 3500 مدفع من مختلف العيارات، وأعداد كبيرة من الصواريخ المختلفة المديات، والتي تتراوح ما بين 150ـ 1250 كم، وكميات كبيرة من القنابل الكيميائية، والبيولوجية والجرثومية، هذا بالإضافة إلى القوة البحرية.

كانت هيئة التصنيع العسكري التي كان يشرف عليها [حسين كامل] صهر صدام حسين، تعمل ليلاً ونهاراً من أجل توسيع المصانع الحربية، وتخزين كميات هائلة من إنتاجها، وكان تحت تصرف حسين كامل 72% من موارد العراق النفطية، المسخرة للتسلح.  لقد وسع النظام العراقي الجيش خلال سنوات الحرب، حتى تجاوز الرقم المليوني جندي وضابط، وإذا ما أضفنا إليه الجيش الشعبي، الذي أجبر نظام صدام جميع البالغين، وحتى سن الستين، على المشاركة بهذا الجيش خلال الحرب، فإن عدد قواته المسلحة لا يمكن حصرها.

 لقد خلقت تلك الحرب من صدام حسين اعتا دكتاتور عرفته البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جعل من نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبه عسكرية في الجيش، وهي[ رتبه مهيب ركن]،علماً أنه لم يسبق له أن خدم في الجيش [الخدمة الإلزامية]، فقد كان شريراً فاراً من وجه العدالة لقيامه بأعمال إجرامية، كان منها اشتراكه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، وقائد ثورة الرابع عشر من تموز. 

ركز الدكتاتور جهوده لإخضاع الجيش وضباطه، بإقدامه على إعدام أعداد كبيرة من الضباط، حتى بمجرد الشك في ولائهم له، وخلق أجهزة أمنية واسعة ومتعددة داخل صفوف الجيش وخارجه، لتقدم له التقارير عن كل حركات الناس وسكناتهم، وحماية نظامه الدكتاتوري الفاشي  بشتى وسائل البطش والإرهاب والتعذيب والقتل والسجون.

ولم يكتفِ الدكتاتور بكل ذلك، بل أقدم على تصفية معظم قيادات حزبه، وخلق قيادات هزيلة بدلاً منهم، تأتمر بأوامره، ولا تتجرأ على معارضته.

 وهكذا أصبح الحزب أداة طيعة في يده، وغدا ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، والقيادة القطرية لحزب البعث، والمجلس الوطني، ومجلس الوزراء، مجرد موظفين عنده، ينفذون أوامره لا غير، والويل كل الويل لمن يشك في ولائه له، وصار صدام حسين يتخذ وحده كل القرارات مهما كانت خطيرة، دون أن يجرأ أحد من أعضاء وزارته، أو قيادة حزبه، أو مجلس ثورته، على مجرد مناقشته، حتى ولو كان القرار يهدد مستقبل العراق وشعبه.

ثانياً:الوضع الاقتصادي للعراق بعد الحرب

خرج العراق من حربه مع إيران، بوضع اقتصادي لا يحسد عليه، فقد أستنفذ نظام صدام كل احتياطيات البلاد من العملة النادرة، والذهب، البالغة [36 مليار دولار]، وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، والتي تتجاوز 25 مليار دولار سنوياً.
 وفوق كل ذلك خرج العراق بديون كبيرة جداً للكويت، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة وفرنسا، والاتحاد السوفيتي السابق، والبرازيل، وألمانيا واليابان والصين والعديد من الدول الأخرى، وقد جاوزت الديون [90 ملياراً من الدولارات]، وصار العراق ملزماً بدفع فوائد باهظة لقسم من ديونه بلغت حدود 30 % ، مما جعل تلك الفوائد تتجاوز 7مليارات دولار سنوياً.

 هذا بالإضافة إلى ما تطالب به إيران من تعويضات الحرب، بعد أن أقرت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بأن العراق هو المعتدي في تلك الحرب، وتطالب إيران مبلغ [160 مليار دولار] كتعويضات حرب.

لقد أثقلت الديون كاهل الاقتصاد العراقي، وتوقفت معظم مشاريع التنمية، هذا بالإضافة إلى ما يتطلبه تعمير ما خربته الحرب من أموال وجهود، فقد جاء في تقرير أمريكي عن وضع العراق الاقتصادي ما يلي:
{إن الوضع الاقتصادي في العراق لا يبشر بخير، دخله وصل إلى 25 مليار دولار، في عام1988، ولكن صورة الاقتصاد العراقي خلال السبعينيات قد تلاشت، وحل محلها وضع اقتصادي مظلم، وخراب واسع في أنحاء البلاد، وفي ظل الحكومة الحاضرة، وسياستها الاقتصادية، فإن الاقتصاد يتحول من سيئ إلى أسوأ، وإن ذلك يمهد لسياسة عراقية متهورة، في محاولة للخروج من المأزق الاقتصادي الذي يمر به}.

لقد أصبح العراق بعد حربه مع إيران يملك القوة، ولكنه في الوقت نفسه يعاني من اقتصاد متدهور، وديون تثقل كاهله، وجواره بلدان عربية ضعيفة عسكرياً، ولكنها غنية جداً، تغري ثرواتها أصحاب القوة، وخاصة بالنسبة إلى بلد مثل العراق، الذي يحكمه نظام دكتاتوري يقوده رجل كصدام حسين، هذا الرجل الذي أصابه غرور لا حدّ له، بعد أن أنتصر في حربه ضد إيران،  وأصبح لديه جيش جرار، وترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة التقليدية،  ومصانع حربية متطورة، ولكنه يفتقد إلى المال لسداد ديونه، وتعمير ما خربته الحرب، هذا بالإضافة إلى ما يتطلبه لإدامة جيشه، ومواصلة تسلحه، ناهيك عن إعادة بناء ما خربته الحرب،  ومشاريع التنمية التي تحتاجها البلاد، والتي توقفت خلال سنوات الحرب.
ولاشك أن هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، التي خلقها النظام العراقي نتيجة تهوره، واندفاعه لتنفيذ المخططات الإمبريالية، بشنه الحرب ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، والتي ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر على أبعد الاحتمالات، وأراد لها مخططوها أن تدوم سنوات طوال، وبقوا يغذونها باستمرار، تارة يقدمون المساعدات للعراق، وتارة أخرى لإيران.

ولابد أن أشير هنا إلى أن العراق، الذي خاض ثمان سنوات من الحرب، لم يجابه خلالها نقصاً في السلع الغذائية، وغيرها من السلع الأخرى، فقد كانت الأسواق تُملأ كل يوم بكل ما يحتاجه البلد، حيث أغرقت الولايات المتحدة وحلفائها الأسواق بالمواد الغذائية، والألبسة، والأجهزة المنزلية كافة.

 فقد كان على مشعلي الحرب أن يخففوا ما استطاعوا من التذمر الشعبي من تلك الحرب المجرمة، التي حصدت أرواح نصف مليون من خيرة شباب العراق، ورملت مئات الألوف من النساء، ويتمت مئات الألوف من الأطفال، وأصابت بالعوق الدائمي ما يقارب المليون، ومزقت قلوب الآباء والأمهات، حيث يندر أن تجد عائلة عراقية لم تفقد عزيزاً لها في تلك الحرب الكارثية، بل لقد شاهدت لافتة عزاء  لإحدى العوائل تشير إلى استشهاد سبعة أبناء، وكل ذلك من أجل أن تستمر الحرب، لكي يعبئ كبار الرأسماليين جيوبهم ببلايين الدولارات، على حساب بؤس الشعبين العراقي والإيراني وعذاباتهم، ودماء أبنائهم.


96

صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية
الحلقة الاولى

حامد الحمداني                                                             19/01/2018

المقدمة
منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 1968 [عبد الرزاق النايف] بدأ نجمه يتصاعد، حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، على الرغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.

وعندما حلت الذكرى الحادية عشر للانقلاب البعثي في 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان يقف وراءه!!.
أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح الإمبريالية الأمريكية، وكان في مقدمتها إفشال أي التقارب الذي حصل بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق، وتطبيق ميثاق العمل القومي الذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة وإسرائيل تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.
 كما استهدف احتواء الثورة الإسلامية في إيران،لاسيما وأن قادة النظام
الإيراني الجديد بدءوا يتطلعون إلى تصدير ونشر مفاهيم الثورة الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل للتصدي لهذا الخطرهو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين في حرب سعت إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر الثورة الإسلامية في المنطقة.
كما استهدفت الحد من تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، ومحاولة تزعم العالم العربي التي طغت على تفكيره، وكان صدام قد وجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته.
وجاءت الزيارة قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر حول قلق الإدارة الأمريكية من مشروع الوحدة بين سوريا والعراق من جهة، وحول أخطار توسع وانتشار الثورة الإسلامية في المنطقة من جهة أخرى، وضرورة التصدي لها، وشوهد الموفد الأمريكي يخرج بعد الاجتماع متجهم الوجه، وقد بدا عليه عدم الارتياح، ثم أنتقل إلى مكتب صدام حسين، وأجرى معه محادثات أخرى، خرج بعدها وعلامات السرور بادية على وجهه، وقد علته ابتسامة عريضة.

لقد بقي ما دار في الاجتماعين سراً من الأسرار، إلا أن التكهنات والأحاديث التي كانت تدور حول الاجتماعين تشير إلى أن النقاش دار حول نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى دارت حول تطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل.
 أما النقطة الثانية فقد دارت حول الأوضاع في إيران، بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج ، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وقيل أن الموفد الأمريكي سعى لتحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري، وأن صدام حسين قد أبدى كل الاستعداد للقيام ب الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.

وهذا ما أكدته الوقائع على الأرض، فلم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر، بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه، على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع، بتهمة التآمر مع النظام في سوريا ضده، وتصفيه كل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة، ليغدو الدكتاتور الأوحد ويحكم البلاد بالحديد والنار.
 وما أن استتب له الأمر حتى زج البلاد في حربٍ مع إيران ظنها نزهة قد تمتد لأيام أو أسابيع، ولكنها كانت حرب طاحنة استمرت ثمان سنوات ذهب ضحيتها ما يزيد على النصف مليون من أبناء العراق، إضافة إلى مئات الألوف من الجرحى والمعوقين، ومثلها من الأرامل واليتامى، وهدر مواردنا الاقتصادية على تلك الحرب، ولشراء الأسلحة وبناء المصانع الحربية المختلفة، من صواريخ وأسلحة كيماوية، وجرثومية وحتى الذرية.

خرج العراق من حربه مع إيران، بوضع اقتصادي لا يحسد عليه، فقد أستنفذ نظام صدام كل احتياطيات البلاد من العملة النادرة، والذهب، البالغة [36 مليار دولار]، وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، والتي تقدر بـ  25 مليار دولار سنوياً، وفوق كل ذلك خرج العراق بديون كبيرة جداً للكويت، والسعودية، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي السابق، والبرازيل، والعديد من الدول الأخرى، وقد جاوزت الديون [90 ملياراً من الدولارات]، وصار العراق ملزماً بدفع فوائد باهظة لقسم من ديونه بلغت حدود 30 % ، مما جعل تلك الفوائد تتجاوز 7مليارات دولار سنوياً.
هذا بالإضافة إلى ما تطالب به إيران من تعويضات الحرب، بعد أن أقرت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بأن العراق هو المعتدي في تلك الحرب، وتطالب إيران من العراق مبلغ [160 مليار دولار] كتعويضات حرب.
لقد أصبح العراق بعد حربه مع إيران يملك القوة، ولكنه في الوقت نفسه يعاني من اقتصاد متدهور، وديون تثقل كاهله، وجواره بلدان عربية ضعيفة عسكرياً، ولكنها غنية جداً، تغري ثرواتها أصحاب القوة، وخاصة بالنسبة إلى بلد مثل العراق، الذي يحكمه نظام دكتاتوري يقوده رجل كصدام حسين.
ولاشك أن هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، التي خلقها النظام العراقي نتيجة تهوره، واندفاعه لتنفيذ المخططات الإمبريالية، بشنه الحرب ضد إيران، والتي ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر على أبعد الاحتمالات، وأراد لها مخططوها أن تدوم سنوات طوال، وبقوا يغذونها باستمرار، فكانوا تارة يقدمون المساعدات للعراق، وتارة أخرى يقدمونها لإيران كي تنهك الحرب كلا البلدين.
حاول صدام حسين أن يعوض عن خسائره في تلك الحرب بمهاجمة الكويت والاستحواذ على نفطها، وسهلت له الإمبريالية الأمور لكي تدفعه إلى الفخ الذي نصبته للعراق بغية تهديم بنيته الاقتصادية والعسكرية، والاستحواذ على نفط الخليج بشكل مطلق، وإقامة القواعد العسكرية الدائمة في المنطقة، وهكذا أقدم  صدام حسين على غزو الكويت، وعمل فيها تخريباً، وتدميراً، ونهباً وسلباً، مدعياً بإعادة [الفرع إلى الأصل] !!.
 وهكذا تحقق للإمبرياليين ما أرادوا، ودخل صدام الفخ الذي نصبه له الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، وسارع الامبرياليون إلى إرسال جيوش 32 دولة على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى المنطقة ليشنوا حرباً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل ضد دولة صغيرة من دول العالم الثالث كالعراق، والذي خرج تواً منهكاً من حربه بالنيابة عن الولايات المتحدة ضد إيران وهو مثخنٌ بالجراح.
 وكان الامبرياليون وهم يعدون العدة للحرب مع العراق وكأنهم سيخوضون حرباً عالمية ثالثة، لضخامة حجم القوات العسكرية التي استقدمت إلى السعودية وقواعدهم في دول الخليج ، والعديد من حاملات الطائرات واالصواريخ البعيدة المدى، وألوف الطائرات الحربية، واحدث ما أنتجته المصانع الحربية الغربية من مختلف أنواع الأسلحة والعتاد ذات الدمار الشامل بغية إيقاع أقصى ما يمكن من الخراب والدمار في البنية التحية العراقية العسكرية والمدنية.                                                                                   .                                                                                                                                                                                                                                                                             
 فقد هاجمت طائراتهم مدن العراق كافة وطرق مواصلاته، وجميع مرافقه الاقتصادية دون استثناء لمدة 45 يوماً بمعدل 2000 غارة جوية في اليوم الواحد، وألقت خلالها الطائرات مئات الألوف من القنابل والصواريخ، ومستخدمين أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية الأمريكية، بما في ذلك اليورانيوم المستنفذ، الذي سبب كارثة بيئية رهيبة لا أحد يعرف مداها.
 ثم بادروا بالهجوم البري مخترقين حدود العراق، حيث تقدمت تلك الجيوش من الأراضي السعودية نحو جنوب العراق بغية محاصرة الجيش العراقي ، وقطع طرق مواصلاته لجيشه في الكويت وتقدمت تلك القوت في هجومها السريع حتى مدينة [الناصرية]، وطائراتهم تلاحق الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت بوابل من القذائف والأسلحة الرشاشة بغية  إبادة اكبر عدد منهم.
 واستسلم صدام حسين لشروط الإمبرياليين دون قيد أو شرط، سوى  بقائه على سدة الحكم، وتوقفت تلك الحرب، لتبدأ انتفاضة الشعب في الأول آذار 1991، تلك الانتفاضة التي امتد لهيبها ليشمل 14 محافظة من مجموع 18 محافظة.
 كاد نظام صدام يتهاوى  لولا وقوف الولايات المتحدة إلى جانبه، وضد الشعب، بعد أن وجدت الإدارة الأمريكية أن السيد محمد باقر الحكيم، زعيم منظمة بدر المدعوم من حكام طهران قد سيطر على الانتفاضة، وتيقنوا أن العراق سوف يقع فريسة بيد النظام الإيراني، حيث فتحوا الطريق لقوات صدام المحاصرة جنوب الناصرية لعبور دباباتها ومدفعيتها وصواريخها، وطائراتها لمحاصرة المدن العراقية وضربها وإغراقها بالدم، وهكذا تمّ للإمبرياليين وصدامهم سحق انتفاضة الشعب المجيدة، وذهب ضحيتها مئات الألوف من أبناء الشعب.
 وبادرت الإمبريالية الأمريكية بتدمير أسلحة العراق ذات الدمار الشامل، والتي صرف عليها صدام مئات المليارات الدولارات من ثروات الشعب، وشدد الإمبرياليون الحصار على شعب العراق، دون صدام، في حين كان الشعب، وبعد أكثر من ثلاثة عشر سنة من الحصار، يقاسي أهوال الجوع والأمراض والفقر المدقع، في بلد من أغنى بلدان العالم.

وفي نهاية المطاف قرر الرئيس الأمريكي [ جورج بوش- الابن] إكمال المهمة التي بدأها أبوه عام 1991، والتخلص بشكل نهائي من نظام صدام حسين، بشن الحرب على العراق وإسقاط النظام في  التاسع من نيسان 2003، وما جرته تلك الحرب على العراق وشعبه من ويلات ومآسي ، وخراب ودمار وصراع طائفي وحرب أهلية حصدت على أرواح ما يزيد على 867 ألف مواطن حسبما أوردته الإحصاءات الأخير، وتهديم البنية الاجتماعية، مما لا يمكن معالجته وإصلاحه قبل عدة عقود.   
                                                                     
   

97

مشاكل الاطفال في الأسر المطلقة

حامد الحمداني                                                             17/12/2017

ومن خلال الدراسات التي أجراها علماء التربية وعلم النفس للأوضاع الأسرية في مختلف البلدان قد وجدوا أن هناك اختلافات كبيرة بين الأوضاع الاجتماعية لهذه الأسر تتحكّم فيها الظروف التي تعيش فيها كل أسرة، والعلاقات السائدة بين أفرادها، وبشكل خاص بين الوالدين،وأن هذه الاختلافات والعلاقات تلعب دوراً خطيراً في تربية وتنشئة الأطفال، فهناك أنواع مختلفة من الأسر وتبعاً لذلك نستطيع أن نحددها بما يلي :

1ـ الأسر التي يسودها الانسجام التام، والاحترام المتبادل بين الوالدين وسائر الأبناء، ولا يعانون من أية مشكلات سلوكية بين أعضائها الذين يشتركون جميعاً في القيم السامية التي تحافظ على بناء وتماسك الأسرة، وتستطيع هذه الأسر تذليل جميع المشاكل والصعوبات والتوترات الداخلية التي تجابههم بالحكمة والتعقل، وبالمحبة والتعاطف والاحترام العميق لمشاعر الجميع صغاراً وكباراً. إن الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة، وخاصة بين الوالدين هو من أهم مقومات الاستقرار والثبات في حياتها، ومتى ما كانت الأسرة يسودها الاستقرار والثبات فإن تأثير ذلك سينعكس بكل تأكيد بشكل إيجابي على تربية وتنشئة الأطفال.
2ـ الأسر التي يسودها بين أفرادها الانشقاق وعدم الانسجام والتمزق والتناحر، وتفتقد إلى الاحترام المتبادل بين الوالدين ويمارس أحدهما سلوكاً لا يتناسب مع جنسه، ولا يتلاءم معه  وغير مقبول اجتماعياً، وفي هذه الحال يفتقد الأطفال القدوة الضرورية التي يتعلم منها العادات والقيم والسلوكيات الحميدة، وقد يلجأ الأطفال إلى البحث عن قرين لهذه القدوة غير كفء من خارج الأسرة، غير أن هذه النماذج تفتقر إلى عمق الشخصية، ولا يمكن التعرف عليها بنفس الدرجة التي يتعرف بها الأبناء على الوالدين.

إن عدم الانسجام بين الوالدين يؤدي إلى صراع حاد داخل الأسرة، وقد يطفو هذا الصراع على السطح، وقد تشتعل حرب باردة بين  الوالدين، وقد يترك الأب الضعيف السلطة والمسؤولية العائلية للأم، وقد تحاول الأم تشويه صورة زوجها أمام الأبناء، وتستهزئ به، مما يؤدي إلى شعور الأبناء بعدم الاحترام لأبيهم الضعيف والمسلوب الإرادة، وهناك الكثير من الآباء المتسلطين على بقية أفراد العائلة، ولجوئهم إلى أساليب العنف والقسوة في التعامل مع الزوجة ومع الأبناء وخاصة المدمنين منهم على الكحول والمخدرات مما يحوّل الحياة داخل الأسرة إلى جحيم لا يطاق.

 وقد يتوسع الصراع بين الوالدين ليشمل الأبناء، حيث يحاول كل طرف تجنيد الأبناء في صالحه مما يسبب لهم عواقب وخيمة، حيث يصبحون كبش فداء لذلك الصراع، ويجعلهم يتعرضون للتوتر والغضب والعدوانية والقلق والانطواء والسيطرة. ولقد أكد العلماء أن المشكلات الأخلاقية التي يتعرض لها الأبناء غالباً ما تكون لدى الأسر التي يسودها التوتر وعدم الانسجام، و الصراع.

ويعتقد العلماء، نتيجة الدراسات التي أجروها، أن تأثيرات الصراع والشقاق الزوجي المستمر غالباً ما تكون أشد تأثيراً على تربية وتنشئة الأبناء من الانفصال أو الطلاق على الرغم  من أن الانفصال أو الطلاق ليس بالضرورة يمكن أن ينهي العداء والكراهية بين الوالدين، فقد ينتقل الصراع بينهما إلى مسألة حضانة الأطفال، ونفقة معيشتهم، وغيرها من الخلافات الأخرى.

3ـ إن الأسر التي جرى فيها انفصال الوالدين عن بعضهما نتيجة للشقاق والصراع المستمر بينهما مما يجعل استمرار الحياة المشتركة صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً، ورغم أن الانفصال أو الطلاق قد يحل جانباً كبيراً من المشاكل التي تعاني منها الأسرة، إلا أن مشاكل أخرى تبرز على السطح من جديد تتعلق بحضانة الأطفال ونفقتهم، وقد يستطيع الوالدان المنفصلان التوصل إلى حل عن طريق التفاهم، وقد يتعذر ذلك، ويلجا الطرفان أو أحدهما إلى المحاكم للبت في ذلك، مما يزيد من حدة الصراع بينهما، والذي ينعكس سلباً على أبنائهما.

وفي الغالب قد تتولى الأم حضانة أطفالها، وقد يتولى الوالد الحضانة، وقد يتولى الاثنان ذلك بالتناوب حرصاً على مصلحة الأبناء، وعدم انقطاع الصلة بين الوالدين وأبنائهما.
لكن الآثار السلبية لانفصال الوالدين على الأبناء تبقى كبيرة خاصة مع استمرار الكراهية والعداء بين الوالدين، ونقل ذلك الصراع بينهما إلى الأبناء، وما يسببه ذلك من مشاكل واضطرابات نفسية لهم. فقد اعتبرت الباحثة المعروفة  [مافيس هيرثنكتون] الطلاق بأنه مرحلة من التردي في حياة الأسرة، وليس مجرد حدث فردي قائم بذاته.

إن التأثير الناجم عن حضانة الأبناء من قبل أحد الطرفين يمكن أن يخلق مشاكل جديدة، فقد تتزوج الأم التي تتولى حضانة أبنائها، ويعيش الأبناء في ظل زوج الأم، وقد يكون للزوج الجديد طفل أو أكثر، وقد يتزوج الأب الذي يتولى حضانة الأطفال الذين سيعيشون في ظل زوجة أبيهم، وقد يكون لزوجة الأب طفل أو أكثر، وفي كلتا الحالتين تستجد الكثير من المشاكل، فقد لا ينسجم الأطفال مع زوج الأم، وقد لا ينسجموا مع زوجة الأب، وقد لا ينسجموا مع أطفال زوجة الأب، أو أطفال زوج الأم، وخاصة عندما يكون هناك تمييزاً في أسلوب التعامل مع الأطفال مما ينعكس سلبياً على سلوكهم وتصرفاتهم ونفسيتهم، وخاصة البنات، وقد يؤدي بهم إلى الشعور بالضيق والقلق والإحباط والخوف  والشعور  بالحرمان وفقدان الحنان، والحزن وهبوط المستوى الدراسي والهروب من المدرسة، وربما السرقة وغيرها من السلوك المنحرف والمخالف للقانون.

إن من المؤسف جداً أن تتصاعد نسبة الأسر المطلقة بوتائر عالية، وخاصة في الولايات المتحدة وسائر المجتمعات الغربية، فقد أشارت الدراسات التي أجراها مركز الدراسات الصحية بالولايات المتحدة أن نسبة الطلاق قد تصاعدت بنسبة 100% ما بين الأعوام 1970 ـ 1981، وأن هناك 1,182,000 حالة طلاق بين الأسر الأمريكية، وأن 23% من الأطفال يعيشون في أسر تضم أحد الوالدين فقط.

إن هذا النموذج السائد ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما في سائر المجتمعات الغربية حيث تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الأسر المطلقة في السويد على سبيل المثال تصل إلى الثلث.

4 ـ هناك أسر فقدت أحد الوالدين نتيجة الوفاة بسبب مرضي أو وقوع حادث، ومن الطبيعي إن فقدان أحد الوالدين يؤثر تأثيراً بالغاً على نفسية الأبناء، وخصوصاً إذا ما كانت العلاقة التي تسود الأسرة تتميز بدوام الاستقرار والثبات، ويسودها المحبة والوئام والاحترام المتبادل، وقد يتزوج الطرف الباقي على قيد الحياة ليدخل حياة الأبناء زوج أم، أو زوجة أب، وما يمكن أن يحمله لهم ذلك من مشاكل نفسية يصعب تجاوزها، وخاصة إذا ما كان تعامل العضو الجديد في الأسرة مع الأطفال لا يتسم بالمحبة والعطف والحنان الذي كانوا يلقونه من الأم المفقودة، أو الأب المفقود.

5ـ هناك أسر تعمل فيها الأم بالإضافة إلى الأب، ومن الطبيعي أن الأم العاملة تترك أطفالها في رعاية الآخرين، سواء أكان ذلك في دور الحضانة، ورياض الأطفال، أو تركهم لدى الأقارب مثل الجد والجدة، وحيث أن أكثر من نصف الأمهات قد دخلن سوق العمل، فإن النتيجة التي يمكن الخروج بها هي أن أكثر من 50% من الأطفال يقضون فترة زمنية طويلة من النهار في رعاية شخص آخر من غير الوالدين سواء داخل الأسرة أو خارجها.
 ولقد أوضحت الإحصائيات التي أجراها مكتب الإحصاء المركزي في الولايات المتحدة عام 1981 أن 54% من الأطفال دون الثامنة عشرة من العمر ينتمون لأمهات عاملات، بينما تبلغ النسبة 45% بالنسبة للأطفال دون السادسة من العمر، وطبيعي أن هذا النموذج هو السائد في المجتمعات المتقدمة كالمجتمع الأوربي.

ورغم عدم توفر الأدلة الكافية على مدى التأثيرات السلبية والإيجابية على أبناء الأمهات العاملات، إلا أن مما لاشك فيه أن الكثير منهن يعانين نوعاً من الصراع، والشعور بالذنب بسبب العمل، وترك أطفالهن في رعاية الآخرين، وخاصة عند ما يتعرض الأطفال لمشكلات صحية أو انفعالية، وتحاول العديد من الأمهات التعويض عن ذلك بتدليل أطفالهن وتلبية مطالبهم.

 ورغم الجوانب السلبية لعمل الأم فإن هناك جانب إيجابي ومفيد للأطفال، حيث يوفر عمل الأم المناخ الذي يساعدهم على الاستقلالية، والاعتماد على النفس في كثير من الأمور.
6 ـ هناك أسر لديها طفل واحد يغمره الوالدان بالدلال المفرط  والرعاية المبالغ فيها، والحرص الشديد، مما يؤثر تأثيراً سلبياً على سلوكه وشخصيته.

 فالدلال الزائد للطفل يجعله غير مطيع لتوجيهات والديه، وتكثر مطالبه غير الواقعية، ويميل إلى الاستبداد في المنزل والميل إلى الغضب لأتفه الأسباب، وفي حالات كثيرة يتصف الطفل المدلل بالجبن والخوف والانطواء، سواء داخل المدرسة أو في أوقات اللعب، وبضعف الشخصية، أو قد يتسم في أحيان كثيرة بالعدوانية والأنانية والغرور المفرط.

إن المصلحة الحقيقة للطفل تتطلب من الوالدين أن يمنحاه الحب والعطف والرعاية الأزمة من دون مبالغة في ذلك، لكي يضمنا النمو الطبيعي له الخالي من كل التأثيرات السلبية أما الأسر التي لديها أكثر من طفل واحد فإنها تجابه العديد من المشاكل والصعاب في تربية أبنائها، فقد يتعرض الأطفال إلى نوع من التمييز من قبل الوالدين، فهناك أسر تميل إلى البنين وتحيطهم بالرعاية والاهتمام  أكثر من البنات، وقد يحدث العكس في بعض الأحيان كما أن الطفل الأول يشعر بأن شقيقه الثاني قد أخذ منه جانبا كبيراً من الحنان والحب والرعاية، مما يسبب له الشعور بالغيرة، وما تسببه من مشاكل تتطلب من الوالدين الحكمة والتبصر في معالجتها فالغيرة هي أحد العوامل الهامة في كثير من المشاكل والتي قد تدفع الطفل إلى التخريب، والغضب، والنزعات العدوانية  والتبول اللاإرادي، وضعف الثقة بالنفس، ومن المعلوم أن الغيرة ليست سلوكاً ظاهرياً، وإنما هي حالة انفعالية يشعر بها الطفل عادةً، ولها مظاهر خارجية يمكن الاستدلال منها  أحياناً على الشعور الداخلي، لكن هذا ليس بالأمر السهل ، حيث يحاول الطفل إخفاء الغيرة ، بإخفاء مظاهرها الخارجية قدر امكانه.
ومن الجدير بالذكر أن الغيرة يمكن أن نراها مع الإنسان حتى في الكبر، فقد يشعر الفرد بالغيرة من زميل له حصل على منصب أعلى منه، أو يتمتع بثروة أكثر منه، ولا يعترف الفرد عادة بالغيرة بسبب ما تتضمنه من الشعور بالنقص الناتج عن الإخفاق.
إن الواجب يتطلب من الوالدين عدم إظهار العطف والحب والرعاية الزائدة للطفل الصغير أمام أخيه الكبير، ومحاولة خلق علاقة من الحب والتعاطف والتعاون بينهما،والابتعاد عن التمييز في التعامل مع الأبناء.

كما أن الطفل الأخير يحظى دائماً بنوع خاص من الرعاية والحب و الحنان والعطف، من قبل الوالدين الذين يعاملانه لمدة أطول من المدة التي عومل فيها من سبقه من الأخوة والأخوات على أنه طفل وتحيطهم بالرعاية والاهتمام، وغالباً ما يشعر الطفل الأخير بأنه أقل قوة  ونموا، واقل قدرة على التمتع بالحرية، والثقة ممن هم أكبر منه. 


98
الاسلوب القويم لتعامل الاسرة مع اطفالها
حامد الحمداني                                                             15/12/2017
البيت هو البيئة الاجتماعية الأولى للطفل، يقضي السنوات الأولى من حياته فيه منذُ الولادة وحتى انتقاله إلى المدرسة.
 فالبيت إذاً هو المدرسة الأولى،حيث تتولى الأسرة التي يعيش في كنفها رعايته وتنشئته النشأة القويمة.
 وبناء على ذلك فأن الأسرة تلعب دوراً بالغ الأهمية في تربية وإعداد أطفالها [اجتماعياً ] و[ أخلاقياً ] و [ عاطفياً ] من خلال إحاطتهم بالحب والعاطفة والأمن، وتدريبهم على السلوك الاجتماعي القويم، وتوفير الرعاية الأساسية الممكنة لهم، وإشعارهم بأنهم موضع اهتمامهم وحمايتهم، والاعتزاز بهم.
وتتولى الأسرة تعليمهم وتوجيههم لممارسة السلوك المقبول اجتماعياً، من خلال ممارستهم للأعمال والأنشطة المفيدة، والعمل على تجنيبهم كل سلوك ضار ومرفوض من قبل المجتمع بأسلوب تربوي بعيد عن أساليب القمع والإكراه، وأن يكون الوالدين مثالاً وقدوة حسنة وصادقة في سلوكهم وممارستهم أمام أطفالهم، حيث يقلد الأطفال ذويهم ويتعلمون منهم الشيء الكثير. وعلى ذلك فإن الوالدين تقع عليهم مسؤولية تربوية كبرى يتوقف عليها مستقبل أطفالهم، فالعائلة التي تغرس في نفوس أطفالها القيم والعادات الحميدة تكون قد بنت الأساس المكين لسلوكهم وأخلاقهم مستقبلاً، وعلى العكس من ذلك فإن العادات السيئة والسلوك المنحرف الذي يتعلمه الأطفال في مقتبل حياتهم من أفراد أسرتهم يتحول إلى سلوك دائمي إذا ما استمروا عليه، فمن الصعوبة بمكان أن نلغي لدى أطفالنا عادة ما، ونحل محلها عادة أخرى، حيث يتطلب ذلك منا الجهد الكبير والوقت الطويل.

إن على الأسرة التي تهدف إلى تربية أطفالها التربية القويمة أن تلتزم بالمبادئ التالية:       
1ـ ينبغي للوالدين احترام مسار النمو العادي لطاقات أطفالهم  والسماح لغرائزهم بالنمو بشكل طبيعي شرط أن لا تعرضهم للاستثارة الزائدة، وإرشادهم فيما يتعلق بمواجهة المشاعر الاتكالية والجنسية والعدوانية، ومساعدتهم على ضبط تلك المشاعر وجعلها طبيعية، وإشباعها بأسلوب لا يخل بالقيم السائدة في ثقافتهم، ولاشك أن الوالدين لهما الحق، وعليهما الواجب في تبني قيم معينة ومحاولة غرسها وتنميتها لدى الأطفال لأن هذا الإطار  ضروري لخلق المعايير السلوكية لديهم. (43)

2ـ على الوالدين تهيئة المناخ المناسب لتنمية الثقة لدى أطفالهم، والتي تشكل الأساس لكل الروابط العاطفية لأن الأطفال بحاجة للحصول على الخبرة لتحقيق الاستقلال الذاتي، شرط أن لا يعني ذلك إطلاق العنان ومحاولة إشباعها بصورة عشوائية من غير ضوابط .

3ـ على الوالدين إتاحة الفرصة لأطفالهم للتعبير عن الشغف وحب الاستطلاع والمبادأة والاستكشاف، شرط أن لايؤدي ذلك إلى التجاوز على القيم النبيلة أو على حقوق الغير،  وتشجيعهم على الكد والمثابرة والاجتهاد. (44)

4ـ ينبغي للوالدين أن يتصفا بالحزم ولكن من دون قسوة، والإرشاد من دون استخدام الأوامر والتعليمات غير المنطقية وغير المبررة، وان يحرصوا على إدامة الثقة فيما بينهم أولاً، وبينهم وبين أطفالهم ثانياً، حيث أن ذلك يساعد الأطفال على النمو خلال مرحلة المراهقة والشباب، والحرص على تنمية المشاعر الإيجابية لديهم فيما يخص تقدير الذات، والقدرة على التحمل والتسامح، والتمسك بالقيم الإنسانية.

5ـ ينبغي للأسرة أن تكون نموذجاً يتسم بالثقة والأمن من خلال تمسكهم بالقيم الفاضلة، والسلوك القويم، والطلب من أبنائهم ممارستها، من خلال ممارستهم لتلك السلوكيات والعمل على تعزيز الجانب الإيجابي في السلوك، وامتداح أبنائهم الملتزمين به، والعمل على كف السلوكيات الخاطئة والمنحرفة، وغير المرغوب بها.

6ـ لا شك أن استخدام المحبة والتقبيل  بدلاً من أساليب القوة والسيطرة والعنف هي السبيل الأمثل لتربية وتنمية أطفالهم، وجعلهم أكثر قدرة وقابلية على تحمل المسؤولية عن أفعالهم، وتمسكهم بالتعاون مع الآخرين، وإن استخدام أساليب العنف مع الأطفال لضبط سلوكهم من شأنه أن يؤدي إلى تنمية المشاعر العدوانية لديهم.
إن ما يكتسبه الأطفال خلال السنوات الأولى من حياتهم بين أسرهم، قبل دخولهم المرحلة الوسطى، ونقصد بها المدرسة والتي هي امتداد للتربية في البيت، حيث تعد الأبناء لدخول حياة المجتمع، ولذلك فهي من الأهمية بمكان لمستقبلهم، فإذا ما كانت الأسرة تعيش حياة آمنة ومستقرة، يسودها المحبة والاحترام، والتعاون بين أفرادها، وخاصة الوالدين، وتتمسك بالسلوك والأخلاقيات القويمة، فلا شك أنها سوف تؤثر تأثيراً إيجابياً عميقاً في نفسية وسلوك أبنائها، وعلى العكس من ذلك فإن الأسر الممزقة والمتناحرة، والتي تفتقد إلى الاحترام المتبادل بين الوالدين وبقية أفراد الأسرة، وكذلك الأسر التي انفصل فيها الوالدين، ويعيش الأطفال مع أحدهما، أو كلاهما بالتناوب فإن ذلك يؤثر تأثيراً سلبياً بالغاً على نفسية وسلوك أبنائهم بكل تأكيد. (45)   
       
لقد اتضح من الدراسات التي أجراها علماء التربية وعلم النفس أن الأسر التي لا تعاني من مشكلات سلوكية بين أعضائها تعيش حياة هادئة، ويرتاح بعضهم إلى البعض الآخر، وهم يستطيعون إجراء المناقشات فيما بينهم بمهارة ويسر، وعلى الرغم من وجود فروق في الأدوار لكل فرد منهم، فإنهم يشتركون جميعا في القيم السامية التي تحافظ على بناء وتماسك أسرهم، على الرغم من أن الأسر لا يمكن أن تخلو من بعض التوترات والإحباطات، والغضب والغيرة وغيرها من المشكلات، فهذه خصائص موجودة في كل أسرة، لكن هذه الأسر تختلف بعضها عن البعض الآخر في كيفية مجابهة تلك المشاكل التي تحدث داخلها عن طريق الحكمة والتعقل الممتزجة بالحبة والعطف والاحترام العميق لمشاعر الجميع صغاراً وكباراً.       

وعلى العكس من ذلك نجد الأسر التي يعاني أفرادها من الاضطراب السلوكي تتميز بالضعف، وهشاشة العلاقة فيما بينها، ومع البيئة الاجتماعية الخارجية، وتتسم العلاقات الأسرية بالغضب والاستفزاز والعداء، وتنتابهم باستمرار مشاعر التهديد والمراوغة والكراهية حيال بعضهم البعض، ويسود الأسرة مناخاً من الإحباط والركود، وقد نجد أبناءهم يهربون إلى خارج الأسرة.

إن الأسر التي تعاني من المشاكل بين الوالدين تتسم تربية أبنائهم بالازدواجية حيث يتلقون التوجيهات المتناقضة منهما وقد يلجاً أحد الوالدين إلى تحريض أبنائهم على عدم الإصغاء لنصائح الطرف الآخر و تشويه صورته والإساءة إليه، مما يؤدي إلى عدم احترام الأبناء لهما، أواتخاذهما نموذجاً يحُتذى به في سلوكهم.

 

99
محنة الشعب الفلسطيني ومسؤولية الحكام العرب
الحلقة الثالثة والأخيرة3/3
حامد الحمداني                                                     18/5/2011

استئناف القتال، والولايات المتحدة تفرض هدنة جديدة:
عندما أكره مجلس الأمن الدول العربية على وقف القتال قي فلسطين اعتباراً من 11 حزيران 1948 وعين الوسيط الدولي [ الكونت برنادوت ] لوضع حل سلمي للمشكلة الفلسطينية !!، كان أحد شروط الهدنة هو عدم استفادة أي طرف من الأطراف لتعزيز قواته، أو تحريكها.

 لكن الحقيقة أن الصهاينة استفادوا من كل يوم، بل وكل ساعة لتعزيز مواقعهم، ولجلب الأسلحة والطائرات التي أخذت تنهال عليهم من الإمبرياليين الأمريكيين والإنكليز وغيرهم، فيما بقيت القوات العربية ملتزمة ببنود الهدنة، ولم تسعَ إلى تقوية مركزها، معتمدة على مصداقية مجلس الأمن!!.

لكن الدول العربية اضطرت في نهاية المطاف، وبعد أن وجدت التعزيزات العسكرية الصهيونية تجري ليل نهار، إلى استئناف القتال من جديد في 9 تموز، وفوجئت القوات العربية بأخذ القوات الصهيونية زمام المبادرة من أيديهم، وبدأت تهاجمهم بعنف، وخسرت القوات العربية  [صفد] و[الناصرة] و [اللد] و[الرملة] والعديد من القرى العربية، وتشرد الألوف الجدد من أبناء الشعب الفلسطيني، تاركين ديارهم وأملاكهم وأموالهم، هرباً من المذابح الصهيونية.

 وهكذا استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن تفرض على العرب هدنة جديدة، في 18 تموز 1948، وتخاذل الحكام العرب، وقبلت أربعة دول عربية هي مصر والأردن والسعودية واليمن  مبدأ التقسيم، فيما رفضت الحكومتان السورية والعراقية الهدنة، لكن الموافقة على القرار تم بالأكثرية وقبل العرب إجراء مفاوضات لعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في [لوزان ] بسويسرا.

 وقد استنكرت الأحزاب الوطنية في العراق قرار مجلس الأمن، وقبول الحكام العرب له، في بيان مشترك صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار.
 كما سيروا المظاهرات في بغداد يوم الجمعة المصادف 23 تموز 1948، احتجاجاً على قبول الهدنة، في حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً يدعو فيه إلى وقف القتال، وسحب الجيوش العربية، والقبول بقرار مجلس الأمن، وكان ذلك الموقف استمراراً لمواقفه الخاطئة من القضية الفلسطينية، والتي أضرّت بالحزب وشعبيته ضرراً بليغاً .

تطورات درامية في حرب فلسطين:
لعب الملك عبد الله، وقائد جيشه البريطاني [ كلوب باشا ] دوراً خيانيا مشهوداً، بعد أن تولى الاثنان قيادة الجيوش العربية في القاطعين الشمالي والشرقي من الجبهة .
 فبعد أن أقّر رؤساء الأركان العرب في اجتماع [ الزرقاء ] خطة عسكرية فعالة لمجابهة القوات الصهيونية، أعترض عليها كلوب باشا واستبدلها بخطة جديدة، فقد أدرك كلوب أن تنفيذ تلك الخطة سوف تفشل المخطط الإمبريالي الصهيوني، وخطة الملك عبد الله الطامع في الأرض الفلسطينية، وكان بإمكان تلك الخطة القضاء على القوات الصهيونية، ولكن إقدام كلوب باشا على إبدالها أدى إلى الفشل الذريع للجيوش العربية  وبالتالي أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة.

كان هذا على الجبهتين الشمالية والشرقية، أما على الجبهة الجنوبية التي حارب فيها الجيش المصري فكانت الخيانة اعظم، عندما جُهز الجيش المصري بالعتاد الفاسد، مما سبب كارثة للجيش، ومكّن القوات الصهيونية من محاصرته في الفالوجه، وإلحاق الخسائر الجسيمة به والاستيلاء على الفالوجة .

وعلى الأثر سافر رئيس الوزراء، مزاحم الباجه جي، إلى القاهرة، والتقى زميله رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي ] وبحثا الأحوال بعد سقوط الفالوجة، وجرى الاتفاق على إرسال لواء عراقي آلي مع فوجين سوريين لمساعدة الجيش المصري، وتم الاتفاق على موعد الهجوم على الفالوجة، ولما اطلع كلوب باشا على الخطة رفضها فوراً، وأعلن أن الجيش الأردني في منطقة القدس لن يسمح بمرور القوات العراقية والسورية، وبذلك أفشل كلوب باشا خطة رؤساء الأركان العرب لمساعدة الجيش المصري، والذي بقي يقاتل لوحده متحملاً ضغط القوات الصهيونية .

وبانكشاف هذه المؤامرة الجديدة على القضية الفلسطينية، قامت المظاهرات العارمة في بغداد احتجاجاً على تخاذل الحكومة، وضلوع العرشين الهاشميين في تلك المؤامرة، وقد وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، أصيب على أثرها أكثر من 200 من المواطنين بجراح، واعتقلت السلطات أعداد كبيرة أخرى منهم .

كما قام وفد من نواب المعارضة بمقابلة ولي العهد عبد الإله، ورئيس الوزراء الباجه جي، بعد اجتماع عقده نواب المعارضة، وقدموا مذكرة باسم المعارضة لهما، وقد دعت المذكرة إلى عدم التزام العراق بالهدنة التي تنتهكها إسرائيل باستمرار، والعمل فوراً على تقديم العون العسكري للقوات المصرية التي بقيت تقاتل لوحدها، وقطع النفط عن الدول الإمبريالية التي تدعم العصابات الصهيونية، وإنذار بريطانيا بإلغاء معاهدة التحالف معها إذا ما استمرت في سياستها الحالية .

كما فضحت المذكرة الدور الخياني لحكومة الأردن، وحذرت من أن  ترك مصر لوحدها سوف يؤدي إلى انهيار الجامعة العربية، وانعزال مصر عن القضايا العربية، وفقدان الأمل في قيام وحدة عربية.

 وقد وقّع على المذكرة كل من السادة النواب : خميس الضاري  ـ ذيبان الغبان  ـ داؤد السعدي ـ عبد الرزاق الظاهر  ـ محمد حديد ـ عبد الجبار الجومرد ـ عبد الكريم كنه  ـ فائق السامرائي  ـ إسماعيل الغانم  ـ  روفائيل بطي ـ عبد القادر العاني  ـ نجيب الصايغ ـ عبد الرزاق الشيخلي ـ هاشم بركات ـ حسن عبد الرحمن ـ جعفر البدر ـ ريسان كاطع ـ مصلح النقشبندي ـ خدوري خدوري  ـ جميل صادق ـ برهان الدين باش أعيان  ـ عبد الرحمن الجليلي  ـ محمد مهدي كبه  ـ حسين جميل و أركان العبادي ، وقد قدم النواب صورة من هذه المذكرة إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان .
وبالنظر لتطور الأحداث بهذا الشكل المتسارع، وشدة الانتقادات التي وُجهت للحكومة، ولخطورة الموقف، لم يجد مزاحم الباجه جي أمامه من طريق سوى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي، في 6 كانون الثاني 1949، وتم قبول الاستقالة على الفور، وكلف الوصي رجل بريطانيا القوي في العراق  نوري السعيد، لتأليف وزارته العاشرة  في اليوم نفسه .
مصير القسم العربي من فلسطين: 
بعد إعلان قبول الدول العربية بالهدنة الثانية، والقبول بتقسيم فلسطين، قدمت الحكومة المصرية اقتراحاً لجامعة الدول العربية يقضي بإعلان حكومة عموم فلسطين العربية، على أن يعّين [ احمد عرابي باشا ] حاكماً عليها، وقد أيد العراق الاقتراح المصري، وأيده فيما بعد كل من  لبنان والسعودية واليمن، وعارضه الملك عبد الله الذي كانت بريطانيا قد وعدته أثناء زيارته الرسمية للندن  في 21 شباط 1946 بضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارته [ شرق الأردن ]آنذاك، إذا ما حان الوقت لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولذلك جاءت معارضة الملك عبد الله، والتي اتسمت بالشدة،  وهدد باتخاذ أشد الإجراءات الهادفة إلى إحباط الاقتراح المصري .

ودبر الملك عبد الله، بالتعاون مع الإنكليز، ما سمي [مؤتمر أريحا ] والذي جاءوا له بعدد من الشخصيات الفلسطينية الموالية لبريطانيا، وللملك عبد الله، ليقرروا ضم الجزء العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن لتشكل دولة الأردن بضفتيه، فيما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وهكذا اختتمت المسرحية التي أخرجتها الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، ونفذها الحكام العرب، وكان ضحيتها ليس شعب فلسطين فحسب، بل الشعب العربي كله.

 فقد أصبحت إسرائيل مصدراً للعدوان والتوسع على حساب البلدان العربية، واضطرت هذه البلدان إلى خوض عدة حروب معها، وكانت إسرائيل توسع كيانها في كل مرة على حساب العرب، ناهيك عن أنهاك الاقتصاد العربي بسبب تلك الحروب، والتسلح المستمر منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

أثارت تلك المؤامرة الكبرى نقمة الشعوب العربية على حكامها، وأدركت هذه الشعوب أن الداء هو في وجود هؤلاء الحكام على رأس السلطة، وأن لا سبيل لإصلاح الأمور إلا بتغيير الأوضاع فيها، كما أن الجيوش العربية التي عادت إلى بلدانها، ومرارة الحزن والأسى بادية على وجوه الجنود والضباط المغلوبين على أمرهم قد أدركوا أن الحكام العرب هم أساس البلوى، فقد باعوا  أنفسهم للإمبريالية، ونفذوا مخططاتها في المنطقة العربية، وكان من بين أولئك الضباط قائد ثورة 23 يوليو في مصر [ جمال عبد الناصر ] و قائد ثورة 14 تموز في العراق الزعيم الشهيد[ عبد الكريم قاسم ].
 ونتيجة لتك التطورات التي أفرزتها الحرب، شهدت البلدان العربية بعد عام النكبة 1948 تغيرات كثيرة حيث اختفت رموز كثيرة من المسرح السياسي، فقد وقع انقلاب عسكري في سوريا في 30 آذار 1949 بقيادة [ حسني الزعيم]،  وقتل الملك عبد الله في 20 تموز 1951، كما جرى اغتيال رئيس وزراء مصر  [محمود فهمي النقراشي ]، واغتيال رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح ] إثناء زيارته الرسمية إلى عمان في 16 تموز 1951 .
أما في العراق فقد جرت المعارك في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية بين قوات السلطة القمعية والشعب، وتم إسقاط وزارة صالح جبر الموالي للإنكليز، وفي مصر جاءت ثورة 23 يوليو في  مصر، وتم إسقاط حكم الملك فاروق، أحد المسؤولين الكبار عن النكبة، وفي لبنان وقع انقلاب عسكري في 18 أيلول 1952  أطاح بالرئيس اللبناني [ بشارة الخوري]، وأخيراً تكلل نضال الشعب العراقي بالنجاح في ثورة 14 تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي الموالي للإنكليز.



100
محنة الشعب الفلسطيني ومسؤولية الحكام العرب
الحلقة الثانية 2/3
حامد الحمداني                                                     1/12/2017

إعلان قيام دولة إسرائيل،ودخول الجيوش العربية فلسطين:

في الرابع عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وفي نفس اليوم أعلنت المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبعد عشرين دقيقة من إعلان قيامها أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة العبرية، وتبعتها بعد ذلك بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي واعترفوا بها، وكان ذلك قد شكل أكبر تحدي لمشاعر الملايين من الجماهير العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، وضربة قاصمة وجهتها الإمبريالية للعرب.
بدأت العصابات الصهيونية أشنع حملة لتهجير السكان العرب من مدنهم وقراهم، فأقاموا المجازر البشعة ضدهم، مستخدمين كل أنواع الأسلحة، وقُتل من قُتل من النساء والأطفال والشيوخ، وترك ما يزيد على المليون وربع المليون من الفلسطينيين ديارهم هرباً من بطش الصهاينة، تاركين وراءهم كل ما يملكون من مساكن وأثاث وأموال ومصالح، وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة، يعيشون تحت الخيام، بانتظار مساندة ودعم الحكام العرب لعودتهم إلى ديارهم !!

واضطر الحكام العرب تحت ضغط شعوبهم إلى دفع جيوشهم إلى فلسطين، واستبشر الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة بتحرك الجيوش العربية، لكن ظهر فيما بعد أن تلك الحرب لم تكن سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون، ونفذها الحكام العرب، لا لتحرير فلسطين، بل لتثبيت الدولة العبرية الجديدة.
دخلت القوات العربية إلى فلسطين ساعيةً إلى الحرب بدون حسام، فلقد جُهز الجيش المصري بعتاد فاسد، مما أوقع خسائر فادحة في صفوفه.

أما القوات العراقية فقد كانت أربعة أفواج مجهزة بأسلحة خفيفة لا تفي بالغرض، وحتى القوة الآلية للجيش العراقي فقد كان الجنود غير مدربين على استخدام تلك الآليات، فقد ذكر قائد القوات العراقية في فلسطين، اللواء الركن  [نور الدين محمود] في تقريره إلى رئاسة أركان الجيش، في حزيران 1948 ما يلي : { خلال مدة بقائي في المفرق، فتشت القوة الآلية فوجدت معظم جنود الفوج الآلي غير مدربين، حتى أن القسم الأعظم لم يرموا بأسلحتهم الخاصة بهم، وبالإضافة إلى ذلك علمت أن الفوج المذكور استلم مدافع الهاون في يوم حركته من بغداد ولا يعلم أحد بالفوج، ولا بالقوة الآلية كلها كيفية استخدام هذا المدفع، وقد تركت في السيارات بانتظار إرسال الجنود المدربين على استخدامها من بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدت أن جنود المدرعات لم يدربوا بأسلحتهم مطلقاً فاضطررت إلى الإبراق إلى وزارة الدفاع للموافقة على تدريبهم على إطلاق بضعة إطلاقات بصورة مستعجلة، لكي يعرفوا خصائص أسلحتهم على الأقل، وعند الاستفسار عن كميات العتاد المتوفرة ظهر لي أن القنابل من عيار 2 رطل كان محدوداً جداً، كما أن الوحدات اسطحبت عتاد الخط الأول فقط، ولم يؤسس خط للمواصلات بعد، وكانت الوحدات تستهلك الأرزاق التي جلبتها من بغداد، وكانت بقية أمور التموين والإعاشة في دور التأسيس.

 وهكذا كانت الحالة للقوة الآلية المرسلة إلى فلسطين، والمزمع إشراكها في القتال دون التهيئة، وأن وضعية كهذه جعلتني في حالة استغراب من إرسال قوات وزجها في القتال بهذا الوضع الناقص}، ومع ذلك فقد أبدا الجنود العراقيين بسالة منقطعة النظير، واستطاعوا التقدم واحتلال العديد من المواقع الصهيونية، مما أزعج الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا الضغط على الحكومة العراقية لمنع تقدم قواتها.

 وهكذا قُيدت حركة القوات العراقية، وظهرت تلك الأيام حكاية تداولها الشعب العراقي بتهكم شديد، وهي عبارة [ ماكو أوامر ]. أي أن الجيش ليس لديه أوامر للتحرك. لقد كانت تلك الحرب مخططة مسبقاً، ونتائجها مرسومة، وهي تقتضي قيام دولة إسرائيل، وخذلان الجيوش العربية .

أما الملك عبد الله ـ ملك شرق الأردن ـ فقد أصّر على أن تكون قيادة القوات العربية له، وقد عارضت بعض الدول العربية ذلك، حيث أن الجيش الأردني يقوده الجنرال البريطاني[كلوب باشا] وبريطانيا هي التي سلمت فلسطين للصهاينة، فلا يعقل أن تسلم قيادة الجيوش العربية لكلوب باشا، لكن حكام الدول العربية تراجعوا عن معارضتهم بضغط من بريطانيا، وتسلم كلوب باشا  القيادة الفعلية للجيوش العربية !!.
كان الملك عبد الله يغتنم كل فرصة لكي يؤمن لنفسه الاستفادة مما ستؤول إليه الأمور، وكان يجري باستمرار اتصالاته السرية مع [وايزمان ] و[ بن غوريون] وسلم الملك عبد لله مدينتي [ اللد] و[الرملة] للصهاينة دون قتال، بعد أن كانت القوات العربية قد سيطرت عليها.

لقد نال الملك عبد الله ثقة الصهاينة، بعد أن أمر القوات العربية التي وصلت إلى أبواب تل أبيب بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السابقة، متيحاً الفرصة للصهاينة لتنظيم صفوفهم، وجلب الأسلحة والمعدات والقوات، للوقوف بوجه القوات العربية. 
ورغم خيانة الحكام العرب، ليس لفلسطين وحسب، بل لجيوشهم التي زجوا بها في المعركة دون استعداد، ودون سلاح، وتزويدها بالعتاد الفاسد، كما جرى للجيش المصري، إلا أن القوات العربية المؤمنة بقضية العرب الرئيسية فلسطين أبلوا في الحرب بلاءً قلّ نظيره، وكادت تلك القوات،  برغم الظروف السيئة تلك أن تقضي على القوات الصهيونية التي أصابها الإعياء، ونفذ عتادها، مما اضطر زعماء الصهيونية إلى الطلب من الولايات المتحدة العمل على وقف القتال، وقيام هدنة بين الطرفين لاستعادة الأنفاس والتهيئة لجولة جديدة.

إعلان الهدنة الأولى في فلسطين:
سارعت الولايات المتحدة إلى دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع، بدعوى أن الوضع في الشرق الأوسط يهدد الأمن والسلام الدوليين، واستطاعت استصدار قرار من المجلس يقضي بوقف القتال بين الطرفين، وإرسال الوسيط الدولي السويدي [ الكونت برنادوت ] الذي قتله الصهاينة فيما بعد، ليلة 22 / 23 أيار، بعد 39 ساعة من بدء القتال.

سارع الحكام العرب إلى قبول وقف القتال، بعد اجتماع عاصف بين ممثلي الحكومات العربية، فقد هدد رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي] بأن مصر سوف تعقد هدنة مع الصهاينة لوحدها إذا لم توافق بقية الدول العربية على ذلك. أما الملك عبد الله فقد أصرّ على قبول الهدنة، وهدد بقطع التموين عن الجيش العراقي إذا أصرّ العراق على عدم قبولها. أما الملك عبد العزيز آل سعود، فقد رفض قطع النفط عن الولايات المتحدة، بناء على طلب الجامعة العربية، وكان ذلك كفيلاً بأن يشكل اكبر ضغط عليها. 
كانت مواقف الحكومة السورية أكثر جرأة واندفاعاً، ولذلك وجدنا القوات الصهيونية ركز هجماتها على القوات السورية .
بدأت القوات الصهيونية تستعيد أنفاسها، وبدأت الأسلحة تنهال عليها من كل جانب، وجرى تنظيم، وإعداد تلك القوات لجولة جديدة مع القوات العربية، وكان قبول الحكام العرب يمثل خيانة كبرى لمصالح الأمة العربية، ولقضية فلسطين، كما كان قرار مجلس الأمن أهم امتحان لمصداقية المهيمنين على مجلس الأمن، والذين تنكروا للميثاق الذي وضعوه هم أنفسهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

لقد كان العراق يملك من القوات والأسلحة ما يكفيه وحده لتحطيم القوات الصهيونية، لكن الحكام المؤتمرون بأوامر الإمبريالية لم يكونوا جادين في حربهم، أما الملك عبد الله فخيانته للقضية الفلسطينية لا تحتاج إلى دليل، فقد كان يقدم للصهاينة النفط الذي كان يمر عبر أنبوب النفط العراقي إلى [حيفا] والتي وقعت بأيدي الصهاينة، حيث استمر بالتدفق ليستخدموا البترول في تسيير آلياتهم العسكرية، فقد وصف المؤرخ الأردني المعروف [ سليمان موسى ] موقف الملك عبد الله قائلاً :
{ كان الأردن حتى أوائل شهر أيار 1948 يحصل على ما يحتاج إليه من مشتقات النفط من مصفاة شركة بترول العراق في حيفا، وعندما سلمت بريطانيا، مدينة حيفا للصهاينة أصبحت المصفاة بأيديهم فأخذوا يستغلونها لسد حاجاتهم، ولذلك لم يكن الصهاينة بحاجة، أو أزمة فيما يختص الوقود بأنواعه، أما الأردن فقد استطاع الحصول على ما يحتاج من وقود من محطتي H3وH5، حيث ضخت الشركة 12 مليون غالون من كركوك  إلى خزاناتها في المحطتين، ومنها أخذ الأردن حاجته من الوقود}. وهكذا اشتركت الحكومتان العراقية والأردنية في تزويد الصهاينة بالنفط الضروري لحركة آلياتهم العسكرية.

101
محنة الشعب الفلسطيني ومسؤولية الحكام العراب
الحلقة الأولى 1/3
حامد الحمداني                                                   29 /11/2017

بدأت المشكلة الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، باندحار الدولة العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو] السرية، فقد احتلت بريطانيا العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، ومصر، والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية.
كانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917، عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده الذي عرف باسمه. بدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وصلة الوصل بين مشرقه ومغربه، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد، قبل أن تجلوا تلك القوات، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل.

وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسّ بالمؤامرة التي تحاك ضده، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين. لقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح، وبقسوة ليس لها مثيل، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه.

لم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين.

وعند قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان [كتابها الأبيض] الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فقد اعترفت باستقلال فلسطين، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي، فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم، لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها ومستشاريها باسم الانتداب.

بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة ألهاجانا ] و [منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون] ، وقدمت بريطانيا لهم السلاح، وكل المساعدات الممكنة لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على طلقة واحدة، وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [ لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية ] بعد الثورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين.

 وجاء تقرير اللجنة في 16 آذار 1946 مخيباً الآمال العربية، واستفزازاً لها، فقد جاء في التقرير خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود.
أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة  وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت حكومة جميل المدفعي، تحت ضغط الجماهير الشعبية إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة، لكن حكومة جميل المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير.

وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان] بسوريا، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعلن عن قيام دولة صهيونية، لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين!!.

 بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وصحراء سيناء إلى أن عقد السادات معها معاهدة [ كامب ديفيد ]، كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا.

ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني] .
وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلو أمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين.
وفي 22 تشرين الأول من نفس العام عقد رؤساء العشائر العربية والكردية والأيزيدية مؤتمراً في مدينة الحلة لبحث القضية الفلسطينية، وخرجوا بمقررات عديدة، كان أهمها إرسال المتطوعين إلى فلسطين للتصدي للعصابات الصهيونية، إلا أن تلك القرارات بقيت حبراً على ورق، ولم يجد تنفيذها النور، ولاشك أن الإنكليز كانوا وراء إفشال ذلك المؤتمر في تنفيذ قراراته.

وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع [الانكلو أمريكي]، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي.
وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون، وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [ألهاجانا ] و[ الماباخ ]، القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي.

سادت التظاهرات أرجاء البلاد، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني.

 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم وقيام الكيان اليهودي،  وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب، وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية.

وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان، وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة تذكر.

وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة، على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة.

وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ آنذاك، وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم.

وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين.

ومن الجهة الأخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين، وبالتنسيق معهم ومع الولايات المتحدة، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم.

ولم يكن الحكام العرب الذين نصبهم الإمبرياليون، جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !!.


102
دولة ديمقراطية علمانية
هذا هو الطريق لبناء عراق جديد
حامد الحمداني                                                             17/10/2017

ما يزال الشعب العراقي يعاني أشد المعاناة من جراء الاحتلال الأمريكي البغيض، ومن احزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني بالاشتراك مع احزاب الكردية القومية التي سلمها المحتلون مقاليد الحكم منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا، واتاح لها صياغة دستور على مقاسها ملئ بالعورات والثغرات التي باتت تهدد السلم الأهلي في البلاد.

إن المحتلين لم يأتوا لإنقاذ شعبنا من طغيان نظام صدام حسين الذي خلقوه هم وسخروه لخدمتهم طيلة سنوات حكمه، بل جاءوا من أجل تنفيذ أجندتهم البعيدة المدى للهيمنة على العراق، ومنطقة الخليج، وسائر الشرق الأوسط، وهم الذين نصبوا قادة أحزاب الاسلام السياسيي، والأحزاب القومية والشوفينية الساعية لتمزيق العراق باسم الفيدرالية مستغلين الأوضاع المأساوية التي يمر بها الوطن دون التفكير بما يخفيه المستقبل من مخاطر على قضيتهم بالذات، وتجاهل حقيقة كون كل فعل له رد فعل مساويٍ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه من جانب القوميات الأخرى التي تشكل الأغلبية لسكان العراق، وهذا ما نخشاه على مصلحة جميع مكونات الشعب العراقي .

إن الظروف الحالية قد وضعت العراق في طريق محفوف بالمخاطر فكل الخيارات المطروحة اليوم أمامه شديدة المرارة، ولا خروج من هذا المأزق إلا بقيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي بعيداً عن الهوس الديني والطائفي، وبعيداً عن الهوس القومي الشوفيني المتعصب، وبعيداً عن المحاصصة الطائفية البغيضة، فالديمقراطية الحقيقية تضمن تماماً لكل ذي حق حقه بصرف النظر عن قوميته ودينه وطائفته وجنسه، وإن البديل لهذا النظام هو الصراع والاحتراب وخراب البلاد وقتل العباد .

لقد جاءت أمريكا بجيوشها الجرارة إلى العراق مبشرة بنهاية عصر الطغيان الصدامي وبداية عصر الديمقراطية !!، ورغم أننا قد حذرنا من الحرب ونتائجها المأساوية على الشعب العراقي ومصير العراق قبل وقوعها بعدة أشهر عبر العديد من المقالات المنشورة والمؤرشفة في موقعي والعديد من مواقع الانترنيت، ودعونا إلى تطبيق القرار 688 الخاص بحقوق وحريات الشعب العراقي، وإجبار النظام الصدامي الفاشي على إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، والانتقال السلمي للسلطة، وكان بمقدور الولايات المتحدة المهيمنة على مجلس الأمن الدولي أن تفعل ذلك، لكنها لم تكن جادة في دعواها، وأصدرت كل قراراتها المجحفة ضد العراق استناداً للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يعني إجبار التنفيذ وبالقوة، إلا القرار 688 الذي كان استثناءاً من ذلك، وبالتالي تحول إلى قصاصة ورق لا غير، فالأهداف الأمريكية كانت أبعد من إسقاط نظام خادمها الأمين صدام، وتمتع الشعب العراقي بالديمقراطية الموعودة !!.
ومن حق المواطن العراقي أن يتساءل:
هل هذه هي الديمقراطية الأمريكية الموعودة أيها السادة القابعون في البيت الأبيض، والبنتاغون، ووزارة الخارجية، والمخابرات الأمريكية؟
هل الديمقراطية الأمريكية تعني قيام نظام حكم طائفي أوعنصري وتفتيت العراق؟ هل كان أسلوب تأليف مجلس الحكم والحكومات التي توالت على السلطة من بعده يمثل التوجه الديمقراطي المنشود ؟
هل جرت الانتخابات البرلمانيةعلى أسس ديمقراطية بعيدة عن الطائفية والهوس الديني، وتدخل المرجعية الشيعية في الانتخابات لصالح الأحزاب الدينية المرتبطة بوشائج عديدة مع نظام ملالي طهران؟
هل الديمقراطية الأمريكية تعني تهميش القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية في العراق لتخرج لنا برلماناً يتمثل بالإسلام السياسي الطائفي والفكر القومي الشوفيني الساعي لتمزيق العراق ؟
هل تمثلت في اللجنة التي صاغت الدستور العراقي الدائم أي من صفات الديمقراطية التي وعدت الولايات المتحدة الأمريكية شعب العراق بها؟
إن كانت هذه هي الديمقراطية الموعودة فلا يسع  المواطن العراقي إلا القول تعساً للديمقراطية الأمريكية الموعودة، وتعساً لمن يصدق أن أمريكا يمكن أن تدعم نظام حكم ديمقراطي حقيقي في العراق، ولا في أية بقعة من العالم، وهي التي تدعم أشد النظم تخلفاً ورجعية في العالم العربي والعديد من النظم الدكتاتورية في مختلف بلدان العالم ما دامت تسير بركاب السياسة الأمريكية الهادفة للهيمنة على مقدرات الشعوب .

أيها الشعب العراقي المهضوم الحقوق والحريات، والمغيب عن كل ما يجري حوله في دهاليز السياسة بين تجار الوطنية من بني قومي، وبين تجار الحروب وأصحاب رؤوس الأموال في بلد الإمبريالية الأول الذين خططوا للحرب على العراق، والذين لا يهمهم سوى مصالحهم الخاصة، وهيمنتهم المطلقة على مقدرات الشعوب اقول إنك أمام مفترق الطريق فإما الخنوع والخضوع لما يخططونه لك وباسمك زوراً وبهتاناً، وإما أن تأخذ الزمام بنفسك فالحرية تؤخذ ولا تعطى .

أنهم قد صاغوا لك دستوراً غارقا في أعماق التاريخ امتهنوا فيه حرياتك الشخصية والحريات العامة، وامتهنوا بوجه خاص حقوق المرأة التي تمثل نصف المجتمع العراقي باسم الدين والشريعة ليتخذونها وسيلة للتفريخ وإشباع الهوس الجنسي للرجل، أنهم يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في حياة المواطن باسم عدم معارضة الشريعة والآداب العامة، حتى بات  حلق اللحى، والحلاقة النسائية مخالف للآداب العامة، وعدم إرتداء الحجاب والنقاب مخالف للآداب العامة، وسماع الموسيقى والأغاني، وارتياد السينما والمسرح حرام، بل لقد اختفت السينما واختفى المسرح من حياتنا بسبب التهديدات الارهابية لأنه في عرف احزاب الإسلام السياسي مخالف للآداب،  وباتت حتى السفرات المدرسية والجامعية هي الأخرى مخالفة للآداب العامة يستحق القائمون بها الضرب والقتل كما جرى مع طلاب كلية الهندسة في جامعة البصرة، بل لقد حولوا الجامعات إلى حسينيات يتحكم فيها ذوي العمائم، وبات قتل الأساتذة الذين يرفضون هذا الوقع المزري يمارس كل يوم، مما اضطر أعداد غفيرة منهم إلى مغادرة البلاد بعد أن استشهد المئات من إخوانهم على ألأيدي القتلة المجرمين من أفراد الميليشيات المسلحة التابعة للأحزاب الطائفية .
أنك أيها الشعب العراقي العظيم مدعو للنضال ودون تلكأ من أجل:

1ـ أعادة النظر الجذرية بهذا الدستور الطائفي والهادف لتقسيم العراق، وخلق ليس فقط دويلات لا تدين بالولاء لهذا الوطن العزيز، بل لقد وصل الأمر إلى تكوين كانتونات في المناطق السكنية داخل المدينة الواحدة وإقامة الجدران العازلة التي تذكرنا بجدار إسرائيل العازل في فلسطين.

2 ـ المطالبة بحل البرلمان الحالي، والحكومة الحالية، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني مستقلة عن كافة القوى السياسية الممسكة بزمام الأمور اليوم، من العناصر الوطنية المشهود لها بالنزاهة والكفاءة، والارتباط الوثيق بتربة الوطن، كي تتولى إعادة الأمن والسلام في البلاد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة بعيداً عن المحاصصة الطائفية والعرقية، بالاعتماد على العناصر الوطنية المؤمنة بالديمقراطية وحقوق الإنسان حقاً وصدقاً .

 3ـ فصل الدين عن الدولة ورفض قيام حكم قائم على اساس ديني أو طائفي أو عرقي، ومنع استغلال الدين لأهداف سياسية حرصاً على قداسته ونقائه، مع التأكيد على حرية الأديان لكافة مكونات الشعب دون تمييز، وأبعاد المرجعية الدينية عن التدخل في الأمور السياسية، ودعمها المكشوف للأحزاب الدينية الشيعية في أي انتخابات قادمة.

4 ـ التأكيد على حقوق وحرية المرأة ومساواتها مع الرجل في جميع الحقوق والواجبات العامة ، وعلى اساس شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة نصاً وروحاً.
5ـ السعي لتكوين جبهة وطنية تضم كل القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية الحريصة على قيام نظام ديمقراطي علماني يُخرج العراق من أزمته الحالية المستعصية.
6 ـ العمل على استئصال الفكر الفاشي القومي والديني والطائفي من المجتمع العراقي، وتربية الأجيال بدءاً من رياض الأطفال وحتى الدراسة الجامعية تربية مشبعة بالمفاهيم والقيم الديمقراطية التي تقدس الإنسان، وترعى حقوقه وحرياته .

7ـ العمل والمشاركة الفعالة في مجابهة الإرهاب والإرهابيين واستئصالهم، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، والمشاركة الجادة والفعالة في إعادة بناء ما خلفته عصابات داعش الارهابية من خراب ودمار لمدن الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين .

8ـ النضال من أجل إنهاء الاحتلال وسحب كافة القوات الأجنبية من البلاد، وإنهاء الهيمنة الأمريكية على مقدرات العراق، مع إقامة علاقات متكافئة مع سائر بلدان العالم قائمة على أساس احترام سيادة واستقلال العراق، والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة .

9ـ العمل على حل المسألة الكردية على أساس الفيدرالية التي تحترم وحدة العراق أرضاً وشعباً، ضمن حدود اربيل والسلمانية ودهوك، والانسحاب من ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وهي احدى عورات الدستور الذي تم تشريعه على مقاس بريمر والبارزاني والطلباني والحكيم، والحرص على العلاقات الأخوية بين سائر مكونات شعبنا بمختلف قومياته وأديانه وطوائفه دون تمييز في الحقوق والواجبات.

10ـ حث سائر القوى السياسية في البلاد على الالتزام بعراقيتها أولاً و قبل كل شيء، فمصلحة الوطن فوق كل المصالح الحزبية والقومية والطائفية. 

إن على القوى السياسية التي تمسك اليوم بالسلطة أن تدرك أن أمامها خيارين لا ثالث لهما فإما الوطنية العراقية الصادقة، وإما الحرب الأهلية المدمرة التي لن يخرج احد منها منتصراً، ولا سبيل لإخراج الشعب العراقي من محنته الحالية إلا بنبذ الطائفية المقيتة، والعنصرية الخطرة، وستتحمل هذه القوى مسؤولية تاريخية كبرى إن هي تجاهلت مصالح الشعب والوطن واستمرت في سلوكها الحالي لتحقيق مصالح حزبية انانية ضيقة ستجلب الكارثة للجميع بكل تأكيد.





103
حملة السلم في كردستان وفخ الحزب الديمقراطي الكردستاني للحزب الشيوعي!
حامد الحمداني                                            13/10/2017


 شهد عام 1961 تدهور الأوضاع السياسية في العراق، وانقسام القوى الوطنية، وحدوث الخلافات العميقة بين قيادة عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني.

 وفي الوقت نفسه اندلعت حركة تمرد في شمال العراق على الحدود العراقية الإيرانية قادها عدد من كبار الإقطاعيين الكرد، وكان على رأسهم كل من[رشيد لولان] و[عباس مامند] و[حسن أغا بوسكين] و[علي أغا المنكوري] و[إسماعيل سوار أغا] و[أنور بيك بيتواته] بدعم وإسناد مباشر من قبل نظام شاه إيران والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف المتمردون إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها الشاه زعزعة النظام  في العراق وإسقاط نظام الزعيم عبد الكريم قاسم مما استدعى إرسال القوات العراقية لقمع ذلك التمرد.
وفي ظل تلك الظروف الحرجة التي سادت المنطقة الكردية بسبب التمرد المذكور، بادرت صحيفة الحزب الديمقراطي الكردستاني[ خاباد] إلى مهاجمة أسلوب سلطة عبد الكريم قاسم في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة في البلاد، وسن دستور دائم للبلاد.
وكان رد عبد الكريم قاسم على مقال صحيفة الحزب خاباد أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق الصحيفة، واعتقال بعض القيادين الكرد المتواجدين في بغداد في آذار1961، وهكذا أخذت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام .

وفي 20 تموز 961 ، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تضمنت العديد من المطالب، لكن الزعيم عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة المذكورة.
وجاء الرد من الملا مصطفى البارزاني بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان في 6 أيلول 1961، حيث توقفت كافة الأعمال، وأصاب المنطقة كافة شلل تام، وقام المسلحون البيشمركة باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة.
كان على القيادة الكردية أن تقدر دوافع ذلك التمرد، والقائمين به، والمحرضين عليه ومموليه، وعدم تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية وأذنابها، سواء كانوا عرباً كما هي الحال مع حزب البعث وحلفائه القوميين، أو كانوا من الكرد، كما هو الحال مع تمرد رشيد لولان وعباس مامند.
كان رد الزعيم عبد الكريم قاسم بدفع المزيد من قطعان الجيش في 9 أيلول 961، لضرب الحركة الكردية مستخدمأً مختلف الأسلحة والطائرات، حيث امتدت المعارك لتشمل كافة منطقة بارزان.

ومن جانبه أصدر الحزب الشيوعي بياناً في 22 آب 1961 حول الوضع الراهن في كردستان مؤكداً على ضرورة النضال من أجل تسوية الوضع المتأزم في كردستان، وذلك بضرب نشاط عملاء الاستعمار وحلف السنتو في المناطق المتاخمة للحدود الإيرانية، والوقوف ضد الصدام بين القوات الحكومية المسلحة والبارزانيين، والحل السلمي للقضية الكردية.
كما طالب تقرير اللجنة المركزية للحزب في تشرين الثاني 1961 حكومة عبد الكريم قاسم بتحقيق المطالب التالية :
1ـ إلغاء الحملة العسكرية النظامية.
2 ـ حل المسالة الكردية بالطرق السلمية بإصدار بيان رسمي بالاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن الوحدة العراقية .
3 ـ إصدار عفو عام عن المشتركين في الحركة .
4ـ إطلاق سراح جميع المعتقلين وإرجاع المفصولين لأعمالهم
5 ـ دفع التعويضات للمتضررين.
 ولم تجدِ نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال واللجوء إلى الحوار، واستمرت الحرب بالتصاعد .

 وهكذا اتخذ الحزب الشيوعي قراره بشن حملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار[ السلم في كردستان ،والديمقراطية للعراق ]، وقد بذل رفاق الحزب الشيوعي في السليمانية، وكنت واحداً منهم ، جهداً كبيراً في إظهار السعة الجماهيرية لتلك الحملة لدرجة أنها أغضبت حاكم السليمانية العسكري الجلاد صديق مصطفى في أواخر عام 1962 ، حيث بادر إلى جمع رؤساء الدوائر على الفور، وقدم لهم صيغة برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تطالبه بقمع الحركة الكردية بشدة، وطلب من كل رئيس دائرة أن يسجل أسماء منتسبي دائرته، ويوقع كل موظف أمام اسمه، والذي يرفض التوقيع يكتب أمام اسمه لا أوقع، ومنح رؤساء الدوائر ومنتسبيها مهلة أمدها حتى الساعة الثانية من ظهر اليوم التالي، وكان واضحاً أن خطة الجلاد صديق مصطفى تقضي بالتنكيل بمن يرفض التوقيع على البرقية.
وعلى أثر ذلك الإجراء اللا قانوني تم عقد لقاء بين قيادتي الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني لتدارس الموقف الناجم عن تصرف الحاكم العسكري صديق مصطفى، والإجراء المضاد الذي يمكن اتخاذه لتحدي سلطة هذا الجلاد.

وخرجت قيادة الحزبين بقرار يلزم أعضاء حزبيهما بتحدي القرار، وعدم التوقيع عليه محذرة أعضاء الحزبين بطرد كل من يوقع على البرقية، وطلبت كذلك بعدم الهروب من وجه السلطة وإلا واجه الطرد أيضا. وهكذا بعثت قيادة فرع الحزب في السليمانية بتبليغ مستعجل إلى كافة رفاق الحزب تضمنت النص التالي :

إلى كافة رفاق حزبنا الشيوعي : إن دكتاتورية عبد الكريم قاسم لا تتحطم إلا على أيدي الشيوعيين، نمنعكم من التوقيع على البرقية، وكل من يوقع على البرقية يطرد من الحزب فوراً، وكل من لا يوقع ويهرب من وجه السلطة يطرد أيضاً.

وعندما تسلمت التبليغ شعرت بالغضب الشديد ليس على رفض التوقيع وتحدي السلطة، على الرغم من عدم قناعتي بالقرار، ولكن على الديباجة في تصدرت في أعلى التبليغ التي دلت على عدم نضوج قيادة الفرع، وضحالة تفكيرها بحيث جعلت من نفسها القوة التي ستحطم سلطة عبد الكريم قاسم !! فلماذا ؟ ولمصلحة من هذا القرار؟؟ هل يصب هذا القرار في خدمة قضايا شعبنا ووطننا أن نحطم سلطة عبد الكريم قاسم، ونعرض ثورة 14 تموز وكل مكاسبها للضياع؟؟
لقد شعرت بالاشمئزاز من تلك الديباجة الخطيرة، وساورتني الشكوك حول نتائج هذه السياسة الحمقاء، ورد الفعل الذي سيتخذه الزعيم عبد الكريم قاسم تجاه الحزب الشيوعي.
الفخ :
في صباح اليوم التالي كان في مقدمة الموقعين على البرقية هم أصحاب الحركة المسلحة قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني قبل ان ينقسم إلى حزبين [ الحزب الديمقراطي الكردستاني]و[الاتحاد الوطني الكردستاني] وتبعهم كافة رفاق حزبهم دون استثناء.
ولما وجد الرفاق الشيوعيون أن قادة ورفاق الحزب الديمقراطي الكردستاني قد وقعوا على البرقية، بدأوا بالتوقيع عليها كذلك، وعندما بلغت الساعة الثانية ظهراً، وانتهى الموعد المحدد للتوقيع، كان كل من بقي من الشيوعيين غير الموقعين 6 رفاق فقط  4 منهم عرب، وكنت احدهم ، واثنان من الرفاق الأكراد.

 وهكذا تبين لنا أن قادة القوميون الكرد قد نصبوا فخاً محكماً لتخريب تنظيم الحزب الشيوعي في صفوف المثقفين أدى إلى خسارة الحزب لهذا الجانب الهام والواسع بصورة شاملة، وفي الوقت نفسه خرج قادة القوميون الكرد هم ورفاق حزبهم سالمين!!

أصبح وضعنا حرجاً جداً بعد انتهاء المهلة، وكنا ندرك أن الجلاد صديق مصطفى سيصب جام غضبه علينا، وعليه فقد بادرت إلى إرسال رسالة مستعجلة لقيادة الفرع، وطلبت منهم الموافقة على الاختفاء تجنباً لما لا يحمد عقباه، فماذا كان الجواب؟

كان الجواب الذي تلقيته بالنص:{ موتوا كي نشيعكم}!!
هكذا بكل بساطة يقدمون أرواح رفاقهم فداء بالمجان، ولمصلحة منْ؟ متجاهلين انعكاسات موتنا على مستقبل عوائلنا وأطفالنا.

أثارت الرسالة في نفسي الحزن والألم، والغضب الشديد، ودفعتني إلى اتخاذ قراري الحاسم والنهائي بالاستقالة من الحزب، وعدم التفكير في أي انتماء حزبي مستقبلاً، مع البقاء على علاقة طيبة مع سائر القوى الوطنية ولكن عن بعد، وأتحرر من القيود الحزبية، وامتلك القدرة على نقد الأخطاء، وادعم الخطوات الصائبة دون حدود أو قيود.

مكثت في البيت تلك الليلة في انتظار إجراءات الجلاد صديق مصطفى، ولم تكد الساعة تعلن العاشرة ليلاً حتى طُوقت قوات الانضباط العسكري داري والمنطقة المحيطة به من قبل مجموعة كبيرة كان على رأسها آمر الانضباط المجرم [رشيد علوان المهداوي]،وجرى تفتيش الدار، واعتقالي ونقلي إلى دائرة الانضباط العسكري مع بقية رفاقي الخمسة .

كان هناك ثلة من قوات الانضباط في انتظارنا، وقد اصطفت على جانبي المدخل الضيق والطويل لدائرة الانضباط، وقد استعدوا لاستقبالنا بما يشبع رغبة الجلاد، حيث تلقينا من الضربات الموجعة من كل جندي بما أسقطنا أرضاً في نهاية الممر من شدة الألم حيث لم تبقَ بقعة من أجسامنا دون أن تصيبها الكدمات، واثبت الأوباش من الانضباط العسكري أنهم اشد وحشية وقسوة من الأجهزة الأمنية.
 استمر بنا الحال أسبوعين في الاعتقال دون أي تهمة أو سند قانوني، كنا خلالها نقاسي من التعذيب الوحشي ما لا يوصف، حيث خرجنا بعدها منهكي القوى، وفي وضع صحي سيئ جداً واستمرت معاناتنا لأمد طويل.

 استمرت الحرب بين السلطة وقوات البارزاني حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.  ومن المثير للغضب والاستنكار أن قادة الحركة الكردية كانوا قد وضعوا أيديهم بأيدي انقلابيي شباط 963 ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظناً منهم أن بالامكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية المشروعة على أيدي أولئك القوميين الفاشيين والمتعصبين.
لقد كان موقفهم هذا أقل ما يقال عنه أنه موقف ميكافللي لا مبدأي يبرر الوسيلة مهما كانت لتحقيق الهدف المنشود، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ذلك الموقف كان يعبر عن جهل بطبيعة حزب البعث والقوى القومية المتعصبة المتحالفة معه، الذين لم يكّنوا يوماً المودة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.
 لم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط، حتى بادر الانقلابيون في 10 حزيران 1963 إلى شن حملة عسكرية هوجاء على الحركة الكردية، منزلين فيه أشد الويلات والمآسي بالشعب الكردي.





104

من أجل إصدار قانون دولي لمكافحة الإرهاب
في العالم اجمع
حامد الحمداني                                                         4/10/2017
الإرهاب داء وبيل لا تقتصر شروره على  بلد معين ولا شعب معين، ولا دين معين، بل هو وباء يصيب العالم أجمع ويهدد البشرية في أمنها ومستقبلها بأخطار جسيمة إذا لم يتخذ المجتمع الدولي إجراءات فعالة على مستوى دول العالم أجمع، وفي مقدمة ذلك إصدار قانون دولي يلزم كافة دول العالم بوجوب الالتزام بتطبيقه بصورة فعالة، وتبادل كافة المعلومات عن النشاطات الإرهابية وكشف شبكاتها وملاحقة أفرادها، وإحالتهم إلى المحاكم لينالوا العقاب الذي يستحقونه، وإن أي تهاون في هذا الأمر سيصيب دول العالم قاطبة بشرورهم ، ولا يمكن أن يبقى أي بلد بمنأى عن مخاطر هذا الداء الرهيب، ولقد أثبتت الأحداث ذلك فلم تسلم من شروره معظم دول العالم كما رأينا، وكما هو معروف للجميع.                                                                          .

لقد أصبح الإرهاب يُدار من قبل عصابات منظمة تمتلك من الخبرات والإمكانيات المادية والدعم اللوجستي، ومدارس الفكر الظلامي المتخلف التي تخرج الإرهابيين مستغلة الدين الذي تفسره بما يحقق أهدافها العدوانية والإجرامية.

ومما زاد في مخاطر النشاط الإرهابي التطور الهائل في وسائل الاتصالات وثورة الإنترنيت التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، وجعلت المعلومات في متناول الإرهابيين يستخدمونها في تصنيع مختلف وسائل التدمير والتخريب والقتل الجماعي، مما يتطلب من المجتمع الدولي أن يولي هذه المخاطر أهمية قصوى لتجنيب البشرية الويلات والمصائب التي يمكن أن تصيبها على أيدي هذه العصابات الإرهابية المنظمة .

لقد بات من الضروري إصدار اتفاقية دولية لمكافحة الإرهاب في العالم أجمع تلزم بها كافة دول العالم دون استثناء وتشكل جزأ من القانون الدولي، ومن الضروري أن تتضمن الأسس التالية

1 ـ إلزام كافة دول العالم إصدار القوانين التي تحرّم وجود المنظمات الإرهابية على أراضيها، وتحديد العقوبات القصوى بحق من يثبت قيامه بأي نشاط إرهابي سواء كان ذلك من خلال تنفيذ النشاطات الإرهابية أو إنشاء المدارس الدينية التي تحض على الإرهاب باسم مخالفة الشريعة، أو التشجيع على الإرهاب عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية.

2 ـ العمل على إعادة النظر الجذرية في المناهج الدراسية بدءأً من رياض الأطفال وحتى الجامعة بما يتفق مع التوجهات الديمقراطية، واستئصال الأفكار العنصرية والشوفينية والظلامية، ومنع استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، وفصل الدين عن الدولة، ورفض الأنظمة الشمولية تحت ستار الدين أو القومية أو العنصرية، ومراقبة النشاطات التي تجري في الجوامع، وكافة  المؤسسات الدينية، وخطب رجال الدين التي تحرض على الإرهاب باسم المقاومة!

3 ـ مراقبة الحكومات كافة لحركة الأموال المستخدمة من قبل المنظمات الإرهابية ومراقبة البنوك والشركات التي تتولى نقل وتوزيع وغسل الأموال العائدة للمنظمات الإرهابية، ومراقبة التبرعات التي تصل للمنظمات الإرهابية من العناصر الداعمة للإرهاب، وإنزال العقاب الصارم بكل من يتولى نقل وتوزيع الأموال وتهريبها والتبرع بها.

4 ـ إلزام كافة الدول بتقديم ما لديها من معلومات عن نشاطات المنظمات الإرهابية إلى اللجنة المكلفة من قبل الأمم المتحدة بمتابعة النشاطات الإرهابية في مختلف بلدان العالم، وتبادل المعلومات بين سائر الدول بما يحقق متابعة وملاحقة المنظمات الإرهابية، ومنعها من ممارسة نشاطها الإرهابي على أراضيها أو إيواء الإرهابيين، أو التستر على نشاطاتهم، أو تقديم الدعم اللوجستي والأسلحة والمعدات والأموال والخبرات العسكرية والتدريب على أراضيها . 

5 ـ اعتبار كل دولة تسمح للمنظمات الإرهابية التواجد على أراضيها،أو ثبوت تقديمها الدعم المادي أو اللوجستي لها دول داعمة للإرهاب، واتخاذ الأمم المتحدة قراراً بوقف عضوية تلك الدولة في المنظمة العالمية، وفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية عليها حتى تتأكد الأمم المتحدة  من توقف تلك الدولة عن دعم المنظمات الإرهابية .

6 ـ إذا لم تتوقف الدول الداعمة للإرهاب عن دعم النشاطات الإرهابية فوق أراضيها، أو تحض على، أو تدعم النشاطات الإرهابية على أراضي الدول المجاورة لها فلمجلس الأمن أن يجتمع ويتخذ قراراً باستخدام القوة ضد تلك الدولة التي ترفض الالتزام بمحاربة الإرهاب وتستمر في دعمه أو تشجيعه، مع مراعات عدم الإضرار بشعوب  تلك الدول بأي شكل كان.

7 ـ عدم قبول الدول لجوء العناصر الإرهابية إليها، أو التستر على وجودهم، والتدقيق في شخصية كل لاجئ والتأكد من عدم ارتباطه بأية منظمة إرهابية، وتسليم العناصر الإرهابية التي تدخل أراضيها إلى دولهم لتتم محاكمتهم وإنزال العقوبة التي يستحقونها بهم .

8 ـ مراقبة ومنع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة من تقديم أي نوع من الدعم للمنظمات الإرهابية، وإحالة المسؤولين المخالفين للمحاكم، ومراقبة مواقع الإنترنيت ووقف كافة المواقع التي تشجع الإرهاب، وتنقل أخبار الإرهابيين، وتمجد أفعالهم الإجرامية، وإحالة مسؤوليها إلى المحاكم لينالوا جزائهم العادل .

إن تكاتف جهود كافة الدول وحكوماتها في التصدي للمنظمات الإرهابية، وتحت راية منظمة الأمم المتحدة، وتقديم الدعم والمساعدة للدول والحكومات التي تتصدى للإرهاب، وتبادل المعلومات، بالإضافة لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة في البلدان الفقيرة، والنهوض بالمستوى المعيشي لهذه الشعوب كفيل بالقضاء على المنظمات الإرهابية وتخليص العالم من شرورها الرهيبة.

لقد باتت مسألة التصدي لهذا الشر الوبيل مسألة دولية لا يمكن لأي دولة أن تعفي نفسها من مسؤولية المشاركة الفعالة في مكافحة الإرهاب والإرهابيين، وعلى الدول الغنية أن تتحمل مسؤوليتها في معالجة مسألة الفقر والبطالة وتفشي الأمراض في الدول الفقيرة، فلا يمكن القضاء على المنظمات الإرهابية إذا لم نعمل على تجفيف مصادرها المادية والبشرية، ولا شك أن الفقر والبطالة وتدهور الأوضاع المعيشية للطبقات الفقيرة يشكل أخطر حاضنة للإرهابيين، ولا يمكن الاعتماد على وسائل العنف وحدها لمكافحة الإرهاب مهما كانت الإجراءات العقابية، ولا بد من معالجة الأسباب التي تدفع بهؤلاء الفقراء نحو الجريمة والانخراط في المنظمات الإرهابية  . 

105
استفتاء أقليم كردستان وحلم الدولة الكردية
 حامدالحمداني                                                                       29/9/2017
أن إقدام السيد مسعود البارزاني على إجراء استفتاء حول الانفصال عن العراق في الخامس والعشرين من شهر ايلول الجاري، من أجل إقامة دولة كردية مستقلة في كردستان العراق، في وقت يخوض الجيش العراقي اشرس حرب ضد عصابات داعش الاجرامية، كان في غير وقته لا داخلياً، ولا اقليمياً، ولا حتى دولياً، بدليل أن تركيا وايران وسوريا بالاضافة للعراق وهي الدول المحيطة بكردستان العراق قد أعلنت عن معارضتها الشديدة لاقدام القيادة الكردية المتمثلة بمسعود البارزاني على هذه الخطوة غير المحسوبة، وتضامنت هذه الدول مع موقف العراق من الاستفتاء على الإنفصال، بل وصل الأمر بتهديد ايران وتركيا وسوريا بغلق الحدود مع كردستان، وتعطيل حركة النقل الجوي، وغلق انبوب النفط، واعلان الحكومة التركية انها تتعامل مع الحكومة العراقية فقط فيما يخص تصدير النفط، هذا بالاضافة الى أن المجتمع الدولي قد عارض هذا الاستفتاء والحرص على وحدة العراق، مما اوقع حكام كردستان في ورطة كبرى لا احد يعرف متى وكيف سيخرجون منها.                            .       

وعلى الرغم من إيماني بحق تقرير المصير للشعوب، ومنها الشعب الكردي، إلا أنني اعتقد إن هذه الخطوة وفي هذا الوقت بالذات لا تخدم بأية حال من الأحوال القضية الكردية، بل تزيدها تعقيداً، وتشكل خطورة بالغة ليس على مستقبل الشعب الكردي فحسب، بل والشعب العراقي بوجه عام، حيث يواجه العراق اليوم أشرس حملة فاشية معادية للديمقراطية وحقوق الانسان، ومما زاد في تعقيد المشكلة سيطرة البيشمركة الكردية ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها والتي تظم محافظة كركوك، وسهل الموصل، وسنجار، وجلولاء وخانقين، وضمها إلى اقليم كردستان دون الرجوع الى الحكومة المركزية .

إن السبيل الوحيد المتاح اليوم للشعب العراقي بعربه وكورده وسائر قومياته الأخرى توحيد جهود جميع القوى الديمقراطية والعلمانية بإقامة الجبهة الوطنية الديمقراطية الموحدة استعداد للإنتخابات البرلمانية المقبلة في نيسان 2018 والاستعداد لدخول الانتخابات القادمة بكتلة كبيرة وقوية في محاولة للخروج من نظام المحاصصة الطائفية لأحزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، وإقامة النظام الديمقراطي الفيدرالي الموحد الذي يحفظ للشعب الكردي حقوقه القومية والوطنية ضمن وحدة الوطن بكل تأكيد.
كان على القيادة الكردية أن تتعلم الدرس من تحالفها الذي عقدته مع احزاب الاسلام السياسي الشيعية بعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وحليفتها برطانيا عام 2003، وتخليها عن حلفائها الحقيقيين بعد ان تقاسمت معهم الحكم في العراق رغم ادراكها لتوجهاتها الدينية، واستغل الطرفان المتحالفان سيطرتها على الحكم طيلة 14 عاماً كان هدفهم الوحيد تحقيق مكاسب غير مشروعة من نهب لثروات البلاد ومحاولة ابتلاع ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، حتى لكأنما بات الصراع بين دولتين مختلفتين وليس دولة واحدة، وعلى حساب جوع وفقر وتشريد الشعب العراقي بمختلف أطيافه.

كما أن من المهم تدرك القيادة الكردية أن أسلوب حرق المراحل واستعجال تحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير والمشروع في إقامة دولة كردستان الكبرى من دون تحقيق الظروف الموضوعية الضرورية في سائر منطقة كردستان الكبرى لا يخدم القضية الكردية أيضاً، بل ينطوي على مخاطر كبيرة، ونتائج سلبية على مستقبل الوحدة الكردية الكبرى قد تستمر لزمن طويل.                                                                                    .

لقد بات من الصعب أن يحقق الشعب الكردي في سوريا وايران وتركيا ما حققه الشعب الكردي في العراق، ورفع من درجة حساسية انظمة هذه الدول تجاه المطالبة بالحكم الذاتي، والذي يعد الخطوة الأولى لرحلة الوصول إلى ما حصل عليه الشعب الكردي في العراق بفدرالية كردستان، ناهيك عن فكرة الانفصال في هذه الدول، والسعي لتحقيق حلم الوحدة الكردية الكبرى.                                                                .

سيبقى طموح الشعب الكردي في الوحدة وتأسيس كردستان الكبرى الحلم الأكبر بالنسبة له، ولكن على المدى البعيد، وسيقف بكل تأكيد كل الديمقراطيين الحقيقيين المؤمنين بحق تقرير مصير الشعوب، وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948 إلى جانب نضاله وطموحه وخياراته المشروعة.                             








106
الأزمة العراقية الراهنة
 وسبل الخروج من النفق المظلم
حامد الحمداني                                                        8/5/2017

تجتاز العملية السياسية الجارية اليوم مرحلة بالغة الخطورة، حيث تمر العلاقات بين القوى السياسية التي جاء بها الاحتلال إلى قمة السلطة بمأزق حرج بسبب الصراع الجاري على السلطة والثروة، واستخدام الدين من قبل أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني من جهة والأحزاب القومية الكردية الشوفينية التي استخدمت جرائم نظام صدام حسين خلال حملة الأنفال لتؤجج المشاعر القومية الشوفينية لدى المواطنين الأكراد بغية تحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى ترمي إلى تمزيق الوطن العراقي، وخلق كيانات انفصالية باسم الفيدرالية البائسة التي باتت أهدافها مكشوفة لأبناء الشعب العراقي جميعا كونها تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، وفصل المنطقة الشمالية من الوطن عن الجسد العراقي مستغلة انشغال العراق بالحرب ضد عصابات داعش المجرمة. 

 لقد ذهب قادة الحركة القومية الشوفينية الكردية بعيداً جداً في تطلعاتهم لقضم المزيد من الأراضي العراقية وضمها لدولتهم العتيدة بعد أن استطاعوا تضمين دستور بريمر السيئ الصيت فيما يسمى بالمناطق المتنازع عليها في الموصل وكركوك وديالى والكوت، متذرعين بالدستور الذي جرى وضعه على مقاس مسعود البارزاني وجلال الطالباني وعبد العزيز الحكيم الذين استأثروا بالسلطة بدعم مباشر من المحتلين الأمريكيين وحاكمهم المعين على العراق بول بريمر.

وهكذا بدأ الصراع بين القوى السياسية يتصاعد من جديد بين الأطراف التي تحرص على وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبين الأطراف الأخرى المتمسكة [بالعروة الوثقى] التي تتمثل بالدستور، والتي تسعى لتفتيت العراق باسم الفيدرالية.

لقد باتت الفيدرالية كلمة منبوذة من الأغلبية المطلقة للشعب العراقي بعد أن تكشفت الأطماع الواسعة لقادة الحزبين القوميين الكرديين من جهة، وأطماع أعوان نظام ملالي طهران الذين كانوا يطمحون في خلق كيان طائفي في الجنوب، ومن أجل هذه الأهداف المعادية لمصالح الشعب والوطن كان توقيع ميثاق التحالف السيئ الصيت بين قيادة الائتلاف الشيعي بقيادة الحكيم والتحالف الكردي بقيادة البارزاني والطالباني قبل الانتخابات الأولى لتمزيق واقتسام العراق.

أن أحدث تغيير جذري في العملية السياسية الجارية في العراق  باتت ضرورة ملحة للوصول بالعراق إلى بر الأمان، والحفاظ على وحدته أرضاً وشعبا، والتوجه نحو إعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية، وبناء جيش عراقي احترافي قوي قادر على صيانة وحدة واستقلال البلاد.

إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً قد باتت مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال الصاعدة، وهي تقتضي بادئ ذي بدء إعادة كتابة الدستور من جديد، وسن دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه طائفي أو عرقي شوفيني، ويؤكد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.

كما ينبغي أن يمنح الدستور المنتظر إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية فقط، كما كان سائدا في العهد الملكي وبعد ثورة 14 تموز، حيث ترتبط المحافظات بالمركز حفاظاً وحدة البلاد، والغاء حكومات المحافظات السئ الصيت والذي يشجع على انشاء اقاليم تتناقض مع وحدة العراق والحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض ويسعى لتحقيقها، وإن أي إجراء يتعلق بوحدة العراق ينبغي أن يخضع لعملية استفتاء للشعب العراقي كافة، وليس لسكان محافظة ما، أو عدد من المحافظات، ليقول كلمته فيه.

إن إعادة كتابة الدستور ينبغي أن لا تكون نهاية المطاف، بل ينبغي أن يشكل ذلك المدخل لقرارات وإجراءات هامة ينبغي أن  تتبع عملية كتابة الدستور، ويأتي في مقدمتها:

1 ـ سن قانون جديد للأحزاب والجمعيات الذي ينبغي أن يؤكد على رفض  قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قومي عنصري شوفيني يثير النعرات القومية والنزاعات المؤدية للصراعات المسلحة التي جلبت على البلاد الكوارث الإنسانية الرهيبة منذ تأسيس الحكم الوطني في البلاد عام 1921 وحتى يومنا هذا.

إن قيام حياة حزبية ديمقراطية هي السبيل الوحيد والقويم لصيانة حقوق وحريات المواطنين بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، حيث ينال كل ذي حق حقه دون تمييز، وحيث تؤدي إلى تمتين عرى الأخوة والمحبة بين أبناء الشعب الواحد ونبذ الكراهية الدينية والقومية والطائفية التي جربها الشعب العراقي خلال السنوات الماضية حيث قاسى بسببها من الويلات والمصائب ما تقشعر لها الأبدان.

2 ـ يجب سن قانون جديد وعادل للإنتخابات البرلمانية على اساس الدائرة الواحدة وإجراء انتخاب الرئيس بصورة مباشرة من قبل الشعب العراقي تزامناً مع الانتخابات البرلمانية، وليكن من ينتخبه الشعب عربياً كان أم كردياً، أم آشوريا، مسلماً أم مسيحياً أم صابئياً، فالمهم هو أن ينتخبه الشعب بكل حرية وشفافية، مع تحديد صلاحيات الرئيس بكل دقة ووضوح منعاً لأي تأويلات، وبما يمكنه من الحفاظ على وحدة واستقلال وسيادة البلاد.

3ـ مكافحة الفساد المالي والإداري من خلال سن قانون [من أين لك هذا؟]، وفرض تقديم جرد بممتلكات كل شخص يتولى منصب في الدولة قبل التعيين، وبعد الاستقالة أو الإقالة أو التقاعد، ومحاسبة كل من أثرى من أموال الشعب العراقي محاسبة عسيرة ليكون عبرة لغيره ممن يفكر في استخدام منصبه وسيلة للكسب غير المشروع، وإشراك المواطن العراقي في حملة وطنية واسعة لمكافحة الرشوة المستشرية في سائر دوائر الدولة، والتي باتت حالة مرضية خطيرة ينبغي استئصالها.

4 ـ الإسراع في عملية إعادة بناء الصناعة الوطنية المخربة، وتقديم الدعم لها، ورفدها بالمكائن والأجهزة الحديثة كي تستطيع سد حاجة السوق العراقي من مختلف المنتجات، وتحجيم الاستيراد للمنتجات المنافسة قدر الإمكان، وتشجيع الاستثمار في المجال الصناعي في البلاد من قبل القطاعين العام والخاص، ودعوة شركات الاستثمار الأجنبية للمساهمة الفعالة في هذا المجال من أجل النهوض بالصناعة الوطنية.

5 ـ وضع خطة زراعية عاجلة، وتهيئة كافة المستلزمات المادية والأجهزة  والأسمدة ومكافحة الحشرات، وإصلاح وتحديث مشاريع الري المعطلة من أجل إنعاش القطاع الزراعي وصولا إلى الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية، وتحجيم الاستيراد للمواد الغذائية من الخارج.

6 ـ العمل الجدي لإعادة بناء البنية الاجتماعية العراقية بعد الشرخ الكبير الذي أصابها على أيدي قوى الإسلام السياسي الطائفي التي أوصلت المجتمع العراقي إلى الحرب الأهلية الكارثية عامي 2006 و2007، والتي حصدت أرواح عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، والعمل على تأمين حياة كريمة للمواطنين خالية من العوز والفقر والبطالة، والاهتمام بتربية الأجيال الصاعدة، وتأمين كافة مستلزمات العملية التربوية، وبما يتفق والمفاهيم التربوية الديمقراطية، ومنع تدخل قوى الإسلام السياسي في العملية التربوية، وفصل الدين عن الدولة.

هذا هو السبيل لتجاوز الازمة العراقية المستعصية، ولخروج من النفق المظلم الذي ادخله فيه الاحتلال الامريكي للعراق منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا .



107
المجد للأول من ايار عيد الطبقة العاملة

مهمات الطبقة العاملة احداث نقلة نوعية في علاقات الانتاج
وتحقيق العدالة الاجتماعية
حامد الحمداني                                                              28/4/2017

أحدث سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتكاسة كبرى ليس فقط بالنسبة لشعوب هذه البلدان وحلمهم في قيام عالم جديد قائم على أسس من العدالة الاجتماعية، وإنهاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان، بل أن الكارثة قد حلت بالعالم اجمع، بعد أن اصبحت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة القطب الأقوى في العالم، وتحول هذا العالم في عهد العولمة إلى سوق مفتوح، وتداخل واسع النطاق للرأسمال العالمي والشركات المتعددة الجنسيات، ولاسيما بعد حصول هذا التطور السريع والكبير لوسائل الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ولم تعد الحدود تقف حائلاً أمام تداخل وهيمنة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

لقد أدى هذا التغيير الدرامي المتسارع إلى اشتداد الضغوط التي تمارسها الرأسمالية العالمية على الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم بعد أن فقدت سندها القوي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، واشتداد قبضة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الطبقة العاملة، واغتصاب حقوقها المشروعة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان العامل الذي هو العنصر الحاسم في خلق كل هذه المنجزات التي تشهدها البشرية في عالم اليوم، ولا تحصل لقاء جهدها الكبير سوى النزر اليسير، في حين تتكدس مئات المليارات في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية والكارتيلات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى.

لقد باتت الرأسمالية العالمية أكثر جشعاً في استغلال جهد الطبقة العاملة، وزاد من هذا الاستغلال التطور الهائل في وسائل الإنتاج ودخول عصر الأتمتة الذي حول العامل إلى آلة صماء لا تستطيع الفكاك من متابعة العمل ولو للحظة واحدة، حيث يفرض هذا التطور أن يسير العمل دون توقف في كل مراحل الإنتاج، فأي تأخر في أي من مراحل الإنتاج يؤدي إلى تأخر المراحل التالية، وهكذا تصبح الآلة هي التي تتحكم في عمل الانسان، ولذلك فلابد للعامل أن يتحول في نهاية المطاف إلى جزء من هذه الآلة حيث يستنزف أقصى طاقته في هذا العمل المستمر دون توقف.

إن هذا التطور في وسائل الإنتاج، وتصاعد الاستغلال لجهد الطبقة العاملة، وتصاعد الضغوط التي يفرضها طبيعة العمل لابد أن يفرض على الطبقة العاملة أن تغير أساليب نضالها المشترك كماً ونوعاً من خلال تنظيماتها السياسية والنقابية كي تستطيع فرض شروط عمل أفضل، وأجور تتناسب والجهد المبذول، والذي يحقق للطبقة العاملة مستوى من الحياة المعيشية تليق بالإنسان على المدى القريب، والسعي الجاد والمتواصل من خلال تنظيماتها الحزبية المسترشدة بالماركسية وتطويرها بما يتلاءم والعصر الحالي وخلق الظروف التي تمكن في نهاية المطاف نضال الطبقة العاملة من أجل تغيير حقيقي لعلاقات الإنتاج، وهو الذي يمثل الهدف الأبعد لنضال الطبقة العاملة.

إن فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لن تكون نهاية المطاف أبداً، والمجتمع الإنساني سبق أن مر بمراحل متعددة، وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى قد يصاحبه أخطاء وانتكاسات، كما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكن هذه التجربة والتجارب التي سبقتها، والتي ستليها، ستعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية كيف تستفيد من تجاربها وتتجاوز أخطائها، والسير الحثيث من أجل خلق عالم جديد، وعلاقات إنتاج جديدة تحقق حلم الطبقة العاملة، وسائر المجتمع الإنساني بحياة رغيدة خالية من الاستغلال واستعباد رأس المال.

أن الماركسية بما قدمته لنضال الطبقة العاملة وإنجازاتها كان كبيراً جداً، ولولا الأخطاء التي وقع فيها قادة الاتحاد السوفيتي الذين حولوا النظام الاشتراكي الذي سعى مؤسس الدولة لنين لبنائه ليكون نموذج للعالم اجمع، إلى رأسمالية الدولة، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق الديمقراطية للشعب السوفيتي وشعوب المعسكر الاشتراكي، لكان عالم اليوم غير هذا العالم الذي بات فيه الرأسمال العالمي يتحكم بمصير الشعوب، لكن هذا التحكم لن يستمر إلا إلى حين.

  ستبقى الماركسية هي السبيل الذي يهدي البشرية لتغيير الواقع الذي تعيشه اليوم، وتعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية أساليب النضال لتحقيق حلم البشرية في مجتمع عادل لا مكان فيه للاستغلال، مجتمع لا مكان فيه للفقر والعوز والبطالة، مجتمع تتحقق في ظله كامل حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد.

 إن منظري الرأسمالية مهما حاولوا تلميع وجهها لن يفلحوا أبداً في مسعاهم لسبب بسيط هو كون النظام الرأسمالي قائم في الأساس على استغلال الإنسان لجهد أخيه الانسان، فهو نظام تنتفي فيه العدالة، وستكون الرأسمالية في نهاية المطاف عاجزة عن تقديم حل حقيقي وإنساني للتناقض الحاصل بين المستغِلين ( بكسر الغاء) والمستغَلين (بفتح الغاء) إلا من خلال نظام بديل يؤمن للإنسان العدالة الاجتماعية الحقيقية الخالية من الاستغلال والاستعباد.                 
تحية للطبقة العاملة وشغيلة الفكر في عيدها المجيد .
ليكن هذا اليوم المجيد الحافز لنضال الطبقة العاملة وشغيلة الفكر من أجل عالم أفضل
المجد لشهداء الطبقة العاملة وشغيلة الفكر في العالم أجمع.


108
مسؤولية المجتمع الدولي في التصدي للإرهاب

حامد الحمداني                                                         14/4/2017

الإرهاب داء خطير يمكن أن  ينتشر كالنار في الهشيم في مختلف بقاع العالم إذا لم تتخذ الإجراءات الكفيلة في مجابهته واستئصاله من جذوره ، ويخطئ من يظن أن التصدي له يقع على عاتق الدولة التي تتعرض للإرهاب وحدها ، وتخطئ أيضاً الحكومات التي تعتقد أنها يمكن أن تكون بمنأى عن اكتواء بلدانها بنير الإرهاب والإرهابيين.

كما تخطئ الدول التي تقدم الدعم اللوجستي والمادي والسلاح للعناصر الإرهابية بأنها ستكون بمنأى من سطوة الإرهاب، ولا تكتوي بنيرانه، فقد بات الإرهاب داءأً يبعث بنيرانه شرقاً وغرباً، وبات الإرهابيون يشكلون المنظمات الإرهابية التي تستفيد من تطور وسائل الاتصالات والحصول على المعلومات التكنولوجية اللازمة لصنع المتفجرات، وتبادل المعلومات عن طريق الإنترنيت، وها هي قوى الإرهاب التي تمتلك خلايا نائمة في مختلف بلدان العالم تتحرك لتنفيذ جرائمها كلما طلبت منها قيادة تنظيماتهم ذلك، وفي المقدمة منها منظمة داعش والقاعدة والنصرة وطالبان وبوكو حرام
وغيرها من المسميات الاخرى.

لقد جرى تنفيذ جرائمهم الوحشية البشعة في السويد والمانيا وفرنسا الولايات المتحدة واسبانيا وبريطانيا واندونسيا وباكستان والفلبين وروسيا وتركيا والجزائر ومصر واليمن ولبنان وكينيا والعديد من الدول الأخرى، وهي ماضية في توسيع نشاطاتها الإرهابية وتطويرها كماً ونوعاً مما يتطلب معالجة عاجلة لهذا الداء الخطير الذي بات يهدد السلم والاستقرار في العالم أجمع .

وعليه فقد بات على المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحمل المسؤولية المباشرة والكاملة للتصدي للإرهاب والإرهابيين واستئصاال شأفتهم، وإن أي تهاون في هذا الموضوع يمكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة على مستوى العالم، وما يجري في العراق اليوم من جرائم إرهابية بشعة هو النموذج لما يمكن أن يجري في بلدان أخرى.

إن معالجة هذا الداء الوبيل يتطلب العمل على جانبين:
الجانب الأول: يتطلب معالجة الظروف والمشاكل الاجتماعية والمصاعب الاقتصادية في بلدان العالم الثالث حيث الجوع والفقر والأمراض التي تفتك بالمجتمع تجعل من تلك البلدان البيئة الصالحة لتنامي الإرهاب وضم العناصر الجديدة للمنظمات الإرهابية باستمرار، وهذا الأمر يتطلب أن تدرك الدول الغنية مسؤوليتها في معالجة مشكلة الفقر والبطالة والأمراض، وتخصص الأموال اللازمة للنهوض بالمستوى المعيشي لشعوب هذه البلدان بما يليق بالإنسان، وبذلك نستطيع حرمان المنظمات الإرهابية من كسب المزيد والمزيد من العناصر التي تملكها اليأس من تحسين أحوالها المعيشية، وبالتالي تجفيف المصادر البشرية لهذه المنظمات الإرهابية.

الجانب الثاني: يتطلب إصدار الأمم المتحدة  قانون جديد يضاف  للقانون الدولي يحدد الإجراءات والأساليب التي تترتب على كافة أعضاء المنظمة الدولية للتصدي للمنظمات الإرهابية وملاحقتها، وشل نشاطها وإنشاء قسم تابع لمجلس الأمن يتولى متابعة وملاحقة النشاطات الإرهابية بالتعاون مع كافة الدول المنضوية للمنظمة الدولية، وهذا يتطلب اتخاذ الإجراءات التالية، وإلزام كافة دول العالم بالتنفيذ الدقيق والصارم لها لاستئصال شأفة الإرهاب من جذوره.
 1 ـ إصدار القوانين التي تحرّم وجود المنظمات الإرهابية على أراضيها  وتحديد العقوبات القصوى بحق من يثبت قيامه بأي نشاط إرهاب سواء كان ذلك من خلال تنفيذ النشاطات الإرهابية، أو إنشاء المدارس الدينية التي تحض على الإرهاب باسم مخالفة الشريعة، أو التشجيع على الإرهاب عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية .

2 ـ العمل على إعادة النظر الجذرية في المناهج الدراسية بدءأً من رياض الأطفال وحتى الجامعة بما يتفق مع التوجهات الديمقراطية، واستئصال الأفكار العنصرية والشوفينية والظلامية، ومنع استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، وفصل الدين عن الدولة، ورفض الأنظمة الشمولية تحت ستار الدين أو القومية أو العنصرية. ومراقبة النشاطات التي تجري في الجوامع، وخطب الأئمة التي تحرض على الإرهاب باسم المقاومة .
3 ـ مراقبة الحكومات كافة لحركة الأموال المستخدمة من قبل المنظمات الإرهابية، ومراقبة البنوك والشركات التي تتولى نقل وتوزيع وغسل الأموال العائدة للمنظمات الإرهابية، ومراقبة التبرعات التي تصل للمنظمات الإرهابية من العناصر الداعمة للإرهاب، وإنزال العقاب الصارم بكل من يتولى نقل وتوزيع الأموال وتهريبها والتبرع بها .

4 ـ إلزام كافة الدول بتقديم ما لديها من معلومات عن نشاطات المنظمات الإرهابية إلى اللجنة المكلفة من قبل الأمم المتحدة بمتابعة النشاطات الإرهابية في مختلف بلدان العالم، وتبادل المعلومات بين سائر الدول بما يحقق متابعة وملاحقة المنظمات الإرهابية ومنعها من ممارسة نشاطها الإرهابي على أراضيها أو إيواء الإرهابيين، أو التستر على نشاطاتهم، أو تقديم الدعم اللوجستي والأسلحة والمعدات والأموال والخبرات العسكرية والتدريب على أراضيها . 

5 ـ اعتبار كل دولة تسمح للمنظمات الإرهابية التواجد على أراضيها، أو ثبوت تقديمها الدعم المادي أو اللوجستي لها دول داعمة للإرهاب، واتخاذ الأمم المتحدة قراراً بوقف عضوية تلك الدولة في المنظمة العالمية، وفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية عليها حتى تتأكد الأمم المتحدة  من توقف تلك الدولة عن دعم المنظمات الإرهابية .

6 ـ إذا لم تتوقف الدول الداعمة للإرهاب عن دعم النشاطات الإرهابية فوق أراضيها، أو تحض على أو تدعم النشاطات الإرهابية على أراضي الدول المجاورة لها فلمجلس الأمن أن يجتمع ويتخذ قراراً باستخدام القوة ضد تلك الدولة التي ترفض الالتزام بمحاربة الإرهاب وتستمر في دعمه أو تشجيعه، مع مراعات عدم الإضرار بشعوب  تلك الدول بأي شكل كان .
7 ـ عدم قبول الدول لجوء العناصر الإرهابية إليها، أو التستر على وجودهم، والتدقيق في شخصية كل لاجئ والتأكد من عدم ارتباطه بأية منظمة إرهابية، وتسليم العناصر الإرهابية التي تدخل أراضيها إلى دولهم لتتم محاكمتهم وإنزال العقوبة التي يستحقونها بهم .

8 ـ مراقبة ومنع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة من تقديم أي نوع من الدعم للمنظمات الإرهابية، وإحالة المسؤولين المخالفين للمحاكم، ومراقبة مواقع الإنترنيت، ووقف كافة المواقع التي تشجع الإرهاب، وتنقل أخبار الإرهابيين، وتمجد أفعالهم الإجرامية، وإحالة مسؤوليها إلى المحاكم لينالوا جزائهم العادل .

إن تكاتف جهود كافة الدول وحكوماتها في التصدي للمنظمات الإرهابية  وتحت راية منظمة الأمم المتحدة، وتقديم الدعم والمساعدة للدول والحكومات التي تتصدى للإرهاب، وتبادل المعلومات، بالإضافة لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة في البلدان الفقيرة، والنهوض بالمستوى المعيشي لهذه الشعوب كفيل بالقضاء على المنظمات الإرهابية وتخليص العالم من شرورها .
لقد باتت مسألة التصدي لهذا الشر الوبيل مسألة دولية لا يمكن لأي دولة أن تعفي نفسها من مسؤولية المشاركة الفعالة في مكافحة الإرهاب والإرهابيين، وعلى الدول الغنية أن تتحمل مسؤوليتها في معالجة مسألة الفقر والبطالة وتفشي الأمراض في الدول الفقيرة، فلا يمكن القضاء على المنظمات الإرهابية إذا لم نعمل على تجفيف مصادرها المادية والبشرية. 

109
في الذكرى الرابعة عشر للغزو الامريكي للعراق
حامد الحمداني                                                             18 /1/2017

بعد النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية عام 1991، وبعد انهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وما تبع ذلك من فقدان التوازن الدولي، وما تبع ذلك من فقدان التوازن الدولي، وتحوله نحو سيادة القطب الواحد الأمريكي، بدأت تتكشف الاستراتيجية الأمريكية الهادفة للهيمنة المطلقة على العالم تبدو بأجلى مظاهرها، وتميّزت هذه الاستراتيجية بتقديس السيطرة التكنولوجية التي تتمتع بها  كوسيلة فعّالة لتحقيق أهدافها.

وجاءت تحركات الولايات المتحدة الأمريكية في الإعداد لحرب الخليج الثالثة ضد العراق كمرحلة أولى ضمن هذا السياق، وكلحظة تجسيدٍ لذلك التوجه الأمريكي الهادف لتحقيق السيطرة الكلية على مصير العالم، متذرعة بضرورة العمل بأقصى سرعة ضد المجمع الصناعي العسكري العراقي الذي سعت لتضخيمه، وحذرت من برامجه المتقدمة في مجال صناعة أسلحة الدمار الشامل النووي والكيماوي والبيولوجي، وسعت لإقناع حلفائها الغربيين بأن العمل العسكري المباشر هو السبيل الوحيد للتخلص من هذا الخطر الماثل، علماً أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين هم من ساعدوا نظام الدكتاتور العراقي في هذا المجال، ومدوه بكل الخبرات والوسائل أبان حرب الخليج الأولى التي خاضها النظام ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، والتي امتدت لثمانية أعوام من دون أي مبرر، ودفع الشعب العراقي خلالها ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، ناهيك عن الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بالبلاد.

ويقدم الكاتب الفرنسي المعروف [ آلن جوكس ] في كتابه [أمريكا المرتزقة ] تحليلاً تفصيلياً لميكانيزمات هذا التحول الأمريكي نحو تبني نظرية الحرب الهجومية كوسيلة للدفاع عن المصالح الأمريكية، اعتماداً على توثيق دقيق للشهادات التي يدلي بها صناع القرار والتوجيه الأمريكيين أمام اللجان المختلفة للكونغرس، إضافة إلى تلك الوثائق والدراسات التي يعدها كبار الخبراء، والتي تلعب دوراً مهماً في صوغ المواقف السياسية لجزء هام من النخبة الأمريكية.
 إن  أحد أهم مفاصل هذا التحليل المعمق لميكانيزمات صنع القرار السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة يتمثل في توضيح العلاقة المتشابكة ما بين [ السلطة التشريعية ] متمثلة بالكونغرس و [ السلطة التنفيذية ] متمثلة بمؤسسات الرئاسة، ووزارة الخارجية والبنتاغون، حيث أن الانفصال بينهما يجسد أحد أهم مبادئ الدستور الأمريكي، وهكذا فإن للكونغرس سلطة فعلية، تتمثل بالسلطة المالية، حيث أن سحب الثقة عن أية ميزانية مقدمة من طرف إحدى المؤسسات التنفيذية، إنما هو سلاح فعال لمواجهة سياسات لا يتفق الكونغرس على خطوطها الرئيسية.
لكنَّ هذه السلطة لدى الكونغرس ليست سوى سلطة منقوصة في حالات الحرب، وبخصوص قضايا الأمن القومي التي ينظر إليها الدستور الأمريكي على أنها حكر ٌعلى السلطة التنفيذية بامتياز. ولغرض إقناع الرئيس الأمريكي بوش للكونغرس للموافقة على مشروع الحرب المخطط لتنفيذها إزاء العراق، كخطوة أولى في المخططات الأمريكية للهيمنة على العالم،
كان سلاح المناورة والتحايل، وتضخيم الأخطار إزاء الولايات المتحدة والشعب الأمريكي، سلاحاً فعالاً بيد الإدارة الأمريكية لخلق قبول عام لفكرة الحرب على العراق.

أن تشكيل أي رأي عام مؤيد للحرب من شأنه ممارسة أشكال من الترهيب والتخويف للمجتمع الأمريكي من مخاطر الإرهاب الدولي، مستغلاً أحداث الحادي عشر من أيلول الإجرامية، وكذلك للضغط على السلطة التشريعية لإقناعها بضرورة الحرب المطلوبة، أو لإجبارها مكرهة على الالتحاق بهذا الركب.

و لا شك أن الجيل الأمريكي المتلفز قد أصبح سهل الانقياد لمناورات التضليل بعد أحداث أيلول، والأهداف المتوخاة منها، والمتمثلة بما تدعي الإدارة الأمريكية بمكافحة الإرهاب من أجل تبرير مشاريعها الحربية الهادفة للهيمنة على العالم.

وفي ظل هذا الواقع يرى المتتبعون للسياسة الأمريكية أن الديمقراطية الأمريكية قد فقدت الكثير من مصداقيتها المتمثلة بالتلاعب بالرأي العام الأمريكي بشكل خاص، والرأي العام العالمي بشكل عام، والذي يطلب منه تبني فكرة اللجوء إلى الحرب الهجومية كضرورة لا مفرَّ منها، وهذا التلاعب قد امتد إلى فترة زمنية طويلة، وكان شعارها الاقتصادي والعسكري كسلاح وحيد وفعّال لإجبار النظام العراقي على الانسحاب من الكويت عام 1991، وعلى تدمير أسلحته ذات الدمار الشامل.

 وفي ظل هذا الشعار المخادع جرت الاستعدادات للحرب الهجومية على قدم وساق، وهذه الاستعدادات لم تكن سراً من الأسرار، فلا مجال في الولايات المتحدة لكتمان الأسرار طويلاً، وهكذا باتت الحرب ضد العراق مؤكدة بنظر أهل الاختصاص من ذوي العلاقة  بالدوائر الحاكمة حيث تعمل المؤسسة العسكرية جاهدة على تجهيز خطة متكاملة للحرب لكي تكون جاهزة في لحظة قرار سياسي من قبل الرئيس بوش.

إن التفكير الأمريكي الذي يقدس الإمكانيات والوسائل التكنولوجية لدرجة سيادة نوع من دكتاتورية الأدوات والوسائل تتقدم لتملي على السياسة مبادئ عملها وأهدافها قد غدا العامل المحرك لسياستها الهادفة للهيمنة على العالم، وهذا الجانب المأساوي من الفكر الإستراتيجي الأمريكي الذي ينظّر لسيادة التكنولوجيا على السياسة، وهذا الانسحاب للمجتمع المدني ولتعبيراته البرلمانية والجماهيرية أمام تقدم طبقة أو شريحة من التنكوقراط المرتبطة بجملة مصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي هو ما دفع أوربا خصوصاً، والعالم عموماً، إلى إطلاق صيحة تحذيرٍ من الأهداف الأمريكية، ذلك أن الانصياع والخضوع للسياسات الأمريكية إنما يحمل خطراً جسيما على مستقبل البشرية جمعاء .
أخذت الولايات المتحدة تعمل في تلك الأيام بنشاط مكثف من أجل الحشد الميداني الذي يفوق بالفعل حاجات الانخراط في ميادين المعركة الحقيقية  وذلك لتحقيق هدف استراتيجي يتجاوز البعد العسكري للمواجهة مع العراق، في محاولة لردع النظام العراقي دون أن يضطر الطرف الأمريكي للتورط في معركة فعلية ذات أبعاد كارثية إذا ما أمكن ذلك، ومهددة النظام بمواجهة خطر التدمير الساحق الذي يتجسد عياناً بتلك الحشود الهائلة في الميدان، وهي مصرة على شن الحرب لإسقاط النظام العراقي إذا ما أصرَّ على تجاهل تلك الحشود والتهديدات.
 وكما أصر رأس النظام صدام من قبل على تجاهل الدعوات له للخروج من الكويت، رغم كل النصائح المقدمة له من خطورة الحرب التي كانت الولايات المتحدة تهيئ لها، مستقدمة قوات هائلة، ومسلحة بأحدث ما أنتجته المصانع الحربية الأمريكية، فإن صدام  استمر على مواقفه الخاطئة، ولم يتعلم الدرس من حروبه السابقة، رغم كل النصائح التي قُدمت له بعد احتلاله للكويت بضرورة الانسحاب حفاظاً على مصير العراق وشعبه، وعلى جيشه من التدمير الذي ينتظره إذا لم ينفذ قرار مجلس الأمن القاضي بالانسحاب من الكويت دون قيد أو شرط.
 لكنه تجاهل كل تلك النصائح، وركب رأسه رافضاً الانسحاب، وحينما التقى وزير الخارجية الأمريكية [ جيمس بيكر] بطارق عزيز في جنيف قبيل نشوب الحرب وجه  بيكر تحذيراً صارماً لصدام حسين من خلال الرسالة التي سلمها إلى طارق عزيز بأن البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، والقوات المسلحة العراقية ستتعرض لدمار هائل، وأن العراق سيعود القهقرة عشرات السنين إلى الوراء.

لقد كان من الطبيعي أن لا يذرف  المواطن العراقي  الدمع على صدام ونظامه إذا ما تم إزالة ذلك النظام الفاشي الذي جثم على صدور المواطنين خلال خمسة وثلاثين عاماً عجافا، أذاق خلالها العراقيين من الويلات والمآسي والمصائب ما لا يوصف جراء فاشيته و وحشيته، وحروبه العدوانية ضد إيران والكويت، وضد أبناء شعبه، وإن الشعب العراقي بمختلف أطيافه كان يتطلع إلى يوم الخلاص من ذلك النظام الذي فاق بإجرامه أعتا الأنظمة الدكتاتورية في العالم.
 لكن الشعب العراقي كان في الوقت نفسه ينتابه القلق الشديد مما تخبئه الولايات المتحدة له، ولاسيما وأن ما بدأ يتكشف من المخططات الأمريكية المستهدفة للهيمنة على مقدرات الشعوب، وهو الذي كانت لديه هواجس كثيرة، وعدم الاطمئنان والثقة بالسياسة الأمريكية، ولاسيما وأنها قد خذلته في انتفاضة آذار عام 1991، ودعمت نظام الدكتاتور صدام في قمعها، وابتلع الرئيس جورج بوش الأب دعوته الشعب العراقي للانتفاض ضد النظام، كما سبق وأن خذلت الولايات المتحدة الحركة الكردية بزعامة مصطفى البارزاني عام 1975، بعد أن وقع صدام  وشاه إيران اتفاقية الجزائر، والأمثلة كثيرة على عدم مصداقية وجدية السياسة الأمريكية التي لا تعرف غير مصالحها الذاتية.
 كان أخشى ما يخشاه الشعب أن يبدل نظاماً دكتاتورياً فاشياً باحتلال أمريكي قد يطول لسنوات عديدة، فلم يعد الشعب قادراً على تحمل المزيد من العبودية والمظالم ، ناهيك عن الويلات والمصائب والخراب والدمار الذي يمكن أن تسببه الحرب، ولاسيما وأن الولايات المتحدة قد أعدت آخر ما ضمته ترسانتها الحربية من الأسلحة الفتاكة، وما عاناه الشعب من ويلات خلال حربي الخليج الأولى والثانية، والحروب الداخلية المستمرة مع الاكراد، وهو لا ينشد سوى العيش بسلام وحرية وأمان، وأن يحيا في ظل نظام ديمقراطي تعددي تسوده قيم العدالة والحرية والوئام بعيداً عن الحروب ومآسيها وويلاتها.

كان حلم الشعب أن يطيح بنظام صدام من دون حرب واحتلال وضحايا ودمار وخراب، وكان طموحه أن يجبر مجلس الأمن رأس النظام صدام على أجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية في البلاد، وإعادة الحقوق والحريات الديمقراطية المسلوبة، وإجراء انتخابات برلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة، وقيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي يطلق الحريات العامة، بما فيها حرية الصحافة، والتنظيم الحزبي والنقابي، وحرية تأسيس الجمعيات ذات النشاط الاجتماعي.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية التي أصدرت عشرات القرارات ضد النظام العراقي قبل نشوب حرب الخليج الثانية عام 1991، تحت البند السابع الذي يلزم النظام العراقي بالتنفيذ، استثنت القرار الوحيد رقم 688 والمتعلق بحقوق وحريات الشعب العراقي من هذا البند، مما حول القرار في واقع الحال إلى حبر على ورق، ولم يعر له صدام أي اهتمام ما  دام غير ملزم له، بل وتمادى في تزييف إرادة الشعب من خلال الاستفتاء الزائف على رئاسته، والذي جاءت نتائجه بتأييد 99و99% وهو رقم لم يشهد له مثيلاً لدى كل دول العالم، واستمر سيفه المسلط على رقاب الشعب، واستمر يقطع رؤوس كل من يشك بعدم ولائه لنظامه الدكتاتوري الشمولي.
وتمادت الولايات المتحدة من جانبها في إيذاء الشعب العراقي بفرض الحصار الجائر ليس على صدام ونظامه، بل على الشعب المهضومة كافة حقوقه وحرياته، وسيف النظام المسلط على رقبة أبنائه، واستمر ذلك الحصار ثلاثة عشر عاما عجافاً لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل في كل تاريخه الحديث، فقد كان الحصار يمثل أشنع أنواع الحروب، حرب التجويع والإذلال والفقر والأمراض، وانهيار البنية الاجتماعية، وانهيار العملة العراقية، واختفاء القيم الإنسانية النبيلة التي تعود عليها الشعب لتحل مكانها قيم وسلوكيات على النقيض منها، حيث لم يعد ما يهم المواطن العراقي غيرتأمين مصادر العيش له ولعائلته مهما كانت الوسائل والسبل!!.
 
وتصاعدت الأخطار المحدقة بالعراق من جديد جراء لعبة القط والفأر التي مارسها صدام  مع فرق التفتيش الدولية حول أسلحة الدمار الشامل معرضاً الشعب لكارثة حرب جديدة مع الولايات المتحدة وحلفائها جراء إصراره على افتعال الأزمات مع اللجنة الدولية لنزع أسلحة الدمار الشامل من جهة، وإصرار الولايات المتحدة وبريطانيا على إيجاد واستغلال كل الذرائع الممكنة لتوجيه ضربة قاضية للعراق، حيث لا أحد يعلم مدى ما ستسببه من مآسي وويلات لشعبنا المنهك أصلاً، جراء الحصار الاقتصادي اللاإنساني، حيث بادرت الولايات المتحدة بحشد سفنها الحربية وطائراتها المجهزة بآخر ما توصلت إليه مصانعها الحربية من الأسلحة الفتاكة استعداداً لشن الهجوم على العراق بحجة تدمير الأسلحة الكيماوية والجرثومية البيولوجية التي كانت تقول أن النظام العراقي قد خبأها في مخازن تحت الأرض، ولم يظهر لها أثراً بعد الحرب، وباتت المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه كبيرة جداً، ولا أحد يستطيع تحديد مداها، لكنها في غالب الأحوال كان مقدراً لها أن تكون  أشد وطأة من حرب الخليج الثانية عام 1991، وأنها ستأتي على البقية الباقية من بنية العراق الاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل تلك الظروف الخطيرة المحدقة بالعراق وشعبه، والتطورات التي يمكن أن تحدث بين يوم وآخر كانت قوى المعارضة العراقية ما تزال على انقسامها وتشتتها غير عابئة بما يمكن أن تؤول إليه تلك الأحداث، فقد كانت، بل كانت تهرول وراءها، واستطاعت الولايات المتحدة أن تستقطب معظم تلك القوى التي انحازت إلى المخطط الأمريكي لغزو العراق بحجة إسقاط النظام الدكتاتوري وإنقاذ الشعب من طغيان صدام.

 أخذت الأخطار المحدقة بالعراق تسارع الخطى، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة عازمة عزماً لا رجعة فيه على غزو العراق، و إسقاط نظام صدام واحتلال العراق، ومن أجل تحقيق هذا الهدف جرى نقل القوات والأسلحة المتطورة والفائقة التدمير إلى قواعد الانطلاق القريبة من العراق في الخليج العربي وتركيا وإسرائيل والأردن، وتوجهت حاملات الطائرات والمدمرات الأمريكية نحو أقرب المواقع للعراق.

كما تبعت بريطانيا الولايات المتحدة في تعبئة أعداد كبيرة من قواتها وتجهيزاتها الحربية استعداداً للمشاركة في الحرب، كما جرت الاستعدادات الحربية في إسرائيل بكل نشاط، وبسرية مطلقة، بسبب حساسية الموقف، استعداداً لساعة الصفر التي باتت قريبة كما قدّر الكثير من المراقبين.

وفي حين كان يمضي الوقت مسرعاً نحو اندلاع الحرب التي لم  يشك أحداً بنتائجها، وبالويلات والمآسي والمصائب والخراب والدمار الذي سيحل بالشعب والوطن، فإن دكتاتور العراق كان يساوره الأمل بتجاوز الحرب، والبقاء في السلطة غير عابئ بمصالح الشعب، وسيادة واستقلال العراق.

وهكذا اقتربت ساعة الحسم، ولم يعد أمام صدام متسعاً من الوقت لكي يجنب العراق وشعبه ويلات الحرب، و يجنب نفسه وحاشيته المصير المحتوم، ولم يكن هناك من  سبيل أمامه سوى الرحيل بأسرع وقت، بعد أن وجهت له الولايات المتحدة إنذارا بمغادرة العراق مع عائلته خلال 48 ساعة وإنقاذ العراق من الخراب والدمار، لكنه استمر على  إصراره البقاء في السلطة ولسان حاله يقول على وعلى الشعب وليكن ما يكون.

وانطلقت شرارة الحرب في فجر العشرين من آذار عام 2003 ، تلك الحرب التي لم يستطع صدام وجيشه الصمود فيها سوى عشرين يوماً، حيث انهار النظام بكل مؤسساته وأجهزته العسكرية والأمنية، واحتلت القوات الأمريكية العراق، واستحصلت قراراً من مجلس الأمن يشرعن الاحتلال، ونصبت الجنرال المتقاعد [ كاردنر]  حاكماً على العراق، ثم ما لبثت أن استبدلته بالدبلوماسي الأمريكي [ بول برايمر]  الذي حكم العراق عاماً كاملاً اقترف فيه الكثير من الجرائم الكارثية التي أوقعت الشعب العراقي في جحيم أقسى وأمر من جحيم نظام صدام، بعد ان اقدم على حل الجيش والشرطة وكافة الاجهزة الامنية، وإقامة نظام حكم طائفي متخلف، أدى إلى استقطاب طائفي شيعي وسني أشعل نيران الحرب الأهلية الطائفية التي طحنت بالالوف من المواطنين الأبرياء على أيدي المليشيات التابعة للأحزاب الطائفية بشقيها الشيعي والسني، وبات التهجير والعزل السكاني يجري في البلاد على قدم وساق وأخذت موجات الهجرة الداخلية والخارجية تتصاعد يوما ًبعد يوم حتى جاوزت الأربعة ملايين مواطن، هرباً من الموت الزؤام.

كما فسحت المجال أمام العناصر البعثية التي أُسقطت من السلطة لتستعيد أنفاسها، وتعيد تنظيم صفوفها، لتشن حربا إجرامية لا هوادة فيها ضد الشعب العراقي، وهي المدربة على السلاح، ولديها ملايين قطع السلاح التي نشرها النظام في البلاد، بالإضافة إلى الأموال الهائلة التي سرقها النظام طوال فترة حكمه الطويلة والمقدرة بحوالي 90 مليار دولار لاستخدامها في استعادة السلطة، كما قال صدام نفسه أمام قادة حزبه في احد الاجتماعات.
 إنها حرب قوامها السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي تقتل المواطنين بالجملة كل يوم مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق.
ولم تكتف الولايات المتحدة بكل مافعلته بالعراق وشعبه من قتل وخراب ودمار ، وبلع الرئيس الامريكي بوش وعوده الكذابة بإقام نظام حكم طائفي مقيت بالشراكة مع قيادات حزبي البرزاني والطلباني والذين تولوا الحكم منذ سقوط نظام صدام وحتى يومنا هذا، وكان جل همهم نهب ثروات البلاد التي جاوزت الأف ملياردولار تاركين الشعب العراقي في حالة بائسة من الفقر المدقع والجوع والتشرد دون ان تهتز لهم شعرة ولا الشعور بعذاب الضمير وهم الذين يدعون الاسلام كذباً وزوراً 
واخير سلمت حكومة المالكي وقيادات جيشه محافظات ومدن العراق السنية كافة من الموصل إلىالانبار وصلاح الدين وديالى لعصابات داعش المجرمة التي بعثت بها الولايات المتحدة

 





110

من اجل تربية ابنائنا تربية سليمة

الكذب وانواعه واسبابه وعلاجه
حامد الحمداني                                                             7/12/2016
الكذب من ابرز العادات الشائعة لدى الأبناء، والتي قد تستمر معهم في الكبر إذا ما تأصلت فيهم، وهذه العادة ناشئة في اغلب الأحيان  عن الخوف، وخاصة في مرحلة الطفولة من عقاب يمكن أن ينالهم بسبب قيامهم بأعمال منافية للأخلاق، أو بسبب محاولتهم تحقيق أهداف وغايات غير مشروعة، ويكون الغرض منه بالطبع حماية النفس، وللكذب صلة بعادتين سيئتين أخريين هما السرقة والغش، ويمكن إجمال هذه الصفات الثلاثة السيئة  بـ [ عدم الأمانة ]، حيث يلجأ الفرد للكذب لتغطية الجرائم التي يرتكبها للتخلص من العقاب، وقد وجد الباحثون في جرائم الأحداث بنوع خاص أن من اتصف بالكذب يتصف عادة بصفتي الغش والسرقة، فهناك صلة وثيقة تجمع بين هذه الصفات، فالكذب والغش والسرقة صفات تعني كلها [عدم الأمانة].
يلجأ الكثير من  المربين إلى الأساليب القسرية لمنع الناشئة من تكرار هذه العادة، غير أن النتائج التي حصلوا عليها هي أن هؤلاء استمروا على هذا السلوك ولم يقلعوا عنه، وعلى هذا الأساس فإن معالجة الكذب لدى أبنائنا يحتاج إلى أسلوب آخر، إيجابي وفعّال، وهذا لا يتم إلا إذا درسنا هذه الصفة وأنواعها ومسبباتها، فإذا ما وقفنا على هذه الأمور استطعنا معالجة هذه الآفة الخطيرة.
أنواع الكذب : 
1 ـ الكذب الخيالي :
 كأن يصور أحد الأبناء قصة خيالية ليس لها صلة بالواقع، وكثيراً ما نجد قصصاً تتحدث عن بطولات خيالية لأناس لا يمكن أن تكون حقيقية. إن علينا كمربين أن نعمل على تنمية خيال أطفالنا لكونه يمُثل جانباً إيجابياً في سلوكهم، وذو أهمية تربوية كبيرة، وحثهم لكي يربطوا خيالهم الواسع بالواقع من أجل أن تكون اقرب للتصديق والقبول.
غير أن الجانب السلبي في الموضوع هو إن هذا النوع يمكن أن يقود صاحبه إلى نوع آخر من الكذب أشد وطأة، وأكثر خطورة إذا لم أن نعطيه الاهتمام اللازم لتشذيبه وتهذيبه .
2 ـ الكذب الإلتباسي :
وهذا النوع من الكذب ناشئ عن عدم التعرف أو التأكد من أمر ما، ثم يتبين أن الحقيقة على عكس ما رواه لنا الشخص، فهو كذب غير متعمد، وإنما حدث عن طريق الالتباس، وهذا النوع ليس من الخطورة بمكان، وهنا ينبغي أن يكون دورنا بتنبيه أبنائنا إلى الاهتمام بالدقة وشدة الملاحظة تجنباً للوقوع في الأخطاء.
3 ـ الكذب الادعائي :
وهذا النوع من الكذب يهدف إلى تعظيم الذات، وإظهارها بمظهر القوة والتسامي لكي ينال الفرد الإعجاب، وجلب انتباه الآخرين، ومحاولة تعظيم الذات، ولتغطية الشعور بالنقص، وهذه الصفة نجدها لدى الصغار والكبار على حد سواء، فكثيراً ما نجد أحداً يدعي بشيء لا يملكه، فقد نجد رجلاً يدعي بامتلاك أموال طائلة، أو مركز وظيفي كبير، أو يدعي ببطولات ومغامرات لا أساس لها من الصحة، وعلينا في مثل هذه الحالة أن نشعر أبنائنا أنهم إن كانوا اقل من غيرهم في ناحية ما فإنهم احسن من غيرهم في ناحية أخرى وعلينا أن نكشف عن كل النواحي الطيبة لدى أطفالنا وننميها ونوجهها الوجهة الصحيحة لكي نمكنهم من العيش في عالم الواقع بدلاً من العيش في عالم الخيال الذي ينسجونه لأنفسهم، وبذلك نعيد لهم ثقتهم بأنفسهم، ونزيل عنهم الإحساس بالنقص. 
4 ـ الكذب الانتقامي  :
وهذا النوع من الكذب ناشئ بسبب الخصومات التي تقع بين الأبناء وخاصة التلاميذ، حيث يلجأ التلميذ إلى إلصاق تهم كاذبة بتلميذ آخر بغية الانتقام منه، ولذلك ينبغي علينا التأكد من كون التهم صحيحة قبل اتخاذ القرار المناسب إزاءها، وكشف التهم الكاذبة، وعدم فسح المجال أمام أبنائنا للنجاح في عملهم هذا كي يقلعوا عن هذه العادة السيئة.
5 ـ الكذب الدفاعي :
وهذا النوع من الكذب ينشأ غالباً بسبب عدم الثقة بالأباء والأمهات بسبب كثرة العقوبات التي يفرضونها على أبنائهم، أو بسبب أساليب القسوة والعنف التي يستعملونها ضدهم في البيت مما يضطرهم إلى الكذب لتفادي العقاب، وهذا النوع من الكذب شائع بشكل عام في البيت والمدرسة.
 فعندما يعطي المعلم لطلابه واجباً بيتيا فوق طاقتهم ويعجز البعض عن إنجازه  نراهم يلجئون إلى اختلاق مختلف الحجج والذرائع والأكاذيب لتبرير عدم إنجازهم للواجب، وكثيراً ما نرى قسماً من التلاميذ يقومون بتحوير درجاتهم من الرسوب إلى النجاح في الشهادات المدرسية خوفاً من ذويهم.
وفي بعض الأحيان يكون لهذا النوع من الكذب ما يبرره حتى لدى الكبار، فعندما يتعرض شخصاً ما للاستجواب من قبل سلطات الأنظمة القمعية بسبب نشاطه الوطني،  يضطر لنفي التهمة لكي يخلص نفسه من بطش السلطات، وفي مثل هذه الأحوال يكون كذبه على السلطات مبرراً.
إن معالجة هذا النوع من الكذب يتطلب منا آباء ومعلمين أن ننبذ الأساليب القسرية في تعاملنا مع أبنائنا بصورة خاصة، ومع الآخرين بصورة عامة كي لا نضطرهم إلى سلوك هذا السبيل.
6 ـ الكذب الوقائي:
وهذا النوع من الكذب نجده لدى بعض الأبناء الذين يتعرض أصدقاءهم لاتهامات معينة فيلجئون إلى الكذب دفاعاً عنهم . فلو فرضنا أن تلميذاً أقدم على كسر زجاجة إحدى نوافذ الصف، فإننا نجد بعض التلاميذ الذين تربطهم علاقة صداقه وثيقة معه ينبرون للدفاع عنه، نافين التهمة رغم علمهم بحقيقة كونه هو الفاعل.
 وعلى المربي في هذه الحالة أن يحرم هؤلاء من الشهادة في الحوادث التي تقع مستقبلاً لكي يشعروا أن عملهم هذا يقلل من ثقة المعلم بهم، وعليه عدم اللجوء إلى الأساليب القسرية لمعالجة هذه الحالات، وتشجيع التلاميذ على الاعتراف بالأخطاء والأعمال التي تنسب لهم، وان نؤكد لأبناء أن الاعتراف بالخطأ سيقابل بالعفو عنهم، وبذلك نربي أبناءنا على الصدق والابتعاد عن الكذب.
7 ـ الكذب الغرضي:
 ويدعى هذا النوع من الكذب كذلك [الأناني ]، وهو يهدف بالطبع إلى تحقيق هدف يسعى له بعض الأبناء  للحصول على ما يبتغونه، فقد نجد أحدهم ممن يقتر عليه ذويه يدعي انه بحاجة إلى دفتر أو قلم أو أي شيء آخر بغية الحصول على النقود لإشباع بعض حاجاته المادية، وهذا يتطلب من الأهل أن لا يقتروا على أبنائهم فيضطرونهم إلى سلوك هذا السبيل.
8 ـ  الكذب العنادي:
ويلجأ الطفل إلى هذا النوع من الكذب لتحدي السلطة سواء في البيت أو في المدرسة عندما يشعر أن هذه السلطة شديدة الرقابة وقاسية، قليلة الحنو في تعاملها معه، فيلجأ إلى العناد، وهو عندما يمارس مثل هذا النوع من الكذب فإنه يشعر بنوع من السرور.
يحدث هذا النوع من الكذب لدى الأطفال حيث يقلدون آبائهم وأمهاتهم الذين يكذب بعضهم على البعض الآخر على مرأى ومسمع منهم، أو أن يمارس الوالدان الكذب على الأبناء، كأن يَعِدان أطفالهم بشراء هدية، أو لعبة ما، ولا يوفيان بوعودهما فيشعرون بأن ذويهم يمارسون الكذب عليهم، فيتعلمون منهم صفة الكذب التي يمكن أن تترسخ لديهم هذه العادة بمرور الوقت.
إن على الوالدين أن يكونا قدوة صالحة لأبنائهم، وأن يكونا صادقين وصريحين في التعامل معهم، فهم يتخذونهم مثالاً يحتذون بهم كيفما كانوا، فإن صلح الوالدين صلح الأبناء في غالب الأحيان ، وإن فسدوا فسد أبناؤهم.

10 ـ الكذب المرضي المزمن :
 وهذا النوع من الكذب نجده لدى العديد من الأشخاص الذين اعتادوا على الكذب، ولم يعالجوا بأسلوب إيجابي وسريع فتأصلت لديهم هذه العادة بحيث يصبح الدافع للكذب  لاشعورياً وخارجاً عن إرادتهم، وأصبحت جزءاً من حياتهم ونجدها دوما في تصرفاتهم وأقوالهم.
 فهم يدعون أموراً لا أساس لها من الصحة، ويمارسون الكذب في كل تصرفاتهم وأعمالهم، وهذه هي اخطر درجات الكذب، واشدها ضرراً، وعلاجها ليس بالأمر السهل ويتطلب منا جهوداً متواصلة ومتابعة مستمرة.
كيف نعالج مشكلة الكذب ؟
لمعالجة هذه الآفة الاجتماعية لدى أبنائنا ينبغي لنا أن نلاحظ ما يلي:
1 ـ التأكد  إذا ما كان الكذب لدى أبنائنا نادراً أم متكرراً .
2 ـ إذا كان الكذب متكرراً فما هو نوعه ؟ وما هي دوافعه ؟
3ـ عدم معالجة الكذب بالعنف أو السخرية والإهانة، بل ينبغي دراسة الدوافع المسببة للكذب.
4ـ ينبغي عدم فسح المجال للكاذب للنجاح في كذبه لأن النجاح يشجعه على الاستمرارعليه.
5 ـ ينبغي عدم فسح المجال للكاذب لأداء الشهادات.
6ـ ينبغي عدم إلصاق تهمة الكذب جزافاً قبل التأكد من صحة الواقعة.
7ـ ينبغي أن يكون اعتراف الكاذب بذنبه مدعاة للتخفيف أو العفو عنه، وبهذه الوسيلة نحمله على قول الصدق.
8ـ استعمال العطف بدل الشدة، وحتى في حالة العقاب فينبغي أن لا يكون العقاب اكبر من الذنب بأية حال من الأحوال.
9 ـ عدم إرهاق التلاميذ بالواجبات البيتية.
10ـ عدم نسبة أي عمل يقوم به المعلمون أو الأهل إلى التلاميذ على أساس انه هو الذي قام به، كعمل النشرات المدرسية، أو لوحات الرسم وغيرها من الأمور الأخرى.

وختاماً ينبغي أن نكون صادقين مع أبنائنا وطلابنا في كل تصرفاتنا وعلاقاتنا معهم، وأن ندرك أن الطفل الذي ينشأ في محيط يحترم الصدق يتعود عليه، وأنه إذا ما توفر له الاطمئنان النفسي والحرية والتوجيه الصحيح فإن الحاجة تنتفي إلى اللجوء إلى الكذب.



111
واقع الأسرة، وتأثيره على مستقبل الأطفال
حامد الحمداني                                                              25/11/2016

من خلال الدراسات التي أجراها علماء التربية وعلم النفس للأوضاع الأسرية في مختلف البلدان قد وجدوا أن هناك اختلافات كبيرة بين الأوضاع الاجتماعية لهذه الأسر تتحكّم فيها الظروف التي تعيش فيها كل أسرة، والعلاقات السائدة بين أفرادها، وبشكل خاص بين الوالدين، وأن هذه الاختلافات والعلاقات تلعب دوراً خطيراً في تربية وتنشئة الأطفال، فهناك نماذج مختلفة من الأسر، وتبعاً لذلك نستطيع أن نحددها بما يلي :

1ـ الأسر التي يسودها الانسجام التام، والاحترام المتبادل بين الوالدين وسائر الأبناء، ولا يعانون من أية مشكلات سلوكية بين أعضائها الذين يشتركون جميعاً في القيم السامية التي تحافظ على بناء وتماسك الأسرة، وتستطيع هذه الأسر تذليل جميع المشاكل والصعوبات والتوترات الداخلية التي تجابههم بالحكمة والتعقل، وبالمحبة والتعاطف والاحترام العميق لمشاعر الجميع صغاراً وكباراً. إن الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة، وخاصة بين الوالدين هو من أهم مقومات الاستقرار والثبات في حياتها، ومتى ما كانت الأسرة يسودها الاستقرار والثبات فإن تأثير ذلك سينعكس بكل تأكيد بشكل إيجابي على تربية وتنشئة الأطفال.

2ـ الأسر التي يسودها بين أفرادها الانشقاق وعدم الانسجام والتمزق والتناحر، وتفتقد إلى الاحترام المتبادل بين الوالدين، ويمارس أحدهما سلوكاً لا يتناسب مع جنسه، ولا يتلاءم معه، وغير مقبول اجتماعياً، وفي هذه الحال يفتقد الأطفال القدوة الضرورية التي يتعلم منها العادات والقيم والسلوكيات الحميدة، وقد يلجأ الأطفال إلى البحث عن قرين لهذه القدوة غير كفء من خارج الأسرة، غير أن هذه النماذج تفتقر إلى عمق الشخصية، ولا يمكن التعرف عليها بنفس الدرجة التي يتعرف بها الأبناء على الوالدين.

إن عدم الانسجام بين الوالدين يؤدي إلى صراع حاد داخل الأسرة، وقد يطفو هذا الصراع على السطح، وقد تشتعل حرب باردة بين  الوالدين، وقد يترك الأب الضعيف السلطة والمسؤولية العائلية للأم، وقد تحاول الأم تشويه صورة زوجها أمام الأبناء، وتستهزئ به، مما يؤدي إلى شعور الأبناء بعدم الاحترام لأبيهم الضعيف والمسلوب الإرادة.

وهناك الكثير من الآباء المتسلطين على بقية أفراد العائلة، ولجوئهم إلى أساليب العنف والقسوة في التعامل مع الزوجة والأبناء، وخاصة المدمنين منهم على الكحول والمخدرات مما يحوّل الحياة داخل الأسرة إلى جحيم لا يطاق.

 وقد يتوسع الصراع بين الوالدين ليشمل الأبناء، حيث يحاول كل طرف تجنيد الأبناء في صالحه مما يسبب لهم عواقب وخيمة، حيث يصبحون كبش فداء لذلك الصراع، ويجعلهم يتعرضون للتوتر والغضب والعدوانية والقلق والانطواء والسيطرة. ولقد أكد العلماء أن المشكلات الأخلاقية التي يتعرض لها الأبناء غالباً ما تكون لدى الأسر التي يسودها التوتر وعدم الانسجام، و الصراع.

ويعتقد العلماء، نتيجة الدراسات التي أجروها، أن تأثيرات الصراع والشقاق الزوجي المستمر غالباً ما تكون أشد تأثيراً على تربية وتنشئة الأبناء من الانفصال أو الطلاق على الرغم  من أن الانفصال أو الطلاق ليس بالضرورة يمكن أن ينهي العداء والكراهية بين الوالدين، فقد ينتقل الصراع بينهما إلى مسألة حضانة الأطفال، ونفقة معيشتهم، وغيرها من الخلافات الأخرى.

3ـ إن الأسر التي جرى فيها انفصال الوالدين عن بعضهما نتيجة للشقاق والصراع المستمر بينهما مما يجعل استمرار الحياة المشتركة صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً، ورغم أن الانفصال أو الطلاق قد يحل جانباً كبيراً من المشاكل التي تعاني منها الأسرة، إلا أن مشاكل أخرى تبرز على السطح من جديد تتعلق بحضانة الأطفال ونفقتهم، وقد يستطيع الوالدان المنفصلان التوصل إلى حل عن طريق التفاهم، وقد يتعذر ذلك، ويلجا الطرفان أو أحدهما إلى المحاكم للبت في ذلك، مما يزيد من حدة الصراع بينهما، والذي ينعكس سلباً على أبنائهما.

وفي الغالب قد تتولى الأم حضانة أطفالها، وقد يتولى الوالد الحضانة، وقد يتولى الاثنان ذلك بالتناوب حرصاً على مصلحة الأبناء، وعدم انقطاع الصلة بين الوالدين وأبنائهما.
لكن الآثار السلبية لانفصال الوالدين على الأبناء تبقى كبيرة خاصة مع استمرار الكراهية والعداء بين الوالدين، ونقل ذلك الصراع بينهما إلى الأبناء، وما يسببه ذلك من مشاكل واضطرابات نفسية لهم، فقد اعتبرت الباحثة المعروفة [مافيس هيرثنكتون] الطلاق بأنه مرحلة من التردي في حياة الأسرة، وليس مجرد حدث فردي قائم بذاته.

إن التأثير الناجم عن حضانة الأبناء من قبل أحد الطرفين يمكن أن يخلق مشاكل جديدة، فقد تتزوج الأم التي تتولى حضانة أبنائها، ويعيش الأبناء في ظل زوج الأم، وقد يكون للزوج الجديد طفل أو أكثر، وقد يتزوج الأب الذي يتولى حضانة الأطفال الذين سيعيشون في ظل زوجة أبيهم، وقد يكون لزوجة الأب طفل أو أكثر، وفي كلتا الحالتين تستجد الكثير من المشاكل، فقد لا ينسجم الأطفال مع زوج الأم، وقد لا ينسجموا مع زوجة الأب، وقد لا ينسجموا مع أطفال زوجة الأب، أو أطفال زوج الأم، وخاصة عندما يكون هناك تمييزاً في أسلوب التعامل مع الأطفال مما ينعكس سلبياً على سلوكهم وتصرفاتهم ونفسيتهم، وخاصة البنات، وقد يؤدي بهم إلى الشعور بالضيق والقلق والإحباط والخوف  والشعور بالحرمان وفقدان الحنان، والحزن وهبوط المستوى الدراسي والهروب من المدرسة، وربما السرقة وغيرها من السلوك المنحرف والمخالف للقانون.

4 ـ هناك أسر فقدت أحد الوالدين نتيجة الوفاة بسبب مرضي أو وقوع حادث، ومن الطبيعي إن فقدان أحد الوالدين يؤثر تأثيراً بالغاً على نفسية الأبناء، وخصوصاً إذا ما كانت العلاقة التي تسود الأسرة تتميز بدوام الاستقرار والثبات، ويسودها المحبة والوئام والاحترام
 المتبادل، وقد يتزوج الطرف الباقي على قيد الحياة ليدخل حياة الأبناء زوج أم، أو زوجة أب، وما يمكن أن يحمله لهم ذلك من مشاكل نفسية يصعب تجاوزها، وخاصة إذا ما كان تعامل العضو الجديد في الأسرة مع الأطفال لا يتسم بالمحبة والعطف والحنان الذي كانوا يلقونه من الأم المفقودة، أو الأب المفقود.

5ـ هناك أسر تعمل فيها الأم بالإضافة إلى الأب، ومن الطبيعي أن الأم العاملة تترك أطفالها في رعاية الآخرين، سواء أكان ذلك في دور الحضانة، ورياض الأطفال، أو تركهم لدى الأقارب مثل الجد والجدة، وحيث أن أكثر من نصف الأمهات قد دخلن سوق العمل، فإن النتيجة التي يمكن الخروج بها هي أن معظم الأطفال يقضون فترة زمنية طويلة من النهار في رعاية شخص آخر من غير الوالدين سواء داخل الأسرة أو خارجها.

ورغم عدم توفر الأدلة الكافية على مدى التأثيرات السلبية والإيجابية على أبناء الأمهات العاملات، إلا أن مما لاشك فيه أن الكثير منهن يعانين نوعاً من الصراع، والشعور بالذنب بسبب العمل، وترك أطفالهن في رعاية الآخرين، وخاصة عند ما يتعرض الأطفال لمشكلات صحية أو انفعالية، وتحاول العديد من الأمهات التعويض عن ذلك بتدليل أطفالهن وتلبية مطالبهم. ورغم الجوانب السلبية لعمل الأم فإن هناك جانب إيجابي ومفيد للأطفال، حيث يوفر عمل الأم المناخ الذي يساعدهم على الاستقلالية، والاعتماد على النفس في كثير من الأمور.

6 ـ هناك أسر لديها طفل واحد يغمره الوالدان بالدلال المفرط  والرعاية المبالغ فيها، والحرص الشديد، مما يؤثر تأثيراً سلبياً على سلوكه وشخصيته. فالدلال الزائد للطفل يجعله غير مطيع لتوجيهات والديه، وتكثر مطالبه غير الواقعية، ويميل إلى الاستبداد في المنزل والميل إلى الغضب لأتفه الأسباب، وفي حالات كثيرة يتصف الطفل المدلل بالجبن والخوف والانطواء، سواء داخل المدرسة أو في أوقات اللعب، وبضعف الشخصية، أو قد يتسم في أحيان كثيرة بالعدوانية والأنانية والغرور المفرط.

إن المصلحة الحقيقة للطفل تتطلب من الوالدين أن يمنحاه الحب والعطف والرعاية الأزمة من دون مبالغة في ذلك، لكي يضمنا النمو الطبيعي له الخالي من كل التأثيرات السلبية أما الأسر التي لديها أكثر من طفل واحد فإنها تجابه العديد من المشاكل والصعاب في تربية أبنائها، فقد يتعرض الأطفال إلى نوع من التمييز من قبل الوالدين، فهناك أسر تميل إلى البنين وتحيطهم بالرعاية والاهتمام  أكثر من البنات، وقد يحدث العكس في بعض الأحيان. كما أن الطفل الأول يشعر بأن شقيقه الثاني قد أخذ منه جانبا كبيراً من الحنان والحب والرعاية، مما يسبب له الشعور بالغيرة، وما تسببه من مشاكل تتطلب من الوالدين الحكمة والتبصر في معالجتها، فالغيرة هي أحد العوامل الهامة في كثير من المشاكل والتي قد تدفع الطفل إلى التخريب والغضب والنزعات العدوانية والتبول اللاإرادي، وضعف الثقة بالنفس.
ومن المعلوم أن الغيرة حالة انفعالية يشعر بها الطفل عادةً، ولها مظاهر خارجية يمكن الاستدلال منها أحياناً على الشعور الداخلي، لكن هذا ليس بالأمر السهل، حيث يحاول الطفل إخفاء الغيرة، بإخفاء مظاهرها الخارجية قدر امكانه.

ومن الجدير بالذكر أن الغيرة يمكن أن نراها مع الإنسان حتى في الكبر، فقد يشعر الفرد بالغيرة من زميل له حصل على منصب أعلى منه، أو يتمتع بثروة أكثر منه، ولا يعترف الفرد عادة بالغيرة بسبب ما تتضمنه من الشعور بالنقص الناتج عن الإخفاق. إن الواجب يتطلب من الوالدين عدم إظهار العطف والحب والرعاية الزائدة للطفل الصغير أمام أخيه الكبير، ومحاولة خلق علاقة من الحب والتعاطف والتعاون بينهما، والابتعاد عن التمييز في التعامل مع الأبناء.

كما أن الطفل الأخير يحظى دائماً بنوع خاص من الرعاية والحب و الحنان والعطف، من قبل الوالدين الذين يعاملانه لمدة أطول من المدة التي عومل فيها من سبقه من الأخوة والأخوات على أنه طفل وتحيطهم بالرعاية والاهتمام، وغالباً ما يشعر الطفل الأخير بأنه أقل قوة  ونموا، واقل قدرة على التمتع بالحرية، والثقة ممن هم أكبر منه. 




112
المعلم وضرورة اعداده لتربية الاجيال
الحلقة الخامسة والاخيرة
كيف ينبغي أن نعدّ المعلم؟
حامد الحمداني                                                            23/11/2016

إن إدراكنا لعظم الرسالة التي يحملها المعلم، ومدى عمق التأثير الذي يحدثه في نفوس التلاميذ، هذا التأثير الذي يحدد بدوره مستقبل الجيل الناشئ، وبالتالي مستقبل الأمة، يفرض علينا أن نحدد الشروط الواجب توفرها فيمن يروم الانخراط في هذا المسلك، وحمل هذه الرسالة بأمانة وإخلاص كي نستطيع أن نخلق جهازاً تربويا قادراً حقاً على أداء الرسالة.
فما هي الشروط التي ينبغي توفرها لدى الراغبين بهذه المهنة ؟
يمكننا أن نحدد على ضوء التجارب التي مررنا بها هذه الشروط بثلاثة أمور أساسية:
1 ـ توفر الرغبة الصادقة للمتقدم لهذه المهنة .
2 ـ الإيمان بهذه الرسالة ، والقدرة على حملها .
3 ـ الإيمان بالأخلاق والمثل الإنسانية العليا .
ولابدَّ لنا أن نوضح هذه الأمور بشيء من التفصيل للتعرف على مدى تأثيرها على العملية التربوية:
أولاً ـ توفر الرغبة الصادقة :
إن من المسلم به أن كل إنسان لا يمكنه أن يحقق نجاحاً تاماً في عمله ما لم تكن له الرغبة الكافية فيه، لأن الرغبة عنصر حاسم في دفع المعلم إلى التتبع والدراسة، بغية الوقوف على أحدث الأساليب التربوية من جهة، والإخلاص في أداء الواجب من جهة أخرى.
كما أن الاندفاع والرغبة تنعكسان بكل تأكيد على التلاميذ الذين يتولى تربيتهم وتعليمهم، فتدفعه لتحضير مادة الدرس ،ووسائل الإيضاح اللازمة، ويتعب نفسه من أجل إيصال المادة لهم، ويهتم بالواجبات البيتية والصفية وتصحيحها ،وبذلك ينشّط التلاميذ، ويجعلهم يقبلون على الدرس بجد واشتياق.

ولو أننا أمعنا النظر في جهاز التعليم بوضعه الحالي، وكيف أقبل المعلمون على هذه المهنة، وأجرينا إحصاءاً دقيقاً بصدد الذين جاءوا لهذه المهنة عن طريق الرغبة لهال لنا الأمر، ولأدركنا أي خطر يهدد المدرسة، ولأدركنا أسباب الفشل الحقيقية فيها.

إن معظم الطلاب الذين سدت في وجوههم أبواب الكليات قد وجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع الذي اضطرهم إلى للجوء إلى الدورات التربوية، ومعاهد المعلمين ذات السنة الدراسية أو السنتين ودون رغبة منهم، ليصبحوا بين عشية وضحاها معلمين تسلم لهم الرسالة وهم على  لا يؤهلهم للقيام بها على الوجه الصحيح.

غير أنه لا يمكن أن يكون هذا الحكم شاملاً ، فثمة آلاف من أولئك المعلمين قد اكتسبوا كفاءة مدهشة، واستخدموها في تعاملهم مع مهنتهم وتلاميذهم، واستطاعوا بجدارة أن يكونوا نموذج جيد لصانعي الأجيال.
إن عدم الرغبة والعزوف عن هذه المهنة له بالطبع عوامل ومسببات لابدَّ لنا من دراستها، والوقوف عليها ومعالجتها، وإذ ذاك نستطيع تهيئة الآلاف المؤلفة من المثقفين الشباب الذين سيندفعون إلى الانخراط بهذه المهنة المقدسة. إن العزوف عن مهنة التربية والتعليم، وعدم الرغبة بها يرجعان إلى العوامل التالية:
 ثانياً ـ المنزلة الاجتماعية للمعلم:
إن المعلم كما هو معلوم ، جندي مجهول في ميدان المعركة التي تخوضها الشعوب ضد الجهل والفقر والمرض، وتربية الجيل الصاعد وإعداده لتحمل مسؤولياته المقبلة، نعم إنه جندي مجهول بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إنه الشمعة التي تحترق لتنير الطريق للأجيال الصاعدة نحو عالم أفضل، وحياة اسعد وأرفه، ولقد أجاد الفرنسيون حين وصفو التعليم بأنه {مهنة بلا مجد }، فالمهندس يتحدث عنه الناس بأنه مصمم هذه العمارة، والطبيب يقولون عنه بأنه نجح في العملية الطبية، والمحامي برع في تبرئة أو إدانة المتهم، أما المعلم ...فهو بصمت ... معلم ...!!
وبعد كل هذا يحق لنا أن نتساءل:
هل تتناسب المنزلة الاجتماعية للمعلم وعظم الرسالة التي يحملها، والواجب الذي يؤديه ؟
ولاشك أن هناك بوناً شاسعا في المنزلة الاجتماعية للمعلم بين البلدان المتقدمة وبلدان ما يسمى بالعالم الثالث، فما أكثر ما أهين المعلم في معظم بلدان العالم الثالث، وما أكثر ما اعتُقل وضُرب وفُصل، وقُطع مورد عيشه وعيش عائلته وأطفاله، وكل جريرته هو تحسسه لمشاكل شعبه الاجتماعية والسياسية، وسعيه لإصلاحها والنهوض بشعبه، وإنقاذه من التخلف والتأخر، والدفاع عن حقوقه المشروعة، وأخيراً لا يسعني إلا أن أردد قول المربي الكبير خليل تقي الدين:
[ أيها المعلمون حسبكم شرفاً  أن العالم من صنع أيديكم ].

ثالثاً : مدى إرضاء الطموح لدى المعلم :
إن من الحقائق المسلم بها أن الإنسان ذا طموح لا حد له طوال حياته من أجل التقدم والسمو، ولن يتوقف هذا الطموح حتى النهاية، وعلى هذا الأساس يحق لنا أن نتساءل:
هل تحقق هذه المهنة لصاحبها الطموح المنشود؟
ونعود فنجيب أن المعلم [ خلق معلماً ويبقى معلماً ] .
إن مسألة إرضاء الطموح هي التي دفعت الكثير من الشباب المثقف القادر إلى العزوف عن هذه المهنة، لكننا لا يمكن أن نسلم بهذا الواقع، بل ينبغي لنا أن نعالجه، ونعمل ما أمكننا التخفيف من آثاره السلبية إذا ما روعي ما يلي:
1ـ ضرورة إدخال نظام المعلم الأول في المدارس، حيث أن لهذا النظام تأثير بالغ الإيجابية في تحفيز المعلم، وتحسين أساليب عمله، وجعله يشعر بالتقدم بترقيته إلى درجة معلم أول في المدرسة.
2 ـ ضرورة اختيار مديري المدارس من بين المعلمين الذين اثبتوا جدارتهم في عملهم، وإخلاصهم في أداء مهنتهم، وحبهم لأبنائهم التلاميذ، ومن دون أن تلعب أية عوامل أخرى   أو وساطات دورها في الاختيار، وبذلك نكون قد حققنا هدفين معاً:
 أ ـ اختيار المدير اللائق والجدير، الذي يعتبر عنصراً هاماً في نجاح المدرسة.
ب ـ شعور المعلم بأن جهوده وأتعابه لم تذهب سدا، وإنما هي موضع تقدير وتثمين.
3ـ ضرورة اختيار المشرفين التربويين من صفوف المعلمين الذين مارسوا التعليم والإدارة معاً مدة من الزمن لا تقل عن عشر سنين، حيث يكونوا قد اكتسبوا خبرةً وتجارب جمة، وأدركوا المشاكل والمصاعب التي تواجه المدرسة، وأساليب حلها ، ذلك أن الذي يعيش مشكلة ما هو أدرى بطبيعتها وطرق معالجتها من أي شخص آخر.

 إن هذا التدرج في الخدمة التربوية والتعليمية سيثير بلا شك الطموح لدى المعلم، ولابدَّ أن أشير هنا إلى أن التدرج في الوظيفة، وفي الترفيع ينبغي أن يسبقه اختبار خاص للمرشحين لكي يكون الاختيار دقيقاً وأميناً.

4ـ إن غاية ما يطمح إليه الإنسان هو أن يحيا هو وأفراد عائلته في سعادة ورفاه، وإن هذا لا يمكن أن يتم إلا بتأمين القدر الكافي من الدخل الذي يمكّنه من تأمين حاجاته المادية، فالجانب الاقتصادي له دور حاسم في خلق الرضا والسعادة للإنسان، وإن عدم الاهتمام به، وإعطائه ما يستحقه من عناية  لن يؤدي إلا إلى التذمر والنفور، والبحث عن مهنة أخرى، أو عن مورد آخر يستعين به لتأمين هذه الحاجات.

إننا نجد اليوم، وخاصة في المدن، كثيراً من المعلمين وقد اندفعوا للعمل في أشغال أخرى بعد نهاية الدوام بسبب ما يعانونه من ضيق اقتصادي ناتج عن تصاعد تكاليف المعيشة المتصاعد من جهة، وتطور الحياة وزيادة متطلباتها من جهة أخرى.

كما أن هناك الكثير من المعلمين ينصرفون إلى إعطاء الدروس الخصوصية للتلاميذ بدافع الجشع، والرغبة في الإثراء، مع شديد الأسف، وكل ذلك على حساب واجباتهم الأساسية في المدرسة، فنراهم يهملون واجباتهم تجاه تلاميذهم بعد أن يكونوا قد استنفذوا الكثير من طاقاتهم خارج المدرسة، وعليه فأن مكافحة هذه الظاهرة ضرورة ملحة ينبغي إعطائها أهمية قصوى .

إننا إن وفرنا عنصر الرغبة، ورفعنا منزلة المعلم، أرضينا بعضاً من طموحه، وأمّنا حاجاته المادية عند ذلك نستطيع أن نجد الشاب المثقف القادر الذي سيندفع للدخول في هذه المهنة  وبالتالي سنخلق مربين حقيقيين مؤمنين برسالتهم عاملين في سبيل تحقيقها.

إعداد المعلم :
لكي نستطيع أن نعد معلمين أكفاء قادرين على القيام بالمهمة الخطيرة الملقاة على عاتقهم  ينبغي أن يكون الإعداد شاملاً للجوانب التالية:
1 ـ إعداد تربوي :
ذلك أن المهمة الأساسية للمعلم هي التربية قبل التعليم، ولذلك فأن التربية عملية شاقة تتطلب من المعلم خبرة كافية تمكنه من دراسة شخصية التلاميذ وميولهم وحاجاتهم  بغية إعدادهم إعداداً كاملاً، نفسياً وخلقياً ووجدانياً، وهذا الواجب الخطير لا يمكن القيام به إلا إذا كان المعلم قد أعد الإعداد التربوي اللازم على احسن الوجوه ويتمتع بالمهارات التالية.
 1 ـ أن يمثل نموذجاً مناسباً للمهارات الاجتماعية، والثقافية،  والانفعالية، والأكاديمية.
 2ـ  أن يظهر عدالة وحساسية وتعاطفاً وثباتاً، وغيرها من القيم الإنسانية الهامة.
 3ـ  يعبر عن مشاعر الفكاهة والمرح والسعادة والحماس في الأحوال المناسبة.
4 ـ  أن يبقى هادئاً وموضوعياً عند وقوع المشاكل الضاغطة.
5ـ أن تكون لديه القدرة على إنشاء علاقات طيبة مع المعلمين الآخرين والإدارة والمهنيين الآخرين .
 6 ـ يؤدي الأنشطة المهنية بطريقة أخلاقية.

2 ـ إعداد اجتماعي:
لما كان التلميذ كائناً حياً يعيش في بيئة اجتماعية، ويتعامل معها، ويتفاعل بها، فلا يمكن والحالة هذه إغفال علاقته بالمجتمع، ومدى تأثره به، ولذلك وجب على المعلم أن يكون ملماً إلماماً تاماً بأحوال وظروف المجتمع، ومشاكله، ووسائل التغلب عليها وحلها، وهذا لا يتم إلا إذا أعدَّ المعلم إعداداً اجتماعياً دقيقاً، وهذا يتطلب أن يلم إلماماً دقيقاً بأساليب التربية الحديثة وعلم النفس، وأن يكون مطلعاً على خبر وتجارب ودراسات رجالات التربية لكي يستطيع مجابهة المشاكل التربوية والسلوكية لطلابه بطريقة علمية صحيحة، والقدرة على تذليلها وعلاجها على الوجه الأكمل، ولاشك أن هذا العمل ليس بالأمر الهين، فمهنة المعلم هي من اصعب المهن .
3 ـ إعداد علمي:
إن المدرسة تقدم للتلاميذ المعارف المختلفة من اللغات، والعلوم الإجتماعية  والصحية والطبيعية، والفيزيائية، وغيرها من العلوم الأخرى، ويقع العبء بالطبع في إيصال هذه المعارف إلى عقول التلاميذ على عاتق المعلم.
وعلى هذا الأساس ينبغي إعداد المعلم إعداداً علمياً شاملاً، بحيث نمكّنه من تدريس المواد المختلفة للتلاميذ بسهولة ويسر. ولنا أن نتساءل بعد ذلك:
هل أن معاهد إعداد المعلمين، بوضعها الحالي، قد أعدت المعلم الإعداد المطلوب؟
ونستطيع أن نجيب على هذا السؤال بأن هذه المعاهد ليست بالمستوى المطلوب، نظراً لمستوى الطلاب المنتمين لهذه المعاهد، وطبيعة المناهج التي يدرسونها، وأساليب القبول فيها، ومستوى المحاضرين فيها، والحكم بطبيعة الحال ليس عاماً.
إننا إذا أردنا أن نخلق معلمين أكفاء، قادرين على حمل الرسالة فعلينا أن نعمل بما يلي:

1- إلغاء دور المعلمين الابتدائية، والدورات التربوية، والاستعاضة عنها بمعاهد خاصة لإعداد المعلمين يقبل فيها خريجي الدراسة الإعدادية، على أن لا تقل مدة الدراسة فيها عن ثلاث سنوات دراسية، وبذلك نستطيع النهوض بمستوى المعلم .
2ـ ينبغي تهيئة المدرسين الأكفاء من ذوي الخبرة في شؤون التربية والتعليم، ممن مارسوا التعليم مدة كافية من الزمن، للقيام بالتدريس في هذه المعاهد، بغية رفع مستوى التعليم فيها، وبالتالي رفع مستوى المعلم .
3ـ تطوير المناهج الحالية لمعاهد إعداد المعلمين، بجعلها مناهج واقعية مرتبطة بالحياة ومشكلاتها الواقعية، كي يستطيع المعلم بعد تخرجه القيام بواجبه كما ينبغي إذ أن المهمة الأساسية، كما أسلفنا  هي التربية، وهذه التربية تتوقف على دراسة المجتمع من كل نواحيه.
4ـ توفير المباني اللازمة لهذه المعاهد بحيث تتوفر فيها جميع متطلبات المعهد الحديث من ساحات وملاعب وحدائق  وقاعات ومسارح وأقسام داخلية، وكل ما هو ضروري للقيام بالنشاطات الصفية واللاصفية. إن الاهتمام بالنشاطات اللاصفية من تمثيل ورسم  وخطابة، ورياضة بدنية، وأعمال النجارة وغيرها، أمر هام جداً لنجاح المعلم، ذلك أن هذه النشاطات تكشف لنا عن ميول التلميذ وهواياته  وطبائعه، وتربي فيه الذوق الجيد، والصفات الحميدة، والمهارة المبدعة، وهذا هو أهم ما تصبو إليه المدرسة.

5ـ الإكثار من المشاهدات والزيارات للمدارس، بغية وقوف طلاب المعهد على أساليب التربية والتعليم، والتعرف على مشكلات المدرسة والطلاب والمعلمين، ومن المهم جداً تنظيم زيارات مدارس القرى والأرياف بغية التعرف على ظروف العمل فيها، والمشاكل التي تجابه المدرسة والطلاب  حيث أن من المحتم أن العديد من المعلمين الجدد سوف يتوجهون للعمل في تلك الأرياف  بعد تخرجهم.

6ـ إعطاء دروس علم النفس والتربية الأهمية الكبرى  بالنسبة لبقية الدروس كي يستطيع المعهد تخريج معلمين أكفاء قادرين على دراسة وفهم التلاميذ دراسة وافية من جميع النواحي الشخصية والقابليات والذكاء والميول والرغبات، فإذا ما تمكن المعلم من فهم التلميذ فهماً كاملاً، عند ذلك يستطيع أن يحدد أسباب تأخر كل تلميذ، وإمكانية معالجته، وكذلك أسباب مشاكساته ومخالفاته وطرق علاجها.

كما يمكن للمعلم التعرف على ما مدى ما يمكن أن يصل إليه التلميذ في دراسته، والاتجاه الذي ينبغي أن يوجه إليه في دراسته. إن معلمين مسلحين بخبرة واسعة في علم النفس ، لقادرين بلا أدنى شك على إدراك هذه الحقائق، وتطبيقها بنجاح، كما أن إدراك المعلم لأساليب التربية الحديثة إدراكاً تاماً يمكنه، وبسرعة وجهد أقل، على تحقيق الأهداف التي يسعى من أجلها .
7ـ من المفيد جداً تنظيم زيارات متبادلة لمديري ومدرسي معاهد إعداد المعلمين داخل البلاد وخارجها، بغية الوقوف على أحدث الأساليب التربوية المتبعة في إعداد المعلمين، وتبادل الخبرات والتجارب بهذا المضمون . 

شروط القبول في معاهد إعداد المعلمين :
جرت العادة في قبول الطلاب في الكليات والمعاهد العالية أن تكون الدرجات التي حصل عليها الطالب أساساً في القبول، وطبيعي إن هذا الأسلوب في القبول ليس كافياً، ولا يمكن الاعتماد عليه في تأمين المعلمين الأكفاء، ولا بد أن تكون هناك شروطاً هامة ينبغي توفرها في الطالب المتقدم لهذه المهنة والتي يمكن تلخيصها بما يلي:

1ـ ينبغي إجراء اختبار للطلاب المتقدمين في القدرات والذكاء والشخصية، إذ أن هذا الاختبار يمكننا من معرفة قابليات المتقدم وإمكاناته، ومدى صلاحيته لهذه المهنة.
2ـ ينبغي الرجوع إلى إضبارة المتقدم للمعهد في مدرسته الابتدائية والثانوية بغية الوقوف على حالته النفسية، وميوله، وهواياته، والمشاكل التي يعاني منها، وكل ما يتعلق بحياته، وهنا تبرز أهمية البطاقة الشخصية للطالب في المدرسة حيث بالإمكان الرجوع إليها لمعرفة كل ما يتعلق بالطالب من جميع النواحي بدقة وأمانة.
3ـ ينبغي التأكد من كون الطالب المتقدم لهذا المعهد أنه يرغب حقاً أن يكون معلماً، وأن دخوله في المعهد ناجم عن إيمانه بهذه المهنة وليس بسبب ظروف أخرى فالرغبة عنصر هام ينبغي توفره لكل من يروم الدخول في المعهد.
4ـ إن إجراء المقابلة للطلاب المتقدمين للمعهد أمر ضروري،  حيث تمكننا المقابلة من التعرف على شخصية المتقدم من كافة النواحي  شرط أن تكون هذه المقابلة دقيقة لا شكلية.

انتهى البحث


113
المعلم وضرورة اعداده لتربية اجيالنا
الحلقة الرابعة
كيف ينبغي أن يقوم المعلم بواجباته؟
حامد الحمداني                                                                        20/11/2016

لكي يستطيع المعلم أداء واجباته على الوجه الأكمل، ولكي يحصل على نتائج مسرة في عمله، ينبغي له أن يضع نصب عينيه الشروط الاساسية التالية:

1ـ أن يدرك المعلم أن واجبه الأساسي هو التربية قبل التعليم، وأن المناهج والكتب المقررة في المدارس ما هي إلا وسيلة يستخدمها التلاميذ لغاية أهم، ألا وهي النمو العقلي، والجسمي والعاطفي، فعلى المعلم والحالة هذه أن يركز جلّ اهتمامه للناحية التربوية، والعمل على معرفة مشاكل التلاميذ  ومساعدتهم على حلها والتغلب عليها، وهذا بالطبع لا يمكن أن يتم إلا إذا شعر المعلمون تجاه تلاميذهم شعوراً ودياً يمكنهم من فهمهم، ومن غير الممكن تربية التلاميذ وتعليمهم إن لم يشعروا أن المعلم يحترمهم ويعطف عليهم ويسعى من أجلهم.
إن الجو الذي ينبغي أن يسود المدرسة هو كجو المستشفيات تماما، حيث الحنان والعطف من لدن الأطباء والممرضات على المريض، وبذلك نستطيع أن نخلق شباباً لائقاً، وقادراً على قيادة الأمة والنهوض بها فهم بكل تأكيد سيكونون رجال المستقبل.

2 ـ ينبغي للمعلم أن يكون على علم بأن التربية الحقيقية هي التي تقوم على أساس نابع من حاجات التلاميذ الاجتماعية، وإن إدراك هذه الحقيقة تحتم على المعلم تتبع الأوضاع والأحوال الاجتماعية في البلد من جهة، وتمكين التلاميذ من دراسة هذه الأوضاع والعمل على تطويرها وتحسينها.

3ـ ضرورة تعرف المعلم على تلاميذه في بداية السنة الدراسية والوقوف على مستواهم في مختلف المجالات لكي يتمكن على ضوء ذلك من تحديد الموقع الذي يجب أن يبدأ منه، ويمكن تحديد تلك المجالات بما يلي:
اـ التعرف على التلاميذ من الناحية التربوية عن طريق دراسة سلوكهم وتصرفاتهم، وأوضاعهم في البيت والمدرسة، والمشاكل التي يعانون منها لكي يستطيع على ضوء ذلك وضع خطة العمل المناسبة لحل مشاكلهم، وتنشئتهم النشأة الصحيحة .
ب ـ التعرف على مستواهم الدراسي بغية التأكد من أن ما درسوه في السنة الدراسية الماضية قد تم فهمه واستيعابه، وعلى ضوء ذلك يستطيع المعلم أن يحدد المكان التي يبدأ منها .
4 ـ ينبغي أن يكون المعلم منتبهاً إلى ضرورة ربط الدرس الجديد بالدرس السابق كي يكون سلسلة متواصلة تسهل على التلاميذ تتبع الموضوع وتفهمه بصورة جيدة.
5ـ ضرورة أعداد خطة فصلية للمنهج الدراسي المقرر، وخطة يومية للدرس لكي يدخل الصف وهو على كامل الاستعداد لمتطلبات الدرس .
6ـ ينبغي للمعلم أن يوفق بين قابلية التلاميذ على التعلم وسرعة التعلم، فليس العبرة في كثرة ما يدرّسه المعلم من مواد للتلاميذ، بل العبرة في الفهم والاستفادة، فعلى المعلم أن يضع نصب عينيه دائماً الجانب النوعي لا الكمي .
7ـ ينبغي الاهتمام بالفروق الفردية بين تلاميذ الصف، حيث أنهم ليسوا على استعداد واحد وقابلية واحدة، وذكاء واحد، بل أن كل تلميذ يختلف عن الآخر، وعلى هذا الأساس فأن المعلم لا يستطيع النجاح في عمله إن لم يراعي هذه الفروق الفردية والتي يمكن تلخيصها بما يلي :  (35)
أ ـ الفروق الجسمية :
هناك تلاميذ أصحاء، أقوياء البنية ، جيدو التغذية، وهناك تلاميذ مرضى ضعاف البنية سيئو التغذية، وعلى هذا الأساس ليس من الحكمة معاملة هذين الصنفين معاملة واحدة.
ب ـ الفروق العقلية :
هناك تلاميذ متخلفون عقلياً، وتلاميذ ضعيفو الذكاء، أو متوسطو الذكاء، أو فوق المتوسط، وهناك شديدو الذكاء، وعلى هذا الأساس فإن قابلية التلاميذ على التعلم ليست واحدة  ولابد والحالة هذه من دراسة أوضاع التلاميذ، وإجراء اختبارات الذكاء للوقوف على مستوى ذكاء كل تلميذ .
ج ـ الفروق الاجتماعية والاقتصادية:
 إن المعلم يدرك بلا شك أن التلاميذ يعيشون في بيئات اجتماعية واقتصادية مختلفة بعضها عن البعض الآخر، فهناك تلاميذ يعيشون في بيئة اجتماعية متقدمة، ويحيون حياة رغيدة، وتتوفر لهم كل متطلبات الحياة ومباهجها ومسرّاتها.
وهناك تلاميذ كثيرون يعيشون في بيئة متخلفة جداً، ويحيون حياة بائسة يسودها الفقر والجهل، فليس من الحكمة والحالة هذه النظر إلى كافة التلاميذ بمنظار واحد، ولا بدّ من اخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، والعمل على تقديم كل المساعدات الممكنة للطلاب الذين يعانون من المشكلات الاحتماعية والاقتصادية، وإعطائهم المزيد من الجهد والوقت لتذليل الصعوبات التي تجابههم وتمكنهم من تخطيها.
 د ـ فوارق الميول والرغبات الخاصة :
إن هذه الفوارق ذات أثر حاسم في سلوك التلاميذ ونشاطهم المدرسي، و لابدّ لأي معلم يبغي النجاح في عمله أن يدرس أحوال تلاميذه ويتعرف على ميولهم ورغباتهم ليستطيع على ضوء هذه الدراسة تحديد الاتجاه الذي يمكن للتلميذ السير فيه بنجاح .
7ـ ينبغي للمعلم لكي يحمل تلاميذه على الانتباه للدرس وفهمه أن يعمل على إفهامهم أهمية المادة التي يدرسونها، وما تقدمه لهم من فوائد كثيرة ذات تأثير بالغ على مستقبلهم. 
8ـ الثناء على التلاميذ المتقدمين وذوي السلوك الجيد يشجعهم ويدفعهم للاهتمام بدروسهم، كما أنه يكون حافزاً لبقية التلاميذ لكي يحذوا حذوهم.
9ـ ينبغي للمعلم أن يعير اهتمامه الكبير للنشاط الذاتي الذي يقوم به التلاميذ أنفسهم، من تجارب وتطبيقات على ما يدرسونه من دروس، ويعمل على تشجيعه وتطويره ودفعه إلى الأمام .
10 ـ ينبغي للمعلم أن ينزل إلى مستوى التلاميذ خلال عملية التدريس لكي يتيسر لهم فهم مادة الدرس بصورة جيدة، فمما لاشك فيه أن مستوى التلاميذ لا يمكن أن يكون بمستوى المعلم .
ومما يؤسف له أن كثيراً من المعلمين لا يلتفتون إلى هذه المسألة، وينظرون للتلاميذ وكأنهم في مستواهم، ويحملونهم أكثر من طاقتهم، مما يسبب لهم النفور من الدرس، وبالتالي الفشل.
11ـ إن الدروس النظرية التي يدرسها التلاميذ لا تلبث أن تتبخر من عقولهم إن لم تطبق على الحياة العملية، لأن التطبيق العملي يرسخ المادة في أذهانهم، وهنا تجدر إشارة إلى عقم المناهج المدرسية التي تتبع في كثير من البلدان، والتي سوف يكون لها بحث خاص تحت عنوان المناهج والكتب .
12ـ على المعلم أن يستخدم السبورة خلال الدرس بشكل فعّال، وبذلك يشرك حاسة البصر لدى التلاميذ إضافة إلى حاسة السمع، وطبيعي كلما حاولنا إشراك اكثر ما يمكن من الحواس أثناء الدرس كلما حصلنا على نتائج أفضل، ورسخنا مادة الدرس في عقول التلاميذ. 
13ـ ينبغي للمعلم أن يستخدم وسائل الإيضاح المتوفرة لديه، ويعمل على توفير ما يحتاج إليه من هذه الوسائل بالتعاون مع التلاميذ، لأن وسائل الإيضاح تساهم بشكل فعّال في فهم الدرس، ولاشك أن تطوير مديرية الوسائل التعليمية التابعة لوزارة التربية أمر ضروري جداً لكي تستطيع تقديم أكبر كمية ممكنة من وسائل الإيضاح للمدارس.
14ـ على المعلم استخدام اللغة الفصحى في شرح المادة للتلاميذ، على أن تكون الكلمات التي يستعملها واضحة وسلسة، وطبيعي إن هذا الأمر يسهل على التلاميذ فهم المادة من جهة، وينمي لديهم قوة التعبير والخطابة من جهة أخرى، وقد لا أكون مغالياً إذا ما أكدت أن التحدث بغير اللغة الفصحى داخل الصف قد يرتفع إلى مستوى جريمة علمية، ذلك أن ازدواجية اللغة عامل خطير يُحدث اكبر الأثر في نتائجه من حيث القصور في الإفهام وصياغة الجمل والتعبير  في شتى الدروس، وإني أقولها مطمئناً أن التخلف العلمي والأدبي لدى التلاميذ وكذلك الخريجين تعود أسبابه إلى ازدواجية اللغة.
15ـ ينبغي للمعلم أن يخلق وباستمرار الانفعالات السارة في نفوس التلاميذ، ويسعى بكل طاقته إلى تقليل الانفعالات غير السارة لكي يستمع التلاميذ إلى الدرس بشوقٍ ورغبة.
 إن خلق الانفعالات السارة لدى التلاميذ يتوقف بالطبع على طريقة معاملة المعلم لهم، وكيفية معالجة مشاكلهم وأخطائهم وتصرفاتهم، وعلى المعلم الذي يبغي النجاح في عمله أن لا يلجأ إلى أسلوب الإهانة والحطِّ من نفسية التلميذ فيجعله يحقد عليه ويعزف عن درسه. أن العلاج الإيجابي يخدم المعلم والتلميذ معاً، ويبعث الارتياح في نفسيهما.
16- ينبغي للمعلم الاهتمام الجدي بالواجبات البيتية وتصحيحها، ولفت انتباه التلاميذ إلى الأخطاء التي وقعوا فيها وتصحيحها، وإن عدم الاهتمام بها كما يجب يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً  فيبقى الخاطئ على خطأه والمهمل على إهماله. أن على المعلم  عندما يعطي الواجب البيتي للتلاميذ أن يضع نصب عينيه ما يأتي :
 أ ـ يجب أن يكون الواجب البيتي متناسباً مع مستوى التلاميذ وقابليتهم.
 ب ـ يجب أن يكون الواجب البيتي محدوداً لكي يستطيع التلاميذ إنجازه، فعلى المعلم أن يدرك أن للتلاميذ واجبات أخرى لدروس أخرى.
ج ـ ينبغي توجيه عناية المعلم إلى النوع لا الكم عند إعطاء الواجبات البيتية
إن من المؤسف حقاً أن نجد الكثير من المعلمين لا يهتمون بالواجبات البيتية، وكثيراً منهم لا يقوم بتصحيحها، وأن بعضهم يكتفي بالتأشير على الواجب دون قراءته وتصحيحه  وطبيعي أن هذا العمل لا يمكن أن يعطينا إلا عكس ما نتوخاه، فلو فرضنا أن معلم الرياضيات قد أعطى التلاميذ مسائل حسابية كواجب بيتي، ولم يقم بتصحيحها فماذا ستكون النتيجة ؟ أنها بلا شك ستكون استمرار الخطأ لدى التلاميذ، وبالتالي الرسوب والفشل وضياع الجهد والوقت. إن عدم إعطاء الواجبات البيتية لهو خير ألف مرة من إعطائه دون تصحيحه.

يتبع الحلقة الخامسة

114
المعلم وضرورة اعداد لتربية اجيالنا
كيف ينبغي أن يقوم المعلم بواجباته؟
الحلقة الثالثة
حامد الحمداني                                               15/11/2016

لكي يستطيع المعلم أداء واجباته على الوجه الأكمل، ولكي يحصل على نتائج مسرة في عمله، ينبغي له أن يضع نصب عينيه  المهام التالية:
 
1ـ ينبغي أن يدرك المعلم أن واجبه الأساسي هو التربية قبل التعليم، وأن المناهج والكتب المقررة في المدارس ما هي إلا وسيلة يستخدمها التلاميذ لغاية أهم، ألا وهي النمو العقلي  والجسمي والعاطفي، وعلى المعلم والحالة هذه أن يركز جلّ اهتمامه للناحية التربوية، والعمل على معرفة مشاكل التلاميذ  ومساعدتهم على حلها والتغلب عليها، وهذا بالطبع لا يمكن أن يتم إلا إذا شعر المعلمون تجاه تلاميذهم شعوراً ودياً يمكنهم من فهمهم، ومن غير الممكن تربية التلاميذ وتعليمهم إن لم يشعروا أن المعلم يحترمهم ويعطف عليهم ويسعى من أجلهم. إن الجو الذي ينبغي أن يسود المدرسة هو كجو المستشفيات تماما، حيث الحنان والعطف من لدن الأطباء والممرضات على المريض، وبذلك نستطيع أن نخلق شباباً لائقاً، وقادراً على قيادة الأمة والنهوض بها فهم بكل تأكيد سيكونون رجال المستقبل.

2 ـ ضرورة أن يكون المعلم على علم بأن التربية الحقيقية هي التي تقوم على أساس نابع من حاجات التلاميذ الاجتماعية، وإن إدراك هذه الحقيقة تحتم على المعلم تتبع الأوضاع والأحوال الاجتماعية في البلد من جهة، وتمكين التلاميذ من دراسة هذه الأوضاع والعمل على تطويرها وتحسينها.

3ـ ضرورة أن يتعرف المعلم على تلاميذه في بداية السنة الدراسية والوقوف على مستواهم في مختلف المجالات لكي يتمكن على ضوء ذلك من تحديد الموقع الذي يجب أن يبدأ منه، ويمكن تحديد تلك المجالات بما يلي:
اـ التعرف على التلاميذ من الناحية التربوية عن طريق دراسة سلوكهم وتصرفاتهم، وأوضاعهم في البيت والمدرسة، والمشاكل التي يعانون منها لكي يستطيع على ضوء ذلك وضع خطة العمل المناسبة لحل مشاكلهم، وتنشئتهم النشأة الصحيحة .
ب ـ التعرف على مستواهم الدراسي بغية التأكد من أن ما درسوه في السنة الدراسية الماضية قد تم فهمه واستيعابه، وعلى ضوء ذلك يستطيع المعلم أن يحدد المكان التي يبدأ منها .
4 ـ ضرورة أن يقوم المعلم بربط الدرس الجديد بالدرس السابق كي يكون سلسلة متواصلة تسهل على التلاميذ تتبع الموضوع وتفهمه بصورة جيدة.
5ـ ضرورة أعداد خطة فصلية للمنهج الدراسي المقرر، وخطة يومية للدرس لكي يدخل الصف وهو على كامل الاستعداد لمتطلبات الدرس .
6ـ ينبغي للمعلم أن يوفق بين قابلية التلاميذ على التعلم، وسرعة التعلم، فليس العبرة في
 كثرة ما يدرّسه المعلم من مواد للتلاميذ، بل العبرة في الفهم والاستفادة، فعلى المعلم أن يضع نصب عينيه دائماً الجانب النوعي لا الكمي .
7ـ ينبغي الاهتمام بالفروق الفردية بين تلاميذ الصف، حيث أنهم ليسوا على استعداد واحد وقابلية واحدة، وذكاء واحد، بل أن كل تلميذ يختلف عن الآخر، وعلى هذا الأساس فأن المعلم لا يستطيع النجاح في عمله إن لم يراعي الفروق الفردية والتي يمكن تلخيصها بما يلي :  (35)
أ ـ الفروق الجسمية :
هناك تلاميذ أصحاء، أقوياء البنية، جيدو التغذية، وهناك تلاميذ مرضى ضعاف البنية سيئو التغذية، وعلى هذا الأساس ليس من الحكمة معاملة هذين الصنفين معاملة واحدة.
ب ـ الفروق العقلية :
هناك تلاميذ متخلفون عقلياً، وتلاميذ ضعيفو الذكاء، أو متوسطو الذكاء، أو فوق المتوسط، وهناك شديدو الذكاء، وعلى هذا الأساس فإن قابلية التلاميذ على التعلم ليست واحدة  ولابد والحالة هذه من دراسة أوضاع التلاميذ، وإجراء اختبارات الذكاء للوقوف على مستوى ذكاء كل تلميذ.
ج ـ الفروق الاجتماعية والاقتصادية:
 إن المعلم يدرك بلا شك أن التلاميذ يعيشون في بيئات اجتماعية واقتصادية مختلفة بعضها عن البعض الآخر، فهناك تلاميذ يعيشون في بيئة اجتماعية متقدمة، ويحيون حياة رغيدة، وتتوفر لهم كل متطلبات الحياة ومباهجها ومسرّاتها.
وهناك تلاميذ كثيرون يعيشون في بيئة متخلفة جداً، ويحيون حياة بائسة يسودها الفقر والجهل، فليس من الحكمة والحالة هذه النظر إلى كافة التلاميذ بمنظار واحد، ولا بدّ من اخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، والعمل على تقديم كل المساعدات الممكنة للطلاب الذين يعانون من المشكلات الاحتماعية والاقتصادية، وإعطائهم المزيد من الجهد والوقت لتذليل الصعوبات التي تجابههم وتمكنهم من تخطيها.
 د ـ فوارق الميول والرغبات الخاصة:
إن هذه الفوارق ذات أثر حاسم في سلوك التلاميذ ونشاطهم المدرسي، و لابدّ لأي معلم يبغي النجاح في عمله أن يدرس أحوال تلاميذه ويتعرف على ميولهم ورغباتهم ليستطيع على ضوء هذه الدراسة تحديد الاتجاه الذي يمكن للتلميذ السير فيه بنجاح .
7ـ ينبغي للمعلم لكي يحمل تلاميذه على الانتباه للدرس وفهمه أن يعمل على إفهامهم أهمية المادة التي يدرسونها، وما تقدمه لهم من فوائد كثيرة ذات تأثير بالغ على مستقبلهم. 
8ـ الثناء على التلاميذ المتقدمين وذوي السلوك الجيد يشجعهم ويدفعهم للاهتمام بدروسهم، كما أنه يكون حافزاً لبقية التلاميذ لكي يحذوا حذوهم.
9ـ ينبغي للمعلم أن يعير اهتمامه الكبير للنشاط الذاتي الذي يقوم به التلاميذ أنفسهم، من تجارب وتطبيقات على ما يدرسونه من دروس، ويعمل على تشجيعه وتطويره ودفعه إلى الأمام .
10 ـ ضرورة أن ينزل لمعلم إلى مستوى التلاميذ خلال عملية التدريس لكي يتيسر لهم فهم مادة الدرس بصورة جيدة، حيث لاشك في أن مستوى التلاميذ لا يمكن أن يكون بمستوى المعلم .ومما يؤسف له أن كثيراً من المعلمين لا يلتفتون إلى هذه المسألة وينظرون للتلاميذ كأنهم في مستواهم، ويحملونهم أكثر من طاقتهم مما يسبب لهم النفور من الدرس
 وبالتالي الفشل.
11ـ إن الدروس النظرية التي يدرسها التلاميذ لا تلبث أن تتبخر من عقولهم إن لم تطبق على الحياة العملية، لأن التطبيق العملي يرسخ المادة في أذهانهم، وهنا تجدر إشارة إلى عقم المناهج المدرسية التي تتبع في كثير من البلدان، والتي سوف يكون لها بحث خاص تحت عنوان المناهج والكتب .
12ـ على المعلم أن يستخدم السبورة خلال الدرس بشكل فعّال، وبذلك يشرك حاسة البصر لدى التلاميذ إضافة إلى حاسة السمع، وطبيعي كلما حاولنا إشراك اكثر ما يمكن من الحواس أثناء الدرس كلما حصلنا على نتائج جيدة، ورسخنا مادة الدرس في عقول التلاميذ. 
13ـ ينبغي للمعلم أن يستخدم وسائل الإيضاح المتوفرة لديه، ويعمل على توفير ما يحتاج إليه من هذه الوسائل بالتعاون مع التلاميذ، لأن وسائل الإيضاح تساهم بشكل فعّال في فهم الدرس، ولاشك أن تطوير مديرية الوسائل التعليمية التابعة لوزارة التربية أمر ضروري جداً لكي تستطيع تقديم أكبر كمية ممكنة من وسائل الإيضاح للمدارس.

14ـ على المعلم استخدام اللغة الفصحى في شرح المادة للتلاميذ، على أن تكون الكلمات التي يستعملها واضحة وسلسة، وطبيعي إن هذا الأمر يسهل على التلاميذ فهم المادة من جهة، وينمي لديهم قوة التعبير والخطابة من جهة أخرى، وقد لا أكون مغالياً إذا ما أكدت أن التحدث بغير اللغة الفصحى داخل الصف قد يرتفع إلى مستوى جريمة علمية، ذلك أن ازدواجية اللغة عامل خطير يحدث اكبر الأثر في نتائجه من حيث القصور في الإفهام وصياغة الجمل والتعبير  في شتى الدروس، وإني أقولها مطمئناً أن التخلف العلمي والأدبي لدى التلاميذ وكذلك الخريجين تعود أسبابه إلى ازدواجية اللغة.

15ـ ضرورة خلق الانفعالات السارة في نفوس التلاميذ، ويسعى بكل طاقته إلى تقليل الانفعالات غير السارة لكي يستمع التلاميذ إلى الدرس بشوقٍ ورغبة.
 إن خلق الانفعالات السارة لدى التلاميذ يتوقف بالطبع على طريقة معاملة المعلم لهم، وكيفية معالجة مشاكلهم وأخطائهم وتصرفاتهم، وعلى المعلم الذي يبغي النجاح في عمله أن لا يلجأ إلى أسلوب الإهانة والحطِّ من نفسية التلميذ فيجعله يحقد عليه ويعزف عن درسه. أن العلاج الإيجابي يخدم المعلم والتلميذ معاً، ويبعث الارتياح في نفسيهما.

16- ضرورة الاهتمام الجدي بالواجبات البيتية وتصحيحها، ولفت انتباه التلاميذ إلى الأخطاء التي وقعوا فيها وتصحيحها، وإن عدم الاهتمام بها كما يجب يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً  فيبقى الخاطئ على خطأه والمهمل على إهماله. أن على المعلم  عندما يعطي الواجب البيتي للتلاميذ أن يضع نصب عينيه ما يأتي :
 أ ـ يجب أن يكون الواجب البيتي متناسباً مع مستوى التلاميذ وقابليتهم.
 ب ـ يجب أن يكون الواجب البيتي محدوداً لكي يستطيع التلاميذ إنجازه، فعلى المعلم أن يدرك أن للتلاميذ واجبات أخرى لدروس أخرى.
ج ـ ينبغي توجيه عناية المعلم إلى النوع لا الكم عند إعطاء الواجبات البيتية
إن من المؤسف حقاً أن نجد الكثير من المعلمين لا يهتمون بالواجبات البيتية، وكثيراً منهم لا يقوم بتصحيحها، وأن بعضهم يكتفي بالتأشير على الواجب دون قراءته وتصحيحه  وطبيعي أن هذا العمل لا يمكن أن يعطينا إلا عكس ما نتوخاه، فلو فرضنا أن معلم الرياضيات قد أعطى التلاميذ مسائل حسابية كواجب بيتي، ولم يقم بتصحيحها فماذا ستكون النتيجة؟ أنها بلا شك ستكون استمرار الخطأ لدى التلاميذ، وبالتالي الرسوب والفشل وضياع الجهد والوقت. إن عدم إعطاء الواجبات البيتية لهو خير ألف مرة من إعطائه دون تصحيحه.

يتبع الحلقة الرابعة

115
المعلم وضرورة اعداه لتربية الأجيال
كيف ننهض بمستوى المعلم؟
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                               9/11/2016
إن النهوض بمستوى المعلم منوط بلا شك بوزارة التربية والتعليم، فإن بإمكانها الارتفاع بمستوى ثقافة المعلم وتجدده وتطوره وذلك باتباع السبل التالية:

1ـ فتح دورات تربوية وتثقيفية للمعلمين كل سنة، لتنمية وتجديد معلوماتهم في كافة مجالات الحياة المختلفة، بشكل تجعل المعلمين يندفعون إلى الدخول بهذه الدورات عن رغبة وارتياح، وذلك بمنح المعلمين أجوراً إضافية لساعات الدراسة، ومنح المعلمين المتفوقين امتيازات خاصة كالترفيع، ومنح القدم، وتدرج المركز الوظيفي.

كما أن من المستحسن جداً الأخذ بنظام المعلم الأول، حيث تكون مهمة المعلم الأول للمادة في المدرسة بالإضافة إلى التعليم، القيام بالأشراف التربوي والتعليمي على عمل معلمي نفس المادة  والطلاب معاً، وبهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفوس المعلمين الرغبة في الانخراط في هذه الدورات، والنجاح فيها  وفي التنافس فيما بينهم في مجال عملهم الوظيفي. ولاشك أن عنصر الرغبة هام جداً في تحقيق ما تهدف إليه هذه الدورات، و بدونها لا يمكن أن نحقق التجدد والتطوير المنشود لمعلمينا وبالتالي تصبح هذه الدورات مضيعة للوقت  والجهد والمال .

2ـ مساعدة وتشجيع المعلمين في الدخول إلى الكليات المسائية، والعمل على إيجاد وتشجيع الدراسة بالمراسلة في هذه الكليات، ولاشك أن ألوفاً من المعلمين سوف يندفعون للدراسة والتتبع بسرور واشتياق، وخصوصاً العاملين منهم في القرى والأرياف، حيث الفراغ الهائل الذي يعانون منه هناك.
 ولابد وأن أشير هنا إلى نقطة هامة وهي محاولة الكثير من المعلمين الحاصلين على الشهادات العالية الانتقال من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي، وأن هذا العمل يسبب ضرراً بالغاً لقضية التربية في المدارس الابتدائية بسبب فقدان العناصر الكفوءة والنشطة في ملاك التعليم الابتدائي، وبالتالي تأخره وانحطاط مستواه. أن بقاء المعلم الحاصل على الشهادة العالية أمر ضروري كي يساهم في رفع مستواه وتطويره بشرط أن ينال حقوقه كاملة أسوة بزملائه مدرس المدارس الثانوية.

3ـ ضرورة قيام الوزارة  ومديريات التربية وجهاز الأشراف التربوي بإعداد الندوات التربوية للمعلمين، وجعلهم يقفون على آخر التطورات الاجتماعية والتربوية في مختلف بلدان العالم من جهة، والوقوف على نماذج من الأساليب التربوية والخبرات والتجارب التي حصل عليها المعلمون خلال عملهم، وعلى نماذج للمشاكل التي يصادفونها في المدرسة وطرق وأساليب علاجها.
4ـ ضرورة تعميم مديريات التربية على كافة المدارس بأن تعقد كافة المدارس ندوات شهرية يساهم فيها المعلمون والأباء والأمهات، وتطرح خلالها القضايا التربوية التي تجابههم سواء كان ذلك في البيت أو المدرسة، وطرق علاجها، على أن تكون هذه الندوات المدرسية إجبارية، وعلى أن تقدم كل مدرسة خلاصة البحوث والمناقشات والنتائج التي خلص إليها المجتمعون والمجتمعات في هذه الندوات، وإرسالها إلى مديريات التربية، وعلى مديريات التربية إعداد جهاز خاص ذي قدرة وقابلية على دراسة تلك المحاضر وتنسيقها، بغية الوقوف على كافة الجوانب السلبية والإيجابية في أوضاع مدارسنا وطلابنا وطالباتنا، من أجل معالجة علمية لجوانبها السلبية، وتعميق وتعميم جوانبها الإيجابية، وبذلك تساهم مساهمة فعالة لا في رفع مستوى المعلم والمعلمة فحسب، بل وفي رفع مستوى الآباء والأمهات أيضاً.

5ـ ضرورة خلق الروابط والاتصالات وتبادل الخبرات بين المعلمين في مختلف بلدان العالم بغية الوقوف على أحدث الأساليب التربوية والتعليمية التي تنتهجها وكيف تعالج هذه البلدان مشاكل المعلمين والطلاب في آن واحد.
وبالإضافة إلى ذلك فإن السفرات التي يقوم بها المعلمون على شكل وفود توسع من معلوماتهم وخبرتهم، وتزيد من فهمهم لأحوال المجتمعات البشرية، وطريقة معيشتهم. كما
إن نقابة المعلمين تستطيع أن تلعب دوراً بارزاً وفعالاً في هذا الخصوص وذلك عن طريق الاتصال بنقابات المعلمين في نختلف البلدان لتسهيل هذه المهمة.

6ـ إن من الضروري أن تصدر نقابة المعلمين صحيفة أسبوعية على الأقل، واقترح أن تكون باسم [ المربي ] حيث أن الصحف تقوم بدور هام جداً في حياة المجتمع، فهي تعكس المشاكل وتطرح الحلول لها، وتناقش مختلف الآراء وبإمكان صحيفة [ المربي ] أداء الأمرين الهامين التاليين:
أـ عكس المشاكل التربوية التي تجابه البيت والمدرسة، وعلاقاتهما ببعضهما، ومناقشتها ووضع الحلول الصائبة لها.
ب ـ عكس مختلف الأساليب التربوية في دول العالم المختلفة كي يمكن للمعلم الوقوف عليها والاستفادة منها.
وبالإضافة إلى صحيفة المربي فإن على نقابة المعلمين أن تصدر مجلة تربوية شهرية يساهم فيها كبار رجال الفكر والتربية لتقديم البحوث التي تساهم في رفع مستوى المعلم وتقدمه، وتعميمها على المدارس لغرض استفادة المعلمين وإدارة المدرسةمنها .

7ـ تحديد عدد الساعات التي يقوم بتدريسها المعلم من جهة، وتحديد عدد طلاب كل صف من جهة أخرى أمران هامان يؤثران تأثيراً بالغاً على إمكانياته وكفاءته ورفع مستواه، ذلك 
أن حشر العدد الكبير من الطلاب والطالبات في صف واحد، وإرهاق المعلم أو المعلمة بالحصص سيقلل حتماً من نشاطهما وحيويتهما من جهة، ولا يتيح لهما فرصة العمل المثمر، والتتبع والدراسة وتطوير قدراتهما، وقابليتهما من جهة أخرى.
لقد أدركت الدول المتقدمة أهمية هذه النقطة فسعت إلى تقليص عدد طلاب الصف إلى أدنى حد ممكن، وكذلك قلصت عدد الحصص الأسبوعية لكل معلم، ليتمكن من أداء واجبه على الوجه الأكمل . غير أن الحال في مختلف الدول النامية ودول العالم الثالث مختلف تماماً، فالمعلم والمعلمة مرهقان جداً، والصفوف لا تكاد نجد مكاناً للمرور فيها حيث حُشرت فيها أعداد كبيرة من الطلاب والطالبات، بحيث أصبح من العسير على المعلم والمعلمة التفرغ لهم، وحتى معرفة أسمائهم وحفظها، كما أصبح من العسير عليهم إعطاء الواجبات البيتية وتصحيحها على الوجه الأكمل، وأصبح من العسير أيضاً دراسة مشاكل الطلبة وحلها بشكل تربوي سليم، فكيف يستطيع المعلمون والمعلمات أداء واجباتهما على الوجه الأكمل إذا كان الصف الواحد قد حُشر فيه أكثر من خمسين طالب وطالبة، ولا أغالي إذا قلت أن بعض المدارس يزيد عدد طلابها على ثمانين طالباً؟
إن 20 إلى 24  طالباً وطالبة في كل الصف من جهة، و18 إلى  20  حصة للمعلم والمعلمة من جهة أخرى كفيلان برفع مستوى المعلم والتعليم والتربية على حد سواء.

8 ـ هناك مسألة هامة جداً تلعب دوراً خطيراً في حياة المعلم وتحدد مدى فاعليته وإخلاصه، واندفاعه في أداء واجباته، إنها مسألة تأمين الحياة السعيدة له، وذلك بتأمين حاجاته المادية، وخصوصاً لمعلمي القرى والأرياف.
إن واقع المعلم يكشف لنا عن مدى الضنك، وعدم الكفاية الذي يعاني منه، وإن الواجب يقتضي إعطاء مسألة تأمين الحاجات المادية للمعلم الأهمية المطلوبة، وإعطائها الجدية والاهتمام اللازمين، بغية رفع إمكانيات المعلم وجهاديته، وتفرغه لعمله، ومن بين ذلك منحه المخصصات المهنية الإضافية أسوة بغيره من الأطباء والمهندسين والفنيين وغيرهم، في حين أن هؤلاء يمارسون عملهم في عياداتهم ومكاتبهم بعد الدوام والذي يدرّ عليهم دخلاً وفيراً !!
أليست عملية التربية والتعليم مهنة تستحق هذه المخصصات؟
أليست هذه المهنة اشق المهن وأقساها ؟
فلماذا نبخل على المعلم بمثل هذه الامتيازات التي يستحقها بكل جدارة شأنه شأن الآخرين؟

إن عمل المعلم لا ينتهي بانتهاء الدوام المدرسي، كبقية الوظائف، بل على العكس يستمر عمله في البيت أيضاً، حيث يقوم بتصحيح الواجبات البيتية للتلاميذ، ويحضر الدروس لليوم التالي، علاوة على الجهود التي يبذلها في النشاطات اللاصفية لطلابه، والتي تأخذ من وقته الشيء الكثير.
أن من حق المعلم بعد هذا الجهد أن يمنح ليس فقط المخصصات المهنية، بل أن تكون له امتيازات أخرى من شأنها أن تدفعه للعمل بجد ونشاط، وتخفف من شعوره بأنه خلق معلماً وسيبقى كذلك. إن بإمكان الدولة أن تعمل الكثير من أجل إرضاء طموح المعلم وفي مقدمتها:
أ ـ تأمين المساكن الصحية المريحة للمعلمين في القرى والأرياف.
ب ـ منح المعلمين تخفيضات في وسائل النقل وغيرها.
إن هذه الامتيازات من شأنها أن تستثير في المعلم روح العمل والمثابرة فيؤدي واجباته بكل سرور وانشراح.

9ـ إن جهاز التعليم يضم في صفوفه عناصر غير جديرة بأي حال من الأحوال للقيام بهذا الواجب المقدس، بل على العكس من ذلك فإن وجودهم وبقائهم فيه خطر كبير على عملية التربية والتعليم، ولأجل معالجة هذه الأمور الحساسة ينبغي لوزارة التربية القيام بما يلي:
 أ ـ تطهير جهاز التعليم من كافة العناصر الخاملة والكسولة، والتي يثبت فشلها، ونقلهم إلى وظائف أخرى.
 ب ـ هناك عناصر لا يشجع سلوكها وأخلاقها على البقاء في سلك التعليم، وينبغي التخلص منها. إن سلك التعليم ينبغي أن لا يفتح أبوابه إلا لمن اتصف بأسمى المثل الإنسانية، والأخلاق الفاضلة، لأن التلاميذ يقلدون معلميهم في أعمالهم وسلوكهم وتصرفاتهم، وكما أسلفنا فإن عملية التربية ما هي إلا عملية تفاعل بين المعلمين والتلاميذ، وما العادات والأخلاق، والتصرفات التي تظهر لدى التلاميذ إلا انعكاساً لعادات وتصرفات وأخلاق مربيهم سواء كان ذلك في البيت أم المدرسة.
ج ـ هناك العديد من المعلمين الذين بلغوا من العمر حداً جعل طاقاتهم للعمل محدودة، وبالتالي عجزوا عن القيام بواجباتهم التربوية بالشكل الذي يؤمن الفائدة المرجوة، لذلك فإن من الأفضل إحالتهم على التقاعد دون إبطاء، مع تكريمهم بالشكل الذي يستحقونه، جزاء ما قدموه من خدمات لأبناء شعبهم ووطنهم، وليحل مكانهم العناصر الشابة الكفوءة كي يستطيعوا حمل الرسالة بجد ونشاط .

انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة

116
فاز ترامب وهُزيمت كلينتون، وانتصر الشعب الامريكي
حامد الحمداني                                                       9/11/2016

انشغل العالم اجمع منذ بداية هذا العام  بمتابعة حملة الانتخابات الامريكية على المستويين الدولي والشعبي، نظرا لما تمثله هذه الانتخابات من تأثير كبير على الشؤون الداخلية  والدولية، ولا سيما ما يشهده عالمنا اليوم من حروب  دامية ومدمرة في الشر ق الاوسط، وتصاعد نذرالحرب الباردة بين الدولتين العظمتين روسيا والولايات المتحدة بما تمتلكان من قوة عسكرية كبرى، واسلحة مدمرة بما فيها السلاح النووي، وتوسع وانتشار حركات الاسلام السياسي المتطرفة والارهابية والمتمثلة بالقاعدة، وداعش وطالبان، وبوكو حرام، والتي باتت تشكل خطراً كبيراً على أمن وسلامة الشعوب، إضافة الى الازمات الاقتصادية المتتالية التي تقض مضاجع الجميع.                                                   .                                                                                                                 
 لقد كانت الحملة الانتخابية الامريكية فريدة من نوعها في التاريخ الامريكي، فقد رشح الحزب الديمقراطي وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، فيما اختلف الجمهوريون في اختيار مرشحهم، وعارض العديد من زعماء الحزب قبول ترشيح دونالد ترامب كونه ليس من بين القيادات السياسية المجربين، لكن ترامب أصّر على الترشيح، وهدد الحزب  بترشحه كمستقل أذ ما تم رفض ترشيحه، وهكذا جرى ترشيحه رغم معارضة العديد من زعماء الحزب كونه مجرد رجل اعمال ومليادير.                             .                                                               
لقد وضعت الدول الغربية كل ثقلها إلى جانب كلينتون، وبكل ما تملكه ماكنتها الدعائية من صحافة وتلفزيون، كما وضع الرئيس اوباما هو الاخر ثقله كرئيس إلى جانبها الى درجة انها باتت على يقين بانها ستهزم ترامب، وجاءت النتائج صدمة كبرى لحزبها  الديمقراطي ولحلفائها الغربيين.                                                                                       

لقد اكتسح دونالد ترامب هيلاري كلينتون بفارق 70صوتاً أذهلت أكثر المحللين والمتابعين لسير الانتخابات بعد ان كانت وسائل الاعلام المناصرة للحزب الديمقراطي، ووسائل الاعلام الغربية كلها تشير الى تجاوز  كلينتون لترامب بـ 4 نقاط.

ولا شك أن الشعب الامريكي الذي انتخب ترامب ليس غبيا ولا مغفلاً ، بل هو يدرك ما يريد بما يحقق مصالحه ومصالح الولايات المتحدة، ويبعد الاخطار عنه، فقد كان برنامج كلينتون وحزبها يتجه نحو التصعيد مع روسيا، وسياسة حافة الحرب، حيث تتواجد قوات وطائرات كلا الدولتين في سوريا، مما يهدد بالتصادم بينهما بما لا يحمد عقباه، حيث ان من السهل اشعال النار ولكن من الصعب اطفائها اذا ما امتدت. كما ان زحف قوات حلف الاطلسي بقيادة امريكا نحو الحدود الروسية، ونصب الصواريخ الموجه نحوها ورد الروس بنصب الصواريخ باتجاه بولندا ودول البلطيق مما يهدد بخطر نشوب الحرب بكل ويلاتها ومآسيها دعك عن سياسة سباق التسلح وتكاليفه الباهضة والتي يمكن استخدامها في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية ومختلف الخدامات الاخرى التي تساهم في رفع مستوى حياة المواطن.                                         .                                                                                           
لقد تحدث ترامب خلال حملته عن عزمه على محاربة داعش والنصرة وسائر  المنظمات الارهابية، واتهم حكومة اوباما بأنها كانت وراء تكوين هذه المنظمات الارهابية  وتمويلها وتسليحها، وحمّلها مسؤولية ما حصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا،ودعمها لجماعة الاخوان المسلمين في مصر، ودعم عصابات داعش الارهابية في سيناء، كما وعد بتحسين العلاقات مع روسيا من أجل صيانة السلام العالمي، وابعاد شبح الحروب، كما دعا  الحلفاء الاوربيين، وحكام الخليج  إلى ان يتحملوا تكاليف الحماية  الامريكية.                           
 
إن كل هذه الامور التي تحدث عنها ترامب إذا ما تحققت ستصب بكل تأكيد في مصلحة الشعب الامريكي، ومصلحة السلام العالمي، ومصلحة سائر الشعوب المكتوية بنيران الحروب في العراق وسوريا واليمن وليبيا وتحسين اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والخدمية واعادة تعمير ما خربته الحروب، والعيش بأمان وسلام، ولا شك ان الاقوال وحدها لا تكفي، وان الحكم على سياسه ترامب ستكون على الافعال، وإنا لمنتظرونأن يفي ترامب بوعوده.                                       .                                                                                             
                                                 
                                                     

117
المعلم وضرورة اعداده لتربية الاجيال
الحلقة الأولى

حامد الحمداني                                                              7/11/2016

أن المهمة الملقاة على عاتق المعلم هي بكل تأكيد شاقة وجسيمة، فهي تهدف إلى إعداد الأجيال المتلاحقة جيلاً بعد جيل، اجتماعياً وأخلاقياً وعاطفياً، والعمل على تهيئة كل الوسائل والسبل التي تمكنهم من تنمية أفكارهم وشخصياتهم بصورة تؤهلهم للوصول إلى الحقائق بذاتهم، وبذلك يكونون عناصر فعالة ومحركة في المجتمع. إنها تهدف إلى إذكاء أنبل الصفات والمثل الإنسانية العليا في نفسية الجيل الصاعد وجعلهم يدركون حاجات المجتمع ويتفاعلون معه من أجل تحقيق تلك الحاجات، وبالتالي تطوير المجتمع ورقيه وسعادته.

أن المعلم يستطيع بكل تأكيد أن يؤثر إلى حد بعيد بتلاميذه، وإن هذا التأثير ونوعيته ومدى فائدته وفاعليته يتوقف بالطبع على إعداد المعلم، وثقافته وقابليته وأخلاقه، ومدى إيمانه بمهمة الرسالة التي يحملها، وإدراكه لعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فإن كل أعمال المعلم وسلوكه وأخلاقه وصفاته تنعكس تماماً على التلاميذ الذين يقوم بتربيتهم وتعليمهم،      وعلى هذا الأساس فإن عملية النهوض بمدارسنا ومجتمعنا تتطلب منا أن نحدد الصفات التي ينبغي توفرها في المعلم، والشروط الواجبة في اختياره، والتي يمكن تحديدها بالشروط التالية:

1- أن يكون العلم ذا مظهر مناسب، حيث أن المظهر، وشخصية المعلم وهندامه تؤثر جميعها تأثيراً فعالاً في نفسية التلاميذ، وتجعلهم يقتدون به، ويتخذونه مثلاً أعلى في مظهرهم وهندامهم وشخصيتهم .

2 ـ ضرورة ان يتصف المعلم بروح الفكاهة والمرح لكي يستطيع جذب انتباه التلاميذ نحوه وجعل الدرس محبوباً إليهم حيث يندفعون درسه بشوق وسرور، ذلك إن نفسيته، وروحه المرحة ذات تأثير بالغ على نفوس التلاميذ، وعلى مدى نجاحه في أداء مهمته في آن واحد، فلو أجرينا استفتاءاً لدى التلاميذ حول شعبية المعلمين، والدروس التي يحبونها أكثر من غيرها لتأكد لدينا بشكل قاطع أن المعلمين الذين يتمتعون بهذه الصفة هم على قدر كبير من الشعبية، وأن دروسهم هي على قدر كبير من الرغبة لدى التلاميذ .

3 ـ يتطلب من المعلم أن يكون حسن التصرف في تربية أبنائه التلاميذ، وحل مشاكلهم بروية وحكمة، فالمعلم يجابه خلال عمله كل يوم مشاكل لا حدّ لها أخلاقية وتربوية وتعليمية، وإن تذليل هذه المشاكل وحلها يتوقف على أسلوب المعلم وحكمته وحسن تصرفه.
ولابد أن أشير بهذا الخصوص إلى أن أساليب العنف ضد الأبناء  التي تمارس من قبل الوالدين في البيت منذ الطفولة المبكرة نتيجة الجهل في أساليب التربية تسبب الضرر البليغ لشخصية الأطفال، وتخلق لديهم العديد من الصفات السيئة والخطيرة كالخوف،
والانكماش، والخنوع، وضعف الشخصية، والتمرد على المجتمع.

4ـ إن الوعي الاجتماعي لدى المعلم أمر مهم جداً، ولا يمكن الاستغناء عنه لأي معلم ناجح، ذلك أننا كما أسلفنا أن عملية التربية والتعليم هي عملية تفاعل اجتماعي تتطلب دراسة وفهم المجتمع دراسة وافية، والتعرف على ما يعانيه مجتمعنا من مشاكل وعيوب، وكيف
يمكن معالجتها وتذليلها. إن كل معلم يعزل نفسه عن المجتمع ولا يشارك في فعالياته ومنظماته الاجتماعية لا يمكن أن يكون معلماً ناجحاً.

5 ـ أن على المعلم أن يكون محباً لتلاميذه متفهماً لحاجاتهم وسلوكهم، والعوامل المحددة لهذا السلوك والتي تتحكم فيه، واعني بها الدوافع الإنسانية[الغرائز]، ذلك أن الغرائز تلعب دائماً دورا حاسماً في تحديد سلوك الفرد خيراً كان أم شراً، وهنا تبرز أهمية المعلم ودوره المؤثر في صقل تلك الغرائز  وتوجيهها الوجهة الصائبة والخيرة، حيث أن الغرائز لا يمكن قهرها، بل صقلها والسمو بها إذا ما عرفنا كيف نتعامل مع أبنائنا التلاميذ، ولاشك أن المعلم هو خير من يستطيع التعامل مع هذه الغرائز إذا ما أدرك حقيقتها ومدى تأثيرها في سلوك أبنائنا التلاميذ، وعلى العكس من ذلك نجد هذه الغرائز إذا تركت وشأنها فكثيراً ما توجه صاحبها نحو الوجهة الضارة الشريرة.

 إن غريزة التنازع على البقاء على سبيل المثال كانت تعني في المجتمعات المتخلفة البقاء للقوي والموت للضعيف، غير أنه بفضل التطور والتقدم الحاصل للمجتمعات البشرية على مدى العصور، وبفضل ما توصل إليه العلم والعقل الإنساني يمكن أن تكون صراعاً ليس بين إنسان قوي وآخر ضعيف، أو أمة قوية وأخرى ضعيفة، بل بين المجتمع الإنساني ككل وبين الطبيعة، وتسخير هذا الصراع لتهيئة الوسائل والسبل للسمو بمستوى حياة الإنسان المادية والمعنوية، فكل تطور في ميادين العلوم والصناعة والزراعة وكافة مجالات الحياة الأخرى يهيئ ويوفر كل حاجات الإنسان ومتطلباته.

6 ـ ضرورة أن يكون المعلم ميالاً للتجدد والتطور بشكل مستمر  حيث أن الأساليب التربوية قد تطورت تطوراً كبيراً عما كانت عليه في الماضي، فلا يوجد شيء في الوجود بحالة ثابتة جامدة، بل إن كل شيء في حالة تغير وتطور مستمر، ولابد للمعلم لكي  ينجح في عمله أن يطور نفسه، ويطور معلوماته، ويجددها باستمرار، عن طريق التتبع والمطالعة، والوقوف على أحدث النظريات التربوية، وتجارب الآخرين في مضمار العلم والثقافة، والوقوف على آخر التطورات الحاصلة في عالمنا في شتى شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.

إنه من المؤسف أن نجد الكثير من المعلمين ينتهي من الدراسة والتتبع حال استلامه شهادة التخرج، فكأنما قد بلغ درجة الكمال، وكأنما العلم والمعرفة قد انتهيا عند هذا الحد حيث ينتهي به هذا الاعتقاد إلى التخلف والجمود.
حدير بنا للوقوف على مستوى المعلمين في دارسنا أن نسأل:
كم كتاباً يقرأ كل معلم خلال السنة ؟
كم محاضرة تربوية ألقيت في كل مدرسة خلال السنة ؟
كم دورة تربوية وثقافية نظمها الجهاز التربوي للمعلمين ؟
أن هذه المتطلبات ضرورية جدا للمعلم لكي يكون متجدداً ومتطوراً ويواكب التطورات الحاصلة في المجالات التربوية والاجتماعية في شتى بقاع العالم كي ينهل منها، ويطور معارفه بما يخدم العملية التربوية لأجيالنا الصاعدة.


118
المجد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى
في روسيا
حامد الحمداني                                              7/10/2016
أحدث اندلاع ثورة أكتوبر التي قادها الحزب الشيوعي الروسي بقيادة فلاديمير لنين في 7 أكتوبر عام 1917 زلزالاً هائلا في العالم أجمع، فلم يكن من المتوقع أن تقع الثورة في بلد متخلف كروسيا، بل كان المتوقع أن تقع في المانيا أو بريطانيا أو فرنسا، البلدان الثلاث المتقدمة صناعياً واقتصاديا آنذاك، والمؤهلات لمثل هذا الحدث العظيم  حيث الطبقة العاملة التي تعتبر عماد حركة التحول نحو بناء الاشتراكية، و كان لها تأثير كبير في مجرى التحولات السياسية والاجتماعية، في حين كانت روسيا تفتقد إلى وجود طبقة عاملة مؤهلة لقيادة التحول نحو بناء نظام عالمي جديد قائم على أساس الملكية العامة لوسائل الإنتاج بسبب ضعف الصناعات فيها، ولذلك فقد كانت الشكوك تنتاب كبار منظري الاشتراكية، وقادة الحركة الاشتراكية العالمية أمثال [كاوتسكي] و[برنشتاين]و[ مارتوف] و [بليخانوف]و[ بخارين] و [أكسليرود]غيرهم. فقد كان السجال يدور فيما بينهم حول إمكانية بناء الاشتراكية في روسيا من عدمه، وقد عبر لنين في آواخر أيام حياته عن مخاوفه من أن تتحول دولة البرولتاريا إلى دولة مطلية باللون الأحمر.

وقد اقر ستالين بدوره بتخلف روسيا، لكنه دعا إلى اللحاق والتكافؤ مع البلدان الرأسمالية قائلاً:{أما أن نحقق ذلك أو أننا سنهلك}.
ثم عاد ستالين في شباط 1931 ليعترف في أحدى خطبه بتخلف روسيا قائلاً:
{ إننا متأخرين عن البلدان المتقدمة بخمسين سنة، وربما بـ 100 سنة، وأن علينا أن نتجاوز هذا التأخر خلال عشر سنوات}!.
وكان بليخانوف قد اعتبر بناء الاشتراكية في روسيا نوع من الهذيان مما استحق توبيخ لنين، وتم وصفه بالخائن، وعدو الثورة لأنه زعم أن شروط الاشتراكية غير متوفرة في روسيا بعد، وأن الأفضل قيام نظام ديمقراطي برجوازي، حيث أن التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج لم تنضج بعد، وأن أغلبية المجتمع الروسي هم من الفلاحين.

وكان انجلز قد أكد هذه الحقيقة قائلاً:
{أنها لمأساة تاريخية للطبقة العاملة عندما تنتزع السلطة السياسية في وقتِ ليست مهيأة لها بعد، لأن ذلك من شأنه أن يلزمها بالتراجع إلى الوراء عن المواقع التي أحرزتها، وسيجد المرء نفسه في مأزق، لأنه يضع نفسه في موضع كهذا سائر حتماً إلى الهلاك}.

لكن لنين كان يرى الفرصة سانحة للحزب الذي كان له الدور الأكبر في اسقاط نظام القيصري، واستلام حكومة كيرنسكي البرجوازية السلطة قائلاً: {لقد سرقتنا البرجوازية أتعابنا}، تلك الحكومة استمرت في الحرب العالمية الأولى التي خاضها قيصر روسيا، والتي لم تستطع تثبيت أقدامها في السلطة، فكان قرار لنين انتزاع السلطة منها ومن البرجوازية.

وتم للحزب البلشفي اسقاط حكومة كيرنسكي وانتزاع السلطة وإعلان تأسيس دولة البروليتاريا، وكان أهم قرارين اتخذتهما لنين بعد استلام السلطة هما مرسوم السلام والخروج من الحرب الاستعمارية، ومرسوم الأرض الذي جرى بموجبه انتزاع الأراضي من الإقطاعيين واعتبار الأرض ملكاً للدولة، وقد لقي مرسوم الأرض مقاومة شديدة من قبل الإقطاعيين الذين انخرطوا في الحرب إلى جانب قوى التدخل الإمبريالي الذي استهدف اسقاط النظام الجديد قبل أن يقوى ويشتد عوده، فكانت حرب قاسية استمرت من عام 1917 حتى عام 1921 وانتهت بدحر قوى التدخل وحلفائهم الكولاك ملاك الأراضي المصادرة بعد أن دفعت قوى الثورة ثمناً باهظا من دماء ابنائها لكنها استطاعت تثبيت أقدام الثورة والتوجه نحو بناء ما خربته الحرب الكونية الأولى وحرب التدخل الامبريالية.

كانت هناك دعوة من قبل العديد من القياديين في الحزب إلى توزيع الأراضي على صغار الفلاحين، لكن لنين عارض هذا التوجه بشدة قائلا:
{إن الإنتاج البضاعي الصغير يولد الرأسمالية بصورة عفوية، وعلى نطاق واسع، وإن الانتصار على البرجوازية الكبيرة لهو أهون ألف مرة من الانتصار على الملايين من الملاكين الصغار}.

 طبق لنين خطته الاقتصادية الجديدة عام 1921، رافضاً فرض المراسيم لتحقيق الحركة التعاونية على الرغم من تعرضه إلى النقد من أقرب رفاقه التي كان يدعو إليها [بخارين] لكنه أصر على خطته ونجح فيها.

 لكن هذه السياسة الاقتصادية لم تدم طويلاً حيث أقدم [ستالين] على إلغائها عام 1929مخالفاً سياسة لنين الاقتصادية، وفرض نمط الزراعة الجماعية في الريف، وقد عارضه في ذلك [ بخارين] داعياً إلى الاكتفاء مؤقتاً بالتعاونيات التي تمارس البيع والشراء والقروض، وإرجاء التحول نحو التعاونيات الإنتاجية واصفاً عمل ستالين بأنه [ضرب من الاستغلال العسكري للفلاحين].

لقد اقترنت سياسة ستالين بانتهاكات فضة، وحملات دموية واسعة، وتهجير جماعي، وأزمات واختلالات اجتماعية خطيرة، وكان بخارين أحد ضحاياها.
وعندما كان لنين على فراش الموت أرسل رسالة إلى المؤتمر الثاني عشر للحزب، حيث لم يستطع المشاركة فيه بسبب مرضه، حيث عبر في رسالته عن مخاوفه قائلا:
 { إن الرفيق ستالين قد حصر في يديه سلطة لا حدود لها، وأنا غير واثق من كيفيه استخدامه لها بما يكفي من التبصر والاحتراس، وطالباً باستبداله ببديل يتميز بسمة واحدة وهي أن يكون أكثر تسامحاً ورعاية للرفاق، وبالتالي أقل تقلباً في الأهواء}.
وقد قيّم لنين وأطرى على مواهب وقدرات [تروتسكي] و[بخارين] إلا أنه حذر من الغطرسة لتروتسكي، وطالب بإصلاح ما ارتآه نواقصاً لدى هؤلاء القادة المرموقين على حد تعبيره.

لكن رسالة لنين كان قد تم حجبها عن المؤتمر من قبل ستالين، كما حجب مجمل توصياته ومقترحاته ورسائله، وخاصة التي تتعلق بمواصفات القادة، ومهام وتركيب لجنة الرقابة، وقضايا الحزب الداخلية، وقد ظلت محجوبة طيلة أكثر من 30 عاما.

لقد ثبت صحة مخاوف لنين، وتحذيراته مما وقع بعد رحيله وعلى مر عقود طويلة، فكان ما حصل ركاماً من الأخطاء والخطايا والانتهاكات التي هي في تعارض مطلق مع الاشتراكية كعقيدة ومبدأ، أو كمنظومة شاملة من القيم والمثل الإنسانية الرفيعة، وكل ذلك ناشئ عن وجود اختلالات خطيرة في بنية [النظرية] و [التطبيق] والممارسة التعسفية المستندة إلى مبادئ وقواعد صارمة في نظام الحزب، وما يتيحه للقادة من سلطات ومبررات.
 
إن الممارسة الفعلية، من خلال هرمية الحزب، وسلطات الهيئات العليا والسفلى، ومبدأ الخضوع، وليس الالتزام، والانضباط الحديدي شبه العسكري، وليس الطاعة الواعية، ثم المساءلة المحاسبة والتوبيخ والعقاب والطرد، والنقد الصارم، والنقد الذاتي الذي يتم بالإكراه والإذلال، هي بالإجمال في تعارض من حيث الجوهر مع مبدأ الخيار والطواعية في الانتساب والعمل في الحزب، هذا إلى جانب تكريس وتثبيت نفوذ الحزب، وتأثير سلطته المطلقة على الدولة والمجتمع، وكذلك تكريس نفوذه على الأحزاب الأخرى في العالم باسم الأممية والتضامن الأممي البروليتاري.

لقد ارتكبت الكثير من الخطايا والآثام في الاتحاد السوفيتي بحق الألوف من القادة الموهوبين والعاملين النشطين في الحزب والدولة، والمواطنين الأبرياء، والقادة العسكريين، ونشطاء النقابات والسوفيتيات، وسائر المنظمات والمؤسسات، والفلاحين الأغنياء،  والعلماء والأدباء والكتاب والمثقفين، بل بحق أقوام وشعوب بكاملها، وكل ذلك نتيجة طبيعية للسلطة والتسلط  الغاشم والمستمد شرعيته ومبرراته من مجموعة قواعد ومبادئ التنظيم
 الآنف الذكر للحزب والدولة.

فعلى سبيل المثال تم اعتقال 110 من أعضاء اللجنة المركزية الذين انتخبوا في المؤتمر السابع عشر عام 1934، من مجموع عدد أعضاء اللجنة البالغ 139 عضواً، وقد غُيبوا عن الوجود، وأعدم الكثير منهم عام 1936، ولم يبق منهم سوى 59 عضواً ساهموا في المؤتمر الثامن عشر.

وفي عام 1940 جرى توجيه الاتهام إلى [ بخارين] و[رايكوف]و
[تومسكي]وآخرين من قادة الحزب بالانحراف اليميني، وجرت محاكمتهم وقتلهم، بعد أن أجبروا على الاعتراف بمسايرتهم الكتلة التروتسكية عن طريق التعذيب الوحشي على يد رئيس لجنة أمن الدولة [يازيف]ونائبه السادي [زوكوفسكي]الذي كان يردد :
{ لو كان ماركس بين يدي لأجبرته على الاعتراف بأنه عميل لبسمارك]!.
وفي 14 آب 1936جرت محاكمة 13 من كبار قادة الحزب والدولة كان من بينهم أعضاء سابقون في المكتب السياسي من رفاق لنين مثل [ زينوفين] و[ كامنيف]و[ سميرنوف]، وقد كانوا جميعاً في السجن حيث أبعدهم ستالين عن مراكزهم عام 1929، ورغم أنهم قد اجبروا على الاعتراف بأخطائهم المزعومة وتوسلهم إلى ستالين، فقد حكم عليهم بالإعدام، ونفذ فيهم في 25 آب 1936 ، وعلى أثر إعدامهم شن ستالين حملة تطهير في الحزب واسعة النطاق شملت 500 ألف من أعضائه النشطين، وتم إعدام رئيس
 رئيس جهاز الأمن [ياغودا].
وفي كانون الأول 1937جرت محاكمة ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي مع 14 آخرين من رجال الحزب والدولة كان من بينهم  [بيانكروف] و[سوكولنكوف] و[ رادياك]، وقد اجبروا جميعاً على الاعتراف بأمور غير صحيحة تحت التعذيب مثل ارتباطهم  بتروتسكي، وتخريب الصناعة وجرى إعدامهم.

وفي الجيش تم إعدام المارشال[ توخاجيفسكي]المفكر والقائد العسكري الاستراتيجي للجيش الأحمر، وكذلك المارشال  [أيندروف] رئيس الأركان العامة الذي هزم اليابانيين قبل شهرين من اعتقاله في أكتوبر 1938، كما شملت حملة التطهير في الجيش قادة كيف، وبلوروسيا، والبحر الأسود، والأسطول في المحيط الهادئ، وقد شملت حملة الإعدامات في صفوف الجيش أعداد كبيرة  من المارشالات، وقادة الفيالق والفرق والمسؤولين السياسيين في الجيش، وقد تم ذلك قبيل الغزو الألماني للإتحاد السوفيتي، مما سبب الحاق الهزيمة بالقوات السوفيتية في بداية الحرب .
كما جرى تدبير مكيدة من قبل هتلر تم إيصالها إلى ستالين  كان من نتائجها قتل القائد العسكري الموهوب المارشال [توخاجيفسكي]مع 7 من أبرز جنرالات الجيش الأحمر، والمئات من ضباطه، كما تم إعدام[بياتكوف] و15 من القادة الآخرين، وحكم بالسجن على [رادياك]ثم جرى خنقه في السجن بعد 3 سنوات.
وفي مجال الثقافة والمثقفين وتعرض الكثير من المبدعين من الكتاب إلى الاضطهاد والإبعاد إلى معسكرات الاعتقال ومصحات الأمراض العقلية، وهجر العديد منهم البلاد، أما اتحاد الكتاب فقد ضم الموالين منهم فقط المؤمنين بـ [الاشتراكية الواقعية].

فقد عيّن ستالين العامل العادي [ ياريف] مشرفاً على شؤون الأدب والفن والحكم على ما هو ثوري أو معادٍ للثورة، من الإنتاج الثقافي، وهكذا تكرست وفق مبدأ الولاء حالة من الوصولية، فضلاً عن الجمود الإبداعي والعبودية الثقافية، وتم تطويع العديد من الكتاب مثل [ غوركي] و[توليستوي]، في حين انتحر الشاعر المبدع  [ماريوفسكي].

وفي عام 1932 تم عقد مؤتمر للكتاب، وتكوين اتحاد واسع، ولعب غوركي دوراً بارزا ًفيه، وتم تصنيف الكتاب إلى [شعبيين] و[غير شعبيين]، وتم اصطفاء عدد من الكتاب البارزين كان منهم  [توليستوي] و[ديكنز] و[بلزاك] و [ستاندال] و[ أميل زولا] و[فكتور هيجو] و[ جرشنفسكي]و[ غيرتس] و[ دبرولوبوف] و [غوغول] و[شوخولوف] و[غوركي]، وأصبح اتحاد الكتاب هو المرجع للموافقة على طبع أي كتاب، ونيل الامتيازات، والتقرب من المسؤولين في الدولة والحزب .

وقد تعرض للاعتقال كل من الكتاب والعلماء [سولجستين]و [باسترناك] و[ سخاروف]و[ مديفيف] و[ وتورخين] وقد قضى كل من [ بيبل] و[ بيلناك] و[ ماندسون] حياتهم في معسكرات الاعتقال، فيما انتحر رئيس اتحاد الكتاب [ الكسندر فاديف] عام    1956بعد لقائه بعدد من زملائه الذين سخروا منه ومن مواقفه الانتهازية من السلطة، وقد وجه قبل انتحاره رسالة إلى اللجنة المركزية قال فيها: { كنت أظن أنني أحرس معبداً، وإذا بي احرس مرحاضاً في ثكنة عسكرية}.

لقد تم فرض رقابة صارمة على الصحف والمطابع والمكتبات والمسارح والمعارض، والتحكم بأجهزة الإعلام ومناهج التعليم وفرض ما يسمى بتأميم العقل والضمير والذاكرة، بل لقد تجاوز ذلك إلى الموسيقى والموسيقيين الذين هُوجم العديد منهم بسبب مقطوعاتهم الموسيقية مثل [ برولوفيف] و[ شوستاكريفيج].

غير أنه رغم كل تلك الأخطاء والسلبيات فقد استطاع الاتحاد السوفيتي تحقيق منجزات باهرة في ميادين العلم، حيث تم محو الأمية، وجرى فرض التعليم لمدة 10ـ 11 سنة، وبلغ عدد طلاب الجامعات عام 1964 3 ملايين و600 ألف طالب جامعي، وشغل الاتحاد السوفيتي المقام الأول في ميدان التعليم، ومجانية التعليم والخدمات والرعاية الاجتماعية، فقد تجاوز الاتحاد السوفيتي البلدان الرأسمالية في عدد المتخرجين من المدارس الثانوية والجامعات، وأصبحت الشهادة الجامعية شرطاً لدخول المدارس الحزبية العليا.
كما كان الاتحاد السوفيتي السباق في إطلاق أول قمر صناعي، وإرسال أول إنسان إلى الفضاء وهو الطيار[ يوري كاكارين] واستطاع اللحاق بالولايات المتحدة التي تمكنت من إنتاج قنابل ذرية، وتم الِقاء إثنتين منها على مدينتي [ناكازاكي] و[هيروشيما] اليابانيتين لكي ترهب العالم، وعلى وجه الخصوص الاتحاد السوفيتي، وقد استطاع العلماء السوفيت التوصل إلى أسرار الذرة، وإنتاج الأسلحة الذرية والهيدروجينية لكي لا يخل ذلك بالتوازن العسكري بين المعسكرين الشرقي والغربي.

وهكذا ظهرت فكرة التعايش السلمي بين المعسكرين بعد أن شعر العالم بخطورة قيام حرب كونية جديدة لا تبقي ولا تذر، كبديل للحرب، وكشكل من العلاقات والصراع الطبقي بين النظامين العالميين، وفي الوقت نفسه استمرت الدعوة لتكوين اتحاد أخوي لعمال جميع الأمم ضد اتحاد الرأسماليين [أخوة الماسونية] كما سماها لنين.

لقد وقف الاتحاد السوفيتي على الدوام إلى جانب قوى حركات التحرر في العالم أجمع، وقدم لها كل أنواع الدعم من أجل تحقيق النصر على المستعمرين، وتحقيق استقلالهم وحريتهم، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان للاتحاد السوفيتي الدور الأكبر في انقاذ أوربا من الفاشية، وتحرير الصين البلد الشاسع الذي كان يضم أكثر من 600 مليون نسمة آنذاك، والذي وصل اليوم إلى مليار ونصف من البشر، وغيرها من بلدان الشرق الأوسط والأدنى وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

   
     

119
حول جامعة الدول العربية

متى يقيم العرب كياناً حقيقياً يجمعهم؟
حامد الحمداني                                                       25/7/2016

كان الحلم العربي باستقلال البلاد العربية التي ظلت تحت نير الاستعمار العثماني لأربعة قرون وإقامة وحدة عربية يراود أبناء الأمة العربية التي عانت أشد المعانات من ذلك الحكم البغيض، ولاسيما وان بريطانيا العظمى آنذاك وفرنسا كانتا قد طلبتا من ملك الحجاز حسين بن علي أن يعلن الثورة على الحكم العثماني لقاء وعد بإعلان استقلال الدول العربية بزعامته.

لكن العرب صُدموا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما نكث المستعمرون الجدد البريطانيون والفرنسيون بالوعود التي قطعوها لهم، وتبين فيما بعد أنهم قد قرروا اقتسام البلاد العربية فيما بينهم بموجب معاهدة [ سايكس بيكو ]، وقامت بريطانيا بنفي الملك حسين، وبقي في منفاه حتى وفاته، وهكذا وجد العرب أنفسهم مرة أخرى تحت نير استعمار عالمي جديد، وخابت آمالهم التي رسموها بأذهانهم باستقلال بلدانهم ووحدتها السياسية .

لكن عزم الشعب العربي على تحقيق الاستقلال، وإقامة الوحدة العربية الديمقراطية لم يفتر، وبقيت الجماهير العربية تناضل من أجل تحقيق هذا الهدف، وخاضت ضد المحتلـين الجدد معارك قاسية ومتواصلة، وقدمت الآلاف من الضحايا في سبيل التحرر والانعتاق من السيطرة الامبريالية، وجمع الشمل العربي .

وعندما قامت حكومات محلية في العراق وسوريا ومصر وشرق الأردن واليمن والسعودية تحت المظلة الإمبريالية ظلت الجماهير العربية تضغط على حكامها من أجل قيام الوحدة العربية بعيداً عن الهيمنة البريطانية والفرنسية، ونتيجة للمد الوطني الذي اجتاح العالم العربي، أوعز الإمبرياليون إلى الدمى العربية من الحكام في تلك البلدان لإجراء  لقاءات بينها للبحث في موضوع إقامة شكل زائف من العلاقات بين بلدانهم بغية امتصاص ذلك المد الهادر والهادف إلى التحرر الحقيقي من الهيمنة الإمبريالية، وإقامة وحدة حقيقية تلبي مطامح الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

 فقد كان أخشى ما يخشاه الإمبرياليون إقامة دولة عربية قوية تتمتع بثروات هائلة، ومساحة شاسعة خصبة، ومياه وفيرة، وطاقات بشرية كبيرة وخلاقة، فكان مشروع إقامة الجامعة العربية، الذي وضع هياكلها وشروطها واسلوب اتخاذ قراراتها الموحتلون البريطانيون والفرنسيون، والتي لا تعدو عن كونها جامعة للحكام العرب في الحدود الدنيا، وكثيراً ما تدب الخلافات بين هؤلاء الحكام، وتُقطع العلاقات، وتُغلق الحدود، وتُشن الحملات الإعلامية على بعضهم البعض. 

وبناء على رغبة الأمبرياليين تم عقد الحكام العرب مؤتمراً لهم في القاهرة في 22 أيار 1945، وتقرر في ذلك المؤتمر إقامة الجامعة العربية القائمة إلى يومنا هذا دون أن يطرأ عليها أي تطوير أو تغيير .

لم تستطع الجامعة العربية تحقيق حلم الشعوب العربية في الوحدة الحقيقية فقد كان تأثير تلك الهيمنة البريطانية والفرنسية على الحكام العرب يشكل أكبر عائق لتحقيق الوحدة، أو على الأقل تحقيق أوثق الارتباطات فيما بينها في المجالات الإقتصادية والسياسية والثقافية، لكن الأيام التالية أثبتت أن الجامعة العربية بالشكل الذي رسمه لها الأمبرياليون البريطانيون والفرنسيون لن تحقـق طموحات الأمة العربية، بل على العكس من ذلك انتقلت إليها الصراعات العربية، وأخذت سلطتها تضعف شيـئاً فشيئا ًحتى أصبحت قريبـة من التلاشي، ولم يبقَ لها سوى دور ثانوي في القضايا العربية.

فالدول التي ضمتها الجامعة العربية لا يجمعها جامع حقيقي بسبب الأنظمة السائدة والتي هي في جوهرها أنظمة استبدادية لا تعترف بالديمقراطية ولا حقوق المواطن العربي، سواء كانت هذه الأنظمة ملكية أم جمهورية، بل لقد تجاوزت الأنظمة الجمهورية الأنظمة الملكية في استبدادها واستئثارها في الحكم، وإعداد الأبناء لتولي الحكم بعد الآباء حتى لكأنما قد ورثوا بلدانهم، واستعبدوا شعوبهم، وسلبوهم كامل حقوقهم الديمقراطية.

ومن أجل البقاء في السلطة والتشبث بها ضحوا ولازالوا يضحون بمصالح الشعوب العربية لكي يبقى العالم العربي مشرذماً ضعيفاً في عصر العولمة، والتكتلات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم، فها هي الدول الأوربية التي لا يجمعها لغة مشتركة، ولا تاريخ مشترك، ولا عادات وتقاليد مشتركة، تتوحد بمحض إرادتها مشكّلة الاتحاد الأوربي الذي كون ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة، في حين يجمع الشعوب العربية التاريخ المشترك واللغة المشتركة والعادات والتقاليد المشتركة، وتمزقها الخلافات والصراعات، وتعاني شعوبها الجوع والحرمان والإذلال.

وإذا ما قام نظام وطني متحرر من الهيمنة الإمبريالية انبرت الأنظمة الدكتاتورية في حملة عدائية لهذا النظام بغية إفشال تجربته في إقامة الحكم الديمقراطي الذي يحقق الحياة الحرة الكريمة للشعب.

فما كادت ثورة الرابع عشر من تموز أن تنجح في إسقاط النظام الملكي المرتبط بالإمبريالية حتى انبرى حكام مصر في حملة عدائية ضد حكومة عبد الكريم قاسم ، وانغمسوا في محاولات التآمر على الثورة، وتقديم الدعم المتواصل لعصابة البعث حتى تم لهم ما أرادوا في انقلاب 8 شباط الفاشي 1963 واضعين أيديهم بأيدي الإمبرياليين، ومقترفين مجزرة كبرى ضد القوى الديمقراطية في العراق.

 واستمر الشعب العراقي تحت نير حكم العصابة البعثية قرابة الأربعة عقود من الزمن ذاق خلالها من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها، وما المقابر الجماعية المنتشرة في طول البلاد وعرضها إلا شاهداً على هول الجريمة التي اقترفها النظام البعثي الفاشي ضد شعبنا، ناهيك عن حروبه العبثية التي استمرت خلال العقدين الأخيرين والتي ذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين الشباب الأبرياء، وما نتج عن تلك الحروب من انهيار اقتصادي واجتماعي وصحي، وتدمير للبنية التحتية للبلاد .
وبسبب الطبيعة الهمجية العدوانية لنظام صدام والتنكيل الشنيع الذي مارسه ضد الشعب اضطر ما يزيد على أربعة ملايين عراقي إلى الهرب من العراق والبحث عن ملاذ آمن يعيشون فيه، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة من موقف معظم الأنظمة العربية التي أغلقت حدودها بوجوههم فتوجهوا إلى البلدان الأجنبية التي استقبلتهم بما يليق بالإنسان، وأمنت لهم حياة كريمة من سكن وخدمات صحية وثقافية، ودخل يسد حاجاتهم المادية، وأهم من كل ذلك الحرية التي تمتع بها المهاجرون العراقيون في تلك البلدان، ولم يكتفِ الحكام العرب والسائرون في ركابهم من المرتزقة بكل ذلك بل قاطعوا المعارضة العراقية الوطنية، واستمروا في دعم النظام الدكتاتوري، فهم من طراز واحد ترعبهم رياح الحرية والديمقراطية.

ولم يكتف الامبرياليون بما سببوه للشعب العراقي من ويلات ومصائب لا حصرلها عندما دفعوا صدام حسين لشن الحرب على ايران، تلك الحرب التي لا ناقة للشعب العراقي بها ولا جمل، كما يقول المثل، والتي ارادها أن تستمر اطول مدة ممكنة ، ولا يخرج منها احد منتصر ، كما ذكر كيسنجر في مذكراته، ودامت تلك الحرب المفجعة 8 سنوات دفع خلالها الشعب العراقي اكثر من نصف مليون من خيرة شبابه، بالاضافة للدمار والخراب الذي عم بالبلاد، وانهيار العملة العراقية وانهيار الطبقة الوسطى وانتشار المجاعة التي عمت معظم الشعب العراقي.

ثم جاءت حرب الخليج الثانية لتزيد من مآسي الشعب العراق ولاسيما بعد فرض الحصار الاقتصادي الذي دام 13سنة كانت بحق ابشع حرب تاريخية على الشعب العراقي لا على الدكتاتور وازلامه.

وكان ثالثة الاثافي الغزو الامريكي للعراق عام 2003 الذي لم يسقط نظام صدام فحسب بل اسقط العراق بكل مؤسساته وأجهزته العسكرية والامنية ليعيث به المجرمون كما يشاؤون، ولتُنهب خيرات العراق من قبل المحتلين.

ولم يكتف الرئيس الامريكي بوش الأبن آنذاك بكل ما فعله في العراق  لينصب علينا بريمر حاكما على العراق، ويحل الجيش العراق والجهاز الامني والمخابراتي، ويفصل شمال العراق بالضد من ارادة الشعب العراقي، ومن ثم لقيم نظاما طائفيا مقيتاً بقيادة احزاب الاسلام السياسي الشيعية، ومن ثم اضافة احزاب الاسلام السياسي السنية بعد تلك الحرب الأهلية التي عمت العراق عامي 2006 و2007 ، هذه الاحزاب التي لم تقدم اية مشروع يخدم الشعب العراقي البائس فكان همهم الوحيد كيف يغرفون من ثروات البلاد ما استطاعو منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا تاركين الشعب بين مشرد وبين فقير معدم ومحروما من الخدمات الضرويرة لحياته من ماء صافي للشرب وكهرباء ورعاية صحية وصرف صحي يقيهم الامراض.

وهاهي اليوم سوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس تعاني اشد المعانات بعد ما سمي بالربيع العربي، زورا وبهتانا، من حروب اهلية، وتدخلات عربية واقليمية واجنبية وعلى راسهم الولايات المتحدة التي يحلوا لها ان تسمي نفسها بالعالم الحر! وهي التي جاءت لنا بعصابات داعش لتحتل نصف العراق، وثلثي سوريا، واجزاء واسعة من ليبيا بالاضافة الى خلاياها النشطة والنائمة في تونس ومصر ولبنان والجزائر والمغرب والتي تمارس الارهاب بمختلف اشكاله والوانه، بل لقد انتقلت نشاطات عصابات داعش نحو تركيا التي استخدمتها الولايات المتحدة ممرا لعصابات داعش والنصرة وجيش الاسلام واسلحتها، وانقلب السحر على الساحر التركي، ومن ثم انتقلت إلى اوربا وهذا ما شاهدناه من الجرائم البشعة في فرنسا والمانيا وتركيا وبلجيكا وحتى امريكا نفسها، وربما القادم اعظم بعد انتشر هذا السرطان الرهيب في مختلف بقاع العالم .

 لقد عم الخراب والدمار في معظم مدن سوريا والعراق وليبيا واليمن، وازهقت ارواح الملايين من المواطنين الابرياء وتشرد عشرات الملايين على أيدي من يسمون انفسهم عرب والذين يتلقون توجيهاتهم من سيدهم الاكبر في واشنطن وفي مقدمتهم السعودية وقطر والامارات العربية المتحدة، والار دن، حيث تبعث هذه الدول بمرتزقتها الي العراق وسوريا وليبيا وتمدهم بمختلف انواع الاسلحة والاموال اللازمة لإدامة القتل والتخريب والتدمير الذي لا يبقي ولا يذر ، بدل ان تكون هذه البلدان الغنية جدا عونا للبلدان العربية الفقيرة لتحسين بنيتها الاقتصادية ومساعدة شعوبها على تجاوز محنة الملايين من اللاجئين المشردين الهاربين من الموت الزئام بقنابل طائراتكم ومتفجراتكم واسلحتكم الثقيلة والخفيفة، وعلى مرآى ومسمع العالم اجمع.

وبعد كل الذي جرى وما زال يجري في العالم العربي يعقد الحكام العرب مؤتمر القمة العربية في موريتانيا ويغيب معظم قيادات الدول العربية الفاعلة والغنية ليخرج المؤتمر بقرارات هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع. 

إن الشعوب العربية قد فقد ثقتها في هذه الجامعة بوضعها الحالي، ولا بد أن يتدارك الجميع إصلاح الأمر، وبناء جامعة عربية جديدة تعمل بصدق وتفانٍ من أجل جمع العرب تحت مضلة الديمقراطية والحرية الحقيقية والسلام ، وبناء اقتصاد عربي متكامل، وعملة عربية واحدة، وتعاون وثيق في كافة المجالات، وهذا لن يتم إلا عبر أنظمة ديمقراطية تحترم إرادة شعوبها، وتتفانى في خدمته، لا كما تفعل اليوم حيث قد سخرت شعوبها لخدمتها، وسلبتهم كل حقوقهم وحرياتهم، واستأثرت بخيرات البلاد على حساب بؤس ومعانات شعوبها.

ايها الشعوب العربية أن احلامكم في عالم عربي متحد تعيشون في ظله حياة كريمة وعزيزة لن يتأتى من حكامكم الذين تتناقض مصالحهم كل التناقض مع اهدافكم النبيلة، وعليكم أن تأخذوا الامر بأيديكم من خلال الضفط على حكامكم ومواصلة الكفاح من اجل قيام وحدة فيدرالية كخطوة أولى، والاقتداء بدول الوحدة الاوربية التي اقامت الاتحاد الاوربي، والسعي لوحدة النقد العربي، والتكامل الاقتصادي وتوحيد القوانين المتعلقة بحياة الانسان بما يتفق مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وتحقيق الحياة الكريمة، ولا شك في ان العالم العربي بما يمتلكه من ثروات هائلة، وكوادر فنية كبيرة على امتداد العالم العربي من الخليج الى المحيط لهو قادر بكل تأكيد على تحقيق أعلى مستوى معيشة لكل الشعوب العربية، وقادر ايضا على خلق كيان كبير وقوي يمكن ان يبز العالم اجمع أذا ما استخدمت ثرواتنا من أجل خير وسلام وسعادة الجميع، فهل تعي الشعوب العربية، وتبادر العمل بجد واندفاع واخلاص وتضحية لتحقيق هذا الحلم الجميل؟؟
 
   





120
ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة
والدروس والعبر منها
حامد الحمداني                                           14 تموز 2016

لم تكن ثورة 14 تموز1958 التي قادها الشهيد عبد الكريم قاسم انقلاباً عسكرياً كما يحلوا للبعض أن يسميها، بل كانت ثورة شعبية كان رأس رمحها اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، وشاركت فيها كل القوى السياسية من أقصى يمينها المتمثل بحزب الاستقلال، وحزب البعث، حتى أقصى يسارها المتمثل بالحزب الشيوعي، بالإضافة إلى الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني مدعومة بالجماهير الشعبية الواسعة التي نزلت إلى الشوارع في الساعات الأولى من صبيحة ذلك اليوم.

كان في مقدمة القوى التي التفت حول الثورة وقيادتها واحتضنتها وذادت عنها من تآمر القوى البعثية والقومية والعناصر الرجعية المرتبطة بالإمبريالية هي الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان ذلك الموقف لهذه الأحزاب أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان.

لكن الأحداث التي جرت في البلاد، والمؤامرات التي حيكت ضدها من قبل القوى اليمينية والقومية المدعومة من قبل عبد الناصر والقوى الإمبريالية،   والثورة ما تزال في أيامها الأولي، عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار، من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية، والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل .

فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس؟
ومن كان السبب في كل ما جرى ؟
وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف؟
في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه .


لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني، وكان في مقدمة تلك الإنجازات:
1 ـ الخروج من حلف بغداد، وتحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية.

2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير العملة العراقية .

3ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين الذين يشكلون 70% من نفوس العراق وإنقاذهم من طغيان الإقطاع، وكان القانون يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى.

4 ـ إصدار القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق النفطية من شركات النفط .
5 ـ إصدار قانون تشكيل شركة النفط الوطنية كي تقوم باستثمار المناطق النفطية المسحوبة من شركات النفط وطنياً .

6ـ السماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية تشكيل المنظمات والنقابات منذ انبثاق الثورة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم مسألة تأليف الأحزاب السياسية.

7ـ إزالة حزام الفقر حول بغداد ، وتشييد مدينة الثورة ومدينة الشعلة لإسكان مئات الألوف من الفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين، وسكنوا تلك الصرائف حول بغداد، والتي لا تتوفر فيها أي من الشروط التي تليق بالإنسان

8 ـ أقامة علاقات اقتصادية وسياسية وفي كافة المجالات الأخرى مع سائر دول العالم على أساس المنافع المشتركة والاحترام المتبادل لسيادة واستقلال العراق .
9 ـ أقامة جملة من المشاريع الصناعية التي كان يفتقدها العراق في مختلف الفروع، وامتصاص البطالة التي كانت مستشرية، وعمل جاهداً على رفع مستوى معيشة الشعب.
 10 ـ توزيع مئات الألوف من الأراضي السكنية على المواطنين من ذوي الدخل المحدود، وتقديم القروض لهم لبناء المساكن فيها، ونشر التعليم في مختلف مناطق العراق من خلال أقامة ألوف المدارس في القرى والأرياف التي كانت محرومة منها.

ولا مجال أن أطيل في تعداد إنجازات الثورة، لكنني أستطيع أن أقول أن الزمان لو طال  بعمر الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تجعل من العراق أرقى بلد في المنطقة .
فالزعيم الشهيد عبد الكريم كما يتفق الجميع، وحتى أعدائه لم يحقق أي مصلحة لنفسه أو لعائلته، ولم يبني له قصراً، ولا حتى داراً متواضعاً، ولم يتخذ له ديواناً ضخماً، ولم يتملك شيئا، ولم يتنقل بمواكب ضخمة من الحراسة والحماية، فقد كان محبوباً من قبل الشعب، كما كان حريصاً على أموال الشعب، وكان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً كأي مواطن آخر، ولقد قُدر لي أن أزوره في مقره بوزارة الدفاع ضمن وفد لنقابة المعلمين في أواخر شهر شباط عام 1959، واطلعنا على مقره البسيط وغرفة نومه المتواضعة جداً.
عبد الكريم قاسم لم يكن شوفينياً، بل على العكس من ذلك كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة  وضم العديد منهم في حكومته.

إذا الطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني منذ ايامها الاولى، وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل تناقضاً أساسياً .

كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث الحزب الديمقراطي الكردستاني، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، والمتمثلة بالولايات المتحدة وبريطانيا بالإضافة إلى حكومة عبد الناصر، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية فلماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟

وإنصافاً للحقيقة أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء كانوا مسؤولين عما حدث، واليوم وبعد مضي 53 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بشعبنا العراقي بعربه وكورده وسائر مكوناته الأخرى نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد. لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليبها التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
كان الحاح الحزب الشيوعي على المشاركة في السلطة، وخاصة بعد تقديم تلك المذكرة المسهبة التي قدمها الحزب للزعيم في 15 تشرين الثاني 1958، والتي طالبته في اشراك الحزب في السلطة قد ادخلت الريبة والشكوك في نفس الزعيم عبد الكريم قاسم من تعاظم قوة الحزب وهيمنته على المقاومة الشعبية التي بدت وكأنها ميليشيا تابعة للحزب، واستئثاره بقيادة كافة الاتحادات العمالية والفلاحية وسائر النقابات والجمعيات، قد اثارت القلق لديه، ولدى قيادة الحزب الوطني الديمقراطي.

   وجاءت مسيرة الأول من أيارـ  عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار إشراك الحزب الشيوعي في السلطة [عاش زعيمي عبد الكريمي، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي وجماهير الحزب، من العمال والفلاحين، والمدرسين والطلاب والأطباء والمحامين والمثقفين كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بكتلة [ محمد حديد وحسين جميل ] ورفاقهم، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم، حتى أن رئيس جهاز المخابرات الامريكية [ الن دلس] صرح في ذلك اليوم قائلا:
 {أن اخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع في العراق}

كان الأجدى بالحزب آنذاك أن يركز نضاله على الأمرين الأساسيين [إنهاء فترة الانتقال وانتخاب مجلس تأسيسي] و[سن دستور دائمي للبلاد] ويخوض الحزب الانتخابات التي ستقرر مصير العراق.

لقد استفز الحزب الشيوعي الزعيم عبد الكريم قاسم والبرجوازية الوطنية على حد سواء، ومارست القيادة اليمينة للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة محمد حديد الضغوط على الزعيم وتخويفه من تنامي نشاط الحزب الشيوعي وتطلعاته للسلطة، كما ساهمت القوى الامبريالية في تحذير عبد الكريم قاسم مما سمته بالخطر الشيوعي، وجاءت المحاولة الانقلابية لقائد كتيبة الدبابات الرابعة في ابي غريب المقدم الشيوعي فاضل البياتي- من دون علم الحزب- واعتقال البياتي ومعه عدد من الضباط في إمرة الادارة بوزارة الدفاع ليشكل القشة التي قصمت ظهر البعير ،كما يقول المثل، ويقرر عبد الكريم قاسم تصفية نفوذ الحزب الشيوعي بعد أن كان في مقتبل الثورة قد فسح له المجال للعمل واسعا، واطلق سراح كافة السجناء الشيوعيين، ومكّن الحزب من قيادة المنظمات الوطنية والنقابات والاتحادات والجمعيات، وفي الوظائف العليا في البلاد.   
وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع الحزب الشيوعي ظناً منه أن الأخطار تأتيه من هذا الجانب وليس من جانب القوى التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً .

 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبينا.

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لتدارس وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك، حيث من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولا سيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله !!.
وجاءت الخلافات العميقة التي حدثت بين قيادة عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مصطفى البارزاني،  ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح، واستخدام السلطة للجيش في حسم ذلك الصراع .
فقد بدأت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والسلطة بالتدهور عام 1961، عندما هاجمت صحيفة الحزب [خه بات] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد، واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة. (2)
في تلك الظروف المعقدة اندلعت حركة تمرد رجعية بقيادة اثنان من كبار الإقطاعيين هما [رشيد لولان ] و [عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان وعباس مامند  إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها شاه إيران  زعزعة النظام الجديد في العراق وإسقاطه، وقد بادر الزعيم عبد الكريم قاسم بارسال عدد من القطعات المسلحة نحو الحدود العراقية الإيرانية لإخماد التمرد قبل استفحاله .

أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد استهل صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 1961 ، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون الأكراد باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة!

كان على القيادة الكردية أن تقدر دوافع تلك الحركة، وطبيعة القائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، وعدم تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية وأذنابها، سواء كانوا عرباً كما هو الحال مع حزب البعث وحلفائه القوميين أو كانوا من الكرد، كما هو الحال مع تمرد الاقطاعيين رشيد لولان وعباس مامند.

كما أن عبد الكريم قاسم فضل هو الآخر اللجوء إلى استخدام القوة ورفض  الحوار، وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول الصائبة للقضية الكردية، حسب ما نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المؤقت.
 ظن الزعيم عبد الكريم قاسم أن اللجوء إلى السلاح سينهي الأزمة خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة  وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز يوم الثامن من شباط 1963.

لقد رد الزعيم عبد الكريم قاسم  بدفع المزيد من قطعات الجيش في 9 أيلول 961، لضرب الحركة الكردية مستخدمأً كافة الأسلحة والطائرات،  وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان، وذهبت كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، وإيجاد حل سلمي للقضية الكردية أدراج الرياح،  وتمزقت الوحدة الوطنية، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها، ومع السلطة جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء.
ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان قادراً أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف، ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة والتي يمكن أن نلخصها بالتالي :

لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة [عفا الله عما سلف] و[سياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات]، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وحاولوا قتله في رأس القرية واصابوه بالرصاص وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة والقوى الساعية لاغتيالها، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل مسؤوليته الكاملة.
لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]، وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها، بحيث أصبحت لدى الزعيم القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي، والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية ومن ثم إلغائها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم.
  لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963.

لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قراراتها، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية، فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية، فقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة وعزلها عن الشعب.

كما أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة الصراع مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً.

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
لقد كان على عبد الكريم قاسم إن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه، لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً، فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 1963.  وهكذا أصبح النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها.
كما اخطأ عبد الكريم قاسم في اعتماده على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه تغيير سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته، ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية والحركات التآمرية على السلطة  وحماية المتآمرين .
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[محسن الرفيعي] ومن قبله[ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه. 

أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط، أي قبل وقوع الانقلاب بيومين، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط اليساريين، بعد ان ابعد الزعيم كل العناصر الوطنية في الجيش وفي الجهاز الاداري، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين. ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء.

كما اخطأ الزعيم في إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد، والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالامكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.

ولم يكن هناك ما يُخيف الزعيم عبد الكريم قاسم على موقعه كقائد لثورة 14 تموز حيث كان يتمتع بشعبية كبرى لم يتمتع بمثلها أي زعيم عراقي أو عربي من قبل، وكنت على يقين أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لو شاء أن يشكل له حزباً سياسياً آنذاك، ويشارك في الانتخابات فإن حزبه كان سيفوز فوزا كاسحاًعلى جميع الأحزاب، ولست أنا من يقول ذلك فقط، بل أن الحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد أعترف في أدبياته ونشراته الداخلية في رده على  الأفكار والدعوات التي ظهرت في صفوف الحزب داعية إلى استلام السلطة أن هذه الشعبية التي نشهدها في الشارع العراقي هي شعبية الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يمجده الشعب.

 لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات] و[ وسياسة عفا الله عما سلف ] ، وأطلق سراح المتآمرين المحكومين بالإعدام والذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس]، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها  وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم، وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة  حيث استطاع حزب البعث المتحالف مع القوى القومية والرجعية والاقطاعية  والمدعوم من قبل عبد الناصر والقوى الإمبريالية من استغلال تشتت القوى الديمقراطية، وانعزال سلطة عبد الكريم قاسم، إلى إنزال الضربة القاضية بثورة 14 تموز المجيدة واغتيال قائدها عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار، والتنكيل بقيادة وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي، وسائر الوطنيين والديمقراطيين، وإغراق العراق بالدماء.



121
من اجل اعادة حقوق قائد ثورة 14 تموز
الشهيد عبد الكريم قاسم

حامد الحمداني                                                       22/6/2004

لم يشهد العراق عبر كل تاريخه حاكماً اتصف بالوطنية الصادقة ومعاداة الاستعمار، والعفة، والنزاهة، والأمانة وسمو الخلق، والتواضع الشديد، والزهد، ورفض الأبهة، والحرص على ثروة العراق، والشعور الصادق بمعانات الفقراء، والحرص على تأمين حياة كريمة لهم كالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم.

ولم يحضَ أي حاكم من قبل بتلك المحبة الصادقة والنابعة من قلوب جماهير الشعب العراقي، على الرغم من كل أخطائه، كما حضي الزعيم الشهيد، الذي كان يصر على التنقل بسيارته العادية غير المصفحة، كما يفعل قادة الدول، ولم يتخذ له في تنقلاته أي نوع من الحماية من قوات الجيش والشرطة السرية والعلنية، وإغلاق الطرق، كما يفعل القادة الدول. ولذلك استوحده البعثيون في رأس القرية بشارع الرشيد محاولين قتله، فلم يك معه غير مرافقه وسائق السيارة، ومن دون اية حماية، واصابوه بعدة رصاصات، ونجا من الموت بإعجوبة.

كان يدرك أنه يعيش في قلوب الشعب، حريصاً على التواصل معه ببساطته المعهودة، وشعوره الفياض بحب الشعب والوطن والحرص على مصالحهما
ولم يفعل أي شيئ طيلة فترة حكمه لنفسه ولا لعائلته، ولم يتخذ له قصراً منيفاً، ولا مزارع وأطيان، ولم يمتلك رصيداً في البنوك، ولم يحاول أن يؤسس له حزباً سياسياً، ولو فعل ذلك وجرت انتخابات حرة ديمقراطية في البلاد لكان حزبه هو الفائز بكل تأكيد.

 لكنه كان يردد دائماً شعاراته المعروفة [إنني فوق الميول وفوق الاتجاهات ] و [عفا الله عما سلف] و[ الرحمة فوق القانون ]!!، وهذه الشعارات هي التي استغلتها قوى الفاشية والظلام لتدبير المحاولات الانقلابية المتتالية منذ الأيام الأولى لنجاح الثورة وتأسيس الجمهورية، وتكلل بالنجاح مع شديد الأسف انقلاب الثامن من شباط الدموي الفاشي 1963الذي دبرته القوى الإمبريالية، ونفذه البعثيون بالتحالف مع جانب من القوى القومية، بعد أن مهدوا له استقطاب الإقطاعيين، والقوى الرجعية، و القوى الإقليمية القومية المتمثلة بشاه إيران محمد رضا بهلوي و نظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر .

 ومن المؤسف أن تتخذ لها المرجعية الدينية في النجف بزعامة محسن الحكيم، والتي كان يحرص الزعيم عبد الكريم قاسم على حسن العلاقة معه من خلال الزيارات المتكررة له، موقفاً معاديا للزعيم ولثورة الرابع عشر من تموز، و تضع ثقلها إلى جانب الانقلابيين، وتتجاهل تصفيتهم الوحشية للزعيم وصحبه الشهداء الأبرار دون محاكمة عادلة أمام الشعب كما كان يجري  في ذلك العهد حيث يتم نقل المحاكمات عن طريق التلفزيون والإذاعة معاً  ليطلع عليها الشعب العراقي والعالم اجمع .

لقد عفا الزعيم الشهيد عن المحكومين بالإعدام الذين حاولوا قتله في رأس القرية وأصابوه بإصابات خطيرة، وعفا عن عبد السلام المحكوم بالإعدام كذلك لمحاوله قتله في مقره بوزارة الدفاع، لينتهي به المطاف بيد هؤلاء القتلة المجرمين بعد نجاح انقلابهم المشؤوم فلم يوفروا له محاكمة عادلة، ولم يردّوا له الجميل، فقد كانت قلوبهم قد امتلأت حقداً وإصراراً على سفك دمه ودم رفاقه الأخيار، والانتقام من كل العناصر الوطنية الصادقة والشريفة فكانت مجزرة كبرى ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة الوطنيين المحبين لشعبهم ووطنهم .

لقد استكثر القتلة السفاحون على الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء الوطنيين الأبرار حتى قبورهم، وهذا الفعل الخسيس يعبر بدون أدنى شك عن ذلك المنحدر السلوكي المتردي نحو الحضيض للانقلابيين الجبناء الذين أخافتهم قبور الشهداء.

أنظروا إلى مصير أعضاء تلك الزمرة الخائنة والجبانة واحداً واحداً، أين هم اليوم؟ وكيف انتهوا؟ لقد ذهب اغلبهم قتلاً على أيدي بعضهم البعض في صراعهم على السلطة، وكلما حلت ذكرى انقلاب 8 شباط المشؤوم يصب عليهم أبناء شعبنا اللعنات بسبب ما اقترفته أياديهم القذرة من جرائم بحق الشعب والوطن وقادته الخالدين  .

 أما الشهيد عبد الكريم قاسم وكافة الشهداء الذين رحلوا معه فقد خلدهم التاريخ، وخلدهم كل الطييبين من أبناء شعبنا في قلوبهم، وفي كل عام يتذكر الشعب قادته الوطنيين ويمجدونهم، ويتحدثون عن مآثرهم الخالدة، وتضحياتهم الكبيرة.

إننا ندعو أبناء شعبنا البررة، وفي المقدمة منهم الكتاب والمثقفين والأدباء والفنانين لمطالبة حكومة العراق إعادة الحقوق المشروعة للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار، وفي المقدمة منها:

1 ـ إيجاد جثمان الشهيد عبد الكريم قاسم وكذلك جثامين صحبه الشهداء، الأبرار، وإقامة مقبرة خاصة لهم تليق بمقامهم السامي لدى شعبنا.

2 ـ  إعادة اسم مدينة الثورة إلى بانيها أبو الفقراء الشهيد عبد الكريم قاسم، وإطلاق اسمه على المؤسسات التي أقامها في مختلف المدن العراقية.

3 ـ إعادة بيت الزعيم الراحل واتخاذه  متحفاً لمقتنياته وكل ما يتعلق بثورة الرابع عشر من تموز، واستملاك المنطقة المحيطة به لتوسيع المتحف لكي يضم كل المتعلقات بثورة 14 تموز الخالدة .

4 ـ إصدار تشريع بإعادة علم ثورة الرابع عشر من تموز الذي يعبر أروع تعبير عن الاخوة العربية الكردية وسائر القوميات الأخرى المتآخية في العراق، والكف عن الإصرار على بقاء علم صدام وحزبه الفاشي يذكرنا بجرائمه بحق الشعب والوطن .

6 ـ رفع وإزالة كل الكتب والمؤلفات التي سطرها وعّاظ السلاطين من الانتهازيين التي تمجد طاغية العراق وفكره الفاشي، والتي تشكل إساءة للزعيم الراحل، وتشوه الوجه المشرق لثورة الرابع عشر من تموز 1958 ومنجزاتها الكبيرة .

إن هذه المطالب هي اقل ما يجب أن نؤديه للشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الابرار الذين حرروا العراق من الهيمنة البريطانية والامريكية، واقام لأول مرة في تاريخ العراق حكومة وطنية خارج ارادة الامبرياليين في حين كانت الوزارات العراقية قبل الثورة تؤلف في السفارة البريطانية، وما ما اشبه اليوم بالبارحة، فهاهو العراق اليوم لا تؤلف حكوماته إلا بإرادة السفير الامريكي القابع في المنطقة الخضراء على رأس أكبر سفارة امريكية في العالم منذ الغزو الامريكي للعراق عام 2003 وحتى يومنا هذا، والذي اوصل العراق إلى هذه الحالة المأساوية  العصيبة الحل.

122
الدعوة لتقسيم العراق خيانة وطنية عظمى
حامد الحمداني                                                   19/6/2016
أثارت التصريحات الأخيرة للسيد مسرور البارزاني، التي عبر فيها عن حلمه بتقسيم العراق إلى دويلات ثلاث، دولة كردية، ودولة سنية، ودولة شيعية، وسعي القيادة الكردية لإنشاء جيش كردي الشكوك والقلق العميق حول الاهداف الحقيقية لهذا الجيش من لدن سائر العراقيين بمختلف أطيافهم، وزعزعت الثقة في نوايا السلطة القائمة في كردستان العراق حول مستقبل الفيدرالية، والتي تشير كل التوقعات إلى أن هذه الفيدرالية ليست سوى مرحلة انتقالية استهدفت من ورائها القيادات القومية الكردية تحقيق أقصى ما يمكن من  المكاسب على الأرض، واستنزاف أقصى ما يمكن من مدخولات العراق النفطية من جهة أخرى، وترصين الكيان القائم في كردستان العراق، وتعزيز قوات ميليشيا البيشمركة تدريباً وتسليحاً، وإعدادها للمرحلة القادمة التي تستهدف الضم القسري لمساحات شاسعة من محافظات الموصل وديالى بالإضافة إلى محافظة كركوك الغنية بالنفط قبل إعلان استقلال منطقة كردستان عن الوطن الأم.         

 إن القيادات القومية الكردية كانت قد حسمت أمرها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما تم فصل محافظات السليمانية وأربيل ودهوك عن الوطن العراقي تحت الحماية الأمريكية ومظلتها الجوية، بالانفصال عن العراق شعباً ووطناً، ومارست، وما تزال تمارس القطيعة بين الكرد والعرب، وعلى الأخص في مجال اللغة حيث نشأ في كردستان العراق جيلاً لايعرف العربية، بالتالي لا يستطيع التفاهم مع أخوته العرب العراقيين، مما شكل انفصالاً حقيقياً بين شعبين لا تربطهم أية رابطة، لغات منفصلة، وأرض منفصلة، وشعب منفصل، مع اشباع الأجيال الكردية الناهضة بروح التعصب والعنصرية، والكراهية لأخوتهم العرب الذين وقفوا إلى جانبهم منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، والذين دعموا حقوق الشعب الكردي بكل ما أوتوا من قوة، بما فيها حملهم السلاح إلى جانب إخوتهم الكرد.                                                                                 
                                                                                 
لقد تكشفت نوايا القيادات الكردية الهادفة إلى تمزيق الكيان العراقي منذ بداية الاحتلال الأمريكي عندما سيطرت قوات البيشمركة الكردية على أسلحة الفيالق الثلاث التي كانت مرابطة على تخوم كردستان، ولم تسلمها للجيش العراقي، بل على العكس بادرت إلى شراء ونقل مختلف انواع الأسلحة من بلدان أوربية مختلفة، فضحتها صحيفة نيويوك تايم.                        .                                                           
 ومن جهة أخرى سعيها لإثارة النعرات القومية والتعصب الأعمى، واعداد الشعب الكردي للدخول في صراع مسلح ضد إخوتهم أبناء الشعب العربي، ومكوناته الأخرى من التركمان والآشوريين والشبك، حول ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وتكررت لهجة التهديدات المتصاعدة والصادرة عن مسعود البارزاني ورئيس وزرائه نجرفان البارزاني مستغلين الأزمة العراقية الراهنة لتحقيق اقصى المكاسب على الأرض، وفي الوقت نفسه إعداد جيشهم للمعركة الفاصلة إذا لم تتحقق أحلامهم في الاستحواذ على مايسمونه بالمناطق المتنازع عليها!!

من حقنا أن نسأل السيد البارزاني السوآل التالي، وندعوه للإجابة عنه بصراحة:
 مَنْ ستحاربون بهذا الجيش الموعود؟
هل ستحاربون به تركيا ؟ أم تحاربون إيران؟
لا شك في أن هذا الأمر مستحيل، ومهما تسلحتم واستعد جيشكم فليس لديكم القدرة على محاربة هذين البلدين.

إذا العدو الذي تستعدون لمحاربته هو الشعب العراقي بكل تأكيد، انها فرصتكم في تحقيق طموحاتكم في العراق الجريح، العراق المحتل، العراق الذي تتناحر فيه القوى السياسية الطائفية التي نصبها المحتلون لحكم البلاد في صراعها على السلطة والثروة، فلم تعد هذه القوى تؤمن بالوطنية العراقية، وهي التي شاركتكم في وضع هذا الدستور المسخ لكي تقسموا العراق على هواكم.

لكن الشعب العراقي قد افاق من غيبوبته بعد هذه السنوات العجاف التي تلت الغزو الأمريكي للعراق، وبعد كل الويلات والمآسي والدماء والدموع التي شهدها وتجرعها، وقد ادرك كم هو أخطأ عندما صوت لهذه القوى الطائفية والعنصرية في الانتخابات السابقة، وفي الاستفتاء على الدستور الذي جرى تفصيله على مقاسكم، والذي بات اليوم يشكل مشروع حرب أهلية وقومية!

لكن الحلم بتمزيق العراق قد بات عسيراً بعد أن وعي الشعب العراقي لما يخطط له، وهو سوف يقف بالمرصاد لأفشال هذه المخططات الشريرة، وإن من يفكر في اشعال نار الحرب الأهلية سيكون أول المحترقين فيها، وإن هذه الحرب سوف لن تكون نزهة، ولن تكون محصورة في نطاق العراق، بل ستمتد لتصبح حرباً أقليمية قومية، وستحل الكارثة بالجميع، وعلى القيادات القومية الكردية أن تكون أكثر حرصاً على مصالح الشعب الكردي، وتتجنب زجه في حرب كارثية لن يجن منها الجميع سوى الدماء والدموع، والخراب والدمار.
ويبادر إلى الذهن السوآل التالي:
 هل من مصلحة الشعب الكردي الانفصال في هذه المرحلة؟ وما تأثير ذلك على مستقبل قضية الشعب الكردي في كل من تركيا وإيران وسوريا؟

واستطيع الإجابة بكل ثقة أن الانفصال في هذه المرحلة، وخوض الصراع المسلح مع الشعب العربي في العراق، سيؤديان إلى نتائج خطيرة بالنسبة لمستقبل القضية الكردية في تركيا وإيران وسوريا، وستؤخر إلى أمد بعيد مسألة تحقيق الحقوق القومية للشعب الكردي، ويزعزع ثقة حكام هذه الدول بنوايا الكرد، وتؤدي إلى تدهور العلاقة القائمة حالياً نحو الأسوأ من الصراع المسلح، حيث ستؤدي التجربة العراقية إلى رد فعل شديد من قبل حكام البلدان الثلاث تجاه نوايا الكرد في بلدانهم، ولنا فيما يجري الآن في تركيا من أحداث دامية بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني خير مثال على ذلك.

إن سياسية حرق المراحل لتحقيق طموحات الشعب الكردي لن تجلب الخير له أبداً،  بل على العكس من ذلك يمكن أن تسبب له كارثة حقيقية، وإن حصول الشعب الكردي في البلدان الثلاث المجاورة سيتوقف على سلوك القيادة الكردية في العراق تجاه الدولة العراقية، وبقدر ما تعزز القيادة الكردية في العراق علاقات الأخوة بين الشعبين، واعادة الروابط التاريخية والكفاح المشترك من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بقدر ما تتفهم حكومات الدول المجاورة لحقوق وحريات الشعب الكردي في بلدانها اسوة بالعراق الذي نال حقوقه وحريته على اوسع نطاق، وتستفيد من التجربة العراقية في حل المشكلة الكردية في بلدانها لتبلغ ما بلغه الشعب الكردي في العراق من حقوق قومية، وهذا ما طرحته في كتابي الموسوم [ لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية في العراق ] في الفصل الأخير تحت عنوان {الشعب الكردي وحق تقرير المصير وآفاق المستقبل}.

أما مسألة اقامة الدولة الكردية بنطاقها الواسع فتلك مسألة تتطلب وقتاً ليس بالقصير عندما تقام انظمة ديمقراطية متطورة في هذه البلدان تمكنها من حل القضية الكردية حلاً جذرياً باسلوب سلمي ديمقراطي، بعيداً عن اساليب الفرض بالقوة والحروب والعنف التي لن تجلب الخير لأحد.

ولآمد طويل سيبقى العراق خيمة للشعب الكردي يعيش جنباً إلى جنب مع إخوته العرب والتركمان والاشوريين، وسائر المكونات الشعب الأخرى، فلا تدعوا مجالاً للتعصب والكراهية، ولنعمل جميعاً جاهدين على إعادة اللحمة بين سائر مكونات الشعب العراقي، ولنمد أيدينا إلى بعضها، ونصفي القلوب من الضغائن، فهذا هو الطريق، ولا طريقاً غيره لخير وسعادة كافة ابناء الشعب العراقي بكل أطيافه تغمرهم المحبة، ويسود التآخي بين الشعوب جميعاً دون تمييز. 
 
 




   
       

123
في الذكرى الثامنة والستين للنكبة
أضواء على تطورات القضية الفلسطينية
الحلقة الثالثة 3/3
حامد الحمداني                                                              18/5/2016

استئناف القتال، والولايات المتحدة تفرض هدنة جديدة:


أجبر مجلس الأمن الدول العربية على وقف القتال قي فلسطين اعتباراً من 11 حزيران 1948 وعين الوسيط الدولي [ الكونت برنادوت ] لوضع حل سلمي للمشكلة الفلسطينية !!، كان أحد شروط الهدنة هو عدم استفادة أي طرف من الأطراف لتعزيز قواته، أو تحريكها.

 لكن الحقيقة أن المنظمات الصهاينة الارهابية استفادت من كل يوم، بل وكل ساعة لتعزيز مواقعها، ولجلب الأسلحة والطائرات التي أخذت تنهال عليها من الإمبرياليين الأمريكيين والإنكليز وغيرهم، فيما بقيت القوات العربية ملتزمة ببنود الهدنة، ولم تسعَ إلى تقوية مركزها، معتمدة على مصداقية مجلس الأمن!!.

لكن الدول العربية اضطرت في نهاية المطاف، وبعد أن وجدت التعزيزات العسكرية الصهيونية تجري ليل نهار، إلى استئناف القتال من جديد في 9 تموز، وفوجئت القوات العربية بأخذ القوات الصهيونية زمام المبادرة من أيديهم، وبدأت تهاجمهم بعنف، وخسرت القوات العربية  [صفد] و[الناصرة] و [اللد] و[الرملة] والعديد من القرى العربية، وتشرد الألوف الجدد من أبناء الشعب الفلسطيني، تاركين ديارهم وأملاكهم وأموالهم، هرباً من المذابح الصهيونية.

 وهكذا استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن تفرض على العرب هدنة جديدة، في 18 تموز 1948، وتخاذل الحكام العرب، وقبلت أربعة دول عربية هي مصر والأردن والسعودية واليمن  مبدأ التقسيم، فيما رفضت الحكومتان السورية والعراقية الهدنة، لكن الموافقة على القرار تم بالأكثرية وقبل العرب إجراء مفاوضات لعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في [لوزان ] بسويسرا.
 وقد استنكرت الأحزاب الوطنية في العراق قرار مجلس الأمن، وقبول الحكام العرب له، في بيان مشترك صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار.

 كما سيروا المظاهرات في بغداد يوم الجمعة المصادف 23 تموز 1948، احتجاجاً على قبول الهدنة، في حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً يدعو فيه إلى وقف القتال، وسحب الجيوش العربية، والقبول بقرار مجلس الأمن، وكان ذلك الموقف استمراراً لمواقفه الخاطئة من القضية الفلسطينية، والتي أضرّت بالحزب وشعبيته ضرراً بليغاً .

تطورات درامية في حرب فلسطين:
لعب الملك عبد الله، وقائد جيشه البريطاني [ كلوب باشا ] دوراً خيانيا مشهوداً، بعد أن تولى الاثنان قيادة الجيوش العربية في القاطعين الشمالي والشرقي من الجبهة .
 فبعد أن أقّر رؤساء الأركان العرب في اجتماع [ الزرقاء ] خطة عسكرية فعالة لمجابهة القوات الصهيونية، أعترض عليها كلوب باشا واستبدلها بخطة جديدة، فقد أدرك كلوب أن تنفيذ تلك الخطة سوف تفشل المخطط الإمبريالي الصهيوني، وخطة الملك عبد الله الطامع في الأرض الفلسطينية، وكان بإمكان تلك الخطة القضاء على القوات الصهيونية، ولكن إقدام كلوب باشا على إبدالها أدى إلى الفشل الذريع للجيوش العربية،  وبالتالي أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة.

كان هذا على الجبهتين الشمالية والشرقية، أما على الجبهة الجنوبية التي حارب فيها الجيش المصري فكانت الخيانة اعظم، عندما جرى تجهيز الجيش المصري بالعتاد الفاسد، مما سبب كارثة للجيش، ومكّن القوات الصهيونية من محاصرته في الفالوجه، وإلحاق الخسائر الجسيمة به والاستيلاء على الفالوجة .

وعلى الأثر سافر رئيس الوزراء، مزاحم الباجه جي، إلى القاهرة، والتقى زميله رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي ] وبحثا الأحوال بعد سقوط الفالوجة، وجرى الاتفاق على إرسال لواء عراقي آلي مع فوجين سوريين لمساعدة الجيش المصري، وتم الاتفاق على موعد الهجوم على الفالوجة.

  ولما اطلع كلوب باشا على الخطة رفضها فوراً، وأعلن أن الجيش الأردني في منطقة القدس لن يسمح بمرور القوات العراقية والسورية، وبذلك أفشل كلوب باشا خطة رؤساء الأركان العرب لمساعدة الجيش المصري، والذي بقي يقاتل لوحده متحملاً ضغط القوات الصهيونية .

وبانكشاف هذه المؤامرة الجديدة على القضية الفلسطينية، قامت المظاهرات العارمة في بغداد احتجاجاً على تخاذل الحكومة، وضلوع العرشين الهاشميين في تلك المؤامرة، وقد وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، أصيب على أثرها أكثر من 200 من المواطنين بجراح، واعتقلت السلطات أعداد كبيرة أخرى منهم .

كما قام وفد من نواب المعارضة بمقابلة ولي العهد عبد الإله، ورئيس الوزراء الباجه جي، بعد اجتماع عقده نواب المعارضة، وقدموا مذكرة باسم المعارضة لهما، وقد دعت المذكرة إلى عدم التزام العراق بالهدنة التي تنتهكها إسرائيل باستمرار، والعمل فوراً على تقديم العون العسكري للقوات المصرية التي بقيت تقاتل لوحدها، وقطع النفط عن الدول الإمبريالية التي تدعم العصابات الصهيونية، وإنذار بريطانيا بإلغاء معاهدة التحالف معها إذا ما استمرت في سياستها الحالية .

كما فضحت المذكرة الدور الخياني لحكومة الأردن، وحذرت من أن  ترك مصر لوحدها سوف يؤدي إلى انهيار الجامعة العربية، وانعزال مصر عن القضايا العربية، وفقدان الأمل في قيام وحدة عربية .

 وقد وقّع على المذكرة كل من السادة النواب : خميس الضاري  ـ ذيبان الغبان  ـ داؤد السعدي ـ عبد الرزاق الظاهر  ـ محمد حديد ـ عبد الجبار الجومرد ـ عبد الكريم كنه  ـ فائق السامرائي  ـ إسماعيل الغانم  ـ  روفائيل بطي ـ عبد القادر العاني  ـ نجيب الصايغ ـ عبد الرزاق الشيخلي ـ هاشم بركات ـ حسن عبد الرحمن ـ جعفر البدر ـ ريسان كاطع ـ مصلح النقشبندي ـ خدوري خدوري  ـ جميل صادق ـ برهان الدين باش أعيان  ـ عبد الرحمن الجليلي  ـ محمد مهدي كبه  ـ حسين جميل ـ أركان العبادي ، وقد قدم النواب صورة من هذه المذكرة إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان .

وبالنظر لتطور الأحداث بهذا الشكل المتسارع، وشدة الانتقادات التي وُجهت للحكومة، ولخطورة الموقف، لم يجد مزاحم الباجه جي أمامه من طريق سوى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي، في 6 كانون الثاني 1949، وتم قبول الاستقالة على الفور، وكلف الوصي رجل بريطانيا القوي في العراق  نوري السعيد، لتأليف وزارته العاشرة  في اليوم نفسه .

سادسا: مصير القسم العربي من فلسطين: 
بعد إعلان قبول الدول العربية بالهدنة الثانية، والقبول بتقسيم فلسطين، قدمت الحكومة المصرية اقتراحاً لجامعة الدول العربية يقضي بإعلان حكومة عموم فلسطين العربية، على أن يعّين [ احمد عرابي باشا ] حاكماً عليها، وقد أيد العراق الاقتراح المصري، وأيده فيما بعد كل من  لبنان والسعودية واليمن، وعارضه الملك عبد الله الذي كانت بريطانيا قد وعدته أثناء زيارته الرسمية للندن  في 21 شباط 1946 بضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارته [ شرق الأردن ]آنذاك، إذا ما حان الوقت لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولذلك جاءت معارضة الملك عبد الله، والتي اتسمت بالشدة،  وهدد باتخاذ أشد الإجراءات الهادفة إلى إحباط الاقتراح المصري .

ودبر الملك عبد الله، بالتعاون مع الإنكليز، ما سمي [مؤتمر أريحا ] والذي جاءوا له بعدد من الشخصيات الفلسطينية الموالية لبريطانيا، وللملك عبد الله، ليقرروا ضم الجزء العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن لتشكل دولة الأردن بضفتيه.   

 أما قطاع غزة فقد خضع للإدارة المصرية، وهكذا اختتمت المسرحية التي أخرجتها الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، ونفذها الحكام العرب، وكان ضحيتها ليس شعب فلسطين فحسب، بل الشعب العربي كله.

 لقد أصبحت إسرائيل مصدراً للعدوان والتوسع على حساب البلدان العربية، واضطرت هذه البلدان إلى خوض عدة حروب معها، وكانت إسرائيل توسع كيانها في كل مرة على حساب العرب، ناهيك عن أنهاك الاقتصاد العربي بسبب تلك الحروب، والتسلح المستمر منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

أثارت تلك المؤامرة الكبرى نقمة الشعوب العربية على حكامها، وأدركت هذه الشعوب أن الداء هو في وجود هؤلاء الحكام على رأس السلطة، وأن لا سبيل لإصلاح الأمور إلا بتغيير الأوضاع فيها.

كما أن الجيوش العربية التي عادت إلى بلدانها، ومرارة الحزن والأسى بادية على وجوه الجنود والضباط المغلوبين على أمرهم قد أدركوا أن الحكام العرب هم أساس البلوى، فقد باعوا  أنفسهم للإمبريالية، ونفذوا مخططاتها في المنطقة العربية، وكان من بين أولئك الضباط قائد ثورة 23 يوليو في مصر [ جمال عبد الناصر ] و قائد ثورة 14 تموز في العراق الزعيم الشهيد[ عبد الكريم قاسم ].
 ونتيجة لتك التطورات التي أفرزتها الحرب، شهدت البلدان العربية بعد عام النكبة 1948 تغيرات كثيرة حيث اختفت رموز كثيرة من المسرح السياسي، فقد وقع انقلاب عسكري في سوريا في 30 آذار 1949 بقيادة [ حسني الزعيم]،  وقتل الملك عبد الله في 20 تموز 1951، كما جرى اغتيال رئيس وزراء مصر  [محمود فهمي النقراشي ]، واغتيال رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح ] إثناء زيارته الرسمية إلى عمان في 16 تموز 1951 .

أما في العراق فقد جرت المعارك في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية بين قوات السلطة القمعية والشعب، وتم إسقاط وزارة صالح جبر الموالي للإنكليز، وفي مصر جاءت ثورة 23 يوليو في  مصر، وتم إسقاط حكم الملك فاروق، أحد المسؤولين الكبار عن النكبة، وفي لبنان وقع انقلاب عسكري في 18 أيلول 1952  أطاح بالرئيس اللبناني [ بشارة الخوري]، وأخيراً تكلل نضال الشعب العراقي بالنجاح في ثورة 14 تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي الموالي للإنكليز.



124
في الذكرى الثامنة والستين للنكبة
أضواء على تطورات القضية الفلسطينية
الحلقة الثانية 2/3
حامد الحمداني                                                              17/5/2016
إعلان قيام دولة إسرائيل،ودخول الجيوش العربية فلسطين:

في الرابع عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وفي نفس اليوم أعلنت المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبعد عشرين دقيقة من إعلان قيامها أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة العبرية، وتبعتها بعد ذلك بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي واعترفوا بها، وكان ذلك قد شكل أكبر تحدي لمشاعر الملايين من الجماهير العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، وضربة قاصمة وجهتها الإمبريالية للعرب.

بدأت العصابات الصهيونية أشنع حملة لتهجير السكان العرب من مدنهم وقراهم، فأقاموا المجازر البشعة ضدهم، مستخدمين كل أنواع الأسلحة، وقُتل من قُتل من النساء والأطفال والشيوخ، وترك ما يزيد على المليون وربع المليون من الفلسطينيين ديارهم هرباً من بطش الصهاينة، تاركين وراءهم كل ما يملكون من مساكن وأثاث وأموال ومصالح، وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة، يعيشون تحت الخيام، بانتظار مساندة ودعم الحكام العرب لتحقيق عودتهم إلى ديارهم !!.

واضطر الحكام العرب تحت ضغط شعوبهم إلى دفع جيوشهم إلى فلسطين، واستبشر الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة بتحرك الجيوش العربية، لكن ظهر فيما بعد أن تلك الحرب لم تكن سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون، ونفذها الحكام العرب، لا لتحرير فلسطين، بل لتثبيت الدولة العبرية الجديدة.

دخلت القوات العربية إلى فلسطين ساعيةً إلى الحرب بدون حسام، فلقد جُهز الجيش المصري بعتاد فاسد، مما أوقع خسائر فادحة في صفوفه.
أما القوات العراقية فقد كانت أربعة أفواج مجهزة بأسلحة خفيفة لا تفي بالغرض، وحتى القوة الآلية للجيش العراقي فقد كان الجنود غير مدربين على استخدام تلك الآليات، فقد ذكر قائد القوات العراقية في فلسطين، اللواء الركن  [نور الدين محمود] في تقريره إلى رئاسة أركان الجيش، في حزيران 1948 ما يلي :
{ خلال مدة بقائي في المفرق، فتشت القوة الآلية فوجدت معظم جنود الفوج الآلي غير مدربين، حتى أن القسم الأعظم لم يرموا بأسلحتهم الخاصة بهم، وبالإضافة إلى ذلك علمت أن الفوج المذكور استلم مدافع الهاون في يوم حركته من بغداد ولا يعلم أحد بالفوج، ولا بالقوة الآلية كلها كيفية استخدام هذا المدفع، وقد تركت في السيارات بانتظار إرسال الجنود المدربين على استخدامها من بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدت أن جنود المدرعات لم يدربوا بأسلحتهم مطلقاً فاضطررت إلى الإبراق إلى وزارة الدفاع للموافقة على تدريبهم على إطلاق بضعة إطلاقات بصورة مستعجلة، لكي يعرفوا خصائص أسلحتهم على الأقل، وعند الاستفسار عن كميات العتاد المتوفرة ظهر لي أن القنابل من عيار 2 رطل كان محدوداً جداً، كما أن الوحدات اسطحبت عتاد الخط الأول فقط، ولم يؤسس خط للمواصلات بعد، وكانت الوحدات تستهلك الأرزاق التي جلبتها من بغداد، وكانت بقية أمور التموين والإعاشة في دور التأسيس، وهكذا كانت الحالة للقوة الآلية المرسلة إلى فلسطين، والمزمع إشراكها في القتال دون التهيئة، وأن وضعية كهذه جعلتني في حالة استغراب من إرسال قوات وزجها في القتال بهذا الوضع الناقص}.

ومع ذلك فقد أبدا الجنود العراقيين بسالة منقطعة النظير، واستطاعوا التقدم واحتلال العديد من المواقع الصهيونية، مما أزعج الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا الضغط على الحكومة العراقية لمنع تقدم قواتها.

 وهكذا قُيدت حركة القوات العراقية، وظهرت تلك الأيام حكاية تداولها الشعب العراقي بتهكم شديد، وهي عبارة [ ماكو أوامر ]. أي أن الجيش ليس لديه أوامر للتحرك فقد كانت تلك الحرب مخططة مسبقاً، ونتائجها مرسومة، وهي تقتضي قيام دولة إسرائيل، وخذلان الجيوش العربية .

أما الملك عبد الله ـ ملك شرق الأردن ـ فقد أصّر على أن تكون قيادة القوات العربية له، وقد عارضت بعض الدول العربية ذلك، حيث أن الجيش الأردني يقوده الجنرال البريطاني[كلوب باشا] وبريطانيا هي التي سلمت فلسطين للصهاينة، فلا يعقل أن تسلم قيادة الجيوش العربية لكلوب باشا، لكن حكام الدول العربية تراجعوا عن معارضتهم بضغط من بريطانيا، وتسلم كلوب باشا  القيادة الفعلية للجيوش العربية !!.
كان الملك عبد الله يغتنم كل فرصة لكي يؤمن لنفسه الاستفادة مما ستؤول إليه الأمور، وكان يجري باستمرار اتصالاته السرية مع [وايزمان] و[ بن غوريون] وسلم الملك عبد لله مدينتي [اللد] و[الرملة] للصهاينة دون قتال، بعد أن كانت القوات العربية قد سيطرت عليها.

لقد نال الملك عبد الله ثقة الصهاينة، بعد أن أمر القوات العربية التي وصلت إلى أبواب [تل أبيب] بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السابقة، متيحاً الفرصة للصهاينة لتنظيم صفوفهم، وجلب الأسلحة والمعدات والقوات، للوقوف بوجه القوات العربية. 

ورغم خيانة الحكام العرب، ليس لفلسطين وحسب، بل لجيوشهم التي زجوا بها في المعركة دون استعداد، ودون سلاح ، وتزويدها بالعتاد الفاسد، كما جرى للجيش المصري، إلا أن القوات العربية المؤمنة بقضية العرب الرئيسية فلسطين أبلوا في الحرب بلاءً قلّ نظيره، وكادت تلك القوات،  برغم الظروف السيئة تلك أن تقضي على القوات الصهيونية التي أصابها الإعياء، ونفذ عتادها، مما اضطر زعماء الصهيونية إلى الطلب من الولايات المتحدة العمل على وقف القتال، وقيام هدنة بين الطرفين لاستعادة الأنفاس والتهيئة لجولة جديدة.

إعلان الهدنة الأولى في فلسطين:
سارعت الولايات المتحدة إلى دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع، بدعوى أن الوضع في الشرق الأوسط يهدد الأمن والسلام الدوليين، واستطاعت استصدار قرار من المجلس يقضي بوقف القتال بين الطرفين، وإرسال الوسيط الدولي السويدي [ الكونت برنادوت ] الذي قتله الصهاينة فيما بعد، ليلة 22 / 23 أيار، بعد 39 ساعة من بدء القتال.

سارع الحكام العرب إلى قبول وقف القتال، بعد اجتماع عاصف بين ممثلي الحكومات العربية، فقد هدد رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي] بأن مصر سوف تعقد هدنة مع الصهاينة لوحدها إذا لم توافق بقية الدول العربية على ذلك.
أما الملك عبد الله فقد أصرّ على قبول الهدنة، وهدد بقطع التموين عن الجيش العراقي إذا أصرّ العراق على عدم قبولها.

أما الملك عبد العزيز آل سعود، فقد رفض قطع النفط عن الولايات المتحدة، بناء على طلب الجامعة العربية، وكان ذلك كفيلاً بأن يشكل اكبر ضغط عليها. 
كانت مواقف الحكومة السورية أكثر جرأة واندفاعاً، ولذلك وجدنا القوات الصهيونية ركز هجماتها على القوات السورية .
بدأت القوات الصهيونية تستعيد أنفاسها، وبدأت الأسلحة تنهال عليها من كل جانب، وجرى تنظيم، وإعداد تلك القوات لجولة جديدة مع القوات العربية، وكان قبول الحكام العرب يمثل خيانة كبرى لمصالح الأمة العربية، ولقضية فلسطين، كما كان قرار مجلس الأمن أهم امتحان لمصداقية المهيمنين على مجلس الأمن، والذين تنكروا للميثاق الذي وضعوه هم أنفسهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

لقد كان العراق يملك من القوات والأسلحة ما يكفيه وحده لتحطيم القوات الصهيونية، لكن الحكام المؤتمرون بأوامر الإمبريالية لم يكونوا جادين في حربهم، أما الملك عبد الله فخيانته للقضية الفلسطينية لا تحتاج إلى دليل، فقد كان يقدم للصهاينة النفط الذي كان يمر عبر أنبوب النفط العراقي إلى [حيفا] والتي وقعت بأيدي الصهاينة، حيث استمر بالتدفق ليستخدموا البترول في تسيير آلياتهم العسكرية، فقد وصف المؤرخ الأردني المعروف [ سليمان موسى ] موقف الملك عبد الله قائلاً :
{ كان الأردن حتى أوائل شهر أيار 1948 يحصل على ما يحتاج إليه من مشتقات النفط من مصفاة شركة بترول العراق في حيفا، وعندما سلمت بريطانيا، مدينة حيفا للصهاينة أصبحت المصفاة بأيديهم فأخذوا يستغلونها لسد حاجاتهم، ولذلك لم يكن الصهاينة بحاجة، أو أزمة فيما يختص الوقود بأنواعه، أما الأردن فقد استطاع الحصول على ما يحتاج من وقود من محطتي H3وH5، حيث ضخت الشركة 12 مليون غالون من كركوك  إلى خزاناتها في المحطتين، ومنها أخذ الأردن حاجته من الوقود}. وهكذا اشتركت الحكومتان العراقية والأردنية في تزويد الصهاينة بالنفط الضروري لحركة آلياتهم العسكرية.
الحلقة الثالثة والاخير غداً

125
في الذكرى الثامنة والستين للنكبة
أضواء على تطورات القضية الفلسطينية
الحلقة الأولى 1/3
حامد الحمداني                                                              16/5/2016

ظهرت القضية الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، باندحار الدولة العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو] السرية. فقد احتلت بريطانيا العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، ومصر، والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية.

كانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917، عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده المشؤوم الذي عرف باسمه، وبدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، لفصل مشرقه عن مغربه، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد، قبل أن تجلوا تلك القوات، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل.

وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسّ بالمؤامرة التي تحاك ضده، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين. فقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح، وبقسوة ليس لها مثيل، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه.

لم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين، الذين كانوا هم الحكام الحقيقين للبلاد العربية، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين.

وعند قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان ما سمته [كتابها الأبيض]! الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فقد اعترفت باستقلال فلسطين، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي.

فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم، لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها ومستشاريها باسم الانتداب.

بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة ألهاجانا ] و [منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون] ، وقدمت بريطانيا لهم السلاح، وكل المساعدات الممكنة لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على طلقة واحدة.

وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [ لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية ] بعد الفورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين.
 وجاء تقرير اللجنة في 16 آذار 1946 مخيباً الآمال العربية، واستفزازاً لها. فقد جاء في التقرير بخطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود.

أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة  وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت حكومة السيد جميل المدفعي، تحت ضغط الجماهير الشعبية إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة.

 لكن حكومة المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير.
وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان] بسوريا، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعلن عن قيام دولة صهيونية، لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين!!.

 بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وصحراء سيناء إلى أن عقد السادات معها معاهدة [ كامب ديفيد ]، كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا.

ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني] الوطنيين.

وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلو أمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين.

وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع [الانكلو أمريكي]، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي.

وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون.

وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [ألهاجانا ] و[ الماباخ ]، القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي.

سادت التظاهرات أرجاء البلاد، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني.

 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم وقيام الكيان اليهودي،  وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب، وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية.

وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان، وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة تذكر.

وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة، على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة.

وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ آنذاك، وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم.

وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين.

ومن الجهة الأخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين، وبالتنسيق معهم ومع الولايات المتحدة، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم.

ولم يكن الحكام العرب الذين نصبهم الإمبرياليون، جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !!.
 
الحلقة الثانية يوم غد

126
انقلاب رشيد عالي الكيلاني
والجيش البريطاني يحتل العراق، ويسقط حكومة الكيلاني
القسم الثاني والاخير 2/2
حامد الحمداني                                                   12/5/2016

بدأت الأزمة بين حكومة الكيلاني والوصي عبد الإله تتصاعد، وقرر مجلس الوزراء إرسال وفد لمقابلة الوصي برئاسة رئيس الوزراء الكيلاني، وعضوية طه الهاشمي ـ وزير الدفاع ـ و ناجي شوكت ـ وزير المالية .
وخلال اللقاء  أبلغ الوفد الوصي عبد الإله أن طلب استقالة الوزارة عمل غير دستوري، وأن ليس من حقه بموجب الدستور أن يقيل الوزارة.
كان رشيد عالي الكيلاني في ذلك الوقت قد أمّن وقوف قادة الجيش العقداء الأربعة، صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد، ومحمود سلمان، وكامل شبيب، إضافة إلى مفتي فلسطين الذي يتمتع بنفوذ كبير لدى الضباط القوميين.
وفي 21 كانون الأول 1940 أعلن الكيلاني أمام مجلس النواب أن العراق دولة مستقلة، وعليه أن ينشد في كل تصرفاته مصالحه الوطنية، وأمانيه القومية، وينبغي أن لا ينجرف وراء ما لا يتلاءم مع هذه المصالح والأماني، وان الحكومة حريصة على عدم القيام بأي عمل يجر العراق إلى شرور الحرب  والمساس بسلامة البلاد .
وعلى أثر ذلك قطع السفير البريطاني أي صلة له بالحكومة ورئيسها، وأخذت صلاته تجري مع الوصي عبد لإله بصورة مباشرة، متخطيا الحكومة الشرعية ورئيسها واشتدت الأزمة داخل مجلس الوزراء، ولاسيما بين نوري السعيد المتحمس للإنكليز، وناجي شوكت المعارض لهم، واقترح طه الهاشمي لحل الأزمة أن يستقيل نوري السعيد وناجي شوكت من الوزارة، وبالفعل قدم نوري السعيد استقالته من الوزارة في 19 كانون الأول، فيما قدم ناجي شوكت استقالته في 25 منه.
 لكن الوصي رفض التوقيع على الاستقالة مطالباً رشيد عالي الكيلاني بتقديم استقالة وزارته، لكن تدخل العقداء الأربعة أجبر عبد الإله على توقيع استقالة الوزيرين، وأسندت وزارتيهما إلى ناجي السويدي، وعمر نظمي وكالة.
 لم يرضي هذا الإجراء السفير البريطاني الذي كان يلح على استقالة الوزارة، مشدداً ضغطه على الوصي عبد الإله، الذي أخذ يمتنع عن توقيع الإرادات الملكية والقوانين والمراسيم والأنظمة، وأخيراً أخذ يحرض الوزراء على الاستقالة من الحكومة، واستمر الوصي في ضغطه على الكيلاني بأن أرسل بطلب الوزير عمر نظمي في 25 كانون الأول 1940، وطلب منه إبلاغ الكيلاني  بأنه سيستقيل من الوصاية إذا لم تقدم وزارة الكيلاني استقالتها حتى ظهر يوم الغد.
أما مجلس الوزراء فقد عقد اجتماعاً في اليوم التالي 26 كانون الأول لمناقشة الأزمة، ولم يحضر الوزيران المستقيلان، وخلال الاجتماع فاجأ الوزراء جميعاً رئيس الوزراء بتقديم استقالاتهم من الوزارة، ما عدا رؤوف البحراني، مما تسبب في إحراج الكيلاني الذي حاول جاهداً تثنيهم عن الاستقالة.
تصاعدت الأزمة بين الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني بعد أن قدم الوزراء استقالاتهم، وحاول الوصي إرغام الكيلاني على تقديم استقالته، عن طريق اللجوء إلى القوة العسكرية، حيث بادر إلى استدعاء رئيس أركان الجيش، ومدير الشرطة العام، وطلب إليهم عدم إطاعة رئيس الوزراء، وأبلغهم أن الوزارة أصبحت غير شرعية.

 لكن الكيلاني لجأ إلى قادة الجيش [العقداء الأربعة] الذين قرروا إرسال مندوب عنهم إلى الوصي ليبلغه أن الجيش يريد بقاء الكيلاني على رأس الحكومة، وبالفعل قابل العقيد [ محمود سلمان]، أحد العقداء الأربعة، الوصي وأبلغه بالأمر.
ورغم محاولات الوصي ثني قادة الجيش عن موقفهم، فقد أصروا على موقفهم ببقاء الكيلاني على رأس الحكومة، فقد قابل العقيد محمود سلمان الوصي للمرة الثانية، بحضور الشيخ  [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، وأبلغه بقرار قادة الجيش، وقد نصح الشيخ الصدر الوصي بالرضوخ للأمر الواقع تجنياً لما قد لا يحمد عقباه، إذا ما أصر على موقفه من الكيلاني .
وهكذا تراجع الوصي، ولو مؤقتاً، وأصدر إرادة ملكية بتعين[يونس السبعاوي] وزيراً للاقتصاد، و[ علي محمود الشيخ علي ] وزيراً للعدلية ، في 28 كانون الثاني بناء على طلب الكيلاني وقادة الجيش .
وفي اليوم التالي قدم ناجي السويدي استقالته من الوزارة، وأسرع الكيلاني إلى تعين [موسى الشابندر] وزيراً للخارجية، والمحامي [ محمد علي محمود ] وزيراً للمالية، واستصدر إرادة ملكية بتعيينهم في نفس اليوم المصادف 29 كانون الثاني 1941.
حاول الكيلاني أن يوطد مركز حكومته باللجوء إلى حل البرلمان وأجراء انتخابات جديدة ، وتوجه إلى عبد الإله طالباً منه التوقيع على الإرادة الملكية بحله.
  طلب الوصي إمهاله حتى المساء لدراسة الأمر، وغادر الكيلاني البلاط، على أمل أن يوقع على حل البرلمان، لكنه بدلاً من ذلك  غادر بغداد سراً بعد خروج الكيلاني وتوجه إلى الديوانية، حيث حاول استعداء قائد الفرقة الرابعة اللواء الركن [إبراهيم الراوي ] على حكومة الكيلاني .
 كما اتصل من هناك بقائد الفرقة الثانية في كركوك [ قاسم مقصود ] لنفس الغرض، بالإضافة إلى مجموعة من السياسيين والوزراء السابقين، وعدد من متصرفي الألوية الذين طلب منهم الوصي عدم إطاعة أوامر الكيلاني، والعمل على إسقاط حكومته.
 كاد الأمر أن يؤدي إلى حرب أهلية، طرفاها الجيش، لولا موقف القائدين، الراوي ومقصود المتعقل، حيث أبلغا الوصي أنهما لا يودان زج الجيش في المشاكل السياسية، وأنهما كعسكريين يتلقيان الأوامر من رئيس أركان الجيش.
أما الكيلاني فقد دعا مجلس الوزراء إلى عقد اجتماع عاجل لبحث الأزمة بعد هروب الوصي، وقد حضر الاجتماع قادة الجيش، وأمين الحسيني، ويونس السبعاوي، ومحمد أمين زكي، وتقرر في الاجتماع مواجهة الوزارة لمجلس النواب وانتزاع الثقة بالوزارة منه، وقد دعا الحاضرون إلى صمود الوزارة بوجه محاولات الوصي، والسفير البريطاني لإسقاطها.
وفي أثناء الاجتماع حضر كل من الشيخ محمد الصدر، وطه الهاشمي، وطلبا من الكيلاني معالجة الأمور قبل استفحالها، والحيلولة دون وزج الجيش في حرب أهلية، وتمكنا من إقناع الكيلاني لتقديم استقالة حكومته.
 وبالفعل قدم الكيلاني استقالته في 31 كانون الثاني 1941 في برقية بعث بها إلى الوصي في الديوانية الذي بادر فور استلام البرقية إلى قبول الاستقالة، ودعا عدد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، ورئيس مجلس الأعيان للبحث في تشكيل وزارة جديدة، وفي
 بغداد، عقد المدعوين للاجتماع بالوصي اجتماعاً فيما بينهم وتباحثوا في الأمر، وقد استقر رأيهم على أن يذهب كل من الشيخ [ محمد الصدر ] و[صادق البصام ] إلى الديوانية لمقابلة الوصي، والوقوف على ما يريد.
 وبالفعل استقل الاثنان طائرة عسكرية نقلتهم إلى الديوانية وتباحثا مع الوصي في سبل حل الأزمة ثم اختلى الشيخ الصدر بالوصي، وأجرى معه نقاشاً حول خطورة الأزمة، وقد أقترح الشيخ محمد الصدر على الوصي  تكليف [ طه الهاشمي] بتأليف الوزارة الجديدة إذا ما أراد الخروج من الأزمة، وتجنب الحرب الأهلية.
وبادر الوصي بتكلف طه الهاشمي بتأليف الوزارة : على أثر اللقاء الذي تم بين بينه وبين الشيخ الصدر، واستدعى الوصي السيد طه الهاشمي بحضور صادق البصام، وكلفه بتأليف الوزارة الجديدة، على الرغم من عدم اقتناعه به ورضاه عنه، لكن الظروف الدقيقة والخطيرة من جهة، ونصيحة الشيخ الصدر من جهة أخرى هي التي جعلته يكلف الهاشمي، وقد حاول الوصي أن يشهّد البصام على تعهد الهاشمي بتشتيت شمل قادة الجيش [ العقداء الأربعة ] وحذره من المتصيدين في الماء العكر، والإيقاع مجدداً بينه وبينهم ، ووعد الوصي بأنه سوف يسعى إلى لقاء القادة الأربعة به لتقديم الولاء والطاعة، لكن ذلك لم يتم بسبب نصيحة السفير البريطاني بعدم استقبالهم .
تم تأليف الوزارة الجديدة برئاسة طه الهاشمي في 31 كانون الثاني 1941، وعبر السفير البريطاني في برقيته إلى وزارة الخارجية البريطانية عن سروره لإخراج الكيلاني من الحكم،  ولكنه أعرب عن عدم اطمئنانه لطه الهاشمي، ووعد بأن يكون عمر الوزارة قصيراً، وأشاد السفير بدور نوري السعيد، والجميل الذي أسداه لبريطانيا، غير أنه كان قد فقد نفوذه في الآونة الأخيرة، ورأى أن يكون بعيداً عن الأنظار حالياً.
كان همْ السفارة البريطانية بعد استقالة حكومة الكيلاني هو التخلص من العقداء الأربعة
بأي طريقة كانت لكي يستقر الوضع لصالح بريطانيا. أما الوصي فقد طلبت منه حكومة الهاشمي العودة إلى بغداد، وأرسلت لمرافقته كل من وزير الداخلية عمر نظمي،  وأمين زكي وكيل رئيس أركان  الجيش، إلا أن الوصي تردد في العودة خوفاً من وجود  مؤامرة لقتله، مما اضطر الهاشمي إلى السفر إلى الديوانية وإقناعه بالعودة، وعاد الوصي بصحبة الهاشمي في 3 شباط 1941.
أخذ الوضع السياسي بعد تشكيل حكومة الهاشمي يميل نوعاً ما إلى الهدوء بعد تلك العاصفة التي حدثت بين الكيلاني والوصي، لكن النار كانت لا تزال تحت الرماد، فقد كان عنصر الثقة بين الوصي والهاشمي شبه مفقود، كما كانت الثقة بين الكيلاني ومن ورائه العقداء الأربعة المسيطرين على الجيش وبين الوصي قد تلاشت، وكان الوصي ومن ورائه السفارة البريطانية يعمل في الخفاء من أجل تشتيت شمل قادة الجيش تمهيداً للتخلص منهم ومن الكيلاني، ومارست السفارة البريطانية ضغوطها على رئيس الوزراء من أجل إبعاد العقداء الأربعة عن أي تأثير سياسي في البلاد، كما ضغطوا على الهاشمي لقطع العلاقات مع إيطاليا، وكان الهاشمي يخشى رد فعل الشعب إن هو فعل ذلك.
ونتيجة لتلك الضغوط، أقدم الهاشمي، بصفته وزيراً للدفاع وكالة، بتاريخ 26 آذار 1941 على نقل العقيد [كامل شبيب]إلى قيادة الفرقة الرابعة في الديوانية، ليحل مكانه صديق الوصي الذي أواه في الديوانية اللواء الركن[ابراهيم الراوي]  كما أصدر قراراً آخر بنقل مقر قيادة الفرقة الثالثة التي يقودها العقيد[صلاح الدين الصباغ ] من بغداد إلى جلولاء.
كانت تلك الإجراءات التي اتخذها الهاشمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل، فلم يكد يبلغ القرار لقادة الجيش حتى قرروا على الفور التصدي له ورفضه، واتخاذ التدابير السريعة والضرورية لحل الأزمة بصورة جذرية.
ففي مساء يوم 1 نيسان 1941، أنذر العقداء الأربعة قطعات الجيش في بغداد وتم إبلاغها بما ينوون القيام به، حتى إذا انتصف الليل، نزلت القوات العسكرية لتحتل المراكز الهامة والحساسة في بغداد كدوائر البرق والبريد والهاتف والجسور ومداخل الطرق الرئيسية، وجميع المرافق العامة في بغداد، وتوجه العقيد[ فهمي سعيد ]، وبرفقته وكيل رئيس أركان الجيش [ محمد أمين زكي ] إلى دار رئيس الوزراء [ طه الهاشمي ] وأجبروه على الاستقالة، واضطر الهاشمي إلى تحرير كتاب استقالة حكومته إلى الوصي، وسلمها لهما، حرصاً على عدم إراقة الدماء.

أما الوصي، فقد أيقضه الخدم من النوم، وأبلغوه أن هناك أوضاع غير طبيعية في منطقة القصر، وأن الجيش متواجد في المنطقة، فما كان من الوصي إلا أن صمم على الهرب مرة أخرى، واستطاع الإفلات من قبضة الجيش، ولجأ إلى السفارة الأمريكية، بعد أن تعذر عليه الوصول إلى السفارة البريطانية، وقامت السفارة الأمريكية بنقله إلى قاعدة الحبانية، ومن هناك تم نقله على متن طائرة حربية بريطانية إلى البصرة، حيث نقل إلى الدارعة الحربية البريطانية [ كوك شبير] الراسية قرب البصرة، وكان برفقته كل من [علي جودت الأيوبي ] ومرافقه العسكري [عبيد عبد الله المضايفي ] ثم لحق بهم [ جميل المدفعي ]، وحاولت السفارة البريطانية الاتصال بأعضاء وزارة طه الهاشمي في محاولة لنقلهم إلى البصرة للالتحاق بالوصي، لكن العقداء الأربعة حالوا دون خروجهم.
كما نصبت القوات البريطانية للوصي إذاعة لاسلكية حيث قام بتوجيه خطاب إلى الشعب في الرابع من نيسان ، وقامت الإذاعة البريطانية في لندن بإعادة إذاعة الخطاب مرة أخرى، وقد هاجم الوصي في خطابه الكيلاني والعقداء الأربعة، واتهمهم بالاعتداء على الدستور ، والخروج على النظام العام، واغتصاب السلطة.
كما أخذ الوصي يحرض قائد الفرقة الرابعة في الديوانية [ إبراهيم الراوي ]، وقائد حامية البصرة العقيد [رشيد جودت ] وعدد من شيوخ العشائر الموالين للبلاط والإنكليز  للتمرد على الكيلاني وقادة الجيش، والزحف على بغداد، لكن الراوي وجودت رفضا السير مع الوصي بهذا الطريق الذي لو تم لوقعت حرب أهلية لا أحد يعرف مداها.
بادر العقداء الأربعة ، بعد هروب الوصي إلى تشكيل [مجلس الدفاع الوطني] ، وتم اختيار[ رشيد عالي الكيلاني ] رئيساً للمجلس ليقوم مقام مجلس الوزراء .
وفي أول اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قرر المجلس إرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تحذرها من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وتقديم الدعم والمساندة للوصي عبد الإله، كما قرر المجلس إرسال قوات عسكرية إلى البصرة لمنع أي تحرك ضد مجلس الدفاع الوطني، وتم اعتقال متصرف البصرة [ صالح جبر] الذي قطع صلاته ببغداد تضامناً مع الوصي، وتم تسفيره إلى بغداد.
 رداً على تحركات الوصي الرامية إلى إسقاط حكومة الدفاع الوطني، وهروبه من العاصمة، وتعاونه مع المحتلين البريطانيين  في هذا السبيل، فقد وجهت حكومة الدفاع الوطني إنذاراً له بالعودة إلى بغداد فوراً وإلا فإنها ستضطر إلى عزله من الوصاية، وتعين وصي جديد على العرش بدلا منه، ولما لم يستجب عبد الإله إلى الإنذار قررت حكومة الدفاع الوطني  عزله من الوصاية، وتعين [الشريف شرف] وصياً على العرش بدلاً عنه، وقد صادق البرلمان على هذا الإجراء في جلسته المنعقدة في 16 نيسان 1941.
الكيلاني يشكل حكومة مدنية جديدة :
بعد أن تم تعين [الشريف شرف] وصياً على العرش، قدم مجلس الدفاع الوطني، برئاسة رشيد عالي الكيلاني، استقالته إلى الوصي الجديد في 12 نيسان 1941 لغرض تشكيل حكومة مدنية جديدة، وقد كلف الوصي السيد الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة في اليوم نفسه  وفور تشكيل الوزارة أعلن الكيلاني عن عزم الحكومة على عدم توريط العراق في الحرب، مع الالتزام بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، والتمسك بالتعهدات الدولية، وقد لاقت حكومة الكيلاني تأييداً كاسحاً من أبناء الشعب الحانقين على الاستعمار البريطاني وعملائه.
تسارعت التطورات في البلاد بعد أحكام سيطرة رشيد علي الكيلاني والعقداء الأربعة على مقاليد الحكم، ولاسيما وأن الحركة قد لاقت تأييداً واسعاً من أبناء الشعب عامة الذين كانوا يحدوهم الأمل في التخلص من الاستعمار البريطاني الذي أذاقهم الأمرّين، ولم يدركوا أن الأستعمار الألماني البديل أسوأ منه، وهكذا أصبحت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لبريطانيا، وتنذر بمخاطر كبيرة، وبناء على ذلك طّير السفير البريطاني [كورنوليس] برقية إلى المستر تشرشل ـ رئيس الوزراء ـ جاء فيها :
{إما أن ترسلوا جيشاً كافيا إلى العراق أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان}.
فلما اطلع تشرشل البرقية أسرع بالإبراق إلى وزير الهند لإرسال قوات عسكرية، وإنزالها في البصرة على عجل.
كانت الحكومة البريطانية قد أبلغت العراق قبل وقوع الانقلاب أنها عازمة على إنزال قوات في البصرة لنقلها عبر العراق إلى حيفا في فلسطين حيث تقتضي ضرورات الحرب، وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية يحق لبريطانيا ذلك، بعد إبلاغ ملك العراق بذلك، ولذلك فقد اتصل القنصل العام البريطاني في البصرة بوكيل المتصرف يوم 10 نيسان، وأبلغه أن فرقة من الجيش الهندي على ظهر ثلاث بواخر حربية، وبحراسة طرادين حربيين وثلاث طائرات  سوف تدخل المياه الإقليمية العراقية خلال 48 ساعة، وطلب منه إبلاغ حكومته بذلك للموافقة على نزول تلك القوات في البصرة. كما قام مستشار وزارة الداخلية المستر  [ادمونس] في بغداد بزيارة رئيس الوزراء الكيلاني وابلغه بنفس الأمر.
وعلى الفور أجتمع مجلس الوزراء وبحث الأمر، وبعد مناقشة مستفيضة، اتخذ قرارا بالسماح للقوات البريطانية بالنزول، وفق الشروط التي اتفق عليها في 21 حزيران 1940، والتي نصت على نزول القوات لواء بعد لواء، على أن يبقى اللواء مدة معقولة، وهو في طريقه إلى فلسطين، ثم يليه نزول اللواء التالي، بعد أن يكون اللواء السابق قد غادر الأراضي العراقية، وعلى الحكومة البريطانية أن تشعر الحكومة العراقية بعدد القوات المراد إنزالها.
كما قررت الحكومة العراقية إيفاد اللواء الركن [إبراهيم الراوي] إلى البصرة لاستقبال  القوات البريطانية، كبادرة حسن نية من الحكومة، لكن بريطانيا كانت  قد قررت غزو العراق، وإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة، وإعادة عبد الإله وصياً على عرش العراق، وكانت تعليمات القيادة البريطانية تقضي باحتلال [منطقة الشعيبة] في البصرة، واتخاذها رأس جسر لإنزال قواتها هناك، والانطلاق بعد ذلك إلى بغداد .
وفي يومي 17  و 18 نيسان 1941 نزلت القوات البريطانية في البصرة، وعلى الفور أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال [ ايمسي ] في رئاسة الأركان البريطانية يأمره بالإسراع بإنزال 3 ألوية عسكرية في البصرة، وقد بدا واضحاً من تصرف تلك القوات أنها لن تغادر العراق، كما هو متفق عليه، بل لتبقى هناك حيث قامت بحفر الخنادق وإقامة الاستحكامات، وترتيب بقائها لمدة طويلة .
وفي 28 نيسان 1941 أبلغ مستشار السفارة البريطانية في بغداد وزارة الخارجية العراقية بنية بريطانيا إنزال  قوة أخرى قوامها 3500 جندي وضابط، في 29 نيسان، وقبل رحيل القوات التي نزلت في البصرة قبلها.
وعند ذلك أدركت حكومة الكيلاني أن بريطانيا تضمر للعراق شراً، وأنها لا تنوي إخراج قواتها كما جرى عليه الاتفاق من قبل، بل لتستخدمها لاحتلال العراق من جديد، وعليه اتخذت قرارها بعدم السماح لنزول قوات بريطانية جديدة في البصرة قبل مغادرة القوات التي وصلت  إليها من قبل، كما طلبت الحكومة العراقية من السفير البريطاني تقديم أوراق اعتماد حكومته كدليل على اعتراف بريطانيا بالوضع الجديد في العراق .
وفي الوقت نفسه قررت الحكومة العراقية القيام بإجراءات عسكرية احترازية لحماية العراق، وأصدرت بياناً إلى الشعب بهذا الخصوص، وقد أشار البيان إلى إخلال بريطانيا بنصوص معاهدة التحالف، وأن الحكومة قد قدمت احتجاجاً رسميا إلى الحكومة البريطانية، كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على التمسك بحقوق العراق وسيادته واستقلاله.
 لكن الحكومة البريطانية تجاهلت مواقف الحكومة العراقية واحتجاجاتها، وأنزلت قوات جديدة في البصرة  في 30 نيسان، وحاولت تلك القوات قطع الطريق على القوات العراقية المتواجدة هناك، لكن القوات العراقية استطاعت الانسحاب إلى المسيب، مقرها الدائم، وكررت الحكومة احتجاجها على تصرفات القوات البريطانية، لكن الحكومة البريطانية تجاهلت ذلك الاحتجاج، وأقدمت على ترحيل الرعايا البريطانيين من الموظفين، وأصحاب الشركات والعاملين فيها، كما أوعزت لهم بتهريب موجودات البنوك من العملات.
وهكذا أيقنت الحكومة أن الصِدام بين الجيشين العراقي والبريطاني أمر حتمي، وقررت اتخاذ عدد من الإجراءات العسكرية لحماية بغداد، فقد أرسلت عدداً من قطعاتها العسكرية إلى المنطقة القريبة من [الحبانية] حيث توجد قاعدة جوية بريطانية كبيرة.
لكن ثلاث أسراب من الطائرات البريطانية قامت على الفور بقصف تلك القوات  المتمركزة في [ سن الذبان ] بجوار بحيرة الحبانية وذلك صباح يوم الجمعة المصادف 2 أيار 1941، وبذلك اشتعلت الحرب بين العراق وبريطانيا، وقام على الأثر السفير البريطاني بإصدار بيان موجه إلى الشعب العراقي كان قد أعده سلفاً وهاجم فيه بشدة حكومة الكيلاني، واتهمها بشتى التهم، وبذلك كشف البيان عن جوهر السياسة البريطانية وأهدافها الاستعمارية العدوانية تجاه العراق .
وفي اليوم نفسه قدم السفير البريطاني إنذاراً للحكومة العراقية بسحب قواتها من أطراف الحبانية، وهدد باتخاذ أشد الإجراءات العسكرية ضدها، وعلى اثر تلك التطورات والأحداث المتسارعة، أجتمع مجلس الوزراء واتخذ قرارات هامة للدفاع عن العراق، كان منها:
1ـ إعادة العلاقات مع ألمانيا، والطلب بإرسال ممثلها السياسي على الفور، وطلب المساعدة منها.
2 ـ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي فوراً.
 3ـ نشر بيان صادر من رئيس الوزراء حول العدوان البريطاني على القوات العراقية.
4 ـ إرسال احتجاج إلى الحكومة البريطانية على تصرفاتها تجاه العراق .

وعلى الأثر قام الوزير العراقي المفوض في تركيا بمقابلة السفير الألماني[ فون بابن] وطلب منه تقديم كل مساعدة ممكنة للصمود بوجه القوات البريطانية، وقد أبلغه السفير الألماني أن تقديم المساعدة يتطلب مدة من الزمن، وسأله كم من الزمن تستطيع القوات العراقية الصمود أمام القوات البريطانية، وأخيراً تم الاتفاق على إرسال عدد من الأسراب من الطائرات الحربية الألمانية للدفاع عن مدن العراق التي أخذت تتعرض لقصف الطائرات البريطانية، ريثما يتمكن الألمان من تقديم مساعدة فعالة للحكومة العراقية.
وفي الوقت نفسه غادر الدكتور [ كروبا] سفير ألمانيا السابق في العراق متوجهاً إلى بغداد لفتح السفارة الألمانية، حيث وصلها في 18 أيار، وبصحبته 5 طائرات حربية، وبعثة عسكرية جوية برئاسة الفيلد مارشال [ فون بلومبرج ] .
 لكن المارشال الألماني أصيب قبل هبوط طائرته في مطار بغداد بصلية من الطائرات البريطانية، وقتل قبل نزوله في بغداد، وذلك خلال اشتباك جوي مع الطائرات البريطانية.
وفي الوقت نفسه تلقى العراق كميات من الأسلحة عن طريق سوريا، حيث كانت ألمانيا وإيطاليا قد استولت على تلك الأسلحة بعد انهيار فرنسا. 
ورداً على سحب موجودات البنوك، أعلن الكيلاني انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وحاول تغير العملة بالتعاون مع المانيا، لكن الزمن لم يمهله لتنفيذ ذلك، فقد تصاعدت الأزمة بعد أن فتحت القوات البريطانية النار على القوات العراقية المتواجدة في البصرة، واستطاع الفوج العراقي الموجود هناك الانسحاب من المنطقة في 2 أيار 1941.
أدى تصرف القوات البريطاني إلى هياج عام في صفوف الشعب العراقي، وتوالت فتاوى رجال الدين تدعو للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، وكان على رأسهم المرجع الديني الأكبر لطائفة الشيعة [أبو الحسن الموسوي الأصفهاني ]  والإمام [ محمد حسين آل كاشف الغطاء ] اللذان دعيا الشعب العراقي للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، كما ناصرت الشعوب العربية شعب العراق في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني.
القوات البريطانية تحتل العشار:
بعد أن عززت القوات البريطانية وجودها في البصرة، بدأت بالزحف بقواتها الآلية نحو العشار فجر يوم الأربعاء  المصادف 7 أيار  1941، وتمكنت من احتلال جميع المرافق الحساسة، والجسور بعد معارك دامية مع الأهالي سقط خلالها عدد كبير من الشهداء والجرحى في معركة غير متكافئة مع جيش كبير ومنظم، وقيل أن اليهود قدموا مساعدات كبيرة لقوات الاحتلال التي أخذت تتصرف وكأنها سلطة حكومية في منطقة [العشار]، وصار مدير جمعية التمور، الميجر [ لويد ] يتصرف وكأنه حاكم عسكري، حيث أصدر أمراً بمنع حمل السلاح، ومنع الاستماع إلى الإذاعات المعادية لبريطانيا، ومنع التجول، وغيرها من القرارات. وعلى أثر ذلك أمرت الحكومة موظفيها في البصرة بالانسحاب والعودة إلى بغداد . كما قررت  في 9 أيار إنهاء خدمات الضباط البريطانيين في الجيش  العراقي  وفي 11 منه قررت الاستغناء عن خدمات جميع الموظفين والمستخدمين البريطانيين ، كما قررت في  13 أيار تخويل رئيس الوزراء صلاحية عقد اتفاقات لشراء الأسلحة من الدول الأجنبية.
استمرت المعارك مع القوات البريطانية حول الحبانية، لكنها لم تكن متكافئة على الإطلاق، ففي الوقت الذي كان الجيش العراقي يمتلك الإرادة الشجاعة للدفاع عن الوطن، كان يعوزه السلاح والعتاد، في حين كانت القوات البريطانية تمتلك كل أنواع الأسلحة والطائرات، والخبرة القتالية، فقد أخذت الطائرات البريطانية تقصف القطعات العسكرية العراقية حول [سن الذبان] منذ صباح يوم 2 أيار، كما أرسلت القيادة البريطانية في فلسطين قوة عسكرية أخرى تتألف من لواء خيالة وعدة كتائب مختلفة مجهزة بالآليات والمدفعية، مع قوة أخرى من رجال الفرقة العربية التي كان يقودها  القائد البريطاني [كلوب باشا ] في شرق الأردن.
وفي 19 أيار بدأ الجيش البريطاني هجوماً واسعاً تحت غطاء جوي كثيف من الطائرات الحربية ضد الجيش العراقي، وخاض الطرفان معركة غير متكافئة استطاعت خلالها القوات البريطانية دحر القوات العراقية، وأسرت 320 جندياً و23 ضابطاً، وانسحبت بقية القوات باتجاه بغداد، وبذلك استطاعت القوات البريطانية احتلال [الفلوجة ]الواقعة على مقربة من بغداد في 20 أيار 1941.
وفي اليوم التالي شنت القوات العراقية هجوماً معاكساً في محاولة لاستعادة الفلوجة من ايدي البريطانيين، وكانت تلك القوات تتألف من فوجين، ومعززة بثمانية دبابات، لكنها فشلت في هجومها بعد أن استشهد  273  جنديا و11 ضابطاً، وتدمير 7 دبابات.
القوات البريطانية تزحف نحو بغداد،وهروب الكيلاني وقادته:
 بعد اندحار القوات العراقية في معركة الفلوجة، بدأت الحكومة تنظيم دفاعاتها حول بغداد، حيث أصبحت القوات البريطانية على بعد 60 كيلومتر من العاصمة، لكن القوات البريطانية عاجلتها بهجوم كبير على ثلاثة محاور، منطلقةً من الفلوجة يوم 27 أيار، وكان المحور الأول كان عن طريق [جسر الخر] وكان المحور الثاني عن طريق الشاطئ الأيسر لنهر الفرات نحو [أبو غريب]، أما المحور الثالث فكان عن طريق [سن الذبان ـ سامراء ـ التاجي ] .
مهدت القوات البريطانية هجومها بقصف مركز بالطائرات على مدينة بغداد لأحداث أكبر تأثير نفسي على قوات الجيش العراقي والحكومة وأبناء الشعب، وبدا في تلك الساعات أن الأمر قد أفلت من أيدي الكيلاني والعقداء الأربعة، حيث أصبح احتلال بغداد مسألة وقت لا غير، ولذلك فقد قرر[ الكيلاني] وقادة جيشه [العقداء الأربعة] الهروب ومغادرة بغداد، والنجاة بأرواحهم، تاركين البلاد والشعب تحت رحمة المحتلين، حيث رحل العقداء الأربعة إلى إيران مساء يوم 29 أيار 1941، ثم تبعهم رشيد عالي الكيلاني، وأمين الحسيني، وشريف شرف ومحمد أمين زكي، ويونس السبعاوي.

وفور مغادرة قادة حركة أيار تشكلت في العاصمة بغداد لجنة برئاسة أمينها [ارشد العمري] دعيت [ لجنة الأمن الداخلي ]، وضمت اللجنة متصرف بغداد، ومدير الشرطة العام، وممثل الجيش الزعيم الركن [حميد نصرت] .
 بدأت اللجنة مفاوضات مع السفارة البريطانية في بغداد على شروط وقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة تمهيداً لدخول القوات البريطانية إلى بغداد، وعودة الأمير عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
وفي 30 أيار توقف القتال بصورة نهائية، وعاد الوصي إلى بغداد في 1 حزيران 1941 تحت حراب المحتلين البريطانيين، وكان برفقته كل من نوري السعيد، وعلي جودت الايوبي، وداؤد الحيدري، وهكذا تخلص البريطانيون وعبد الإله من العقداء الأربعة والكيلاني الذين لعبوا دور كبيراً في الحياة السياسية في البلاد، وتم إحكام الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد .
لم يهدأ لبريطانيا والوصي عبد الإله بال إلا بعد أن تم اعتقال العقداء الأربعة، فقد بدأت المخابرات البريطانية تتابعهم حتى تسنى لها القبض عليهم واعتقالهم في إيران، وجرى تسفيرهم إلى جنوب أفريقيا معتقلين، كما تم اعتقال وزير الاقتصاد يونس السبعاوي، و مدير الدعاية العام صديق شنشل، وتم إحالة العقداء الأربعة إلى المجلس العرفي العسكري الذي سبق أن حكم عليهم بالإعدام. كما حكم المجلس العرفي العسكري على يونس السبعاوي بالإعدام أيضاً، وعلى صديق شنشل بالسجن لمدة 5 سنوات.
وفي نهاية الحرب العراقية البريطانية، سلمت بريطانيا العقداء الأربعة للحكومة العراقية حيث جرى إعدامهم في 6 كانون الثاني 1942، بعد إعادة محاكمتهم بصورة صورية أمام المجلس العرفي العسكري، الذي أصدر قرار الحكم خلال جلسة واحدة، وبذلك تخلص الوصي من نفوذهما إلى الأبد.
أما رشيد عالي الكيلاني،  فقد تمكن من الوصول إلى تركيا، واستطاع السفير الألماني [فون بابن] أن ينقله مع أمين الحسيني إلى ألمانيا، حيث مكث فيها إلى أن أوشكت الحرب على نهايتها، وبات اندحار ألمانيا أمر حتمي، حيث هرب إلى سويسرا ومنها إلى السعودية
وحاول عبد الإله مرارا استرداده من السعودية إلا أن السعوديون رفضوا ذلك، وبقي هناك عدة سنوات أنتقل بعدها إلى مصر بعد قيام ثورة 23 يوليو، وبقي هناك حتى قيام ثورة 14 تموز عام   1958، وسقوط النظام الملكي في العراق.
كان أمام المحتلين البريطانيين ، بعد القضاء على حكومة الكيلاني وعودة الوصي عبد الإله إلى الحكم مهمة تأليف حكومة جديدة تأخذ على عاتقها تصفية ما خلفته حركة الكيلاني والعقداء الأربعة، لم يشأ السفير البريطاني  بادئ الأمر تكليف رجل بريطانيا الأول نوري السعيد، نظراً للكره الشديد الذي يكنه الشعب له، ولذلك فقد طلب من الوصي أن يكلف جميل المدفعي بتأليف الوزارة الجديدة ، وبناء عليه فقد استدعاه الوصي وكلفه بتأليف
الوزارة في 2 حزيران 1941 ، وتم تأليف الوزارة في نفس اليوم .
جرى تأليف الوزارة في ظل نظام منع التجول الذي فرضته[لجنة الأمن الداخلي] التي شُكلت في أعقاب انهيار حكومة الكيلاني، ولم تجرِ حفلة الاستيزار الرسمية، واكتفي بإذاعة خبر تأليفها من دار الإذاعة، وفي اليوم الذي تألفت فيه الوزارة نزلت في مطار بغداد طائرة عسكرية بريطانية تحمل جنوداً بريطانيين بأسلحتهم بدعوى حماية السفارة البريطانية، وقد تجاهلت الحكومة الحدث.
كان أول إجراء اتخذته الحكومة، هو إعلان الأحكام العرفية في 3 حزيران، وإيقاف العمل بكل القوانين والأنظمة المعمول بها، والتي تتعارض مع مرسوم الإدارة العرفية، وجرت إدارة البلاد إدارة عسكرية صرفه، وتم تشكيل المحكمة العرفية العسكرية برئاسة العقيد [مصطفى راغب]، وقامت الحكومة بحملة اعتقالات واسعة جداً، شملت كل من كانت له علاقة بالنظام السابق، أو أيّد حكومة الكيلاني، وقد بلغ عدد المعتقلين أكثر من 20 ألفاً، بحيث عجزت السجون ومراكز الشرطة عن استيعابهم، وبدأت المحكمة العرفية تصدر الأحكام الجائرة وترسل بآلاف المواطنين إلى غياهب السجون، واستمرت الأحكام العرفية سارية المفعول حتى شهر آذار من عام 1946.
كما قامت الحكومة بإلغاء امتيازات الصحف التي كانت تصدر على عهد حكومة الكيلاني، ومنحت امتيازات جديدة لصحفيين طارئين، كانت مهمتهم التشنيع بحكومة الكيلاني والعقداء الأربعة، ومداهنة الإنكليز، وفرضت الرقابة الصارمة على المطبوعات، ومنعت أي إشارة أو دعاية ضد البريطانيين، ومنعت التجمع لأكثر من أربعة أشخاص، ولجأت الحكومة إلى إصدار المراسيم، بدلا من الرجوع إلى مجلس  الأمة الذي حاول الكيلاني حله ورفض الوصي ذلك، فقد أصدرت الحكومة منذ 2 حزيران  وحتى 7 تشرين الأول 1941 أحد عشر مرسوماً كان من بينهم مرسوم تعديل مرسوم الإدارة العرفية، الذي سمح بموجبه بمحاكمة القائمين بحركة الكيلاني، ومرسوم يقضي بفصل المشتركين والمساندين لحركة الكيلاني من مناصبهم، ومرسوم ثالث يقضي بإعادة الضباط الكبار الذين سبق لحكومة الكيلاني إحالتهم على التقاعد إلى الخدمة، وغيرها من المراسيم الأخرى.
  كما قامت الحكومة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش الذين كان لهم دوراً في دعم وإسناد حكومة الكيلاني، أو المشكوك في ولائهم للإنكليز والوصي على التقاعد، وفي المقابل قررت الحكومة إعادة الضباط والمستشارين الإنكليز الذين طردتهم حكومة الكيلاني إلى مراكزهم السابقة، كما أعادت الموظفين والمستخدمين الإنكليز إلى أعمالهم السابقة أيضاً.
 أما المحتلين فقد حولوا مدينة بغداد إلى معسكر كبير لقواتهم، فقد تم نقل ما يزيد على 100 ألف جندي إليها، وسمحت الحكومة ببقاء تلك القوات حتى نهاية الحرب،  كما سمحت الحكومة للمحتلين أن يشاركوا في إدارة ميناء البصرة، وبذلك أصبح المحتلون هم الحكام الحقيقيين للبلاد، وصارت الحكومة ألعوبة في أيديهم تنفذ لهم كل ما يطلبون .
وفي ظل تلك الظروف القاسية تدهورت الأحوال المعيشية لأبناء الشعب، حيث ارتفعت
 الأسعار، وفقدت السلع والحاجيات الضرورية والمواد الغذائية، وبات تدبير أمور المعيشة لسائر الطبقات الفقيرة والمتوسطة أمر صعب للغاية، ومع كل تلك الخدمات التي قدمتها حكومة المدفعي للمحتلين، إلا أن السفارة البريطانية لم تكن راضية عن إجراءاتها بحق الذين ساندوا حكومة الكيلاني ودعموه، ورأت أن المدفعي لا يمارس القمع المطلوب ضد المعارضين للاحتلال البريطاني الجديد للبلاد، وتدل البرقية التي طيرتها السفارة  إلى وزارة الخارجية البريطانية  بتاريخ 8 آذار 1941 على الموقف الحقيقي للسفارة من حكومة المدفعي، ورغبتها في إبداله، والمجيء بنوري السعيد، رجل بريطانيا المعتمد عليه كل الاعتماد، فقد جاء في تلك البرقية ما يلي : 
{لقد تصرفت حكومة المدفعي الخامسة وكأن أحداث أيار شبيهة بأي انقلاب حكومي آخر، حيث تذهب حكومة وتأتي حكومة أخرى، وهو أمر أصبح مألوفاً بعد وفاة الملك فيصل الأول، وينظر المدفعي إلى أحداث أيار 1941 وكأنها فصل آخر من مسرحية مؤسفة، فيدعو إلى إسدال الستار عليها بوحي من الشهامة والكرامة، حتى أصبح الموظفون يتقاعسون عن أداء واجباتهم، حين يرون الوزراء يتوسطون لأشد المعادين لبريطانيا، وعلاوة على ذلك فقد حدّ المدفعي من تدخل السفارة العلني في أمور العراق الداخلية، واستمر في غض النظر عن توصياتها الملحة في ضرورة تشديد القبضة على جميع العناصر المناوئة للإنكليز وتطهير الجيش منهم، مما حمل السفارة على العمل على إسقاط الحكومة من الداخل، عن طريق إحداث خلاف بين أعضائها، وإثارة المشاكل أمامها، مما يؤدي إلى إضعافها وبالتالي إسقاطها }.
بهذا الأسلوب سعت السفارة البريطانية إلى إسقاط حكومة المدفعي، باختلاق الخلافات بين أعضائها، وخاصة الوزير [ إبراهيم كمال ] الذي اتهم المدفعي بالتهاون إزاء الانقلابيين، ودخل في مهاترات معه، مما دفع المدفعي إلى التوجه إلى الوصي باستقالة حكومته في  21 أيلول 1941، وتم قبول الاستقالة، وطلبت السفارة البريطانية من الوصي تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة، فقد حان الوقت ليعود نوري السعيد إلى المسرح السياسي من جديد، وليؤدي الدور الموكول له في قمع الحركة الوطنية، والتنكيل بكل خصوم الإنكليز الذين وقفوا إلى جانب الكيلاني وساندوه، وتصفية كل العناصر الوطنية المناهضة للاحتلال في صفوف الجيش .




127
العراق وتداعيات الحرب العالمية الثانية
حامد الحمداني                                                               10/5/2016
القسم الاول 1/2
لم تكد بريطانيا تعلن الحرب على المانيا، واشتعال لهيب الحرب في أنحاء أوربا، حتى بادر السفير البريطاني للاتصال بنوري السعيد على الفور طالباً منه تطبيق معاهدة التحالف المبرمة بين البلدين في 30 حزيران 1930، وإعلان الحرب على  المانيا، وقد طمأن نوري السعيد السفير البريطاني ووعده بقطع العلاقات مع ألمانيا، وإعلان الحرب عليها بأسرع وقت.

وعلى الفور أبلغ نوري السعيد الوصي عبد الإله برغبة بريطانيا بإعلان الحرب على المانيا، وتقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الإله، في 5 أيلول 1939، وطرح نوري السعيد أمام مجلس الوزراء الطلب البريطاني.

 لكن خلافاً حاداً حدث داخل مجلس الوزراء، فقد رفض وزير الدفاع [ طه الهاشمي]، ووزير [العدلية محمود صبحي الدفتري]، فكرة إعلان الحرب على المانيا، والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، و أعلنا أنهما سيقدمان استقالتهما إذا ما أصر نوري السعيد على إعلان الحرب.

 وإزاء ذلك الموقف اضطر نوري السعيد للتراجع مؤقتاً والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية، وسارع بالطلب من السفير الألماني [الدكتور كروبا] بمغادرة البلاد تحت حراسة الشرطة نحو سوريا، كما قام نوري السعيد باعتقال كافة الرعايا الألمان، وسلمهم للقوات البريطانية المتواجدة في قاعدة الحبانية، ثم جرى تسفيرهم إلى الهند كأسرى حرب.

أما عبد الإله فقد سارع إلى إرسال برقية إلى الملك جورج ـ ملك بريطانيا ـ يبلغه أن العراق سوف يلتزم تماماً بمعاهدة الصداقة والتحالف المعقودة مع بريطانيا عام 1930، وسوف يقدم العراق كل ما تتطلبه المعاهدة.

كما أذاع نوري السعيد بياناً للحكومة في 17 أيلول، أعلن فيه التزام العراق بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعداد الحكومة للقيام بما تمليه تلك المعاهدة من واجبات تجاه الحليفة بريطانيا، وقد سبب موقف نوري السعيد وحكومته موجة من السخط العارم على تلك السياسة اللاوطنية الهادفة لزج العراق في الحرب الإمبريالية.
أما نوري السعيد فقد أقدم على تعطيل مجلس النواب، الذي نظمت وزارته انتخابه قبل مدة وجيزة، ولجأ إلى إصدار المراسيم المخالفة للدستور والهادفة إلى قمع كل معارضة لسياسته الموالية لبريطانيا، وكان من بين تلك المراسيم مرسوم مراقبة النشر رقم 54 لسنة 1939، ومرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1939، منتهكاً بذلك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للشعب.

وتطبيقاً لمعاهدة 1930 ، فتح نوري السعيد الباب على مصراعيه للقوات البريطانية لكي تحتل العراق من جديد، وليصبح العراق طرفاً في حرب استعمارية لا ناقة له فيها ولا جمل، كما يقول المثل.

لم تترك الحرب العالمية الثانية بلداً بعد أن أمتد لهيبها ليشمل أوربا وأسيا وأفريقيا إلا وكان لها تأثيراً كبيراً عليه، سواء كان عسكرياً أم إقتصادياً أم اجتماعياً، وكان العراق غارقاً في خضم تلك الحرب بعد أن احتلته القوات البريطانية احتلالاً كاملاً لمنع القوات الألمانية من الوصول إليه، حيث يمتلك العراق مصادر الطاقة[النفط] التي كانت ألمانيا بأمس الحاجة لها لإدامة ماكنتها الحربية .

لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين من تلك الحرب حيث أفتقد المواد الغذائية، والملابس، وغيرها من الحاجات المادية الأخرى وأصبحت تلبية تلك الحاجات أمر صعب للغاية، واضطرت الحكومة إلى تطبيق نظام الحصص[الكوبونات]لكي تحصل العوائل على حاجتها من المواد الغذائية والأقمشة لصنع الملابس واشتهرت تلك الأيام بـ[ أيام الخبز الأسود ]  بسبب النقصان الخطير في الحبوب ورداءة نوعية الطحين.                                                                       

 كما أن حكومة نوري السعيد كانت قد سخرت موارد البلاد لخدمة الإمبريالية البريطانية وحربها، مما أثار غضب الشعب العراقي وحقده على الإنكليز، والحكومة التي اضطرت إلى تقديم استقالتها، وكلف الوصي على العرش عبد الإله رئيس الديوان الملكي [رشيد عالي الكيلاني] بتشكيل وزارة جديدة، وجاءت الوزارة الكيلانية الجديدة وهي تضم أربعة من رؤساء الوزارات السابقين، ومختلف الكتل، وحاولت تحسين صورتها أمام الرأي العام العراقي فأقدمت على إلغاء الأحكام العرفية في الموصل وبغداد، وأطلقت سراح العديد من المعتقلين السياسيين الذين أدانتهم المجالس العرفية.                                               
 لكن الحكومة بدأت باكورة أعمالها بإصدار مرسوم [ صيانة الأمن العام وسلامة الدولة ] في 30 أيار 1940 ، وجاء هذا المرسوم أشد وطأة من المرسوم الذي أصدره نوري السعيد، والذي رفضته المحكمة العليا فيما بعد، لمخالفته أحكام الدستور في 11 أيلول 193.                                                                 

خلافات خطيرة داخل مجلس الوزراء :
لم تكد تمضي سوى مدة شهرين على تشكيل الوزارة الكيلانية حتى دبت الخلافات بين أركانها بسبب الموقف من إيطاليا التي أعلنت الحرب على بريطانيا وفرنسا، في 10 حزيران 1940، ودخلت الحرب إلى جانب ألمانيا. فقد سارع السفير البريطاني إلى الاجتماع بنوري السعيد ـ وزير الخارجية ـ وطلب منه قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا، وطلب منه أيضا أن يصله جواب الحكومة قبل الساعة الثانية عشرة من ظهر ذلك اليوم .
 وعلى الفور قام نوري السعيد بإبلاغ رئيس الوزراء بطلب السفير البريطاني، وتقرر أن يجتمع مجلس الوزراء فوراً برئاسة الوصي عبد الإله لدراسة الطلب البريطاني واتخاذا قرار بشأنه، وخلال النقاش الذي أجراه مجلس الوزراء ظهر انقسام شديد بين أعضائه، فقد انقسم المجلس إلى تيارين، التيار الأول دعا إلى إعلان قطع العلاقات مع إيطاليا فوراً تنفيذاً لطلب بريطانيا، وتزعم هذا التيار نوري السعيد، وضم محمد أمين زكي، وصادق البصام، ورؤف البحراني، وعمر نظمي.
 أما التيار الثاني والأقوى، بزعامة رئيس الوزراء ـ الكيلاني ـ وضم طه الهاشمي، وناجي شوكت، وناجي السويدي، فقد دعا إلى التريث، وعدم التسرع في اتخاذ أي قرار، ولاسيما وأن الحرب قد اتخذت لها مساراً خطيراً، بعد أن استطاعت المانيا اجتياح معظم البلدان الأوربية، مؤكدين على ضرورة أن تراعي الحكومة مصلحة البلاد، وتراقب أوضاع الحرب وتطوراتها، لكي لا تنعكس سلباً على العراق.
تأزمت الخلافات داخل مجلس الوزراء بين التيارين، وهدد الوزير محمد أمين زكي بالاستقالة إذا لم تقرر الوزارة الاستجابة لطلب بريطانيا. غير أن  مجلس الوزراء لم يتوصل  إلى أي قرار،  وجرى الاتفاق على عقد جلسة أخرى مساء اليوم نفسه في مقر مجلس الوزراء.
 تم عقد الاجتماع في الموعد المقرر، وواصل مناقشة الموضوع، واتخذت الحكومة قرارها بالتريث في مسألة قطع العلاقات مع إيطاليا، مع الإقرار بتمسك الحكومة بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعدادها للقيام بما تمليه عليها  معاهدة 1930 المعقودة مع بريطانيا.
أثار قرار الحكومة غضب السفير البريطاني، الذي أسرع لمقابلة رئيس الوزراء  في 12 حزيران، وعبر له عن دهشة وقلق بريطانيا من القرار، ومن تردد الحكومة في قطع العلاقات مع إيطاليا، وأبلغه بأن هذا الموقف من جانب الحكومة يؤثر تأثيراً بالغاً على صدقيه الحكومة في تنفيذ بنود معاهدة التحالف الموقعة عام 1930.
 لكن الكيلاني أجابه على الفور أن الحكومة تقرر ما تراه موافقاً لمصلحة البلاد فكان أن سأله السفير فيما إذا كان هذا الموقف يمثل رأيه  الشخصي أم رأي الحكومة؟ وقد رد عليه الكيلاني أن القرار اتخذته الحكومة، وأنا أرى شخصياً أن لا يورط العراق نفسه في عمل من شأنه أن يؤثر على حاضره  ومستقبله، ويقلق الرأي العام العراقي.

أثار تصرف رئيس الوزراء الكيلاني هذا غضب المستر[ تشرشل ] رئيس الوزراء البريطاني، الذي صرح قائلاً :
{ إن حكومة الكيلاني تتصرف بروح استقلالية لم يسبق لأي رئيس وزارة عراقية أن تصرف بمثلها من قبل }.

حاولت الحكومة البريطانية الضغط على حكومة العراق بأساليبها العسكرية، فقد أبلغت السفارة البريطانية وزارة الخارجية العراقية بكتابها المرقم 284 في 21 حزيران 1940 أن الحكومة البريطانية قررت إنزال قواتها العسكرية في البصرة، لغرض التوجه إلى حيفا، وطلبت أن تسمح الحكومة للقوات الجوية البريطانية بتأسيس معسكرات للاستراحة في البصرة وبغداد والموصل وتأسيس خطوط مواصلات عبر الصحراء بين بغداد وحيفا،وقد أجابت الحكومة العراقية بالموافقة على الطلب البريطاني في 22 تموز، عملاً ببنود معاهدة 1930، وكان ذلك أكبر خطأ ارتكبته حكومة الكيلاني، فقد كان الهدف الحقيقي من جلب القوات البريطانية لغرض فرض الهيمنة المطلقة على العراق، وإسقاط حكومة الكيلاني .

تطور العلاقات العراقية الألمانية :
لم يمضِ سوى أسبوع واحد على دخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا، حتى استطاعت الأخيرة دحر القوات الفرنسية، واحتلال العاصمة الفرنسية باريس.
وفي تلك الأيام وصل إلى العراق [الحاج أمين الحسيني] مفتي فلسطين لاجئاً، هرباً من ملاحقة القوات البريطانية له، ومعروف أن الحسيني كان يكافح ضد الاحتلال البريطاني لفلسطين، وانه كان تبعاً لذلك على علاقة جيدة مع ألمانيا، غريمة بريطانيا، وقد نصح الحسيني الكيلاني بأن يجري اتصالاً مع السفير الألماني في تركيا [فون بابن] للوقوف على وجهة نظر ألمانيا تجاه مستقبل البلاد
العربية، وخاصة سوريا التي كانت تحت الانتداب الفرنسي .

جرى الاتفاق بين الكيلاني والحسيني أن ترسل الحكومة وفداً مؤلفاً من وزير الخارجية [نوري السعيد] و وزير العدلية [ناجي شوكت] إلى تركيا بحجة التباحث مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا، بعد انهيار فرنسا، على أن يقوم ناجي شوكت بعد انتهاء المباحثات، وعودة نوري السعيد بزيارة إلى [اسطنبول] لبضعة أيام، بدعوى الراحة والاستجمام، لغرض الالتقاء مع السفير الألماني [فون بابن] دون علم نوري السعيد، لعدم ثقة الكيلاني به، وقد زود أمين الحسيني السيد ناجي شوكت برسالة إلى السفير [فون بابن] الذي تربطه به علاقات وثيقة .
وبعد سفر الوفد إلى تركيا أجرى محادثات مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا بعد انهيار فرنسا وقد عاد نوري السعيد إلى بغداد، بعد انتهاء المباحثات، فيما توجه ناجي شوكت إلى اسطنبول بحجه قضاء بضعة أيام فيها للراحة والاستجمام، والتقى بالسفير الألماني هناك، وبحث معه موقف المانيا من البلاد العربية، وأبلغه أن العرب يطمحون إلى التخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي، وهو يود معرفة موقف المانيا من الأماني العربية، وناشده أن تصدر ألمانيا وإيطاليا بياناً حول الموضوع، وقد وعده السفير الألماني بنقل ما دار في اللقاء إلى حكومته، وأن يبذل جهده لحمل الحكومة الألمانية على تحقيق الأماني العربية، وفي ختام اللقاء ترك‘إلى السفير العراقي  [كامل الكيلاني ] مهمة مواصلة اللقاءات مع السفير الألماني وعاد إلى بغداد في 12 تموز ، واطلع رفاقه  الكيلاني والهاشمي وناجي السويدي على ما دار في ذلك اللقاء .

أما السفير[ فون بابن ] فقد توجه بعد اللقاء إلى ألمانيا ليجري اتصالاته مع الحكومة حول لقائه مع الوزير العراقي، واستطاع أن يقنع الحكومة بأن تصدر بياناً المانياً إيطالياً مشتركاً حول موقف دول المحور من البلاد العربية ومستقبلها  ثم عاد إلى اسطنبول وأبلغ السفير العراقي كامل الكيلاني، شقيق رئيس الوزراء بقرار الحكومة الألمانية، وقام السفير بدوره بإبلاغ أخيه بالأمر .

وبناء على ذلك قرر رشيد عالي الكيلاني إرسال ناجي شوكت إلى اسطنبول مرة أخرى بحجة الراحة والاستجمام للقاء السفير[ فون بابن ]، وتقديم مسودة بالأسس التي تود الحكومة العراقية أن يتضمنها البيان، وكان في مقدمتها الاعتراف الصريح من جانب ألمانيا وإيطاليا باستقلال البلاد العربية، وحق العرب في إقامة وحدتهم القومية، ورفض إقامة كيان صهيوني في فلسطين .

غادر ناجي شوكت إلى اسطنبول في 2 آب 1940، حيث التقى بالسفير الألماني، وسلمه مسودة البيان الذي تقترحه الحكومة العراقية، وطلب منه إرساله إلى حكومته، وأبلغه أن الحكومة العراقية بانتظار صدور البيان الألماني الإيطالي المنتظر، الذي يتضمن هذه الأسس التي نقلها إليه .

وفي 23 تشرين الأول 1940 أذيع  من راديو برلين وراديو روما البيان الموعود، لكن البيان جاء بعبارات عمومية لم تتضمن الأسس التي جاءت بها المسودة التي نقلها الوزير العراقي للسفير [فون بابن ]، وقد أعلم السفير الألماني السفير العراقي أن هذا البيان هو مجرد بداية !.

تدهور العلاقات العراقية البريطانية :
على اثر قرار حكومة الكيلاني بالتريث في قطع العلاقات مع إيطاليا رغم إلحاح السفير البريطاني، بدأت العلاقات العراقية البريطانية تأخذ بالتأزم، ولاسيما بعد أن وصل إلى علم الحكومة البريطانية الاتصالات التي أجراها ناجي شوكت مع السفير الألماني في تركيا [ فون بابن ] .
لقد أدرك السفير البريطاني صعوبة التعاون مع حكومة الكيلاني، وأخذ يتحين الفرصة لإسقاطها، وبالمقابل أخذت حكومة الكيلاني تضيق على تحركات الإنكليز، ووسائل دعاياتهم ضد دول المحور متذرعة بعدم رغبة الحكومة بخلق مشاكل لها مع هذه الدول.

وازدادت الأزمة تصاعداً عندما رفضت بريطانيا تزويد الجيش العراقي بالأسلحة التي كان بأمس الحاجة لها، حيث قيدت معاهدة 1930 العراق بشراء الأسلحة البريطانية فقط، فلما وجدت حكومة الكيلاني أن الباب موصود أمامها للحصول على السلاح البريطاني لجأت إلى إيطاليا واليابان لشراء الأسلحة منهما، وكان رد الفعل البريطاني على خطوة حكومة الكيلاني أن امتنعت الحكومة البريطانية عن شراء القطن العراقي، رغم تدني أسعاره، مما دفع بحكومة الكيلاني إلى عقد اتفاقية مع اليابان باعت بموجبها جميع محصول القطن ومحصول التمور لها، مما أثار غضب الحكومة البريطانية إلى أقصى الحدود، ولاسيما وأن اليابان كانت قد دخلت الحرب إلى جانب المانيا .

ومن جانب آخر أقدمت حكومة الكيلاني على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، مما أوصل العلاقات بين العراق وبريطانيا إلى أقصى درجات التأزم، بحيث أبلغ السفير البريطاني نوري السعيد بأن الحكومة البريطانية لم تعد تثق بحكومة الكيلاني، وأن على العراق  أن يختار بين الاحتفاظ بحكومة الكيلاني أو الاحتفاظ بصداقة بريطانيا العظمى.

وهكذا بدأ الصراع المكشوف بين الحكومة البريطانية والسفير البريطاني، وسارع الكيلاني إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء لبحث التدخل البريطاني السافر بشؤون العراق الداخلية، وتقرر تقديم احتجاج رسمي إلى الحكومة البريطانية على تصرفات سفيرها في بغداد.

ولممارسة المزيد من الضغوط على حكومة الكيلاني لجأت بريطانيا إلى الولايات المتحدة داعية إياها للضغط على حكومة الكيلاني، وقد اتصل السفير الأمريكي بالكيلاني، وطلب منه التعاون مع الحكومة البريطانية، ومنع دعاية الكراهية لبريطانيا بين صفوف الشعب العراقي.

 وقد أكد الكيلاني للسفير الأمريكي أن الحكومة لا تنوي الإضرار بالمصالح البريطانية، وأنها حريصة على تطبيق بنود معاهدة 1930، لكن شائعات سرت بعد بضعة أيام تقول أن الحكومة العراقية تنوي إعادة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا .
 لم يستطع نوري السعيد تحمل سياسة الكيلاني، وهو المتحمس إلى أبعد الحدود إلى تشديد ارتباط العراق بالعجلة البريطانية، فكتب مذكرة إلى الكيلاني، وبعث بنسخة منها إلى الوصي عبد الإله، وإلى السفير البريطاني، ينتقد فيها سياسة الحكومة تجاه بريطانيا العظمى، ويتحدث عن فقدان الانسجام والتعاون بين أعضاء الوزارة، ويحذر من مغبة السير بهذا الطريق، ويدعو الحكومة إلى إعادة النظر في مجمل سياساتها.
أما الوصي عبد الإله فقد دعا إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء برئاسته في البلاط  في 17 كانون الأول، لمناقشة مذكرة نوري السعيد وسياسة الحكومة، وخلال الاجتماع بدت على الوصي علامات الانفعال من سياسة الكيلاني، حيث تحدث إليه قائلاً:
{ إنني ألاحظ أن التآزر بين أعضاء الوزارة القائمة مفقود، والاختلافات بين أركانها في تزايد مستمر، ولاسيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلاقاتنا بالحليفة بريطانيا العظمى }.
وقد رد السيد ناجي السويدي قائلاً أن ليس هناك من خلافات خطيرة تستوجب ذلك، لكن نوري السعيد أصر على موقفه من وجود الخلافات، وانتهى الاجتماع مع الوصي دون حدوث أي تغير.
لم يكد أعضاء مجلس الوزراء يغادرون البلاط الملكي حتى لحق رئيس الديوان الملكي السيد عبد القادر الكيلاني برشيد عالي الكيلاني ليطلب منه تقديم استقالته بناء على رغبة الوصي، حرصا على عدم إحراجه مع الإنكليز وكان هذا التصرف من جانب الوصي بناء على طلب الحكومة البريطانية.

 











128

التاسع من ايار 1945 يوم خالد في تاريخ البشرية
انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار
النازية والفاشية
حامد الحمداني                                                               8/5/2016

كان اندحار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى عام 1918، وتجريدها من كل نفوذ لها في العالم، بموجب معاهدة [ فرساي] الموقعة بين الحلفاء وألمانيا في نهاية الحرب، وسيطرة بريطانيا وفرنسا على الأسواق العالمية، سبباً رئيسياً لمحاولة الرأسماليين الألمان إعادة تقسيم النفوذ والأسواق العالمية من جديد، وتحطيم تلك المعاهدة.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف لجأ الرأسماليون الألمان إلى سحق الديمقراطية، والإتيان بحكومة فاشية، وعلى رأسها زعيم الحزب النازي [ أدولف هتلر] العريف السابق في الجيش الألماني، والمعروف بعدائه الشديد للديمقراطية.

كان في مقدمة أهداف حكومة هتلر تصفية جميع الأحزاب السياسية في البلاد بدءاً بالحزب الشيوعي، وانتهاءً ببقية الأحزاب الأخرى، ومن أجل تحقيق هذا الهدف أوعز إلى رجاله بحرق [الريشستاخ] أي البرلمان، واتهم الشيوعيين الذين كانوا يمثلون قوة رئيسية في البرلمان، وعلى الساحة السياسية الألمانية  بحرقه، لكي يجد الذريعة لتوجيه الضربة القاضية للحزب الشيوعي مستخدماً أبشع الأساليب النازية وحشية.

 ثم التفت هتلر إلى الأحزاب الأخرى، وفي المقدمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، تلك الأحزاب التي  ضنت أنها في منأى من بطش هتلر، ورفضت التعاون مع الحزب الشيوعي في الانتخابات العامة، ومهدت الطريق بموقفها ذاك لصعود الحزب النازي إلى السلطة، وأنزل بها هتلر ضرباته ومزقها، تماماً كما فعل بالشيوعيين وبذلك تسنى لهتلر تصفية أي معارضة لسلطته، وأصبح طليق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد، بل والعالم أجمع.

كانت الخطوة التالية لهتلر هي [ التسلح ]، حيث أقدم على تمزيق معاهدة [فرساي] وضربها عرض الحائط، وسخر كل إمكانيات البلاد الاقتصادية والصناعية للتسلح، وإنشاء جيش ضخم وقوي لكي يستطيع بواسطته فرض تقسيم جديد للعالم، ومناطق النفوذ لألمانيا من جديد، ورغم تحذير الاتحاد السوفيتي للغرب من مغبة السماح لهتلر بتهديد السلام في العالم، وضرورة إيقافه عند حده، إلا أن الحكام الغربيين لم يعيروا أي اهتمام إلى تلك التحذيرات.
بدأ هتلر منذ عام 1938 ينفذ خططه للتوسع، حيث أقدم على احتلال [النمسا] و[جيكوسلفاكيا] وأعلن ضمهما إلى المانيا دون أن يلقى أي ردع من جانب الدول الغربية.

وهكذا أخذت شهية هتلر تتصاعد لضم المزيد من الأراضي، فطالب بضم مقاطعة [ دانزج ]البولندية إلى المانيا مدعياً أنها مقاطعة ألمانية، ولما لم ترضخ حكومة بولندا إلى ضغوطه أقدم هتلر على مهاجمة بولندا عام 1939 دافعاً بقوات كبيرة برية وجوية واستطاع ابتلاعها خلال أسبوع، منزلا فيها دمارا هائلا ومئات الالوف من الضحايا حتى أن سكان العاصمة وارشو البالغة نفوسهم قبل الحرب مليون ونصف لم يبقَ منهم سوى 300 الف، وهذا ما حدثنا عنه البولونيون انفسهم عند حضورنا مهرجان الشبية الخامس عام 1955، واضافوا قائلين أن كل عائلة مكونة من خمسة اشخاص فقدت على الاقل ثلاثة.
 عند ذلك أدرك حكام بريطانيا وفرنسا أن أطماع هتلر لن تقف عند حد، وأن الخطر الألماني سوف يصل إليهما عاجلاً أم عاجلاً، فسارعا إلى إعلان الحرب على المانيا في 3 أيلول 1939، وبذلك اشتعل لهيب الحرب ليشمل أوربا بأسرها ثم توسعت بدخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا، وإقدام اليابان على قصف ميناء [ بيرل هاربر] الأمريكي، ودخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء، وبذلك امتدت الحرب لتشمل العالم أجمع، واستمرت تطحن بالشعوب خمسة اعوام شديدة القسوة، ودفعت البشرية ثمنا باهضا لم تشهده من قبل حيث قدر عدد القتلى خلالها ما يقارب 55 مليون انسان وشكّلَ الدمار الهائل معظم الدول المشاركة في تلك الحرب المجنونة، وعم الفقر والجوع انحاء العالم، ولم ينجُ من نار الحرب سوى تركيا وسويسرا والسويد، حيث بقيت هذه الدول على الحياد.

انتهاء الحرب العالمية باندحار دول المحور:
في بداية عام 1945، كانت الحرب العالمية الثانية قد أوشكت على نهايتها، وتقرر مصيرها باندحار دول المحور، وانتصار الحلفاء، وتحملت القوات السوفيتية العبء الأعظم من تلك الحرب التي دفع فيها الشعب السوفيتي أكثر من 22 مليون ضحية، وتم تدمير معظم مدن الاتحاد السوفيتي.

وفي الوقت الذي كانت القوات السوفيتية تخوض غمار اعظم معركة في التاريخ[ معركة ستالينكراد] طلب الاتحاد السوفيتي من الولايات المتحدة وبريطانيا فتح الجبهة الغربية ضد القوات الالمانية لتخفيف الضغط على الجبهة الشرقية، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا تماهلا في فتحها انتظارا لما ستئول اليه معركة ستالينكراد التي استطاع الجيش السوفيتي احراز النصر الباهر فيها، ودحر الجيوش الالمانية الجرارة واستسلام اكثر من 200000 عسكري الماني، وعلى رأسهم قائد تلك الفيالق الجنرال[ فون باول ]، وبدات القوات السوفيتية زحفها نحو الغرب باتجاه المانيا النازية، وعند ذلك سارع الغربيون إلى انزال قواتهم في نورمانيا بفرنسا بغية اللحاق للوصول إلى المانيا ومقابلة القوات السوفيتية . 

 بدأت القوات السوفيتية تزحف نحو برلين من جهة الشرق، فيما بدأت القوات الأمريكية والبريطانية وقوات الجنرال [ديكول ] تزحف من جهة الغرب، وأخذت القوات الألمانية تتراجع أمام ضربات القوات السوفيتية والأمريكية والبريطانية، فيما كانت القوات الإيطالية قد انهارت أمام زحف قوات الحلفاء، وتلاشت مقاومتها تماماً .

 وفي الأول من أيار عام 1945 أطبقت القوات السوفيتية على برلين واحتلتها وفي الوقت نفسه كانت  القوات الأمريكية والبريطانية قد توغلت في غرب البلاد، وانهارت المقاومة الألمانية، وانتحر دكتاتور ألمانيا [هتلر]، وأعلن الأميرال الألماني [دونتز] استسلام  ألمانيا دون قيد أو شرط للحلفاء، وبذلك انتهت الحرب في أوربا، واحتفل الحلفاء بنصرهم على المانيا وإيطاليا.

أما الحرب في الشرق الأقصى فقد استمرت بضعة أشهر أخرى، حيث بقي اليابانيون يقاومون، لكن الحرب كان مصيرها قد تقرر، وكانت اليابان على وشك أن تعلن استسلامها عندما فاجأت الولايات المتحدة العالم في 6 آب 1945 بإلقاء أول قنبلة ذرية على مدينة [هيرو شيما] اليابانية، فكانت مجزرة رهيبة ذهب ضحيتها أكثر من 180 ألفاً من المواطنين اليابانيين الأبرياء في الحال دون أي مبرر.

 وبعد أسبوع أتبعتها بقنبلة ثانية ألقتها على مدينة [ناكازاكي ] فكانت كارثة كبرى ثانية أدت بأرواح عشرات الألوف من السكان الأبرياء، وتحولت المدينتين إلى أكوام من الحجارة الممزوجة بالدم والأشلاء، وفي الحال أعلنت اليابان استسلامها دون قيد أو شرط، وبذلك انتهت فصول تلك الحرب الإجرامية المفزعة التي أشعلها هتلر، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 55 مليون إنسان، ناهيك عن تدمير المدن، والبنية التحتية للاقتصاد العالمي، وما سببته تلك الحرب من ويلات وماسي وجوع وخراب ودمار.
 ولابد أن أشير هنا إلى أن إلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين  كانت جريمة كبرى اقترفتها الولايات المتحدة بحق الإنسانية لم يكن لها ما يبررها سوى رغبتها  في  أن ترعب بلدان العالم الأخرى، وبوجه خاص الاتحاد السوفيتي بهذا السلاح الفتاك، وتتباهى بأنها أقوى بلد في العالم أجمع، وقد دفع تصرفها هذا إلى أن يسعى الاتحاد السوفيتي إلى امتلاك هذا السلاح الخطير لكي يعيد توازن القوى بين المعسكرين الشرقي والغربي، حيث توصل إلى أسرار هذا السلاح الرهيب وبدأ بإنتاجه وتكديسه، ثم تبع ذلك توصل كل من بريطانيا وفرنسا والصين وإسرائيل والهند وباكستان إلى إنتاج هذا السلاح الفتاك.
لم تكد تنتهِ الحزب العالمية الثانية حتى بدأت ظواهر حرب من نوع جديد بين الاتحاد السوفيتي والغرب دعيت بالحرب الباردة، وفي ظل هذه الحرب التي نشأت بين المعسكرين استمر سباق التسلح، وإنتاج المزيد من تلك الأسلحة، ووسائل نقلها إلى أية بقعة في العالم، وتطويرها بحيث أصبح الطرفان يملكان ترسانة نووية قادرة على إفناء البشرية، وتدمير كوكبنا الأرضي عشرات المرات، وأصبحت هذه الأسلحة عبئاً ثقيلاً، وخطراً مميتاً يهدد البشرية في كل وقت وحين، بل ولقد بدأت العديد من الدول تحاول الحصول على تكنلوجيا هذه الأسلحة وغيرها من أسلحة الدمار الشامل مما يعرض مستقبل البشرية لمخاطر كبيرة .

مؤتمر سان فرنسيسكو، تأسيس هيئة الأمم المتحدة:
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وجهت الولايات المتحدة، نيابة عن الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين الدعوة إلى 49 دولة لحضور مؤتمر يعقد في مدينة [ سان فرنسيسكو] للبحث في إنشاء هيئة دولية جديدة، على أنقاض [عصبة الأمم] التي انهارت بقيام الحرب العالمية الثانية، وتحدد عقد المؤتمر في 26 حزيران 1945، الذي حضرته وفود تلك الدول، وكان العراق من بينها، حيث مثله وفد عالي المستوى برئاسة وزير الخارجية [أرشد العمري]، وضم في عضويته كل من نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وعلي جودت الأيوبي ونصرت الفارسي، وفاضل الجمالي. وقبل بدء المؤتمر توفي الرئيس الأمريكي [ فرانكلين روزفلت ]، وتولى المنصب بعده نائبه [هاري ترومان ] .

 جرى افتتاح المؤتمر في 26 حزيران 1945، وبدأت المداولات لوضع ميثاق جديد ينظم العلاقات بين دول العالم، دعي فيما بعد [ ميثاق الأمم المتحدة ] وتضمن الميثاق تشكيل [هيئة الامم المحتدة] و[مجلس للأمن الدولي]، كما جرى البحث في مسودة محكمة العدل الدولية، لحل الخلافات بين الدول.

لم يكن للدول التي دُعيت للمؤتمر، ما عدا الدول الخمس الكبرى، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين، دور هام في وضع الميثاق، وطريقة تشكيل مجلس الأمن، فلم يكن سوى ميثاق الدول المنتصرة في الحرب، حيث منحت تلك الدول نفسها صلاحيات واسعة للهيمنة على العالم، فقد تقرر أن يكون عدد أعضاء المجلس 15 عضواً، خمسة منهم أعضاء دائمين، وهم الدول الكبرى المذكورة ، و8 أعضاء ينتخبون كممثلين للمناطق الإقليمية كل سنتين.

لكن الأخطر في الأمر أن الأعضاء الدائميين قد منحوا أنفسهم صلاحية النقض لأي قرار لا توافق عليه حكومة أي منهم، وأصبح مجلس الأمن الهيئة القيادية في الأمم المتحدة وقراراتها إلزامية، في حين أصبحت قرارات الهئية العامة، وهي الممثل الحقيقي لشعوب ودول العالم غير ملزمة التنفيذ، وبذلك أصبحت مقدرات الشعوب بيد الخمسة الكبار، مما سبب خيبة أمل كبيرة لشعوب وحكومات الدول الأخرى حتى أن رئيس الوفد العراقي [ أرشد العمري ] رفض توقيع الميثاق، وعاد إلى بغداد، وقد قامت الحكومة العراقية بتكليف نوري السعيد بالتوقيع عليه.

ملاحظة : بعد غد [ العراق والحرب العالمية الثانية]

129
مسؤولية المجتمع الدولي في التصدي للإرهاب
حامد الحمداني                                                           19/11/2015

الإرهاب داء خطير يمكن أن  ينتشر كالنار في الهشيم في مختلف بقاع العالم إذا لم تتخذ الإجراءات الكفيلة في مجابهته واستئصاله من جذوره، ويخطئ من يظن أن التصدي له يقع على عاتق الدولة التي تتعرض للإرهاب وحدها، وتخطئ أيضاً الحكومات التي تعتقد أنها يمكن أن تكون بمنأى عن اكتواء بلدانها بنير الإرهاب والإرهابيين.

كما تخطئ الدول التي تقدم الدعم اللوجستي والمادي والسلاح للعناصر الإرهابية بأنها ستكون بمنأى عن سطوة الإرهاب  ولا تكتوي بنيرانه، فقد بات الإرهاب داءأً يبعث بنيرانه شرقاً وغرباً، وبات الإرهابيون يشكلون المنظمات الإرهابية التي تستفيد من تطور وسائل الاتصالات، والحصول على المعلومات التكنولوجية اللازمة لصنع المتفجرات، وتبادل المعلومات عن طريق الإنترنيت، وها هي عصابات داعش الارهابية، والقاعدة، والنصرة، وغيرها من العديد من المنظمات الارهابية الاخرى التي تمتلك خلايا نائمة في مختلف بلدان العالم تتحرك لتنفيذ جرائمها كلما طلبت منها قيادة تنظيماتهم ذلك.

لقد جرى تنفيذ جرائمهم الوحشية البشعة في روسيا وفرنسا واسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة واندونيسا وباكستان والفلبين العراق سوريا ولبنان وليبيا واليمن والجزائر ومصر وكينيا والعديد من الدول الأخرى، وهي ماضية في توسيع نشاطاتها الإرهابية وتطويرها كماً ونوعاً مما يتطلب معالجة عاجلة لهذا الداء الخطير الذي بات يهدد السلم والاستقرار في العالم أجمع.

وعليه فقد بات على المجتمع الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن تحمل المسؤولية المباشرة والكاملة للتصدي للإرهاب والإرهابيين واستئصاال شأفتهم، وإن أي تهاون في هذا الموضوع يمكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة على مستوى العالم، وما يجري في العالم العربي اليوم من جرائم إرهابية بشعة هو النموذج لما يمكن أن يجري في بلدان أخرى .

إن معالجة هذا الداء الوبيل يتطلب العمل على جانبين:
الجانب الأول:
يتطلب معالجة الظروف والمشاكل الاجتماعية والمصاعب الاقتصادية في بلدان العالم الثالث حيث الجوع والفقر والأمراض التي تفتك بالمجتمع تجعل من تلك البلدان البيئة الصالحة لتنامي الإرهاب وضم العناصر الجديدة للمنظمات الإرهابية باستمرار، وهذا الأمر يتطلب أن تدرك الدول الغنية مسؤوليتها في معالجة مشكلة الفقر والبطالة والأمراض وتخصص الأموال اللازمة للنهوض بالمستوى المعيشي لشعوب هذه البلدان بما يليق بالإنسان، وبذلك نستطيع حرمان المنظمات الإرهابية من كسب المزيد والمزيد من العناصر التي تملكها اليأس من تحسين أحوالها المعيشية، وبالتالي تجفيف المصادر البشرية لهذه المنظمات الإرهابية.
الجانب الثاني: يتطلب إصدار الأمم المتحدة  قانون جديد يضاف  للقانون الدولي يحدد الإجراءات والأساليب التي تترتب على كافة أعضاء المنظمة الدولية للتصدي للمنظمات الإرهابية وملاحقتها وشل نشاطها، وإنشاء قسم تابع لمجلس الأمن يتولى متابعة وملاحقة النشاطات الإرهابية بالتعاون مع كافة الدول المنضوية للمنظمة الدولية، وهذا يتطلب اتخاذ الإجراءات التالية، وإلزام كافة دول العالم بالتنفيذ الدقيق والصارم لها لاستئصال شأفة الإرهاب من جذوره وذلك من خلال الإجراءات التالية:

1 ـ إصدار القوانين التي تحرّم وجود المنظمات الإرهابية على أراضيها، وتحديد العقوبات القصوى بحق من يثبت قيامه بأي نشاط إرهابي سواء كان ذلك من خلال تنفيذ النشاطات الإرهابية أو إنشاء المدارس الدينية التي تحض على الإرهاب باسم مخالفة الشريعة،أو التشجيع على الإرهاب عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية .

2 ـ العمل على إعادة النظر الجذرية في المناهج الدراسية بدءأً من رياض الأطفال وحتى الجامعة بما يتفق مع التوجهات الديمقراطية، واستئصال الأفكار العنصرية والشوفينية والظلامية، ومنع استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، وفصل الدين عن الدولة، ورفض الأنظمة الشمولية تحت ستار الدين أو القومية أو العنصرية، ومراقبة النشاطات التي تجري في الجوامع، وخطب الأئمة التي تحرض على الإرهاب باسم المقاومة، واتخاذ الاجراءات القانونية بحق كل من يحض على الارهاب ويبث الأفكارالتي تحض على الكراهية، والحيلولة دون تحويل الجوامع إلى مدارس لتخريج الارهابيين.

3 ـ مراقبة الحكومات كافة لحركة الأموال المستخدمة من قبل المنظمات الإرهابية، ومراقبة البنوك والشركات التي تتولى نقل وتوزيع وغسل الأموال العائدة للمنظمات الإرهابية، ومراقبة التبرعات التي تصل للمنظمات الإرهابية من العناصر الداعمة للإرهاب،  وإنزال العقاب الصارم بكل من يتولى نقل وتوزيع الأموال وتهريبها والتبرع بها .

4 ـ إلزام كافة الدول بتقديم ما لديها من معلومات عن نشاطات المنظمات الإرهابية إلى اللجنة المكلفة من قبل الأمم المتحدة بمتابعة النشاطات الإرهابية في مختلف بلدان العالم، وتبادل المعلومات بين سائر الدول بما يحقق متابعة وملاحقة المنظمات الإرهابية، ومنعها من ممارسة نشاطها الإرهابي على أراضيها أو إيواء الإرهابيين، أو التستر على نشاطاتهم أو تقديم الدعم اللوجستي والأسلحة والمعدات والأموال والخبرات العسكرية والتدريب على أراضيه . 

5 ـ اعتبار كل دولة تسمح للمنظمات الإرهابية التواجد على أراضيها، أو ثبوت تقديمها الدعم المادي أو اللوجستي لها دول داعمة للإرهاب، واتخاذ الأمم المتحدة قراراً بوقف عضوية تلك الدولة في المنظمة العالمية، وفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية عليها حتى تتأكد الأمم المتحدة  من توقف تلك الدولة عن دعم المنظمات الإرهابية.

6 ـ إذا لم تتوقف الدول الداعمة للإرهاب عن دعم النشاطات الإرهابية فوق أراضيها، أو تحض على أو تدعم النشاطات الإرهابية على أراضي الدول المجاورة لها فلمجلس الأمن أن يجتمع ويتخذ قراراً باستخدام القوة ضد تلك الدولة التي ترفض الالتزام بمحاربة الإرهاب وتستمر في دعمه أو تشجيعه، مع مراعات عدم الإضرار بشعوب  تلك الدول بأي شكل كان.

7 ـ عدم قبول الدول لجوء العناصر الإرهابية إليها، أو التستر على وجودهم، والتدقيق في شخصية كل لاجئ، والتأكد من عدم ارتباطه بأية منظمة إرهابية، وتسليم العناصر الإرهابية التي تدخل أراضيها إلى دولهم لتتم محاكمتهم، وإنزال العقوبة التي يستحقونها بهم .

8 ـ مراقبة ومنع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة من تقديم أي نوع من الدعم للمنظمات الإرهابية، وعلى وجه الخصوص الانترنيت وسائر مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتوتر وغيرها من المواقع الآخرى، وإحالة المسؤولين المخالفين للمحاكم، ومراقبة مواقع الإنترنيت ووقف كافة المواقع التي تشجع الإرهاب، وتنقل أخبار الإرهابيين، أوتمجد أفعالهم الإجرامية، وإحالة مسؤوليها إلى المحاكم لينالوا جزائهم العادل.

إن تكاتف جهود كافة الدول وحكوماتها في التصدي للمنظمات الإرهابية، وتحت راية منظمة الأمم المتحدة، وتقديم الدعم والمساعدة للدول والحكومات التي تتصدى للإرهاب، وتبادل المعلومات، بالإضافة لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة في البلدان الفقيرة، والنهوض بالمستوى المعيشي لهذه الشعوب كفيل بالقضاء على المنظمات الإرهابية وتخليص العالم من شرورها الرهيبة.

لقد باتت مسألة التصدي لهذا الشر الوبيل مسألة دولية لا يمكن لأي دولة أن تعفي نفسها من مسؤولية المشاركة الفعالة في مكافحة الإرهاب والإرهابيين، وعلى الدول الغنية أن تتحمل مسؤوليتها في معالجة مسألة الفقر والبطالة وتفشي الأمراض في الدول الفقيرة، فلا يمكن القضاء على المنظمات الإرهابية إذا لم نعمل على تجفيف مصادرها المادية والبشرية. 





130
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثلاثين / الأخيرة
حامد الحمداني                                                                             12 / 11/2015
العراق يرد بإقامة الاتحاد الهاشمي بوحي من بريطانيا:
لم تكد سوريا ومصر يعلنان قيام الوحدة بينهما، حتى بدأ النظامان الهاشميان في بغداد وعمان يفقدان صوابهما، فقد كان وضع النظامين قلقاً جداً، والحركة الثورية في كلا البلدين على أشدها، وبشكل خاص في العراق، الذي خاض شعبه خلال فترة زمنية قصيرة ثلاث معارك مع النظام، وكاد يسقطه.

 لقد خاض الشعب معارك وثبة كانون المجيدة عام 1948، ومعارك وثبة تشرين المجيدة عام 1952، وانتفاضة عام 1956، أبان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة، فقيام الوحدة بين سوريا ومصر، وتدفق المد الثوري العربي التحرري من المشرق إلى المغرب، حشر النظامين الهاشميين في زاوية حرجة، لا يعرفان كيفية الخروج منها.

 لقد رفض النظامان الاعتراف بالوحدة، وتجنب السفيران العراقي والأردني تقديم أوراق اعتمادهما لكي لا يكون الاعتراف قانونياً، وتوجه النظامان إلى الولايات المتحدة وبريطانيا يطلبان الدعم والمشورة معاً. ولاشك أن الإمبرياليين كانوا يشعرون فعلاً بقلق كبير عما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعد الوحدة، وإمكانية امتدادها ، ولذلك عقدوا العزم على تطويقها، وإفشالها، والقضاء عليها. (2)

كانت الخطوة الأولى في هذا السبيل هي حماية النظامين الهاشميين في العراق والأردن، ولذلك أشارت بريطانيا إلى ضرورة قيام اتحاد هاشمي بين البلدين لحماية النظام الأردني الضعيف نسبيا ،عن طريق استدعاء قوات عراقية لترابط في الأردن تحسباً لكل طارئ.
لقد أقترح وزير الخارجية البريطاني [ سلوين لويد ] خلال الاجتماع الوزاري لحلف بغداد المنعقد في اسطنبول ما يلي : (3)

1 ـ قيام اتحاد بين العراق والأردن والسعودية، ليكون أحسن رد على الوحدة المصرية السورية.
2 ـ تشجيع المقاومة السورية، وبث الدعايات لهدم الوحدة، والقيام بعمل عسكري لهدم هذه الوحدة إذا اقتضى الأمر.
 سارع الملك حسين إلى إيفاد وزير بلاطه [ سليمان طوقان ] إلى بغداد، بناء على اقتراح سلوين لويد، وحمله رسالة إلى الملك فيصل وعبد الإله يدعوهما مع بعض وزرائهما إلى عمان للنظر في موضوع الاتحاد.
وفي 11 شباط 1958 طار الملك فيصل، وبصحبته وزراء الخارجية والمالية والعدلية السادة برهان الدين باش أعيان ونديم الباجه جي، وعبد الرسول الخالصي، ثم لحق بهم توفيق السويدي، ورئيس أركان الجيش رفيق عارف، ورئيس الديوان الملكي عبد الله بكر، وبقي الوصي في بغداد في بادئ الأمر لينوب عن الملك، إلا أنه غادر بعد ذلك إلى الأردن ملتحقاً بالركب، في 13 شباط 1958.

و جرت في عمان اجتماعات مطولة بين الطرفين انتهت إلى التوصل إلى قيام {الاتحاد العربي }!! بين القطرين اعتقاداً منهما أن هذا الاتحاد سيكون خير ضامن للعرشين الهاشميين في العراق والأردن، لكنه لا يعدو أن يكون في الحقيقة سوى رداً على الوحدة السورية المصرية، بإيعاز بريطاني ـ أمريكي. (4)

الإعلان عن قيام الاتحاد العربي:
في 14 شباط 1958 صدر بيان مشترك أذيع من محطتي إذاعة بغداد وعمان يعلن عن قيام ما دعوه بالاتحاد العربي، وهذا هو نصه :
تلبية لدعوة حضرة صاحب الجلالة الملك حسين بن طلال، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، حضر إلى عمان يوم الثلاثاء المصادف 11 شباط 1958 حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني ملك العراق المعظم، وحضر أيضاً يوم الخميس الموافق 13 شباط حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله، ولي العهد المعظم .

وقد عُقدت اجتماعات عدة كانت تظللها ذكرى الثورة العربية الكبرى، وأهدافها، خلال هذه المدة برئاسة جلالتهما، وحضور سموه الملكي، وحضرها عن الجانب العراقي كل من أصحاب الفخامة والمعالي السادة  [توفيق السويدي]عضو مجلس الأعيان، و[برهان الدين باش أعيان] وزير الخارجية، [ونديم الباجه جي] وزير المالية، و[عبد الرسول الخالصي] وزير العدل، و[عبد الله بكر] رئيس الديوان الملكي، و[بهاء الدين نوري] سفير العراق في عمان، والفريق الركن[رفيق عارف] رئيس أركان الجيش.

 وعن الجانب الأردني كل من أصحاب الفخامة والمعالي، والعطوفة السادة [إبراهيم هاشم ]،رئيس الوزراء،و[سمير الرفاعي ]،نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، و[سليمان طوقان ]، وزير البلاط، و[خلوصي خيري ]، وزير الاقتصاد الوطني،و[ أحمد طراونة ]،وزير التربية والتعليم والعدلية،و[بهجت التلهوني] رئيس الديوان الملكي الأردني، و[عاكف الفائز] وزير الدفاع والزراعة،  و[فرحان شبيلات]، سفير الأردن في بغداد و[الفريق حابس المجالي ]،رئيس أركان الجيش الأردني، واللواء [صادق الشرع ]، ومعاون رئيس أركان الجيش . وكانت نتيجة المباحثات التي جرت في تلك الاجتماعات حول الاتحاد بين المملكتين العراقية والأردنية أن تم التوصل بين الطرفين إلى عقد اتفاق لقيام [ الاتحاد العربي ] بين الدولتين الذي أعلن اليوم.

صدر في يوم الجمعة 24 رجب 1377 الموافق 14 شباط 1958، في قصر بسمان العامر بعمان. 

نص اتفاق الاتحاد العربي : (6)
المقدمة :
لما كانت الثورة العربية الكبرى التي قادها جلالة المنقذ الأعظم [الحسين بن علي] إيذاناً ببزوغ فجر جديد للأمة العربية تمثلت بالتضحية والفداء في سبيل تحرير الوطن العربي الكبير، وتوحيد شعوبه وأقطاره، لاستعادة مكانة العرب بين أمم العالم، والمساهمة في تقدم الحضارة الإنسانية، ولما كانت تلك الثورة المباركة قد انبثقت عن إرادة العرب في الحرية والوحدة، مستندة في ذلك إلى ماضيها المجيد، وإيمانها بنفسها، وبرسالتها القومية الخالدة، ولما كانت رسالة الثورة العربية التي قضى باعثها في سبيلها، قد انتقلت إلى الأبناء والأحفاد، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، لتبقى المشعل الذي يهدي الأمة العربية في سيرها نحو أمانيها المنشودة في الوحدة الشاملة المستكملة لجميع أسباب الحرية والسيادة والعزة، لاستعادة الأمجاد، والمحافظة على التراث والمقدسات، والتطلع إلى مستقبل مشرق في ظلال هذه الوحدة المباركة، فقد قررت الدولتان الهاشميتان إنشاء اتحاد بينما يقوم على هذه الأهداف السامية، وتحقيقاً لهذه الغايات والأماني القومية، تم الاتفاق بين الطرفين على ما يلي :
1ـ ينشأ اتحاد عربي بين المملكة العراقية والمملكة الأردنية الهاشمية باسم [الاتحاد العربي] اعتباراً من يوم الجمعة 24 رجب 1377هجرية والموافق ليوم 14 شباط  1958 ميلادية، ويكون هذا الاتحاد مفتوحاً للدول العربية الأخرى التي ترغب للانضمام إليه.
2ـ تحتفظ كل من الدولتين بشخصيتها الدولية المستقلة، وسيادتها على أراضيها، ونظام الحكم القائم فيها.
3ـ  تكون المعاهدات، والمواثيق، والاتفاقات الدولية التي سبق أن ارتبطت بها كل من الدولتين قيل قيام الاتحاد بينهما مرعية بالنسبة للدولة التي عقدتها، وغير ملزمة للدولة الأخرى.
أما المعاهدات والمواثيق والاتفاقات الدولية التي ستعقد بعد قيام الاتحاد، والتي تدخل ضمن موضوعات الاتحاد من اختصاص وسلطة حكومة الاتحاد.
 4ـ اعتباراً من تاريخ الإعلان الرسمي لقيام الاتحاد، تنفذ إجراءات الوحدة الكاملة بين دولتي الاتحاد في الأمور التالية :
أ ـ وحدة السياسة الخارجية والتمثيل السياسي .
ب ـ وحدة الجيش العراقي والجيش الأردني .
ج ـ إزالة الحواجز الجمركية بين الدولتين، وتوحيد القوانين الجمركية .
د ـ توحيد مناهج التعليم .
5ـ يتفق الطرفان بأسرع وقت على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوحيد النقد، وتنسيق السياسة المالية والاقتصادية بين الدولتين.
6ـ عندما تقتضي الظروف، ومصلحة الاتحاد، توحيد أي أمر من الأمور الأخرى، غير الواردة في المادة الرابعة، تتخذ الإجراءات اللازمة بموجب دستور الاتحاد، لإدخال ذلك الأمر ضمن اختصاص وسلطات حكومة الاتحاد.
7ـ يكون علم الثورة العربية علم الاتحاد، وعلماً لكل من الدولتين.
8ـ أـ تتولى شؤون الاتحاد حكومة اتحادية تتألف من مجلس تشريعي، و سلطة تنفيذية .
  ب ـ ينتخب كل من مجلس النواب العراقي والأردني، أعضاء المجلس التشريعي من بين أعضائهما بعدد متساوي من الدولتين .
 ج ـ يعين أعضاء السلطة التنفيذية وفق أحكام دستور الاتحاد، لتولي الأمور التي تدخل ضمن اختصاص حكومة الاتحاد.
9 ـ يكون ملك العراق رئيساً لحكومة الاتحاد، وفي حالة غيابه، لأي سبب كان، يكون ملك الأردن رئيساً لحكومة الاتحاد، ويحتفظ كل من الملكين بسلطاته الدستورية في مملكته، وعند انضمام دولة أخرى إلى الاتحاد، يعاد النظر في وضع رئاسة الاتحاد حسب مقتضيات الأمور.
10 ـ يكون مقر حكومة الاتحاد بصورة دورية في بغداد لمدة ستة أشهر، وفي عمان لمدة ستة أشهر أخرى.
11ـ أـ تضع حكومة الاتحاد دستوراً للاتحاد، وفق الأسس المبينة في هذا الاتفاق، ويعدل دستور كل من الدولتين إلى المدى والحدود التي تقتضيها أحكام دستور الاتحاد .
 ت ـ تتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لإقامة حكومة الاتحاد، ووضع دستور الاتحاد في مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من تاريخ توقيع هذا الاتفاق.
12ـ يبرم هذا الاتفاق وفق الأصول الدستورية لكل من الدولتين.
صدر عن قصر بسمان العامر في عمان، في يوم الجمعة 24 رجب 1377 هجرية، المصادف ليوم 14 شباط 1958 ميلادية .

لقد كان واضحاً أن هذا الاتحاد الذي أقيم على عجل ـ بعد عشرة أيام من قيام الوحدة بين سوريا ومصر ـ لم يكن في الحقيقة سوى رداً على هذه الوحدة التي هزت أركان النظامين الهاشميين، مما حدا ببريطانيا والولايات المتحدة إلى حثّ الملك حسين، والملك فيصل الثاني على الإسراع بإقامة هذا الاتحاد، خوفاً من المد الثورة الوحدوي الذي اجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وهدد بشكل جدي بقاء واستمرار هذين النظامين المرتبطين بالإمبريالية أمام ذلك المد الجارف .
 كما جرت محاولات لجر المملكة العربية السعودية لهذا الاتحاد، إلا أن الحكام السعوديون الذين كانوا لا يشعرون بالارتياح للهاشميين، ولاسيما بعد أن أنتزع عبد العزيز آل سعود الحكم منهم في الحجاز ونجد، منعهم من الإقدام على اتخاذ على هذه الخطوة. (7)

ولاشك أن للصراع البريطاني ـ الأمريكي على نفط العرب كان له دور في ذلك، فالولايات المتحدة وإن كانت لها مصالح مشتركة مع بريطانيا، إلا أنها كانت ترمي إلى إزاحة السيطرة البريطانية المطلقة على منطقة الخليج، وهذا ما جرى فعلاً، حيث استطاعت الولايات المتحدة أزاحتها شيئاً فشيئاً عن المنطقة، ليصبح لها حصة الأسد في نفط الخليج .
ولابد أن أشير هنا إلى أن قيام الاتحاد بين المملكتين قد قوبل بكل برود، وعدم اهتمام ليس من قبل الشعبين العراقي والأردني فحسب، بل من سائر الشعوب العربية، على عكس ما جرى حين قيام الوحدة بين سوريا ومصر، حيث اجتاحت العالم العربي موجة عارمة من الأفراح بقيامها لأن الشعوب العربية كانت مدركة أن تلك الوحدة كانت موجهة ضد المؤامرات الإمبريالية على العرب، في حين كان واضحاً تماماً أن الاتحاد الهاشمي، هو اتحاد ملوك، لا اتحاد شعوب، اتحاد اقتضته مصالح الإمبرياليين وربيبتهم إسرائيل، لكي يقف سداً بوجه المد الثوري الوحدوي العربي  التواق للتحرر من السيطرة الإمبريالية. (8)

ورغم كل ما خططه الإمبرياليون، فقد كان المد الثوري الجارف أقوى منهم ومن مخططاتهم، ولم يستطع ذلك الاتحاد الصمود سوى خمسة أشهر فقط، فقد انهار النظام الملكي في العراق خلال ساعات، أمام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة، وسقط ذلك الاتحاد المسخ، واضطر الإمبرياليون إلى إنزال قواتهم العسكرية في الأردن ولبنان، لحماية تلك الأنظمة التي صنعوها في هذين البلدين، ولمحاولة الاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة.

لكن أحلامهم باءت بالفشل، بعد الدعم الحاسم من قبل الشعب العراقي، والجمهورية العربية المتحدة، والاتحاد السوفيتي، وسائر الشعوب العربية للثورة، واضطر الإمبرياليون إلى تبديل خططهم، وتكتيكاتهم، ومحاولة التآمر الخفي،بالتعاون مع عملائهم، ورجالهم ، ومرتزقتهم لإسقاط النظام الجديد في العراق، واغتيال الثورة بعد بضعة أعوام .

 تصاعد التوتر في المنطقة، وعودة نوري السعيد للحكم

بالنظر للتطورات التي حصلت في المنطقة، بعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر، وما سببته تلك الوحدة من قلق بالغ، ليس للنظامين العراقي والأردني فحسب، بل للإمبريالية ومشاريعها ومخططاتها في المنطقة، ولإسرائيل،لذلك وجد الإمبرياليون البريطانيون والأمريكيون أن خير من يستطيع تولي الأمور في العراق في ذلك الوقت هو نوري السعيد ـ رجل الإمبريالية الأول في المنطقةـ وهكذا جرى الإيعاز إلى عبد الوهاب مرجان لتقديم استقالة حكومته بذريعة ضرورة حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة، وإجراء تعديلات على الدستور العراقي، اقتضاها قيام الاتحاد الهاشمي.

لكن الحقيقة هي  أن رئيس الوزراء [ عبد الوهاب مرجان ] رفض خطط عبد الإله ونوري السعيد بإرسال الجيش العراقي للاعتداء على سوريا، وقلب نظام الحكم فيها، مما أثار غضب عبد الإله ونوري السعيد اللذان ظنا أن الظروف مؤتية للعدوان على سوريا، وتحقيق حلم عبد الإله بعرش على سوريا، وأن موقف مرجان يحبط طموح عبد الإله فأوعز إلي  مرجان بتقديم استقالة حكومته. (9)

وهكذا تقدم عبد الوهاب مرجان باستقالة حكومته إلى الملك فيصل في 2 آذار 1958، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الرابعة عشرة له منذ تأسيس النظام الملكي، وجاءت الوزارة على الوجه التالي : (10)
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع .
2 ـ فاضل الجمالي ـ وزيراً للخارجية .
3 ـ سعيد قزاز ـ وزيراً للداخلية .
4 ـ جميل عبد الوهاب ـ وزيراً للعدلية .
5 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد .
6 ـ عبد الكريم الازري ـ وزيراً للمالية .
7 ـ سامي فتاح ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
8 ـ محمد مشحن الحردان ـ وزيراً للزراعة .
9 ـ عبد الحميد كاظم ـ وزيراً للمعارف .
10 ـ عبد الأمير علاوي ـ وزيراً للصحة .
11 ـ صالح صائب الجبوري ـ وزيراً للمواصلات والأشغال .
12 ـ رشدي الجلبي ـ وزيراً للأعمار .
14 ـ برهان الدين باش أعيان ـ وزيراً بلا وزارة .
15 ـ محمود بابان ـ وزيراً بلا وزارة .
16 ـ رابح العطية ـ وزيراً بلا وزارة .

وقد أعلن نوري السعيد فور تأليفه للوزارة أن هذه الوزارة تألفت في ظروف خاصة ومعلومة يجتازها العراق على وجه خاص، والبلاد العربية بوجه عام، وأن مهمتها ستكون العمل على دعم الاتحاد الهاشمي، وتقويته بجميع الوسائل الممكنة، وتثبيت الاستقرار في البلاد، والأمر المؤكد أن نوري السعيد قد عاد إلى الحكم من جديد بسبب قيام الوحدة بين سوريا ومصر، وما شكلته من مخاطر على النظام في العراق والأردن ولبنان وإسرائيل، وجاء السعيد يحدوه الأمل في تقويض تلك الوحدة وفصم عراها، حتى لو تطلب الأمر التدخل العسكري ضد سوريا، بدعم وإسناد من أسياده الإمبرياليين.

ويقول [ ارسكين تشايدلرز] في كتابه [ الحقيقة عن العالم العربي ] :
{توصل نوري السعيد، الذي كان على توافق تام مع كميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية، إلى قراره الذي قُدر له أن يولد ميتاً، وهو الدخول إلى سوريا بقوة عسكرية عن طريق الأردن للقضاء على الوحدة السورية المصرية، والعمل على سحق الثورة في لبنان ضد نظام كميل شمعون. (11)

ولقد أكد رئيس الوزراء السيد عبد الوهاب مرجان أهداف وخطط نوري السعيد تلك للسيد عبد الرزاق الحسني حيث قال : (12)
{ لما رجع نوري السعيد من اجتماع ميثاق بغداد الذي عقد في أنقرة، أجتمع بي وبولي العهد عبد الإله، ورئيس الديوان الملكي عبد الله بكر، وقال: {إن سوريا مقبلة على ثورات، وإن الواجب على العراق إسناد سوريا، وإن أدى الأمر إلى تدخل الجيش العراقي، فأجبته أني لا أرى من المصلحة زج جيش العراق في أحداث سوريا الداخلية، وإن أية حكومة عراقية توعز إلى جيشها بالذهاب إلى سوريا سينقلب عليها}. فاستغرب نوري السعيد هذه المفاجأة وسألني قائلاً :
{من جاءك بهذا الخبر؟ فقلت له إنه مدير الأمن العام [ بهجت العطية] فأنكر السعيد صحة ذلك، وكان المطلوب أصلاً إرسال جيش عراقي على الأردن للوقوف على حدود سوريا والتدخل عند تأزم الساعة}. 

استقبل الشعب العراقي وزارة السعيد بوجوم وقلق شديدين، فقد عوده السعيد عند ما ألف جميع وزاراته الثلاث عشرة السابقة أنه جاء لينفذ مهام خطيرة أوكلها له أسياده البريطانيون،  وأنه مقدم على المزيد من الانتهاكات لحقوق وحريات الشعب، وتشديد الخناق عليه، وكما أسلفنا عند استعراضنا للفترات التي حكم فيها نوري السعيد أنه لا يتوانى عن استخدام أشد الأساليب القمعية ضد الشعب وقواه الوطنية  من أجل تنفيذ ما أوكل له من مهام .

ولذلك فقد بادر 41 شخصية سياسية من رؤساء وزراء، ووزراء سابقين، ونواب وقادة الأحزاب الوطنية، وكبار المحامين ورجال القانون، وأساتذة الكليات، بتقديم مذكرة إلى نوري السعيد تحذره فيها من مغبة السير على نفس الطريق الذي سار عليه، وما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج . (13)

إلا أن نوري السعيد منع  نشر نص المذكرة في الصحف العراقية، وحاول تجاهلها، مما اضطر مقدمي المذكرة إلى نشرها في صحيفة الشعب المصرية في عددها الصادر في 4 نيسان 1958، وكان لها دوي هائل بين جماهير الشعب العراقي، وفيما يلي نص تلك المذكرة: (14)
{فخامة رئيس الوزراء المحترم :
عدتم إلى الحكم في ظروف يقف خلالها العراق في مفترق الطرق، ويتوقف على سلوك الطريق القويم منها مصير الأجيال المقبلة، وقد اخترتم من قبلْ سياسة معينة، أدت إلى تحويل وجهة العراق من الأمة العربية إلى الارتباط بحلف بغداد، والاتفاق الخاص مع بريطانيا، وفي سبيل تمشية تلك السياسة عُطلت جميع حقوق الشعب الدستورية، وأصبح من المتعذر في هذا الجو الخانق الذي يسود العراق أن يعلن أبناء الشعب وجهة نظرهم وهم آمنون من الأذى. لذلك رأينا نحن الموقعون أدناه أن نصارحكم بالحقائق التالية أملاً في أن نحمل الحكومة على سلوك الطريق الوحيد الذي يتفق مع مصلحة  الشعب، ومطالبه الوطنية، وأمانيه القومية.
 إن العراق يا صاحب الفخامة لا يمكن أن ينفصل عن الأمة العربية، فهو جزء لا يتجزأ منها، وقد رأيتم تجاوب الأمة العربية معه في استنكار حلف بغداد، كما رأيتم استحالة مدّ الحلف المذكور إلى أي بلد عربي آخر،  فلا بدّ أولاً من الخروج من هذا الحلف، وتحريره من الاتفاق الخاص مع بريطانيا ليشعر العراق أنه أصبح مستقلاً من التبعية الأجنبية التي كانت وستضل مصدراً لجميع متاعبه الداخلية ومشاكله مع سائر الدول العربية، وبإقرار هذه الخطوات الأولى تنتفي أهم العوامل التي أدت إلى تعطيل حقوق الشعب وحرياته، فما مرّ في العراق عهد انتهكت فيه هذه الحقوق، وهدرت فيه هذه الحريات كالعهد الذي رافق عقد هذا الحلف، والاتفاق الخاص مع بريطانيا.

 ونحن واثقون أن الشعب حين يجد نفسه حراً من القيود التي كبلته بها الروابط المصطنعة المذكورة طليقاً من الأصفاد التي غلّت حرياته، سيتجه بكل قواه نحو الاتحاد الشامل مع سائر الدول العربية، ولن يرضَ أن يزعم بضعة أشخاص أنهم يمثلونه حين يدعوه جهراً إلى تفريق الصف العربي، بإعلان عدائهم السافر لتحقيق خطوة كان العرب يعتبرونها حلماً بعيد المنال، ألا وهي اتحاد مصر وسوريا في دولة عربية واحدة، فما كان لمواطن مخلص أن يتمنى شيئاً أعز من أن تتحمل مصر مسؤوليتها في بناء الوحدة العربية.

 وقد أعلن المسؤولون عن ميثاق الوحدة أن بابها مفتوح لأي دولة عربية، وبأي شكل تختاره من أشكال الاتحاد. وبالفعل بدأت فوراً مفاوضات الاتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة اليمنية، وأن مسيرة تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، وممارسة كل منها لحقوق السيادة الكاملة المجردة من أي تبعية لأية دولة أجنبية، فالقول بأن الوحدة بين مصر وسوريا تعتبر تحدياً للعراق هو قول لا يقره عاقل، لأن وحدة العرب قوة لجميع العرب، وليس في استطاعة أية دولة أجنبية حمل المواطنين في أي بلد عربي على الاستسلام لها.

ومن العجب أن يتظاهر البعض برغبته في إقامة اتحاد بين سوريا والعراق، وينكر إقامة اتحاد بين العراق من جهة، وسوريا ومصر من جهة أخرى، وكذلك الحال بالنسبة للأردن فإن دخوله مع العراق في اتحاد يشمل الجمهورية العربية المتحدة، أدعى إلى تعزيز وحدة الصف العربي.

 إن العراقيين يا صاحب الفخامة، قد ملوا العهد الذي يبيح لبضعة أشخاص أن يدعوا التعبير عن إرادة الشعب، في وقت لا يجد فيه هذا الشعب أي وسيلة للإفصاح عن رأيه في صحف حرة، أو اجتماعات، أو انتخابات سليمة، بعد أن عُطلت  أحكام الدستور التي هي كل لا يتجزأ، لذلك نرى أن من واجبنا أن نهيب بفخامتكم إلى الالتفات إلى رغبات الشعب، وهي رغبات صريحة توجب توحيد الصف العربي، والتحرر من ميثاق بغداد، والاتفاق الخاص مع بريطانيا، وإطلاق الحريات الدستورية، بما فيها حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة، والاجتماعات العامة، والإفراج عن المحكوم عليهم في القضايا السياسية، ليستطيع الشعب الجهر بآرائه الرامية إلى تحقيق الاتحاد المنشود بين العرب كافة. وتفضلوا يا صاحب الفخامة بقبول فائق الاحترام} .

بغداد، في 24 شعبان 1377 هجرية المصادف ليوم 15 آذار 1958 ميلادية.
صورة منه إلى رئيس الديوان الملكي .
الموقعون :
محمد رضا الشبيبي ـ محمد مهدي كبه  ـ ناجي شوكت  ـ مزاحم الباجه جي  ـ تحسين علي ـ  سعد عمر  ـ  حسين جميل   ـ  فائق السامرائي  ـ  محمد صديق شنشل   ـ  سامي باش عالم  ـ جمال عمر نظمي ـ  حسن عبد الرحمن ـ علي الصافي ـ محمد حديد ـ جميل كبه ـ محمد أحمد العمر  ـ  نجيب الصائغ  ـ  صالح الشالجي  ـ  محمد بابان  ـ  فيصل حبيب الخيزران ـ كامل الشالجي ـ أحمد زكي الخياط ـ مظهر فهمي العزاوي ـ محمود رامز ـ زكي جميل حافظ ـ  رمزي العمري ـ ناجي يوسف  ـ عواد علي النجم  ـ إبراهيم عطار باشي  ـ  محمود الدرة ـ عبد الحميد الياسري ـ هديب الحاج حمود ـ عبد الشهيد الياسري ـ نعمان العاني  ـ فؤاد الركابي ـ  جميل أمين  ـ  عبد الرحمن البزاز ـ محمد الطريحي ـ د .مصطفى كامل ياسين ـ
د . عبد الله إسماعيل البستاني ـ د . فيصل الوائلي ـ د . عباس الصراف .
وقد كلف الموقعون على المذكرة السيد ناجي شوكت ـ أحد رؤساء الوزارات السابقين ـ بمقابلة ولي العهد عبد الإله، وتقديم صورة من المذكرة إليه، والطلب منه العمل على تجميد ميثاق بغداد، وإبعاد نوري السعيد عن سدة الحكم، وتعينه سفيراً في الولايات المتحدة، وتكليف أحمد مختار بابان بتأليف وزارة مختلطة، وإعادة النظر في سياسة الخارجية والداخلية.

لكن عبد الإله رفض الاستجابة لما جاء في المذكرة، وحتى الاستجابة للمقابلة، كما تجاهلها نوري السعيد، وقد عزز هذا الموقف من قبل عبد الإله ونوري السعيد الرأي القائل أن لا أمل يرتجى من هذا النظام الذي ربط مصيره بمصائر الإمبرياليين، وان لا طريق أمام الشعب وقواه الوطنية سوى العمل على إزاحة هذا النظام بالقوة. (15)

مضى نوري السعيد في تنفيذ سياسته المرسومة، فعدل الدستور في 11 أيار 1958، ليسمح للعراق بإقامة الاتحاد الهاشمي، كما أقدم على حل البرلمان في 28 آذار من العام نفسه، وحدد موعداً لإجراء الانتخابات في 5 أيار 1958.

أعلنت القوى والأحزاب الوطنية، وجماهير الشعب  مقاطعتها للانتخابات في ظل الظروف السائدة، حيث ألغيت الأحزاب والجمعيات، والصحف، وسلبت كافة الحقوق والحريات العامة التي نص عليها الدستور، وحيث تُحكم البلاد بموجب المراسيم غير الدستورية الجائرة، فقد كان معروفاً سلفاً نتائج مثل هكذا انتخابات، وقد أسفرت تلك الانتخابات الشكلية عن فوز 118 نائباً سعيدياً بالتزكية، دون منافس، من أصل 148 نائباً،  وكان الباقون من مؤيدي سياسة نوري السعيد كذلك، وقد أقّر البرلمان الجديد التعديلات الدستورية، والاتحاد الهاشمي. (16)
وبعد أن أتم نوري السعيد المهمة الموكلة له، تقدم باستقالة حكومته إلى الملك في 14 أيار 1958  ليتفرغ لرئاسة وزارة الاتحاد، حيث تم قبول الاستقالة، وكلف الملك السيد أحمد مختار بابان بتأليف الوازرة الجديدة في 19 أيار 1958، وكلف نوري السعيد بتأليف وزارة
الاتحاد .
نوري السعيد يتولى رئاسة حكومة الاتحاد الهاشمي:
على أثر قيام الاتحاد الهاشمي الذي دُعي بـ [ الاتحاد العربي ]، وتقديم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الملك فيصل، كلفه الملك بتشكيل وزارة الاتحاد، حيث صدرت الإرادة الملكية في 19 أيار 1958، وجاءت الوزارة على الوجه التالي ـ
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء .
2 ـ إبراهيم هاشم ـ نائباً لرئيس الوزراء .
3 ـ توفيق السويدي ـ وزيراً للخارجية .
4 ـ خلوصي الخيري ـ وزير دولة للشؤون الخارجية .
5 ـ سليمان طوقان ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ سامي فتاح ـ وزير دولة لشؤون الدفاع .
7 ـ عبد الكريم الأزري ـ وزيراً للمالية .

ورغم أن نوري السعيد قد أصبح رئيساً لوزارة الاتحاد إلا انه ظل الحاكم الفعلي للعراق دون منازع، وركّز جُلّ اهتماماته لتدعيم الاتحاد من جهة، والعمل على إجهاض الوحدة السورية المصرية، ودعم نظام حكم كميل شمعون في لبنان، ومقاومة ثورة الشعب اللبناني.
كان نوري السعيد يخطط لإرسال القوات العراقية إلى الأردن، واتخاذه نقطة وثوب للعدوان على سوريا، ومحاولة احتلالها، والاندفاع بقواته نحو لبنان، لقمع الثورة الشعبية فيه .

ثورة 14 تموز1958، ونهاية النظام الملكي:

 لم تجرِ الرياح كما تشتهي السفن، كما يقول الشاعر، وانقلب السحر على الساحر، وقامت القوات العراقية التي أريد لها أن تقوم بالعدوان على سوريا بالإطاحة بالحكم الملكي في العراق، والقضاء على رموزه، عبد الإله والملك فيصل، ونوري السعيد، وتهاوى كل ما بناه نوري السعيد طيلة الحكم الملكي خلال ساعات، في صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، وأصيبت المخططات الإمبريالية بضربة موجعة لم تعرف لها مثيلاً من قبل، أفقدتها صوابها، وجعلتها تسرع إلى إنزال قواتها في لبنان والأردن لحماية النظامين فيهما ومحاولة العدوان على العراق وإجهاض ثورة 14 تموز المجيدة، والعودة بالعراق إلى أحضان الإمبريالية.

لكن خططهم باءت بالفشل، وثبّت الثورة أقدامها، واستمرت في سيرها إلى الأمام تسندها سواعد العراقيين، وبقية الشعوب العربية، وجميع القوى المحبة للسلام في العالم أجمع.
بعد الإعلان عن قيام الاتحاد العربي بين العراق والأردن، واستقالة حكومة نوري السعيد لكي يتفرغ لرئاسة حكومة الاتحاد، كلف الملك فيصل الثاني السيد أحمد مختار بابان بتأليف الوزارة العراقية، ولم تكن هذه الوزارة سوى امتداد لوزارة نوري السعيد السابقة، وبقي السعيد في واقع الأمر يحكم العراق، بوصفه رئيساً لوزارة الاتحاد، ويحدد سياسته وتوجهاته، ولم تقدم حكومة بابان أي شيء ملموس لمعالجة الأوضاع المتردية في البلاد، سوى استصدار إرادة ملكية بإعفاء الأستاذ كامل الجادرجي من بقية مدة سجنه، حيث كان المجلس العرفي العسكري قد حكم عليه عام 1956 بالسجن لمدة ثلاث سنوات.

 أما ما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد استمرت الحكومة بدعم الرئيس اللبناني كميل شمعون ضد إرادة شعبه، ومدته بالأسلحة بشكل مكثف ومتواصل، في محاولة لدحر الثورة الشعبية، وقد تكشف أمر هذه الأسلحة بعد قيام ثورة 14 تموز المجيدة، حيث تم فضحها، واعترف القائمون بإرسالها ونقلها أمام محكمة الشعب ـ المحكمة العسكرية العليا الخاصة ـ فقد اعترف عقيد الجو [يوسف عزيز]أمام المحكمة في 23 آب 1958 انه قد نقل بالطائرة 3 أطنان من الأسلحة والمعدات في 20 أيار 1958، بناء على أوامر الزعيم [أحمد مرعي ]  معاون رئيس الديوان الملكي ، وسلمه إياها المقدم  [يوسف محمود ] من الاستخبارات العسكرية، وقد استلمها في بيروت [ سيد عباس ] و شخص لبناني برتبة رئيس درك يدعى  [نخلة مغبغب ]، كما نقل وجبة ثانية في 14 حزيران 1958، وسُلمت إلى الشخصين المذكورين أيضاً . (17)

وفي بيروت ضبطت قوات الانتفاضة اللبنانية سيارة عائدة للسفارة العراقية محملة بالأسلحة في 15 حزيران 1958، مما يؤكد ضلوع الحكومة العراقية في عملية دعم كميل شمعون ضد الشعب اللبناني.
لكن كل ذلك الدعم لم يفت في عضد الشعب اللبناني، وعزمه على إخراج شمعون من السلطة، وانهارت كل أمال شمعون في البقاء بعد قيام ثورة 14 تموز في العراق، وأعلن رئيس مجلس النواب اللبناني عن عقد جلسة للمجلس، في 24 تموز 1958 لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بدلاً من شمعون الذي انتهت مدة ولايته  في 23 تموز 958 ، وكان المقرر حسب الخطة التي وضعها نوري السعيد أن تدخل قوات عراقية عبر الأردن إلى سوريا لاحتلالها، والزحف نحو لبنان لسحق الثورة الشعبية فيها، وتجديد ولاية شمعون، وكان نوري السعيد الذي عُين رئيساً لحكومة الاتحاد الهاشمي، والتي أصبحت مسؤولة عن الشؤون الخارجية والدفاعية، يعمل بكل طاقته في هذا الاتجاه، حيث قام بمد النظام اللبناني برئاسة شمعون بالأسلحة والأموال كما أسلفنا، وأرسل جانباً من قوات الجيش العراقي إلى الأردن لأعداد العدة للهجوم على سوريا، والزحف نحو لبنان لتقديم الدعم العسكري لحكومة شمعون.

كما تبين من اعترافات أركان النظام العراقي،بعد ثورة 14 تموز المجيدة أمام محكمة الشعب، وكان من المقرر أن تُتبع تلك القوات بأخرى إضافية تتمثل في اللواءين التاسع عشر والعشرين، حيث كان اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم الركن [ عبد الكريم قاسم ] فيما كان اللواء العشرين بقيادة الزعيم [ أحمد حقي] يقود فوجين من أفواجه الثلاثة كل من العقيد [ عبد السلام عارف ] و العقيد  [عبد اللطيف الدراجي ] وهما من ضباط اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار، بغية مهاجمة سوريا واحتلالها، وإجهاض الوحدة السورية المصرية، ولتقديم الدعم العسكري لشمعون، للقضاء على الثورة اللبنانية، بتخطيط،ودعم من الإمبرياليين.
ظن نوري السعيد أنه قادر على تحقيق هذا المخطط الإمبريالي، وكان يبدو مزهواً بقوته ومتانة حكمه، ويحلو له أن يردد مقولته الشهيرة [ دار السيد مأمونة ]، ولكن لم تمضِ سوى أيام معدودة حتى ظهر أن تلك الدار التي ظنها نوري السعيد مأمونة قد تهاوت بلمح البصر فوق رؤوس أصحابها فجر الرابع عشر من تموز 1958، حيث كان من المقرر أن يمرّ اللواءان  التاسع عشر، والعشرين، القادمين من جلولاء ببغداد، في طريقهما إلى الأردن.
 ولم يدرِ نوري السعيد أن هذين اللواءين سيحققان نهاية حكمه البغيض، ونهاية النظام الملكي العميل للإمبريالية وليلقى هو، وعبد الإله والملك فيصل الثاني نهايتهم، وتتلاشى أحلام الإمبرياليين في العدوان على سوريا وشعب لبنان، وليسدل الستار على تلك المرحلة من تاريخ العراق.
 لم يجد الإمبرياليون بُد، بعد أن تلاشت آمالهم بنوري السعيد، وانهيار النظام الملكي من التدخل المكشوف في لبنان والأردن، حيث تم إنزال قواتهم في البلدين لحماية الأنظمة الرجعية فيها ومحاولة الاعتداء على العراق، وحركوا عملائهم في حلف بغداد ـ الذي أصبح دون بغداد ـ في تركيا وإيران لتحشيد قواتهما على الحدود العراقية استعداداً لعمل عسكري لإجهاض الثورة.

لكن موقف الاتحاد السوفيتي الحازم أفشل خطط الإمبرياليين، وجعلهم يفكرون ألف مرة قبل الأقدام على مغامرة حمقاء ربما كانت تجر العالم إلى هاوية الحرب بكل أسلحتها التقليدية وغير التقليدية، مما اضطر الإمبرياليين إلى تغير خططهم وتكتيكاتهم، ومحاولة لغم الثورة من الداخل عن طريق تنشيط عملائهم البعثيين الذين استطاعوا اغتيال ثورة 14تموز وقائدها عبد الكريم قاسم  بانقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، وأغرقوا البلاد بالدماء .

انتهى الكتاب


131
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة التاسعة والعشرون
الأحزاب الوطنية تقرر تشكيل جبهة الاتحاد الوطني
حامد الحمداني                                                            9/ 11/2015
أدركت القوى والأحزاب الوطنية استحالة تغيير الأوضاع في البلاد من دون تعاونها المشترك، وبموجب برنامج يتم الاتفاق بشأنه من قبل كافة الأطراف.
ونتيجة للمساعي المبذولة في هذا السبيل جرت لقاءات بين قادة الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة، وتم خلال تلك اللقاءات دراسة مكثفة حول السبل والوسائل الكفيلة لتحقيق أهداف الشعب وطموحاته، وإنقاذه من تلك الزمرة التي اغتصبت حقوقه وحرياته، وربطت البلاد بعجلة الإمبريالية، وأسفرت تلك الجهود عن تشكيل {جبهة الاتحاد الوطني } في شباط من عام 1957، وتم تشكيل لجنة عليا تضم ممثلين عن تلك الأحزاب. (31)

حاول الحزب الشيوعي إشراك الحزب الديمقراطي الكردستاني في الجبهة، إلا أن تلك المحاولة لقيت المعارضة من قبل الحزبين القوميين البعث والاستقلال، ولذلك فقد اكتفي الحزب الشيوعي بالتحالف الثنائي مع الحزب المذكور. وفي 9 آذار 1957، صدر البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني، وقد استعرض البيان أسباب قيام الجبهة، وأهدافها، وقد أجمعت الأحزاب المنضوية فيها على الخطوط والأهداف الرئيسية التي ستناضل من اجل تحقيقها، والتي تم تحديدها بالبنود التالية:
1 ـ إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي.
2 ـ الخروج من حلف بغداد، وأتباع سياسة الحياد الإيجابي.
3 ـ إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة.
4ـ إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم، وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين.
5 ـ تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة.
وفيما يلي نص البيان التأسيسي الذي أعلنته اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني:

 نص البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني:

أيها الشعب العراقي الكريم :
نظرة في الوضع الدولي العام: يتميز الوضع الدولي العام باشتداد الكفاح على النطاق الدولي بين الدول الاستعمارية من جهة وبين القوى الوطنية والتحررية من جهة أخرى، باتخاذ الكفاح المذكور أشكالاً جديدة بعد أن تغير ميزان القوى داخل الجبهة الاستعمارية، وبينها وبين القوى الوطنية التحررية، تغيراً حاسماً، بعد فشل العدوان الجنوني الغادر على الشقيقة مصر، وتصدع البناء الاستعماري تصدعاً خطيراً، وانكشاف زيف المواثيق والأحلاف الاستعمارية، والدور المستنكر الذي قامت به دول حلف بغداد، وخاصة [ تركيا ] و[ العراق ] في العدوان المذكور. ومن البديهي أن يحاول الاستعمار، الذي يرى في نمو القومية العربية، ونشوء كتلة الدول العربية المتحررة، وتبلور الوعي القومي للشعوب العربية أكبر خطر على مصالحه، وأعظم عائق في إحكام طوقه الاستعماري، وأكبر ثغرة في سلسلة مواثيقه وكتله وأحلافه، من البديهي أن يحاول تجديد أشكاله، وتغيير أساليبه، والقيام بتوزيع جديد لأدوار أبطاله، ورفع شعارات جديدة تتلاءم والمواقف المستجدة المتغيرة.

وبالرغم من عدم تبلور الموقف الاستعماري الجديد، وشدة التناقضات التي تنخر في جسمه، إلا أن الخطط الأولى لهذا الوضع الجديد بدأت تتضح في محاولات مفضوحة للقضاء على الوضع السياسي الوطني في الشقيقتين مصر وسوريا طريق الضغط الاقتصادي المتواصل، والمؤامرات المكشوفة، وتهديدات الدول المجاورة الضالعة في ركاب الاستعمار، والاتهامات الرخيصة الكاذبة، وحملات التهويش والتضليل، وسياسة الدس،عن طريق الرشوة وشراء الذمم، وإفساد الضمائر، ومحاولة تحويل قوات الأمن الدولية إلى قوات احتلال دائمة.

هذا فضلاً عن حماية إسرائيل، وإسناد سياستها العدوانية، وتوسعها الإقليمي، والعمل على فرض الصلح معها على العرب، والتلويح بتدويل الأراضي العربية لاستخدامها كقواعد ضد حركة التحرر القومية، واندفاع الاستعمار الأمريكي للحلول محل الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط ، والاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، والاستمرار في إسناد ميثاق بغداد، ومحاولة جر الدول العربية المتحررة إليه بالضغط والتهديد والإكراه، وتكوين اتحاد استعماري جديد في المغرب العربي، وخنق القومية العربية بمنع مصادر الحياة والقوة عنها، بما في ذلك الموارد الاقتصادية والمالية، والأسلحة الدفاعية، وتدعيم المصالح النفطية في الشرق الأوسط باسم حرية التجارة والملاحة العلمية والنقل، والتآمر المكشوف على أمن الشعوب وسلامتها، ومصالحها باسم نظرية الفراغ السياسي المزعوم، وصيانة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وأخيرا ًوليس آخراً تثبيت الأوضاع الفاسدة في الشرق الأوسط ومنع أي تطور ديمقراطي لها بكل الوسائل التي ينطوي عليها [مشروع ايزنهاور] الجديد.

 ولكن بالرغم من هذه المؤامرات الاستعمارية التي استنفذت جميع أشكالها، من معاهدات غير متكافئة، الى أحلاف عسكرية استعمارية، إلى تحالف مع [ إسرائيل ] عدوة العرب، إلى عدوان مسلح على الشقيقة مصر، نقول على الرغم من هذه المؤامرات، فقد خرجت القومية العربية من هذه المعركة منتصرة، قوية ونامية، بعد أن صقلتها التجارب، وثبتت أركانها المحنة، إذ ردّت العدوان على مصر، وألغت معاهدة قناة السويس لسنة 1954، وأرغمت الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا، وربيبتهما إسرائيل على الانسحاب، كما أنها فضحت الدولة المزعومة إسرائيل في المجالات الدولية فبدا حق العرب واضحاً في فلسطين وسما مركزهم مشفوعاً بروح جديدة تدفعهم للنضال، وتشدهم للاتحاد. لكن الاستعمار لن يلقِ سلاحه بسهولة، لأنه ما زال يتثبت بالبقاء في منطقة الشرق الاوسط، ولاسيما في العراق، تحت ستار حلف بغداد الاستعماري، مستعيناً بأذنابه الذين ربطوا مصالحهم به.

 إن هذا الوضع الشاذ، والمرحلة الخطيرة التي تجتازها الأمة العربية في تاريخها، تفرض على العراقيين أن يقوموا بواجبهم في الكفاح من أجل التحرر والاستقلال، فاجتمع الوطنيون، وتدارسوا الأوضاع الداخلية والخارجية، وثبتوا الأهداف التي تعبر عن هذه المرحلة نقطة ابتداء، لتحقيق الحرية والاستقلال للشعب العراقي، والسير به في موكب الأمة العربية التحرري. إن هذه الأهداف الوطنية الكبرى التي أجمع عليها العاملون في الحركة الوطنية يمكن تلخيصها بما يأتي:

1ـ تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي:
إن هذا المطلب يشكل بالبداهة الخطوة الأولى لأية سياسة وطنية محتملة، فنوري السعيد هو العميل الأول للاستعمار البريطاني، وكل الصفقات الاستعمارية الكبرى في تاريخ العراق الحديث، بل وفي الشرق الأوسط.
 شكل وزارته الحالية في صيف عام 1954 ليقوم بالدور الاستعماري المرسوم له، وعَقدَ حلف بغداد، وعمل على جرّ الدول العربية إليه، وعقد الصلح مع إسرائيل، والقضاء على القومية العربية المتحررة، وتحويل الشرق العربي إلى قلعة استعمارية كبرى، وبالرغم من جميع الوسائل الوحشية والجرائم المنكرة والمجازر الفظيعة التي ارتكبها نوري السعيد، و
بالرغم من جميع المراسيم الكيفية، والأحكام العرفية، والمؤامرات على الدول الشقيقة، فقد أثبتت الحوادث الأخيرة فشل سياسة نوري السعيد فشلاً تاماً، فهو وإن كان قد حقق بعض أغراض الاستعمار في العراق، بتجديد المعاهدة، وشق الصف العربي، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في ضرب الحركة القومية العربية، كما فشل في جر أي بلد عربي إلى حلفه الاستعماري، فهو لم يستطع إذن تحقيق الأهداف الاستعمارية في هذه المنطقة الحساسة من العالم .

  أن نوري السعيد، بعد فشل العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، وانكشاف مؤامراته على سوريا، وقبل ذلك على الأردن، وافتضاح دور ميثاق بغداد للقضاء على حركة التحرر العربية، وانعزاله انعزالاً تاماً في الحقلين الداخلي والدولي، سوف لن يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم الجديدة للمحافظة على المصالح الاستعمارية في العراق، والشرق العربي، وسوف يواصل مؤامراته، وتهديداته، ومناوراته في محاولة يائسة للقضاء على استقلال الدول العربية المتحررة، والذي ما انفك يخلق لها المتاعب، ويثير المشاكل باستمرار، وسوف لا يتردد عن القيام بدوره الجديد في المرحلة الجديدة للاستعمار العالمي، بعد تغير ميزان القوى داخل الجبهة الاستعمارية، وبنفس الوحشية والقسوة التي عرف بها في خدمة أسياده القدامى، وما المجلس النيابي الحالي المكون أكثره من الاستغلاليين والانتهازيين، والإمعات، والذي عين أعضاءه بأفظع وسائل التزوير والتلفيق، إلا أداة طيعة لتنفيذ المشاريع الاستعمارية، يسخره نوري السعيد كيفما أراد في خدمة المستعمرين المغتصبين، على حساب الشعب العراقي، ومبدأ حق تمثيله، فالمجلس النيابي الحالي هو أبعد ما يكون إذن عن كونه جهازاً تشريعياً مستقلاً محترماً. لهذه الأسباب جميعاً أصبحت تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي المطلب الأول من مطالب الحركة الوطنية.
2 ـ الخروج من حلف بغداد،وتوحيد سياسة العراق مع البلدان العربية المتحررة :
إن الصراع بين القوى الاستعمارية وسياسة التكتل والأحلاف الأجنبية من جهة، وبين القوى الوطنية، ومبادئ [ باندونك ] من جهة أخرى، أنعكس في الشرق العربي في صراع عنيف متواصل مستمر، واتخذ أشكالاً وألواناً شتى بين الشعوب العربية في نزعتها إلى التحرر والاستقلال بين بعض الحكومات العربية الرجعية الضالعة في ركاب الاستعمار، والحريصة على تثبيت المصالح غير المشروعة للفئات الحاكمة، والمرتبطة بمصالح الاستعمار، ولعل أكبر حدث سياسي في تاريخ الأمة العربية الحديث هو ظهور حكومات عربية استطاعت لأول مرة في تاريخنا المعاصر أن تفلت من طوق الاستعمار، وتتبع سياسة عربية مستقلة تخدم مصالح شعوبها، وتسهم في التيار المتجه بقوة نحو استقلال جميع الأمم، وتحرر الإنسان من شبح الاستغلال والاستعباد، وقد كان لهذا الحدث السياسي الخطير وقع الصاعقة على الاستعمار العالمي، فأسرع لعقد ميثاق بغداد، وركز جهوده لجر الدول العربية لهذا الحلف.
لقد قامت دول الميثاق المذكور لتحقيق مهمتها العدوانية بكل الكبائر، وآثار هذه السياسة الإجرامية ماثلة لدينا في العراق في حلّ الأحزاب السياسية، وتعطيل الصحافة الوطنية، وخنق الحركة الفكرية، والأزمة الاقتصادية الآخذة بخناق أكثرية أبناء الشعب، وفي هذه السجون والمعتقلات المملوءة بالوطنيين، وتلك الكليات والمعاهد الغاصة بالأرصاد والجواسيس، وخنق الشعب بالجاسوسية، وتبذير موارد البلاد عليها، لخدمة الدول الاستعمارية، وفي الثكنات والقلاع المحولة إلى وسائل عقاب تعذيب للشباب، وفي مجازر الحي والنجف، والموصل، وبغداد وغيرها، وفي إعدام الوطنيين، وفصل الأساتذة والطلاب والموظفين، ونفي السياسيين، ونزع الجنسية العراقية عنهم، وفي الأوضاع القائمة على الاستغلال والرشوة والفساد، وعلى النهب والسلب والتبذير والتبديد، والمحسوبية، والعنف والإكراه، وأخيراً في هذه المعاهدة الجديدة التي هُربت تهريباً تحت ستار حلف بغداد العدواني، لتجديد معاهدة 1930، ولتمكين نفوذ الاستعمار ومصالحه في العراق.

على أن الاستعمار بالرغم من فشل ميثاقه في تأدية مهمته الأساسية، وخاصة بعد انكشاف دوره المفضوح في العدوان الثلاثي على مصر، فقد بادرت الولايات المتحدة وبريطانيا وقادة الدول المنضوية تحت راية هذا الميثاق يفكرون بتغذيته بدم جديد، والعمل على إسناده بوسائل جديدة ترد له بعض الحياة، ولذلك فإن خروج العراق من هذا الميثاق الذي كان وسيلة لتمكين الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط، وجعل العراق قاعدة لضرب الحركات الوطنية فيه، والذي فرق كلمة العرب، وهدم التعاون العربي الذي كنا نأمل في أن يصل إلى درجة الاتحاد، والذي شل الجامعة العربية، وربط مصير العراق بالدول الاستعمارية، ومهد للنفوذ التركي البغيض كخطوة أولى لنفوذ أوسع وأكبر، نقول أن خروج العراق من هذا الميثاق هو الشرط الأول والأساسي لكسب العراق استقلاله السياسي، وانفكاكه من القيد الاستعماري، وخروجه من عزلته المصطنعة، والالتحاق بقافلة الدول العربية المتحررة،  ومساهمته في تحرير الشعوب العربية وعمله كقوة إيجابية من القوى العاملة على وحدة الأمة العربية.

3 - مقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره، وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي:
إن هذا المطلب الأساسي المتعلق بموقف العراق من السياسة الدولية هو امتداد ضروري وطبيعي للمطلب السابق الذي يتعلق بموقفه من السياسة القومية، وقد سبق أن المحنا في أول هذه الكلمة أن الاستعمار يتخذ بالضرورة أشكالاً مختلفة، وألواناً شتى، حسب تطور ميزان القوى الدولية.
إننا نشجب ميثاق بغداد، لأنه مظهر جوهري من مظاهر الاستعمار، ولكن الاستعمار أتخذ وسيتخذ حتماً مظاهر جديدة أخرى اقتصادية وسياسية وعسكرية وفكرية، وواجب الحركة الوطنية أن تتابع حركة التطور والأساليب الاستعمارية بكل يقظة وحذر، وأن تكشف جوهرها وخطرها، وأن تطور هي الأخرى أساليب عملها وكفاحها حسب تطور ظروف المقاومة للاستعمار، بسائر ألوانه وأشكاله، وإدراك جوهره الحقيقي، وما يخفيه وراء شعاراته المضللة، واعتباره منظمة  عالمية عدوانية، رغم الخلافات المحتدمة بين أجزائه، وإتباع سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي، بتجنيب البلاد من الانغمار في تيار الحرب الباردة بين المعسكرات الدولية، وانتهاج سياسة مستقلة في الحقل الدولي مستوحاة من مصالح الأمة العربية، بعيدة عن مؤامرات الاستعمار، وإغراءاته، وتهديداته، وحذراً من كتله ومواثيقه، مدركة لزيف مساعداته، وخبرائه، مستندة لمصالح الشعوب العربية التي لا تطمح لغير الاستقلال والحرية، والرفاه والسلم والازدهار المادي والأدبي في جو عالمي هادئ خالٍ من التوتر والعدوان.

4 ـ إطلاق الحريات الديمقراطية:

إن مبدأ سيادة الشعب انتزعته الشعوب منذ قرون، وكسبت بتحقيقه فعلاً حقوقاً كثيرة، منها حق تمثيل الشعب لنفسه عن طريق الانتخاب الحر المباشر، والعمل لهذا الغرض في جو تكتنفه الحريات، وتعمه الديمقراطية المبنية على أساس حرية التنظيم الحزبي، وحرية التعبير والرأي والضمير، وعلى أساس المسؤولية الوزارية.
في مثل هذه الأجواء الديمقراطية فقط يمكن أن تتيح الشعوب لنفسها محيطاً تنموا فيه القابليات، وتتضاعف الثروات، ويخطو المجتمع إلى أمام في مدارج الرقي والمدنية،  فالحريات الديمقراطية هي الإطار العام الذي لا يمكن للحياة العامة أن توجد وتتحرك، وتنمو وتتطور، وتتفاعل وتتوالد بدونه.
 فالمراسيم الكيفية غير الدستورية، وإسقاط الجنسية عن أحرار العراق المطالبين بالحق والكرامة وإلغاء الأحزاب، وتعطيل الصحف، وتزييف الانتخابات ودكتاتورية الفرد، وكم أفواه الناس، وخنق الحريات، كلها وسائل سلكتها وزارة نوري السعيد لتعيد العراق إلى عهد الطغيان والعبودية، إنها سموم تميت الديمقراطية، وتمتهن الكرامة، وتقضي على القومية، ولذلك فالقضاء على هذا الفساد السياسي، وإعادة الحكم الديمقراطي، بإطلاق الحريات الدستورية، هما الشرط الأول لبناء حياة سياسية صحيحة.

 إن الحريات الديمقراطية تؤلف وحدة لا يمكن أن تتجزأ، فيجب أن تشمل حرية الاجتماع، وتأليف الأحزاب، والتنظيم النقابي، والجمعيات، وحرية الانتخاب، والحرية الفكرية بسائر ألوانها، والحريات الشخصية والمدنية .... الخ. كما يجب أن تكون عامة شاملة يتمتع بها جميع المواطنين دون تمييز. إن ضمان هذه الحريات الدستورية، وإلغاء ما يتعارض معها من مراسيم شاذة مطلب وطني أساسي للشعب.

5 ـ إلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والموقوفين السياسيين، وإعادة الطلاب  والمدرسين والموظفين والمستخدمين المفصولين لأسباب سياسية:
إن هذا المطلب الأخير، وإن كان نتيجة حتمية يمكن أن تدخل في نطاق المطلب السابق، إلا أن طبيعته الآنية المستعجلة، وكثرة عدد ضحايا الإرهاب السعيدي، والتعذيب والإرهاب الذي لازال يلاقيه الألوف من ضحايا الحركة الوطنية مع عائلاتهم وذويهم، يجعل المطالبة بتحقيق هذا المطلب الملح، مظهراً من مظاهر العمل على إزالة المظالم التي قامت بها وزارة نوري السعيد ضد الوطنيين.

أننا ندعو جميع أفراد الشعب العراقي الكريم، وجميع العاملين في الحركة الوطنية إلى وحدة التكتل، والالتفاف حول مطالب الأمة الكبرى. ندعوهم إلى نبذ الخلافات، والانشقاقات بمختلف أشكالها من صفوف الحركة الوطنية، والكفاح المشترك من أجل تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي، والخروج من حلف بغداد، وتوحيد سياسة العراق الخارجية مع البلاد العربية المتحررة، ومقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره، وسلوك سياسة الحياد الإيجابي، وإطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية، وإلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين، وإعادة المفصولين بسبب نشاطهم الوطني، والنصر لا محالة للشعب .                       
                                                                   بغداد في 9 آذار 1957
                                                             اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني

رد فعل السلطة الحاكمة على بيان جبهة الاتحاد الوطني
أحس البلاط، ومن ورائه بريطانيا، أن الشعب العراقي لم يعد يحتمل استمرار حكومة نوري السعيد، وأن البلاد قد أصبحت في حالة من الغليان الشديد تنذر بمخاطر جسيمة على بقاء واستمرار النظام الملكي، ولاسيما بعد اليأس الذي أصاب الشعب العراقي، وأحزابه الوطنية التي سد عليها نوري السعيد كل السبل لممارسة العمل السياسي في أجواء ديمقراطية، وامتهانه الدستور، وتعليق البرلمان وإصدار المراسيم الجائرة، واستمرار الأحكام العرفية لسنوات طويلة من عمر النظام الملكي، مما دفع الأحزاب الوطنية إلى التلاقي، والبحث في سبل العمل المشترك ضد طغيان نوري السعيد وعبد الإله، ومن ثم إعلان تشكيل جبهة الاتحاد الوطني، ولجوئها إلى العمل السري، بعد إلغاء الأحزاب السياسية من قبل حكومة السعيد.

كما أدركت بريطانيا أن العراق قد أصبح معزولاً تماماً عن العالم العربي بعد عقده ميثاق بغداد، وانغمار حكومة السعيد في التآمر على سوريا ومصر، وموقفها المشين من العدوان الثلاثي عليها، وجدت أن من الضروري إبعاد نوري السعيد مؤقتاً عن السلطة من أجل امتصاص الغضب الشعبي، ومحاولة فك العزلة عن العراق، فأشارت إلى السعيد بتقديم استقالة حكومته، وتشكيل حكومة جديدة تعمل على امتصاص الغضب الشعبي العارم، وتم ذلك بالفعل في 8 حزيران 1957، وقبلت الاستقالة، وكلف الملك السيد علي جودت الأيوبي
 في 20 حزيران بتشكيل الوزارة.

لكن النظام لم يستطع خداع الشعب، ولا أحزابه الوطنية بعد كل التجارب المريرة التي مرّوا بها مع الزمرة المتسلطة على حكم البلاد، ولاسيما بعد كل الانتفاضات التي خاضها الشعب ضد السلطة حيث كانت تحاول خداع الشعب بتأليف حكومة تهدئة تتولى امتصاص الغضب الشعبي، وتهيئ الأجواء من لعودة نوري السعيد وزمرته إلى الحكم من جديد.   

اشتداد التآمر على سوريا وقامة الوحدة مع مصر           
نتيجة لتصاعدت وتائر التآمر على سوريا من قبل حكومة بغداد، بالاشتراك مع حلف بغداد، أدرك قادة سوريا أن الإمبرياليين قد عقدوا العزم على إسقاط النظام الديمقراطي فيها، وضمها لمخططاتهم، ولذلك فقد تداعى رئيس الجمهورية [شكري القوتلي ] ورئيس الوزراء، والوزراء، وقادة الجيش، والقادة السياسيين لدراسة الموقف، والأخطار الجسيمة المحدقة بسوريا، وكان قرارهم الحاسم العمل على قيام وحدة فورية مع مصر، بقيادة الرئيس عبد الناصر، وبأسرع ما يمكن.
وعلى أثر ذلك القرار التاريخي لقادة سوريا، توجه على الفور وفد سوري إلى مصر برئاسة الرئيس شكري القوتلي، وعضوية رئيس الوزراء، وقادة الجيش، وعدد من السياسيين، وأجرى الوفد مباحثات شاملة حول خطورة الوضع في سوريا، ومؤامرات الإمبرياليين، طارحين على القيادة المصرية إقامة الوحدة الاندماجية بين البلدين بأسرع ما يمكن . (1)
كان ذلك الطلب مصدر سرور كبير للرئيس عبد الناصر، الذي كان يحلم بأن يوحد العرب في دولة قوية، قادرة على الصمود بوجه المخططات الإمبريالية، ولم تكد تمضِ سوى أيام قلائل حتى جرى الاتفاق على كل شيء، وتم الإعلان عن قيام وحدة اندماجية كاملة بين سوريا ومصر في 4 شباط 1958 التي أصبحت تعرف باسم{الجمهورية العربية المتحدة}  وبايع الرئيس شكري القوتلي الرئيس جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية الوليدة، وجرى تأليف وزارة الوحدة التي ضمت وزراء من كلا البلدين، كما جرى تأليف حكومتي الإقليمين، وبدأ العمل بنشاط لتوحيد المؤسسات المدنية والعسكرية، وأصبح البلدان بالفعل بلداً واحداً، رغم عدم وجود حدود مشتركة بين البلدين. لكن قيام الوحدة بصورة مستعجلة كانت لها انعكاسات سلبية خطيرة أثرت على مستقبل تلك الوحدة، وحملت بذور فشلها .

 إن الوحدة هي حلم كل عربي محب لأمته ومستقبلها المشرق، لكن الوحدة تلك كانت قد أهملت أهم جانب في حياة المجتمعين السوري والمصري التواقين للحريات الديمقراطية التي كانت مهملة في مصر، والتي صفيت في سوريا بعد قيام الوحدة، وهذا ما حدا بالقوى الديمقراطية في سوريا، وبشكل خاص الحزب الشيوعي السوري الذي كان يتمتع بنفوذ سياسي كبير بين الجماهير السورية، بانتقاد أسلوب الوحدة، والمطالبة بضمان قيام حريات ديمقراطية حقيقية، ومؤسسات دستورية لا غنى عنها، وقد أدى هذا الموقف إلى قيام السلطة بحملة مطاردة للشيوعيين والتنكيل بهم، مما أضر ضرراً بليغاً بشعبية الرئيس عبد الناصر.
 ولو لم يتبع عبد الناصر ذلك الطريق، وخلق نظاماً ديمقراطياً حقيقياً لما سقطت تلك التجربة الوطنية، ولكان العراق الذي تحرر بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 قد ألتحق بركابها بكل تأكيد، ولكانت الوحدة العربية قد قطعت شوطاً كبيراً في تحقيق حلم الأمة العربية.
ولكن المؤسف إن عبد الناصر أتخذ طريقاً آخر، طريق قمع الحريات السياسية للشعب دون أي مبرر، وشن على الحزب الشيوعي في سوريا ومصر حملة شعواء، مما دفع بالصراع بين عبد الناصر والشيوعيين أكثر فأكثر، وتطور ذلك الصراع فيما بعد ليشمل كل القوى السياسية في سوريا، بما فيها القوى التي ساهمت مساهمة فعالة في قيام الوحدة، وأدى بالتالي إلى فشل الوحدة، بعد أربعة أعوام على قيامها.

ولا شك في أن القوى الإمبريالية كان لها دور كبير في إفشال ذلك الحلم الجميل، من خلال السموم التي كانت تبثها حول الوحدة والتباكي على الديمقراطية، لا حباً بالشعب السوري، ولا إيماناً بالديمقراطية، وإنما أرادت فسخ هذه الوحدة بكل الوسائل والسبل، وحركت عملائها للعمل على تخريب الوحدة، مستفيدة من الأخطاء التي رافقت قيامها، نظراً لكونها كانت تشكل أكبر خطر على المصالح الإمبريالية في الشرق العربي.

وبالرغم من كل ذلك فقد حالت الوحدة دون وقوع العدوان على سوريا وابتلاعها، وضمها للمخططات الإمبريالية، وضاع حلم عبد الإله بعرش على سوريا، بل وجعل النظامين العراقي والأردني يرتعبان مما يمكن أن تخبئه لهما الأيام بعد ذلك المد الثوري العربي الوحدوي الذي تصاعد ليشمل العالم العربي أجمع، كما أن الوحدة جعلت الإمبرياليين يضربون أخماساً بأسداس، كما يقول المثل، فليس أكثر ما يهدد مصالحهم في المنطقة من قيام وحدة عربية صحيحة وصادقة، وعلى أسس ديمقراطية قويمة.
لقد أقلقت الوحدة المعلنة الإمبرياليين كثيراً، ولذلك فقد صممت على إجهاضها بكل الوسائل والسبل، ومنع قيام أي وحدة حقيقية تحقق أماني الأمة العربية. لقد كانت الوحدة تشكل خطراً على أحلام إسرائيل التوسعية، بل كانت تشكل تطويقاً لها، وخطراً على وجودها وبقائها، ولذلك كان هم الولايات المتحدة وحلفائها العمل على إفشالها، وفصم عراها.

ولابد أن أشير هنا إلى موقف الشعب العراقي بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 الخالدة من الوحدة، ففي الأيام الأولى للثورة، رفع القوميون، والبعثيون شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، دون الالتفات إلى تلك السلبيات التي رافقت الوحدة السورية المصرية، والتي قامت بصورة مستعجلة، وفي الوقت نفسه رفع الشيوعيون والديمقراطيون شعار الاتحاد الفدرالي، تجنباً للأخطاء التي وقعت بها الوحدة، بالنظر لاختلاف الظروف السياسية، والاقتصادية، ووجود قوميات متعددة في العراق  سببت تلك المواقف في قيام صراع سياسي عميق شق وحدة الشعب وقيادة الثورة معاً، وكان ذلك الصراع سبباً لأكبر انتكاسة عرفها الشعب العراقي آنذاك في تاريخه الحديث.


132
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة السابعة والعشرون
حامد الحمداني                                                          4/11/2015
السعيد يدعم العدوان الثلاثي على مصر، ويقمع انتفاضة الشعب

دعم العدوان على مصر وقمع انتفاضة الشعب:                                        
كان موقف الشعب العراقي، وحكومة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر،على أثر إقدام عبد الناصر على تأميم قناة السويس،على طرفي نقيض، فلقد اتسم موقف حكومة السعيد بالتشفي من مصر وعبد الناصر بشكل علني وصريح، وراحت الإذاعة العراقية تحاول صرف أنظار الشعب عن العدوان الذي دعته ب [التطورات والملابسات السياسية].
كما راحت الإذاعة تبث الأغاني الممجوجة، التي كان التشفي ينبعث منها  مما أثار سخط واستنكار و تقزز الشعب منها، ومن الحكومة المتواطئة مع الإمبريالية، والتي سخرت مطاراتها للطائرات البريطانية ومستشفياتها لجرحى المعتدين،وضخت النفط إلى ميناء حيفا في إسرائيل لتجهيز طائرات وجيوش المعتدين بالوقود.(4)                                                   

يقول السيد [ ناجي شوكت] أحد رؤساء الوزارات السابقين في مذكراته عن موقف حكومة السعيد من العدوان ما يلي :                                                                             
{ كانت إذاعة بغداد تذيع تسجيلات خليعة، وإن نسيت لا أنسى مدى عمري ذلك المذيع الوقح الذي كانت آثار الشماتة والاستهزاء بكل القيم الإنسانية تنطلق من فمه المسعور، في الوقت الذي كان الشعب العراقي برمته يغلي كالبركان، ويطلب الوقوف إلى جانب مصر، ومساعدتها في محنتها}. (5)                                                                                                 

أما نوري السعيد الذي كان في لندن حينما أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، فقد اجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني [انطوني إيدن] حاثاً إياه على ضرب مصر، وبرهنت الحوادث على أن نوري السعيد كان على علم مسبق بقرار الهجوم على مصر، وعاد             إلى بغداد مسرعاً، ليقوم بدوره المرسوم في دعم العدوان، ولإحكام سيطرة الحكومة على الغليان الشعبي الذي اجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه. (6)                          .                                                     
دعم العدوان على مصر وقمع انتفاضة الشعب عام 1956:                   .         كان موقف الشعب العراقي، وحكومة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر،على أثر إقدام عبد الناصر على تأميم قناة السويس،على طرفي نقيض، فلقد اتسم موقف حكومة السعيد بالتشفي من مصر وعبد الناصر بشكل علني وصريح، وراحت الإذاعة العراقية تحاول صرف أنظار الشعب عن العدوان الذي دعته ب [التطورات والملابسات السياسية].
كما راحت الإذاعة تبث الأغاني الممجوجة، التي كان التشفي ينبعث منها  مما أثار سخط واستنكار و تقزز الشعب منها، ومن الحكومة المتواطئة مع الإمبريالية، والتي سخرت مطاراتها للطائرات البريطانية ومستشفياتها لجرحى المعتدين،وضخت النفط إلى ميناء حيفا في إسرائيل لتجهيز طائرات وجيوش المعتدين بالوقود.(4)                                                   
يقول السيد [ ناجي شوكت] أحد رؤساء الوزارات السابقين في مذكراته عن موقف حكومة السعيد من العدوان ما يلي :                                                                             
{ كانت إذاعة بغداد تذيع تسجيلات خليعة، وإن نسيت لا أنسى مدى عمري ذلك المذيع الوقح الذي كانت آثار الشماتة والاستهزاء بكل القيم الإنسانية تنطلق من فمه المسعور، في الوقت الذي كان الشعب العراقي برمته يغلي كالبركان، ويطلب الوقوف إلى جانب مصر، ومساعدتها في محنتها}. (5)                                                                                               
أما نوري السعيد الذي كان في لندن حينما أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، فقد اجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني [انطوني إيدن] حاثاً إياه على ضرب مصر، وبرهنت الحوادث على أن نوري السعيد كان على علم مسبق بقرار الهجوم على مصر. (6)             
وعاد إلى بغداد مسرعاً، ليقوم بدوره المرسوم في دعم العدوان، ولإحكام سيطرة الحكومة على الغليان الشعبي الذي اجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه.                                   

وما كاد العدوان الثلاثي يبدأ على مصر الشقيقة حتى سارع عبد الإله إلى عقد اجتماع لمجلس الوزراء في البلاط  لبحث الوضع في مصر، واعتقدت السلطة الحاكمة في بغداد أن النظام في مصر على وشك الزوال،  وكان المجتمعون يتطلعون إلى الأخبار ساعة بعد ساعة،منتظرين استسلام مصر، وقد أتخذ مجلس الوزراء قراراً بإعلان الأحكام العرفية في 1 تشرين الثاني، وتشكيل أربعة محاكم عسكرية في محاولة منه لمنع الشعب من التحرك    ضد النظام العميل للإمبريالية بسبب مواقفه الخيانة من القضايا العربية، وفي مقدمتها العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة. (7)                                                                               

كما أجرى نوري السعيد اتصالاً مع الحكومة الأردنية، وتقرر على أثرها إرسال قوات عراقية إلى الأردن،في 14، و15 تشرين الثاني وكان واضحاً أن الغرض من إرسال القوات كان لتهديد سوريا التي وقفت إلى جانب مصر، وقطعت مرور النفط عبر أراضيها، وقامت بنسف المضخات، ولم يكن قصد الحكومة إسرائيل، كما ادعت، فقد أجرى نوري السعيد اتصالات سريعة مع حكومتي واشنطن ولندن لإفهام إسرائيل بأن العراق ليست له نية بالتحرش، أو الاعتداء على حدودها، وقد سُرت الولايات المتحدة وبريطانيا لهذه المبادرة، كما ُسرت إسرائيل واطمأنت.                                                                             
 
وفي الوقت الذي كان الجيش المصري يتصدى للمعتدين بكل قوة وبسالة، كان نوري السعيد يضخ النفط إلى إسرائيل،عبر أنبوب حيفا، كما كانت الطائرات البريطانية المعتدية تقلع من قاعدتي الشعيبة والحبانية لتضرب أهدافها في بور سعيد والسويس، وفي الوقت الذي قطعت سوريا والسعودية علاقاتهما مع بريطانيا وفرنسا احتجاجاً على العدوان الغاشم على مصر فإن نوري السعيد رفض أن يفعل ذلك مدعياً أن القرار سيكون كارثة على العراق. (8)                                                                                                   ‍‍‍‍‍
هكذا استفز النظام العراقي مشاعر الشعب العراقي، وداس على كل القيم العربية، ليثبت ولائه وخنوعه التام للإمبريالية، مما دفع الشعب العراقي للانتفاضة ضد النظام رغم كل الاحتياطات التي اتخذها، وفي المقدمة إعلان الأحكام العرفية، وتشكيل المحاكم العسكرية لإخافة المواطنين ومنعهم من التحرك.                                                                 
وقد أبرق السيد [ كامل الجادرجي ] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان موجوداً في مصر لمتابعة تنفيذ قرارات المؤتمر الشعبي العربي حينما وقع العدوان، إلى رئيسي مجلس الأعيان في 14 تشرين الثاني 1956 البرقية التالية:                                       
{ إن لجنة الاتصال للمؤتمر الشعبي العربي تستنهض ضمائركم لتبادروا بإنزال العقوبة بحق المتآمرين الذين ارتكبوا الجناية العظمى بالسماح للبترول العربي في العراق أن يتدفق إلى حيفا، لتستخدمه إسرائيل والإنكليز والفرنسيين للقضاء على الأمة العربية.               
إن التاريخ سيسجل موقفكم، وإن الأمة العربية وأجمعها تنتظر ما سوف تتخذونه ضد هذه المؤامرة الاستعمارية المنكرة وعلى المتآمرين من أعوان الاستعمار، وفقكم الله سبحانه وتعالى لما فيه رضاه، ومصلحة الأمة العربية}. (9)                                                             
                                                     
وقد استخدمت تلك البرقية دليل إدانة ضد الأستاذ الجادرجي فيما بعد، وقد رد رئيس مجلس الأعيان على البرقية ببرقية جوابية يستنكر فيها ما جاء في برقية الجادرجي، ويدافع عن حكومة نوري السعيد.(10)                                                                                                     
وقدم 61 أستاذاً جامعياً مذكرة مسهبة إلى الملك استنكروا فيها سياسة حكومة نوري السعيد المعادية لمصالح الأمة العربية، وسياسة القمع الذي مارسها ضد الطلاب والأساتذة، وجماهير الشعب، وانتهاكه لحرمة المدارس والكليات، وطالبوا باحترام الحرم الجامعي، وضمان حرية الفكر، وإطلاق سراح الطلاب المعتقلين، وإجراء تحقيق عادل في تجاوزات الحكومة، وغيرها من المطالب الأخرى. (11)                                                         

كما قدم 35 شخصية سياسية ودينية ووطنية مذكرة مسهبة إلى الملك في 20 تشرين الثاني استنكروا موقف الحكومة، شرحوا فيها تأمر وخيانة نوري السعيد، وطعنه للأمة العربية في الصميم، ودعت الملك إلى معالجة الأمر قبل فوات الأوان. (12)                           
كما قدم نقيب المحامين [ سعد عمر] مذكرة احتجاج أخرى في 29 تشرين الثاني إلى رئيس الوزراء، بسبب قيام الحكومة باعتقال العديد من المحامين، واستنكر تلك الإجراءات غير القانونية، وطالب بإطلاق سراح المعتقلين على الفور.                                             

لكنّ النظام أصرّ على السير في ركاب الإمبريالية، وتحدي مشاعر الشعب، التي انفجرت بركاناً انتشرت حممه في طول البلاد وعرضه، واندفعت جماهير الشعب،غير هيابة من حكومة العمالة، وجهازها القمعي، ومجالسها العرفية ومراسيمها الموغلة في العدوان على الدستور، وحقوق وحريات المواطنين، وعمت المظاهرات جميع المدن العراقية، ووقعت الاشتباكات العنيفة بين الجماهير وقوات الحكومة القمعية.                                         

ففي بغداد أندفع أساتذة وطلاب الكليات والمعاهد العالية، والمدارس الذين هزهم العدوان الثلاثي الغاشم على الشقيقة مصر، والموقف الخياني لحكومة نوري السعيد من العدوان، يومي 3، و 4 تشرين الثاني في مظاهرات عارمة متحدين الأحكام العرفية، وقوات القمع السعيدية حيث وقع صدام عنيف بين الطرفين أسفر عن استشهاد طالبين وفتاة صغيرة، ووقوع عدد كبير من الجرحى، وتم اعتقال أعداد أخرى من الطلبة.                             
لكن المظاهرات الطلابية استمرت دون توقف حتى بلغت أوجها يوم 21 تشرين الثاني  1956، حيث أعلن طلاب المدارس والكليات الإضراب العام عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرة ضخمة، اصطدمت مع قوات القمع السعيدية، وقد أبدا الطلاب بسالة منقطعة النظير في تصديهم لقوات القمع، وأوقعوا فيها [ 58 إصابة ] كان منهم مدير الشرطة، و3 ضباط شرطة، ومفوضان، و54 شرطياً، كما وقعت إصابات كثيرة في صفوف المتظاهرين من الطلاب، والأهالي الذين انضموا إلى المظاهرة. (13)                                                             
وعلى أثـر ذلك أعلنت الحكومة إغلاق كافة الكليات والمعاهد العالية والمدارس الثانوية والمتوسطة، واعتقلت [378 طالباً ] من الإعدادية المركزية وثانـوية الكرخ، وتم طـرد 37  طالباً من مدارسهم. (14)                                                                                                       

وفي الوقت نفسه أصدر وزير المعارف [ خليل كنه ] أمراً وزارياً بإلغاء تسجيل كافة طلاب المدارس، وإعادة تسجيلهم من جديد، بعد حصولهم على كتاب موافقة من مديرية التحقيقات الجنائية[الأمن العامة]، ومنع قبول أي طالب في الكليات والمعاهد والمدارس، إذا لم يحصلوا على موافقة الجهات الأمنية.                                                         

 لكن تلك القرارات لم تثنِ الطلاب عن التظاهر،بل على العكس أدى تصدي قوات الأمن لهم إلى انتشار المظاهرات في معظم المدن العراقية واشتباك المتظاهرين مع قوات القمع السعيدية حيث وقعت معارك دامية بين الشعب وقوات الحكومة القمعية. وكان أشد تلك المعارك المعركة التي خاضتها جماهير مدينة [الحي ] والتي استفزتها مواقف حكومة السعيد الخيانية، والجرائم التي اقترفتها قوات الحكومة القمعية في النجف الاشرف، فانتفضت هذه المدينة الباسلة التي كان سكانها يشكون من ظلم الإقطاع واستغلالهم البشع، وتفجرت تلك التراكمات ثورة عارمة ضد الطغيان السعيدي، وقامت المظاهرات الصاخبة التي تصدت لها قوات الشرطة القمعية.                                                                 

 لكن جماهير الحي استطاعت هزم تلك القوات في    18 تشرين الثاني بعد معارك دامية سقط خلالها العديد من الشهداء و الجروفي اليوم التالي جاءت السلطة بحوالي 1500 فرد من قوات الشرطة السيارة إلى المدينة، حيث دارت معارك عنيفة بين الطرفين، وقامت قوات الشرطة بانتهاك حرمة البيوت وبأسلوب وحشي حيث أخذت تقلع أبواب البيوت بالقوة، وتجري التحري فيها، وتلقي القبض على كل من تشك باشتراكه في المظاهرات، مما دفع سكان المدينة إلى إعلان الإضراب العام، حيث أغلقت جميع المدارس والمحلات أبوابها احتجاجاً على أساليب بطش حكومة السعيد، وسيق العديد من أبناء الحي على المجالس العرفية التي أخذت تصدر الأحكام الجائرة بحقهم، وكان من جملة تلك الأحكام حكم الإعدام الصادر بحق الشهيدين [علي الشيخ حمود] و [مهدي الدباس ] فيما حكم على الكثيرين بمدد مختلفة تراوح بين السجن المؤبد والسجن لبضعة سنوات.                                                                                                   
 وقد حاول لفيف من السياسيين إنقاذ حياة الشهيدين حمود والدباس، حيث قابل السيد [حكمت سليمان ] أحد رؤساء الوزارات السابقين، والشيخ [محمد رضا الشبيبي ] من الوزراء السابقين، الملك فيصل الثاني، والتمساه عدم الموافقة على تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقهما، ووعدهما الملك خيراً، لكن الذي جرى أن الشهيد مهدي الدباس تعرض في سجنه، بعد الحكم عليه بالإعدام لتعذيب وحشي شديد على أيدي الأجهزة الأمنية توفي على أثرها تحت التعذيب،وقامت الحكومة على الأثر بنقل الشهيد الدباس مع الشهيد علي الشيخ حمود إلى الساحة العامة في الحي، حيث تم نصب مشنقتين لهما،على الرغم من أن الدباس كان قد فارق الحياة داخل السجن، ومع ذلك علق جسده على حبل المشنقة لتوهم السلطة المجرمة أبناء الحي بأنه قد تم تنفيذ حكم الإعدام به وبرفيقه، لكي لا تنكشف الجريمة.                                                                                                     
 ورغم كل ما فعلته السلطة الحاكمة، ورغم كل إجراءاتها القمعية، فإن ذلك لم يجدها نفعاً، بل على العكس أنتشر لهيب الانتفاضة في مدن الكوفة والديوانية والشامية والحلة وكربلاء والناصرية والنجف والبصرة والعمارة والكوت والموصل وأربيل وكركوك والسليمانية وعانه بالإضافة إلى بغداد.                                                                               

 ورغم أن السلطة الحاكمة زجت بكل قوات الشرطة، وقوات الجيش للحيلولة دون قيام المظاهرات، ورغم زجها بالآلاف من المواطنين رهن الاعتقال، وتقديمهم إلى المجالس العرفية، وإصدار الأحكام الجائرة بحقهم، إلا أن المظاهرات والاحتجاجات تصاعدت ضد السلطة الحاكمة وكانت أشد المعارك قد وقعت في مدينة النجف  الأشرف مدينة البطولات الوطنية، فقد التهبت الأوضاع فيها عندما انطلقت مظاهرة طلابية من مدرسي [ الخورنق ] و[ السدير ]، حيث تصدت لها قوات الشرطة المدججة بالسلاح والمزودة بالسيارات المسلحة بالرشاشات وبدأت بإطلاق النار على المتظاهرين، حيث أصيب [ 42 طالباً ] بجراح وكانت جراح 11 منهم خطيرة، واستشهد الطالب [عبد الحسين] حفيد العلامة المعروف [ سيد فهمي الحمامي ]، كما استشهد طالب آخر من مدرسة السدير، وأخر من الأهالي، مما أدى إلى حالة من الهياج بين المواطنين الذين أعلنوا الإضراب العام، حيث أغلقت الحوانيت، والمحال التجارية، والمطاعم والمخابز، والصيدليات احتجاجاً على الأعمال الإجرامية للسلطة، كما أضرب رجال الدين عن أداء واجباتهم الدينية، فلم يخرجوا لصلات الجماعة. (15)                                                                                                         

وإزاء تطور الأحداث، وتصاعد موجة المظاهرات، أقدمت الحكومة على سحب شرطة المدينة، واستبدلتهم بإعداد غفيرة من الشرطة جاءت بهم من مناطق أخرى، من أطراف الموصل، خوفا من تهاون شرطة النجف في قمع المتظاهرين، ومع ذلك فلم تستطع السلطة السيطرة على المدينة، مما دفع بالحكومة إلى إنزال قوات الجيش إلى الشوارع ،واحتلال المدينة.                                                                                                       
                                                                                               
لكن الإضراب استمر أسبوعاً كاملاً وسط تحدي الشعب لقوات القمع، وواصلت التظاهر والتصدي لقوات القمع التي سارعت إلى إطلاق النار على المتظاهرين الذين لجئوا إلى مرقد الأمام علي عليه السلام، ولاحقتهم قوى الأمن مواصلة إطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى استشهاد أثنين من المتظاهرين هما الشهيدين [عبد الأمير ناصر] و[أموري علي] ووقوع العديد من الجرحى.                                                                               
أدى الهجوم الوحشي على مرقد الإمام علي إلى تصاعد موجة المظاهرات والاحتجاجات، حيث خرجت المدينة عن بكرة أبيها تحاول انتزاع جثث الشهداء من المستشفى، فيما أصرت الحكومة على عدم تسليمهم.                                                                   

أدت الأحداث الدامية في النجف إلى قيام موجة من الاحتجاجات الموجهة من قبل كبار رجال الدين إلى الملك فيصل، حيث احتج كل من الشيخ  [عبد الكريم الجزائري ] والسيد[ حسين الحمامي ] والشيخ [ محمد كاظم الشيخ راضي ] والسيد [ محسن الحكيم ] والسيد [ محمد صالح بحر العلوم ] إضافة إلى عدد من المحامين منهم [ موسى صبار ] و [ احمد الجبوري ] في برقيات بعثوا بها إلى الملك فيصل ونددوا فيها بإجراءات الحكومة، وطالبوا بإنزال أشد العقوبات بالمسببين باستشهاد أبناء النجف وجرح العديد منهم. (16)                 

أحدثت مصادمات النجف إلى رد فعل عنيف في بغداد، حيث أعلن المواطنون الإضراب العام، وأغلقت كافة المحال التجارية، والمطاعم والمخابز والصيدليات، وقامت الحكومة على الأثر بإصدار بيان في 28 تشرين الثاني هددت المواطنين بإنزال اشد العقاب بهم إذا ما استمروا في إضرابهم.                                                                                 

أدرك البلاط الملكي أن الأمور أخذت تسير من سيئ إلى أسوأ، واستمرت الأحوال الأمنية بالتدهور مما كان يهدد العرش بالذات، وعليه فقد دعا عبد الإله والملك فيصل رؤساء الوزارات السابقين بالإضافة إلى نوري السعيد، ورئيسي مجلسي النواب والأعيان، والوزراء، وبعض الساسة، لتداول في التطورات الخطيرة التي تشهدها البلاد، وُطرح خلال المداولات موضوع استقالة حكومة نوري السعيد، وفسح المجال أمام العرش لتأليف وزارة جديدة تستطيع تهدئة الأمور، وتنقذ الموقف، وقد اتهم أحد الحاضرين نوري السعيد بأنه قد شجع [ أنطوني إيدن ] عند وجوده في لندن على شن العدوان على مصر بدلاً من أن يحذره من مغبة القيام بمثل هذا العدوان. (17)

غير أن نوري السعيد أصرّ على موقفه وتحديه للشعب ومشاعره الوطنية، وحذر الملك وعبد الإله من خطورة التراجع أمام تحدي الشعب مدعياً أن هذا الموقف قد يؤدي بالعرش، وهكذا انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي قرار حول الوضع، لكن عبد الإله أجرى مشاورات أخرى بعد الاجتماع مع عدد من السياسيين كان من بينهم [ جميل المدفعي ] و [علي جودت الأيوبي ] بغية تأليف وزارة جديدة، وقد اقترح المدفعي إبعاد نوري السعيد عن الحكومة، وإشراك [حسين جميل ] و[ مهدي كبه] في الوزارة القائمة، أو تشكيل وزارة جديدة.                                                                                                       
 ثم استدعى الوصي[عبد الإله] بعد ذلك كل من السيد[ كامل الجادرجي]  و [حكمت سليمان ] و[ محمد رضا الشبيبي]، وطلب رأيهم في سبل حل الأزمة، وإعادة الهدوء إلى البلاد، وقد أجمع الجميع على ضرورة إقالة حكومة نوري السعيد، وتشكيل حكومة جديدة، وحذر حكمت سليمان عبد الإله من مغبة استمرار الأوضاع على ما هي عليها. (18)                     
لكن نوري السعيد، وبدعم من السفارة البريطانية، تمادى في غيه، وأصدر أمراً باعتقال قادة الأحزاب السياسية الوطنية، وكبار الشخصيات المعارضة، فقد تم اعتقال السادة كامل الجادرجي، وحسين جميل وصديق شنشل، وفائق السامرائي، وعبد الرحمن البزاز، وجابر عمر بالإضافة إلى العديد من رجال الدين، وأحالهم إلى المجلس العرفي العسكري في 16 كانون الأول، حيث صدرت الأحكام في 19 منه بحقهم، وصبت الحكومة جام غضبها على الأستاذ الجادرجي، حيث حكم عليه بالسجن الشديد لمدة ثلاث سنوات، بعد أن اتخذت الحكومة برقيته التي أرسلها إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان كدليل اتهام، وتم إيداعه السجن. كما حكمت المحكمة على صديق شنشل، وفائق السامرائي بالمراقبة لمدة سنة، وعلى حسين جميل، وسامي باش عالم بكفالة شخص ضامن بمبلغ 5000 دينار لمدة سنة، وتم نقل شنشل إلى الإقامة الجبرية في [ قلعه دزه ]، وفائق السامرائي إلى[ حلبجة ] في السليمانية، وتم إبعاد عميد كلية الحقوق[عبد الرحمن البزاز] و[ جابر عمر ] و[محمد البصام ] و[فيصل الوائلي ]،و[ حسن الدجيلي] الأساتذة في كلية الحقوق إلى[ بنجوين ]. كما أبعد رجال الدين إلى قرية [ شثاثة ] في كربلاء، وجرى فصل أكثر من 10 آلاف طالب من كلياتهم ومدارسهم والعشرات من أساتذة الكليات بقرار جماعي.(19)                                   

وهكذا استطاع النظام قمع الانتفاضة الجماهيرية الكبرى بالحديد والنار، مستخدماً كل ما توفر لديه من الوسائل القمعية، وزج بالجيش ليقمع الانتفاضة، بعد أن هزمت قوات الشرطة القمعية أمام غضبة الجماهير، وعزمها على التصدي للنظام الخائن والعميل للإمبريالية، وهذا ما أرادته بريطانيا عندما أسست الجيش العراقي عام 1921، فقد أرادته لحماية السلطة الحاكمة المؤتمرة بأوامرها، وليس لأي هدف آخر.                               

لكن بذور الثورة كانت تنمو في أحشاء هذا الجيش الذي هو جزء من الشعب مهما عملت السلطة الحاكمة لإحكام سيطرتها عليه، وتوجيهه نحو معاداة الشعب وقواه الوطنية الساعية للتحرر من ربقة الاستعمار البريطاني، ولتحقيق الحياة الكريمة للشعب الذي عانى من البؤس والعبودية، ولم تمضٍ سوى سنتان على الانتفاضة الشعبية هذه حتى فوجئ النظام الملكي  بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.                                           

 

133
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة السادسة والعشرون
حامد الحمداني                                                               2/11/2015
نوري السعيد يفرض على العراق حلف بغداد
لم يأتِ نوري السعيد إلى الحكم، ويؤلف وزارته الثانية عشرة في 3 آب 1954 ، إلا من أجل ربط العراق بالأحلاف الإمبريالية، ممهداً السبيل إلى ذلك بحملته المسعورة ضد كل مظاهر الديمقراطية، عن طريق إصدار مراسيمه سيئة الصيت، والتي أراد بها أن يستبق الأحداث، بقمع أية معارضة من جانب الشعب وقواه الوطنية ضد الأحلاف الإمبريالية، معلناً الحرب على الأحزاب والجمعيات والنقابات الوطنية والصحافة، وحتى النوادي الاجتماعية.
لقد مارست الإمبريالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ضغوطاً شديدة على البلدان العربية بغية جرها إلى مشروعات الدفاع الأنكلو أمريكية عن الشرق الأوسط بغية عزل الاتحاد السوفيتي ، وإبعاده عن المنطقة  ذات الأهمية القوى نظراً لما تحويه من أكبر خزين هائل للنفط في العالم.                                                                     .                                                                                                                      وعليه فقد سعت الولايات المتحدة إلى التغلغل في بلدان المنطقة عن طريق إغرائها بمشاريعها ومساعداتها الاقتصادية التي وعدت حكامها بها وكان منها : (12)                     
1ـ قروض بنك الإنشاء والتعمير .                                                                     
2 ـ البنك الدولي وصندوق البنك الدولي .                                                           
3 ـ مشروعات النقطة الرابعة .                                                                         
4 ـ مشروع فولبرايت .                                                                                 
كان هدف الولايات المتحدة،عبر هذه المشاريع ، الهيمنة على هذه البلدان سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وخاصة بعد أن أحست بتعمق الوعي الوطني لدى شعوب هذه المنطقة، وتنامي كفاحها من أجل تحقيق الحرية والاستقلال الحقيقيين، وقلقها على مستقبل المنطقة الشديدة الحساسية في العالم أجمع.                                               
                                               
ورغم أن بريطانيا كانت تتمتع بنفوذ كبير في هذه البلدان، بحكم احتلالها إبان الحرب العالمية الأولى، إلا أنها لم تستطع الوقوف أمام مطامح الولايات المتحدة في انتزاع جانب كبير من نفوذها بحكم تبعيتها للولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في العالم، واضطرت بريطانيا إلى التنازل عن هيمنتها المطلقة على المنطقة للولايات المتحدة حفاظاً على علاقاتها بها من جهة، وعلى بقايا هيبتها من جهة أخرى.     

ففي 14 تشرين الأول 1951 أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بياناً دعت فيه الدول العربية إلى الاشتراك في منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط، وأن تضع هذه البلدان قواعدها العسكرية، وموانئها وطرق مواصلاتها تحت تصرف القائد العام للمنطقة.           
ثم أعقبته ببيان ثاني في 10 تشرين الثاني 1951 لممارسة الضغط على الدول العربية من أجل الالتحاق بالمشاريع الأمريكية قائلة:                                                             
 { إن الدفاع عن الشرق الأوسط يمثل أمراً حيوياً للعالم الحر}. (13)                                       
لكن تلك الضغوط قوبلت من قبل الشعوب العربية بمقاومة عنيفة، وكذلك من بعض الحكومات العربية، فلم تثمر جهود الولايات المتحدة في جر مصرـ أكبر الدول العربية        بقيادة عبد الناصر وكذلك سوريا، وحتى السعودية إلى ذلك المشروع.               .                       
لقد وقف عبد الناصر ضد محاولاتها لجر بقية الدول العربية إلى أحلافها الإمبريالية عدا العراق، الذي كانت بريطانيا تهيمن عليه هيمنة مطلقة، وجاءت بنوري السعيد، رجل المهمات الصعبة، والذي تعتمد عليه كل الاعتماد، إلى الحكم من جديد لينفذ المشروع الإمبريالي القاضي بربط العراق بالمشاريع الإمبريالية.                                      .                                             
 وبعد أن صفى نوري السعيد جميع مظاهر الديمقراطية، وأغلق الأحزاب السياسية، والصحف الوطنية، والنقابات، والجمعيات، وحل البرلمان وأجرى الانتخابات التي عرفت بانتخابات مجلس التزكية، حيث منع أي معارض لسياسته من الترشيح في تلك لانتخابات، وبذلك ضمن البرلمان الذي يصادق على تلك المشاريع دون أي معارضة،                      وتفتق ذهن الإمبرياليين عن أسلوب جديد لجر المنطقة لأحلافها يعتمد على الاتفاقات الثنائية فكان باكورة خططهم إقامة حلف بين باكستان وتركيا في نيسان عام 1954.         

وهكذا بدأ نوري السعيد بتنفيذ المخطط الإمبريالي، مبتدئاً بالتوقيع على [ميثاق التعاون مع تركيا] في 24 شباط 1955، ثم ما لبثت بريطانيا أن وقعت على انضمامها إلى الميثاق المذكور في  نيسان 1955، وبذلك ضمنت لنفسها بديلاً لمعاهدة 1930، ومعاهدة بورتسموث التي قبرها الشعب العراقي بوثبته المجيدة في كانون الثاني 1948. فقد حصلت بريطانيا بموجب اللاحق السرية للحلف على امتيازات أكبر بكثير من معاهدة 1930، وضمنت لنفسها عن طريق الحلف الهيمنة المطلقة على مقدرات العراق .                     

ولم يجرأ نوري السعيد على عرض الملاحق السرية للحلف على البرلمان، وحتى على جانب كبير من أعضاء وزارته، وبقيت سراً حتى تم كشفها من قبل بريطانيا عندما سمحت بعد سنين طويلة على نشر تلك الوثائق التي تضمنت تلك الملاحق السرية، وبادر السيد عبد الرزاق الحسني إلى نشرها في الطبعة الحديثة لتاريخ الوزارات العراقية، في الجزء التاسع منه. (14)                                                                                           
 وفي 23 أيلول انضمت الباكستان إلى الحلف، ثم تلاها انضمام إيران في 3 تشرين الثاني 1955، وألح  نوري السعيد على الولايات المتحدة للدخول في الحلف بصورة رسمية، لكن الولايات المتحدة آثرت أن تقود الحلف من وراء الستار عن طريق انضمامها إلى العديد من لجان الحلف حيث انضمت إلى جناحه العسكري، وإلى لجانه الأمنية، والاقتصادية المنبثقة عن الميثاق، وتم تبديل أسم الميثاق إلى [ميثاق حلف بغداد] وأصبحت بغداد مقراً للحلف، ووكراً للمؤامرات الإمبريالية على البلدان العربية، وخاصة سوريا، حيث جرت محاولات عديدة لإسقاط النظام فيها وضمها للحلف، وقد أثر الميثاق تأثيراً سلبياً كبيراً على حركة التحرر العربي الصاعدة، وأدى إلى الانقسام والاستقطاب في العالم العربي. (15)                 

وفي الوقت نفسه شكل الحلف ضمانة كبرى لإسرائيل، فقد جاء في تصريح لوكيل وزارة الخارجية الأمريكية ما يلي : { إن حلف بغداد ينطوي على ضمانة لإسرائيل، وإن سياستنا تقوم على خلق جهاز دفاعي عسكري في منطقة الشرق الأوسط تكون فيه إسرائيل جنباً إلى جنب مع البلدان العربية} .                                                                           

وحاول نوري السعيد بأقصى جهده ضم الأردن إلى الحلف، مقدماً للملك حسين الكثير من الإغراءات والمساعدات المادية، كما قدمت بريطانيا من جهتها المزيد من الإغراءات والمساعدات للملك حسين إذا ما قرر الانضمام للحلف، وقد وافق الملك حسين على الانضمام للحلف، وأرسل وفداً إلى بغداد للتداول في شروط الانضمام .                         

 لكن الوفد الأردني ما كاد يعود إلى عمان في 8 كانون الأول 1955 حتى جوبه بمظاهرات صاخبة عمت أرجاء البلاد، اضطرت على أثرها حكومة السيد [ سعيد المفتي ] إلى تقديم استقالتها للملك حسين، الذي سارع إلى تأليف وزارة جديدة برئاسة السيد [هزاع المجالي]  الذي سارع إلى الطلب من الموفد البريطاني الجنرال [ تمبلر] بمغادرة البلاد بغية تهدئة الأوضاع، لكن المظاهرات أخذت بالاتساع واتخذت أشكالاً عنيفة، وتعرضت العديد من ممتلكات الدولة إلى التخريب، وحرق العديد من الدوائر، واضطر الملك حسين بغية امتصاص الغضب الشعبي، إلى إنهاء خدمات [ كلوب باشا ] قائد الجيش الأردني، والطلب منه مغادرة البلاد، وتعيين قائد أردني للجيش مكانه. (16)                                                   

 وكانت المعارضة الشديدة لمصر وسوريا والسعودية لحلف بغداد عاملاً حاسماً في تخلي الملك حسين عن الانضمام للحلف، فقد تعهدت هذه البلدان إلى تعويض الأردن عن كافة المساعدات العراقية والبريطانية والأمريكية التي وعد بها، مما دفع نوري السعيد إلى الطلب من الولايات المتحدة الامتناع عن دفع ثمن مشترياتها من النفط السعودي عقاباً لها لتعهدها بمساعدة الأردن، وأعلن بكل صراحة قائلاً :                                               
{ لو قبلت الولايات المتحدة اقتراحي هذا لانهارت مقاومة مصر وسوريا والسعودية ولبنان والأردن، ولتمكنا من إيجاد تسوية عربية إسرائيلية}.(17)                                         
                                 
شن الرئيس عبد الناصر، الذي كان يتزعم حركة التحرر العربي آنذاك، حملة متواصلة على حكومة نوري السعيد، وحلف بغداد، والإمبريالية، ولعب الاعلام المصري دوراً كبيراً في الدعاية ضد نوري السعيد والمشاريع التي يروج لها في المنطقة.                    واضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي في 6 أيار 1955 ندد فيه بالموقف المصري، وبالاعلام المصري، ودعا الحكومة المصرية إلى التراجع هم موقفها تجاه الحكومة العراقية، ومحذراً إياها في الوقت نفسه باتخاذ ما يراه مناسباً للرد على هذا الموقف. (18)                 
أدى ذلك الصراع إلى القطيعة بين العراق والدول العربية المتحررة، والتي استمرت حتى سقوط النظام الملكي في ثورة الرابع عشر من تموز  1958.                                     

مهمات وزارة نوري السعيد:

كانت وزارة نوري السعيد الثالثة عشر في واقع الأمر امتداداً لوزارته السابقة، والتي تميزت بأحداث خطيرة مست حاضر ومستقبل البلاد عندما أقدم السعيد على حل مجلس النواب، وأجرى انتخابات جديدة لم يسبق لها مثيل من قبل، حيث جاء [ببرلمان التزكية] بعد أن منع أي معارض لسياسته من الترشيح أو الوصول إلى البرلمان، وفاز 116 نائباً بالتزكية [دون منافس] وفاز بالمقاعد الباقية أعوانه ورجالات البلاط، وقد مهد لذلك           بإصداره المراسيم الجائرة التي مرَّ ذكرها في الفصل السابق والتي انتزعت كل ما تبقى من حقوق الشعب التي نص عليها الدستور، وأفرغه من أي مضمون ديمقراطي، وكانت كل تلك الإجراءات من أجل توقيع [ميثاق بغداد]، وربط العراق بعجلة الإمبريالية وزجه في الحرب الباردة.                                                                                             

ونتيجة لإجراءات نوري السعيد تلك التهبت الأجواء من جديد، وتصاعد الغضب الشعبي العارم، وتأزم الوضع السياسي، وبات ينذر بانفجار موجة جديدة من العنف، وما يمكن أن يسببه الانفجار من مخاطر على مستقبل النظام القائم، ولذلك فقد كان لا بدَّ من وجود حكومة قوية قادرة على مجابهة التحديات المنتظرة، ولاسيما وأن الوزارة الجديدة كان أمامها مهمات خطيرة ينبغي تنفيذها، وكان أبرزها:                                                 
                                           
 1 ــ التصدي لإضراب الموصل وقمعه بالقوة .
 2 ــ مواصلة التآمر على سوريا لقلب نظامها وإلحاقها بالعراق .
 3 ــ دعم نظام كميل شمعون، والتصدي للثورة الشعبية في لبنان.
 4 ــ التصدي لحركة التحرر العربي المناهضة لحف بغداد.
وعليه فقد أشارت السفارة البريطانية على الملك فيصل الثاني بتكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة من جديد، بالنظر لثقل هذه المهام من جهة، ولكون الأجواء الداخلية والخارجية كانت مشحونة بالمخاطر والأحداث الجسام من جهة أخرى.                         
                   
 وهكذا جرى تكليفه بتأليف وزارته الجديدة هي الوزارة الثالثة عشر، وضمت معظم أعضاء الوزارة السابقة،ما عدا خروج  كل من [موسى الشابندر] و[شاكر الوادي] و[محمد علي محمود] و[محمد حسن سلمان] من الوزارة، في حين دخلها كل من [برهان الدين باش أعيان] و[عبد الرسول الخالصي] و[عبد الجبار التكرلي] و[منير القاضي ].(1)                   
             
إضراب الموصل،والسعيد يرد بمرسوم الطوارئ:                                       
في غمرة تلك الظروف البالغة التعقيد التي كانت تجتازها البلاد،بسبب السياسة الرعناء للحكومة، أقدمت حكومة السعيد على رفع رسوم الذبح إلى الضعف[ من 30 إلى 60 فلساً] لرأس الغنم الواحد، ونتيجة لهذا القرار أعلن القصابون في الموصل الإضراب عن الذبح في الأول من  أيلول احتجاجاً على القرار، حيث أغلقت الحوانيت، واختفى اللحم من الأسواق.                                                                                                     
وما لبث الإضراب أن تصاعد ليشمل الخبازين، والخياطين، والصاغة وغيرهم من المهنيين، مما أقلق الحكومة، ودفعها إلى إصدار مرسوم الطوارئ رقم 1 لسنة 1956، والذي خول الحكومة صلاحية اعتقال المواطنين، وإحالتهم إلى المحاكم، وقد تجاوز عدد المعتقلين بموجب المرسوم 200 شخص، حيث تم إبعادهم إلى سجن [نقرة السلمان] الصحراوي في البادية الجنوبية، وكان من بين المعتقلين العديد من النواب السابقين، والمحامين،والقصابين، وتجار الأغنام ، حيث اتهمتهم الحكومة بكونهم من حملة [المبادئ الهدامة]. (2)                                                                                                                                 
 استمر الإضراب أكثر من أسبوع، لكن الحكومة قمعته بالقوة، مطبقة مرسوم الطوارئ المذكور الذي جاء أشد وطأة من مرسوم الإدارة العرفية، ولكي يطلع القارئ الكريم على ما جاء به هذا المرسوم ارتأيت تدوينه:                                                                   
مرسوم الطوارئ:(3)
نحن فيصل الثاني ملك العراق
بعد الإطلاع على الفقرة الثالثة من المادة 26 المعدلة من القانون الأساسي، وبناء على ما عرضه وزير الداخلية، ووافق عليه مجلس الوزراء، أمرنا بوضع المرسوم التالي:         
المادة الأولى: يطبق هذا المرسوم كلما تُعلن حالة الطوارئ، وفقاً للفقرة الثانية من المادة 120 من القانون الأساسي، وذلك في المناطق المعينة في الإعلان، وينتهي تطبيقه من تاريخ انتهاء حالة الطوارئ، بإرادة ملكية،على أن انتهاء تطبيقه لا يؤثر في الأحكام والأوامر والقرارات التي صدرت من السلطات المختصة بموجبه.                               . المادة الثانية: لرئيس الوزراء، بناءعلى قرار يصدره مجلس الوزراء أن يستعمل السلطات التالية وأن يصدر لهذا الغرض البيانات والإعلانات والأوامر،والقرارات اللازمة:       .      1 ـ مراقبة الرسائل البريدية، والبرقية، والتلفونية، أو منعها، أو تقييدها.              .        2ـ مراقبة الصحف والمجلات والنشرات حتى لو كانت لسان حزب والكتب، وجميع المطبوعات الأخرى، أو تقييد نشرها، وتعطيل الصحف والمجلات والنشرات التي تثير الرأي العام، أو تدعو إلى الثورة، أو لنشر ما يخالف مبادئ وأسس نظام الحكم الديمقراطي في العراق، أو إثارة، أو توليد البغضاء بين السكان، وغلق أي مطبعة، وضبط الكتب وسائر المطبوعات، والنشرات، والصور، والرموز التي من شأنها تهييج الخواطر، أو إثارة الفتن، والإخلال بالأمن العام، سواء كانت معدة للنشر أو للبيع،أو للتوزيع ،أو العرض على الأنظار، أم لم تكن.                                                                                   
3ـ منع أي اجتماع يخشى منه الإخلال بالسلام والأمن والسكينة، وتفريقه بالقوة عند المقاومة، وغلق أي حزب، أو جمعية،أو نقابة، أو نادٍ، وتسحب إجازته بصورة دائمة أو مؤقتة، عندما يسلك مسلكاً يدل على مقاومته الأوامر القانونية، أو إحداثه شغباً بين السكان، أو يخشى منه الإخلال بالأمن والسكينة العامة.                                           
4ـ سحب الرخص بحيازة السلاح وحمله، والأمر بتسليم الأسلحة على اختلاف أنواعها، والعتاد، والمواد المفرقعة والآلات، والوسائط الصالحة لصنعها، وضبط المخازن المودعة فيها تلك الأشياء وغلقها.                                                                                 
5ـ تعيين إجراءات تتخذ في استعمال جوازات السفر، والأمور الأخرى المتعلقة بالدخول إلى العراق، والخروج منه.                                                                             
6ـ منع الاحتكار، وعند الحاجة تحديد الأسعار، واعتبار المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار مخلين بالأمن العام، وسوقهم إلى المحاكم المختصة.                                               
7 ـ اعتقال الأشخاص الذين يُشك في سلوكهم أنهم يخلون بالأمن العام، مهما كانت صفاتهم،أو وظائفهم، وبحجزهم في أماكن يتم تعينها .                                             
المادة الثالثة:                                                                                               
 لمجلس الوزراء أن يخول، بناء على اقتراح رئيس الوزراء، ببيان ينشر في الجريدة الرسمية، استعمال السلطات المخولة لرئيس الوزراء والمصرحة في المادة [2] كلاً أو قسماً، لأحد الوزراء.                                                                                     
المادة الرابعة :
 1 ـ يعاقب كل من يخالف قراراً، أو أمراً، أو بياناً، أو إعلاناً صادراً بموجب المادتين 2، 3، وتطبيق العقوبات المقررة في المادة الرابعة والمادة السادسة من هذا المرسوم.

  2ـ إذا كانت الجريمة يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على 3 سنوات، بموجب قانون آخر،   فيجوز تطبيق ذلك القانون في المحكمة المختصة.
المادة الخامسة:
يعين مجلس الوزراء بإرادة ملكية تنشر في الجريدة الرسمية حكام جزاء من الصنف الأول من بين الحكام ، وغيرهم من الأشخاص العسكريين والمدنيين، للنظر في الجرائم المرتكبة ضد الأوامر، والإعلانات الصادرة بموجب المادتين  2 و 3، وتطبيق  العقوبات المقررة في المادة الرابعة، ولتطبيق المادة السادسة من هذا المرسوم .
المادة السادسة :
1 ـ للمحاكم أن تطلب تعهداً بحسن السلوك، وحفظ الأمن والسلام لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، بكفالة شخصية، أو نقدية لا يتجاوز مقدارها 5000 دينار، من الشخص الذي يخشى منه ارتكاب فعل أو إذاعة أمر يؤدي إلى الإخلال بسلامة الدولة، وإقلاق الراحة والسكينة العامة، أو توليد أو إثارة شعور البغضاء بين طبقات السكان، من الشخص الذي حرض على ذلك، وله أن يأمر بوضع الشخص تحت مراقبة الشرطة لمدة لا تتجاوز مدة التعهد.   .                                                                                                       2ـ أن يفتش الأشخاص، أو المنازل، أو المباني، أو وسائط النقل على اختلاف أنواعها، لاكتشاف الأمور المبينة في المادة الثانية، وضبط ما يعثر عليه لدى الأشخاص، أو في المحلات المذكورة  من الأشياء الممنوعة، أو والوسائط الصالحة لصنعها.                     
                   
3ـ لا يشترط في ورقة التكليف بالحضور التي يصدرها الحاكم إلى الشخص المذكور في الفقرة الأولى من هذه المادة أن تكون منظمة بالصورة المبينة في المادة 79 من أصول المحاكمات الجزائي.                                                                                       
المادة السابعة:                                                                                              
ـ تنظر المحكمة الخاصة المبينة في المادة الثامنة تمييزاً في الأحكام والقرارات الصادرة من حكام الجزاء وفقاً للمواد السابقة، ويكون قرارها قطعياً.                                     
2 ـ يقدم استدعاء التمييز خلال 45 يوماً من تاريخ صدور الحكم                                 
المادة الثامنة:                                                                                              
1ـ تؤسس في المنطقة، أو المناطق التي يطبق فيها هذا المرسوم محكمة،أو محاكم خاصة لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكابهم جرائم ضد النظام، أو سلامة الدولة الخارجية والداخلية، أو سلامة مواصلاتها، وموانئها، أو أموالها، وسائر أملاكها، أو بجريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون ذيل قانون العقوبات البغدادي رقم 51 لسنة 1938، وقانون تعديله رقم 11 لسنة 1948، ومرسوم تعديله رقم 16 لسنة 1954، وسائر الجرائم التي تخل بالأمن العام.                                                                                   
المادة التاسعة:                                                                                            
1ـ تتألف المحكمة الخاصة من خمسة حكام يعينون بقرار من مجلس الوزراء، وإرادة ملكية،على أن يكون من بينهم حاكمان من الصنف الأول من حكام المحاكم المدنية يرشحهما وزير العدل، ويعين الآخرون من العسكريين والمدنيين الذين يرتئي مجلس الوزراء أنهم أهل لذلك، ويعين مجلس الوزراء من بين الخمسة رئيساً للمحكمة، ونائباً للرئيس.                                                                                                     
2 ـ يجوز تعين حكام إضافيين من الأصناف المذكورة في الفقرة السابقة بقرار من مجلس الوزراء، وإرادة ملكية، ليحلوا محل من يتغيب من صنفهم من حكام المحكمة.               
3 ـ يجوز أن تشكل المحكمة الخاصة من ثلاث حكام فقط، إذا كانت الجريمة مما يعاقب عليها بغير الإعدام، وغير الأشغال الشاقة المؤبدة على أن يكون من بين حكام المحكمة مدني واحد على الأقل، وان يكون من ضمنهم الرئيس ونائبه.                                   
المادة العاشرة:                                                                                            
 تؤلف محكمة التمييز الخاصة برئاسة أحد حكام محكمة التمييز، وعضوية حاكمين منها، أو من كبار الحكام، وأثنين من كبار الضباط، أو الموظفين المدنيين على أن يكونا أعلى رتبة من الضباط أو الموظفين المدنيين، أعضاء المحكمة الخاصة.                             
2 ـ تميز الأحكام الصادرة من المحكمة الخاصة لدى محكمة التمييز الخاصة خلال عشرة أيام من تاريخ صدور القرار.                                                                             
المادة الحادية عشرة : يعين وزير العدل مدعين عامين، وحكام تحقيق للمحكمة الخاصة، وعند عدم تعيينه ذلك فتجري المحاكمة والبت فيها وفق الأصول المطبقة في المحاكمات أمام المحكمة الكبرى، بما في ذلك طلبات الادعاء الشخصي.                    .                    المادة الثانية عشرة:                                         .                                             1ـ ترسل المحكمة الخاصة الأحكام الصادرة بالإعدام إلى محكمة التمييز الخاصة فور صدورها للنظر فيها.                                                                                   
2 ـ لا تنفذ أحكام الإعدام التي تصدرها محكمة التمييز الخاصة إلا بعد تصديق الملك.           المادة الثالثة عشرة:                                                     .                                1ـ يعتبر الشخص المعتقل بموجب الفقرة 7 من المادة الثانية من هذا المرسوم موقوفاً قانوناً.                                                                                                     

2ـ تحكم المحاكم الخاصة في الجرائم المنصوص عليها في المواد 5، 7، 8، 11 من الباب الثاني عشر، وفي المادتين 80، و82 من قانون العقوبات البغدادي  بالإعدام،أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو بالحبس مدة لا تتجاوز 15 سنة.                                   
3ـ تعدل المادة 3 من الباب الثاني عشر من قانون العقوبات البغدادي، بإضافة عبارة  والطرق،أو المواصلات الأخرى، وسدود الري الكبرى]  بعد عبارة [ السكك الحديدية والجسور].                                                                                                   
المادة الرابعة عشرة:                                                                                     
يشمل هذا المرسوم الأشخاص الذين يكونون خارج المنطقة المعلنة فيها حالة الطوارئ، إذا ظهر للمحكمة أنهم اشتركوا في الجرائم المرتكبة في تلك المنطقة.                           
المادة الخامسة عشرة:                                                                                   
يجوز أن يقصر شمول هذا المرسوم على بعض الجرائم المنصوص عليها في المادة الثامنة منه، بقرار من مجلس الوزراء.                                                                         
المادة السادسة عشرة:                                                                                   
 ينفذ هذا المرسوم من تاريخ صدور الإرادة الملكية بتنفيذه. المادة السابعة عشرة: على وزراء الدولة تنفيذ هذا المرسوم كتب في بغداد في اليوم الثاني من شهر صفر سنة 1376 هجرية، المصادف لليوم الثامن من شهر أيلول 1956 ميلادية.                                   
                             
      مجلس الوزراء                                     الملك فيصل الثاني             
                                         
وهكذا أفرغ نوري السعيد الدستور من سائر حقوق وحريات الشعب التي نص عليها، وغدا الشعب رهينة إجراءاته القمعية، ومحاكمه الجائرة التي بدأت بإرسال مئات المواطنين إلى السجون والمعتقلات، والنفي إلى مناطق نائية بعيداً عن أهليهم وذويهم، إمعاناً في التنكيل بالشعب وحركته الوطنية، وقد ظن السعيد أن بإجراءاته تلك قادر على إخماد الروح الوطنية لدى أبناء الشعب، ولكن خاب ظنه، وانقلب السحر على الساحر وانهار ذلك البنيان الذي ظنه السعيد قوياً عندما صرح قبيل ثورة 14 تموز بأيام قلائل قائلاً:[دار السيد مأمونة]!، لقد عجّل السعيد بإجراءاته القمعية تلك في قيام الثورة، ونهاية النظام الملكي صبيحة ذلك اليوم.                                                                                         

134
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الرابعة والعشرون
حامد الحمداني                                                             28/10/201 
الأحزاب الوطنية تشكل جبهة وطنية لخوض الانتخابات

رداً على سياسة السلطة الحاكمة المتجاهلة لإرادة الشعب، دعت الأحزاب والقوى السياسية، والمنظمات الديمقراطية والنقابات، إلى لقاء يهدف إلى تشكيل جبهة موحدة لخوض الانتخابات، وبالفعل تم اللقاء الذي حضره ممثلون عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحركة أنصار السلام، ومنظمات الطلاب والشباب، والنقابات العمالية، والمهنية، كنقابة المحامين، والأطباء، وممثلي الفلاحين، وتدارس الجميع موضوع إقامة جبهة وطنية لخوض الانتخابات العامة، وقد تم التوقيع على الميثاق في 12 أيار 1954، وكان لهذا الميثاق وقع الصاعقة على الفئة الحاكمة، فقد تضمن الميثاق البنود التالية:                                                                                     
1ـ إطلاق الحريات الديمقراطية، كحرية الرأي والنشر، والاجتماع، والتظاهر، والإضراب وتأليف الجمعيات، وحق التنظيم السياسية والنقابي.                                             
2ـ الدفاع عن حرية الانتخابات .                                                                         
3ـ إلغاء معاهدة 1930، والقواعد العسكرية، وجلاء الجيوش الأجنبية، ورفض جميع   المحالفات العسكرية الاستعمارية، بما فيها الحلف التركي الباكستاني، وأي نوع من أنواع الدفاع المشترك.                                                                                           
4ـ رفض المساعدات العسكرية الأمريكية التي يراد بها تقييد سيادة العراق، وربطه بالمحالفات العسكرية الاستعمارية.                                                                 
5ـ العمل على إلغاء امتيازات الشركات الأجنبية الاحتكارية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء دور الإقطاع، وحل المشاكل الاقتصادية القائمة، ومشكلة البطالة  وغلاء المعيشة، ورفع مستوى معيشة الشعب بوجه عام، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها.                                                                                                   
6ـ العمل على إزالة الآثار الأليمة التي خلفتها كارثة الفيضان، وذلك بإسكان المشردين من ضحايا الكارثة، وتعويض المتضررين، وتأليف لجنة نزيهة محايدة لتحديد مسؤولية المقصرين ، واتخاذ كل ما يلزم لدرء أخطار الفيضان في المستقبل.                             
  7ـ التضامن مع الشعوب العربية، واستقلال البلاد العربية، وتحرير فلسطين         .          8 ـ العمل على إبعاد العراق والبلاد العربية عن ويلات الحرب               .                                             
وقد وقع على الميثاق كل من السادة:                                                                   
1ـ ممثل الحزب الوطني الديمقراطي
 2 ـ ممثل حزب الاستقلال
3 ـ ممثل الفلاحين ـ  نايف الحسن
4 ـ ممثل العمال ـ كليبان صالح
5 ـ ممثل الشباب ـ صفاء الحافظ
6 ـ ممثل الأطباء ـ د.احمد الجلبي
7 ـ ممثل المحامين ـ عبد الستار ناجي
8 ـ ممثل الطلاب ـ مهدي عبد الكريم
 وطبيعي أن الخمسة الأخيرين كانوا يمثلون الحزب الشيوعي، بسبب الحظر المفروض على الحزب، وملاحقة أعضائه ومؤيديه، فقد جرى الاتفاق على تمثيل الحزب الشيوعي بهذه الطريقة. (1)                                                                                                                         

أحدث إعلان ميثاق الجبهة الوطنية في 12 أيار 1954 زلزالاً كبيراً لدى السلطة الحاكمة التي أقلقها أشد القلق اللقاء بين الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، بهذا الشكل العلني الواسع الذي ينم عن التحدي، وأخذت السلطة الحاكمة تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون نجاح مرشحي الجبهة الوطنية في الانتخابات بكل الوسائل والسبل، من إرهاب وتزوير ورشاوى وغيرها، وفي المقابل نشطت الجبهة الوطنية في تعبئة الجماهير الشعبية لخوض المعركة الانتخابية، وتحدي إجراءات السلطة مهما كلف الأمر.                                                                                                         
بذلت القوى المؤيدة للبلاط جهدها، وبظمنها حزبا نوري السعيد، وصالح جبر[الاتحاد الدستوري]و[حزب الأمة الاشتراكي] وشيوخ الإقطاع الموالين للبلاط، مكونين جبهة واحدة، رغم التنافس بين البلاط وكتلة نوري السعيد، والذي بدا واضحاً عند تأليف وزارة أرشد العمري التي لم يدخلها أحد من حزب نوري السعيد، لكي يضمن عبد الإله أغلبية موالية له في الانتخابات.                                                                                 

تم تحديد يوم الأربعاء المصادف 9 حزيران للانتخاب، وكان النشاط من الطرفين يجري على قدم وساق، ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي جرت فيه الانتخابات، والأيام التي سبقتها، حيث كانت القوى الوطنية تعمل كخلية نحل في أعداد وتعبئة الجماهير للمشاركة في الانتخاب، والتصويت لمرشحي الجبهة الوطنية في الموصل، وكان لي شرف المساهمة النشطة بتلك الحملة الانتخابية، وعملنا المستحيل من أجل فوز كافة مرشحي الجبهة الوطنية، وإفشال مرشحي الحكومة والبلاط، رغم كل المحاولات التي بذلتها الإدارة والأجهزة الأمنية للتلاعب في الانتخابات حينا، وفي التهديد وإخافة الناس البسطاء حيناً آخر.                                                                                                           

لقد كان ذاك اليوم عيداً وطنياً كبيراً لدى أبناء الشعب في الموصل، فقد فاز مرشحي الجبهة الوطنية بالمقاعد الأربعة المخصصة لمدينة الموصل، وخرجت الجماهير الشعبية في اليوم التالي لتوديع النواب المنتخبين في طريقهم إلى بغداد لحضور الجلسة الأولى للمجلس النيابي، وقابلتنا الشرطة بالهراوات، وأخذت تلاحق جماهير الشعب، وتم اعتقال أعداد منهم.                                                                                                         
لكن الانتخابات في بقية المناطق كانت بعيدة كل البعد عن التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب، بسبب هيمنة الإقطاعيين الواسعة، وبسبب تدخلات السلطة، وخاصة في بغداد والمدن الرئيسة، فكانت النتيجة فوز 11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع عدد النواب البالغ 135نائباً، فيما فاز 51 من أعوان الوصي ونوري السعيد  نائباً، وفاز من حزب صالح جبر 21 نائباً، وفاز 38 إقطاعياً بالتزكية، دون منافس. (2)                      .                                                                                       
رفعت الجبهة الوطنية مذكرة إلى الحكومة وموجهة بالذات إلى وزير الداخلية في  حزيران 1954، تحتج فيها على الانتهاكات الصارخة، والتدخلات غير المشروعة في تلك الانتخابات، وحرمان مرشحي الجبهة الوطنية من حق الدعاية الانتخابية، وعقد الاجتماعات الانتخابية مع جماهير الشعب، ومنع الاجتماعات العامة، وإشاعة الإرهاب بين الناس، واعتقال مؤيدي الجبهة الوطنية، وزجهم في السجون بشكل سافر أمام أعين الجماهير الشعبية لإرعابهم، ومنعهم من التصويت لمرشحي الجبهة الوطنية، كما جرى إبعاد مرشحي الجبهة الوطنية في الحلة والكوت عن مناطقهم الانتخابية مخفورين، حيث تم نقلهم بالسيارات المسلحة.                                                                               

كما جرت مذبحة في مدينة الحي عندما حاول أبناء الشعب تقديم المرشح المنافس للإقطاعي الكبير [عبد الله الياسين]،حيث قام رجاله البالغ عددهم أكثر من 100 مسلح بالاعتداء عل  أبناء الشعب، وقد ذهب ضحية الاعتداء المسلح أحد المواطنين، وجرح 15 آخرين. (3)                                                                                                                                   
 أثارت المذبحة هيجاناً شديداً لدى الجماهير الشعبية، وهبت المظاهرات المنددة بالإقطاع والحكومة، وقد شارك في المظاهرات سائر أبناء الحي نساءً ورجالاً، وقد تصدت لهم قوات الشرطة بكل وسائل القمع، حيث وقع المزيد من الجرحى، ألقت الشرطة القبض على 74 مواطناً أحيل 52  فرداً منهم إلى المحاكمة، وحكم على المناضل الشيوعي [علي الشيخ حسين] بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم به، وعلى الباقين بالسجن لمدد مختلفة. بهذا الأسلوب أجرت السلطة الحاكمة الانتخابات لتضمن فوز مرشحي النظام .                                 
                             
ومع أن عدد الفائزين من مرشحي الجبهة الوطنية كان 11 نائباً فقط، فقد أقلق ذلك العدد السلطة كثيراً، وهالها أن ترى نخبة مثقفة واعية على مقاعد البرلمان تقف بالمرصاد للمخططات الإمبريالية التي يراد بها ربط العراق بالأحلاف العدوانية، وبدأت السلطة تفكر بالتخلص من هذا البرلمان منذ أن أعلنت نتائج الانتخابات.                                       
                                     
لم يعقد المجلس الجديد سوى جلسة واحدة في يوم الاثنين 26 تموز 1954، فقد صدرت الإرادة الملكية بتعطيله حتى تم حله على يد حكومة نوري السعيد، التي خلفت حكومة العمري بعد الانتخابات، وصدرت الإرادة الملكية بحله في 3 آب 1954، لكي يجري نوري السعيد انتخابات جديدة يحول فيها دون وصول أي معارض إلى البرلمان، فكان مجلس التزكية المعروف، والذي سنتحدث عنه فيما بعد.                                                   
                                                   
نوري السعيد يعود إلى الحكم ليصفي الحركة الوطنية
أثار قيام الجبهة الوطنية ونجاحها في إيصال 11 نائباً إلى البرلمان، على الرغم من التدخلات السافرة للحكومة لصالح مرشحيها، والضغوط التي مارستها ضد مرشحي الجبهة الوطنية، أثارت قلق السفارة البريطانية في وقت كانت تعد العدة لإدخال العراق في حلف جديد أطلق عليه فيما بعد[حلف بغداد] ضم تركيا والباكستان والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمناسبة الانتهاء من إجراء الانتخابات الجديدة قدمت حكومة [أرشد العمري] استقالتها حسب ما ينص عليه الدستور، وتم قبول الاستقالة في 3 آب.                                     
 
وخلال المدة الممتدة ما بين 17 تموز و 3 آب نشطت السفارة البريطانية في مسعاها لتكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة الجديدة، وطلبت من عبد الإله شخصياً السفر إلى لندن على أول طائرة، ومصالحة نوري السعيد وإقناعه بالعودة إلى بغداد، وتكليفه بتشكيل الوزارة، نظراً لأن المهام التي تنتظرها الحكومة الجديدة كبيرة جداً، بعد أن أوشكت معاهدة 1930 على نهاية مدتها، وليس هناك غير نوري السعيد قادرٌ على تحدي إرادة الشعب، وأداء هذه المهمة. (4)                                                                                                                 

وبالفعل نفذ عبد الإله إرادة الحكومة البريطانية وسفارتها في بغداد، وسافر إلى لندن لمصالحة نوري السعيد، وإقناعه بالعودة إلى بغداد وتأليف الوزارة الجديدة، وأعطاه الحرية الكاملة في اختيار أعضاء وزارته. (5)                                                                           

أما نوري السعيد فقد اشترط على  عبد الإله  تلبية الشروط التالية لقبول هذه المهمة وهي:
1 ـ حل المجلس النيابي المنتخب، وإجراء انتخابات جديدة.                                       
2ـ حل جميع الأحزاب السياسية، والمنظمات، والجمعيات، والنقابات والنوادي.             
  3ـ إلغاء جميع امتيازات الصحف، ومنح امتيازات جديدة لعدد محدود من المناصرين للسلطة.                                                                                                 
  4ـ شن حرب لا هوادة فيها على القوى الوطنية، وعلى الحريات الديمقراطية               
وكان لنوري السعيد ما أراد مادام ذلك يتفق وإرادة الإنكليز، وعاد إلى بغداد ليؤلف أسوأ وزارة في تاريخ العراق منذ قيام الحكم الملكي، كما سنرى فيما بعد، وتم تأليفها في 3 آب 1954، وجاءت على الشكل التالي:                                        .                             1 ـ نوري السعيد رئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع .                                                 
 2 ـ سعيد قزاز ـ وزيراً للداخلية                               .                                          3ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية.                             .                                      4ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.                                                       
5 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للعدلية.
6 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للمالية.
7ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للزراعة.
8 ـ عبد المجيد محمود ـ وزيراً للأعمار.
9 ـ نديم الباجه جي ـ وزيراً للاقتصاد.
10 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للصحة.
11 ـ خليل كنه ـ وزيراً للمعارف.
12 ـ صالح صائب الجبوري ـ وزيراً للمواصلات والأشغال .
13 ـ علي الشرقي ـ وزيراً بلا وزارة .
14 ـ أحمد مختار بابان ـ وزيراً بلا وزارة .
15 ـ برهان الدين باش أعيان ـ وزيراً بلا وزارة
16 ـ رشدي الجلبي ـ وزيراً بلا وزارة .

السعيد يبدأ هجومه ويصفي كل مظاهر الديمقراطية:
لم يكد نوري السعيد يفرغ من تأليف وزارته الحادية عشرة حتى باشر بأعنف هجوم مضاد على القوى والأحزاب الوطنية، وفي جعبته تصفية أي مظهر من مظاهر الديمقراطية، وكبح جماح تلك القوى بأقسى الوسائل والإجراءات، فكان باكورة هجومه حل مجلس النواب، حيث استحصل الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإبعاد أي عنصر معارض من المجلس عن طريق إجراء انتخابات مزيفه لم يعرف لها العراق مثيلاً حيث دُعي المجلس الذي جاء به نوري السعيد [ مجلس التزكية ] نظراً لفوز 121 نائباً بالتزكيةـ  أي دون منافس ـ من مجموع 135 نائباً، وحتى النواب الآخرون فكانوا من أعوان السعيد كذلك. (7)                     

لقد منع نوري السعيد أي عنصر معارض من ترشيح نفسه، واضطرت الأحزاب الوطنية إلى مقاطعة الانتخابات التي جرت في 12 أيلول 1954، في ظل إرهاب وحشي لم يشهد له الشعب مثيلاً، وقد أدى سلوك الحكومة السعيدية هذا إلى وقوع المظاهرات الدامية، وسقوط العديد من الشهداء والجرحى في مناطق عدة، وخاصة في السليمانية، حيث تصدت قوات الشرطة للمظاهرات الشعبية مستخدمة السلاح، وتعاملت مع أبناء الشعب بأبشع أسلوب. لقد شهد العراق أسوا الانتخابات في تاريخه الحديث، والذي ُيعدّ وصمة عار في جبين السلطة الحاكمة التي لم تتحمل وجود 10 نواب معارضين في المجلس، فأقدمت على حله لتمهد السبيل لتصفية الحقوق والحريات الديمقراطية، وتنفيذ المخطط الإمبريالي الهادف لربط العراق بالأحلاف العدوانية.                                                                       



135
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الحادية والعشرون
حامد الحمداني                                                             24/10/2015 /10/2015

تدهور الأوضاع السياسة والاقتصادية في البلاد

مذكرات الأحزاب الوطنية المرفوعة للوصي عبد الاله:

تدهورت الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد بسبب سوء سياسات الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم، ولجوئها إلى انتهاك حقوق وحريات الشعب التي نص عليها الدستور، والاستهتار بمصالح الوطن، ووصول تلك الأحوال إلى مرحلة أصبح السكوت عنها أمراً مستحيلاً .

 ونتيجة لتلك الأوضاع أصيبت الأحزاب السياسية الوطنية باليأس من تلك الحكومات وسياساتها الخطرة، فلم تجد بداً من مخاطبة الوصي على عرش العراق[عبد الإله] مباشرة، حيث رفعت إليه المذكرات شرحت فيها بإسهاب أحوال البلاد، وما وصلت إليه من تردي ينذر بتطورات خطيرة إذا لم يتم معالجتها بسرعة.

لقد جاءت المذكرات التي بعث بها زعماء حزب الاستقلال، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الجبهة الشعبية، متشابهة في مضمونها من حيث شرحها لظروف البلاد المتردية، وانتشار الفساد، وسلب الحريات العامة وانتهاك الدستور، وتزييف الانتخابات، وغيرها من الأمور الأخرى.
 كما جاءت بمطالب متشابهة أيضا، ولذلك فسوف اكتفي بمذكرة الحزب الوطني الديمقراطي التي رفعها السيد[ كامل الجادرجي] إلى الوصي عبد الإله، والتي اتسمت بالصراحة والجرأة في عرض التدهور الحاصل في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد وفيما يلي نصها :
صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله:
 يا صاحب السمو:

 ليست الغاية من تقديم هذه المذكرة إلى سموكم هي مجرد شكوى من الأوضاع السيئة القائمة في العراق واستنكارها، إذ طالما سمعنا أن سموكم يبدي شكواه أيضاً في مختلف المناسبات، ولذلك نتقدم بمطالب نأمل أن يساعد تحقيقها إلى حد كبير في إنقاذ البلاد من الوضع الخطير الذي وصلت إليه.
ونحن عندما نخاطبكم بصورة مباشرة بها الشأن، لم يغب عن بالنا أن القانون الأساسي العراقي، على ما فيه من مآخذ، قد اعتبر رئيس الدولة، أو من يقوم مقامه، غير مسؤول، وأنه حمل الوزارة جميع مسؤوليات الحكم في الدولة، وأنه فرق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن عدم التقيد بالقانون المشار إليه في ناحية حقوق الملك، وواجباته في الحدود المعينة لها كان سبباً مهماً لخرق سائر مواده من قبل السلطة التنفيذية، وجعله معطلاً من حيث الواقع، ولذلك لا يسعنا والحالة هذه أن نتجاهل واقع الحال الذي جعل سموكم مسؤولاً عن هذا الوضع الشاذ.

ونستطيع أن نؤكد أن التردي في الحالة بدأ يأخذ شكلاً واضحاً منذُ أن تم إخضاع البلاد للسلطات الإنكليزية عقب حركة 1941، إذ رافق الاحتلال البريطاني الثاني دور إرهابي رُكز فيه النفوذ البريطاني والحكم العرفي، والإدارة البوليسية، وظهرت فيه الروح الانتقامية بأجلى مظاهرها، سواء في الاعتقالات الإدارية، أو المحاكمات التي جرت على يد السلطات العسكرية العراقية.

وقد تحمل الشعب العراقي طيلة مدة الحرب ما عانته البلاد من عبث الإدارة العسكرية البريطانية، وتدخلاتها السافرة بشؤونها، وتوجيهها جميع موارد البلاد وإنتاجها لمصلحة المجهود الحربي البريطاني، كما عانى من نتائج التضخم النقدي ما لم يعانيه بلد آخر. فكانت أكثرية الشعب لا تسد رمقها بسبب  الغلاء الفاحش، بينما تُرك الحبل على الغارب لفئة من الاستغلاليين والاحتكاريين، ورجال الحكم المستسلمين والموالين للسلطات البريطانية، والمدافعين عن ذلك الوضع السيئ لتثرى ثراءً فاحشاً على حساب تجويع الأكثرية الساحقة من الشعب.

 لقد عانى الشعب كل هذه المصاعب، وضحى بحرياته العامة والخاصة وتحمل الجوع والذل، وصبر على مضض، على أمل أن يحيا في أعوام ما بعد الحرب حياة سعيدة، تستعيد فيها البلاد استقلالها، وتضمن حرية أفرادها، ويوفر لها قوتها، وتختار الأكثرية فيها الطريقة التي توافقها في الحكم، والهيئة التي تدير شؤونها إدارة وطنية ديمقراطية منبثقة عن مجالس نيابية منتخبة بمحض إرادتها.

ولكن الذي يؤسف له أن الوضع استمر على ما كان عليه بعد انتهاء الحرب، على الرغم من ازدياد الوعي الشعبي، بل أخذت تنمو بذور الفساد بمقياس واسع، فكوفحت الأحزاب الناشئة وصحافتها أشد المكافحة، واُتخذ من القضاء وسيلة لمحاربتها ومحاربة صحافتها، وفقد القضاء استقلاله وصيانته بنتيجة مداخلات السلطة التنفيذية المستمرة في أعماله، وأخذ أسلوب الحكم يتحول إلى نظام بوليسي أكثر فأكثر، يهدر الحريات العامة والخاصة، وخلق جو إرهابي أرادت به الفئة الحاكمة القضاء على كل مقاومة شعبية، وسارت الفئة الحاكمة على نفس أسلوبها القديم في الانتخابات العامة بالرغم من أنها تظاهرت بالإصلاح في هذا الشأن بسن قانون جديد للانتخابات، وقد شهدت انتخابات عامي 1947 و 1948 مداخلات سافرة من غير تحفظ، فقد حدث أن استُدعي المتصرفون إلى العاصمة لمقابلة رئيس الديوان الملكي، والمسؤولين من الوزراء، وعادوا إلى أماكن عملهم بعد أن زُودوا بتعليمات مشددة لتعيين النواب.
 وقد نُفذت تلك التعليمات، فكان من الطبيعي أن تضيع مسؤولية الوزارات أمام تلك المجالس المزيفة، غير المنبثقة عن إرادة الأمة فتركزت السلطة، من دون اعتبار لمبدأ فصل السلطات، بيد الحكومة التي راحت تطلق لنفسها العنان في القيام بما تريد به من أعمال مخالفة للقانون الأساسي، والقوانين والأنظمة، ومخلة بالأسلوب الديمقراطي كل الإخلال، فأصبحت المجالس النيابية هي الخاضعة للسلطة التنفيذية وأصبحت الوزارات تعلق بقاءها في الحكم على إرادة البلاط ومشيئته، فاستسلمت له كل الاستسلام، وأصبح والحالة هذه مرجعاً حقيقياً في كل صغيرة وكبيرة، حتى تعين الموظفين، وإحالتهم على التقاعد، وما شابه ذلك من الأمور التي يجب أن تكون بعيدة عن هذه المداخلات.

ونحن إذ نوجه هذه المذكرة إلى سموكم لا نود أن يُفهم أننا نطالب بأن يتدخل سموكم في شؤون الدولة خلافاً للدستور، وإنما الذي نبغيه هو وضع حد لهذه المداخلات، وذلك لصيانة الدستور، وإزالة آثار تلك المداخلات، ونعتقد بأن الإصلاح الذي نطالب به لتغير الأوضاع السيئة القائمة التي بلغت حداً لا يطاق من الفساد، يجب أن يبدأ بتعديل القانون الأساسي الحالي الذي جرى تعديله في ظروف شاذة، يوم كانت البلاد من أقصاها إلى أقصاها محتلة بالجيوش البريطانية، وخاضعة للأحكام العرفية، والسجون والمعتقلات ملئ بالمواطنين لأسباب كيفية، وذلك على وجه الخصوص يضمن في نصوصه سيادة الشعب ضماناً تاما ًبحيث لا يدع أي مجال للانتقاص منها،عن طريق التأويل أو التفسير، ويقف بكل سلطة من سلطات الدولة عند الحد الذي يجب أن تقف عنده، وفق مبادئ حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، كما جاء في البيعة التاريخية التي أقرها مجلس الوزراء العراقي بتاريخ 11 تموز 1921،وأعلنها للناس،على أن يشمل التعديل المطلوب النص الذي كان قد ادخل على القانون الأساسي عام 1942، والذي يقضي بمنح حقوقاً أكثر من ذي قبل، كحق إقالة الوزارة، وجعل قرارات مجلس الوزراء مرهونة بموافقته عليها، وما إلى ذلك من أمور منافية كل المنافاة للأسلوب الديمقراطي، وأن يتضمن التعديل منع رئيس الدولة، وكل ذي سلطة عامة في الدولة منعاً باتاً من كل عمل مالي أو اقتصادي يمكن أن يؤدي إلى استغلال النفوذ.
 وفي اعتقادنا أن التعديل المطلوب يجب أن يكون تمهيداً لإعادة الحياة النيابية على أسس سليمة، وفي مقدمتها الأخذ بمبدأ الانتخاب المباشر عن طريق تعديل قانون الانتخاب الحالي على هذا الأساس، هذا القانون الذي ليس له في الأقطار الديمقراطية ما يماثله من حيث رجعيته، والذي أضيفت إليه أواخر عهد السيد نوري السعيد الأخيرة قيود جديدة على حرية الناخبين، مما يتطلب تبديله لتأمين حق المواطنين في الانتخاب المباشر، وإجراء الانتخابات المقبلة على أساس إحصاء رسمي على أن يُلغى منه كل قيد يعرقل وصول أي مواطن إلى المجلس مهما تكن حالته الاجتماعية أو المالية،  وان تقوم بإجراء الانتخابات، بعد رفع تلك القيود من هذا القانون، وجعله ملائماً للأسس الديمقراطية، وزارة يطمئن إليها الشعب كل الاطمئنان، لتكون الوزارات التي تتولى الحكم بعد ذلك وزارات منبثقة من مجلس نيابي حقيقي يمثل إرادة الشعب أصدق تمثيل، وبذلك يمكن أن تكون الوزارات مسؤولة أمامه فقط  فتتولى السير بالبلاد نحو عهد جديد من الحكم الديمقراطي الصحيح ليستعيد الشعب طمأنينته المفقودة، وتتوفر لديه الثقة بأسلوب الحكم الذي ينشده.

وبعد فإن الشعب يا صاحب السمو بحاجة إلى إزالة القوانين الرجعية التي حرمت عليه ممارسة حريته، وجعلته يعيش في ظل نظام بوليسي يحصي عليه حركاته وأنفاسه، ويأخذ أبناءه بالشبهات، ويزج بهم في المعتقلات والسجون لمجرد رأي أبدوه، وإن البلاد بحاجة ماسة إلى قوانين عامة تشمل جميع أبناء الشعب، فكما تكون الجرائم موحدة بين المدن والمناطق الريفية، يجب أن يكون العقاب كذلك واحداً .

كما أن البلاد بحاجة ماسة إلى تشريع يضمن استقلال القضاء الذي أصبح في وضع لا يستطيع معه المحافظة على كيانه وحرمته واستقلاله، وإلى مجلس دولة تُعطى له جميع الصلاحيات كاملة غير منقوصة لحماية حقوق المواطنين من عبث السلطة الإجرائية، وتصرفاتها الكيفية، إلى جانب إطلاق الحريات السياسية، ومنح العمال وغيرهم من أصحاب المهن حرية تأليف النقابات، بحيث لا تستطيع السلطات الإدارية والبوليسية عرقلة أعمال هذه النقابات، والقضاء عليها بحجج واهية، وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين الذين هم في الواقع ضحايا المجالس العرفية العسكرية، أو المحاكمات غير الأصولية، وإلغاء جميع النصوص التي تتنافى ومبادئ الحكم الديمقراطي، حيثما وجدت في القوانين، واستبعاد فكرة تعديل قانون العقوبات الذي تلوّح به السلطات كسيف مسلط على كل حرية من حريات الرأي، والعمل السياسي، وتطهير جهاز الدولة من المرتشين والفاسدين، والضرب على أيدي المستغلين والمحتكرين، وذلك بتشريع خاص، بحيث لا يفلت من العقاب كل مجرم سابق أو لاحق.

والشعب العراقي الذي ضاق ذرعاً بحالته الاقتصادية السيئة، من حيث تفشي الفقر والبطالة، وقلة الأجور، يريدها إصلاحاً جذرياً لهذه الحالة بإلغاء الإقطاع، وإزالة كل قانون أو نظام من شأنه تثبيته، وتحديد الملكية الزراعية بحد أعلى، وتوزيع الأراضي المتملكة على الزراع الحقيقيين، وزيادة حصة الفلاح من الحاصل، وتخفيف عبء الضريبة عن المكلفين غير القادرين على دفعها، وفرض ضريبة تصاعدية على أصحاب الدخل الكبير، زراعياً كان أو غير زراعي، وتقليص الضرائب غير المباشرة على المستهلكين، وتحرير الاقتصاد الوطني من الاستغلال والسيطرة الأجنبية، وتأميم المشاريع التي تتصل بالخدمات العامة والقضاء على الاحتكار الأجنبي في العراق، وتشجيع استثمار رأس المال الوطني في الصناعة الحديثة، والمشاريع الاقتصادية، ومنع استغلال النفوذ الفردي على حساب الصالح العام .
 والشعب العراقي الذي يريد جلاء كل قوة أجنبية عن بلاده، يريد التحرر من معاهدة 1930 الجائرة التي قيدت له استقلاله وسيادته الوطنية، وهو كذلك يرفض كل نوع من أنواع الدفاع المشترك، لأنه يرى في هذا المشروع الاستعماري الخطر كل الخطر على كيانه وسلامته.
والشعب العراقي الذي ينشد السلام، يريد أن يعلن حياده تجاه التكتلات الدولية التي لا منفعة له في التورط فيها، لأن كل ارتباط للعراق بالدول الإمبريالية لا يعود إليه بغير الكوارث الجسيمة، ويعرض حياة أبنائه للهلاك، ومرافقه للخراب والدمار.
ولنا الشرف يا صاحب السمو أن نكون قد عرضنا في هذه المذكرة خلاصة ما يشكو منه الشعب العراقي، وعبّرنا عن ما يرغب فيه من حلول لمشاكله، وما يتوق إلى تحقيقه من آمال، وتفضلوا يا صاحب السمو بقبول خاص احترامنا . (1)
بغداد في 8 صفر  1372 هجرية المصادف لليوم 28 تشرين الأول 1952 .
                                                                                     كامل الجادرجي
وهكذا جاءت المذكرة تعبيراً صادقاً ودقيقاً عن أوضاع الشعب العراقي ومعاناته، ووضعت اليد على الداء، وحددت له الدواء، من دون أي مجاملة لرئيس الدولة أو الحكومة، واستقبلها الشعب بالتأييد الحازم والفعال، فقد كانت قد عبرت حقاً وصدقاً عن ضميره وأحاسيسه، وآماله في الحياة الحرة الكريمة في ظل الاستقلال الحقيقي، وبعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.
وبدلاً من أن يقوم الوصي عبد الإله بدراسة المذكرة المرفوعة له، والعمل على الاستجابة لمطالب الشعب التي تضمنتها المذكرات، ومعالجة شكاوى الشعب، استدعى على الفور السيدان [نوري السعيد] و[مصطفى العمري] وتباحث معهما في الرد الذي جاء سريعاً وانفعالياً دافع فيه عن نفسه، وعن حكوماته وسياساتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وجاء ذلك الرد الذي بعث به رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] ، بناء على توجيهات الوصي إلى قادة الأحزاب الوطنية الثلاث في 28 تشرين الأول 1952، والذي تميز بالانفعال.
لقد حاول الوصي تبرئة نفسه من التدخلات اللادستورية التي مارسها منذُ توليه الوصاية على العرش في انتخابات المجالس النيابية، وسياسات الوزارات المتعاقبة على الحكم، وتعديله للدستور بحيث خول نفسه حق إقالة الوزارة، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة، إضافة إلى ارتمائه في أحضان المستعمرين البريطانيين، والرضوخ لمشيئة السفارة البريطانية في تشكيل الوزارات وتحديد سياساتها. (2)

لكن الوصي كان يشعر بقلق شديد من أسلوب المذكرات التي رفعتها الأحزاب السياسية، والتي كانت تنم عن وجود استياء شعبي عام في البلاد وكان قلق الوصي عبد الإله ناشئاَ أيضاً من خوفه من وقوع انقلاب عسكري في البلاد، كما حدث في سوريا ومصر، ولذلك فقد سارع إلى حل مجلس النواب في 27 تشرين الأول 1952، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، من دون أن يلتفت إلى المطالب الشعبية، ومطالب الأحزاب السياسية المتمثلة بتعديل قانون الانتخاب وجعله  مباشراً ـ أي على درجة واحدة ـ منعاً للتزوير و شراء ذمم المنتخبين الثانويين . (3)
الأحزاب السياسية تقاطع الانتخابات:
لم تقتنع أحزاب المعارضة الوطنية بالخطوة التي أقدم عليها الوصي لحله البرلمان تمهيدً لإجراء انتخابات جديدة، طالما أنها سوف تجرى بنفس الأسلوب السابق، وبموجب القانون المعمول به، ورأت أن لا فائدة ترجى من اشتراكها في الانتخابات التي بات معروفاً سلفاً من الذي سيفوز فيها من رجال السلطة والسفارة البريطانية، وأعلنت أنها سوف تقاطع الانتخابات. (4)
وجاء قرار الأحزاب الوطنية المعارضة ليزيد من قلق السلطة والبلاط في اندلاع وثبة شعبية جديدة لا أحد يعرف مداها إن هي حدثت، ولذلك فقد تراجعت الحكومة عن موقفها، وسارعت إلى إصدار بيان رسمي 16 تشرين الثاني 1952إلى الشعب، تعلن فيه أنها في صدد تشكيل لجنة من كبار القانونيين، وبمشاركة الأحزاب السياسية، لتعديل قانون الانتخاب وجعله [انتخاباً مباشراً ]،وأنها سوف تقدم مشروع القانون إلى مجلس الأمة الذي سيجري انتخابه، وأن الحكومة سوف تقف على الحياد في تلك الانتخابات !!.
 
كما أعلنت الحكومة في بيانها أنها تدرك ضرورة أجراء الإصلاحات في البلاد، وقامت الحكومة بإبلاغ الأحزاب السياسية بخطتها، ودعت ممثليها للمشاركة في اللجنة المزمع تأليفها لتعديل قانون الانتخاب. لكن الأحزاب الوطنية لم تنطلِ عليها أحابيل الحكومة لتمرير الانتخابات والمجيء بمجلس للنواب كما تريد، وعليه رفضت دعوة الحكومة وطالبتها بإصدار مرسوم بتعديل قانون الانتخاب قبل إجراؤها، إن هي جادة في مواقفها. وبسبب تأزم الوضع من جديد طلب رئيس الوزراء[مصطفى العمري] من الوصي عبد الإله أن يلتقي بقادة الأحزاب والشخصيات السياسية في البلاد للتداول في سبل الخروج من الأزمة الخطيرة. (5)
مانع الوصي في بادئ الأمر، لكنه عاد وتراجع عن موقفه بعد أن أوضح له رئيس الوزراء خطورة الوضع  داخل البلاد، وما جرى ويجري من أحداث في إيران وسوريا ومصر.
وهكذا بادر الوصي في 28 تشرين الأول إلى دعوة قادة الأحزاب السادة [كامل الجادرجي ] و[محمد مهدي كبة] و[طه الهاشمي] و[نوري السعيد] و[صالح جبر] وشملت الدعوة إضافة إلى رئيس الوزراء [مصطفى العمري] كل من السادة [جميل المدفعي ] و[علي جودت الأيوبي] و[محمد الصدر] و[توفيق السويدي ] و[أرشد العمري ] و[حكمت سليمان ]. وجميعهم رؤساء وزارات سابقون.
 (6)
بدأ الوصي حديثه مع الحاضرين منزهاً نفسه من أي استغلال لمركزه على قمة السلطة، مدعياً العفة والنزاهة، والحرص على العراق وشعبه!،  مذكراً بأمجاد الملك حسين بن علي، ثم طلب بعد الانتهاء من كلمته أن يسمع أراء الحاضرين في الاجتماع، وخاصة قادة الأحزاب السياسية.  لكن السيد [طه الهاشمي] أجابه بالنيابة عن [كامل الجادرجي] و[محمد مهدي كبه] على الفور أنهم قد قدموا كل ما عندهم في المذكرات التي رفعوها لسموه، وأنهم يودون سماع جواب سموه عليها. (7)
كما تحدث علي جودت الأيوبي حول الأوضاع المتدهورة  في البلاد ومطالب الأحزاب السياسية الوطنية، وتطور الحديث إلى سجال بين الزمرة الحاكمة وقادة الأحزاب المعارضة.
أثارت صراحة السيد طه الهاشمي الوصي عبد الإله، وجعلته يفقد سيطرته على أعصابه، حيث تطاول على طه الهاشمي، واتهمه مرات عديدة [بالكذب ]!! .

 انفعل الهاشمي من تصرف الوصي، وهمّ بالخروج من الاجتماع، لكن الوصي صرخ في وجهه قائلاً[ اجلس] ورد عليه الهاشمي قائلاً [أني شريف،إني شريف] ثم غادر قاعة الاجتماع، وأعقبه الأستاذ كامل الجادرجي وغادر الاجتماع احتجاجاً على إهانة الوصي لطه الهاشمي وتضامناً معه، وانتهى مؤتمر البلاط إلى الفشل الذريع، وغادر الجميع بعد ذلك قاعة الاجتماع .(8)

حاول رئيس الوزراء أن يهدئ الأجواء التي باتت تهدد بالانفجار، واتصل بالسيدين طه الهاشمي، وكامل الجادرجي، واعتذر لهم بالنيابة عن الحكومة، وأبدى أسفه إلى ما آل إليه مؤتمر البلاط.  كما قام كل من رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] و رئيس التشريفات [تحسين قدري] بزيارة السيد طه الهاشمي في داره ليهونا عليه ألم الإهانة من قبل الوصي. (9)
 أما رؤساء الأحزاب السياسية الوطنية فقد وقفوا إلى جانب السيد طه الهاشمي، أبدوا استعدادهم لعمل كل ما من شانه أن يرد الإهانة الصادرة من الوصي عبد الإله بحقه. (10)

 ونتيجة لفشل مؤتمر البلاط ، وتصاعد الأزمة بين الوصي والأحزاب الوطنية، قدم وزير المالية السيد [موسى الشابندر] استقالته من الحكومة متنصلاً من المسؤولية. كما أبدى كل من الوزراء [جمال بابان ] و[نديم الباجه جي ] و[عبد الله الدملوجي] قلقهم من تطور الأوضاع، ورغبتهم في التفاهم مع المعارضة، مهددين بالاستقالة إذا لم تلبِ الحكومة طلبهم، مما جعل الوزارة مهددة بالسقوط .
لكن السفير البريطاني سارع للاتصال برئيس الوزراء العمري، حيث أرسل إليه مستشار وزارة الداخلية، طالباً منه الاستمرار في الحكم مهما جرى، وعدم التفكير بالاستقالة. (11)

وفي كانون الأول 1952، جرى اجتماع في دار السيد [جميل المدفعي] حضره كل من السادة [نوري السعيد ] و[علي جودت الأيوبي ] و[محمد الصدر] و[توفيق السويدي ] و[مصطفى العمري ]، وجرى البحث في الأوضاع السياسية في البلاد، وتطورات الأزمة، وقد أبدى توفيق السويدي رأيه في قطع المفاوضات مع الأحزاب وحلها، وأجراء الانتخابات النيابية بموجب القانون المعمول به .
 وقد أيده في رأيه [علي جودت الأيوبي] و[نوري السعيد] الذي دعا إلى توجيه الضربة للشيوعيين !!، وعدم الرضوخ للمعارضة.
 أما الشيخ محمد الصدر فقد طلب السعي لإقناع المعارضة أولاً، فإن رفضت فالحل في [ حل الأحزاب ] وإجراء الانتخابات. (12)
وهكذا تصاعدت الأزمة بين السلطة والمعارضة، وأصبح الانفجار الجديد متوقعاً في كل لحظة، بعد أن رفضت السلطة مطالب المعارضة وكانت الأوضاع الملتهبة تنتظر حادثاً، مهما كان بسيطاً ليشعل فتيل الانتفاضة الشعبية .


136
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة العشرون
حامد الحمداني                                                              21/10/2015
نوري السعيد يتصدى للقضية الكردية:
بدأت المسألة الكردية تفرض نفسها عندما اندحرت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واحتلت بريطانيا العراق، حيث حاولت تركيا أن تستميل الشيخ[محمود الحفيد] الذي كان يتمتع بسلطة دينية، ونفوذ كبير لدى غالبية الشعب الكردي إلى جانبها، رغبة منها في إلحاق ولاية الموصل والتي تشمل محافظات الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية بها.
 إلا أن الشيخ الحفيد اتصل بالإنكليز بصورة سرية، وتعهد لهم بالسيطرة على الحامية التركية التي كانت ما تزال باقية في السليمانية لقاء منحه امتيازات في إدارة الشؤون الكردية، وتشكيل حكومة كردية برئاسته، على أن تكون تحت ظل الانتداب البريطاني.

 رحبت السلطات البريطانية بعرض الشيخ الحفيد، نظراً لما يتمتع به من مركز مرموق في صفوف الأكراد، وقامت بإرسال مندوبين عنها من كبار الضباط لإجراء مفاوضات معه في 6 تشرين الثاني 1918، لتسهيل دخول القوات البريطانية إلى السليمانية، وقد استقبلهم الشيخ محمود الحفيد بحفاوة، وسلمهم الحامية التركية، التي سيطرت عليها قواته، وسارعت السلطات البريطانية إلى تعيينه حاكماً على لواء السليمانية، ومنحته راتباً شهرياً قدره [ 15 ألف روبية ]، كما عينت الميجر [نوئيل] مستشاراً له، وشكلت نواتاً لحكومة كردية في منطقة كردستان العراق، والتي أشارت إليها [معاهدة سيفر] في موادها الثانية والستين والثالثة والستين والرابعة والستين. (14)

لكن علاقة الشيخ الحفيد بالبريطانيين أصابها بعض الفتور عندما حاول المحتلون البريطانيون تقليص نفوذه وإضعافه، مما دفع الشيخ الحفيد في نهاية الأمر إلى إعلان الثورة على الحكم البريطاني، وقام باحتلال السليمانية في 21 أيار 1919 بعد أن دحر القوات البريطانية، وقوات الليفي التي شكلها البريطانيون للحفاظ على مصالحهم في المنطقة، وتمكن من أسر عدد كبير منهم، ومن الضباط الإنكليز، وأعلن تشكيل دولة كردية، وأعلن نفسه ملكا عليها، واتخذ له علماً خاصاً بدولته.

أخذ الشيخ محمود الحفيد يوسع مناطق نفوذه في كردستان، بعد أن استطاع دفع القوات البريطانية نحو[ مضيق طاسلوجة] و[مضيق دربن] واستطاع الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة من القوات البريطانية وقوات الليفي الآشورية التابعة لهم، واستمر الشيخ الحفيد يوسع مملكته حيث ضم إليها مناطق[ رانية] و[ حلبجة] و[ كويسنجق] متحدياً السلطات البريطانية، لكن البريطانيون جهزوا له قوة عسكرية كبيرة ضمت الفرقة الثامنة عشر بقيادة الجنرال[فريز] لقمع حركته، واستطاعت هذه القوات بما تملكه من أسلحة وطائرات حربية أن تدحر قوات الشيخ محمود وتعتقله، بعد أن أصابته بجروح في المعارك التي دارت بين الطرفين، وأرسلته مخفوراً إلى بغداد حيث أحيل للمحاكمة، وحكم عليه بالإعدام .
غير أن السلطات البريطانية أبدلت الحكم إلى السجن المؤبد، ثم قرت نفيه إلى الهند خوفاً من وقوع تطورات خطيرة في كردستان، حيث يتمتع بمكانة كبيرة في صفوف الأكراد، وبقي الشيخ محمود منفياً حتى عام 1922،عندما أعاده البريطانيون إلى السليمانية، وسلموه زمام الأمور فيها من جديد.

لكنه ما لبث أن ثار على الإنكليز مرة أخرى، مما دفع الإنكليز والحكومة العراقية إلى تجريد حملة جديدة ضده، حيث استطاعت احتلال السليمانية من جديد.
لكن الشيخ محمود لم يستكن للأمر، وأخذ يستجمع قواه وينظمها، واستطاع مهاجمة الجيش المتواجد في مدينة السليمانية وطرده منها في 11 تموز 1923، وبقي الشيخ محمود يحكم السليمانية مدة  تزيد على العام . (15)

ولما تولى[ ياسين الهاشمي] رئاسة الوزارة العراقية كان في مقدمة مهام وزارته إعادة السليمانية للسلطة العراقية، فجهز حملة عسكرية بدعم من البريطانيين، وبشكل خاص قواتهم الجوية التي هاجمت قوات الشيخ الحفيد واستطاعت دحرها، وإيقاع خسائر جسيمة في صفوفها، وتم إعادة لواء السليمانية إلى سيطرة الحكومة العراقية، وهرب الشيخ محمود الحفيد إلى خارج العراق، وقامت الحكومة بتعيين متصرف[محافظ] للسليمانية من الأكراد.
رأت بريطانيا أن إقامة دولة كردية في كردستان قد يسبب لها مشاكل خطيرة، وبما أنها قد ضمنت مصالحها في العراق بموجب معاهدة عام 1920العراقية البريطانية، فقد قررت صرف النظر نهائياً عن إقامة دولة كردية، وضم كردستان للمملكة العراقية نهائيا.

أما الحكومة العراقية فقد أعلنت من جانبها بأنها سوف لا تعيين موظفاً عربياً في منطقة كردستان، ما عدا الفنيين، وأن السكان الأكراد لهم الحق بالتكلم بلغتهم الخاصة، وأن الحكومة سوف تحافظ على حقوق السكان الدينية والمدنية، كما جرى انتخاب خمسة أعضاء من الأكراد، وضمتهم إلى المجلس التأسيسي.

وفي شباط 1925،عندما جاءت اللجنة المكلفة من عصبة الأمم لبحث قضية ولاية الموصل وأجرت دراستها للأوضاع في الولاية، وقدمت تقريرها إلى عصبة الأمم، تبنت اللجنة وجهة النظر البريطانية القاضية بضم ولاية الموصل إلى المملكة العراقية، مع مراعاة حقوق الأكراد فيما يخص اللغة الكردية، وتعين الموظفين الإداريين الأكراد.
وفي تشرين الأول 1926 أجتمع مستشار وزارة الداخلية بالشيخ محمود الحفيد وتباحث معه في الأمور التي تخص كردستان، وجرى الاتفاق على شروط الصلح مع الحكومة، حيث وقع الشيخ الحفيد اتفاقاً مع الحكومة العراقية في حزيران 1927، تعهد بموجبه أن يعيش هو وأفراد عائلته خارج العراق، مع إعادة كافة أملاكه له، وتعين وكيل من قبله لإدارة شؤون أملاكه.

 وهكذا استمرت الأوضاع هادئة في كردستان حتى عام 1930، حينما وقّعت حكومة نوري السعيد معاهدة 30 حزيران 1930، فقد شعر الشيخ الحفيد أن بريطانيا قد تنكرت لحقوق الشعب الكردي، واستغل الشيخ الحفيد قيام الأكراد في السليمانية بحركة احتجاجات واسعة، ومظاهرات ضد المعاهدة، وضد حكومة نوري السعيد، ليجمع المسلحين من أتباعه داخل العراق، ويحتل منطقة [ شهر بازار ]، ثم بعث بمذكرة إلى المندوب السامي البريطاني يطالبه بإنشاء دولة كردية في منطقة كردستان تمتد من زاخو وحتى خانقين.

 أنذرت الحكومة العراقية الشيخ الحفيد بوجوب مغادرة العراق، وسحب عناصره المسلحة، لكن الشيخ الحفيد تجاهل الإنذار، ومضى في توسيع منطقة سيطرته، مما دفع الحكومة إلى تجريد حملة عسكرية كبيرة ضمت رتلين عسكريين، توجه الرتل الأول نحو[جوارته] فيما توجه الرتل الثاني نحو[بنجوين]، كما شاركت الطائرات البريطانية في التصدي لحركة الشيخ الحفيد حيث دارت بين الطرفين معارك دامية استمرت زهاء ستة اشهر تكبد خلالها الطرفان خسائر كبيرة، لكن قوات الحكومة استطاعت في النهاية فرض سيطرتها على مناطق كردستان، وهرب الشيخ محمود الحفيد لفترة من الزمن، ثم اضطر في نهاية الأمر إلى تسليم نفسه للجيش في 13 أيار 1931، وتم نقله إلى مدينة السماوة ثم نقل إلى مدينة الناصرية، وأخيراً تم نقله إلى  قصبة عانه، ثم سمحت له الحكومة بالإقامة في بغداد، وقررت مصادرة كافة أملاكه في السليمانية.

الثورة البارزانية بقيادة الشيخ أحمد:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان لمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة  [بازيان ] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى] التي تتوسطها قرية [بارزان ] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني،عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد .
رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة، وأخذ البارزاني يوسع  نفوذه في المنطقة.

وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ احمد البارزاني، في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البرزانيين في 25 أيار 1931. كان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البرزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة، وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي نقلته إلى منطقة  أدرنة  على الحدود البلغارية، لكنها ما لبثت أن إعادته إلى منطقة الحدود العراقية.

 ولما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليمه، إلا أن  الحكومة التركية رفضت الطلب مشترطة إصدار عفو عام عنه، وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم، وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة، فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.

الثورة الكردية بزعامة الملا مصطفى البارزاني:
على الرغم من أن الحكومة كانت قد قضت على حركة الشيخ أحمد البارزاني إلا أن هجمات الجماعات الكردية المسلحة استمرت دون انقطاع، حيث كانت تغير على المنطقة بين الحين والأخر. حاولت الحكومة إنشاء مخفر للشرطة في قرية [ بله] مقر البارزانيين، لكن مصطفى البارزاني رفض ذلك، وهدد بقتل كل من يحاول القيام بذلك.

وبالفعل جرى قتل القائمقام والمهندس اللذين حاولا البدء بإنشاء المخفر، وعلى الفور أقدمت الحكومة على إعلان الأحكام العرفية في المنطقة التي شملت نواحي [ ميزوري بالا] و[بازيان] و[ ميركه سور] و[كاني رش] وسيرت قوة عسكرية ضد البارزانيين، وتعاونت الحكومة التركية مع الحكومة العراقية، حيث قامت بإغلاق حدودها أمام البارزانيين وحشدت قواتها على الحدود، واستطاعت قوات الحكومة القضاء على ثورة البارزني في 30 تشرين الأول 1935. (16)

لم تهدأ الحركة الكردية رغم ما أصابها على يد الجيش العراقي، وازداد إصرار أبناء الشعب الكردي على نيل حقوقهم القومية، ومطالبتهم بتخصيص نسبة عادلة من موارد الدولة لتنمية المنطقة الكردية، والنهوض بها من حالة التخلف، والعمل على حل المشاكل المعيشية التي يعانون منها، فتقدم مصطفى البارزاني بمطالب تضمنت ما يلي:
1 ـ  تعيين موظفين إداريين أكراد في منطقة كردستان.
2 ـ  تعين مساعد كردي لكل وزارة.
3 ـ  اعتبار اللغة الكردية اللغة الرسمية في المنطقة الكردية.
4 ـ  إطلاق سراح المعتقلين والمسجونين الأكراد الذين تم اعتقالهم إبان القتال. (17)
لكن الحكومة تجاهلت تلك المطالب ولجأت على الضد من ذلك إلى تصعيد مواقفها تجاه الحركة الكردية وقيادتها، وطالبت بتسليم كافة الأسلحة التي بحوزتها، وتسليم عدد من المطلوبين الأكراد.

كان مجلس الوزراء قد قرر في 25 كانون الثاني 1944 إبعاد مصطفى البارزاني من منطقة بارزان، وأجبرته على الإقامة في بيران. فلما وجد أن الحكومة لا تنوي الاستجابة للمطالب التي بعث بها إليها ترك منطقة إقامته المحددة تلك، وبدأ يجري اتصالاته مع العديد من رؤساء العشائر الكردية، وحثهم على التعاون والتآزر، للوقوف بوجه الحكومة ومشاريعها الهادفة إلى إخضاع الشعب الكردي.

 فقد زار البارزاني منطقة [ براد وست] و[ بالك] و[ به دنان]، وتنقل في[العمادية] و[عقرة] و[الشيخان] حاثاً الشعب الكردي على الوقوف صفاً واحداً للضغط على الحكومة من اجل تنفيذ مطالبهم القومية المشروعة. (18)

كما نشطت المنظمات السياسية الكردية، وعلى رأسها منظمة[هيوا ]،أي الأمل،التي بادرت بالاتصال بعدد من الضباط الأكراد العاملين في الجيش والمتقاعدين داعية إياهم إلى الانضمام إلى الحركة الكردية، وقد لبى نداءهم كل من الضباط [عزيز عبد الشمزيني] والرئيس[ مير حاج أحمد] والمقدم[أمين الراوندوزي] والرئيس [مصطفى خوشناو] والملازم الأول [خير الله عبد الكريم] والملازم [ محمد القدسي ].

 وهكذا توسعت الحركة الكردية لتشمل جانبا كبيراً من العسكريين الأكراد، ولما وجد السفير البريطاني أن الأمور قد تطورت إلى درجة خطيرة، أرسل معاونه لمقابلة البارزاني محذراً إياه من الإقدام على أي تحرك ضد الحكومة، وأبلغه أن القوات العراقية والبريطانية سوف تجريان مناورات عسكرية في كردستان، محذراً إياه من التصدي لهذه القوات، ونصحه بوجوب إطاعة الحكومة وتنفيذ أوامرها، وطالبه بعودة الضباط الذين التحقوا بالحركة إلى وحداتهم العسكرية.

لكن البارزاني رد بأنه لن يبدأ بإطلاق النار على قوات الحكومة إذا فعلت الشيء نفسه، أما مسألة عودة الضباط فتتطلب اتخاذ إجراءات من قبل وزارة الدفاع لضمان سلامتهم.
وفي الفترة ما بين 5 ـ 14 آذار بدأ الفوج الرابع من الجيش العراقي بمهمة استطلاعية مما أثار الشكوك لدى القيادة الكردية، وجاء مقتل أحد أخوال البارزاني [أولوبيك ]على أيدي قوات الشرطة التي حاولت نزع السلاح من مرافقيه فكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث اندفع البارزانيون نحو مخفر الشرطة واستولوا عليه، وقتل مأمور المخفر، وقد ترك البارزاني مقر سكنه عائداً إلى بارزان، معقله الحصين، وعمل على تعبئة قواته استعداداً لملاقاة الجيش العراقي الذي كان قد تم تحشيده ما بين قضاء [ عقرة ] جنوباً و[بافستيان ] شرقاً، فيما تجمعت الشرطة في منطقة [ ريكان ]، وقامت الطائرات البريطانية بقصف القرى والقصبات الكردية بوابل من قنابلها. (19)

وفي الوقت نفسه توجه البارزاني إلى عقرة مستحثاً العشائر الكردية على الانضمام للحركة الكردية، واستطاع استمالة عدد كبير منها، وبدأ الطرفان يستعدان ليوم النزال ، فقد اتخذ مجلس الوزراء في 8 آب 1945 قراراً باحتلال المنطقة الكردية عسكرياً، وخول وزير الدفاع اتخاذ كل ما يلزم لتنفيذ هذه المهمة.

بدأت القوات العراقية بالتعاون مع القوات البريطانية بالزحف على معاقل الحركة الكردية، حيث احتلت منطقة [ نهلة ] بين جبل عقرة وجبل بيرس بعد معارك عنيفة مع القوات الكردية التي كان البارزاني يقودها بنفسه، ووقعت إصابات كبيرة في صفوف الطرفين، ثم تقدمت قوات الحكومة نحو منطقة شرق العمادية، وواصلت تقدمها نحو منطقة  [نيروه ريكان] ثم استطاعت فيما بعد من دخول منطقة [بارزان ] معقل البارزاني، واستطاعت تلك القوات السيطرة على  منطقة [سيدكان] و [براد وست] كما تقدمت قوات أخرى على محور [بافستيان] واستطاعت أن تطوق قوات البارزاني وتحتل جبل[ بيرس ].

وفي 3 تشرين الأول 1945 عبرت القوات العراقية نهر الزاب، واحتلت مركز قضاء الزيبار[ بله]، وانسحبت القوات الكردية إلى جبل[ شيرين]. كما تقدمت قوة عسكرية أخرى في منطقة[ ديزي ] واحتلت قرية [أركوش ]، وواصلت تقدمها على طريق [خليفان ـ ريزان] واحتلت جسر [خلان] وقرية [جعفريان] .

 وفي 6 تشرين الأول 1945 احتلت قوات الحكومة كامل منطقة بارزان ثم واصلت تقدمها نحو [ميركه سور] واحتلتها، كما استولت على [كلي بالندا] واستمرت قوات الحكومة في تقدمها فاستولت على [ شروان مازن ] و [جامة] و[كاني وطن] واضطرت القوات الكردية إلى التراجع نحو الحدود الإيرانية، حيث لم يكن هناك تكافؤ بين الطرفين من حيث التسليح والطائرات، والدعم البريطاني المكشوف، واضطر مصطفى البارزاني وشقيقه الشيخ احمد البارزاني للهرب إلى إيران، وبذلك انهارت الحركة الكردية، وتمكن الجيش من السيطرة على كامل منطقة كردستان. (20)

وبدأت الحكومة بإحالة المشاركين في الحركة إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حُكم على مصطفى البارزاني وشقيقه الشيخ أحمد مع  35 فردا ً آخرين من بينهم 7 ضباط، بالإعدام، وحُكم على 70 آخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تم القبض على الضباط [مصطفى خوشناو] و[عزت عزيز] و[خير الله عبد الكريم] و[محمد القدسي]، وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم . (21)
وقد اعتبرتهم قيادة ثورة الرابع عشر من تموز 1958 شهداء الوطن وتقرر منح عوائلهم تعويضاً ورواتب تقاعدية. وهكذا انتهت الثورة الكردية، وتمكن الملا مصطفى البارزاني وجماعته من الوصول إلى الاتحاد السوفيتي بصعوبة بالغة، وبقي هناك حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز، حيث سمح الزعيم عبد الكريم قاسم بعودتهم وجرى لهم استقبالاً رسمياً وشعبياً، وتم إسكان الملا البرزاني في قصر غريمه نوري السعيد، وتم منحه راتب وزير، كما تم منح رفاقه رواتب شهرية، وتم إسكانهم على نفقة الدولة.











137
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة التاسعة عشرة
حامد الحمداني                                                             18/10/2015

مهمات حكومة نوري السعيد الجديدة
كما أسلفنا سابقاً فإن نوري السعيد كان دوماً رجل المهمات الصعبة بالنسبة البريطانيين، الذين كانوا يوعزون للوصي [ عبد الإله ] أن يكلفه بتشكيل الوزارة  كلما دعت الحاجة لتنفيذ مهمات خطيرة، فقد تم على عهده إبرام معاهدة 1930 الجائرة، وقام بالدور المعروف في مقتل الملك غازي، وتولي عبد الإله وصاية العرش، وولاية العهد، وقام بمهمة الانتقام من المشاركين والمؤيدين لانقلاب بكر صدقي، وعمل نفس الشيء مع رجالات حركة رشيد عالي الكيلاني ورفاقه العقداء الأربعة -قادة الجيش ـ الذين نفذ فيهم حكم الإعدام، وأعلن الحرب على ألمانيا وإيطاليا أبان الحرب العالمية الثانية، وشن الحرب الشعواء على الشيوعية، ونفذ حكم الإعدام بقادة الحزب الشيوعي، وانتقم من كل من كان له دور في وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948.

وها قد استجدت مهام جديدة تتطلب القيام بها حكومة قوية قادرة على تحدي إرادة الشعب، وتفرض ما تكلفها به السفارة البريطانية، فكان والحالة هذه لا بد من تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة من جديد تأخذ على عاتقها تنفيذ المهام التالية وهي:
    1 ـ  ربط العراق بالأحلاف والمخططات الإمبريالية
    2 ـ  مفاوضات النفط مع الشركات البريطانية والأمريكية.
3 ـ الاستمرار في حملة مكافحة الشيوعية والحركة الوطنية.
4 ـ التصدي للحركة الكردية .
وهكذا تم تكليف السعيد بتأليف الوزارة في 15 أيلول 1950، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي : (1)
 1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية .
2 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع ووكيلاً للخارجية .
3 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
4 ـ حسن سامي التاتار ـ وزيراً للعدلية .
5 ـ خليل كنه ـ وزيراُ للمعارف .
6 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد .
7 ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للمواصلات والأشغال، ووكيلاً للمالية .
كان مجيء نوري السعيد إلى الحكم من جديد نذيراً باشتداد الصراع بين الشعب وقواه السياسية الوطنية من جهة ونوري السعيد ورهطه، ومن ورائه الإمبريالية من جهة أخرى.
ولقد بدأ الصراع أول الأمر داخل مجلس النواب عندما قدم 28 نائباً من نواب المعارضة مشروع قانون لتعديل قانون الانتخاب، يقضي بجعله على درجة واحدة بدلاً من درجتين، لكي يمنع السلطة من التدخل في الانتخابات عن طريق التأثير على المنتخبين الثانويين، سواء كان ذلك عن طريق شراء ضمائرهم، أو ترهيبهم، لكن المجلس الذي يضم أكثرية سعيدية رفض مشروع القانون بأغلبية 52 صوتاً ضد 32، وغياب 56 نائباً عن حضور الجلسة، وبذلك افشل مشروع القانون.

نوري السعيد يسعى لربط العراق بالأحلاف الغربية:
منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على دول المحور، وبروز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كقوتين عظميين، وكل قوة تحمل أيديولوجيا مناقضة للقوة الأخرى،عاد الصراع بينهما، الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي من جهة، والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة من جهة أخرى، وأخذ الصراع يتصاعد يوماً بعد يوم بين المعسكرين، وكل معسكر يسعى إلى ضم دول أخرى إلى صفوفه، وكان الصراع حول منطقة الشرق الأوسط يتسم بجانب كبير جداً من الأهمية نظراً لكونه اكبر مستودع للنفط في العالم .
وعلى ذلك فقد سعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى ربط الدول العربية بمخططاتها للوقوف بوجه الاتحاد السوفيتي تحت شعار[الدفاع عن الشرق الأوسط ].
لقد رأت العديد من الدول العربية أن من الخطأ الجسيم ربط مصير بلدانهم بهذه المخططات، ولاسيما بعد الذي حل بفلسطين على أيدي أولئك الإمبرياليين، فليس للعرب والحالة هذه مصلحة في ارتباطات كهذه، وأن من الأصلح لبلدانهم الحياد بين المعسكرين، وتجنب شرور الحرب الباردة بين المعسكرين، والأعباء التي تفرضها الأحلاف العسكرية على العراق.
لكن نوري السعيد كان في وادٍ آخر، وادي الإمبريالية، حيث سعى بكل جهوده لربط العراق بالأحلاف الغربية، مما أثار حفيظة الوطنيين العراقيين الداعين إلى الحياد بين المعسكرين، حيث أصدروا بياناً إلى الشعب نددوا فيه بالمخططات التي يسعى إليها نوري السعيد، ومخاطرها على مصير البلاد، وطالب البيان الشعب العراقي برص الصفوف، والعمل الجدي الحازم لمنع زج البلاد في الحرب الباردة بين المعسكرين وتعريض أمن البلاد والشعب لمخاطر جسيمة، وقد وقع البيان الشخصيات السياسية التالية:
1ـ كامل الجادرجي                 2 ـ صادق البصام       
3  ـ مزاحم الباجه جي             4 ـ طه الهاشمي             
5ـ حسين جميل                      6 ـ محمد حديد
 7 ـ حسين فوزي                   8 ـ عبد الرزاق الظاهر
 9 ـ حسن عبد الرحمن            10 ـ عبد الهادي الظاهر     
 11 ـ جعفر حمندي                12 ـ عارف قفطان
 13ـ صالح شكارة                 14 ـ جميل صادق     
 15 ـ جعفر البدر                  16 ـ برهان الدين باش أعيان
 17 ـ قاسم حسن                   18 ـ رجب علي الصفار
 19 ـ عبد الرزاق الحمود        20 ـ محمود الدرة       
 21 ـ نائل سمحيري              22ـ عبد الرحمن الجليلي.       
 23 ـ عبد الجبار الجومرد

أحدث هذا البيان دوياً هائلاً في صفوف أبناء الشعب، فانهالت البرقيات لتأييد الموقعين على البيان، وقامت حملة واسعة في الصحف ضد توجهات نوري السعيد، مستنكرة ربط البلاد بالمخططات الإمبريالية، وداعية إلى الحياد بين المعسكرين.
وانتقل الصراع إلى داخل البرلمان، حيث ندد العديد من النواب بهذه التوجهات، وطالبوا بإبعاد البلاد عن آتون الحرب الباردة بين المعسكرين وبالنظر لتصاعد حملة الاحتجاجات هذه  اضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان أنكر فيه نيته ربط العراق بالأحلاف الغربية. (2)

لكن الشخصيات السياسية التي وقعت على البيان، والتي ضمت أحزاباً وطنية عدة لم تتراجع عن مواقفها، بل صعدت من مجهوداتها، بالاتفاق فيما بينها على تأليف [الجبهة الشعبية المتحدة]، وقدمت طلباً رسميا إلى وزارة الداخلية لإجازتها في 14 نيسان 1951.
وقد اعترضت وزارة الداخلية على تأسيس الجبهة في 19 نيسان، مدعية أن الجبهة تتألف من عدة أحزاب سياسية، وهيئات وأفراد، وأن ذلك مخالف للمادة الثالثة من قانون الجمعيات، لكن المؤسسين اعترضوا على قرار وزير الداخلية لدى مجلس الوزراء الذي أحال بدوره الاعتراض إلى وزارة العدل.

غير أن وزارة العدل أيدت قرار وزير الداخلية، وطالبت بإلغاء الفقرة الواردة في طلب التأسيس، والمتضمنة عبارة [ من أحزاب وهيئات وأفراد] وتم إجراء الطلب في 16 نيسان 1951، بعد أن انسحب الحزب الوطني الديمقراطي من الهيئة المؤسسة للجبهة، على أن يوحد الطرفان جهودهما المشتركة من أجل تحقيق مطامح الشعب العراقي في الحرية والاستقلال والعيش الكريم، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية ومخططاتها العدوانية، وقد صدر بيان مشترك بين الطرفين يؤكد تعاونهما ونضالهما المشترك ضد كافة محاولات الإمبريالية الهادفة إلى ربط العراق بمشروع ما سمي [ الدفاع عن الشرق الأوسط ] أو غيره من الأحلاف العدوانية، وحذر البيان الحكومة من مغبة السير وراء تلك المخططات المعادية لمصالح الشعب والوطن، وما يمكن أن تؤدي إليه تلك السياسة من مخاطر جسيمة.
كما طالب البيان أن لا يصبح العراق قاعدة عسكرية لتهديد الآخرين، وإبعاد البلاد عن التكتلات الدولية التي تؤدي إلى إقحامها في حرب لا مصلحة لها فيها، وطالب البيان بصيانة الحريات الدستورية للشعب، وتعديل قانون الانتخابات، وجعله على درجة واحدة [انتخاب مباشر] لمنع أي تزوير أو تأثير على الناخبين الثانويين، وعلى نتائج الانتخابات. وطالب أيضاً بإجراء تحقيق في حوادث التعذيب، ومعاقبة المسؤولين عنها، وإغلاق المعتقلات السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وحل مشاكل الشعب المعيشية، وتوفير الغذاء والكساء بأسعار معقولة، ومحاربة الاحتكار، وقد وقع على البيان عن الحزب الوطني الديمقراطي الأستاذ كامل الجادرجي، وعن الجبهة الشعبية السيد طه الهاشمي . (3)

السعيد يفاوض شركات النفط البريطانية والأمريكية
تأميم الدكتور مصدق للنفط الإيراني وتأثيره على العراق:
خاضت القوى السياسية الوطنية في إيران الانتخابات النيابية تحت ظل الجبهة الوطنية التي شكلتها تلك القوى بقيادة الوطني البارز الدكتور [محمد مصدق ] وتمكنت من تحقيق الفوز في تلك الانتخابات عام 1951، وأصبح الدكتور مصدق رئيساً للوزارة الإيرانية.
وضعت حكومة مصدق نصب أعينها معالجة الغبن الذي أصاب إيران من قبل شركات النفط التي يمتلكها الكارتيل العالمي، وسعت بكل جهدها رفع هذا الغبن.
 لكن الشركات أصّرت على عدم تلبية المطالب الإيرانية، مما دفع بحكومة الجبهة الوطنية إلى إصدار تشريع بتأميم النفط الإيراني في 20 آذار 1951.

أحدثت خطوة الحكومة الإيرانية دوياً هائلاً أقضّ مضاجع الإمبرياليين، وبدأت أبواق دعاياتهم، ووسائل إعلامهم ترعد وتزبد، وتتوعد بالحكومة الإيرانية، وسارعت بريطانيا إلى إنزال قواتها العسكرية قرب[عبدان] بحجة حماية أرواح الفنيين والمهندسين البريطانيين العاملين في شركات النفط، والبالغ عددهم 3000 فرد.

لكن قرار تأميم النفط الإيراني قوبل في العراق بموجة عارمة من الفرح والتأييد لدى مختلف فئات الشعب، وظهرت الدعوات التي تنادي باقتفاء أثر الحكومة الإيرانية، وتأميم النفط العراقي، في الصحف الحزبية والوطنية المستقلة، والمجالس العامة، وفي البرلمان.
 فقد تقدم عشرون نائبا في البرلمان بلائحة قانون لتأميم النفط العراقي في 25 آذار 1951، ونشرت الصحف نص الطلب في 27 آذار. (4)
 كما تقدم محامو البصرة بمذكرة للحكومة بطلب تأميم النفط العراقي، وانهالت برقيات التأييد من كل جانب لهذا الطلب. حاولت الحكومة جاهدة تأخير تحديد موعد مناقشة الطلب في البرلمان بذرائع مختلفة حتى انتهت مدة دورته في 31 أيار، ولم تعين الحكومة موعداً لمناقشة اللائحة المقترحة، وطواها النسيان فيما بعد، بعد أن حذرت الحكومة البريطانية حكومة نوري السعيد من مغبة فسح المجال للمعارضة في البرلمان لطرح هذا الموضوع بالنظر لما يشكله من خطورة على مصالحها النفطية في العراق. ( 5) 

في الوقت الذي كانت حملة المطالبة بتأميم النفط في أوج عنفوانها على الصعيد الشعبي، والمعارضة البرلمانية، كانت حكومة نوري السعيد تجري مفاوضات مع شركات النفط لإتمام المباحثات التي بدأتها معها الوزارة السويدية الثالثة، وشكل نوري السعيد وفداً لإكمال المباحثات مؤلفاً من نائب رئيس الوزراء [توفيق السويدي]، ووزير المالية [عبد الوهاب مرجان] ووزير الاقتصاد [عبد المجيد محمود].

وفي الوقت نفسه نشرت الصحف العراقية الصادرة في نيسان 1951  نص برقية التهديد الصادرة من لندن من مغبة أية محاولة من جانب البرلمان العراقي لتشريع قانون بتأميم النفط العراقي، وجاء في البرقية ما يأتي : { يعتقد المراقبون السياسيون أن المسؤولين هنا يدرسون فكرة اتخاذ إجراء بريطاني ـ أمريكي مشترك لوقف مطالب التأميم الجديدة في الشرق الأوسط، وإن بريطانيا والولايات المتحدة قد اتفقتا على توجيه إنذار رسمي للحكومة العراقية تحذرها فيه من مغبة اتخاذ أية خطوة لتأميم النفط في العراق من قبل البرلمان العراقي }. (6)

وفي المقابل أعلنت شركات النفط عن قبولها مبدأ مناصفة الأرباح مع العراق ولو اسمياً، ووقع نوري السعيد اتفاقاً مع الشركات يقضي ببيع [مصفى الوند] في خانقين للحكومة على أن تستمر شركة نفط خانقين البريطانية بأعمال التوزيع بالنيابة عن الحكومة حتى عام 1961.
 كما جرى الاتفاق على إنشاء [مصفى الدورة] ببغداد،على أن تناط إدارة توزيع الإنتاج بشركات النفط حتى عام 1961، لكن شركات النفط غير مسؤولة عن تجهيز النفط الخام.
كما جرى الاتفاق على أن تنتج شركة النفط العراقية مالا يقل عن 22 مليون طن من النفط كحد أدنى، وتنتج شركة نفط البصرة 8 ملايين طن سنوياً.

 وتعهدت شركات النفط بأن لا يقل دخل العراق عن 20 مليون دينار خلال سنتي  1953 و 1954، و25 مليون دينار عام 1955 والسنوات التي تليها، ولاشك أن هذه الموارد تبقى ضئيلة جداً بالنسبة لما تحققه الشركات من أرباح خيالية. (7)
وفي جلسة مجلس النواب السابعة بتاريخ 9 شباط 1952 تقدم نوري السعيد للمجلس بالاتفاقية التي وقعها مع شركات النفط، طالباً التصويت عليها بصورة مستعجلة وتصديقها، ولما كان لنوري السعيد الأغلبية في المجلس فقد جرت مناقشتها بصورة سريعة، وتم التصديق عليها في 14 شباط 1952 على الرغم من احتجاجات نواب المعارضة الذين قدموا استقالاتهم من المجلس في 27 شباط .



كما اصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الجبهة الشعبية، بياناً مشتركاً يندد بالاتفاقية الجديدة التي أبقت على سيطرة شركات النفط على موارد البلاد ونهبها، وفضح البيان مبدأ مناصفة الأرباح، واصفاً إياه بأنه لا يعدُ أن يكون للتغطية، وهو بعيد كل البعد عن الحقيقية، وأكد البيان أن هذه الاتفاقية بدلاً من أن تزيل الغبن فقد زادته أكثر فأكثر، فقد حددت الاتفاقية أسعار النفط الذي تأخذ الحكومة العراقية حصتها على أساسه، أدنى من السعر العالمي، مما الحق بالخزينة خسائر فادحة، هذا بالإضافة إلى استلام العراق لحصته بالإسترليني، مما حرم العراق من الحصول على العملات النادرة الأخرى، وكان الإسترليني معرضاً باستمرار إلى الهبوط.

  ففي 17 أيلول 1949 خفضت الحكومة البريطانية قيمة الجنيه الإسترليني من أربعة دولارات للجنيه الواحد إلى دولارين وثمانون سنتاً، وتبعاً لذلك هبطت قيمة الدينار العراقي بنفس المعدل، مما أوقع البلاد في اخطر أزمة نقدية واقتصادية، واضطرت حكومة نوري السعيد إلى إعلان حالة التقشف القاسية لتدارك العجز الهائل في الميزانية. (8)

 وقد دعا البيان إلى استلام حصة العراق المقررة 50% عيناً، أي [ نفط خام ] ليتصرف بها كما يشاء كإجراء حالي لى أن يتم حل المشكلات مع الشركات جذريا ًبتأميم النفط الذي غدا مطلب الأمة. (9)
وقع البيان كل من السيد كامل الجادرجي، والسيد طه الهاشمي .
أما حزب صالح جبر فقد رفض مشاركة نوري السعيد بتحمل وزر هذه الاتفاقية الجائرة بحق العراق وثروته الوطنية، فأعلن نوابه في البرلمان انسحابهم من الجلسة، لكن المعتقد أن صالح جبر لم يكن جاداً في معارضته للاتفاقية، وإنما أراد أن يبيّض صورته السوداء أمام الشعب وهو لو كان جاداً في مواقفه لبقي النواب المنسحبون من الجلسة وصوتوا ضد الاتفاقية مع نواب المعارضة، فقد سهل انسحابهم من الجلسة على نوري السعيد تمرير الاتفاقية بصورة مستعجلة.

 أدى تصديق الاتفاقية إلى الإضراب العام في البلاد تلبية لدعوة الأحزاب الثلاثة المعارضة، في 19 شباط 1952، من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، احتجاجاً على توقيع الاتفاقية، وقد شمل الإضراب كافة قطاعات الشعب، فيما راحت الحكومة تهدد أبناء الشعب عبر بيانها الصادر يوم 18 شباط بإنزال اشد العقوبات بحق كل من يحاول التصدي للحكومة. (10)
ومع ذلك فقد قامت المظاهرات الشعبية، وجرى صدام عنيف مع قوات الشرطة التي تصدت للمتظاهرين، مما تسبب في وقوع العديد من الجرحى، وقامت السلطات باعتقال أعداد أخرى من المواطنين بينهم العديد من طلاب المدارس والكليات، وكتحدي للشعب، أمرت حكومة نوري السعيد بصرف مكافئة نقدية لأفراد الشرطة وضباطها الذين تصدوا للمظاهرات وأصيبوا فيها، وكان نصيب ضابط الشرطة 20 ديناراً والمفوض 10 دنانير والشرطي 5 دنانير.

السعيد يواصل حملة مكافحة الشيوعية والحركة الوطنية
تفننت حكومة نوري السعيد في إيجاد كل الوسائل والسبل لمكافحة الشيوعية في العراق، فأصدرت المراسيم الجائرة، وعدلت قانون العقوبات البغدادي لكي تستطيع اعتقال وسجن كل من يُشك في صلاته بأي نشاط شيوعي، وهكذا ملأ نوري السعيد السجون بخيرة الأساتذة والمفكرين، والمثقفين، وطلاب الكليات.

لكن تلك الإجراءات لم تكن كافية لنوري السعيد الذي وجد أن السجون قد تحولت إلى مدارس تثقيفية للسجناء العاديين لإصلاحهم، ووجد لدى السجناء السياسيين الإصرار على مواصلة النضال من أجل قضية الشعب والوطن، فتفتق ذهن السعيد عن إبعاد السجناء الشيوعيين إلى السجن الصحراوي النائي في [ نقرة السلمان ] الذي يبعد عن[ السماوة] 150 كم في قلب الصحراء، بعيدين عن أهلهم وذويهم وشعبهم، وحيث تستطيع الأجهزة القمعية للسلطة ممارسة كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي ضدهم دون رقيب، ونتيجة لسوء أوضاع المسجونين الذين ضمهم سجن نقرة السلمان، والبالغ عددهم 162 سجيناً تقدم هؤلاء بمطالب للحكومة تضمنت ما يأتي: (11)

1ـ نقلهم إلى سجون قريبة من ذويهم .
2 ـ منحهم الحقوق المقررة للسجناء السياسيين .
3 ـ توفير المعالجة الطبية لهم .
4 ـ الكف عن توجيه الإهانات لهم، وإعادة النظر في الأحكام الصادرة بحقهم من قبل المجالس العرفية العسكرية.

لكن حكومة نوري السعيد رفضت تلك المطالب، مما دفعهم إلى إعلان الإضراب عن الطعام حتى تلبى مطالبهم، وتمكنوا من إيصال قرارهم بالإضراب إلى أهلهم وذويهم الذين قاموا بدورهم بالاتصال بالأحزاب السياسية والصحف لشرح مطالبهم، ومطالبة السلطة بتنفيذها.
وعلى الأثر شنت الصحف الوطنية حملة شعواء على الحكومة متهمة إياها بانتهاك حقوق الإنسان، وانتهاك الدستور الذي كفل حرية الرأي والعقيدة.
 وقامت الأحزاب الوطنية بحملة واسعة للضغط على الحكومة، أصدرت البيانات المنددة بإجراءاتها المنافية للدستور، وحقوق الإنسان. (12)
كم قامت عائلات السجناء من النساء والأطفال بمظاهرة في بغداد يومي 25 و28 تموز مطالبين بإطلاق سراح أبنائهم، وإلغاء سجن نقرة السلمان.

 لكن قوات الحكومة القمعية جابهتهم بعنف، وفرقت مظاهرتهم، مما دفع الصحف الوطنية إلى مهاجمة الحكومة، والمطالبة برحيلها، واضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان يحاول فيه تبرير نقل السجناء إلى سجن نقرة السلمان ويعد بإعادة كل من يحترم قوانين السجون! وقام فيما بعد بنقل عدد من السجناء لامتصاص غضب الجماهير الشعبية. (13)



138
هذا ما يناضل من أجله الشعب العراقي المنتفض

حامد الحمداني                                              15/10/2015

ما كان يدور في مخيلة الشعب العراقي أن يشهد مثل هذا الوضع الكارثي الذي يعيش في ظله اليوم، حيث تسيطر عصابات داعش الاجرامية على أكثر من ثلث العراق، وحيث يجري تفجير السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والعبوات المزروعة على جوانب الطرق والشوارع لتحصد كل يوم أرواح العشرات بل والمئات من أبناء الشعب، وقوات الشرطة والجيش، وتدمر الممتلكات العامة والخاصة على نطاق واسع، وحيث بات ملايين المهجرين واللاجئين دون مأوى نتيجة احتلال داعش لمحافظات الموصل والأنبار وصلاح الدين واجزاء من ديالى

لقد أصبح المواطن العراقي يعيش في ظل كابوس رهيب يتربص به الموت من كل الجهات على أيدي الإرهابيين القتلة المجرمين من عصابات ميليشيات  احزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، وعصابات داعش والقاعدة صنيعة الولايات المتحدة، الذين يقودهم المجرم ابو بكر البغدادي، وفرق الموت المرتبطة بالأحزاب الدينية، الذين تمرسوا على الجريمة والقتل بدم بارد، متخذين من الإسلام شعاراً لهم .

لقد تحول العراق بفضل السياسة الأمريكية الحمقاء إلى ساحة للصراع بين القوى الإرهابية المدعومة دوليا وأقليميا على حساب أمن وسلامة المواطنين العراقيين، الذي أصبح اليوم الشغل الشاغل لهم، ناهيك عن المعانات الشديدة والقاسية نتيجة التدهور الحاصل في كافة مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدمية منذ أن تم إسقاط النظام الدكتاتوري الصدامي في التاسع من نيسان 2003.

 كان الشعب العراقي المظلوم يراوده الأمل بعد التخلص من ذلك النظام القمعي الذي استعبد العباد واستباح البلاد إن يستعيد الشعب حريته المسلوبة وكرامته المهانة، وتحقيق الحياة الكريمة، فإذا به اليوم يعيش في وضع مأساوي لم يشهد له مثيلاً من قبل، فلا كهرباء، ولا ماء صالح للشرب، ولا وقود، ولا رعاية صحية، ولا رعاية اجتماعية، ولا اهتمام بالثقافة، بل لقد غدت الثقافة ايمان بالخرافات، وتحولت الجامعات والمؤسسات الثقافية إلى جوامع وحسينيات بفضل السياسة الأمريكية الرعناء التي صنعت لنا نظاماً طائفيا، وشكلت على أساسه مجلس الحكم [البريمري]، وفسحت المجال واسعاً للعناصر الطائفية، مستغلة التخلف الواسع النطاق الذي خلفه لنا نظام الطاغية صدام حسين من خلال حملته الإيمانية المزيفة، ومن خلال إنعاش العلاقات العشائرية المتخلفة التي كان الشهيد عبد الكريم قاسم قد وضع حداً لها بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ومن خلال ترك الحدود الدولية للعراق مفتوحة على مصراعيها للقوى الظلامية السنية والشيعية على حد سواء لتدخل العراق من دول الجوار تركيا إيران وسوريا والأردن والسعودية لتمارس أعمالها الإجرامية الوحشية البشعة.

 كما وضعت لنا دستوراً يكرس النظام الطائفي والعرقي، ويشجع على تفتيت العراق كوطن، وعلى تمزيق البنية الاجتماعية على أساس ديني طائفي أو عرقي يتعارض بشكل صارخ مع مصالح الشعب والوطن، وها هو الشعب العراقي اليوم بوضعه المأساوي قد وقع ضحية استقطاب طائفي لم نشهد له مثيلا من قبل، الشيعة من جهة، والسنة من جهة أخرى، والأكراد من جهة ثالثة، وبات الشيعي يقتل أخاه السني، وبات السني يقتل أخاه الشيعي، وجرى ويجري على نطاق واسع إجبار أبناء الطائفتين على الهجرة الجماعية كل إلى ساحته تحت وطأة التهديد بالقتل وحرق المساكن، وكل ذلك يجري باسم الدين الإسلامي الذي يجري استغلاله بصورة بشعة لتحقيق أهداف سياسية غير مشروعة، وغير إنسانية.

لقد بات الوضع الأمني يقض مضاجع جميع أبناء الشعب، حيث تهدر الدماء البريئة كل يوم بالمئات، وحيث تدمر الممتلكات الخاصة والعامة، وحيث يعم الخراب والجوع والإذلال، وحيث تنتشر البطالة والفقر بشكل واسع، وحيث ينخر الفساد في كافة أجهزة الدولة من القمة حتى القاعدة، وحيث السرقات للأموال العامة بمئات المليارات من الدولارات، وحيث أصبحت الرشوة هي الوسيلة الوحيدة لتمشية معاملات المواطنين في كافة دوائر الدولة بشكل علني دون خوف أو وجل، فلا سلطة للقانون، ولا وازع من ضمير.
وفي ظل استمرار هذا الوضع المأساوي الحرج، وتصاعد الإرهاب كماً ونوعاً تستمرالازمة السياسية في البلاد، دون أن يظهر أي ضوء في آخر النفق المظلم، فقادة العراق الميامين ممن أفرزتهم حرب أمريكا لتحرير العراق  ونشر الديمقراطية الموعودة! منشغلون في الصراع على السلطة والكراسي  ونهب ثروات البلاد دون وازع من ضمير، ولكل منهم أجندته الخاصة، والتي لا تمت بصلة مع أجندة العراق الوطنية، والشعب المسكين يكتوي بنير الإرهاب الظلامي الطائفي المقيت.

هل هذا ما كان يحلم به الشعب من إسقاط نظام صدام؟
هل هذه هي الديمقراطية الأمريكية الموعودة ؟
هل هذه هي الحرية التي ناضل الشعب من أجلها كل سنوات عمره ؟
هل هذه هي الجنة الموعودة حيث ينعم الشعب العراقي بهذه المفخخات والعبوات والأحزمة الناسفة ليل نهار، دعكم عن حروب داعش والقاعدة حيث تجبر العوائل على مغادرة مساكنها تحت تهديد بالقتل وحرق الدار .

أيها السادة الأمريكيون:
 لم يعد الشعب العراقي  يريد برلمانكم المزيف.
 لم يعد يريد دستوركم الطائفي المقيت.
لم يعد يريد حكومتكم الغارقة بالفساد والتي نهبت ثروات البلاد.
لم يعد يريد أزلامكم القادمين وراء دباباتكم كي يحكموا العراق .
الشعب قد فقد الثقة بكم وبكل ما أنجزتموه منذ التاسع من نيسان 2003 وحتى يومنا هذا.

الشعب يريد الأمن والسلام أن يعم في ربوع العراق .
الشعب يريد استعادة عرى الأخوة والمحبة والاحترام بين أطياف الشعب بكل أديانهم وطوائفهم وقومياتهم دون تفريق أو تمييز.
الشعب يريد الديمقراطية و الحرية الحقيقية، بعد كل تلك السنوات العجاف لطغيان نظام البعث الصدامي، وهو يرفض رفضاً قاطعا استبدال هذا الطغيان الصدامي بطغيان طائفي اشد ظلاماً وأقسى .
الشعب يريد حكومة لا تنتمي إلى كل هذه القيادات التي وضعت مصلحة الشعب والوطن وراء ظهرها .
 الشعب يريد حكومة ديمقراطية مستقلة من عناصر تنكوقراط نظيفة  أيديها، مستنيرة عقولها، قوية شكيمتها، تضع مصالح الشعب والوطن في بؤبؤ عيونها، وتعيد بناء الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية بعيداً عن الأحزاب الطائفية وميلشياتها، وتؤمن بالعراق ومصالح الشعب فقط، وتتصدى للإرهاب والإرهابيين أينما كانوا، وإلى أية جهة ينتمون، وتعيد الأمن والسلام في ربوع العراق، وتعيد بناء ما خربه النظام السابق، وما خربته الحرب الأمريكية،وما خربته العناصر الإرهابية، وتعيد بناء البنية الاجتماعية المحطمة على أساس من العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مقدمة شعاراتها وأهدافها.

الشعب يريد حكومة تقول للمحتلين اخرجوا من ديارنا، ودعونا نعيش بسلام، نبني الوطن، ونحقق الحياة الرغيدة لشعبنا الجائع الذي يعيش في هذا البلد الغني جداً ولا يجد من خيراته شيئاً.

الشعب يريد حكومة تحقق له الاستقلال التام والناجز، وإقامة العلاقات المتكافئة مع سائر بلدان العالم على أساس الاحترام المتبادل للسيادة  والمنافع المشتركة، من دون استغلال أو أستعباد.

الشعب يريد دستوراً وطنياً ديمقراطيا يفصل الدين عن الدولة، ولا يفرق بين أحد من المواطنين بسبب دينه أو طائفته أو قوميته، يحترم حقوق الإنسان ويحقق المساواة أمام القانون لسائر المواطنين دون تمييز.

إن الشعب العراقي يُحمّل الولايات المتحدة مسؤولية كل ما جرى ويجري في العراق باعتبارها الدولة التي احتلت العراق بجيوشها الجرارة، وأسلحتها الفتاكة، وصواريخها المدمرة، وجاءت لنا بهذه الحكومات الغارقة بالفساد والولايات المتحدة تمتلك كل الوسائل والسبل لإخراج العراق وشعبه من هذه المحنة إن هي شاءت، وستبقى شعلة انتفاضة الشعب العراقي متقدة و ومتصاعدة حتى تحقق اهدافها المشروعة المتمثلة بالأمن والسلام والحرية والديمقراطية، والاستقلال والسيادة الحقيقية، وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.


139
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثامنة عشرة
حامد الحمداني                                                              14/10/2015

نوري السعيد يعود للواجهة من جديد
منذُ أن شكل السيد [ مزاحم الباجه جي] وزارته في 26 حزيران 1948 بدا واضحاً أنها جاءت لتمهد الطريق لعودة رجالات معاهدة بورتسموث إلى السلطة من جديد، وخاصة بعد أن طلب الوصي عبد الإله إجراء تعديل في وزارته بعد استقالة وزير الدفاع صادق البصام  وتعين عدد من وزراء حكومة صالح جبر، وكان أبرزهم [شاكر الوادي] وزير الدفاع وأحد الموقعين على معاهدة بورتسموث، والذي تسلم وزارة الدفاع مجدداً.

لم تمضِ وزارة [مزاحم الباجه جي] في الحكم سوى ستة أشهر حيث قدمت استقالتها، وتم تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة الجديدة والتي تم تشكيلها على الشكل التالي : (1)
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية.
2 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع .
3 ـ عبد الإله حافظ ـ وزيراً للخارجية.
4 ـ جلال بابان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
5 ـ محمد حسن كبه ـ وزيراً للعدلية.
6 ـ نجيب الراوي ـ وزيراً للمعارف.
7 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد.
8 ـ خليل إسماعيل ـ وزيراً للمالية.
9 ـ بهاء الدين نوري ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
وحال تشكيل الوزارة أعلن نوري السعيد بأنه سيضع نصب عينيه بالدرجة الأولى قضية فلسطين بغية إنقاذها من محنتها !.

لكن الحقيقة كانت على عكس ما جاء في خطابه، ولم يكن في جعبته سوى إكمال المؤامرة التي صاغتها بريطانيا، ونفذها الحكام العرب لتصفية القضية الفلسطينية، وتثبيت الكيان الصهيوني، وهذا ما أكده [السيد طه الهاشمي] في مذكراته حيث يقول :
{إن ما جاء في الكتب المتبادلة بين الأمير [عبد الإله] و[نوري السعيد] من التنويه بقضية فلسطين إنما قصد به ذر الرماد في العيون، وأنا أتوقع أسوأ النتائج من هذه الوزارة، فسيبدأ الاعتقال والسجن، وكم الأفواه إلى أن تستقر الأمور في العراق، وسيشجع [الملك عبد لله] على اقتطاع الأرض العربية فلسطين ليضمها إلى إمارته [ شرق الأردن ]. (2)
أما السيد [كامل الجادرجي]  فقد علق على عودة نوري السعيد  إلى الواجهة من جديد، وتشكيله وزارته العاشرة قائلاً:
{إن عودة نوري السعيد إلى الحكم في أوائل كانون الثاني 1949هي من الأحداث البارزة في فترة ما بعد الوثبة، وقد اعتبرت عودته تصفية نهائية لآثار وثبة كانون الثاني 1948، وعودة سيطرته الكاملة على الحكم}.(3)

وهكذا جاءت هذه الوزارة وأمامها مهمات خطيرة لم يكن لأي رئيس حكومة القدرة على القيام بها سوى نوري السعيد.
تصفية القضية الفلسطينية:
عاد نوري السعيد إلى الحكم  ليكمل فصول المؤامرة الإمبريالية على فلسطين بالتفاهم والتعاون مع [الملك عبد الله] وحكومته التي كانت برئاسة [توفيق أبو الهدى] .
فقد وصل أبو الهدى بغداد في 25 نيسان 1949، واجتمع بالوصي عبد الإله، وبنوري السعيد، وقد طلب أبو الهدى، بناء على توجيهات الأمير عبد الله، سحب القوات العراقية من فلسطين، وبالفعل باشرت تلك القوات الانسحاب والعودة إلى العراق، حيث وصلت طلائعها مدينة الرمادي في 29 نيسان، وبلغت بغداد في الأول من أيار. (4)

وقد سارع الملك عبد الله إلى إرسال البرقية التالية إلى أحد أكبر زعماء المنظمات الصهيونية [موشي شرتوك] في 15 آذار 1949 يقول فيها :
{عزيزي شرتوك: لم يكن بحثي أمس ما عزى إليكم من التصريح عن الجبهة العراقية في حالة انسحابها إلا لأمور جوهرية وهي :
عند حضور ساسون أفندي، والقائد دايان إلى الغور لمقابلتنا، بحثنا عن عدم الاطمئنان بهدنة لم يكن العراق قابلاً بها، وأن الجيش العراقي ينسحب منها.
 فللرغبة في التسوية المأمولة عزمنا تسلم الجبهة العراقية، فهذا التصريح وما وقع في الجنوب من حركات يدعو للتردد في النتائج، ولذلك أحب أن تشعروا وفدكم بأن يتفق مع وفدنا على سريان اتفاقية عدم إطلاق النار في الحدود التي يشغلها الجيش العراقي حال تسلمها من قبل القوات الأردنية، مع تحياتي لكم وللمستر بن غوريون}. (5)

وما أن تم انسحاب الجيش العراقي من المثلث العربي [ جنين ـ نابلس ـ طول كرم ] حتى بادر الملك عبد الله إلى تسليمها إلى القوات الصهيونية بحجة أن ذلك من مقتضيات اتفاقية الهدنة التي عقدت في [رودس] بين الأردن وإسرائيل، ومن متماتها، وقد تم التسليم في 19 أيار 1949 مما أثار غضب الشعب الفلسطيني، فكان أن دفع الملك عبد الله حياته ثمناً لتلك الخيانة الكبرى، حيث جرى اغتياله في 20 تموز 1951. (6)
ويقول عبد الرزاق الحسني عن عملية سحب القوات العراقية معلقاً:
{لقد كان سحب القوات العراقية من فلسطين من القضايا الخطيرة، لأنها تتصل بشعور الشعب العربي الناقم على حكومات الدول العربية في كافة عواصمها، وكانت الحكومات العراقية المتعاقبة تخشى الإقدام على مثل هذه الحركة فاستطاعت الوزارة السعيدية العاشرة أن تقوم بهذه المهمة مستفيدة من وجود الأحكام العرفية في البلاد. (7)

سيطر على أبناء الشعب وجوم وحزن شديدين بسبب خيانة الحكام، وقد شكّل سحب القوات العراقية تحدياً سافراً لمشاعر الشعب الذي اعتبر قضية فلسطين قضيته الأولى المقدسة. 
ولم يكتف حكام العراق بخيانتهم للقضية الفلسطينيةهذه، بل أقدمت حكومة توفيق السويدي على إصدار قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود في 2 آذار1950، وتسفيرهم إلى إسرائيل لكي يدعم قيام الدولة العبرية، ويمدها بالطاقة البشرية التي كانت بأمس الحاجة لها. (8)
وبذلك أكمل نوري السعيد فصول المؤامرة على فلسطين بالتعاون والتنسيق مع العرش الهاشمي في الأردن، والذي استحوذ على القسم العربي من فلسطين مشكلاً المملكة الأردنية الهاشمية بتخطيط من الإمبريالية البريطانية والأمريكية. (9)

السعيد ينكل بالعناصر الوطنية المشاركة في الوثبة:
بعد أن أكمل نوري السعيد فصول المؤامرة الأنكلو أمريكية على فلسطين توجه نحو تصفية القوى الوطنية في الداخل، بادئاً بالحزب الشيوعي الذي كان له الدور الأكبر في وثبة كانون المجيدة، وفي جعبته تصفية حساباته مع الحزب، وسائر القوى الوطنية الأخرى، ولينتقم أشد الانتقام من أولئك الذين كانوا وراء الوثبة.

كان بداية ذلك الهجوم الشرس على الحزب الشيوعي يتمثل في إعادة محاكمة السكرتير الأول للحزب يوسف سلمان [فهد] ورفاقه أعضاء المكتب السياسي[ زكي بسيم] و[حسين محمد الشبيبي] و[يهودا صديق] والذين سبق وأن حكم عليهم المجلس العرفي العسكري بالإعدام، ثم خفض الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد، بعد إلقاء القبض عليهم في عهد وزارة نوري السعيد التاسعة، في منتصف عام 1947، واليوم وقد سنحت الفرصة لنوري السعيد تحت ظل الأحكام العرفية لتنفيذ ما أراد تنفيذه قبل سنتين، فقد تمت إعادة محاكمتهم من قبل المجلس العرفي العسكري الذي أصدر بدوره حكم الإعدام عليهم في 10، و11 شباط 1949، وتم تنفيذ الحكم يومي 14، و15 شباط، وعلقت جثث الشهداء في ساحتي المتحف والتحرير لساعات طويلة إرهاباً للشعب، وتحدياً لمشاعره الوطنية.

 كانت ردة فعل إعدام قادة الحزب الشيوعي عنيفة، عراقياً وعربياً ودولياً، حيث قامت المظاهرات المنددة بالجريمة الشنعاء لنوري السعيد وحكومته، وشنت الصحف الوطنية العراقية والعربية والأجنبية حملة شعواء على الحكومة متهمة إياها بتنفيذ مخططات الإمبرياليين الهادفة إلى كبح جماح الحركة الوطنية في العراق. (10)
ولم تقف إجراءات نوري السعيد عند هذا الحد بل مضى في تنفيذ ما خططه له أسياده الإمبرياليون، حيث جرى اعتقال أكثر من 370 فرداً من أعضاء الحزب الشيوعي وكوادره، ومارست الأجهزة القمعية في مديرية التحقيقات الجنائية [ مديرية الأمن العامة] أبشع أساليب التعذيب لأخذ الاعترافات منهم عن تنظيمات الحزب، ومات البعض منهم تحت التعذيب، وأحيل كافة المعتقلين إلى المجالس العرفية العسكرية التي حكمت بدورها عليهم بأحكام جائرة تراوحت بين السجن المؤبد والسجن لمدة ثلاث سنوات، وبمراقبة الشرطة بعد انتهاء الأحكام.

 ولم تقف شهية نوري السعيد للانتقام من الحزب الشيوعي إلى هذا الحد، بل سارع إلى إصدار مرسوم خطير وجائر لكبح جماح الهيئة التعليمية والطلبة وإخماد صوتها، وعزلها عن الحركة الوطنية، فجاء في هذا المرسوم انتهاكاً صارخاً للحقوق الدستورية للمواطنين، وفي ما يلي نص المرسوم: (11)
استناداً إلى الفقرة 3 من المادة السادسة والعشرين من القانون الأساسي، وبناء على ما عرضه وزير الداخلية ووافق عليه مجلس الوزراء، أمرنا بوضع المرسوم الأتي:
 مرسوم :
المادة الأولى: ممنوع على هيئات التدريس في الكليات والمعاهد العلمية والمدارس، وموظفيها على اختلاف أنواعها ودرجاتها سواء كانت حكومية أم أهلية أم أجنبية ما يأتي:
1 ـ بث الدعايات السياسية بين الطلاب .
2 ـ تحريض الطلاب على مخالفة أحكام القوانين والأنظمة.
3 ـ حض الطلاب أو غيرهم على المظاهرات، أينما وكيفما تقع.
4ـ حث الطلاب على الإضراب داخل الكليات والمدارس والمعاهد العلمية وخارجها .
المادة الثانية: تعتبر هيئات التدريس في الكليات والمعاهد العلمية والمدارس، وموظفوها مسؤولين جميعاً عن الأعمال الممنوعة المبينة في المادة الأولى من هذا المرسوم لغرض المادة الرابعة، ما لم يُظهر التحقيق الموظف أو الهيئة أو الشخص الذي قام في أمر بثها، أو تحريض الطلاب، أو حثهم عليها.
المادة الثالثة: لمجلس الوزراء، بناء على اقتراح الوزير المختص أن يفصل الموظفين، والهيئات التدريسية للمدة التي يقررها إذا ثبت عليهم أحد الأعمال المبينة في المادة الأولى من هذا المرسوم، أو ثبت إهمالهم، أو تقصيرهم في إظهار مرتكبي أحد الأعمال الواردة في المادة المذكورة
 المادة الرابعة: يحرم الموظفون وهيئات التدريس الذين يفصلون وفق المادة السابقة من هذا المرسوم من حقوقهم التقاعدية، سواء كانوا يستحقون إكرامية أم مرتباً تقاعديا ًخلال مدة الفصل، على أن يعطى لورثتهم راتب التقاعد، أو الإكرامية إذا وقعت الوفاة قبل انتهاء مدة الفصل.
المادة الخامسة: ينفذ هذا المرسوم من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية .
المادة السادسة: على وزراء الدولة تنفيذ هذا المرسوم الذي يجب عرضه على مجلس الأمة في أول اجتماع له.
كتب في بغداد في اليوم السادس من شهر ربيع الثاني 1368 والمصادف لليوم الخامس من شباط 1949.
هكذا انتهك نوري السعيد بكل فضاعة الدستور العراقي الذي كفل الحقوق العامة للشعب، وجعل إدارات المدارس والمعاهد والكليات أجهزة بوليسية، منذراً بإنزال العقاب الصارم بكل من لا يتعاون مع الأجهزة القمعية لمحاربة الحركة الوطنية في صفوف الطلاب والأساتذة. 
 نفذ نوري السعيد تهديداته وقام بفصل أعداد كبيرة من المعلمين والمدرسين وأساتذة الكليات والمعاهد من وظائفهم، كما تم فصل أعداد كبيرة من طلاب الكليات والمعاهد انتقاما للدور البطولي الذي لعبه أولئك الطلاب أبان وثبة كانون المجيدة عام  1948.

 لقد درست اللجنة المشتركة والمؤلفة من اللجنة الحقوقية ولجنة المعارف بمجلس النواب هذا المرسوم، ورفعت تقريرها حوله في 15 كانون الثاني 1951، وأصدرت قراراً برفضه لمخالفته لأحكام الدستور.
لكن رئاسة مجلس النواب، بضغط من الحكومة والبلاط ، أرجأت عرض قرار اللجنة المشتركة على المجلس، واستمر العمل بموجبه حتى عام 1955، بعد أن استنفذ أغراضه، وبعد أن وضع نوري السعيد العديد من المراسيم الأخرى الأشد وطأة منه، والأكثر عدوانية على حقوق الشعب  لمحاربة القوى الوطنية، كما سنرى فيما بعد. (12)

السعيد وعبد الإله والإمبرياليون يتآمرون على سوريا:
 أثارت خيانة الحكام العرب لقضية فلسطين، واندحار الجيوش العربية أمام قوات المنظمات الإرهابية الصهيونية، وقبول الحكام العرب بالهدنة المعقودة في [رودس ]مع الكيان الصهيوني، وبالتالي القبول بتقسيم فلسطين كأمر واقع، ردة فعل واسعة اجتاحت العالم العربي، وسارت المظاهرات المنددة بالحكام العرب وتخاذلهم، وانغمار معظمهم في المؤامرة الانكلو أمريكية، وخلق ذلك الوضع لدى الشعوب العربية يأساً شديداً من أولئك الحكام، وأصبحت لديهم القناعة من أن أي إصلاح للأوضاع العربية لا يمكن أن يكون دون زوال تلك الأنظمة، وأولئك الحكام .
واستغلت الإمبريالية الأمريكية تلك الظروف اكبر استغلال على الساحة السورية، نظراً لأهمية موقع سوريا الجغرافي بالنسبة لضمان أمن دولة إسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبريالية في قلب العالم العربي، فقد كان قيام نظام حكم وطني حقيقي في سوريا يشكل خطراً على إسرائيل .
 هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإزاحة النفوذ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط، والاستئثار بها لوحدها، نظراً لما تشكله هذه المنطقة من أهمية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية حيث يوجد اكبر خزان للنفط في العالم، فيما كانت الإمبريالية البريطانية تسعى جاهدة لإحكام سيطرتها على المنطقة، فقد سعت إلى قلب الحكومة السورية، وإقامة مشروع [الهلال الخصيب] بزعامة العرش الهاشمي، وتحت هيمنتها، وقد لعب نوري السعيد دوراً كبيراً في تنفيذ المخطط البريطاني.

 لكن الإمبريالية الأمريكية كانت أسرع في تحركها حيث دبرت انقلاب [حسني الزعيم] رئيس الأركان السوري، في 30 آذار 1949، واستطاع حسني الزعيم السيطرة على الأوضاع في سوريا دون أن يلقى انقلابه أية مقاومة تذكر، مستغلاً عواطف الجماهير السورية الناقمة على الحكومة السابقة، بسبب دورها في نكبة فلسطين، وطبيعي أن يستغل حسني الزعيم تلك النكبة ليظهر نفسه بمظهر الوطني الحريص على قضية فلسطين، لكن الحقيقة لا تعدو أن تكون انقلاباً أمريكياً، حيث يقول الكاتب الأمريكي [ كوبلاند ] في كتابه [لعبة الأمم] ما يلي:
{وكان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة [الميجرميد] بإنشاء علاقات منتظمة مع الزعيم [حسني الزعيم]،الذي كان رئيساً لأركان الجيش السوري. ومن خلال تلك الصداقة أوحى لحسني الزعيم بفكرة الانقلاب العسكري، حيث اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كل خطته، وإثبات كافة التفصيلات }. (13)

أحدث انقلاب حسني الزعيم قلقاً عميقاً لدى الدوائر البريطانية والعرش الهاشمي في العراق، وأسرع نوري السعيد إلى دمشق، يستكشف طبيعة الانقلاب، واختلى السعيد بحسني الزعيم، ونصحه بالعودة إلى واجباته العسكرية، وترك الأمور السياسية، وكان نوري السعيد أثناء زيارته لدمشق يلبس بزة عسكرية برتبة كبيرة في محاولة للتأثير على قائد الانقلاب حسني الزعيم. (14)
                                                                                             
 لكن بريطانيا لم تستسلم لما حدث في سوريا، ونشطت أجهزة مخابراتها في العمل لتدبير انقلاب عسكري معاكس. ونجحت جهودها بإحداث انقلاب جديد بقيادة اللواء [سامي الحناوي] في 14 آب 1949، وقبل أن يمض على انقلاب حسني الزعيم ستة اشهر، وكان واضحا أن الانقلاب الجديد كان بإخراج بريطاني.

تم لسامي الحناوي السيطرة على البلاد، وجرى إعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه [محسن البرازي ] بعد محاكمة لم تدم سوى ساعتين مما أثار غضب الإمبرياليين الأمريكيين. 
  لم يخفِ العرش الهاشمي، ونوري السعيد فرحهما وسرورهما لنجاح انقلاب [سامي الحناوي]، وسارع سامي الحناوي إلى بغداد وبصحبته الملحق العسكري العراقي [ عبد المطلب الأمين ]، واجتمع مع نوري السعيد وعبد الإله، ثم عاد في نفس اليوم إلى دمشق.
 ولم تلبث حكومة بغداد أن أرسلت رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] إلى دمشق لمناقشة موضوع إقامة اتحاد بين العراق وسوريا  لكن المشروع لم يكتب له النجاح، فقد أفلح الأمريكيون في إحداث انقلاب جديد في سوريا بقيادة العقيد  [أديب الشيشكلي ] في 19 كانون الأول بالتعاون مع [ أكرم الحوراني ] و[فوزي سلو] ، وتم اعتقال سامي الحناوي.
 لكن أديب الشيشكلي لم يستلم الحكم بصورة رسمية، بل حكم من وراء الستار، وأعاد الحكم المدني للواجهة حتى تشرين الثاني من عام 1951، حيث قام بانقلابه الثاني، وأقال الحكومة المدنية، وأعلن نفسه دكتاتوراً للبلاد. بقي الشيشكلي في الحكم حتى شباط 1954،عندما أسقطه انقلاب جديد بقيادة [ فيصل الأناسي ] بمساعدة [ غسان جديد ]،حيث تحرك الجيش، تدعمه الأحزاب السياسية التي ضاقت الأمرين على أيدي الدكتاتور الشيشكلي، وفرض الانقلابيون على أديب الشيكلي  الاستقالة وتم فرض النظام البرلماني من جديد، وذهبت جهود نوري السعيد وعبد الإله، ومن ورائهم البريطانيون أدراج الرياح.
 
نوري السعيد يؤلف حزب[ الاتحاد الدستوري]:
حاول نوري السعيد تقوية مركزه وهيمنته على السلطة عن طريق جر بعض الأطراف السياسية وخاصة حزب الاستقلال للتعاون معه بموجب ميثاق وضعه السعيد بنفسه وسماه [الميثاق الوطني]، وكان من جملة ما جاء في ذلك الميثاق مكافحة الشيوعية، ومحاربة الأعمال التي تستهدف إضعاف الحكومة أو إسقاطها، ومقاومة تلك الأعمال مقاومة فعالة و بجميع الوسائل. هذا هو جوهر ميثاق نوري السعيد الذي غلفه بعبارات عامة منمقة، كاحترام الدستور الذي كان هو نفسه أول وأكثر منتهكيه، ومكافحة الرشوة، وتأسيس المشروعات الصناعية، وحماية حقوق العمال والفلاحين !، وتقوية الروابط مع البلدان العربية، وغيرها من الأمور الأخرى .
 لكن نوري السعيد لم يُوفّق في مسعاه، فقد رد عليه زعيم حزب الاستقلال [محمد مهدي كبه] مفنداً كل ادعاءاته، ودعاه إلى العمل الجدي الصادق لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد بموجب برنامج حدده الحزب. (15)
ولما يئس نوري السعيد من جر حزب الاستقلال للتعاون معه،لجأ إلى تأليف حزب سياسي  دعاه [حزب الاتحاد الدستوري] وهو لا يعدو أن يكون في برنامجه صورة طبق الأصل لما جاء في ميثاقه، وقد وقع على طلب التأسيس كل من: ـ محمد علي محمود 2ـ موسى الشابندر   
 3 ـ جميل الأورفلي  4 ـ خليل كنه 5 ـ عبد الوهاب مرجان 6ـ سعد عمر   7 ـ مجيد عباس 
8 ـ احمد العامر     
  وقد تم منح الحزب المذكور الإجازة من قبل وزارة الداخلية في 24 تشرين الثاني1949، وضم هذا الحزب عناصر مختلفة من الإقطاعيين وأصحاب المصالح، والملاكين الكبار، والانتهازيين الطامعين بالمناصب الكبيرة وبالنيابة والوزارة، وهم جميعاً من مؤيدي السياسة البريطانية. (16)

وبعد أن أتم نوري السعيد المهمة المناطة به بمكافحة الحركة الوطنية، وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي، وتقليم أظافرها، والانتقام من المشاركين بوثبة كانون الثاني المجيدة، وتصفية جميع المنجزات التي حققتها الوثبة، وبعد أن أكمل فصول المؤامرة الكبرى على القضية الفلسطينية، لم يبقَ لديه ما يؤديه في تلك المرحلة، لذا فقد تقدم باستقالة حكومته إلى الوصي في 9 كانون الأول 1949، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي مباشرةً.


140

نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة السادسة عشرة
نوري السعيد يعود للحكم من جديد

حامد الحمداني                                                               6/10/2015     
     

لظروف التي مهدت لعودة السعيد للحكم:

عندما شكل السيد [ أرشد العمري] وزارته في 1 حزيران 1946، بدعوى إجراء انتخاب مجلس النواب، كان قد وضع نصب عينيه تحجيم نشاط الأحزاب السياسية التي سمحت وزارة السويدي بقيامها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مختلقاً شتى الأعذار لذلك، مما أدى إلى تصادم تلك الأحزاب مع الحكومة، وخاصة عندما حاولت هذه الأحزاب إثارة القضية الفلسطينية،على اثر إعلان مقررات اللجنة البريطانية الأمريكية حول القضية، والتي دعت إلى تقسيم فلسطين.

 وكانت الأحزاب السياسية العراقية المعارضة قد اتخذت قراراً بالعمل على مساندة الشعب الفلسطيني، وتقديم كل ما يمكن من المساعدات المادية التي تمكنه من الصمود أمام محاولات الإمبرياليين والصهاينة، وشكلوا لجنة للعمل معاً من أجل نصرة القضية الفلسطينية، ولجمع التبرعات من أبناء الشعب لهذا الغرض. إلا أن حكومة [أرشد العمري] منعت تلك الأحزاب من القيام بهذه المهمة بحجة أن هناك لجنة حكومية تقوم بهذا العمل.

 أدى موقف الحكومة هذا إلى وقوع أزمة خطيرة بينها وبين أحزاب المعارضة الخمسة التي سارعت إلى تقديم مذكرة احتجاج إلى الحكومة وأعلنت إيقاف نشاط اللجنة بسبب عدم  توفر الظروف الملائمة لاستمرار عملها، وقد جاء في  تلك المذكرة ما يلي :
{ تألفت لجنة الأحزاب العراقية للدفاع عن فلسطين على اثر صدور تقرير لجنة التحقيق البريطانية الأمريكية، وقد كانت باكورة أعمالها إعلان الإضراب العام في كافة أنحاء المملكة، ذلك الإضراب الذي دل بشموله وهدوئه على مقدار الوعي والنضج الذين أظهرهما هذا الشعب، ومنذُ أن تألفت الوزارة الحاضرة، وجدت لجنة الأحزاب نفسها في وضع لا تستطيع معه القيام بأي عمل جدي مثمر لنصرة الشعب الفلسطيني في محنته الحاضرة، بالنظر إلى خطة الحكومة التعسفية التي لم تقتصر على الأحزاب ونشاطها السياسي، بل تعدته إلى موضوع فلسطين بالذات وكان الظن أن الحكومات المتعاقبة مهما اختلفت وجهات نظرها فإنها تتفق في مثل هذا الموضوع الخطير، حتى أن اللجنة لم يسمح لها بالقيام بالاكتتاب العام لمساعدة شعب فلسطين.
لذلك فإن لجنة الأحزاب العراقية، بالنظر إلى موقف الوزارة الحاضرة، وبالنظر لعدم توصلها إلى اتخاذ خطة موحدة لمجابهة الموقف، لا يسعها مع شديد الأسف إلا أن تحل نفسها  حتى تتهيأ لها الظروف وإمكانيات العمل، وسوف يستقل كل حزب في عمله السياسي لمعالجة قضية فلسطين في ضوء خطته}. (1)
                                                                              بغداد في 14 آب 1946
إضراب عام في بغداد دعماً للقضية الفسلطينية
 ردت حكومة ارشد العمري على الأحزاب ببيان حاولت فيه تبرير عملها بذرائع غير مقبولة، وكان واضحاً أنها أرادت منع الأحزاب من القيام بأي نشاط فيما يخص القضية الفلسطينية، ورداً على سياسة الحكومة تجاه القضية الفلسطينية، وموقفها من الأحزاب السياسية المعارضة، أُعلن الإضراب العام في البلاد، واندلعت المظاهرة الصاخبة في بغداد، في 28 حزيران 1946 احتجاجاً على الجرائم التي اُرتكبت بحق الفلسطينيين من قبل العصابات الصهيونية، وعلى سياسة الحكومتين العراقية والبريطانية وقوات احتلالها في فلسطين.

 وكانت قوات الشرطة السيارة التي أعدت وُدربت لقمع المظاهرات بانتظارها، حيث اصطدمت معها مستخدمة الرصاص لتفريقها، وقد وقعت معركة غير متكافئة بين متظاهرين عزل من أي سلاح، وتلك القوات المدججة بالسلاح مما أدى إلى استشهاد خمسة متظاهرين وجرح عدد كبير منهم، كما اعتقلت الشرطة عدد كبيراً آخر من المواطنين. (2)

 حاولت حكومة العمري التقليل من عدد القتلى والجرحى، وتبرير فعلتها النكراء متهمة المتظاهرين بالإخلال بالأمن، وغيرها من الادعاءات التي لا يمكن قبولها. لقد أحدث إقدام السلطة على استخدام السلاح ضد المتظاهرين غلياناً شعبياً، واحتجاجات واسعة على سياسة القمع وسارعت الأحزاب السياسية المعارضة إلى تقديم مذكرة احتجاج شديدة اللهجة للحكومة، وحملتها مسؤولية الأحداث، وقد قام قادة الأحزاب المذكورة بمقابلة نائب الوصي، الأمير زيد لتقديم احتجاج أحزابهم على سياسة الحكومة. (3)

وجاء إضراب عمال شركة نفط كركوك في 3 تموز 946  بعد أن فشلت مساعيهم في تحقيق مطالبهم المتعلقة بتحسين أوضاعهم المعيشية ومطالبين بزيادة أجورهم، وتهيئة دور سكن لعوائلهم، أو منحهم بدل إيجار، وتخصيص سيارات لنقلهم إلى مقر عملهم في الشركة، ومنحهم إكرامية الحرب أسوة بعمال حيفا وعبدان، وأخيراً تطبيق قانون العمال.
ولما يئس العمال من استجابة الشركة إلى مطالبهم، لجئوا إلى الإضراب عن العمل إلى حين تحقيق هذه المطالب.
وقد مارست الحكومة على العمال كل وسائل الضغط والإرهاب لإجبارهم  على العودة إلى أعمالهم، متجاهلة كل مطالبهم المشروعة، لكنها لم تفلح في ثنيهم عن الإضراب، وأصروا على تلبية مطالبهم العادلة.

 وفي 7 تموز حضر وزير الاقتصاد إلى كركوك في محاولة للضغط على العمال المضربين، مستخدماً أساليب التهديد والوعيد، وقد قابله العمال المضربين بتجمع جماهيري واسع في حديقة[ كاور باغي] وألقيت خلال ذلك التجمع الكلمات التي عبرت عن حقوق العمال ومطالبهم المشروعة. لكن الحكومة كانت قد بيتت لهم مذبحة جديدة، حيث أحاطت بهم قوات من الشرطة تتألف من فوجين، وبدأت بإطلاق النار على التجمع لتفريقه وأدى ذلك العمل الإجرامي إلى استشهاد 16 عاملاً، فيما جرح أكثر من 30 عاملا آخر. (4)

ولم تكتفِ الحكومة بتلك الإجراءات الوحشية، بل سارعت إلى إنزال قوات الجيش إلى شوارع كركوك بدباباتها ومدرعاتها، وأصدرت أمراً بمنع التجول في المدينة خوفاً من ردة فعل الشعب على تلك الجريمة النكراء، وهكذا لطخت حكومة أرشد العمري أيديها مرة أخرى بدماء عمال نفط كركوك، وأضافت جريمة أخرى إلى جرائمها بحق الشعب.
لقد أشعلت [ مذبحة كاور باغي ] معركة الشعب وقواه السياسية الوطنية ضد الحكومة، واستنكرت الأحزاب تلك الجريمة المروعة، وأدانت الحكومة، واعتبرتها مسؤولة عما حدث، وطالبت بمعاقبة المسؤولين عن المذبحة.

ورغم أن الحكومة أعلنت تحت ضغط الرأي العام العراقي، والأحزاب السياسية الوطنية،عن تقديم المسؤولين عن المجزرة للمحكمة، إلا أن الحكومة لم تكن جادة في ذلك، بل أرادت امتصاص غضب الشعب وثورته، وتهدئة الأوضاع، فلم تكن المحاكمة سوى مهزلة حيث جرت محاكمة المتهمين الرئيسيين الثلاثة في محكمة جزاء كركوك، التي أصدرت قرارها ببراءتهم، وأطلقت سراحهم، مما دفع بوزير الداخلية [عبد الله القصاب] إلى تقديم استقالته من الحكومة في 17 آب 1946، وقد أكد الوزير القصاب للسيد عبد الرزاق الحسني، مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، بعد قيام ثورة 14 تموز وسقوط النظام الملكي، أن السفارة البريطانية هي التي أمرت الحكومة بعدم إدانة المتهمين، بل وزادت في ذلك فطلبت عدم سحب المتهمين من وظائفهم في كركوك أو نقلهم إلى أي مكان آخر، وطلبت كذلك عدم منح أي تعويض لذوي الشهداء والجرحى، و كانت الحكومة قد قررت ذلك من قبل لكنها تراجعت عن قرارها إذعاناً لطلب السفارة البريطانية. (5)

كانت ردة الفعل على تلك المجزرة الرهيبة، وعلى سياسة حكومة أرشد العمري المعادية للشعب وحقوقه المشروعة، شديدةً جداً تتناسب وتلك الجريمة النكراء، فقد أخذت الأحزاب تهاجم الحكومة بعنف،عبر صحافتها، فاضحة إجراءاتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وتدعوا الجماهير الشعبية للتظاهر ضدها، ودعت إلى إسقاطها.
 وقد ردت الحكومة بتعطيل معظم الصحف، وخاصة الصحف الحزبية، وساقت مدرائها المسؤولين ومحرريها إلى المحاكم بتهمة التحريض ضد السلطة، وكانت تعيد الكرة بعد كل محاكمة لتوجه اتهامات جديدة وتجري المحاكمات الجديدة لهم، وزجت بالعديد منهم في السجن.
وبسبب تلك الإجراءات غير الدستورية، دعت الأحزاب الوطنية الثلاثة حزب الاتحاد الوطني، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، في 30 آب 1946 إلى عقد اجتماع عام حضره جمع غفير من أبناء الشعب جاوز 5000 مواطن، حيث ألقيت الخطب المنددة بالحكومة والمعبرة عن سخط الشعب وقواه السياسية الوطنية من سياستها، والجرائم التي اقترفتها بحق الشعب، وسلبها لحقوقه الدستورية، وتجاوزها على الأحزاب وصحافتها.
وفي ختام الاجتماع تم الاتفاق على رفع مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى الحكومة، والى الوصي على العرش [عبد الإله] جاء في المذكرة: (6)

{إن الجموع الغفيرة المجتمعة بدعوة من حزب الاتحاد الوطني، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، لمناقشة الموقف السياسي الراهن هالها موقف الوزارة الحاضرة، بمكافحة الأحزاب السياسية ومحاولة شل نشاطها، وغلق صحفها، وإحالة رؤساء تحريرها إلى المحاكم، وسجن بعض أعضاء هذه الأحزاب لمجرد إبداء آرائهم في السياسة العامة، وهو حق من حقوق كل مواطن في بلد له دستور يحترم حرية الرأي، ويأخذ بنظام الحكم الديمقراطي.

 غير أن الوزارة الحاضرة تجنبت الحكم الديمقراطي، واتجهت بحكم البلاد اتجاهاً استبدادياً مخالفا لأحكام القانون الأساسي، وهي تتعمد إهماله ولا تحترم ما فيه من نصوص عن حقوق الشعب وحرياته الديمقراطية، وقد وقع في عهدها من الأحداث الجسام ما روع العراقيين كافة، وما أنذرهم به من خطر جسيم يهدد كيان الشعب ومستقبله، وما أصبح معه العراقيون غير آمنين ولا مطمئنين على حقوقهم وحرياتهم بل وحياتهم .

بالإضافة إلى ذلك لم تستطع أن تصون سيادة العراق وكيانه الدولي، ففي عهدها نزلت القوات البريطانية في البصرة، في الوقت الذي يطالب به الشعب العراقي بالجلاء، ولم تستطع الوقوف الموقف الصحيح لمعالجة مشكلة خطيرة تتعلق بكيان الشعب العربي الفلسطيني، بل بكيان ومصالح البلاد العربية كافة، وذلك بعرض القضية على مجلس الأمن الدولي، وهو مطلب الشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية بصورة عامة، فهي بأعمالها التي أفصحت عن استهانتها بحقوق الشعب وحرياته وقانونه الأساسي،غير جديرة بتحمل مسؤولية الحكم، ولا القيام بالمهمة التي أعلنت أنها تتولى الحكم لإتمامها، وهي مهمة انتقالية حيادية تتلخص بإجراء انتخابات حرة لمجلس جديد، فنحن نطالب بتنحي هذه الوزارة، وإقامة وزارة دستورية يرتضي الشعب سياستها}.

 ويقول السيد عبد الرزاق الحسني في وصفه لتلك الاحتجاجات:
{إننا لو أردنا نشر كافة الاحتجاجات ضد حكومة أرشد العمري لتطلب ذلك مجلدات}.
ونتيجة لتطورات الأوضاع وخطورتها، والضغوط التي تعرضت لها حكومة العمري،اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها في 16 تشرين الأول 1946، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم، ودون أن تستطيع إجراء الانتخابات العامة.

ونتيجة لتدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وخطورة الموقف سارع وزير الخارجية البريطانية المستر [ بيفن ] إلى إرسال برقية إلى الوصي عبد الإله تسلمها بعد منتصف الليل يطلب فيها بتكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة لمعالجة الأوضاع الخطيرة التي سببتها سياسة حكومة أرشد العمري، والتي اتسمت بالرعونة والاستهانة بالشعب. (7)

نوري السعيد يؤلف وزارته التاسعة:
وهكذا تم ما أراده [ بيفن ]،وصدرت الإرادة الملكية بتكليف نوري السعيد بتأليف وزارته التاسعة في 21 تشرين الثاني 1946، فقد أراد الإنكليز أن يمهّد نوري السعيد الأجواء لتنفيذ المهمة الخطيرة والمتضمنة تهيئة الأجواء لتجديد المعاهدة العراقية البريطانية التي كانت معاهدة عام 1930 التي وقعها نوري السعيد آنذاك قد أوشكت على نهايتها.

أراد نوري السعيد تهدئة الأوضاع المتأزمة التي سببتها الوزارة السابقة فأجرى اتصالات مع الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الأحرار، داعياً إياهما للاشتراك في الحكومة، محاولاً خلق شعبية لوزارته وبالفعل تمكن من إقناع الحزبين بمشاركة عضو عن كل منهما في الوزارة، وفق الشروط التي حدداها بكون الوزارة انتقالية تهدف إلى إجراء انتخابات حرة لمجلس النواب، مع ضمان إطلاق حرية الأحزاب والصحافة وضمان حق المواطنين في انتخاب العناصر التي يثقون فيها دون تدخل  الإدارات المحلية في عملية الانتخاب، والسماح بفتح فروع لهما في الألوية، وممارسة حقهما في الدعاية الانتخابية بكل حرية، وقد رد نوري السعيد على الحزبين بالإيجاب، وتم تشكيل الوزارة، ودخلها عن الحزب الوطني الديمقراطي السيد [ محمد حديد] وعن حزب الأحرار السيد[علي ممتاز الدفتري]  وجاءت الوزارة على الشكل التالي :
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيرا للداخلية
2ـ عمر نظمي ـ وزيراً للعدلية .
 3ـ صالح جبر ـ وزيراً للمالية .
4 ـ صادق البصام ـ وزيراً للمعارف .
5 ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
6 ـ فاضل الجمالي ـ وزيراً للخارجية .
 7 ـ بابا علي الشيخ محمود ـ وزيراً للاقتصاد .   
 8 ـ جميل عبد الوهاب ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
 9 ـ محمد حديد ـ وزيراً للتموين .         
10 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع

 السعيد يمهد الأجواء لمعاهدة جديدة مع بريطانيا:

كانت باكورة أعمال الوزارة السعيدية إقدامها على حل مجلس النواب تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، حيث صدرت الإرادة الملكية بحله في 21 تشرين الثاني 1946، وبوشر بالإجراءات اللازمة لانتخاب المجلس الجديد قبل أن يتم فتح فروع للأحزاب السياسية في الألوية، والتي تعتبر مهمة جداً لهما للقيام بالدعاية الانتخابية.

ولدى البدء في إجراء انتخاب المنتخبين الثانويين، ورغم تعهد نوري السعيد بأن تكون انتخابات حرة ونزيهة، فقد قام تكتل في الوزارة يقوده [صالح جبر] وزير المالية بتدخل سافر في تلك الانتخابات، مما دفع الحزبين المشاركين في الوزارة بالاحتجاج لدى رئيس الوزراء الذي حاول طمأنتهما.

لكن التدخلات استمرت وتصاعدت، فلم يرَ الحزبان المذكوران بداً من سحب ممثليهما من الوزارة، وتقدم [محمد حديد] ممثل الحزب الوطني الديمقراطي و[ممتاز الدفتري] ممثل حزب الأحرار باستقالتهما من الوزارة، وصدر الإرادة الملكية بقبولهما في 31 كانون الأول 1946، واستمرت الحكومة بخططها لإكمال الانتخابات وفق مقاسها هادفة إلى إنجاح مرشحيها، وكانت التدخلات تجري بشكل سافر مما أجبر بعض الأحزاب الوطنية إلى مقاطعة الانتخابات. (8)
ولما وجد الوصي عبد الإله أن تلك التدخلات بلغت حداً لا يمكن السكوت عنه، استدعى متصرفي الألوية [ المحافظين]، متجاوزاً الحكومة، وطلب إليهم إنجاح المرشحين الذين يختارهم البلاط الملكي، وهكذا دخل الوصي على الخط ليكون له النصيب الأوفر في نتائج الانتخابات متجاهلا إرادة الشعب وحقوقه التي ضمنها الدستور. (9)
ورغم أن الحزب الوطني الديمقراطي لم يقاطع الانتخابات، واستمر فيها إلى النهاية، وفاز بخمسة مقاعد، إلا أنه قرر بعد الانتخابات سحب نوابه الخمسة من المجلس احتجاجاً على التدخلات السافرة من قبل الحكومة والوصي عبد الإله.
 وقد أكد الحزب في بيانه الذي أعلن بموجبه سحب النواب انه إنما استمر في خوض الانتخابات لكي يكون قريباً منها، وليفضح التدخلات التي مارستها الحكومة وأجهزتها الإدارية، والتي كان من نتائجها أن النواب جرى تعينهم سلفاً، وان تلك العملية الانتخابية لم تكن إلا لذر الرماد في العيون، ومحاولة خداع الشعب وقواه السياسية الوطنية، ودعا بيان الحزب في النهاية أبناء الشعب إلى مواصلة الكفاح من اجل حقوقهم الدستورية.

الأحزاب تصدر بياناً يندد بالحكومة، وبعملية الانتخاب:
لم تلبث الأحزاب السياسية الخمسة أن دعت بعد الانتخابات إلى لقاء لممثليها في 24آذار 1947 للتداول في الأوضاع السياسية للبلاد، وما آلت إليه الانتخابات المزعومة من نتائج.
 وقد تم في ذلك اللقاء تقيم دقيق للموقف، وأصدرت في نهاية الاجتماع  بياناً شديد اللهجة اتهم الحكومة بتزييف إرادة الشعب، وسلبه حقوقه وحرياته، والإتيان بمجلس لا يمثله على الإطلاق، بل جرى تعينه سلفاً وأعلن البيان عدم اعترافه بشرعية نتائج الانتخاب، ودعت إلى حل المجلس، وتشكيل حكومة محايدة تجري انتخابات حرة ونزيهة وشريفة يقول فيه الشعب العراقي كلمته بكل حرية في من يمثله صدقاً وحقاً، ومحذرة من أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه ينذر بعواقب وخيمة. (10)

استقالة حكومة نوري السعيد، وتكليف صالح جبر:

بعد أن أكمل نوري السعيد المهمة التي جاء من أجلها، وهيأ الأجواء لصعود صالح جبر إلى قمة مجلس الوزراء بناء على رغبة الإنكليز، وتوصية المخابرات البريطانية. (11)
 قدم استقالة حكومته إلى الوصي عبد الإله في 11آذار 1947، وتم قبول الاستقالة بعد 16 يوماً، لغرض الفراغ من تأليف الوزارة الجديدة. وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه، وعهد الوصي إلى [ صالح جبر] بتأليف الوزارة الجديدة التي احتفظ فيها جبر بوزارة الداخلية وأسند وزارة الخارجية للسيد[ فاضل الجمالي] ووزارة الدفاع للسيد[شاكر الوادي] وقد جاءت هذه الوزارة بأمر من الإنكليز، وتم وضع منهاجها بالاشتراك مع أقطاب السفارة البريطانية وبوحي من وزارة الخارجية البريطانية. (12)
وكان في مقدمة أهداف الوزارة  تحقيق ما يأتي :
1 ـ تجديد المعاهدة العراقية البريطانية [ معاهدة 1930].
2 ـ مكافحة الشيوعية، أو ما سمته الحكومة [المبادئ الهدامة] .
3 ـ تنفيذ المخطط البريطاني ـ الأمريكي حول القضية الفلسطينية .
4 ـ تقوية وتوسيع جهازي الأمن والشرطة وتدريب منتسبيهما. (13)

وقد غلفت الحكومة منهجها هذا بجملة مشاريع وهمية لا تعدو عن كونها وسيلة لتغطية المخطط الذي جاءت لتنفيذه، والذي قال عنه السيد توفيق السويدي:
{ أن المنهاج أحتوى على آمال وخيالات لا يتسنى للبلد تحقيقها إلا بنصف قرن، وأضاف انه لو تسنى تحقيق عشر ما جاء به منهاج هذه الوزارة لتحول العراق إلى جنة عدن، لكن المنهاج  لم يكن سوى حبراً على ورق}. (14)

محاولة فرض معاهدة بورتسموث، ودور السعيد:
على الرغم من أن نوري السعيد لم يشترك في وزارة [صالح  جبر] حيث صدرت إرادة ملكية بتعينه رئيساً لمجلس الأعيان بعد استقالة وزارته، إلا أنه كان قد تولى أمر المفاوضات مع  البريطانيين في واقع الأمر، فقد عبر الوصي عبد الإله عندما كان في لندن لرئيس الوزراء [صالح جبر] عن رغبته في أن يصطحب معه كل من [ نوري ا لسعيد ] و [توفيق السويدي] وقد تقبل السيد صالح جبر الأمر بكل سرور. (15)

كان نوري السعيد آنذاك يراقب الوضع السياسي المضطرب، والذي كان ينذر بأحداث جسيمة بسبب الوضع المعيشي الصعب الذي كان يمر به الشعب العراقي والغلاء الفاحش الذي سبب ارتفاع الأسعار بشكل رهيب جاوز الخمسين ضعفاً للعديد من السلع،وافتقدت الأسواق الكثير منها وبلغ التضخم درجات عالية جداً مما عمق الأزمة الاقتصادية الخانقة وقد اشتهرت تلك الفترة العصيبة في حياة الشعب العراقي بفترة[الخبز الأسود] لكثرة الشوائب فيه، وندرته، وصعوبة الحصول عليه حيث كان يتجمع الألوف من الناس أمام المخابز لساعات طوال للحصول على بضعة أرغفة من ذلك الخبز الأسود .

وجاءت قضية اغتصاب معظم أجزاء فلسطين من قبل الصهيونية العالمية نتيجة المؤامرة البريطانية الأمريكية، وخيانة الحكام العرب المشتركين في تلك المؤامرة، ومهزلة ما سمي بالحرب العربية الإسرائيلية التي لم تكن في واقع الأمر سوى تمثيلية مفتعلة أراد الحكام العرب منها تبرئة ذمتهم من تلك الجريمة التي لا زال العلم العربي بوجه عام والشعب الفلسطيني بوجه خاص يعاني من آثارها الخطيرة حتى يومنا هذا على أيدي حكام إسرائيل وحماتهم الأمريكان والبريطانيين.

ولقد أدرك نوري السعيد خطورة الأوضاع، وما يمكن أن تؤدي إليه فاقترح على الوصي عبد الإله تأجيل تعديل المعاهدة في ذلك الوقت لعدم ملائمة الأوضاع الداخلية والعربية.
إلا أن الوصي أصرَّ على رأيه، وقد اقترح السعيد عليه استقالة الوزارة وتأليف وزارة جديدة تضم الأطراف الأخرى من المعارضين لحكومة صالح جبر، لكن الوصي رفض الاقتراح وأصر على مشاركة السعيد في المفاوضات الجارية في بريطانيا. (16)
فقد ذكر توفيق السويدي في مذكراته أن حكومة صالح جبر حكومة ضعيفة لا تقوى على احتمال مسؤولية المفاوضات التي تستلزم جهوداً واستعدادات واسعة فيجب أن تكون لدينا حكومة مفاوضات قادرة على إنجاز هذه المهمة الخطيرة، ويضيف السويدي أن الوصي قد ألح عليه أن يرافق صالح جبر ونوري السعيد إلى لندن ليكون مراقباً لسير المفاوضات نيابة عنه، وعليه فقد امتثل لرغبة الوصي واشترك مع  نوري السعيد وصالح جبر في المفاوضات. (17)
وعلى أثر تسرب الأخبار عن اجتماع قصر الرحاب ومعرفة الأحزاب السياسية بالأمر قررت الاحتجاج على ذلك، وأصدرت البيانات المنددة بالمعاهدة والقائمين بها، فقد أصدر كل من حزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والحزب الوطني الديمقراطي بيانات شديدة اللهجة منددة بالحكومة ووفدها المفاوض، ومحذرة إياهم من مغبة الإقدام على توقيع المعاهدة التي دعيت بـ[ معاهدة بورتسموث] نسبة إلى المدينة التي جرت المفاوضات فيها. (18)

وكانت قد  تسربت أنباء عن وصول وفد بريطاني بصورة سرية لأجراء مفاوضات مع حكومة صالح جبر لوضع مسودة معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1930، وضم الوفد البريطاني نائب مارشال الجو السير [ بريان بيكر ] والبريكادير[كيرتس] ونائب مارشال الجو [ كراي ]، والمستر  [بسك ]،والميجر [رنتن ]، والميجر [برتواك ] فيما كان الوفد العراقي قد تألف من [صالح جبر ] و [شاكر الوادي ] و [ صالح صائب الجبوري ] رئيس أركان الجيش، وقد تبين أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد بدأت في 8 مايس1947 واستمرت حتى 17 منه بصورة سرية، وتم إجراء المفاوضات في قصر الرحاب،تحت أشراف الوصي عبد الإله الشخصي . (19)

 كما سافر عبد الإله إلى لندن في 15 تموز، وأجرى مباحثات مع المستر [ بيفن ] استكمالاً للمحادثات التي بدأت في بغداد، وبعد عودة الوصي إلى العراق استأنفت المباحثات بين الطرفين في 22 تشرين الثاني، واستمرت حتى 4 كانون الأول، وكان الجانب البريطاني يتقدم بمسودات متعددة للمعاهدة الجديدة، وسافر[ نوري السعيد ] و[ فاضل الجمالي ] وزير الخارجية إلى لندن، وأجريا لقاءات متعددة في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قدم لهما مساعد وزير الخارجية مسودة جديدة للمعاهدة، وقد اتصل نوري السعيد برئيس الوزراء [صالح جبر] داعيا إياه إلى الحضور إلى لندن لاستكمال المباحثات حول مسودة المعاهدة، وقد لبى صالح جبر الدعوة، وغادر إلى لندن وبصحبته وزير الدفاع [ شاكر الوادي ] و[ توفيق السويدي] بعد الاجتماعين الذين تمم عقدهما في قصر الرحاب برئاسة عبد الإله، وكان الاجتماع الأول قد عقد في قصر الرحاب في 28 كانون الأول، وضم ذلك الاجتماع 7 رؤساء وزارات سابقين و12 وزيراً بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي
السيد [أحمد مختار بابان ].
 ثم تلاه الاجتماع الثاني في 3 كانون الثاني 1948، وضم كل من [الوصي عبد الإله] و [صالح جبر] و[ نوري السعيد ] و[ توفيق السويدي ] و[ أحمد مختار بابان ] رئيس الديوان الملكي، وقد تحدث الوصي إلى الحاضرين ونوقشت فيه النقاط الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها، والأسس التي ينبغي أن تؤخذ في نظر الاعتبار في المفاوضات. 

 ويقول السيد توفيق السويدي في مذكراته أن صالح جبر كان قد وزع على الحاضرين مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وعندما طالبته بنسخة عربية أجابني أنه لم يتسنى لنا ترجمتها إلى العربية، ويضيف السويدي قائلا بأنه لم يجد ما يستوجب الاعتراض من الجانب السياسي، ولكن وجدت الجانب العسكري عليه الكثير من الاعتراضات، وقد رد عليّ صالح جبر بان هذا الأمر مدروس من قَبلْ ومتفق عليه بهذا الشكل، وليس فيه ما يستوجب الاعتراض، الأمر الذي دل بوضوح على أن المعاهدة قد وضعت واتُفق على موادها سلفاً، وإن الوصي أراد إضفاء الشرعية عليها، وفي نهاية الاجتماع تم تخويل الوفد  برئاسة [صالح جبر] صلاحية التوقيع على المعاهدة. (20)

وعندما سرت أنباء اجتماعات قصر الرحاب سارعت الأحزاب الوطنية إلى الاحتجاج عليها بسبب استبعاد الشخصيات الوطنية منها، وأصدرت بيانات تندد بالحكومة، وتستنكر سعيها لربط العراق بمعاهدة جديدة اشد وطأة، وتمتهن سيادة واستقلال البلاد، مستهترة بإرادة الشعب وحقوقه المشروعة، وظهرت تلك البيانات في الصحف في اليوم التالي.

لكن الحكومة مضت في خططها لإتمام الصفقة مع المحتلين البريطانيين متحدية إرادة الشعب، حيث أعلن عن سفر الوفد العراقي إلى لندن في 5 كانون الثاني 1948. وجاءت تصريحات وزير الخارجية [فاضل الجمالي] والتي أشاد فيها بالمعاهدة العراقية البريطانية الموقعة في حزيران 1930، وبجهود الحكومة لعقدها مع الحليفة بريطانيا، وأهمية وضرورة عقدها، لتشعل أول شرارات وثبة كانون الثاني 1948، فقد كانت تصريحات الجمالي استفزازية وقحة دفعت طلاب الكليات إلى الخروج في مظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة لعقد المعاهدة الجديدة، وقام طلاب كلية الحقوق بدور بارز في تلك المظاهرات.

لكن الحكومة سارعت إلى دفع قوات الشرطة للتصدي للمظاهرات مستخدمة أساليبها القمعية المعروفة لتفريقها، وقد أصيب عدد من الطلاب في الصدام، واعتقل البعض الأخر، وأقدمت الحكومة على تعطيل الدراسة في كلية الحقوق في 5 كانون الثاني، وقد احتج أساتذة الكلية على إجراءات الحكومة وأساليبها القمعية في تعاملها مع الطلاب المتظاهرين، لكن الحكومة ردت باعتقال عدد من أساتذة الكليات والطلاب واتهمتهم بحمل المبادئ الهدامة. (21)
ونتيجة لسلوك الحكومة هذا إزاء الطلاب وأساتذة الكليات أعلن طلاب الكليات والمعاهد العالية إضرابهم عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرات صاخبة سارت حتى بناية مجلس النواب للاحتجاج على الحكومة.
وبسبب تسارع الأحداث وتطورها، حاول وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] تهدئة الأوضاع فأمر بإعادة فتح كلية الحقوق، وإطلاق سراح الطلاب، وأساتذتهم المعتقلين.
 وجاءت أزمة الحبوب وفقدان رغيف الخبز في مطلع عام 1947 لتصاعد من حدة التناقض بين الشعب وحاكميه، ولترفع من حرارة الغليان الشعبي. فبسبب سياسة الحكومة الاقتصادية الرعناء التي سمحت بتصدير كميات كبيرة من الحبوب إرضاءً لكبار الإقطاعيين والملاكين الزراعيين، على الرغم من سوء الموسم الزراعي ذلك العام  بسبب شحة الأمطار، ورغم كل التحذيرات التي وُجهت للحكومة من خطورة الوضع وضرورة منع التصدير ذلك العام ،إلا أن الحكومة أغمضت عيونها عن تلك التحذيرات واستمرت في سياستها المتعارضة، ومصالح الشعب وحياته المعيشية مما سبب فقدان الحبوب في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وقد لاقى الشعب صعوبات بالغة في الحصول على رغيف الخبز، وكانت صفوف المنتظرين أمام المخابز تثير الأسى والحزن على
  ما يلاقيه الناس للحصول عليه.
لقد كانت أزمة الخبز أحد الأسباب الرئيسية لقيام وثبة كانون الثاني المجيدة  في مطلع عام 1948، وكانت الأوضاع تنتظر من يشعل الشرارة لتنفجر ثورة عارمة ضد نظام الحكم القائم.



141
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الرابعة عشرة
حامد الحمداني                                                               28/9/1015

حركة الكيلاني الانقلابية عام1941 وموقف نوري السعيد

بدا الوضع السياسي بعد تشكيل حكومة الهاشمي يميل نوعاً ما إلى الهدوء بعد تلك العاصفة التي حدثت بين الكيلاني والوصي. لكن النار كانت لا تزال تحت الرماد، فقد كان عنصر الثقة بين الوصي والهاشمي شبه مفقود، كما كانت الثقة بين الكيلاني ومن ورائه العقداء الأربعة المسيطرين على الجيش وبين الوصي قد تلاشت.

وكان الوصي ومن ورائه السفارة البريطانية يعمل في الخفاء من أجل تشتيت شمل قادة الجيش تمهيداً للتخلص منهم ومن الكيلاني، ومارست السفارة البريطانية ضغوطها على رئيس الوزراء من أجل إبعاد العقداء الأربعة عن أي تأثير سياسي في البلاد، كما ضغطوا على الهاشمي لقطع العلاقات مع إيطاليا، وكان الهاشمي يخشى رد فعل الشعب إن هو فعل ذلك.
 ونتيجة لتلك الضغوط أقدم الهاشمي بصفته وزيراً للدفاع وكالة بتاريخ 26 آذار 1941 على نقل العقيد[كامل شبيب] إلى قيادة الفرقة الرابعة في الديوانية، ليحل مكانه صديق الوصي الذي أواه في الديوانية اللواء الركن [إبراهيم الراوي]، كما أصدر قراراً آخر بنقل مقر قيادة الفرقة الثالثة التي يقودها العقيد [صلاح الدين الصباغ ] من العاصمة بغداد إلى جلولاء. (30)
كانت تلك الإجراءات التي اتخذها الهاشمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل، فلم يكد يبلغ القرار لقادة الجيش حتى قرروا على الفور التصدي له ورفضه، واتخاذ التدابير السريعة والضرورية لحل الأزمة بصورة جذرية.
ففي مساء يوم 1 نيسان 1941، أنذر العقداء الأربعة قطعات الجيش في بغداد، وتم إبلاغها بما ينوون القيام به حتى إذا انتصف الليل، نزلت القوات العسكرية لتحتل المراكز الهامة والحساسة في بغداد، كدوائر البرق والبريد والهاتف والجسور ومداخل الطرق الرئيسية، وجميع المرافق العامة في بغداد، وتوجه العقيد [ فهمي سعيد ] وبرفقته وكيل رئيس أركان الجيش [ محمد أمين زكي ] إلى دار رئيس الوزراء السيد[ طه الهاشمي ] وأجبروه على الاستقالة. واضطر الهاشمي إلى تحرير كتاب استقالة حكومته إلى الوصي، وسلمها لهما حرصاً على عدم إراقة الدماء. (31)
أما الوصي  فقد أيقضه الخدم من النوم، وأبلغوه أن هناك أوضاع غير طبيعية في منطقة القصر، وأن الجيش متواجد في المنطقة، فما كان من الوصي إلا أن صمم على الهرب مرة أخرى، واستطاع الإفلات من قبضة الجيش، ولجأ إلى السفارة الأمريكية بعد أن تعذر عليه الوصول إلى السفارة البريطانية، وقامت السفارة الأمريكية بنقله إلى قاعدة الحبانية، ومن هناك تم نقله على متن طائرة حربية بريطانية إلى البصرة حيث نقل إلى الدارعة الحربية البريطانية [ كوك شبير] الراسية قرب البصرة، وكان برفقته كل من [علي جودت الأيوبي ] ومرافقه العسكري [عبيد عبد الله المضايفي ] ثم لحق بهم [ جميل المدفعي ]. (32)

وحاولت السفارة البريطانية الاتصال بأعضاء وزارة طه الهاشمي في محاولة لنقلهم إلى البصرة للالتحاق بالوصي، لكن العقداء الأربعة حالوا دون خروجهم، كما نصبت القوات البريطانية للوصي إذاعة لاسلكية حيث قام بتوجيه خطاب إلى الشعب في الرابع من نيسان، 
وقامت الإذاعة البريطانية في لندن بإعادة إذاعة الخطاب مرة أخرى، وقد هاجم الوصي في خطابه الكيلاني والعقداء الأربعة، واتهمهم بالاعتداء على الدستور، والخروج على النظام العام واغتصاب السلطة.

كما أخذ الوصي يحرض قائد الفرقة الرابعة في الديوانية  [إبراهيم الراوي] وقائد حامية البصرة العقيد[رشيد جودت] وعدد من شيوخ العشائر الموالين للبلاط والإنكليز للتمرد على الكيلاني وقادة الجيش، والزحف على بغداد، لكن الراوي وجودت رفضا السير مع الوصي بهذا الطريق الذي لو تم لوقعت حرب أهلية لا أحد يعرف مداها.

بادر العقداء الأربعة بعد هروب الوصي إلى تشكيل مجلس الدفاع الوطني، وتم اختيار [رشيد عالي الكيلاني] رئيساً للمجلس ليقوم مقام مجلس الوزراء.
وفي أول اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قرر المجلس إرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تحذرها من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وتقديم الدعم والمساندة للوصي عبد الإله. كما قرر المجلس إرسال قوات عسكرية إلى البصرة لمنع أي تحرك ضد مجلس الدفاع الوطني، وتم اعتقال متصرف البصرة [ صالح جبر ] الذي قطع صلاته ببغداد تضامناً مع الوصي، وتم تسفيره إلى بغداد. (33)

عزل عبد الإله وتعين شريف شرف وصياً على العرش
 رداً على تحركات الوصي الرامية إلى إسقاط حكومة الدفاع الوطني وهروبه من العاصمة، وتعاونه مع المحتلين البريطانيين في هذا السبيل فقد وجهت حكومة الدفاع الوطني إنذاراً له بالعودة إلى بغداد فوراً وإلا فإنها ستضطر إلى عزله من الوصاية وتعين وصي جديد على العرش بدلا منه. ولما لم يستجب عبد الإله للإنذار قررت حكومة الدفاع الوطني عزله من الوصاية، وتعين [ الشريف شرف ] وصياً على العرش بدلاً عنه، وقد صادق البرلمان على هذا الإجراء في جلسته المنعقدة في 16 نيسان 1941. (34)
وبعد أن تم تعين [الشريف شرف] وصياً على العرش، قدم مجلس الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني استقالته إلى الوصي الجديد في 12 نيسان 1941 لغرض تشكيل حكومة مدنية جديدة، وقد كلف الوصي السيد الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة في اليوم نفسه، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي :
1 ـ رشيد عالي الكيلاني ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية .
2ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للمالية .
3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للدفاع .
4 ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ رؤوف البحراني ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
6 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدلية .
7ـ يونس السبعاوي ـ وزيراً للاقتصاد .
8 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
9 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للمعارف .
وفور تشكيل الوزارة أعلن الكيلاني عن عزم الحكومة على عدم توريط العراق في الحرب مع الالتزام بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، والتمسك بالتعهدات الدولية. وقد لاقت حكومة الكيلاني تأييداً كاسحاً من أبناء الشعب الحانقين على الاستعمار البريطاني وعملائه.

بريطانيا تسقط حكومة الكيلاني، وتعيد عبد الإله:
تسارعت التطورات في البلاد بعد أحكام سيطرة رشيد علي الكيلاني والعقداء الأربعة على مقاليد الحكم، ولاسيما وأن الحركة قد لاقت تأييداً واسعاً من أبناء الشعب عامة الذين كانوا يحدوهم الأمل في التخلص من الاستعمار البريطاني الذي أذاقهم الأمرّين، وهكذا أصبحت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لبريطانيا وتنذر بمخاطر كبيرة .
وبناء على ذلك طّير السفير البريطاني [كورنوليس] برقية إلى [المستر تشرشل] رئيس الوزراء  جاء فيها : { إما أن ترسلوا جيشاً كافيا إلى العراق أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان}.
فلما اطلع تشرشل على البرقية أسرع بالإبراق إلى وزير الهند لإرسال قوات عسكرية، وإنزالها في البصرة على عجل. (36)

كانت الحكومة البريطانية قد أبلغت العراق قبل وقوع الانقلاب أنها عازمة على إنزال قوات في البصرة لنقلها عبر العراق إلى حيفا في فلسطين حيث تقتضي ضرورات الحرب.
 وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية يحق لبريطانيا ذلك، بعد إبلاغ ملك العراق بذلك، ولذلك فقد اتصل القنصل العام البريطاني في البصرة بوكيل المتصرف يوم 10 نيسان، وأبلغه أن فرقة من الجيش الهندي على ظهر ثلاث بواخر حربية، وبحراسة طرادين حربيين، وثلاث طائرات سوف تدخل المياه الإقليمية العراقية خلال 48 ساعة، وطلب منه إبلاغ حكومته بذلك للموافقة على نزول تلك القوات في البصرة .
كما قام مستشار وزارة الداخلية المستر [ ادمونس ] في بغداد بزيارة رئيس الوزراء الكيلاني وابلغه بنفس الأمر. (37)

وعلى الفور أجتمع مجلس الوزراء، وبحث الأمر، وبعد مناقشة مستفيضة اتخذ قرارا بالسماح للقوات البريطانية بالنزول، وفق الشروط التي اتفق عليها في 21 حزيران 1940، والتي نصت على نزول القوات لواء بعد لواء،على أن يبقى اللواء مدة معقولة وهو في طريقه إلى فلسطين، ثم يليه نزول اللواء التالي، بعد أن يكون اللواء السابق قد غادر الأراضي العراقية، وعلى الحكومة البريطانية أن تشعر الحكومة العراقية بعدد القوات المراد إنزالها.
كما قررت الحكومة العراقية إيفاد اللواء الركن [ إبراهيم الراوي] إلى البصرة لاستقبال القوات البريطانية كبادرة حسن نية من الحكومة. لكن بريطانيا كانت قد قررت غزو العراق وإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة وإعادة عبد الإله وصياً على عرش العراق، وكانت تعليمات القيادة البريطانية تقضي باحتلال [منطقة الشعيبة ] في البصرة واتخاذها رأس جسر لإنزال قواتها هناك، والانطلاق بعد ذلك إلى بغداد.

وفي يومي 17  و 18 نيسان 1941 نزلت القوات البريطانية في البصرة، وعلى الفور أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال [ ايمسي ] في رئاسة الأركان البريطانية يأمره بالإسراع بإنزال 3 ألوية عسكرية في البصرة. وقد بدا واضحاً من تصرف تلك القوات أنها لن تغادر العراق، كما هو متفق عليه، بل لتبقى هناك حيث قامت بحفر الخنادق وإقامة الاستحكامات، وترتيب بقائها لمدة طويلة.

وفي 28 نيسان 1941 أبلغ مستشار السفارة البريطانية في بغداد وزارة الخارجية العراقية بنية بريطانيا إنزال  قوة أخرى قوامها 3500 جندي وضابط في 29 نيسان، وقبل رحيل القوات التي نزلت في البصرة قبلها. عند ذلك أدركت حكومة الكيلاني أن بريطانيا تضمر للعراق شراً، وأنها لا تنوي إخراج قواتها كما جرى عليه الاتفاق من قبل، بل لتستخدمها لاحتلال العراق من جديد، وعليه اتخذت قرارها بعدم السماح لنزول قوات بريطانية جديدة في البصرة قبل مغادرة القوات التي وصلت إليها من قبل.

كما طلبت الحكومة العراقية من السفير البريطاني تقديم أوراق اعتماد حكومته كدليل على اعتراف بريطانيا بالوضع الجديد في العراق. وفي الوقت نفسه قررت الحكومة العراقية القيام بإجراءات عسكرية احترازية لحماية العراق، وأصدرت بياناً إلى الشعب بهذا الخصوص، وقد أشار البيان إلى إخلال بريطانيا بنصوص معاهدة التحالف، وأن الحكومة قد قدمت احتجاجاً رسميا إلى الحكومة البريطانية. كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على التمسك بحقوق العراق وسيادته واستقلاله.

لكن الحكومة البريطانية تجاهلت مواقف الحكومة العراقية واحتجاجاتها وأنزلت قوات جديدة في البصر في 30 نيسان، وحاولت تلك القوات قطع الطريق على القوات العراقية المتواجدة هناك، لكن القوات العراقية استطاعت الانسحاب إلى المسيب، مقرها الدائم .  وهكذا أيقنت حكومة الكيلاني أن الصِدام بين الجيشين العراقي والبريطاني قد أصبح أمرأً حتمياً، وقررت اتخاذ عدد من الإجراءات العسكرية لحماية بغداد. (38)

 فقد أرسلت عدداً من قطعاتها العسكرية إلى المنطقة القريبة من [الحبانية] حيث توجد قاعدة جوية بريطانية كبيرة. لكن ثلاث أسراب من الطائرات البريطانية قامت على الفور بقصف تلك القوات المتمركزة في [ سن الذبان ] بجوار بحيرة الحبانية وذلك صباح يوم الجمعة المصادف  2 أيار 1941، وبذلك اشتعلت الحرب بين العراق وبريطانيا، وقام على الأثر السفير البريطاني بإصدار بيان موجه إلى الشعب العراقي كان قد أعده سلفاً، وهاجم فيه بشدة حكومة الكيلاني، واتهمها بشتى التهم، وبذلك كشف البيان عن جوهر السياسة البريطانية  وأهدافها الاستعمارية العدوانية تجاه العراق. وفي اليوم نفسه قدم السفير البريطاني إنذاراً للحكومة العراقية بسحب قواتها من أطراف الحبانية، وهدد باتخاذ أشد الإجراءات العسكرية ضدها. (39)

وعلى اثر تلك التطورات والأحداث المتسارعة أجتمع مجلس الوزراء واتخذ قرارات هامة للدفاع عن العراق كان منها:
1ـ إعادة العلاقات مع ألمانيا، والطلب بإرسال ممثلها السياسي على الفور، وطلب المساعدة منها.
2 ـ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي فوراً.
 3ـ نشر بيان صادر من رئيس الوزراء حول العدوان البريطاني على القوات العراقي.
4 ـ إرسال مذكرة احتجاج إلى الحكومة البريطانية على تصرفاتها تجاه العراق. (40)

وعلى الأثر قام الوزير العراقي المفوض في تركيا بمقابلة السفير الألماني [ فون بابن ] وطلب منه تقديم كل مساعدة ممكنة للصمود بوجه القوات البريطانية، وقد أبلغه السفير الألماني أن تقديم المساعدة يتطلب مدة من الزمن، وسأله كم من الزمن تستطيع القوات العراقية الصمود أمام القوات البريطانية، وأخيراً تم الاتفاق على إرسال عدد من الأسراب من الطائرات الحربية الألمانية للدفاع عن مدن العراق التي أخذت تتعرض لقصف الطائرات
البريطانية، ريثما يتمكن الألمان من تقديم مساعدة فعالة للحكومة العراقية.
وفي الوقت نفسه تلقى العراق كميات من الأسلحة عن طريق سوريا حيث كانت ألمانيا وإيطاليا قد استولت على تلك الأسلحة بعد انهيار فرنسا.

ورداً على سحب موجودات البنوك أعلن الكيلاني انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وحاول تغير العملة بالتعاون مع ألمانيا، لكن الزمن لم يمهله لتنفيذ ذلك، فقد تصاعدت الأزمة بعد أن فتحت القوات البريطانية النار على القوات العراقية المتواجدة في البصرة، واستطاع الفوج العراقي الموجود هناك الانسحاب من المنطقة في 2 أيار 1941.

أدى تصرف القوات البريطاني إلى هياج عام في صفوف الشعب العراقي، وتوالت فتاوى رجال الدين تدعو للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، وكان على رأسهم المرجع الديني الأكبر لطائفة الشيعة [أبو الحسن الموسوي الأصفهاني ] والإمام  [محمد حسين آل كاشف الغطاء]  اللذان دعيا الشعب العراقي للجهاد ضد المحتلين البريطانيين، كما ناصرت الشعوب العربية شعب العراق في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني.

استطاعت القوات البريطانية تعزيز وجودها في البصرة، بدأت بالزحف بقواتها الآلية نحو [العشار] فجر يوم الأربعاء المصادف 7 أيار  ،1941 وتمكنت من احتلال جميع المرافق الحساسة، والجسور بعد معارك دامية مع الأهالي سقط خلالها عدد كبير من الشهداء والجرحى في معركة غير متكافئة مع جيش كبير ومنظم، وعلى أثر ذلك أمرت الحكومة موظفيها في البصرة بالانسحاب والعودة إلى بغداد.

كما قررت  في 9 أيار إنهاء خدمات الضباط البريطانيين في الجيش  العراقي، وفي 11 منه قررت الاستغناء عن خدمات جميع الموظفين والمستخدمين البريطانيين، كما قررت في  13 أيار تخويل رئيس الوزراء صلاحية عقد اتفاقات لشراء الأسلحة من الدول الأجنبية.

استمرت المعارك مع القوات البريطانية حول [الحبانية]، لكنها لم تكن متكافئة على الإطلاق، ففي الوقت الذي كان الجيش العراقي يمتلك الإرادة الشجاعة للدفاع عن الوطن، كان يعوزه السلاح والعتاد، في حين كانت القوات البريطانية تمتلك كل أنواع الأسلحة والطائرات، والخبرة القتالية، فقد أخذت الطائرات البريطانية تقصف القطعات العسكرية العراقية حول [سن الذبان ] منذ صباح يوم 2 أيار، كما أرسلت القيادة البريطانية في فلسطين قوة عسكرية أخرى تتألف من لواء خيالة وعدة كتائب مختلفة مجهزة بالآليات والمدفعية مع قوة أخرى من رجال الفرقة العربية التي كان يقودها  القائد البريطاني [كلوب باشا] في شرق الأردن.
وفي 19 أيار بدأ الجيش البريطاني هجوماً واسعاً تحت غطاء جوي كثيف من الطائرات الحربية ضد الجيش العراقي، وخاض الطرفان معركة غير متكافئة استطاعت خلالها القوات البريطانية دحر القوات العراقية، وأسرت 320 جندياً و23 ضابطاً، وانسحبت بقية القوات باتجاه بغداد، وبذلك استطاعت القوات البريطانية احتلال [الفلوجة ]الواقعة على مقربة من بغداد في 20 أيار 1941.

وفي اليوم التالي شنت القوات العراقية هجوماً معاكساً في محاولة لاستعادة الفلوجة، وكانت تلك القوات تتألف من فوجين  ومعززة بثمانية دبابات، لكنها فشلت في هجومها بعد أن استشهد  273  جنديا و11 ضابطاً، وتدمير7 دبابات.

بعد اندحار القوات العراقية في معركة الفلوجة بدأت الحكومة تنظيم دفاعاتها حول بغداد، حيث أصبحت القوات البريطانية على بعد 60 كيلومتر من العاصمة، لكن القوات البريطانية عاجلتها بهجوم كبير على ثلاثة محاورمن منطلقةً من الفلوجة يوم 27 أيار، ومهدت القوات البريطانية هجومها بقصف مركز بالطائرات على مدينة بغداد لأحداث أكبر تأثير نفسي على قوات الجيش العراقي والحكومة وأبناء الشعب، وبدا في تلك الساعات أن الأمر قد أفلت من أيدي الكيلاني والعقداء الأربعة حيث أصبح احتلال بغداد مسألة وقت لا غير، ولذلك فقد قرر الكيلاني والعقداء الأربعة الهروب ومغادرة بغداد، والنجاة بأرواحهم تاركين البلاد والشعب تحت رحمة المحتلين، حيث رحل العقداء الأربعة إلى إيران مساء يوم 29 أيار 1941، ثم تبعهم رشيد عالي الكيلاني وأمين الحسيني، وشريف شرف، ومحمد أمين زكي، ويونس السبعاوي.

بدأت لجنة شكلت في بغداد برئاسة [أرشد العمري] مفاوضات مع السفارة البريطانية في بغداد على شروط وقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة تمهيداً لدخول القوات البريطانية إلى بغداد، وعودة الأمير عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
وفي 30 أيار توقف القتال بصورة نهائية، وعاد الوصي إلى بغداد في 1 حزيران 1941 تحت حراب المحتلين البريطانيين، وكان برفقته كل من نوري السعيد، وعلي جودت الأيوبي، وداؤد الحيدري، وهكذا تخلص البريطانيون وعبد الإله من العقداء الأربعة والكيلاني، الذين لعبوا دور كبيراً في الحياة السياسية في البلاد، وتم إحكام الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد.

لم يهدأ لبريطانيا والوصي عبد الإله بال إلا بعد أن تم اعتقال العقداء الأربعة فقد بدأت المخابرات البريطانية تتابعهم حتى تسنى لها القبض عليهم واعتقالهم في إيران، كما تم اعتقال يونس السبعاوي، وصديق شنشل، مدير الدعاية العام الذي عينه الانقلابيون، وتم إحالة العقداء الأربعة إلى المجلس العرفي العسكري، الذي سبق أن حكم عليهم بالإعدام . كما حكم المجلس العرفي العسكري على يونس السبعاوي بالإعدام أيضاً، وعلى صديق شنشل بالسجن لمدة 5 سنوات. و جرى إعدام العقداء الأربعة  في 6 كانون 1942، وبذلك تخلص الوصي من نفوذهما إلى الأبد.

أما رشيد عالي الكيلاني فقد تمكن من الوصول إلى تركيا، واستطاع السفير الألماني [فون بابن] أن ينقله مع أمين الحسيني إلى ألمانيا، حيث مكث فيها إلى أن أوشكت الحرب على نهايتها، وبات اندحار ألمانيا أمر حتمي، حيث هرب إلى سويسرا ومنها إلى السعودية.

تم إدارة البلاد إدارة عسكرية صرفه، وتم تشكيل المحكمة العرفية العسكرية برئاسة العقيد [ مصطفى راغب]، وقامت الحكومة بحملة اعتقالات واسعة جداً شملت كل من كانت له علاقة بالنظام السابق، أو أيّد حكومة الكيلاني، وقد بلغ عدد المعتقلين أكثر من 20 ألفاً، بحيث عجزت السجون، ومراكز الشرطة عن استيعابهم، وبدأت المحكمة العرفية تصدر الأحكام الجائرة، وترسل بآلاف المواطنين إلى غياهب السجون، واستمرت الأحكام العرفية سارية المفعول حتى شهر آذار من عام 1946.

كما قامت الحكومة بإلغاء امتيازات الصحف التي كانت تصدر على عهد حكومة الكيلاني، ومنحت امتيازات جديدة لصحفيين طارئين كانت مهمتهم التشنيع بحكومة الكيلاني والعقداء الأربعة، ومداهنة الإنكليز، وفرضت الرقابة الصارمة على المطبوعات، ومنعت أي إشارة أو دعاية ضد البريطانيين، ومنعت التجمع لأكثر من أربعة أشخاص، ولجأت الحكومة إلى إصدار المراسيم بدلا من الرجوع إلى مجلس الأمة الذي حاول الكيلاني حله ورفض الوصي ذلك،  فقد أصدرت الحكومة منذ 2 حزيران وحتى 7 تشرين الأول 1941 أحد عشر مرسوماً، كان من بينهم مرسوم تعديل مرسوم الإدارة العرفية الذي سمح بموجبه بمحاكمة القائمين بحركة الكيلاني، ومرسوم يقضي بفصل المشتركين والمساندين لحركة الكيلاني من مناصبهم، ومرسوم ثالث يقضي بإعادة الضباط الكبار الذين سبق لحكومة الكيلاني إحالتهم على التقاعد، إلى الخدمة وغيرها من المراسيم الأخرى.

 كما قامت الحكومة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش الذين كان لهم دور في دعم وإسناد حكومة الكيلاني، أو المشكوك في ولائهم للإنكليز والوصي على التقاعد.
وفي المقابل قررت الحكومة إعادة الضباط والمستشارين الإنكليز الذين طردتهم حكومة الكيلاني إلى مراكزهم السابقة، كما أعادت الموظفين والمستخدمين الإنكليز إلى أعمالهم السابقة أيضاً .
أما المحتلين فقد حولوا مدينة بغداد إلى معسكر كبير لقواتهم، فقد تم نقل ما يزيد على 100 ألف جندي إليها، وسمحت الحكومة ببقاء تلك القوات حتى نهاية الحرب، كما سمحت الحكومة للمحتلين أن يشاركوا في إدارة ميناء البصرة، وبذلك أصبح المحتلون هم الحكام الحقيقيون في لبلاد، وصارت الحكومة ألعوبة في أيديهم تنفذ لهم كل ما يطلبون.
 وفي ظل تلك الظروف القاسية تدهورت الأحوال المعيشية لأبناء الشعب حيث ارتفعت الأسعار، وفقدت السلع والحاجيات الضرورية، والمواد الغذائية، وبات تدبير أمور المعيشة لسائر الطبقات الفقيرة والمتوسطة أمر صعب للغاية.

 ومع كل تلك الخدمات التي قدمتها حكومة المدفعي للمحتلين، إلا أن السفارة البريطانية لم تكن راضية عن إجراءاتها بحق الذين ساندوا حكومة الكيلاني ودعموه، ورأت أن المدفعي لا يمارس القمع المطلوب ضد المعارضين للاحتلال البريطاني الجديد للبلاد، وتدل البرقية التي طيرتها السفارة إلى وزارة الخارجية البريطانية بتاريخ 8 آذار 1941 على الموقف الحقيقي للسفارة من حكومة المدفعي، ورغبتها في إبداله والمجيء بنوري السعيد، رجل بريطانيا المعتمد عليه كل الاعتماد، فقد جاء في تلك  البرقية ما يلي:

 {لقد تصرفت حكومة المدفعي الخامسة وكأن أحداث أيار شبيهة بأي انقلاب حكومي آخر، حيث تذهب حكومة وتأتي حكومة أخرى، وهو أمر أصبح مألوفاً بعد وفاة الملك فيصل الأول، وينظر المدفعي إلى أحداث أيار 1941 وكأنها فصل آخر من مسرحية مؤسفة، فيدعو إلى إسدال الستار عليها بوحي من الشهامة والكرامة، حتى أصبح الموظفون يتقاعسون عن أداء واجباتهم حين يرون الوزراء يتوسطون لأشد المعادين لبريطانيا، وعلاوة على ذلك فقد حدّ المدفعي من تدخل السفارة العلني في أمور العراق الداخلية، واستمر في غض النظر عن توصياتها الملحة في ضرورة تشديد القبضة على جميع العناصر المناوئة للإنكليز، وتطهير الجيش منهم، مما حمل السفارة على العمل على إسقاط الحكومة من الداخل، عن طريق إحداث خلاف بين أعضائها، وإثارة المشاكل أمامها، مما يودي إلى إضعافها، وبالتالي إسقاطها}. (41)

بهذا الأسلوب سعت السفارة البريطانية إلى إسقاط حكومة المدفعي باختلاق الخلافات بين أعضائها، وخاصة الوزير[إبراهيم كمال] الذي اتهم المدفعي بالتهاون إزاء الانقلابيين، ودخل في مهاترات معه، مما دفع المدفعي إلى التوجه إلى الوصي باستقالة حكومته في  21 أيلول 1941، وتم قبول الاستقالة، وطلبت السفارة البريطانية من الوصي تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة الجديدة، فقد حان الوقت ليعود نوري السعيد إلى المسرح السياسي من جديد، ويؤدي الدور الموكول له في قمع الحركة الوطنية، والتنكيل بكل خصوم الإنكليز الذين وقفوا إلى جانب الكيلاني وساندوه، وتصفية كل العناصر الوطنية المناهضة للاحتلال في صفوف الجيش.


142
نوري الالسعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثالثة عشرة
حامد الحمداني                                                                25/9/2015

نوري السعيد والموقف من الحرب العالمية الثانية
لم تكد بريطانيا تعلن الحرب على ألمانيا، واشتعال لهيب الحرب في أنحاء أوربا، حتى بادر السفير البريطاني للاتصال بنوري السعيد على الفور طالباً منه تطبيق معاهدة التحالف المبرمة بين البلدين في 30 حزيران 1930، وإعلان الحرب على ألمانيا، وقد طمأن نوري السعيد السفير البريطاني، ووعده بقطع العلاقات مع ألمانيا، وإعلان الحرب عليها بأسرع وقت. (1)
وعلى الفور أبلغ نوري السعيد الوصي عبد الإله برغبة بريطانيا بإعلان الحرب على ألمانيا، وتقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الإله في 5 أيلول 1939، وطرح نوري السعيد أمام مجلس الوزراء الطلب البريطاني، لكن خلافاً حاداً حدث داخل مجلس الوزراء، فقد رفض وزير الدفاع [طه الهاشمي ] ووزير العدل [ محمود صبحي الدفتري ] فكرة إعلان الحرب على ألمانيا، طالبين الاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، وأعلنا أنهما سيقدمان استقالتهما إذا ما أصر نوري السعيد على إعلان الحرب. (2)

 وإزاء ذلك الموقف اضطر نوري السعيد للتراجع مؤقتاً، والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية، وسارع بالطلب من السفير الألماني [الدكتور كروبا] بمغادرة البلاد تحت حراسة الشرطة نحو سوريا، كما قام نوري السعيد باعتقال كافة الرعايا الألمان، وسلمهم للقوات البريطانية المتواجدة في قاعدة الحبانية، ثم جرى تسفيرهم إلى الهند كأسرى حرب.
أما عبد الإله فقد سارع إلى إرسال برقية إلى الملك جورج، ملك بريطانيا، يبلغه أن العراق سوف يلتزم تماماً بمعاهدة الصداقة والتحالف المعقودة مع بريطانيا عام 1930، وسوف يقدم العراق كل ما تتطلبه المعاهدة. (3)

كما أذاع نوري السعيد بياناً للحكومة في 17 أيلول أعلن فيه التزام العراق بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعداد الحكومة للقيام بما تمليه تلك المعاهدة من واجبات تجاه الحليفة بريطانيا.
 سبب موقف نوري السعيد وحكومته موجة من السخط العارم على تلك السياسة المتعارضة مع المصلحة الوطنية، والتي تهدف إلى زج العراق في الحرب الإمبريالية. أما نوري السعيد فقد أقدم على تعطيل مجلس النواب الذي نظمت وزارته انتخابه قبل مدة وجيزة، ولجأ إلى إصدار المراسيم المخالفة للدستور، والهادفة إلى قمع كل معارضة لسياسته الموالية لبريطانيا، وكان من بين تلك المراسيم مرسوم مراقبة النشر رقم 54 لسنة 1939، ومرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1939، منتهكاً بذلك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للشعب. (4)

وتطبيقاً لمعاهدة 1930، فتح نوري السعيد الباب على مصراعيه للقوات البريطانية لكي تحتل العراق من جديد، وليصبح العراق طرفاً في حرب استعمارية لا ناقة له فيها ولا جمل كما يقول المثل.
لم تترك الحرب العالمية الثانية بعد أن أمتد لهيبها ليشمل أوربا وأسيا وأفريقيا  بلداً إلا وكان لها تأثير كبير عليه، سواء كان عسكرياً أم اقتصادياً، أم اجتماعياً، وكان العراق غارقاً في خضم تلك الحرب بعد أن احتلته القوات البريطانية احتلالاً كاملاً لمنع القوات الألمانية من الوصول إليه، حيث يمتلك العراق مصادر الطاقة [النفط] التي كانت ألمانيا بأمس الحاجة لها لإدامة آلتها الحربية.

لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين من تلك الحرب حيث أفتقد المواد الغذائية،والملابس، وغيرها من الحاجات المادية الأخرى، وأصبحت تلبية تلك الحاجات أمراً صعباً للغاية، واضطرت الحكومة إلى تطبيق نظام الحصص[الكوبونات] لكي تحصل الأُسر العراقية على حاجتها من المواد الغذائية والأقمشة لصنع الملابس، واشتهرت تلك الأيام بـ[ أيام الخبز الأسود] بسبب النقص الخطير في الحبوب، ورداءة نوعية الطحين. كما أن حكومة نوري السعيد كانت قد سخرت موارد البلاد لخدمة الإمبريالية البريطانية وحربها، مما أثار غضب الشعب العراقي وحقده على الإنكليز، والنظام الملكي. وفي تلك الأيام جرى اغتيال وزير المالية [ رستم حيدر] في 18 كانون الثاني 1940،على يد مفوض الشرطة [حسين فوزي توفيق] في مكتبه بالوزارة، وقد تم اعتقال القاتل.

 حاول نوري السعيد أن يستغل الحادث لتوجيه تهمة التحريض على القتل لعدد من الشخصيات السياسية المعارضة، حيث أقدم على اعتقال كل من الوزيرين السابقين[ صبيح نجيب ] و[إبراهيم كمال ]، والمحاميين المعروفين [ نجيب الراوي ] و[شفيق السعيدي] موجهاً لهم تهمة التحريض على قتل الوزير. وقام نوري السعيد بمقابلة القاتل في السجن وضغط عليه، ووعده بالتخفيف عنه لكي يعترف بأن صبيح نجيب، وإبراهيم كمال قد حرضاه على قتل [رستم حيدر]. (5)

 أثار تصرف نوري السعيد هذا حفيظة العديد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، بالإضافة إلى وزير الداخلية في حكومة السعيد [ناجي شوكت] حيث وجدوا أن نوري السعيد يريد استخدام حادث القتل لتصفية عدد من خصومه السياسيين، ولذلك فقد لجئوا إلى الوصي عبد الإله، مستنكرين أعمال نوري السعيد بزج أسماء أولئك الذين اتهمهم بالتحريض على قتله، وكان من بين أولئك الذين قابلوا الوصي، وشكوه من تصرفات نوري السعيد كل من ناجي السويدي، وجميل المدفعي، وتوفيق السويدي، وكلهم من رؤساء الوزارات السابقين. (6)

ورغم كل تلك الاحتجاجات حاول نوري السعيد إحالة هؤلاء المعتقلين إلى المجلس العرفي العسكري لمحاكمتهم بتهمة التحريض، إلا أن وزير الخارجية[ علي جودت الايوبي ]، ووزير المواصلات والأشغال[ جلال بابان] عارضا بشدة محاولة نوري السعيد، وطالبا بإحالة القضية إلى محكمة مدنية.

 كما هدد وزير العدل [محمود صبحي الدفتري ] بالاستقالة إذا ما مضى السعيد بخططه، وقد أيد موقف الوزير اثنان آخران من الوزراء، وبذلك فشلت خطط نوري السعيد، وأصبح من المتعذر عليه الاستمرار في الحكم بتلك التشكيلة الوزارية، فتوجه باستقالة حكومته إلى الوصي في 18 شباط 1940. (6)

استقالة وزارة نوري السعيد:
قبل أن يقدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الوصي، دعا مساء يوم 14 شباط القادة العسكريين الذين كان يتوكأ عليهم، وهم العقداء [ صلاح الدين الصباغ ] و[ فهمي سعيد ] و  [محمود سلمان ] و[ كامل شبيب ] و[ سعيد يحيى ] و [إسماعيل نامق ] إلى العشاء معه في داره، وفي أثناء المأدبة فاتحهم بموضوع وزارته وأوضاعها، بعد مقتل [رستم حيدر] معرباً عن رغبته في الاستقالة، وأبلغهم أنه اتفق مع [ طه الهاشمي ] على إسناد رئاسة الوزارة إلى [رشيد عالي الكيلاني]، وقد عبر قادة الجيش عن معارضتهم لاستقالة نوري السعيد ودعمهم له.

لكن نوري السعيد عاد بعد يومين إلى فكرة الاستقالة، وفي الوقت نفسه قام وزير الدفاع [ طه الهاشمي ] بجمع قادة الجيش  في 18 شباط وشرح لهم ضرورة استقالة الحكومة، وتأليف حكومة جديدة قوية، ولما بلغ أسماع رئيس أركان الجيش [الفريق حسين فوزي] تلك التحركات، أستدعى أولئك القادة العسكريين، وأبلغهم أن في نية نوري السعيد الاستقالة، وتكليف[رشيد عالي الكيلاني] بتشكيل الوزارة الجديدة على أن يشغل نوري السعيد وزارة الخارجية، و[طه الهاشمي ] وزارة الدفاع ،وأبدى رئيس أركان الجيش الفريق[حسين فوزي]، وقائد الفرقة الأولى اللواء [أمين العمري] رغبتيهما في عدم إشراك هذين القطبين اللذين استخدما الجيش في المسائل السياسية، وضرورة إبعاد الجيش عن السياسة. (7)
ولما علم نوري السعيد بتحركات الفريق حسين فوزي والفريق  أمين العمري قرر سحب استقالة حكومته، وأصدر قراراً بإحالة كل من [حسين فوزي] و[أمين العمري] و[عزيز ياملكي] على التقاعد  في الوقت الذي كان هؤلاء يخططون لعمل ضد حكومته، لكن السعيد كان أسرع منهم حيث وجه لهم ضربته، وعاد يمتلك السلطة والقوة من جديد حيث كلفه عبد الإله بتأليف الوزارة  الجديدة. (8)

نوري السعيد يؤلف الوزارة من جديد
حاول عبد الإله في بادئ الأمر تشكيل وزارة محايدة برئاسة الشيخ [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، إلا أن الصدر اعتذر عن هذه المهمة بسبب ضغوط العسكريين الموالين لنوري السعيد، كما اعتذر [رشيد عالي الكيلاني] عن المهمة لنفس السبب.

أما نوري السعيد فقد ذهب لمقابلة الوصي عبد الإله وأبلغه أن الجيش معه، فلم يجد الوصي سبيلاً سوى تكليف نوري السعيد من جديد في 22 شباط 1940، وتم تشكيل وزارته الخامسة  بنفس اليوم، لكن هذه الوزارة كانت قصيرة العمر، حيث لم تمكث في الحكم سوى خمسة أسابيع،عمل خلالها نوري السعيد جاهداً على إدانة المتهمين بالتحريض على قتل [رستم حيدر] لكنه لم يوفق في ذلك بعد أن طلبت منه الحكومة البريطانية إجراء محاكمة مدنية لهم . (9)

واضطر نوري السعيد إلى سحب الدعوة من المجلس العرفي، وأحالها إلى المحاكم المدنية التي نظرت في الدعوة، وقررت براءتهم من التهمة الموجه لهم، إلا أنها حكمت على وزير الدفاع السابق [ صبيح نجيب] بالسجن لمدة  سنة واحدة بسبب تهجمه على حكومة نوري السعيد، حيث اعتبرت المحكمة ذلك التهجم إثارة للرأي العام ضد الحكومة.

 أما القاتل فقد حكم علية بالإعدام، ونفذ الحكم به فجر يوم الأربعاء 27 آذار 1940، وقد تفوه القاتل قبيل تنفيذ الحكم بعبارات تثير الشكوك في أن يكون لنوري السعيد يد في تدبير اغتيال رستم حيدر، وبإعدامه أسدل الستار على هذه القضية التي أراد نوري السعيد استخدامها وسيلة للتنكيل بخصومه السياسيين، وأصبحت حكومة نوري السعيد في موقف ضعيف جداً بعد افتضاح اللعبة التي لعبها مما اضطره ذلك إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي في 31 آذار 1940، حيث تم قبول الاستقالة في نفس اليوم، وباشر الوصي مشاوراته لتأليف وزارة جديدة حيث دعا رؤساء الوزارات السابقين السادة [علي جودت الأيوبي] و[توفيق السويدي] و[ناجي السويدي] و[جميل المدفعي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني] و[ناجي شوكت] وتباحث معهم في أمر تأليف وزارة ائتلافية تضم جميع الأطراف، وتستطيع مجابهة الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، حيث استقر الرأي على تكليف [ رشيد عالي الكيلاني]، وقيل آنذاك أن السفير البريطاني هو الذي أشار على الوصي بتأليف وزارة قومية تضم جميع الأطراف والتكتلات. (10)

رشيد عالي الكيلاني يؤلف وزارة جديدة
 في 31 آذار 1940 صدرت الإرادة الملكية بتكليف رشيد عالي الكيلاني الذي كان يشغل منصب رئيس الديوان الملكي آنذاك بتأليف الوزارة الجديدة، واحتفظ الكيلاني بوزارة الداخلية، وأصبح نوري السعيد وزيراً للخارجية، وطه الهاشمي وزيراً للدفاع، فيما شغل ناجي السويدي   وزارة المالية، وناجي شوكت وزارة العدل. وهكذا جاءت الوزارة الكيلانية الجديدة وهي تضم أربعة من رؤساء الوزارات السابقين، ومختلف الكتل، وحاولت تحسين صورتها أمام الرأي العام العراقي، فأقدمت على إلغاء الأحكام العرفية في الموصل وبغداد، وأطلقت سراح العديد من المعتقلين السياسيين الذين أدانتهم المجالس العرفية.

 لكن الحكومة بدأت باكورة أعمالها بإصدار مرسوم [ صيانة الأمن العام وسلامة الدولة] في 30 أيار 1940، وجاء هذا المرسوم أشد وطأة من المرسوم الذي أصدره نوري السعيد، والذي رفضته المحكمة العليا فيما بعد لمخالفته أحكام الدستور، في 11 أيلول 1939، حيث خول المرسوم الجديد صلاحية اعتقال الأشخاص المشتبه بكونهم يمثلون خطراً على الأمن العام ونفيهم، أو سجنهم لمدد تصل إلى 5 سنوات، وفرض المرسوم قيوداً جديدة على الصحف، وكافة وسائل النشر ومراقبة الرسائل البريدية، والتلفون، والبرقيات، ومراقبة المطبوعات والمطابع، وصلاحية غلقها، ومنع الاجتماعات والتجمعات، وتفريقها بالقوة، وغلق النوادي والجمعيات، ومنع التجول، وتفتيش الأشخاص والمساكن والمحلات، وغيرها من الإجراءات الأخرى المخالفة للدستور، وخول المرسوم وزير الداخلية صلاحية اتخاذ كل ما يلزم لتنفيذ هذا المرسوم، واعتبر هذا المرسوم لطخة سوداء في تاريخ الوزارة الكيلانية.

لم تكد تمضي سوى مدة شهرين على تشكيل الوزارة الكيلانية حتى دبت الخلافات بين أركانها بسبب الموقف من إيطاليا التي أعلنت الحرب على بريطانيا وفرنسا في 10 حزيران 1940 ، ودخلت الحرب إلى جانب ألمانيا. فقد سارع السفير البريطاني إلى الاجتماع بنوري السعيدـ وزير الخارجية ـ وطلب منه قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا، وطلب منه أيضا أن يصله جواب الحكومة قبل الساعة الثانية عشرة من ظهر ذلك اليوم. (11)
 وعلى الفور قام نوري السعيد بإبلاغ رئيس الوزراء بطلب السفير البريطاني، وتقرر أن يجتمع مجلس الوزراء فوراً برئاسة الوصي عبد الإله لدراسة الطلب البريطاني، واتخاذا قرار بشأنه. وخلال النقاش الذي أجراه مجلس الوزراء ظهر انقسام شديد بين أعضائه، فقد انقسم المجلس إلى تيارين، التيار الأول دعا  إلى إعلان قطع العلاقات مع إيطاليا فوراً، تنفيذاً لطلب بريطانيا وتزعم هذا التيار [نوري السعيد] وضم [محمد أمين زكي] و[صادق البصام] و[رؤوف البحراني] و[عمر نظمي] .

 أما التيار الثاني والأقوى بزعامة رئيس الوزراء[ رشيد عالي الكيلاني]  وضم [ طه الهاشمي ] و[ناجي شوكت] و[ناجي السويدي] فقد دعا إلى التريث، وعدم التسرع في اتخاذ أي قرار، ولاسيما وأن الحرب قد اتخذت لها مساراً خطيراً، بعد أن استطاعت ألمانيا اجتياح معظم البلدان الأوربية، مؤكدين على ضرورة أن تراعي الحكومة مصلحة البلاد، وتراقب أوضاع الحرب وتطوراتها لكي لا تنعكس سلباً على العراق.

تأزمت الخلافات داخل مجلس الوزراء بين التيارين، وهدد الوزير [محمد أمين زكي] بالاستقالة إذا لم تقرر الوزارة الاستجابة لطلب بريطانيا. غير أن  مجلس الوزراء لم يتوصل إلى أي قرار، وتم الاتفاق على عقد جلسة أخرى مساء اليوم نفسه، وفي مقر مجلس الوزراء، وتم عقد الاجتماع في الموعد المقرر، وواصل مناقشة الموضوع، واتخذت الحكومة قرارها بالتريث في مسألة قطع العلاقات مع إيطاليا، مع الإقرار بتمسك الحكومة بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعدادها للقيام بما تمليه عليها معاهدة 1930 المعقودة مع بريطانيا.

 أثار قرار الحكومة غضب السفير البريطاني الذي أسرع لمقابلة رئيس الوزراء في 12 حزيران، وعبر له عن دهشة، وقلق بريطانيا من القرار، وتردد الحكومة في قطع العلاقات مع إيطاليا، وأبلغه بأن هذا الموقف من جانب الحكومة يؤثر تأثيراً بالغاً على صدقيه الحكومة في تنفيذ بنود معاهدة التحالف الموقعة عام 193.

لكن الكيلاني أجابه على الفور أن الحكومة تقرر ما تراه موافقاً لمصلحة البلاد، فكان أن سأله السفير فيما إذا كان هذا الموقف يمثل رأيه  الشخصي أم رأي الحكومة ؟  وقد رد عليه الكيلاني أن القرار قد اتخذته الحكومة، وأنا أرى شخصياً أن لا يورط العراق نفسه في عمل من شأنه أن يؤثر على حاضره ومستقبله، ويقلق الرأي العام العراقي.
أثار تصرف رئيس الوزراء الكيلاني هذا غضب المستر [تشرشل ] رئيس الوزراء البريطاني حيث صرح قائلاً :{إن حكومة الكيلاني تتصرف بروح استقلالية لم يسبق لأي رئيس وزارة عراقية أن تصرف بمثلها من قبل }. (12)

وحاولت الحكومة البريطانية الضغط على حكومة العراق بأساليبها العسكرية، فقد أبلغت السفارة البريطانية وزارة الخارجية العراقية بكتابها المرقم 284 في 21 حزيران 1940أن الحكومة البريطانية قررت إنزال قواتها العسكرية في البصرة، لغرض التوجه إلى حيفا، وطلبت أن تسمح الحكومة للقوات الجوية البريطانية بتأسيس معسكرات للاستراحة في البصرة وبغداد والموصل، وتأسيس خطوط مواصلات عبر الصحراء بين بغداد وحيفا،وقد أجابت الحكومة العراقية بالموافقة على الطلب البريطاني في 22 تموز،عملاً ببنود معاهدة 1930، وكان ذلك أكبر خطأ ارتكبته حكومة الكيلاني، فقد كان الهدف الحقيقي من جلب القوات البريطانية لغرض فرض الهيمنة البريطانية المطلقة على العراق، وإسقاط حكومته، كما سنرى فيما بعد.

تطورات العلاقة العراقية الألمانية والعراقية البريطانية
لم يمضِ سوى أسبوع واحد على دخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا حتى استطاعت الأخيرة دحر القوات الفرنسية، واحتلال العاصمة الفرنسية باريس. وفي تلك الأيام وصل إلى العراق [الحاج أمين الحسيني ] مفتي فلسطين هرباً من ملاحقة القوات البريطانية له، وكان معروفاً عنه أنه كان على علاقة جيدة مع ألمانيا غريمة بريطانيا، وقد نصح الحسيني الكيلاني بأن يجري اتصالاً مع السفير الألماني في تركيا [فون بابن ] للوقوف على وجهة نظر ألمانيا تجاه مستقبل البلاد العربية، وسوريا على وجه الخصوص، حيث كانت تحت الانتداب الفرنسي. (13)

جرى الاتفاق بين الكيلاني والحسيني أن ترسل الحكومة وفداً مؤلفاً من وزير الخارجية[نوري السعيد] ووزير العدل [ ناجي شوكت] إلى تركيا بحجة التباحث مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا بعد انهيار فرنسا،على أن يقوم ناجي شوكت بعد انتهاء المباحثات وعودة نوري السعيد بزيارة إلى [اسطنبول] لبضعة أيام بدعوى الراحة والاستجمام لغرض الالتقاء مع السفير الألماني [فون بابن] دون علم نوري السعيد لعدم ثقة الكيلاني به، وقد زود أمين الحسيني السيد ناجي شوكت برسالة إلى السفير[فون بابن]  الذي تربطه به علاقات وثيقة.

 وبعد سفر الوفد إلى تركيا أجرى محادثات مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا، بعد انهيار فرنسا، وقد عاد نوري السعيد إلى بغداد بعد انتهاء المباحثات، فيما توجه ناجي شوكت إلى اسطنبول، بحجه قضاء بضعة أيام فيها للراحة والاستجمام، والتقى بالسفير الألماني هناك وبحث معه موقف ألمانيا من البلاد العربية، وأبلغه أن العرب يطمحون إلى التخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي ، وهو يود معرفة موقف ألمانيا من الأماني العربية، وناشده أن تصدر ألمانيا وإيطاليا بياناً حول الموضوع، وقد وعده السفير الألماني بنقل ما دار في اللقاء إلى حكومته، وأن يبذل جهده لحمل الحكومة الألمانية على تحقيق الأماني العربية.
وفي ختام اللقاء ترك إلى السفير العراقي [كامل الكيلاني] مهمة مواصلة اللقاءات مع السفير الألماني، وعاد إلى بغداد في 12 تموز، واطلع رفاقه الكيلاني، والهاشمي، وناجي السويدي على ما دار في ذلك اللقاء. (14)

 أما السفير[ فون بابن ] فقد توجه بعد اللقاء إلى ألمانيا ليجري اتصالاته مع الحكومة حول لقائه مع الوزير العراقي، واستطاع أن يقنع الحكومة بأن تصدر بياناً ألمانياً إيطالياً مشتركاً حول موقف دول المحور من البلاد العربية، ومستقبلها. ثم عاد إلى اسطنبول وأبلغ السفير العراقي كامل الكيلاني، شقيق رئيس الوزراء، بقرار الحكومة الألمانية، وقام السفير بدوره بإبلاغ أخيه بالأمر.

وبناء على ذلك قرر رشيد عالي الكيلاني إرسال ناجي شوكت إلى اسطنبول مرة أخرى بحجة الراحة والاستجمام للقاء السفير[ فون بابن] وتقديم مسودة بالأسس التي تود الحكومة العراقية أن يتضمنها البيان، وكان في مقدمتها الاعتراف الصريح من جانب ألمانيا وإيطاليا باستقلال البلاد العربية، وحق العرب في إقامة وحدتهم القومية، ورفض إقامة كيان صهيوني في فلسطين.

غادر ناجي شوكت إلى اسطنبول في 2 آب 1940، حيث التقى بالسفير الألماني، وسلمه مسودة البيان الذي تقترحه الحكومة العراقية، وطلب منه إرساله إلى حكومته، وأبلغه أن الحكومة العراقية بانتظار صدور البيان الألماني الإيطالي المنتظر، الذي يتضمن هذه الأسس التي نقلها إليه.  وفي 23 تشرين الأول 1940 أذيع  من راديو برلين وراديو روما البيان الموعود، لكن البيان جاء بعبارات عمومية لم تتضمن الأسس التي جاءت بها المسودة التي نقلها الوزير العراقي للسفير الألماني[ فون بابن]  الذي أعلم السفير العراقي أن هذا البيان هو مجرد بداية !!. (15)

تدهور العلاقات العراقية البريطانية

على اثر قرار حكومة الكيلاني بالتريث في قطع العلاقات مع إيطاليا رغم إلحاح السفير البريطاني، بدأت العلاقات العراقية البريطانية تأخذ بالتأزم، ولاسيما بعد أن وصل إلى علم الحكومة البريطانية الاتصالات التي أجراها ناجي شوكت مع السفير الألماني في تركيا  [فون بابن ]. لقد أدرك السفير البريطاني صعوبة التعاون مع حكومة الكيلاني، وأخذ يتحين الفرصة لإسقاطها، وبالمقابل أخذت حكومة الكيلاني تضيق على تحركات الإنكليز، ووسائل دعاياتهم ضد دول المحور متذرعة بعدم رغبة الحكومة بخلق مشاكل لها مع هذه الدول .

 وازدادت الأزمة تصاعداً عندما رفضت بريطانيا تزويد الجيش العراقي بالأسلحة التي كان بأمس الحاجة لها، حيث قيدت معاهدة 1930 العراق بشراء الأسلحة البريطانية فقط ، فلما وجدت حكومة الكيلاني أن الباب موصود أمامها للحصول على السلاح البريطاني لجأت إلى إيطاليا واليابان لشراء الأسلحة منهما، وكان رد الفعل البريطاني على خطوة حكومة الكيلاني أن امتنعت الحكومة البريطانية عن شراء القطن العراقي رغم تدني أسعاره، مما دفع بحكومة الكيلاني إلى عقد اتفاقية مع اليابان باعت بموجبها جميع محصول القطن، ومحصول التمور لها، مما أثار غضب الحكومة البريطانية إلى أقصى الحدود، ولاسيما وأن اليابان كانت قد دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.

ومن جانب آخر أقدمت حكومة الكيلاني على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، مما أوصل العلاقات بين العراق وبريطانيا إلى أقصى درجات التأزم، بحيث أبلغ السفير البريطاني نوري السعيد بأن الحكومة البريطانية لم تعد تثق بحكومة الكيلاني، وأن على العراق  أن يختار بين الاحتفاظ بحكومة الكيلاني أو الاحتفاظ بصداقة بريطانيا العظمى. (15)
وهكذا بدأ الصراع المكشوف بين الحكومة البريطانية والسفير البريطاني وسارع الكيلاني إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء لبحث التدخل البريطاني السافر بشؤون العراق الداخلية، وتقرر تقديم احتجاج رسمي إلى الحكومة البريطانية على تصرفات سفيرها في بغداد. (16)
ولممارسة المزيد من الضغوط على حكومة الكيلاني لجأت بريطانيا إلى الولايات المتحدة داعية إياها للضغط على حكومة الكيلاني، حيث اتصل السفير الأمريكي بالكيلاني، وطلب منه التعاون مع الحكومة البريطانية، ومنع دعاية الكراهية لبريطانيا بين صفوف الشعب العراقي. وقد أكد الكيلاني للسفير الأمريكي أن الحكومة لا تنوي الإضرار بالمصالح البريطانية، وأنها حريصة على تطبيق بنود معاهدة 1930 لكن شائعات سرت بعد بضعة أيام تقول أن الحكومة العراقية تنوي إعادة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا.

لم يستطع نوري السعيد تحمل سياسة الكيلاني، وهو المتحمس إلى أبعد الحدود لتشديد ارتباط العراق بالعجلة البريطانية، فكتب مذكرة إلى الكيلاني، وبعث بنسخة منها إلى الوصي عبد الإله، وإلى السفير البريطاني ينتقد فيها سياسة الحكومة تجاه بريطانيا العظمى، ويتحدث عن فقدان الانسجام والتعاون بين أعضاء الوزارة، ويحذر من مغبة السير بهذا الطريق، ويدعو الحكومة إلى اعادة النظر في مجمل سياساتها. (17)

 أما الوصي عبد الإله فقد دعا لعقد جلسة لمجلس الوزراء برئاسته في البلاط، في 17 كانون الأول، لمناقشة مذكرة نوري السعيد، وسياسة الحكومة. وخلال الاجتماع بدت على الوصي علامات الانفعال من سياسة الكيلاني،حيث تحدث إليه قائلاً:{ إنني ألاحظ أن التآزر بين أعضاء الوزارة القائمة مفقود، والاختلافات بين أركانها في تزايد مستمر، ولاسيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلاقات بلادنا بالحليفة بريطانيا العظمى}. (18)

وقد رد السيد ناجي السويدي قائلاً أن ليس هناك من خلافات خطيرة تستوجب ذلك. لكن نوري السعيد أصر على موقفه من وجود الخلافات، وانتهى الاجتماع مع الوصي دون حدوث أي تغير. ولم يكد أعضاء مجلس الوزراء يغادرون البلاط الملكي حتى لحق رئيس الديوان الملكي السيد عبد القادر الكيلاني برشيد عالي الكيلاني ليطلب منه تقديم استقالته بناء على رغبة الوصي، حرصا على عدم إحراجه مع الإنكليز، وكان هذا التصرف من جانب الوصي بناء على طلب الحكومة البريطانية. وهكذا بدأت الأزمة بين حكومة الكيلاني والوصي عبد الإله، وقرر مجلس الوزراء إرسال وفد لمقابلة الوصي برئاسة رئيس الوزراء الكيلاني وعضوية وزير الدفاع [طه الهاشمي] و ناجي شوكتـ وزير المالية،وخلال اللقاء أبلغ الوفد الوصي أن طلب استقالة الوزارة عمل غير دستوري، وأن ليس من حقه بموجب الدستور أن يقيل الوزارة. (19)

كان رشيد عالي الكيلاني في ذلك الوقت قد أمّن وقوف قادة الجيش العقداء الأربعة[ صلاح الدين الصباغ ] و[فهمي سعيد]  و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] إضافة إلى مفتي فلسطين الذي يتمتع بنفوذ كبير لدى الضباط القوميين. وفي 21 كانون الأول 1940، أعلن الكيلاني أمام مجلس النواب أن العراق دولة مستقلة، وعليه أن ينشد في كل تصرفاته مصالحه الوطنية، وأمانيه القومية، وينبغي أن لا ينجرف وراء ما لا يتلاءم مع هذه المصالح والأماني، وان الحكومة حريصة على عدم القيام بأي عمل يجر العراق إلى شرور الحرب  والمساس بسلامة البلاد. وعلى أثر ذلك قطع السفير البريطاني أي صلة له بالحكومة ورئيسها وأخذت صلاته تجري مع الوصي بصورة مباشرة، متخطيا الحكومة الشرعية ورئيسها.

اشتدت الأزمة داخل مجلس الوزراء، ولاسيما بين نوري السعيد المتحمس للإنكليز، وناجي شوكت المعارض لهم، واقترح طه الهاشمي لحل الأزمة أن يستقيل نوري السعيد وناجي شوكت من الوزارة، وبالفعل قدم نوري السعيد استقالته من الوزارة في 19 كانون الأول فيما قدم ناجي شوكت استقالته في 25 منه. لكن الوصي رفض التوقيع على الاستقالة مطالباً رشيد عالي  الكيلاني بتقديم استقالة وزارته، غير أن  تدخل العقداء الأربعة أجبر عبد الإله على توقيع استقالة الوزيرين، وأسندت وزارتيهما إلى ناجي السويدي، وعمر نظمي وكالة. (20)
 لم يرضي هذا الإجراء السفير البريطاني الذي كان يلح على استقالة الوزارة، مشدداً ضغطه على الوصي عبد الإله، الذي أخذ يمتنع عن توقيع الإرادات الملكية والقوانين والمراسيم والأنظمة. وأخيراً أخذ يحرض الوزراء على الاستقالة من الحكومة، واستمر الوصي في ضغطه على الكيلاني بأن أرسل بطلب الوزير عمر نظمي في 25 كانون الأول 1940، وطلب منه إبلاغ الكيلاني  بأنه سيستقيل من الوصاية إذا لم تقدم وزارة الكيلاني استقالتها حتى ظهر يوم الغد. (21)
أما مجلس الوزراء فقد عقد اجتماعاً في اليوم التالي 26 كانون الأول لمناقشة الأزمة، ولم يحضر الوزيران المستقيلان، وخلال الاجتماع فاجأ الوزراء جميعاً رئيس الوزراء بتقديم استقالاتهم من الوزارة، ما عدا رؤوف البحراني، مما تسبب في إحراج الكيلاني الذي حاول جاهداً تثنيهم عن الاستقالة. (22)

أزمة خطيرة بين الوصي والكيلاني واستقالة الوزارة
تصاعدت الأزمة بين الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني بعد أن قدم الوزراء استقالاتهم، وحاول الوصي  إرغام الكيلاني على تقديم استقالته عن طريق اللجوء إلى القوة العسكرية، حيث بادر لاستدعاء رئيس أركان الجيش، ومدير الشرطة العام، وطلب إليهم عدم إطاعة رئيس الوزراء، وأبلغهم أن الوزارة أصبحت غير شرعية. لكن الكيلاني لجأ إلى قادة الجيش [العقداء الأربعة] الذين قرروا إرسال مندوب عنهم إلى الوصي ليبلغه أن الجيش يريد بقاء الكيلاني على رأس الحكومة، وبالفعل قابل العقيد[محمود سلمان ] أحد العقداء الأربعة الوصي وأبلغه بالأمر.

ورغم محاولات الوصي ثني قادة الجيش عن موقفهم لكنه فشل في إقناعهم، فقد قابل العقيد محمود سلمان الوصي للمرة الثانية  بحضور الشيخ [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، وأبلغه بقرار قادة الجيش وقد نصح الشيخ الصدر الوصي بالرضوخ للأمر الواقع تجنياً لما قد لا يحمد عقباه، إذا ما أصر على موقفه من الكيلاني. (23)

وهكذا تراجع الوصي ولو مؤقتاً، وأصدر إرادة ملكية بتعين [يونس السبعاوي] وزيراً للاقتصاد و[علي محمود الشيخ علي] وزيراً للعدلية في 28 كانون الثاني بناء على طلب الكيلاني وقادة الجيش. وفي اليوم التالي قدم ناجي السويدي استقالته من الوزارة،وأسرع الكيلاني إلى تعين [موسى الشابندر] وزيراً للخارجية والمحامي [ محمد علي محمود]  وزيراً للمالية، واستصدر إرادة ملكية بتعيينهم في نفس اليوم المصادف 29 كانون الثاني 1941.
حاول الكيلاني أن يوطد مركز حكومته باللجوء إلى حل البرلمان وأجراء انتخابات جديدة، وتوجه إلى عبد الإله طالباً منه التوقيع على الإرادة الملكية بحله. (24)

  طلب الوصي إمهاله حتى المساء لدراسة الأمر، وغادر الكيلاني البلاط على أمل أن يوقع على حل البرلمان، لكنه بدلاً من ذلك  غادر الوصي  بغداد سراً بعد خروج الكيلاني، وتوجه إلى الديوانية، حيث حاول استعداء قائد الفرقة الرابعة اللواء الركن [إبراهيم الراوي ] على حكومة الكيلاني. كما اتصل من هناك بقائد الفرقة الثانية في كركوك [ قاسم مقصود] لنفس الغرض، بالإضافة إلى مجموعة من السياسيين والوزراء السابقين وعدد من متصرفي الألوية الذين طلب منهم الوصي عدم إطاعة أوامر الكيلاني والعمل على إسقاط حكومته، كما فرَّ نوري السعيد إلى المحمودية، واختفى في مزرعة شقيق قرينته هادي العسكري جرياً على عادته أن يفعل ذلك عند حدوث أي أزمة يشم منها رائحة الخطر. (25)

كاد الأمر أن يؤدي إلى حرب أهلية طرفاها الجيش لولا موقف القائدين الراوي ومقصود المتعقل، حيث أبلغا الوصي أنهما لا يودان زج الجيش في المشاكل السياسية، وأنهما كعسكريين يتلقيان الأوامر من رئيس أركان الجيش. أما الكيلاني فقد دعا مجلس الوزراء إلى عقد اجتماع عاجل لبحث الأزمة بعد هروب الوصي، وقد حضر الاجتماع قادة الجيش، وأمين الحسيني، ويونس السبعاوي، ومحمد أمين زكي، وتقرر في الاجتماع مواجهة الوزارة لمجلس النواب، وانتزاع الثقة بالوزارة منه، وقد دعا الحاضرون إلى صمود الوزارة بوجه محاولات الوصي، والسفير البريطاني لإسقاطها. وفي أثناء الاجتماع حضر كل من الشيخ [محمد الصدر] و[طه الهاشمي] وطلبا من الكيلاني معالجة الأمور قبل استفحالها، والحيلولة دون وزج الجيش في حرب أهلية، وتمكنا من إقناع الكيلاني لتقديم استقالة حكومته. (26)

 وبالفعل قدم الكيلاني استقالته في 31 كانون الثاني 1941 في برقية بعث بها إلى الوصي في الديوانية. بادر الوصي فور استلام البرقية إلى قبول الاستقالة، ودعا عدد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، ورئيس مجلس الأعيان للبحث في تشكيل وزارة جديدة. وفي بغداد،عقد المدعوين للاجتماع بالوصي اجتماعاً فيما بينهم وتباحثوا في الأمر، وقد استقر رأيهم على أن يذهب كل من الشيخ [محمد الصدر] و[صادق البصام ] إلى الديوانية لمقابلة الوصي والوقوف على ما يريد. وبالفعل استقل الاثنان طائرة عسكرية نقلتهم إلى الديوانية، وتباحثا مع الوصي في سبل حل الأزمة، ثم اختلى الشيخ الصدر بالوصي، وأجرى معه نقاشاً حول خطورة الأزمة، وقد أقترح الشيخ محمد الصدر على الوصي  تكليف [ طه الهاشمي ] بتأليف الوزارة الجديدة إذا ما أراد الخروج من الأزمة، وتجنب وقوع الحرب الأهلية. (27)
سادساً:الوصي يكلف طه الهاشمي بتأليف الوزارة:
على أثر اللقاء الذي تم بين الوصي والشيخ الصدر، استدعى الوصي السيد طه الهاشمي بحضور صادق البصام، وكلفه بتأليف الوزارة الجديدة،على الرغم من عدم اقتناعه به، ورضاه عنه، لكن الظروف الدقيقة والخطيرة ونصيحة الشيخ الصدر هي التي جعلته يكلف الهاشمي. وقد حاول الوصي أن يشهّد البصام على تعهد الهاشمي بتشتيت شمل قادة الجيش [ العقداء الأربعة ]، وحذره من المتصيدين في الماء العكر، والإيقاع مجدداً بينه وبينهم، ووعد الوصي بأنه سوف يسعى إلى لقاء القادة الأربعة به لتقديم الولاء والطاعة، لكن ذلك لم يتم بسبب نصيحة السفير البريطاني لعبد الإله بعدم استقبالهم. (28)

تم تأليف الوزارة الجديدة في 31 كانون الثاني 1941،وعبّر السفير البريطاني في برقيته إلى وزارة الخارجية البريطانية عن سروره لإخراج الكيلاني من الحكم، ولكنه أعرب عن عدم اطمئنانه لطه الهاشمي، ووعد بأن يكون عمر الوزارة قصيراً، وأشاد السفير بدور نوري السعيد،والجميل الذي أسداه لبريطانيا،غير أنه قد فقد نفوذه في الآونة الأخيرة، ورأى أن يكون بعيداً عن الأنظار حالياً. (29)

كان همْ السفارة البريطانية بعد استقالة حكومة الكيلاني هو التخلص من العقداء الأربعة بأي طريقة كانت لكي يستقر الوضع لصالح بريطانيا. أما الوصي فقد طلبت منه حكومة الهاشمي العودة إلى بغداد، وأرسلت لمرافقته كل من عمر نظمي،وزير الداخلية، ووكيل رئيس أركان الجيش،أمين زكي، إلا أن الوصي تردد في العودة خوفاً من وجود مؤامرة لقتله، مما اضطر الهاشمي إلى السفر إلى الديوانية وإقناعه بالعودة، وعاد الوصي بصحبة الهاشمي في 3 شباط 1941.


143
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثانية عشرة
حامد الحمداني                                                               19/9/2015

السعيد وعبد الإله يتآمران على سوريا لضمها للعراق
بعد أن انتهى نوري السعيد من الانتخابات، وأمّن له الأغلبية المطلقة في المجلس أنصرف إلى المهمة الأساسية والخطيرة، إلا وهي مشروعه للتآمر على سوريا ومحاولة ضمها إلى العراق بالقوة.
 كان باكورة مشروعه تكليف وزير الداخلية[ ناجي شوكت] بالسفر إلى تركيا، واستطلاع موقفها من مشروعه، وبالفعل غادر ناجي شوكت إلى تركيا، وأجرى محادثات مع أركان الحكومة التركية حول المشروع، ولم تعارض الحكومة التركية رغبة نوري السعيد بضم سوريا، بعد أن ضمنت لنفسها ضم لواء الاسكندرون السوري إليها. (23)

وفي الوقت الذي كان ناجي شوكت في تركيا يجري مباحثاته مع الحكومة التركية، أجرى نوري السعيد تعديلاً على وزارته،  أخرج بموجبه ناجي شوكت من وزارة الداخلية وأسندها لنفسه، كما أسند وزارة الخارجية التي كانت بعهدته إلى [علي جودت الأيوبي ]، وهكذا تخلص نوري السعيد من ناجي شوكت، ولما يمضي على تشكيل الوزارة سوى أيام قلائل، وهذا ما يؤكد كون نوري السعيد استوزر[ ناجي شوكت] حينذاك كان لغرض في نفسه. (24)

وفي 10 تموز من ذلك العام قُتل مدير الشرطة العام [ هاشم العلوي ] في الرطبة،عندما كان في طريقه إلى لبنان، وأحيط مقتله بظروف غامضة، حيث قالت الحكومة أنه انتحر، ولكن الحقيقة التي كان يتداولها العارفون ببواطن الأمور آنذاك يقولون أن هاشم العلوي كان يعرف أسرار مقتل الملك غازي، وأراد نوري السعيد أن يتخلص منه بأسرع وقت خوفاً من أن  يقوم بإفشاء تلك الأسرار لدى وصوله إلى لبنان، نظراً لكونه كان يشغل أعلى منصب أمني في البلاد، وانه كان مطلعاً على كل شيء. (25)

أولا: نوري السعيد والموقف من الحرب العالمية الثانية:
لم تكد بريطانيا تعلن الحرب على ألمانيا، واشتعال لهيب الحرب في أنحاء أوربا، حتى بادر السفير البريطاني للاتصال بنوري السعيد على الفور طالباً منه تطبيق معاهدة التحالف المبرمة بين البلدين في 30 حزيران 1930، وإعلان الحرب على ألمانيا، وقد طمأن نوري السعيد السفير البريطاني، ووعده بقطع العلاقات مع ألمانيا، وإعلان الحرب عليها بأسرع وقت. (1)
وعلى الفور أبلغ نوري السعيد الوصي عبد الإله برغبة بريطانيا بإعلان الحرب على ألمانيا، وتقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الإله في 5 أيلول 1939، وطرح نوري السعيد أمام مجلس الوزراء الطلب البريطاني، لكن خلافاً حاداً حدث داخل مجلس الوزراء، فقد رفض وزير الدفاع [ طه الهاشمي ] ووزير العدل [ محمود صبحي الدفتري ] فكرة إعلان الحرب على ألمانيا، طالبين الاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، وأعلنا أنهما سيقدمان استقالتهما إذا ما أصر نوري السعيد على إعلان الحرب. (2)

 وإزاء ذلك الموقف اضطر نوري السعيد للتراجع مؤقتاً، والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية، وسارع بالطلب من السفير الألماني [الدكتور كروبا] بمغادرة البلاد تحت حراسة الشرطة نحو سوريا، كما قام نوري السعيد باعتقال كافة الرعايا الألمان، وسلمهم للقوات البريطانية المتواجدة في قاعدة الحبانية، ثم جرى تسفيرهم إلى الهند كأسرى حرب.
أما عبد الإله فقد سارع إلى إرسال برقية إلى الملك جورج، ملك بريطانيا، يبلغه أن العراق سوف يلتزم تماماً بمعاهدة الصداقة والتحالف المعقودة مع بريطانيا عام 1930، وسوف يقدم العراق كل ما تتطلبه المعاهدة. (3)

كما أذاع نوري السعيد بياناً للحكومة في 17 أيلول أعلن فيه التزام العراق بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعداد الحكومة للقيام بما تمليه تلك المعاهدة من واجبات تجاه الحليفة بريطانيا. سبب موقف نوري السعيد وحكومته موجة من السخط العارم على تلك السياسة المتعارضة مع المصلحة الوطنية، والتي تهدف إلى زج العراق في الحرب الإمبريالية.

 أما نوري السعيد فقد أقدم على تعطيل مجلس النواب الذي نظمت وزارته انتخابه قبل مدة وجيزة، ولجأ إلى إصدار المراسيم المخالفة للدستور، والهادفة إلى قمع كل معارضة لسياسته الموالية لبريطانيا، وكان من بين تلك المراسيم مرسوم مراقبة النشر رقم 54 لسنة 1939، ومرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1939، منتهكاً بذلك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للشعب. (4)

وتطبيقاً لمعاهدة 1930، فتح نوري السعيد الباب على مصراعيه للقوات البريطانية لكي تحتل العراق من جديد، وليصبح العراق طرفاً في حرب استعمارية لا ناقة له فيها ولا جمل كما يقول المثل. لم تترك الحرب العالمية الثانية بعد أن أمتد لهيبها ليشمل أوربا وأسيا وأفريقيا  بلداً إلا وكان لها تأثير كبير عليه، سواء كان عسكرياً أم اقتصادياً، أم اجتماعياً، وكان العراق غارقاً في خضم تلك الحرب بعد أن احتلته القوات البريطانية احتلالاً كاملاً لمنع القوات الألمانية من الوصول إليه، حيث يمتلك العراق مصادر الطاقة [النفط] التي كانت المانيا بأمس الحاجة لها لإدامة آلتها الحربية.
لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين من تلك الحرب حيث أفتقد المواد الغذائية والملابس، وغيرها من الحاجات المادية الأخرى، وأصبحت تلبية تلك الحاجات أمراً صعباً للغاية، واضطرت الحكومة إلى تطبيق نظام الحصص[الكوبونات] لكي تحصل الأُسر العراقية على حاجتها من المواد الغذائية والأقمشة لصنع الملابس، واشتهرت تلك الأيام بـ[ أيام الخبز الأسود] بسبب النقص الخطير في الحبوب، ورداءة نوعية الطحين.

 كما أن حكومة نوري السعيد كانت قد سخرت موارد البلاد لخدمة الإمبريالية البريطانية وحربها، مما أثار غضب الشعب العراقي وحقده على الإنكليز، والنظام الملكي، وفي تلك الأيام جرى اغتيال وزير المالية [ رستم حيدر] في 18 كانون الثاني 1940،على يد مفوض الشرطة [حسين فوزي توفيق] في مكتبه بالوزارة، وقد تم اعتقال القاتل.

 حاول نوري السعيد أن يستغل الحادث لتوجيه تهمة التحريض على القتل لعدد من الشخصيات السياسية المعارضة، حيث أقدم على اعتقال كل من الوزيرين السابقين[ صبيح نجيب ] و[ إبراهيم كمال ]، والمحاميين المعروفين [ نجيب الراوي ] و[شفيق السعيدي] موجهاً لهم تهمة التحريض على قتل الوزير، وقام نوري السعيد بمقابلة القاتل في السجن وضغط عليه، ووعده بالتخفيف عنه لكي يعترف بأن صبيح نجيب، وإبراهيم كمال قد حرضاه على قتل [رستم حيدر]. (5)

 أثار تصرف نوري السعيد هذا حفيظة العديد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، بالإضافة إلى وزير الداخلية في حكومة السعيد [ناجي شوكت] حيث وجدوا أن نوري السعيد يريد استخدام حادث القتل لتصفية عدد من خصومه السياسيين، ولذلك فقد لجئوا إلى الوصي عبد الإله، مستنكرين أعمال نوري السعيد بزج أسماء أولئك الذين اتهمهم بالتحريض على قتله، وكان من بين أولئك الذين قابلوا الوصي، وشكوه من تصرفات نوري السعيد كل من ناجي السويدي، وجميل المدفعي، وتوفيق السويدي، وكلهم من رؤساء الوزارات السابقين. (6)

ورغم كل تلك الاحتجاجات حاول نوري السعيد إحالة هؤلاء المعتقلين إلى المجلس العرفي العسكري لمحاكمتهم بتهمة التحريض، إلا أن وزير الخارجية[ علي جودت الايوبي ]، ووزير المواصلات والأشغال[ جلال بابان] عارضا بشدة محاولة نوري السعيد، وطالبا بإحالة القضية إلى محكمة مدنية. كما هدد وزير العدل [محمود صبحي الدفتري ] بالاستقالة إذا ما مضى السعيد بخططه، وقد أيد موقف الوزير اثنان آخران من الوزراء، وبذلك فشلت خطط نوري السعيد، وأصبح من المتعذر عليه الاستمرار في الحكم بتلك التشكيلة الوزارية، فتوجه باستقالة حكومته إلى الوصي في 18 شباط 1940. (6)
استقالة وزارة نوري السعيد:
قبل أن يقدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الوصي، دعا مساء يوم 14 شباط القادة العسكريين الذين كان يتوكأ عليهم، وهم العقداء [ صلاح الدين الصباغ ] و[ فهمي سعيد ] و  [محمود سلمان ] و[ كامل شبيب ] و[ سعيد يحيى ] و [إسماعيل نامق ] إلى العشاء معه في داره، وفي أثناء المأدبة فاتحهم بموضوع وزارته وأوضاعها، بعد مقتل [رستم حيدر] معرباً عن رغبته في الاستقالة، وأبلغهم أنه اتفق مع [ طه الهاشمي ] على إسناد رئاسة الوزارة إلى [رشيد عالي الكيلاني]، وقد عبر قادة الجيش عن معارضتهم لاستقالة نوري السعيد ودعمهم له.

لكن نوري السعيد عاد بعد يومين إلى فكرة الاستقالة، وفي الوقت نفسه قام وزير الدفاع  [طه الهاشمي ] بجمع قادة الجيش  في 18 شباط وشرح لهم ضرورة استقالة الحكومة، وتأليف حكومة جديدة قوية.

ولما بلغ أسماع رئيس أركان الجيش [الفريق حسين فوزي] تلك التحركات، أستدعى أولئك القادة العسكريين، وأبلغهم أن في نية نوري السعيد الاستقالة، وتكليف[ رشيد عالي الكيلاني] بتشكيل الوزارة الجديدة على أن يشغل نوري السعيد وزارة الخارجية، و[طه الهاشمي ] وزارة الدفاع، وأبدى رئيس أركان الجيش الفريق[حسين فوزي]، وقائد الفرقة الأولى اللواء [أمين العمري] رغبتيهما في عدم إشراك هذين القطبين اللذين استخدما الجيش في المسائل السياسية، وضرورة إبعاد الجيش عن السياسة. (7)

ولما علم نوري السعيد بتحركات الفريق حسين فوزي والفريق  أمين العمري قرر سحب استقالة حكومته، وأصدر قراراً بإحالة كل من [حسين فوزي] و[أمين العمري] و[عزيز ياملكي] على التقاعد  في الوقت الذي كان هؤلاء يخططون لعمل ضد حكومته، لكن السعيد كان أسرع منهم حيث وجه لهم ضربته، وعاد يمتلك السلطة والقوة من جديد حيث كلفه عبد الإله بتأليف الوزارة  الجديدة. (8)

ثانياً: نوري السعيد يؤلف الوزارة من جديد:
حاول عبد الإله في بادئ الأمر تشكيل وزارة محايدة برئاسة الشيخ [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، إلا أن الصدر اعتذر عن هذه المهمة بسبب ضغوط العسكريين الموالين لنوري السعيد، كما اعتذر [رشيد عالي الكيلاني] عن المهمة لنفس السبب.
أما نوري السعيد فقد ذهب لمقابلة الوصي عبد الإله وأبلغه أن الجيش معه، فلم يجد الوصي سبيلاً سوى تكليف نوري السعيد من جديد في 22 شباط 1940، وتم تشكيل وزارته الخامسة  بنفس اليوم، لكن هذه الوزارة كانت قصيرة العمر، حيث لم تمكث في الحكم سوى خمسة أسابيع،عمل خلالها نوري السعيد جاهداً على إدانة المتهمين بالتحريض على قتل [رستم حيدر] لكنه لم يوفق في ذلك بعد أن طلبت منه الحكومة البريطانية إجراء محاكمة مدنية لهم . (9)

واضطر نوري السعيد إلى سحب الدعوة من المجلس العرفي، وأحالها إلى المحاكم المدنية التي نظرت في الدعوة، وقررت براءتهم من التهمة الموجه لهم، إلا أنها حكمت على وزير الدفاع السابق [ صبيح نجيب] بالسجن لمدة  سنة واحدة بسبب تهجمه على حكومة نوري السعيد، حيث اعتبرت المحكمة ذلك التهجم إثارة للرأي العام ضد الحكومة.

 أما القاتل فقد حكم علية بالإعدام، ونفذ الحكم به فجر يوم الأربعاء 27 آذار 1940، وقد تفوه القاتل قبيل تنفيذ الحكم بعبارات تثير الشكوك في أن يكون لنوري السعيد يد في تدبير اغتيال رستم حيدر، وبإعدامه أسدل الستار على هذه القضية التي أراد نوري السعيد استخدامها وسيلة للتنكيل بخصومه السياسيين، وأصبحت حكومة نوري السعيد في موقف ضعيف جداً بعد افتضاح اللعبة التي لعبها مما اضطره ذلك إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي في 31 آذار 1940.

تم قبول الاستقالة في نفس اليوم، وباشر الوصي مشاوراته لتأليف وزارة جديدة حيث دعا رؤساء الوزارات السابقين السادة [علي جودت الأيوبي] و[توفيق السويدي] و[ناجي السويدي] و[جميل المدفعي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني] و[ناجي شوكت] وتباحث معهم في أمر تأليف وزارة ائتلافية تضم جميع الأطراف، وتستطيع مجابهة الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، حيث استقر الرأي على تكليف [ رشيد عالي الكيلاني]، وقيل آنذاك أن السفير البريطاني هو الذي أشار على الوصي بتأليف وزارة قومية تضم جميع الأطراف والتكتلات. (10)


144
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة التاسعة

حامد الحمداني                                                                 9/9/2015
أولاً: انقلاب بكر صدقي والأحداث التي رافقته:
 نبذة عن حياة بكر صدقي:

ولد بكر صدقي عام 1866، ودرس في الاستانة في المدرسة الحربية وتخرج منها ضابطا في الجيش العثماني، انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه المحتلون في 6 كانون الثاني 1921 برتبة ملازم أول.
رغم كون بكر صدقي من أبوين كرديين فقد كانت له ميول قومية عربية، ولذلك فقد تلقفه أنصار القومية العربية من الطبقة العراقية الحاكمة، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن في عهد الملك غازي، واشتهر بالقسوة والعنف عندما قاد الجيش العراقي ضد ثورة الآشوريين عام 1933،على عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد الحركة البارزانية، وضد ثورة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك السيد حكمت سليمان الذي أحبه كثيراً.

اشتد الصراع بين وزارة [ياسين الهاشمي] الثانية والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان بكر صدقي الذي شغل منصب قائد الفرقة العسكرية الثانية يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف [حكمت سليمان]، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقادها للتأييد الشعبي، واختمرت لدى بكر صدقي فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري بالتعاون مع الفريق [عبد اللطيف نوري] قائد الفرقة الأولى الذي كانت تربطه معه علاقات وثيقة. (1)

 واستطاع الاثنان أن يضما إلى صفهما قائد القوة الجوية العقيد [محمد على جواد]، وسارت الأمور بتكتم شديد، مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها، وعندما جاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936 وجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه الفرصة، فقد كانت خطة المناورات تقتضي  إجراءها فوق [جبال حمرين]، في المنطقة  الواقعة بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد، فيما تكون الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي في موقع الهجوم .
وفي 29 تموز 1936 سافر رئيس أركان الجيش الفريق [طه الهاشمي] شقيق رئيس الوزراء، في مهمة إلى خارج العراق، وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري، مما سهل على الانقلابيين الأمور كثيراً.

كان موعد المناورات قد حُدد يوم 3 تشرين الأول 1936 ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر بكر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات.
ففي يوم الثلاثاء المصادف 27 تشرين الأول جرى لقاء قبل التحرك بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، واتفقا على موعد تنفيذ الانقلاب وتفاصيل الخطة، وجرى الاتفاق على تسمية حركتهم [ القوة الوطنية الإصلاحية]،وطلبا من السيد [كامل الجادرجي] إعداد مذكرة إلى الملك غازي يطلبان فيها إقالة حكومة [ياسين الهاشمي] وتكليف السيد [حكمت سليمان] بتأليف الوزارة، كما تم إعداد بيان الانقلاب، وجرى إعداد عدد من الطائرات بقيادة العقيد [محمد علي جواد]، وبذلك أصبح كل شيء جاهزاً لتنفيذ الانقلاب. (2)

ففي ليلة الخميس المصادف 27 تشرين الأول 1936 زحفت قوات الجيش إلى بعقوبة، حيث وصلتها صباح اليوم التالي، وقامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد، واستولت على دوائر البريد والتلفون، وعدد من المواقع الاستراتيجية في المدينة، ثم واصلت القوات زحفها نحو بغداد في الساعة السابعة والنصف صباحاً بقيادة بكر صدقي.

وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهرت في سماء بغداد 3 طائرات حربية، وكان يقودها العقيد محمد علي جواد واثنين من رفاقه الضباط، وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب، والذي دعا الملك غازي إلى إقالة حكومة [ يسين الهاشمي] وتكليف السيد[ حكمت سليمان] بتشكيل وزارة جديدة. 

وفي الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل السيد حكمت سليمان سيارته إلى قصر الزهور حاملاً إلى الملك غازي المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك لإقالة  وزارة ياسين الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي السيد[ رستم   حيدر]. (4)

وما أن بلغ نبأ الانقلاب[ ياسين الهاشمي] حتى بادر إلى الاتصال ببكر صدقي الذي أبلغه خلال محادثته بالتلفون أن الملك غازي على علم بالانقلاب، ولم يكد ياسين الهاشمي ينهي المكالمة التلفونية مع بكر صدقي حتى سارع للتوجه إلى قصر الزهور لمقابلة الملك، وتدارس الأمر معه.
سلم [ رستم حيدر] المذكرة إلى الملك غازي، وكان يبدو على وجهه الذهول والاضطراب، وعلى الفور طلب الملك استدعاء كل من [ياسين الهاشمي] و[جعفر العسكري] وزير الدفاع، و[نوري السعيد] وزير الخارجية، والسفير البريطاني لتدارس الوضع، وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي، وسأله إن كان على علم مسبق بالانقلاب، لكن الملك نفى ذلك، وتحدث ياسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة، فأن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابيين، والا فأنه سيقدم استقالة حكومته. (5)

أما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير البريطاني أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث مالا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.(6)

مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بإلقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، ودائرة البريد القريبة من مسكن ياسين الهاشمي، ودار البرلمان، واضطرت الحكومة إلى تقديم استقالتها للملك في 29 تشرين الأول 1936، وتم قبول الاستقالة، وسارع الملك غازي إلى الطلب من السيد حكمت سليمان  بتأليف الوزارة الجديدة بناء على طلب الانقلابيين، لكن حكمت سليمان طلب من الملك أن يوجه إليه تكليفاً خطياً لكي يشكل الوزارة. (7)

وفي الوقت الذي قدمت الحكومة استقالتها إلى الملك فأنها عملت على إفشال الانقلاب. فقد بعث [جعفر العسكري] إلى عدد من قادة الجيش داعياً إياهم للتحرك لحماية بغداد إلا أن تلك الرسائل لم تستطيع أن تفعل شيئا.

ثانيا: مقتل جعفر العسكري، وهروب نوري السعيد:
حاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيين نحو بغداد ، فاتصل ببكر صدقي ، وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته ، وأنه يحمل رسالة من الملك .
كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري ـ صهر نوري السعيد ـ والرجل القوي في الوزارة ، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله،  وعندما توجه جعفر العسكري لمقابلة بكر صدقي ، وجد في استقباله النقيب إسماعيل عباوي مع عدد من الأفراد، وقام عباوي على الفور بتجريد جعفر العسكري من سلاحه وأجبره على ركوب السيارة منفرداً دون حمايته، ورافقه كل من النقيب [شاكر القره غلي] والرائد [ طاهر محمد ] مرافق الملك . وعندما وصلت السيارة التي تقلهم إلى نهر الوزيرية توقفت السيارة، ونزل منها الجميع وأرسل عباوي سائقه العريف [إبراهيم خليل ] ليخبر بكر صدقي بمقدم العسكري، ولم تمضِ سوى دقائق حتى وصل الضباط [جمال جميل] و [جمال فتاح] و [محمد جواد أمين] و[لازار برودس]، حيث شهروا مسدساتهم على جعفر العسكري، وأطلقوا عليه الرصاص فقتل في الحال .
 ولما وصل خبر مقتله إلى نوري السعيد سارع إلى اللجوء للسفارة البريطانية التي استطاعت تهريبه إلى خارج العراق. (7)

استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد،  حيث وصلت أبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر فلم يجد الملك بُداً من توجيه خطاب التكليف إلى السيد[ حكمت سليمان ] في 29 تشرين الأول. وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد، دون أن تلقى أي مقاومة، وكان [حكمت سليمان] قد عقد قبل يومين اجتماعا في دار السيد [كامل الجادرجي] ضم السادة [جعفر أبو التمن] و[محمد حديد] لوضع قائمة بأسماء أعضاء الوزارة في حالة نجاح الانقلاب، وقد طرح في الاجتماع اقتراح حول اختيار [نوري السعيد] في منصب وزاري لتطمين الإنكليز، لكن الاقتراح لم يلقَ القبول، فقد عارضه السيدان جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، واقترح بدلا منه السيد [صالح جبر] .

تم الانقلابيون تشكيل وزارتهم، وصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءا،ً وجاءت على الوجه التالي :
1 ـ حكمت سليمان ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ جعفر أبو التمن ـ وزيراً للمالية .
3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للعدلية .
4 ـ ناجي الأصيل ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ كامل الجادرجي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
7 ـ يوسف إبراهيم ـ وزيراً للمعارف .
 أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من طه الهاشمي الذي أحيل على التقاعد.
أما يسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد فقد غادروا العراق على الفور، وبمساعدة السفارة البريطانية، خوفاً من بطش بكر صدقي.

أسرع السفير البريطاني إلى لقاء[الملك غازي] و[حكمت سليمان] ليقف على ما تنوي الوزارة عمله، وقد طمأنه حكمت سليمان بأن الوزارة تحترم تعهدات العراق، وتسعى للنهوض بالبلاد، في كافة المجالات، كما لقي السفير من الملك كل ما يطمئن الحكومة البريطانية.
أراد بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية[ يسين الهاشمي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني]،إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة.
كان من أولى المهام بالنسبة للوزارة الجديدة تثبيت سلطتها، حيث لجأت إلى إجراء تغيرات واسعة في أجهزة السلطة الإدارية، والدبلوماسية، وإبعاد كافة العناصر المؤيدة للوزارة السابقة.
وفي الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعو فيها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي، والعمل على رفع  مستوى معيشة الشعب، وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد، ولم تقتصر المظاهرات على بغداد فقط ، بل امتدت إلى سائر المدن العراقية .
وبعد أن ثبتت الحكومة أقدامها، وبسطت سلطتها على كافة أنحاء البلاد أقدمت على حل المجلس النيابي الذي جرى انتخابه على عهد الحكومة السابقة، واستصدرت الإرادة الملكية بحله في 31 تشرين الأول 1936 تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.

وفي الوقت نفسه تقدمت الحكومة بمنهاجها الوزاري الذي أكد على تعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه، ومع بريطانيا، لما فيه مصلحة الأطراف جميعاً، وتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، وتحسين أدائه، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وتحسين أحواله الصحية والثقافية، وتوسيع الخدمات العامة، وتنظيم السجون، وجعلها أداة إصلاح للمسجونين، والعمل على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وملافاة العجز في الميزانية، وتطوير الزراعة والصناعة في البلاد، وإصلاح الجهاز القضائي، وإعادة النظر في القوانين والمراسيم التي أصدرتها الوزارات السابقة.

كما أكد المنهاج على تقوية الجيش، وتدريبه وتسليحه، ليكون سياجاً حقيقياً للوطن، وإصلاح جهاز التعليم، وتوسيع معاهد المعلمين، وفتح المزيد من المدارس، وإلغاء أجور الدراسة المتوسطة والثانوية وجعلها مجانية، وبناء المزيد من المدارس.

 وفي واقع الأمر كان لدى الوزارة الجديدة خططاً طموحة لتغير وجه العراق، فقد أطلقت سراح المسجونين الذين أدانتهم المجالس العرفية، وأعادت كافة الأموال المصادرة منهم، كما أعادت كافة الصحف التي أغلقتها الوزارات السابقة، وسمحت بدخول الكثير من الكتب التقدمية التي كانت ممنوعة في العهود السابقة، وإعادة الموظفين المفصولين لأسباب سياسية إلى وظائفهم، وأصدرت الحكومة قانون العفو العام .

لكن بكر صدقي بعد أن أحكم سيطرته على مقدرات البلاد استهوته شهوة الحكم، وأراد أن يحكم من وراء الستار، متجاوزاً حلفائه الإصلاحيين [حزب الإصلاح الشعبي ] الذين يمثلون الأغلبية في الوزارة، وكان باكورة خطواته الطريقة التي جرى فيها انتخاب مجلس النواب.
 فقد عقد بكر صدقي مع فريقاً من ضباطه، وعدد من القوميين اجتماعاً في داره لوضع الترتيبات للانتخابات، وإعداد قوائم المرشحين، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين، وجاءت قوائم المرشحين في معظمها من  المؤيدين لبكر صدقي شخصياً، فيما كانت حصة الإصلاحيين أقل بكثير، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937، وجاءت النتيجة كما خطط لها بكر صدقي سلفاً.
كان منهاج حزب الإصلاح الشعبي يرمي إلى إجراء تغيرات شاملة في حياة الشعب العراقي  مستهدفاً إجراء إصلاح حقيقي سياسي واجتماعي، واقتصادي شامل في البلاد، وإعادة توزيع الثروة بصورة عادلة، وتفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين، التقليل من الفروق الطبقية بين أبناء الشعب، وإطلاق كافة الحريات الديمقراطية، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة وضمان حقوق الشعب، وحرياته العامة، وقد لقي منهاج الحزب هذا دعما كبيراً من الحزب الشيوعي، ومن عدد كبير من صغار الضباط، ولعب الحزب الشيوعي دوراً بارزاً في تحريك الجماهير للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم العامة.

لكن بكر صدقي أراد أن يجعل من نفسه [أتاتورك العراق]، ويحكم البلاد على هواه، وقد ظهر فيما بعد أن تقرب بكر صدقي من الإصلاحيين وضمهم إلى الوزارة كان يهدف من ورائه استخدامهم وسيلة للوثوب إلى السلطة المطلقة، فلما أدرك الاصلاحيون أن الحكومة لا تحكم، وأن الحاكم الحقيقي هو بكر صدقي، فلم يكن أمامهم سوى تقديم استقالتهم من الوزارة، وخصوصاً بعد أن أقدم بكر صدقي على استخدام القوة العسكرية ضد انتفاضة العشائر في السماوة، في 13 حزيران 1937، ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، حيث قضت تلك الأحداث على آخر أمل للإصلاحيين من البقاء في الحكم، فأقدم السادة [جعفر أبو التمن] و[كامل الجادرجي] و[يوسف عز الدين] على الاستقالة من الحكومة، وقد تضامن معهم [صالح جبر] وقدم استقالته من الحكومة أيضاً، فلم يبقَ في الوزارة سوى وزيرين فقط هما [عبد اللطيف نوري ] و[ ناجي الأصيل ]. (8)

وفي الوقت الذي استقال الاصلاحيون من الوزارة، أخذ الاستقلاليون [القوميون] يتصلون ببكر صدقي، ويحرضونه على العناصر الماركسية واليسارية التي أخذت شوكتها تشتد، أعربوا له عن استعدادهم الكامل لدعمه إذا ما وقف ضد هذا التيار الجديد، والعمل على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وإبعاد تلك العناصر من البرلمان الجديد، وقد وعدهم بكر صدقي بتحقيق ذلك، وتم ترقيع الوزارة بتاريخ 24 حزيران 1937، حيث دخل الوزارة كل من [محمد علي محمود] و[عباس مهدي] و[علي محمود الشيخ علي[ و]جعفر حمندي] و[مصطفى العمري].

ثالثاً: مقتل بكر صدقي وإسقاط حكومة حكمت سليمان
أصيب الشعب العراقي بخيبة أمل كبيرة، بعد أن تبين له أن كل ما يهم بكر صدقي هو السلطة، متناسياً ما وعد به الشعب. وجاءت استقالة الوزراء الإصلاحيين من الوزارة لتزيد من انعزال حكومة بكر صدقي عن الشعب، وسحب الثقة بها، وبذلك فقد بكر صدقي وحكومته أهم عامل دعم وإسناد وهو الشعب.

كان الإنكليز ورجالاتهم من الساسة العراقيين يراقبون الأمور عن كثب ويتحينون الفرصة للانقضاض على الانقلابيين، فقد كان قلق الإنكليز يزداد يوماً بعد يوم من توجهات بكر صدقي، وجاء زواج بكر صدقي من إحدى الغانيات الألمانيات ليزيد من قلق الإنكليز، خوفاً من تقربه من ألمانيا، وأخيراً أخذت الأخبار تتوارد إلى السفارة البريطانية عن عزم بكر صدقي احتلال الكويت، مما زاد في قلق الحكومة البريطانية، ودفعها إلى التعجيل في تحركها للخلاص منه بأسرع وقت ممكن. وجاءت الفرصة المناسبة عند ما قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، واتخذ الإنكليز قرارهم بتصفيته، وهو في طريقه إلى تركيا.

غادر بكر صدقي بغداد  في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد [محمد علي جواد] قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار، لكنه أحس بوجود مؤامرة ضده وقرر السفر بالطائرة.

وصل بكر صدقي إلى الموصل، ونزل في دار الضيافة، وبصحبته محمد علي جواد، وقد وجد المتآمرون فرصتهم في الإجهاز عليه في الموصل، حينما انتقل بكر صدقي إلى حديقة مطعم المطار  البعيد والمنعزل، وبينما كان بكر صدقي جالساً في الحديقة مع قائد القوة الجوية محمد علي جواد، والمقدم الطيار[موسى علي] آمر القاعدة الجوية بالموصل يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نائب العريف [عبد الله التلعفري] نحوهم، ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدساً تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي، اخرج مسدسه وصوبه نحو جمجمته، وأطلق النار عليه فقتل في الحال، ثم أقدم العريف على إطلاق النار على العقيد محمد علي جواد وقتله أيضاً.
وتم إلقاء القبض على القاتل، وأوسع ضرباً، وقد أعترف بأن الذي جاء به لينفذ الجريمة هو الضابط [محمود هندي] الذي اختفى بعد مقتل بكر صدقي، ورفيقه محمد علي جواد، وتبين فيما بعد أن المتآمرين قد هيئوا عدة مجموعات لقتل بكر صدقي، ووزعوها على[كركوك] و[التون كوبري] و[ أربيل ] و[الموصل ]، على احتمال أن بكر صدقي سوف يمر من إحدى هذه الطرق في طريقه إلى تركيا، وقيل أن العقيد [ فهمي سعيد] كان لولب الحركة، وأن الضابط [محمود خورشيد] هو الدماغ المفكر لعملية تنفيذ الاغتيال، وسرت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل، هو الذي دبر عملية الاغتيال، وكان المقدم الطيار[ موسى علي] آمر القاعدة الجوية بالموصل قد تحدث إلى السيد عبد الرزاق الحسني بأن المقدم محمد علي جواد قائد القوة الجوية والساعد الأيمن لصدقي كان
 قد أبلغه بأن الإنكليز يرمون قتل بكر صدقي وقتل.(9)

حاولت الحكومة إجراء تحقيق واسع لمعرفة الذين كانوا وراء عملية الاغتيال، وقد أرسلت لجنة تحقيقية إلى الموصل برئاسة نائب المدعي العام [أنطوان لوقا] حيث باشر في إجراء التحقيقات التي أخذت تتوسع شيئاً فشيئاً، مما أثار خوف وقلق الضباط المشاركين في المؤامرة من أن تصل التحقيقات إليهم، فأعلن أمر حامية الموصل اللواء [أمين العمري] العصيان على بغداد، واعتقال نائب المدعي العام، وجرى تمزيق أوراق التحقيق. كما جرى تسريح كافة الضباط الموالين لبكر صدقي وللحكومة في بغداد، وأصدر بياناً يعلن فيه انفصاله عن حكومة بغداد. (10)

ورغم اتصال الملك غازي بأمين العمري، ودعوته له لإطاعة أوامر القيادة العسكرية، إلا أن الانقلابيين أصروا على موقفهم، وطالبوا الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة[ جميل المدفعي ]، كما رفضوا تسليم الضباط المتهمين بمؤامرة اغتيال بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد.

حاولت الحكومة بدفع من الضباط الموالين لبكر صدقي الزحف بالفرقة الثانية في كركوك إلى الموصل لإخضاع المتمردين على الحكومة، لكنها لم تستطع ذلك. ومن جهة أخرى حاول اللواء أمين العمري استمالة عدد من الوحدات العسكرية الأخرى إلى جانبه، واستطاع الحصول على دعم آمر معسكر الوشاش في بغداد [سعيد التكريتي] وساعده الأيمن المقدم [صلاح الدين الصباغ]، كما انضم إليهم آمر حامية الديوانية.
وهكذا بدا أن الجيش قد انقسم على نفسه، وأن الأمور قد باتت خطيرة جداً تنذر بوقوع حرب أهلية يكون عمادها الجيش، ولذلك اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها للملك غازي في 17 آب 1937، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.

وسارع الملك غازي إلى تكليف[جميل المدفعي] بتأليف الوزارة الجديدة، وكان واضحا أن التكليف جرى بضغط من السفارة البريطانية، وزمرة أمين العمري التي دبرت مؤامرة اغتيال بكر صدقي، حيث طالب أمين العمري الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتكليف المدفعي بتأليف وزارة جديدة، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف المدفعي في 19 آب 1937.
وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أعلن المتمردون في الموصل إنهاء تمردهم، وعادت الأمور إلى مجراها بعد أن تم التخلص من بكر صدقي وحكومته، وهكذا تبين أن مقتل بكر صدقي لم يكن مجرد حادث فردي، وإنما هو انقلاب عسكري جرى تدبيره بتخطيط من الإمبرياليين البريطانيين وأزلامهم العسكريين والسياسيين، وكانت تلوح رائحة الانتقام من كل العناصر التي ساهمت وساندت وأيدت انقلاب بكر صدقي، وكان على رأس أولئك المتعطشين للانتقام نوري السعيد، والذي وصل به الأمر إلى اتهام الملك غازي بالتواطؤ مع بكر صدقي.


145
هذا هو الطريق لإجراء الاصلاحات الجذرية في البلاد
يا سيادة رئيس الوزراء
حامد الحمداني                                                                              7/9/2015

اربعة اسابيع مرت والشعب العراقي المنتفض على الطغيان والفساد والمحاصصة الطائفية البائسة التي عبثت بالعراق منذ الغزو الأنكلو امريكي الصهيوني عام 2003 وحتى يومنا هذا دون ان نلمس اية إجراءات اصلاحية حقيقية وَعَدهُ بها السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي، على الرغم من التفويض الشعبي الواسع، ودعوة المرجعية الدينية للسيد السيستاني الصريحة لإجراء إصلاح جذري لأجهزة الحكم التي استشرى بها الفساد من القمة وحتى القاعدة.

لقد اندفع السيد العبادي في اول الأمر بعد الهبة الشعبية في الاسبوع الأول متخذاً قراره بإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الوزراء، الذين يمثلون جزءا من ديناصورات الفساد والطائفية المقيتة، مع تقديم حزمة من الاصلاحات التي تقدم بها إلى البرلمان للمصادقة عليها كحزمة واحدة، وقد صادق عليها البرلمان الغارق هو نفسه بالفساد دون اية مناقشة خوفا ورعبا من ثورة الجماهير الشعبية المدعومة من قبل مرجعية السيد السيستاني.

ونتيجة لتواصل الهبة الجماهيرية في الاسبوع الثاني اضطر السيد العبادي إلى تقديم ما دعاه بالحزمة الثانية من الاصلاحات، ثم اتبعها بما دعاه بالحزمة الثالثة من الاصلاحات بعد ان استمرت وتصاعدت الانتفاضة الشعبية، وها هي اليوم وقد اجتازت الهبة الجماهيرية اسبوعها الرابع دون ان تلمس اي نتيجة تُذكر من حزم اصلاحات العبادي، بل هناك ما يشير إلى ان العبادي بدأ بالتراجع عن دعاوى الاصلاح بعد الضغوطات التي مارستها عليه ديناصورات المحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة التي وصلت إلى حد التهديد العلني، من قبل احد قادة الحشد الشعبي، وعبر تلفزيون العراقية لجماهير الشعب المطالبة باصلاح القضاء، واقالة مدحت المحمود، باستخدام القوة ضد جماهير الشعب المنتفضة، ولا ادري بأية صفة يقوم هذا الشخص وزميله العامري بزيارة مدحت المحمود، ويعلنان عن دعمهما ويصران على بقائه على رأس المحكمة الدستورية العليا!

وهاهو المالكي يتحدى هو الآخر، ويهدد ويتوعد بفضح كل الفاسدين، ويعترف بأن لديه وثائق تدين شخصيات كبيرة بالفساد، وهو بهذا التصريح قد ادان نفسه قبل غيره، حيث كان لمدة 8 سنوات المسؤول الأول في الحكومة بوصفه رئيسا للوزراء، لكنه تستر على الفاسدين، وبذلك اصبح قانونا مشاركاً في جرائمهم.

أن الثقة التي وضعتها جماهير الشعب بالسيد العبادي قد بدأت تتلاشى بعد أن انحنى أمام ضغوطات ديناصورات الفساد من قادة الكتل السياسية الطائفية والعرقية الممسكين بالسلطة سواء في الوزارة أو مجلس النواب، وباتت حزمه الاصلاحية كورقه في مهب الريح، بعد تهديدات المالكي بكشف اسماء كل الفاسدين معه ولسان حاله يقول عليَّ وعلى اعدائي.
إن الاصلاح يا رئيس الوزراء ينبغي أن يجري على ايدي نظيفة لم تتلوث بالمال الحرام، ولا شبهة على تاريخها الوطني، وما دامت الوزارة على حالها، وما دام البرلمان على حاله وما دام رأس هرم القضاء الذي تستر على الفساد على حاله، فلا أمل إطلاقا بالاصلاح، وإن دعوتكم للاصلاح لا تعدو عن كونها تخدير لجماهير الشعب التي لم تعد تتحمل المزيد من طغيان هذا النظام الغارق بالفساد، نظامٌ قطعَ صلته بالشعب، ولا يهم قادته سوى نهب المزيد والمزيد من ثروات البلاد، تاركين الشعب يعيش حالة مزرية لم يشهد لها مثيلا من قبل .
أذا كنت يارئيس الوزراء صادقا في دعواكم الاصلاحية فعليكم أولا وقبل كل شيئ أن تبدأ بنفسك وتعلن الخروج من عباءة حزب الدعوة والانتماء لعموم الشعب، ومخاطبة الشعب عبر قناة العراقية لتقول له بصريح العبارة انك تتعرض لظغوطات هائلة من ديناصورات الفساد، وانك غير قادر على تحقيق ما يطلبه الشعب منكم، وإن كنت قادرا على تحدي هؤلاء الفاسدين فعليكم اتخاذ الوسائل الكفيلة بتحقيق الاصلاح الحقيقي والجذري والتي ينبغي أن يتم على الأسس التالية:

1 ـ اعلان حالة الطوارئ في البلاد.

2 ـ حل الوزارة الحالية وتشكيل حكومة تنكوقراط من العناصر المشهود لها بالكفاءة والأمانة، وبما لا يزيد عدد اعضائها عن 15 وزيرا تتولى القيام بالاصلاحات الجذرية الحقيقية التي يطالب بها الشعب.

3 ـ حل البرلمان الحالي، واجراء تعديل جذري لقانون الانتخابات عادل وشفاف بعيدا عن التكتلات والمحاصات الطائفية، واجراء تعديل على قانون الاحزاب ينص صراحة على منع قيام الاحزاب على أساس ديني او عرقي، وحل اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات التي جرى تشكليها بموجب التوزيع الطائفي البغيض، وتشكيل لجنة جديدة من عناصر مستقلة بعيد عن احزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، والاعداد لأجراء انتخابات برلمانية جديدة يتم انتخاب اعضائه بموجب القانون الجديد.

4 ـ اصلاح جذري للقضاء، وفي المقدمة المحكمة الاتحادية، ومجلس القضاء الأعلى، واستبعاد كل القضاة الذين كانوا يمثلون الغطاء للفساد والفاسدين في اجهزة الدولة من القمة وحتى القاعدة، وتطعيم الجهاز القضائي بعناصر شابة ونظيفة وذات سمعة نقية من كل الشوائب، وتحديث قانون جهاز التفتيش المالي والاداري، وتنظيفه من كل العناصر الفاسدة والمرتبطة بالفاسدين، وتطعيمه بالعناصر النظيفة التي لم تتلوث بالفساد، وأعادة تشكيل هيئة النزاهة، والتنسيق بينها وبين جهاز التفتيش المالي والاداري في الدولة  لمتابعة كل الفاسدين، وكشف كل جرائمهم ونهبهم للمال العام، والعمل على انزال العقوبات الصارمة بحقهم، واستعادة كل الاموال المنهوبة .

5 ـ تشكيل لجنة من كبار اساتذة القانون الدستوري تتولى إعادة النظر الجذرية في الدستور الحالي، أو وضع دستور جديد للبلاد، دستور ذو طابع علماني، ويؤكد على فصل الدين عن الدولة، مع التأكيد على أن يتظمن الدستور الجديد كل الحقوق والحريات التي نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أقرته الاممم المتحدة، والتأكيد على وحدة الشعب والوطن، مع ضمانات واضحة ومحددة للمساواة التامة في الحقوق والواجبات لسائر أطياف الشعب دون تمييز.

6 ـ حل كافة المليشيات فورا، واصدار قانون الخدمة العسكرية الاجباري على اسس عادلة دون تمييز بين مكونات الشعب، بما يحقق بناء جيش قوي قادر على سحق عصابات داعش والقاعدة، وحماية حدود العراق واستقلاله وسيادته على كل مناطق العراق دون استثناء.

7ـ حل كافة الحكومات المحلية في المحافظات، والتي ثبت انها غارقة بالفساد، وتعيين محافظين جدد من العناصر الوطنية المستقلة والمشهود لها بالكفاءة ونظافة اليد لإدارة شؤون المحافظات ريثما يتم اجراء الاصلاحات المطلوبة، واستعادة سيطرة الحكومة على سائر محافظات العراق والقضاء التام على عصابات داعش الارهابية ومن يواليها ويدعمها
واستعادة الأمن والسلام في البلاد، وعودة المهجرين إلى ديارهم، والتعويض لهم عن كل خسائرهم، واعادة بناء ما خربته الحروب، والسعي الحثيث لتقديم كل الخدمات الضرورية لأبناء الشعب من كهرباء، وماء الشرب الصافي، والصرف الصحي، والخدمات الطبية، والتعليمية، وتأمين السكن للمواطنين.

8ـ النهوض بالصناعات الوطنية الكفيلة باستيعاب القوى العاملة الواسعة التي تعاني من البطالة والفقر والحرمان وشظف العيش، والاهتمام بتطوير المشاريع الزراعية الكفيلة بتأمين حاجات المواطنين الغذائية، ولا شك ان العراق بما يحويه من أاضٍ زراعية خصبة وشاسعة ومياه وفيرة قادر ليس فقط على تأمين حاجات الشعب الغذائية، بل وتصدير الفائض منها إن هي باتت بأيدي نظيفة ومخلصة وذات كفاءة عالية.

هذا هو الطريق لتحقيق الاصلاحات الحقيقية والجذرية الضرورية لإعادة بناء العراق من جديد، عراق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإن اي طريق آخر لا يعدو عن كونه محاولات ترقيعية لا تُجدِ نفعا، ولا تلبث أن تعود بنا إلى عهود الفساد من جديد.
إن الشعب قد ضاق ذرعا بالفساد والفاسدين، وبالمحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة، ولم يعد قادرا على تحمل المزيد، فلا تدَعوا جماهير الشعب المنتفضة، والمنتظرة بفارغ الصبر عملية الاصلاح، تصل إلى المرحلة الحرجة التي ستنفجر عند هذه النقطة لا محالة، مما يؤدي الى ما لا يحمد عقباه.




146
هكذا جرى تشريع الدستور العراقي
وهذه عوراته!
حامد الحمداني                                                      29/8/2015

بعد إتمام انتخاب المجلس التأسيسي، وتشكيل مجلس الرئاسة والحكومة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري، كان أمام المجلس والحكومة مهمة تتمثل في تشريع الدستور الدائم الذي سيقرر مصير ومستقبل  البلاد، وكان الشعب  ينتابه القلق حول طبيعة الدستور الذي سيجري سنه من قبل اللجنة المشكلة لهذه المهمة، والتي هي بطبيعة الحال مرتبطة بأحزاب الإسلام السياسي الشيعية المتحالفة مع الأحزاب القومية الكردية، وكانت شكوك المواطنين تدور حول الأمور الهامة التالية:

1ـ ما هي توجهات تحالف القوى المنتصرة في الانتخابات؟
2ـ ماهي طبيعة التحالفات التي انبثقت عنها تشكيل الحكومة الجديدة، وانتخاب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء،  ومجلس الوزراء؟
3ـ ما هو موقف القوى المنتصرة من مسألة صياغة الدستور؟
4ـ ما العلاقة المستقبلية بين الدين والدولة؟
5ـ ما هو الموقف من المرأة التي تمثل نصف المجتمع؟
6ـ ما هو الموقف من قضية الفيدرالية، وأية فيدرالية تريد الأحزاب الكردية المتحالفة مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعية؟
7ـ ما الموقف الحقيقي من قوى الفاشية والظلام التي تمارس الأعمال الإرهابية في البلاد؟
8ـ هل سيشهد العراق وحدة وطنية حقيقية أم سيدخل في صراعات جديدة طائفية أشد وأقسى؟
9 ـ هل يمكن إعادة بناء العراق الجديد دون قيام حكومة وحدة وطنية ؟

أسئلة كثيرة وهامة كانت تتطلب الإجابة عليها بكل صراحة وشفافية لكي يحكم الشعب العراقي على السلطة الجديدة، ولكي يطمئن على مستقبله ومستقبل الوطن.
كان المطلوب من السلطة الجديدة التي ستتولى تشريع الدستور الدائم للبلاد الإفصاح عن برنامجها السياسي، ومشاريعها المستقبلية فيما يخص الدستور الذي تطمح إلى تشريعه بكل شفافية، ودون أي لبس أو غموض، والحذر من محاولة فرض دستور لا يلبي حاجات المجتمع العراقي في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ذلك أن أية محاولة لفرض دستور إسلامي سوف لن يكون إلا مدخلاً لصراعات خطيرة لا مصلحة للشعب فيها، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي،  وتقدم خدمة للقوى المعادية للشعب.

كان الشعب يتطلع إلى أن تسود الحكمة لدى القوى المنتصرة في الانتخابات لكي تحافظ على الوحدة الوطنية، والسير بالعراق نحو الديمقراطية الحقيقية، وتجنيب الشعب أية صراعات جديدة، والحرص على مشاركة كافة القوى الوطنية في السلطة، وفي صياغة الدستور بما يلبي طموحات الشعب التواق للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وكان على السلطة الجديدة الحذر من ربط الدين بالدولة، واستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية وحزبية، وليكن شعار الجميع الدين لله والوطن للجميع .

كما أن السلطة كانت مدعوة للإفصاح عن موقفها من المرأة التي تمثل نصف المجتمع والتواقة للتمتع بكامل حقوقها وحرياتها، وعلى قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات، حيث سيكون موقف السلطة من هذه المسألة هو المحك للحكم على ديمقراطية السلطة المنشودة.

وكان على السلطة أن تعالج موضوع الفيدرالية للشعب الكردي بما يضمن حقوقه القومية، وعدم تعرضه مستقبلاً لمثل تلك الحملات الفاشية التي تعرض لها خلال العقود الماضية، مع ضمان وحدة الوطن العراقي أرضاً وشعباً في ظل الإخاء الوطني، واحترام خصوصية الشعب الكردي .

وكانت السلطة مدعوة كذلك إلى الإسراع في محاكمة أركان النظام الصدامي، والعناصر التي تلطخت أيديها بدماء أبناء الشعب البررة دون تلكأ أو تردد،  فلا بد أن يأخذ كل ذي حق حقه بموجب القانون، والعمل على استئصال الفكر البعثي الفاشي وليس البعثيين من المجتمع العراقي، وتربية أبنائنا منذ الطفولة على القيم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ونبذ الفكر الفاشي العدواني.

كان ما يثير المخاوف والقلق الشديد لدى أبناء الشعب ما كان يدور وراء الكواليس بين أعضاء لجنة كتابة الدستور المؤلفة أغلبيتها من الأحزاب الطائفية بالإضافة إلى ممثلي القائمة الكردية، وتحت الاشراف المباشر من قِبل الحاكم الأملريكي بريمر، من التوجهات التي بدأت تظهر للسطح حول مساعي الأحزاب الدينية لفرض نظام حكم قائم على أساس ديني وطائفي، ومحاولة تفتيت العراق، وتحويله إلى دول الطوائف الذي أوصل الشعب إلى حالة من اليأس القصوى، والقلق الشديد على مستقبله ومصيره، وهو يعيش حالة من التدهور الشديد في كافة مجالات الحياة، فلا أمان، ولا كهرباء، ولا وقود، ولا ماء صالح  للشرب، ولا صرف صحي، ولا خدمات صحية حقيقية، ولا سكن، وملايين العاطلين تعاني شظف العيش والبؤس، والمخدرات قد فُتحت أمامها أبواب العراق، وتجارة الرقيق الأبيض تزدهر يوماً بعد يوم، ولم تبقَ مختصة بالمرأة اليوم، بل بدأت تنافسها تجارة الأطفال التي أصبحت منظمة تتولاها عصابات متخصصة، وفوق كل هذا وذاك نجد شرطة الأحزاب الطائفية تطلق النار على المواطنين المحتجين على أوضاعهم السيئة، وفقدان الخدمات الأساسية كما جرى في السماوة والديوانية والبصرة، وغدا العراق نهباً للطامعين في الثروة الوطنية، وانتشار الفساد في كافة أجهزة الدولة وفي كل المستويات، فأي مستقبل كان ينتظر للعراق وشعبه فيما إذا استمر الحال على ما هو عليه؟

لقد كانت مخاوف الشعب وقلقه على مصيره أمراً واقعاً ومشروعاً بعد كل الذي جرى وما زال يجري على الساحة العراقية حيث استلبت ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية منها والسنية كل الحقوق والحريات العامة والشخصية للمواطنين، وتدخلها الفض في حياتهم وخصوصياتهم صغيرها وكبيرها، وكان انتهاك حقوق وحرية المرأة قد أصابها في الصميم، فقد فرض عليها الحجاب بقوة السلاح والتهديد بالقتل سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو صابئية، ودفع المئات منهن حياتهن على أيدي القتلة المجرمين من أدعياء الدين، وعاد المجتمع العراقي القهقرى عشرات السنين، وجرى تهجير مئات الألوف من المواطنين المسيحيين والصابئة من العراق هرباً من طغيان قوى الظلام والفاشية الدينية الجديدة. وفي ظل تلك الظروف الخطيرة، وسيادة قوى الظلام السوداء على الشارع العراقي بقوة السلاح جرى إعداد الدستور الذي حمل معه بذور الصراع والعنف، وتمزيق النسيج الاجتماعي.

 فعلى الرغم من أن قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الذي صاغه المحتلون الأمريكيون كان العمود الفقري للدستور الجديد، فقد استطاعت قوى الأحزاب السياسية الشيعية فرض ديباجة ذات مضمون طائفي صريح، والعديد من المواد والفقرات التي أعطت للدستور بعداً طائفياً، ولاسيما وأن الطائفة السنية كانت قد قاطعت الانتخابات، ولم تشترك في كتابة الدستور، وكان لها اعتراضات كثيرة عليه، مما عمق في الأزمة السياسية المستحكمة، وصعد من التدهور الأمني في البلاد بشكل خطير.

كما استطاعت الأحزاب القومية الكردية إدخال العديد من المواد والفقرات التي تتناقض مع المادة 13 من الدستور، وسأتعرض لها فيما بعد عند مناقشة بنود الدستور والتناقضات التي ضمتها مواده وما يشكله هذا التناقض من مخاطر جسيمة على مستقبل العراق.

لقد أصرت أحزاب الطائفة السنية على عدم الانخراط في العملية السياسية والمشاركة في الانتخابات القادمة إذا لم يجرِ إعادة النظر في العديد من مواد الدستور، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الفيدرالية وقضية الثروة الوطنية، وفي المقدمة منها النفط والغاز، وكذلك طبيعة السلطة التي تؤمن التوازن المطلوب بين مكونات المجتمع العراقي .
 وقد استطاعت الإدارة الأمريكية إقناع أحزاب الطائفة السنية بالانخراط بالعملية السياسية بعد أن وعدتها بإعادة النظر في المواد المختلف عليها، وعلى وجه الخصوص فيما يخص مبدأ الفيدرالية، وتقاسم الثروة، وما يزال البرلمان يراوح مكانه دون أن نشهد هذا التعديل الذي بدونه لن يشهد العراق سلاماً ولا استقراراً. ويستطيع القارئ الكريم  الاطلاع على نص الدستور لكي يتسنى له الإطلاع على الجوانب السلبية فيه، والتناقضات التي حوته مواده، والتي تتطلب إعادة النظر فيها من أجل إعادة اللحمة بين أطياف الشعب العراقي، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، والتفرغ لإعادة بناء العراق من جديد وتحقيق الجلاء التام للقوات المحتلة، وتحقيق السيادة والاستقلال الناجز.
نظرة في الدستور العراقي الحالي:
1 ـ ديباجة الدستور:
من خلال هذه الديباجة التي تضمنها الدستور يتبين لنا النفس الديني والطائفي، ويثير الخلافات الطائفية والصراع، مما لا ضرورة له، ولا بد من إعادة النظر فيه ليأتي بتأكيد على علمانية الدستور وفصل الدين عن الدولة.   
2ـ المادة الثانية: أولا: الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع:                                                                             
أ ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.               .                             
ب ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.                 .                     
ج لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
وفي هذه المادة نجد التناقض الصارخ بين الفقرات أ ، ب، ج ، فكيف ومن يحدد الثوابت الإسلامية؟ أنها مجرد أفخاخ أريد بها لصبغ الدستور بالصبغة الدينية، مما سيؤدي إلى الصراع والنزاع، ولاسيما وأن مكونات الشعب العراقي تضم المسلمين والمسيحيين والصابئة والأيزيدية. وهي تتطلب إعادة النظر بها من جديد.                                 
3 ـ المادة 115 والمادة 121 وتناقضهما مع المادة 13
4 المادة (7):
أولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون. 
وهذه المادة تتطلب التعديل بما يتفق مع تعديل قانون اجتثاث البعث، والتأكيد على                                                                                                   
 مكافحة الفكر البعثي  الفاشي.
ثم أن هذه المادة تظهر لنا أن ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي قد انتهكت المادة المذكورة بممارسة الإرهاب والتكفير والطائفية بأبشع صورها
5 ـ المادة (9):                                                            .                                                   
أولاً: أ ـ تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، تراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون أداة في قمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة.                                                .
ب ـ يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة.
وهنا تبدو الأحزاب الاسلامية والقومية الكردية قد خالفت مخالفة صريحة نص الفقرة ب وكونت لها ميلشياتها الخاصة في تحدي صريح للدستور.
6 ـ المادة (10):العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيه.
لماذا جرى زج هذه المادة في الدستور، فكل العتبات والحسينيات والجوامع والكنائس ينبغي أن تكون لها حرمتها وحق ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز.   
7 ـ  المادة (12):                                                       .                                                               
أولاًـ ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي.
وفيما يخص هذه المادة فبرغم مرور 12 سنة على سقوط نظام صدام فإن الأحزاب الطائفية الدينية بشقيها الشيعي والسني ترفض تنفيذ هذه المادة، وتصر على احتواء العلم لعبارات دينية.
8 ـ  المادة 13:                                                          .
1- عدم جواز تشريع أي قانون يتعارض مع هذا الدستور سواء كان هذا التشريع مركزيا (اتحاديا) أو محليا (إقليميا). ويحكم القضاء المختص بعدم دستورية التشريع الذي يخالف هذه القاعدة.                                                        .                                                               
2- تكون قواعد هذا الدستور ملزمة في جميع أنحاء الوطن وبدون استثناء.                  .
3- يعد باطلا كل دستور إقليمي أو أي نص قانوني أخر إذا تعارض مع أحكام الدستور العراقي.
 وهنا تأكيد صريح على أن أي تشريع في إقليم أو محافظة يتعارض مع هذا الدستور يعتبر باطلاً وغير دستوري، لكننا نجد أن المادتين، وهذه المادة الأساسية في الدستور تتعارض تمام المعارضة مع نص المادتين 115 ، و121 التي جعلت من هاتين المادتين فوق المادة 13 الأساسية، ويشير هنا بهذا الصدد استاذ القانون الدكتور عيسى الزهيري إلى هذا التناقض قائلا:
أن المواد (115) و (121) من الدستور العراقي الجديد تشكلان خطورة بالغة على مستقبل النظام الدستوري العراقي بسبب استبعادهما للمبادئ الدستورية المتعارف عليها، ولتغليبهما المصلحة المحلية للأقاليم والمحافظات على المصلحة الوطنية العامة عند تعارضهما او تناقضهما. لذلك وجب تعديلهما بما يتطابق مع هذه المبادئ .
كما يجب إعادة النظر في مشروع قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الذي اعتبر مجلس المحافظة سلطة تشريعية بخلاف ما هو معروف في النظام الإداري اللا مركزي الذي يعتبر مثل هذا المجلس مجرد سلطة تنظيمية لا يمتد اختصاصه إلى التشريع.( 6)                       
  9ـ المادة (36):                                            .
تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:                               .
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.                               .
ثانيا: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.       
ثالثاً:حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون. 
وهنا نجد في العبارة [تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب] إمكانية الاختلاف في تأويل هذه العبارة، وما هي الأمور التي تخل بالنظام العام والآداب؟ ولاسيما أن ما حصل ويحصل في العراق اليوم من تجاوز على حريات المواطنين الشخصية باسم مخالفة الآداب العامة وفرض الحجاب على المرأة، وفرض إطالة اللحية، وطريقة حلاقة الرأس، ومنع صالونات الحلاقة وقتل أصحابها، وكل هذه الاعتداءات جرت وما تزال تجري باسم حماية الآداب العامة، ولذلك يتوجب إلغاء هذه الفقرة، وهناك قوانين عقابية تحاسب على ذلك بموجبها.                         
10ـ المادة (41):                                     .
أولاً: أتباع كل دين أو مذهب أحرار في:                                                   .
 أ ـ ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية.                        .
ب ـ إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً: تكفل الدولة حرية العبادة وحماية أماكنها.   
وهنا نجد التمييز بالنسبة للشعائر الدينية المتعلقة بالطائفة الشيعية، فهل ضرب الزناجيل والسيوف وإسالة الدماء هي من الشعائر الدينية ؟ أن الشهيد الحسين أسمى وأعظم من أن يرتضي تلك المشاهد المؤلمة التي نقلتها، وما تزال تنقلها القنوات التلفزيونية إلى مختلف دول العالم، وأن تمجيد مآثر الحسين والإقتداء به هي السبيل الأمثل لذلك.
11 ـ المادة (109):                                                              .
النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات.
وهذه مادة صريحة تتعارض مع الاجراءات التي اتخذتها حكومة إقليم كردستان العراق بعقد العديد من العقود مع شركات أجنبية لاستثمار النفط والغاز في منطقة كردستان، وإصرارها على ذلك رغم تحذير وزير النفط العراقي من كون هذه الاجراءات غير دستورية، بل تجاوزت الحكومة ذلك بالرد على وزير النفط قائلة في كل مرة تعترضون على العقود سنوقع عقدين جديدين، وهذا يشكل انتهاك صارخ للدستور.             . 
المادة (110):                                         .
أولا: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد، وينظم ذلك بقانون.                 .
ثانيا: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.
في هذه المادة استغلت حكومة إقليم كردستان بتفسير الفقرة ثانياً لصالح إجراءاتها في توقيع العقود مع العديد من الشركات خلافا للمادة 109 الصريحة، ولا بد من إعادة النظر في الفقرة الثانية لإزالة  هذه الثغرة في الدستور، وحصر مسألة رسم السياسات النفطية بالحكومة الاتحادية وحدها.
 كما أن إعادة النظر في إقامة الأقاليم في الوقت الحاضر وشعب العراق يخوض نزاعاً دموياً لن ينتهِ إذا لم يعاد النظر فيها، وحصرها في الوقت الحاضر بإقليم كردستان مع وضع الضوابط التي تضمن وحدة البلاد أرضا وشعباً، والمحافظة على إدامة النسيج الاجتماعي في البلاد.
12 ـ المادة (112):                                                         .
كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية تكون من صلاحيات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحية الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولية لقانون الإقليم في حالة الخلاف بينهما.

وهنا تبدو الأمور معكوسة تماماً مما يشكل مخالفة صريحة للدستور، فهذه المادة تشبه ذلك الذي يقف على رأسه وليس على أقدامه، وتتطلب تعديل هذه المادة بإعادة قلبها على الوجه الصحيح.                                                                             
وأخيراً أستطيع القول أن الدستور الجديد جاء مفصلاً على مقاس أحزاب البارزاني والطلباني والحكيم بامتياز.
إن هذه العوارات في الدستور تتطلب من حكومة السيد حيدر العبادي تشكيل لجنة على مستوى عالي تتألف من كبار اساتذة القانون الدستوري لأعادة النظر الجذرية في الدستور ورفع كل ما يشير الى الطائفية والدينية والعرقية، وادخال شرعة حقوق الانسان التي اقرتها الأمم المتحدة في صلب الدستور الجديد لضمان حقوق وحريات الشعب العراقي بكل اطيافه، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات إذا ما اردنا تحقيق الاصلاح الشامل في العراق.

147
من ذاكرة التاريخ
نوري السعيد رجل المهعمات البريطانية الكبرى
الحلقة السادسة
حامد الحمداني                                                              24/8/2015


أولاً: وفاة الملك فيصل الأول في ظروف غامضة:


 في الأول من أيلول 1933،وصل الملك فيصل إلى العاصمة السويسرية [ برن ] طلباً للاستشفاء وكان الإعياء بادياً عليه، حيث نزل في فندق[bellevue] المطل على نهر[ الآر]،وهناك بدأ الملك رغم وضعه الصحي المتعب يستقبل مراسلي الصحف، والعديد من الأصدقاء، ويدلي بتصريحاته محاولاً الرد على الدعايات المضللة الموجه ضده، وضد العراق وحكومته على أثر الأحداث التي رافقت حركة الآشوريين.

كان القلق والانفعال باديين على وجه، وتميزت تصريحاته بشدة اللهجة وكان يضرب بيده على الطاولة بقوة، وهو يتحدث مع الصحفيين، فقد كان قد تلقى سيلاً من التهديدات من الحكومة البريطانية بسبب قمع الحكومة العراقية، ونائب الملك [الأمير غازي] لحركة التمرد الآشورية، وقد طالبته الحكومة البريطانية بالعودة فوراً إلى بغداد، وأخذ زمام الأمر بيده وإلا فسوف يتعرض لنتائج وخيمة!!، وهذا نص آخر إنذار وجهته وزارة الخارجية البريطانية إليه:

{ إن استمرار الحركات العسكرية ضد الآشوريين، وإصرار الحكومة على موقفها، وعدم إصغائها لأوامر جلالتكم، قد أحدث تأثيراً سيئاً لدى الرأي العام البريطاني وغيره، ولذلك فإن لم تعودوا فوراً إلى العراق وتقبضوا بنفسكم على زمام الأمور، فان الحكومة البريطانية ستضطر إلى إعادة النظر في علاقاتها العهدية مع العراق }. (1)

قضى الملك فيصل 3 أيام على تلك الحال وهو يزداد تعباً، وتزداد صحته تردياً،
 وفي 7 أيلول أُصيب الملك بالآم حادة في بطنه، وحضر طبيبه الخاص على عجل، وتم حقنه بحقنة تحت الجلد، حيث أحس بنوع من الراحة.
غير أن صحته تدهورت عند منتصف الليل، وقد حضر إلى غرفته كل من[ نوري السعيد ] و[رستم حيدر] و[تحسين قدري]،حيث وجدوه وهو في حالة خطيرة يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان آخر ما قاله:
{ أنا مرتاح، قمت بواجبي، وخدمت الأمة بكل قواي، ليسر الشعب بعدي بقوة واتحاد}. ثم شهق شهقة الموت. (2)
وعلى الفور طّير[ نوري السعيد] و[رستم حيدر] برقية إلى الحكومة في بغداد وجاء فيها :
 { فجعت الأمة العراقية،عند منتصف الليل بوفاة سيدها وحبيبها جلالة الملك فيصل، وذلك نتيجة نوبة قلبية}!!.
وخرج التقرير الطبي بان الوفاة ناجمة عن انسداد الشرايين، وقد أثار هذا الأمر الاستغراب في وقته، حيث أن هذا الأمر لا يحدث إلا عند المتقدمين في العمر، والملك لم يكن قد بلغ الخمسين عاماً من العمر.
وتم نقل جثمان الملك إلى بغداد في 14 أيلول حيث تم تشيعه في موكب رسمي، ودفن في المقبرة الملكية في الاعظمية.

ثانياً: الشكوك تدور حول بريطانيا ونوري السعيد:

 ثارت الشكوك حول السبب الحقيقي للوفاة، حيث ذكر التقرير الطبي كما أسلفنا هو انسداد الشرايين، وانسداد الشرايين كما هو معروف يسبب آلاماً شديدة في الصدر، في حين أن الملك كان قد شعر في تلك الليلة بالآم حادة في البطن، وليس في الصدر، وعليه فقد كان هناك شك كبير في أن السبب الحقيقي للوفاة هو التسمم، وقيل أن الإنكليز ونوري السعيد هم الذين كانوا وراء العملية.

ومما زاد في تلك الشكوك ما جاء في الوثائق البريطانية مؤخراً عن تصريح للسفير البريطاني [هيمفريز]الذي جاء فيه:
[ إن جعفر العسكري ونوري السعيد اتفقا على أن لا يتحملا أية مسؤولية في المستقبل إذا لم يطرأ تغيير كامل على نفسية الملك فيصل، وأن نوري السعيد مصر على أن لا يتقلد الحكم ما دام فيصل على العرش وأنه لا يمكن للعراق أن يتقدم على عهد ولي العهد [ الأمير غازي ]،فلا بد إذا من تغيير نظام الوراثة ليكون [الأمير زيد] ملكاً بعد وفاة أخيه الملك فيصل]. (3)
وبوفاة الملك فيصل، اختفت فوراً مذكراته الخطيرة، ولم يعد أحد يعرف عنها شيئاً، وكل الشكوك كانت تشير إلى أن وراء عملية الاختفاء تلك كان نوري السعيد.
ثالثاً: نوري السعيد يحاول إبعاد الأمير غازي عن المُلك:
وعلى أثر وفاة الملك فيصل، حاول نوري السعيد إقناع رئيس الوزراء[رشيد عالي الكيلاني] و[ رستم حيدر] وزير الاقتصاد والمواصلات، والمقرب جداً من العائلة المالكة استبعاد الأمير غازي عن تولي الملك بصفته ولياً للعهد، ودعوة  [الأمير زيد] لتولي الملك، بدعوى أن الأمير غازي متخلف عقلياً، ولا يصلح لتولي الملك، لكن الكيلاني رفض رفضاً قاطعاً محاولات نوري السعيد، وأجرى على عجل مراسيم تحليف الأمير غازي اليمين القانونية أمام مجلسي النواب والأعيان، و جرى تتويجه رسمياً مساء يوم 8 أيلول 1933 ملكاً على العراق، وبذلك اسقط في يد نوري السعيد.(4)
وبمناسبة تسلم الملك غازي سلطاته الدستورية، وحسبما ينص الدستور، قدم السيد رشيد عالي الكيلاني استقالة حكومته إلى الملك الذي قبل بدوره الاستقالة، وكلفه من جديد بتأليف الوزارة الجديدة.

رابعاً: اضطراب الأوضاع في عهد الملك غازي

أحدثت وفاة الملك فيصل الأول اختلالاً خطيراً في التوازن السياسي القائم في البلاد، وقد أدت تلك الظروف إلى تفاقم التنافس السياسي بين أولئك الضباط الشريفيين المخضرمين، ومحاولة كل واحد منهم الوصول إلى سدة الحكم مستخدمين البرلمان تارة، وتحريك العشائر تارة أخرى، ووصل بهم الأمر إلى حد استخدام الجيش من أجل تحقيق مآربهم.(5)

وقد وجد[نوري السعيد] الفرصة السانحة لتوسيع نفوذه  في إدارة شؤون البلاد، وسعى بكل جهوده للهيمنة على المسرح السياسي، فقد حاول السعيد بدعم من صهره وحليفه[ جعفر العسكري ]، بعد فشله في منع الملك غازي من تسلم سلطاته الدستورية، إلى احتوائه والتأثير عليه لدرجة وصلت إلى حد التدخل في أموره الشخصية، وكان من بين تلك المسائل الشخصية تدخله في منع زواجه من ابنة السيد[يسين الهاشمي]،وفرض زواجه على[الأميرة عالية] شقيقة عبد الإله، وذلك عن طريق تحريض عمه [الملك عبد الله]الذي تدخل لدى الملك وحمله على الزواج منها، وكانت تلك الزيجة التي تمت في كانون الثاني 1934غير ناجحة، وانتهت بهجر الملك غازي لها حتى مقتله. (6)

 حاول رشيد عالي الكيلاني حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة تضمن له الأكثرية في المجلس، وتقدم بطلب إلى الملك غازي بهذه الرغبة، وتدخل نوري السعيد لدى السفارة البريطانية لمنع حل البرلمان، وسارع السفير البريطاني إلى توجيه تحذير إلى الملك غازي من مغبة الأقدام على حل البرلمان خوفاً من أن يأتي الكيلاني ببرلمان يضم أكثرية من الاخائيين. (7)
 كما حذر الملك[ عبد الله] ابن أخيه الملك غازي من الأقدام على هذه الخطوة، وجاء ذلك في رسالة بعث بها إليه وجاء فيها:
{ إن عليك أن لا تحل المجلس تحت أي ظرف كان، وإلا ستظهر الحاجة إلى إعادة الانتخاب من جديد، وعندها ستواجه مخاطرالصراعات الحزبية }. (8)

 وعليه فقد رفض الملك غازي طلب الكيلاني، وهكذا لم يكن أمام حكومة الكيلاني سوى تقديم استقالتها في 28 تشرين الأول 1933، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم .
لكن الملك آثر أن يبقي العلاقة مع الاخائيين، الذين عملوا معه جنباً إلى جنب في قمع الحركة الآشورية، وعليه فقد كلف زعيمهم [ ياسين الهاشمي] بتشكيل الوزارة الجديدة، لكنه اشترط عليه الإبقاء على المجلس النيابي الحالي .
لكن[يسين الهاشمي] رفض هذا الشرط، وبالتالي رفض قبول المنصب وجرى تكليف السيد [جميل المدفعي] بتأليف الوزارة الجديدة.

ورغم أن الملك لم يكلف نوري السعيد بتشكيل الوزارة، وعهد بها إلى السيد [جميل المدفعي] إلا أن السعيد شغل منصب وزير الخارجية، ووزير الدفاع وكالة في تلك الوزارة، وبذلك هيمن على أخطر وزارتين فيها مما يؤكد مدى تأثيره على إدارة الشؤون العامة للبلاد. (9)

لقد تميزت الأوضاع العامة للبلاد على عهد الملك غازي بالاضطراب فقد حدث تمرد للعشائر في مختلف المناطق، وكان دور السياسيين في حدوثها وإذكائها بارزاً، من أجل تحقيق أهداف وغايات سياسية شخصية لا تمت إلى مصلحة البلاد، وقد استطاعت تلك الحركات إسقاط وزارتين متعاقبتين في خلال فترة وجيزة، وقد أكد السيد [توفيق السويدي] على دور السعيد في تأييد تلك الحركات حيث يقول:
[ إن نوري السعيد وإن لم يكن قد اشترك اشتراكاً فعلياً في تلك الحركات العشائرية إلا أنه كان يؤيدها، وقد انتقد استخدام القوة لقمعها]. (10)
ويقول اللورد بيرد وود:
{إن نوري السعيد وإن كان وزيراً للخارجية إلا أنه لا يستبعد تأييده لتلك الحركات بدليل عدم موافقته على استخدام القوة لقمعها، وهو وإن كان قد اشترك في الوزارتين إلا أنه كان من أشد المعارضين لها حيث أنه كان يشعر أنه أحق من[جميل المدفعي] و[علي جودت الأيوبي] برئاسة الوزارة، وكان يأمل في تطور الأحداث الجارية لكي تلجأ إليه السفارة البريطانية، والطلب من الملك غازي لتكليفه بتأليف الوزارة. (11)
وعندما استقالت حكومة المدفعي نتيجة للخلافات داخل مجلس الوزراء كلف الملك غازي رئيس الديوان الملكي السيد[علي جودت الأيوبي] بتأليف الوزارة التي دخلها نوري السعيد كوزير للخارجية.

ولما شغر منصب رئاسة الديوان الملكي حاول السعيد ترشيح صهره [جعفر العسكري] لتولي المنصب، إلا أن الملك غازي رفض الترشيح،  وعيّن [رستم حيدر] رئيساً للديوان.

أعتبر الشعب العراقي هذه الوزارة امتداداً للوزارة السابقة، وهاجمتها المعارضة بشدة، وقد وزعت في ذكرى تتويج الملك غازي، في 8 أيلول 1934 منشورات تندد بالحكومة وبالملك الذي حملته مسؤولية سوء الأوضاع الاقتصادية، مما أثار جزع الحكومة، التي حاولت من دون جدوى  معرفة مصدر تلك المنشورات، وقد لجأت إلى إغلاق صحيفة الأهالي لمدة سنة، والمعتقد أن الحزب الشيوعي، الذي كان قد جرى تأسيسه في ذلك العام كان وراء تلك المنشورات، فقد شهدت البلاد نشاطاً واسعاً للشيوعيين في تلك الأيام، مما جعل الحكومة تشن حملة شعواء ضد العناصر المشتبه بهم، وإحالتهم إلى المحاكم بتهمة الانتماء لحزب غير مجاز.
اشتدت المعارضة ضد الحكومة من قبل عدد من الشخصيات السياسية وبعض رؤساء العشائر الذين استبعدتهم الحكومة من مجلس النواب فتداعوا إلى عقد اجتماع لقادة  المعارضة في دار السيد حكمت سليمان،  وقد حضر الاجتماع كل من [رشيد عالي الكيلاني] و[ياسين الهاشمي] والعديد من رؤساء العشائرالذين كونوا حلفاً معارضاً للحكومة، وقد جرى انتخاب ياسين الهاشمي زعيماً لهم، ووضعوا لهم ميثاقاً تضمن الإخلاص للملك، والمحافظة على الدستور، وحل المنازعات بين العشائر دون الرجوع إلى الحكومة، وعدم جواز الاشتراك في الحكم دون موافقة القائمين بهذا الحلف. (12)

خامسا: مؤتمر للمعارضة في النجف:

أرادت المعارضة التي شكلت لها حلفاً في اجتماع الصليخ، الحصول على دعم رجال الدين، فدعت إلى عقد مؤتمر لها في النجف في 22 آذار 1935 بدار الشيخ [محمد حسين آل كاشف الغطاء]، وقد حضر المؤتمر عدد كبير من الشخصيات السياسية الوطنية، ورؤساء العشائر والعديد من رجال الدين كان أبرزهم بالإضافة إلى السيد كاشف الغطاء كل من [عبد الواحد سكر] و[جعفر أبو التمن] و[محسن أبو طبيخ] وكل من المحامين [محمد أمين الجرجفجي] و[ذيبان الغبان] و[محمد عبد الحسين] وعشرات غيرهم، وقد بلغ عدد الحاضرين أكثر من 200 شخصية سياسية ودينية، ورئيس عشيرة.

جرى في المؤتمر بحث السبل الممكنة لإجراء الإصلاحات في البلاد وصيانة الدستور من تلاعب الوزارات المتعاقبة على سدة الحكم ومعالجة مشاكل الشعب الاقتصادية، وكُلف المحامون [أمين الجرجفجي] و[محمد عبد الحسين] و[ذيبان الغبان] بوضع ميثاق لتجمع قوى المعارضة المجتمعين في هذا المؤتمر، كما تم الاتفاق على رفع مذكرة إلى الملك غازي تتضمن مطالب المعارضة، والتي ورد فيها المطالب التالية:
 1ـ إلغاء التمييز الطائفي، وتمثيل جميع الطوائف في الإدارة والبرلمان.
2ـ تعديل قانون الانتخاب المعمول به على درجتين، وجعله على درجة واحدة منعاً للتأثيرات الحكومية على المنتخبين الثانويين، وضماناً لمصداقية الانتخابات ومنع التلاعب فيها.
3 ـ إدخال عضو من الطائفة الشيعية في محكمة تمييز العراق أسوة ببقية الطوائف الأخرى.
4 ـ إطلاق حرية الصحافة، ورفع كافة القيود المفروضة عليها، وحصر الأشراف عليها بالقضاء.
5ـ تطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، والمعروفة بسوء السلوك والسمعة .
6ـ مراعاة التوزيع العادل للخدمات الصحية، والثقافية وغيرها،على كافة مناطق العراق.
7 ـ عدم التعرض لمن اشترك في الحركات الوطنية الحاضرة من أبناء الشعب والموظفين وأفراد الجيش والشرطة.
8 ـ إصلاح نظام إدارة الأوقاف.
9ـ تعديل وتعميم لجان تسوية حقوق الأراضي، والإسراع في تنفيذ قانون البنك الزراعي والصناعي .
10ـ إلغاء ضريبة الأرض والماء، واستبدال ضريبة [الكودة] على المواشي بضريبة استهلاك.
11 ـ إلغاء القوانين التي تتعارض مع هذه المطالب. (13)
لكنّ عدداً من رؤساء العشائر انشق عن إجماع المؤتمرين ورفضوا التوقيع على المذكرة بدعوى أن المذكرة شديدة اللهجة وتتضمن مطالب تعجيزيه من الحكومة، وغادروا الاجتماع، وبعثوا بمذكرة إلى الملك والى الوزارة أعربوا فيها عن تأييدهم للسلطة.
أدى ذلك المؤتمر والمذكرة المرفوعة للملك، إلى تصاعد الصراع بين الحكومة والمعارضة، وحاولت الحكومة توجيه ضربة للمعارضة، لكنها خافت من تمرد العشائر، فقد كادت الأمور تفلت من يد الحكومة، وتقع حرب بين العشائر والحكومة، وفي نهاية المطاف قدمت الحكومة الأيوبية استقالتها إلى الملك في 23 شباط 1935، وقد قبل الملك الاستقالة بعد يومين، وكلف الملك غازي السيد [ياسين الهاشمي] بتأليف الوزارة الجديدة.

إلا أن الهاشمي اعتذر عن قبول التكليف بعد أن فرض الملك إشراك جميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي في الحكومة، واستبعاد رشيد عالي الكيلاني الذي اتهم في بإسقاط وزارتيهما عن طريق اتصالاته بالعشائر، ورفض الهاشمي شروط الملك، والتي هي من شروط السفير البريطاني حيث أشار السفير البريطاني على الملك تكليف السيد[جميل المدفعي] بتشكيل الوزارة الجديدة، واشترك السعيد في الوزارة كوزير للخارجية أيضاً. (14)

التوثيق
   (1)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 295 ـ عبد الرزاق الحسني
(2)   المصدر السابق ـ 307
(3)   نوري السعيد ودورة في السياسة العراقية ـ ص 18 ت سعاد رؤوف
(4)   تاريخ الوزارات العراقية ت الجزء الثالث ـ ص 320 ـ الحسني .
(5)   نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية ـ ص 7 سعاد رؤوف .
(6)   مذكرات ناجي شوكت ـ ص 248 .
(7)   مذكرات كروبا ـ السفير الألماني ـ رجال ومراكز قوى ت ص 233 .
(8)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 329 .
(9)   نفس المصدر ـ الجزء الرابع ـ ص 6 .
(10)مذكرات توفيق السويدي ـ ص 255 .
(11)نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية ـ ص 26 .
(12)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 48 ـ الحسني.
(13)نفس المصدر ـ ص 50 .
(14)المصدر السابق ـ ص 56 .


148

هكذا تقاسمت الأحزاب الطائفية الشيعية
والقومية الكردية العراق
حامد الحمداني                                                     22/8/2015
خرج الشعب العراقي بعد سقوط نظام صدام وحزبه الفاشي الذي استمر قرابة الأربعة عقود في حالة من التخلف الشديد في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية جراء حروب النظام، والحصار الإجرامي الذي فرضه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب على الشعب العراقي دون صدام، والذي مثّلَ بحق أبشع أنواع الحروب وأقساها [حرب تجويع شعب كامل]حيث تلاشت الطبقة الوسطى وبات معظم الشعب العراقي تحت خط الفقر، وانهار الدينار العراقي [حيث كان الدينار قبل حروب صدام يعادل ثلاثة وثلث دولار وبات يساوي الدولار الواحد 3000 دينار، أي هبط سعره تجاه الدولار 10000مرة] وعم الفقر والجوع ارجاء العراق وبات الشعب يعيش محنة كبرى ولم يكن أمامه من وسيلة للخلاص من تلك المحنة القاسية غير اللجوء للتدين لعل الله ينقذهم من جور نظام صدام.
 وجاءت حملة الدكتاتور صدام الإيمانية المزعومة، وحربه الشعواء على القوى والعناصر الديمقراطية وتصفيتها، لتزيد تخلف المجتمع العراقي، وتهيئ الأجواء لأحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني للهيمنة على إرادة المجتمع العراقي مستغلة تلك الظروف، للاستئثار بالساحة السياسية وملئ الفراغ الذي تركه النظام المدحور.
وعلى جانب الطرف الكردي فقد كان حزبي البارزاني والطالباني قد هيمنا على السلطة في منطقة كردستان العراق بدعم من الولايات المتحدة بعد أن وضعت بالتعاون مع بريطانيا تحت الحماية الجوية لمنطقة كردستان في ما سمي آنذاك بـ [بروفايد زون] بعد اندحار قوات صدام في حرب الخليج الثانية عام 1991 .
وجاء الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ومن ورائه ما كان يدعى بالمعارضة العراقية في الخارج، وفي المقدمة منها احزاب الاسلام السياسي الشيعية المتمثلة بحزب الدعوة والمجلس الاسلامي الأعلى بقيادة عبد العزيز الحكيم، واحزاب القومية الكردية بزعامة جلال الطالباني ومسعود البارزاني، والتي ضمتها القيادة الأمريكية تحت جناحيها لتزيد الطين بله، عندما سلم المحتلون الامريكان السلطة السياسية لهذه الاحزاب، مستبعدة الطائفة السنية، مما فسح المجال لقوى الاسلام السياسي السنية والعناصر البعثية التي اسقطت عن السلطة    ولاسيما منتسبي الجيش العراقي الذي حله المحتلون تاركين جنود وضباط الجيش وعوائلهم دون مورد اقتصادي لتضع مستقبل العراق على كف عفريت، حيث لجأت تلك القوى لحمل السلاح ممارسة الارهاب في طول البلاد وعرضها من تفجير السيارات المفخخة وزرع العبوات الناسفة والاغتيلات مسببة الويلات والمآسي والخراب والدمارفي البلاد .
أما قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وحزبي البارزاني والطالباني القومية الكردية، فقد رأت أن قيام تعاون وثيق فيما بينها خير سبيل لاقتسام السلطة، واستطاعت هذه القوى إقناع الولايات المتحدة بإجراء انتخابات عاجلة في البلاد، وطبخ دستور للبلاد، على عجل، على الرغم من عدم تهيئ الظروف المناسبة للشعب العراقي لها، بعد أن وجدت هذه القوى أن الفرصة سانحة لها لاكتساح مقاعد البرلمان، والاستئثار بعملية سن الدستور، ولاسيما بعد أن قاطعت الطائفة السنية تلك الانتخابات التي أفرزت المجلس التأسيسي، وكان ذلك الموقف من جانبها خطأ كبيرا جداً في واقع الحال دفعت ثمنه غاليا فيما بعد.
وجاءت انتخابات المجلس التأسيسي فوزاً كاسحاً لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي، وفوز حزبي البارزاني والطالباني بكافة مقاعد المنطقة الكردية، بعد ان صوت الشيعة لطائفتهم والكرد لقوميتهم باسم المظلومية حيث حازت قائمة الائتلاف على ما يقارب نصف مقاعد البرلمان، وفوز الأحزاب الكردية بواحد وسبعين مقعداً.
وعلى الفور بادر الطرفان لإجراء مفاوضات بين القيادتين من أجل تشكيل تحالف يضمن لهما أغلبية الثلثين في البرلمان، مما يجعل أيديهما طليقة في تقرير مصير البلاد من خلال تقاسم السلطة بينهما، وتشكيل الوزارة، وتشريع وإقرار الدستور الدائم.
لقد وجدت قيادة الحزبين الكرديين أن مصلحتهما تكمن في إقامة تحالف مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي متخلين عن حلفائهم التقليديين، ومتجاهلين كونهما حزبين ديمقراطيين كما يشير ميثاق الحزبين، بل وحتى تبنيهما الماركسية يوم تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني!، وكان الطالباني عضواً في مكتبه السياسي، على عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.
وقد وجد زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الراحل عبد العزيز الحكيم أن هناك قاسماً مشتركاً مع قادة الحزبين الكرديين يتمثل بإقامة كيانات  فيدرالية بموجب ما نصت عليه المادة 58 من قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الذي فرضه بريمر، والتي تستهدف في واقع الحال تمزيق الكيان العراقي وبنيته الاجتماعية، مما قد يدفع الشعب العراقي إلى الصراعات الطائفية والعرقية، وبالتالي الحرب الأهلية بين سائر مكوناته الإثنية والطائفية.
 دخل الطرفان في مباحثات واسعة ومعمقة لم تترك صغيرة ولا كبيرة في سائر شؤون الحكم، وتقاسم السلطة والوزارات السيادية، وصياغة الدستور، ومسألة الفيدرالية، والميليشيات المسلحة للطرفين، ونسب توزيع ميزانية الدولة، واستطاع الجانب الكردي الذي مثل بيضة القبان في البرلمان فرض شروطه على قادة أحزاب الائتلاف الشيعي، والتي تضمنها الاتفاق الذي جرى عقده بين الطرفين.
 لقد وجدتُ من الضروري أن يطلع عليه القراء كي يقفوا على كل ما تضمنه الاتفاق، والتعليق الذي سيتناول كافة جوانب الاتفاق، والتأثير الذي سيتركه على مستقبل العملية السياسية في العراق، وبالتالي مستقبل العراق نفسه وطناً وشعباً، وهذا هو نص الاتفاق الموقع بين الطرفين. 
نص اتفاق الائتلاف العراقي الموحد والقائمة الكردية:              .                 بسم الله الرحمن الرحيم:                                            .
الأسس والمبادئ المتفق عليها بين الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الوطني الكردستاني لعمل الحكومة الانتقالية:                 .
 أفرزت الانتخابات العامة حالة جديدة في الساحة السياسية العراقية ما يستوجب شحذ الهمم، وتكاتف القوى الوطنية والإسلامية الأساسية العامة، وخصوصا الفائزة منها للعمل المشترك ووضع آلية وبرنامج عمل الحكومة الوطنية لتعكس المهمات الكبيرة لاستحقاقات المرحلة القادمة، وبذل كل الجهود من أجل تنفيذ هذا البرنامج لإنجاح العملية السياسية، ولبناء العراق الدستوري الديمقراطي الاتحادي التعددي الموحد، الذي يشعر فيه المواطن بكامل المواطنة المتساوية في ممارسته لحقوقه الفردية والجماعية، لنجعل من العراق بلد الجميع من قوميات واديان ومذاهب، يراعي ويحترم فيه الإسلام العظيم السمح المتعايش بمبادئه الخالدة مع بقية الديانات والمعتقدات في العراق وأبنائها كالمسيحيين والصابئة و الأيزيديين وغيرهم .
 بلد تتحد فيه القوميتان الكبيرتان العربية والكردية اللتان تشكلان الثقل الأعظم للشعب العراقي دون عزل أو تمييز عن الدور الكبير الذي يحتله التركمان والكلدان والآشوريين وبقية المكونات بما يؤمن الحقوق الدينية والقومية لكل الأفراد ومكونات الشعب العراقي، بلد تتآخى فيه الأغلبية الشيعية مع السنة بمكانتهم التاريخية ليعمل الجميع من أجل عراق موحد ديمقراطي اتحادي تعددي.   
إن طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها الشعب العراقي نحو مرحلة دستورية مستقرة تتطلب تشييد البناء على أسس واضحة المعالم لجميع مكونات الشعب العراقي بأطيافه وتياراته السياسية، ولاسيما وان للكثير من أطراف الحركة الوطنية والإسلامية العراقية تحالفات سابقة فيما بينها لمناهضة النظام الدكتاتوري المقبور، وتعاون بناء في مختلف المجالات بعد سقوط ذلك النظام تكلل بالانتخابات الرائعة التي استطاع شعبنا أن ينتصر فيها، والتي تمخضت عن فوز كبير للقائمتين الكبيرتين الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، مما يوفر أرضية ممتازة للكتلتين بالتعاون إنشاء الله مع بقية الكتل واللوائح لاجتياز هذه المرحلة الحساسة سوية، وهذا شرف كبير يكتب لنا جميعا يسجله التاريخ، وتشيد به الأجيال القادمة لتعزيز الحالة الديمقراطية لبناء العراق على أساس العدالة والإنصاف والمشاركة.
 يتفق الطرفان على الأسس التالية لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية:                                                                       أولا:                                                           .
الالتزام بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية واعتبار أن مهمة المرحلة الانتقالية هي إعداد الدستور الدائم، والسير قدما في قيام حكومة منتخبة وفق دستور دائم.   
2ـ  تشكيل حكومة وحدة وطنية، والأخذ بمبدأ المشاركة والتوافق، وتمثيل المكونات العراقية مع الأخذ بنظر الاعتبار النتائج الانتخابية والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، وتوسيع دائرة الاشتراك في العملية السياسية، والإجراءات لصياغة الدستور لكل المكونات والعناصر المقبولة والممثلة لأوساطها، والتي تنبذ الإرهاب والتخريب دون تهميش أوغبن. 

3ـ العمل على صيانة سيادة العراق وتعزيز استقلاله ووحدته، والتعامل مع مسألة تواجد القوات المتعددة الجنسيات ضمن قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1546، والإسراع في خطط استكمال بناء القوات المسلحة العراقية لتستطيع أن تتسلم المهام الأمنية من القوات المتعددة الجنسيات عند استكمال المستلزمات عند الجانبين، وتأكيد منهج الاستمرارية والتعاون بين الطرفين بما يحقق الغايات المعلنة بانتهاء مهمة العراق. إن الإسراع في استكمال المستلزمات الذاتية وفق جدول زمني لتسليم القوات العراقية المهام الأمنية كاملة سوف يهيئ الظروف لتقليل دور القوات المتعدد الجنسيات تدريجيا وصولا إلى إنهاء مهامها.
عدم قبول واقع الحرمان والمظلومية والعزل والتمييز واللامساواة والتأخر التي أصابت المناطق والمدن بسبب السياسات العنصرية والطائفية والاستبدادية للنظام السابق، خصوصا ما حصل في الجنوب وكردستان وحلبجة وبقية محافظات العراق، والبدء بتنشيط فكرة مجلس الإعمار خصوصا من أجل إعادة إعمار الجنوب، وتلك المناطق، وتشجيع السياحة الدينية وسياسات الاستثمار والخدمات العامة، كذلك إعطاء الأولوية للسياسات اللازمة في معالجة كل ذلك (المظلومين وضحايا الأنفال والحرب الكيماوية والانتفاضة الشعبانية والسجناء والمفصولين والمهجرين، وعوائل الشهداء والمناطق المحرومة ... الخ) . كل ذلك دون الإخلال بمبدأ عدم التمييز بين مناطق العراق إلا لتطبيق السياسات الايجابية، وتوفير نفس فرص التطور والخدمات لكل المناطق بدون استثناء، وكذلك الحفاظ على مبدأ الأهلية والكفاءة من جهة، ومبدأ فاعلية الأجهزة وضرورة استمرارها في تأدية واجباتها.           
يجب الحرص على وحدة الحكومة وعملها، وتنسيق سياساتها، وتبني مجلس الوزراء لنظام داخلي ينظم عمله بما ينسجم والتوافق السياسي في اتخاذ القرارات الأساسية السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية.
6 ـ الحكومة الانتقالية، وبغض النظر عن التحالفات داخلها، كل متحد، وعليه يجب الحرص على وحدتها، وانسجام عملها، وتناسق سياساتها .. وفي حالة حصول خلاف في داخل الحكومة بين الائتلاف الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، وعند استعصاء الخلاف بينها فانه لا يصار إلى حل التحالف والمطالبة باستقالة الحكومة إلا في الحالات المسوغة لحل التحالف والمنصوص عليها أدناه:                                               .
  أ ـ مخالفة مبدأ واحد أو أكثر من المبادئ العامة المتفق عليها لسياسة 
 الحكومة على نحو لا تسوغ هذه المخالفة ضرورة قاهرة تمليها ظروف داخلية أو إقليمية أو دولية يعترف بوجودها الطرف المنسحب.      .
 ب ـ إقالة عضو في موقع سيادي من موقع مجلس الوزراء أو سحب الثقة منه دونما سبب قانوني، وموافقة الطرف الذي ينتمي إليه هذا العضو 
 ت ـ اتخاذ أية إجراءات أو تدابير بواسطة الحكومة من شانها إلغاء أي مطلب من المطالب الممنوحة لأي طرف من طرفي التحالف بموجب الاتفاق المبرم بينهما.                                    .
 ث ـ وقبل استقالة الحكومة يتبع الطرفان الوسائل التالية المتدرجة لحل هذا لخلاف:                                                               .
 ـ  لقاء بين ممثلي الكتلتين داخل مجلس الوزراء.                     .
 ـ اجتماع ممثلي الطرفين من هيئة رئاسة الدولة ومجلس الوزراء وهيئة رئاسة الجمعية الوطنية.                               .
 ـ اجتماع بين رؤساء الأحزاب والقوى السياسية المنضوية داخل الكتلتين 
 في حالة عدم التوصل إلى حل، وأدى ذلك إلى انسحاب احد الطرفين من الحكومة تعتبر مستقيلة، ويجري التشاور لتشكيل حكومة إنتقالية جديدة خلال فترة أقصاها شهر واحد مع مراعاة أن لا تترك البلاد تحت فراغ دستوري أو أمني أو إداري لحين تشكيل الحكومة الجديدة تقوم الحكومة المستقيلة بتصريف الأمور                               .
 7 ـ إعادة الهيبة لعمل القضاء، وإرساء دولة القانون، وإتباع الأصول الإدارية والمؤسساتية، ورفض سلطة الفرد والقرارات الارتجالية وغير الأصولية، واعتبار الوزارات ومؤسسات الدولة هوية وطنية وملكا للشعب وليست هوية لحزب أو لوزير أو لأهوائه وقراراته الشخصية، ومنع أي استئثار أو هيمنة أو وصاية فكرية لأية فئة أو جماعة بالتشكيلات الحكومية والإدارية والمؤسسات العامة، واحترام حرية الرأي ومؤسسات المجتمع المدني والإسراع في محاكمة مجرمي العهد السابق، وإنزال اشد العقوبات فيهم للجرائم اللاإنسانية التي ألحقوها بالشعب العراقي، وذلك وفق أسس العدالة والقوانين المرعية.                                .   
  8 ـ تشكيل المحكمة الاتحادية المكونة من 9 أعضاء حسب الخطوات المبينة في قانون إدارة الدولة على أن يراعى في ذلك التمثيل العادل لكل البلاد على أساس التكافؤ بما يتناسب مع مكونات الدولة العراقية الاتحادية التاريخية والجغرافية، وان تتوفر في أعضاء المحكمة الخبرة  المؤهلات القضائيةالعالية، وان لا تسقط المحكمة تحت تأثير جماعة معينة، وان تتمتع بالحياد المطلق، وان لا يعتبر القاضي ممثلا لجماعة بل ممثلا للحقيقة والرأي القانوني والقضائي المستقل بعيداً تماما عن أية تأثيرات.

 9 ـ تفعيل عمل الهيئات الواردة في قانون إدارة الدولة، وعدم الالتفاف عليها، مع مراعاة أهمية تسيير أداء عمل تلك الهيئات وفق الأهداف التي أسست من اجلها.                                    . 
 10ـ حل الخلافات والمنازعات بين الجماعات وفق مواصفات التفاهم والتشاور والمواطنة والرغبة المشتركة للبناء الوطني، والعيش بسلام، بمراعاة حقوق الجميع، وعدم اللجوء إلى الاستفزاز أو الاعتداء، والتقيد بالقوانين والأنظمة والأساليب التفاوضية وقواعد الاحتكام بما يرفع الظلم ويحقق العدل والوئام والسلام بين أبناء الشعب وجماعاته المختلفة                 
 11 ـ إتباع سياسة الصداقة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع دول الجوار ودول العالم وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد الحوار والتفاوض لحل الخلافات العالقة.                            .
ثانيا: العمل على إعداد مسودة الدستور:                          .                                   
 1 ـ تتفق الأطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء إعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الأساسية المثبتة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الإطراف أنها تسعى إلى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنه. 

 2 ـ أن تشترك الأطراف التي لم تفز في الانتخابات أو التي لم تشارك فيها لأسباب اضطرارية، وممثلو كل الفئات والجماعات التي هناك اتفاق عام على حاجتها للوحدة الوطنية، وتقرير مستقبل البلاد إلى ضرورة حضورها اللجان النقاشات وإعداد الصياغات التحضيرية لإعداد الدستور قبل طرحه على الجمعية الوطنية والاستفتاء العام، وان يراعى تحقيق التوافق الوطني لكل أطياف الشعب العراقي.

 ثالثا : حقوق الأقليم والمحافظات والمواطنين:                        .
 تعزيز المكانة الخاصة لدورالأقاليم ومجالس المحافظات، واحترام نتائج انتخابات مجالس المحافظات، وللمجلس الوطني لإقليم كردستان وتطوير التنسيق والتعاون بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات، وتوفير الميزانيات اللازمة لها، واحترام مبدأ عدم التدخل في شؤونها ودورها المستقل في نطاق عملها، وتطوير صلاحياتها، كما ورد في قانون إدارة الدولة، وفي الأمر رقم 71 مع إعادة الاحترام والفاعلية لعمل الدولة لممارسة صلاحياتها، وتأدية  مهامها وعدم التمييز بين العراقيين في كل أنحاء العراق، وحقهم المشروع في الإقامة والعمل والتنقل والتملك والتمتع بالحقوق والواجبات الاتحادية والإقليمية بكل مساواة وعدم تمييز، شرط أن لا يكون ذلك قد تم وفق سياسة عنصرية  أو طائفية تفرض تغيير الواقع السكاني.
رابعاً:
 1ـ الإسراع في تطبيع الأوضاع في المناطق المختلف عليها وبضمنها كركوك من خلال إعادة المهجرين، وإعادة توطين الغرباء الذين اسكنوا في هذه المناطق ضمن سياسة التغيير السكاني والتطهير العرقي وفق قانون إدارة الدولة، وذلك بتوفير التخصيصات اللازمة لهيئة فض منازعات الملكية، وهيئة تطبيع الأوضاع في كركوك، وعلى الحكومة العراقية الانتقالية اتخاذ الخطوات العاجلة لتطبيق 1 و 2 و 3 و 4 من الفقرة (أ) من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتقوم الحكومة الانتقالية خلال فترة لا تتجاوز الشهر من تشكيلها بتفعيل إجراءات التطبيع بما فيها توفير التمويل لهيئة تطبيع الأوضاع في كركوك وهيئة منازعات الملكية.                                   .
التطبيق الكامل للمادة 58 من قانون إدارة الدولة الانتقالية بما يؤدي إلى تحديد الانتماء  الإداري للمناطق المختلف عليها بما فيها محافظة كركوك،  وعلى الرئاسة الانتقالية الإسراع في تقديم المقترحات بشان معالجة التلاعبات بالحدود الإدارية لهذه المناطق إلى الجمعية الوطنية الانتقالية، وتوضع التسويات الضرورية بما يحقق الرغبة النهائية لسكان المحافظة بعد التطبيع، وبعد المصادقة على الدستور الدائم.
                   
3ـ مواصلة الجهود لتصحيح الأوضاع في التمثيل الخارجي بما يعالج سياسات التمييز والعزل السابقة، ويسمح لكل الكفاءات العراقية بحسن الحضور والتمثيل وان يعكس الوجه الخارجي للعراق واقع الشعب العراقي والمبادئ والسياسات التي يؤمن بها.       

4ـ التعامل مع الملف الأمني، وإعطاء أولوية خاصة في اتجاهين رئيسيين:
 الاتجاه الأول: 
إيقاف المجازر والقتل اليومي ورفع التهديد التخريبي والإرهابي عن السكان، والذي مازال يشكله الخلل الأمني المتمثل في بعض جوانبه الخطيرة بوجود عناصر بقايا النظام السابق، والعناصر الفاسدة في بعض المؤسسات والأجهزة الأمنية .. واعتبار أن الولاء للنظام الجديد هو شرط رئيسي يجب أن يتلازم مع  الكفاءات والأهلية من جهة وضمان استمرارية عملية بناء هذه الأجهزة، وعدم تعريضها للتشويش أو للتعطيل من جهة أخرى،  وكذلك باتخاذ الإجراءات الحاسمة لمنع تدخل الدول المجاورة في الشؤون العراقية، وتشجيع الإرهابيين، وتوفير الأغطية الإيديولوجية لهم، ومحاربة المنظمات الإرهابية الموجودة  في العراق، وكشفها وتعريتها أمام الشعب العراقي، وإنزال أقسى العقوبات بعناصرها، وتطهير البلاد من كل المنظمات الإرهابية.                                       
 
 الاتجاه الثاني: وهو بناء القوات المسلحة العراقية، وقوات الأمن بشكل ينسجم مع حاجات الأقاليم والمحافظات، وقوى أمنها الداخلي، وتوفير التخصيصات المالية والتسليحية واللوجستية لذلك وبما ينسجم مع الضرورات السوقية ومتطلبات الدفاع الوطني والأمن الداخلي للبلاد كلها .. والإسراع بتطبيق الأمر 91 ( والذي يشمل 11 مؤسسة منها قوات البيشمركة وقوات بدر وبقية التشكيلات التي قاتلت النظام بكل بسالة وإخلاص)، وان تتحول العناصر المندمجة من القوات المشار إليها إلى عنصر طبيعي في القوات المسلحة العراقية، وان يتم توفير التخصيصات لها، ويشار إلى تحويل قوى منها إلى قوى أمن داخلي في الأقاليم والمحافظات أو يتم استيعابها في المؤسسات المدنية أو تتلقى التأهيل اللازم عبر ذلك من إجراءات لاندماجها واستيعابها.   

5ـ أن تعكس الموازنة العراقية وسياسات العرض والاستثمار والمنح الأجنبية حاجيات الشعب العراقي الراهنة والمستقبلية، وخصوصا فئاته الفقيرة والمحرومة، وضمان تطور العراق ليستعيد مكانته الطبيعية      كذلك أن تعكس الموازنة والسياسة المذكورة أعلاه حاجيات المحافظات  والأقاليم بشكل متوازن من جهة، ويزيل الحيف عن بعض المناطق المتضررة والمظلومة من جهة أخرى، وان تراعي الحكومة الانتقالية هذه الإعتبارت في خططها القادمة، وفي موازنة 2006، مع الالتزام بتنفيذ موازنة 2005 بكل ما تتضمنها من الأهداف أعلاه.       

 6ـ تقوم الحكومة العراقية بتأسيس وتشجيع شركات استثمار للثروات الطبيعية، ومنها النفطية على المستويات الاتحادية، وفي إقليم كردستان وفي المحافظات، وان على الحكومة إن تضع الضوابط الاتحادية والإقليمية كذلك المحافظات بالاتفاق مع السلطات المحلية لأعمال الاستغلال والاستثمار بما يحقق التوزيع العادل للعوائد وفق نسب السكان وحاجيات المناطق من جهة، وتحقيق المصالح الوطنية العامة من جهة أخرى.)                           .
 التوقيع 
 الائتلاف العراقي الموحد: عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية وخالد العطية وفالح الفياض عضوا الجمعية الوطنية.
 التحالف الوطني الكردستاني: فؤاد معصوم عضو الجمعية الوطنية ونوري شاويس نائب رئيس الجمهورية، وبرهم صالح نائب رئيس الوزراء  وهوشيار زيباري وزير الخارجية المنتهية ولايتهم
نظرة في اتفاقية التحالف الشيعي الكردي:
من خلال دراسة متأنية لاتفاقية التحالف لقوى الأحزاب الطائفية الشيعية والقومية الكردية يتبين لنا أن الاتفاقية كانت أشبه بملخص للدستور بين فريقين استأثرا بالسلطة بعد أن شكل تحالفهما الأغلبية المطلقة في البرلمان، واستطاع الجانب الكردي فرض أدق الشروط التي تضمن لهم مطالبهم وأهدافهم البعيدة المدى.                                 .                                               فقد جاء في الفقرة الأولى من الاتفاق: الالتزام بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية، واعتبار أن مهمة المرحلة الانتقالية هي إعداد الدستور الدائم، وهذا يعني تمسك الفريق الكردي بنصوص قانون إدارة الحكم الذي وضعه بريمر واتخاذه أساسا لصياغة الدستور العراقي، وخاصة فيما يخص المادة 58، والتأكيد على إقامة الفيدراليات. ورغم ما ورد في الوثيقة حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، والأخذ بمبدأ المشاركة والتوافق، وتمثيل المكونات العراقية، والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، لكن الحقائق أثبتت أن القرارات كانت تمارس من قبل التحالف الشيعي الكردي، ولم يكن للأطراف المشاركة الأخرى دور فاعل مما اضطرها في نهاية المطاف إلى الانسحاب من الحكومة، وحتى من البرلمان. وبقيت البلاد تحكمها الميليشيات التابعة لهذه الأحزاب، ويتهددها التمزق والحرب الأهلية، وبقيت ميليشياتها قائمة خلافاً للدستور الذي وضعوه هم.                                                 
وجاء في الفقرة الثانية من الاتفاق: ـ تتفق الأطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء إعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الأساسية المثبتة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الإطراف أنها تسعى إلى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنها. وهنا يبدو لنا بيت القصيد في هذا الاتفاق حيث حرص الجانبان وبوجه خاص الجانب الكردي على التمسك بدستور بريمر الذي كان لهم الدور الكبير في إخراجه، ومارسوا الضغوط على بريمر ليأتي بهذا المحتوى فكان الدستور الذي تم وضعه من قبل المتحالفين نسخة من الدستور الذي وضعه المحتلون الأمريكيون، ولا شك أن ما وضع على يد المحتلين سيكون باطلاً في نهاية المطاف. 
وجاء في الفقرة الثالثة من الاتفاق: إزالة آثار سياسات النظام البائد في تغيير الواقع القومي والمذهبي والسكاني من خلال الهجرة القسرية وتوطين الأفراد الغرباء، التي جرى فرضها من قبل القيادة الكردية ليشكل برميل بارود قد يفجر الحرب الأهلية بسبب إصرار هذه القيادة على إخراج العرب من كركوك وضمها لمنطقة كردستان، ومطالبتهم بمناطق واسعة أخرى من محافظات الموصل وديالى وصلاح الدين، وقد وصل الأمر بالسيد مسعود البارزاني أن تحدث صراحة في مقابلة مع قناة الحرة بشكل استفزازي قائلا:{إن الحرب الأهلية الحقيقية ستندلع من هنا إذا لم تعد إلينا كركوك}، ولم يكمل البارزاني تهديده، ويحدثنا ضد من سيحارب، والقوة التي ستشعل الحرب الأهلية، والتي هي بكل تأكيد ميليشيا البيشمركة التي ترفض اخذ الأوامر من رئيس الحكومة المالكي باعتباره حسب الدستور القائد العام للقوات المسلحة، ورغم ذلك تدفع الحكومة العراقية 17% من موارد النفط لحكومة كردستان والتي يذهب جانب كبير منها إلى قوات البيشمركة.         
تأليف مجلس الرئاسة والحكومة برئاسة الجعفري
بعد ظهور نتائج الانتخابات للمجلس التأسيسي وفوز قائمة الائتلاف الشيعية وقائمة التحالف الكردستانية المتحالفة معها بأغلبية مقاعد المجلس بات من المحتم أن يشكل الوزارة أحد أقطاب قائمة الائتلاف الشيعية باعتبارها  فازت بالأغلبية.
كان هناك تنافس شديد بين المجلس الأعلى برئاسة السيد عبد العزيز الحكيم  وحزب الدعوة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري، قطبا التحاف الشيعي الرئيسيين حول منصب رئاسة الحكومة، فقد رشح عبد العزيز الحكيم السيد عادل عبد المهدي، فيما رشح حزب الدعوة زعيمه إبراهيم الجعفري، وبعد مشاورات تخللتها مناورات عديدة بين مختلف أطراف التحالف الشيعي استطاع الدكتور إبراهيم الجعفري تحقيق الفوز بمنصب رئاسة الوزارة، وجرى الاتفاق بين الطرفين على تعيين مجلس الرئاسة على الوجه التالي:
1 ـ السيد جلال الطالباني ـ رئيساً للجمهورية
2 ـ السيد غازي عجيل الياور ـ نائباً لرئيس الجمهورية
3 ـ السيد عادل عبد المهدي نائباً لرئيس الجمهورية
وسأتناول تشريع الدستور والذي كان يمثل بيت القصيد للتحالف في مقال قادم .


149
من أجل نهضة ثورية لنظامنا التربوي
حامد الحمداني                                    20/8/2015
يشهد عصرنا الحاضر تطوراً كبيراً في أساليب التربية الديمقراطية قلب المفاهيم السائدة رأساً على عقب، فبعد أن كان الكتاب والمعلم، وهو لا يزال مع شديد الأسف في الكثير من البلدان النامية هما المحور الذي تدور حوله عملية التربية والتعليم، وجلّ هم المدرسة حشو أدمغة التلاميذ بالمعلومات النظرية التي تتضمنها الكتب المقررة من قبل وزارات التربية والتعليم، والتي ليس لها علاقة بواقع حياتهم، ولاصلة تربطها بالمجتمع، وإجبار التلاميذ على استيعابها بكل الوسائل ومنها بكل تأكيد القسرية بما فيها العقاب البدني لكي يتم حفظها عن ظهر قلب، وتأدية الامتحانات فيها.
 لكن تلك المعلومات التي اُجبر على حفظها لا تلبث أن تتبخر من أذهانهم لأن التلميذ ينسى بسرعة ما تعلمه، لكنه يذكر دائماً ما وجده بنفسه، وإن التعلم الحقيقي هو أن يقوم التلميذ نفسه بتجاربه، فهو يفهم أكثر إذا عمل بدل أن يصغي و يقرأ، وإن كل المعارف التي يتلقاها التلميذ عن طريق الترديد والتلقين لا تعتبر معارف حقيقية، فقد تكون الخطورة في الترديد من دون الفهم، وقد يكون الفهم خاطئاً، وهوما يعتبر اخطر من الجهل كما يقول أفلاطون.
إن من الضروري أن يتملك التلميذ المعرفة، ويمتصها بكيانه كله، وبفكره وتجربته، لكنه يعجز عن ذلك إذا لم نتح له الوقت المناسب ليدرسها، وليستعيدها لنفسه وحسابه الخاص، ولا يشك أحد أن معرفة كهذه هي أبقى من معرفة تُلقن تلقيناً لأنها تبقى أبداً في حالة استعداد لمجابهة مواقف ومشاكل أخرى حتى ولو نسيتها الذاكرة لأنها تتيح للتلميذ فرصة توسيع إمكانياته.
لقد أهملت المدرسة القديمة ميول ورغبات وغرائز الأطفال، وضرورة إشباعها وتشذيبها وصقلها، وأهملت ضرورة فسح المجال لإظهار التلميذ لقدراته وقابليته في مختلف الفنون الموسيقية والغنائية والتمثيلية، وأهملت ضرورة إعطائه المجال الواسع للعب وإظهار طاقاته البدنية المكبوتة، واعتُبرت مسائل ثانوية في نظر القائمين على التربية لا تستحق الاهتمام.   
لقد أجاد المربي الكبيرجون ديوي في كتابه [المدرسة والمجتمع] في وصف واقع المدرسة القديمة قائلاً:
{لكي أوضح النقاط الشائعة في التربية القديمة بسلبيتها في الاتجاه، وميكانيكيتها في حشد الأطفال، وتجانسها في المناهج والطريقة، من الممكن أن يلخص كل ذلك بالقول بأن مركز الجاذبية واقع خارج نطاق الطفل، إنه في المعلم وفي الكتاب المدرسي، بل قل في أي مكان تشاء عدا أن يكون في غرائز الطفل وفعالياته بصورة مباشرة، وعلى تلك الأسس فليس هناك ما يقال عن حياة الطفل، وقد يمكن ذكر الكثير عما يدرسه الطفل، إلا أن المدرسة ليست المكان الذي يعيش فيه، وفي الوقت الحاضر نرى أن التغيير المقبل في تربيتنا هو تحول مركز الجاذبية، فهو تغير أو ثورة ليست غريبة عن تلك التي أحدثها كوبر نيكوس عندما تحول المركز الفلكي من الأرض إلى الشمس، ففي هذه الحالة يصبح الطفل الشمس التي تدور حولها تطبيقات التربية، وهو المركز الذي ننظمها حوله} .
أما العالم الشهير[جان جاك رسو] فقد دعا في عصره إلى إجراء التغيير الجذري في مناهج المدرسة قائلاً :
{حولوا انتباه تلاميذكم إلى ظواهر طبيعية فيصبح أشد فضولاً، ولكن لا تتعجلوا في إرضاء هذا الفضول بل ضعوا الأسئلة في متناوله، ودعوه يجيب عليها، ليعلم ما يعلم، ليس لأنكم قلتموه له، بل لأنه فهمه بنفسه ليكشف العلم بدلاً من أن يحفظه، فعندما يجبر على أن يتعلم بذاته فإنه يستعمل عقله بدلاً من أن يعتمد على عقل غيره، فمن هذا التمرين المتواصل يجب أن تنتج قوة عقلية تشابه القوة التي يعطيها العمل والتعب للجسم. إن الإنسان يتقدم بالنسبة لقواه، وكذلك الفكر فإنه مثل الجسد لا يحمل إلا ما وسع من طاقته}.
وهكذا إذاً كانت الدعوات من قبل العلماء والمفكرين تتوإلى لإعادة النظر في المناهج الدراسية والتربوية من أجل تحويل المدرسة إلى صورة مصغرة من المجتمع الديمقراطي المشذب والمهذب لكي يمارس التلاميذ حياتهم الفعلية فيها، ولكي يستنبطوا الحقائق بأنفسهم، ولكي يصبح الكتاب والمعلم عاملين مساعدين في تحقيق ما نصبو إليه في تربية أجيالنا الصاعدة، ولتصبح المدرسة هي الحياة  بالنسبة لأجيالنا، وليست إعداداً للحياة، حيث يمارس التلاميذ داخل مدرستهم مختلف أنواع المهن الموجودة في المجتمع الكبير، ويمارسون كل هواياتهم الفنية والرياضية والموسيقية وغيرها من الهوايات الأخرى، وبكل ثقة نستطيع أن نقول أنهم بهذا الأسلوب سوف يطلقون قدراتهم الذاتية في الاستطلاع والفهم والاستيعاب واستنباط الحقائق بأنفسهم خيراً ألف مرة من تلقينهم الدروس المحددة والجامدة، والتي لا تغنيهم شيئاً ولا تلبث أن تطير من أذهانهم .
أننا إذا كنا ننشد إقامة نظام ديمقراطي حقيقي فعلينا أن نبدأ بتربية أبنائنا على أسس ديمقراطية، وهذا يتطلب منا أحداث ثورة في المناهج التربوية تزيح جانباً الأساليب التربوية البالية، وتعتمد الأسلوب العلمي والديمقراطي الحديث، وعلينا أن نعيد أعداد الجهاز التربوي بما يتلاءم مع التطوير المنشود لمناهجنا التي عفا عليها الزمن، وهذا يقتضي أن نبذل جهودا مضنية لأعداد الدورات الدراسية للجهاز التربوي تؤهلهم للنهوض بهذه المهمة الصعبة والكبيرة.
وإذا لم نٌعد الجهاز التربوي إعداداً ديمقراطياً سليماً، ولم نستأصل الفكر الفاشي القائم على العنف بشقيه العنصري والديني والذي نما وترعرع على عهد النظام البعثي الفاشي وتدهور بشكل خطير على أيدي احزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني والذين استلموا السلطة في البلاد من المحتلين  فليس من الممكن إطلاقاً أعداد جيل يدرك معنى الديمقراطية، ويحيا في ظلها ويتمسك بها، فالمناهج الحديثة المتطورة والجهاز التربوي المتشبع بالفكر الديمقراطي عاملان متلازمان لا يمكن فصلهما عن بعضهما لتحقيق الأهداف التي نصبوا إليها في تربية أجيالنا الصاعدة التربية المنشودة.
أن مهمة احداث نهضة ثورية في مدارسنا تتطلب جهازاً تربوياً كفوءاً يقوده جهاز وزاري متخصص مختار من اساتذة التربية وعلم النفس، وعلى رأسهم وزير على درجة عالية من القدارت التربوية النيرة، لا كما جرى في عهد ما بعد الاحتلال حيث تبوأ وزارة التربية الملالي مع مزيد الأسف اوصلوا مدارسنا إلى الحضيض .


150
الأزمة العراقية الراهنة وآفاق الخروج
من النفق المظلم
حامد الحمداني                                                         16/8/2015

جاء الاحتلال الأمريكي للعراق على الرغم من معارضة الأمم المتحدة، ومعارضة معظم دول العالم، وفي مقدمتها فرنسا وروسيا والصين، الأعضاء الدائميين في مجلس الأمن لتلك الحرب التي سببت للعراق من الكوارث التي كانت الأشد من سابقاتها بسبب الاجراءات الخطيرة التي ارتكبها الحاكم الأمريكي بريمر خلال عام كامل.

 وسواء أكانت قرارات بريمر الكارثية قد جرى أعدادها سلفا في دهاليس البيت الأبيض والبنتاجون، وهو ما أُرجحه شخصياً، أم أنها قرارات خاطئة اتخذها بريمر بنفسه فالنتيجة كانت واحدة هي قيام نظام طائفي وعنصري شوفيني أجج الصراعات الدينية والأثنية بين مكونات المجتمع العراقي، والتي قادته إلى الصراع المسلح والحرب الأهلية الطائفية عامي 2006 و2007، ولا أريد الإطالة بالحديث عن تفاصيل الكوارث التي حلت في العراق على يد المحتلين، ومن جاؤوا بهم من قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، ومن ثم احزاب الاسلام السياسي السنية، وأحزاب القومية الكردية، وبوأوهم أعلى مناصب الدولة ليقودوا العراق إلى الهاوية.

 فالشعب العراقي كله ما زال يعيش هذه كارثة، وما زال يكتوي بنيرانها، ويدفع كل يوم ثمناً باهظاً من دماء الآلاف من أبنائه البررة، وتشريد الملايين من المواطنين العراقيين الذين يقاسون شظف العيش في ظل ظروف قاسية جداً بعد أن جرى إخراجهم من بيوتهم وتهجيرهم تحت تهديد السلاح والقتل والحرق على ايدي عصابات داعش الارهابية.

لقد حلت الإدارة الأمريكية  الجيش وقوات الشرطة ولم تقم بواجبها في حماية مرافق الدولة وحماية المواطنين حسبما تقتضي معاهدة جنيف، فكانت النتيجة سيادة شريعة الغاب تحت سمع وبصر القوات الأمريكية التي كانت تقف مكتوفة الأيدي أمام عمليات السرقة والنهب التي امتدت إلى كل مرافق الدولة دون استثناء، فهل كانت القوات الأمريكية التي أسقطت نظام صدام بما يمتلك من جيش جرار، وأجهزة أمنية، وجيش القدس، وفدائيي صدام في 20 يوماً عاجزة عن حماية مرافق الدولة وحماية المواطنين العراقيين؟

ثم هل عجزت الإدارة الأمريكية عن إيجاد 50 عنصرا وطنياً مستقلاً من التنكوقراط بعيداً، عن الطائفية والعرقية، لتشكيل حكومة مؤقتة تتولى الحكم لفترة زمنية محددة، وتتولى إعادة الأمن والنظام في البلاد، وتأمين الخدمات الضرورية للمواطنين، وتهيئة المستلزمات لإقامة المؤسسات لنظام حكم ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة لسائر مكونات الشعب بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، أم أن الإدارة الأمريكية كانت قد قررت سلفاً حكم العراق بصورة مباشرة فنصبت بريمر حاكماً على البلاد في بادئ الأمر، ثم اضطرت أمام ضغط واحتجاج العالم اجمع إلى إقامة ما أسمته بالعملية السياسية، البائسة، وإقامة هذا النظام الطائفي والعرقي المقيت تحت جناحيها لتمزق البنية الاجتماعية للشعب، وتزجه في هذا الصراع العنيف.
 
وجاءت الإدارة الأمريكية بدستور بريمر الذي كرس الطائفية والعرقية في البلاد، وفتح الباب واسعاً أمام القوى التقسيمية لتفتيتها، و اتُخذ فيما بعد أساساً للدستور الدائم الذي تم وضعه من قبل قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية وقادة الأحزاب الكردية تحت إشراف السفير الأمريكي، حيث باتت البلاد على كف عفريت.

إن كل ما اتُخذ من إجراءات خاطئة في العراق منذ 9 نيسان 2003 وحتى اليوم تتحمل مسؤوليتها الإدارة الأمريكية، وإن العملية السياسية التي قامت على أسس خاطئة قد جاءت بهذه النتائج الخاطئة، والتي جلبت وما تزال الكوارث للشعب العراقي.

إن العملية السياسية بوضعها الحالي لا يمكن أن تحقق الأمن والسلام والحياة الهادئة للشعب، بل على العكس قد أصبحت مدخلاً لصراعات خطيرة بين هذه الزمرة التي بوأها المحتلون الامريكان مقاليد السلطة والتي ضمت المالكي وعلاوي والبرزاني والطالباني والحكيم والجعفري وغيرهم من قيادات احزاب الاسىلام السياسي، وكل همهم اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من ثروات العراق ليتحولوا بأقصر زمن قياسي إلى ديناصورات كبار يمتلكون المليارات من الدولارات بعد أن كانوا يعيشون على المساعدات الإجتماعية في دول اللجوء!، تاركين الشعب العراقي فريسة بين مخالب الجوع والتشرد والفقر والبطالة، وتاركين البلاد خرابا ودمارا تفتقد ادنى الخدمات الضرورية في  مختلف مجالات الحياة . 

لقد اثبتت احزاب الاسلام السياسي بشقيها الشيعي والسني والقومي الكردي عن فشلها الشديد في الحكم، وخيانتها للأمانة وجشعها ووحشيتها في نهب ثروات البلاد، وقد ادرك الشعب العراقي أن اصلاح اوضاعه الاجتماعية والإقتصادية والصحية، وتحقيق العدالة الاىجتماعية لايمكن ان يتم دون ازاحة هذه الزمرة الباغية عن سدة الحكم، وتصاعد الغضب من اوضاعه البائسة حتى بلغ حالة الانفجار، واجتاحت جماهير الشعب في مختلف المدن والأقضية والنواحي العراقية مظاهرات صاخبة تندد بالفساد والفاسدين وتطالب بإزاحتهم من السلطة.

وجاءت دعوة مرجعية السيد السيستاني إلى رئيس الوزراء حيدر العبادي للقيام باجراءات سريعة وقوية لمحاسبة وإقصاء ومعاقبة الفاسدين لتعطي زخما قويا للمضي قدما في تظاهراتهم حتى تحقيق الاصلاح الجذري المنشود، مما شجع الوزوراء إلى اتخاذ قراره بإزاحة سته من ديناصورات الفساد نواب رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى العديد من الاجراءات الأخرى.

لكن الجماهير العراقية المنتفضة، وقد اعياها الصبر والتحمل قد بادرت إلى تصعيد نضالها، ورفع سقف مطاليبها الاصلاحية مطالبة بإعادة النظر الجذرية في الأزمة الراهنة بكل مفاصلها بدءً من الدستور الطائفي الذي صاغه بريمر والبرزاني والطلباني والحكيم والمفصل على مقاسهم، والبرلمان الغارق بالفساد والفاسدين،  وحكومة المحاصصة الطائفية التي فاحت روائح فسادها في طول البلاد وعرضها، والقضاء المسيس الذي وضع المحتلون على رأسه القاضي مدحت المحمود، والذي صار العوبة بيد الحكومة لتغطية الفساد والمفسدين.

إن امام الجماهير المنتفضة، وامام السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي فرصة كبرى لا تعوض في اجراء التغيير الجذري المطلوب في سائر اجهزة الدولة المدنية منها والعسكرية والخدمية، وتنظيفها من الفساد المستشري من القمة حتى القاعدة، وإعادة بنائها على اسس قويمة بعيد عن المحاصصات الطائفية والعرقية على يد حكومة تنكوقراط من العناصر المشهود لها بنظافة اليد والأمانة والحرص على مصالح الشعب والوطن تتولى حل البرلمان، وتشكيل هيئة من اساتذة القانون الدستوري لوضع دستور جديد للبلاد ينص على فصل الدين عن الدولة، ويتضمن كل ما ورد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان من حقوق وواجبات تمس حياة الشعب، ووضع قانون جديد للانتخابات البرلمانية، وقانون جديد آخر ينظم الحياة الحزبية، ويمنع قيام الاحزاب على اسس دينية أو طائفية أو عرقية، واجراء انتخابات برلمانية نزيهة تحت اشراف دولي.

إن الحفاظ على تماسك البنية الاجتماعية، والحفاظ على وحدة الشعب والوطن، وكبح جماح الساعين لتقسيم العراق باسم الفيدرالية التي باتت تستهدف تحويل العراق إلى دويلات الطوائف والأعراق يتطلب إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد كفيل بتأمين حقوق وحريات كل القوميات، وكل أتباع الطوائف والأديان، وتأمين الحياة الكريمة للجميع، والعراق بما يمتلك من موارد نفطية وغيرها من الموارد الوفيرة قادر بكل تأكيد على ضمان حاجات المواطن العراقي المادية على أحسن وجه إذا ما توفرت له حكومة رشيدة تتصف بالنزاهة والأمانة، وتمتلك الكفاءة التي تؤهلها لبناء العراق الجديد، عراق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم.           
     




151
متطلبات الاصلاح الجذري في العراق للخروج
   من ازمته الراهنة   
 حامد الحمداني                                                              12/8/2015
تعتقد أحزاب الإسلام السياسي في عرفها أن الديمقراطية لا تعني سوى الانتخابات البرلمانية، والوصول إلى السلطة مستخدمة الدين والطائفة، بالإضافة إلى الأموال للوصول إلى هذا الهدف، وبمجرد وصولها إلى السلطة تتنكر لكل  شعاراتها التي خاضت الانتخابات بموجبها، وكأنها قد باتت تمتلك تفويضاً إلأهياً للتصرف بشؤون المواطنين وحقوقهم وحرياتهم التي كفلها الدستور، وشرعة حقوق الإنسان التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة منذ عام 1948، والتي تناولت بالتفصيل الحقوق والحريات التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والطائفة، وقد أكد الإعلان على حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، كما أكد على حقوق الطفل بكل تفاصيلها.

لكن أحزاب الإسلام السياسي، بشقيه الشيعي والسني، ما أن تسلمت الحكم حتى باشرت بفرض أجندتها المتخلفة التي عفا عليها الزمن على المجتمع، وحقوقه وحرياته الديمقراطية، العامة منها والشخصية، مستخدمة سلاح الدين والشريعة بالإضافة إلى سلاح السلطة من جهة، وميليشياتها المسلحة لفرض إرادتها على المجتمع بالقوة، مستغلة حالة التخلف السائدة في البلاد.

وباشرت المدارس الدينية التي تشرف عليها عناصر سلفية أو شيعية متخلفة تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايات سياسية بأساليب قسرية، وتمارس هذه المدارس نشر الفكر التكفيري والعنفي، وتفسر الدين بالطريقة التي تحقق لها أهدافها وغاياتها الشريرة، وتستخدمه لغسل أدمغة الناس البسطاء وحثهم على القيام بأعمال إرهابية من قتل وتخريب وخطف واغتصاب وتكفير المواطنين الذين يعارضون هذا التوجه، وتتدخل في كل صغير وكبيرة في حياة المواطنين الخاصة، وتحاول فرض القيود على أسلوب حياتهم ومظهرهم وملبسهم، وغير ذلك من الأمور بحجة مخالفة الشريعة !!.

أن الأنظمة الدكتاتورية، والأحزاب والمنظمات الفاشية، والأنظمة المتخلفة التي تتخذ من الدين ستاراً لإدامة حكمها هي المرتع الخصب لتوليد وانتشار الإرهاب، ولا سبيل للحد من النشاط الإرهابي سوى قيام حكم ديمقراطي علماني يحترم الإنسان، ويرعى حقوقه وحرياته، ويوفر له حياة كريمة، ويحقق الأمن والسلام في ربوع البلاد، وفي العالم أجمع .
 لقد انخدع الكثيرون من ابناء الشعب العراقي بوعود بوش الابن قبيل الغزو الامريكي بإقامة نظام ديمقراطي على أنقاض دكتاتورية نظام صدام وحزبه الفاشي، فإذا الديمقراطية الموعودة التي بشر الشعب بها المحتلون الأمريكيون نظام طائفي متخلف عفا عليه الزمن ليعيد العراق إلى الوراء 1300 عاما، بعد أن سلم الحكم لأحزاب الإسلام السياسي الطائفي الذين تقاسموا السلطة، وسيطروا على البرلمان، وشرّعوا لنا دستوراً على مقاسهم، وفي كل مادة فيه ثغرة، وبكل ثغرة قنبلة موقوتة ليبقى الشعب يعيش في دوامة فقدان الأمن والعيش بسلام، دون أن يعكره عشاق الجنة، والحالمين بالحوريات الحسان، بسياراتهم المفخخة، وأحزمتهم الناسفة، وقنابلهم المزروعة في شتى الطرقات لتحصد كل يوم أرواح الأبرياء، ويخاطب القتلة ذويهم بأن لا تحزنوا على ضحاياكم فمأواهم الجنة الموعودة!.

 إن الحرية والعدالة الاجتماعية التي لا قيمة للمواطن بدونها، باتت ألعوبة بأيدي أحزاب الإسلام السياسي، تفسرها كيفما تشاء، باسم الديمقراطية العرجاء، طالما سمح لهم الدستور العتيد الملئ بالتناقضات في مواده كما هو معروف للجميع.

لم يعد لشرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة مكانا في قاموس المتأسلمين، فهؤلاء لهم شرعتهم التي يفرضونها على الشعب بالقوة، فيفرضون الحجاب على المرأة، بل لقد تعداها إلى الأطفال الصغار من الإناث الذين يمثلون نصف المجتمع، وتمادى المتأسلمون في غيهم ليفرضوا ذلك على الطوائف الأخرى من المسيحيين والصابئة والأيزيديين، وكأنما الشرف والأخلاق في عرفهم يتمثل بهذا السجن الرهيب.

لماذا لا يضعوا هم الأكياس السوداء لتغطي رؤوسهم كي تطفئ شهواتهم المكبوتة، فهم لا يفهمون من الحياة سوى شهواتهم الجنسية، ولا يعترفون بالمرأة كإنسانة على قدم المساواة مع الرجل، بل يعتبرونها عورة حسب زعمهم وهي في واقع الحال أقدس وأعظم وأنبل منهم.
لقد بات في عرف هؤلاء الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين بعقلية ما قبل ألف وثلاثمائة عام، ولا يدركون ان العالم قد تغير، وأن كل شئ في حالة تغير وتطور مستمر،  ولن يستطيع أصحاب الأفكار السوداء الوقوف بوجه التطور
 والتغير.
إن قيم الأخلاق ايها السادة تتمثل في الصدق والأمانة والعفة والنزاهة، واحترام حريات المواطنين الشخصية والعامة، وليس في منع الموسيقى ومختلف الفنون  وإغلاق مقر اتحاد الأدباء والكتاب بدعوى تناول المشروبات!، وإذا كنتم حقاً حريصين على الأخلاق والقيم النبيلة فعليكم أولاً وقبل كل شئ أن تكونوا صادقين مع أنفسكم ومع المواطنين، ولا تحاولوا من خلال استغلال الدين، للتغطية على أهدافكم السياسية المتمثلة بمحاربة ذوي العقول النيرة من الكتاب والفنانين والشعراء، وقادة الفكر الذين يتابعون كشف الفساد والفاسدين، وتحاولون عاجزين عن تشويه سمعتهم، فالشعب العراقي يدرك تماماً ماذا تمثل هذه الفئة النيرة، وماذا تمثلون أنتم، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لقد بلغ العراق على أيديكم الدرك الأسفل من الفساد الذي بات ينخر سائر جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، وهذا ما أكدته هيئة النزاهة، والمنظمة الدولية التي وضعت العراق في أول قائمة الدول التي ينخرها الفساد، والفاسدون لا يحق لهم التحدث عن الأخلاق والفضيلة، فهم والفضيلة على طرفي نقيض.

لقد بلغ السيل الزبا ولم يعد الشعب العراقي يتحمل استمراركم بالسلطة ونزلت جماهير الشعب الثائرة إلى الشوارع في بغداد وسائر المدن والاقضية والنواحي وقد زلزلت اصوات حناجرهم عروش الفاسدين الطغاة تطالبهم بالرحيل.

 كما طالبت مرجعية السيد السيستاني السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي باجراء الاصلاحات الفورية لجهاز الدولة، ومحاربة الفساد والمفسدين وتقديمهم للمحاكمة مهما كانت صفتهم، ومهما كان موقعهم في السلطة، بعد ان راعها الغضب الجماهيري العارم على الاحوال السيئة والمتردية التي لم يشهد لها العراق مثيلا من قبل، وهكذا اقدم السيد العبادي على اتخاذ خطوات جريئة في طريق الاصلاح بتقديم الحزمة الاولى للبرلمان الذي صادق عليها بالاجماع ودون اية مناقشة تحت ضغط الجماهير الشعبية الغاضبة، والتي سوف تستمر في التظاهر والمطالبة بإجراء تغيير جذري في اجهزة الدولة، وتطهيرها من كل الفاسدين سارقي قوت الشعب واحالتهم إلى المحاكمة العاجلة.
أن الاصلاح الجذري يتطلب إجراء الخطوات التالية التي لا بد منها:
1 ـ خروج السيد حيدر العبادي من عباءة حزب الدعوة المتهمة قياداته بالفساد لكي يكون قائدا لعملية التغيير الحقيقية في البلاد، فإنتماء العبادي ينيغي ان يكون للشعب العراقي بأسره وليس لحزب الدعوة.

2 ـ اعلان حالة الطوارئ في البلاد وحل الحكومة الحالية وتأليف وزارة  أزمة  لا يتجاوز عدد اعضائها من 22 وزيرا، ويتم دمج الوزارت التي تتلاءم مع بعضها على ان يختار هؤلاء الوزراء من العناصر التنكوقراط النظيفة المشهود لها بالكفاءة والنزاهة.

3 ـ وقف العمل بالدستور الطائفي الملئ بالثغرات ، واختيار لجنة من كبار اساتذة القانون الدستوري لوضع دستور علماني جديد للبلاد على أن يتضمن في نصوصه الاعلان العالمي لحقوق الانسان ويستفتى عليه الشعب .

4 ـ حل مجلس النواب الحالي الذي لا يمثل الشعب، والمتهم اغلبية اعضائه بالفساد او السكوت على الفساد، والاستعاضة عنه باختيار 100 شخصية وطنية ممن يتوسم الشعب فيها الأمانة والعفة والنزاهة من عناصر التنكوقراط ولمدة لا تزيد عن سنة ريثما تهيئ الحكومة المتطلبات الضرورية لانتخاب برلمان على اسس مدنية بعيداً عن الدين الذي ينبغي ان يفصل عن السياسة بعد اثبتت الشواهد خلال 12  عاما ان زج الدين في السياسة قد افسد الدين والسياسة معا.

5 ـ تشريع قانون تقدمي للأحزاب السياسية يحول دون قيام احزاب على اساس ديني أو قومي أوطائفي، بل على اسس ديمقراطية تعمل لصالح الشعب العراقي ككل، وليس لصالح طائفة او قومية تسعى لتمزيق العراق.

6 ـ سن قانون [من اين لك هذا؟] يتم بموجبه محاسبة كل مسؤولي الدولة المتهمين بالفساد، ويكون رادعا لكل من تسول له نفسه ممارسة الفساد بكل اشكاله وصوره، وعلى كل من يتولى الوزارة أو منصب مدير عام أو مفتش عام أن يقدم عند تعيينه اقرارا بمالكيته وزوجته واولاده ، وأقرارا عند مغادرته المنصب كذلك.

7 ـ كل من تدينه المحكمة ب
الفساد من المسؤولين بالعقوبة المناسبة للتهمة ، وتصادر امواله المنقولة وغير المنقولة ليكون عبرة، وكي لا يفكر احدا من المسؤولين بالفساد وسرقة اموال الدولة، وتقاضي الرشوات بكل اشكالها وصورها.

8 ـ تركيز مهام الدولة على تحرير العراق من عصابات داعش الارهابية،و تقديم الخدمات الضرورية العاجلة للمواطنين وفي المقدمة الماء الصافي النقي والكهرباء والصرف الصحي والنظافة والخدمات الطبية والتعليمية وخاصة في الاقضية والنواحي والقرى المحرومة من هذه الخدمات.

9 ـ التركيز على انشاء الصناعات التي تستوعب الأيدي العاملة من العاطلين ، وتنمي اقتصاد البلاد من خلال انشاء مشاريع صناعية كبرى، والاهتمام بالزراعة  ومشاريع الري لتأمين حاجات البلاد من المنتجات الزراعية بدلا عن استيراها من الخارج.

 لاشك ان المهمات المطلوبة كبيرة وتتطلب جهدا صادقا وإرادة فولاذية حكومة وشعبا من اجل اخراج العراق من المأزق الذي اوصلته اليه احزاب الاسلام السياسي، وكل املنا أن يحقق الشعب والحكومة معا كل ما يصبو إليه المواطن العراقي الذي لم يعد يتحمل المزيد من البؤس والفاقة وتردي الخدمات والبطالة.
                                           



152
رسالة مستعجلة للسيد رئيس الوزراء حيدر العبادي
فرصة لاتضيع لانقاذ العراق وشعبه
حامد الحمداني                                                                 7/8/2015
السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء المحترم:                                           
يجتاز العراق اليوم اخطر مرحلة في تاريخه ستقرر بلا ادنى شك مصيره ومصير شعبه، حيث بلغ السيل الزبا من الوضع المتردي للشعب وحرمانه من الحياة الحرة الكريمة في بلد من اغنى بلاد العالم، بعد ان تسلمت احزاب الاسلام السياسي الحكم منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وحتى يومنا هذا، ولم تقدم للشعب العراقي اي خدمات تستحق الاهتمام، ورغم الموارد الهائلة لمئات المليارات من الدولارات التي ذهبت في جيوب قادة هذه الأحزاب، تاركين الشعب يعيش حالة من البؤس والفقر اوالحرمان من ابسط الخدمات، وفي مقدمتها الماء الصافي والكهرباء دعكم عن البطالة التي وصلت إلى 50% وزاد في الطين بلة تسليم هذه السلطة محافظات الموصل والانبار وصلاح الدين لعصابات داعش الارهابية والتي تمثل اكثر من ثلث العراق، تاركين الملايين من ابناء الشعب لاجئين دون مأوى، ولا خدمات اساسية لإدامة حياتهم، في حين ينعم الفاسدون من وزراء واعضاء برلمان وازلامهم في اجهزة الدولة المختلفة ينعمون بحياة مرفه ويتملكون العقارات في مختلف بلدان العالم، وارصدة تقدر بمليارات الدولارات في بنوك اوربا وامريكا.                       .                                                                               
لقد بلغ السيل الزبا ولم يعد الشعب العراق يتحمل المزيد من البوس والفاقة، وفقدان الخدمات الاساسية للحياة الكريمة، ونهضت الروح الثورية في صفوف شبابه وشيوخه، رجاله ونسائه، بعد ان اعياه الانتظار لحد اليأس من هذه السلطة الممسكة بالحكم، فقد ادرك أن أي معالجة لهذه الاوضاع تتطلب عملا ثوريا، بعد ان اثبتت الوقائع ان العملية السياسية البريمرية لا تجدي نفعا، ولا بد من الغيير الثوري، فنزلت جماهير الشعب إلى الشوارع في كافة محافظات القطر مطالبة بالتغيير الحقيقي والجذري.                                                        .
 وجاءت دعوة مرجعية السيد السيستاني الموجه إليكم للقيام باصلاحات عاجلة وحقيقية لأوضاع البلاد، ومحاسبة الفاسدين في كل أجهزة الدولة من القمة وحتى القاعدة.                                                                               
 السيد رئيس الوزراء المحترم:                                             .                    إن الظرف الحالي قد قدم اليكم أعظم فرصة قد لا تتكرر لإنقاذ العراق وشعبه إذا شئتم أن يخلدكم التاريخ كقائد لحركة التحرر العراقية من هذه الطغمة الفاسدة، فبإمكانكم اسناد ظهركم إلى جماهير الشعب الثائرة الجبارة، والتي قد عقدت العزم على مواصلة التظاهر حتى سقوط هذه السلطة الغاشمة، ومستندا الى دعم مرجعية السيد السيستاني، ودعوته الصريحة لمحاسبة الفاسدين، وانقاذ البلاد من طغيانهم، ولتعلن القرارات التالية باسم الشعب:                             
   1 ـ حل مجلس النواب، واختيار مجلس استثاري يتكون من مئة شخصية وطنية مستقلة من الأكادميين البعيدين عن احزاب الاسلام السياسي المشاركين في السلطة الحالية، وتنتخب من بين أعضائها رئيس مؤقت للبلاد حتى يتم اجراء انتخابات برلمانية جديدة، وانتخاب رئيس جديد من قبل الشعب، وليس البرلمان في مدة لا تتجاوز السنة الواحدة.                                                         

  2 ـ تأليف حكومة تنكوقراط مستقلة ذات كفاءة، وتتصف بالنزاهة، برئاستكم تتولى ادارة شؤون البلاد، وتتولى اجراء الاصلاحات الجذرية في كافة أجهزة الدولة، وعلى وجه الخصوص الأجهزة الأمنية والاقتصادية والمالية، والبنك المركزي، وتسليمها بأيادي أمينة وكفوءة لكي تستطيع متابعة جرائم الفساد المالي والاداري، وتقديمهم إلى محكمة خاصة برئاسة قضاة أكفاء مستقلين من ذوي السمعة الطيبة والنزيهة.                                                              .
3ـ اصدار قانون التجنيد الإجباري، لكي يكون الجيش جيشاً عراقيا وليس جيشاً طائفياَ وتنظيف الجيش من العناصر الفاسدة والعناصر الطارئة التي لا تحمل الشهادة العسكرية، واعتبار قوات الحشد الشعبي من كل الطوائف والقوميات والاديان المشاركين في الحرب على عصابات داعش، جنودا في الجيش الجديد تتلقى أوامرها من قادتها العسكريين، وليس من قادة الميلشيات، لكي يكون لدى العراق جيش محترف، وتجهيزة بالسلاح الحديث من مختلف المصادر، وليس فقط من المصدر الامريكي،ليكون الجيش قادرا على تنفيذ المهمة الوطنية العاجلة بسحق العصابات الداعشية مرة وإلى الأبد.                                             
    4 ـ تشكيل لجنة قضائية من العناصر المشهود لها بالنزاهة والكفاءة، والتي لم ترتبط بأي رابطة بأحزاب الاسلام السياسي الفاسدة  لغربلة الجهاز القضائي من كل العناصر المسيسة، والتي كانت العوبة بقادة أحزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، لخلق جهاز قضائي مستقل تمام الاستقلال عن تأثير السلطة السياسية.                           .                                                                                       
    5 ـ تشكل لجنة من الخبراء الاقتصاديين، والاستعانة بمدققين دوليين، لشكف كل الفاسدين والعمل على استعادة مئات المليارات من الدولارات المنهوبة من قبل الحكومات الفاسدة منذ الغزو الامريكي للعراق وحتى يومنا هذا، وتقديمهم للمحاكمة، وانزال العقاب الصارم بحقهم ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه سرقة المال العام ونهب ثروات البلاد.                      .                                  6 ـ تقديم كل المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين يتحملون مسؤولية سقوط محافظات الموصل وصلاح الدين والانبار وديالى بأيدي عصابات داعش إلى محكمة خاصة مختلطة من قضاة مدنيين وعسكريين، وانزال أقسى العقوبة بحق المتسببين في هذه الكارثة ليكونوا عبرة لمن اعتبر، حيث ان انسحاب الفرقتين  العسكريتين في الموصل أمام عصابة من بضع مئات وتسليمهم اسلحتها ومعداتها التي تقدر بـ 15 مليار دولار لتستخدمها عصابات داعش في قتل العراقيين، فالمسؤولين عن هذه الجريمة هم أخطر من عصابات داعش ويستحقون أشد العقاب.                                                 .                                                                                         
السيد رئيس الوزراء المحترم:                                                             
 انكم  اليوم امام خيارين لا ثالث لهم، فأما الوقوف إلى جانب شعبك فيمجدك التاريخ، وتنال محبة واعتزاز العراقيين، وأما أن تفقد كل شئ، ولا أخالك تتخلى عن الشعب، الفرصة بيدكم فلا تضيعوها، وفقكم الله في خدمة الشعب والوطن .                 


153
من ذاكرة التاريخ

نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الخامسة
حامد الحمداني                                                             4/8/2015 
                                     

الإضراب العام والمظاهرات تعم أنحاء العراق:

عندما تأسست الدولة العراقية عام 1921، لم يكن هناك قانون خاص للضرائب والرسوم التي تجبى من الشعب لحساب البلديات، وكانت الحكومة قد اكتفت بالبيان الذي أصدره القائد العام للقوات البريطانية الخاص بالرسوم التي ينبغي أن يدفعها السكان للبلدية، فلما تسلم نوري السعيد مقاليد الحكم أقرت حكومته لائحة قانونية لذلك، وقدمتها إلى مجلس النواب الذي أقرها بدوره في 10 أيار 1931، وصادق عليها الملك.

  سبب ذلك القانون هياجاً وغضباً شديدين لدى الطبقة الكادحة من العمال والحرفيين، والطبقة الوسطى، واستنكرته الأحزاب السياسية، والصحف الوطنية، فقد حمّلَ القانون أبناء الشعب أعباء جديدة في وقت كانوا فيه بالأساس يعانون من تدهور أوضاعهم المعيشية.

 وجاء إقدام نوري السعيد على توقيع المعاهدة العراقية البريطانية، تلك المعاهدة التي جردت الاستقلال من كل معنى، ورهنت  مقدرات العراق لمصالح الإمبريالية البريطانية لسنين طويلة لتصب الوقود على النار، و لتشعل الفتيل، وتطلق المارد من قمقمه في حملة احتجاجية عارمة ضد الحكومة، ودعت القوى الوطنية إلى الإضراب العام احتجاجاً على سياسة الحكومة المعادية لمصالح الشعب.

وهكذا أضربت بغداد تماماً يوم 5 تموز 1931، وشمل الإضراب كافة المرافق العامة والأسواق والمحلات التجارية، ووسائل النقل، وأغلقت الصيدليات والمطاعم والفنادق ودور السينما أبوابها، ووقعت أزمة غذائية خطيرة في البلاد، حيث لا خبز، ولا لحوم، ولا فاكهة، ولا خضروات، وتوقفت حركة النقل، واضطر الناس إلى الانتقال مشياً على الأقدام،  وأستمر الوضع على حاله أسبوعين، وكان هذا الإضراب الأول من نوعه في بغداد، واستمر بالتوسع والامتداد ليشمل الكاظمية، و الاعظمية، ثم ما لبث أن أنتقل إلى مدن الحلة والرمادي وبعقوبة والكوت والناصرية وكربلاء والنجف والبصرة وسوق الشيوخ وخانقين، ثم عم العراق من أقصاه إلى أقصاه.
شكل الإضراب أعظم تحدي للحكومة، ولاسيما بعد أن وقعت مصادمات كبيرة بين قوات الشرطة والمواطنين، وخاصة في مدينة البصرة التي أمتد إليها الإضراب يوم 15 تموز، حيث أضرب السكان عن بكرة أبيهم، وسارت المظاهرات المسلحة المنددة بالحكومة، حيث طُوقت مراكز الحكومة، واشتبكت مع الشرطة، وقذفت سيارة المتصرف بالحجارة، وهرب المتصرف من غضب جماهير الشعب، ولجأ إلى أحد الدور لينجو بحياته.

لم تستطع الشرطة مجابهة المتظاهرين، واضطرت الحكومة إلى استدعاء الجيش الذي نزل إلى الشوارع، وبدأ بإطلاق الرصاص الذي دوى بغزارة، كما استنجدت حكومة نوري السعيد بالحكومة البريطانية التي قامت بدورها بإرسال قواتها بالإضافة إلى سفينة حربية كانت راسية في البصرة، واشتبكت مع المتظاهرين، حيث وقع عدد كبير من القتلى والجرحى، واستطاعت الحكومة في نهاية الأمر قمع الاحتجاجات وكسر الإضراب بمساعدة القوات البريطانية. (20)
السعيد يقمع ثورة الشيخ محمود الحفيد
كان الشيخ محمود الحفيد قد وقع اتفاقاً مع الحكومة العراقية والسلطات البريطانية في عام 1927 بعد فشل حركته، وتعهد بموجبه أن يعيش خارج العراق، مع إعادة كافة ممتلكاته إليه، بشرط أن يعين وكيلا عنه لإدارتها، فلما وقّعت حكومة نوري السعيد معاهدة 30 حزيران 1930 شعر الشيخ الحفيد أن بريطانيا قد تنكرت لحقوق الشعب الكردي، واستغل الشيخ الحفيد قيام الأكراد في السليمانية بحركة احتجاجات واسعة ومظاهرات ضد المعاهدة، وضد حكومة نوري السعيد ليجمع المسلحين من أتباعه داخل العراق، احتل منطقة [ شهر بازار]، وبعث بمذكرة إلى المندوب السامي البريطاني يطالبه بإنشاء دولة كردية في منطقة كردستان تمتد من زاخو وحتى خانقين.

أنذرت الحكومة العراقية الشيخ الحفيد بوجوب مغادرة العراق، وسحب عناصره المسلحة، لكن الشيخ الحفيد تجاهل الإنذار، ومضى في توسيع منطقة سيطرته، مما دفع الحكومة إلى تجريد حملة عسكرية كبيرة ضمت رتلين، وتوجه الرتل الأول نحو[جوارته] فيما توجه الرتل الثاني نحو[بنجوين]، كما شاركت الطائرات البريطانية في التصدي لحركة الشيخ الحفيد، حيث دارت بين الطرفين معارك دامية استمرت زهاء ستة اشهر تكبد خلالها الطرفان خسائر كبيرة.
 لكن قوات الحكومة استطاعت في النهاية فرض سيطرتها على مناطق كردستان، وهرب الشيخ محمود الحفيد لفترة من الزمن، ثم اضطر في نهاية الأمر إلى تسليم نفسه للجيش في 13 أيار 1931، وتم نقله إلى مدينة السماوة، ثم نقل إلى مدينة الناصرية، وأخيراً تم نقله إلى  قصبة عانه، ثم سمحت له الحكومة بالإقامة في بغداد، وقررت مصادرة كافة أملاكه في محافظة السليمانية. (21)
خلافات داخل مجلس الوزراء، واستقالة حكومة السعيد

أدت سياسة نوري السعيد، وأساليبه القمعية التي استخدمها لفرض معاهدة 30 حزيران 1930 إلى خلافات عميقة في مجلسي النواب  الوزراء، وأدت تلك  الخلافات إلى استقالة السيد[ جميل المدفعي] من رئاسة مجلس النواب، ومن حزب نوري السعيد[حزب العهد] احتجاجاً على تصرفات الحكومة، وبالأخص وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي ] إثر الهجوم العنيف الذي تعرض له في مجلس النواب من قبل نواب المعارضة، بسبب تصرفات الحكومة المخالفة للدستور، والمنتهكة للحريات، وقد بعث السيد المدفعي بكتاب إلى السعيد يعلن فيه استيائه من تصرفات وزير الداخلية غير القانونية، والتزام السعيد جانبها، وأعلن انسحابه من حزب العهد، وقد لخص المدفعي تصرفات وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي ] بالتالي :
1 ـ تصرفاته المشينة خلال الإضراب الشعبي العام،  مما كان سببا في توسيعه توسعاً خطيراً.
2 ـ تطبيقه قانون العشائر على ذوات ليسوا من العشائر، وبينهم من كبار رجال القانون .
3 ـ تضيقه على كبار رجال الأمة، وتعقيبهم بالجواسيس بصورة لم يسبق لها مثيل، ومطارداته الشبيبة الوطنية لمجرد ما يظهروه من الشعور الوطني، شأن الشباب في جميع بلاد الله.
4 ـ وضع المراقبة الشديدة على حرية المخابرة، خلافاً لما هو مضمون في القانون الأساسي الذي حلفنا اليمين على التمسك به. 
5ـ تطبيقه الذيل الخاص بالعقوبات بحق رجال عرفوا بمقدرتهم وإخلاصهم، لكي يتسنى له تعيين بعض محسوبيه، ومروجي تصرفاته في محله.                                                                                             
6 ـ تفسيره القوانين كما تشتيهه أغراضه وهتكه شرف رجال كانوا من أشد المخلصين.
7 ـ إصدار الكتب التهديدية السرية المملوءة بالبذاءات، وهتك الحرمات،  وعليه أرجو اعتباري مستقيلاً من الحزب، وسأقدم استقالتي رسمياً من رئاسة مجلس الأمة أيضاً، وتقبلوا احترامي. (1)
                                                                           جميل المدفعي
                                                                     16 تشرين الأول 1931   
                 
وهكذا فضح المدفعي سلوك حكومة نوري السعيد المخزي، وانتهاكها للدستور، ونكثها لليمين باحترامه، والاعتداء على حقوق وحريات المواطنين التي نص عليها الدستور، واستغلال النفوذ بهذا الشكل المكشوف، فلم يعد أمام نوري السعيد إلا أن يقدم استقالة حكومته إلى الملك  فيصل في 19 تشرين الأول 1931، و تم قبول الاستقالة.

المندوب السامي يضغط على الملك لتكليف السعيد مجدداً

لم يكد المندوب السامي يبلغه خبر استقالة نوري السعيد حتى سارع إلى الملك فيصل طالباً منه أن يعيد تكليف السعيد بتشكيل الحكومة الجديدة، ومارس ضغطاً على الملك لكي ينفذ طلبه، فلم يكن أمام الملك من بد إلا أن ينفذ مشيئة المندوب السامي  كما أراد، حيث كانت هناك مهام خطيرة يتطلب تنفيذها من قبل شخصية قوية ومضمونة، ولقد اثبت نوري السعيد أنه هو لا غيره ذلك الرجل القوي القادر على القيام بتلك المهمات التي تنتظر الحكومة الجديدة، وهكذا رضخ الملك فيصل لمشيئة المندوب السامي، وكلف نوري السعيد من جديد بتشكيل الوزارة، وباشر السعيد على الفور باختيار أعضاء وزارته بالتشاور مع المندوب السامي والملك فيصل في اليوم نفسه، وجاءت وزارته الثانية على الوجه التالي :
1   ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء       
 2 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للداخلية .
2   ـ رستم حيدر ـ وزيراً للمالية .    
 4ـ جمال بابان ـ وزيراً للعدلية .
 5ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع والخارجية
6   ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف
 7ـ محمد أمين زكي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
كان عهد هذه الوزارة مليئاً بالأحداث التي كان على السعيد معالجتها وأبرزها :
1 ـ تمرد بعض قوات الليفي الآشورية.
2 ـ اندلاع الثورة البارزانية.
3 ـ دخول العراق عصبة الأمم وسريان معاهدة 1930.

معالجة تمرد قوات الليفي الآشورية:
قوات الليفي الآشورية أنشأها البريطانيون لمساعدة قواتهم المحتلة للعراق في حفظ الأمن والنظام، والقيام بدور الحراسة للمعسكرات والقواعد البريطانية.
كان الآشوريون يطمحون بقيام دولة لهم في  دهوك وبعض المناطق الأخرى في شمال العراق، لكن آمالهم خابت بعد صدور القرار بضم العراق إلى عصبة الأمم، وتجاهل بريطانيا تلك المطالب، مما أثار استياء قوات الليفي العاملة في خدمة القوات البريطانية، حيث استقال ما يزيد على 1300 من قوات الليفي،  وتقدمواً للمندوب السامي بالمطالب التالية:
1 ـ الاعتراف بهم كشعب ساكن في العراق، وليسوا مجرد طائفة دينية أو عنصرية.
الآشوريين في داخل العراق وخارجه.
2ـ إيجاد كيان لهم في منطقة دهوك والعمل على اعادة منطقة حكاري الواقعة تحت السيادة
التركية، وأذا ما تعذر ذلك فيجب ايجاد موطن للآشوريين في العراق مفتوحاً لكل الآشوريين في داخل العراق وخارجه.
 3 ـ الاعتراف الرسمي بسلطة زعيمهم الديني [المار شمعون] الدينية والدنيوية.
4ـ عدم سحب السلاح منهم .
5ـ مطالب أخرى حول فتح مدارس ومستشفى ودار أوقاف آشورية.

 ورغم طلب المندوب السامي منهم التراجع عن تلك التصرفات فإنهم أصروا على موقفهم، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن تأتي بقوة عسكرية من الإنكليز المتواجدين في مصر لتحل محلهم، حيث تم نقلهم على عجل بواسطة الطائرات.

 فلما وجدت قوات الليفي أن بريطانيا عازمة على عدم تلبية مطالبهم، تراجع قسم كبير منهم وعاد إلى الخدمة، أما القسم الآخر الذي أصر على موقفه فقد قررت السلطات البريطانية إقصاءهم نهائياً.

 أما الحكومة العراقية فقد قررت في 2 تموز 1932، وبعد موافقة المندوب السامي، سحب السلاح من الليفي، ومنعت حمل أي سلاح إلا بإجازة رسمية، كما قررت وضع أفراد من الشرطة مع قوات الليفي في كافة المخافر. (2)

السعيد يقمع الثورة البارزانية:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان لمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة [بازيان] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى]، والتي تتوسطها قرية [بارزان] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد. (3)
رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة.
أخذ البارزاني يوسع  نفوذه في المنطقة، وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ [أحمد البارزاني] في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البارزانيين في 25 أيار1931 وكان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البارزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة، وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي قامت بنقله إلى مدينة [ أدرنه ]على الحدود البلغارية.

في تلك الأيام حاول الإنكليز إسكان الآشوريين في منطقة بارزان، فلما علمت الحكومة التركية بالأمر، وهي التي تكن الكره الشديد للآشوريين الذين وقفوا إلى جانب بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى،  وسارعت إلى إعادة الشيخ احمد البارزاني إلى منطقة الحدود العراقية، وعندما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية، تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليم الشيخ احمد.
إلا أن  الحكومة التركية رفضت الطلب، مشترطة إصدار عفو عام عنه وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم، وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.
 
إدخال العراق في عصبة الأمم:
بعد أن تسنى لبريطانيا فرض معاهدة 30 حزيران 1930، والتي ضمنت من خلالها الهيمنة التامة على مقدرات العراق اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وحيث تصبح هذه المعاهدة نافذة حال دخول العراق عصبة الأمم كدولة مستقلة، تقدمت الحكومة البريطانية بطلب إلى عصبة الأمم في 13 أيار 1931، لقبول العراق عضواً فيه معلنة أن العراق أصبح يمتلك الأهلية ليكون دولة مستقلة وعضو فيها.

جرى توزيع الطلب البريطاني على أعضاء عصبة الأمم في الجلسة التي عقدتها في حزيران 1931، وأجرى المجلس مذاكرة حول الطلب، وحول التقرير الذي قدمته بريطانيا عن العراق، فقرر المجلس في 4 كانون الأول تأليف لجنة لدرس التقرير وتقديم توصيانها في مدة أقصاها 30 كانون الأول.
 وبالفعل قدمت اللجنة في هذا التاريخ تقريرها الذي أوصت فيه بقبول العراق عضواً في العصبة بعد أن يوقع العراق على ميثاق العصبة وعلى الشروط التي وضعتها عصبة الأمم، والمتعلقة بالضمانات اللازمة للحفاظ على حقوق الأقليات، وتقيد العراق بمبادئ العصبة.
وافق العراق على شروط عصبة الأمم، وقدمت الحكومة العراقية الضمانات المطلوبة، والتي صادق عليها مجلس النواب، في جلسته بتاريخ 5 أيار 1932، وعند ذلك أعلنت عصبة الأمم في 31 كانون الثاني 1932عن قبول العراق عضواً في العصبة. (4)
قدم الملك جورج، ملك بريطانيا، تهانيه إلى الملك فيصل بقبول العراق عضواً في العصبة، وأصبحت معاهدة 30 حزيران 1930 نافذة المفعول من تاريخ صدور قرار عصبة الأمم بقبول عضوية العراق.
إلا أن استقلال العراق لم يكن سوى استقلالاً شكلياً محضاً، فقد قيّدته معاهدة 1930 بقيود ثقيلة جعلته في واقع الأمر تحت الحماية البريطانية لسنين طويلة. 

الملك فيصل يطلب من نوري السعيد تقديم استقالته:

بعد أن أنجزت حكومة نوري السعيد المهام الموكولة لها، والمتمثلة بعقد معاهدة 30 حزيران 1930، وإدخال العراق في عصبة الأمم، ومنح العراق الاستقلال [الشكلي]، قدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 27 تشرين الأول 1932، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وكلف الملك فيصل السيد [ناجي شوكت] بتأليف الوزارة الجديدة في 3 تشرين الثاني 1932.

ورغم أن استقالة السعيد جاءت بناء على طلبه كما جاء في كتابه الموجه إلى الملك، إلا أن الحقيقية كانت غير ذلك، وأن الملك فيصل هو الذي طلب منه تقديمها، فقد جاء في البرقية التي طيرها المندوب السامي [هيوبرت همفري] إلى وزارة الخارجية البريطانية برقم 335 بتاريخ 29 تشرين الأول 1932 ما يلي :
[ إن الملك هو الذي طلب من السعيد تقديم استقالة حكومته لأنه فقد ثقة الملك، ولما عرض على الملك استعداده لجمع نوري السعيد بالملك رفض الملك ذلك، وقرر الانفصال عن السعيد، ولم تفد توسلاتي وتوسلات المستشار [ كورنواليس] لتثني الملك عن قراره. (5) 

كان هدف الملك من طلب الاستقالة تقليص نفوذ نوري السعيد الذي تصاعد نجمه لدى الإمبرياليين البريطانيين بعد أن افلح في توقيع معاهدة 1930، وأصبح يتمتع بمنزلة كبيرة لدى المندوب السامي البريطاني والحكومة البريطانية، ونال ثقتهما، وأصبح يرى نفسه وكأنه الشخصية الوحيدة القادرة على إدارة شؤون البلاد.

ناجي شوكت يشكل الحكومة الجديدة:
كان هدف الملك فيصل من التغير الوزاري استمالة ما يدعى بالمعارضة المعتدلة، بعد الذي سببته معاهدة 30 حزيران 1930 الجائرة، والمقيدة لاستقلال العراق.
وهكذا جاءت حكومة ناجي السويدي وسطاً بين الاتجاه الموالي لبريطانيا والاتجاه المعارض لسياستها، وللمعاهدة.
أما الرأي العام العراقي فقد كان بين متفائل ومتشائم من هذه الوزارة، ورأى البعض الأخر أن هذه الوزارة لا تعدو عن كونها وزارة انتقالية ليس إلا.
أما وزارة الخارجية البريطانية فقد كان رأيها أن هذه الوزارة لن تدوم طويلاً، فبريطانيا لا ترضى إلا بوزارة تكون ألعوبة بأيديها، وهي لم تعترض على تشكيلها لكي تهدئ الأوضاع في البلاد بعد الذي سببته حكومة نوري السعيد بعقد معاهدة 30 حزيران 1930.

كان على الوزارة الجديدة أن تلجأ إلى حل البرلمان الذي يتمتع فيه نوري السعيد بالأغلبية المطلقة لتقليم أظافره من جهة، ولإرضاء الشعب بعد أن زوّر نوري السعيد الانتخابات السابقة بشكل خطير، وقد حاول نوري السعيد ثني ناجي شوكت للحيلولة دون حل البرلمان واعداً إياه بتأييد نواب حزبه للوزارة. غير أن الملك كان قد صمم على حل البرلمان، وأصدر الإرادة الملكية بحله في 8 تشرين الثاني 1932.

حاول نوري السعيد عرقلة قرار حل البرلمان بأن أوعز إلى نواب حزبه بعدم حضور الجلسة التي تتلى فيها الإرادة الملكية بحله، لكن ذلك لم يمنع من مضي الحكومة والملك قدماً في حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة. (6)
أما نوري السعيد فقد عقد اجتماع لقيادة حزبه في 10 تشرين الأول بعد يومين من قرار الحل، وأصدرت القيادة  بياناً يندد بالحل، وقررت كذلك إرسال مذكرة إلى الملك فيصل ادعت فيها عدم شرعية الحل، وفوضت نوري السعيد بمتابعة المذكرة.
ولما بلغ الأمر للملك فيصل، قرر إبعاد نوري السعيد عن العراق بتعينه ممثلاً للعراق في عصبة الأمم في 16 تشرين الثاني 1932.

كان أمام حكومة ناجي شوكت مدة أربعة اشهر تبدأ من تاريخ حل البرلمان لإجراء انتخابات جديدة حسبما نص على ذلك القانون الأساسي بمادته الأربعين، ولذلك فقد سارعت الحكومة إلى تعين يوم 10 كانون الأول 1932 موعداً لانتخاب المنتخبين الثانويين، وجرت الانتخابات في جو من اللامبالاة من قبل الشعب الذي كان يدرك أن الحكومات المتعاقبة تجري الانتخابات حسبما تريد هي والمندوب السامي والملك، شاء الشعب أم أبى. ومع ذلك فقد رشح أعضاء من [ حزب الإخاء الوطني ] الذي يقوده الزعيم الوطني[ جعفر أبو التمن] بشكل فردي، وفاز معظم المرشحين في الانتخابات، ولكن عددهم كان قليلاً. كما رشح عدد من أعضاء [الحزب الوطني] بزعامة [يسين الهاشمي] على الرغم من حدوث انشقاق في قيادة الحزب بسبب مطالبة البعض منهم مقاطعة الانتخابات وفاز عدد من المرشحين .

أما حزب نوري السعيد [ حزب العهد ] فقد كان حزب حكومة وبرلمان فلما ذهبت الوزارة وحُل البرلمان تلاشى الحزب، لكن عدد من أعضاء الحزب رشحوا في الانتخابات بصورة فردية، وفازوا فيها.
كانت حصة الأسد كما هو جارٍ عادة في كل انتخابات للحكومة، فقد فازت كتلة الحكومة بـ  72 مقعداً في المجلس المؤلف من 88 مقعدا ودعيت كتلة رئيس الوزراء [الكتلة البرلمانية]، لكن هذه الكتلة بدأت بالتفكك عندما عقد المجلس اجتماعه في 8 آذار 1933، على أثر تواصل هجمات المعارضة على الحكومة.

حاول ناجي شوكت بعد الانتخابات أن يوسع وزارته، ويدخل فيها عناصر ما كان يدعى بالمعارضة المعتدلة مثل [يسين الهاشمي] و[حكمت سليمان] لكن الملك لم يوافق على ذلك، وأثر بقاء الوزارة على حالها، وخيره بالبقاء على رأس الوزارة أو تكليف رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة، فما كان من ناجي شوكت إلا أن قدم استقالة حكومته إلى الملك في 18 آذار 1933، وتم قبول الاستقالة، وكلف الملك السيد رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة  في 20 آذار 1933 .
 


154
من ذاكرة التاريخ: 

نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الرابعة
حامد الحمداني                                                              2/8/2015

نوري السعيد يشكل الوزارة، ويتولى إقرار المعاهدة:
هكذا إذاً شكل نوري السعيد وزارته الأولى في 23 آذار 1930، بناء على تكليف الملك بطلب من المندوب السامي البريطاني، وكان ذلك التكليف باكورة هيمنته على سياسة العراق، حيث تولى الحكم أربعة عشر مرة منذُ ذلك التاريخ وحتى سقوط النظام الملكي إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولعب خلال تلك الحقبة دوراً خطيراً في حياة البلاد السياسية، واشتهر بإخلاصه التام للإنكليز، وبحملات القمع التي مارسها ضد أبناء الشعب، والمراسيم الجائرة التي كان يصدرها لكي يسكت أفواه المواطنين وقوى المعارضة العراقية، مستخدماً كل الوسائل والسبل المخالفة للدستور. كما اتخذ له موقفاً معادياً من حركات التحرر العربية إرضاءً للبريطانيين. وقد جاءت وزارته على الشكل التالي :
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء،ووزيراً للخارجية .
2 ـ جميل المدفعي  ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ علي جودت الأيوبي ـ وزيراً للمالية .
4 ـ جمـال بابان ـ وزيراً للعدل .
5 ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ جميل الراوي ـ وزيراً للأشغال والإسكان .
7 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف .
وقد أعلن نوري السعيد أن أمام وزارته مهمة التفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة على أساس الاستقلال، ودخول العراق إلى عصبة الأمم لكن حقيقة الأمر أن حكومة نوري السعيد جاءت لفرض معاهدة 1930 الجائرة على العراق. (14)

إجراءات السعيد لتأمين فرض معاهدة 1930:
بدأت المفاوضات العراقية البريطانية حول عقد معاهدة جديدة في 31 آذار 1930، وقد ترأس الوفد البريطاني المندوب السامي السير  [هيمفريز]، وضم الوفد مساعده [الميجر يونك ] و[المستر ستاجر]، فيما كان الوفد العراقي برئاسة [الملك فيصل ]، وعضوية [نوري السعيد] و[جعفر العسكري ] و[رستم حيدر ]، وقد لعب الملك دوراً بارزاً في المفاوضات، وكانت الحكومة تصدر كل يوم بياناً مقتضباً حول مجرى المفاوضات دون الدخول في التفاصيل، حتى جاء يوم 8 نيسان 1930 حين صدر بيان عن الحكومة يقول:
لقد تم الاتفاق بين المتفاوضين على ما يلي:
1ـ إن المعاهدة التي تجري المذاكرة حولها الآن ستدخل حيز التنفيذ عند دخول العراق في عصبة الأمم .
2ـ إن وضع العراق كما هو مصرح في المعاهدة سيكون وضع دولة حرة مستقلة.
3ـ عند دخول المعاهدة الجديدة حيز العمل ستنتهي حالاً جميع المعاهدات والاتفاقات الموجودة ما بين العراق وبريطانيا العظمى، والانتداب الذي قبله صاحب الجلالة البريطانية سينتهي بطبيعة الحال.
 لعب نوري السعيد دوراً أساسياً في عقد المعاهدة الجديدة بالنظر للثقة الكبيرة التي أولاها البريطانيون له والاطمئنان إليه، وكذلك ثقة الملك فيصل.
كان الشعب العراقي يدرك أن المفاوضات لن تطول، وهذا ما كان، فقد أعلن بيان رسمي للحكومة  في 30 حزيران 1930 عن توقيع معاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا العظمى تنفذ حال قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وأن المعاهدة ستنشر في بغداد ولندن في وقت واحد يتفق عليه الطرفان.
باشر نوري السعيد المهام التي أنيطت به، وكان جُلّ همه أن ينجح في الامتحان الصعب، وينال ثقة الإنكليز، وقد فعل ذلك ونجح، وأصبح رجل بريطانيا القوي دون منازع، فكانت بريطانيا تنيط به تأليف الوزارة كلما كان لديها مهمة صعبة تنوي تنفيذها كما سنرى فيما بعد، وقد اتخذ نوري السعيد الإجراءات التالية تمهيداً لإقرار المعاهدة.
1ـ  حل المجلس النيابي :
بعد أن أتمت الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة يستطيع من خلالها تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط .
وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز، وأحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة منددة بنوري السعيد وبالمعاهدة وبالإمبريالية البريطانية، فقد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق، بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة، وتقييد العراق بقيود جديدة. (15)
 2 ـ  السعيد يزور الانتخابات لضمان فرض المعاهدة :
بعد أن حلت الحكومة مجلس النواب، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط  والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن ] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو وليس الشعب. وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول  1930 في جو مشحون بالإرهاب.
 فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية بالوكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه وأساليبه القمعية المعروفة لإرهاب المنتخبين الثانويين وإجبارهم على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات، تنقلات واسعة بين رؤساء وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة.

لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل 88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى من قبل مجلس النواب،وجاءت المعاهدة على الوجه التالي. (16)
نص معاهدة 30 حزيران 1930: (17)
صاحب الجلالة ملك العراق.
وصاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
لما كانا راغبين في توثيق أواصر الصداقة، والاحتفاظ بصلات التفاهم وإدامتها ما بين بلديهما، ولما كان صاحب الجلالة ملك بريطانيا قد تعهد في معاهدة التحالف الموقع عليها في بغداد في اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية، بأن ينظر نظراً فعلياً في تمتين علاقاتنا في فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات، ولما كانت حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قد أعلمت الحكومة العراقية في اليوم الرابع عشر من أيلول سنة 1929 أنها مستعدة لعضد ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 بلا قيد ولا شرط ، وأعلنت لمجلس العصبة في اليوم الرابع عشر من كانون الأول 1929 أن هذه هي نيتها. ولما كانت المسؤوليات الانتدابية التي قبلها صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق ستنتهي من تلقاء نفسها،عند إدخال العراق عصبة الأمم، ولما كان صاحب الجلالة ملك العراق، وصاحب الجلالة البريطانية يريان أن الصلات التي ستقوم بينهما بصفة كونهما مستقلين، وينبغي تحديدها بعقد معاهدة تحالف وصداقة، فقد اتفقا على عقد معاهدة جديدة لبلوغ هذه الغاية،على قواعد الحرية والمساواة التامتين، والاستقلال التام، وتصبح نافذة عند دخول العراق عصبة الأمم، وقد عينا عنهما مندوبين مفوضين هما:
عن جلالة ملك العراق : نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حامل وسامي النهضة والاستقلال من الصنف الثاني.
وعن جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار، إمبراطور الهند اللفتنانت كولونيل السر[ هنري هيمفريز]المعتمد السامي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق اللذان بعد أن تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة قد اتفقا على ما يلي :

المادة الأولى: يسود سلم وصداقة دائمين بين صاحب الجلالة ملك العراق وصاحب الجلالة البريطانية، ويؤسس بين الفريقين الساميين المتعاقدين تحالف وثيق، توطيداً لصداقتهما وتفاهمهما الودي، وصلاتهما الحسنة، وتجرى بينهما مشاورة تامة وصريحة في جميع الشؤون السياسية الخارجية، مما قد يكون له مساس مصالحهما المشتركة.
ويتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن لا يقف من البلاد الأجنبية موقفاً لا يتفق ومعاهدة  التحالف هذه، أو قد يخلق مصاعب للفريق الآخر.                                                                                                                                       المادة الثانية : يمثل كل من الفريقين الساميين المتعاقدين لدى بلاط الفريق السامي المتعاقد الآخر ممثل سياسي [دبلوماسي] يعتمد وفقاً للأصول المرعية.

المادة الثالثة: إذا أدى نزاع بين العراق ودولة ثالثة إلى حالة يترتب عليها خطر قطع العلاقات بتلك الدولة يوحد عندئذٍ الفريقان الساميان المتعاقدان مساعيهما لتسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً لأي تعهدات دولية أخرى يمكن تطبيقها على تلك الحالة.

المادة الرابعة: إذا اشتبك أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في حرب رغم أحكام المادة الثالثة أعلاه يبادر حينئذٍ الفريق السامي المتعاقد الآخر فوراً إلى معونته بصفة كونه حليفاً، وذلك دائماً وفق أحكام المادة التاسعة أدناه، وفي حالة خطر حرب محدق يبادر الفريقان الساميان المتعاقدان فوراُ إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية.
إن معونة صاحب الجلالة ملك العراق في حالة حرب، أو خطر حرب محدق تنحصر في أن يقدم إلى صاحب الجلالة البريطاني في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر، والموانئ والمطارات، ووسائل المواصلات.

المادة الخامسة: من المفهوم بين الفريقين الساميين المتعاقدين أن مسؤولية حفظ الأمن الداخلي في العراق وأيضاً ـ بشرط مراعاة أحكام المادة الرابعة أعلاه مسؤولية الدفاع عن العراق إزاء الاعتداء الخارجي تنحصران في صاحب الجلالة ملك العراق.
 مع ذلك يعترف جلالة ملك العراق بان حفظ  وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية بصورة دائمة في جميع الأحوال هما من صالح الفريقين الساميين المتعاقدين المشترك.
فمن أجل ذلك، وتسهيلاً للقيام بتعهدات صاحب الجلالة البريطانية وفقاً للمادة الرابعة أعلاه يتعهد جلالة ملك العراق بأن يمنح صاحب الجلالة البريطانية طيلة مدة التحالف موقعين لقاعدتين جويتين ينتقيهما صاحب الجلالة البريطانية في البصرة، أو في جوارها، وموقعاً واحداً لقاعدة جوية ينتقيها صاحب الجلالة البريطانية في غرب نهر الفرات.
وكذلك يأذن جلالة ملك العراق لصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الأراضي العراقية في الأماكن الأنفة الذكر وفقاً لأحكام ملحق هذه المعاهدة، على أن يكون مفهوماً أن وجود هذه القوات لن يعتبر بأي حال من الأحوال احتلالاً، ولن يمس على الإطلاق سيادة واستقلال العراق.

المادة السادسة: يعتبر ملحق هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.

المادة السابعة: تحل هذه المعاهدة محل معاهدتي التحالف الموقع عليهما في بغداد في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922 ميلادية، والموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية، وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني سنة 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية مع الاتفاقات الفرعية الملحقة بها، التي تمسي ملغاة عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وهذه المعاهدة في نسختين في كل من اللغتين العربية والإنكليزية، ويعتبر النص الأخير المعول عليه.
المادة الثامنة: يعترف الفريقان الساميان المتعاقدان بأنه عند الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة تنتهي من تلقاء نفسها وبصورة نهائية جميع المسؤوليات المترتبة على صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق وفقاً لأحكام وثيقة دولية أخرى، وينبغي أن يترتب على جلالة ملك العراق وحده، وعلى الفريقين الساميين المتعاقدين أن يبادرا فوراً إلى اتخاذ الوسائل المقتضية لتأمين نقل هذه المسؤوليات إلى جلالة ملك العراق.

المادة التاسعة:  ليس في هذه المعاهدة ما يرمي بوجه من الوجوه إلى الإخلال أو يخل بالحقوق والتعهدات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الفريقين الساميين المتعاقدين وفقاً لميثاق عصبة الأمم، أو معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في اليوم السابع والعشرين من شهر آب سنة 1928 ميلادية.
المادة العاشرة: إذا نشأ خلاف فيما يتعلق بتطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها ولم يوفق الفريقان الساميان المتعاقدان إلى الفصل فيه بالمفاوضة رأساً بينهما يعالج الخلاف حينئذٍ وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم .

المادة الحادية عشرة: تبرم هذه المعاهدة، ويتم تبادل الإبرام بأسرع ما يمكن، ثم يجري تنفيذها عند قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وتظل هذه المعاهدة نافذة لمدة خمس وعشرين سنة ابتداء من تاريخ تنفيذها، وفي أي وقت كان بعد عشرين سنة من تاريخ الشروع بتنفيذها، على الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما بناء على طلب أحدهما بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار على حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال. وعند الخلاف في هذا الشأن يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم .
وإقراراً لما تقدم قد وقع كل من المندوبين المفوضين على هذه المعاهدة وختمها بختمه .
كتب في بغداد في اليوم الثلاثين من شهر حزيران سنة 1930 ميلادي الموافق لليوم الثاني من شهر صفر سنة 1349 هجرية.
          هنري هيمفر                                                       نوري السعيد
ملحق
 فقرة رقم 1
يعين صاحب الجلالة البريطانية من حين لأخر مقدار القوات التي يقيمها جلالته في العراق وفقاً لإحكام المادة الخامسة من هذه المعاهدة، وذلك بعد مشاورة صاحب الجلالة ملك العراق في الأمر، ويقيم صاحب الجلالة البريطانية قوات في [الهنيدي] لمدة خمس سنوات، بعد الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وذلك لكي يتمكن صاحب الجلالة ملك العراق من تنظيم القوات المقتضية للحلول محل تلك القوات، وعند انقضاء تلك المدة تكون قوات صاحب الجلالة البريطانية قد انسحبت من الهنيدي.
ولصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الموصل لمدة حدها الأعظم خمس سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وبعد ذلك لصاحب الجلالة البريطانية أن يضع قواته في الأماكن المذكورة في المادة الخامسة من هذه المعاهدة، ويؤجر صاحب الجلالة ملك العراق مدة هذا التحالف لصاحب الجلالة البريطانية المواقع المقتضية لإسكان قوات صاحب الجلالة البريطانية في تلك الأماكن.
فقرة رقم 2
بشرط مراعاة أي تعديلات قد يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على إحداثها في المستقبل، تظل الحصانات والامتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية،  بما في ذلك الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها القوات البريطانية في العراق شاملة القوات المشار إليها في الفقرة الأولى أعلاه، وتشمل أيضاً قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف، وهي القوات التي يحتمل وجودها في العراق عملاً بأحكام هذه المعاهدة وملحقها، أو وفقاً لاتفاق يتم عقده بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وأيضاً يواصل العمل بأحكام أي تشريع محلي له مساس بقوات صاحب الجلالة البريطانية المسلحة، وتتخذ الحكومة العراقية التدابير المقتضية للتثبت من كون الشروط المتبدلة لا تجعل موقف القوات البريطانية فيما يتعلق بالحصانات والامتيازات أقل ملائمة من الوجوه من الموقف الذي تتمتع به هذه القوات في تاريخ الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة
فقرة رقم 3
يوافق جلالة ملك العراق على القيام بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة في الفقرة الأولى من هذا الملحق، وتدريبها وأعالتها وعلى منحها عين التسهيلات استعمال التلغراف واللاسلكي، التي تتمتع بها عند الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 4
يتعهد صاحب الجلالة ملك العراق بأن يقدم بناء على طلب صاحب الجلالة البريطانية، وعلى نفقة صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً للشروط التي يتفق عليها الفريقان الساميان المتعاقدان، حرساً خاصاً من قوات صاحب الجلالة ملك العراق لحماية القواعد الجوية، مما قد تشغله قوات صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً لأحكام هذه المعاهدة، وأن يؤمن سنّ القوانين التشريعية التي قد يقتضيها تنفيذ الشروط الآنفة الذكر .
فقرة رقم 5
يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يقوم عند كل طلب يطلبه صاحب الجلالة ملك العراق بجميع التسهيلات في الأمور التالية، وذلك على نفقة جلالة ملك العراق، وهي:
1 ـ تعليم الضباط العراقيين الفنون البحرية والعسكرية والجوية في المملكة المتحدة.
2 ـ تقديم الأسلحة والعتاد والتجهيزات والسفن والطائرات من أحدث طراز متيسر إلى قوات جلالة ملك العراق .
3 ـ تقديم ضباط بريطانيين مجربين عسكريين وجويين للخدمة بصفة استشارية في قوات جلالة ملك العراق .
فقرة رقم 6
لما كان من المرغوب فيه توحيد التدريب والأساليب في الجيشين العراقي والبريطاني يتعهد جلالة ملك العراق بأنه إذا رأى ضرورة الالتجاء إلى مدربين عسكريين أجانب فإنهم يختارون من الرعايا البريطانيين.
ويتعهد أيضاً بأن أي أشخاص من قواته، من الذين يوفدون إلى الخارج للتدريب العسكري يرسلون إلى مدارس وكليات ودور تدريب عسكرية في بلاد جلالته البريطانية، بشرط أن لا يمنع ذلك صاحب الجلالة ملك العراق من إرسال الأشخاص الذين لا يمكن قبولهم في المعاهد، ودور التدريب المذكورة في أي قطر آخر.
ويتعهد أيضاً بأن التجهيزات الأساسية لقوات جلالته، وأسلحتها لا تختلف في نوعها عن أسلحة قوات صاحب الجلالة البريطانية، وتجهيزاتها.
يوافق جلالة ملك العراق على أن يقوم عند طلب صاحب الجلالة البريطانية ذلك بجميع التسهيلات الممكنة لمرور قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف العسكرية عبر العراق لنقل وخزن جميع المؤن والتجهيزات التي قد تحتاج إليها هذه القوات في أثناء مرورها في العراق، وتتناول هذه التسهيلات استخدام طرق العراق، وسككه الحديدية، وطرقه المائية، وموانئه، ومطاراته، ويؤذن لسفن صاحب الجلالة البريطانية أذناً عاماً في زيارة شط العرب، بشرط إعلام جلالة ملك العراق، قبل القيام بتلك الزيارات للموانئ العراقية. (10)
                                                      دار الاعتماد  ن. س . ف
                                                     بغداد في 30 حزيران 1930

وقبل أن يعرض نوري السعيد معاهدته المشؤومة على مجلس النواب لجأ إلى تأليف حزب سياسي له ضم العناصر التي رشحها في الانتخابات لتكون سنداً له في تصديق المعاهدة فكان [حزب العهد]. وفي 4 تشرين الأول 1930 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بالموافقة على المعاهدة، وتم دعوة مجلس النواب إلى الاجتماع  في 16 تشرين الأول، واتخذ نوري السعيد احتياطات أمنية واسعة النطاق حول بناية المجلس الجديد في بناية جامعة آل البيت، التي ألغاها عند تشكيله لوزارته، والواقعة في الاعظمية، وأصدر قراراً بضمها إلى حدود أمانة العاصمة، حيث ينص الدستور على أن يكون مقر مجلس النواب في العاصمة. وفي اليوم المقرر لمناقشة المعاهدة من قبل مجلس النواب تقدم نوري السعيد إلى المجلس بالاقتراح التالي :
{لما كانت نصوص المعاهدة مع بريطانيا المنعقدة في 30 حزيران 1930 قد نشرت للرأي العام  منذ مدة طويلة، وكانت انتخابات مجلس النواب قد جرت على أساس استفتاء الشعب فيها اقترح على المجلس الموقر أن يوافق على المذاكرة فيها بصورة مستعجلة}.
وقد تمت الموافقة على الاقتراح من قبل رئيس المجلس، و تم طرح المعاهدة بعد نقاش للمعارضة دام 4 ساعات للتصويت عليها، وقد صوت إلى جانب المعاهدة 69، وعارضها 13عضواً ، وتغيب 5 أعضاء عن الحضور، وسط هياج وصياح المعارضة المنددة بالمعاهدة. (18)
 لم يبق أي عائق أمام نوري السعيد لتصديق المعاهدة، فالملك فيصل كان يرأس الوفد المفاوض أثناء عقد المعاهدة، ومجلس الأعيان يعيينه الملك، ويعمل بأمره . أما المعارضة فقد أبرق أقطابها المعروفين السادة[جعفر أبو التمن ] و[ناجي السويدي] و[يسين الهاشمي] إلى سكرتارية عصبة الأمم يحتجون على بنود المعاهدة التي لا تضمن للعراق استقلالاً حقيقياً، وتفسح المجال لبريطانيا باستغلال البلاد حسب ما تقتضيه أغراضها الاستعمارية.

ماذا قال رجال الدولة البارزين عن المعاهدة ؟ (19)
لم يكد نوري السعيد يحقق مهمته الأولى بالتصديق على المعاهدة حتى عمَّ استياء عام وهياج جماهير الشعب احتجاجاً على ربط العراق بعجلة الاستعمار البريطاني، ولم يستطع رجالات السياسة البارزين وأقطاب الحكم إلا أن يوجهوا النقد الشديد للحكومة، بالنظر لكونها قد قيدت العراق لسنوات طويلة، وربطته بعجلة بريطانيا خلافاً لمصالح الشعب والوطن، وأعلنوا رفضهم لها .
فقد قال [ رشيد عالي الكيلاني ] وهو من رؤساء الوزارات المخضرمين:
{ إن أقل ما يقال عن هذه المعاهدة أنها استبدلت الانتداب الوقتي باحتلال دائم وأضافت إلى القيود والأثقال الحالية  قيوداً وأثقالاً أشد وطأة }.
وقال [ يسين الهاشمي ] وهو أيضاً من رؤساء الوزارات، والذي شكل العديد من الوزارات ما يلي :
 { لم تضف المعاهدة شيئاً إلى ما كسبه العراق بل زادت في أغلاله، وعزلته عن الأقطار العربية، وباعدت ما بينه وبين جارتيه الشرقيتين وصاغت لنا الاستقلال من مواد الاحتلال، ورجائي من أبناء الشعب أن لا يقبلوها}.
وقال [ حكمت سليمان ] وهو رئيس وزراء سابق ما يلي:
{ المعاهدة الجديدة تضمن الاحتلال الأبدي، ومنحت بريطانيا امتيازات دون عوض أما ذيولها المالية، فإنها تكبد العراق أضراراً جسيمة دون مبرر}.
أما السيد[ محمد رضا الشبيبي ] وهو وزير في وزارات عديدة فقد قال:
 { إنني أرتئي رفض المعاهدة وملحقاتها لأنها حمّلت العراق الكثير من المغارم والتبعات، ولم يكسب مقابل ذلك حقاً جديداً من الحقوق، في حين حصل الجانب الآخر على امتيازات وحقوق جديدة }.
أما السيد [ عبد العزيز القصاب ] وهو وزير في وزارات عدة فقد قال عن تلك المعاهدة ما يلي:
{ إن المعاهدة لا تلبِ رغبات الشعب، وجاءت هادمة لكل الجهود التي بذلت لتخفيف وطأة المعاهدات السابقة، وأنا ارفضها ويرفضها الشعب}.
وقال [ حمدي الباجه جي ] وهو رئيس وزارة سابق:
 { إن المعاهدة الجديدة تجعل كابوس الاستعمار البريطاني دائماً ومستمراً}.
وقال [ يوسف غنيمة ] وهو وزير سابق:
 {إن المعاهدة لا تتفق والاستقلال التام، ورغبات الشعب، وليست في مصلحة البلاد}.
وقال [ كامل الجادرجي ] وهو وزير سابق وزعيم الحزب الوطني الديمقراطي، وأحد أبرز رموز المعارضة العراقية:
{ إن نتيجة هذه المعاهدة وذيولها حمايةٌ بريطانية شديدة الوطأة واحتلال دائم}. (20)
لكن المؤسف أن كل أولئك الساسة، باستثناء الأستاذ كامل الجادرجي، قد تنكروا لأقوالهم، واشتركوا في الوزارات التالية، ونفذوا بنود المعاهدة، وبلعوا تعليقاتهم حولها.
غير أن أكثر الشخصيات الوطنية عنفاً في مقاومة المعاهدة كان القائد الوطني البارز[جعفر أبو التمن] زعيم الحزب الوطني الذي بعث بمذكرة باسم الحزب إلى كل من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإيران وتركيا وإلى عصبة الأمم في 1 تشرين الأول 1930 أدان فيها أسلوب تأليف حكومة نوري السعيد، والأساليب غير الدستورية التي أقدم عليها، بتأجيل جلسات المجلس النيابي، ومن ثم حله دون أن يمض عليه خمسة أشهر، وقيامه بتعطيل أكثر من 20 صحيفة سياسية، وإحالة عدد من المحررين الصحفيين إلى المحاكم، ومنع الحكومة للاجتماعات العامة، وكمّ أفواه الشعب، وعقد معاهدة جائرة يرفضها الشعب لأنها تصب في خدمة الأغراض الاستعمارية البريطانية، وإجراء انتخابات مزورة، لفرض المعاهدة التي رفضها الشعب وقواه الوطنية، وإن الحزب الوطني الذي أيدت سياسته أكثرية الشعب العراقي يعتبر أن
هذه المعاهدة ملغاة وباطلة}.
كما أحتج عدد من الشخصيات السياسية الكردية على المعاهدة، وأبرقوا إلى سكرتارية عصبة الأمم عدة برقيات في 20، و26 تموز تستنكر عقد المعاهدة .
وقال عدد من أعضاء اللجنة الدائمة للانتدابات من ممثلي الدول في عصبة الأمم :
{ إن قبول العراق لهذه المعاهدة سيجعله بعد تحرره من الانتداب تحت الحماية البريطانية}.
وقال[ المسيو بار] العضو الفرنسي في اللجنة المذكورة :
{أنا شخصياً لا أحب أن أرى بلادي تدخل في مثل هذا التعهد الذي قبله العراق على نفسه }.
وهكذا أثبت نوري السعيد أنه أكثر إنكليزية من الإنكليز، وانه رجل الإمبريالية البريطانية دون منازع، وهذا ما أهله لكي يكون العمود الفقري الذي تستند عليه السياسة البريطانية في العراق، ومكنته من أن يشكل 14 وزارة، في الفترة الممتدة من منتصف حزيران 1930 وحتى سقوط النظام الملكي حين قامت ثورة 14 تموز 1958.


155

نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                                             25/7/2015

نبذه عن تاريخ حياة نوري السعيد
ولد نوري السعيد عام 1888ميلادية في بغداد، من عائلة من الطبقة الوسطى (1)، حيث كان والده يعمل مدققاً في إحدى الدوائر في العهد العثماني، وهو من الطائفة السنية، وقد درس السعيد في الأكاديمية العسكرية في اسطنبول، وتخرج برتبة ملازم في الجيش العثماني، كما درس في كلية الأركان وتخرج منها، وانظم إلى مجموعة الضباط [الشريفيين] الذين التحقوا بالثورة العربية ضد الحكم العثماني بزعامة الملك [حسين بن علي] ملك الحجاز عام 1916.

 كما انضم العديد من الضباط الآخرين إلى الملك فيصل الأول عندما تولى عرش سوريا لفترة وجيزة حيث قدر عددهم آنذاك بحوالي 300 ضابط ومدني واحد هو السيد [رستم حيدر] وهو مدير مدرسة سابق من بعلبك في لبنان.

لكن القوات الفرنسية أسقطت نظام حكم الملك فيصل وطردته من سوريا، وقرر البريطانيون فيما بعد تنصيبه ملكاً على العراق، وقد رافقه الضباط الشريفيون عند انتقاله إلى العراق، وكان من أبرزهم [نوري السعيد ] و[ جعفر العسكري] و[علي جودت الأيوبي] و[جميل المدفعي] و[ياسين الهاشمي]  وأخيه [ طه الهاشمي ] و [تحسين العسكري ] و [شاكرالوادي] و[علي جودت الأيوبي]، وقد شغل هؤلاء جميعاً مناصب عليا في الدولة العراقية من بينها رئاسة الوزارات، واتخذ الملك فيصل ابن الحسين السيد [رستم حيدر] سكرتيراً خاصاً له وأمين أسراره، ورافقه حتى وفاته وتقلد العديد من المناصب على عهده كان أهمها رئاسة الديوان الملكي ووزارة المالية.

رغم أن هذه المجموعة من الضباط الشريفيين كانوا من الطبقة الوسطى، باستثناء عدد قليل منهم، لكنهم بمرور الزمن قد تملكوا الأراضي الزراعية من الدولة، وبذلك أصبحوا من طبقة الملاكين وكونوا لهم روابط قوية مع عائلات الطبقة العليا في المجتمع. (2)

لقد كان واضحاً لكل المؤرخين والمتتبعين أن الأمير فيصل لم يكن له حضاً في حكم العراق لولا الدعم البريطاني ومجموعة الضباط الشريفيين، فقد كان هناك العديد من الشخصيات العراقية التي كانت ترى نفسها أحق من الملك فيصل في حكم العراق، وكان من أبرزهم السيد[عبد الرحمن النقيب] والسيد [طالب النقيب] الذي أعلن صراحة أنه أحق من فيصل [الغريب] في حكم العراق، وقد اتخذ المندوب السامي قراراً بنفي السيد طالب النقيب إلى سيلان في 16 نيسان 1921، بعد أن وجد أنه يمثل خطورة كبيرة على المشروع البريطاني بتنصيب الأمير فيصل ابن الحسين بن علي ملكاً على العراق.(3)
كان الملك فيصل أكثر اعتماداً على نوري السعيد من أي من الضباط الشريفيين الأوائل، حيث كلفه في بادئ الأمر مهمة بناء جهازي الشرطة والأمن، وبوأه منصب مدير الشرطة العام، وقد عمل السعيد جهده لتعيين أصدقائه ومناصريه من الضباط الشريفيين الأوائل  في المناصب الحساسة بهذا الجهاز.(4)
كما عين الملك فيصل نوري السعيد نائباً للقائد العام للقوات المسلحة عندما باشر في تكوين الجيش العراقي، حيث يكون الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة بموجب الفقرة الثامنة من المادة 26 من الدستور.

 كما أشغل السعيد كما أسلفنا وزارة الدفاع في أغلب الوزارات، وكان بحكم منصبه كنائب للقائد العام مشرفاً على عمل وزارة الدفاع في كافة الوزارات التي لم يكن يشغل فيها الوزارة المذكورة، وقد حرص السعيد على جمع أكبر عدد من الضباط الشريفيين القدامى في الجيش الوليد، وبوأهم أعلى المناصب فيه بحيث وصل عددهم إلى 12من أصل 19 من الضباط ذوي الرتب العالية.(5)

لقد مكنت هذه المناصب نوري السعيد من زيادة وتعاظم نفوذه السياسي في البلاد لدرجة أوصلت العديد من الشخصيات السياسية إلى القناعة من أن نوري السعيد قد أصبح من العسير إزاحته حيث كان يتميز بعلاقاته الواسعة، واختلاطه برجال المجتمع، وإخلاصه لأصدقائه، وكان يتميز بالحيوية والنشاط، فقد وصفه السيد [توفيق السويدي ] بأنه شخص واسع الحيلة، يقضاً بشكل غير معتاد استطاع بدهائه أن يصبح في منتصف العشرينات اليد الطولى للملك فيصل عملياً. (6)

كما شبهه السيد[ طالب مشتاق] بكرة الثلج التي تكبر وتكبر باستمرار، أي يكبر نفوذه باستمرار، وكان السياسيون يخشون أحابيله ومؤامراته، حيث كان لا يتوانى عن القيام بأي عمل إذا كان ذلك العمل يحقق طموحه السياسي، ويوصله إلى أرفع مراكز السلطة لدرجة جعلت منافسيه من السياسيين يخشونه ويشعرون منه بالرعب.

  كان السعيد لا يتوانى حتى عن اغتيال معارضيه، فقد دبر عملية اغتيال السيد[ توفيق الخالدي] وزير الداخلية في 25 شباط 1924، حيث كان للخالدي ميولاً معادية لدور الضباط الشريفيين، وسعى لتقليص دورهم في إدارة أمور البلاد، وقد تم اغتياله على يد شخصين من أزلام نوري السعيد هما كل من [ شاكر القرةغلي] و[ عبد الله سرية ] بتحريض منه  شخصياً، وقيل أن الملك فيصل وجعفر العسكري كانت لهم يد في عملية الاغتيال بدعوى أن توفيق الخالدي كان من أنصار النظام الجمهوري،لكن الحقيقة أن اشتراك الملك فيصل مشكوك بها، وقد تم حشر اسم الملك من أجل طمس أسم المدبر الحقيقي للاغتيال نوري السعيد. (7)

كما أن الشكوك كانت تدور حول وفاة الملك فيصل في سويسرا في 7 أيلول 1933، واختفاء مذكراته فور وفاته، فقد ثارت الشكوك حول وفاته، وكان هناك شك أن السبب الحقيقي للوفاة هو التسمم، وأن لنوري السعيد يد فيها، وقيل أن الإنكليز هم الذين كانوا وراء العملية، فقد كانوا قد أرسلوا إليه الإنذار تلو الإنذار في الفترة الأخيرة بسبب أحداث ثورة الآشوريين، وأسلوب قمعها على يد بكر صدقي. (8)
لقد كانت السفارة البريطانية في سويسرا قد رفعت تقريراً يشير إلى بعض الشكوك في سبب موت الملك، وجاء في التقرير: [ إن الموت يمكن أن يكون نتيجة التسمم بعد اختلافه مع السيدة التي كانت لها علاقة حب به!، أو التحريض من قبل الوكلاء السياسيين].(9)

كان نوري السعيد و رستم حيدر ملازمين للملك حين وفاته، ومما يعزز هذا الشك هو فتور العلاقة الذي حصل بين الملك فيصل ونوري السعيد في السنة الأخيرة من حكمه، على الرغم من العلاقة الحميمة التي ربطتهما ببعضهما في الفترة الماضية، لدرجة أن لقاءاتهما كانت قد تباعدت، وأخذت تقل تدريجياً عن المعتاد حتى وصل الأمر بنوري السعيد إلى أن يسرَّ في أذن مسؤول كبير في وزارة الخارجية البريطانية عام 1933بقوله:{ لن اعد أتحمل مرة أخرى مسؤولية رئاسة الوزارة طالما بقي الملك فيصل على عرش العراق}. (10)

أما ملابسات قضية مقتل الملك غازي فإن كل الدلائل كانت تشير إلى عملية اغتيال كانت قد دبُرت من قبل البريطانيين، وأن من خطط لتنفيذها كل من نوري السعيد وعبد الإله، كما سيرد ذلك في حينه فيما بعد.

 استمر نجم نوري السعيد بالصعود حتى تبوأ منصب رئيس الوزراء لأول مرة بتاريخ 23 آذار 1930، بإيعاز من السفارة البريطانية لكي ينفذ لهم أخطر مهمة ناءَ بحملها الآخرين من رجال السياسة، إلا وهي توقيع معاهدة عام 1930 التي ربطت العراق بعجلة الإمبريالية البريطانية لزمن طويل، وسأتناول هذه المعاهدة والإجراءات التي اتخذها نوري السعيد في وزارته الأولى، وردود الفعل التي أحدثتها لدى الرأي العام العراقي بوجه عام، ورجالات الدولة البارزين بوجه خاص في الفصل التالي . 

حكومة السعدون تشن حملة شعواء على المعارضة
كان على الحكومة السعدونية تنفيذ المهام الموكلة لها بانتخاب المجلس التأسيسي، وإقرار المعاهدة، وإقرار القانون الأساسي، وقانون الانتخاب، ومن أجل تنفيذ هذه المهام فقد كان على الحكومة أن تهيئ الأجواء التي تمكنها من تنفيذ هذه المهام بعد تلك الموجة العارمة التي اجتاحت العراق احتجاجاً على بنود المعاهدة التي وقعتها حكومة النقيب مع المندوب السامي البريطاني [بيرسي كوكس ] وذلك عن طريق توجيه ضربة قاصمة للقادة الوطنيين المعارضين للمعاهدة، ولرجال الدين في النجف وكربلاء الذين وقفوا بصلابة ضدها .

 فقد قبضت السلطات الحكومية على الشيخ [مهدي الخالصي ] وولديه في 27 حزيران 1923، ونفتهم خارج العراق، كما نفت قريبيه الشيخين[علي تقي] و[سلمان الصفواني] وعطلت الحكومة عدد من الصحف المعارضة للمعاهدة، وقامت بحملة إرهاب للمواطنين لحملهم على المشاركة في الانتخابات المزمع أجراءها، والتي كان المندوب السامي يلح على إجرائها بأسرع وقت لغرض إقرار المعاهدة. (1)
أثار عملية إبعاد الشيخ الخالصي وولديه وقريبيه موجة احتجاجات عارمة من قبل رجال الدين في النجف وكربلاء الذين هاجموا إجراءات الحكومة، وطالبوا بعودتهم إلى العراق. غير أن الحكومة بدلاً من أن تستجيب لمطالبهم واحتجاجاتهم أقدمت على إبعاد ما يزيد على 30 رجل دين أخر منهم إلى إيران، ووضعت تحت مراقبة الشرطة أكثر من 50 آخرين، وأشاعت جواً من الإرهاب في جميع أنحاء البلاد مما سبب في هيجان الشارع العراقي حيث خرجت الجماهير الشعبية تعلن رفضها للمعاهدة وتستنكر إجراءات الحكومة.

وبسبب تلك المعارضة الشعبية الواسعة، وبسبب الضغوط التي مارسها المندوب السامي على حكومة السيد [عبد المحسن السعدون] بغية إقرار المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922، وعلى الرغم من الإجراءات القمعية التي اتخذتها ضد المعارضة الشعبية الواسعة وقادتها الوطنيين فإن السعدون فشل في تحقيق رغبة المندوب السامي بإقرارها بسبب بنودها المجحفة بحق العراق واستقلاله، حيث أعطت تلك البنود لبريطانيا الهيمنة المطلقة على مقدرات العراق، وقد  حاول المندوب السامي [برسي كوكس ] فرضها مستخدماً كافة وسائل الضغط على الملك والحكومة معاً، مما اضطر السعدون إلى تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 15 تشرين الأول 1923، حيث تم قبول الاستقالة على الفور، وعهد الملك تأليف الوزارة الجديدة إلى السيد جعفر العسكري الذي اختار بدوره صهره نوري السعيد وزيراً للدفاع، لكي تأخذ هذه الحكومة على عاتقها إقرار المعاهدة، وتم تشكيل الوزارة في 22 تشرين الثاني 1923.

 كيف تم إقرار المعاهدة ؟
في 2 نيسان 1924 قدم رئيس الوزراء[جعفر العسكري] المعاهدة العراقية البريطانية مع البروتوكول المرفق بها، والاتفاقيات المتفرعة عنها إلى المجلس التأسيسي طالباً منه إقرارها، وقد حاول رئيس الوزراء تبرير ضرورة إقرار المعاهدة بصورة مستعجلة بحجة تمكين بريطانيا من إدخال العراق إلى عصبة الأمم، وتأمين الاستقلال الوطني، وحسم مسألة الحدود العراقية التركية، وقضية ولاية الموصل التي سعت تركيا بكل جهودها لضمها إليها، واستخدمت بريطانيا هذه المشكلة وسيلة ضغط على الحكومة العراقية لقبول المعاهدة المفروضة على العراق، وهذا ما أعلن عنه بصراحة أمام أعضاء المجلس عبد المحسن السعدون رئيس المجلس رداً على اعتراضات النواب الوطنيين حيث قال:
{ أيها السادة: إن الإنكليز مصرون على ربط قضية الموصل بتوقيع المعاهدة، فإما المعاهدة، وإما خسارة ولاية الموصل}. (2)
حاول رئيس الوزراء جعفر العسكري تمرير المعاهدة بأسرع ما يمكن بسبب إلحاح المندوب السامي البريطاني، لكن المعارضة طلبت توزيع لائحة المعاهدة على أعضاء المجلس لدراستها ومناقشتها، ولكي تعلن للشعب تفاصيلها، وجاء ذلك الاقتراح على لسان السيد[ ناجي السويدي] حيث جرى التصويت عليه وقبل الاقتراح وتم توزيع نسخ من المعاهدة، وطلب السيد ناجي السويدي تشكيل لجنة  لتدقيق المعاهدة على أن تضم عضواً عن كل لواء، وبالفعل تم تشكيل اللجنة التي تألفت من النواب التالية أسماؤهم :
1 ـ ياسين الهاشمي                  2 ـ عمر تعلوان 
 3 ـ زامل المناع                     4 ـ حبيب الخيزران
 5 ـ أصف أغا                       6 ـ داؤد الجلبي
7 ـ فالح الصيهود                   8 ـ محمد زكي         
 9 ـ عداي الجريان                 10 ـ فهد الهذال           
11ـ شريف أغا                     12 ـ حبيب الطالباني         
 13 ـ المرزا فرج                  14 ـ عبد الواحد سكر   
15 ـ صالح شكارة .
باشرت اللجنة اجتماعاتها لمناقشة بنود المعاهدة حيث عقدت 29 جلسة نهارية، و20 جلسة مسائية، ودرست خلالها بنود المعاهدة، والمراسلات والوثائق المتعلقة بها، ووضعت تقريرها الذي ضم 65 صفح،وفي الوقت الذي كان المجلس التأسيسي يناقش بنود المعاهدة، كان الشارع العراق في حالة من الغليان الشديد، وكان العلماء  والمحامون والمثقفون والأساتذة والطلاب ينظمون الاجتماعات والمظاهرات المطالبة بتعديل بنود المعاهدة بما يتفق وأماني الشعب في الحرية والاستقلال الحقيقي، وكان لتلك المظاهرات والاحتجاجات أثرها الكبير على العديد من أعضاء المجلس الذين غيروا رأيهم، وطالبوا بتعديل بنود المعاهدة، وقد سبب هذا الموقف قلقاً شديداً للملك فيصل وللمندوب السامي البريطاني على حد سواء، وخاصة بعد إطلاق النار على أثنين من أعضاء المجلس المعروفين بولائهم للإنكليز وهما [ عداي الجريان ] و[سلمان البراك] مما خلق جواً من الرعب والقلق، ودفع عدد من أعضاء المجلس إلى تقديم استقالتهم، فيما امتنع البعض الآخر عن حضور جلسات المجلس بحجج مختلفة.

لقد سرتْ إشاعات في بغداد تقول أن إطلاق النار كان مدبراً من قبل الحكومة لاتخاذه مبرراً للتنكيل بالمعارضة وقمعها، واعتقال العناصر النشطة المعارضة للمعاهدة، وقيل أن الذي أطلق النار على عضوي المجلس هو أحد أزلام نوري السعيد [شاكر القره غولي]، وبالتعاون مع [عبد الله سرية].(3)

ولم تكتفِ الحكومة بكل ذلك بل لجأت إلى إغلاق العديد من صحف المعارضة كان من بينها [ شعب] و[الاستقلال ] و[الناشئة] بغية كمّ الأصوات الوطنية المطالبة بتعديل بنود المعاهدة بما يتفق ومصالح الشعب والوطن .

لكن إصرار المعارضة الشعبية على مواصلة الكفاح ضد المعاهدة وضد سياسة الحكومة، وتصاعد الأزمة التي نشأت عن محاولة فرض المعاهدة التي كانت تنذر بتطورات خطيرة أجبرت الحكومة على تقديم استقالتها، إلا أن الملك فيصل والمندوب السامي ضغطا على جعفر العسكري لكي يبقى في الحكم لحين إقرار المعاهدة.

كان المندوب السامي يراقب عن كثب مناقشات المجلس التأسيسي لبنود المعاهدة، وخطب الموالين والمعارضين، كما كان يراقب ما تنشره الصحف المعارضة، وتملكه شعور بالغضب لإصرار عدد  كبير من أعضاء المجلس على تعديل بنود المعاهدة، وعلى تأخر إبرامها، فبعث إلى الملك فيصل بمذكرة خطيرة تنم عن التهديد، في 26 نيسان 1924، وجاء في المذكرة :
{حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، دام ملكه:
يا صاحب الجلالة :
كثيراً ما اقُترح في أثناء المباحثات بخصوص معاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق، والاتفاقيات المتفرعة، أن يُطلب من الحكومة البريطانية أن توافق على تعديلات في بعض الأمور التي يداخل المجلس شك بخصوصها، فلي الشرف أن أبلغ جلالتكم أن الحكومة البريطانية لا يسعها الموافقة على أي تعديلات، لا في المعاهدة ولا في البروتوكولات، ولا في الاتفاقيات، والأمر متروك للمجلس التأسيسي في أن يقبلها [ أي المعاهدة والبروتوكولات والاتفاقيات] أو يرفضها برمتها، على نحو ما يراه الأفضل لمصلحة العراق. إن السبب في قرار الحكومة البريطانية هذا  هو أن إجراء التعديلات في المعاهدة والاتفاقيات بين توقيعها وإبرامها مخالف كل المخالفة للتعامل الدولي المقرر من أزمنة بعيدة في التاريخ، ويؤدي إلى جعل إتمام المعاهدات إتماماً نهائياً من المستحيلات تقريباً}. (4)

لقد كانت مذكرة المندوب السامي هذه بمثابة إنذار للملك فيصل، بضرورة إقرار المعاهدة دون تغير أو تأخير.
وفي 16 أيار 1924 بعث المندوب السامي بمذكرة أخرى للملك فيصل،جاء فيها :
{يا صاحب الجلالة: لقد قمت بإيقاف حكومة صاحب الجلالة البريطانية تمام الوقوف على ما قد بدا حديثاً في العراق من الآراء والرغائب فيما يتعلق بمعاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق  والاتفاقيات المتفرعة عنها، وقد فوضتني الآن حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن أبلغ جلالتكم رسمياً ما يلي :
 إن حكومة صاحب الجلالة البريطانية لا يسعها أن تقبل قبل الإبرام أي تعديلات ما في المعاهدة والاتفاقيات التي سبق توقيعها بالنيابة عن الحكومتين، ولكن ستكون بعد الإبرام مستعدة لأن تبحث بروح الاعتدال، في كل ما قد يُرغب فيه من تعديلات في الاتفاقية المالية، هذا ولاشك في أن جلالتكم ستتخذون الوسائل لنشر هذا الكتاب}. (5)
               صديق جلالتكم  هنري. دوبس
يتبع الحلقة الثالثة



156
من ذاكرة التاريخ:
 تناول العديد من الكتاب والمؤرخين ثورة الرابع عشر من تموز 1958، منهم من تناولها بالتمجيد، ومنهم من تناولها بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، ومنهم من تناولها بالتجريح وممجدين بالعهد الملكي وبنوري السعيد، بدعوى أن ذلك العهد قد اتصف بالاستقرار، متجاهلين إن ذلك العهد تخللته العديد من الثورات سواء في الجنوب، ثورات العشائر، أو الشمال، ثورة محمود الحفيد، وثورة الملا مصطفى البرزاني، وثورة الآشوريين وكذلك انتفاضات شعبية بدءً من وثبة كانون الثاني 1948، فوثبة تشرين الثاني 1952، فانتفاضة 31 تشرين الاول عام 1956، هذا بالاضافة إلى انقلاب بكر صدقي عام 1936، وانقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941، والاحتلال البريطاني الثاني للعراق الذي اسقط حكم الكيلاني والعقداء الاربعة قادة الجيش آنذاك، واخيرا انقلاب نوري السعيد بدعم من العقداء الاربعة، قادة الجيش، ضد حكومة جميل المدفعي عام 1936، بالاضافة إلى العديد من الاضرابات والاحتجاجات على تدني مستوى حياة المواطنين، وخاصة ابان الحرب العالمية الثانية، والتي دعاها الشعب بزمن الخبز الأسود. ولتوضيح الحقيقة عن ذلك العهد، وعن سياسة نوري السعيد وعبد الاله، وحكمهما بالذات، آليت على نفسي أن اتناول ذلك العهد بالتفصيل بكل جوانبه الإيجابية والسلبية لكي يكون المواطن العراقي خاصة والعربي عامة على بينة من الأمر.                                                                                       
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الاولى
حامد الحمداني                                                                                                23/7/2015   
                               
 المقدمة: لم يشهد تاريخ الحكم الملكي في العراق شخصية سياسية لعبت دوراً خطيراً في تاريخ العراق خلال تلك الحقبة الممتدة من عام 1921 ولغاية قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 كشخصية [نوري السعيد]، فقد كان السعيد يتمتع بثقة كبرى ومنزلة خاصة لدى المحتلين البريطانيين، وقد كانت بريطانيا تعتبره رجل المهمات الخاصة والكبرى للمصالح البريطانية في العراق وسائر منطقة الشرق الأوسط، وكما هو معروف لدى المؤرخين والمتتبعين للسياسة البريطانية أن كل وزارة كانت تشكل في العهد الملكي تمر عبر السفارة البريطانية في بغداد، وينبغي أن تنال شخصياتها رضا وقبول السفير البريطاني. 

كانت بريطانيا، تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك، قد احتلت العراق عام 1915 أبان الحرب العالمية الأولى وأخضعته لانتدابها، واضطرت على أثر اندلاع ثورة العشرين إلى إقامة ما سمته بالحكم الوطني، لكنها في واقع الأمر كانت تهيمن على مقدرات العراق السياسية والاقتصادية والعسكرية، وسائر الشؤون الأخرى، وكانت كلما كان لديها مهمة خطيرة  تشير على الملك فيصل الأول، ومن بعده الملك غازي، ثم الوصي على عرش العراق عبد الإله بعد مقتل الملك غازي، وانتهاءً بالملك فيصل الثاني إلى وجوب تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة العراقية الذي تعتمد عليه كل الاعتماد بأداء المهمة المطلوب تنفيذها، ولذلك كانت لنوري السعيد حصة الأسد في تلك المرحلة حيث شكل أربعة عشر وزارة، وهو رقم قياسي لم تحققه أي شخصية سياسية عراقية خلال تلك الحقبة من تاريخ العراق التي دامت 37عاماً.
ففي 23 آذار شكل نوري السعيد وزارته الأولى التي استمرت في الحكم حتى 19 تشرين الأول 1930.
وفي 19 تشرين الأول عام 1931شكل وزارته الثانية، واستمرت في الحكم حتى 27 تشرين الأول 1932.
وفي 25 كانون الأول 1938 شكل وزارته الثالثة، واستمرت في الحكم حتى 6 نيسان 1939.
وفي 6 نيسان 1939 شكل وزارته الرابعة على أثر مقتل الملك غازي وتولي عبد الإله وصاية العرش، بسبب صغر سن الملك فيصل الثاني آنذاك، واستمرت في الحكم حتى18 شباط 1940.
وفي 22 شباط 1940 شكل السعيد وزارته الخامسة، واستمرت في الحكم حتى 31 آذار 1940 .
وفي 9 تشرين الأول 1941 شكل وزارته السادسة واستمرت في الحكم حتى3 تشرين الأول 1942 .
وفي 8 تشرين الأول 1942 شكل وزارته السابعة، واستمرت في الحكم حتى 19 كانون الأول 1943 .
وفي 25 كانون الأول 1943 شكل وزارته الثامنة، واستمرت في الحكم حتى 19 نيسان 1944 .
وفي 21 تشرين الثاني 1946 شكل وزارته التاسعة، واستمرت في الحكم حتى 19 نيسان 1944 .
وفي 6 كانون الثاني 1949 شكل وزارته العاشرة، واستمرت في الحكم حتى 9 كانون الأول 1949 .
وفي 15 أيلول 1950 شكل وزارته الحادية عشرة، واستمرت في الحكم حتى 10 تموز 1952.
وفي 3 آب 1954 شكل وزارته الثانية عشرة، واستمرت في الحكم حتى 17 كانون الأول 1957.
وفي 17 كانون الأول 1957 شكل السعيد وزارته الثالثة عشرة، واستمرت في الحكم حتى 8 حزيران 1957.
وفي 3 آذار 1958 شكل وزارته الرابعة عشرة، واستمرت في الحكم حتى 14 مايس 1958.
وفي 19 أيار 1958 شكل السعيد وزارة حكومة الاتحاد الهاشمي المقام بين العراق والمملكة الأردنية الهاشمية، واستمرت في الحكم حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق وبالاتحاد الهاشمي الذي أقيم على عجل رداً على قيام الوحدة السورية المصرية، وتكوين[الجمهورية العربية المتحدة].
 وبالإضافة إلى تأليفه أربعة عشر وزارة في تلك الحقبة فإنه كان قد شارك كوزير للدفاع أو الخارجية في عشرة وزارات أخرى، فقد شغل وزارة الدفاع في حكومة صهره[جعفر العسكري]  بتاريخ 22 تشرين الثاني 1923 .
وفي 1 تشرين الثاني 1924 شغل منصب وزير الدفاع في وزارة صهره جعفر العسكري الثانية.
وفي 21 نيسان 1926 حاول الملك فيصل الأول إسناد منصب رئيس الوزراء إلى نوري السعيد لأول مرة، إلا أن السيد [عبد المحسن السعدون] ٍالذي كان يسيطر أعضاء حزبه على البرلمان أبلغ الملك فيصل أن أعضاء حزبه لا يستطيعون منح ثقتهم لنوري السعيد، مما اضطر الملك إلى تكليف السيد [ توفيق السويدي] بتأليف الوزارة بدلاً من نوري السعيد. (3)
وفي 18 تشرين الثاني 1929 شغل نوري السعيد منصب وزير الدفاع في وزارة السيد [ ناجي السويدي ] التي أعقبت وزارة السيد عبد المحسن السعدون الذي انتحر في 13 تشرين الثاني من نفس العام .
وفي 20 آذار 1933 شغل نوري السعيد وزارة الخارجية في وزارة السيد [ رشيد عالي الكيلاني ] .
وفي 9 أيلول 1933 شغل نوري السعيد وزارة الخارجية في وزارة  [رشيد عالي الكيلاني] الثانية في أعقاب وفاة الملك فيصل الأول، وتسلم الملك غازي زمام الحكم.
وفي 9 تشرين الثاني شغل السعيد وزارة الخارجية ووكالة وزارة الدفاع في وزارة السيد [ جميل المدفعي ] الأولى.
وفي 25 آب 1934 شغل السعيد وزارة الخارجية في وزارة السيد  [جميل المدفعي ] الثانية.
وفي 29 كانون الثاني 1953 شغل السعيد وزارة الدفاع في وزارة السيد [جميل المدفعي] الثالثة .

لقد لعب نوري السعيد خلال سنوات حكمه دوراً خطيراً في حياة البلاد، وكان سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب العراقي حيث استهان بالدستور العراقي وسلب منه كل الحقوق والحريات التي تمس حياة المواطنين والتي نص عليها ذلك الدستور، ومنها حرية التنظيم الحزبي والنقابي وحرية الصحافة والنشر، وسائر المنظمات الديمقراطية والجمعيات وحتى النوادي العامة، وتلاعب في انتخابات مجلس النواب، وتزوير إرادة الناخبين باستمرار لضمان الإتيان ببرلمان ينفذ له إرادته ومخططاته.

 كما عمد مرات عديدة إلى حل المجلس النيابي واستغلال الوضع بإصدار المراسيم المنافية لنصوص الدستور، والمقيدة لحقوق وحريات المواطنين، وأعلن الأحكام العرفية لمرات عديدة ولفترات طويلة، ومارس حكماً قمعياً في حالات عديدة انتفض فيها الشعب العراقي احتجاجاً على سياسات الحكومات المتعاقبة، كما حدث بعد مقتل[ بكر صدقي] الذي قاد انقلاباً عسكرياً عام 1936، وتنكيله برجالات الانقلاب كان من بينهم رئيس الوزراء حكمت سليمان والعديد من الوزراء وكبار شخصيات الدولة، ومارس تلك السياسة الانتقامية بعد أحداث 2  أيار 1941 عندما قام رشيد عالي الكيلاني بحركته الانقلابية بمساعدة العقداء الأربعة[ قادة الجيش] والذين كان قد استخدمهم نوري السعيد نفسه عندما دبر انقلاباً على وزارة[ ياسين الهاشمي] وقد نكل السعيد بالعقداء الأربعة حيث تم إعدامهم وعلق جثثهم في ساحات بغداد بعد أن احتل البريطانيون العراق من جديد واسقطوا حكومة الكيلاني، كما نكل بالعديد من الشخصيات السياسية التي اتهمها بالمشاركة في حركة الكيلاني الانقلابية وأودعهم السجون، ونفى البعض منهم .

كما مارس سياسته الإرهابية تجاه الشعب العراقي أبان وثبة كانون المجيدة عام 1948، ووثبة تشرين المجيدة عام 1952، وانتفاضة الشعب عام 1956 أبان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة احتجاجاً على مواقفه من ذلك العدوان، وشماتته بالرئيس المصري عبد الناصر.

ورغم كل المذكرات التي كان قد رفعها إلى الوصي عبد الإله كل من السيد كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، والسيد محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال حول السياسة المعادية لمصالح الشعب والوطن التي يتبعها نوري السعيد، والتي تهدد مصير الكيان العراقي لما تسببه من تراكم للسخط الشعبي، إلا أن عبد الإله صم آذانه عن سماع تلك النصائح، وأوغل في معاداة القوى السياسية الوطنية حتى وصل الأمر إلى إعدام قادة الحزب الشيوعي يوسف سلمان [ فهد ] وزكي بسيم  [حازم ] ومحمد حسين الشبيبي [باسم]عام 1949، وملأ السجون بالكثير من الوطنيين الساعين إلى حرية واستقلال العراق الحقيقي، وأغلق كافة الصحف والمجلات، وألغى جميع الأحزاب والجمعيات والنوادي، وانتهى به المطاف إلى الحكم  على السيد كامل الجادرجي بالسجن ثلاث سنوات بالنفاذ إمعاناً باضطهاد الشعب وقواه السياسية الوطنية.

 كان هذا السلوك المعادي للديمقراطية، وحقوق الإنسان الذي مارسه الثنائي نوري السعيد وعبد الإله عاملاً حاسماً في انفجار الغضب الشعبي، والعناصر الوطنية في قواتنا المسلحة في ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، وكانت ثورة خاطفة أنهت النظام الملكي خلال ساعات، وأعلنت قيام النظام الجمهوري.

وقبل الولوج في صلب الدور الذي لعبه نوري السعيد وإجراءاته المنافية للدستور، واضطهاده لحقوق وحريات الشعب العراقي، لا بد أن نقدم نبذة عن حياته بادئ ذي بدء، وعلاقته بالملك فيصل الأول، وبالبريطانيين، وصعود نجمه بين سائر الشخصيات السياسية التي لعبت دوراً بارزاً في تلك المرحلة .
                                                           

                                                                  المؤلف
                                                             14تموز 2003



157
المجد لثورة الرابع عشر من تموز
وقائدها الشجاع
  الزعيم عبد الكريم قاسم وقادة الحركة الوطنية الابرار

حامد الحمداني                                                      14 تموز 2015

لم يشهد العراق عبر كل تاريخه حاكماً اتصف بالوطنية الصادقة ومعاداة الاستعمار، والعفة، والنزاهة، والأمانة وسمو الخلق، والتواضع الشديد، والزهد، ورفض الأبهة، والحرص على ثروة العراق، والشعور الصادق بمعانات الفقراء، والحرص على تأمين حياة كريمة لهم كالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم.

ولم يحضَ أي حاكم من قبل بتلك المحبة الصادقة والنابعة من قلوب جماهير الشعب العراقي، على الرغم من كل أخطائه، كما حضي الزعيم الشهيد، الذي كان يصر على التنقل بسيارته العادية غير المصفحة، كما يفعل قادة الدول، ولم يتخذ له في تنقلاته أي نوع من الحماية من قوات الجيش والشرطة السرية والعلنية، وإغلاق الطرق، كما يفعل القادة.

كان يدرك أنه يعيش في قلوب الشعب، حريصاً على التواصل معه ببساطته المعهودة، وشعوره الفياض بحب الشعب والوطن والحرص على مصالحهما
ولم يفعل أي شيئ طيلة فترة حكمه لنفسه ولا لعائلته، ولم يتخذ له قصراً منيفاً، ولا مزارع وأطيان، ولم يمتلك رصيداً في البنوك، ولم يحاول أن يؤسس له حزباً سياسياً، ولو فعل ذلك وجرت انتخابات حرة ديمقراطية في البلاد لكان حزبه هو الفائز بكل تأكيد.

 لكنه كان يردد دائماً شعاراته المعروفة [إنني فوق الميول وفوق الاتجاهات ] و [عفا الله عما سلف] و[ الرحمة فوق القانون ]!!، وهذه الشعارات هي التي استغلتها قوى الفاشية والظلام لتدبير المحاولات الانقلابية المتتالية منذ الأيام الأولى لنجاح الثورة وتأسيس الجمهورية، وتكلل بالنجاح مع شديد الأسف انقلاب الثامن من شباط الدموي الفاشي الذي دبرته القوى الإمبريالية الانكلو امريكية عام 1963، ونفذه البعثيون بالتحالف مع القوميين المزيفين، بعد أن مهدوا له استقطاب كافة الإقطاعيين والقوى الرجعية و القوى الإقليمية .

 لقد كان للدور الذي مارسته المرجعية الدينية في النجف المتمثلة  بالسيد محسن الحكيم، والتي كان يحرص الزعيم عبد الكريم قاسم على حسن العلاقة معه من خلال الزيارات المتكررة له، داعماً للانقلابيين حيث اتخذ موقفاً معاديا للزعيم وثورة الرابع عشر من تموز، والحركة الوطنية وفي المقدمة منهم الحزب الشيوعي، ووضع ثقله إلى جانب الانقلابيين، وتجاهل تصفيتهم الوحشية للزعيم وصحبه الشهداء الأبرار وقادة الحزب الشيوعي دون محاكمة عادلة أمام الشعب كما كان يجري  في ذلك العهد حيث يتم نقل المحاكمات عن طريق التلفزيون والإذاعة معاً  ليطلع عليها الشعب العراقي والعالم اجمع .

لقد عفا الزعيم الشهيد عن المحكومين بالإعدام الذين حاولوا قتله في رأس القرية وأصابوه بإصابات خطيرة، وعفا عن عبد السلام المحكوم بالإعدام كذلك لمحاولتة قتله في مقره بوزارة الدفاع، لينتهي به المطاف بيد هؤلاء القتلة المجرمين بعد نجاح انقلابهم المشؤوم، فلم يوفروا له محاكمة عادلة، ولم يردّوا له الجميل، فقد كانت قلوبهم قد امتلأت حقداً وإصراراً على سفك دمه ودم رفاقه الأخيار، والانتقام من كل العناصر الوطنية الصادقة والشريفة فكانت مجزرة كبرى ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة الوطنيين المحبين لشعبهم ووطنهم وفي المقدمة منهم قادة وكوادر واعضاء الحزب الشيوعي الذي كان يمثل الدرع الحصين لثورة 14 تموز الخالدة.

لقد استكثر القتلة السفاحون على الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء الوطنيين الأبرار حتى قبورهم، وهذا الفعل الخسيس يعبر بدون أدنى شك عن ذلك المنحدر السلوكي المتردي نحو الحضيض للانقلابيين الجبناء الذين أخافتهم قبور الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الابرار .
 
أنظروا إلى مصير أعضاء تلك الزمرة الخائنة والجبانة واحداً واحداً، أين هم اليوم؟ وكيف انتهوا؟ لقد ذهب اغلبهم قتلاً على أيدي بعضهم البعض في صراعهم على السلطة، وكلما حلت ذكرى انقلاب 8 شباط المشؤوم يصب عليهم أبناء شعبنا اللعنات بسبب ما اقترفته أياديهم القذرة من جرائم بحق الشعب والوطن وقادته الخالدين  .

 أما الشهيد عبد الكريم قاسم وكافة الشهداء الذين رحلوا معه فقد خلدهم التاريخ، وخلدهم كل الطييبين من أبناء شعبنا في قلوبهم، وفي كل عام يتذكر الشعب قادته الوطنيين ويمجدونهم، ويتحدثون عن مآثرهم الخالدة، وتضحياتهم الكبيرة.

إننا ندعو أبناء شعبنا البررة، وفي المقدمة منهم الكتاب والمثقفين والأدباء والفنانين لمطالبة حكومة العراق إعادة الحقوق المشروعة للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار، وسائر الوطنيين اللذين تضرروا من ذلك الانقلاب المشؤوم وفي المقدمة منها:

1 ـ إيجاد جثمان الشهيد عبد الكريم قاسم وكافة جثامين صحبه الشهداء، الأبرار، وإقامة مقبرة خاصة لهم تليق بمقامهم السامي لدى شعبنا.

2 ـ  إعادة اسم مدينة الثورة إلى بانيها أبو الفقراء الشهيد عبد الكريم قاسم، وإطلاق اسمه على المؤسسات التي أقامها في مختلف المدن العراقية.

3 ـ إعادة بيت الزعيم الراحل واتخاذه  متحفاً لمقتنياته وكل ما يتعلق بثورة الرابع عشر من تموز، وحبذا لو يتم استملاك المنطقة المحيطة به لتوسيع المتحف لكي يضم كل المتعلقات بثورة 14 تموز الخالدة .

4 ـ منح عائلة الزعيم الراحل الراتب التقاعدي ومضاعفته، مع تخصيص رواتب تقاعدية لسائر الشهداء الأبرار.

5 ـ إصدار تشريع بإعادة علم ثورة الرابع عشر من تموز الذي يعبر أروع تعبير عن الاخوة العربية الكردية وسائر القوميات الأخرى المتآخية في العراق، والكف عن الإصرار على بقاء علم صدام وحزبه الفاشي يذكرنا بجرائمه بحق الشعب والوطن .

6 ـ رفع وإزالة كل الكتب والمؤلفات التي سطرها وعّاظ السلاطين من الانتهازيين التي تمجد طاغية العراق وفكره الفاشي، والتي تشكل إساءة للزعيم الراحل، وتشوه الوجه المشرق لثورة الرابع عشر من تموز 1958 ومنجزاتها الكبيرة .

ستبقى ثورة الرابع عشر من تموز مناراً يضئ الطريق أمام شعبنا نحو مستقبل افضل يخرجنا من هذا النفق المظلم الذي أوصلنا إليه المحتلين  الذين شادوا لنا هذا النظام البائس باسم الديمقراطية الكسيحة التي بشرنا بها بوش، والتي لم نشهد لها مثيلا من قبل حيث بات العراق اليوم مسرحا لجرائم جيش المرتزقة الدواعش الصهيونية، ونهبا لكل موارد البلاد على أيدي زمرة من الفاسدين الذين بوأهم بوش مقاليد الحكم في البلاد.

أين انتم يا قادة العراق من الشهيد عبد الكريم قاسم وعفته ونزاهته  وامانته  وحبه الكبير للفقراء حيث كان يردد دائما قولته المشهورة :
{سأرفع مستوى الفقراء إلى مستوى الاغنياء}.
 لقد حولتم الطبقة الوسطى إلى مرتبه الفقراء، وحتى تحت خط الفقر لطائفة كبيرة من هذه الطبقة، اما الفقراء فقد ازدادوا فقرا لحد الجوع، وقد حولتم ملايين العراقيين إلى نازحين في الخيام تحت حرارة الشمس القاسية يبحثون عن الماء والطعام  ليسدوا به رمقهم ورمق اطفالهم.  أما انتمَّ فلا هم لكم غير اكتناز المزيد من الثروة الوطنية دون وازع من ضمير، ولا خوفا من عقاب القانون، فالقانون اليوم في اجازة إلى أمد غير محدود. 
تموز عُدْ عادَ الظلامُ بموطني *****وحلَّ فيـنا ظالمٌ لا يرحمُ

158
هذا هو السبيل لإنقاذ العراق من وضعه الكارثي

حامد الحمداني                                               12/7/2015   
         

إن الوضع الكارثي الذي يخيم على العراق اليوم جراء الهجمة الشرسة لقوى الارهاب العالمي والتي يطلق عليها بـ [داعش] ختزالا بما سمي بـدولة العراق والشام الاسلامية !!، والتي استطاعت احتلال اكثر من ثلث مساحة العراق وسوريا والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية والظلام، والذي يعصف بالبلاد ويزهق أرواح المواطنين بالجملة كل يوم، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، والفقر والجوع والبطالة، وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد، حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى المخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، والهيمنة الأمريكية على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم  العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كما فعلت بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير، وكارثة كبرى تهدد بشكل جدي مصير ومستقبل العراق وشعبه.

فالطائفية التي مهد لها الدكتاتور صدام حسين بحملته الإيمانية المزيفة، والتي اعتمدها الحاكم الأمريكي بريمر في تشكيله مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة المؤقتة فيما بعد، والانتخابات السابقة واللاحقة كلها تمثل عاملاً حاسماً في  ترسيخ جذورها، وتعميق مخاطرها على مستقبل العراق.

 كما أن التعصب القومي الشوفيني، والكراهية أخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي بحيث غدا المواطن السني يكره الشيعي، والشيعي يكره السني، والكردي يكره العربي، والعربي يكره الكردي، والتركماني يكره الكردي، والكردي يكره التركماني، دعك عن القلق الشديد الذي ينتاب الطوائف الأخرى من المسيحيين، والصابئة واليزيديين، جراء الاعمال الاجرامية لعصابات داعش من قتل والاغتصاب والتهجير وفرض الجزية!، وبيع النساء في سوق النخاسة، وتنامي الطائفية البغيضة والشوفينية القومية المتعصبة والخطيرة، ومحاولات البعض فرض أجندتهم المتخلفة على الآخرين بالقوة والترهيب، بل لقد تجاوزت ذلك إلى حد الاغتيال ونسف محلات بيع المشروبات الروحية، ومحلات الحلاقين الرجالية منها والنسائية، وفرض الحجاب على المرأة والعودة بها القهقرى إلى العصور القديمة بحجة مخالفة الشريعة !!.
وبدأت الدعوات تتصاعد إلى إقامة دويلات في الشمال تارة، والجنوب والفرات الأوسط تارة أخرى، وكأنما العراق أصبح فريسة لكل من يملك القوة والمليشيات المسلحة ليحقق طموحاته في تمزيق العراق، وإشعال نيران الحرب الأهلية التي تنذر بالموت والدمار، وإغراق العراق بالدماء.

وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب والوطن فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، وعلى وجه السرعة قبل فوات الأوان لإنقاذ وصيانة الوحدة الوطنية، والقضاء على النشاط الإرهابي، وإبعاد شبح الحرب الأهلية، وعودة الأمن والسلام في ربوع العراق والتوجه نحو إعادة بناء البنية التحتية للعراق الجديد، وتأتي في مقدمة هذه الإجراءات:   
                                                                                                                                1 ـ كف الدول الاجنبية الاقليمية والدولية عن التدخل في شؤون العرق وسحب قواتها من البلاد إذا كانت هذه الدول تحمل نوايا صادقة تجاه العراق والحرص على سيادته واستقلاله كما تدعي، على أن تستبدل بقوات دولية من الأمم المتحدة تتولى دحر جيش المرتزقة الداعشي الذي بات خطره لايهدد العراق فحسب بل العالم اجمع،  مما يقتضي تدخل دولي جاد، وعن طريق الامم المتحدة، للقضاء على هذا الخطر الوبيل، وصيانة الأمن والنظام العام، والعمل على بناء جيش وأجهزة أمنية جديدة بعيد عن هيمنة القوى  والاحزاب الطائفية والعرقية وقادرة على حفظ الأمن والنظام العام بعد خروج قوات الأمم المتحدة .

2 ـ تتولى الأمم المتحدة تشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية القائمة في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بنظام صدام المسقط، أو بالطبقة السياسية التي جاء بها الاحتلال الأمريكي إلى سدة الحكم،  ولا أي ارتباطات بدول الجوار، وخاصة تلك التي تمارس التدخل الفض في شؤون العراق كإيران والسعودية وتركيا، وأمريكا واسرائيل من وراء الستار، وأن يكون اعضاء الحكومة من المشهود لهم بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية يمتد أمدها لفترة زمنية محددة، بدعم من قوات الأمم المتحدة لتحرير العراق من سيطرة جيش المرتزقة الامبريالي الداعشي وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، وإنهاء أي دور للميليشيات الحزبية، وسحب كافة الأسلحة منها .

3 ـ حل مجلس النواب، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت من قبل الأمم المتحدة يضم 150 شخصية وطنية عراقية من مختلف محافظات العراق على أساس الكفاءة والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، بصرف النظر عن الدين والطائفة والقومية، ويختار البرلمان الاستشاري رئيساً مؤقتاً للجمهورية خلال الفترة الانتقالية، وتشكيل حكومة تنكوقراط تتولى إصلاح ما خربته الحقبة الصدامية الفاشية، والحرب الكارثية الأمريكية، والحكومات التي نصبها المحتلون الامريكيون والبريطانيون منذ الغزو وحتى اليوم للبنية التحية العراقية الاقتصادية والإجتماعية والثقافية والصحية والخدماتية، وفي المقدمة من ذلك إعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، وإعادة المهجرين واستعادة مساكنهم وممتلكاتهم، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لمسألة البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء صالح للشرب، وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد الأدنى اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.

4 ـ يقوم رئيس الجمهورية المؤقت وأعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم كافة، قبل مباشرتهم المسؤولية، وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة والمشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة، والحماية الأمنية الظرورية، لملاحقة السراق والمرتشين، وناهبي أموال الشعب، وهدر ثروات البلاد، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.

 ولابد من سن قانون { من أين لك هذا} لمحاسبة السراق والمرتشين وناهبي ثروات البلاد، خلال مرحلة نظام صدام، والنظام الذي أقامه المحتلون الأمريكيون، وإحالتهم إلى المحاكم لينالوا عقابهم الصارم، واستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة، ولا بد من تطهير الجهاز القضائي من العناصر الطارئة والفاسدة التي جاء بهم المحتلون وحكومات الاسلام السياسي المتهة بالفساد بدءأ من المحكمة الدستورية ونزولا إلى كل الجهاز القضائي في البلاد.

 5 ـ وقف العمل بالدستور الحالي الطائفي، والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالي يحمل بذور الحرب الأهلية، واتخاذ دستور مؤقت، وتشكيل لجنة دستورية مختارة من خيرة اساتذة القانون الدستوري العراقيين المشهود لها بالأمانة والنزاهة والتوجه الديمقراطي الصادق لوضع دستور علماني يضع في صلبة نص الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ويضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة، والشوفينية القومية البائسة، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب لمناقشته والمصادقة عليه.

6 ـ حل كافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون.

لقد بات العراق مسرحا لنشاط احزاب الاسلام السياسي والقوى القومية الكردية  كجيش المهدي، و منظمة بدر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى، وميليشيات الحزب الإسلامي السني، وميليشيات عصائب الحق، وحزب الفضيلة، وحزب الله، وثأر الله وميليشيات الاحزاب الكردية، قوات البيشمركة، وغيرها من الميليشيات الأخرى، وأن أي ادعاء بكون قوات البيشمركة هي قوات منظمة مرفوض تماماً، فلا يوجد في العالم كله دولة فيدرالية تمتلك فيها كل فيدرالية جيشها الخاص، ولا بد من نزع سلاح كافة الميليشيات كبيرها وصغيرها، وأن يكون السلاح بيد الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وحدهما.

7 ـ تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والإدارية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، واعادة العمل بقانون التجنيد الاجباري لابعاد الجيش عن الطائفية والعرقية، والحرص على أن يبقى ولاء أفراد الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان والحرص على سيادة واستقلال العراق.

إن تواجد العناصر المرتبطة بالأحزاب داخل صفوف الجيش والأجهزة الأمنية سيبقى يمثل برميل بارود معرض للانفجار في أي لحظة، حيث الولاء للحزب وليس للعراق وشعبه، فلا مجال للنشاط الحزبي في صفوف الجيش والأجهزة الأمنية.

8 ـ إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، وتحريم قيام الأحزاب على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً،أو قومي شوفيني متطرف عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً، وان يكون تمويل الاحزاب من جانب الدولة فقط، وحل اي حزب يتلقى تمويلا من مصادر اجنبية، واحالة قياداته للمحاكم.

9 ـ منع نشاط حزب البعث الصدامي، ومكافحة فكره الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، وإجراء مصالحة وطنية حقيقية مع كل العناصر التي لم تتلطخ ايديها بجرائم النظام الصدامي، والعمل على احتواء هذه العناصر، وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر .

10 ـ محاكمة كافة أعوان نظام صدام والنظام الذي اقامه المحتلون الذين ارتكبوا الجرائم الوحشية بحق الشعب، وناهبي ثروات البلاد من دون إبطاء أو تلكؤ، وإنزال العقاب الصارم بحقهم، فهؤلاء يتحملون المسؤولية عن كل الويلات والمصائب التي حلت بالشعب والوطن جراء طغيانهم، وجراء شن الحروب الإجرامية، والتي أزهقت أرواح الملايين من أبناء شعبنا، وشردت ملايين أخرى في مختلف بقاع الأرض، ودمرت البنية الاجتماعية والاقتصادية، واستنفذت كل موارد العراق، وأغرقته بالديون بعشرات المليارات من الدولارات، وملأت ارض العراق بالقبور الجماعية، وهمشّت القوى والأحزاب السياسية الوطنية، وقمعت الحقوق والحريات الديمقراطية العامة للشعب.

11 ـ إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض هي ملك للشعب العراقي كله دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية  ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعات المناطق الأكثر تضرراً، والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.
وينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة للعراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.

12 ـ تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات.
إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عليها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدراليات الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه مطلقاً، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسير في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني والذي لن يخرج أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

13 ـ العمل على انسحاب كافة القوات الأجنبية من البلاد حال استتباب الأمن والسلام في البلاد، وإكمال بناء قوات الجيش والأجهزة الأمنية وتجهيزها بكافة الأسلحة الثقيلة والطائرات المتطورة للجيش بما يمكنه من صيانة الأمن الداخلي وسلامة الحدود وصيانة استقلال البلاد، والسعي لإقامة أفضل العلاقات مع سائر دول العالم على أساس المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، شرط عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة واستقلال العراق، ووحدة أراضيه.

أن استمرار الحكومة الحالية غير المتجانسة والتي تتجاذبها الصراعات في ظل الوضع الحالي الخطير لن يحقق الأمن والسلام الدائميين للعراق، وسيبقي الوضع الأمني هشاً قابلاً للانفجار في أية لحظة ما دام العراق تقوده أحزاب طائفية، وشوفينية عنصرية، مدعومة بميليشياتها المسلحة التي باتت هي الحاكم الحقيقي على أرض العراق، مما شجع على انتشار الفساد في كافة أجهزة الدولة من القمة إلى القاعدة، وانتشار ظاهرة الميلياديرية الجدد في البلاد التي لم يكن لها وجود قبل الغزو الأمريكي البريطاني للعراق بحجة تحريره من نظام صدام حسين، لكن المحتلين خلقوا في البلاد العشرات إذا لم نقل مئات الصداميين الجدد الذين لا هم لهم سوى الاستئثار بالسلطة ونهب ثروات البلاد تاركين الشعب العراقي البائس في حالة يرثى لها، حيث يفتك به الجوع والأمراض والفقر والبطالة من جهة،  وسيوف الميليشيات الطائفية والعنصرية المسلطة على رقابه، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة تخص حياة المواطنين وحقوقهم وحرياتهم العامة والخاصة باسم الدين الذي استغلوه أبشع استغلال، متخذينه وسيلة للبقاء في السلطة وأساءوا إليه بالغ الإساءة.

14 ـ ينبغي فصل الدين عن الدولة، فلا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة  وابعاد تأثير الاحزاب الدينية عن الجهاز التعليمي بكافة مراحله بدءاً من رياض الاطفال وحتى الجامعات، وتنقية المناهج الدراسية من كل الأدران التي الحقت بها منذ سطا حرب البعث الفاشي على الحكم وسخر المناهج الدراسية لخدمة الدكتاتور وحزبه الفاشي، مرورا بأحزاب الاسلام السياسية بشقيها الشيعي والسني التي نصبها المحتلون لحكم العراق بعد احتلاله، والاستعانة بالكوادر التربوية الديمقراطية النظيفة لإعادة النظر الجذرية بالمناهج الدراسية البالية التي عفا عليها الزمن، واسبدالها بمناهج ديمقراطية حديثة بما يضمن خلق جيل جديد متشبع بالافكار والقيم الانسانية النبيلة بعيداً عن العنف والجريمة والافكار الفاشية والعفنة، والغاء كل الاحتفالات الدينية التي لا صلة لها بالدين الصحيح من لطم وتطبير ومشاهد الدماء التي تؤثر تأثيرا بالغا على نفوس اطفالنا وشبابنا دون اي مبرر، والتركيزعلى مآثر الشهيد الحسين وقيمها النبيلة والمثل العليا التي ناضل واستشهد من أجلها، وعدم السماح لأحزاب الاسلام السياسي لاستغلال هذه المناسبات الدينية لتحقيق اهداف سياسية .

هذا هو الطريق لانقاذ العراق من المأزق الحالي الخطير الذي يهدد مصيره كدولة ، ويحول شعبنا إلى لاجئين في شتى بقاع الارض يعانون الفقر والجوع في بلد من اغنى بلدان العالم بما يمتلكه من ثروات هائلة، وكوادر علمية وطنية قادرة على تحقيق حياة كريمة ومرفهة لسائر اطياف الشعب دون استثنا في ظل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان.
   



159
أزمة العلاقات الأمريكية الروسية
من حرب جورجيا إلى حرب اوكرانيا
حامد الحمداني                                                   29/6/2015
منذُ انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عام 1991، وتحول الولايات المتحدة إلى الدولة الأعظم في العالم، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على سدة الحكم إلى تكريس وحدانية القطب الواحد في العالم، والسعي الحثيث للحيلولة دون انبعاث أقطاب أخرى بعد أن أصبحت تتحكم بمصائر الشعوب، مستقوية بقوتها العسكرية الجبارة بما تمثله من أسلحة متطورة فتاكة، وتكنولوجيا عالية، واقتصاد قوي، رافضة أن يشاركها أحد في تقرير مصائر الدول والشعوب.                                       .                                                                                                       لقد وصل الأمر بالإدارة الأمريكية على عهد رئيسها السابق جورج بوش الأبن إلى تجاهل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن عندما قرر غزو العراق عام 2003 بعد أن أعلنت كل من روسيا والصين وفرنسا عن رفضها لشن الحرب على العراق، واستعدادها لاستخدام حق النقض في مجلس الأمن للحيلولة دون إقدام الولايات المتحدة على شن تلك الحرب العدوانية
لكن الرئيس بوش تجاهل تهديدات الدول الكبرى الثلاث، وتجاوز مجلس الأمن، الجهة الوحيدة المخولة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن والسلام الدوليين، ونفذ خططه بغزو العراق.                                         .                                               
لكن هذه الدول التي رفضت المشاركة بالحرب رضخت في نهاية ألأمر للمشيئة الأمريكية، وشاركت بتمرير العديد من القرارات المتعلقة بالعراق بعد غزوه، وإسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين من دون معارضة، على الرغم من أن هذه الدول الكبرى الثلاث قد خسرت العقود النفطية التي كانت قد وقعتها مع نظام صدام.                                           .         
لكن هذا التساهل من جانب هذه الدول، وعلى وجه الخصوص روسيا لم يرضِ طموحات الإدارة الأمريكية، وخططها البعيدة المدى لمنع انبعاث الدور الروسي في الشأن العالمي، ولاسيما وأن روسيا كانت وما تزال تمتلك ترسانة نووية، وصواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى أية بقعة في العالم، مما يسبب للإدارة الأمريكية أشد القلق، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت ولا تزال تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج على وجه الخصوص، بل لمنع أي مشاركة حقيقية لروسيا في شؤون العالم.
   إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان إلى الوضع القائم في روسيا اليوم على الرغم من العلاقات التي تربط بين الطرفين والتي يسودها التوتر أحيانا، فهي تخشى من حدوث تغيرات في توجهات السلطة تعيد الحرب الباردة والصراع بين الطرفين، وهذا ما يسبب أشد القلق لها، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت وما تزال تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن الشؤون العالمية، بل لتطويقها، ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها، حيث سعت إلى ضم بولندا وجيكيا ولتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى حلف الأطلسي، وحاولت كذلك ضم جورجيا، بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو] أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً،مما اثار حفيظة القيادة الروسية.                                                             
لقد تحدث الرئيس الروسي [ بوتين] بخطابه في مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية في الحادي عشر من شباط 2007 موجهاً فيه اتهامه الصريح للولايات المتحدة قائلاً:                                           
.{أن الولايات المتحدة تنشئ، أو تحاول إنشاء، عالم وحيد القطبية}
ثم عاد وفسر بوتين ما تعنيه هذه التسمية قائلاً:                   
ماذا يعني عالم وحيد القطبية بصرف النظر عن محاولاتنا لتجميل تلك العبارة، فإنها تعني العالم الذي يرتكز على وجود قوة واحدة تتحكم فيه، وتعني أيضا عالم له سيد واحد فقط،، وإن هذه التركيبة أدت إلى كارثة، مضيفاً أن الولايات المتحدة قد تعدت حدودها الوطنية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، بل وفرضت نفسها على الدول الأخرى. إن الحروب الأهلية والإقليمية لم تتوقف، كما أن عدد الناس الذين يقتلون بسببها في ازدياد متصاعد. إننا لا نرى أي نوع من التعقل في استخدام القوة، بل نرى استخداما مستديما ومفرطا للقوة، وأضاف أن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراع آخر دون تحقيق أي حل شامل لأي منها.                                                                               
 وبحضور وزير الدفاع الأمريكي السابق [روبرت جيت] وعدد من نواب الكونجرس، دعا بوتين أمامهم إلى إعادة هيكلة نظام الأمن الدولي القائم حالياً بأكمله وقد وصف الأمين العام لمنظمة دول حلف شمال الأطلسي [الناتو] آنذاك السيد [جاب دي هوب شيفر] خطاب الرئيس بوتين بأنه مخيب للآمال وغير مجدي.                                                      .                                                           
أما السناتور الجمهوري الأمريكي [ جون ماكين ] الذي كان المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري فقد رد بعنف على خطاب الرئيس بوتين قائلا:ً                                                                                   
{إن عالم اليوم ليس وحيد القطبية، وأن روسيا الاستبداديةّ هي التي تحتاج إلى تغيير في سلوكها، وأضاف قائلاً إن على موسكو أن تفهم أنها لا تستطيع أن تتمتع بمشاركة حقيقية مع الغرب طالما أن أفعالها في الداخل وفي الخارج تتعارض بشكل أساسي مع لب قيم الديمقراطيات إليورو- أطلسية، وادعى جون ماكين أن عالم اليوم هو بالفعل عالم متعدد الأقطاب، ولا يوجد مكان للمواجهات العديمة الجدوى لذا أتمنى أن يفهم الزعماء الروس هذه الحقيقة!}.                                             .                                                               
وبعد هذه المواجهة الكلامية بين بوتين وماكين تحدث بعض المشاركين
بالمؤتمر عن قيام حرب باردة جديدة، وقالوا إن خطاب بوتين يعد أحد الحركات التي دأبت روسيا على اتخاذها بصفة دورية للتعبير عن سخطها من تلاشي دورها الكبير الذي كان يلعبه الاتحاد السوفيتي في الخريطة السياسية للعالم.                                                                     .                                                                                                ولم تجرِالحرب التي شنها نظام شكاسفيلي في جورجيا بمعزل عن الخطط الأمريكية لتطويق روسيا، فما كان الرئيس الجورجي قادراً على الأقدام على غزو أوستيا الجنوبية لولا التحريض والتشجيع والدعم الذي تلقاه من الإدارة الأمريكية، لكن رد الفعل السريع والقوي من جانب روسيا اسقط في يد سكاشفيلي وحلف الناتو والإدارة الأمريكية التي عجزت عن تقديم الدعم الفعّال لجورجيا، بل لقد جاءت تلك الحرب المجنونة بنتائج كارثية على جورجيا، حيث قررت روسيا الاعتراف باستقلال إقليمي أبخازيا، وأوستيا عن جورجيا، دون أن يستطيع حلف الناتو والإدارة الأمريكية منع ذلك.                                                                   
                                                  .
إن روسيا التي بدأت تشعر يوماً بعد يوم بالجرح الذي أصاب كبريائها كدولة عظمى كانت تقف نداً للطغيان الأمريكي، وأخذت تتوجس من النوايا الأمريكية لتطويقها وتقزيم دورها في الشأن العالمي، والسعي لنصب الصواريخ النووية على حدودها بدعوى مجابهة الصواريخ الإيرانية، وباتت تدرك أن الهدف الحقيقي من الخطط الأمريكية هو روسيا بالذات، فقد عقدت القيادة الروسية العزم على التصدي لهذه الخطط مستعرضة قواها العسكرية، واستخدامها الفعلي في جورجيا، وتوجيه تهديد صريح لبولندا وجيكيا من مغبة التمادي في خدمة المخططات الأمريكية العدوانية بتوجيه الصواريخ الروسية نحو هذه البلدان، وتوجيه الضربات الأولى لها في حالة نشوء أي نزاع مسلح بين روسيا والولايات المتحدة.           
         
كانت الولايات المتحدة قد أسكرتها انتصاراتها في حرب العراق، وجعلتها تفقد توازنها، وباتت تتصرف كشرطي عالمي، وتتجاهل المنظمة الدولية ومجلس الأمن لتفرض على الشعوب ودول العالم مشيئتها، غير مدركة أن  ذلك لن يدوم إلى الأبد، فالمارد الصيني والمارد الروسي ينهضان لأخذ دورهما الفعّال في الشؤون الدولية، كما أن الهند باتت تشكل اليوم قوة كبرى، كما أن الاتحاد الأوربي بات دوره يتعاظم في الشأن الدولي، وفي بعض الاحيان يأخذ اتجاهاً استقلاليا عن المخططات الأمريكية.                 
ما أشبه اليوم بالبارحةحيث ما برحت الولايات المتحدة، بعد أن استطاعت ضم بولندا وبلغاريا ورومانيا إلى حلف الأطلسي، بل استطاعت ضم استونيا ولتوانيا ولاتفيا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي إلى الحلف المذكورلأكمال حلقة تطويق روسيا، وبادرت لتشجيع القوى الفاشية في أوكرانيا، التي كانت قد انفصلت من الاتحاد السوفيتي على أثر انهياره، واحتفظت بعلاقات طبيعية مع روسيا، على اسقاط النظام القائم فيها سعيا إلى ضمها لحلفها العدواني لإكمال حلقة تطويق روسيا في ما سمي بالثورة البرتقالية، واستطاعت أن تنجح في مسعاها ولكن إلى حين.       
  لكن الانتخابات البرلمانية التي تلت ذلك التغيير في اوكرانيا اسقطت النظام الذي جاءت به الثورة البرتقالية، وفازت القوى التي تقف إلى جانب اعادة العلاقات مع روسيا إلى سابق عهدها، مما اثار غضب القيادة الأمريكية التي راعتها نتائج الانتخابات، وبدأت تعد العدة من جديد لإسقاط النظام الجديد في أوكرانيا بالقوة مستخدمة القوى الفاشية المسلحة التي استطاعت اسقاط النظام في ثورتها المضادة والاتيان بنظام فاشي موالٍ لهاعلى المكشوف ويدعو إلى ضم اوكرانيا إلى حلف الناتو.                 .
 كان من نتائج ذلك الانقلاب الدموي المدعوم من قبل الولايات المتحدة أن ردت شبه جزيرة القرم التي تظم القاعدة البحرية الروسية في البحر الأسود معلنة انفصالها عن اوكرانيا، واجراء انتخابات برلمانية فيها، وقرر برلمانها المنتخب الانظام إلى روسيا.                          .                                                       
 كما اشتعلت الحرب الأهلية في المنطقة الشرقية من أوكرانيا ذات الأغلبية الروسية التي أعلنت انفصاله، و قيام جمهوريتي لوكانسك ودوباس مطالبين بالحكم الذاتي، ورغم كل الجهود التي بذلت في مؤتمر منسك لحل النزاع القائم شرق اوكرانيا وإيقاف العمليات الحربية، فما زالت حكومة اوكرانيا، بتحريض من الولايات المتحدة، ترفض تطبيق الاتفاقية لحل النزاع سلميا، وما زالت الولايات المتحدة ترسل السلاح إلى حكومة أوكرانيا، وتفرض العقوبات على روسيا بالاشتراك مع دول الاتحاد الأوربي، تلك العقوبات التي اضرت بالاقتصاد الروسي والدول الغربية على حد سواء، وقد ظهرت بوادر وضجر وتململ من سياسة الولايات المتحدة التي سعت إلى تمديد أمد العقوبات، ومطالبة المانيا وفرنسا وإيطاليا لحكومة أوكرانيا وروسيا بتنفيذ اتفاقية منسك حيث اضرت العقوبات الروسية بالمقابل اقتصاد هذه الدول.                              .                                                                           
ولا شك أن من حق الحكومة الروسية أن تحمي بلادها مما تراه عملية تطويق وتهديد  من جانب الولايات المتحدة وحلف الناتو الذي قرر أخيرا نقل كميات كبيرة من الأسلحة، ونصب صواريخها الحربية في بولونيا ورومانيا وبلغاريا ودول البلطيق لتوانيا ولاتفيا واستونيا، وجاء الرد الروسي سريعا على لسان الرئيس الروسي بوتين الذي أعلن أن روسيا سترد بنشر الصواريخ الذرية الموجهة للدول التي قبلت بنشر الصواريخ الأمريكية الموجه ضد روسيا، مما يهدد بنشوب حرب باردة وسباق تسلح، وتهديد للأمن والسلام الدوليين.                                   .                                                   
إن اصرار الولايات المتحدة على السير بهذا الطريق الخطر  لتأكيد هيمنتها على مصير الدول والشعوب ستبوء بالفشل بلا أدنى شك، فالوضع العالمي اليوم يختلف عن ايام ما قبل الحرب العالمية الثانية حيث يمتلك الطرفان السلاح النووي القادر على فناء البشرية، فلا غالب ولا مغلوب في حرب ذرية، ولا بد من حل المشاكل الدولية سلميا وبموحب القانون الدولي، ولا بد أن تكف الولايات المتحدة  عن فرض ارادتها على الشعوب.                  .                                                                                                                                                                               سيغدو العالم بكل تأكيد متعدد الأقطاب، وستضطر الولايات المتحدة شاءت أم أبت إلى القبول بالواقع الجديد الذي يولد وينمو ويتعاظم دوره، وستضطر في نهاية المطاف العودة للمنظمة الدولية والالتزام باحترامها، وسيتم إصلاح المنظمة هذه لتواكب التطور الحالي في العالم اليوم بعد أن مضى على تأسيسها تطورات سبعون عاماً، ولاسيما وأن هناك دعوات بدأت تتصاعد لإصلاحها حتى من قبل أمينها العام من أجل أخذ دورها الفعّال في صيانة الأمن والسلام الدوليين، وخدمة البشرية بتكريس جهودها لمعالجة مسألة الفقر والبطالة المفرخة للإرهاب ورفع مستوى حياة الإنسان في الدول الفقيرة بدل توجيه الأموال الطائلة نحو الحروب والتسلح الذي لا يجلب إلا الخراب والدمار.                            .                                                                       

160
من ذاكرة التاريخ

ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق
حامد الحمداني                                                            27/6/2015

لم يكد يمضِ وقت طويل على نهاية الحرب العالمية الأولى حتى تكشفت كامل الأهداف الاستعمارية لبريطانيا وتصميمها على إدامة هيمنتها على العراق، فقد أصدرت عصبة الأمم التي كانت تهيمن عليها بريطانيا صك الانتداب البريطاني على العراق في 17 حزيران 1920، والذي جاء فيه :
{حيث أن حكومة جلالته قد تقررت وكالتها في خصوص العراق فنتوقع جعل العراق مستقلاً  تضمن استقلاله جمعية عصبة الأمم، وتكليف الحكومة البريطانية بالمسؤولية في حفظ السلم الداخلي والأمن الخارجي، وبعد انقضاء الإدارة العسكرية سنعطي السلطة للسير [بيرسي كوكس] لتنظيم مجلس شورى تحت رئاسة عربي}.

 وهكذا كشف صك الانتداب الأهداف الحقيقية للسياسة البريطانية، وقد أثار صدوره موجة غضب عارمة لدى كافة فئات الشعب العراقي التواقة للحرية والانعتاق من العبودية، وأخذت شرر ذلك الغضب تنذر بوقوع أحداث جسيمة.

كانت اجتماعات قادة حركة التحرر الوطني في تلك الأيام تتوالى في المساجد والدواوين في بغداد والحلة والنجف وكربلاء وغيرها من المدن العراقية، كما كانت الاتصالات مع رؤساء العشائر تجري على قدم وساق، وأجراس الثورة تدق  وأصواتها تتعالى شيئاً فشيئاً لتملأ أسماع العراقيين جميعاً.

وفي الوقت نفسه كان المحتلون البريطانيون يزدادون هستيرية وعنفاً في قمع نشاطات الوطنيين، حيث منعوا [المواليد] التي كان يجتمع خلالها الناس وتلقى الخطب الوطنية فيها .
 فقد أصدر القائد العام البريطاني في 12 آب 1920 قراراً بمنعها، وأنذر بإنزال أشد العقوبات بحق المخالفين وأقرن القائد أمره بالأفعال وأقدم على إعدام ستة من المناضلين الوطنيين لتحديهم ذلك القرار، وهم كل من الشهداء :
 1ـ سليمان أحمد  2 ـ حسين أحمد  3ـ محمد سلمان  4 ـ صالح محمد 5 ـ أحمد عبد الله  6 ـ سامي محمود .
 وقد عرف هؤلاء الشهداء بمواقفهم البطولية، وجرأتهم في تحدي الاحتلال البريطاني، وأدى إعدامهم إلى هياج الرأي العام العراقي ودفعهم إلى التظاهر ضد الاحتلال الغاشم، وقد رفع المشاركون في التظاهر مذكرة للسلطات البريطانية تضمنت جملة من المطالب كان منها :
1 ـ تأليف مؤتمر يمثل الشعب العراقي ليقرر شكل الإدارة الوطنية وعلاقاتها بالدول الأجنبية.
2 ـ إطلاق حرية الصحافة والمطبوعات  ليستطيع الشعب التعبير عن آماله وتطلعاته الوطنية .
3 ـ رفع الحواجز البريدية  والبرقية بين أنحاء البلاد، وبينها وبين الأقطار الأخرى.
كان الشعب العراقي في تلك الأيام ينتظر مَنْ يطلق الطلقة الأولى لتنبعث شرارة الثورة إلى شتى أنحاء العراق بعد أن أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال الشيخ  [شعلان أبو الجون] المعروف بعدائه للاحتلال، وسبب اعتقاله هيجاناً كبيراً في صفوف العشائر.
انطلاق ثورة العشرين :
صمم أبناء العشائر على إطلاق سراح الشيخ شعلان، وتحدي قرار المحتلين باعتقاله، فانطلقت عشائر الرميثة تهاجم السجن الذي أودع الإنكليز فيه الشيخ شعلان وتم تحريره من الاعتقال، وكانت هذه العملية إيذاناً ببدء اشتعال نار الثورة، وبدء المعارك بين الشعب العراقي والمحتلين.

ففي مساء يوم 6 تموز 1920 توجهت قوة عسكرية بريطانية تضم 2000 ضابط وجندي بقيادة الكولونيل [دي مارفين ] نحو الرميثة التي سيطرت عليها قوى الثورة  في محاولة لفك الحصار عن القوات البريطانية المتواجدة هناك، فكانت [معركة العارضيات] التي يفتخر بها أبناء العشائر الثائرة والشعب العراقي كافة حيث لم تستطع القوات البريطانية من الوصول إلى[ الرميثة] نظراً للمقاومة الباسلة التي واجهتها تلك القوات، حيث تم إيقافها على بعد 7 كيلومترات منها  بعد معركة دامية دامت 17 ساعة متواصلة استبسل فيها أبناء الشعب، واضطر قائد الجيش البريطاني إلى التراجع والانسحاب نحو الديوانية .

لكن تلك القوات لم تستطع الوصول إلى الديوانية، حيث جوبهت بقطع الطريق عليها، وقلع السكة الحديدية التي كانت القوات البريطانية تستخدمها في الانسحاب وجوبهت بوابل من الرصاص من قبل العشائر الأخرى التي هبت لدعم الثورة في الرميثة، وهرب قائد الحملة البريطانية لينجو بنفسه تاركاً قواته تحت رحمة الثوار الذين استطاعوا قتل أعداد كبيرة منهم، وتم أسر من بقي منهم على قيد الحياة واستولى الثوار على جميع أسلحة القوة البريطانية، وقد بلغ عدد القتلى البريطانيين زهاء 260 فرداً.

ولما بلغ الأمر إلى قائد القوات البريطانية [الميجر ديلي] أمر بإعداد قوة أخرى قوامها 5000 ضابط وجندي مجهزين بكامل المعدات الحربية، واستعدت قوى الثورة للمعركة القادمة، وأخذت تنظم صفوفها وترتب استحكاماتها، وتحفر الخنادق في منطقة العارضية على بعد 7 كم من الرميثة استعداداً لمجابهة قوات الاحتلال الجديدة بقيادة [الميجر كونتنكهام] حيث وصلت تلك القوات إلى [الحمزة] في 16 تموز 1920، تحت غطاء جوي من الطائرات الحربية.

أبدى الثوار مقاومة باسلة ومنقطعة النظير، وانزلوا بقوات الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وامتد لهيب الثورة إلى [الرارنجية] التي ضربت مثلاً رائعا في البطولة والفداء، وقامت قوات الثورة بمحاصرة مدينة الكوفة في أواخر شهر تموز 1920 من جميع أطرافها مشددون الضربات على القوات البريطانية المحاصرة فيها، والتي أصبح موقفها في غاية الصعوبة، وطلبت النجدة من القائد البريطاني في الحلة الذي أسرع إلى إرسال قوات كبيرة لفك الحصار عن القوات المحاصرة في الكوفة .

 تقدمت القوات البريطانية باتجاه المدينة حتى وصلت إلى[الرارنجية] التي تبعد 12 كم عن مدينة الحلة و8 كم عن [الكفل] وعسكرت هناك، واستعد الثوار لملاقاة القوات البريطانية في منطقة الكفل وقد قسموا قواتهم إلى قسمين، قسم أخذ مواقعه على طرف شط الهندية الشرقي، والقسم الثاني أخذ مواقعه على امتداد سكة القطار التي تربط الحلة بالكفل، وكانت قوات الثورة مدفوعة بإيمانها بعدالة قضيتها، وقد عقدت العزم على التصدي لقوات الاحتلال المدججة بشتى أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة، وهي لا تملك سوى الأسلحة الخفيفة من بنادق قديمة ومسدسات وفؤوس ومكاوير، ولكنها كانت تملك الأيمان بعدالة القضية التي تناضل من اجلها، والإصرار على التحرر من ربقة الاستعمار الجديد، فيما كان الجنود البريطانيون الذين أتعبتهم الحرب يحاربون من أجل ملئ جيوب الرأسماليين الإمبرياليين.
كانت ثلة من الجنود البريطانيين برشاشاتهم الثقيلة قد أخذت مواقعها واستحكاماتها عند قنطرة على [قناة الرارنجية]،وعندما أزفت ساعة الهجوم انقضّتْ قوات الثورة على القوات البريطانية عند الجسر، ولم يمضِ إلا وقت قصير حتى وقع الجسر في أيديهم، فيما التحمت قوات الثورة من الجهتين مع القوات البريطانية في معركة شرسة ومتلاحمة بحيث تعذر على قوات الاحتلال استخدام المدافع في القتال، وكانت المعركة تجري بالبنادق والسيوف والفؤوس والمكاوير، وكان الثوار يرددون الأهزوجة الشعبية المشهورة {الطوب احسن، لو مكواري}،فقد تغلب المكوار على السلاح البريطاني، واندحرت قوات الاحتلال وهرب قائد الحملة تاركاً جثث المئات من أفراد قواته في ارض المعركة.

وفي الوقت الذي كانت قوات العشائر في الجنوب تخوض المعارك ضد المحتلين كان رصاص الثوار في كردستان ينطلق بغزارة ضد المحتلين هناك، فقد هب ثوار كردستان بوجه المحتلين، ووقعت بين الطرفين معارك شرسة في  [السليمانية وعقره وكفري]، وتمكنت قوات الثورة في كفري بقيادة [إبراهيم خان] في أواخر تشرين الأول 1920 من الاستيلاء على المدينة وتحريرها من سيطرة قوات الاحتلال، وقتل القائد البريطاني [جاردن]، واستمر لهيب المعارك ضد المحتلين في المنطقة 23 يوماً قبل أن تتمكن القوات البريطانية التي وصلتها نجدات جديدة من إعادة احتلالها.

 لقد امتد لهيب الثورة إلى كل بقاع الوطن، وانغمر فيها عدد كبير من رجال الدين وشيوخ العشائر والمثقفين والعمال والفلاحين الشجعان الذين كانوا عماد الثورة،   وكانت الثورة على الرغم من التأخر الذي سببه الاستعمار العثماني الطويل على درجة عالية من التنظيم والتخطيط والدقة، ويستدل على ذلك من التوجيهات التي كانت تصدرها قيادات الثورة إلى القوات المشاركة فيها والتي جاء فيها :
1 ـ يجب على كافة الأفراد أن يفهموا بأن المقصود من هذه الثورة إنما هو طلب الاستقلال التام .
2 ـ يجب أن يهتف الجميع للاستقلال في كل ميادين القتال .
 3ـ يجب التمسك بالنظام ومنع الاعتداء، فلا نهب ولا سلب، ولا ضغائن قديمة ولا أحقاد .
4 ـ يجب تأمين الطرق وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة.
5 ـ بذل الهمة لحفظ الرصاص، فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة.
6 ـ يجب الاعتناء بالأسرى ضباطاً وجنوداً، إنكليزاً كانوا أم هنوداً.
7 ـ المحافظة على أعمدة الهاتف، والأسلاك لضمان استمرار الاتصالات.
8ـ الاهتمام بقطع السكة الحديدية، ونسف الجسور لمنع قوات الاحتلال من استخدامها.
9 ـ الحفاظ على كافة وسائل النقل التي تقع في أيدي قوات الثورة والاستفادة منها.
10 ـ المحافظة على الأسلحة المصادرة من العدو، وإدامتها لغرض استخدامها ضده .
11 ـ عند تحرير أي مدينة يجب الاهتمام بتشكيل إدارة وطنية لها، والاهتمام بالأبنية الحكومية، وعدم هدمها أو إحراقها والمحافظة على الوثائق فيها.
12 ـ المحافظة على المستشفيات وأدواتها وأجهزتها والأدوية الموجودة فيها.
13 ـ الرفق بالجرحى وإسعافهم، والاهتمام بهم، والعمل على إنقاذ حياتهم.

هذه هي الوصايا التي عممتها قيادة الثورة على قواتها وهي تمثل أرقى درجات التنظيم في إدارة شؤون الثورة والحرص على سمعتها، والتحلي بالخلق السامي في معاملة الأسرى والجرحى، والاهتمام بمرافق البلاد من عبث العابثين، وهي تدل دلالة أكيدة على الشعور العالي بالمسؤولية.

المحتلون يستقدمون قوات كبيرة من خارج البلاد لمجابهة الثورة:
بعد كل تلك الضربات القاسية التي وجهتها قوى الثورة لقوات الاحتلال البريطاني، وانتشار لهيب الثورة إلى كافة أنحاء العراق، لجأ المحتلون إلى استقدام قوات كبيرة من خارج البلاد لمجابهة قوى الثورة الوطنية، وجلبوا مختلف الأسلحة والمعدات الثقيلة لغرض إخماد لهيب الثورة، وخاضت تلك القوات معارك شرسة دامت طيلة خمسة اشهر ضد قوى الثورة التي كانت تفتقد السلاح الذي يمكن أن تحارب به قوات الاحتلال، واستخدم المحتلون أقسى درجات العنف وأشنعها ضد قوى الثورة، وضد أبناء الشعب، وأبدى الثوار صنوفاً من البطولة النادرة رغم عدم تكافؤ أسلحة الطرفين، والإمكانيات المادية والعسكرية للمحتلين الإمبرياليين الذين كانوا يمثلون أقوى دولة استعمارية في العالم.
 استطاع المحتلون في نهاية الأمر إجهاض الثورة بعد أن دفعت قواتهم ثمناً باهظاً من أرواح جنودهم، ومن اقتصادهم الذي أنهكته الثورة، لدرجة أن أصوات الشعب البريطاني ارتفعت عالياً مطالبة الحكومة بسحب قواتها من العراق، وإنقاذ جنودها من لهيب المعارك مع الثوار، وامتدت صيحاتهم إلى مجلس العموم البريطاني نفسه، حيث طالب العديد من أعضاء المجلس بانسحاب القوات البريطانية من العراق نظراً للتكاليف الباهضة التي دفعتها بريطانيا للإدامة سيطرتها على العراق، وتصاعد احتجاجات الشعب البريطاني على ارتفاع عدد القتلى من الجنود البريطانيين .
نتائج ثورة العشرين:
رغم أن ثورة العشرين لم تنجز هدفها الرئيسي في تحقيق الاستقلال الناجز للعراق، إلا أن تلك الثورة كان لها الدور الحاسم في إسراع المحتلين البريطانيين في تغيير سياستهم تجاه العراق، وصرف النظر عن حكمهم العسكري المباشر بعد أن كلفتهم الثورة آلاف القتلى والجرحى، وأثقلت كاهل خزانه الدولة البريطانية المثقلة أصلاً بأعباء الحرب العالمية الأولى.

لذلك فقد وجد المحتلون الإمبرياليون أن خير سبيل إلى تجنب المزيد من الخسائر البشرية والمادية هو إقامة ما سمي بالحكم الوطني وتأليف حكومة محلية، والإتيان بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق، مكتفين بالاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية، بعد تكبيل البلاد بقيود ثقيلة بموجب معاهدة سنة 1920 التي تم بموجبها لهم الهيمنة الفعلية على مقدرات العراق السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وسائر المجالات الأخرى.

أما لماذا لم تحقق الثورة هدفها الأساسي في الاستقلال الحقيقي والناجز فيمكن حصراسبابها بما يلي :
1ـ عدم تكافؤ القوى بين المحتلين والثوار، وخاصة في مجال الأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات، هذا بالإضافة إلى الخبرة العسكرية للجيوش البريطانية.
2ـ ضعف مستوى الخبرات العسكرية للثوار، على الرغم ما قدموه من التضحيات  وصنوف البطولة التي يعتز بها كل عراقي، وكانت مثار إعجاب الجميع.
3 ـ استخدام المحتلين لسياسة التفرقة، وخلق الحزازات والصِدام بين العشائر، واستمالة عدد من رؤساء العشائر الكبار إلى جانبهم، وإغرائهم بالإقطاعيات والمناصب والسلطة، كما استخدم المحتلون الخلافات الدينية والطائفية والعقائدية لتمزيق الوحدة الوطنية.
4ـ ضعف القيادة السياسية من حيث تنظيمها، وتركيبها الطبقي، وخاصة البرجوازية الوطنية الضعيفة جداً آنذاك اقتصادياً وسياسياً مما حال دون أن تلعب دورها القيادي بشكل صحيح .
5 ـ عدم صلة الثورة بأي ارتباط أو دعم خارجي يساعدها على مقاومة المحتلين، فقد كان الثوار ينقصهم الكثير من الأسلحة والمعدات، والخبرات العسكرية والتدريب على استخدام الأسلحة المستولى عليها من العدو المحتل، في حين كان العدو على أتم الاستعداد ومن كل الوجوه .
6 ـ عدم وجود قيادة موحدة للثورة، وضعف التنسيق بين المناطق المختلفة ويعتبر هذا العامل من العوامل الهامة التي أدت إلى إجهاض الثورة، وحالت دون تحقيق هدفها الرئيسي في الاستقلال الناجز .


161
من ذاكرة التاريخ
العلاقات العراقية الامريكية والدور الاسرائيلي بتخريبها

 حامد الحمداني                                                  17/6/2015

خرج العراق من حربه مع إيران بعد ثمان سنوات من الدماء والخراب، وهو يملك جيشاً جراراً هو في واقع الحال أكبر جيش في الشرق الأوسط، ويمتلك ترسانة حربية ضخمة من شتى أنواع الأسلحة التقليدية منها، وأسلحة الدمار الشامل الصاروخية والكيميائية والبيولوجية والجرثومية، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الدبابات، والمدفعية والطائرات، وكميات كبيرة من العتاد والقنابل التي جرى حشوها بالغازات السامة كغاز السارين، والخردل، هذا بالإضافة إلى أن العراق كان قد قطع شوطاً طويلاً في بناء مفاعله النووي لغرض الحصول على السلاح الذري .

لقد كانت الأسلحة تنهال على العراق خلال سنوات الحرب من دول الشرق والغرب دون قيود، وكان النظام العراقي قد سخّر كل إمكانيات البلاد الاقتصادية، وموارده النفطية من أجل التسلح، كما ساهمت السعودية وبقية دول الخليج مساهمة كبرى في دعم العراق اقتصادياً  لضمان تدفق السلاح إليه، بسبب خوفهم من المد الإسلامي الإيراني من جهة، وبضغط من الولايات المتحدة من جهة أخرى.

لقد قُدّرَ ما كان يملكه العراق من الطائرات عند نهاية الحرب بما لا يقل عن[ 500 طائرة ] من مختلف الأنواع، ومن الدبابات [5000 دبابة] بالإضافة إلى [3500 مدفع ] من مختلف العيارات، وأعداد كبيرة من الصواريخ المختلفة المدايات التي تتراوح ما بين 150 ـ 1250 كم،  وكميات كبيرة من القنابل الكيميائية، والبيولوجية، والجرثومية، هذا بالإضافة إلى القوة البحرية.

كانت هيئة التصنيع العسكري التي كان يشرف عليها [ حسين كامل ] صهر صدام حسين تعمل ليلاً ونهاراً دون توقف من أجل توسيع المصانع الحربية، وتخزين كميات هائلة من مختلف الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل ، وكان قد تم وضع 70% من موارد العراق النفطية تحت تصرف حسين كامل.

لقد وسع النظام العراقي الجيش خلال سنوات الحرب حتى تجاوز الرقم المليوني جندي وضابط،، وإذا ما أضفنا إليه الجيش الشعبي الذي أجبر النظام الصدامي جميع البالغين وحتى سن الستين على المشاركة بهذا الجيش خلال الحرب فإن عدد قواته المسلحة لا يمكن حصرها.
لقد خلقت تلك الحرب من صدام حسين اعتي دكتاتور عرفته البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جعل من نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبه عسكرية في الجيش وهي [رتبه مهيب ركن] علماً أنه لم يسبق له أن خدم في الجيش[الخدمة الإلزامية] فقد كان شريراً فاراً من وجه العدالة لقيامه بأعمال إجرامية، كان منها اشتراكه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، وقائد ثورة الرابع عشر من تموز 1958.

ركز الدكتاتور جهوده لإخضاع الجيش وضباطه بإقدامه على إعدام أعداد كبيرة من الضباط حتى بمجرد الشك في ولائهم له، وخلق أجهزة أمنية واسعة ومتعددة داخل صفوف الجيش وخارجه لتقدم له التقارير عن كل حركات الناس وسكناتهم، وحماية نظامه الدكتاتوري الفاشي  بشتى وسائل البطش والإرهاب والتعذيب والقتل والسجون.

ولم يكتفِ الدكتاتور بكل ذلك بل أقدم على تصفية معظم قيادات حزبه، وخلق قيادات هزيلة بدلاً منهم تأتمر بأوامره ولا تتجرأ على معارضته، وهكذا أصبح الحزب أداة طيعة في يده، وغدا ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، والقيادة القطرية لحزب البعث، ومجلسه الوطني، ومجلس وزرائه مجرد موظفين عنده ينفذون أوامره لا غير، والويل كل الويل لمن يشك في ولائه له، وصار صدام حسين يتخذ وحده كل القرارات مهما كانت خطيرة، دون أن يجرأ أحد من أعضاء وزارته أو قيادة حزبه أو مجلس ثورته على مجرد مناقشته حتى ولو كان القرار يهدد مستقبل العراق وشعبه.

خرج العراق من حربه مع إيران، بوضع اقتصادي لا يحسد عليه، فقد أستنفذ نظام صدام كل احتياطيات البلاد من العملة النادرة والذهب، البالغة [36 مليار دولار] وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، والتي تقدر بـ [ 20 مليار دولار سنوياً ] وفوق كل ذلك خرج العراق بديون كبيرة جداً للكويت والسعودية، وفرنسا والاتحاد السوفيتي السابق والبرازيل وغيرها من الدول الأخرى، وقد جاوزت الديون [90 مليار دولار] وصار العراق ملزماً بدفع فوائد باهظة لقسم من ديونه بلغت حدود 30 % ، مما جعل تلك الفوائد تتجاوز 7 مليارات دولار سنوياً. هذا بالإضافة إلى ما تطالب به إيران من تعويضات الحرب، بعد أن أقرت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بأن العراق هو المعتدي في تلك الحرب، وتطالب إيران مبلغ [160 مليار دولار] كتعويضات حرب.

لقد أثقلت الديون كاهل الاقتصاد العراقي، وتوقفت معظم مشاريع التنمية، هذا بالإضافة إلى ما يتطلبه تعمير ما خربته الحرب من أموال وجهود فقد جاء في تقرير أمريكي عن وضع العراق الاقتصادي ما يلي:
{إن الوضع الاقتصادي في العراق لا يبشر بخير، دخله وصل إلى 25 مليار دولار في عام1988، ولكن صورة الاقتصاد العراقي خلال السبعينيات قد تلاشت،  وحل محلها وضع اقتصادي مظلم،  وخراب واسع في أنحاء البلاد، وفي ظل الحكومة الحاضرة وسياستها الاقتصادية، فإن الاقتصاد يتحول من سيئ إلى أسوأ، وإن ذلك يمهد لسياسة عراقية متهورة في محاولة للخروج من المأزق الاقتصادي الذي يمر به العراق}.

لقد أصبح العراق بعد حربه مع إيران يملك القوة،  ولكنه في الوقت نفسه يعاني من اقتصاد متدهور، وديون تثقل كاهله، وجواره بلدان عربية ضعيفة عسكرياً ولكنها غنية جداً، تغري ثرواتها أصحاب القوة، وخاصة بالنسبة إلى بلد مثل العراق، الذي يحكمه نظام دكتاتوري يقوده رجل كصدام حسين، هذا الرجل الذي أصابه غرور لا حدّ له بعد أن أنتصر في حربه ضد إيران، وأصبح لديه جيش جرار، وترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة التقليدية، ومصانع حربية متطورة، ولكنه يفتقد إلى المال لسداد ديونه، وتعمير ما خربته الحرب، هذا بالإضافة إلى ما يتطلبه لإدامة جيشه ومواصلة تسلحه ناهيك عن مشاريع التنمية التي تحتاجها البلاد والتي توقفت خلال سنوات الحرب.

ولاشك أن هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي خلقها النظام العراقي نتيجة تهوره واندفاعه لتنفيذ المخططات الإمبريالية بشنه الحرب ضد إيران، والتي ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع أو بضعة أشهر على أبعد الاحتمالات، وأراد لها مخططوها أن تدوم سنوات طوال، وبقوا يغذونها باستمرار، تارة يقدمون المساعدات للعراق، وتارة أخرى لإيران.

ولابد أن أشير هنا إلى أن العراق الذي خاض ثمان سنوات من الحرب لم يجابه خلالها نقصاً في السلع الغذائية وغيرها من السلع الأخرى، فقد كانت الأسواق تُملأ كل يوم بكل ما يحتاجه البلد، حيث أغرقت الولايات المتحدة وحلفائها الأسواق بالمواد الغذائية والألبسة والأجهزة المنزلية كافة، فقد كان على مشعلي الحرب أن يخففوا ما استطاعوا من التذمر الشعبي من تلك الحرب المجرمة التي حصدت أرواح نصف مليون من خيرة شباب العراق، ورملت مئات الألوف من النساء، ويتّمت مئات الألوف من الأطفال، ومزقت قلوب الآباء والأمهات، وكل ذلك من أجل أن تستمر الحرب، لكي يعبئ كبار الرأسماليين جيوبهم ببلايين الدولارات، على حساب بؤس الشعبين العراقي والإيراني وعذاباتهم ودماء أبنائهم.

أصبح العراق بعد نهاية الحرب مع إيران بما يمتلكه من قوة وسلاح مصدر خطر على الخليج، وخاصة وأن أزمته الاقتصادية قد أصبحت من العمق ما يهدد بوقوع انفجار جديد في المنطقة، ولاسيما وأن العراق يحكمه نظام دكتاتوري متهور يقوده صدام حسين.

كانت الولايات المتحدة وإسرائيل يراقبان عن كثب تسلح العراق، وخاصة في مجال الصواريخ البعيدة المدى، والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، ومحاولات نظامه لتطوير قدراته النووية بغية الوصول إلى إنتاج السلاح النووي ، كل هذا أثار حفيظة الولايات المتحدة وإسرائيل، وبدأت الشكوك تتصاعد حول مستقبل القوة العراقية، ثم سرعان ما تحولت الشكوك إلى حقيقة واقعة، على الرغم من محاولات صدام حسين المحمومة لتحسين صورته إمام الولايات المتحدة الأمريكية.

ففي أواخر عام 1989 توجه [طارق عزيز] نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية إلى الولايات المتحدة حيث قابل الرئيس [جورج بوش]  ووزير خارجيته [جيمس بيكر] وأجرى الطرفان حواراً مطولاً وصريحاً حول العلاقات العراقية الأمريكية، أصدر بعدها الرئيس بوش توجيهاً داخلياً إلى إدارته يطلب منها أن تحرص على تنمية علاقات طبيعية مع العراق قائلاً:{ إن ذلك قد يساعد في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط} .

ثم عاد الرئيس بوش في 16 كانون الثاني 1990، فأصدر أمراً رئاسياً جاء فيه:
[ إن زيادة حجم التجارة مع العراق يمكن أن يكون مفيداً للمصالح الأمريكية].
وبالفعل حصلت[شركة بكتيل] على عقود في العراق تصل قيمتها إلى [1200 مليون] وفي نفس الوقت أقدم العراق على وقف دعمه لميشيل عون في لبنان، واتخذ موقفاً مرناً من الصراع العربي الإسرائيلي حيث أعلن نظام صدام أن دول المواجهة مع إسرائيل حرة في الحركة للوصول إلى تسوية سلمية للنزاع العربي الإسرائيلي .

إلا أن تلك العلاقة لم تدم طويلا، حيث ما لبثت وسائل الإعلام الأمريكية التي تهيمن عليها الصهيونية العالمية أن بدأت في الشهور الأولى من عام 1990 بشن هجومها على صدام حسين متهمة إياه بالعمل على تهديد الأمن والسلام في الشرق الأوسط، والسعي لامتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل.

ورغم محاولات [الملك حسين] ملك الأردن والرئيس المصري [حسني مبارك] لتلطيف جو العلاقات بين العراق والولايات المتحدة فإن تلك المحاولات لم تستطع تبديد شكوك الولايات المتحدة وإسرائيل، وبالنظر لما تمتلكه إسرائيل من تأثير كبير على السياسة الأمريكية، وعلى وسائل الإعلام الأمريكي والعالمي، فقد لعبت إسرائيل دوراً كبيراً في تخريب العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، وبدأت الصحافة الأمريكية والغربية عموماً تشن حرباً كلامية على النظام العراقي، وتصاعدت حرب الكلمات إلى حرب أعصاب، ثم إلي الكراهية، لتسير بعد ذلك إلى الحرب الحقيقية والدماء.

ففي 11 شباط 1990 قام [جون كيللي] مساعد وزير الخارجية الأمريكية، بزيارة إلى بغداد، وأجرى مباحثات مع حاكم بغداد، صدام حسين، حول العلاقات العراقية الأمريكية أثار صدام حسين قضية الحملة الإعلامية التي تشنها الصحافة الأمريكية ضد نظامه، وحاول جون كيللي التخفيف من آثار تلك الحملة مدعياً أن الصحافة تمثل وجهة نظرها، وهي حرة في الكتابة والتعبير، وهي ليست بالضرورة تعبر عن السياسة الرسمية لحكومة الولايات المتحدة.
وفي 15 شباط صدر تقرير عن لجنه حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة يتهم النظام العراقي بالقيام بممارسات منافية لحقوق الإنسان من تعذيب وقتل وإعدامات، وقامت إذاعة صوت أمريكا بإذاعة التقرير، ثم أعقبته بتعليق يمثل وجهة النظر الرسمية للحكومة الأمريكية، وقد أحتوى التعليق على هجوم شديد على سلوك وتصرفات الحكومة العراقية.

وفي 19 شباط ألقت السلطات الأمريكية القبض على أحد عملاء النظام العراقي، بتهمة تدبير محاولة اغتيال معارض عراقي لاجئ في الولايات المتحدة، وقامت الحكومة الأمريكية على الأثر بطرد أحد أعضاء السفارة العراقية في واشنطن، وردت الحكومة العراقية على الإجراء الأمريكي  بطرد أحد أعضاء السفارة الأمريكية في بغداد.

وفي 20 شباط 1990 أعلنت إسرائيل أنها اكتشفت وجود وحدات عسكرية عراقية في الأردن، وعلى الأثر قامت الطائرات الأمريكية بطلعات استكشافية فوق الأردن، وأعلنت بعدها الولايات المتحدة عن اكتشاف 6 قواعد إطلاق صواريخ عراقية قرب قاعدة ( H2 ) الجوية الأردنية، وقامت إسرائيل إثر ذلك بتكثيف حملاتها على العراق، وقرر الكونجرس الأمريكي وقف بيع القمح الأمريكي للعراق.

وفي 21 شباط 1990 نشرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريراً عن حقوق الإنسان في العراق يتألف من 12 صفحة، وصفت فيه حكام العراق بكونهم أسوأ مُنتهك لحقوق الإنسان، وممارسة التعذيب والقتل دون محاكمة، أو إجراء محاكمات سريعة لا تتيح للإنسان الدفاع عن نفسه، وبدا وكأن الولايات المتحدة قد اكتشفت لتوها جرائم النظام الصدامي، التي مارسها  بحق الشعب العراقي منذُ تسلطه على الحكم في البلاد عام 1968، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، وسكتت عن حملة الأنفال الفاشية ضد الشعب الكردي، وقتل سكان مدينة حلبجة عن بكرة أبيهم بالسلاح الكيماوي، فلم تكن كل تلك الجرائم تحرك ضمير  حكام الولايات المتحدة طالما لا تؤثر على المصالح الأمريكية والإسرائيلية.

وفي 9 آذار تصاعدت الحملات ضد النظام العراقي على أثر إقدام النظام على اعتقال الصحفي البريطاني [فازاد بازوفت] مراسل صحيفة الابزورفر البريطانية  بتهمة التجسس،  حيث اتهمته بالقيام بزيارات لمنطقة عسكرية، تظم مجمعاً لإنتاج الصواريخ، وأحالته إلى [محكمة الثورة] التي أصدرت عليه حكماً بالإعدام .

 ورغم جميع المحاولات التي قامت بها بريطانيا، وحلفائها الغربيين لإنقاذ حياته، فقد أقدم حكام بغداد على تنفيذ حكم الإعدام به في 15 آذار، وأدى ذلك الإجراء إلى تصاعد الحملات على النظام العراقي في الصحف الغربية، ووصفت صحيفة [الابزورفر] صدام حسين بأنه جزار بغداد، وكأن صدام حسين لم يصبح جزاراً إلا بعد أن أقدم على إعدام الصحفي بازوفت !!. وفي 18 آذار، أعلنت الحكومة البريطانية أنها عثرت على شحنات من أجهزة  [المتسعات] التي تستخدم في التفجيرات النووية كانت في طريقها إلى العراق، وتمت مصادرتها.

و في نفس اليوم، وقف صدام حسين في اجتماع عام، أمام عدسات التلفزيون، وبيده مجموعة من المتسعات وهو يتحدث باستهزاء قائلاً: [هذه هي المتسعات التي يتحدث عنها الإنكليز؟ قد صنعها أبنائنا النشامى في هيئة التصنيع العسكري ].

وفي 27 آذار 1990 التقي صدام حسين  بملك السعودية [ فهد ] في حفر الباطن بالسعودية، وشكى له من الولايات المتحدة، وأبلغه بأن الولايات المتحدة تضمر الشرّ للعراق، وقد أجابه الملك فهد بأنه لا يعتقد ذلك، وأن الرئيس بوش رجل طيب !!، ثم انتقل صدام في شكواه للملك فهد إلى حكام الكويت قائلاً:
[إن حكام الكويت قد رفعوا إنتاجهم النفطي عن الحصة المقررة في مؤتمر الأوبك وأن هذا الإجراء قد أضر كثيراً ليس بالعراق فحسب بل وبالسعودية أيضا، فقد أدى إلى انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهذا ما أدى إلى انخفاض دخل العراق بشكل كبير، ذلك أن انخفاض بمقدار دولار واحد لبرميل النفط  يعني خسارة العراق لمبلغ بليون دولار سنويا ]. وقد وعد الملك فهد بالاتصال بأمير الكويت والتباحث معه حول الموضوع ، وكانت هذه الشكوى مؤشراً واضحاً على نوايا الحاكم بأمره في بغداد.

وفي الوقت نفسه وجه صدام حسين تحذيراً شديداً إلى الدول التي تتجاوز حصص الإنتاج، وطالب برفع سعر البرميل الواحد من النفط إلى مستوى 25 دولا، وعدم السماح بهبوطه إلى ما تحت 18 دولار.
كان موقف الحكومة السعودية مع الحفاظ على حصص الإنتاج، وأقدمت الحكومة على إعفاء وزير النفط [أحمد زكي يماني] من منصبه بالنظر لمساعيه الكبيرة والمكشوفة في خدمة المصالح الأمريكية والغربية.

و في 29 آذار من نفس العام أعلنت بريطانيا أنها عثرت على قطعة من مواسير المدفع العملاق الذي كان العراق يسعى لتصنيعه في طريقها إلى العراق، وجرت مصادرتها.  وكانت المخابرات الإسرائيلية قد قامت قبل أسبوع من هذا التاريخ [ 22 آذار] باغتيال العالم الدكتور [جيرالد بول] الخبير في صنع المدفع العملاق، في أحد فنادق العاصمة البلجيكية [بروكسل].
وفي 30 آذار 1990 أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أن إسرائيل لابد أن توجه ضربة وقائية للعراق، في أي وقت تشعر فيه بأنه قد أصبح خطر عليها، ثم أعقبه رئيس الوزراء [ شامير] بالقول  بأن إسرائيل ستوجه ضربة للعراق إذا أحست انه في طريقه لإنتاج قنبلة نووية.
وفي 1 نيسان رد صدام حسين على التهديدات الإسرائيلية قائلاً:
 [ إن العراق سوف يرد على إسرائيل إذا ما تجرأت على استخدام  السلاح النووي ضد العراق، وأنه سيحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج ].

وفي 3 نيسان 1990 أطلقت إسرائيل قمرأً تجسسياً، وأطلقت عليه أسم [الأفق]، وكان الهدف من إطلاقه مراقبة ما يدور في الجانب العراقي .
وفي 14 نيسان وقف رئيس وزراء إسرائيل شامير يهدد ويعلن بأن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحرية العمل لتدمير قواعد الصواريخ العراقية.
و في 18 نيسان، رد صدام حسين في مقابلة له مع وفد عربي من اتحاد نقابات العمال قائلاً: [ إن أي هجوم من قبل إسرائيل على العراق سيواجه بحرب شاملة، لن تتوقف إلا بتحرير كامل الأرض العربية].

 وفي 19 نيسان، أعلن الرئيس الفرنسي [متران] أن فرنسا تؤيد جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وأن الأعضاء الدائميين في مجلس الأمن الدولي سوف يجتمعون في تموز القادم لبحث الموضوع المذكور.

 وفي 21 نيسان أعلن العراق  أن طائرة استطلاع أمريكية وطائرات الأواكس قد حلقت في سماء العراق.

 وهكذا بدأت الحرب الكلامية وتصاعدت بين النظام العراقي من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى حتى بدا وكأن الحرب على وشك الوقوع في الشرق الأوسط  بين العراق وإسرائيل وكان صدام حسين ينتهز كل فرصة للتحدث عن قوته وسطوته وأسلحته واستعداداته الحربية، ويهدد بضرب إسرائيل بالكيماوي المزدوج، ويتفاخر باستطاعة هيئة التصنيع العسكر إنتاج المتسعات في الوقت الذي كان نظامه يعاني من أزمة ‎اقتصادية حادة لا يعرف كيف يخرج منها.



162

مهمات اليسار العربي في عصر العولمة

حامد الحمداني                                                     30/5/2015

أحدث سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتكاسة كبرى ليس فقط بالنسبة لشعوب هذه البلدان وحلمهم في قيام عالم جديد قائم على أسس من العدالة الاجتماعية، وإنهاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان، بل أن الكارثة قد حلت بالعالم اجمع، بعد أن اصبحت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة القطب الأوحد والأقوى في العالم، وتحول هذا العالم في عهد العولمة إلى سوق مفتوح، وتداخل واسع النطاق للرأسمال العالمي والشركات المتعددة الجنسيات، ولاسيما بعد حصول هذا التطور السريع والكبير لوسائل الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ولم تعد الحدود تقف حائلاً أمام تداخل وهيمنة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

لقد أدى هذا التغيير الدرامي المتسارع إلى اشتداد الضغوط التي تمارسها الرأسمالية العالمية على الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم بعد أن فقدت سندها القوي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، واشتداد قبضة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الطبقة العاملة، واغتصاب حقوقها المشروعة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان العامل الذي هو العنصر الحاسم في خلق كل هذه المنجزات التي تشهدها البشرية في عالم اليوم، ولا تحصل لقاء جهدها الكبير سوى الفُتاة، في حين تتكدس مئات المليارات في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية والكارتيلات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى.

لقد باتت الرأسمالية العالمية أكثر جشعاً في استغلال جهد الطبقة العاملة، وزاد من هذا الاستغلال التطور الهائل في وسائل الإنتاج ودخول عصر الأتمتة الذي حول العامل إلى آلة صماء لا تستطيع الفكاك من متابعة العمل ولو للحظة واحدة، حيث يفرض هذا التطور أن يسير العمل دون توقف في كل مراحل الإنتاج، فأي تأخر في أي من مراحل الإنتاج يؤدي إلى تأخر المراحل التالية، وهكذا تصبح الآلة هي التي تتحكم في عمل الانسان، ولذلك فلابد للعامل أن يتحول في نهاية المطاف إلى جزء من هذه الآلة حيث يستنزف أقصى طاقته في هذا العمل المستمر دون توقف.
إن هذا التطور في وسائل الإنتاج، وتصاعد الاستغلال لجهد الطبقة العاملة وتصاعد الضغوط التي يفرضها طبيعة العمل لابد أن يفرض على الطبقة العاملة أن تغير أساليب نضالها المشترك كماً ونوعاً من خلال تنظيماتها السياسية والنقابية كي تستطيع فرض شروط عمل أفضل، وأجور تتناسب والجهد المبذول، والذي يحقق للطبقة العاملة مستوى من الحياة المعيشية تليق بالإنسان على المدى القريب، والسعي الجاد والمتواصل من خلال تنظيماتها الحزبية المسترشدة بالماركسية وتطويرها بما يتلاءم والعصر الحالي وخلق الظروف التي تمكن في نهاية المطاف نضال الطبقة العاملة من أجل تغيير حقيقي لعلاقات الإنتاج، وهو الذي يمثل الهدف الأبعد لنضال الطبقة العاملة.

إن فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لن تكون نهاية المطاف أبداً، والمجتمع الإنساني سبق أن مر بمراحل متعددة، وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى قد يصاحبه أخطاء وانتكاسات، كما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكن هذه التجربة والتجارب التي سبقتها والتي ستليها ستعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية كيف تستفيد من تجاربها وتتجاوز أخطائها، والسير الحثيث من أجل خلق عالم جديد، وعلاقات إنتاج جديدة تحقق حلم الطبقة العاملة وسائر المجتمع الإنساني بحياة رغيدة خالية من الاستغلال واستعباد رأس المال.

أن الماركسية بما قدمته لنضال الطبقة العاملة وإنجازاتها كان كبيراً جداً، ولولا الأخطاء التي وقع فيها قادة الاتحاد السوفيتي الذين حولوا النظام الاشتراكي الذي سعى مؤسس الدولة لنين لبنائه ليكون نموذج للعالم اجمع، إلى رأسمالية الدولة، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق الديمقراطية للشعب السوفيتي وشعوب المعسكر الاشتراكي، لكان عالم اليوم غير هذا العالم الذي بات فيه الرأسمال العالمي يتحكم بمصير الشعوب، لكن هذا التحكم لن يستمر إلا إلى حين.

  ستبقى الماركسية هي السبيل الذي يهدي البشرية لتغيير الواقع الذي تعيشه اليوم، وتعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية أساليب النضال لتحقيق حلم البشرية في مجتمع عادل لا مكان فيه للاستغلال، مجتمع لا مكان فيه للفقر والعوز والبطالة، مجتمع تتحقق في ظله كامل حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد.

 إن منظري الرأسمالية مهما حاولوا تلميع وجهها لن يفلحوا أبداً في مسعاهم لسبب بسيط هو كون النظام الرأسمالي قائم في الأساس على استغلال الإنسان لجهد أخيه الانسان، فهو نظام تنتفي فيه العدالة، وستكون الرأسمالية في نهاية المطاف عاجزة عن تقديم حل حقيقي وإنساني للتناقض الحاصل بين المستغِلين ( بكسر الغاء) والمستغَلين (بفتح الغاء) إلا من خلال نظام بديل يؤمن للإنسان العدالة الاجتماعية الحقيقية الخالية من الاستغلال والاستعباد. 
               


163
تراجع حقوق المرأة في ظل ثورات الربيع العربي!
حامد الحمداني                                                              28/5/2015

لم تقدم الثورات التي اجتاحت العديد من بلدان العالم العربي للمرأة ما كانت تصبو إليه في نيل حقوقها المغتصبة في ظل المجتمع الذكوري السائد، بل عادت إلى الوراء على اثر وصول أحزاب الإسلام السياسي إلى السلطة في العديد من  البلدان العربية، وما تزال بلدان عربية اخرى مسرحا لمعارك دامية معظم ادواتها احزاب اسلامية طائفية متخلفة عن العصر تهدف إلى انتزاع السلطة.

وعلى حين غرة ظهرت عصابات داعش وكأنها نزلت من السماء!! مدججة بكامل اسلحتها الحديثة  في سوريا والعراق بوجه خاص، وليبيا وتونس والجزائر واليمن بوجه عام، مع ما تحمله من افكار موغله في الرجعية والتخلف لتجتاح المساحات الواسعة من الاراضي العراقية والسورية تنفيذا لأجندة اسيادها الامبرياليين، وتقترف اشنع الجرائم الوحشية بحق الانسان، تلك الجرائم التي نالت المرأة النصيب الأكبر منها، من قتل وسبي واغتصاب تشريد، ونهب الممتلكات، وكل ذلك جرى ويجري باسم الإسلام، حتى بتنا نعيش اظلم عصور الهمجية والعالم يعيش العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين!
 
إنها انتكاسة كبرى بالنسبة لحقوق المرأة لم تشهد له منذ الخمسينات من القرن الماضي، ومن عاش تلك الحقبة الزمنية يدرك البون الشاسع بين أوضاع المرأة آنذاك وأوضاعها اليوم في ظل هذه الانتكاسة، والردة الرجعية التي لم نشهد مثلها في العصر الحديث.

أنها لمأساة كبرى أن نجد المرأة اليوم وقد البسوها هذا القناع الأسود باسم ما يدعيه مسلمو هذا الزمان بالفضيلة، وكأنما هذا القناع الأسود هو الذي يحمي عفافها!!، وبدأت عمليات غسل الأدمغة التي يمارسها منظرو الإسلام السياسي، وقد امتلكوا السلطة لإعادة الحصان الجامح الذي انطلق مع قيام الثورات إلى حصنه من جديد                                                                                 
لقد انتكست حقوق المرأة التي ناضلت من أجلها عقوداً طويلة، وبات عليها أن تبدأ من نقطة الصفر من جديد، والفضل في كل ما جرى هو وصول الإسلام السياسي إلى قمة السلطة، فلا يمكن أن يبني الإسلام السياسي دولة ديمقراطية ويطبق شرعة حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل ويحقق العدالة الاجتماعية.   
ولا سبيل إلى فرض وجود المرأة ومشاركتها النشيطة في الحياة السياسية والثقافية إلا من خلال كسر كل القيود التي تضمنها ما يسمى بالشرع الذي يفرضه أساطين الإسلام السياسي، فلا شرع في عصرنا هذا غير شريعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا بد أن تتحرر المرأة اقتصادياً لأنه السبيل الأهم لتحررها الاجتماعي، وهذا لن يتم إذا لم يجرِ تعبئة سائر منظمات المرأة، وبدعم فعّال ومتواصل من سائر القوى السياسية الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني لخوض المعارك الفاصلة مع قوى الردة والرجعية، لفرض إرادة التحرر من قيود المجتمع الذكوري والقوانين الرجعية التي تفرضها الشريعة التي عفا عليها الزمان، ولن تعد تلائم عصرنا.

لا يمكن ولا أتصور، ولا أثق بكل ادعاءات أحزاب الإسلام السياسي بطرح برنامج ليبرالي حديث يتناسب مع فكرة الدولة المدنية، ويتضمن حقوق وحريات المرأة طالما هم متمسكون بما يسمى بالشريعة التي وضعت قبل 1400 عام فمن المستحيل أن تتلاءم الشريعة الدينية مع شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة منذ عام 1948، والتي تتجاهلها كل أنظمة الدول الإسلامية، ولا حل إلا بقيام دولة علمانية تتولى فصل الدين عن الدولة، ليبقَ الدين منزها من كل ما الصقه منظرو الإسلام السياسي من أدران بغية تثبيت كيانهم السياسي وسيطرتهم وتحكمهم  بشؤون المجتمع، بدأً من رياض الأطفال وحتى الدراسات العليا، وليبًق الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه فقط، دون تدخل الدولة. 
                       
ولا بد أن اقول أن المرأة تتحمل جانبا من المسؤولية بسبب التخلف السائد في المجتمع نتيجة لعوامل متعددة بعضها يقع على عاتق رجال الدين، وبعضها الآخر على الدولة ونظامها السياسي والاجتماعي، وبعضها الآخر على المرأة نفسها فلقد وجدنا الكثير من النساء ممن حملن حتى شهادة الدكتورة وقد غطت نفسها بهذا الكيس ألظلامي الأسود، وتعلن صراحة أن من حق الرجل أن يضرب المرأة، وأن على المرأة إطاعة الرجل، وعدم مخالفة إرادته، لأن الإسلام يقول أن الرجال قوامون على النساء، وهذا ما سمعته في ندوة تلفزيونية مع نائبة في البرلمان العراقي، فكيف بالمرأة المحرومة من الثقافة، والمطمورة بين أربعة جدران ومهمتها خدمة الرجل، وتلبية رغباته الجنسية، وتربية الأطفال، وتحضير الطعام، وتنظيف المسكن، دون إن تشعر بكرامتها المهانة، ودون أن تعترض على انتهاكها تحت تهديد الرجل.                                  .                                                                                                                         
 
اننا بحاجة للثقافة الذاتية فهي التي تجعل الرجل يحس بكونه يضطهد المرأة ويسلبها حقوقها، وإرادتها، وأن المرأة مخلوق لا يختلف عن الرجل، بل أستطيع القول أن ما تقوم به المرأة يعجز الرجل عن القيام به، دعك عن الحمل والولادة وآلامها ومخاطرها، ومع ذلك نجد المرأة وقد درست واجتهدت وحققت نجاحاً باهراً كطبيبة ومهندسة ومدرسة ومحامية وقاضية، بل وتبوأت في العديد من الدول أعلى مراتب السلطة كرئيسة دولة، أو رئيسة وزراء، في حين نجد الكثير من الرجال الأميين الذين لا يدركون من شؤون الحياة سوى فرض سيطرته على المرأة، ونتهاك حقوقها والاعتداء عليها.

أن الثقافة الذاتية لكلا الجنسين لا تأتِ إلا من خلال القراءة، والمخالطة الاجتماعية مع من يمتلكون جانبا واسعاً من الثقافة، فمن لا يقرأ يتحجر دماغه بلا أدنى شك، وعلى المرأة أن تهتم بالقراءة فهى السبيل لجعلها تدرك حقوقها وحرياتها، وتدفعها للنضال من أجل تحقيقها.


164
من ذاكرة التاريخ
نكبة فلسطين ومسؤولية الحكام العرب
حامد الحمداني                                                                14/5/205

أولاً: مقدمة حول القضية الفلسطينية

بدأت المشكلة الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، باندحار الدولة العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو ] السرية، فقد احتلت بريطانيا العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، ومصر، والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية .
وكانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917  عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده الذي عرف باسمه حيث بدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وصلة الوصل بين مشرقه ومغربه، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد، قبل أن تجلوا تلك القوات ، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل .

وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسّ بالمؤامرة التي تحاك ضده، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين .
لقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح، وبقسوة ليس لها مثيل، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه .

لم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين.
 وعند قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان [كتابها الأبيض] الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فقد اعترفت باستقلال فلسطين، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي . فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية ، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم ، لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها ومستشاريها باسم الانتداب .

بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين ، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض ، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين ، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة ألهاجانا ] و [منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون] وقدمت بريطانيا لهم السلاح وكل المساعدات الممكنة لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على طلقة واحدة .

وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [ لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية ] بعد الفورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين، وجاء تقرير اللجنة في 16 آذار 1946 مخيباً الآمال العربية واستفزازاً لها. فقد جاء في التقرير خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود .
أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة، وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت حكومة المدفعي، تحت ضغط الجماهير الشعبية إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة، لكن حكومة المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً ، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير .

وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان ] بسوريا، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعلن عن قيام دولة صهيونية ، لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين !!، بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان،وصحراء سيناء إلى أن عقد السادات معها معاهدة [ كامب ديفد ]، كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا، ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني].

وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلو أمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين .
وفي 22 تشرين الأول من نفس العام عقد رؤساء العشائر العربية والكردية واليزيدية مؤتمراً في مدينة الحلة لبحث القضية الفلسطينية، وخرجوا بمقررات عديدة، كان أهمها إرسال المتطوعين إلى فلسطين للتصدي للعصابات الصهيونية، إلا أن تلك القرارات بقيت حبراً على ورق، ولم يجد تنفيذها النور، ولاشك أن الإنكليز كانوا وراء إفشال ذلك المؤتمر في تنفيذ قراراته .

وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع الانكلو أمريكي، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي، وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون، وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [ألهاجانا ] و[ الماباخ ]،القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي .

سادت التظاهرات أرجاء البلاد، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني .

 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم وقيام الكيان اليهودي، وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب، وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية .
وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان،وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة .

وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة،على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة .

وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم ، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تجاب مطالبهم .

وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين .

ومن الجهة الأخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين، وبالتنسيق معهم ومع الولايات المتحدة، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم ، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم .

ولم يكن الحكام العرب، الذين نصبهم الإمبرياليون ، جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !!! .

ثانياً:إعلان قيام دولة إسرائيل،ودخول الجيوش العربية فلسطين:

في الرابع عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وفي نفس اليوم أعلنت المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبعد عشرين دقيقة من إعلان قيامها أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة العبرية، وتبعتها بعد ذلك بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي واعترفوا بها . وكان ذلك قد شكل أكبر تحدي لمشاعر الملايين من الجماهير العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، وضربة قاصمة وجهتها الإمبريالية للعرب .

بدأت العصابات الصهيونية أشنع حملة لتهجير السكان العرب من مدنهم وقراهم، فأقاموا المجازر البشعة ضدهم،مستخدمين كل أنواع الأسلحة، وقُتل من قُتل من النساء والأطفال والشيوخ، وترك ما يزيد على المليون وربع المليون من الفلسطينيين ديارهم هرباً من بطش الصهاينة، تاركين وراءهم كل ما يملكون من مساكن وأثاث وأموال ومصالح، وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة، يعيشون تحت الخيام، بانتظار مساندة ودعم الحكام العرب لعودتهم إلى ديارهم !!.

واضطر الحكام العرب تحت ضغط شعوبهم إلى دفع جيوشهم إلى فلسطين، واستبشر الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة بتحرك الجيوش العربية، لكن ظهر فيما بعد أن تلك الحرب لم تكن سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون،ونفذها الحكام العرب،لا لتحرير فلسطين، بل لتثبيت الدولة العبرية الجديدة .
دخلت القوات العربية إلى فلسطين ساعيةً إلى الحرب بدون حسام، فلقد جُهز الجيش المصري بعتاد فاسد، مما أوقع خسائر فادحة في صفوفه. أما القوات العراقية فقد كانت أربعة أفواج مجهزة بأسلحة خفيفة لا تفي بالغرض، وحتى القوة الآلية للجيش العراقي فقد كان الجنود غير مدربين على استخدام تلك الآليات، فقد ذكر قائد القوات العراقية في فلسطين، اللواء الركن [ نور الدين محمود ] في تقريره إلى رئاسة أركان الجيش، في حزيران 1948 ما يلي :

{ خلال مدة بقائي في المفرق، فتشت القوة الآلية فوجدت معظم جنود الفوج الآلي غير مدربين، حتى أن القسم الأعظم لم يرموا بأسلحتهم الخاصة بهم، وبالإضافة إلى ذلك علمت أن الفوج المذكور استلم مدافع الهاون في يوم حركته من بغداد ولا يعلم أحد بالفوج، ولا بالقوة الآلية كلها كيفية استخدام هذا المدفع، وقد تركت في السيارات بانتظار إرسال الجنود المدربين على استخدامها من بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدت أن جنود المدرعات لم يدربوا بأسلحتهم مطلقاً فاضطررت إلى الإبراق إلى وزارة الدفاع للموافقة على تدريبهم على إطلاق بضعة إطلاقات بصورة مستعجلة، لكي يعرفوا خصائص أسلحتهم على الأقل، وعند الاستفسار عن كميات العتاد المتوفرة ظهر لي أن القنابل من عيار 2 رطل كان محدوداً جداً، كما أن الوحدات استصحبت عتاد الخط الأول فقط، ولم يؤسس خط للمواصلات بعد، وكانت الوحدات تستهلك الأرزاق التي جلبتها من بغداد، وكانت بقية أمور التموين والإعاشة في دور التأسيس . وهكذا كانت الحالة للقوة الآلية المرسلة إلى فلسطين، والمزمع إشراكها في القتال دون التهيئة، وأن وضعية كهذه جعلتني في حالة استغراب من إرسال قوات وزجها في القتال بهذا الوضع الناقص }. (1)
ومع ذلك فقد أبدا الجنود العراقيين بسالة منقطعة النظير، واستطاعوا التقدم واحتلال العديد من المواقع الصهيونية، مما أزعج الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا الضغط على الحكومة العراقية لمنع تقدم قواتها، وهكذا قُيدت حركة القوات العراقية، وظهرت تلك الأيام حكاية تداولها الشعب العراقي بتهكم شديد، وهي عبارة [ ماكو أوامر ].أي أن الجيش ليس لديه أوامر للتحرك. لقد كانت تلك الحرب مخططة مسبقاً، ونتائجها مرسومة، وهي تقتضي قيام دولة إسرائيل، وخذلان الجيوش العربية .

أما الملك عبد الله ـ ملك شرق الأردن ـ فقد أصّر على أن تكون قيادة القوات العربية له، وقد عارضت بعض الدول العربية ذلك، حيث أن الجيش الأردني يقوده الجنرال البريطاني[كلوب باشا] وبريطانيا هي التي سلمت فلسطين للصهاينة، فلا يعقل أن تسلم قيادة الجيوش العربية لكلوب باشا .

لكن حكام الدول العربية تراجعوا عن معارضتهم بضغط من بريطانيا، وتسلم كلوب باشا  القيادة الفعلية للجيوش العربية!.
كان الملك عبد الله يغتنم كل فرصة لكي يؤمن لنفسه الاستفادة مما ستؤول إليه الأمور،وكان يجري باستمرار اتصالاته السرية مع [وايزمان] و[بن غوريون]، وسلم الملك عبد لله مدينتي [ اللد] و[الرملة] للصهاينة دون قتال،بعد أن كانت القوات العربية قد سيطرت عليها .
لقد نال الملك عبد الله ثقة الصهاينة، بعد أن أمر القوات العربية التي وصلت إلى أبواب [تل أبيب]  بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السابقة، متيحاً الفرصة للصهاينة لتنظيم صفوفهم، وجلب الأسلحة والمعدات والقوات، للوقوف بوجه القوات العربية . (2)
ورغم خيانة الحكام العرب، ليس لفلسطين وحسب، بل لجيوشهم التي زجوا بها في المعركة دون استعداد ، ودون سلاح ، وتزويدها بالعتاد الفاسد، كما جرى للجيش المصري، إلا أن القوات العربية المؤمنة بقضية العرب الرئيسية فلسطين أبلوا في الحرب بلاءً قلّ نظيره، وكادت تلك القوات  برغم الظروف السيئة تلك أن تقضي على القوات الصهيونية التي أصابها الإعياء، ونفذ عتادها، مما اضطر زعماء الصهيونية إلى الطلب من الولايات المتحدة العمل على وقف القتال، وقيام هدنة بين الطرفين لاستعادة الأنفاس والتهيئة لجولة جديدة.

ثالثاً : إعلان الهدنة الأولى في فلسطين :
سارعت الولايات المتحدة إلى دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع، بدعوى أن الوضع في الشرق الأوسط يهدد الأمن والسلام الدوليين، واستطاعت استصدار قرار من المجلس يقضي بوقف القتال بين الطرفين، وإرسال الوسيط الدولي السويدي [ الكونت برنادوت ] الذي قتله الصهاينة فيما بعد،ليلة 22 / 23 أيار، بعد 39 ساعة من بدء القتال .
سارع الحكام العرب إلى قبول وقف القتال، بعد اجتماع عاصف بين ممثلي الحكومات العربية، فقد هدد رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي] بأن مصر سوف تعقد هدنة مع الصهاينة لوحدها إذا لم توافق بقية الدول العربية على ذلك .(3)
أما الملك عبد الله فقد أصرّ على قبول الهدنة، وهدد بقطع التموين عن الجيش العراقي إذا أصرّ العراق على عدم قبولها . (4).
أما الملك عبد العزيز آل سعود، فقد رفض قطع النفط عن الولايات المتحدة، بناء على طلب الجامعة العربية، وكان ذلك كفيلاً بأن يشكل اكبر ضغط عليها . 
كانت مواقف الحكومة السورية اكثر جرأة واندفاعاً ولذلك وجدنا القوات الصهيونية ركز هجماتها على القوات السورية .
بدأت القوات الصهيونية تستعيد أنفاسها، وبدأت الأسلحة تنهال عليها من كل جانب، وجرى تنظيم،وإعداد تلك القوات لجولة جديدة مع القوات العربية، وكان قبول الحكام العرب يمثل خيانة كبرى لمصالح الأمة العربية، ولقضية فلسطين، كما كان قرار مجلس الأمن أهم امتحان لمصداقية المهيمنين على مجلس الأمن، والذين تنكروا للميثاق الذي وضعوه هم أنفسهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية .

لقد كان العراق يملك من القوات والأسلحة ما يكفيه وحده لتحطيم القوات الصهيونية، لكن الحكام المؤتمرون بأوامر الإمبريالية لم يكونوا جادين في حربهم، أما الملك عبد الله فخيانته للقضية الفلسطينية لا تحتاج إلى دليل، فقد كان يقدم للصهاينة النفط الذي كان يمر عبر أنبوب النفط العراقي إلى [حيفا] والتي وقعت بأيدي الصهاينة، حيث استمر بالتدفق ليستخدموا البترول في تسيير آلياتهم العسكرية، فقد وصف المؤرخ الأردني المعروف [ سليمان موسى ] موقف الملك عبد الله قائلاً :
{ كان الأردن حتى أوائل شهر أيار 1948 يحصل على ما يحتاج إليه من مشتقات النفط من مصفاة شركة بترول العراق في حيفا، وعندما سلمت بريطانيا، مدينة حيفا للصهاينة أصبحت المصفاة بأيديهم فأخذوا يستغلونها لسد حاجاتهم، ولذلك لم يكن الصهاينة بحاجة، أو أزمة فيما يختص الوقود بأنواعه، أما الأردن فقد استطاع الحصول على ما يحتاج من وقود من محطتي H3وH5، حيث ضخت الشركة 12 مليون غالون من كركوك  إلى خزاناتها في المحطتين، ومنها أخذ الأردن حاجته من الوقود} . وهكذا اشتركت الحكومتان العراقية والأردنية في تزويد الصهاينة بالنفط الضروري لحركة آلياتهم العسكرية.(5)

رابعاً:استئناف القتال،والولايات المتحدة تفرض هدنة جديدة:
عندما أكره مجلس الأمن الدول العربية على وقف القتال قي فلسطين اعتباراً من 11 حزيران 1948 وعين الوسيط الدولي [ الكونت برنادوت ] لوضع حل سلمي للمشكلة الفلسطينية !!، كان أحد شروط الهدنة هو عدم استفادة أي طرف من الأطراف لتعزيز قواته، أو تحريكها . لكن الحقيقة أن الصهاينة استفادوا من كل يوم، بل وكل ساعة لتعزيز مواقعهم، ولجلب الأسلحة والطائرات التي أخذت تنهال عليهم من الإمبرياليين الأمريكيين والإنكليز وغيرهم، فيما بقيت القوات العربية ملتزمة ببنود الهدنة، ولم تسعَ إلى تقوية مركزها، معتمدة على مصداقية مجلس الأمن!!.
لكن الدول العربية اضطرت في نهاية المطاف، وبعد أن وجدت التعزيزات العسكرية الصهيونية تجري ليل نهار، إلى استئناف القتال من جديد في 9 تموز، وفوجئت القوات العربية بأخذ القوات الصهيونية زمام المبادرة من أيديهم، وبدأت تهاجمهم بعنف، وخسرت القوات العربية  [صفد] و[الناصرة] و [اللد] و[الرملة] والعديد من القرى العربية، وتشرد الألوف الجدد من أبناء الشعب الفلسطيني، تاركين ديارهم وأملاكهم وأموالهم، هرباً من المذابح الصهيونية .

وهكذا استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن تفرض على العرب هدنة جديدة، في 18 تموز 1948، وتخاذل الحكام العرب، وقبلت أربعة دول عربية هي مصر والأردن والسعودية واليمن  مبدأ التقسيم، فيما رفضت الحكومتان السورية والعراقية الهدنة، لكن الموافقة على القرار تم بالأكثرية وقبل العرب إجراء مفاوضات لعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في [لوزان ] بسويسرا ، وقد استنكرت الأحزاب الوطنية في العراق قرار مجلس الأمن، وقبول الحكام العرب له، في بيان مشترك صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار .

 كما سيروا المظاهرات في بغداد يوم الجمعة المصادف 23 تموز 1948، احتجاجاً على قبول الهدنة ، في حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً يدعو فيه إلى وقف القتال، وسحب الجيوش العربية، والقبول بقرار مجلس الأمن، وكان ذلك الموقف استمراراً لمواقفه الخاطئة من القضية الفلسطينية، والتي أضرّت بالحزب وشعبيته ضرراً بليغاً  . (6)

خامساً : مصير القسم العربي من فلسطين: 

بعد إعلان قبول الدول العربية بالهدنة الثانية، والقبول بتقسيم فلسطين، قدمت الحكومة المصرية اقتراحاً لجامعة الدول العربية يقضي بإعلان حكومة عموم فلسطين العربية، على أن يعّين [ احمد عرابي باشا ] حاكماً عليها ، وقد أيد العراق الاقتراح المصري، وأيده فيما بعد كل من  لبنان والسعودية واليمن، وعارضه الملك عبد الله الذي كانت بريطانيا قد وعدته أثناء زيارته الرسمية للندن  في 21 شباط 1946 بضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارته [ شرق الأردن ]، إذا ما حان الوقت لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولذلك جاءت معارضة الملك عبد الله ، والتي اتسمت بالشدة وهدد باتخاذ أشد الإجراءات الهادفة إلى إحباط الاقتراح المصري .(7)

ودبر الملك عبد الله، بالتعاون مع الإنكليز، ما سمي [مؤتمر أريحا ] والذي جاءوا له بعدد من الشخصيات الفلسطينية الموالية لبريطانيا وللملك عبد الله، ليقرروا ضم الجزء العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن  (8)
 فيما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وهكذا اختتمت المسرحية التي أخرجتها الإمبريالية الأمريكية والبريطانية ونفذها الحكام العرب، وكان ضحيتها ليس شعب فلسطين فحسب، بل الشعب العربي كله . فقد أصبحت إسرائيل مصدراً للعدوان والتوسع على حساب البلدان العربية، واضطرت هذه البلدان إلى خوض عدة حروب معها، وكانت إسرائيل توسع كيانها في كل مرة على حساب العرب، ناهيك عن أنهاك الاقتصاد العربي بسبب تلك الحروب، والتسلح المستمر منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا .
أثارت تلك المؤامرة الكبرى نقمة الشعوب العربية على حكامها، وأدركت هذه الشعوب أن الداء هو في وجود هؤلاء الحكام على رأس السلطة ، وأن لا سبيل لإصلاح الأمور إلا بتغيير الأوضاع فيها.

كما أن الجيوش العربية التي عادت إلى بلدانها، ومرارة الحزن والأسى بادية على وجوه الجنود والضباط المغلوبين على أمرهم قد أدركوا أن الحكام العرب هم أساس البلوى فقد باعوا  أنفسهم للإمبريالية، ونفذوا مخططاتها في المنطقة العربية، وكان من بين أولئك الضباط قائد ثورة 23 يوليو في مصر [ جمال عبد الناصر ] و قائد ثورة 14 تموز في العراق [ عبد الكريم قاسم ].

 لقد شهدت البلدان العربية بعد عام النكبة 1948 تغيرات كثيرة حيث اختفت رموز كثيرة من المسرح السياسي ، فقد وقع انقلاب عسكري في سوريا في 30 آذار 1949 بقيادة [ حسني الزعيم]  وقتل الملك عبد الله في 20 تموز 1951، كما قتل رئيس وزراء مصر [ محمود فهمي النقراشي ] ، وقتل رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح ] إثناء زيارته الرسمية إلى عمان في 16 تموز 1951 .

أما في العراق  فقد جرت المعارك في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية بين السلطة والشعب، وتم إسقاط وزارة صالح جبر الموالي للإنكليز، ثم جاءت ثورة 23 يوليو في  مصر، وتم إسقاط حكم الملك فاروق، أحد المسؤولين الكبار عن النكبة، كما وقع انقلاب عسكري في لبنان في 18 أيلول 1952  أطاح بالرئيس اللبناني [ بشارة الخوري ]، وأخيراً تكلل نضال الشعب العراقي بالنجاح في ثورة 14 تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي الموالي للإنكليز.

المراجع:
  (1) تقرير قائد القوات العراقية في فلسطين اللواء نور الدين محمود لرئاسة الأركان
  (2) يقظة العالم العربي ـ جان وولف ـ ص 90 .
  (3) مذكرات محمد مهدي كبه ـ في صميم الأحداث ـ ص 263 .
  (4) نفس المصدر.
  (5) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الثامن ـ ص 94 .
  (6) تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي ـ د. فاضل حسين ـ ص 236
  (7) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الثامن  ـ ص 36

165
شهادة للتاريخ 
الهجوم الرجعي في الموصل موقف عبد الكريم قاسم
من الحزب الشيوعي
   حامد الحمداني                                                           11/5/2015
لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية عام 1959، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب  على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية أي تغير جوهري على أوضاع الموصل، وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها ضد الثورة، مستغلة الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص  جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي .
 وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري، مرتدية رداء القومية العربية، ومتخفية تحت راية الرئيس المصري عبد الناصر، التي  كانت حتى الأمس القريب، من أشد أعدائه ووضعت نفسها تحت تصرف [العقيد الشواف] الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها .

غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة، ودافعت عنها، وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها.

لقد بادر عبد الكريم قاسم باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة، ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، واحالهم إلى المجالس العرفية، وحرض الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل  وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام .
 ومن جهة أخرى، أقدم عبد الكريم قاسم على إلغاء المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، وأجرى تغيرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة، والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين أُبعدوا إثر فشل حركة الشواف الانقلابية إلى مراكزهم السابقة.
وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، والمفتي، والعمري وغيرها من العوائل الأخرى نشاطها المحموم مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين الذين كان لهم الدور الأساسي في إخماد تمرد الشواف .

بادرت تلك العوائل إلى تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية والديمقراطية المؤيدة للثورة، ووجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية عشرات الألوف من العوائل على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها، وأعمالها، ووظائفها من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجري أي تحقيق ضد عصابات القتلة ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة، مهما كانت ضعيفة وعاجزة الى هذا الحد عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، واللقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة الذين بقوا مطلقي السراح يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم  في وضح النهار .
إما أجهزة الأمن، فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح، فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك، الدكتور [عبد الوهاب حديد] وهو من أبناء عمومة [محمد حديد ] وزير المالية.
ولابد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ ما بعد حركة الشواف وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، لنتعرف على أولئك الذين كان لهم الدور البارز في تلك الأحداث ؟
من كان يحكم الموصل ؟
1 ـ مدير الشرطة اسماعيل عباوي:
إسماعيل عباوي من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936 ضد حكومة [ ياسين الهاشمي ] .
 قام إسماعيل عباوي باغتيال [ جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال [ ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد [مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس النواب، عندما وقع انقلاب الفريق [ بكر صدقي] .
 أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939  بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.                                             
 وقبل أحداث حركة الشواف بأيام أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد، برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل، لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، وبقي مديراً للشرطة فيها ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى فيها خلال ثلاث سنوات متوالية دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات والتي جاوزت 1000ضحية باسم مجهول!!.
2 ـ متصرف اللواء [المحافظ] عبد اللطيف الدراجي:
متصرف الموصل العقيد الركن عبد اللطف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة في الرابع عشر من تموز حيث كان أمر الفوج الأول في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف الذي كان آمر الفوج الثالث  في نفس اللواء.
عين الدراجي آمراً للواء العشرين بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم، ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4  تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد، وعُين متصرفاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى متصرفية لواء الموصل فيما بعد. ولاشك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على  إضعاف وعزل عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8  شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف بعد انقلابه على البعثتين وزيراً للداخلية.
لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين  وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان .
3 ـ مدير الأمن حسين العاني:
حسين العاني كما هو معروف من عائلة رجعية إقطاعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً ورغبتها في الانتقام أكبر، وكان وجود حسين العاني على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليين على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها والتستر عليها، وحمايتها .
كان جهاز الأمن يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح  لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً دون خوف أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة رغم شيوع أسمائهم وتداولها بين الناس جميعاً.
  4 ـ أمر موقع الموصل العقيد حسن عبود:
 العقيد حسن عبود أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين وتحجيم حزبهم، وبالنظر للعلاقة التي تربطه بالشيوعيين، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام وأناط ذلك كله بجهاز الأمن وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.

 كما أصدر قاسم أمراً بنقل كافة الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين، والذين كان لهم الدور الحاسم في قمع انقلاب الشواف إلى وحدات عسكرية غير فعّالة وفق منهج ُتم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع، وبإشراف قاسم نفسه.
وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود، في ما يخص حفظ الأمن والنظام، ولم يعد له أي دور في ذلك، ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال و التقاعد

 منْ مول، ونظم الاغتيالات:
 بعد كل الذي جرى الحديث عنه، حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون والمساندة للقائمين على تنظيمها وتمويلها.

 لقد كان على رأس تلك العصابة يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية والإقطاعية المعروفة والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
 1  ـ عائلة كشمولة  2ـ عائلة الأغوات 3 ـ عائلة كرموش  4 ـ عائلة حديد .
 5 ـ عائلة العاني  6 ـ عائلة نوري الأرمني  7ـ عائلة المفتي  8ـ عائلة الإرحيم.

كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [ حاوي الكنيسة ] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات. كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز.
 ولم تفد كل الاحتجاجات، وكل المقابلات لقاسم، وكل المقالات التي نشرتها الصحف مطالبة بوقفها ومعاقبة القائمين بها والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك  الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط  عام 1963.

 مَنْ نفذ الاغتيالات ؟
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير، وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون لينفذوا مخططاً واسعاً أعد له سلفاً يرمي إلي ضرب الحزب الشيوعي وتجريده من جماهيره ومؤيده؟

 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية، أو المحلات أو المعامل، أو الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت إجرة قتل الإنسان بـ [50 دينار]، وهذه أسماء بعض أولئك القتلة التي كان يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم :
  أسماء منفذي الاغتيالات :
 1 ـ زغلول كشمولة 2 ـ شوكت نوري الأرمني . 3 ـ محمد سعيد حسين السراج
 4 ـ طارق عبد كرموش  5 ـ يعقوب كوشان  6 ـ صبار الدليمي 7 ـ نجم فتحي
 8 ـ موفق محمود 9 ـ فهد الشكرة .10 ـ هادي أبن الطويلة 11ـ عادل ذنون الجواري 12 ـ حازم بري 13 ـ عارف السماك  14 ـ أحمد جني  15ـ نجم البارودي  16 ـ طارق قباني  17 ـ طارق نانيك . 18 ـ محمود أبن البطل.
 19  ـ قاسم ، أبن العربية  20 ـ عدنان صحراوية  21 ـ طارق شهاب البني .
 22 ـ فوزي شهاب البني  23 ـ جبل العاني  24 ـ فاضل مسير  25 ـ موفق أبن عم فاضل  26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه  27 ـ جنة ـ مجهول اسم أبيه .
28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان لان أصحابها أرادوا ذلك، لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع أو عقاب مادامت السلطة تحميهم، وتدعمهم ؟

 لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على أي من القتلة ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين والممولين لتلك الجرائم .

 لقد ذهبت دماء الضحايا هدراً حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق، وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد وشجع وخطط ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد وجهازها الأمني، و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.

 لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، وقادرة على إيقاف  تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت. 
 وليست متوفرة عندي وأنا أعيش في الغربة بعيداً عن وطني قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا أذكر منها.
   1  ـ كامل قزانجي  ـ محامي وسياسي بارز.
  2  ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة .
  3  ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة  .
  4 ـ فيصل الجبوري  ـ مدير متوسطة الكفاح .
  5 ـ زهير رشيد الدباغ  ـ مدرس .
  6 ـ شاكر محمود  ـ معلم .
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر .
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ) .
  9 ـ نافع برايا و عائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة ، وضعت بسيارتهم
 10 ـ ياسين شخيتم   ـ قصاب ، ونصير سلم .
 11 ـ عبد الاله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي  ( قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري .
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام .
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب .
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب .
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل .
 17 ـ سالم محمود ـ معلم .
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف .
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس .
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي .
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي .
 22 ـ أحمد ميرخان ـ ( نقل إلى المستشفى جريحاً ، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى ) .
 23 ـ عثمان جهور  ـ كاسب ، كردي .
 24 ـ محمد زاخولي ـ كاسب ، كردي .
 25 ـ سركيس الأرمني ـ صاحب كراج .
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس .
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف .
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية .
 30 ـ زكي عزيز توتونجي  ـ توتونجي .
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي .
 32 ـ نجاح ........  ـ طالب جامعي ، قتله المجرم جبل العاني ، أحد أفراد العصابة
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب .
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل .
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي .
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية .
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب .
 38 ـ حمزة الرحو   ـ قصاب .
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ـ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري .
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه ، وخضراوات .
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب .
 43 ـ حاتم الحلة ـ طالب .
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر .
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب .
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر .
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر .
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم .
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف .
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر .
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف .
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف .
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر .
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي .
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش .
 56 ـ جورج  ـ سائق .
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية .
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب .
 59 ـ شاكر محمد .
 60 ـ فريد السحار .
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل، خلال ثلاث سنوات وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب قليل من الضحايا من أبناء الموصل البررة .
 
نتائج الاغتيالات، والحملة الرجعية في الموصل:
بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات والحملة الرجعية بالأمور التالية:

 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وتفريغها من كل العناصر الوطنية، وفي المقدمة منهم الشيوعيين، فقد هجر المدينة بالفعل عشرات ألوف العوائل إلى بغداد والمدن الأخرى طلباً للأمان تاركين مساكنهم ومصالحهم ووظائفهم ودراسات أبنائهم بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات،واعتقال منفذيها.

 2ـ  شل و تدمير الحركة  الاقتصادية في المدينة نتيجة للهجرة الجماعية وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة .

 3 ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة التي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي، فقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد، هدف يتمثل في إسقاط الثورة وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، وكل منجزاتها التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام من دماء أبنائه.

 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وأخذت تترحم على نوري السعيد، والعهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد.
 ولم يدر في خلد قاسم أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه وعزله عن الشعب تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها حيث تم لهم ما أرادوا وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين في انقلاب 8 شباط 1963.

وتعود بي الذاكرة إلي المقال الذي كتبه الشهيد [ عبد الجبار وهبي ،أبو سعيد ] في صحيفة الحزب الشيوعي [اتحاد الشعب]في حقل كلمة اليوم، بعنوان[ سارق الأكفان] وكان المقال موجه بالتأكيد لعبد الكريم قاسم بالذات، وأراد فيه أن ينبهه إلى ما ألت إليه أوضاع البلاد، والاستياء الشديد لدى غالبية الشعب العراقي عامة، وأهالي الموصل بوجه خاص، وكان ملخص المقال أن أحد السرّاق كان يترصد المقابر، وينبش القبور، ويأخذ الكفن ليبيعه، ويترك الجثة في العراء.
 أخذ الناس يلعنون السارق على فعله، واستمرت اللعنات عليه حتى بعد وفاته مما حزّ في نفس ولده الذي فكر في طريقة يجعل بها الناس يكفون عن لعنة أبيه،
 فعاد الولد إلى فعلة أبيه، لكنه لم يكتفي بنبش القبور، وسرقة الأكفان، وإنما أخذ يمثل بالجثة، وينثر أشلائها .
أحدثت فعلة الولد صدمة كبيرة لدى جميع الناس، جعلتهم يترحمون على سارق الأكفان السابق الذي كان يكتفي بسرقة الكفن دون تقطيع الجثة ونثر أشلائها، وهكذا خلّص الولد أبيه من اللعنات .
أراد الشهيد أبو سعيد أن يقول لعبد الكريم قاسم أن الشعب قد صار يترحم على عهد نوري السعيد، ويكفر بالثورة، ويتمنى عدم حدوثها، نتيجة لما ألت إليه أوضاع البلاد من تدهور، ومآسي لم يسبق له مثيل .
 
موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟
لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، ولا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب ـ اتحاد الشعب ـ  وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها !! على الرغم أن إدراك قيادة الحزب أن للسلطة يداً طويلة فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959 التي لم يسبق لها مثيل في ضخامتها، وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم [ عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].

 وفي واقع الأمر، فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً، وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وتصور أن الحزب سوف يقفز إلي السلطة ويبعده عنها، ولعبت البرجوازية الوطنية المتمثلة بكتلة وزير المالية [ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية التي كانت تصوّر أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من استلام السلطة في العراق .

 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ليرعبه، من أجل المشاركة في السلطة رغم أحقيته بذلك، في حين أنه كان بإمكانه استلام السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.

لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم، واستفز البرجوازية الوطنية، ثم عاد وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي للهجوم المعاكس ضد الحزب من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له .
 كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئ لا يستفز عبد الكريم قاسم، وذلك عن طريق اللقاءات والحوار والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها على المطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة إئتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية، وليكن عبد الكريم قاسم رئيسا للجمهورية، إذا أختاره الشعب .

 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي القاضي بتحجيمه ، وعزله عن جماهيره تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه .
 أما قيادة الحزب فكانت بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم، مؤملةً أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين وانتهى إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له بزعامة داؤد الصائغ، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة  لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب  360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.

 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية، وتنامي عدد حوادث القتل يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد القتولات أكثر من خمسة عشر شهيداً.

 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين، ومموليهم وكل الواقفين وراءهم. إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه متهماً المنادين به بالفوضويين !! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهضاً.

 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة. لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى تصاعد غضب عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه، ومواقفه من الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية واصفاً إياهم بأسوأ من "هولاكو وجنكيز خان!!"  لكن الحقيقة أن مواقف عبد الكريم قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً، وذريعة لضرب الحزب.

 لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم  ثم تتخذ التراجع طريقاً لها، وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته، وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء .




















166
من ذاكرة التاريخ
صدام يزج العراق في الحرب ضد إيران
الحلقة الثالثة 3/3
حامد الحمداني                                                                7/5/2015
حرب الناقلات وتأثيرها على إمدادات النفط
عمل الطرفان المتحاربان على منع كل طرف للطرف الآخر من تصدير نفطه بالنظر إلى اعتماد كلا البلدين على واردات النفط لتمويل الحرب، ولكون اقتصاد البلدين يعتمد اعتمادا كلياً على تلك الواردات، ولذلك وجدنا قوات البلدين تقوم بقصف المنشآت النفطية لكل منهما، واستمر القصف طيلة الحرب.

كما قامت القوات الإيرانية بلغم رأس الخليج لمنع الناقلات من الوصول إلى ميناء البكر النفطي ، مما اضطر العراق كما أسلفنا إلى مد أنابيب لنقل النفط عبر الأراضي التركية والسعودية، فيما كانت سوريا قد أوقفت مرور النفط العراقي في الخط المار عبر أراضيها إلى ميناء بانياس، وميناء طرابلس اللبناني منذُ نشوب الحرب.

أما حكام العراق فقد سعوا أيضاً إلى منع إيران من تصدير نفطها، وقامت طائرات من طراز [سوخوي 23] وطائرات من طراز[ميراج] الفرنسية التي استأجرها العراق، والمحملة بصواريخ [أكزوزسيت ] والتي استطاع بواسطتها من الوصول إلى ابعد نقطة في الخليج لملاحقة الناقلات التي تنقل النفط الإيراني، وتدمير المرافئ التي تستخدمها إيران لتصدير النفط ، وهكذا اشتعلت حرب الناقلات بين البلدين المتحاربين وأصبحت عملية نقل النفط خطيرة وصعبة، ورفعت شركات التأمين رسومها على الناقلات إلى مستوى عالٍ جداً مما سبب في رفع أسعار النفط في الأسواق العالمية.

استمرت حرب الناقلات، بل وتصاعدت في السنوات الأخيرة من الحرب، وأصبحت تمثل خطراً حقيقياً على تدفق النفط الذي من أجله أٌشعلت نيران الحرب، وأصبح الخليج مملوء بالألغام، وأصبح استمرار الحرب يعطي نتائج عكسية، مما دفع الولايات المتحدة وحلفائها إلى التحرك لإنهائها بعد تلك السنين الطويلة من الدماء والدموع والخراب والدمار الذي عم البلدين، وكان إنهاءها يتطلب دعماً كبيراً للعراق لأخذ المبادرة وقلب موازين القوى لصالح العراق، وطرد القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وتوجيه الضربات الموجعة لإيران لتركيعها وإجبارها على القبول بوقف الحرب.
وقد جرى ذلك الدعم بمختلف السبل من تقديم المعلومات العسكرية إلى تقديم شتى أنواع الأسلحة، وتقديم الخبرات، ومشاركة ضباط مصريين كبار، بالإضافة إلى القوات المصرية والأردنية  واليمانية، وغيرها من السبل والوسائل، وبدأ العراق يعد العدة لشن الهجوم تلو الهجوم لطرد القوات الإيرانية من أراضيه.
وهكذا تحول ميزان القوى في عام 1988 العام الأخير للحرب مرة أخرى لصالح العراق، وبدأ النظام العراقي يعد العدة لتحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني، وكان في مقدمة أهدافه تحرير الفاو، التي مضى على احتلالها 21 شهراً.

حشد النظام العراقي قوات كبيرة من الحرس الجمهوري ومعدات لا حصر لها، كان من بينها 2000 مدفع، ومئات الدبابات والمدرعات، وبدأ الهجوم يوم 17 نيسان 988 واستطاعت القوات العراقية تحقيق انتصار ساحق على القوات الإيرانية بعد أن حولت المنطقة إلى كتلة من لهيب ودفع العراق حياة خمسين ألفا من أبنائه ثمناً لتحرير الفاو.

كان الهدف الثاني للنظام العراقي هو تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة، وإبعاد القوات الإيرانية عن المدينة التي كانت طيلة الحرب هدفاً لقصف المدفعية الإيرانية، والهجمات المتتالية عليها بغية احتلالها، ولذلك فقد ركز النظام العراقي جهد قواته إلى تلك المنطقة، وخاض مع القوات الإيرانية معارك شرسة دامت ثلاثة أسابيع، وتمكنت القوات العراقية بعدها من تحرير كافة المناطق المحيطة بالبصرة بعد أن قدم التضحيات الجسام .

بعد أن فرغت القوات العراقية من تحرير الفاو كان أمامها الهدف الثالث الذي لا يقل أهمية عن الهدفين الأولين ،جزر مجنون، التي تعتبر من أغنى المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة، وقد تمكنت القوات العراقية بعد معارك عنيفة من تحريرها من أيدي الإيرانيين، وإلحاق الهزيمة بالجيش الإيراني.

 انتقلت القوات العراقية بعد تحرير جزر مجنون إلى ملاحقة القوات الإيرانية التي كانت قد احتلت فيما مضى مناطق على طول الحدود الممتدة بين البصرة في الجنوب ومندلي  في القاطع الأوسط، واستمرت في توجيه الضربات للقوات الإيرانية التي أخذت معنوياتها تتراجع يوماً بعد يوم واستطاعت القوات العراقية طردها من تلك المناطق ودفعها إلى داخل الحدود الإيرانية.

لم تكتفِ القوات العراقية من إزاحة القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وإنما طورت هجماتها وأخذت تلاحق القوات الإيرانية إلى داخل الحدود، واستمر تقدم القوات العراقية في العمق الإيراني إلى مسافة 60 كم مما جعل القوات الإيرانية في موقف صعب للغاية، وتنفس النظام العراقي الصعداء، واستمر في ضغطه على القوات الإيرانية لإجبارها على القبول بوقف الحرب التي عجزت كل الوساطات عن إقناع حكام إيران بوقفها.

أخذ النظام العراقي يصعد ضغطه على حكام إيران من أجل القبول بوقف الحرب، وذلك عن طريق تكثيف حرب الصواريخ لإحداث حالة من الانهيار النفسي لدى الشعب الإيراني، فقد كانت الصواريخ تنهال على طهران والمدن الإيرانية الأخرى بشكل متواصل محدثة خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، وخلقت حالة من الهلع لدى الشعب الإيراني .
وفي ظل تلك الظروف صدر قرار مجلس الأمن رقم 579، والذي دعا إلى وقف القتال بين الطرفين وانسحاب القوات العسكرية إلى داخل حدودها الوطنية، ووجد حكام إيران أنهم قد أصبحوا عاجزين عن مواصلة الحرب، واضطر الزعيم الديني الخميني إلى إصدار أوامره بوقف الحرب في 18 تموز 1988 والقبول بقرار مجلس الأمن على مضض حيث أعلن الخميني موافقته على القرار ووقف الحرب.







167
من ذاكرة التاريخ
صدام يزج العراق بحرب ضد إيران
الحلقة الأولى 1/3
حامد الحمداني                                                               3/5/2015
   
اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر والصدامات العسكرية على الحدود  في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي]، حيث قام الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية المتعلقة باقتسام مياه شط العرب بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين أحدهما للعراق والآخر لإيران، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود  واستمرت زمناً طويلاً ، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي، واضطر حكام بغداد إلى التراجع، ووسطوا الرئيس الجزائري [هواري بو مدين] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين.

 وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975، وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع البعثيون إنهاءها، وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد.

وفي عام 1979، في أواخر عهد البكر، وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية، وأتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدأت أيامه معدودة.

 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول ديني يقوده [آية الله الخميني ] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري يقوده [حزب تودا الشيوعي]و [مجاهدي خلق]اليساري ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ. لكن التيار الشيوعي كان يسبب لها بالغ القلق نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولا، ولكون إيران بلد منتج  للنفط في المنطقة ثانيا، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.
وبناء على ذلك رأت الإدارة الأمريكية إن مجيء الشيوعيين إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد مصالحهم  النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت أهون الشرين [بالنسبة لها طبعاً]، وهو القبول بالتيار الديني  خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس لتسلم زمام الأمور بعد هروب الشاه من البلاد، وهكذا تمكن  التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بعد أن إقدام النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية،  والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة.
 فالعراق وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما  تطلعات خارج الحدود، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعلها تمتد لأطول مدة ممكنة كي يصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما، وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.

وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية تدعى [عربستان] .

لم يدرِ بخلد صدام حسين ما تخبئه له الأيام ؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب؟ وكم ستكلف الشعب  العراقي من الدماء والدموع؟  ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين. فقد صرح الرئيس الأمريكي  ريكان  حول الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة }.
وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق  الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر منظّر السياسة الأمريكية فقد ذكر في مذكراته التالي:
{ إن هذه أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة ولا يخرج أحد منها منتصراً بل كلا الطرفين مهزومين}!!، وتلك هي الجريمة الكبرى بحق العراق وإيران. وطبيعي أن هدف الإمبريالية لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر تلك الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً، ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات  والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.

لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون وصور الأقمار الصناعية  تلك المجازر التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وكانت مصالحهم الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن صدام حسين قد حارب نيابة عنهم ولمصلحتهم بكل تأكيد، ولا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها أبداً.

كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .

أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن، وتمكنت تلك العناصر عن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل للحصول على السلاح، وبالفعل أقدم حكام إسرائيل على تلبية حاجة إيران من السلاح كي تستمر الحرب بين البلدين.

ولم يكن تصرف إسرائيل هذا بمعزل عن الولايات المتحدة ورضاها ومباركتها إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات، بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن  القوى بين الطرفين.

ففي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران، وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري ] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم .

إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها، وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى تلك التي عُرفت بفضيحة  إيران ـ كونترا على عهد الرئيس الأمريكي [رونالد ريكان]  الذي وجد أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات، من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وكان تقديم السلاح لإيران قد حقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:

 الهدف الأول: يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.
 الهدف الثاني: هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي، حيث قام الكولونيل [ اولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس الذي كان قد اصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى ثوار الكونترا  في نكاراغوا، حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد، وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران، هذا بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.
و انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية، لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي النظام الصدامي لبناء برنامجه النووي، حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية، إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل  تتابع التقدم العراقي في هذا المجال عبر جواسيسها باستمرار، وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد ، وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك .
 وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل.

لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، فلم يدر في خلدهم أن الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق صدام حسين شعبه وبلاده في تلك الحرب المدمرة، حيث دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، وثروات بلاده وأثقلته بالديون .

و في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لإخراج القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في الحرب.


168
من ذاكرة التاريخ

البعثيون والشيوعيون والجبهة الوطنية
حامد الحمداني                                                    23/4/2015

منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17ـ 30 تموز 968 وقف الشعب العراقي من الانقلاب موقفاً سلبياً إدراكاً منه أن الوجوه التي جاءت إلى الحكم هي نفسها التي قادت انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، ويتذكر الشعب تلك الجرائم التي ارتكبوها بحقه وحق القوى السياسية، ولذلك كان همّ البعثيين هو تثبيت حكمهم، وتبييض صفحتهم السوداء فلجأوا إلى اتخاذ بعض الخطوات لاسترضاء الشعب وقواه السياسية، وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي الذي يتمتع كان بتأييد ودعم جانب كبير من أبناء الشعب آنذاك، حيث ركزوا كل جهودهم لجره إلى التعاون معهم، وصولاً إلى التحالف وإقامة ما دعوه بـ [الجبهة الوطنية والقومية التقدمية] معه .وكان من جملة تلك الإجراءات:

1 ـ إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في 5 أيلول  1963وإطلاق سراحهم.     
2ـ إصـدار قـرار بإعادة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم  ومدارسهم في 12 أيلول 1968 .                                                 
3 -احتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد.
غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية لجرّ الحزب الشيوعي والقيادة المركزية المنشقة عن الحزب آنذاك لتشكيل جبهة وطنية عريضة، فقد كان المطلوب من حزب البعث تشريع دستور دائم للبلاد عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس تأسيسي، وإطلاق الحريات الديمقراطية وحرية الصحافة وحرية النشاط الحزبي والنقابي، وهذا ما لم يوافق عليه حزب البعث.

 ولذلك لجأت القيادة المركزية [الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي ] إلى الكفاح المسلح ضد  سلطة البعث، وجرى مهاجمة دار صدام حسين وصلاح عمر العلي، وإطلاق الرصاص على الدارين، ولذلك قرر البعثيون العمل على اعتقال قيادة الحزب [القيادة المركزية ] وكوادرها، وتصفية تنظيماتها. وفي شباط عام 1969 ، استطاع البعثيون إلقاء القبض على زعيم التنظيم [عزيز الحاج] وأعضاء قيادته، وسيقوا إلى [قصر النهاية] أحد أهم مراكز التعذيب لدى البعثيين لإجراء التحقيق معهم، وهناك أنهار عزيز الحاج، وقّدم اعترافات شاملة عن تنظيم حزبه، ومكّن البعثيين من إلقاء القبض على أعداد كبيرة من كوادر وأعضاء الحزب، وجرى تعذيبهم بأبشع الوسائل من أجل الحصول على المعلومات عن تنظيمهم حيث استشهد العديد منهم تحت التعذيب كان من بينهم  القائدين الشيوعيين  [متي هندو] و[أحمد محمود العلاق] فيما أنهار القيادي الثالث [ بيتر يوسف] ملتحقاً برفيقه عزيز الحاج، ومقدماً كل ما يعرف عن تنظيم حزبه، وكافأ البعثيون كلاهما حيث جرى تعينهما سفيرين في السلك الدبلوماسي في فرنسا والأرجنتين، وذهب ضحية اعترافاتهم عدد كبير من الشيوعيين المخلصين، وزُج في السجون بأعداد كبيرة أخرى،  وبذلك تسنى للبعثيين توجيه ضربة خطيرة للقيادة المركزية ولم يتعافى الحزب منها إلا بعد مرور سنة على تلك الأحداث حيث تسلمت قيادة جديدة للحزب بزعامة[إبراهيم علاوي] وبادرت تلك القيادة إلى تجميع قوى الحزب وتشكيل تنظيمات جديدة .

 إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي  بسبب فقدان الثقة التي  سببتها اعترافات عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار أعضاء القيادة .

أما الحزب الشيوعي [ اللجنة المركزية ] فقد ألتزم جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والسعي لإقامة جبهة وطنية فيما بعد.
فقد أقدمت حكومة البعث على الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ووقعت في 1 أيار 1969 عقدا مع بولونيا لاستثمار الكبريت وطنياً، كما تم عقد اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي وبولونيا في 5 تموز 969 .

ومن ناحية أخرى قام الحزبان بنشاطات مشتركة في اجتماعات مجلس السلم العالمي، وانتخابات نقابة المحامين عام 970 ، وسمح البعثيون للحزب الشيوعي بإصدار مجلة [الثقافة الجديدة].
 كما تم تعيين الشخصية الوطنية المعروفة السيد[عزيز شريف] وزيراً للعدل في 31 كانون الأول 1969.
لكن تلك الإجراءات لم تكن لترضي الحزب الشيوعي الذي كانت له مطالب أساسية هامة تتعلق بالحريات الديمقراطية، فقد أعلن الحزب أن دخول السيد عزيز شريف الوزارة بصفته مستقلاً، وأن دخول أي شخصية وطنية في الوزارة ليس بديلاً عن حكومة جبهة وطنية، وأن تمثيل كل الأحزاب الوطنية في السلطة على أساس برامج ديمقراطية متفق عليها هو الطريق الصائب.

البعثيون يضعون شروطهم للجبهة
وفي العاشر من تموز تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط :
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي.                                                                                           
2 ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية 4 ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والقوات المسلحة.
 5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وحزب البعث.
 6ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.   
                           
 ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاث.

وفي 27 تشرين الثاني أبدى الحزب الشيوعي رد فعل إيجابي على البرنامج في بيان له صادر عن المكتب السياسي داعياً حكومة البعث إلى تحويل البرنامج إلى نص مقبول لدى جميع الأطراف التي دُعيت للعمل المشترك، ووضع نهاية حاسمة لعمليات الاضطهاد والملاحقة والاعتقال ضد سائر القوى الوطنية .

ثم جرت بعد ذلك لقاءات ومناقشات بين الأطراف دامت أشهراً حول سبل تحويل البرنامج إلى وثيقة للعمل المشترك دون أن تسفر عن توقيع أي اتفاق. لكن البعثيين أصدروا قراراً في 4 أيار 972 ، يقضي بتعيين أثنين من قادة الحزب الشيوعي في الوزارة وهما السيد  [مكرم الطالباني ] الذي عيّن وزيراً للري، والسيد [عامر عبد الله ]، الذي عيّن وزيراً بلا وزارة .

 أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة، فلم تكن تلك الخطوة مبررة من جانب كوادر وقواعد الحزب من دون أن يكون هناك برنامج متفق عليه، ويحقق طموحات الحزب في إيجاد نظام ديمقراطي حقيقي، وفرص متكافئة لكل حزب للقيام بنشاطاته السياسية في جو من الحرية الحقيقية، إلا أن قيادة الحزب اتخذت قرارها بالموافقة على المشاركة في الحكومة، بعد نصيحة قدمها لهم رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي [كوسجين] .

كان أمل الحزب الشيوعي أن تتحول هذه المشاركة إلى اتفاق حقيقي بين الأحزاب الثلاثة على برنامج يحقق طموحات الجميع، واقترحت قيادة الحزب على حزب البعث منح مجلس الوزراء صلاحيات أوسع لإدارة شؤون البلاد التي أحتكرها مجلس قيادة الثورة البعثي.
كما اقترحت تعديل الدستور المؤقت بما يحقق السير بهذا الاتجاه، وطالبوا بإطلاق حرية الصحافة، وإصدار صحيفة الحزب بشكل علني، ووعد البعثيون بدراسة هذه المقترحات.

غير أن الأمور استمرت على حالها السابق أكثر من سنة، ولاسيما وأن ظروف البلاد كانت تستدعي التعجيل بهذا الاتجاه بعد اشتداد الصراع مع شركات النفط، وقرار حكومة البعث بتأميم شركة نفط العراق العائدة للشركات الاحتكارية في الأول من حزيران 1972 .
 واستمرت العلاقات بين الحزبين على وضعها ذاك حتى وقوع محاولة ناظم كزار الانقلابية، حيث دفعت تلك الأحداث إلى تكثيف الجهود من أجل الاتفاق على برنامج للعمل الوطني.

وفي السابع عشر من تموز وقع [أحمد حسن البكر] بالنيابة عن حزب البعث، والسيد [عزيز محمد] السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي ميثاقاً للعمل الوطني، وبذل الطرفان جهوداً حثيثة من أجل إدخال الحزب الديمقراطي الكردستاني معهم في {الجبهة الوطنية والقومية التقدمية} التي انبثقت بعد توقيع الميثاق إلا أن جهودهما لم تسفر عن أية نتيجة، من دراسة مواد ميثاق تلك الجبهة نجد أن البعثيين لم يقدموا أية تنازلات جوهرية للحزب الشيوعي، وكل ما قدمه حزب البعث له هو التالي :

1 ـ حصول الحزب الشيوعي على الشرعية القانونية لمزاولة نشاطه العلني، مع إصدار صحيفته المعبرة عن سياسته [طريق الشعب] والتي صدرت بالفعل.   
                                                                 
2 ـ مشاركة الحزب الشيوعي في الحكومة بوزيرين، لكن تلك المشاركة في الوزارة لم تكن جوهرية، أوذات تأثير على سياسة الدولة، هذا بالإضافة إلى أن مجلس قيادة الثورة الذي ينفرد به البعثيون هو الذي يقرر سياسة الدولة، ويتمتع بكافة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية.

  وفي المقابل قدم الحزب الشيوعي للبعثيين تنازلات واسعة وجوهرية كان أبرزها :
1ـ إقراره بأن انقلاب 17ـ 30 تموز ثورة وطنية ديمقراطية اشتراكية!!.
2 ـ الإقرار بمبدأ قيادة حزب البعث للجبهة.
3 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على بقائه بعيداً عن الجيش والقوات المسلحة الذي أصبح مقفلاً لحزب البعث.
4 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على الدور القيادي لحزب البعث العربي الاشتراكي للمنظمات النقابية والاجتماعية والاتحادات العمالية والفلاحية، والطلابية.
5 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على موقف حزب البعث من قضية فلسطين، والوحدة العربية، وهكذا يتبين لنا أن الحزب الشيوعي قد خسر الكثير من المواقع لصالح البعثيين،
 وقدم لهم الكثير من التنازلات من دون أن يحصل على أي دور هام وأساسي في تسيير سياسة البلاد، وإنما أصبح في الواقع تابعاً لمشيئة ومخططات حزب البعث مما أثار غضب واحتجاج رفاق الحزب.

 أحدثت موافقة قيادة الحزب الشيوعي على شروط البعثيين وتوقيعه على ميثاق الجبهة شرخاً كبيراً بين القيادة من جهة والكادر وقواعد الحزب من جهة أخرى، حيث لم تستطع قواعد وكوادر الحزب هضم تلك الشروط، وكان الشعور بخيبة الأمل والقلق على المستقبل، وعدم الثقة بالبعثيين سائداً صفوف الحزب وجانباً كبيراً من كوادره، ولاسيما وأن تلك الجرائم التي أرتكبها البعثيون بحق الشيوعيين بعد انقلاب 8 شباط 1963  ما تزال ماثلة أمام عيون الجميع، فتلك المآسي لا يمكن أن يطويها الزمن بهذه السرعة، وعِبَر هذه الجبهة التي قامت على أسس غير متكافئة على الإطلاق.

كان الشعور العام لدى كل متتبع لسياسة البعثيين هو أن هذه الجبهة لن يكتب لها النجاح، وأن البعثيين لا يمكن أن يضمروا للشيوعيين الخير، لكنهم لجاءوا إلى إقامة الجبهة معهم لمرحلة معينة يستطيعون خلالها تثبيت أركان حكمهم، وإحكام سيطرتهم على الجيش، والقوات المسلحة الأخرى وأجهزة الأمن، فالجبهة في الحقيقة لم تكن هدفاً إستراتيجياً لحزب البعث، وإنما كان تكتيكياً يمكنهم من العبور إلى شاطئ الأمان وتثبيت حكمهم.

  فعلى الرغم من قيام الجبهة لم يكفّ البعثيون عن مضايقة الشيوعيين وتقليص نشاطهم وتحجيمه، واستمرت أجهزتهم الأمنية في ملاحقة واعتقال العديد منهم  بحجج وتبريرات مختلفة حتى وصل الأمر إلى أن تصبح اللقاءات مع قيادة البعث تدور حول الانتهاكات والتجاوزات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية، وقد سبب ذلك في تنامي خيبة الأمل لدى قواعد الحزب من مستقبل الجبهة، لا بل بدأت الأصوات تظهر وتعلوا شيئاً فشيئاً متهمة قيادة الحزب باليمينية وبالتفريط بمصالح الحزب وجماهير الشعب، وبدت الجبهة مجرد اتفاق بين قيادة حزبين تفتقد تماماً إلى أي قبول جماهيري، وكلما مرت الأيام كلما كان التباعد بين قواعد الطرفين يزداد عمقاً وبدأ رفاق الحزب يحذرون مما يخبئه البعثيون لحزبهم.

لم تمضي فترة طويلة من الزمن حتى بدأ التناقض ظاهراً بين قيادة الحزب وقواعده، كما بدا واضحاً أن قيادة الحزب غير بعيدة عن توجيهات قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، بل وفرض إرادته على مجمل سياسته، ولاسيما بعد أن وقع البعثيون معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي في نفس العام، وقام الاتحاد السوفيتي على أثرها بتزويد حكومة البعث بالأسلحة الحديثة والمتطورة، ومدت الجيش العراقي بالخبراء العسكريين .

 لكن البعثيون استخدموا تلك الأسلحة بعد ذلك في قمع الشعب العراقي عرباً وأكراداً، وتصفية ما كان يسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي أقاموها مع الحزب الشيوعي  مصحوبة بأعنف حملة اعتقالات وتعذيب وقتل للعناصر الشيوعية وكل مناصري الحزب، كما استخدموا تلك الأسلحة في العدوان على إيران والكويت، وزج العراق في حروب كارثية مدمرة.

نهاية الجبهة والبعثيون يشنون الحرب على الشيوعية:
لم يكد البعثيون يصفون الحركة الكردية بعد تفاهمهم مع شاه إيران، وعقد اتفاقية الجزائر، حتى بدءوا يشعرون أن مراكزهم في السلطة قد أصبحت قوية، فراحوا يتصرفون وكأن الجبهة غير موجودة، وتوضح هدفهم الحقيقي من قيام الجبهة، ولم يتحملوا وجود شريك لهم في السلطة حتى ولو كان ضعيفاً، بل لم يتحملوا حتى صدور صحيفة علنية للحزب الشيوعي، أو القيام بنشاط جماهيري للحزب وهم الذين جاءوا بالأساس يوم 8 شباط 1963، وعند عودتهم إلى الحكم في عام 1968 لتصفية الحركة الشيوعية في العراق.

لقد بدأت المضايقات والاعتقالات تتصاعد ضد أعضاء الحزب وجرى اغتيال العديد من قادته وكوادره عن طريق الصدم أو الدهس بالسيارات، أو إطلاق الرصاص، مدعين بأنها حوادث مؤسفة وقيّدت ضد مجهول !!، وكان من بين القياديين  الذين استشهدوا بهذه الطريقة كل من الرفاق [ستار خضير] و[محمد الخضري] و[شاكر محمود]، كما بدأت صحف البعث تتعرض للحزب الشيوعي وتوجه حملاتها ضده، وأصبح الحزب أمام وضع صعب للغاية، وكانت اللقاءات بين الحزبين تدور كلها تقريباً حول التجاوزات التي يعاني منها رفاق الحزب، ولم تعد الجبهة سوى حبراً على ورق.

أدرك الحزب الشيوعي أن هناك مخططاً بعثياً لتوجيه ضربة جديدة وموجعة له، وبدأ يرتب أوضاعه للعودة إلى العمل السري وتشديد الصيانة، وخاصة بالنسبة للقيادة والكادر، وغادر العديد من قادة الحزب العراق هرباً من بطش البعثيين بعد أن تأكد لهم أن الحملة البعثية ضد الحزب قد باتت وشيكة، وحدث الذي كان بالحسبان، وشنّ البعثيون عام 1978 حملة واسعة النطاق لاعتقال ما أمكن من قيادات وكوادر الحزب وأعضائه في كافة أنحاء البلاد.

 لكن معظم أعضاء القيادة كان قد أفلت من الاعتقال وهرب البعض منهم إلى خارج العراق، واختفى البعض الأخر ليقود الحزب، في ظل ظروف العمل السري البالغة الصعوبة، بينما وقع في أيدي البعثيين أعداد كبيرة من أعضاء الحزب، حيث جرى تعذيبهم بأبشع الأساليب والوسائل لانتزاع الاعترافات منهم حول تنظيمات الحزب، وكان من بين القياديين المعتقلين الدكتور [صفاء الحافظ ] و الدكتور[ صباح الدرة ] و[ حازم سلو] الذين استشهدوا جميعاً تحت التعذيب.

كما قامت السلطات البعثية بكبس مقرات الحزب، وصحيفته [طريق الشعب] وصادرت مطبعة الحزب وكل الوثائق الموجودة، وجرى جمع كافة الكتب الماركسية والتقدمية من الأسواق ومن الدور التي داهمتها قوى الأمن وتم إحراقها، وجرى إعدام العديد من رفاق الحزب، ومات تحت التعذيب أعداد أخرى، وزج  الآلاف بالسجون.









169
من ذاكرة التاريخ:
صدام يزيح البكر ويستولي على السلطة
حامد الحمداني                                                          30/4/2015

منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 968  [عبد الرزاق النايف ] بدأ نجمه يتصاعد  حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، رغم وجود أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم ، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.

وعندما حلت الذكرى الحادية عشر للانقلاب البعثي في 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة، مانحاً نفسه أعلى رتبة عسكرية في الجيش[ مهيب ركن].

أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان وراءه !!.

أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح  الإمبريالية الأمريكية، والتي كان في مقدمتها:

1 ـ إفشال المصالحة بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ميثاق العمل القومي الذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.

2ـ احتواء الثورة الإسلامية في إيران، ولاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدءوا يتطلعون إلى تصدير ونشر مفاهيم الثورة الإسلامية في الدول المجاورة مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل إلى ذلك هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين في حرب سعت الولايات المتحدة إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، كما سنرى فيما بعد .
3 ـ مكافحة النشاطات الشيوعية، والإسلامية في البلاد على حد سواء والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر أفكار الثورة الإسلامية في المنطقة.

و لما كانت تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، وتزعم العالم العربي قد طغت على تفكيره، وجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته.

 ولم يكن انقلاب صدام ضد البكر بمعزل عن المخططات الأمريكية، فلقد تحدث أحد أقرباء وزير الدفاع العراقي السابق حماد شهاب، الذي قتل خلال محاولة ناظم كزار الانقلابية، وكان هذا الشخص موظفاً في القصر الجمهوري، عن زيارة قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر، وشوهد الموفد الأمريكي يخرج بعد الاجتماع متجهم الوجه وقد بدا عليه عدم الارتياح ، ثم أنتقل إلى مكتب صدام حسين، وأجرى معه محادثات أخرى، خرج بعدها وعلائم السرور بادية على وجهه وقد علته ابتسامة عريضة. لقد بقي ما دار في الاجتماعين سراً من الأسرار، إلا أن التكهنات والأحاديث التي كانت تدور حول الاجتماعين تشير إلى أن النقاش دار حول نقطتين أساسيتين :

النقطة الأولى : كانت حول تطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل، حيث كانت قد جرت في أواخر عام 1978، وأوائل عام 1979 محاولة للتقارب بين البلدين، تحت ضغط جانب من أعضاء القيادة في كلا الحزبين السوري والعراقي، وقد أدى ذلك التقارب إلى تشكيل لجان مشتركة سياسية واقتصادية وعسكرية،على أثر توقيع ميثاق للعمل القومي المشترك الذي وقعه الطرفان في تشرين الأول عام 1978، وقد أستهدف الميثاق بالأساس إنهاء القطيعة بين الحزبين والبلدين الشقيقين، وإقامة وحدة عسكرية تكون الخطوة الأولى نحو إقامة الوحدة السياسية بين البلدين، وتوحيد الحزبين، فقد كان وضع سوريا في تلك الأيام قد أصبح صعباً بعد أن خرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، وعقد السادات اتفاقية [ كامب ديفيد] مع إسرائيل مما جعل القادة السوريين يقرون بأهمية إقامة تلك الوحدة للوقوف أمام الخطر الإسرائيلي.

وبالفعل فقد تم عقد عدد من الاتفاقات بين البلدين، وأعيد فتح الحدود بينهما، وجرى السماح بحرية السفر للمواطنين، كما أعيد فتح خط أنابيب النفط [التابلاين ] لنقل النفط إلى بانياس في سوريا، والذي كان قد توقف منذُ نيسان 1976.
وفي 16 حزيران تم عقد اجتماع بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي أحمد حسن البكر  في بغداد ودامت المحادثات بين الرئيسين ثلاثة أيام أعلنا في نهايتها أن البلدين سيؤلفان دولة واحدة برئيس واحد وحكومة واحدة وحزب واحد، وأعلنا تشكيل قيادة سياسية مشتركة تحل محل اللجنة السياسية العليا التي جرى تشكيلها بموجب اتفاق تشرين الأول 978 ، والتي ضمت 7 أعضاء من كل بلد ، يترأسها رئيسا البلدين ، وتجتمع كل ثلاثة أشهر لتنسيق السياسات الخارجية، والاقتصادية، والعسكرية.

 النقطه الثانية:  كانت حول الأوضاع في إيران بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وقيل أن الموفد الأمريكي سعى لتحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري قبل أن يقوى النظام الإسلامي ويشتد عوده.

 غيرأن البكر لم يقتنع بفكرة الموفد الأمريكي لسببين:
1ـ الاتفاق الذي تم بين القيادتين السورية والعراقية لتوحيد الحزبين والبلدين برئاسة البكر نفسه.
2ـ أن البكر رجل عسكري كان يدرك تمام الإدراك ما تعنيه الحرب من ويلات ومآسي وتدمير لاقتصاد البلاد.

 لذلك فقد خرج الموفد الأمريكي من مكتب البكر وقد بدا على وجهه عدم الارتياح، على عكس اللقاء مع صدام حسين والذي خرج بعد لقائه مسروراً. وقيل أن صدام حسين قد أبدى كل الاستعداد للقيام بهذا الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.

لم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر بقوة السلاح من قبل صدام حسين وأعوانه على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.

أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع، وانتهاءً بكل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة، فقد أخذت أجهزته القمعية تمارس أبشع الأعمال الإرهابية بحق العناصر الوطنية من ِشيوعيين وإسلاميين وقوميين وديمقراطيين بالإضافة للشعب الكردي، وملأ السجون بأعداد كبيرة منهم، ومارس أقسى  التعذيب النفسي والجسدي ضدهم.
لقد كانت ماكنة الموت الصدامية تطحن كل يوم بالمئات من أبناء الشعب لكي يقمع أي معارضة لحكمه، وحتى يصبح مطلق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات التي تتحكم بمصير الشعب والوطن، ولكي يعدّ العدة ويهيئ الظروف المناسبة لتنفيذ الدور الذي أوكلته له الإمبريالية الأمريكية، في العدوان على إيران.
صدام يخرب العلاقة مع سوريا:
لم تمضِ سوى  أيام معدودة على تولى صدام حسين قيادة الحزب والدولة في العراق حتى ألمت بالعلاقة بين قيادة  البلدين والحزبين هزة عنيفة، وبدأت الغيوم السوداء تغطي سماء تلك العلاقة بينهما.
 ففي 28 كانون الأول 1979 جرى لقاء قمة بين الأسد وصدام في دمشق دام يومين، وقد ظهر بعد اللقاء أن الخلافات بين القيادتين كانت من العمق بحيث لم تستطع دفع عملية الوحدة إلى الأمام، بل على العكس تلاشت الآمال بقيامها.
وهكذا بدأت العلاقة بالفتور بين البلدين من جديد، واتهمت سوريا القيادة العراقية بوضع العراقيل أمام تنفيذ ما أتُفق عليه في لقاء القمة بين الأسد والبكر.
أدى هذا التدهور الجديد في العلاقة بين الحزبين إلى وقوع انقسام داخل القيادة القطرية في العراق، فقسم وقف إلى جانب الاتفاق المبرم بين الأسد والبكر، والقسم الآخر وقف إلى جانب صدام حسين، فما كان من صدام إلا أن أتهم الذين أيدوا الاتفاق بالاشتراك بمؤامرة مع سوريا على العراق، وجرى اعتقالهم  وتعذيبهم حتى الموت، ثم أعلن صدام عبر الإذاعة والتلفزيون أن هذه المجموعة قد تآمرت على العراق، وأحيلت إلى محكمة حزبية قررت الحكم عليهم بالإعدام، وجرى تنفيذ الأحكام بحقهم .

 لكن الحقيقة أن هذه المجموعة أرادت تحقيق الوحدة أولاً، والتخلص من دكتاتورية صدام حسين ثانياً، بعد أن أغتصب السلطة من البكر بقوة السلاح، ودون إرادة القيادة القطرية.

وهكذا ذهبت الآمال بتحقيق الوحدة أدراج الرياح، وتدهورت العلاقة بين البلدين من جديد، وفرض صدام حسين سلطته المطلقة على قيادة الحزب والدولة دون منازع، وأصبح العراق ملجأ لكل المناوئين للحكم في سوريا ابتداءً من [ أمين الحافظ ] و[ميشيل عفلق ] وانتهاءً بالإخوان المسلمين الذين لجأ وا إلى العراق بأعداد كبيرة بعد فشل حركتهم ضد حكم البعث في مدينة حماه عام 982 والتي قمعها النظام بكل شراسة ووحشية مستخدماً الدبابات والمدفعية والطائرات.

لم يقتصر تدهور العلاقات بين البلدين على القطيعة والحملات الإعلامية، بل تعداها إلى الصراع العنيف بين الطرفين على الساحة اللبنانية، حيث أدخلت سوريا عدد من قطعاتها العسكرية في لبنان ضمن قوات الردع العربية لمحاولة وقف الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975.غير أن القوات المشتركة العربية انسحبت من لبنان فيما بعد تاركة القوات السورية لوحدها هناك، وانتهز صدام حسين الفرصة ليرسل إلى العماد ميشيل عون الذي عُين رئيساً للوزراء مختلف أنواع الأسلحة والقوات العسكرية عندما  دخل عون في صراع مسلح مع الجيش السوري. وهكذا أصبح لبنان مسرحاً للصراع بين البلدين، واستمر الحال في لبنان حتى سقوط حكومة [ ميشيل عون ] على أيدي القوات السورية، وانتهاء الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً.
 وهكذا حقق صدام حسين للإمبريالية الأمريكية ما كانت تصبو إليه، حيث عادت العلاقات بين سوريا والعراق إلى نقطة الصفر من جديد، وتحقق الهدف الأول الذي رسمته له، وبدأت تتفرغ للهدف الثاني الهام  هدف التصدي للنظام الإيراني الجديد، وخلق المبررات لصدام لشن الحرب على إيران في الثاني والعشرين من أيلول عام 1980، تلك الحرب التي كانت لها نتائج وخيمة على مستقبل العراق وشعبه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وكانت سبباً مباشراً لأقدام صدام حسين على غزو الكويت، وبالتالي قيام حرب الخليج الثانية، التي جلبت على العراق وشعبه من ويلات لم يسبق لها مثيل وأدت إلى انهيار الوضع الاقتصادي وإغراق العراق بالديون.




170
من ذاكرة التاريخ

البعثيون والشيوعيون والجبهة الوطنية
حامد الحمداني                                                    23/4/2015

منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17ـ 30 تموز 968 وقف الشعب العراقي من الانقلاب موقفاً سلبياً إدراكاً منه أن الوجوه التي جاءت إلى الحكم هي نفسها التي قادت انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، ويتذكر الشعب تلك الجرائم التي ارتكبوها بحقه وحق القوى السياسية، ولذلك كان همّ البعثيين هو تثبيت حكمهم، وتبييض صفحتهم السوداء فلجأوا إلى اتخاذ بعض الخطوات لاسترضاء الشعب وقواه السياسية، وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي الذي يتمتع كان بتأييد ودعم جانب كبير من أبناء الشعب آنذاك، حيث ركزوا كل جهودهم لجره إلى التعاون معهم، وصولاً إلى التحالف وإقامة ما دعوه بـ [الجبهة الوطنية والقومية التقدمية] معه .وكان من جملة تلك الإجراءات:

1 ـ إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في 5 أيلول  1963وإطلاق سراحهم.     
2ـ إصـدار قـرار بإعادة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم  ومدارسهم في 12 أيلول 1968 .                                                 
3 -احتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد.
غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية لجرّ الحزب الشيوعي والقيادة المركزية المنشقة عن الحزب آنذاك لتشكيل جبهة وطنية عريضة، فقد كان المطلوب من حزب البعث تشريع دستور دائم للبلاد عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس تأسيسي، وإطلاق الحريات الديمقراطية وحرية الصحافة وحرية النشاط الحزبي والنقابي، وهذا ما لم يوافق عليه حزب البعث.

 ولذلك لجأت القيادة المركزية [الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي ] إلى الكفاح المسلح ضد  سلطة البعث، وجرى مهاجمة دار صدام حسين وصلاح عمر العلي، وإطلاق الرصاص على الدارين، ولذلك قرر البعثيون العمل على اعتقال قيادة الحزب [القيادة المركزية ] وكوادرها، وتصفية تنظيماتها. وفي شباط عام 1969 ، استطاع البعثيون إلقاء القبض على زعيم التنظيم [عزيز الحاج] وأعضاء قيادته، وسيقوا إلى [قصر النهاية] أحد أهم مراكز التعذيب لدى البعثيين لإجراء التحقيق معهم، وهناك أنهار عزيز الحاج، وقّدم اعترافات شاملة عن تنظيم حزبه، ومكّن البعثيين من إلقاء القبض على أعداد كبيرة من كوادر وأعضاء الحزب، وجرى تعذيبهم بأبشع الوسائل من أجل الحصول على المعلومات عن تنظيمهم حيث استشهد العديد منهم تحت التعذيب كان من بينهم  القائدين الشيوعيين  [متي هندو] و[أحمد محمود العلاق] فيما أنهار القيادي الثالث [ بيتر يوسف] ملتحقاً برفيقه عزيز الحاج، ومقدماً كل ما يعرف عن تنظيم حزبه، وكافأ البعثيون كلاهما حيث جرى تعينهما سفيرين في السلك الدبلوماسي في فرنسا والأرجنتين، وذهب ضحية اعترافاتهم عدد كبير من الشيوعيين المخلصين، وزُج في السجون بأعداد كبيرة أخرى،  وبذلك تسنى للبعثيين توجيه ضربة خطيرة للقيادة المركزية ولم يتعافى الحزب منها إلا بعد مرور سنة على تلك الأحداث حيث تسلمت قيادة جديدة للحزب بزعامة[إبراهيم علاوي] وبادرت تلك القيادة إلى تجميع قوى الحزب وتشكيل تنظيمات جديدة .

 إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي  بسبب فقدان الثقة التي  سببتها اعترافات عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار أعضاء القيادة .

أما الحزب الشيوعي [ اللجنة المركزية ] فقد ألتزم جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والسعي لإقامة جبهة وطنية فيما بعد.
فقد أقدمت حكومة البعث على الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ووقعت في 1 أيار 1969 عقدا مع بولونيا لاستثمار الكبريت وطنياً، كما تم عقد اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي وبولونيا في 5 تموز 969 .

ومن ناحية أخرى قام الحزبان بنشاطات مشتركة في اجتماعات مجلس السلم العالمي، وانتخابات نقابة المحامين عام 970 ، وسمح البعثيون للحزب الشيوعي بإصدار مجلة [الثقافة الجديدة].
 كما تم تعيين الشخصية الوطنية المعروفة السيد[عزيز شريف] وزيراً للعدل في 31 كانون الأول 1969.
لكن تلك الإجراءات لم تكن لترضي الحزب الشيوعي الذي كانت له مطالب أساسية هامة تتعلق بالحريات الديمقراطية، فقد أعلن الحزب أن دخول السيد عزيز شريف الوزارة بصفته مستقلاً، وأن دخول أي شخصية وطنية في الوزارة ليس بديلاً عن حكومة جبهة وطنية، وأن تمثيل كل الأحزاب الوطنية في السلطة على أساس برامج ديمقراطية متفق عليها هو الطريق الصائب.

البعثيون يضعون شروطهم للجبهة
وفي العاشر من تموز تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط :
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي.                                                                                           
2 ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية 4 ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والقوات المسلحة.
 5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وحزب البعث.
 6ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.   
                           
 ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاث.

وفي 27 تشرين الثاني أبدى الحزب الشيوعي رد فعل إيجابي على البرنامج في بيان له صادر عن المكتب السياسي داعياً حكومة البعث إلى تحويل البرنامج إلى نص مقبول لدى جميع الأطراف التي دُعيت للعمل المشترك، ووضع نهاية حاسمة لعمليات الاضطهاد والملاحقة والاعتقال ضد سائر القوى الوطنية .

ثم جرت بعد ذلك لقاءات ومناقشات بين الأطراف دامت أشهراً حول سبل تحويل البرنامج إلى وثيقة للعمل المشترك دون أن تسفر عن توقيع أي اتفاق. لكن البعثيين أصدروا قراراً في 4 أيار 972 ، يقضي بتعيين أثنين من قادة الحزب الشيوعي في الوزارة وهما السيد  [مكرم الطالباني ] الذي عيّن وزيراً للري، والسيد [عامر عبد الله ]، الذي عيّن وزيراً بلا وزارة .

 أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة، فلم تكن تلك الخطوة مبررة من جانب كوادر وقواعد الحزب من دون أن يكون هناك برنامج متفق عليه، ويحقق طموحات الحزب في إيجاد نظام ديمقراطي حقيقي، وفرص متكافئة لكل حزب للقيام بنشاطاته السياسية في جو من الحرية الحقيقية، إلا أن قيادة الحزب اتخذت قرارها بالموافقة على المشاركة في الحكومة، بعد نصيحة قدمها لهم رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي [كوسجين] .

كان أمل الحزب الشيوعي أن تتحول هذه المشاركة إلى اتفاق حقيقي بين الأحزاب الثلاثة على برنامج يحقق طموحات الجميع، واقترحت قيادة الحزب على حزب البعث منح مجلس الوزراء صلاحيات أوسع لإدارة شؤون البلاد التي أحتكرها مجلس قيادة الثورة البعثي.
كما اقترحت تعديل الدستور المؤقت بما يحقق السير بهذا الاتجاه، وطالبوا بإطلاق حرية الصحافة، وإصدار صحيفة الحزب بشكل علني، ووعد البعثيون بدراسة هذه المقترحات.

غير أن الأمور استمرت على حالها السابق أكثر من سنة، ولاسيما وأن ظروف البلاد كانت تستدعي التعجيل بهذا الاتجاه بعد اشتداد الصراع مع شركات النفط، وقرار حكومة البعث بتأميم شركة نفط العراق العائدة للشركات الاحتكارية في الأول من حزيران 1972 .
 واستمرت العلاقات بين الحزبين على وضعها ذاك حتى وقوع محاولة ناظم كزار الانقلابية، حيث دفعت تلك الأحداث إلى تكثيف الجهود من أجل الاتفاق على برنامج للعمل الوطني.

وفي السابع عشر من تموز وقع [أحمد حسن البكر] بالنيابة عن حزب البعث، والسيد [عزيز محمد] السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي ميثاقاً للعمل الوطني، وبذل الطرفان جهوداً حثيثة من أجل إدخال الحزب الديمقراطي الكردستاني معهم في {الجبهة الوطنية والقومية التقدمية} التي انبثقت بعد توقيع الميثاق إلا أن جهودهما لم تسفر عن أية نتيجة، من دراسة مواد ميثاق تلك الجبهة نجد أن البعثيين لم يقدموا أية تنازلات جوهرية للحزب الشيوعي، وكل ما قدمه حزب البعث له هو التالي :

1 ـ حصول الحزب الشيوعي على الشرعية القانونية لمزاولة نشاطه العلني، مع إصدار صحيفته المعبرة عن سياسته [طريق الشعب] والتي صدرت بالفعل.   
                                                                 
2 ـ مشاركة الحزب الشيوعي في الحكومة بوزيرين، لكن تلك المشاركة في الوزارة لم تكن جوهرية، أوذات تأثير على سياسة الدولة، هذا بالإضافة إلى أن مجلس قيادة الثورة الذي ينفرد به البعثيون هو الذي يقرر سياسة الدولة، ويتمتع بكافة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية.

  وفي المقابل قدم الحزب الشيوعي للبعثيين تنازلات واسعة وجوهرية كان أبرزها :
1ـ إقراره بأن انقلاب 17ـ 30 تموز ثورة وطنية ديمقراطية اشتراكية!!.
2 ـ الإقرار بمبدأ قيادة حزب البعث للجبهة.
3 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على بقائه بعيداً عن الجيش والقوات المسلحة الذي أصبح مقفلاً لحزب البعث.
4 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على الدور القيادي لحزب البعث العربي الاشتراكي للمنظمات النقابية والاجتماعية والاتحادات العمالية والفلاحية، والطلابية.
5 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على موقف حزب البعث من قضية فلسطين، والوحدة العربية، وهكذا يتبين لنا أن الحزب الشيوعي قد خسر الكثير من المواقع لصالح البعثيين،
 وقدم لهم الكثير من التنازلات من دون أن يحصل على أي دور هام وأساسي في تسيير سياسة البلاد، وإنما أصبح في الواقع تابعاً لمشيئة ومخططات حزب البعث مما أثار غضب واحتجاج رفاق الحزب.

 أحدثت موافقة قيادة الحزب الشيوعي على شروط البعثيين وتوقيعه على ميثاق الجبهة شرخاً كبيراً بين القيادة من جهة والكادر وقواعد الحزب من جهة أخرى، حيث لم تستطع قواعد وكوادر الحزب هضم تلك الشروط، وكان الشعور بخيبة الأمل والقلق على المستقبل، وعدم الثقة بالبعثيين سائداً صفوف الحزب وجانباً كبيراً من كوادره، ولاسيما وأن تلك الجرائم التي أرتكبها البعثيون بحق الشيوعيين بعد انقلاب 8 شباط 1963  ما تزال ماثلة أمام عيون الجميع، فتلك المآسي لا يمكن أن يطويها الزمن بهذه السرعة، وعِبَر هذه الجبهة التي قامت على أسس غير متكافئة على الإطلاق.

كان الشعور العام لدى كل متتبع لسياسة البعثيين هو أن هذه الجبهة لن يكتب لها النجاح، وأن البعثيين لا يمكن أن يضمروا للشيوعيين الخير، لكنهم لجاءوا إلى إقامة الجبهة معهم لمرحلة معينة يستطيعون خلالها تثبيت أركان حكمهم، وإحكام سيطرتهم على الجيش، والقوات المسلحة الأخرى وأجهزة الأمن، فالجبهة في الحقيقة لم تكن هدفاً إستراتيجياً لحزب البعث، وإنما كان تكتيكياً يمكنهم من العبور إلى شاطئ الأمان وتثبيت حكمهم.

  فعلى الرغم من قيام الجبهة لم يكفّ البعثيون عن مضايقة الشيوعيين وتقليص نشاطهم وتحجيمه، واستمرت أجهزتهم الأمنية في ملاحقة واعتقال العديد منهم  بحجج وتبريرات مختلفة حتى وصل الأمر إلى أن تصبح اللقاءات مع قيادة البعث تدور حول الانتهاكات والتجاوزات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية، وقد سبب ذلك في تنامي خيبة الأمل لدى قواعد الحزب من مستقبل الجبهة، لا بل بدأت الأصوات تظهر وتعلوا شيئاً فشيئاً متهمة قيادة الحزب باليمينية وبالتفريط بمصالح الحزب وجماهير الشعب، وبدت الجبهة مجرد اتفاق بين قيادة حزبين تفتقد تماماً إلى أي قبول جماهيري، وكلما مرت الأيام كلما كان التباعد بين قواعد الطرفين يزداد عمقاً وبدأ رفاق الحزب يحذرون مما يخبئه البعثيون لحزبهم.

لم تمضي فترة طويلة من الزمن حتى بدأ التناقض ظاهراً بين قيادة الحزب وقواعده، كما بدا واضحاً أن قيادة الحزب غير بعيدة عن توجيهات قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، بل وفرض إرادته على مجمل سياسته، ولاسيما بعد أن وقع البعثيون معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي في نفس العام، وقام الاتحاد السوفيتي على أثرها بتزويد حكومة البعث بالأسلحة الحديثة والمتطورة، ومدت الجيش العراقي بالخبراء العسكريين .

 لكن البعثيون استخدموا تلك الأسلحة بعد ذلك في قمع الشعب العراقي عرباً وأكراداً، وتصفية ما كان يسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي أقاموها مع الحزب الشيوعي  مصحوبة بأعنف حملة اعتقالات وتعذيب وقتل للعناصر الشيوعية وكل مناصري الحزب، كما استخدموا تلك الأسلحة في العدوان على إيران والكويت، وزج العراق في حروب كارثية مدمرة.

نهاية الجبهة والبعثيون يشنون الحرب على الشيوعية:
لم يكد البعثيون يصفون الحركة الكردية بعد تفاهمهم مع شاه إيران، وعقد اتفاقية الجزائر، حتى بدءوا يشعرون أن مراكزهم في السلطة قد أصبحت قوية، فراحوا يتصرفون وكأن الجبهة غير موجودة، وتوضح هدفهم الحقيقي من قيام الجبهة، ولم يتحملوا وجود شريك لهم في السلطة حتى ولو كان ضعيفاً، بل لم يتحملوا حتى صدور صحيفة علنية للحزب الشيوعي، أو القيام بنشاط جماهيري للحزب وهم الذين جاءوا بالأساس يوم 8 شباط 1963، وعند عودتهم إلى الحكم في عام 1968 لتصفية الحركة الشيوعية في العراق.

لقد بدأت المضايقات والاعتقالات تتصاعد ضد أعضاء الحزب وجرى اغتيال العديد من قادته وكوادره عن طريق الصدم أو الدهس بالسيارات، أو إطلاق الرصاص، مدعين بأنها حوادث مؤسفة وقيّدت ضد مجهول !!، وكان من بين القياديين  الذين استشهدوا بهذه الطريقة كل من الرفاق [ستار خضير] و[محمد الخضري] و[شاكر محمود]، كما بدأت صحف البعث تتعرض للحزب الشيوعي وتوجه حملاتها ضده، وأصبح الحزب أمام وضع صعب للغاية، وكانت اللقاءات بين الحزبين تدور كلها تقريباً حول التجاوزات التي يعاني منها رفاق الحزب، ولم تعد الجبهة سوى حبراً على ورق.

أدرك الحزب الشيوعي أن هناك مخططاً بعثياً لتوجيه ضربة جديدة وموجعة له، وبدأ يرتب أوضاعه للعودة إلى العمل السري وتشديد الصيانة، وخاصة بالنسبة للقيادة والكادر، وغادر العديد من قادة الحزب العراق هرباً من بطش البعثيين بعد أن تأكد لهم أن الحملة البعثية ضد الحزب قد باتت وشيكة، وحدث الذي كان بالحسبان، وشنّ البعثيون عام 1978 حملة واسعة النطاق لاعتقال ما أمكن من قيادات وكوادر الحزب وأعضائه في كافة أنحاء البلاد.

 لكن معظم أعضاء القيادة كان قد أفلت من الاعتقال وهرب البعض منهم إلى خارج العراق، واختفى البعض الأخر ليقود الحزب، في ظل ظروف العمل السري البالغة الصعوبة، بينما وقع في أيدي البعثيين أعداد كبيرة من أعضاء الحزب، حيث جرى تعذيبهم بأبشع الأساليب والوسائل لانتزاع الاعترافات منهم حول تنظيمات الحزب، وكان من بين القياديين المعتقلين الدكتور [صفاء الحافظ ] و الدكتور[ صباح الدرة ] و[ حازم سلو] الذين استشهدوا جميعاً تحت التعذيب.

كما قامت السلطات البعثية بكبس مقرات الحزب، وصحيفته [طريق الشعب] وصادرت مطبعة الحزب وكل الوثائق الموجودة، وجرى جمع كافة الكتب الماركسية والتقدمية من الأسواق ومن الدور التي داهمتها قوى الأمن وتم إحراقها، وجرى إعدام العديد من رفاق الحزب، ومات تحت التعذيب أعداد أخرى، وزج  الآلاف بالسجون.









171
من ذاكرة التاريخ:
البعثيون والقضية الكردية
حامد الحمداني                                                              22/4/2015

كان استمرار الحرب في كردستان يشكل أحد المخاطر الجسيمة على السلطة البعثية في أيامها الأولى ، ولذلك فقد سعت هذه السلطة  للتفاوض مع القيادة الكردية للوصول إلى وقف القتال، وقد أثمرت اللقاءات التي جرت بين قيادة حزب البعث وزعيم الحركة الكردية السيد [ مصطفى البارزاني ] إلى عقد اتفاقية [11 آذار للحكم الذاتي ] عام 1970.

 تنفس البعثيون الصعداء في تلك الأيام، ووجدوا تعويضاً لهم عن العلاقة مع الحزب الشيوعي، وقد بدا في تلك الأيام وكأنه لا يوجد في الساحة السياسية غير حزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتعرضت العلاقة بين البعثيين والشيوعيين إلى الانتكاسة عند إقدام حكومة البعث على تفريق تجمع للشيوعيين يوم 21 آذار احتفالاً بعيد النوروز بالقوة. كما تم في تلك الليلة اغتيال الشهيد  [محمد الخضري ] عضو قيادة فرع بغداد للحزب في أحد شوارع بغداد .

 ورغم إنكار البعثيين صلتهم بالجريمة إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنهم هم مدبريها، وقد أتهمهم الحزب الشيوعي بالقيام بحملة اعتقالات ضد العديد من الشيوعيين في أنحاء البلاد المختلفة، ومع ذلك استمر الحزب الشيوعي في دعوته من أجل الديمقراطية للشعب العراقي، والحكم الذاتي لكردستان.

وجاء إعلان توصل الحزب الشيوعي وحزب البعث لقيام ما سمي بـ [الجبهة الوطنية والقومية التقدمية] تصدعاً في العلاقات بين قيادة الحركة الكردية والحزب الشيوعي، فقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني  بزعامة الملا مصطفى البارزاني كانت قد أصيبت هي الأخرى بخيبة الأمل من سياسة البعثيين فيما يخص تطبيق اتفاقية الحكم الذاتي التي حُدد لتنفيذها مدة 4 سنوات. 

وبالرغم من قيام حكومة البعث بتعين عدد من الوزراء الأكراد في الحكومة ، وإجازة الحزب الديمقراطي الكردستاني وتوسيع الدراسة الكردية، وزيادة البرامج الكردية في إذاعة بغداد وتلفزيون كركوك، وتشكيل وحدات حرس الحدود من قوات البيشمركة الكردية، أخذت العلاقات بين الأكراد وحكومة البعث تتباعد شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى أقصى درجات التقاطع، وعدم الثقة في تطبيق البعثيين لاتفاقية آذار، وبدا للقيادة الكردية أن البعثيين غير جادين في اتفاقهم، وأنهم يكسبون الوقت لتثبيت حكمهم، وتوجيه ضربة جديدة للحركة الكردية، وجاءت محاولة اغتيال الزعيم الكردي [الملا مصطفى البارزاني ]عام 971  لتهدم كل الجسور التي بناها الطرفان في 11 آذار عام 1970 .
ولهذه الأسباب اعتبرت القيادة الكردية أن دخول الحزب الشيوعي في جبهة مع حزب البعث في ذلك الوقت ضربة موجهة لهم، وأخذوا يوجهون اللوم والانتقاد للحزب، وتطور النقد على صفحات جريدة الحزب الرسمية [ خه بات ] في حين راح الحزب الشيوعي يحث القيادة الكردية على الانضمام للجبهة والنضال من خلالها، إلا أن جهوده لم تثمر في هذا الاتجاه، بل على العكس توترت العلاقات بينهما إلى درجة خطيرة، وتصاعدت بسرعة إلى حد التصادم المسلح بين الحزبين في كردستان، وشنت صحافة الحزبين حملات إعلامية ساخنة على بعضها البعض، ولعب حزب البعث دوراً كبيراً في إذكاء الصراع، وتسعير نيران الاشتباكات بين الطرفين في كردستان.

وفي آذار 1974 قام عملاء السلطة بتفجير سلسلة من القنابل في مدينة أربيل، مما جعل إمكانية تلاقي القيادة الكردية وحكومة البعث بعيد المنال، وعند انتهاء فترة السنوات الأربع المحددة لتطبيق الحكم الذاتي كان التباعد في وجهات نظر الطرفين حول تطبيق اتفاقية 11 آذار قد تباعدت كثيراً، وأصرّ البعثيون على تطبيقها بالشكل الذي يريدونه هم، ورفضت القيادة الكردية فرض الحلول البعثية، ولجأت إلى حمل السلاح مرة أخرى، وبدأ القتال من جديد، وشن الجيش حرب إبادة ضد الشعب الكردي مستخدماً الطائرات والدبابات  والصواريخ وكل الوسائل العسكرية المتاحة لديه، فدمروا مئات القرى، وشردوا مئات الألوف من أبناء الشعب الكردي، إضافة إلى عشرات الألوف من الضحايا.

 ألجأت تلك الأحداث القيادة الكردية إلى طلب الدعم من الولايات المتحدة وإيران، فانهالت عليهم الأسلحة والمعدات والتموين، وجرى علاج جرحى البيشمركة في المستشفيات الإيرانية، وقد أدى ذلك إلى اشتداد ضراوة القتال في كردستان  ووقف الاتحاد السوفيتي إلى جانب حكومة البعث في صراعها مع الأكراد، ولم تستطع حكومة البعث القضاء على الحركة الكردية إلا بعد توقيع صدام حسين وشاه  إيران على اتفاق الجزائر في 16 آذار 1975، وقدم صدام حسين الكثير من التنازلات لشاه إيران لكي يرفع يده عن الحركة الكردية التي انهارت بسرعة مذهلة بعد توقيع الاتفاق بأيام.

استسلمت معظم قوات البيشمركة لقوات الجيش ملقية سلاحها وهربت القيادة الكردية إلى إيران، وقامت حكومة البعث بنفي الألوف من أبناء الشعب الكردي إلى المناطق الجنوبية من العراق وفي الصحراء، وأفرغت مناطق الحدود من الوجود الكردي، وجمعت الأكراد في مجمعات سكنية إجبارية، وهدمت جميع القرى القريبة من الحدود الإيرانية والتركية وكذلك جميع القرى المحيطة بمدينة كركوك.

لقد شاهدت بأم عيني تلك القرى المحيطة بكركوك، وقد بدت وكأن هزة أرضية شديدة ضربت المنطقة، وتركت القرى الكردية أكواما من الأحجار.
كما زج البعثيون بعشرات الآلاف من الأكراد في السجون وجرى إعدام المئات منهم، ومات في أقبية التعذيب في مديرية الأمن العامة وزنزانات هيئة التحقيق الخاصة في كركوك والموصل ودهوك والسليمانية وأربيل المئات منهم، وتحول الألوف من الشعب الكردي من عناصر منتجة  إلى عناصر مستهلكة بعد أن تركت مزارعها ومواشيها، وانهار اقتصاد كردستان.

لكن الشعب الكردي لم يهدأ على الضيم الذي ألحقه البعثيون بهم ، فلم يكد يمضِ عام واحد على انهيار الحركة الكردية عام 1975 حتى بادر إلى حمل السلاح من جديد ضد سلطة البعث، وشن البعثيون حرباً جديدة في كردستان بكل شراسة ووحشية منقطعة النظير.


172
من ذاكرة التاريخ
عودة البعثيين للسلطة من جديد
حامد الحمداني                                                           17/4/2015

تميز الوضع السياسي في العراق في ظل سلطة الرئيس عبد الرحمن عارف بالضعف الشديد تتأكله الصراعات بين الضباط الجيش المهيمنين على السلطة، وجعل النظام هشا تتقاذفه الرياح مما اقلق الامبرياليين الامريكيين والبريطانيين وجعلهم يستبقون الأحداث، ويدبرون انقلابهم ضد نظام عبد الرحمن عارف والاتيان بنظام بديل يضمن لهم مصالحهم في العراق والنفطية بوحه خاص معللين قلقهم بالعوامل التالية:
1 - ضعف سلطة عبد الرحمن عارف، وتنامي النشاط الشيوعي من جديد، وظهور توجهات لدى الحزب الشيوعي ، ولدى القيادة المركزية التي انشقت عن الحزب، للسعي لقلب الحكم بالقوة واستلام السلطة، مما أثار قلق الإمبرياليين  الذين وضعوا في الحسبان إمكانية إسقاط ذلك النظام الهش الذي يفتقر لأي سند شعبي، وتتآكله الصراعات بين الضباط المهيمنين على السلطة، وانشغالهم في السعي للحصول على المكاسب والمغانم، مما جعل الحكم في فوضى عارمة يمكن أن تُسّهل عملية الانقضاض عليه، وتوجيه الضربة القاضية له، وإسقاطه .
2 ـ محاولات القوى الناصرية لفرض الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة كانت تسبب للإمبرياليين المزيد من القلق، حيث تشكل الوحدة أكبر خطر على الوجود الإمبريالي في المنطقة، وعلى إسرائيل التي تمثل القاعدة المتقدمة للإمبرياليين، وسيفهم المسلط على رقاب العرب.                                                 
3 - قرار حكومة طاهر يحيى الصادر في 6 آب 967  باستعادة حقل الرميلة  الشمالي من شركات نفط الأمريكية والبريطانية، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، ومعروف أن هذا الحقل غني جداً بالنفط، مما أثار حنق شركات النفط الاحتكارية التي اعتبرته تحدياً جدياً لمصالحها النفطية.                                                                 
3 - عقد اتفاقية نفطية مع الاتحاد السوفيتي بتاريخ 24 كانون الأول 967  حيث تعهد الاتحاد السوفيتي بموجبها بتقديم كل المساعدات التقنية وتجهيزات الحفر لحقل الرميلة الشمالي، واستخراج النفط  وتسويقه لحساب شركة النفط الوطنية، وقد اعتبرت الإمبريالية هذا الأمر تغلغلاً سوفيتياً في هذه المنطقة الهامة التي تحتوي على نصف الخزين من الاحتياطات النفطية في العالم، واتخذت قرارها بالتصدي لهذا التغلغل المزعوم .

4ـ إقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية مع شركة إيراب الفرنسية                                                                                                                                                   للتنقيب والحفر واستخراج النفط في منطقة تزيد مساحتها على  11000 كم مربع تقع في وسط وجنوب العراق، وذلك بمعزل عن الاحتكارات النفطية البريطانية والأمريكية، حيث اعتبر ذلك تجاوزاً على مصالحهما النفطية في المنطقة.

5 - رفض حكومة عارف منح شركة [ بان أميركان ] الأمريكية امتيازاً لاستخراج الكبريت في العراق، حيث اكتشفت كميات كبيرة منه على نطاق تجاري مما أثار نقمة الحكومة الأمريكية.

كل هذه العوامل جعلت الإمبريالية تقرر قلب نظام عبد الرحمن عارف الهش، والإتيان بحكومة جربتها يوم دبرت انقلاب 8 شباط 963، تلك هي حكومة انقلابيي 8 شباط 1963 البعثية التي أعلنت الحرب الشعواء على الشيوعيين وكل الوطنيين، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وصفت كل منجزات الثورة التي ناضل الشعب العراقي من أجل تحقيقها.

وحيث أن حزب البعث لم يكن له القدرة على تنفيذ الانقلاب بمفرده، فقد استطاعت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا الاتصال بعبد الرزاق النايف ـ رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية وإبراهيم الداود ـ آمر الحرس الجمهوري، وسعدون غيدان ـ أمر دبابات القصر الجمهوري والاتفاق معهم للقيام بالانقلاب، وذلك بالتعاون مع حزب البعث، وكانت تلك خطوة تكتيكية من قبل الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين تستهدف امتلاك حزب البعث، الذي سبق وجربته فيما مضى،  لناصية  السلطة المطلقة في البلاد، ولذلك كان لا بد من تأمين مشاركة قيادات عسكرية متنفذة في أجهزة السلطة العارفية لتقود التحرك الإنقلابي، وأوعزت لهم ضرورة التعاون مع حزب البعث لضرورة كسب الشارع العراقي بدعوة امتلاك حزب البعث لقاعدة شعبية.   

كيف أُعدّ الانقلاب وَمنْ قاده؟

جرت عملية الإعداد للانقلاب من قبل الدوائر الإمبريالية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة حيث سعت تلك الدوائر لتعاون العناصر الموالية لكلا الجانبين. فهناك البعثيون على الجانب الأمريكي، وعبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداؤد وزمرتهما على الجانب البريطاني.
كان النايف يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، فيما كان الداؤد يشغل منصب آمر الحرس الجمهوري.
سارع الإمبرياليون بالاتصال بالانقلابيين عن طريق عميليهما الدكتور [ناصر الحاني ] سفير العراق في بيروت، و[بشير الطالب] الملحق العسكري في السفارة المذكورة، والذي سبق أن شغل قيادة الحرس الجمهوري في عهد عبد السلام عارف، حيث جرى التنسيق معهم  من خلال السعودية، وقد قام النايف والداؤد بالاتصال[ بسعدون غيدان] آمر كتيبة الدبابات المكلفة بحماية القصر الجمهوري، والملحقة بالحرس الجمهوري، واستطاعا جره إلى جانبهما.وبعد أن تم لهم تأمين اشتراك القادة الثلاثة في الانقلاب طلبوا من النايف الاتصال بالبعثيين ودعوتهم للمشاركة في الانقلاب.

وجد البعثيون فرصتهم الذهبية للعودة إلى الحكم من جديد، وأعلنوا على الفور استعدادهم للمشاركة في الانقلاب، وقد ورد ذلك على لسان عبد الرحمن عارف، في حديث له في اسطنبول في  18 شباط 1970، حيث صرح قائلا:
{ إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال، وإن شركات النفط العاملة في العراق والقوى التي تقف وراءها كانت قد سعت منذُ منحت الحكومة عقداً لشركة [إيراب] الفرنسية، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان ] الأمريكية، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف هو الرجل الذي يحتاجون إليه، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين الدكتور ناصر الحاني و بشير الطالب وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة لما جرى وليس مجرد شكوك }.
أما عبد الرزاق النايف فقد أكد دوره في ذلك المخطط بعد أن قام البعثيون بانقلابهم ضده بعد  مرور 13 يوماً من تنفيذ انقلاب 17تموز 968، ونفيه إلى خارج العراق، حيث عقد مؤتمراً صحفياً فضح فيه دوره ودور شركائه البعثيين في الانقلاب وعلاقاتهم بالإمبريالية حيث قال:
{ أنا لا أنكر علاقتي  بالأمريكيين لكنهم هم الذين فرضوا عليَّ التعاون مع البعثيين}.
وكان عرّاب الانقلاب الدكتور ناصر الحاني، الذي أصبح وزيراً للخارجية عند وقوع الانقلاب، وقد سارع البعثيون إلى اغتياله في أحد شوارع بغداد، ثم اتبعوه باغتيال النايف بعده في لندن، محاولين بعملهم هذا حجب نور الشمس بواسطة الغربال!!.

 أما اللواء الطيار حردان عبد الغفار التكريتي الذي كان له دور بارز في انقلاب 8 شباط 1963، وانقلاب 17ـ 30 تموز 1968، وشغل مناصب عليا في الجيش والحكومة كان منها رئاسة أركان الجيش، وقائد القوة الجوية، ووزيراً للدفاع، وعضوا في مجلس قيادة الثورة فقد ذكر في مذكراته بعد إقالته من مناصبه قائلاً:
{لو أني ُسئلت عن أسباب انقلاب 17 تموز، وانقلاب 30 تموز لما ترددت في الإشارة إلى واشنطن كجوابٍ عن الانقلاب الأول، وإلى بريطانيا كجواب عن الانقلاب الثاني، فقد أعلن الرئيس السابق [عبد الرحمن عارف] قبل انقلابنا بشهرين عن إجراء تعديلات في اتفاقيات نفطية عراقية لصالح شركة [إيراب] الفرنسية، وقد طلبني البكر عشية هذا التعديل، وشرح لي آثاره السيئة على علاقتنا ببريطانيا وأمريكا ، قائلا إن علينا أن نستغل هذا الوضع الجديد للقيام بعمل جدي لقلب حكومة عبد الرحمن عارف}.

وجرت اتصالات بيننا في العراق وبين [صدام حسين] الذي كان آنذاك في بيروت، وأخبرناه حينها بإقامة صلة بينه وبين السفارة الأمريكية، وبإجراء اتصال مع مؤسس حزب البعث  [ميشيل عفلق] بهذا الشأن، وبعد أسبوع أخبرنا صدام بأن الحكومتين الأمريكية والبريطانية أبديتا استعدادهما للتعاون معنا بشرطين:
الشرط الأول: أن نقدم تعهداً خطياً بالعمل وفق ما يُرسم لنا .
الشرط الثاني: أن نبرهن على قوتنا في الداخل بأن يقوم حزب البعث بتظاهرة ضد عبد الرحمن عارف، وبالفعل نظم الحزب التظاهرة، وكنت أسير في مقدمة المظاهرة [ والكلام لحردان التكريتي] مع أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش مع بعض الرفاق البعثيين الآخرين، وقد أخبرتنا السفارة الأمريكية في بيروت أنها على استعداد للتعاون معنا مقابل التساهل بعد نجاح الانقلاب في المسائل النفطية مع الشركات الأمريكية، ونحن موافقون على هذا الشرط .

 وبعد ثلاثة أيام جاءنا من يبلغنا من السفارة الأمريكية طالبا التعاون مع آمر الحرس الجمهوري [ إبراهيم الداود]، ومدير الاستخبارات العسكرية [ عبد الرزاق النايف]، وتطبيق الخطة التي وضعها النايف، وقد اتفقنا على تفاصيل الخطة بعد أن التقينا به  ليلة 12 تموز 1968، ونجح الانقلاب بأسرع مما كنا نتصور، ومن دون مقاومة، بل رفع عبد الرحمن عارف يداه استسلاماً بمجرد أطلاق ثلاث إطلاقات من الدبابات في الهواء.

وبعد 6 أيام على الانقلاب أعلمتنا السفارة خطورة استمرار عبد الرزاق النايف في سياسته بصفته رئيساً جديداً للوزراء من خلال حديثه في مؤتمره الصحفي الأول حيث كان قد صرح  بأن حكومته ستتخذ اتجاهاً مستقلاً في قضايا النفط، وأنها ستعيد النظر في كل الاتفاقيات المعقودة بين حكومة العراق ومجمل الشركات النفطية، وقد عبرت السفارة البريطانية عن استعداها للتعاون إلى أبعد حد لإسقاط عبد الرزاق النايف، وإعطاء حزب البعث ومن يمثله من العسكريين سلطات مطلقة على العراق، ولذلك دبرنا انقلاباً جديداً في 30 تموز، وجرى إقصاء رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف، ووزير الدفاع إبراهيم الداود، ورئيس أركان الجيش، ومجموعة من الوزراء الموالين للنايف والداودي}.

وهكذا نجح الانقلاب الذي خططت له السفارة البريطانية لصالح الشركات النفطية البريطانية، ونفذه مجموعة من البعثيين العسكريين برئاسة أحمد حسن البكر، وبهذا ألغينا اتفاقية شركة [ إيراب] الفرنسية مع الرئيس السابق عبد الرحمن عارف، وأحقيتها في التنقيب عن النفط في شمال سامراء، كما ألغينا صفقة طائرات بين الحكومة السابقة والحكومة الفرنسية بإشارة من السفارة البريطانية في بغداد، كما جرى تعيين [سعدون حمادي]، الموظف في شركة نفط العراق، وزيراً للنفط بطلب من السفارة كذلك.   
     
كيف نفذ انقلاب 17 تموز 968:
سارع عبد الرزاق النايف إلى إعداد خطة تنفيذ الانقلاب بالاشتراك مع إبراهيم عبد الرحمن الداؤد، وسعدون غيدان، واحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، وأنور عبد القادر الحديثي، حيث جرى الاتفاق فيما بينهم على تفاصيل خطة الانقلاب، معتمدين على كتيبة الدبابات التي كانت في القصر تحت إمرة سعدون غيدان، وجرى الاتفاق على أن يأخذ  سعدون غيدان كل من أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي بسيارته الخاصة إلى داخل القصر الجمهوري ليقوموا جميعاً بالسيطرة على كتيبه الدبابات فجر يوم 17 تموز 1968، فيما يقوم عبد الرزاق النايف بالسيطرة على وزارة الدفاع، وأنيطت مهمة السيطرة على دار الإذاعة إلى إبراهيم الداؤد.

وفي فجر ذلك اليوم قام سعدون غيدان بإدخال الضباط المذكورين الذين يمثلون حزب البعث بسيارته الخاصة، وتم لهم على الفور السيطرة على كتيبة الدبابات المذكورة، وأحاطوا بها القصر، وقاموا بإطلاق3 إطلاقات من مدافع الدبابات كخطوة تحذيرية لعبد الرحمن عارف، الذي استيقظ من نومه مذعوراً، وحالما وجد القصر مطوقاً بالدبابات، أعلن استسلامه على الفور، وطلب تسفيره إلى خارج العراق.

وفي الوقت نفسه تحرك عبد الرزاق النايف نحو وزارة الدفاع  بمساعدة عدد من الضباط الموالين له، وسيطر على الوزارة دون عناء، فيما توجه الداؤد إلى دار الإذاعة بعدد من الدبابات وسرية من الحرس الجمهوري وسيطر عليها دون قتال، و قام بإذاعة البيان الأول للانقلاب في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم 17 تموز 1968.

حاول الإنقلابيون في بيانهم هذا التغطية على الأهداف الحقيقية للانقلاب وجرى ذلك تحت شعار حل القضية الكردية، وإحلال السلام في كردستان، وإقامة الديمقراطية في البلاد، وإتاحة الفرص المتساوية للمواطنين، وانتصار حكم القانون، والتأييد الحازم للقضية الفلسطينية داعين إلى تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران، ولم ينسَ البيان التهجم على الحكم السابق، واتهامه بشتى التهم، من رجعية  وعمالة وغيرها، وكل ذلك جرى بموجب نصائح وإرشادات خبراء غربيين متمرسين في النشاطات التآمرية السياسة.

وخلال الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تم للانقلابيين السيطرة على البلاد، وانتهى كل شيء،  وجرى اعتقال رجالات النظام العارفي وعلى رأسهم رئيس الوزراء [طاهر يحيى ]، وجرى على الفور تسفير رئيس الجمهورية [عبد الرحمن عارف] بطائرة عسكرية إلى لندن، حيث كانت زوجته تعالج هناك، ثم انتقل بعد ذلك إلى تركيا واتخذها مقراً لإقامته لسنين عديدة.
وبعد مرور تلك السنوات تقدم عبد الرحمن عارف بالتماس لحكومة البعث طالبا السماح له بالعودة على العراق، والعيش كأي مواطن عادي  متعهداً بالامتناع عن ممارسة أي عمل سياسي، ولكونه لا يشكل خطراً على النظام، فقد وافق البعثيون على طلبه بالعودة إلى العراق، وتقرر صرف راتبه التقاعدي. أما الشعب العراقي فقد أستقبل الانقلاب ببالغ القلق والاكتئاب، فالوجوه هي نفسها التي أغرقت البلاد بالدماء إثر انقلاب 8 شباط عام  1963.

الانقلابيون يتقاسمون المناصب
 بعد أن أستتب الأمر للانقلابيين سارعوا إلى توزيع المناصب الهامة في البلاد، فأعلنوا عن تعيين [أحمد حسن البكر] رئيساً للجمهورية، فيما أصبح [عبد الرزاق النايف] رئيساً للوزراء، كما عُيين [إبراهيم الداؤد] وزيراً للدفاع، وجاءت وزارة النايف على الوجه التالي 
 1 –عبد الرزاق النايف   ـ رئيساً للوزراء
2 –إبراهيم عبد الرحمن الداؤد ـ وزيراً للدفاع
3 –ناصر الحاني ـ وزيراً للخارجية
4 – صالح مهدي عماش ـ وزيراً للداخلية 
5 – عزت مصطفى ـ وزيراً للصحة
6- مهدي حنتوش ـ وزيراً للنفط
7 –جاسم العزاوي ـ وزيراً للوحدة
8 – إحسان شيرزاد ـ وزيراً للأشغال
9 – صائب مولود مخلص ـ وزيراً للمواصلات
10 –ذياب العلكاوي ـ وزيراً للشباب
11- صالح كبه ـ وزيراً للمالية 
12- حمد يعقوب السعيدي ـ وزيراً للتخطيط
13 – طه الحاج الياس ـ وزيراً للإرشاد
14ـ عبد المجيد الدجيلي ـ وزير الإصلاح الزراعي
15 ـ خالد مكي الهاشمي ـ وزيراً للصناعة
16 ـ محمود شيت خطاب ـ وزيراً للبلديات
17 ـ عبد الله النقشبندي ـ وزيراً للاقتصاد
18ـ عبد الكريم زيدان ـ وزيراً للأوقاف
19 ـ أحمد عبد الستار الجواري ـ وزيراً للتربية
20 ـ أنور الحديثي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية
21 ـ محسن القزويني ـ وزيراً للزراعة
22 ـ رشيد الرفاعي ـ وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية
23 ـ محسن ديزئي ـ وزيراً بلا وزارة
24 ـ كاظم معله  ـ وزيراً بلا وزارة
25 ـ ناجي خلف ـ وزيراً بلا وزارة
وبموجب هذه التشكيلة أصبح للبعثيين ثمانية مقاعد وزارية، فيما شغل الأكراد ثلاثة مقاعد، والإخوان المسلمون مقعدين، وشغل بقية المقاعد وعددها اثنا عشر مقعداً عناصر من مختلف الاتجاهات القومية والرجعية.
أما المراكز العسكرية الحساسة فقد جرى توزيعها على الوجه التالي:
1 ـ سعدون غيدان ـ قائداً للحرس الجمهوري ، وقد كسبه البعثيون إلى جانبهم .
2 ـ حردان التكريتي ـ رئيساً للأركان، وقائداً للقوة الجوية. ( بعثي)
3 ـ حماد شهاب ـ قائداً للواء المدرع العاشر، وهو أقرب واخطر وحدة عسكرية على بغداد وهو من العناصر البعثية أيضاً.
بدأ البعثيون منذُ الساعات الأولى للانقلاب يعملون بأقصى جهدهم لتثبيت مواقعهم في صفوف الجيش، واستغل حردان التكريتي فرصة سفر الداؤد إلى الأردن لتفقد القوات العراقية هناك، وبكونه رئيساً للأركان ، بإجراء مناقلات لعدد كبير من الضباط الموالين لحزب البعث، تمهيداً لمخططهم الهادف إلى إزاحة كتلة النايف، واحتكار الحكم لحزب البعث.

الصراع بين جناحي البعث والنايف
منذُ اليوم الأول للانقلاب، بدت بوادر الخلافات بين كتلتي البعث والنايف فلم يكن أحدهما مرتاحاً لوجود الآخر في السلطة، إلا أن الظروف التي تحدثنا عنها سابقاً، وإرادة الإمبرياليين، هي التي جمعتهم في هذه التركيبة غير المتجانسة .
كانت صحيفة البعث [ الجمهورية ]، وصحيفة النايف [ الثورة ] على طرفي نقيض، وبلغ ذلك التناقض حداً أضطر فيه وزير الإرشاد إلى إصدار قرار، في 24 تموز بدمج الصحيفتين بناء على أمر النايف، وطرد المحررين البعثيين من الصحيفة، كما قرر النايف إبعاد البعثيين من دار الإذاعة ، ومنعهم من الدخول إليها، واستغل البعثيون قرارات النايف الاقتصادية، والتي صبت كلها بشكل سافر في خانة الإمبريالية الأمريكية، واتخذوها سلاحاً ضده.

لقد كانت باكورة توجهات النايف قد كشفت في الأيام الأولى لوقوع الانقلاب الارتباطات الوثيقة بالسياسة الأمريكية والبريطانية،من خلال الإجراءات التي اتخذها في الحقل الاقتصادي، وفي المقدمة منها الثروة النفطية، وقد تضمنت تلك الإجراءات ما يلي:
1 ـ إلغاء عقد شركة [ إيراب ] الفرنسية للنفط، والتي كانت قد عقدته حكومة عبد الرحمن عارف قبل وقوع الانقلاب.
2 ـ إلغاء قرار إعادة حقل الرميلة الشمالي إلى شركة النفط الوطنية.
3 ـ إلغاء شركة النفط الوطنية العراقية.
4 ـ محاولة منح شركة [ بان أميركان] امتياز استغلال الكبريت.


حزب البعث يحسم الصراع ويستولي على كامل السلطة

منذُ اليوم الأول لانقلاب 17 تموز 968  كان حزب البعث قد أتخذ قراره بإزاحة كتلة النايف واستلام السلطة كاملة، وقد أشرنا إلى أن الحزب كان قد أستقطب كل من [حماد شهاب ] قائد اللواء المدرع العاشر المكلف بحماية بغداد، و[سعدون غيدان] الذي أصبح قائداً للحرس الجمهوري بعد نجاح الانقلاب، هذا بالإضافة إلى تولي حردان التكريتي منصب رئاسة الأركان، وقيادة القوة الجوية، وتولي صالح مهدي عماش وزارة الداخلية، وفي المقدمة من كل ذلك تولي [احمد حسن البكر] رئاسة الجمهورية، ولذلك فقد كان الجو مهيئاً لحزب البعث لكي يضرب ضربته ويزيح كتلة النايف من طريقه.

وجاء سفر [إبراهيم الداؤد ] وزير الدفاع إلى الأردن لتفقد القوات العراقية المتواجدة في الأردن، فرصة لا تضيع للانفراد بالنايف،حيث قرر حزب البعث توجيه ضربته الخاطفة له في 30 تموز، ولما يمضي على الانقلاب سوى 13 يوماً، فقد تحرك اللواء العاشر المدرع، بقيادة اللواء حماد شهاب نحو بغداد، واحتل المرافق والنقاط الرئيسة فيها وتمكن [ صدام حسين ] وبمعيته مجموعة من الضباط من اعتقال النايف وتسفيره على متن طائرة عسكرية إلى خارج العراق، وجرى حل مجلس الوزراء، وتأليف وزارة بعثية جديدة، كما تم تأليف مجلس دعوه [ مجلس قيادة الثورة] ومنحوه صلاحيات واسعة، تشريعية وتنفيذية، وجاء تأليفه على الوجه التالي: (8)
1 ـ أحمد حسن البكر ـ رئيساً للمجلس.
2ـ صدام حسين التكريتي ـ نائباً للرئيس.
3 ـ سعدون غيدان ـ عضواً
4 ـ عزت الدوري ـ عضواً
 5 ـ طه ياسين رمضان ـ عضواً
6 ـ عزت مصطفى ـ عضواً
ثم أضاف البعثيون إليه أعضاء جدد في 9 تشرين الأول من نفس العام ليصبح عدد هم 14 عضواً ، أما الأعضاء الذين  جرت إضافتهم لمجلس قيادة الثورة فهم :
1ـ حردان التكريتي  ـ عضواً .
2ـ صالح مهدي عماش ـ عضواً .
3ـ حماد شهاب  ـ عضواً.
4ـ عبد الكريم الشيخلي ـ عضواً .
5ـ عبد الله سلوم السامرائي ـ عضواً.
6 ـ شفيق الكمالي ـ عضواً .
7 ـ عبد الخالق السامرائي ـ عضواً.
8 ـ مرتضى الحديثي ـ عضواً.
 يتضح من تشكيلة المجلس، ومجلس الوزراء، والقيادة القطرية للحزب أن العنصر السني كانت له الأغلبية المطلقة [ حوالي 84,9% ] فيما تراجع العنصر الشيعي إلى [ 5.7 % ]، وكانت أغلبية القيادات من محافظتي صلاح الدين والرمادي السنيتين في بادئ الأمر، ثم جرى بعد أن أحكم الثنائي أحمد حسن البكر وصدام حسين سيطرتهما المطلقة على الحكم تقليص دور القيادات من محافظة الرمادي وتركيزها بيد القيادات من محافظة صلاح الدين  وبوجه خاص من تكريت، ثم ما لبثت السلطة  المطلقة أن أصبحت بيد صدام وعائلته فقط .
 
  موقف الشعب من انقلاب 17 ـ 30 تموز 968
قابل الشعب العراقي انقلاب 17ـ 30 تموز بالقلق وعدم الارتياح،  بسبب التاريخ الدموي للبعثيين عندما جاءوا إلى الحكم إثر انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، واغرقوا البلاد بالدماء، واستباحوا حرمات المنازل وزجوا بمئات الألوف من الوطنيين في غياهب السجون، ومارسوا أبشع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ضدهم، وفصلوا عشرات الألوف من أعمالهم ووظائفهم ومدارسهم وكلياتهم، وصفوا كل مكاسب ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.
وفي الوقت نفسه شعر البعثيون بالضعف، بسبب ابتعاد جماهير الشعب عنهم، ودفعهم خوفهم من فقدان السلطة إلى اللجوء إلى الأساليب الوحشية والعنيفة لإخافة القوى العسكرية والسياسية، ومنعها من القيام بأي تحرك ضد سلطتهم، وقد توجوا عملهم ذلك بحملة إعدامات وحشية لعدد من المواطنين ،بتهمة التجسس للأجنبي !!، وتعليقهم في ساحة التحرير، فقد اعدم البعثيون 29 ضابطاً وضابط صف رمياً بالرصاص بالإضافة إلى 12 مدنياً أُعدموا شنقاً.
كما أقدم البعثيون على إعدام 77 ضابطاً، في 7 شباط 1969، بتهمة الاشتراك في محاولة انقلابية  بقيادة شريكهم في انقلاب 8 شباط 1963الزعيم الركن المتقاعد عبد الغني الراوي المعروف بكرهه الشديد للشيوعية، وقد قامت السفارة السوفيتية ببغداد بتقديم معلومات تفصيلية ملموسة حول خطة محكمة للقيام بانقلاب عسكري ينطلق من  اللواء العاشر المدرع الذي كان قد اتخذ من ميدان لسباق الخيل في المشتل ببغداد ثكنة عسكرية له ، والذي تمكن من الهرب إلى إيران.
لقد جرت حملة الإعدامات، بعد محاكمات صورية سريعة، من قبل طه ياسين رمضان، الملقب بالجزراوي، ولقبه الشعب العراقي بالجزار وبمعيته عدد من أعضاء القيادة القطرية للحزب، وخلال دقائق كانت المحاكمات تجري وتصدر قراراتها، وتنفذ أحكام الإعدام بالضباط المتهمين بالمحاولة الانقلابية المزعومة، وقد ظهر بعد ذلك أن العديد من أولئك المعدومين ثبت عدم تورطهم بالمحاولة المزعومة، وتم إرسال رسائل اعتذار إلى ذويهم ! وبصرف النظر عن صحة أو كذب وقوع تلك المحاولة، فقد كان هدف البعثيين إفهام القوى السياسية والعسكرية أن حزب البعث سوف يضرب بيدٍ من حديد كل من يفكر بالتصدي لحكمهم .



173
من ذاكرة التاريخ
عبد السلام عارف يقود انقلابا عسكريا
ويسقط نظام البعث
حامد الحمداني                                                             15/4/2015

في 11 شباط 1963 ، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف ، الذي نصبوه رئيساً للجمهورية  صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي  أمين سر القيادة القطرية للحزب ، إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف ، أو إزاحته من منصبه قائلاً :
{ إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب ، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي خلال اجتماع القيادة في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه، لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع سارع حازم جواد لمقابلة عبد السلام عارف، وأخبره بما دار في الاجتماع ، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}.

كان الخلاف الثاني بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم  و برز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من  ذلك أدى الأمر إلى تعميق الخلافات والصراعات فيما بين أعضاء القيادة .

وفي شهر حزيران 1963  ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام  وراحة المواطنين حيث كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب  بشكل عام، والشيوعيين منهم بوجه خاص قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم وإجرامهم .

إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [ منذر الونداوي ] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع، لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره. وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش وعلى رأسهم عبد السلام عارف إلى مرحلة عالية من التوتر، وبدأ عبد السلام عارف يفكر في قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.
وجاءت الحرب التي بدأها البعثيون في كردستان في 1 حزيران 1963 لتزيد وضعهم حراجة، وتعمق الخلافات فيما بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه ، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم، وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم.
حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد، وطالب شبيب، التخلص من علي صالح السعدي وإخراجه من الحكومة، ومجلس قيادة الثورة ، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية لمثل هذا العمل في ذلك الوقت.

ففي 13 أيلول عُقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من: هاني الفكيكي، وحمدي عبد المجيد ، ومحسن الشيخ راضي ، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وكريم شنتاف بتلك الانتخابات.

 وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر، فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الإدعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين.

 وفي الفترة ما بين 5ـ23 تشرين الأول جرى عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي وحمود الشوفي، حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس وقائد الحزب  ميشيل عفلق، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي وحول المزارع التعاونية للفلاحين.

ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي و الشوفي ] داخل المؤتمر، وجعلته يصرح علناً [ هذا لم يعد حزبي].
وبعد أن ثبت علي صالح مركزه داخل القيادتين القطرية والقومية  بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، و أخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقفه، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب.

 فقد وقف الونداوي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي  بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد، وطالب شبيب، وطاهر يحيى ـ رئيس أركان الجيش ـ وحردان عبد الغفار التكريتي ـ قائد القوة الجوية ، وعبد الستار عبد اللطيف ـ وزير المواصلات، ومحمد المهداوي ـ قائد كتيبة الدبابات الثالثة، إلى الجانب المعارض لجناح السعدي، بينما وقف أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش على الحياد.
 لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، وأنهما يؤيدان معارضيه في الخفاء.
كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية والناصرية والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين، فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف واشتداد الصراع بين الجناحين وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف السعدي نفسه عندما حاول جناح [ جواد و شبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف.

وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 963 1، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما عيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية، وكان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي.

 ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة، ومجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.
ففي 1 تشرين الثاني  صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم وأصرّ على البقاء في منصبه في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام .

وفي11 تشرين الثاني عُقد مؤتمر قطري استثنائي لانتخاب ثمانية أعضاء جدد للقيادة القطرية لكي يصبح العدد 16 عضواً  بموجب النظام الداخلي الذي تبناه المؤتمر القومي السادس [المادة 38 المعدلة من النظام الداخلي]، غير أنه ما أن بُوشر بإجراء الانتخاب حتى داهم 15 ضابطاً مسلحاً قاعة الاجتماع بقيادة العقيد محمد المهداوي الذي بدأ يتحدث أمام المؤتمرين بعصبية قائلاً: {لقد اخبرني فيلسوف الحزب الرفيق ميشيل عفلق أن عصابة استبدت بالحزب في العراق، ومثلها في سوريا، وأن العصابتين وضعتا رأسيهما معاً، وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس، ولذلك يجب القضاء عليهما }.

 كما هاجم المهداوي قرارات المؤتمر القومي السادس واصفاً إياه بمؤامرة ضد الحزب، وطالب بانتخاب قيادة قطرية جديدة  تحت تهديد أسلحة الضباط المرافقين له.
تظاهر المؤتمرون باختيار قيادة جديدة، واشترك الضباط بالتصويت، علماً بان بعضهم لم يكن بعثياً على الإطلاق، وجاء على رأس القيادة الجديدة [حازم جواد ] بالإضافة إلى فوز أنصاره، غير أن المهزلة لم تنتهِ إلى هذا الحد، فقد أسرع الضباط إلى اعتقال علي صالح السعدي، ومحسن الشيخ راضي، وحمدي عبد المجيد، وهاني الفكيكي، وأبو طالب الهاشمي، الذي كان يشغل منصب نائب القائد العام للحرس القومي، وجرى تسفير الجميع على متن طائرة عسكرية إلى مدريد.

3 ـ امتداد الصراع إلى الشارع :
هكذا أنفجر الوضع المتأزم في ذلك اليوم، وامتد الصراع إلى الشارع، ففي صباح يوم 13 تشرين الثاني اندفعت أعداد غفيرة من مؤيدي علي صالح السعدي، ومن الحرس القومي إلى شوارع بغداد، وأقاموا الحواجز في الطرق، واحتلوا مكاتب البريد ، والبرق والهاتف ، ودار الإذاعة وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة فيها، و أسرع الونداوي إلى قاعدة الرشيد الجوية ومعه طيار آخر، وامتطيا طائرتين حربيتين، وقاما بقصف القاعدة المذكورة، ودمرا [5 طائرات] كانت جاثمةعلى ارض المطار .

وفي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم أذاع وزير الدفاع  صالح مهدي عماش بياناً من دار الإذاعة حذر فيه أحمد حسن البكر من أن هناك محاولة لجعل البعثيين يقتلون بعضهم بعضاً وهذا ما لا يفيد إلا أعداء الحزب، كما وجه نداءً للعودة إلى العلاقات الرفاقية وإلى التفاهم  والأخوة.

وفي تلك الأثناء فرضت قوات الحرس القومي سيطرتها على أغلب مناطق بغداد، ورفض البكر وعماش إعطاء الأمر إلى الجيش بالتدخل، وأصبحت قيادة فرع بغداد للحزب هي التي تقود الحزب في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ حكم البعث، وطالبت تلك القيادة بإعادة السعدي ورفاقه إلى العراق وممارسة مهامهم الحزبية والرسمية، غير أنها لم تفلح في ذلك  واضطرت إلى الموافقة على إحالة القضية إلى القيادة القومية لتبت فيها.

وفي مساء ذلك اليوم  13 تشرين الثاني  وصل إلى بغداد مؤسس الحزب  [ميشيل عفلق ] والرئيس السوري [ أمين الحافظ] بالإضافة إلى عدد آخر من أعضاء القيادة القومية للحزب. غير أن عبد السلام عارف لم يجر لهما استقبالاً رسمياً كما يقتضي البروتوكول والعرف الدبلوماسي، كما لم يحاول الالتقاء بالوفد، مما جعل الوفد يحس أن هناك جو غير طبيعي في بغداد، وأن لابد من أن يكون هناك أمراً يدبر ضد حكم حزب البعث.

حاول ميشيل عفلق ورفاقه في الوفد التصرف بشؤون العراق حيث أصدروا  قراراً بنفي حازم جواد، وزير الداخلية، وطالب شبيب، وزير الخارجية، متهمين إياهما بأنهما أساس الفتنة، كما أصدر الوفد قراراً آخر بحل القيادة القطرية التي جرى انتخابها تحت تهديد الضباط الخمسة عشرة، وكذلك القيادة القطرية التي كان يقودها علي صالح السعدي، وأعلن عن تسلم القيادة القومية للمسؤولية لحين انتخاب قيادة قطرية جديدة.

هكذا إذاً كان تصرف عفلق والوفد الموافق له تجاهلاً لعبد السلام عارف بصفته رئيساً للجمهورية، كما أن الرابطة التي كانت تجمع الضباط البعثيين بالقيادة المدنية قد تفككت، ودبت الخلافات العميقة بينهم، وسارع الجناح المدني في الحزب يتحدى من اسماهم بأعداء الحزب، ودعا اتحاد العمال الذي يسيطر عليه الحزب إلى سحق رؤوس البرجوازيين الذين خانوا الحزب، وإعدام أصحاب رؤوس الأموال الذين هربوا أموالهم إلى الخارج.

 كما دعوا إلى تأميم كافة المشاريع الصناعية في البلاد، وكانت تلك الاندفاعات لجناح الحزب المدني كلها  تصب في خانة عبد السلام عارف الذي صمم على إزاحة حزب البعث عن السلطة، وأحكام قبضته على شؤون البلاد دون منازع أو شريك، بعد أن وصلت حالة الحزب إلى أقصى درجات التمزق والتناحر، وبعد أن عمت الفوضى أرجاء البلاد، وبلغ استياء ضباط الجيش الممسكين بالمراكز القيادية في الجهاز العسكري من تصرف القيادة البعثية مداه، قرر عبد السلام عارف بالتعاون مع تلك العناصر العسكرية توجيه ضربته القاضية لحكم البعث، وإنهاء سيطرتهم على مقدرات البلاد،  فقد استغل عبد السلام تلك الظروف البالغة الصعوبة التي مرّ بها حزب البعث، وبالتنسيق مع عدد من أولئك الضباط  وكان منهم :
1-عبد الرحمن عارف، شقيقه ، قائد الفرقة الخامسة .
2 – الزعيم الركن عبد الكريم فرحان، قائد الفرقة الأولى .
3 – العقيد سعيد صليبي، آمر الانضباط العسكري.
4 – الزعيم الركن الطيار حردان التكريتي، قائد القوة الجوية.
5 – اللواء الركن طاهر يحيى، رئيس أركان الجيش .
هذا بالإضافة إلى العديد من الضباط الآخرين ذوي الميول القومية.

وفي فجر يوم 18 تشرين الثاني 963  قامت طائرات عسكرية بقصف مقر القيادة العامة  للحرس القومي في الأعظمية، ثم تقدمت الدبابات، والمصفحات لتستولي على كافة المرافق العامة في بغداد،  ومقرات الحرس القومي، وحاول البعثيون مقاومة الانقلاب في بادئ الأمر، إلا أن الأمر كان قد حسم في نهاية النهار، فلم يكن باستطاعة الحرس القومي، وهو يحمل الأسلحة الخفيفة أن يقاوم الدبابات والمصفحات والصواريخ والطائرات.

 سارع أفراد الحرس  إلى إلقاء سلاحهم، والتخلص منه، برميه في الحقول والمزارع والمزابل بعد أن هددهم النظام العارفي بإنزال العقاب الصارم بهم  إن هم استمروا على حمل السلاح أو إخفائه، وأجرى الجيش مداهمات لمساكن أفراد الحرس القومي بحثاً عن السلاح، كما جرى إلقاء القبض على أعداد كبيرة من البعثيين لفترة محدودة من الزمن، حيث تمكن الجيش من إحكام سيطرته على البلاد، وأخذ النظام فيما بعد يطلق سراح البعثيين المعتقلين  في حين بقي السجناء والموقوفين الشيوعيين والديمقراطيين في السجون، وجرى تنفيذ أحكام بالإعدام، كانت قد أصدرتها المحاكم العرفية على عهد البعثيين، بعد تسلم عبد السلام عارف زمام الأمور في البلاد، فقد كان العداء للشيوعية هو الجامع الذي جمع البعثيين والقوميين دون استثناء، ربما شيء واحد فقط قد تغير، هو تخفيف حملات التعذيب أثناء التحقيقات مع المعتقلين، واستمرت المحاكم العرفية تطحن بالوطنيين طيلة عهد عارف.

وفي مساء يوم الثامن عشر من تشرين الثاني 963 ، تلاشت مقاومة حزب البعث وحرسه القومي في أنحاء البلاد، وتم لعبد السلام عارف وقادته العسكريين السيطرة التامة على البلاد، وبدأ على الفور بترتيب البيت، مانحاً نفسه صلاحيات استثنائية واسعة لمدة سنة تتجدد تلقائياً إذا اقتضى الأمر ذلك، وعمد عبد السلام إلى الاعتماد على الروابط العشائرية، وخاصة عشيرة [الجميلات ]، فقد عين شقيقه [عبد الرحمن عارف] وكيلاً لرئيس أركان الجيش، رغم كونه ليس ضابط أركان. 

 كما عين صديقه، وأبن عشيرته [ سعيد صليبي ] قائداً لحامية بغداد، فيما أعلن عارف نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ثم رئيساً لمجلس قيادة الثورة، كما جاء عارف باللواء العشرين الذي كان يقود أحد أفواجه عند قيام ثورة 14 تموز، واتخذ منه حرسه الجمهوري الخاص به حيث اغلب عناصره من عشيرة الجميلات وغيرها من عشائر محافظة الأنبار المؤيدة له.

بدأ عبد السلام عارف حكمه معتمداً على ائتلاف عسكري ضم الضباط القوميين والناصريين، والضباط البعثيين الذين انقلبوا على سلطة البعث، فقد أصبح [ طاهر يحيى ] رئيساً للوزراء، و[حردان التكريتي] نائباً للقائد العام للقوات المسلحة، ووزيراً للدفاع، فيما عيين [أحمد حسن البكر] نائباً لرئيس الجمهورية والزعيم [ رشيد مصلح ] وزيراً للداخلية وحاكماً عسكرياً عاماً، ويلاحظ أن هؤلاء جميعاً من منطقة تكريت، ومن العناصر البعثية.

أما العناصر القومية والناصرية التي شاركت في الحكم فكان على رأسها الزعيم الركن[محمد مجيد] مدير التخطيط العسكري والزعيم الركن[عبد الكريم فرحان] الذي عيين وزيراً للإرشاد و[عارف عبد الرزاق] الذي عيين قائداً للقوة الجوية،والعقيد الركن [هادي خماس] مديراً لجهاز الاستخبارات العسكرية، والمقدم [صبحي عبد الحميد] الذي عيين وزيراً للخارجية.

عبد السلام عارف يبعد العناصر البعثية عن الحكم:
رغم تعاون الضباط البعثيين مع عبد السلام عارف في انقلاب 18 تشرين الثاني 963 ، ضد قيادتهم المدنية، واشتراكهم في حكومته الانقلابية، إلا أن عارف لم يكن يطمأن لوجودهم في السلطة، ولم يكن إشراكهم في الحكم من قبله سوى كونه عمل تكتيكي من أجل نجاح انقلابه ضد سلطة البعث وتثبيت حكمه، لكنه كان في نفس الوقت يتحين الفرصة للتخلص منهم ، وقد ساعده في ذلك الكره الشعبي الواسع النطاق للحكام البعثيين بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق الوطنيين طيلة فترة حكمهم، وهكذا وبعد أن تسنى لعارف تثبيت أركان حكمه بدأ بتوجيه الضربات للعناصر البعثية تلك.

 ففي 4 كانون الأول 964 أعفى عارف المقدم [عبد الستار عبد اللطيف] من وزارة المواصلات، وفي 16 منه أزاح عارف [ حردان التكريتي ] من منصبه كقائد للقوة الجوية. وفي 4 كانون الثاني 64 ألغي عارف منصب نائب رئيس الجمهورية وتخلص من [احمد حسن البكر] الذي كان يشغل المنصب، وعينه سفيراً بديوان وزارة الخارجية.

وفي 2 آذار 964، أعفى عارف [ حردان التكريتي ] من منصب وزير الدفاع، وعين محله طاهر يحيى، بالإضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء، ولم يبقَ إلا رشيد مصلح التكريتي، وزير الداخلية والحاكم العسكري العام، الذي ربط مصيره بمصير عارف، مهاجماً أعمال البعثيين وجرائمهم، وبذلك أصبح الحكم بقيادة عبد السلام عارف، وبرز الناصريون في مقدمة النظام، وبدأ النظام يقلد الجمهورية العربية المتحدة في أساليبها وخططها التنموية، حيث أقدمت الحكومة على تأميم المصارف، وشركات التأمين مع 32 مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، وخصصت الدولة 25% من الأرباح للعمال والموظفين العاملين فيها، وقررت تمثيلهم في مجالس الإدارة.

 كما أقدم النظام الجديد على تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز 964 ، على غرار الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة، ودُعيت القوى السياسية في البلاد إلى الانضواء تحت راية هذا الاتحاد، وقد أستهوى هذا الإجراء، وتلك التحولات الاقتصادية جانباً من قيادة الحزب الشيوعي، حيث برزت دعوة لحل الحزب والانضمام إلى الاتحاد المذكور.

 لكن هذا الاتجاه لم ينجح في جر الحزب إليه  بعد أن وقفت العناصر الحريصة على مصلحة الحزب ضد دعوة الحل والانضمام للاتحاد الاشتراكي، وبسقوط حكم حزب البعث انزاح الكابوس الذي خيم على الشعب العراقي بمختلف أطيافه، وخفت الحملات الفاشية التي كان يمارسها الحرس القومي المنحل، وتنفس المواطنون الصعداء، فقد كان سقوط حكم البعث عيداً حقيقياً للشعب بعد تلك الجرائم الوحشية التي ارتكبوها بحق الشيوعيين والديمقراطيين،  والتي ذهب ضحيتها عشرات الألوف، على الرغم من أن الانقلابيين الجدد هم في واقع الحال شركاء البعث في انقلاب 8 شباط وكل الجرائم التي ارتكبت في تلك الفترة من حكم البعث.










174
من ذاكرة التاريخ
بعد نجاح انقلاب 8 شباط 1963   
القضية الكردية رحلة نحو المجهول

حامد الحمداني                                                           13/5/2015
أحدث نجاح انقلاب 8 شباط 1963 وجوماً كبيراً وقلقاً شديداَ لدى الغالبية العظمى من الشعب العراقي، إذا استثنينا قيادة وقواعد وجماهير الحزب الديمقراطي الكردستاني الذين خرجوا في مظاهرة في في مختلف المدن الكردية يباركون نجاح الانقلاب ويعبرون عن فرحتهم بسقوط نظام عبد الكريم قاسم، وسارع سكرتير الحزب إبراهيم احمد إلى إرسال برقية للانقلابيين يبارك فيه الانقلاب قائلاً: {اليوم تعانقت الثورتان .......إلخ}!!.
 وكان الطلاب الأكراد في بغداد قد شاركوا في الإضراب الذي أعلنه البعثيون والقوميون قبيل الانقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم، وثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.

ومن المؤسف جداً أن تحصل القناعة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بأن إقامة نوع من التعاون مع تلك القوى البعثية والقومية لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم  يمكن أن يحقق لهم آمالهم في نيل الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي!!.

كان على قيادة الحزب والحركة الكردية أن تدرك النوايا الحقيقية لحزب البعث تجاه الشعب الكردي، ولاسيما وأن البيانات التي أصدرتها الجبهة القومية التي ضمت حزب البعث والقوميين قبل الانقلاب تنضح منها الشوفينية والكراهية للشعب الكردي وقضيتهم العادلة، فقد أصدرت الجبهة القومية التي ضمت البعثيين والقوميين بياناً في أواخر أيلول 1961 حول موقفهم من الحركة الكردية بعنوان:
[ بيان حول التطورات الأخيرة في شمال العراق ] وجاء في البيان :
{منذُ "الانحراف الرجعي" الذي قاده عبد الكريم قاسم بمعونة الحزب الشيوعي و"القوى الشعوبية" و"الاستعمار وعملائه" لعزل العراق عن الحركة التقدمية العربية، ظهرت في شمال العراق نزعات عنصرية مشبوهة تدعو زيفاً باسم الأكراد ومصلحتهم لتجزئة العراق، وتفتيت وحدته النضالية، واليوم ومنذُ الحادي عشر من هذا الشهر تجري المعارك المسلحة بين قوات الجيش ورجال العشائر الكردية الذين أعلنوا العصيان المسلح، ورفعوا شعار تجزئة العراق. والجبهة القومية تحمل [قاسم] مسؤولية ما يصيب الجيش، وتحذر العناصر الكردية المخلصة من الانسياق وراء دعاة التجزئة والانفصال والسير وراء تلك القيادات المشبوهة}.
أما جريدة الاشتراكي، لسان حال حزب البعث العراقي، فقد نشرت تصريحاً لمصدر قيادي بعثي نشر في أيلول 1962 بعنوان: [حول الحركة المشبوهة في الشمال ] وجاء في تلك الصحيفة ما يلي : {أن الحركة المسلحة التي قامت في شمال العراق منذُ أكثر من عام واحد أصبح استمرارها يمثل خطراً ليس على استقلال البلاد وحسن العلاقات بين الشعبين العربي والكردي فحسب، بل على وجود العراق ... إن هذه الحركة، وموقف قاسم منها تفوح منها رائحة التآمر والتواطؤ مع الاستعمار، فقيادة الحركة المسلحة بماضيها الملطخ بالدماء، والمتصف بالاعتداء، ونواياها العدوانية التي أفصحت عنها مراراً، وبغضها الأعمى يجعلها محلاً للشبهة والاتهام }.
 ثم عادت جريدة الاشتراكي في تشرين الثاني 1962 حينما كانت الاتصالات جارية بينهما
مع تبادل المذكرات، بنشر مقال بعنوان:[مخاطر الحركة المشبوهة في الشمال وموقف قاسم منها] ، وجاء فيها :
{إن الحركة الكردية المسلحة على الرغم من أنها معادية للحكم القاسمي إلا أنها بسبب ارتباطاتها وأساليبها واتجاهاتها لا يمكن أن تعتبر جزءاً من الحركة الوطنية في العراق، وباعتقادنا أن طرفي الفتنة [عبد الكريم قاسم] و[ قيادة الحركة الكردية] لا يمثلان رغبات الشعبين العربي والكردي ولا يعبران عن مصالحهما}!

وبعد كل هذا من حق  كل حريص على مصلحة الشعبين العربي والكردي أن يتساءل :
كيف حصلت تلك القناعة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بوعود أعداء الشعب الكردي لكي يمدوا إليهم أيديهم للتعاون على إسقاط حكم عبد الكريم قاسم ؟
لكن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني استمرت بمغازلة الانقلابيين من أجل إقامة التعاون بين الطرفين على الرغم من التحذيرات المتكررة التي وجهها الحزب الشيوعي لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني من مخاطر الانجرار وراء الانقلابيين لإسقاط  حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي سوف تصيب بكل تأكيد الشعب الكردي بصورة خاصة والشعب العراقي بصورة عامة بأفدح الأضرار.

 إلا أن قادة الحزب لم يأخذوا بتلك النصيحة، وأخذوا يتبادلون المذكرات واللقاءات مع الانقلابيين، حيث جرت اللقاءات بين [العقيد طاهر يحيى] ممثل الانقلابيين و[صالح اليوسفي]عضو المكتب السياسي للحزب، وكان آخر لقاء مع الانقلابيين قد جرى في بغداد بين [علي صالح السعدي] أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث والسيدين [ صالح اليوسفي] و[شوكت عقراوي] وذلك في 4 شباط 1963 ، قبل انقلاب الثامن من شباط بأربعة أيام . 

لكن الانقلابيين لم يقدموا أي تعهد خطي لقيادة الحزب، بل مجرد وعود شفوية لا غير، ولا تلزم أحداً، وكان واضحاً أن الانقلابيين كانوا يستهدفون بقاء الحركة الكردية على الحياد في صراعهم مع قوات عبد الكريم قاسم .
وفي التاسع عشر من شباط 1963 ، وصل وفد كردي مفاوض إلى بغداد ضم السادة [جلال الطالباني] و[صالح اليوسفي] و [شوكت عقراوي ] ومثّل الانقلابيين [أحمد حسن البكر] رئيس الوزراء و[ صالح مهدي عماش] وزير الدفاع و[طاهر يحيى] رئيس أركان الجيش و[ حردان التكريتي] قائد القوة الجوية، وتمخض اللقاء عن وعد بقرب إعلان الحكم الذاتي لكردستان.
لكن علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث سارع في اليوم التالي إلى اتهام قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بالتعاون مع الشيوعيين !!، قائلاً:
{ نحن لا نمثل كل العرب، وكذلك الوفد الكردي لا يمثل كل الأكراد، ولذلك يتوجب الدعوة لعقد كونفرنس شعبي واسع لانتخاب عناصر أخرى لعضوية الوفدين}، وبذلك نسف السعدي المحادثات، ثم بدأ البعثيون يتحججون بخشيتهم من أن يثير إعلان الحكم الذاتي لكردستان انتقاد دعاة الوحدة العربية لتصرف الحكومة، وطلبوا من الوفد الكردي المفاوض التريث لبحث المشكلة الكردية جنباً إلى جنب مع مباحثات الوحدة مع عبد الناصر في القاهرة.

وبعد أيام جرى تشكيل وفد للتفاوض مع عبد الناصر، وقد ضم البعثيون السيد[جلال الطالباني] للوفد على مضض، وكان الطالباني ينوي عرض مطالب الشعب الكردي أمام الوفود المصرية والسورية والعراقية، لكن سفر الطالباني مع الوفد لم يلق قبول السيد البارزاني حيث صرح قائلاً:
{لقد أرسلت الطالباني للتفاوض في بغداد وليس في عواصم عربية}.

وفي 18 آذار عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره في كويسنجق ضم 168 مندوباً بحراسة 2000 من قوات البيشمركة حيث تم دراسة الوضع السياسي العام، وقضية المفاوضات مع انقلابيي 8 شباط، وظهر في المؤتمر اتجاهان، الاتجاه الأول يمثله السيد جلال الطالباني، والذي دعا إلى الاستمرار في المفاوضات مع سلطة الانقلاب، والاتجاه الثاني ممثلاً بالسيد مصطفى البارزاني، والذي يدعو للاستعداد للقتال من جديد.

 وفي النهاية تقرر تشكيل لجنة مكونة من 35 مندوباً كي تعد قرارات المؤتمر، وجرى انتخاب وفد مؤلف من 14 مندوباً برئاسة السيد الطالباني، سبعة منهم هم أعضاء الوفد المفاوض، والسبعة الآخرين مستشارين للوفد.
وفي نهاية المؤتمر تم إعداد مذكرة تتضمن المطالب الكردية من الحكومة العراقية أكدت على قيام الحكم الذاتي في إطار الجمهورية العراقية، كما طالبت المذكرة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الكرد، ورفع الحصار عن كردستان، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وأعمالهم، وسحب القوات العسكرية من كردستان، إضافة إلى مطالب أخرى تتعلق بالمنطقة التي سيشملها الحكم الذاتي، والقضايا المتعلقة بالاقتصاد والثقافة.

 وفي 30 آذار وصل الوفد الكردي المفاوض إلى بغداد برئاسة السيد جلال الطالباني، لكن أحمد حسن البكر ماطل في استقبال الوفد، مما دفع الوفد إلى التهديد بالعودة إلى كردستان.
لكن طاهر يحيى تدخل في الموضوع واستطاع إقناع الوفد بتأجيل المفاوضات إلى الأول من شهر أيار مدعيا أن المطالب الكردية قد أرسلت إلى القاهرة لدراستها .

وفي العاشر من نيسان تم في القاهرة توقيع الإتحاد الفيدرالي بين مصر وسوريا والعراق، وفي 24 نيسان تقدم الجانب الكردي بمذكرة تضمنت مطالب جديد أخذت بالحسبان قيام الاتحاد الفيدرالي المذكور حفاظاً على الوجود القومي الكردي في ظل الإتحاد الجديد.
أخذت الحكومة تماطل في الاستجابة للمطالب الكردية واضعة المسؤولية على عاتق الرئيس عبد الناصر، واقترحت على الوفد المفاوض عرض المطالب على عبد الناصر، وطلبوا من السيد جلال الطالباني السفر مع الوفد الحكومي إلى القاهرة واللقاء مع عبد الناصر، لكن عبد الناصر تجاهل موضوع الحكم الذاتي، ولم يقدم أي مقترحات حول القضية الكردية، وهكذا أدرك السيد جلال الطالباني أن التفاوض مع البعث لا يعدو عن كونه مضيعة للوقت، وأنهم ليس بنيتهم الوفاء بوعودهم الكاذبة، فقرر العودة إلى كردستان من دون أن يمر ببغداد، فيما وضع النظام العراقي بقية أعضاء الوفد في الإقامة الجبرية.

 في 20 أيار أعادت الحكومة الحصار على كردستان وقطعت كل الطرق المؤدية إليها، وقامت بحملة اعتقالات واسعة شملت آلاف المواطنين الأكراد، وفي 9 حزيران اعتقلت الحكومة الوفد الكردي المفاوض، وأصدرت بياناً طالبت فيه باستسلام البارزاني وقواته خلال 24 ساعة، وبدأت الاستعدادات للحملة العسكرية الجديدة لقمع الحركة الكردية، وفي العاشر من حزيران شن الانقلابيون حملتهم العسكرية الشعواء على كردستان، تلك الحملة التي لم يشهد لها الشعب الكردي مثيلا بوحشيتها من قبل.

وهكذا خابت آمال القيادة الكردية من تحالفها مع الانقلابيين ، وكان ذلك الموقف الذي اتخذته القيادة الكردية بتحالفها مع الانقلابيين يمثل احد اهم الاسباب في سقوط ثورة الرابع عشر من تموز ، والكارثة التي حلت بالعراق منذ الثامن من شباط 1963وحتى يومنا هذا. 



175
هذا ما كتبته قبيل الغزو الامريكي للعراق
أوهام المنْ والسلوى


حامد الحمداني                                  28/12/2002

واهم من ينتظر نزول المن والسلوى على شعبنا من وراء الحرب التي تزمع الولايات المتحدة وبريطانيا شنها على العراق ، وأكثر وهماً من وضع عنبه في سلتها، ومن يزرع الريح لا يجني سوى العاصفة ، هذا ما تؤكده أحداث التاريخ وتجاربه المريرة مع الإمبرياليين ، ومن لا يصدق ذلك فلينظر بإمعان إلى ما تفعله إسرائيل وقائدها شارون وجيشه الفاشي بالشعب الفلسطيني بدعم مباشر من الولايات المتحدة على جميع المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية ، فكيف نصدق أقولها وادعاءاتها في نشر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، ونتجاهل أفعالها في دعم الطغيان الصهيوني بكل الوسائل والسبل ؟

هل تنفق الولايات المتحدة مئات المليارات من الدولارات ، وتدفع بشبابها إلى محرقة الحرب التي أعدت  لها آخر ما أنتجته مصانعها الحربية من تكنلوجيا الأسلحة المدمرة كي تنقذ شعبنا من النظام الدكتاتوري الصدامي ؟ وهي التي ابتلت شعبنا به وبنظامه لكي تدع شعبنا يتنسم نسيم الحرية والديمقراطية ويتمتع بحقوقه الإنسانية ؟

إن الولايات المتحدة لا تسعى إلا وراء مصالحها الاقتصادية ، وعلى رأسها النفط ، ولقد سال لعابها بعد أن تأكد لها أن العراق يطفو على خزين هائل من هذه المادة الحيوية ، ومن أجل ذلك ستحرق العراق وتدمر ما تبقى من بنيته التحتية ، وتزهق أرواح مئات الألوف من أبنائه ، وكأن ما سببته له من ويلات ومآسٍ وخراب ودمار ، ومن حصار ظالم جلب الفقر والمرض لشعبنا على الرغم من إدراكهم أن هذا الحصار لم يمس النظام العراقي قيد أنملة ، وإنما وقع كابوسه على أبناء شعبنا فقط.

إن الولايات المتحدة لو كانت صادقة في دعواها لكانت قد أسقطت النظام العراقي منذ أمد طويل ،منذ انتفاضة الشعب في آذار عام 1991،وهي التي تنكرت لدعوتها الشعب العراقي للثورة على النظام الدكتاتوري الفاشي ، وسمحت له باستخدام كافة الأسلحة المتاحة لقمع الانتفاضة ، وهذا في واقع الأمر خيانة لشعبنا ، وإمعاناً في إذلاله .

 إن الولايات المتحدة  اليوم قادرة بكل تأكيد على إسقاط النظام من دون حرب ولا احتلال ، فهناك وسائل عديدة بيد الولايات المتحدة تستطيع بواسطتها إجباره على الرحيل لو هي شاءت ، لكنها في واقع الأمر ترمي إلى إبقاء سيطرتها العسكرية والسياسية على العراق لأمد طويل ، وهي بكل تأكيد ستأتي بحكومة صنيعة تنفذ كامل أهدافها وترعى مصالحها .

إن الذين وضعوا عنبهم في السلة الأمريكية ثلاثة أصناف ، صنف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة ومستعد لرعاية مصالحها وتنفيذ مأربها ، وهذا الصنف لا يلام بوضع عنبه في السلة الأمريكية ، وهو الذي تعول عليه في حكم العراق مستقبلاً

أما الصنف الثاني فهو الذي يعتقد أن باستطاعته أن يضمن له دوراً في حكم العراق إن هو وضع عنبه في السلة الأمريكية متخلياً عن كافة شعاراته في معادات السياسة الأمريكية !! ، ولا أخال هذا الصنف سيحقق ما يصبو إليه وسيخرج صفر اليدين من هذه الشراكة بعد أن يكون قد فقد مصداقيته السياسية وشعاراته التي تتعارض وهذه الشراكة على طول الخط وستكون خسارته جسيمة جداً .

أما الصنف الثالث فيمثل العناصر التي حملها حسن النية في سعي الولايات المتحدة لإحلال الديمقراطية وأشاعة الحرية ولسان حالهم يقول فلنجرب الولايات المتحدة ونصدق دعواها فلربما تغيرت وآمنت حقاً وصدقاً بحق الشعوب في الحرية والاستقلال وتطبيق شرعة حقوق الإنسان، ويقيني أنها ستصاب بخيبة أمل كبير.

إن الولايات المتحدة إن هي أرادت حقاً وفعلاً خير شعبنا فعليها إن تقدم له المساعدة السياسية والمادية والسلاح كما فعلت مع قوات الكونترا في نيكاراكوا ، مع الفرق طبعاً ، وسيكون الشعب العراقي قادراً على إسقاط النظام الدكتاتوري الفاشي المعادي للشعب من دون حرب واحتلال ودمار وخراب لا يبقي ولا يذر .     




176


هكذا نجح انقلاب 8 شباط 1963 الفاشي
في اغتيال ثورة 14 تموز
   
حامد الحمداني
 7/2/2015



لم تكد تمضِ أيام معدودة على نجاح ثورة الرابع عشر من تموز حتى دبت الخلافات بين الأحزاب والقوى السياسية  المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، واللجنة العليا لحركة الضباط الاحرار مما أدى الى  انتكاسة كبرى وخطيرة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية بسبب  لجوء القوى القومية وحزب البعث إلى رفع شعارات الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، على الرغم من عدم وجود اتفاق مسبق لدى سائر الأحزاب الوطنية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، ولا اللجنة العليا للضباط الأحرار التي قادت ثور14 تموز الخالدة  بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والإيعاز الى جماهيرهم للنزول الى الشارع والتظاهر لغرض فرض شعاراتهم تلك .
ولم تكن تلك القوى تهدف حقاً الى تحقيق الوحدة مع العربية المتحدة، وأنما كانت تهدف فقط الى سلب الثورة، مستخدمين أسم الرئيس عبد الناصر سلماً للوثوب الى السلطة، وهذا ما أثبتته الأيام التالية بعد انقلابهم الفاشي في الثامن من شباط 1963، حيث تنكر حزب البعث لشعاراته تلك، ولم يحقق الوحدة فحسب، بل بدأ الحزب بمهاجمة عبد الناصر.
كما أن القوى القومية بزعامة العقيد عبد السلام عارف الذي قاد انقلاب 18تشرين 63 ضد حزب البعث، تنكرت هي الأخرى لشعارات الوحدة التي كانت السبب المباشر لإنفراط جبهة الاتحاد الوطني، ولجوئها الى التآمر لإسقاط حكومة الثورة، ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم على يد عبد السلام عارف نفسه .

ونتيجة لسلوك القوى القومية وحزب البعث في محاولة فرض شعاراتهم تلك، سارع الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي الى رفع شعار الأتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، وإقامة أفضل الارتباط معها وخصوصاً في المجالات الاقتصادية والثقافية والعلمية مع توحيد التوجهات في السياسة الخارجية، وقد اضطرت هذه القوى للنزول الى الشارع والتظاهر كرد على مظاهرات القوى القومية وحزب البعث، وتقديم أقصى ما يمكن لدعم قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم.

وهكذا تطورت تلك الشعارات والتظاهرات الى صراع سرعان ما تحول نحو العنف وصولا الى حد التآمر على ثورة الرابع عشر من تموز فكانت المحاولات الانقلابية التالية :
1 ـ محاولة العقيد الشواف الانقلابية التي جرى تنفيذها في الموصل في 8 آذار 1959.   
 2 ـ محاولة حزب البعث اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في رأس القرية، في 7 تشرين الأول 1959، تلك المحاولة التي سببت له اصابات خطيرة، تعافى منها بجهود الأطباء، وأمكن الحفاظ على  سلطة الثورة بجهود الضباط الوطنيين الذين استطاعوا افشال تلك المؤامرة الدنيئة .
 
3 ـ محاولة عبد السلام عارف اغتيال عبد الكريم قاسم ، وتنفيذ انقلاب ضده كان قد حدد له يوم 4 تشرين الثاني 1959 ، مما دفع بعبد الكريم قاسم الى اعتقال عبد السلام عارف وتقديمه للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة التي قضت بإعدامه، لكن الزعيم عبد الكريم قاسم عفا عنه فيما بعد وأطلق سراحه لكي يتآمر من جديد بالتعاون مع حزب البعث، ولتنفيذ انقلاب 8 شباط المشؤوم .
4 ـ محاولة رشيد عالي الكيلاني  الانقلابية التي كشفتها حكومة الثورة في 8 كانون 1959، وتم تقديم الكيلاني الى المحكمة العليا الخاصة والتي حكمت عليه بالإعدام، لكن الحكم لم ينفذ، وأطلق سراحه فيما بعد عملا بشعار الزعيم [ عفا الله عما سلف ] !!
وفي الوقت الذي كان عبد الكريم قاسم يجابه المؤآمرات البعثية والقومية المتلاحقة حدثت انتكاسة خطيرة في العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم، والتي يتحمل الزعيم عبد الكريم قاسم جانباً من مسؤوليتها، وتتحمل قيادة الحزب الشيوعي الجانب الآخر منها.
 
لقد عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة وسعيه الحثيث لتحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، وبشكل خاص المسيرة التي سيرّها الحزب في الأول من أيار [ عيد العمال العالمي ] تلك المسيرة التي لم ترعب عبد الكريم قاسم فحسب بل أرعبت البرجوازية الوطنية، وأرعبت القوى الإمبريالية، حيث صرّح رئيس المخابرات الأمريكية آنذاك [ آلن دلاس] بأن أخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع في العراق .

 لقد ارتعب عبد الكريم قاسم من تلك المسيرة، ودخل في قلبه الشك من سياسة الحزب الشيوعي واعتقد أن الحزب قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم، بعد ذلك الشعار التي كان يردده اكثر من مليون مشارك في تلك المسيرة[عاش الزعيم عبد الكريم، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم] وجعلته يصمم منذ ذلك اليوم على تحجيم الحزب الشيوعي وتقليم أظافره.
لقد كان على الحزب الشيوعي في تلك الظروف التآمرية المحيطة بالعراق وثورة الرابع عشر من تموز أن لا يلجأ إلى تلك المسيرة لمطالبته المشاركة في السلطة رغم أحقيته بذلك، وأن يناضل من أجل انتخاب مجلس تشريعي يسن دستوراً دائماً للبلاد، وإرساء النظام الديمقراطي الذي يكفل الحقوق الديمقراطية لشعبنا بعربه وأكراده وسائر أقلياته، جنباً إلى جنب مع دعم السلطة الوطنية بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم بوجه المحاولات الرجعية الهادفة إلى اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز، بدلاً من استفزاز السلطة والبرجوازية الوطنية، فقد كان الحزب والسلطة الوطنية في قارب واحد، وغرق السلطة يعني بالضرورة غرق الحزب كما جرى في الثامن من شباط المشؤوم .

لجأ عبد الكريم قاسم في البداية إلى سياسة [ فوق الميول وفوق الاتجاهات] وسياسة [توازن القوى]، بين حماة الثورة، والقوى التي تآمرت عليها ،واتخاذه سياسة التسامح، والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة سياسة [عفا الله عما سلف ] التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدداً كبيراً من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل إلى مراكز حساسة في الجيش .
ثم تحول عبد الكريم إلى سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وثم إلغائها، واعتقال وسجن خيرة  المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها وأحالتهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، وتسريحه لعدد كبير من الضباط كان من بينهم الدورة 13 للضباط الاحتياط البالغ عددهم [1300] ضابط، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة والدفاع عن الجمهورية الوليدة، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
 ثم تحول عبد الكريم قاسم إلى المنظمات الجماهيرية، التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة، ومكتسباتها ليجردها من قياداتها المخلصة، والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه هي أخطر الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال ، والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963 :

1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها ونشطائها:
 
  لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً وخطيراً جداً، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب. وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة، ما كان لها أن تحدث، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة  وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها.
 لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها  وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة ونجاحها في اغتيال الثورة ،واغتياله هو بالذات ،وإغراق العراق بالدماء .

لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من الرجعية  وعملاء الإمبريالية، فالحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم أو المساس بقيادته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة مدافعاً عن حكمه، وكان يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963، وهو اعزل من السلاح مستخدماً كل ما يملك وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف:
{باسم العامل والفلاح يا كريم أعطينا سلاح}. ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حيث انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.

إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون ويسفرونه إلى الخارج أو لربما حوكم محاكمة قانونية عادلة أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه، وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته، وتصفية كافة أعوانه، وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، ولثورة تموز المجيدة.

2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة ولقيادته، فقد أحال على سبيل المثال قائد الفرقة الثانية في كركوك [الشهيد الزعيم الركن  داؤود الجنابي] وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959، كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن  [هاشم عبد الجبار] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى]، المعروف بعدائه للقوى التقدمية، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد الذين جرى دفنهم بقبور جماعية .
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين كان من بينهم، الرئيس [حسون الزهيري]  والرئيس [كاظم عبد الكريم] والمقدم [خزعل السعدي ]، وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي]الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم.
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية، وتعيين العقيد الطيار [ عارف عبد الرزاق ] الذي أعاده للجيش  بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .

4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته .

5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة  ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.

6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وجرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي] الذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب .
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961 وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه .

8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن[سيد حميد سيد حسين ] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدداً كبيراً من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد .

9ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13  المتخرجين عام 959، والبالغ عددهم  1300ضابط من الخدمة في الجيش بحجة نفوذ الشيوعيين فيها .
10 ـ تنحية المقدم الركن [ سليم الفخري ] المدير العام الإذاعة والتلفزيون، وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها.
وقد وصفت صحيفة[صوت الأحرار]في12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للانتهازيين والرجعيين بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها .
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب، وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي 9 شباط ، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة،  واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير ،غير المذاع ، لما نجح الانقلاب .

11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد .
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء،والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات  وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم  في 11 حزيران 962 ، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون ليأتي الانقلابيون فيما بعد وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم .
لقد شجعت سياسة العفو، والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر .

14ـ لم يُقدّر عبد الكريم قاسم مسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي احدث ثورة اجتماعية، سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية، ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين .

لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب .
15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961الذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
16ـ  قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان]و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط ، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان وعباس مامند المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها[شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [هولمز] بالشيوخ المتمردين  وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست]،كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران .
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية، إحدى أكبر مدن كردستان، أتابع مجريات تلك الحرب، واتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي،حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً.
ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي بعد  الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية  بعد أن وقف منذُ البداية مهاجماً موقف عبد الكريم قاسم، ومطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها.
كما يتحمل قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح .
وكانت ثالثة الاثافي تعاون قادة الحركة الكردية مع الانقلابيين ظنناً منهم أن حزب البعث والقوميين المتعصبين سوف يلبون مطالب الشعب الكردي وحقوقه الديمقراطية !!،وشاءت الصدف أن  اطلع  على الرسائل المتبادلة بين [طاهر يحيى ] ممثل الانقلابيين و[ ابراهيم احمد ] سكرتير حزب البارت قبيل الانقلاب.
 لكن البعثيين وحلفائهم لم يمهلوا الشعب الكردي سوى ثلاثة اشهر حتى يشنوا عليهم حرباً شعواء لم يسبق لها مثيل في بشاعتها وتدميرها وقتل الأبرياء وتدمير وحرق قراهم بكل وحشية.
لقد كانت الحرب في كردستان أحد أهم الأسباب التي ساعدت على نجاح الانقلابيين في اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم .

17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية على السلطة، وحماية المتآمرين .
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن الذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز [محسن الرفيعي]ومن قبله [رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.

كما أن موقف رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها .

18 ـ قيام الطلاب البعثيين، والقوميين بإضراب عام ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة،ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين، ولم تحاول كبح جماحهم وكسر الإضراب، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب .
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب، وطبع المنشورات وتقديم الدعم المادي للانقلابيين، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963 .
هكذا سارت الأمور التي مهدت للانقلاب، وشجعت الانقلابيين على الإيغال في جريمتهم،وتنفيذهم لانقلاب الثامن من شباط 1963 بدعم وتوجيه من الإمبريالية، كما اعترف بذلك أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث علي صالح السعدي عندما صرح قائلاً :
[ لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي]
لقد خابت آمال عبد الكريم قاسم في تلك القيادات العسكرية والأمنية التي بوأها أعلى المناصب بعد أن ازاح أولئك المخلصين والمدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها، فقد كان ينتظر منهم التحرك لقمع الانقلابيين، لكنهم في واقع الأمر كانوا إما قد اشتركوا في الانقلاب أو آثروا الجلوس على التل انتظاراً لنتائج الصراع، ومن ثم مبادرتهم لارسال برقيات التأييد للانقلابيين بعد نجاح انقلابهم الفاشي وهكذااستطاع الانقلابيون تنفيذ انقلابهم الفاشي فى  ذلك اليوم المشؤوم في الثامن من شباط عام 1963، وليشنوا تلك الحملة الدموية البشعة ضد كافة العناصر الوطنية والتي استمرت طيلة مدة حكمهم التي استمرت تسعة اشهر، والذي وصف شريكهم عبد السلام عارف تلك العصابة بالمنحرفين فاضحاً جرائمهم البشعة في كتاب أصدره تحت عنوان  [المنحرفون].

         لقد كان انقلاب 8  شباط عام 1963 يمثل البداية الحقيقية للكارثة التي حلت بالعراق منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا والذي ادخل العراق في هذا النفق المظلم الذي لا احد يعلم متى يخرج منه، فلو كانت القوى الوطنية ملتفة حول قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ،ولو لم يعالج عبد الكريم قاسم الخطأ بخطأ افدح، لما استطاعت الامبريالية وعملائها الانقلابيون النجاح في تنفيذ جريمتهم النكراء في الثامن من شباط، ولكان للعراق وشعبه اليوم شأنا آخر.






177

احداث في ذاكرتي
الحلقة السابعة
حامد الحمداني                                                   3/11/2014

نشاطي في منظمة أنصار السلام

كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي قد بلغت ذروتها في بداية الخمسينات، وخصوصاً بعد الأزمة السياسية التي حدثت بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة والاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي من جهة أخرى، حيث أقدم الاتحاد السوفيتي على حصار برلين، والذي هدد بنشوب حرب ذرية بين المعسكرين، مما دعا القوى الخيرة في العالم أجمع للنضال من أجل السلام، وكبح مساعي مشعلي الحرب نظراً لما يتهدد البشرية من أخطار جسيمة لا أحد يستطيع تحديد مداها، وربما تقضي على مجمل الحضارة البشرية على كوكبنا.

وهكذا فقد بادرت القوى السياسية، والعديد من الشخصيات المؤمنة بضرورة الحفاظ على السلام بين شعوب العالم، ودعم الجهود الرامية إلى قيام علاقات سلمية بين المعسكرين على أساس التعاون والمصالح المشتركة بين الشعوب والدول، لتأسيس حركات ومنظمات تدعو إلى صيانة السلام في العالم أجمع، وكبح جماح الذين يدفعونه إلى حافة حرب مدمرة لا تبقي ولا تذر.

 وهكذا تشكلت في الثاني من أيلول عام 1952 منظمة عالمية للسلم والتعاون بين الشعوب تضم شخصيات بارزة مشهود لها بدورها النضالي في هذا السبيل كي تقود الحركة العالمية، وتنسق الجهود بين مختلف منظمات السلام  في العالم  مما جعل المنظمة العالمية هذه تأخذ دوراً كبيراً ورائداً لتوطيد السلام بين المعسكرين، وعلى النطاق الدولي.

كان الحزب الشيوعي العراقي سباقاً في المبادرة إلى المساهمة بمنظمة أنصار السلام، والتي ضمت نخبة رائدة من رفاقه وأصدقائه من العناصر الديمقراطية المعروفة على النطاق الوطني، وكان في مقدمة تلك النخبة كل من الشهيد المحامي [توفيق منير] والشهيد الدكتور [محمد الجلبي]، والدكتورة الفقيدة [نزيهة الدليمي] والدكتور [طلعت الشيباني] والدكتور [فاروق برتو]، ورجل الدين المعروف الشيخ [عبد الكريم الماشطة]، والفنان [يوسف العاني] والعديد من الشخصيات الوطنية التي لا تسعفني الذاكرة في سرد أسمائهم، والذين مثلوا كافة محافظات القطر، وكان لي شرف المشاركة في تلك المبادرة ممثلاً لمحافظة الموصل مع عدد من رفاقي أعضاء الوفد، وكان في مقدمتهم المناضل الشيوعي المعروف [إسماعيل رشيد النجار].
بادرت تلك الشخصيات الإعداد للمؤتمر التأسيسي بادئين بحملة واسعة ومنظمة شملت كافة أرجاء العراق للنضال من أجل السلام، وتشكيل المنظمات في كل محافظة، واختيار الوفود الذي ستشارك في المؤتمر، والذي جرى عقده في صيف عام 1954.

 بدأ أعضاء الوفود بالوصول تباعاً إلى بغداد استعداداً لافتتاح المؤتمر، ومن حسن الصدف أن التقي مع الشيخ الجليل[عبد الكريم الماشطة] الذي نزل في نفس الفندق الذي كان وفدنا قد نزل فيه، وكانت أيام رائعة قضيناها مع ذلك الرجل الكبير ورفاقه، وكنا نتبادل معهم خلالها هموم ومشاكل شعبنا، ومواقف السلطة الحاكمة، واضطهادها للحريات، وقمع أي تحرك شعبي من اجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن أجل السلام في العالم أجمع، فقد كانت السلطة آنذاك تهيئ الظروف لعقد ميثاق حلف بغداد، وربط العراق بالمشاريع الإمبريالية، وزجه في الحرب الباردة بين المعسكرين.

حان موعد افتتاح الجلسة الأولى للمؤتمر الذي جرى عقده بصورة سرية في حديقة دار الشهيد الدكتور [محمد الجلبي]، وبادرت الوفود بالحضور أفراداً وجماعات، حتى إذا ما حانت ساعة بدء الجلسة نهض الشهيد [توفيق منير] ليلقي كلمة الافتتاح مرحباً في البداية بأعضاء الوفود كافة، ومستعرضاً الأوضاع العالمية والصراع بين المعسكرين، والأخطار التي كانت  تهدد مستقبل البشرية، مما تطلب ذلك الدعوة لعقد المؤتمر، وتأسيس حركة السلام العراقية لكي تناضل جنباً إلى جنب مع سائر المنظمات الأخرى في مختلف بلدان العالم من أجل أقرار السلام، وكبح نشاط  تجار الحروب.

وبعد انتهاء الأستاذ توفيق منير من إلقاء كلمته بادر إلى مصافحة أعضاء الوفود فرداً فرداً، وأخذ يعلق شعار حركة السلام [حمامة السلام] على صدورهم وسط تصفيق الحاضرين. ثم تتالت كلمات الوفود لسائر المحافظات القطر في جو رائع من الجدية والتصميم على خوض النضال من أجل السلام مهما كانت المعوقات والصعوبات.

وفي  النهاية جرى تشكيل اللجان التي تولت دراسة المهام الملقاة على عاتق المنظمة وسبل تحقيقها، والمقترحات التي أبداها المؤتمرون، وتوزعت اللجان على عدة دور للأخوة المشاركين في بغداد لكي تدرس وتقرر ما ترتأيه من أساليب العمل في اليوم التالي، وتقدم ملخصاً لقراراتها من أجل إقرارها في اليوم الثالث للمؤتمر.

كان نصيبي في لجنة العلاقات الخارجية التي بادرت في اليوم الثاني للمؤتمر للاجتماع في دار الدكتور [ طلعت الشيباني ]، وكان من ضمن اللجنة الأستاذ الفنان يوسف العاني وشخص آخر لا تسعفني الذاكرة بتذكر اسمه، حيث قضينا ذلك اليوم في دراسة المقترحات، وإقرار ما رأته اللجنة صائباً ويخدم قضية السلام.

وفي اليوم الثالث التأم شمل المؤتمرين من جديد، وجرى قراءة ومناقشة مقررات اللجان والتصويت عليها وإقرارها، ثم جرى بعد ذلك انتخاب الهيئة القيادية لحركة السلام برئاسة المحامي القدير البارز الشهيد[ توفيق منير]، وبذلك انتهت أعمال المؤتمر، وأعلن الرئيس أن حفلة عشاء على شرف المؤتمرين هذا المساء في دار والد الدكتور فاروق برتو، الأستاذ القانوني الكبير[عبد الجليل برتو] عضو محكمة تمييز العراق، وكانت حفلة رائعة بعد عناء وتعب الأيام الثلاثة التي جرى فيها العمل المركز والجهد المتواصل للخروج بالقرارات الصائبة، وتهيئة الظروف للعمل بجد ونشاط في مختلف المدن العراقية من اجل تطبيق ما اتفق عليه المؤتمرون.

وفي اليوم التالي بادرت الوفود للعودة إلى مدنهم والجميع ممتلئون همة وعزماً على النضال بكل ما يستطيعون لتنفيذ مقررات المؤتمر بكل أمانة واندفاع. وفي اليوم الرابع ظهرت الصحف وعلى صفحتها الأولى البيان الختامي للمؤتمر ومقرراته، والتي فاجأت السلطة الحاكمة بعقده، وبدأت تعد العدة لمجابهة المنظمة، وقمعها والحد من نشاطها بأقصى ما تستطيع إلى ذلك سبيلاً.

فقد بادر نوري السعيد الذي تولى السلطة عام 1955 إلى تعديل قانون العقوبات فيما يخص النشاط السياسي للأحزاب والذي كان قد منع الحزب الشيوعي من مزاولة نشاطه العلني، حيث أضاف فقرة جديدة للمادة 89 المتعلقة بذلك المنع.ونصت الإضافة على ما يلي:
{سواء كان ذلك بصورة مباشرة او بواسطة هيئات او منظمات تهدف إلى خدمة أغراض المذهب المذكور تحت ستار أي اسم كان، كأنصار السلام، والشبيبة الديمقراطية، وما شاكل ذلك}.
وبذلك أصبح نص المادة كما يلي:
{كل من حبذ أو روج أياً من المذاهب الاشتراكية أو البلشفيةـ الشيوعية ـ والفوضوية والإباحية، وما يماثلها، سواء كان ذلك بصورة مباشرة، او بواسطة هيئات، او منظمات، تهدف إلى خدمة أغراض المذهب المذكور تحت ستار أي اسم كان، كأنصار السلام، والشبيبة الديمقراطية، وما شاكل ذلك، والتي ترمي إلى تغيير نظام الحكم، والمبادئ والأوضاع السياسية للهيئة الاجتماعية المضمونة بالقانون الأساسي، جرماً يستحق عقوبة الحبس لمدة سبع سنوات، وبالسجن المؤبد، أو الإعدام إذا كان التحبيذ بين القوات المسلحة}.

وواضح أن عبارة [وما شاكل ذلك] هي عبارة مطاطية غير محددة استخدمتها السلطة الحاكمة لقمع أي تحرك جماهيري ضد سياسات الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم، ومنع المطالبة بالحقوق والحريات الديمقراطية.


 بادر نوري السعيد إلى شن حملة شعواء ضد الحزب الشيوعي، وضد المنظمات الشعبية، وفي المقدمة منها حركة السلام، حيث أقدم على نزع الجنسية العراقية عن الشهداء توفيق منير وكامل قزانجي و عزيز شريف والدكتور صفاء الحافظ والشاعر الكبير الأستاذ كاظم السماوي وجرى تسفيرهم إلى تركيا.
 بقي المناضلون في المنفى حتى قيام ثورة 14 تموز 1958، حيث جرى إعادة الجنسية لهم وعادوا إلى العراق، وجرى لهم استقبالاً رسمياً وشعبياً كبيراً شاركت فيه شخصيات وطنية كبيرة من مختلف الأحزاب السياسية، وجموع غفيرة من الجماهير الشعبية.

وقد جرت حفلة تكريم وعشاء للمناضل الكبير الشهيد كامل قزانجي في الموصل من قبل والد زوجتي المناضل المعروف محمد عبد اللطيف الذي يحتفظ بعلاقات وثيقة وقديمة مع الشهيد قزانجي أيام كانا معتقلين، وكان معهما الشهيد المناضل المحامي توفيق منير عام 1948 على اثر وثبة كانون الثاني المجيدة، وتم إبعادهم فيما بعد إلى عين تمر حيث عاشوا معاً في بيت واحد طيلة فترة الأبعاد.

كانت الحفلة رائعة جداً حيث ضمت نخبة من المناضلين الذين قارعوا طغيان نوري السعيد، وقد تحدث الشهيد كامل قزانجي عن فترة الأبعاد التي قضاها مع رفيقه الشهيد توفيق منير على أثر إقدام نوري السعيد على إسقاط الجنسية العراقية عنهما بالإضافة للشهيد صفاء الحافظ والأستاذ عزيز شريف.

تكلفني بتمثيل العراق في مؤتمر السلام في هلسنكي

في الأول من حزيران عام 1955 تلقيت رسالة من الحزب  للسفر إلى بغداد بمهمة خاصة لم تفصح عنها الرسالة، وكل ما في الأمر كان عنوان لأحد الرفاق في بغداد لكي اتصل به مع كلمة السر، كما زودتني اللجنة المحلية في الموصل برسائل حزبية مغلفة لقيادة الحزب في بغداد.
شددت الرحال إلى بغداد بالقطار حيث وصلتها صباح اليوم التالي، وأسرعت إلى عنوان الرفيق الذي كان يعمل بمحل تاجر في سوق الأقمشة عائد لشخص من عائلة مكية. وبعد أن تعرفت عليه وأعطيته كلمة السر، وأجابته على تلك الكلمة سلمته البريد الخاص بقيادة الحزب، وقد طلب مني أن نلتقي عصراً في نفس المكان.

وفي الوقت المحدد جرى اللقاء القصير بيني وبينه، حيث ابلغني بالذهاب إلى عيادة الدكتورة نزيهة الدليمي في منطقة الشواكة، وستكون بانتظاري، وعلى الفور توجهت نحو منطقة الشواكة، وصرت ابحث عن عيادة الدكتورة نزيهة الدليمي، وقد توصلت إليها دون عناء، ودخلتها وسجلت نفسي كمريض لديها.

وجاء دوري للفحص، ودخلت إلى الدكتورة نزيهة، وحييتها تحية رفاقية، وأبلغتها أنني قادم إليها بطلب من الرفيق الذي جرى الاتصال به من قبل. رحبت بي الرفيقة نزيهة  الدليمي أجمل ترحيب، وتبادلنا الحديث عن نشاطات حركة السلام والحزب في الموصل.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى موضوع المهمة التي جئت من أجلها من الموصل قائلةً: أيها الرفيق أنك غير مكشوف للسلطة، وأن لديك جواز سفر نافذ وحقيقي، كما أُبلغنا من منظمة الموصل، فإن المنظمة  تكلفك بمهمة تمثيل العراق في مؤتمر السلام في هلسنكي، وأعتقد أنك على استعداد لتنفيذ هذه المهمة. وقد أجبتها على الفور:
{بكل سرور أيتها الرفيقة، وسأنفذ الواجب بكل أمانة}، وبادرت الرفيقة نزيهة إلى فتح حقيبتها، وأخرجت ظرفاً يحتوي على خطاب الوفد العراقي المعد سلفاً من قيادة الحركة لكي القيه في المؤتمر.

كما أعطتني رقم هاتف لأحد الرفاق في بيروت مع كلمة السر لكي اتصل به كي يرتب لي أمر السفر من هناك، حيث جري تجمع الوفود العربية في بيروت، وقد أرسلت فلندا سفينة إلى بيروت لنقل الوفود العربية إلى هلسنكي، طالبة مني السفر فوراً بسبب محدودية الوقت وقرب إبحار السفينة.
وعلى الفور ذهبت إلى [نقليات نيرن] للسفر عبر الصحراء وحجزت مقعداً لي في اليوم التالي والفرح يغمرني لتكليفي بهذه المهمة الكبيرة.

وانطلقت بنا السيارة عبر الصحراء بين العراق وسوريا، لكن الحظ التعيس كان لي بالمرصاد حيث تعطلت السيارة في الصحراء، وتعذر إصلاحها بسبب كسر احد المكابس في المحرك [البستن]، مما تطلب إرسال سيارة أخرى والذي أدى إلى المبيت في الصحراء.
وفي اليوم التالي واصلنا السفر نحو دمشق ومنها انتقلت مباشرة ودون توقف إلى بيروت التي كان أول عهدي بها حيث وصلت بيروت على ما أتذكر عصر يوم 7 حزيران 1955، وطلبت من سائق التاكسي أن يأخذني إلى فندق متوسط السعر ونظيف حيث أخذني إلى فندق[ناسونال]  وكان الفندق راقياً ونظيفاً، وغرفه واسعة، وأثاثه جيد، وأجرة المبيت لليلة الواحدة 7 ليرات لبنانية آنذاك.

كنت منهكاً جداً من تلك السفرة، ولم اعد أتمالك نفسي من شدة الإعياء، فقلت في نفسي ينبغي أن آخذ قسطاً من النوم لساعة أو ساعتين كي استعيد شيئاً من الراحة، واذهب لتناول العشاء، ومن ثم اتصل بالرفيق الذي استلمت رقم هاتفه من الدكتورة نزيهة الدليمي.
وألقيت جسدي المنهك على السرير من دون أن أغير ملابسي ورحت في نوم عميق، وعند استيقاظي من النوم ظننت أنني قد نمت ساعتين أو ثلاث ، لكني وجدت أن الشمس قد أشرقت من جديد، ونظرت للساعة للتأكد من ذلك فوجدتها تشير إلى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
إذا لقد نمت منذ عصر اليوم السابق وحتى الساعة العاشرة من اليوم التالي 8 حزيران، حيث أسرعت نحو التلفون واتصلت بالرقم المطلوب، وتحدثت إليه بكلمة السر، فطلب مني اسم الفندق ورقم الغرفة، واسمي الحقيقي في الجواز، وأبلغني أنه قادم إلي خلال ساعتين على أبعد تقدير، طالباً مني عدم مغادرة الغرفة.

وقبل انتهاء الساعتين وصل شخصان لم التقي بهما من قبل، وعرفاني بشخصيتهما وهما يصافحاني،[الدكتور صفاء الحافظ] و[الأستاذ عبد الجبار وهبي] والمعروف بأبي سعيد، وقد فاجأني الرفيق صفاء الحافظ بقوله رفيقنا لقد تأخرت في الوصول، وأبحرت السفينة صباح يوم أمس.
 كان حديثه كنازلة حلت بي وصدمتني وأصابتني بالذهول، وخيبة الأمل من الوصول إلى هلسنكي، وأدرك الدكتور صفاء ما يجول في خاطري فبادرني بالحديث سنحل المشكلة لا تحزن، سأتصل بالدكتور المهندس [ أنطون ثابت] رئيس حركة السلام اللبنانية لكي يدبر لك الأمر، ويسهل موضوع سفرك.

ثم جلسنا نتبادل الحديث عن أوضاع العراق، وكان الرفيقان يوجهان لي العديد من الاستفسارات حول وضع الحزب، وحول نشاط حركة السلام العراقية، وحول إرهاب نوري السعيد، ورد فعل الأحزاب السياسية الوطنية وجماهير الشعب على مراسيم نوري السعيد، والتي أفرغت الدستور من مضامينه الديمقراطية.
كانت الجلسة الأولى مع الرفيقين الخالدين رائعة جداً أشعرتني أننا لم نلتقي قبل ساعات، بل كأنها علاقة سنوات، وشاءت الظروف أن تتكرر لقاءاتنا يومياً في بيروت ولعدة أيام.
اتصل الرفيق صفاء الحافظ بالدكتور[ انطون ثابت ] في مكتبه الهندسي، وابلغه بمقدمي إليه طالباً منه تدبير أمر سفري بالطائرة.

وذهبت إلى مكتب الدكتور أنطون ثابت وقابلته، وقد رحب بي كثيراً، وشرحت له الأمر، وما حدث للسيارة التي أخرت وصولي، ورجوته بذل الجهود من أجل تدبير سفري واللحاق بالمؤتمر قبل انعقاده، وقد أجابني الدكتور ثابت بأنه سيتدبر أمر بطاقة السفر خلال بضعة أيام  حيث أن أحد نواب البرلمان اللبناني الذي كان مدعواً لحضور المؤتمر من المحتمل أن يعتذر عن السفر لظروفه الخاصة، وإذا تأكد لنا عدم سفره فسوف نعطيكم بطاقة سفره.

وهكذا انتهى اللقاء وصافحته وخرجت وأنا بين الشك واليقين أن أتمكن من الوصول إلى هلسنكي قبل بدء أعمال المؤتمر، وبقيت انتظر ذلك بفارغ الصبر، وكنا نخرج كل يوم أنا والرفيقين صفاء الحافظ وأبو سعيد الذي كان يصطحب معه أحياناً طفله سعيد، وابنته الصبية نادية، وكنا نجلس في مقهى البحرين، ونتبادل أطراف الحديث حول الأوضاع العراقية والعربية  والدولية.

في اليوم الثالث لوصولي وكنا جالسين في المقهى سألني الدكتور الحافظ إن كنت سأبقى في فندقي الذي يعتبر غالياً نسبياً آنذاك قائلاً :
[يبدو أنك برجوازي رفيقنا لماذا تدفع 7 ليرات يومياً وبإمكاني أن آخذك إلى فندق نظيف وبسعر ليرتين يومياً فتوفر 5 ليرات عن كل ليلة].
ووافقت على الفكرة في الحال، وتم انتقالي إلى فندق آخر نظيف حقاً وجيد، ولكن من دون مصعد وكان علي أن أصعد عدة طوابق مراراً كل يوم، وقد خطر لي أن اسأل الرفيقين عن أوضاعهما المادية، وعلمت أنهما يعانيان من وضع مالي صعب للغاية، كان معي 100 دينار عراقي فبادرت على الفور مخاطباً إياهم أيها الرفاق الأعزاء لنقتسم ما عندي فنحن رفاق الطريق في كل الظروف، وتم لي ما أردت رغم رفضهم ذلك بادئ الأمر.

بعد أيام ابلغنا الدكتور أنطون ثابت بأن البطاقة قد دُبرت، وأصبح السفر متاحاً لي، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد وصل في ذلك اليوم الرفيق عطشان الأزيرجاوي، ومعه رفيق آخر اسمه عبد القادر، وكان الاثنان مطاردان ويحملان جوازين مزورين، واقتضت الضرورة أن يعود أحدنا إلى بغداد لإيصال التعليمات الخاصة بمهرجان الشباب في وارشو ببولندا في تموز القادم، والعودة مع الوفد العراقي إلى دمشق حيث سينتظرنا اليخت الخاص بملك رومانيا السابق  [ليبرتاتا] في ميناء اللاذقية، حيث نتوجه إلى ميناء [كونستانزا] في رومانيا، ومنها نأخذ القطار إلى وارشو عبر بخارست وبودابست.

وتحادثنا حول من يستطيع العودة دون مخاطر، ويوصل المعلومات إلى الحزب في بغداد، وكان لا بد من أن تكون العودة من نصيبي حيث أنني غير مكشوف للسلطة أولاً، وأمتلك جوازاً حقيقياً نافذاً ثانيا، وكان لا بد من تقبل الأمر، فقد كان من المستحيل عودة أي واحد منهم إلى بغداد، والتفت إلي الرفيق صفاء قائلاً ستأتي معنا إلى مهرجان الشباب الرائع ، وأضاف قائلاً : [رفيق المهرجان يسوى إعدام !] وبادرته قائلاً سأتقبل الأمر بكل سرور. ينبغي أن لا أعرض أحد الرفاق للخطر، ومادمت غير مكشوف، واحمل جوازاً حقيقياً فبإمكاني إيصال البريد بسلام .







178
أحداث في ذاكرتي
الحلقة السادسة
حامد الحمداني                                                     1/11/2014

تشكيل الجبهة الوطنية لخوض الانتخابات


رداً على سياسة السلطة الحاكمة المتجاهلة لإرادة الشعب دعت الأحزاب والقوى السياسية، وكافة المنظمات الديمقراطية والنقابات، إلى لقاء يهدف إلى تشكيل جبهة موحدة لخوض الانتخابات النيابية المزمع اجرائها.

 وبالفعل تم اللقاء الذي حضره ممثلون عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي وحركة أنصار السلام ومنظمات الطلاب والشباب، والنقابات العمالية والمهنية كنقابة المحامين والأطباء، وممثلي الفلاحين، وتدارس الجميع موضوع ضرورة إقامة جبهة وطنية لخوض الانتخابات العامة، وقد تم التوقيع على الميثاق في 12 أيار 1954، وكان لهذا الميثاق وقع الصاعقة على الفئة الحاكمة  بالنظر لما تضمنه الميثاق من البنود وهي:
1ـ إطلاق كافة الحريات الديمقراطية كحرية الرأي، والنشر، والاجتماع، والتظاهر والإضراب وتأليف الجمعيات وحق التنظيم السياسي والنقابي.
2 ـ الدفاع عن حرية الانتخابات.
3 ـ إلغاء معاهدة 1930، والقواعد العسكرية، وجلاء الجيوش الأجنبية، ورفض جميع التحالفات العسكرية الاستعمارية بما فيها الحلف التركي الباكستاني، وأي نوع من أنواع الدفاع المشترك .
4 ـ رفض المساعدات العسكرية الأمريكية التي يراد بها تقييد سيادة العراق، وربطه بالتحالفات العسكرية الاستعمارية.
5 ـ العمل على إلغاء امتيازات الشركات الأجنبية الاحتكارية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء دور نظام الإقطاع، وحل المشاكل الاقتصادية القائمة، ومشكلة البطالة المستفحلة، وغلاء المعيشة، ورفع مستوى معيشة الشعب بوجه عام، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها.
6 ـ العمل على إزالة الآثار الأليمة التي خلفتها كارثة الفيضان عام 1954، بإسكان جميع المشردين من ضحايا تلك  الكارثة، وتعويض المتضررين، وتأليف لجنة نزيهة محايدة لتحديد مسؤولية المقصرين، واتخاذ كل ما يلزم لدرء أخطار الفيضان في المستقبل.
7 ـ التضامن مع الشعوب العربية، في كفاحها العادل من أجل استقلال البلاد العربية، وتحرير فلسطين .
8 ـ العمل على إبعاد العراق والبلاد العربية عن ويلات الحرب
وقد وقع على الميثاق كل من :
1ـ ممثل الحزب الوطني الديمقراطي
 2 ـ ممثل حزب الاستقلال
3 ـ ممثل الفلاحين، نايف الحسن       
4 ـ ممثل العمال ـ كليبان صالح
5 ـ ممثل الشباب ـ صفاء الحافظ       
6 ـ ممثل الأطباء ـ د . احمد الجلبي 
7 ـ ممثل المحامين ـ عبد الستار ناجي     
 8 ـ ممثل الطلاب ـ مهدي عبد الكريم

 وطبيعي أن الخمسة الأخيرين كانوا يمثلون الحزب الشيوعي، بسبب الحظر المفروض على الحزب وملاحقة أعضائه ومؤيديه، فقد جرى الاتفاق على تمثيل الحزب الشيوعي بهذه الطريقة  .

أحدث إعلان ميثاق الجبهة الوطنية في 12 أيار 1954 زلزالاً  كبيراً لدى السلطة الحاكمة، التي أقلقها أشد القلق اللقاء الذي تم بين الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي بهذا الشكل العلني الواسع الذي ينم عن التحدي، وأخذت هذه السلطة تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون نجاح مرشحي الجبهة الوطنية في الانتخابات بكل الوسائل والسبل، من إرهاب وتزوير ورشاوى وغيرها.

وفي المقابل نشطت الجبهة الوطنية في تعبئة الجماهير الشعبية لخوض المعركة الانتخابية، وتحدي إجراءات السلطة مهما كلفها الأمر.

 ونشطت القوى المؤيدة للبلاط، وبضمنها حزبا نوري السعيد وصالح جبر [الاتحاد الدستوري] و[حزب الأمة الاشتراكي] وشيوخ الإقطاع الموالين للبلاط ، مكونين جبهة واحدة على الرغم من التنافس بين البلاط وكتلة نوري السعيد، والذي بدا واضحاً عند تأليف وزارة ارشد العمري التي لم يدخلها أحد من حزب نوري السعيد، لكي يضمن عبد الإله أغلبية موالية له في الانتخابات.

 تم تحديد يوم الأربعاء المصادف 9 حزيران للانتخاب، وكان النشاط من قِبل الطرفين يجري على قدم وساق، ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي جرت فيه تلك الانتخابات، والأيام التي سبقته، حيث كانت القوى الوطنية تعمل متكاتفة كخلية نحل في أعداد وتعبئة الجماهير للمشاركة في الانتخاب، والتصويت لمرشحي الجبهة الوطنية في الموصل.
 وكان لي شرف المساهمة النشطة بتلك الحملة الانتخابية، حيث عملنا المستحيل من أجل فوز كافة مرشحي الجبهة الوطنية، وإفشال مرشحي الحكومة والبلاط، رغم كل المحاولات التي بذلتها الإدارة، والأجهزة الأمنية للتلاعب في الانتخابات حيناً، وفي التهديد وإخافة الناس البسطاء حيناً آخر.

 لقد كان ذاك اليوم عيداً وطنياً كبيراً لدى أبناء الشعب في الموصل، فقد فاز مرشحو الجبهة الوطنية بالمقاعد الخمسة المخصصة لمدينة الموصل، وفشل كافة مرشحي السلطة، وخرجت الجماهير الشعبية في اليوم التالي لتوديع النواب المنتخبين في طريقهم إلى بغداد لحضور الجلسة الأولى للمجلس النيابي، وقابلتنا الشرطة بالهراوات، وأخذت تلاحق جماهير الشعب، وتم اعتقال أعداد منا، واستطعتُ الهرب من أيدي شرطة نوري السعيد قافزاً فوق سياج المقبرة التي على يسار الطريق الذي سلكته المظاهرة لكني سقطت على الأرض، وكان فيها بقايا زجاج قنينة مكسورة فأصبت بجرح في ساقي واستطعت ربط الجرح بمنديل والسير في المقبرة على عكس الطريق لكي أصل إلى منطقة بعيدة عن أنظار الشرطة حيث خرجت للشارع واستأجرت عربة[ ربل] وعدت إلى البيت، وكان هربي قد أنقذني من الفصل من وظيفتي، حيث كنت آنذاك مديراً لمدرسة الحضر، وساعدتني الصدفة على التخلص من الاعتقال.

لكن الانتخابات التي جرت في بقية المناطق كانت بعيدة كل البعد عن التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب، وذلك بسبب هيمنة الإقطاعيين الواسعة، وبسبب تدخلات السلطة، وخاصة في بغداد، والمدن الرئيسة، فكانت النتيجة فوز 11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع عدد النواب البالغ  135 نائباً، فيما فاز حزب نوري السعيد [ الاتحاد الدستوري] بـ51 مقعدا، وفاز حزب صالح جبر [ الأمة الاشتراكي] بـ 21 مقعداً،فيما  فاز 38 إقطاعياً من أعوان السلطة الحاكمة بالتزكية دون منافس.

 رفعت الجبهة الوطنية مذكرة إلى الحكومة، وموجهة بالذات إلى وزير الداخلية، في 1 حزيران 1954، تحتج فيها على الانتهاكات الصارخة، والتدخلات غير المشروعة للسلطة في  الانتخابات، وحرمان مرشحي الجبهة الوطنية من حق الدعاية الانتخابية، وعقد الاجتماعات الانتخابية والاتصال مع جماهير الشعب، وإشاعة الخوف والإرهاب بين الناس، واعتقال مؤيدي الجبهة الوطنية، وزجهم في السجون، بشكل سافر أمام أعين الجماهير الشعبية لإرعابهم ومنعهم من التصويت لمرشحي الجبهة الوطنية. وجرى إبعاد مرشحي الجبهة الوطنية في الحلة والكوت عن مناطقهم الانتخابية مخفورين، حيث تم نقلهم بالسيارات المسلحة للشرطة. كما جرت مذبحة في مدينة الحي عندما حاول أبناء الشعب تقديم المرشح المنافس للإقطاعي الكبير[عبد الله الياسين]، حيث قام رجاله البالغ عددهم أكثر من 100 مسلح بالاعتداء على أبناء الشعب، وقد ذهب ضحية الاعتداء المسلح أحد المواطنين وجرح 15 آخرين.

 أثارت المذبحة هيجاناً شديداً لدى الجماهير الشعبية، وهبت المظاهرات  المنددة بالإقطاع والسلطة الحاكمة، وقد شارك في المظاهرات سائر أبناء الحي نساءً ورجالاً، وقد تصدت لهم قوات الشرطة بكل الوسائل القمعية، حيث وقع المزيد من الجرحى، وألقت الشرطة القبض على 74 مواطناً، حيث أحيل  52 فرداً منهم إلى المحاكمة، وحكم على المناضل الشيوعي [علي الشيخ حسين] بالإعدام، وعلى الباقين بالسجن لمدد مختلفة.
بهذا الأسلوب، وبهذا الجو الإرهابي أجرت السلطة الحاكمة الانتخابات، كي تضمن فوز مرشحي النظام، في محاولة مستميتة منها لمنع وصول أي معارض إلى قبة البرلمان.

ومع أن عدد الفائزين من مرشحي الجبهة الوطنية كان 11 نائباً فقط، فقد أقلق ذلك العدد السلطة الحاكمة كثيراً، وهالها أن ترى نخبة مثقفة واعية على مقاعد البرلمان، تقف بالمرصاد للمخططات الإمبريالية التي يراد بها ربط العراق بالأحلاف العدوانية، وبدأت تفكر بالتخلص منهم ومن هذا البرلمان منذ أن أعُلنت نتائج الانتخابات.

ولم يعقد المجلس الجديد سوى جلسة واحدة فقط، في يوم الاثنين 26 تموز 1954، لسماع خطاب العرش، فقد صدرت الإرادة الملكية بتعطيله حتى تم حله على يد حكومة نوري السعيد التي خلفت حكومة أرشد العمري بعد الانتخابات، وصدرت الإرادة الملكية بحله في 3 آب 1954، لكي يجري نوري السعيد انتخابات جديدة، يحول فيها دون وصول أي معارض إلى البرلمان، فكانت النتيجة المجئ بمجلس التزكية المعروف، والذي سأتحدث عنه فيما بعد .


تخرجي من معهد المعلمين وتعييني في محافظة ديالى
في حزيران 1953 تخرجت من معهد المعلمين، حيث جرى توزيع وجبتنا على مختلف المحافظات العراقية، وكان نصيبي محافظة ديالى،  ففي 21 أيلول 1953 تم تعيني معلماً في قرية الحويش  التابعة لقضاء الخالص، وهي أقرب قرية إلى بغداد حيث تبعد عنها مسيرة حوالي نصف ساعة بالسيارة، مما مكنني من السفر إلى بغداد في نهاية كل أسبوع، حيث الملل والضجر، والابتعاد عن الأهل من جهة، وعن العمل الحزبي من جهة أخرى، ولذلك لم استطع الاستمرار في العمل في تلك القرية سوى شهر واحد فقط، حيث قدمت استقالتي إلى مدير التربية.

لكن مدير التربية حاول إقناعي بالعدول عن الاستقالة، وأصدر لي أمراً للنقل إلى قضاء مندلي، مهددا أياي في حالة الإصرار على الاستقالة بأن يطلب من محافظة الموصل عدم إعادة تعييني فيها مرة أخرى. فكرت في الأمر برهة، ثم قلت في نفسي لماذا لا أجرب الذهاب إلى مندلي؟ وعليه وافقت على السفر حيث وصلت مندلي مساء ذلك اليوم، واستقبلني مدير المدرسة، وأّمنَ لي غرفة للمبيت فيها ريثما يجد لي سكناً دائمياً.

في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وأنا أعيش في دوامة، فلقد ابتعدت كثيراً في مدينة مندلي الواقعة على الحدود الإيرانية في أقصى الشرق، وابتعدت عن بغداد التي كنت أزورها كل أسبوع، وشعرت أن الدنيا قد ضاقت بي، فقررت العودة إلى بعقوبة لتقديم استقالتي مرة أخرى، وقابلت مدير التربية، وأبلغته أنني مصر على الاستقالة، وأنه حر في الكتابة إلى محافظة الموصل، والطلب إليها عدم إعادة تعييني مرة أخرى.

وصدر كتاب الاستقالة، وأعطى مدير التربية صورة منه إلى محافظة الموصل طالباً عدم إعادة تعييني عندهم، وغادرت بعقوبة عائداً إلى بغداد ومنها إلى الموصل، وبمجرد وصولي إلى الموصل تنفست الصعداء، فقد عدت إلى مسقط رأسي وأهلي، وبين رفاقي وأصدقائي، وعدت إلى ممارسة عملي السياسي من جديد.

حاول أهلي إبعادي عن العمل السياسي بسبب القلق والخوف من أن أتعرض للسجن والتعذيب إذا ما انكشف أمري، حيث كانت السلطة الحاكمة تلاحق الشيوعيين، ويجري تعذبهم أشنع تعذيب للحصول على الاعترافات عن تنظيمات الحزب، وقد أقنعوني بدراسة الهندسة في دمشق، وكانت هذه هي رغبتي الشديدة، وبالفعل قدمت طلباً لجامعة دمشق، وتم قبولي فيها، وسارعت بإرسال رسالة للحزب طالباً الموافقة على سفري، لكن الحزب رفض طلبي وابلغني برسالة جوابية تضمنت التالي: { يجب إخضاع كافة المصالح الشخصية للحزب دون قيد أو شرط، نمنعكم من السفر}.

 وبسبب اندفاعي للعمل الحزبي التزمت بقرار منظمة الحزب وألغيت مشروع دراستي للهندسة في دمشق، وقررت التشبث بالتعيين في محافظة الموصل على الرغم من طلب مدير معارف محافظة ديالى، وتوسط أحد أصدقاء والدي في الأمر، وكان مديراً للتحريرات في المحافظة، حيث استصدر قراراً من المتصرف [المحافظ ] بتعييني من جديد على ملاك محافظة الموصل.

تلقفت القرار وأسرعت إلى مديرية معارف الموصل، وقدمت لوكيل المدير التربية قرار تعيني من المحافظة، حيث أصدر قراراً بتعيني في منطقة الحضر التاريخية المشهورة، وطلب مني افتتاح أول مدرسة فيها. وهكذا استلمت أمر التعيين، وسافرت إلى الحضر في 20 كانون الأول 1953، وتم افتتاح المدرسة في اليوم التالي، وكنت في تلك الحالة معلماً ومديراً للمدرسة، وأقوم بتدريس جميع المواد للصف الأول.

كانت ظروف عملي في الحضر صعبة للغاية، حيث أنها تقع في وسط الصحراء، وبعيدة عن مدينة الموصل مسافة 160 كيلومتر، وطريقها غير معبد، وعند هطول الأمطار ينقطع الطريق لبضعة أيام، وكان سكان المنطقة هم شرطة البادية، حيث كانت الحضر مقراً لمديرية شرطة البادية، وكان سائر طلابي من أولاد الشرطة، وكان مدير الشرطة العقيد [حسين قزاز] يتمتع بسلطة حاكم مطلق بموجب قانون العشائر السيئ الصيت في العهد الملكي، ويستطيع الحكم بالسجن لسنوات طويلة، وكان أفراد شرطة البادية يهابونه كثيراً جداً.
وبسبب تلك الظروف الصعبة كان ينبغي أن أكون حذراً جداً من انكشاف أمري كشيوعي ملتزم، فكنت حذراً من إقامة أية علاقة معهم، ومع ذلك كان البعض منهم يزورني في المدرسة التي أسكن فيها في الوقت نفسه، وأذكر مرة كنت أقرأ للكاتب والعالم الأزهري خالد محمد خالد كتاب [الديمقراطية أبداً] وفاجأني دخول مأمور المركز والكتاب على المنضدة حيث تعذر علي إخفائه، فالتفت إليَّ مأمور المركز قائلاً:
{ أستاذ حامد هذا كتاب شيوعي}.
 لكنني أجبته على الفور أن الكتاب يعود لعالم دين أزهري يدعى خالد محمد خالد، غير أنه أصر على موقفه قائلاً:
{هذا الكتاب ممنوع في العراق، وأضاف أنا عملت لسنوات عديدة في الشعبة الخاصة [الأمن ] وأنا متأكد أن الكتاب ممنوعاً }.
حاولت السيطرة على موقفي، وسألته على الفور كيف يكون رجل الدين الأزهري شيوعياً  فأنا لم أجد فيه ما يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى الشيوعية، وطلبت منه أن يتناول الكتاب ويريني أي كلمة أو عبارة تشير إلى ذلك، لكنه أجابني على الفور:
{أستاذ دعك من هذا، وأنا أخاف عليك من الأذى، الرجاء التخلص من الكتاب كي لا تعرض نفسك للخطر}.
 شكرته على كلامه، ووعدته بالتخلص من الكتاب، لكنني في قرارة نفسي كنت قلقاً جداً منه، فهؤلاء هم  شرطة لا يمكن الاطمئنان إليهم، وما أن خرج من الغرفة حتى سارعت إلى إخفائه في مكان أمين.

ومنذ تلك الحادثة بدأت أشعر أنني مراقب من هؤلاء، وتغير موقف بعضهم مني، وخاصة مدير شرطة البادية، فصممت على الانتقال من الحضر حتى لو اقتضى الأمر الاستقالة مرة أخرى.
وفي السنة التالية، وقبل صدور قرارات النقل السنوية قابلت مدير المعارف، وكان رجلاً طيباً جداً ومن عائلة مشهود لها بالوطنية هو السيد [ عوني بكر صدقي ] أحد أعضاء أول الخلايا الماركسية في العراق في العشرينات، وشقيق الصحفي المعروف [ لطفي بكر صدقي] حيث عرضت عليه الأمر، وطلبت منه نقلي إلى أي مدرسة أخرى، وأبلغته في حالة تعذر نقلي فسوف لن أبقَ في الحضر حتى لو اضطررت للاستقالة .

كان موقف الأستاذ عوني بكر صدقي نبيلاً، فقد ابلغني أنه سينقلني إلى مدرسة كبيرة وقريبة من الموصل مديراً لها، وقد أثنى على جهودي خلال المدة التي عملت فيها في الحضر معتبراً نقلي مكافئة لي.

وبالفعل صدر في أوائل أيلول 1954 أمر نقلي مديراً لمدرسة المنار الواقعة في منتصف الطريق بين مدينتي الموصل ودهوك، على بعد 34 كيلومتراً عن مركز الموصل، وقد استطعت شراء سيارة مستعملة، وكنت أعود كل يوم إلى الموصل مع بقية المعلمين بعد نهاية الدوام، ونحضر في الصباح الباكر معاً قبل الدوام، مما أراحني ذلك كثيراً، حيث استطعت مواصلة عملي السياسي في الموصل.

 كانت العلاقة التي ربطتني بالمعلمين والطلاب، ومع أهالي المنطقة طيبة جدا وإلى ابعد الحدود، وقد استطعت كسب محبة واحترام أولياء أمور الطلاب، مما مكني من الشروع بتكوين الجمعيات الفلاحية في المنطقة والقرى المجاورة لها، وقد ضمت تلك الجمعيات أعداد غفيرة من رجالات المنطقة، وسارعت إلى فتح صف لمكافحة الأمية بعد استحصال موافقة مديرية المعارف [مديرية التربية] بالتعاون مع كافة زملائي المعلمين، وقد لبى أولياء أمور الطلاب الدعوة للانخراط في تلك الدورة، وتعليمهم القراءة والكتابة، مما وطد العلاقة التي ربطتني بهم من خلال الجمعيات الفلاحية، وكنت أتحدث إليهم في كل فرصة مؤاتية عن الظروف السياسية والاجتماعية التي يمر بها العراق لزيادة وعيهم.









179
احداث في ذاكرتي
الحلقة الخامسة
حامد الحمداني                                                   30/11/2014

وثبة تشرين الثاني المجيدة عام 1952

كانت الأوضاع السياسية في البلاد عام 1952 تبدو هادئة ظاهرياً، بعد تلك الوثبة الكبرى التي اجتاحت العراق من أقصاه إلى أقصاه عام 948   إلا أن الهدوء لم يستمر طويلاً بسبب تردي الأوضاع المعيشية للشعب من جهة، وعودة الوجوه البورتسموثية إلى واجهة السلطة من جديد من جهة أخرى، مما شكل تحدياً لمشاعر الشعب الوطنية، وزاد من توتر الوضع معاودة هذه السلطة لإجراءاتها القمعية، وانتهاك الحريات العامة من جديد.

فلقد مارست حكومة نوري السعيد شتى أساليب القمع للحريات العامة، واعتدت على حرية الصحافة، وقيدت حرية الأحزاب السياسية، وقامت بإغلاق بعضها، هذا إلى جانب التردي الخطير للأوضاع المعيشية لغالبية أبناء الشعب العراقي.

ففي عام 1949 أقدمت حكومة نوري السعيد على إعدام قادة الحزب الشيوعي كما أسلفنا من قبل، وشنت حملة شعواء على جميع القوى والأحزاب الوطنية التي شاركت في وثبة كانون المجيدة، وخنقت الحريات العامة والصحافة الوطنية وصوت الشعب.

وجاء تخفيض الدينار العراقي المرتبط بالباون الإسترليني تبعاً لانخفاض الأخير من 4 دولارات و3 سنتات للجنيه الواحد إلى دولارين وثمانين سنتاً، والذي تسبب بحدوث أزمة اقتصادية حادة ضاعفت من معاناة الكادحين من أبناء الشعب والطبقة المتوسطة.

 وأعقب ذلك المفاوضات التي أجراها نوري السعيد مع شركات النفط، والتي جاءت لمصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية على حساب الشعب العراقي، مما أدى إلى موجه من الاحتجاجات على سياسة الحكومة، وتفريطها بمصالح الشعب والوطن، ودفع نواب المعارضة في البرلمان، والبالغ عددهم 37 نائباً إلى الاستقالة من عضوية المجلس احتجاجاً على سياسة الحكومة، مما صعد حدة التناقض بين الشعب والسلطة الحاكمة.

 وجاء إضراب عمال الميناء في البصرة المطالبين بحقوقهم، ولجوء الحكومة إلى استخدام القوة لكسر الإضراب، وسقوط العديد من القتلى والجرحى في صفوف المضربين، وبين أبناء الشعب الذين وقفوا إلى جانبهم ليزيد من خطورة الموقف، ومن تراكم الغضب الشعبي، مما دفع بالأحزاب الوطنية إلى تقديم المذكرات الاحتجاجية إلى الوصي عبد الإله، والتي تضمنت شرحا وافياً لمدى التدهور الحاصل في أوضاع البلاد وانتشار الفساد، وقمع الحريات العامة، وحرية الأحزاب والصحافة، وكم أفواه الشعب.

 لكن تجاهل الوصي لتلك المذكرات والمطالب التي تضمنتها  لمعالجة الأوضاع، ولجوئه إلى التطاول الوقح على السيد طه الهاشمي في مؤتمر البلاط، كل ذلك جعل الشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية في حالة من اليأس من إصلاح أوضاع البلاد، ورفع من حدة التناقض بين الشعب والفئة الحاكمة إلى الدرجة الحرجة التي كانت تنذر بانفجار عنيف يتجاوز انفجار كانون الثاني عام 1948، حيث كانت الجماهير الشعبية تعيش حالة من الغليان الشديد والغضب العارم من سلوك الحاكمين، وتجاهلهم لإرادة الشعب وحقوقه الديمقراطية، وهي تنتظر الشرارة التي تفجر الانتفاضة.

وجاء قرار عمادة كلية الصيدلة والكيمياء القاضي باعتبار الطالب المعيد لدرس ما معيداً لكافة الدروس، مما أثار غضب الطلاب الذين سارعوا إلى إعلان الإضراب عن الدراسة في 16 تشرين الأول 1952. أدركت الحكومة خطورةالحالة، و تطور وتصاعد  الإضراب، واندلاع المظاهرات وتوسعها، فبادرت إلى الإعلان أن القرار لا يشمل الصف المنتهي لهذا العام فقط، لكن الطلاب واصلوا إضرابهم مطالبين بإلغاء القرار، ونتيجة لاستمرار الإضراب والمظاهرات اضطرت وزارة الصحة إلى إصدار قرار جديد يقضي بإلغاء قرار العمادة.

لكن الطلاب فوجئوا في اليوم التالي بوقوع اعتداء من قبل مجهولين داخل الحرم الجامعي على الطلاب الذين كانوا من النشطين خلال الإضراب، مما أدى إلى قيام المظاهرات الطلابية من جديد، وإعلان كافة طلاب الكليات الإضراب عن الدراسة، ثم تبعهم طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وأعلنوا إضرابهم عن الدراسة كذلك في 22 تشرين الثاني تضامناً مع طلاب كلية الصيدلة.

بدأت موجة المظاهرات تأخذ منحاً جديداً، بعد أن أخذت الجماهير الشعبية تنظم إلى الطلاب المتظاهرين، وتطورت إلى مظاهرات سياسية تطالب بتحقيق المطالب التي تضمنتها مذكرات الأحزاب الوطنية إلى الوصي، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد، وبسرعة تحولت الاحتجاجات على الأوضاع إلى مظاهرات تهتف بسقوط عبد الإله والحكومة، وإخراج الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين من البلاد.

كان انطلاق المظاهرات الشعبية من [محلة الفضل]، حيث تصدت لها قوات الشرطة مستخدمة الأسلحة النارية ضد المتظاهرين الذين تصدوا للشرطة بالعصي والحجارة، وبعض المسدسات، حيث وقعت معارك شرسة بين الطرفين استبسل فيها أبناء الشعب مبدين بطولة خارقة، واستشهد نتيجة الصدام أحد المتظاهرين، وجرح 14 آخرين، فيما أصيب  38 شرطيا بجراح، ونتيجة لتدهور الوضع سارع رئيس الوزراء مصطفى العمري إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي على العرش عبد الإله.

لكن نطاق المظاهرات والاحتجاجات أخذت بالاتساع في 23 تشرين الثاني، وجرى المزيد من الصِدام مع قوات الشرطة، حيث أصيب 25 متظاهراً بجراح كان أغلبهم من العمال والكادحين مما ألهب الموقف، واندفع المتظاهرون الشيوعيون والديمقراطيون، ورابطة الشباب القومي بالاستيلاء على مركز شرطة قنبر علي، و مركز شرطة باب الشيخ، وتم الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة العائدة للشرطة.

 كما جرى إحراق[مكتب الاستعلامات الأمريكي] قرب سوق الصفافير، وقد وقع خلال الصِدام مع الشرطة 12 شهيداً من العمال والكادحين، وكان رد فعل الجماهير الغاضبة على استشهاد هذا العدد الكبير من المواطنين مزيداً من الاندفاع والتصدي للقوى القمعية للسلطة الحاكمة.

وفي المساء كانت السيطرة قد خرجت من أيدي الشرطة، وعمت المظاهرات في كل مكان.
أصبح الوضع خطيراً جداً في بغداد مساء يوم 23 تشرين الثاني، وحاولت الحكومة الاستعانة بقوات الشرطة السيارة المدربة خصيصاً لقمع المظاهرات، حيث نزلت إلى الشوارع واصطدمت بالمتظاهرين، ووقع المزيد من القتلى والجرحى حيث استشهد 23 مواطناً، فيما قتل 4 من أفراد قوة الشرطة السيارة، وتم إحراق عدد من سيارات الشرطة، وانتهت المعركة ذلك اليوم بهزيمة قوات الشرطة السيارة، وأصبح الوضع في بغداد خطيراً جداً، وامتدت المظاهرات إلى سائر المدن العراقية الأخرى تضامناً مع جماهير بغداد، فقد اجتاحت شوارع الموصل، شانها شان بقية المدن الأخرى مظاهرات صاخبة، واشتبكت الجماهير العزلاء إلا بقوة إيمانها، وبقضيتها العادلة في الحرية والحياة الكريمة، مع قوات الشرطة القمعية المدججة بالسلاح، وأجبرتها على الهروب مرتعبة خائفة من غضب جماهير الشعب التي سيطرت على المدينة.

لقد كان لي  شرف المساهمة في تلك المظاهرات، كما سبق أن ساهمت في وثبة كانون المجيدة عام 1948، غير أن الفرق في المساهمتين أنني هنا كنت أكثر وعياً، وأصلب عوداً، وكنت صاحب قضية ومبدأ.

لم يعد لقوات الحكومة القمعية أي سيطرة على الشارع العراقي، مما اضطر الوصي، وقد أصابه الرعب من خطورة الموقف إلى قبول استقالة حكومة مصطفى العمري، واستدعاء رئيس أركان الجيش الفريق [ نور الدين محمود ] لتأليف وزارة جديدة في ذلك اليوم 23 تشرين الثاني 1952، وتم إنزال الجيش إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى.
 سارعت الحكومة الجديدة إلى إعلان الأحكام العرفية في نفس اليوم، وجرى تأليف المحاكم العرفية العسكرية، وأصدرت أمراً بمنع كافة المظاهرات والتجمعات، وحمل الأسلحة منذرة المخالفين  بإنزال أشد  العقوبات بحقهم. كما أعلنت الحكومة عن حل الأحزاب السياسية كافة، وتعطيل معظم الصحف، حيث شمل التعطيل صحف الأهالي، ولواء الاستقلال، والجبهة الشعبية، لسان حال الأحزاب السياسية المعارضة، وكذلك الصحف غير الحزبية كالقبس، والنبأ، واليقظة، وصوت الشعب، والسجل، والحصون، عراق اليوم، والوادي، والآراء، والأفكار، والجهاد، والعالم العربي.

 لكن المظاهرات استمرت بعنفوانها متحدية الحكم العسكري الجديد، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط الحكم العسكري، ويطالبون بتشكيل حكومة مدنية برئاسة زعيم المعارضة السيد كامل الجادرجي .

 وقام الجيش بالتصدي للمتظاهرين، وجرى إطلاق النار عليهم حيث استشهد 8 مواطنين، وجرح 84 آخرين، وأصدرت الحكومة قرارا بمنع التجول من الساعة السادسة مساءاً وحتى الساعة السادسة صباحاً، وقامت خلال الليل بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الشعب، شملت ما يزيد على 3000 مواطن بينهم العديد من الوزراء السابقين والنواب والصحفيين وقادة الأحزاب، والعديد من الشخصيات السياسية المعروفة، وجرى تقديمهم جميعاً إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حكم على أثنين منهم بالإعدام، وعلى 958 شخصاً منهم بالسجن لمدد مختلفة، كما حُكم على 582 شخصاً آخرين بالغرامة، وعلى 294 شخصاً بالكفالة، وتم الإفراج عن 1161 آخرين.

وبعد أن تم للحكومة إخماد الوثبة المجيدة بالحديد والنار، ومصادرة كافة الحريات العامة، وإغلاق الأحزاب والصحف، والزج بمئات الوطنيين في السجون، حاولت القيام بعض الإجراءات في محاولة منها لتخفيف الغضب الشعبي العارم وامتصاصه، فأصدرت عدة مراسيم تتعلق بخفض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة والمصدرة [مرسوم رقم 1]، وإلغاء رسم الاستهلاك وضريبة الأرض عن المخضرات والأثمار الطرية [ مرسوم رقم 2 ]، ومرسوم تخفيض ضريبة الأملاك [مرسوم رقم 3 ] وغيرها من المراسيم الأخرى، لكن المرسوم الأهم كان [مرسوم رقم 6] الخاص بتعديل قانون الانتخاب وجعله على مرحلة واحدة أي مباشراً.

 لكن تلك المراسيم، باستثناء المرسوم رقم 6. لم تكن إلا إجراءات تخديرية لم تستطع حل المشاكل المعيشية التي يعاني منها الشعب، وحتى مرسوم تعديل قانون الانتخاب لم يكن سوى حبراً على ورق، ذلك أن التدخلات التي جرت أثناء الانتخابات التي جرت في 17 كانون الثاني 1953 كانت أكثر من مثيلاتها السابقة، حيث فاز فيها بالتزكية 76 نائباً من مجموع 135 نائباً، وقد وصل الأمر بجميل المدفعي الذي تولى رئاسة الوزارة فيما بعد أن صرح في 17 شباط، وهو في قمة السلطة قائلاً : [أنا اعتقد أن بعض الانتخابات غير المباشرة كانت قد جرت أحسن من الانتخابات المباشرة الحالية].

لم تثنٍ إجراءات حكومة نور الدين محمود أبناء الشعب عن سعيهم للخلاص من الزمرة الحاكمة، وإنقاذ البلاد من الهيمنة الإمبريالية، وبدأت بذور الثورة تنمو في أحشاء المجتمع العراقي من جديد لإسقاط ذلك النظام الذي كان هو والشعب على طرفي نقيض، مما جعل أي أمل في إصلاح الأوضاع السياسية في البلاد أمراً مستحيلاً، وأيقن الشعب وقواه الوطنية، والضباط الوطنيون في الجيش أن الطريق لإصلاح الأوضاع لا يمكن أن يتم إلا بقلب النظام القائم، وإنهاء سلطة تلك الفئة التي باعت نفسها ووطنها للإمبرياليين.

أما حكومة نور الدين محمود فقد أنجزت المهمة التي أناطها بها الوصي عبد الإله في قمع الوثبة الشعبية العارمة، ولم يبقَ أي مبرر لاستمرارها، وعليه طلب الوصي عبد الإله من نور الدين محمود تقديم استقالة حكومته، وبالفعل تقدم محمود باستقالة حكومته إلى الوصي في 23 كانون الثاني 1953، وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه، وتكليف السيد جميل المدفعي بتشكيل الوزارة الجديدة في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي من إجراءات حكومة نوري الدين محمود والبلاط الملكي.





180
احداث في ذاكرتي
الحلقة الرابعة
حامد الحمداني                                                   28/10/2014
وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948
 وبداية نشاطي الوطني
كانت الخسارة كبيرة بفقد مرشدي شفيق، لكن ما غرسه فيَّ من حب للوطن، وكره للاستعمار شجعني كثيراً على السير على خطاه، فكانت توجيهاته الوطنية تسيطر على أفكاري وأنا صبي يافع، وجاءت وثبة كانون الثاني الوطنية الكبرى عام 1948 احتجاجاً على عقد حكومة صالح جبرـ نوري السعيد[معاهدة بورتسموث] الاسترقاقية مع بريطانيا، وتآمر السلطة الملكية الحاكمة مع الإمبريالية البريطانية والأمريكية على مصير فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني فيها، وتشريد سكانها العرب من ديارهم.

 جاءت هذه الوثبة الجبارة لتنفس ما في صدورنا من كراهية  للاستعمار البريطاني المهيمن على معظم البلاد العربية، وعلى السلطة العراقية الحاكمة الخادمة المطيعة للمستعمرين، والمنفذة لمشاريعهم الاستعمارية، والحامية لمصالحهم.

 وهكذا وجدت نفسي لأول مرة في حياتي أنغمر في العمل الوطني، وأشارك أبناء الشعب في المظاهرات العارمة التي اجتاحت مدينة الموصل، وكان لي شرف قيادة المظاهرات التي انطلقت من الثانوية الشرقية بالتعاون مع زميلين لي هما الأخ [سامي محمود النائب] والأخ [ سامي إبراهيم الجلبي ]، وبسبب الدور البارز الذي لعبته في تلك المظاهرات أطلق عليَّ طلاب الثانوية لقب [حامد الوطني]، وهو اسم كنت افخر به دائماً، وأصبحت معروفاً بين سائرأخواني الطلاب به.

  كانت المظاهرات تتوسع كلما سارت في الشوارع، وأصبحت من  الضخامة بحيث أعجزت شرطة السلطة عن قمعها، في تلك الأيام اتخذنا قراراً، نحن الطلاب بالإضراب عن الدراسة والاعتصام في الإعدادية المركزية لحين سقوط وزارة صالح جبرـ نوري السعيد، واستطاعت المظاهرات العارمة التي عمت بغداد وسائر المدن الأخرى السيطرة على الشارع العراقي بعد مصادمات عنيفة مع قوات الشرطة التي ولت هاربة تاركة الميدان للشعب، واضطرت الحكومة إلى الاستقالة، وهروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق خوفاً من غضب الجماهير، واضطر الوصي [عبد الإله ] إلى الإعلان من دار الإذاعة في خطاب له عن التراجع عن المعاهدة، وإقالة الوزارة، وتعيين الشيخ [ محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان رئيساً للوزراء، حيث تم تشكيل وزارة تهدئة قامت بإطلاق سراح المعتقلين، وأعلنت رفضها لمعاهدة [بورتسموث]، وحلت البرلمان، وأجرت انتخابات جديدة.
 لكن تلك الانتخابات جرت تحت ظل الأحكام العرفية، لكي تأتي بمجلس نيابي من نفس أعضاء الفئة الحاكمة، وأعلن رئيس الوزراء عن عزم الحكومة الجديدة على إنقاذ فلسطين!، وإرسال الجيش العراقي ليساهم مع بقية الجيوش العربية من أجل تحرير فلسطين من أيدي العصابات الصهيونية التي مكنتها قوات الاحتلال البريطاني المنسحبة من السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد.

كما صدر قرار من هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الغرباء الذين جاءوا من كل حدب وصوب، ليحتلوا بيوت وأراضي وأملاك سكانها العرب الذين أصبحوا لاجئين بلا مأوى، مشردين في مختلف البلدان العربية، بعد أن فقدوا كل شيء، وكان أملهم في الحكام العرب وجيوشهم  ليعيدوهم إلى وطنهم وأملاكهم وبيوتهم!!.

 لكن الحكام العرب الذين كانوا أداة طيعة بيد الإمبرياليين الإنكليز والأمريكيين غير جادين مطلقاً في تصديهم للعصابات الصهيونية، حيث لم يكن إرسال الجيوش العربية إلى فلسطين سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون، ومثلها الحكام العرب، فلا يُعقل أبداً أن تكون عدة جيوش عربية منظمة ومسلحة غير قادرة على منازلة ودحر مجموعة من العصابات الصهيونية المسلحة.

فقد أعطيت قيادة الجيوش العربية في الجبهة الشمالية للجنرال البريطاني [ كلوب باشا] الذي كان قائداً لجيش دويلة [ شرق الأردن]، والتي نصّبَ البريطانيون الأمير عبد الله بن الحسين ملكاً عليها، وقد عُرف الملك بعلاقاته الوثيقة بقادة المنظمات الصهيونية من جهة، وولائه المطلق لحكومة بريطانيا من جهة أخرى، وهو الذي حال بين الجيشين العراقي والسوري وبين القضاء على المنظمات الصهيونية، وقد شاعت في تلك الأيام مقولة [ ماكو أوامر]،أي لا يوجد أوامر بالتقدم، ومهاجمة تلك العصابات الصهيونية.

في حين كان الجيش المصري في الجبهة الجنوبية قد جرى تجهيزه من قبل البريطانيين بالأسلحة الفاسدة، وانتشرت تلك الفضيحة في سائر العالم العربي، وبذلك استطاعت العصابات الصهيونية المسلحة تطويق الجيش المصري، وإيقاع الخسائر الجسيمة في صفوفه.

حاول قادة القوات العراقية في الجبهة الشمالية الزحف نحو الجنوب، من أجل فك الحصار الصهيوني عن قوات الجيش المصري المطوقة، لكن القيادة الأردنية المتمثلة بالملك عبد الله، وقائد جيشه كلوب باشا رفضت السماح للجيش العراقي بالعبور نحو الجبهة الجنوبية، حيث استمر الجيش المصري المطوق يجابه نيران العصابات الصهيونية التي كانت تبغي سحقه، وهو بانتظار الدعم والإسناد من أشقائه!!.

أحدثت تلك الحرب الكارثية خيبة أمل كبير لدى سائر الضباط الوطنيين في الجيوش العربية، وحنقهم على الحكام العرب، وخيانتهم المفضوحة لشعوبهم ولجيوشهم إرضاءً للمستعمرين البريطانيين، فقد كانوا أدوات طيّعة بيدهم، ومنفذين لأوامرهم.
لقد كانت تلك الكارثة التي حلت بالجيوش العربية، واحتلال العصابات الصهيونية للجزء الأكبر من فلسطين، وتشريد أهلها، بعد تلك المجازر الوحشية البشعة التي ارتكبتها هذه العصابات ضد المواطنين الفلسطينيين، قد أثارت النقمة في نفوس أولئك الضباط. وكان الزعيم عبد الكريم قاسم أحد قادة أفواجها، وشجعتهم على التفكير منذ ُ ذلك الحين في تشكيل حركات ثورية داخل القوات المسلحة في البلدان العربية من أجل التخلص من تلك الأنظمة الفاسدة والعميلة للمستعمرين، فكانت ثورة 23 تموز في مصر عام 1952  وثورة 14 تموز 1958 في العراق بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والانقلابات العسكرية المتتالية في سوريا، وسأتناول تلك المرحلة بشئ من التفصيل فيما بعد.
 
الإنتماء إلى الحزب الشيوعي
لم تكد السلطة الحاكمة تستعيد سيطرتها على الأوضاع في البلاد، ويعود نوري السعيد إلى الحكم من جديد، حتى بادر إلى شن حملة شعواء على القوى الوطنية، وبصورة خاصة الحزب الشيوعي، حيث أقدم على إعدام قادته يوسف سلمان [ فهد ] وزكي بسيم [ حازم ] ومحمد حسين الشبيبي [صارم ] مما سبب ذلك العمل الشنيع استياءاً شديداً، وموجة احتجاجات عارمة لدى أبناء الشعب، وكان المثقفون يتحدثون بشكل علني عن تلك الجريمة النكراء التي استهدف منها النظام إخافة الشعب العراقي والعمل على تدجينه بعد تلك الوثبة التي كادت أن تسقط النظام الملكي.

في تلك الأيام تعرفت على بعض الأصدقاء الطلاب ممن كانت لهم علاقة بالحزب الشيوعي، أذكر من بينهم الأخ [خليل عبد العزيز]، الذي كان على علاقة مع أقربائي وأصدقائي الأعزاء [عوني يونس الدباغ ] و[زهير رشيد الدباغ ] و[نجيب نجم الدين]، وكنت آنذاك لا اعرف شيئاً عن الماركسية والشيوعية، حيث بدأت أطالع العديد من الكتب الماركسية والتقدمية التي قربتني أكثر فأكثر من الحزب، ولم يمضي زمن طويل حتى انتميت للحزب في عام 1950، وتم منحي الاسم الحزبي  [ناهض]، والذي سميت ولدي فيما بعد بهذا الاسم اعتزازاً به، وكان ذلك التاريخ نقطة تحول في حياتي، وبداية للمصاعب والمعانات التي جابهتني من فصل وسجن وتعذيب واغتراب.

بدأت حياتي الحزبية بنشاط كبير ساعدني في ذلك سمعتي الوطنية الطيبة التي اكتسبتها إبان وثبة كانون الثاني المجيدة، وقيادتي للمظاهرات التي انطلقت من الثانوية الشرقية من جهة، وكوني غير مكشوف أمام السلطات الأمنية، واستطعت كسب العديد من زملائي الطلاب إلى صفوف الحزب الذي كان في تلك الأيام يلعب الدور الأكبر بين سائر الأحزاب السياسية العاملة على الساحة العراقية، والمتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي بزعامة الشخصية الوطنية البارزة السيد [كامل الجادرجي]، وحزب الاستقلال ذو التوجه القومي بزعامة السيد [محمد مهدي كبة]، ومن رحم هذا الحزب نشأ حزب البعث، لكن منتسبيه في الموصل كانوا يعدون على أصابع اليد أذكر منهم عبد الغفار الصائغ و حكمت البزاز.

كنا نحن الشيوعيون قريبين جداً من سياسة الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يضم العناصر الوطنية الديمقراطية، وفي مقدمتهم السادة [محمد حديد] و[ عبد الغني الملاح ] و [إسحاق بيثون]، ولكون الحزب الشيوعي حزباً غير مجاز قانوناً، فلم يكن لديه مقراً يلتقي فيه رفاق الحزب، وكنا نزور مقر الحزب الوطني الديمقراطي باستمرار، حيث جمعتنا بأعضاء الحزب علاقات حميمة، وكانت السلطات الأمنية تراقب عن كثب الداخلين في مقر الحزب والخارجين منه، وكثيراً ما تعرض مقر الحزب للمضايقات وحتى الإغلاق.
 أما حزب الاستقلال فقد كان يضم العناصر الغنية والإقطاعية من العوائل الموصلية، والذين لا يرتاحون لنشاط الشيوعيين، بل لقد وقفوا ضدهم إبان وثبة كانون المجيدة.

أما البعثيون فلم يكن لهم إي دور فاعل في الشارع السياسي العراقي بسبب ضعف تنظيمهم، وكانوا يدعمون مواقف حزب الاستقلال القومي. وعلى الرغم من كون حزب الاستقلال كان معارضاً للسلطة الحاكمة آنذاك، لكن الأجهزة الأمنية لم تكن تنظر إليه نظرتها للحزب الوطني الديمقراطي، ولم تكن الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم تخشى من هذا الحزب، ولا تطارد أعضائه.

لقد سعى الحزب الشيوعي باستمرار إلى التقرب من الأحزاب الوطنية المعارضة لجمع شملها، والدعوة لقيام جبهة وطنية تستطيع التأثير على مجريات الوضع السياسي في البلاد، وخوض الانتخابات ضد مرشحي البلاط والحكومة.
وبالفعل استطاع قادة الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال توحيد جهودهم بتشكيل جبهة وطنية لخوض الانتخابات عام 1954 واستطاعت على الرغم من كل محاولات السلطة لتزييف الانتخابات تحقيق نجاحات أذهلت الفئة الحاكمة آنذاك، حيث لم يستطع أي مرشح من جانب السلطة الفوز في الانتخابات في الموصل، وفاز مرشحي الجبهة الوطنية بالمقاعد النيابية الخمسة المخصصة للمحافظة، وسأتناول تلك الانتخابات بالتفصيل فيما بعد.




181
أحداث في ذاكرتي
الحلقة الثالثة
حامد الحمداني                                                   26/10/2014
                                                                     
اندلاع الحرب العالمية الثانية 
                         
استقلال العائلة:
في أواخر نيسان من هذا العام انتقلنا إلى دارنا الجديد، وشعرنا بالحرية لأول مرة، فقد استقلت العائلة، ولم يعد هناك من ينغص عيشتها، هذا بالإضافة إلى أن الدار الجديد كان يحتوي على أربعة غرف وسرداب وإيوانين وبالكون، بالإضافة إلى الحمام والمطبخ، وتوزعت العائلة على الغرف، بعد أن عشنا لسنوات عديدة في غرفة واحدة.
 كما تمتعنا لأول مرة بنعيم الكهرباء، والماء الصافي النقي، إضافة إلى الموقع الرائع بجوار حديقة الشهداء التي كان الناس يأمونها كل يوم للترويح عن النفس، حيث لم يكن في دورهم الحدائق، فقد كانت معظم الدور في درابين [طرق ضيقه بلا منفذ] لا تدخلها سيارة ولا عربة، ولا يوجد فيها حدائق.
لكن هذا العام [1939] لم يمضي دون منغصات، فقد توفي عمي الأكبر [حمو] فجأة، مما سبب لنا صدمة كبيرة جداً، وكان قد سبقه عمي داود، وهو أكبر أعمامي، حيث جنده الأتراك في الجيش وأرسلوه إلى الحرب في جبهة القفقاس أبان الحرب العالمية الأولى، ولم يعد منها بعد ذلك حيث قُتل ودُفن هناك.

اندلاع الحرب العالمية الثانية:
في الثالث من أيلول 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية في أوربا والتي امتدت لتشمل الشرق الأقصى والعالم فيما بعد، بين دول المحور التي ضمت ألمانيا وإيطاليا واليابان، فيما بعد، ودول الحلفاء بريطانيا وفرنسا ومن ثم الولايات المتحدة، ثم الاتحاد السوفيتي بعد أن هاجمه هتلر دكتاتور ألمانيا، واضطر لدخول الحرب ضد دول المحور.
بدأ هتلر منذ عام 1938 ينفذ خططه للتوسع ،حيث أقدم على احتلال [النمسا] و[جيكوسلوفاكيا] وأعلن ضمهما إلى المانيا دون أن يلقى أي ردع من جانب الدول الغربية.
وهكذا أخذت شهية هتلر تتصاعد لضم المزيد من الأراضي، فطالب بضم مقاطعة [ دانزج ]البولندية إلى المانيا ، مدعياً أنها مقاطعة ألمانية، ولما لم ترضخ حكومة بولندا إلى ضغوطه أقدم هتلر على مهاجمة بولندا عام ،1939 دافعاً بقوات كبيرة برية وجوية، واستطاع ابتلاعها خلال أسبوع .
 عند ذلك أدرك حكام بريطانيا وفرنسا أن أطماع هتلر لن تقف عند حد، وأن الخطر الألماني سوف يصل إليهما عاجلاً أم عاجلاً، حيث سارعا إلى إعلان الحرب على المانيا في 3 أيلول 1939، وبذلك اشتعل لهيب الحرب ليشمل أوربا بأسرها.
 ثم توسعت بدخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا، وإقدام اليابان على قصف ميناء [ بيرل هاربر] الأمريكي، ودخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء، وبذلك امتدت الحرب لتشمل العالم أجمع، ولم ينج من نارها سوى تركيا والسويد،وسويسرا، حيث بقيت هذه الدول على الحياد.
 العراق والحرب العالمية الثانية:
لم تكد بريطانيا تعلن الحرب على المانيا، واشتعال لهيب الحرب في أنحاء أوربا، حتى بادر السفير البريطاني للاتصال بنوري السعيد على الفور طالباً منه تطبيق معاهدة التحالف المبرمة بين البلدين في 30 حزيران 1930، وإعلان الحرب على  المانيا، وقد طمأن نوري السعيد السفير البريطاني، ووعده بقطع العلاقات مع ألمانيا، وإعلان الحرب عليها بأسرع وقت.
وعلى الفور أبلغ نوري السعيد الوصي عبد الإله برغبة بريطانيا بإعلان الحرب على المانيا، وتقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الإله، في 5 أيلول 1939، وطرح نوري السعيد أمام مجلس الوزراء الطلب البريطاني.
 لكن خلافاً حاداً حدث داخل مجلس الوزراء، فقد رفض وزير الدفاع  طه الهاشمي، ووزير العدلية محمود صبحي الدفتري، فكرة إعلان الحرب على المانيا، والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، و أعلنا أنهما سيقدمان استقالتهما إذا ما أصر نوري السعيد على إعلان الحرب.
 وإزاء ذلك الموقف اضطر نوري السعيد للتراجع مؤقتاً والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية، وسارع بالطلب من السفير الألماني [الدكتور كروبا] بمغادرة البلاد تحت حراسة الشرطة نحو سوريا، كما قام نوري السعيد باعتقال كافة الرعايا الألمان، وسلمهم للقوات البريطانية المتواجدة في قاعدة الحبانية، حيث قامت بتسفيرهم إلى الهند كأسرى حرب. أما عبد الإله فقد سارع إلى إرسال برقية إلى ملك بريطانيا جورج  يبلغه أن العراق سوف يلتزم تماماً بمعاهدة الصداقة والتحالف المعقودة مع بريطانيا عام 1930، وسوف يقدم العراق كل ما تتطلبه المعاهدة.
كما أذاع نوري السعيد بياناً للحكومة في 17 أيلول، أعلن فيه التزام العراق بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعداد الحكومة للقيام بما تمليه تلك المعاهدة من واجبات تجاه الحليفة بريطانيا، وقد سبب موقف نوري السعيد وحكومته موجة من السخط العارم على تلك السياسة اللاوطنية، والتي تهدف إلى زج العراق في الحرب الإمبريالية.
أما نوري السعيد فقد أقدم على تعطيل مجلس النواب، الذي نظمت وزارته انتخابه قبل مدة وجيزة، ولجأ إلى إصدار المراسيم المخالفة للدستور، والهادفة إلى قمع كل معارضة لسياسته الموالية لبريطانيا، وكان من بين تلك المراسيم مرسوم مراقبة النشر رقم 54 لسنة 1939، ومرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1939، منتهكاً بذلك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للشعب.
وتطبيقاً لمعاهدة 1930، فتح نوري السعيد الباب على مصراعيه للقوات البريطانية لكي تحتل العراق من جديد، وليصبح العراق طرفاً في حرب استعمارية لا ناقة له فيها ولا جمل.  لم تترك الحرب العالمية الثانية، بعد أن أمتد لهيبها، بلداً إلا وكان لها تأثير كبير عليه سواء كان ذلك التأثيرعسكرياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً ، وكان العراق غارقاً في خضم تلك الحرب بعد أن احتلته القوات البريطانية احتلالاً كاملاً لمنع القوات الألمانية من الوصول إليه، حيث يمتلك العراق مصادر الطاقة [النفط] التي كانت ألمانيا بأمس الحاجة لها لإدامة ماكنتها الحربية.
لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين من تلك الحرب حيث أفتقد المواد الغذائية، والملابس، وغيرها من الحاجات المادية وأصبحت تلبية تلك الحاجات أمر صعب للغاية، واضطرت الحكومة إلى تطبيق نظام الحصص [ الكوبونات] لكي تحصل العوائل على حاجتها من المواد الغذائية والأقمشة لصنع الملابس، واشتهرت تلك الأيام ب[ أيام الخبز الأسود ]  بسبب النقصان الخطير في الحبوب،  ورداءة نوعية الطحين، كما أن حكومة نوري السعيد كانت قد سخرت كل موارد البلاد لخدمة الإمبريالية البريطانية وحربها، مما أثار غضب الشعب العراقي وحقده على الإنكليز، والنظام الملكي.
وفي 18 كانون الثاني 1940 ، أقدم أحد منتسبي الشرطة، المفوض  [حسين فوزي توفيق] على إطلاق النار على وزير المالية [ رستم حيدر] في مكتبه بالوزارة، وأصابه بجروح خطيرة نقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة بعد أربعة أيام ، متأثراً بجراحه، وقد تم اعتقال القاتل.
 حاول نوري السعيد أن يستغل الحادث لتوجيه تهمة التحريض على القتل لعدد من الشخصيات السياسية المعارضة، حيث أقدم على اعتقال كل من الوزيرين السابقين [صبيح نجيب ] و [إبراهيم كمال ]، والمحاميين المعروفين [ نجيب الراوي ] و [شفيق السعيدي ] موجهاً لهم تهمة التحريض على قتل الوزير.
 وقام نوري السعيد بمقابلة القاتل في السجن وضغط عليه، ووعده بالتخفيف عنه لكي يعترف بأن صبيح نجيب، وإبراهيم كمال قد حرضاه على قتل رستم حيدر.
أثار تصرف نوري السعيد هذا حفيظة العديد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، بالإضافة إلى وزير الداخلية في حكومة السعيد [ ناجي شوكت] حيث وجدوا أن نوري السعيد يريد استخدام حادث القتل لتصفية عدد من خصومه السياسيين، ولذلك فقد لجئوا إلى الوصي عبد الإله، مستنكرين أعمال نوري السعيد بزج أسماء أولئك الذين اتهمهم بالتحريض على قتل رستم حيدر، وكان من بين أولئك الذين قابلوا الوصي وشكوه من تصرفات نوري السعيد  كل من ناجي السويدي، وجميل المدفعي، وتوفيق السويدي، وكلهم من رؤساء الوزارات السابقين.
 ورغم كل تلك الاحتجاجات حاول نوري السعيد إحالة هؤلاء المعتقلين إلى المجلس العرفي العسكري لمحاكمتهم بتهمة التحريض، إلا أن وزير الخارجية [ علي جودت الأيوبي] ووزير المواصلات والأشغال [ جلال بابان] عارضا بشدة محاولة نوري السعيد، وطالبا بإحالة القضية إلى محكمة مدنية، كما هدد وزير العدلية [ محمود صبحي الدفتري ]  بالاستقالة إذا ما مضى السعيد بخططه، وقد أيد موقف الوزير اثنان آخران من الوزراء، وبذلك فشلت مساعي نوري السعيد وأصبح من المتعذر عليه الاستمرار في الحكم بتلك التشكيلة الوزارية حيث قدم استقالة حكومته إلى الوصي في 18 شباط 1940، وتم قبول الاستقالة.
تأثري بالفكر القومي والوطني:
في عام 1941 تزوجت شقيقتي الكبرى من أحد أبناء عمومتنا المرحوم [شفيق مصطفى] وقد كان شفيق اسماً على مسمى، رجل دمث الأخلاق، طيب القلب، حلو المعشر، اتصف بالعفة والرزانة، وكان على درجة عالية من الثقافة، ويحمل شعورا وطنيا فياضاً، كان يكره الاستعمار البريطاني والصهيونية المغتصبة للأراضي الفلسطينية، وقد ساهم في القتال ضد الصهيونية، وضد الاحتلال البريطاني لفلسطين إلى جانب القائد الوطني المعروف آنذاك [فوزي القاغوقجي] الذي خاض العديد من المعارك من أجل حرية واستقلال فلسطين، وسائر البلاد العربية.
 انتقل شفيق إلى العراق من سوريا، وانتسب إلى القوة الجوية العراقية بصفة مخابر لاسلكي بدرجة نائب ضابط عام 1938، وتزوج من شقيقتي في كانون الثاني 1941، فكان أخاً كبيراً لنا تعلمت منه حب الوطن والدفاع عنه ضد المستعمرين الذين ابتلى بهم عالمنا العربي، الذي ما كاد يخرج من نير الاحتلال العثماني الغاشم الذي دام أربعة قرون ليقع فريسة الامبرياليين البريطانيين والفرنسيين الذين تقاسموا فيما بينهما بلدان العالم العربي بموجب اتفاقية [سايكس بيكو] السرية والسيئة الصيت، وتنكروا لكل مواعيدهم التي قطعوها للملك حسين بن علي بمنح البلاد العربية حريتها واستقلالها.
 وهكذا بات على الشعوب العربية خوض النضال الطويل من جديد من أجل التحرر من نير المستعمرين الجدد، وبذل المزيد من التضحيات، وتحمل المزيد من المعانات لسنوات طويلة
حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة:
في الأول من نيسان1941 قامت حركة انقلابية قادها [ رشيد عالي الكيلاني] بدعم من العقداء الأربعة قادة الجيش [صلاح الدين الصباغ] و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] و[فهمي سعيد]، حيث هرب الوصي وولي العهد [عبد الإله] وأعضاء الحكومة، وتشكلت حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني. وقد جرى خلع الأميرعبد الإله من وصاية العرش وولاية العهد، وجرى تعيين السيد [شريف شرف] وصيا على العرش.
لقيت حركة رشيد عالي الكيلاني دعماً وإسناداً شعبياً عارماً بسبب كره الشعب العراقي للاستعمار البريطاني، وعملائه زمرة نوري السعيد وعبد الإله، وجرى تشكليل فرق الفتوة من طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة، والكشافة في المدارس الابتدائية من أجل دعم وإسناد حركة الكيلاني، فقد كانت أحداث ثورة عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني، والقسوة التي استعملها الجيش البريطاني في قمعها ماثلة أمام ناظرهم، فكان الحقد الشعبي على المحتلين البريطانيين مكبوتاً في نفوس أبناء الشعب.
 ولم يدرك الشعب العراقي آنذاك أن الاستعمار الألماني والنظام الهتلري هو أسوأ بكثير من الاستعمار البريطاني، واشد وحشية وقسوة، ولو قُدر للنظام الهتلري الانتصار في تلك الحرب لكانت الكارثة التي ستحل بالعالم أبشع، وقد أثبتت  وقائع الحرب، والجرائم التي اقترفتها قطعان النازية ذلك.
 لم يترك الإنكليز الكيلاني يهدد مصالحهم في العراق، حيث سارعوا إلى إنزال قواتهم العسكرية الكبيرة في البصرة مدعين بأن إنزال القوات المذكورة هو لضرورات الحرب، وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية [ معاهدة 1930] التي تعطيهم ذلك الحق.
 لكن الكيلاني شعر بعد فوات الأوان أن الهدف الحقيقي لإنزال القوات البريطانية هو القضاء على حركته، وإعادة عبد الإله والحكومة السابقة إلى الحكم من جديد، فحاول الحصول على دعم ألمانيا للوقوف بوجه القوات البريطانية.
 لكن ألمانيا لم يتسنَ لها إيصال قواتها إلى العراق حيث اكتفت بالدعم الجوي حيث أرسلت عدة أسراب من الطائرات الحربية المقاتلة للدفاع عن المدن العراقية، ودعم الجيش.
كنا نشاهد الطائرات البريطانية المغيرة، وتصدي الطائرات الألمانية لها، والمعارك الجوية فوق سماء الموصل، وكان الرعب قد تملكنا، ولاسيما عندما سقطت إحدى قنابل الإنكليز في منطقة [رأس الجادة] وأدت إلى مقتل وجرح العديد من المواطنين، وكانت قوات الفتوة تسير في الشوارع وهي تنشد الأناشيد الوطنية، وتدعو للنضال ضد الاستعمار البريطاني. باشرت القوات البريطانية بالزحف نحو العاصمة بغداد من البصرة، ومن قاعدة [سن الذبان] بالحبانية، وأبدى الجيش العراقي بطولة نادرة دفاعاً عن حرية الوطن، واستشهد الكثير من الجنود والضباط في تلك المعارك.
وبسبب عدم تكافؤ القوى، وضعف تسليح الجيش العراقي، استطاع الإنكليز قمع حركة الكيلاني، وإعادة عبد الإله ونوري السعيد وأزلامهم إلى الحكم من جديد، وهرب الكيلاني إلى ألمانيا، بينما هرب قادة الجيش العقداء الأربعة [محمود سلمان] و[ كامل شبيب] و [فهمي سعيد ] إلى إيران حيث استطاع الإنكليز اعتقالهم هناك وإرسالهم إلى جنوب أفريقيا معتقلين، ثم جرى تسليمهم بعد ذلك للحكومة العراقية التي أحالتهم للمحاكم العسكرية التي حكمت عليهم بالإعدام، وتم تنفيذ الأحكام فيهم في الساحات العامة. كما تم إعدام السيد يونس السبعاوي الذي شغل منصب وزير الاقتصاد في حكومة الكيلاني كذلك. أما العقيد صلاح الدين الصباغ فقد اعتقل فيما بعد وجرى إعدامه أمام وزارة الدفاع بحضور عبد الإله ونوري السعيد.
حاول زوج شقيقتي شفيق مصطفى الذي شارك مشاركة فعالة في حركة الكيلاني الهرب إلى ألمانيا عن طريق تركياـ بعد قمع الحركة، لكن الأتراك القوا القبض عليه وسلموه للحكومة العراقية، حيث جرى اعتقاله لعدة أشهر، ثم أطلق سراحه، بعد أن تم فصله من الجيش. لكنه أصيب فيما بعد بمرض عضال لم يمهله طويلاً حيث فارق الحياة عام 1947، تاركاً طفلته جنان، وزوجته التي كانت على وشك الولادة، حيث ولدت بنتها الثانية أحلام في اليوم السابع لوفاته، وكانت وفاته تمثل خسارة كبرى ليس لزوجته وأطفاله فقط بل خسارة لنا جميعاً حيث كان المرشد والمثال.



182
أحداث في ذاكرتي
الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                                        2/10/2014
مقتل الملك غازي
لم تكد تمضي سوى بضعة أشهر على دخولي مدرسة الأحداث الرابعة في أيلول من عام 1938 حتى وقع حدث خطير في البلاد، فقد قتل الملك غازي في 4 نيسان 1939بظروف غامضة، وقد ادعت حكومة نوري السعيد أن الملك قتل في حادث اصطدام سيارته التي كان يقودها بنفسه بعمود الكهرباء.
 ففي صباح يوم الخامس من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد وجاء فيه:
 { بمزيد من الحزن والألم ، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية انتقال المغفور له سيد شباب البلاد جلالة الملك غازي الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة [نهر الخر]، بالقرب من [قصر الحارثية] في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس، وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل، وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون}.               
                                          بغداد في 4 نيسان 1939
 لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة اتجهت نحو السفارة البريطانية، وهتافات التنديد بالإمبريالية البريطانية وعميلها نوري السعيد  تشق عنان السماء، وامتدت المظاهرات الشعبية الهادرة إلى سائر المدن العراقية من أقصاه إلى أقصاه،  وظهرت المنشورات التي وزعتها الجماهير، والتي تقول أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما قتل بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية وعملائها  وعلى رأسهم نوري السعيد وعبد الإله، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد في تلك اللحظات لفتكت فيه ومزقته إرباً، ولذلك فقد هرب نوري السعيد بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية في الأعظمية، حيث  استقل زورقاً بخارياً من المقبرة إلى داره في جانب الكرخ.
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد .
في الموصل كان رد فعل الجماهير الشعبية شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة توجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل [ مونك ميسن]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد.
كنت ذلك اليوم في المدرسة، عندما مرت المظاهرة الكبرى من أمام المدرسة، في طريقها إلى دار القنصلية البريطانية، وقد حمل المتظاهرون السكاكين والمكاوير، وكانوا يهتفون بسقوط بريطانيا، وعقاب القتلة. لقد أصبنا نحن الأطفال في تلك اللحظات بذهول ورعب شديدين، فلم يسبق لنا أن شاهدنا هذا المنظر من قبل، ولم نكن ندرك ماذا جرى، و أخذ الأطفال يصرخون ويبكون ظناً منهم أن المتظاهرين سيذبحونهم. وكانت مديرة المدرسة والمعلمات يهدئن من روعنا، وأخذ أولياء التلاميذ يصلون إلى المدرسة لاصطحاب أولادهم، واخذ الناس يدخلون بيوتهم، ويقفلون أبوابها بعد أن بلغهم نبأ الهجوم على محلة اليهود في الموصل وبغداد، ووقوع عمليات نهب وحرق فيها.
 استغل نوري السعيد الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين، وإحالة العديد منهم إلى المحاكمة والحكم عليهم بعقوبات مختلفة وصلت حد الإعدام. ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي ، يتضمن  تقريرا طبيا صادراً عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي:
{ ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول، في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939، متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدم سيارة صاحب الجلالة، عندما كان يسوقها بنفسه بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور، في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً ، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام، ولم يسترجع وعيه حتى اللحظة الأخيرة}.                                             
                                             بغداد 3 /4 نيسان 1939
د . جلال حمدي      د . صبيح وهبي      د . صائب شوكت
                               د .أبراهام       د .سندرسن
 وعلى اثر إعلان وفاة الملك غازي، تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وجرى الإعلان عن تولى الملك فيصل الثاني المُلك، على أن يسمى وصياً عليه، نظراً  لصغر سنه، بعد دعوة مجلس النواب الذي سبق أن صدرت الإرادة الملكية بحله، وقرر مجلس الوزراء تعين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، وادعى نوري السعيد أن ذلك القرار كان  بموجب وصية الملك غازي نفسه، غير أنه لم يثبت أن هناك أي وصية من هذا القبيل.
 كان معروفاً آنذاك أن الملك غازي كان يكره عبد الإله كرهاً شديداً ولذلك فلا يعقل أن يوصي بالوصاية لعبد الإله، ويأتمنه على طفله، كما أن الملك غازي كان حسبما ورد في التقرير الطبي قد فقد شعوره فوراً، ولم يسترجعه حتى وفاته. والحقيقة أن وصاية عبد الإله قد رتبت من قبل السفارة البريطانية وحكومة نوري السعيد. كما أن أحداً لم يقتنع بما أذاعته الحكومة عن اصطدام سيارة الملك ومقتله في الحادث، وهناك شواهد عديدة على أن الملك قد قتل نتيجة تدبير مؤامرة حبكتها السفارة البريطانية، وجرى تنفيذها من قبل نوري السعيد وعبد الإله، وأهم الشواهد على ذلك ما يلي:
‍1ـ قبل مقتل الملك بتسعة أشهر، وبالتحديد في 18 حزيران 1938، وُجد خادم الملك غازي الشخصي مقتولاً داخل القصر  وجاء تقرير خبير التحريات الجنائية  البريطاني أن القتل كان نتيجة إطلاق النار بالصدفة من مسدس القتيل نفسه ‍‍‍‍‍‍‍‍!!.
سبّب قتل الخادم رعباً في نفس الملك غازي لازمه لأيام، وبدأت الشكوك تنتابه حول مؤامرة لقتله فيما بعد، وكان شكّ الملك يحوم حول عبد الإله ونوري السعيد، وزوجته الملكة عالية ـ شقيقة عبد الإله ـ المنفصل عنها بصورة غير رسمية حيث كانت تضمر له الكراهية والحقد.
2ـ إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة، لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، وهذا ما يثير الشكوك حول حقيقة مقتل الملك.
3ـ كان بمعية الملك في السيارة كل من خادمه وهوشقيق الخادم السابق القتيل، وعامل اللاسلكي ، جالسين في المقعد الخلفي بالسيارة، ولكنهما اختفيا في ظروف غامضة، ولم يعرف أحد عن مصيرهما نهائياً، وقد أثارت عملية اختفائهما شكوكاً كبيرة حول مقتل الملك، وحول صدقيه حادث الاصطدام، واستمرت تلك الشكوك تحوم حول عبد الإله ونوري السعيد وبريطانيا.
وقد ذكرالفريق نور الدين محمود، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش، ثم رئيساً للوزراء عام 1952، حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي: { أنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث}.
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيقول في مذكراته :
{ قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939  وهو في السابعة والعشرين من عمره }.
ويقول الأستاذ [ جان ولف ] في كتابه [ يقظة العالم العربي ] :
{ مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دون ما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة فتعالى الهمس في بغداد متهماً بعض الجهات بتدبير الحادث }.
وقال الأستاذ  [كارتاكوز ] في كتابه [ ثورة العراق ] ما يلي:
{ لعل مأثرته الرئيسية ـ يقصد الملك غازي ـ انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف، في حادث سيارة  يُعتقدْ أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه }.
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ عبد الرزاق الحسني  مؤلف تاريخ الوزارات العراقية  في 8 نيسان 1975 بالدكتور [ صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص، وأول من  قام بفحصه قبل وفاته، وسأله الحسني عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي :
{ كنت أول من فحص الملك غازي  بناء على طلب السيدين [نوري السعيد ] و [رستم حيدر ]  لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر  حيث كان معه في السيارة  لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه ، وقمت بإعادة الذراع  إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك ليوم  وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى يومنا هذا.
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد [ ناجي شوكت ] الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك، وقد سأله عن حقيقة مقتل الملك غازي فأجابه بما يلي :
{ لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر  والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، ورستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا من وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي }.
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي، وتم نقل جثمانه إلى المقبرة الملكية في الاعظمية، في الساعة الثامنة من صباح يوم الخامس من نيسان على عربة مدفع، وسط موجة من الهياج اجتاحت جماهير بغداد الغاضبة، والمنددة بالاستعمار البريطاني وأعوانه القتلة، وانهمك المتآمرون بعد دفنه بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش.
كان مقتل الملك غازي هو الجانب الأول من مؤامرة نوري السعيد وأسياده الإنكليز، وكان الجانب الثاني يتمثل بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش، وولياً للعهد.
 ومنذ الساعات الأولى لمقتل الملك غازي، عمل نوري السعيد جاهداً ليقنع مجلسي النواب والأعيان  والشعب العراق بما ادعاه بوصية مزعومة للملك غازي، بتكليف عبد الإله بالوصاية على العرش فيما إذا حصل له أي مكروه.
 إلا أن [طه الهاشمي] ،أحد رؤساء الوزارات العراقية، قال في مذكراته: {أن الوصية التي عزاها نوري السعيد إلى الملك غازي كانت مزيفة دون شك}.
أما وزير الدولة  السيد [ علي الشرقي ] فيقول في كتابه [الأحلام ] ما يلي: { أوعز نوري السعيد إلى الملكة عالية أن ترفع كتاباً إلى مجلس الوزراء المنعقد للنظر في إقامة وصي على العرش  تشهد فيه أن الملك غازي قد أوصاها أن يكون عبد الإله وصياً على العرش إذا ما حدث له أي مكره}.
أما السفير البريطاني [ سندرسن] فقد ذكر في كتابه [Both Side of Curtain] ما يلي:
{ كان معروفاً أيضاً أن الإنكليز كانوا يميلون إلى عبد الإله، أكثر من ميلهم إلى الملك غازي}.
ويقول الدكتور[ صائب شوكت] طبيب الملك غازي الخاص ما يلي :
{إنه عندما  تأكد من وفاة الملك غازي  كان عبد الإله وتحسين قدري بالقرب مني، حيث دنا تحسين قدري مني، وهمس في آذني أن الأمير عبد الإله يرجوك بأن تقول بأن الملك أوصاك قبل وفاته بأن يكون عبد الإله وصياً على ولده الصغير فيصل،  ولكني رفضت ذلك رفضاً قاطعاً قائلاً له: إن الملك غازي كان قد فقد وعيه فور وقوع الحادث وحتى وفاته }.
أما طبيب الملك البريطاني [ سندرسن ] فقد ذكر في كتابه [Thousand and One Night] حول مقتل الملك:
{ في خلال 20 دقيقة من وفاة الملك غازي، طلب إليّ رستم حيدر أن أعلن أن الملك غازي قبل أن يموت قد عّبر عن رغبته بأن يتولى عبد الإله السلطة كوصي على العرش، غير أني رفضت أن أفعل ذلك، لأن الملك لم يستعيد وعيه لحظة واحدة،  وحتى لو ارتكبت جريمة مثل هذا الإدعاء الكاذب، فلابد أن يكون هناك الكثير من المستعدين لتكذيبه}.
ورغم كل ذلك فقد اجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قراره بتولي عبد الإله الوصاية على العرش، وولاية العهد، ودعا نوري السعيد مجلس النواب المنحل ومجلس الأعيان إلى عقد جلسة مشتركة في يوم الخميس المصادف 6 نيسان 1939.
 كان عدد النواب الحاضرين في الجلسة 122 عضواً فقط من مجموع المجلسين، وكلهم من مؤيدي نوري السعيد، حيث قاطع الجلسة عدد كبير من النواب والأعيان، لكي لا يكونوا شاهدي زور على جريمة الاغتيال، وقد عرض عليهم نوري السعيد قرار مجلس الوزراء، وتمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين، وبذلك تم تنصيب عبد الإله وصياً على العرش، واكتملت تلك المؤامرة الوحشية.


183
أحداث في ذاكرتي
الحلقة الأولى
حامد الحمداني                                                             22/10/2014

نشأتي:
في  فجر السادس عشر من شهر شباط عام 1932، وفي يوم من أشد أيام الشتاء قساوة، أبصرت عيناي النور لأول مرة.
كانت مدينة الموصل مسقط رأسي قد أشتد بها البرد، وتجمدت مياه نهر دجلة حتى أن بعض الناس أخذوا يعبرون من ضفة إلى الضفة الأخرى مشياً فوق النهر المتجمد، كما حدثتني أمي فيما بعد، وكان ذاك أمر غريب بالنسبة للموصليين.

في تلك الأيام كانت العائلة المؤلفة من أبي شريف سليمان الحمداني، وأمي وفيقة عبد الغني الدباغ ، وشقيقتيَّ وهبية  وثامرة، وأشقائي َعبد الهادي ومحمود وسالم ، نعيش مع جدتي وأعمامي وعماتي، العم حمو وعائلته، والعم عبد القادر، والعم أمين والعمة وفيقة، والعمة خديجة وولديها رمزية وعبد الستار نعيش جميعاً في دار جدي سليمان والواقعة في محلة باب لكش، والذي توفي قبل عدة سنين من ولادتي، حيث كانت مدينة الموصل محاطة بسور لحمايتها من الغزو والحروب، ولها عدة أبواب منها باب لكش وباب البيض وباب القلعة، وباب الجديد، وباب سنجار، وباب الطوب، وغيرها من الأبواب العديدة الأخرى.

كانت الدار واسعة تضم غرفاً عديدة، وفناءً كبيراً، وسرداباً واسعاً أستخدم من قبل جدي، ومن ثم من قبل والدي وأعمامي لتربية الخيول العربية الأصيلة، والمتاجرة بها داخل وخارج العراق. كان السرداب  يضم ما بين عشرة إلى خمسة عشر حصاناً من أجود الخيول العربية الأصيلة ذات القيمة العالية جداً آنذاك.

كانت عائلتنا تعيش في غرفة كبيرة وبداخلها مخزن كبير لخزن المواد الغذائية التي أعتاد الموصليون خزن ما يكفي منها لمدة سنة كاملة من شتى أنواع الحبوب كالحنطة ومشتقاتها من البرغل والحبية والرشتة والرز والعدس والتمر والحمص والباقلاء والسمن والأجبان والجوز وغيرها من المواد الغذائية الأخرى.

 فقد تأصلت عادة الخزن عند الموصليين بعد المحنة التي مروا بها أبان الحرب العالمية الأولى، حيث جمع الجيش التركي كل ما وقعت عليه يده من المواد الغذائية في مخازنه لتأمين حاجة الجيش التركي وإدامة الحرب، تاركين أبناء الشعب يتضورون جوعاً، حيث عمَّ الغلاء الفاحش الذي لم يعرف الموصليون مثله من قبل، وقد مات الكثيرون من أبناء الشعب جوعاً حيث لم يعد لديهم ما يأكلون، وقد روى لنا والدي كيف أن الكثير من الناس كانوا يموتون في الشوارع وليس هناك من يدفن جثثهم، وحيث لم يبق كلب، أو قطة إلا وأكلها الناس لسد رمقهم، وهكذا بقيت عادة خزن المواد الغذائية لمدة سنة لدى الموصليين، وقد توارثها الناس عن آبائهم وأجدادهم حتى يومنا هذا.

كانت الحياة آنذاك صعبة جداً إذا ما قيست بيومنا هذا، فلا كهرباء ولا إسالة ماء، ولا حمام خاصة في البيت، ناهيك عن التدفئة والتبريد، وليس هناك أجهزة كهربائية، ولا يوجد سوى أثاث بسيط، كان الناس يستعملون المصباح النفطي[الفانوس] أو[اللمبة]وكان[السقا] يجلب الماء من النهر للبيوت دون تعقيم كما كان الناس يستعملون ماء الآبار المالحة لغسل الأواني، ويغتسلون في الحمامات العامة أسبوعياً.

 لم يكن هناك مطابخ في البيوت، كما هو معروف اليوم، بل عبارة عن غرف صغيرة تحتوي على القدور والموقد النفطي أو الخشبي حيث يستخدم الناس قطع الخشب لطبخ الطعام، أما التدفئة في الشتاء فكانت تقتصر على إشعال الفحم في [المنقل]، وفي فصل الصيف كان الناس يستعملون المراوح اليدوية، وكان الأغنياء من الناس يستخدمون الثلاجات الخشبية لحفظ الطعام وتبريد الماء، ويشترون الثلج لتبريد الثلاجة والطعام الذي فيها.

 أما أغلبية الناس فكانوا يضعون طعامهم في أقفاص محاطة بطبقة من الأسلاك المشبكة لتكون معرضة للهواء، وأما ماء الشرب فكان يوضع في الزير[الحب] والأواني الفخارية.
كان الجهل يعم البلد كله، وتكاد الأمية تصل نسبة 98% من أبناء الشعب، وهكذا فقد كان أبي وأمي  أميان يجهلان القراءة والكتابة، وكان والدي يقضي أيامه في عمله حيث كان  يعمل بيطاراً، بالإضافة إلى المتاجرة بالخيول، كما قام بتأسيس محل لشقيقي الكبير عبد الهادي لبيع مختلف أنواع السجائر والتبوغ.

نشأتي:
نشأتُ وكبرتُ في أحضان عائلة طيبة جداً، متدينة ومسالمة، ولم أرَ في حياتي كلها أن أبي و أمي تخاصما يوما ما فيما بينهما أو مع الآخرين من الأهل والأقارب أو الجيران، وكانا يتمتعان بسمعة طيبة جداً لدى كل من عرفهما، وهكذا فقد تربينا أنا وأخوتي على عاداتهما، وأخلاقهما وسلوكهما، حيث تلعب البيئة التي ينشأ فيها الطفل دوراً كبيراً في التربية.

كانت الحالة الصحية آنذاك متدنية جداً، وكان اهتمام الدولة ضئيلا لا يتناسب وسوء تلك الأوضاع، فلا يوجد سوى عدد قليل جداً من المستشفيات والأطباء، وقد زاد في الطين بله الجهل الذي يعم البلد من أقصاه إلى أقصاه. فقد كان الناس يعتمدون على الحلاقين الذين كانوا يمارسون الطب إلى جانب الحلاقة كالطهور، ومداواة الجروح ومعالج الأمراض الشائعة آنذاك، هذا بالإضافة إلى الكثير من الأشخاص نساءً ورجالاً الذين كانوا يدعون القدرة على معالجة المرضى بالأدعية!!، وحمل ما يسمى [الحجاب] وغيرها، وهكذا فقد كانت الوفيات في صفوف الأطفال بشكل خاص عالية جداً،  ويندر أن لا تفقد العائلة ولو واحداً من أولادها بسبب تلك الأمراض. لقد فقدت عائلتنا أخي [ صالح ] قبل ولادتي، وكان عمره ثمان سنوات، بسبب مرض التيفوئيد، كما توفيت شقيقتي [كتبيه] قبل ولادتي أيضا بنفس المرض، وكان عمرها أربع سنوات، وكان لوفاة أخي صالح تأثيرٌ كبيرُ على صحة والدي، كما كانت تحدثني والدتي، فقد وقع والدي طريح الفراش لفترة طويلة من الزمن.

 أما أخي الكبير عبد الهادي فقد أصيبت عيناه بالرمد، وبسبب الإهمال وعدم وجود الرعاية الصحية، حيث فَقَدَ عينه اليمنى تماماً، كما أصيبت العين اليسرى أصابة شديدة بحيث فقد أكثر من 75 % من قوة النظر فيها. أما أنا فقد أصيبت قدمي جراء سقوط صخرة عليها، وكنت آنذاك في السنة الثالثة من عمري، وبقيت أعاني منها سنتان بسبب ذلك التخلف، والاعتماد على الجهلة في معالجتي، وقد نذرت أمي إذا ما شفيت قدمي أن تذبح خروفاً، وتطبخ الشوربة  لتوزعها على الفقراء قرباناً لله إذا شافاني. وبالفعل حل ذلك اليوم، ووفتْ أمي بنذرها، وطبخت الشوربة ووزعتها. لكن الذي حدث فور الانتهاء من تفريغ القدر الكبير ورفعه من موقعه في فناء الدار أن وقعت فوق تلك النار لتحترق رجليّ، ولينقلب الفرح إلى حزن وهلع، فقد تم نقلي إلى المستشفى بسبب تلك الحروق التي أصابتني، وبقيت أعاني من الحروق مدة طويلة.

استقلال العائلة:
لم تكن العلاقة بين عمي [ أمين ] ووالدي على ما يرام، فقد كان عمي على عكس والدي وأخويه عبد القادر وحمو  يتصف بالأنانية وحب الذات، وقد حاول بكل الوسائل والسبل إجبار والدي على بيع حصته من البيت الذي ورثه الجميع عن جدي له، وكثيراً ما كان يضغط على والدي مما حدا بأعمامي إلى الوقوف بجانب والدي ضده.

 لكن والدي قرر أخيراً حسماً للمشاكل بيع حصته له بثمن بخس قدره ثمانون دينار آنذاك، في عام 1938، واشترى لنا داراً كبيرة في منطقة الدواسة بجانب حديقة الشهداء العامة، وهي من أجمل وأحدث مناطق الموصل آنذاك، وكان ثمن الدار300 دينار على ما أذكر، وقد تم ترميم وصبغ الدار بعد استلامه من صاحبه السابق، وجرى تأسيس الأسلاك  الكهربائية التي بلغت تكاليفها خمسون ديناراً.

وخلال مدة الانتظار لاستلام الدار التي استغرقت ستة أشهر كان عمي أمين يفتعل المشاكل معنا كل يوم، ويضغط على والدي لمغادرة الدار، لكن عمي عبد القادر تحداه، وهدده بالكف عن إزعاجنا، وتسبب ذلك في وقوع مشاحنات بينهما تحولت إلى العراك بالأيدي، وتطور العراك إلى الحد الذي كاد عمي عبد القادر يقتل أمين، فقد لحق به وبيده السكين، ولولا إخفائه في إحدى الغرف وقفلها عليه لكانت حدثت مصيبة.

لم يمضي سوى شهر واحد على ذلك الحدث حتى أصيب بالمرض أحب الأعمام إلينا عبد القادر، ولم يمهله المرض سوى أيام معدودة حيث فارق الحياة وهو في عز شبابه، وكان على وشك الزواج حيث كان قد عقد، وجهز كل ما يقتضيه الزواج من أثاث ومفروشات وغيرها، وهكذا فقد كانت وفاته صدمة كبرى لنا جميعاً بشكل عام، ولجدتي بشكل خاص، وكذلك لكل من عرفه، لما يتمتع به من خلق حميد، وذكاء حيث كانوا يطلقون عليه لقب قدوري المكتبلي لأنه كان يجيد القراءة والكتابة.

دخولي المدرسة:
في الخامس عشر من أيلول عام [ 1938 ] أدخلني والدي المدرسة الابتدائية [مدرسة الأحداث الرابعة] المختلطة الواقعة في محلة باب الجديد، وكنت قد أكملت العام السادس من عمري منذ السادس عشر من شباط من ذلك العام، وكان أخي محمود قد سبقني في دخول المدرسة بثلاث سنوات، وهو فارق العمر بيني وبينه.

قضيت الصفوف الثلاثة الأولى في هذه المدرسة التي كانت بإدارة السيدة [اليزا]، وكان علي الانتقال إلى مدرسة أخرى لإكمال الدراسة الابتدائية حيث انتقلت إلى مدرسة الوطن التي كان يديرها الأستاذ [بشير الدليمي]حيث أكملت الدراسة الابتدائية فيها، ومن ثم انتقلت إلى المدرسة الثانوية الشرقية ذات الثلاث سنوات قبل الانتقال إلى المدرسة الإعدادية، وهي الإعدادية الوحيدة في الموصل آنذاك، والتي كان يديرها الأستاذ [عزيز جاسم] حيث أكملت دراستي الثانوية، والاستعداد للمرحلة التالية.


184
إلى قارئاتي وقرائي الاعزاء كافة
حامد الحمداني                                                    20/10/2014

أولا وقبل كل شيئ أحييكم أجمل تحية وأود أن أُعبر لكم عن جزيل شكري وتقديري على اهتمامكم  بمتابعة كتاباتي عبر أكثر من عشرين عاما، وتثمينكم الذي اعتز به، وقد استطعت أن اقدم لكم خلال هذه المرحلة أحد عشر كتابا تاريخياً وتربوياً، بالاضافة إلى ما يزيد  على سبعمائة مقالاَ وبحثاً، وكان بودي أن أوصل الكتابة ولاسيما وان الاحداث التي تجري في وطني العراق بوجه خاص، وفي العالم العربي بوجه عام تستدعي ذلك، ولكن ظروفي الصحية الصعبة قد حالت دون ذلك، وقد بات من المتعذر عليَّ مواصلة الكتابة، ولآجل استمرار التواصل معكم آثرتُ أن أقدم لكم في خاتمة المسيرة كتابي [احداث في ذاكرتي] عبر 70 أكثر من عاما على حلقات، وأملي أن تستمتعوا بهذه الذكريات التاريخية.                                                                   
لقد اقدمت على كتابة هذا الكتاب بعد إلحاح شديد من العديد من الأخوة والأصدقاء الذين تربطني بهم علاقات وثيقة بضرورة تدوين ونشر مذكراتي، ولاسيما وأنني عاصرت معظم المراحل التي مر بها العراق في تاريخه الحديث، وامتلك خزيناً كبيراً من تلك الأحداث، التي عايشتها، وكنت أما قد ساهمت فيها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإما بكوني كنت شاهداً أميناً على تلك الأحداث بكل إيجابياتها وسلبياتها كي تتطلع عليها أجيالنا الصاعدة، وتستمد منها الكثير من الخبر والتجارب، فالإنسان بكل تأكيد يتعلم في كل يوم يعيشه تجربة جديدة في الحياة، ولاشك أن تجارب التاريخ بكل سلبياتها وإيجابياتها تبقى لنا حاضراً ومستقبلاً خير معين في النهوض بالحاضر نحو الأفضل وبناء المستقبل المشرق لنا في وطننا العراق وفي العالم اجمع.                                                                         

ونزولا عند تلك الدعوة الخيرة اتخذت قراري بالمباشرة في كتابة كتابي هذا متخذا له العنوان [أحداث في ذاكرتي] رغبة مني بان لا يكون المشروع مجرد سرد لأمور شخصية بحتة بل حرصت بأن يضم هذا الكتاب مزيجاً من الأحداث السياسية والاجتماعية التي عايشتها مع الأحداث الشخصية، وحرصت كذلك على أن لا أدع الأحداث الشخصية تطغي على صفحات الكتاب مركزاً في معظم صفحاته على سرد الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاصرتها والمتعلقة بتاريخ العراق والعالم العربي خلال ما يزيد على السبعين عاماً، تحدوني الرغبة في نقل تلك الأحداث للقراء من الأجيال الصاعدة بكل أمانة، وبما يمليه عليَّ ضميري، لا ابتغي من وراء ذلك أي مجدٍ لشخصي  أو تضخيم لدوري في معترك العمل السياسي شأني شأن ذلك الجندي المجهول الذي دافع بكل ما يمتلك من طاقة عن وطنه وشعبه دون أي هدف شخصي أو مصلحة ذاتية.

 لقد كانت الطموحات الشخصية تأتي دائماً في الدرجة الثانية في حياتي بمجملها، وكان جُلَّ اهتماماتي كيف أستطيع أن أساهم في خدمة وطني وشعبي بوجه خاص، والمجتمع الإنساني قاطبة بوجه عام شأني شأن أي فرد يحمل فكراً إنسانياً متحرراً، ويكنُّ احتراماً ومحبة لبني الإنسان، ويقدس روابط الأخوة التي تربطنا بعضنا ببعض مهما اختلفت قومياتنا وأدياننا وطوائفنا وأفكارنا وتوجهاتنا، فالمعيار الحقيقي لتقييم أي إنسان ينبغي أن يتحدد في مدى ما يقدمه ذلك الفرد كعضو في هذا المجتمع الإنساني الكبير من خدمة فعلية في مختلف مجالات الحياة، كل في اختصاصه، كي تصب الجهود الخيرة في مجرى التطور والتقدم والازدهار للمجتمع الإنساني، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة التي تليق بالإنسان والتصدي بحزم ضد قوى الشر والطغيان التي تسعى لإشعال الحروب، وإشاعة القتل والدمار والخراب، من أجل تحقيق أهداف شريرة تتعارض مع مصالح الإنسانية وأهدافها النبيلة في خلق عالم أفضل،عالم تسوده قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتحقيق العيش الرغيد لبني الانسان

 لقد آليت على نفسي منذ صباي أن أكون ذلك الجندي المجهول في ذلك الصراع الذي خاضته وما تزال تخوضه البشرية ضد قوى الشر والظلام والفاشية، ومن أجل تحقيق حلمها في خلق عالم خالٍ من الحروب والكراهية والبغضاء واستغلال الإنسان لجهود أخيه الانسان.

في الختام أود أن الفت أنظار القراء الكرام الراغبين في الإطلاع على تفاصيل الأحداث التاريخية التي ورد ذكرها في هذا الكتاب، وكل ما يتعلق بتوثيقها العودة إلى كتبي التالية [صفحات من تاريخ العراق] بجزأيه الأول والثاني و[ثورة 14 تموز1958] و[نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى] و[سنوات الجحيم] حيث تتناول الأحداث بكل تفاصيلها مع كامل توثيقها.
ملاحظة : سيتم تتابع حلقات الكتاب اعتبارا من بعد غد بمعدل حلقة كل يومين.

                                             


185
داعش وما ادراك ما داعش!!
حامد الحمداني                                                  9/9/2014!!
من صنع عصابات داعش ؟
ومن دربها على السلاح؟
ومن جهزها بالسيارات الحديثة تويوتا ذات الدفع الرباعي ؟
ومن جهزها بالأسلحة الحديثة الفتاكة ؟
ومن دَرّسها اساليب القتل الارهابية الوحشية الشنيعة ؟
من ادخلها في سوريا والعراق؟ من أي طريق؟
لأي هدف جرى خلق عصابات داعش؟
هذه اسئلة مطلوب من الولايات المتحدة الاجابة عليها، فكل ما جرى ويجري في عالم اليوم ليس ببعيد عن مخابراتها المنتشرة في كل اصقاع الارض، وهو ليس ببعيد عن دهاقنة السياسة ومنظري السياسة الامريكية وربيبتها دولة اسرائيل قاعدتها العسكرية المتقدمة في الشرق الاوسط، وسيفها المسلط على رقاب العرب، ولاسيما وأن لهم سابقة انتاج عصابات القاعدة ايام الصراع الأمريكي مع الاتحاد السوفيتي السابق في افغانستان، والتي امتدت مهمتها فيما بعد لتشمل ما دعي بـ[ الشيشانيون العرب ] و[والبوسنيون العرب] و[الكوسوفيون العرب] والذين كان لهم الدور الكبير في ذلك الصراع مع الاتحاد السوفيتي، ومن ثم مع الاتحاد اليوغوسلافي في قلب اوربا والذي انتهى بتقطيعها إلى عدة دول بعد مجازر رهيبة ارتكبت في تلك الدولة!، في حين جرى توحيد دول اوربا الغربية من خلال الاتحاد الأوربي، وجرى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي توسيع الاتحاد الاوربي ليضم دول  شرق اوربا.

فما اشبه اليوم بالبارحة، فذلك السيناريو يتجدد هذه المرة في الشرق الاوسط، وبالضبط في العالم العربي المحيط بإسرائيل المزروعة في قلبه، نقطة التقاء مشرقه بمغربه. والهدف هذه المرة تقسيم الدول العربية ذات الثقل الاستراتيجي، وذات القدرات المادية والقوة العسكرية، والثروات الهائلة، فكانت البداية في العراق حيث جرى غزوه من قبل جيوش الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبمشاركة فعالة من اسرائيل بحجة امتلاك العراق اسلحة كيماوية ونووية، والتي ظهر فيما بعد كذبها، وعجزت فرق التفتيش الأمريكية والاوربية عن ايجاد اي نوع من تلك الاسلحة في العراق، بعد أن جرى تدميرها بعد حرب الخليج الثانية من قِبل فرق التفتيش الدولية التابعة للأمم المتحدة. وبعد أن تم تدمير البنية التحية للعراق جرى حل الجيش العراقي، وقوات الشرطة العراقية وتم تدمير كل اسلحة العراق وطائراته الحربية، تاركين البلاد دون قوات امنية، وفُسحَ المجال واسعا لنهب متاحف العراق وكل ما يمت بصلة لحضارة العراق على ايدي العصابات المتخصصة، وجرى تجريد العراق من كل اسباب القوة ليبقى بلدا ضعيفا، وهكذا تم نهب كل مؤسسات الدولة باستثناء وزارة النفط !! وأقامة نظام طائفي مقيت في البلاد تتنازعه الصراعات الطائفية والقومية [الشيعية والسنية والكردية]                                                          .
 ثم التفتوا نحو سوريا الدولة القوية الثانية، وذات الموقع الهام جدا والمجاور لإسرائيل، والتي تمتلك جيشا قويا وأمكانيات كبيرة ، مستغلين التحرك الشعبي للمطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بعد أن استإثرت عائلة الأسد بحكم البلاد منذ الانقلاب البعثي في 8 آذار عام 1963 وباتت سوريا ملكا لهذه العائلة حتى يومنا هذا                                                                 .
 وهكذا جرى استغلال الانتفاضة الشعبية ضد نظام البعث  الذي جابه الانتفاضة بقوة السلاح والعنف لقمعها مما أدى إلى انتقال الانتفاضة السلمية إلى ثورة مسلحة، وهنا جاء دور الولايات المتحدة في تأجيج الصراع، وادخال عناصر مسلحة باسم المجاهدين عن طريق تركيا، وبدأت الاسلحة تنهار على من تسميهم بالمجاهدين، والذين قويت شوكتهم وتمكنوا من السيطرة على اجزاء كبيرة من سوريا وذلك تحت اسم دولة العراق والشام [ داعش]                  .
وكان الهدف من إدخال عصابات داعش انهاك الجيش السوري وتحطيم القدرة العسكرية السورية لكي تبقى اسرائيل السيد الأقوى في الشرق الأوسط دون منازع، وهنا بدأت احلام داعش تتوسع تبعاً لتنامي قوتها العسكرية ، وتوسع المناطق المسيطرة عليها في سوريا لتمتد إلى العراق حيث استطاعت السيطرة على محافظات الموصل وصلاح الدين والانبار لتقيم [دولة الخلافة الاسلامية]! وبات خطر عصابات داعش، وجرائمها الوحشية البشعة بحق السكان الآمنين، وبوجه خاص ضد المواطنين المسيحيين واليزيديين والشبك الذين تعر ضوا للتهديد بالقتل إذا لم يعلنوا اسلامهم أو دفع الجزية أو الموت ! وقد جرى قتل المئات منهم وبيع نسائهم وبناتهم في سوق النخاسة، واضطر مئات الالوف منهم إلى الهرب إلى كردستان، وجرى نهب كل ممتلكاتهم ومساكنهم وأموالهم.
وهكذا شعرت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أن خطر عصابات داعش بات يهدد ليس فقط مصالحهم في المنطقة،  وفي المقدمة مصالهم النفطية، بل  يهدد كذلك دولهم، وانقلب السحر على الساحر فأوربا قاب قوسين أو أدنى من الشرق الأوسط، ولا سيما وأن هناك الألوف من تلك العصابات قد جاءوا من دول اوربا وامريكا، وأنهم يحملون جنسيات اوربية وامريكية!!
 وهكذا بدأت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالدعوة  لتشكيل  تحالف دولي لمحاربة عصابات داعش التي تجاوزت الدور المخطط لها بعد أن تمردت وقويت شوكتها، وتوسعت احلامها بتأسيس [امبراطورية اسلامية]!! ولم تستطع الدول الغربية تحقيق ما خططت له، فلا هي استطاعت اسقاط نظام بشار الأسد بسوريا ولا هي استطاعت السيطرة على هذه العصابات، كما جرى الحال فيما سبق مع عصابات القاعدة .
أن الولايات المتحدة وحلفائها وكل من يقف وراء عصابات داعش، ومن ادخلها إلى سوريا والعراق وليبيا وتونس واليمن ولبنان وسيناء، ومن جهزها بالسلاح ومن دربها ومولها يتحملون كامل المسؤولية عما اقترفته عصابات داعش وما زالت من جرائم يندى لها جبين الانسانية بحق الابرياء من المواطنين السوريين والعراقيين والمصريين في سيناء وفي ليبيا وتونس واليمن، وستنكشف كل اسرار صناعة هذه العصابات المجرمة لا محالة، وسيلقى قصاصه كل جاني.
 



186
معالجة محنة المواطنين المسيحيين في الموصل
مهمة وطنية ودولية وإنسانية عاجلة
حامد الحمداني                                                 27/7/2014
   
مما لاشك فيه أن المسيحيون في الموصل أبناء هذه المدينة الأصليين الذين لا يمكن أن يزايد أحداً على أصلهم وموطنهم الذي عاشوا فيه آلاف السنين، حيث يؤكد تاريخ هذه المدينة أنهم سكانها الأصليين، وقد تعرضوا منذ الاحتلال الأمريكي للعراق لحملة شعواء من القتل والتهجير والاضطهاد يندى لها جبين الإنسانية، حيث تجاوزت أرقام الشهداء منهم 400 مواطن أريقت دمائهم الزكية ظلماً وعدواناً، وجرى تهجير آلاف العوائل من مساكنهم وخاصة في الموصل وبغداد والبصرة هرباً من عصابات الموت والجريمة المنظمة، من دون أن تلقى هذه الجرائم الاهتمام اللازم من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة على سدة الحكم منذ عام 2003 وحتى اليوم،ولا نجد الإجراءات الجدية من قبل الحكومة بما يتناسب وخطورة هذه الجرائم البشعة بحق مواطنين أبرياء مسالمين لم يصدر منهم أي آذى تجاه الآخرين، وكان من بين هذه الجرائم الوحشية مهاجمة عصابة مجرمة تتألف من أربعة مسلحين منزل رجل الدين القس مازن إيشوع واختطفته مع شقيقته ووالدته بعد أن قتل المجرمون شقيقيه باسم وفاضل ووالدهم إيشوع مروكي، ولم يكتف المجرمون بكل هذا العمل الشنيع بل جرى اغتصاب الأخت والأم بكل وحشية.

إن أية حكومة تحترم نفسها ما كان لها أن تسكت عن هذه الجرائم وتمر عليها مرور الكرام، وكأن شيئاً لم يحدث، وهي التي تتحمل مسؤولية مباشرة عن حماية أمن المواطنين، وعلى وجه الخصوص المسيحيين منهم والصابئة والأيزيدية الذين تعرضوا جميعاً لمثل هذه الجرائم، والاعتداء على كنائسهم ودور عبادتهم التي جرى استهدافها بالمتفجرات والقنابل، فإذا كانت الحكومة عاجزة عن التصدي للقتلة المجرمين فما عليها إلا أن تستقيل وتعلن عجزها، فهي والحالة هذه تتحمل مسؤولية هذه الجرائم ضد المواطنين كافة.   

كما أن الولايات المتحدة تتحمل نفس المسؤولية عما يلحق بالأخوة المسيحيين وسائر الأطياف الأخرى من أذى بحكم كونها الدولة التي احتلت العراق، ولا يمكن إقناعنا بأن المحتلين قد سلموا مقاليد الحكم لحكومة عراقية، فهم في واقع الحال من يحكم العراق حتى اليوم.
 
لقد باتت المحنة التي يعيشها المسيحيون في الموصل اليوم خطيرة جداً وتعدت كونها تهم العراق وحده بل هي اليوم تمثل عملية تطهير ديني وعرقي، وتتطلب من المجتمع الدولي، وفي المقدمة هيئة الأمم المتحدة، التدخل السريع بعد أن هاجمت قطعان داعش المتوحشة والمدججة بأحدث الأسلحة والآليات مدينة الموصل، قادمة من تركيا وسوريا، وعلى حين غرة اندحرت قوات الجيش العراقي المكون من فرقتين عسكريتين بكامل اسلحتها الثقيلة وطائراتها المروحية  وهروب قادتها العسكريين في عملية تبدو انها مؤآمرة مدبرة وتواطؤ مكشوف من اولئك القادة الذين لم ينالوا العقاب حتى الآن، وباتت الموصل تحت سيطرة هؤلاء المجرمين القتلة والمتوحشين الذين صبوا جام غضبهم على اخوة اعزاء لنا هم ابناء الطوائف المسيحية والأيزيدية والصابئة مهددين بوجوب اعلان اسلامهم أو دفع الجزية أو القتل!!، مما اضطرهم  إلى الهروب واللجوء إلى منطقة سهل الموصل ذات الأغلبية المسيحية والواقع تحت سيطرة البيشمركة الكردية، بعد أن جردتهم عصابات داعش من مساكنهم وممتلكاتهم واموالهم وذهبهم وكل شيئ بكل وحشية يندى لها جبين الانسانية. 
ورغم مرور اكثر من شهر على هذه المأساة فما زالت حكومة المالكي متشبثة بالسلطة، وما زال الصراع بين اطراف ما يسمى بالعملية السياسة البريمرية التي جلبت للعراقيين الحرب الأهلية واشنع الكوارث التي لم يشهد مثلها العراقيون من قبل، تاركين عصابات الدواعش تعيث خرابا ودمارا في المدينة، فلم تكتفِ بتهجير الأخوة المسيحيين من وطنهم ومدينتهم الاصلية ، بل تمادت هذه العصابات في جرائمها حتى وصلت إلى تدمير وحرق الكنائس والجوامع الاسلامية ومراقد الانبياء ، فقد قامت هذه العصابات بتفجير جامع النبي شيت، وجامع ومرقد النبي يونس وجامع ومرقد النبي جرجيس، ومحاولة تفجير الجامع الكبير المشهور بمنارته التاريخية، وغيرها من الجوامع والكنائس الأخرى.
إن الوضع المأساوي في محافظة الموصل بات يتطلب تدخلا عاجلا من المجتمع الدولي دون ابطاء، وبالوسائل العسكرية لاستئصال شأفة هذه العصابة المجرمة  ومن يقف وراءهم، فهذه الجرائم المنظمة لا بد أن يقف وراءها ويمولها ويدفعها لتنفيذ أجندتها الإرهابية لأسباب سياسية معروفة لم تعد خافية على أحد.

إن سائر الكتاب والمثقفين العراقيين والعرب مطالبون بالوقوف إلى جانب الأخوة المسيحيين في محنتهم في حملة عالمية واسعة، والعمل على فضح من يقف وراء جرائم عصابات داعش، ومطالبة الهيئات الدولية للقيام بدور فاعل في انقاذ الموصل ومواطنيها من هذه المحنة التي ألمت بهم، واعادة الامور الى نصابها والعمل باسرع وقت على عودة سائر المهجرين بكل اطيافهم، وفي المقدمة منهم المسيحيين، وتعويضهم عن كل ما فقدوه، واصلاح كل ما خربته عصابة داعش الاجرامية في مدينة الموصل والمناطق الأخرى وخاصة  المراكز ذات الطابع التاريخي.             



187
في الذكرى السادسة والخمسين لثورة 14 تموز1958
حامد الحمداني                       القسم الثاني                     14 تموز 2010
الصراعات والاخطاء الحزبية

الحزب الشيوعي يعلن مساندته للثورة وقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم دون قيد أو شرط

 سارع الحزب الشيوعي فور وقوع الثورة إلى إعلانه بإسناد الثورة وسلطة عبد الكريم قاسم دون قيد أو شرط في برقيته للزعيم قاسم التالية:
رئيس مجلس الوزراء السيد عبد الكريم قاسم
نهنئكم من صميم قلوبنا على خطواتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة لعهد طويل من المآسي والمحن التي قاسى منها شعبنا المجاهد النبيل على يد الاستعمار وأعوان الاستعمار.

 إننا نعبر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية وتطور عراقنا الحبيب، وتبؤ شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحررة الناهضة والحبة للسلام، وموكب الإنسانية العاملة من أجل تحررها من نير الاضطهاد والاستعمار.

 إن شعبنا العراقي بعربه وأكراده سيسجل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية، وإنه لعلى ثقة كبرى من قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة القوى التحررية العربية في جميع ديارها، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة ، ومن قوى الحرية والسلام في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي .
 {إن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي تضع كافة قوى حزبنا إلى جانب مؤازرتكم، وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة}.
                  سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
                                             14 تموز 1958

استبعاد الحزب من التشكيلة الوزارية لثورة 14 تموز
من المعلوم أن الحزب الشيوعي لم يشترك في حكومة الثورة التي شُكلت صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، رغم ثقله السياسي الكبير، ورغم مساهمته الفعالة في نجاح الثورة، وإسنادها منذ اللحظة الأولى واستمرت حتى النهاية على الرغم من تغير موقف الزعيم قاسم من الحزب.

لم يطلب الحزب الشيوعي آنذاك إشراكه في السلطة بسبب الظروف الدولية الخطيرة التي كانت تحيط بالثورة، حيث نزلت القوات البريطانية في الأردن، والقوات الأمريكية نزلت في لبنان فور وقوع الثورة.

كما تم حشد القوات التركية والإيرانية على الحدود الشمالية والشرقية، وكان واضحاً أن الإمبرياليين وعملائهم في تركيا وإيران قد صُدموا بقيام الثورة التي هدمت أحد أهم أركان حلف بغداد، وأضاعت أحلامهم في ضم بقية الدول العربية إلى ذلك الحلف، وخاصة سوريا.

ولم يكن الحزب الشيوعي، ولا السلطة الثورية الجديدة يريدان مزيداً من الاستفزاز للإمبرياليين آنذاك، لكي لا يصورا ثورة 14 تموز على أنها ثورة شيوعية قامت في بلد كالعراق له أهمية قصوى في حساباتهم الإستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.

 فالعراق بلد نفطي أولاً، ويقع على رأس الخليج ثانياً، ومعلوم أن الخليج يتسم بأهمية كبرى، بكونه أكبر مورد للنفط في العالم، لذلك كله سكت قيادة الحزب الشيوعي عن المطالبة في إشراكه في السلطة، أسوةً ببقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، ولم تكتفِ بسكوتها هذا، بل بادر منذُ الساعات الأولى لانبثاق الثورة إلى إرسال برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تبلغه بوضع كافة إمكانيات الحزب في خدمة الثورة وحمايتها دون قيدٍ أو شرط.

لقد أدركت قيادة الحزب أن المهمة الأولى بالنسبة للحزب هي صيانة الثورة، وحمايتها من تدخل الإمبرياليين، وشل نشاط الرجعيين الرامي إلى إجهاضها، وإعادت العراق الجامح إلى سيطرتهم من جديد.

لم يكتفِ الحزب الشيوعي ببرقيته المرسلة إلى عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، بل أتبعها بمذكرة إيضاحية حول السياسة التي يرى أهمية الأخذ بها لقيادة مسيرة الثورة، وهي مذكرة تعبر عن سياسة الحزب تجاه الأحداث الجارية، والمستقبلية للثورة.

ركزت المذكرة على ضرورة انتهاج سياسة وطنية واضحة، وذلك عن طريق الإعلان الرسمي لانسحاب العراق الفوري من حلف بغداد، وإلغاء كافة الاتفاقات المعقودة مع بريطانيا، والولايات المتحدة، والتي تخل بسيادة العراق واستقلاله، وتتعارض مع سياسة الحياد الإيجابي، والتعاون مع جميع الدول على قدم المساواة، من أجل مصلحة الشعب والوطن.

كما دعت المذكرة إلى إعلان الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، وإلى تبادل التمثيل الدبلوماسي مع البلدان الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وقيام علاقات اقتصادية، وثقافية وغيرها، مما يعزز موقف العراق، ويحمي مصالحه.

كما دعت المذكرة إلى فرض رقابة حازمة على مؤسسات شركات النفط، والبنوك، وكافة المؤسسات الاقتصادية الكبرى ذات العلاقة الكبيرة بحياة الشعب، وحماية اقتصاد البلاد من مؤامرات الإمبريالية وعملائها في الداخل، والهادفة إلى تخريب الاقتصاد الوطني، ومنعه بشتى الوسائل والسبل من التطور والنمو لخدمة طموحات الشعب والثورة.

كما دعت المذكرة إلى انتهاج سياسة وطنية أساسها الثقة بالشعب، وإطلاق الحريات الديمقراطية، والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية، بتأليف الأحزاب، والجمعيات، والمنظمات الجماهيرية، وحرية الصحافة، والعمل على إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين، بأسرع وقت ممكن، وتكوين فصائل المقاومة الشعبية وتسليحها لتكون درعاً واقياً للثورة، جنباً إلى جنب مع جيشنا المقدام، وتطهير جهاز الدولة، والأمن، والشرطة، من العناصر الفاسدة، والمعادية للثورة.

كما دعا الحزب الشيوعي إلى الاهتمام بالأعلام، ووضعه في أيدي أمينة على مصالح الشعب والوطن، نظراً للدور الهام الذي يلعبه الإعلام في الدفاع عن مصالح الشعب وحماية الثورة، وفضح ألاعيب المستعمرين، وأذنابهم في الداخل.
لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام، فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية محاولاً فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح.

لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة  وسيّر المظاهرات المؤيدة لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التي كانت تهتف بالشعار الذي رفعه الحزب، والذي يدعو إلى إقامة الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ شعار أسلوب الإلحاق القسري الذي رفعته القوى القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي ،كذبا وزورا، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب، ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية والبعثية.

 الحزب الشيوعي يطلب إشراكه في السلطة :

في الخامس من تشرين الثاني 1958، رفع الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم مذكرة هامة دعاه فيها إلى الاعتماد على الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، مذكراً إياه بإشراك كافة أحزاب جبهة الاتحاد الوطني في السلطة باستثناء الحزب الشيوعي.

 وفي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة، وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه من أجل دعم مسيرة الثورة، وتحقيق أهدافها.

 وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها، ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فإن من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل.

لكن عبد الكريم قاسم لم يستجب لمذكرة الحزب، مما دفع الحزب إلى اللجوء إلى الشارع في مطالبته إشراكه في السلطة.
وجاءت مسيرة الأول من أيارـ  عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[ إشراك الحزب الشيوعي في السلطة] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي، وجماهير الحزب، من عمال وفلاحين، ومدرسين وطلاب وأطباء ومحامين ومثقفين ، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بكتلة [ محمد حديد وحسين جميل] ورفاقهم، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم .

وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً، أدخل بموجبه الدكتورة [نزيهة الدليمي]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين كل من المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان،  والدكتور [ فيصل السامر ] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد ، والدكتور[ عبد اللطيف الشواف]، وزيراً للتجارة. لكن إجراء  قاسم لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن، ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي.

أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى، تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، وأصابها دوّار شديد، وباشرت أجهزتها على الفور تحبك الدسائس، عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف  والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.

وحقيقة القول، كان للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.

إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.

لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، وكان على قيادة الحزب أن تركز جهودها على مسالة انهاء الفترة الانتقالية ، وسن دستور دائم للبلاد وانتخاب مجلس النواب ، وكنت واثقا بأن رصيد الحزب في الانتحابات لو جرت آنذاك كبيرا جداً ، كما أن الزعيم عبد الكريم قاسم لو اختار أن يؤلف له حزباً سياسيا يخوض تلك الانتخابات لفاز باغلبية المقاعد في البرلمان.
ثم عاد الحزب الشيوعي وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم مواصلة  مواقفه العدائية تجاه الحزب.


أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة، لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة[الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.

 وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات. ـ
ومن جانبه وقع الحزب الشيوعي بأخطاء كان من الممكن تجنبها، وجرى استغلالها من جانب القوى المعادية للثورة ، كما جرى استخدامها لتحريض عبد الكريم قاسم ضد الحزب ، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:

1 ـ الاستئثار بالمقاومة الشعبية
التي اسسها الزعيم عبد الكريم قاسم لحماية الثورة والتي استأثر بها الحزب فكانت أشبه بقوة تابعة للحزب، مما دفع عبد الكريم قاسم، وقد تملكه الشك من نوايا الحزب بعد مسيرة الاول من أيار ، وبعد المذكرة الطويلة التي رفعها الحزب للزعيم قاسم، حيث بادرإلى سحب السلاح من المقاومة، ومن ثم أصدر امراً بإلغائها، وبذلك عالج الخطأ بخطأ أعظم، فقد كان الواجب يقتضي إصلاحها لا حلها، ولو كانت المقاومة باقية يوم 8 شباط لما تمكن الإنقلابيون من النجاح في انقلابهم.

2 ـ استئثار الحزب الشيوعي بسائرالمنظمات الشعبية والنقابات واتحاد الطلاب والفلاحين ولم يراعي الحزب أهمية إشراك حلفائه الآخرين وخاصة الحزب الوطني الديمقراطي، وكان الواجب يقتضي من الحزب تجنب هذا السبيل وفسح المجال لإشراك حلفائه في الجبهة الوطنية في تلك القيادات.
ومرة أخرى عالج الزعيم عبد الكريم قاسم هذا الخطأ بخطأ افضع بسحب كافة المنظمات الجماهيرية، واتحاد النقابات، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة وكافة النقابات المهنية، كنقابة المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وسائر المنظمات الأخرى من أيدي الشيوعيين، لكي يجرد الحزب الشيوعي من جماهيريته في تلك المنظمات والاتحادات والنقابات ذات التأثير الكبير على سير الأحداث.                                                                                     .
ولم يكن عبد الكريم قاسم، ولا البرجوازية الوطنية المتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي، بقادرين على استقطاب تلك المنظمات والاتحادات، والنقابات، والسيطرة عليها، فكانت النتيجة أنْ وقعت جميعها تحت سيطرة أعداء الثورة، والمتربصين بعبد الكريم قاسم نفسه، وبالحزب الشيوعي، سند الثورة العنيد والقوي.  لقد فسح عبد الكريم قاسم المجال واسعاً أمام تلك القوى، من بعثيين ومدعي القومية من الرجعيين  وأذناب الاستعمار، لكي يسيطروا سيطرة كاملة على تلك المنظمات والاتحادات والنقابات، بأسلوب من العنف والجريمة لم تعرف له البلاد مثيلاً من قبل.                                                                     
كانت العصابات البعثية والقومية، وقد لفّت حولها كل العناصر الرجعية، تترصد لكل من يبغي الوصول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب قيادات تلك المنظمات والاتحادات والنقابات بأسلحتها النارية، وسكاكينها، وعصيها، وحجارتها، لدرجة أصبح معها من المتعذر حتى للمرشحين الديمقراطيين والشيوعيين الوصول إلى صناديق الاقتراع، والإدلاء بأصواتهم، أفليست هذه هي الديمقراطية التي أرادها عبد الكريم قاسم؟ أن قاسم، شاء أم أبى، قد وضع السلاح بأيدي أعداء الثورة والشعب، لكي يتم نحر الجميع يوم الثامن من شباط 1963.   
     
3 ـ انجرار الحزب  الشيوعي وراء القيادة الكردية التي حملت السلاح ضد الثورة، مما أثار غيظ عبد الكريم قاسم، وخاصة بعد أن أقدم الزعيم على اعتقال المئات من كوادر ورفاق الحزب على أثر حملته [السلم في كردستان والديمقراطية للشعب] واستخدمها ذريعة لتوجيه ضربته للحزب، وتقليم أظافره.

4 ـ عدم التعامل الصارم مع تلك الدعوات التي كانت تتردد على لسان البعض من رفاقه وأصدقاء الحزب حول ضرورة استلام السلطة، بعد أن انقلب الزعيم على الحزب، والتي كانت القوى المعادية توصلها للزعيم قاسم مما أثار الريبة والشكوك لديه، كما أن البرجوازية الوطنية عملت على إقناعه بأن الحزب قد أصبح قاب قوسين أو أدنى لانتزاع السلطة منه.
اما الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين فقد اصيبوا بالفزع من تنامي قوة الحزب الشيوعي، وبدأوا يمارسون الضغوط على الزعيم قاسم للحد من النشاط الشيوعي في العراق، فقد صرح رئيس جهاز المخابرات الأمريكية آنذاك [ ألن دلاس] وقد راعه تلك المسيرة الجبارة في الأول من أيار بقوله { إن أخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع في العراق}.

5 ـ الأحداث التي رافقت قمع انقلاب الشواف : لقد كان للحزب  دور أساسي في قمع انقلاب العقيد الشواف، وحماية الثورة، لكن الفوضى سادت في المدينة، وبات من المتعذر السيطرة على الأوضاع فيها خلال الأيام الثلاث التي تلت الانقلاب حيث وقعت بعض أعمال القتل والسحل من قبل عناصر لا علاقة للحزب بهم، وجرى لصقها بالشيوعيين، لكن الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه قيادة الحزب في الموصل هو   محاكمة  17 وإعدام فرداً من المشاركين في الانقلاب خلافاً للقانون، وكان المفروض تسليمهم للسلطة لمحاكمتهم أمام المحاكم العراقية.

6 ـ تماهل قيادة الحزب في كركوك في وقف الصدامات بين الأكراد والتركمان خلال الاحتفالات بالذكرى الأولى لثورة 14 تموز، ولم تتخذ الإجراءات السريعة للسيطرة على الموقف، مما أدى إلى وقوع العديد من الضحايا التركمان، وحرق العديد من المحلات التجارية والمقاهي والدور العائدة لهم، وقد جرى من قبل القوى المعادية للثورة زج اسم الحزب في الصراع الكردي التركماني ، وقد جرى استغلال تلك الأحداث بالإضافة لأحداث الموصل من قبل الزعيم عيد الكريم قاسم كذريعة لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي، حيث جرى اعتقال المئات من رفاقه وجرى إحالتهم إلى المجالس العرفية [ المحاكم العسكرية]، والتي حكمت عليهم بعقوبات قاسية جداً وصلت حد الإعدام كما سهلت السلطة للقوى الرجعية في الموصل وللأجهزة الأمنية لحملة الاغتيالات الإجرامية التي طالت الشيوعيين وجماهير الحزب والتي ذهب ضحيتها ما يناهز 1000 شهيد، من دون أن تؤدي السلطات الأمنية واجبها في إلقاء القبض على القتلة وأحالتهم إلى المحاكمة ، بل كانت تكتفي فقط بالقبض على الضحايا!!.وقد أدت تلك الجرائم إلى هجرة أكثر من ثلاثين ألف عائلة من الموصل إلى المدن العراقية الأخرى للنجاة بحياتهم.
وهكذا مهدت سياسة الزعيم الطريق لإعداء الثورة لإنزال ضربتها القاضية بثورة 14 تموز المجيدة وقيادتها، وأغرقت البلاد بالدماء في 8 شباط 1963.
 
ألأخطاء التي ارتكبتها القيادة الكردية بحق الثورة والزعيم
لقد أخطأت قيادة الملا مصطفى البارزاني في جر الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى حركة التمرد التي قادها الإقطاعيان [رشيد لولان] و[عباس مامند]، وحمل السلاح بوجه السلطة الوطنية،  ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان وعباس مامند المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [ هولمز] بالشيوخ المتمردين،  وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست ] ، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران .
وعلى الرغم من أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لم يكن يحمل أفكاراً شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد مصطفى البارزاني، ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي، وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، كل ذلك يؤكد هذا الموقف لدى الزعيم.
لكن القيادة الكردية انزلقت نحو التعاون مع تلك القوى القومية التي نفذت انقلاب 8 شباط 963، والتي كانت غارقة في شوفينيتها، وكراهيتها للشعب الكردي، والتي خدعت القيادة الكردية بوعود شفهية كاذبة بتحقيق الحكم الذاتي للأكراد، ولم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية بعد نجاح انقلابها سوى أقل من أربعة أشهر، منزلة الخراب والدمار بكردستان  بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية.
إن تلك الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه، وأوصلت حزب البعث الفاشي إلى السلطة، وتولي الدكتاتور الأرعن صدام حسين السلطة، وما جره حكمه الإرهابي، وحروبه الدموية الكارثية، تستدعي من سائر القوى الوطنية كافة هذا اليوم أن تتعلم الدرس البليغ من تلك الأحداث، لكي لا تقع في تلك الأخطاء وتدخل في صراعات فيما بينها، وعليها أن توحد جهودها في جبهة وطنية عريضة، وتتفق فيما بينها على الخطوط العريضة لبناء عراق ديمقراطي تعددي، وتشريع دستور علماني، ويصون الحقوق والحريات العامة للشعب بكافة مضامينها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية، ويصون التآخي القومي والديني والطائفي في البلاد، وهذا هو السبيل الوحيد للخروج بالعراق من هذا المأزق الواقع فيه اليوم نتيجة الأعمال الإرهابية التي تمارسها نفس تلك القوى الرجعية التي أسقطت حكومة عبد الكريم قاسم، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز، وأغرقت العراق بالدماء، وجرت على شعبنا كل الويلات والمآسي التي عشناها طيلة 61 عاماً قاتمة السواد، ولاشك الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب العراقي حتى اليوم هي نتاج لانقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963.
المجد لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.
المجد والخلود لقائد ثورة 14 تموز الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار
المجد لشهداء الحركة الوطنية الذين قضوا تحت التعذيب في زنازين البعثيين .



188
في الذكرى السادسة والخمسين لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة


ثورة 14 تموز والصراعات الحزبية
واخطاء الزعيم عبد الكريم قاسم
القسم الأول 1/2
حامد الحمداني                                             14 تموز 2014

عندما قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم كان في مقدمة القوى التي التفت حول الثورة وقيادتها واحتضنتها وذادت عنها من تآمر القوى البعثية والقومية والعناصر الرجعية المرتبطة بالإمبريالية هي الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان ذلك الموقف لهذه الأحزاب أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة ، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان.

لكن الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، ومن جانب الأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة، بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق البلاد بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل.
هل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس ؟
من كان السبب فيما جرى ؟
ما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف ؟

في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه، وتشكلت لأول مرة في تاريخ العراق حكومة وطنية على الضد من إرادة الإمبرياليين.
لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني، وكان في مقدمة تلك الإنجازات :
1 ـ الخروج من حلف بغداد، وتحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية.

2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير العملة العراقية.

إصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتحرير الفلاحين الذين يشكلون 70% من نفوس العراق، وإنقاذهم من طغيان الإقطاع، وكان القانون يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى.

4 ـ إصدار القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق النفطية من شركات النفط، بعد أن رفضت تلك الشركات استثمارها لمنع حكومة الثورة في استخدام عائداتها في بناء البنية التحية للعراق، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب العراقي.

إصدار قانون تشكيل شركة النفط الوطنية كي تقوم باستثمار المناطق النفطية المسحوبة من شركات النفط وطنياً، للنهوض بالعراق في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والصحية والتعليمية، ومختلف الخدمات العامة.

السماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية وإطلاق حرية الصحافة وحرية تشكيل المنظمات والنقابات منذ انبثاق الثورة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم مسألة تأليف الأحزاب السياسية.

إزالة حزام الفقر حول بغداد، وتشييد مدينة الثورة، ومدينة الشعلة لإسكان مئات الألوف من الفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين وسكنوا تلك الصرائف حول بغداد والتي لا تتوفر فيها أي من الشروط التي تليق بالإنسان.

8 ـ أقامة علاقات اقتصادية وسياسية وفي كافة المجالات الأخرى مع سائر دول العالم على أساس المنافع المشتركة والاحترام المتبادل لسيادة واستقلال العراق.

9ـ أقامة جملة من المشاريع الصناعية التي كان يفتقدها العراق في مختلف الفروع، وامتصاص البطالة التي كانت مستشرية، وعمل جاهداً على رفع مستوى معيشة الشعب.

 10ـ توزيع مئات الألوف من الأراضي السكنية على المواطنين من ذوي الدخل المحدود، وتقديم القروض لهم لبناء المساكن فيها، ونشر التعليم في مختلف مناطق العراق من خلال أقامة ألوف المدارس في القرى والأرياف التي كانت محرومة منها.

ولا أريد أن أطيل في تعداد إنجازات الثورة، لكنني أستطيع أن أقول أن الزمان لو طال  بعمر الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تجعل من العراق أرقى بلد في المنطقة.

فالزعيم عبد الكريم قاسم، كما يتفق الجميع، وحتى أعدائه، لم يحقق أي مصلحة لنفسه أو لعائلته، لم يبني له قصراً، ولا حتى داراً متواضعة، ولم يتخذ له ديواناً ضخماً، ولم يتملك شيئا، ولم يتنقل بمواكب ضخمة من الحراسة والحماية، فقد كان محبوباً من قبل الشعب، كما كان حريصاً على أموال الشعب وكان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً كأي مواطن آخر، ولقد قُدر لي أن أزوره في مقره بوزارة الدفاع ضمن وفد لنقابة المعلمين في أواخر شهر شباط عام 1959، واطلعنا على مقره البسيط، وغرفة نومه المتواضعة جداً.
عبد الكريم قاسم لم يكن يحمل فكراً شوفينياً، بل على العكس من ذلك كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة، وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة، وضم العديد منهم في حكومته.

إذا الطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها وهي في الايام الأولى من عمرها، مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين سلطة الثورة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل في واقع الأمر تناقضاً أساسياً .
كان على أطراف السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم  قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث[الحزب الوطني الديمقراطي] و[الحزب الشيوعي] و[الحزب الديمقراطي الكردستاني] أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، والمتمثلة بالولايات المتحدة وبريطانيا بالإضافة إلى حكومة عبد الناصر،مع شديد الأسف، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.
لماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟

إنصافاً للحقيقة أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء كانوا مسؤولين عما حدث، واليوم وبعد مضي 61 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بشعبنا العراقي بكل مكوناته نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد.

لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة تعاملها مع الزعيم عبد الكريم قاسم، بتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من جانب اليسار وليس من جانب القوى اليمينية التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً.
 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً ، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبينا. لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لتدارس وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك، إذ من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله !!.

ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة والحفاظ على لحمة الصف الوطني واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف، ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة .

فقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل مسؤوليته الكاملة.

 كما أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم باعتقاده أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]، وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء عديدة ما كان له أن يقع فيها، والتي سأتناولها  في الحلقة الثانية بحيث أصبحت لدى الزعيم القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة منه، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي، والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، وتهويل القوى الإمبريالية من خطورة الأوضاع في العراق، وتنامي قوة الحزب الشيوعي، وتخويف الزعيم عبد الكريم من نوايا الحزب ، وإلحاح قيادة الحزب على إشراكه في السلطة، فقرر تقليم أظافر الحزب، وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم .

لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على تلك الأخطاء بخطأ أعظم وأفدح حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب، مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963.

واخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية.
 ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، والقوى القومية الكردية.
 لقد استغلت الرجعية المتحالفة مع الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين  تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.

لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط وهو في موقف ضعيف، لقد كان على عبد الكريم قاسم أن يُدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه، لا أن يدخل في صراع معها من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5 % من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً وهو في موقف ضعيف فتستغل الإمبريالية ضعفه وانعزاله لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 1963.

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة  والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط .

7ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية ضد السلطة، وحماية المتآمرين.
 
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم، رئيس الجهاز[محسن الرفيعي] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للعقيد الشواف بالموصل، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه. كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها

8 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم :

كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد، والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.

ولم يكن هناك ما يخيف الزعيم عبد الكريم قاسم على موقعه كقائد لثورة 14 تموز، حيث كان يتمتع بشعبية كبرى لم يتمتع بمثلها أي زعيم عراقي أو عربي من قبل، وكنت على يقين أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لو شاء أن يشكل له حزباً سياسياً آنذاك، ويشارك في الانتخابات فإن حزبه كان سيفوز على جميع الأحزاب، ولست أنا من يقول ذلك فقط، بل أن الحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد أعترف في أدبياته ونشراته الداخلية في رده على  الأفكار والدعوات التي ظهرت في صفوف الحزب داعية  إلى استلام السلطة أن هذه الشعبية التي نشهدها في الشارع العراقي هي شعبية الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يمجده الشعب.
 لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات]!و[سياسة عفا الله عما سلف] وأطلق سراح المتآمرين المحكومين بالإعدام الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس]، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها، وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها، والوثوب على الحكم، وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة التي شهدناها وما زلنا نشهدها منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، وساتناول اخطاء الاحزاب السياسية في القسم الثاني يوم غد.


189
العراق يُغتصب
 وزعماء الكتل يتصارعون على المناصب!!


حامد الحمداني                                                                                 13/7/ 2014


ثلاثة اشهر مضت، وما زال الشعب العراقي ينتظر نهاية الصراع والمساومات الجارية بين الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات "الديمقراطية"! التي جرت منذ الشهر الرابع، والتي تأخر إعلان نتائجها طويلا، وتلك هي ظاهرة غربية جداً بالنسبة للانتخابات في جميع بلدان العالم المتمدن، وهذا الذي جرى في العراق يعطي المتتبعين لتلك الانتخابات الانطباع بأن هناك تلاعباً قد جرى في تلك النتائج، وهناك شكوك بأن للأمريكيين اليد الطولى فيها، وإلا لما تأخر إعلان النتائج طيلة هذه المدة، فقد جاءت بنتيجة لا تؤهل أي جهة لتشكيل الحكومة، ولابد من العودة إلى المحاصصة  الطائفية والعرقية لتشكيل الحكومة العتيدة، كما كان الحال في الانتخابات السابقة.

وهكذا بدأ الصراع بين الكتل السياسية التي تصدرت الانتخابات، وأبتعلت أصوات الكتل الصغيرة بموجب ذلك القانون الجائر الذي ليس له مثيل في الدنيا،على طريقة المشاريع الكبيرة [الكارتيلات] تأكل المشاريع الصغيرة، كما هو الحال في العالم الرأسمالي.

وفي خضم هذا الصراع والمساومات بين الكتل على من يشكل الوزارة ، وتحول ذلك الصراع من صراع سياسي إلى صراع طائفي وعرقي، الكتل الشيعية بزعامة المالكي، وعمار الحكيم والجعفري ومقتدى الصدرمن جهة، والكتل ذات الأغلبية السنية بزعامة اسامة النجيفي وأياد علاوي وصالح المطلك والحزب الأسلامي وكتل الاحزاب القومية الكردية بزعامة البارزاني المتقاسمين فيما بينهم أغلبية المقاعد في المجلس النيابي العتيد!، وقعت في البلاد احداث جسام باتت تهدد مصير العراق وشعبه.

فلقد ظهرت على حين غرة جحافل داعش المدججة بالسلاح في محافظة الموصل لتحتلها خلال ساعات محدودة، وتتبخر فرقتين عسكريتين بكامل اسلحتها الثقيلة والخفيفة، وهروب قادتها ويا للعار، ويستمر زحف الدواعش لاحتلال محافظة الانبار محافظة صلاح الدين واجزاء من محافظة ديالى، في حين زحفت البيشمركة الكردية لاحتلال محافظة كركوك ومنابع النفط فيها، وهروب قادة جيش المالكي تاركين كل اسلحتهم الثقيلة والخفيفة غنائم لقوات البارزاني التي انطلقت لتكمل احتلال سهل الموصل بما فيه من مدن ونواحي وقرى شملت الحمدانية وتلكيف وتلسقف وقرقوش والقوش وبحشيقة وبحزاني وغيرها من القرى، واعلن البارزاني ضمها إلى دولته العتيدة هكذا بكل بساطة!!

لقد جرت كل هذه الاحداث وكأنها زلزال كبير حلَّ بالبلاد، وبات مئات الالوف من المواطنين لاجئين بعد ان تركوا ديارهم هربا من جرائم الدواعش البشعة والوحشية التي يندى لها الجبين، وبات العراق مقسما إلى ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية، فكيف جرت كل هذه الاحداث وبهذا الشكل المتلازم؟

هل جرى التنسيق بين هذه الدواعش العربية والبيشمركة الكردية لتنفيذ هذا المخطط الاجرامي لتمزيق العراق تنفيذا لمشروع نائب الرئيس الأمريكي بايدن؟
أم أن البارزاني استغل انهيار قوات المالكي في الموصل وكركوك لتحقيق حلمه في اقامة الدولة الكردية بهذه الطريقة اليمقراطية!!
وفي كلا الحالتين فإن احتلال البارزاني لكركوك وسهل الموصل وسنجار وخانقين عمل خياني للوطن الأم العراق وخيانة للدستور الذي جرى تفصيله على مقاس البارزاني والطالباني والحكيم، وستكشف الايام القادمة كل الخفايا والاسرار.   

 وعلى الرغم من هذا الزلزال الذي حل بالعراق ما يزال المالكي يحكم البلاد بحكومة تصريف الاعمال طيلة هذه المدة، فإما أن يشكل المالكي الحكومة أو لا حكومة، والشعب العراقي المهضوم الحقوق يعاني أشد المعانات من تصاعد النشاط الإرهابي في البلاد بشكل خطير، ناشراً الموت والخراب والدمار كل يوم، وفي كل مكان، وهذا التصاعد في النشاط الإرهابي بلا أدنى شك مرتبط تمام الارتباط بالصراع الدائر على السلطة والثروة بين الكتل المتصارعة، يتصاعد كلما اشتد الصراع، ويخفت كلما ظهرت بادرة أمل في الاتفاق بين المتصارعين على تقاسم الغنائم.

لقد بات أمر تشكيل الوزارة ألعوبة بيد دول الجوار، وفي المقدمة منها إيران الحليفة الطبيعية الداعمة والممولة لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، والتي تتدخل في الشؤون الداخلية للعراق على المكشوف، والتي تتولى تهريب السلاح والمتفجرات والإرهابيين إلى داخل العراق، ليقوموا بتنفيذ جرائمهم الوحشية في تفجير العبوات والأحزمة الناسفة، وعمليات الاغتيالات الواسعة النطاق بمسدساتهم الكاتمة للصوت، ضد كل من يشك بالوقوف ضد أهدافهم الشريرة في العراق، وكذلك السعودية المتحالفة مع الكتل السنية، والممولة لها، بالإضافة إلى سوريا حاضنة الصداميين الذين يتولون قيادة النشاط الإرهابي في البلاد، يداً بيد مع عناصر داعش والقاعدة المجرمة، حيث تتولى قيادتهم استقبال عناصر القاعدة، وتدبير عبورهم الحدود، وإعداد المأوى، وتجهيز السلاح والمتفجرات، وتوجيههم إلى الأهداف التي يختارونها لهم لتنفيذ جرائمهم البشعة، والتي تصيب المواطنين الأبرياء، وتحويل حياة الشعب العراقي إلى جحيم لا يطاق.

لقد بات الشعب العراقي يعيش محنة كبرى، محنة فقدان الأمن والعيش بسلام، وبات المواطن لا يأتمن على حياته وهو في طريقه إلى عمله أو مدرسته أو جامعته، بعد أن استفحل النشاط الإرهابي في البلاد، بل لقد امتدت يد الإرهاب الأسود إلى المساكن، كما جرى للإخوة أبناء الطائفة المسيحية النبيلة والمسالمة، والتي ليس لها يد في الصراع السياسي الجاري على السلطة والثروة، ولا طامعة فيه، بل تود فقط العيش في أمن وسلام.

 فما هي الدوافع لمدعي الإسلام السياسي لتفجير مساكنهم على رؤوسهم، ودور عبادتهم، والسعي لتهجيرهم من وطنهم الأصلي منذ آلاف السنين؟
وإلى متى يستمر الصراع بين الكتل السياسية، والمساومات، وعمليات البيع والشراء للمناصب الوزارية، والشعب العراقي ينتظر بفارغ  الصبر انتهاء هذه المحنة، وتشكيل الحكومة، والتوجه الفعال لمكافحة قوى الإرهاب، وإعادة السلام والطمأنينة إلى النفوس التي حطمها القلق والرعب والجريمة؟

لقد طال المطال، وانتم تتنازعون أيها السادة على هذا المنصب أو ذاك، وبات توزيع الوزارات والمناصب العليا على النقاط، واستجد صراع جديد على توزيع النقاط، وبات المتنازعون على الوزارات والمناصب بحاجة إلى قسام شرعي يتولى توزيعها، وإلا فإن أزمة تشكيل الوزارة قد تمتد إلى أجل غير مسمى، وليبقى الشعب العراقي يعيش في ظل هذا الجحيم المخيف. رفقاً أيها المتنازعون بهذا الشعب الذي أوصلكم، مع مزيد الأسف، إلى البرلمان وقمة السلطة، دون أن يتعض من الانتخابات السابقة!!، ونصيحتي أن تستعينوا بهيئة القسام الشرعي، وتشكيل هذه الهيئة من اللاعبين الكبار في الشأن العراقي، الإيرانيون والسعوديون والسوريون والأتراك، وبرئاسة السيد الأمريكي، ولا بأس بإضافة حللالة المشاكل العربية حكومة دولة قطرالعظمى فهم من بيدهم الحل والربط في الشأن العراقي، وما على الشعب العراقي سوى الانتظارلما سيؤول إليه المصير؟

190
حذار: العراق بات على شفير الحرب الأهلية الطائفية
 المدمرة
حامد الحمداني                                                        15/6/2014
منذ إسقاط نظام حزب البعث الفاشي بقيادة الدكتاتور صدام حسين، على أثر حرب الخليج الثالثة التي قادتها الولايات المتحدة وبريطانيا في 9 نيسان عام 2003 والعراق يعاني من أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية خانقة ومستعصية، سببت للشعب العراقي من الويلات والمصائب التي يعجز القلم عن وصفها، بسبب تلك الاجراءات الخطيرة للإدارة الأمريكية وحاكمها المدني المعين بول بريمر التي استهدفت هدم البنيان السياسي بكل مؤسساته العسكرية والأمنية والإدارية بقرارات متعجلة أوقعت البلاد في فراغ امني أدى بدوره إلى انفلات طائفي قادنا نحو هاوية الصراع الدامي الذي لم يشهد له الشعب العراقي طيلة تاريخه الحديث، وزاد في الطين بله تأسيس نظام حكم طائفي مقيت تقوده أحزاب دينية طائفية شيعية في بادئ الأمر، ثم اتبعتها بالأحزاب الطائفية السنية بعد اندلاع النشاط الإرهابي الذي ضم تحت جناحيه القوى الصدامية المسقطة عن السلطة، وحلفائها من إرهابيي القاعدة الدمويين، والميليشيات التي تقودها أحزاب الإسلام السياسي الطائفي السني، مما أشعل صراعاً مسلحاً وحشي الطابع على السلطة والثروة وقوده المواطنون الأبرياء الذين دفعوا حياتهم بمئات الألوف على مذبح هذا الصراع السياسي الطائفي المقيت.
إن الشعب العراقي ما زالت في ذاكرته تلك الحرب الأهلية الدموية عامي 2006 و2007، وما سببته من ويلات ومصائب وفواجع يندى لها جبين الانسانية لبشاعتها الوحشية التي لايتصور احد ان تجري في مقتبل القرن الحادي والعشرين، حيث بات الذبح على الاسم والهوية من دون مراعات لأية قيم إنسانية أو اخلاقية أو دينية، وبات تهجير المواطنين من بيوتهم يجري على قدم وساق هرباً من الموت الزآم، وحيث انقسم المجتمع العراقي إلى مجتمعين منفصلين ، فهذا مجمتع شيعي وذاك مجمتع سني، بعد أن ولغ الجميع بالدماء البريئة من أبناء الشعب على مذبح المتصارعين من ديناصورات أحزاب الاسلام السياسية الشيعية والسنية الذين جاء بهم المحتلون وسلموهم مقاليد الحكم في البلاد تحت الرعاية الأمريكية.
ورغم اعتلائهم عرش السلطة بكل مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية  فقد اشتد الصراع بينهم من أجل الاسئثار بالسلطة و الثروة، فهم مشاركون في الحكومة، والبرلمان والسلطة القضائية،  ولكنهم يتصارعون في الحكومة وفي البرلمان، وميليشياهم تتصارع في الشوارع والطرق بالمفخخات والأحزمة الناسفة والعبوات المزروعة والمسدسات الكاتمة للصوت، من أجل اعادة تقاسم السلطة والثروة التي اصبحت مباحة للفاسدين بمئات المليارات من الدولارات، في حين يعيش الشعب العراقي عيشة بائسة في ظل الغلاء الفاحش والبطالة الواسعة وازمة السكن الخانقة ، وانعدام الخدمات، والتصاعد الخطير في اعداد الأرامل والأيتام، وما سببه وما زالت تسببه من نتائج كارثية على البنية الاجتماعية .
لم يتعلم  هؤلاء المتصارعون على السلطة والثروة الدرس من نتائج تلك الحرب الأهلية المدمرة التي شردت اكثر من أربعة ملايين مواطن وذهب ضحيتها مئات الالوف من المواطنين الابرياء بل عادوا اليوم من جديد يستخدمون في صراعاتهم الطائفية المقيتة، شيعة وسنة، مهددين بنشوب الحرب الطائفية من جديد غير عابئين بما ستسببه الحرب من أهوال لا أحد يستطيع تحديد نتائجها الكارثية، فهي اذا ما ارتكب المتصارعون حماقتهم باشعالها ستكون بلا ادني شك اشد فتكاً وخراباً ودماراً بما لا يقاس بما جرى عامي 2006و2007، وقد تتجاوز الحرب الأهلية في لبنان التي نشبت عام 1975 ودامت 15 عاماً.
لقد بات العراق اليوم على شفير حرب اهلية طائفية مدمرة بعد الاحداث الاخيرة الجارية حيث اُسقطتْ هيبة حكومة نوري المالكي الطائفية، واحتكم المتصارعون إلى لغة السلاح، وسقطت محافظات الموصل وصلاح الدين والانبار، واقسام من ديالى ذات الغالبية السنية المهمشة بعد انهيار الجيش العراقي في هذه المحافظات، وشمرت احزاب الاسلام الطائفية الشيعية عن سواعدها لزج  المواطنين من ابناء الطائفة ودفعها نحو حرب طائفية لا تبقي ولا تذر وسيحل بمدن العراق الخراب والدمار وسيفقد حياته مئات الألوف من ابناء الطائفتين الابرياء.
لقد راعني تحول موقف المرجع الشيعي الأعلى السيد السيستاني الذي التزم به فيما سبق لجمع سائر اطراف الصراع والحفاظ على السلم الأهلي في العراق ، ليعلن وبكل صراحة فتواه الجديدة التي دعا فيها سائر ابناء الطائفة الشيعية الى حمل السلاح ضد اخوتهم ابناء الطائفة السنية واصفاً من يموت منهم في هذه الحرب المجنونة بالشهيد، وهكذا زج المرجع الأعلى السيد السيستاني نفسه كطرف في الحرب الأهلية التي باتت على الابواب، وانا هنا ادعو السيد السيستاني ان يعيد النظر بدعوته الخطيرة هذه لكي لا يتحمل وزر هذه الحرب التي يجري الاعداد لها قبل فوات الأوان . 
إن على القوى المتصارعة على السلطة والثروة الكف عن سلوك هذا الطريق الخطر، وتجنب اللعب بنيران الطائفية المقيتة، وأن من يجرأ على اشعالها سيحترق بها لا محالة، حتى  لو فر من البلاد مع ثروته التي جناها من المال الحرام، بالإضافة إلى تحمل المسؤولية المباشرة عما سيئوول بالشعب والوطن، من ويلات ومصائب، وسوف لن يرحمكم احداً.
دعونا من الدعوات الطائفية الشيعة والسنية، والعرقية، وكونوا عراقيين وحسب، وعودوا إلى رشدكم، إن كان قد بقي لديكم قليلاً من الرشد ، وكفوا عن المقامرة بحياة العراقيين، فقد كفى الشعب ما لاقاه من الويلات والمصائب منذ انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 وحتى يومنا هذا.
إن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة المستعصية يتطلب الاتفاق بين سائر اطراف الصراع على استقالة حكومة نوري المالكي الطائفية فورا وتشكيل حكومة تنكوقراط مستقلة ومحايدة بين سائر القوى السياسية تأخذ على عاتقها القيام بالإجراءات التالية:
1 ـ حل البرلمان المطعون بشفافيته، وبالقانون الانتخابي الذي جرى تفصيله على مقاس السلطة الطائفية القائمة، وسن قانون انتخابي جديد يضمن حقوق ومصالح سائر اطراف الصراع، والدعوة لاجراء انتخابات جديدة تحت الأشراف الصارم والشفاف للأمم المتحدة.. وان يكون ممثلا لكل طرف في الاشراف على الانتخابات، وفرز الاصوات الانتخابية، بما لا يدع مجالاً للشك في نتائج الانتخابات  النزيهة .
2 ـ ينبغي اصدار قانون تقدمي بعيد عن الطائفية والدينية للأحزاب السياسية، يمنع منعاً باتاً التمويل الأجنبي أياً كان مصدره والاكتفاء من أموال الدولة المخصصة للأحزاب، ومن قبل مناصريه من المواطنين العراقيين، ومعاقبة الأحزاب التي تتلقى الأموال من الخارج بمنعها من المشاركة في الانتخابات وحلها.
3 ـ تجميد الدستور البريمري الحالي، وتشكيل لجنة مستقلة من خبراء القانون الدستوري لوضع دستور جديد للبلاد، بعيدا عن الطائفية والدينية والعرقية، وتحديد شروط واضحة ودقيقة لفدرالية كردستان بحيث لا تطغي على صلاحيات الحكومة المركزية، وينبغي أن تنص على ثروات البلاد ملكاً للشعب العراقي كافة، وتحت اشراف الحكومة المركزية، ومنع الازدواجية فيما يخص القوات المسلحة التي ينبغي ان تكون تحت سلطة الحكومة المركزية، فلا يوجد في كل بلاد العالم جيشان!، كما ينبغي اعادة النظر في تركيبة الجيش العراقي الحالي والذي جرى زج الميليشيات التابعة للأحزاب السياسية الشيعية فيه، واعادة هيكلية الجيش وضم الكفاءات العسكرية القادرة على بناء جيش احترافي قادر على الحفاظ على سيادة و استقلال العراق بعيداً عن اية هيمنة اجنبية ، وتجهيزه بالأسلحة الحديثة التي تمكنه من الحفاظ على السلم الاهلي، والدفاع عن حدود الوطن، ومنع أي تدخل اقليمي او دولي في شؤون العراق الحر المستقل، ولابد من تأسيس قوة عسكرية جوية وتجهيزها بالطائرات الحربية من أي مصدر كا، ولاسيما وأن الولايات المتحدة التي غزت العراق، وحلت الجيش العراقي، واختفت كل طائراته الحربية دون أن يعرف احدا شيئاً عن مصيرها ، وها هو العراق اليوم ، وبعد 13 عاماً من الغزو الأمريكي لم تجهزه الولايات المتحدة بطائرة حربية واحدة ، ولاشك بان اي جيش في العالم لا يمكنه القيام بأية مهمة عسكرية دون حماية جوية فعالة، وسيكون مصيره الانهزام في اية معركة دون حماية جوية دفاعية وهجومية. 
4 ـ ينبغي تجاوز المحاصصة الطائفية والعرقية في تشكيل الحكومة المركزية الجديدة على ضوء نتائج الانتخابات الجديدة التي ستجري بعد وضع دستور عراقي جديد، وسن قانون انتخابي جديد، حيث يكلف زعيم الحزب الذي ينال اكثرية في البرلمان بتشكيل الحكومة، وله أن يأتلف مع اي حزب أو احزاب آخرى لنيل الثقة من البرلمان، على ان تبقى الأحزاب الأخرى في صف المعارضة، وتراقب اعمال الحكومة، وتحاسبها حسب القانون، بما لا يخل بعمل الحكومة، وبالامكان نزع الثقة عن أية حكومة لا تلتزم بمصالح الشعب والوطن بالرجوع إلى البرلمان.
5 ـ ينبغي إجراء انتخاب رئيس الجمهورية انتخابا مباشراً من الشعب جنباً الى جنب مع انتخاب البرلمان، وينبغي أن تحدد مدة حكم الرئيس بما لا يزيد عن فترتين رئاسيتين، وينبغي للمرشح للرئاسة أن يختار له نائباً قبل اجراء الانتخاب، وينبغي أن يتيح الدستور الحقوق الكاملة للمواطنين للترشح للرئاسة بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة وفق شروط يحددها الدستور .
هذا هو الطريق السليم للخروج من الأزمة السياسية الآخذة بخناق البلاد والعباد والتي تهدد بالانفجار في أية لحظة، لتقود الجميع نحو الهاوية التي لن يخرج منها احد منتصراً، بل كل الاطراف مهزومة، فهل يعود المتصارعون المقامرون بمصالح الشعب والوطن الى رشدهم؟ آمل من صميم قلبي ذلك من أجل حماية الشعب والوطن.   
حامد الحمداني

191
الانتخابات البرلمانية القادمة وحلم الشعب
بعراق ديمقراطي

حامد الحمداني                                                        14/4/2014   
                                                     
تتصاعد حمى الدعايات الانتخابية التي تسود الساحة العراقية من قبل الكتل السياسية التي تقدمت بقوائم مرشحيها في الوقت الذي يقترب فيه موعد إجراء الانتخابات في نهاية هذ الشهر،نيسان، ويلجأ بعض منتسبي القوائم الانتخابية إلى أساليب تتناقض تمام التناقض مع التنافس الديمقراطي من خلال تمزيق ملصقات الدعاية الانتخابية والاعتداء على الأشخاص القائمين بلصقها، بل لقد تعدى الأمر إلى استخدام أساليب العنف والاعتداء والتهديد بالقتل لمرشحي قائمة التحالف المدني الديمقراطي من قبل عصابة ما يسمى بعصائب الحق!! .

ورغم كثرة القوائم الانتخابية المسجلة إلا أن التنافس الشديد يجري ما بين الأحزاب ذات التوجه الديني والطائفي الشيعية المتمثل في الأساس بالقوائم الاربعة، دولة القانون بزعامة المالكي، والاحرار بزعامة مقتدى الصدر، و كتلة المواطن بزعامة عمارالحكيم وكتلة التحالف الوطني بزعامة إبراهيم الجعفري. كما تشارك في الانتخابات الأحزاب ذات التوجه الطائفي السنية المتحالفة مع القوى الرجعية، والقائمة العراقية بزعامة اياد علاوي التي انقسمت على نفسها حيث ظهرت كتلة اسامة النجفي ، وكتلة صالح المطلك.
 
وتخوض هذه الاحزاب والتنظيمات الصراع فيما بينها بكل صوره وأشكاله على الساحة العراقية، على السلطة والثروة.

أما في منطقة كردستان فالحلف الذي استمر بين الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، قد تحول إلى الصراع بين الحزبين وصل إلى حد استخدام السلاح، هذا بالاضافة إلى الانقسام الذي حصل في الاتحاد الوطني الكردستاني، وظهور كتلة التغيير على الساحة السياسية بعد أن أخذت جانبا كبيرا من قادة وكوادر واعضاء الحزب إلى جانبها، هذا  إلى جانب العديد من الأحزاب الصغيرة الأخرى التي تأتلف مع احد الجانبين.

وفي المقابل ظهر ائتلاف جديد على الساحة العراقية يضم مجموعة من الاحزاب الوطنية والقوى والشخصيات الديمقراطية والعلمانية والتنكوقراط، والمتمثل بقائمة التحالف المدني الديمقراطي.
 
وإزاء هذا المشهد الذي يسود الساحة العراقية، ولكون هذه الانتخابات ستقرر مصير العراق خلال السنوات الأربع القادمة فإن الشعب العراقي اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما قيام نظام حكم قائم على أساس ديني وطائفي وعرقي بكل ما فيه من أخطار على مستقبل الديمقراطية المنشودة، وإما خيار التوجه العلماني والديمقراطي المتمثل بقائمة التحالف المدني الديمقراطي لضمان التطور الديمقراطي في العراق، ونبذ التعصب العرقي والديني والطائفي، وضمان بناء المؤسسات الديمقراطية، وإبعاد الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى عن هيمنة الأحزاب السياسية بكل توجهاتها، والعمل على سيادة القانون، وتحقيق المساواة بين سائر أطياف الشعب على اختلاف انتماءاتها القومية والدينية والطائفية في الحقوق والواجبات، والحرص على أن تأخذ المرأة العراقية دورها الأساسي في قيادة المسيرة الديمقراطية بحكم كونها تمثل نصف المجتمع العراقي .

إن على المرأة العراقية، وبوجه خاص طليعتها الواعية المثقفة أن تدرك أن حقوقها وحريتها ومستقبلها يتوقف على انتصار الديمقراطية في الانتخابات القادمة، وعليها أن تبذل أقصى ما تستطيع من جهد وطاقة في تعبئة وتوجيه المرأة العراقية لممارسة حقها الانتخابي بالاتجاه الذي يحقق لها طموحاتها، ويضمن لها الدور الأساسي في تحديد مستقبل البلاد الديمقراطي المنشود .

كما أن الأحزاب الكردستانية مدعوة إلى تشكيل جبهة مع القوى الديمقراطية  بعد الانتخابات من أجل قيام حكومة ديمقراطية في البلاد، وضمان مستقبل الفيدرالية في كردستان، فالفيدرالية والديمقراطية أمران متلازمان، ولا فيدرالية دون الديمقراطية .

إن الصراع بين التوجه الديني والتوجه العلماني آخذ بالتصاعد كلما اقترب يوم الانتخابات، وتتصاعد الأخطار الناجمة عن ممارسة الأحزاب الدينية لأساليب العنف ضد مناصري الطرف العلماني، كما يجري التعرض بالأحزاب والقوى المؤتلفة في قائمة النحالف المدني الديمقراطي، ويجري تشويه سمعة هذه الأحزاب، والشخصيات الوطنية الديمقراطية على صفحات العديد من الصحف وصحافة الإنترنيت، وتمزيق الملصقات الانتخابية، مما يتوجب على المفوضية العليا للانتخابات اتخاذ الإجراءأت الكفيلة بوقف هذه التصرفات اللا ديمقراطية، ومحاسبة المخالفين لبنود قانون الانتخاب .

أننا ننشد إجراء انتخابات حرة وديمقراطية شفافة، وندعو المواطنين العراقيين والمواطنات العراقيات لممارسة حقهم الانتخابي بكل حرية، ومن دون أي تأثير أو تدخل من أي جهة كانت، وندعو المرجعية الدينية إلى عدم فسح المجال لاستغلال اسمها وسمعتها التي نحترمها في التأثير على نتائج الانتخابات، كما جرى في الانتخابات السابقة، وليعبر شعبنا بكل حرية عن خياراته، ويعطي كل مواطن صوته وبحسب قناعته إلى الجهة التي يتوسم فيها تحقيق أمانيه في الحرية والديمقراطية والسلام والأمن، والحياة الكريمة التي تليق به والتي حرم منها منذ عدة عقود.

ورغم عدم تكافؤ الفرص بين الاحزاب ذات التوجه المدني الديمقراطي،والتي لا تمتلك قناة فضائية واحدة، ولا تشارك في السلطة، والتي تفتقر للموارد المالية، وبين الاحزاب الدينية والطائفية التي تمتلك العديد من القنوات الفضائية والعديد من الصحف، والتي تمتلك السلطة والثروة الهائلة.

لكن الآمل يبقى في الشباب الناهض والمتعلم والمدرك لما وصل إليه العراق على أيدي الزمر الحاكمة بمختلف تنظيماتها من بؤس وتخلف في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية، وتدهور الاوضاع المعيشية للشعب في بلد من اغنى بلدان العالم، في حين تنعم الزمر الحاكمة بثروة العراق على حساب المواطنين.

لم يعد يخفى على هذا الجيل الصاعد حقيقة جلباب الدين الذي استخدمته الاحزاب الدينية في التأثير على عقول الناس البسطاء، والدعايات الرخيصة التي مارستها وما تزال تمارسها ضد القوى والاحزاب العلمانية والديمقراطية من كفر والحاد مزعومين!!، وأن الامل معقود على هذا الجيل الناهض والمثقف في العمل الجاد لكسب اصوات المواطنين البسطاء من أجل احداث نقلة حقيقية تستطيع احداث تغير جوهري في حياة المواطنين في كافة مجالات الحياة.

ان الانتخابات البرلمانية التي ستجري بعد اسبوعين من الآن تمثل الفرصة الحقيقية السانحة امام الشعب العراقي للتخلص من الطائفية البغيضة ومن القوى التي حكمت العراق منذ الغزو الامريكي للعراق حتى يومنا هذا، ولم تقدم له أي انجاز حقيقي، فما يزال الصراع بين الاطراف المشاركة في الحكم على اشده داخل البرلمان وخارجه، وما يزال الأمن مفقودا، وما تزال السيارات المفخة والعبوات المزروعة واللاصقة، والاغتيالات بكواتم الصوت، وترويع المواطنين حتى في بيوتهم والقتل بابشع صوره واشكاله، وبات الانسان العراقي لا يأمن على حياته حتى في مسكنه، وما يزال الفقر المدقع لملايين العراقيين، وما تزال البطالة الواسعة لجماهير العمال، وما يزال الملايين من المواطنين دون سكن يليق بالانسان، وما يزال التدهوربكافة الخدمات الصحية والتعليمية والمياه الصالحة للشرب، وتدهور الصرف الصحي، والنقص الخطير في الطاقة الكهربائية.

 اما الصناعة والزراعة فقد تردت إلى الحضيض حتى بات العراق يستورد كل احتياجاته من الاجهزة ومن المواد الغذائية والفواكه من إيران وتركيا والصين والدول الأخرى بعد أن كان العراق قبل حروب  صدام  المجنونة يمتلك العديد من الصناعات الحديثة، والمشاريع الزراعية المنتجة.

 نتمنى من صميم القلب أن يحقق الائتلاف المدني الديمقراطي انعطافة تاريخية في هذه الانتخابات التي باتت على الابواب ليكون لها الدور الفاعل والمؤثر في مستقبل البلاد لتحقيق ما يصبو إليه الشعب العراقي من حياة حرة وكريمة في ظل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، والنهوض بالعراق في كافة المجالات، من اجل اللحاق بركب الدول المتقدمة والتي سبقتنا بعشرات، بل مئات السنين.   
 

192
من أجل تحرر المرأة العربية وتمتعها
بحقوقها الديمقراطية
حامد الحمداني                                                  5/3/2014

يحل علينا بعتد يومين عيد المرأة في الثامن من آ ذار حيث تحتفل المرأة خالقة الأجيال في مختلف بقاع العالم في عيدها الميمون، عيد الثامن من آذار الذي تحتفل فيه البشرية كل عام، ويقدم الأزواج والأبناء والأخوة والأصدقاء بقات الزهور للمرأة أكراماً لها، ولتضحياتها وعملها الدائب في دفع  مسيرة الإنسانية إلى الأمام لتحقيق عالم جديد تسوده قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الرجل المرأة في الحقوق والواجبات. 

غداً تستقبل المرأة العربية عيدها العزيز على قلوبنا في ظل الظروف البالغة الصعوبة والتعقيد التي يمر بها العالم العربي، حيث تعيث قوى الظلام والفاشية في مقدرات المواطنين ، وفي المقدمة منهم المرأة التي وقع عليها الحيف الكبير، بعد أن كشرت قوى الظلام والفاشية عن أنيابها لتفترس كل ما حققته المرأة العربية  من حقوق وحريات عبر عقود من النضال الدؤوب لتنال حريتها وحقوقها المشروعة التي اقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، هذا الإعلان الذي لا يلقَ إلا التجاهل والازدراء من قبل الأنظمة الشمولية والطائفية المتخلفة .

وفي الوقت الذي بلغت فيه المرأة مراحل متقدمة في تنافسها مع الرجل في المجتمعات المتقدمة ، وتبوأت أعلى المناصب السياسية والإدارية بكل جدارة ، فإنها تجد نفسها في ظل المجتمعات الإسلامية المعاصرة محاصرة من جميع الجهات ، حيث يسود المجتمع الذكوري المتزمت ، وخاصة في البلدان التي تقودها الأحزاب الدينية التي تعامل المرأة أدنى من الرجل بكثير في سائر الحقوق والواجبات ، بل وتعتبر المرأة ملكية خاصة يتحكم فيها الرجل استناداً إلى حكم الشريعة الإسلامية!! ، وكأنما تعيش المرأة في مقتبل القرن الأول الهجري وليس في القرن الحادي والعشرين .
ولقد خاضت المرأة في مجتمعاتنا العربية الأسلامية، ومنذ أوائل القرن العشرين نضالا لا هوادة فيه من أجل تحررها ومساواتها مع أخيها الرجل، مدعومة بسائر القوى الديمقراطية والعلمانية الساعية لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية التي مكنتها من تحقيق آمالها وطموحاتها المشروعة ، وقد حققت خلال تلك الحقبة السابقة، وعبر تضحياتها الجسام، الكثير من التقدم، حيث بدأت تمارس العمل خارج البيت، وتحقق الاستقلال الاقتصادي الذي يعتبر العامل الأساسي لتحررها الاجتماعي والسياسي، على الرغم من المقاومة الشرسة التي كانت تبديها القوى الرجعية المتخلفة، والساعية لإبقاء المرأة رهينة البيت مهمتها الإنجاب وتربية الأطفال، وتحقيق رغبات الرجل، معتبراً إياها سلعة خاصة به يتحكم فيها كيفما يشاء ، ويمارس كل وسائل القمع ضدها دون وازع من ضمير أو أخلاق .

إن المرأة العراقية اليوم تشعر بالحزن والأسى العميق لما آلت إليه الأحوال   من تردي ونكوص لا مثيل له، وهي لا تستطيع الاحتفال بعيدها الميمون كما تحتفل أخواتها في شتى بقاع العالم ، حيث انتكب العالم العربي في ردة لا مثيل لها على أيدي قوى الإسلام السياسي الطائفي التي جاء به الاحتلال الأمريكي إلى السلطة بعد حرب الخليج الثالثة التي انتهت بإسقاط النظام الدكتاتوري الفاشي ، وحيث بدأت هذه القوى المتخلفة عن روح العصر تمارس أبشع صور الامتهان للمراة، وصلت حد الاختتطاف والاغتصاب والقتل لكل من تخالف مشيئة المليشيات التابعة للأحزاب الإسلامية الطائفية التي اجبرت المرأة العراقية على العودة إلى عصر الحريم ، ولبس الحجاب ، والانكفاء في البيت ، والويل لمن تتحدى تلك الزمر الإرهابية المتخلفة التي باتت تهيمن على الشارع العراقي ، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المواطنين بصورة عامة وحياة المرأة بصورة خاصة . إن تصرفات هذه القوى تجاه المرأة يمثل عودة إلى عصر العبودية الذي تحررت منه المرأة العراقية بعد نضال عنيد وتضحيات جسيمة .

أن القوى الديمقراطية والعلمانية  أمام مسؤولية تاريخية كبرى تتطلب تكاتف وتلاحم هذه القوى للتصدي الحازم للهجمة الرجعية المتخلفة التي أصابت أحلام وطموحات وآمال المرأة العراقية التي في الصميم ، وأعادتها إلى المربع الأول، لتبدأ من جديد نضالها العنيد من أجل دحر قوى الظلام والفاشية الدينية والتحرر من هيمنة أدعياء الدين ، الذين يستغلونه لتحقيق أهداف ومصالح سياسية، وليكن شعارنا في عيد المرأة لهذا العام :
{ لنناضل من أجل تحرر المرأة العربية وتمتعها بحقوقها الديمقراطية والإنسانية ، ودحر قوى الظلام والتخلف والفاشية }.
المجد والظفر للمرأة في عيدها الميمون ، والنصر الأكيد لنضالها الدائب في صراعها مع قوى التخلف والظلام .





193
دروس وعبر من انقلاب 8 شباط الفاشي
واغتيال ثورة 14 تموز

الحلقة الثالثة والاخيرة

حامد الحمداني                                                  9 شباط 2014

الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويصدر بياناً يدعو إلى مقاومتهم :
منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية  وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان :
{إلى السلاح ! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية } .
أيها المواطنون: يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال، والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين  لقد دق جرس الخطر إن استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
 
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع .

يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية، وكل مؤسسة، وكل حي وقرية، وسيُلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرات الكيلاني، والشواف وآخرين. إننا نطالب بالسلاح}.
 ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير.

 إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب الشيوعي قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون البعثيون والقوميون خلال ثلاث سنوات، ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة، فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره، وخاصة في صفوف الجيش؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش، على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه.

ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة .

 لقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة لحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب، وقدموا التضحيات الجسام، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين .

كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، في أول ساعات الانقلاب، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح!

ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً، ودفع حياته، وحياة ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.

عبد الكريم قاسم يحاول توجيه خطاب للشعب والقوات المسلحة ٍ
في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب والقوات المسلحة، يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [ كاسيت]، تحت أصوات الانفجارات والقصف، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد الخائن[سعيد الدوري] الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب.
 وهكذا فات الأوان واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين وتم إذاعة البيان أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع .

ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب .

أما [الحرس القومي] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع  وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم .
واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية والكاظمية، وباب الشيخ، وحي الأكراد، والحرية والشعلة، لعدة أيام ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم، وأصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى ابادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب ابادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا عشرات الألوف من المواطنين، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع.

 وكان من ضحايا التعذيب كل من[سلام عادل] السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عينيه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب، كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي، أبو سعيد، ومتي الشيخ، و محمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم


موقف قطعات الجيش من الانقلاب:
بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة، والكفوءة من المراكز العسكرية، واستبدالها بعناصر انتهازية، وأخرى حاقدة وموتورة، تتربص بالثورة وقيادتها، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة، ويجري التصدي للانقلابيين، فكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش، من صغار الضباط، وضباط الصف، والجنود، حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش. ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط، وضباط الصف والجنود للانقلاب، إلا أنهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً.

وفي معسكر التاجي القريب من بغداد حيث توجد هناك محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، غير متكافئ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار، وضباط الصف والجنود.

كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في منطقة فايدة شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية، الذي كان يغطي، ويخفي كل تحركات الانقلابيين، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم،  ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري.

ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، أصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية، ولا الأمنية ساكناً وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين .

أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط ، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [خالد كاظم] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين، ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء.

كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي، المعروف بعدائه للثورة وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه.

استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين :

أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر] المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم [عبد الكريم الجدة]، أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب القريبة من مبنى الوزارة تحت جنح الظلام، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي]، رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد]، مدير الحركات العسكرية، [وقاسم الجنابي] السكرتير الصحفي لعبد الكريم، والملازم [كنعان حداد] مرافق قاسم .

ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف طالباً منه بأسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه، ورعايته له بالسماح له بمغادرة العراق. غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة  بكلمات نابية لا تدل على خلق،
واتصل عبد الكريم قاسم مرة أخرى بعبد السلام عارف، طالباً منه السماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام .

وفي صباح اليوم التالي 9 شباط  خرج الخائن[ يونس الطائي ] صاحب صحيفة الثورة، المعروف بعدائه للشيوعية، والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [الثورة]، خرج للقاء الانقلابيين وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة  حيث قام بدور الوسيط !! بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين  لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته، وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم ومعه المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد، وكان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية.

مهزلة محاكمة عبد الكريم قاسم، وإعدامه مع رفاقه:
إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن والدجال [يونس الطائي ] الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أوأن يوفروا له محاكمة عادلة وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف والمتآمرين الآخرين على الثورة.

وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة أنبري له عبد السلام عارف، وعلي صالح السعدي  بالشتائم المخجلة التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع فقد توجه السعدي إليه قائلاً :
[ لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة، وهل هو موجود بيننا ؟  وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال السعدي .
 وقد أجابه عبد الكريم قاسم [ غير موجود هنا بشرفي] لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً [ومن أين لك بالشرف]، وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً :
[إن لي شرفاً أعتز به].

وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة، وكان كل همه أن ينتزع من عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثورة، إلا أن عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة، وقد طلب عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية  تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون ليطلع عليها الشعب، إلا أن طلبه أهمل، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي قطعات من الجيش  من التحرك ضدهم.

قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه، وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم التاسع من شباط 963 ، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم عبد الغني الراوي، والرئيس منعم حميد، والرئيس عبد الحق  فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم رافضين وضع عصابة على أعينهم، وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي، وسارع الانقلابيون إلى عرض جثته وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات .

لقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم، وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة.

هكذا اذا تم اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، واغتيال قادة الثورة الوطنيين الخلصين، وقادة الحركة الوطنية وفي مقدمتهم قادة وكوادر الحزب الشيوعي، ولف العراق الظلام منذو ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، فكل ما جرى من حروب قادها طاغية العراق صدام وما سببته من ويلات ومصائب وكوارث هي نتاج لتلك الجريمة التي نفذها حزب البعث والقوى القومية الرجعية في انقلاب 8 شباط 1963 والذي دبرته القوى الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحليفتها التقليدية بريطانيا.


194
دروس وعبر من انقلاب 8 شباط الفاشي
واغتيال ثورة 14 تموز
الحلقة الأولى
حامد الحمداني                                               5 شباط 2014

الظروف التي ساعدت،ومهدت للانقلاب
في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى، تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث تآمرت الأحزاب القومية على الثورة منذ منتصف عامها الأول، وغلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى  بين حماة الثورة والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح، والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة { سياسة عفا الله عما سلف } التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد مؤامرة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل إلى مراكز حساسة في الجيش.

وفي الوقت نفسه أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها  ومسيرتها، واحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، وتسريحه لعدد كبير من الضباط  كان من بينهم الدورة 13 للضباط الاحتياط البالغ عددهم [1700] ضابط، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية الوليدة، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة، وقيادتها.

 كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية، التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها، من قياداتها المخلصة والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة  بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال، والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963 :
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.

  لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في إقدامه على حل المقاومة الشعبية ، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب، وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ما كان لها أن تحدث، واستغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها.

لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية وهي الدرع الحصين للثورة، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة  ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتياله هو بالذات، وإغراق العراق بالدماء.

لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي، وليس من الرجعية، وعملاء الإمبريالية.

 إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بقيادته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه كان يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 1963، وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف: {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}. ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.
إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون، ويسفرونه إلى الخارج، أو ربما حوكم محاكمة قانونية عادلة، أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدرْ في خلده أن حقدهم عليه وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته وتصفية كافة أعوانه، وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم ولثورة تموز المجيدة.

 كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة، وعن نفسه، كما فعل من بعده الشهيد [سلفادور اليندي]، رئيس جمهورية شيلي، عام 1972، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع وأخس العبارات، قبل تنفيذ الإعدام به، وبرفاقه الشجعان المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد.

2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أحال على سبيل المثال قائد الفرقة الثانية في كركوك، الشهيد الزعيم الركن داوود الجنابي]، وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959.

 كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [هاشم عبد الجبار]، آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم  [صديق مصطفى] المعروف بعدائه للقوى التقدمية، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد، الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.

كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري] والرئيس [كاظم عبد الكريم]، والمقدم [خزعل السعدي]، وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة، وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له، ولكتيبته الدور الأساسي في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم .
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية، وتعيين العقيد الطيار[عارف عبد الرزاق] الذي أعاده للجيش، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .

4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار[حردان عبد الغفار التكريتي] آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.

5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد[طه الشيخلي] المعروف بعدائه للثورة، ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.

6 ـ إعادة  19من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي]، والذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب.

7 ـ أحال العقيد [حسن عبود] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.

8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد سيد حسين] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد.

9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959، والبالغ عددهم  1700 ضابط من الخدمة في الجيش بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها .
10 ـ تنحية المقدم الركن [ سليم الفخري] المدير العام الإذاعة وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها.

وقد وصفت صحيفة [ صوت الأحرار ] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للانتهازيين والرجعيين بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها.

 كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب.

وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب، عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإحباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي 9 شباط ، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة  واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير، غير المذاع، لما نجح الانقلاب.

11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد .

12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.

13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم  في 11 حزيران 962،  في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين والديمقراطيين رهائن في السجون، وليأتي الانقلابيون فيما بعد وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم.

لقد شجعت سياسة العفو، والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.

14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية، سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية، ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين .

لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة وعزلها عن الشعب.

15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً .

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.

16ـ  قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [رشيد لولان]و [عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني ،مع الأسف، إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان، وعباس مامند، المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران]

ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران " هولمز " بالشيوخ المتمردين، وتم إرسال [علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [ تاودست]، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران، ولا شك في أن عبد الكريم قاسم يتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح.

17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة ولعبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين.

ومما يؤكد هذا الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [ مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام [علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث، بالبصق في وجهه، فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له: { لماذا تبصق في وجهي فلولاي لما نجح الانقلاب}، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم .

ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم  رئيس الجهاز[محسن الرفيعي ]  ومن قبله [ رفعت الحاج سري ]الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
 كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [ أحمد صالح العبدي ] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.


18ـ قيام الطلاب البعثيين والقوميين بإضراب عام، ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين، ولم تحاول كبح جماحهم، وكسر الإضراب، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب.

ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب، وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.
ا

195
من ذاكرة التاريخ
وثبة كانون المجيدة عام 1948
حامد الحمداني                                                              10/1/2014
   
منذُ أن أقدم الإمبرياليون البريطانيون على احتلال العراق من جديد،في أيار عام 1941، وإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني، وتشكيل حكومة المدفعي بأمر من السفارة البريطانية، اصبح الشعب العراقي وحاكميه على طرفي نقيض، وتباعدت الهوة بينهما إلى أبعد الحدود، وخصوصاً بعد الإجراءات الانتقامية التي قامت بها حكومتي المدفعي ونوري السعيد ضد كل من شارك أو ساند حركة الكيلاني والعقداء الأربعة، أو وقف ضد الاحتلال البريطاني.                    .

لقد أدركت السلطة الحاكمة أن الأمور لا بُدّ وان تؤدي إلى الانفجار إذا ما سارت على ذلك المنوال، وبغية امتصاص الغضب الشعبي العارم، أقدم الوصي عبد الإله على تأليف وزارة توفيق السويدي، وأعلن في خطاب العرش عن عزم الحكومة إعادة الأوضاع الطبيعية للبلاد، وإنهاء الأحكام العرفية، وإطلاق حرية الصحافة والسماح بتأليف الأحزاب السياسية.

 وخلال فترة حكم تلك الوزارة تنفست الصحافة الصعداء، وظهرت العديد من الصحف الوطنية، وتم إجازة خمسة أحزاب معارضة، وهكذا خلق توجه الحكومة انفراجا نسبيا في اوضاع السياسية للبلاد، لكن هذا التوجه لم يرق للمحتلين وأعوانهم، وعلى رأسهم نوري السعيد وشلته، التي سعت بكل الوسائل والسبل لإسقاط وزارة السويدي، وتصفية كل مظاهر الديمقراطية، واضطهاد الصحافة والأحزاب، والعودة بالأمور من جديد.                                                  .

لقد تم لنوري السعيد وأسياده المحتلين ما أرادوا، وسقطت وزارة السويدي، ليؤلف أرشد العمري وزارة جديدة، ادعى حين تأليفها أنها جاءت لإجراء الانتخابات النيابية، لكنها في حقيقة الأمر جاءت لتصفية الحياة الحزبية، وشل الصحافة، وقمع الشعب، ومصادرة حقوقه وحرياته العامة، وبدأت وزارة العمري تمارس سياسة القمع، مما دفع بالأوضاع نحو التدهور من جديد، وتصاعد التناقض بين الشعب وحاكميه.                     .

وجاءت قضية فلسطين، وقرار اللجنة البريطانية ـ الأمريكية القاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة القادمين من مختلف أنحاء العالم، تنفيذا لوعد( بلفور) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أدى ذلك القرار إلى إثارة الغضب الشعبي العارم في كافة أنحاء العالم العربي، وقيام المظاهرات الجماهيرية الواسعة في بغداد وسائر المدن الأخرى ضد السياسة البريطانية والأمريكية وضد حكومة ارشد العمري الممالئة للإنكليز، وقد لعب الحزب الشيوعي دوراً طليعيا في تلك المظاهرات الكبرى، التي جرت في 28 حزيران والتي قابلتها الحكومة وأجهزتها القمعية بالرصاص، حيث استشهد العديد من المواطنين، وجرح أعداد كثيرة أخرى، وقامت الحكومة باعتقال المئات من المحتجين على سياستها.                                           .

ثم تلتها (مذبحة كاور باغي ) التي نفذتها حكومة العمري ضد عمال شركة النفط في كركوك لتزيد الغليان الشعبي إلى درجة خطيرة وجاءت أزمة الحبوب وفقدان رغيف الخبز في مطلع عام 1947 لتصاعد من حدة التناقض بين الشعب وحاكميه، ولترفع من حرارة الغليان الشعبي.                                   .

فبسبب سياسة الحكومة الاقتصادية الرعناء، بسماحها بتصدير كميات كبيرة من الحبوب، إرضاءً لكبار الإقطاعيين والملاكين الزراعيين، على الرغم من سوء الموسم الزراعي ذلك العام بسبب شحة الأمطار، ورغم كل التحذيرات التي وُجهت للحكومة من خطورة الوضع، وضرورة منع التصدير ذلك العام، إلا أن الحكومة أغمضت عيونها عن تلك التحذيرات، واستمرت في سياستها المتعارضة ومصالح الشعب وحياته المعيشية، مما سبب فقدان الحبوب في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وقد لاقى الشعب صعوبات بالغة في الحصول على رغيف الخبز الذي اشتهر في تلك الأيام بـ ( الخبز الأسود ) لكثرة ما خلط فيه من مواد غريبة، وكانت صفوف المنتظرين أمام المخابز تثير الأسى والحزن على ما يلاقيه الناس للحصول على الخبز     
   
كانت أزمة الخبز أحد الأسباب الرئيسية لقيام وثبة كانون الثاني المجيدة في مطلع عام 1948، فقد بلغ السيل الزبى ـ كما يقول المثل ـ وكانت الأوضاع تنتظر من يشعل الشرارة لتنفجر ثورة عارمة ضد نظام الحكم القائم.            .

وجاء تسرب أنباء عن وصول وفد بريطاني بصورة سرية لأجراء مفاوضات مع حكومة صالح جبر لوضع مسودة معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1930، وتبين أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد بدأت في 8 مايس1947 واستمرت حتى 17 منه

وتم إجراء المفاوضات في قصر الرحاب، تحت أشراف الوصي عبد الإله الشخصي. كما سافر عبد الإله إلى لندن في 15تموز، وأجرى مباحثات مع المستر ( بيفن ) استكمالاً للمحادثات التي بدأت في بغداد، وبعد عودة الوصي إلى العراق استأنفت المباحثات بين الطرفين في 22 تشرين الثاني، واستمرت حتى 4 كانون الأول، وكان الجانب البريطاني يتقدم بمسودات متعددة للمعاهدة الجديدة، وسافر نوري السعيد  وفاضل الجمالي وزير الخارجية إلى لندن، وأجريا لقاءات متعددة في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قدم لهما مساعد وزير الخارجية مسودة جديدة للمعاهدة، وقد اتصل نوري السعيد برئيس الوزراء (صالح جبر) داعيا إياه إلى الحضور إلى لندن لاستكمال المباحثات حول مسودة المعاهدة، وقد لبى صالح جبر الدعوة، وغادر إلى لندن وبصحبته وزير الدفاع ( شاكر الوادي ) و( توفيق السويدي) بعد الاجتماعين الذين تمم عقدهما في قصر الرحاب، برئاسة عبد الإله، وكان الاجتماع الأول في 28 كانون الأول، وضم ذلك الاجتماع 7 رؤساء وزارات سابقين، و12 وزيراً بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي أحمد مختار بابان، ثم تلاه الاجتماع الثاني في 3 كانون الثاني حيث نوقشت فيه النقاط الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها.

ويقول السيد توفيق السويدي في مذكراته أن صالح جبر كان قد وزع على الحاضرين مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وعندما طالبته بنسخة عربية أجابني أنه لم يتسنى لنا ترجمتها إلى العربية، ويضيف السويدي قائلا بأنه لم يجد ما يستوجب الاعتراض من الجانب السياسي، ولكن وجدت الجانب العسكري عليه الكثير من الاعتراضات، وقد رد عليّ صالح جبر بان هذا الأمر مدروس من قَبلْ، ومتفق عليه بهذا الشكل، وليس فيه ما يستوجب الاعتراض، الأمر الذي دل بوضوح على أن المعاهدة قد وضعت، واتُفق على موادها سلفاً، وإن الوصي أراد إضفاء الشرعية عليها، وفي نهاية الاجتماع تم تخويل الوفد العراقي برئاسة( صالح جبر) صلاحية التوقيع على المعاهدة.                       (2)

وعندما سرت أنباء اجتماعات قصر الرحاب، سارعت الأحزاب الوطنية الى الاحتجاج عليها بسبب استبعاد الشخصيات الوطنية منها، أصدرت بيانات تندد بالحكومة وتستنكر سعيها لربط العراق بمعاهدة جديدة اشد وطأة، وتمتهن سيادة واستقلال البلاد، مستهترة بإرادة الشعب وحقوقه المشروعة، وظهرت تلك البيانات في الصحف في اليوم التالي.                               .

لكن الحكومة مضت في خططها لإتمام الصفقة مع المحتلين البريطانيين متحدية إرادة الشعب، حيث أعلن عن سفر الوفد العراقي إلى لندن في 5 كانون الثاني 1948 .

وجاءت تصريحات وزير الخارجية فاضل الجمالي، والتي أشاد فيها بالمعاهدة العراقية البريطانية الموقعة في حزيران 1930، وبجهود الحكومة لعقد معاهدة جديدة مع الحليفة بريطانيا، وأهمية وضرورة عقدها، لتشعل أول شرارات الوثبة، فقد كانت تصريحات الجمالي استفزازية وقحة دفعت طلاب الكليات إلى الخروج في مظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة لعقد المعاهدة الجديدة، وقام طلاب كلية الحقوق بدور بارز في تلك التظاهرات، لكن الحكومة سارعت إلى دفع قوات الشرطة للتصدي للمظاهرات، مستخدمة أساليبها القمعية المعروفة لتفريقها، وقد أصيب عدد من الطلاب في الصدام، واعتقل البعض الأخر، وأقدمت الحكومة على تعطيل الدراسة في كلية الحقوق، في 5 كانون الثاني، وقد احتج أساتذة الكلية على إجراءت الحكومة وأساليبها القمعية في تعاملها مع الطلاب المتظاهرين، لكن الحكومة ردت باعتقال عدد من أساتذة الكليات والطلاب، واتهمتهم بحمل المبادئ الهدامة.                              .

ونتيجة لسلوك الحكومة هذا إزاء الطلاب وأساتذة الكليات أعلن طلاب الكليات والمعاهد العالية إضرابهم عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرات صاخبة سارت حتى بناية مجلس النواب للاحتجاج على الحكومة.                          .

وبسبب تسارع الأحداث وتطورها،حاول وكيل رئيس الوزراء ( جمال بابان ) تهدئة الأوضاع فأمر بإعادة فتح كلية الحقوق،وإطلاق سراح الطلاب وأساتذتهم المعتقلين.

على أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها (صالح جبر ) مع (ارنست بيفن ) وزير الخارجية البريطاني اجتاحت البلاد موجة عارمة من الغضب الشعبي العارم، ونشرت الأحزاب الوطنية في 18 كانون الثاني البيانات المنددة بالحكومة والمعاهدة، وطالبت البيانات باستقالة حكومة صالح جبر ورفض المعاهدة التي جاءت أقسى من معاهدة 1930 وأشد وطأة منها.                                   

وسارع طلاب الكليات والمعاهد العالية إلى إعلان الإضراب العام، وتشكيل ( لجنة التعاون الطلابي ) التي ضمت مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية، وقامت المظاهرات الصاخبة في بغداد، ثم ما لبثت أن امتدت إلى مختلف المدن العراقية في 18 كانون الثاني، وتصاعدت موجة المظاهرات في اليوم التالي عندما انضم إليها العمال والكادحين من سكان الصرائف المحيطة ببغداد، والكسبة والمدرسين والمحامين وسائر طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة، واتجهت التظاهرات الى بناية مجلس النواب، وكانت الجماهير تنظم إليها خلال مسيرتها، والكل يهتفون بسقوط الحكومة وحل المجلس النيابي، ورفض المعاهدة.                            .

سارعت الحكومة إلى إصدار بيان أذيع من دار الإذاعة، هددت فيه بقمع المظاهرات بكل الوسائل والسبل، وقد شكل البيان استفزازاً كبيراً لجماهير الشعب دفعهم إلى تحدي السلطة، وأعلن طلاب المدارس كافة تضامنهم مع جماهير الشعب وتحدي البيان.                                     .

وفي 20 كانون الثاني انطلقت المظاهرات الواسعة يتقدمها طلاب كلية الشريعة بجبهم وعمائمهم البيضاء هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة، وجابهتهم قوات كبيرة من الشرطة مطلقة الرصاص على المتظاهرين مما أوقع العديد من الشهداء والجرحى الذين نقلوا إلى المعهد الطبي والمستشفى التعليمي بجوار كليتي الطب والصيدلة، وقد أدى ذلك الصدام إلى انتشار لهيب الوثبة في بغداد وسائر المدن الأخرى.

 وتصاعدت موجات المظاهرات التي اشتركت فيها جميع فئات الشعب من الطلاب والعمال والمثقفين والكسبة والكادحين من سكان الصرائف، واشتبكوا مع قوات الشرطة التي لم تستطع مجابهة المتظاهرين وولت هاربة رغم السلاح الذي كانت تحمله بين أيديها، ولازلت أذكر تلك الأيام المجيدة من تاريخ كفاح الشعب العراقي بدقائقها، حيث كنت أحد الطلاب المشاركين فيها وشاهدت شرطة النظام وهي تولي هاربة من غضب الجماهير الشعبية وأسفرت مظاهرات يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني في بغداد عن استشهاد أربعة من الطلاب والمواطنين إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى.

 لكن تلك التضحيات كانت حافزاً قوياً دفع جماهير الشعب على مواصلة الكفاح حتى تحقيق أهدافها في إسقاط الوزارة والمعاهدة معاً، وفي يوم الأربعاء 21كانون الثاني توجهت جماهير الشعب نحو المستشفى التعليمي لاستلام جثث الضحايا، لكن الشرطة فاجأتهم بوابل من الرصاص، وحاولت الجماهير الاحتماء في بناية كليتي الطب والصيدلة، وبناية المستشفى، ولاحقتهم الشرطة داخل البنايات المذكورة وقتلت أثنين منهم، كان أحدهم طالبا في كلية الصيدلة مما أشعل الموقف، ودفع عميدي كليتي الطب والصيدلة وأساتذة الكليتين إلى الاستقالة احتجاجا على انتهاك حرمة الكليتين، واحتجت الجمعية الطبية العراقية ببيان شديد اللهجة على تصرف الحكومة.              .

وتدهور الوضع في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة والوصي (عبد الاله) الذي سارع لدعوة أعضاء الحكومة، وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية الوطنية، إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في 21كانون الثاني، لتدارس الوضع، والخروج من المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها فيه، وكان من بين الحاضرين الشيخ ( محمد الصدر ) و (جميل المدفعي ) و ( حكمت سليمان ) و ( حمدي الباجه جي ) و (ارشد العمري ) و (نصرت الفارسي ) و ( جعفر حمندي ) و ( محمد رضا الشبيبي ) و ( ومحمد مهدي كبه ) زعيم حزب الاستقلال و ( كامل الجادرجي ) زعيم الحزب الوطني الديمقراطي و ( وعلي ممتاز الدفتري )ممثلا لحزب الأحرار، و (عبد العزيز القصاب ) و ( صادق البصام ) ونقيب المحامين ( نجيب الراوي ).                   

وجرت في الاجتماع نقاشات حامية حول تطور الأوضاع بين الموالين للسلطة والمعارضين لها، وقد اتهم الوزير( عبد المهدي )المتظاهرين بأنهم عناصر شيوعية هدامة، ورد عليه السيد كامل الجادرجي بقوله ( إن المتظاهرين هم عناصر وطنية وقومية عربية صرفه).                 

شعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف، وعدم استطاعة الحكومة مجابه الشعب، وبعد مداولات دامت أكثر من خمس ساعات أصدر الوصي بياناً إلى الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة ومما جاء في بيانه قوله { إذا كان الشعب لا يريد هذه المعاهدة فنحن لا نريدها أيضا}            .

لقد أراد الوصي أن يمتص ببيانه هذا،الغضب الجماهيري العارم، الذي بات يهدد النظام، وهو في حقيقة الأمر كان مرغماً على تلك الخطوة وهذا ما أكده وكيل رئيس الوزراء ( جمال بابان ) نفسه للسيد عبد الرزاق الحسني، بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 من أن الوصي عبد الإله أصّر في بادئ الأمر على استخدام الشدة والعنف مع المتظاهرين، وحصدهم حصداً !!، وبرر سكوته عن ذلك طيلة تلك المدة إرضاءاً للوصي وتستراً على موقفه من قصة رفض الشعب للمعاهدة التي عقدت بمعرفته وبتوجيهاته                                     .

أدى بيان الوصي عبد الإله إلى حدوث انشقاق في صفوف الأحزاب الوطنية، فقد انشق حزب الاستقلال داعياً جماهير حزبه إلى التوقف عن التظاهر بعد بيان الوصي، فيما أصرت بقية القوى الوطنية على مواصلة الكفاح حتى سقوط حكومة صالح جير، وقيام حكومة حيادية تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتطلق سراح كافة المعتقلين السياسي                          . .

وفي الوقت الذي كان الوصي يسعى بكل جهده لتهدئة الوضع، طلع علينا صالح جبر ـ رئيس الوزراء ـ بتصريح في لندن، في 22 كانون الثاني، يتهم المتظاهرين بأنهم عناصر هدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941 بعد إسقاط حكومة الكيلاني على يد جيش الاحتلال البريطاني، وتوعد في تصريحه بالعودة إلى بغداد لسحق رؤوس العناصر الفوضوية !!!، وكان صالح جبر بتصريحه هذا قد صب الزيت على النار، فانطلقت مظاهرات عارمة ضد الحكومة.

وفي 25 منه أعدت الحكومة البريطانية طائرة خاصة لنقل صالح جبر وبقية أعضاء الوفد إلى بغداد لمعالجة الوضع، وكبح جماح المعارضة الوطنية، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في مطار بغداد لذي طوقته الجماهير، واضطرت إلى الهبوط في القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وتم نقله والوفد المرافق له بواسطة المصفحات والمدرعات، إلى قصر الرحاب خفية، حيث التقى بالوصي بحضور نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وقد اتهم صالح جبر وكيله جمال بابان بالتهاون في قمع المظاهرات، وطلب من الوصي منحه الصلاحيات اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية خلال 24 ساعة.                    .

لكن جمال بابان أكد استحالة إنهاء المظاهرات دون استقالة الحكومة، وأيده في موقفه جميل عبد الوهاب ـ وزير الشؤون الاجتماعية ـ، فيما وقف نوري السعيد الى جانب صالح جبر داعياً إلى استخدام أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين، فما كان من جمال بابان إلا أن قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على انتقادات صالح جبر.                                .

وفي ليلة 26 / 27 كانون الثاني، أصدر صالح جير بياناً يحذر فيه أبناء الشعب من التظاهر ويتوعدهم بإنزال العقاب الصارم بهم، وخول متصرفي الألوية(المحافظين) وأمين العاصمة ومدراء الشرطة صلاحية استخدام السلاح لتفريق المظاهرات، وإنزال قوات كبيرة من الشرطة لتحتل المراكز الحساسة في العاصمة وبقية المدن الأخرى                                   .

وتحدت الجماهير الشعبية صالح جبر ونوري السعيد، واجتاحت شوارع بغداد وسائر المدن الأخرى مظاهرات هادرة، منددة بالحكومة، ومطالبة بسقوطها وسقوط المعاهدة، وبات الوضع خطيراً جداً في تلك الليلة، حيث كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق من قبل الشعب من جهة، والحكومة وقواها القمعية من جهة أخرى، انتظاراً لصباح اليوم التالي 27 كانون الثاني . فلما حلّ ذلك الصباح تحولت شوارع بغداد والمدن الأخرى إلى ساحات حرب حقيقية، فقد نشرت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة المزودة بالمصفحات في الشوارع الرئيسية، فيما نصبت الرشاشات الثقيلة فوق أسطح العمارات العالية ومنارات الجوامع، استعداداً للمعركة الفاصلة                                   .

وفي الساعة التاسعة صباحاً بدأت الجماهير الشعبية في الأعظمية والكاظمية، وفي جانبي الكرخ، والرصافة تتجمع في الساحات العامة، ثم انطلقت في مسيرتها للالتقاء ببعضها، وقابلتها قوات الشرطة بوابل من رشقات الرصاص، استشهد على أثرها أربعة من المتظاهرين، ووقع العديد من الجرحى، مما زاد في اندفاع الجموع الهادرة واندفاعها، وإصرارها على التصدي لقوات القمع، وتقدمت مظاهراتان من جهة الأعظمية، ومن جوار وزارة الدفاع لتطويق قوات الشرطة التي حاولت الانسحاب إلى شارع ( الملك غازي ) سابقا، والكفاح حالياً، ولاحقتها جموع المتظاهرين مشعلة النيران بسياراتها ومصفحاتها، واستولت الجماهير على مركز شرطة (العباخانة )، وتوجهت إلى ساحة ( الأمين )، (الرصافي حالياً) في طريقها للالتحام بجماهير الكرخ عبر جسر المأمون (الشهداء حالياً ).                                                        .

كانت قوات الشرطة قد استعدت عند مدخل الجسر، حيث نصبت رشاشاتها فوق أسطح العمارات، ومنارات الجوامع، عند طرفي الجسر في جانبي الكرخ والرصافة لمنع مرور المتظاهرين عبر الجسر، ومعهم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين المندفعين نحو الجسر، واستطاعت قوات الشرطة إيقاف زحف الجماهير نحو الجسر من جانب الرصافة في بادئ الأمر، مما دفع بجماهير الكرخ إلى الاندفاع نحو الجسر بغية عبوره، والالتحام بجماهير الرصافة المتواجدة في ساحة الأمين .

 وعند منتصف الجسر جابهتهم قوات الشرطة بنيران رشاشاتها المنصوبة فوق منارة جامعي ( الوزير ) و (الآصفية ) في جانب الرصافة ومنارة جامع ( حنان ) في جانب الكرخ ومن المدرعات الواقفة في مدخل الجسر، وقد استشهد ما يزيد على 40 مواطنا، وجرح اكثر من 130 آخرين وتناثرت جثث الضحايا فوق الجسر.                               .

اشتد ضغط الجماهير في ساحة الأمين على قوات القمع مما أجبرها على الانسحاب نحو الجسر، وتقدم المتظاهرون عبر الجسر، ومرة أخري أنهمر عليهم الرصاص واستشهد عدد آخر وجرح الكثيرون، لكن الجموع ازدادت بأساً واندفاعاً أوقع الهلع في صفوف قوات القمع التي خافت أن تقع في أيدي الجماهير الغاضبة فولت هاربة تاركة ساحة المعركة تملأ جثث الشهداء والجرحى. .

حاول عبد الإله استخدام الجيش ضد الشعب، وأجرى اتصالا تلفونياً مع رئيس أركان الجيش الفريق ( صالح صائب الجبوري) في 27 كانون الثاني، حوالي الساعة الثالثة والنصف عصراً، طالباً منه إدخال عدد من قطعات الجيش إلى شوارع بغداد، لكن الجبوري حذر الوصي من مغبة إدخال الجيش في شوارع بغداد، ولاسيما وانه لا يزال يعاني من مرارة الاحتلال البريطاني عام 1941، وأكد الجبوري للوصي عدم ضمان وقوف الجيش ضد الشعب، واقتنع الوصي برأي الجبوري، وطلب منه البقاء على اتصال دائم بالقصر حتى ينجلي الوقف .

وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد، قدم 20 نائبا في البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب، بالإضافة ألى استقالة وزير المالية ( يوسف غنيمة) ووزير الشؤون الاجتماعية ( جميل عبد الوهاب )
وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ (محمد الصدر) و (نوري السعيد) لبحث الموقف وسبل الخروج من الأزمة.      .

كان نوري السعيد يلح على الوصي بقمع الحركة الشعبية، وطالب بإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول، لاحتواء المظاهرات، فيما نصح الشيخ محمد الصدر الوصي بإقالة الوزارة لتهدئة الأوضاع، ولاسيما وأن المظاهرات قد امتدت إلى جميع المدن العراقية، وفقدت الشرطة سيطرتها على الموقف، وأشعل المتظاهرون النار في مكاتب الإرشاد البريطانية، في السليمانية، وكركوك والموصل، وأخذ الوصي برأي الشيخ الصدر على مضض، رغم كونه كان في الواقع يسعى لقمع الحركة الشعبية، وأوعز إلى رئيس الديوان الملكي ( أحمد مختار بابان ) للاتصال بصالح جبر والطلب منه تقديم استقالة حكومته، في 27 كانون الثاني 1948 الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة، أعلن فيه استقالة الحكومة داعيا الشعب للإخلاد إلى الهدوء !!.

حقق الشعب في وثبته هدفان، فقد اسقط المعاهدة، واسقط الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين البريطانيين، على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي لو تسنى للجماهير الوصول إليهما.

حاول الوصي عبد الإله تكليف الشيخ محمد الصدر بتأليف الوزارة الجديدة، نظراُ لتمتعه بمركز ديني كبير، إضافة إلى كونه من الطائفة الشيعية، حيث وجد أن الشيخ الصدر هو خير من يستطيع تهدئة الأوضاع.           .

لكن الصدر اعتذر عن المهمة رغم إلحاح الوصي، مما اضطره إلى تكليف أرشد العمري، وقد حاول العمري بالفعل القيام بهذه المهمة لكنه جوبه بمعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التي لازالت تذكر الأعمال التي قام بها عند تشكيل وزارته السابقة، فهو بالنسبة للأحزاب الوطنية والشعب، غير مرغوب فيه، وهكذا فشل العمري في مهمته.                             .
                 
وفي الوقت نفسه أصدرت الأحزاب الوطنية ( الوطني الديمقراطي والاستقلال والأحرار) بيانا إلى الشعب عن تلك الأحداث التي عصفت بالحكومة، وتضمن البيان ستة مطالب من الحكومة القادمة وهي :                                     .

1 ـ الإعلان الرسمي عن بطلان معاهدة بورتسموث.                     .

2 ـ إجراء تحقيق دقيق عن مسؤولية إطلاق النار على أبناء الشعب .

3 ـ حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.               .

4 ـ احترام الحريات الدستورية.                            .

5 ـ إفساح المجال للنشاط الحزبي.                        .

6 ـ حل مشكلة الغذاء، بشكل يوفر للشعب قوته.                     .

كما قام زعماء الأحزاب الثلاثة بالاتصال بالشيخ الصدر طالبين منه الرجوع عن موقفه، والقبول بتأليف الوزارة، ونزولاً عند رغبتهم قبل الصدر المهمة رسمياً في 29 كانون الثاني .1948                                         .

وجاءت وزارة الصدر من نفس الفئة الحاكمة، باستثناء محمد مهدي كبه، ومن العناصر المعروفة بولائها للمحتلين البريطانيين، ممن لا يرتاح إليهم الشعب، ولاشك أن للسفارة البريطانية دوراً في اختيار الوزراء، وكانت وزارة الصدر، وزارة تهدئة بعد تلك الوثبة الجبارة التي أوشكت أن تطيح بالنظام، واستطاعت إسقاط حكومة صالح جبر وإسقاط المعاهدة، ومن أجل تهدئة الأوضاع أقدم الصدر على تنفيذ الإجراءات التالية :                                 .

1 ـ أتخذ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 31 كانون الثاني قراراً بإلغاء معاهدة بورتسموث وإبلاغ الحكومة البريطانية برغبة العراق بعقد معاهدة جديدة تحقق طموحات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال الناجزين، وقد عارض القرار الوزير عمر نظمي الذي قدم استقالته من الحكومة احتجاجا على القرار! .

2 ـ قررت الحكومة في 2 شباط تأجيل جلسات مجلس النواب لمدة 50 يوماً، لامتصاص غضب الجماهير، لكن الحملة اشتدت على المجلس من قبل الأحزاب الوطنية والصحافة والاحتجاجات الشعبية طالبين حل المجلس وأجراء انتخابات حرة ونزيهة، ولم ترَ الوزارة بد اً من النزول عند الضغط الشعبي وضغط الأحزاب الوطنية والصحافة، واضطرت إلى اتخاذ قرار بالطلب من الوصي بإصدار الإرادة الملكية بحل المجلس النيابي في 22 شباط، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.                                            .

3 ـ كانت حكومة صالح جير قد اتخذت العديد من الإجراءات ضد الصحف، أحالت العديد من محرريها ومدراها المسؤولين إلى المحاكم، أصدرت الأحكام الجائرة بحقهم، بسبب مواقفهم المناهضة لمعاهدة بورتسموث، وقد اتخذ مجلس الوزراء قراراً بعودة الصحف المعطلة للصدور من جديد، وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، والذين صدرت بحقهم الأحكام بالسجن، كما جرى إطلاق سراح معظم الطلاب الذين اعتقلوا خلال أحداث الوثبة، وأعادتهم إلى مدارسهم وكلياتهم .

4 ـ قرر مجلس الوزراء فسح المجال للنشاط الحزبي، بعد أن كانت الحكومة السابقة قد ضيقت عليها بكل الوسائل والسبل، بسبب مناهضتها لمعاهدة بورتسموث. .

5 ـ تم سحب البعثة العسكرية البريطانية من الجيش العراقي في 22 آذار 1948، والتي كانت المهيمن الحقيقي على الجيش.                             .

6 ـ سعت الحكومة إلى الاتصال بمجلس الطعام الدولي لغرض الحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل، لمعالجة أزمة الخبز التي سببتها حكومة أرشد العمري. .

7 ـ وافقت وزارة الداخلية على جمع مبلغ 50 ألف دينار لغرض توزيعها على عوائل الشهداء والجرحى،الذين سقطوا خلال الوثبة الوطنية            .                       

ورغم كل هذه الإجراءات،استمرت المظاهرات تجوب شوارع بغداد احتجاجاً على عدم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء الشيوعيين، وعلى رأسهم مؤسس الحزب (يوسف سلمان ) فهد، ورفيقيه( زكي بسيم) و(حسين محمد الشبيبي )، أعضاء المكتب السياسي، وكذلك المطالبة بفسح المجال لحزب الشعب، وحزب التحرر الوطني الذين ألغت حكومة العمري إجازتيهما، للعمل الحزبي من جديد، ومطالبة الحكومة باتخاذ سياسة أكثر حزماً تجاه الهيمنة البريطانية على العراق،وتجاه القضية الفلسطينية،التي يعتبرها العرب قضيتهم الأساسية، والوقوف ضد المخطط الإمبريالي الأنكلوـ أمريكي الهادف إلى إقامة كيان سياسي لليهود في فلسطين.


196
هل يشهد العالم نهاية وحدانية القطبية الأمريكية
وانفرادها بقيادة العالم؟
حامد الحمداني                                              30/12/2013

منذُ انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عام 1991، وتحول الولايات المتحدة إلى الدولة الأعظم في العالم، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على سدة الحكم إلى تكريس وحدانية القطب الواحد في العالم، والسعي الحثيث لمنع انبعاث أقطاب أخرى بعد أن أصبحت تتحكم بمصائر الشعوب، مستقوية بقوتها العسكرية الجبارة بما تمثله من أسلحة متطورة فتاكة، وتكنولوجيا عالية، واقتصاد قوي، رافضة أن يشاركها أحد في تقرير مصائر الدول والشعوب.

لقد وصل الأمر بالإدارة الأمريكية على عهد الرئيس جورج بوش الأبن  إلى تجاهل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن عندما قرر غزو العراق عام 2003 بعد أن أعلنت كل من روسيا والصين وفرنسا عن رفضها لشن الحرب على العراق، واستعدادها لاستخدام حق النقض في مجلس الأمن للحيلولة دون إقدام الولايات المتحدة على شن الحرب.

لكن الرئيس بوش تجاهل تهديدات الدول الكبرى الثلاث، وتجاوز مجلس الأمن، الجهة الوحيدة المخولة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن والسلام الدوليين، ونفذ خططه بغزو العراق دون أن يعير اي اهتمام لمواقف تلك الدول ، ولا اي احترام لميثاق الأمم المتحدة الذي كانت الولايات المتحدة الجانب الرئيسيفي صياغته في مؤتمر سان فرنسسكو عام 1945.

واضطرت هذه الدول التي رفضت المشاركة بالحرب إلى الرضوخ للمشيئة الأمريكية، وتمرير العديد من القرارات المتعلقة بالعراق بعد غزوه، وإسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين من دون معارضة، على الرغم من أن هذه الدول الكبرى الثلاث قد خسرت العقود النفطية التي كانت قد وقعتها مع نظام صدام.

لكن هذا التساهل من جانب هذه الدول، وعلى وجه الخصوص روسيا لم يرضِ طموحات الإدارة الأمريكية، وخططها البعيدة المدى لمنع انبعاث الدور الروسي في الشأن العالمي، ولاسيما وأن روسيا ما تزال تمتلك ترسانة نووية، وصواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى أية بقعة في العالم، مما يسبب للإدارة الأمريكية أشد القلق، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت ولا تزال تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج على وجه الخصوص، بل لمنع أي مشاركة حقيقية لروسيا في الشأن العالمي، وهذا هو جوهر الصراع الأمريكي  الروسي حول سوريا والحرب الأهلية الدائرة فيها،  بعد أن فقدت روسيا مواقعها في شواطئ البحر الأبيض المتوسط  في كل من مصر وليبيا والجزائر، ولم يبق لها سوى قاعدتها في سوريا. 

إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان إلى الوضع القائم في روسيا اليوم، وعلى الرغم من العلاقات التي تربط بين الطرفين والتي يسودها التوتر، فهي تخشى من حدوث تغيرات في مواقف قيادة الدولة الروسية تعيد الحرب الباردة والصراع بين الطرفين، وهذا ما يسبب أشد القلق لها، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت وما تزال تعمل  بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن الشؤون العالمية، بل لتطويقها، ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها، حيث سعت إلى ضم بولندا وجيكيا ولتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى حلف الأطلسي، وهي حاولت وما تزال تحاول ضم أوكرانيا وجورجيا، بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو ] أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً.

لقد اتهم الرئيس الروسي [فلادمير بوتين] صراحة بخطابه في مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية في الحادي عشر من شباط 2007 موجهاً فيه اتهامه الصريح للولايات المتحدة قائلاً:
{أن الولايات المتحدة تنشئ، أو تحاول إنشاء، عالم وحيد القطبية}.

  ثم عاد وفسر بوتين ما تعنيه هذه التسمية قائلاً :
{ماذا يعني عالم وحيد القطبية ؟
 بصرف النظر عن محاولاتنا لتجميل تلك العبارة، فإنها تعني العالم الذي يرتكز على وجود قوة واحدة تتحكم فيه، وتعني أيضا عالم له سيد واحد فقط،، وإن هذه التركيبة أدت إلى كارثة، مضيفاً أن الولايات المتحدة قد تحدت حدودها الوطنية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، بل وفرضت نفسها على الدول الأخرى.
 إن الحروب الأهلية والإقليمية لم تتوقف، كما أن عدد الناس الذين يقتلون بسببها في ازدياد متصاعد.
 إننا لا نرى أي نوع من التعقل في استخدام القوة، بل نرى استخداما مستديما ومفرطا للقوة، وأضاف أن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراع آخر دون تحقيق أي حل شامل لأي منهم}. 
                                                                                                     
وبحضور وزير الدفاع الأمريكي آنذاك [روبرت جيت] وعدد من نواب الكونجرس، دعا بوتين أمامهم إلى إعادة هيكلة نظام الأمن الدولي القائم حالياً بأكمله.

 وقد وصف الأمين العام لمنظمة دول حلف شمال الأطلسي [الناتو] آنذاك السيد [جاب دي هوب شيفر] خطاب الرئيس بوتين بأنه مخيب للآمال وغير مجدي.

أما السناتور الجمهوري الأمريكي [ جون ماكين ] المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري آنذاك فقد رد بعنف على خطاب الرئيس بوتين قائلاً:
{إن عالم اليوم ليس وحيد القطبية، وأن روسيا الاستبداديةّ هي التي تحتاج إلى تغيير في سلوكها، وأضاف قائلاً إن على موسكو أن تفهم أنها لا تستطيع أن تتمتع بمشاركة حقيقية مع الغرب طالما أن أفعالها في الداخل وفي الخارج تتعارض بشكل أساسي مع لب قيم الديمقراطيات إليورو- أطلسية، وادعى جون ماكين أن عالم اليوم هو بالفعل عالم متعدد الأقطاب، ولا يوجد مكان للمواجهات العديمة الجدوى، لذا أتمنى أن يفهم الزعماء الروس هذه الحقيقة}!!.

وبعد هذه المواجهة الكلامية بين بوتين وماكين تحدث بعض المشاركين في
المؤتمر عن قيام حرب باردة جديدة، لكن البعض  الآخر قللوا من أهمية                                          ما حدث، وقالوا إن خطاب بوتين يعد أحد الحركات التي دأبت روسيا على اتخاذها بصفة دورية للتعبير عن سخطها من تلاشي دورها الكبير الذي كانت تلعبه في الخريطة السياسية للعالم.

أن الحرب الأخيرة التي شنها نظام شكاسفيلي في جورجيا لم يكن بمعزل عن الخطط الأمريكية لتطويق روسيا، فما كان الرئيس الجورجي قادراً على الأقدام على غزو أوستيا الجنوبية لولا التحريض والتشجيع والدعم الذي تلقاه من الإدارة الأمريكية، لكن رد الفعل السريع والقوي من جانب روسيا اسقط في يد سكاشفيلي وحلف الناتو والإدارة الأمريكية التي عجزت عن تقديم الدعم الفعّال لجورجيا، بل لقد جاءت تلك الحرب المجنونة بنتائج كارثية على جورجيا، حيث قررت روسيا الاعتراف باستقلال إقليمي أبخازيا، وأوستيا عن جورجيا، دون أن يستطيع حلف الناتو والإدارة الأمريكية منع ذلك.

إن روسيا التي بدأت تشعر يوماً بعد يوم بالجرح الذي أصاب كبريائها كدولة عظمى كانت تقف نداً للطغيان الأمريكي، وأخذت تتوجس من النوايا الأمريكية لتطويقها وتقزيم دورها في الشأن العالمي، والسعي لنصب الصواريخ النووية على حدودها بدعوى مجابهة الصواريخ الإيرانية، باتت تدرك أن الهدف الحقيقي من الخطط الأمريكية هو روسيا بالذات، فقد عقدت القيادة الروسية العزم على التصدي لهذه الخطط مستعرضة قواها العسكرية، واستخدامها الفعلي في جورجيا، وتوجيه تهديد صريح لبولندا وجيكيا من مغبة التمادي في خدمة المخططات الأمريكية العدوانية بتوجيه الصواريخ الروسية نحو هذه البلدان، وتوجيه الضربات الأولى لها في حالة نشوء نزاع مسلح بين روسيا والولايات المتحدة.

إن الولايات المتحدة التي أسكرتها انتصاراتها في حرب العراق وجعلتها تفقد توازنها، وباتت تتصرف كشرطي عالمي، وتتجاهل المنظمة الدولية ومجلس الأمن لتفرض على الشعوب ودول العالم مشيئتها، لكن ذلك لن يدوم إلى الأبد، فالمارد الصيني والمارد الروسي ينهضان لأخذ دورهما الفعّال في الشؤون الدولية ، كما أن الهند باتت تشكل اليوم قوة كبرى ، كما أن الاتحاد الأوربي بات دوره يتعاظم في الشأن الدولي، وفي أحيان كثير يأخذ اتجاهاً استقلاليا عن المخططات الأمريكية.

 وهكذا سيغدو العالم بكل تأكيد متعدد الأقطاب، وستضطر الولايات المتحدة شاءت أم أبت إلى القبول بالواقع الجديد الذي يولد وينمو ويتعاظم دوره، وستضطر في نهاية المطاف إلى  العودة للمنظمة الدولية والالتزام باحترامها، وسيتم إصلاح المنظمة هذه لتواكب التطور الحالي في العالم اليوم بعد أن مضى على تأسيسها 68 عاماً، ولاسيما وأن هناك دعوات بدأت تتصاعد لإصلاحها حتى من قبل أمينها العام من أجل أخذ دورها الفعّال في صيانة الأمن والسلام الدوليين، وخدمة البشرية بتكريس جهودها لمعالجة مسألة الفقر والبطالة المفرخة للإرهاب ورفع مستوى حياة الإنسان في الدول الفقيرة بدل توجيه الأموال الطائلة نحو الحروب والتسلح الذي لا يجلب إلا الخراب والدمار.     


197
دعوة للتضامن مع كفاح المرأة العراقية من أجل تحررها
ومساواتها بالرجل
حامدالحمداني
1/11/2013     
         

عندما نجري تقييماً دقيقاً لأوضاع المرأة العراقية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وأوضاعها اليوم نجد أن أوضاعها قد انتكست وتراجعت إلى الوراء منذ وقوع انقلاب الثامن من شباط 1963، وأخذت بالتدهور يوماً بعد يوم بعد أن اغتصب صدام حسين السلطة من سيده البكر، وزج العراق في حرب دموية مفجعة مع إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، تلك الحرب التي دامت ثمان سنوات عجاف من أسوأ نتائجها تدمير البنية الاجتماعية، حيث لم تترك تلك الحرب عائلة عراقية دون أن تقدم ضحية في تلك الحرب المجرمة، فقد تجاوز عدد ضحاياها نصف مليون شهيد، بالإضافة إلى مليون معوق، ومئات الألوف من الأرامل والأيتام بالإضافة إلى الخراب الاقتصادي، وإغراق العراق بالديون.

ولم يكد الشعب العراقي يجر أنفاسه حتى زج صدام البلاد في حرب جديدة أقسى وأشد قادتها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والعديد من الدول العربية عندما أقدم الدكتاتور على غزو الكويت، وزادت أوضاع الشعب سوءاً بعد أن فرضت الولايات المتحدة الحصار الإجرامي على العراق، ذلك الحصار الذي أدى إلى تلك الكارثة الاجتماعية المعروفة، والتي دفعت خلالها المرأة العراقية الثمن الأكبر، وخاصة بعد ما دعي زوراً وبهتاناً بالحملة الإيمانية!! التي عادت بالمرأة العراقية القهقرة وانكفأت في بيتها بعد أن أصبحت أجورها لا تساوي شيئا، وبذلك فقدت تحررها الاقتصادي الذي يعتبر العامل الحاسم في تحررها الاجتماعي.

وجاءت كارثة الغزو الأمريكي للعراق وتولي أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية، وسيطرة ميليشياتها المسلحة على الشارع العراقي، وفرضها الحجاب على المرأة وتعرض ألوف النساء للقتل على أيدي تلك العصابات المجرمة حتى عادت أوضاع المرأة إلى ما قبل الثلاثينات من القرن الماضي، وفقدت كل ما اكتسبت من حقوق وحريات أبان نضالها الشاق لعقود عديدة بدعم وإسناد من العناصر المثقفة من الوطنيين الديمقراطيين والشيوعيين الذين كان لهم دور فعّال في تطور أوضاع المرأة وتحررها.

ومهما قيل ويقال عن أن المرأة العراقية قد حصلت على تقدم في أوضاعها الاجتماعية ودخولها البرلمان فإن الحقيقة التي لا تخفى على أحد، فقد كان وجودها في البرلمان مجرد إشغال مقعد بموجب القانون الذي شرعه الحاكم الأمريكي بريمر مما أتى بعناصر مبرقعة إلى البرلمان بترشيح من أحزب الإسلام السياسي لا دور فاعل لها إلا ما ندر.
فأحزاب الإسلام السياسي لا تؤمن أبدا بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل
بل ينظر إليها من منطلق ذكوري متخلف على أنها قاصرة عقل ودين!!، وأنها دون مستوى الرجل، وأنها خلقت للبيت، وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والقيام بشؤون العائلة كافة، وتأمين طلبات الرجل، وهم بلا شك المتخلفون بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهم عدوانيون لا يقيمون وزناً للعلاقات الإنسانية، وهم أنانيون لا يحبون إلا أنفسهم ولذاتهم، وهم لا يفهمون من الثقافة غير قشورها، وهم في واقع الحال أقل وزناً من المرأة في مختلف مجالات الحياة، وهم الأقل تحملاً وصبراً، والأكثر تهوراً ورعونة، في تعاملهم مع زوجاتهم، ومع بناتهم، أنهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين، لكنهم يحملون ثقافة القرون الغابرة في نظرتهم وتعاملهم مع المرأة، وكأنها سلعة من سلع البيت دفع ثمنها مهراً بموجب الشريعة الإسلامية!!
 المرأة أيها السادة أكبر وأعظم وأقدس مما تتصورن، أنها خالقة الإنسانية، أنها هي التي ربتكم وعلمتكم وثقفتكم وحرصت عليكم أكثر من حرصها على بؤبؤ عينها، وضحت من أجلكم بسعادتها كي تسعدوا، وبصحتها كي تصحو، وبراحتها كي تنعموا بالحياة، ومع كل ذلك فهي تمارس العمل بكل جد في مختلف المجالات التي قد يعجز الكثير من الرجال القيام بها، العالمة الفيزيائية والكيميائية والمهندسة والطبية والقاضية والمحامية والصيدلانية والمعلمة مربية الأجيال، والعاملة في مختلف المعامل الإنتاجية، بل لقد تجاوزت أرقى سلم الثقافة والعلم، وتولت أعلى مناصب الدولة ليس فقط في البلدان المتقدمة، بل حتى في العديد من دول العالم الثالث الإسلامية كالهند وباكستان وأندونسيا وبنكلادش، دعك عن ألمانيا وبريطانيا والأرجنتين وتايلاند والعديد من الدول الأخرى.
 إن اغلب الذين يديرون دوائر الدول الأوربية هم من النساء، فأي ادعاء هذا الذي يدعونه أصحاب المجتمع ألذكوري الذين خولوا أنفسهم قوامون على النساء، وقد اتخذوا من الدين الذي جاء قبل 15 عشر قرناً وسيلة وحجة كي يستعبدوا النساء، ويفرضوا عليهن طاعتهم عنوة، ويمارسون العنف معهن بدعوة أن الدين قد أباح ضرب المرأة، وهم يفرضون عليها اليوم سجناً رهيباً من خلال هذا الذي يسمونه الحجاب، وكأنما قطعة القماش هذه هي التي ستصون المرأة من الزلل، في حين يقترف الرجل نفسه الكثير من الزلات التي يمارسها كل يوم بحرية، ودون حساب.

أن الحجاب الذي يحمي الإنسان من الزلل هو في عقله وتفكيره وسلوكه وتصرفه، أنها الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، أنها العدالة الاجتماعية بين بني البشر مهما اخلتفت أجناسهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم.
 ومهما فعل الرجل، ومهما قدم وأنجز فهو عاجز أن يقارن نفسه بالمرأة التي تعمل وتعطي أضعاف ما يعطيه الرجل دون منة أو كلل، وبكل رحابة صدر، حيث تحس بمسؤولية كبيرة تجاه أبنائها وبيتها وزوجها من جهة، وتجاه بني شعبها ووطنها والإنسانية جمعاء من جهة أخرى.
 أن القوى التقدمية والعلمانية وسائر العناصر المثقفة مدعوة اليوم لخوض النضال يداً بيد مع المرأة العراقية، والأخذ بيدها للوقوف أمام الهجمة الرجعية الشرسة التي تقودها قوى الإسلام السياسي باسم الدين والشريعة تستهدف إبقاء المرأة في القمقم الذي صنعوه لها مجرد خادمة له وتلبي حاجاته مسلوبة الحقوق والحريات التي كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
                                     



198
أمريكا والعراق وديمقراطية آخر زمان!
 
حامد الحمداني                                                    13/10/2013

هنيئاً للشعب العراقي فقد حرره الرئيس الأمريكي بوش من طغيان نظام الدكتاتور الأرعن صدام حسين، وأشاد له من خلال العملية السياسية التي جاء بها الحاكم الأمريكي بريمر نظاماً ديمقراطيا هو آخر ما توصلت له الأنظمة الديمقراطية في العالم الحر!!، وبات للعراقيين دستور عتيد وضعته خيرة أساتذة القانون الدستوري!!، لا يعترف بالتصويت في القرارات المصيرية، بل بالتوافق والتراضي بين القادة الأربعة الكبار، ولا بأس في هضم حقوق الآخرين طالما التوافق يضمن مصالح أحزابهم الكبرى، وهذا يمثل أحدث تطوير للعمل الديمقراطي في عالم اليوم!!
 
وجرى اختيار رئيس الجمهورية ونوابه على أساس نفس هذه القواعد الديمقراطية الحديثة، حيث جرى الاتفاق والتراضي بين القادة الأربعة الكبار، وتحت إشراف المندوب السامي الأمريكي لضمان سير الانتخابات بموجب الديمقراطية آخر زمان، حيث تقاسم القادة الكبار المناصب الرئاسية حسب النظام الديمقراطي الطائفي والعرقي.
 
واستقال السيد رئيس الجمهورية من قيادة حزبه القومي الكردي [ الإتحاد الوطني الكردستاني] ليصبح رئيساً لكل العراقيين !!، وأعلن أنه ليس رئيساً كردستانياً بل عراقياً قلباً وقالبا، ولم يعد يطالب حكومة المالكي بكركوك والمناطق المتنازع عليها!! مع حكومة بغداد والتي تشكل نصف محافظة الموصل، وتضم المناطق الكلدو آشورية في الحمدانية وتلكيف وبعشيقة وبحزاني والقوش، وسنجار موطن الأيزيدية، وتلعفر موطن التركمان، وكذلك نصف محافظة ديالى، المنطقة الممتدة إلى جلولاء وخانقين، بل ليمتد النزاع حتى بدرة وجصان في جنوب العراق.
 
 وجرى اختيار الحكومة الديمقراطية العتيدة على ذات الأسس الطائفية والعرقية القويمة، فكانت حكوماتنا الرشيدة قد ضمت نخبة من الاختصاصيين الذين لا يشك احد في قدراتهم الخلاقة لبناء العراق الجديد، ولا يشك أحداً في أمانتهم وحرصهم على المال العام!! ، فلا نهب لثروات العراق، ولا رشاوى في كافة أجهزة الدولة من القمة حتى القاعدة، فالحكومة تضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه سرقة  النفط العراقي في الجنوب أو في الشمال، أو سرقة الأموال العراقية المخصصة للوزارات و المحافظات، وأنها ماضية في أعادة بناء العراق الجديد، حيث تحولت مدن العراق بفضل تلك الجهود الخارقة إلى هونكونك و دبي جديدة تسر الناظرين، وكل ذلك جرى خلال عشر سنوات من عمر نظامنا الجديد !!.
 
وهكذا بات الشعب العراقي يعيش في واحة الديمقراطية الأمريكية ينعم بالأمن والسلام والحرية والعيش الرغيد، الذي وفرته له حكومات الاحتلال، ولشدة سعادة الشعب بالعهد الجديد وجد لزاماً عليه أن يعبر عن بهجته وسروره يومياً، وبشكل مستمر، بهذه النعمة التي اسبغها عليه السيد بوش وأعوان الاحتلال، ويطلق الألعاب النارية!! في الشوارع والطرق ليل نهار منذُ سقوط نظام الطاغية الذي انهى بوش خدماته الجليلة طيلة 35 عاماً، وخاض خلالها الحرب ضد إيران 8 سنوا ت نيابة عن الجيش الأمريكي .
 
 لكن مع الأسف الشديد وقعت بعض الخسائر البشرية جراء هذه الألعاب النارية التي ربما تجاوزت حياة  650 ألف مواطن برئ، وأضطر أربعة ملايين عراقي إلى مغادرة العراق للراحة والاستجمام والسكينة والتخلص من أصوات الألعاب النارية!!
 
و اضطر البرلمان مرارا وتكرارا أن يؤجل جلساته بسبب عدم اكتمال النصاب، فقد أجهده العمل الشاق، وخاصة عند تشريعه لقانون تقاعد أعضائه، والمكاسب والمكافآت التي تتناسب وجهوده الخيرة لصالح الشعب والوطن!!، وباتت الحاجة ملحة لآعضائه  المنهكين لأخذ قسط من الراحة في أوربا وأمريكا ودول الجوار.
 
 ومع ذلك استطاع المجلس المحترم بعد جهد جهيد إصدار قانون الانتخابات حسب المواصفات الديمقراطية في التعامل بين الكبار والصغار، حيث اقتضت مصالح الكبار الغاء حقوق الأحزاب الصغيرة، وحقوق الأقليات القومية والدينية من المواطنين العراقيين الأصلاء الكلدو آشوريين والصابئة المندائيين والأيزيديين، فمصلحة القوي ينبغي أن تكون فوق مصلحة الضعيف، وهؤلاء المواطنون العراقيون النجباء لا يمتلكون ميليشيات مسلحة مثل القادة الأربعة الكبار الذين يحكمون باسم السيد بوش دولة العراق الديمقراطية الفريدة في القرن الحادي والعشرين.
 
لا تلوموا ولا تزعلوا أيها الأخوات والأخوة المسيحيون والصابئة والأيزيديون على السيد بوش لدوره في هذا القرار فهو لا يريد أن يُتهم بكونه يمالئ الأقليات القومية والدينية على حساب الأربعة الكبار لكي ينجزوا له المهمات المنوطة بهم، ولسان حال الإدارة الأمريكية  يقول أن مصالح الأكثرية فوق مصالح الأقلية في وكل وقت وحين.
 
لكم الصبر الجميل يا ابناء وبنات العراق، وانتظروا حتى يتم إكمال بناء الديمقراطية الجديدة في البلاد، وليرحل من شاء منكم أن يرحل إلى بلدان اللجوء، أو يتم إضافته إلى قائمة المواطنين الضحايا الذين اغتالتهم وما زالت تغتال العشرات منهم كل يوم ميليشيات القوى الطائفية والعنصرية، أو غيروا انتمائكم القومي والديني والطائفي، أو ادفعوا الجزية لتسلموا على جلودكم، ولتعش ديمقراطية آخر زمان، وليعش الاحتلال ومن جاء به الاحتلال إلى سدة الحكم في البلد المنكوب الذي اسمه العراق، بلد أقدم حضارة في التاريخ، والذي بات يحكمه اليوم عصابة من الأوباش باسم الدين والشريعة، وباسم المظلومية الطائفية والقومية، وهم ابعد ما يكونوا عن مصالح شعبهم المغلوب على أمره، وعن سيادة واستقلال وطنهم المستباح من قبل ماما امريكا ودول الجوار.

199

دعوة مخلصة لوحدة كل القوى والتيارات الديمقراطية والعلمانية
في جبهة وطنية عريضة استعداداً للانتخابات
حامد الحمداني                                            6/10/2013 

لم تتوقف دعواتنا المتكررة لقوى اليسار والديمقراطية والعلمانية منذ سقوط نظام طاغية العراق صدام حسين لتوحيد قواها، ووضع برنامج وطني ديمقراطي، وتوحيد خطابها السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تتوجه به إلى جماهير الشعب، والذي يتحسس كل المشاكل والمصاعب المتعلقة بحياة المواطنين، ويضع الحلول الصائبة لمعالجتها وفق خطط واقعية مدروسة ومقنعة، كي تكسب دعم ومساندة الشعب الفاعلة، و كي تكون قوة مؤثرة في البرلمان المنتخب وعلى الساحة السياسية العراقية .

لكن الذي يؤسف له أن هذه القوى قد تجاهلت تلك الدعوات المخلصة وتجاهلت مصالح الشعب والوطن ومستقبلهما، وفضلت الحفاظ على استقلاليتها وفرديتها ومصالحها الحزبية الضيقة في وقت يجتاز العراق أخطر مرحلة في تاريخه قد تقرر مصير الشعب والوطن لعقود عديدة حيث سيجري  انتخاب المجلس النيابي الجديد، وانتخاب رئيس جديد للبلاد، واختيار رئيس وزراء، وتشكيل حكومة جديدة تتولى حكم البلاد للسنوات الأربع القادمة، هذا إلى ما ينتظر الحكومة القادمة من مهام ثقيلة في مقدمتها إعادة الأمن والسلام في البلاد، ويتولى المجلس النيابي تعديل الدستور بما يحقق مصالح الشعب العراقي، ويحافظ على وحدة البلاد، ويعزز اللحمة بين سائر اطراف مكونات الشعب، والتخلص من اسلوب المحاصصة الطائفية اللعينة التي ثبت فشلها في حل ازمات البلاد المستعصية، وفي المقدمة منها تحقيق الأمن والسلام المفقود، والتفرغ لعملية البناء، ومعالجة مشكلة البطالة المستشرية، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين من ماء صالح للشرب وكهرباء ووقود وخدمات صحية وتعليمية إضافة إلى تأمين حياة كريمة للمواطنين .

لقد دخلتْ الانتخابات السابقة أعداد كبيرة من القوى والأحزاب السياسية جاوزت المئة، وهناك أعداد غفيرة منها تتخذ من الديمقراطية شعاراً لها، لكن مما يؤسف له ان هذه القوى دخلت الانتخابات بحالة من التشرذم والتمزق وخرجت من تلك الانتخابات
تجر اذيال الفشل، وضياع أصوات الناخبين، وضياع الفرصة الثمينة لإثبات وجودها وتأثيرها في تحديد مستقبل البلاد.

لم تدرك هذه القوى أن في توحيد الجهود قوة، وأن في التمزق والتشرذم الخسران والخذلان، وتجاهلت هذه الحقيقة التي لا تخفى على أي إنسان!

لم تدرك ما جرى على الساحة السياسية من اصطفاف للقوى الإسلامية مع بعضها بالإضافة إلى استغلال الدين والمرجعية، والتأثير الكبير الذي أحدثه ذلك على الجماهير الشيعية، وبشكل خاص الجماهير البسيطة التي تعتبر التصويت للقائمة التي باركتها المرجعية أمراً يجب الالتزام به كي تنال رضاها؟

 لقد أدركت قوى الاسلام السياسي ما لم تدركه قوى اليسار والعلمانية المتباهية في ثقافتها وإدراكها، ودخلت الانتخابات مؤتلفة مع بعضها مدعومة بمباركة المرجعية، وأحرزت ذلك الانتصار الساحق.

وبدات تعض قوى اليسار والديمقراطية والعلمانية أصابع الندم بعد أن ضيعت الفرصة الثمينة بسبب أنانيتها وفرديتها وتفضيل مصالحها الحزبية الضيقة فخرجت من الانتخابات فاضية اليدين، ولم تحصل إلا على الفتات، ومعضمها  لم يحصل على شيئ.

هل ستضل قوى اليسار والعلمانية والديمقراطية سائرة على نهجها الحاضر بكل ما فيه من فشل وخسران وضياع للجهود، أم ستتعلم من ذلك الدرس القاسي، استعداداً للانتخابات القادمة التي باتت قريبة؟

أيها السادة كنا نقرأ في قراءة الصف الرابع الابتدائي المثل الذي قدمه الشيخ الكبير لأبنائه عندما أعطى لكل ولد عصا وطلب منه أن يلويها فكانت تنكسر بيديه، وعندما أعطاهم حزمة من العصي وطلب من كل واحد منهم أن يلويها فلم يفلح، ولم تنكسر الحزمة، فقال لهم الشيخ الجليل انتبهوا يا أولادي أن اتحدتم فلا أحد يستطيع التغلب عليكم، وإن تفرقتم فمصيركم الخذلان والانكسار، ومنذ ذلك الحين وقبل أكثر من 70 عاماً كان الطلاب يقرأون هذه الحكمة البسيطة في سردها والكبيرة في معناها.

بالأمس تناولت وكالات الانباء عن تكوين تيار ديمقراطي جديد، على الرغم من وجود تيار ديمقراطي على الساحة السياسية يضم العديد من القوى والشخصيات السياسية والتي دعت وما تزال تدعو كل القوى السياسية والشخصيات الوطنية المؤمنة حقاً وصدقا  بالديمقراطية والعلمانية إلى التوحد في جبهة وطنية عريضة كي لا تضيع جهود الجميع ادراج الرياح وتتقاسم اصوات ناخبيها احزاب الاسلام السياسي، كي تبقى ممسكة بسدة الحكم، وتتصرف كما تشاء بمصالح وثروات البلاد، دون وجود معارضة قوية على الأقل تقف لها بالمرصاد وتحاسبها على تصرفاتها واخطائها الضارة بمصالح الشعب والوطن.

اننا ندعو قادة التيار الجديد أن يعيدوا النظر في حساباتهم، ويمدوا ايديهم نحو اخوانهم في التيار الديمقراطي لتوحيد الجهود والاعداد للإنتخابات القادمة عما قريب، وعدم اضاعة الفرصة التي يمكن أن تحقق نجاحات مؤكدة اذا ما تم لم شمل الجميع في جبهة موحدة تستطيع جر جانب كبير من جماهير الشعب الواسعة، والتي تشعر بالمرارة من سوء الاوضاع الاقتصادية والأمنية، وتدهور الخدمات الاجتماعية، وزجها بمعركة الانتخابات لتحقيق حلمها بعراق ديمقراطي متحرر يحقق العدالة الاجتماعية لسائر مكونات شعبنا دون تمييز.




200

في الذكرى الثالثة والاربعين لرحيل عبد الناصر

عبد الناصر والسادات وحرب اكتوبر 73
الحلقة الثالثة والاخيرة 3/3
حامد الحمداني                                                 3/10/2013

حكام العراق وحرب اكتوبر:
لم يُبلّغ حكام العراق بقرار الحرب، فقد كانت العلاقات العراقية المصرية، والعراقية السورية على أسوأ حال، فعلى الجانب العراقي السوري كان الصراع بين جناحي البعث في البلدين قائماً ومستمراً، والعلاقات مقطوعة، كما أن العلاقات على الجانب المصري كانت قد وصلت إلى أسوأ حال بسبب تهجم حكام العراق على عبد الناصر بسبب موقفه من مشروع روجرز عبر الإذاعة والتلفزيون والصحافة، ولذلك فقد فوجئ العراق بوقوع الحرب عند ما أعلنت وكالات الأنباء أندلاعها، وكان العراق آنذاك في شبه حرب استنزاف مع إيران، بعد إقدام حكامه على إلغاء معاهدة عام 1937 مع إيران حول اقتسام مياه شط العرب.

كما أن أوضاع الحرب في كردستان قد أخذت جانباً كبيراً من الجيش العراقي، ومع ذلك أرسل العراق عدداً من أسراب طائراته الحربية إلى مصر، حيث شاركت منذُ اليوم الأول من الحرب فوق قناة السويس، واستشهد عدد من الطيارين العراقيين في المعركة.

كما سارع العراق إلى الاتصال بالاتحاد السوفيتي طالباً منه الضغط على إيران لكي لا تستغل سحب قطعات من  القوات العراقية وإرسالها إلى سوريا، وبالفعل وجه الاتحاد السوفيتي تحذيراً إلى إيران من مغبة استغلال الظروف، والاعتداء على العراق، وحرك السوفييت بعض قطعاتهم الحربية نحو الحدود الإيرانية.

وهكذا تسنى لحكام العراق إرسال المزيد من القوات العراقية إلى سوريا، ولعبت تلك القوات دوراً مشهوداً في إيقاف زحف المدرعات الإسرائيلية نحو دمشق، وأمنت لها الحماية، بعد أن تعرضت لخطر كبير.

 غير أن الذي حدث بعد ذلك هو أن السادات أعلن قبوله وقف إطلاق النار من جانب واحد، ودون استشارة سوريا، وحتى دون إعلام الرئيس السوري حافظ الأسد بقراره المفاجئ، متخطياً قرار التنسيق بين الجبهتين الذي قامت على أساسه الحرب، مما جعل سوريا بموقف صعب للغاية، إذ لم يعد بإمكانها الاستمرار بالحرب لوحدها لعدم وجود توازن للقوى بينها وبين إسرائيل، مما أضطر الرئيس الأسد إلى القبول بوقف إطلاق النار مرغماً، فقد كان الاستمرار في الحرب، بعد خروج مصر منها، لا يعني سوى الانتحار لا غير.

بادر حكام العراق حال موافقة سوريا على وقف إطلاق النار، إلى شن الهجوم على القرار، متهمين القيادة السورية بالتخاذل، وقرروا على الفور سحب قواتهم العسكرية وأعادتها إلى العراق معرضين سوريا لخطر جدي، حيث كان وقف إطلاق النار هشاً، وكانت إسرائيل قد خرقت قرار وقف إطلاق النار مع مصر، وأخذت قواتها تتوسع إلى ابعد مسافة ممكنة، حتى تمكنت من تطويق مدينة السويس، وبذلك اصبح الجيش المصري الثالث في سيناء مطوقاً، وبلغت القوات الإسرائيلية على مسافة 110 كم من القاهرة، ولولا موقف الاتحاد السوفيتي الحازم من إسرائيل، الذي وصل إلى درجة استعداده لإرسال قواته العسكرية إلى سوريا ومصر لردع الهجوم الإسرائيلي، وإرساله على عجل 280 دبابة خلال 48 ساعة، عن طريق ميناء الإسكندرية للدفاع عن القاهرة، في وقت لم يكن لدى مصر سوى 72 دبابة فقط غرب القناة.
كما أعلن الرئيس اليوغسلافي[ تيتو ] عن إهداء مصر لوا ء مدرع كامل فوراً، وسارعت الجزائر إلى إرسال لواء مدرع آخر إلى مصر فوراً، وهكذا أصبح لدى مصر غرب القناة حوالي 800 دبابة مما خلق توازناً مع القوات الإسرائيلية التي عبرت القناة .

قرار مجلس الأمن بوقف الحرب:

في 22 تشرين الأول، صدر قرار مجلس الأمن رقم 338  بوقف القتال، وإجراء مفاوضات بين الطرفين المتحاربين، وتم ذلك بعد مشاورات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، حيث وصل هنري كيسنجر إلى موسكو وتباحث مع القادة السوفيت وتم الاتفاق على صيغة القرار المذكور.

إلا أن إسرائيل أخذت تخرق القرار وتحاول التوسع واحتلال المزيد من الأراضي حتى تمكنت من تطويق مدينة السويس، وعزل الجيش الثالث المصري في سيناء، مما أثار غضب السوفيت، حيث سارع الرئيس السوفيتي [ برجنيف ] إلى الاتصال بالرئيس الأمريكي [ نيكسون ] طالباً منه على الفور وخلال ساعتين إيقاف العمليات الحربية الإسرائيلية، والعودة إلى خطوط 22 تشرين الأول  مهدداً بالتدخل العسكري.

 استمرت إسرائيل في عملياتها العسكرية وتوسعها ضاربة عرض الحائط بقرار مجلس الأمن، مما اضطر الرئيس السوفيتي [ برجنيف ] إلى إرسال إنذار شديد اللهجة إلى الرئيس الأمريكي نيكسون جاء فيه:
{ إن استمرار العدوان الإسرائيلي سوف يسفر عن عواقب وخيمة إذا لم يتوقف على الفور، ونظراً لأن إسرائيل لم تلتزم بقرار مجلس الأمن، ونظراً لما يبدو من أن الولايات المتحدة تنقصها الرغبة في التعاون بفرض تطبيقه، فإن الاتحاد السوفيتي سوف يقرر بنفسه منفرداً اتخاذ الخطوات الضرورية العاجلة لتأكيد احترام وقف إطلاق النار، فلا يمكن لإسرائيل أن تفلت من مسؤولية انتهاكها له}.

وعلى الفور أمر [ برجنيف ] 3 فرق محمولة جواً بالتهيؤ للطوارئ، وتحرك أسطولهم في البحر الأبيض المتوسط .
وفي 25 تشرين الأول تقدم السادات بطلب لإرسال قوات سوفيتية وأمريكية مشتركة لفرض وقف إطلاق النار، وإعادة القوات الإسرائيلية إلى مواقعها يوم صدور قرار مجلس الأمن في 22 تشرين الأول، وقد أيد الاتحادالسوفيتي الطلب لكن الولايات المتحدة رفضته.

وبنفس الوقت أخذت القطعات البحرية السوفيتية تتحرك بسرعة نحو البحر المتوسط والبحر الأحمر، ووضعت القوات العسكرية في ألمانيا الديمقراطية في حالة الإنذارالقصوى، وعلمت المخابرات الأمريكية بأن 22 طائرة نقل عسكرية من طراز[انطونوف] تحمل كل منها 200 جندي قد وصلت إلى  [بودبست] في طريقها إلى مصر، وكان ذلك دليلاً على أن الاتحاد السوفيتي يعني ما يقول.

ورداً على التحركات السوفيتية أعلنت الولايات المتحدة حالة التأهب القصوى في القوات المسلحة لدرجة 3، ووضعت القوات الإستراتيجية في حالة الإنذار، وأخطرت الفرقة 82  المحمولة، والمتواجدة في ألمانيا الغربية بالاستعداد للحركة، وتم توجيه حاملة الطائرات [روزفلت ] في إيطاليا، وحاملة الطائرات [ اندرس ] في كريت، وحاملة الطائرات [ جون كندي ] في المحيط الأطلسي، بالتوجه إلى البحر الأبيض المتوسط، وأعلن كيسنجر أن أخبار تحرك قواتنا سوف تصل السوفيت قبل وصول ردنا عليهم، مما يعني تحدي الولايات المتحدة للاتحاد السوفيتي.

وهكذا بلغ التوتر بين المعسكرين أقصى درجاته مهدداً في أي لحظة بنشوب حرب لا يعرف أحدٌ مداها، ولاسيما وأن الترسانة النووية لكلا الطرفين باستطاعتها تدمير كوكبنا الأرضي تدميراً كاملاً . 

وفي 1 كانون الأول جرى لأول مرة منذُ بداية الحرب لقاء بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس المصري أنور السادات في الكويت، وجرى عتاب شديد من قبل الأسد على قرار السادات بوقف القتال دون استشارة سوريا، وعدم قيام التنسيق المنشود والمتفق عليه بين الجبهتين، وكذلك تقديم السادات مشروع السلام مع إسرائيل في 16 تشرين الأول.

وبالنظر للظروف الخطيرة التي كانت تمر بها سوريا ومصر قرر الرئيسان الاتفاق على فتح صفحة جديدة من العلاقات بينهما.

وفي طريق عودته مرّ السادات بالسعودية والتقى بالملك فيصل، وأقنعه بضرورة استقبال [هنري كيسنجر]!!، حيث رفض الملك استقباله من قبل لكونه يهودياً يقف بكل قوته إلى جانب إسرائيل، وكان حقد كيسنجر يغلي في صدره، وأضمر للملك فيصل الانتقام المناسب، فكان تدبير خطة اغتياله، عقاباً له على تخفيض إنتاج النفط، ورفض مقابلته له.

وفي 6 كانون الأول وصل وزير الخارجية الأمريكية [هنري كيسنجر] إلى القاهرةوبصحبته وفد كبير كان في طريقه إلى الصين، وأجتمع على الفور بالسادات وتباحثا حول الوضع الراهن، وفي المقدمة من ذلك تطورات الحرب.

وفي اليوم التالي ، 7 كانون الأول، اختلى كيسنجر بالسادات لوحدهما لمدة ثلاث ساعات تم خلالها ترتيب الأمور مع السادات، وجرى الاتفاق على إقامة علاقات إستراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة، وتنسيقاً كاملاً معها في الشرق الأوسط وأفريقيا، والاتفاق على قيام الولايات المتحدة بحماية نظام السادات، وحمايته شخصياً.

كما جرى الاتفاق على خمس نقاط ، فيما يخص الحرب مع إسرائيل طرحها هنري كيسنجر على السادات، وتبين فيما بعد أن هذه النقاط الخمس كانت من وضع رئيسة وزراء إسرائيل [ كولدا مائير].

 طلب السادات من كيسنجر أن تكون المقترحات مقدمة بأسم مصر، وليس بإسم إسرائيل، أو أمريكا !! لكي لا يحرج أمام الشعب المصري وبقية الشعوب العربية !!، كما طلب منه عدم التحدث عن موافقته على عبور السفن المتوجهة إلى إسرائيل من مضيق باب المندب الذي كانت مصر قد أغلقته عند بداية الحرب.

ويروي الأستاذ محمد حسنين هيكل عن اللقاء الذي جرى بين السادات وكيسنجر في الاجتماع المغلق كما يلي :
{ قال الرئيس السادات لهنري كيسنجر { إنني مندهش من المسائل التي بدأت في إثارتها في الاجتماع الموسع الذي جرى يوم أمس، فأنت شغلت نفسك بمسائل من نوع فك الاشتباك، وخطوط وقف إطلاق النار، وغيرها من التفاصيل، وأنا لأريد أن أناقش الأمور بهذا المستوى. إنني أعرض اتفاقاً تاريخياً بين مصر والولايات المتحدة، فأنا على استعداد لإجراء تغير كامل في السياسة المصرية في مقابل حل شامل لأزمة الشرق الأوسط !!، إنكم تظنون أنني أحب السوفييت، وقد أرسلت لكم رسالة عندما طردت خبراءهم، وعساكرهم في العام الماضي، ومعنى ذلك أنني أكرههم أكثر منكم ولكنكم لم تفهموا الإشارة، ولم تردوا عليّ، ووصلت الأمور الى ما وصلت إليه يوم } .

وقد رد عليه كيسنجر وسأله عما يعنيه، فكان جواب السادات:
 {أنا على استعداد لتغير توجهات السياسة المصرية 180ْ، إذا كنتم لا تريدون الروس في المنطقة، فأنا لا أريدهم أكثر منكم، وإذا كنتم تريدون  إخراجهم، فأنا أستطيع تحقيق هذا الهدف أحسن منكم، وسوف أخرجهم عرايا، كما ولدتهم أمهاتهم !!}.

وسكت السادات منتظراً رد فعل هنري كيسنجر على عرضه، وكانت المفاجئة أن أجابه كيسنجر:
{ سيادة الرئيس إنني لا أستطيع أن أفكر في سياسة مشتركة بعيدة المدى مهما بدت مغرية لنا، بينما سيف الحظر البترولي معلق فوق رؤوسنا، ومضى يقول إن الضرر البالغ الذي أحدثه فرض حظر على تصدير النفط العربي إلى الولايات المتحدة على هيبة هذا البلد الكبير أولاً ، وعلى مصالحه الاقتصادية ودوره القائد في الاقتصاد العالمي ثانياً}.

وكان لكيسنجر ما أراد، فقد سارع السادات بالطلب من الملك فيصل بإلغاء قرار فرض الحضر لصالح المعركة!!، وقد أجابه الملك فيصل بأن عليه أن يقدم له طلباً كتابياً رسمياً يشير إلى أن إلغاء حضر البترول هو في صالح المعركة!!، وكان له ما أراد، حيث تم إلغاء الحضر، وإلغاء قرار تخفيض الإنتاج فيما بعد.







201
في الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل عبد الناصر
 
عبد الناصر والسادات وحرب اكتوبر 73
الحلقة الثانية 2/3
  حامد الحمداني                                                  1/10/2013

قرار الحرب
هكذا اتخذ السادات قرار الحرب لكنه لم يكن يرمي إلى نفس الهدف الذي ناضل من أجله عبد الناصر، بل كان يرمي إلى تحقيق غايتين هما:
1 ـ  التخلص من ضغط الجيش الذي كان ينتظر المعركة بفارغ الصبر، والضغط الشعبي العارم التواق للنصر على إسرائيل، ورد كرامته المهانة.
2 ـ تحريك حالة اللا سلم واللا حرب، وإيجاد الذريعة للتفاوض مع إسرائيل، وعقد معاهدة سلام معها، فلو كان السادات جاداً في حربه مع إسرائيل، لما أقدم على إخراج الخبراء والعسكريين السوفييت من مصر قبيل الحرب، وهو يعلم حق  العلم أن الولايات المتحدة تقدم كامل الدعم لإسرائيل، ويجرأ على الاستغناء عن الدعم السوفيتي !!،الذي سعى بكل جهوده من أجل إعادة تسليح  وتدريب الجيش المصري ما لم يكن يهدف إلى هدف آخر، وهذا ما أفصح عنه لهنري كيسنجر في رسالته التي أرسلها له ولما يمضي على نشوب الحرب سوى 20 ساعة، حيث أبلغه أنه لا ينوي تعميق الهجوم وتوسيعه، وأنه يرمي إلى تحقيق السلام مع إسرائيل.
 
لقد أراد السادات تلك الحرب أن تكون [ حرب تحريك ] لا حرب تحرير، ليقول لشعبه وللأمة  العربية أن العرب غير قادرين على محاربة إسرائيل والانتصار عليها،  وأن من الخير لهم أن يتصالحوا معها وهم خانعون !!.

هكذا إذاً قرر السادات أن يخوض الحرب، وجري الاتصال مع الرئيس السوري حافظ الأسد، واتفق معه على التنسيق بين الجيشين، لكي يجعلا الجيش الإسرائيلي يحارب على جبهتين في آن واحد، مما يجعل مهمة الجيش الإسرائيلي عسيرة، كما جرى الاتفاق على ساعة الصفر، وهي الساعة الثانية بعد الظهر يوم الجمعة المصادف السادس من شهر اكتوبر.
 
لم يبلّغ السادات الاتحاد السوفيتي بساعة الصفر، بل أكتفى بإبلاغه عن عزم مصر على خوض الحرب مع إسرائيل. أما البلدان العربية فلم يتم إبلاغ أي منها بالحرب بداعي السرية ومفاجئة إسرائيل، وسواء كان ادعاء السادات صحيحاً أم لا فان الذي يقدم على خوض حرب كهذه لا يمكنه أن يلجأ  إلى تلك الخطوة الخطيرة بإخراج الخبراء والعسكريين السوفيت من مصر، في وقت كانت فيه مصر بأحوج ما تكون إليهم، مما يعطي الدليل القاطع بأن قرار الحرب الذي أتخذه السادات كان في واقع الأمرعملية هدفها تحريك الأوضاع، وليس هدفاً إستراتيجياً يرمي إلى تحرير الأرض العربية المحتلة، وهذا ما أثبته الأحداث المتتالية منذُ اليوم الأول للحرب.

واندلعت الحرب ظهر السادس من اكتوبر عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية في نفس الوقت المحدد لها، واندفع  الجيشان المصري والسوري نحو المواقع الاسرائيلية على جبهتي قناة السويس، وهضبة الجولان السورية المحتلة.

واستطاع الجيش المصري الشجاع تحقيق معجزة العبور نحو الضفة الشرقية للقناة بوقت قياسي، وبخسائر لا تصدق، فقد كان عدد الشهداء 64، والجرحى 420 جريحاً، وإعطاب 17 دبابة، و26 مدرعة، وهذا العدد اقل بكثير جداً مما كان قد وضع في حسابات القيادة العسكرية.

وفي اليوم التالي السابع من أكتوبر كان الجيش المصري قد وسع مناطق سيطرته شرق القناة حتى بلغت بعمق ما بين 7ـ 9 كم . وفي هذا اليوم أتصل الرئيس السوفيتي برجنيف بالسادات  مهنئاً إياه على العبور، وأبلغه استعداد السوفييت لتقديم كل دعم ومساعدة يطلبها الجيش المصري.

أما على الجبهة السورية، فقد انطلقت الطائرات والمدفعية والدبابات السورية نحو أهدافها في هضبة الجولان، وتخطت التحصينات الإسرائيلية، متقدمة نحو مدينة القنيطرة عاصمة الجولان.

لم يكد يمرُ يوم واحد على الهجوم، وكان الجيش المصري في كامل قوته ومعنوياته واندفاعه الشديد، حتى بادر  السادات بالاتصال بوزير الخارجية الأمريكية [هنري كيسنجر] عن طريق القناة السرية عبر المخابرات الأمريكية، حيث أرسل مستشاره [حافظ إسماعيل]  رسالة إلى كيسنجر يعلمه فيها بما يلي:
1 ـ إن هدف مصر هو تحقيق السلام مع إسرائيل.
 2ـ إن مصر لا تنوي تعميق الهجوم، وتوسيع المواجهة.
3 ـ إن مصر تطالب إسرائيل الإعلان عن قبولها مبدأ الانسحاب من الأرض المحتلة
4 ـ إن مصر توافق على حرية الملاحة في مضايق تيران.

وهكذا افتضحت أهداف السادات منذُ بداية الحرب، حيث وجه خنجره إلى ظهر الجيش المصري، وسلاح إسرائيل فوق رؤوس الجيش السوري. فقد تلقف [هنري كيسنجر] رسالة السادات بفرح غامر، وحولها إلى إسرائيل لكي تركز جهدها العسكري نحو الجبهة السورية بسبب خطورتها وقربها من العمق الإسرائيلي، وبدأت القوات السورية تتلقى الضربات الإسرائيلية المركزة، حيث دارت المعارك الشرسة بين الجيشين السوري والإسرائيلي، وخسرت سوريا في معركة واحدة دامت بضع ساعات ما بين 400 ـ 600 دبابة، في حين أوقف السادات هجومه بحجة الوقفة التعبوية، على الرغم من اتصال السوفييت به وإعلامه أن أقمارهم التجسسية قد اكتشفت أن إسرائيل قد سحبت معظم مدرعاتها من منطقة الممرات، ولم يبقَ لها سوى لواءين مدرعين فقط، وأن بإمكان الجيش المصري القضاء عليها بكل سهولة، وبوقت قصير، طالبين منه بإلحاح تطوير الهجوم، والاستيلاء على الممرات ذات المواقع الإستراتيجية الهامة جداً بالنسبة للدفاعات المصرية التي يصعب على العدو اجتيازها، وفي نفس الوقت تضطر إسرائيل إلى سحب قسم من  مدرعاتها في مواجهة الجيش السوري، مما يخفف الضغط عليه.

 لكن السادات أغمض عينيه، وصم آذانه عن سماع نصيحة الاتحاد السوفيتي !!، بل أنه واصل اتصالاته مع هنري كيسنجر، حيث أرسل له رسالة أخرى في 10 تشرين  الأول يبلغه فيها استعداده لوقف القتال إذا أعلنت إسرائيل استعدادها للانسحاب من سيناء، مع ضمان حرية الملاحة في مضايق تيران وقناة السويس، وإنهاء حالة الحرب معها، وعقد معاهدة سلام بين الطرفين برعاية الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية.

أما هنري كيسنجر فقد بعث إلى إسرائيل يطلب منها تطوير الهجوم المضاد، وإحداث أوضاع جديدة في صالحها قبل انعقاد مجلس الأمن، الذي سعى كيسنجر نفسه إلى تأخيرعقدة لإتاحة الفرصة لإسرائيل لتحقيق مكاسب واسعة على أرض المعركة.

فلقد قدم اللواء [ حسن البدري ] ـ رئيس مركز القيادة رقم 10 ـ في اليوم الثاني لنشوب الحرب [7 تشرين الأول ]، تقريراً للسادات طالباً فيه تطوير الهجوم والاندفاع نحو المضايق بأسرع وقت واحتلالها، لإبعاد أي خطر محتمل عن الجيش المصري، وأشار في تقريره أن الوقت الذي يضيع هو بكل تأكيد في صالح الجيش الإسرائيلي.

 إلا أن السادات أغمض عينيه وصم آذنيه مرة أخرى، ولم يأمر بتطوير الهجوم إلا يوم 14 تشرين الأول، مانحاً إسرائيل الفرصة لتدمير الجيش السوري، وإعادة  حشد قواتها المدرعة بمواجهة الجيش المصري، وإضاعة فرصة تاريخية في إمكانية دحر الجيش الإسرائيلي.

 وبضغط من ضباط أركان جيشه، أقدم السادات على الهجوم في 14 تشرين الأول، وكانت إسرائيل قد أكملت حشد قواتها المدرعة ، بعد تحييد الجبهة السورية، واستعدت كامل الاستعداد للهجوم المصري، حيث وقعت معركة كبرى خسر فيها الجانب المصري ما يزيد على 240 دبابة حتى الظهر وفشل الهجوم، واستغل الإسرائيليون ذلك الفشل بالتقدم وتطوير هجومهم المضاد حتى تمكنوا من خرق الجبهة المصرية، ما بين الجيشين الثاني والثالث والتقدم نحو قناة السويس، في منطقة [ الدفرسوار ] وتمكنت قواتهم من السيطرة على رأس جسر لها على القناة، ونصب الجسور فوقها، والعبور بدباباتهم يوم 15 تشرين الأول نحو الضفة الغربية للقناة، حيث عبرت ما يزيد على 800 دبابة إسرائيلية، وطوقت الجيش الثالث المصري، ومنعت وصول الإمدادات الغذائية والمياه عنه، وعرضته لمخاطر جسيمة، وأعلنت رئيسة وزراء إسرائيل [كولدا مائير] أن قواتها تحارب الآن غرب قناة السويس، وأنها وصلت إلى الكيلو 101 عن القاهرة. كما أعلن وزير الحرب الإسرائيلي أن قواته الآن في طريقها إلى دمشق.
أما السادات فقد أنكر ما جاء بخطاب رئيسة وزراء إسرائيل عندما أبلغه هيكل بذلك مدعياً أن ذلك لا يعدو عن كونه مسرحية إسرائيلية تستهدف إضعاف معنويات الجيش المصري، وادعى أن بضع دبابات إسرائيلية ربما تكون قد عبرت القنال سيجري تصفيتها بسهولة وبوقت قصير.
   فقد أرسل رسالة أخرى إلى هنري كيسنجر في ذلك اليوم يبلغه برغبته في بقاء القناة مفتوحة مع الولايات المتحدة، وأن لا أحد يستطيع التحدث باسم مصر،و كان يقصد بذلك [الاتحاد السوفيتي ] وانه لا يريد إهانة إسرائيل !!، وأنه يقدر جهود أمريكا لوقف القتال!!، واخيراً وجه دعوة لكيسنجر لزيارة مصر، مبدياً تصميمه على الابتعاد عن السوفييت !!.

وفي 16  تشرين الأول خطب السادات في مجلس الأمة مقدماً مشروعاً للسلام مع إسرائيل، وكان يبدو متهالكاً على كسب ود الولايات المتحدة التي وضعت كل ثقلها لدعم القوات الإسرائيلية بالسلاح، ومشجعة إياها على مواصلة الهجوم المضاد.

وفي 17 تشرين الأول قررت الدول العربية المنتجة للنفط تخفيض إنتاجها بنسبة 5% فوراً، وإضافة 5% كل شهر حتى تنسحب إسرائيل، وقرر الملك فيصل، ملك السعودية رحمه الله تخفيض إنتاج النفط بنسبة 10 % فوراً، كوسيلة ضغط على الولايات المتحدة، لتضغط بدورها على إسرائيل للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وأدى ذلك الإجراء إلى حدوث ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمية، مما أثار غيض الولايات المتحدة معتبرة هذا القرار يشكل تهديداً خطيراً للمصالح الأمريكية، مما لا يمكن السكوت عليه، وقد دفع الملك فيصل حياته فيما بعد بسبب ذلك القرار.

أما هنري كيسنجر فقد طلب من إسرائيل حسم المعركة خلال 48 ساعة، وأعلن أمام مجلس الأمن القومي الأمريكي أن الجيش المصري على حافة كارثة، إلا أنه لا يريد أن تتحول هذه الكارثة على أنور السادات!!

وفي ظل  تلك الظروف البالغة الصعوبة بالنسبة للجيش السوري، حيث بدأ موقفه يضعف شيئاً فشيئاً أمام القوات الإسرائيلية، على الرغم من إسراع الاتحاد السوفيتي إلى تعويض خسائره من الأسلحة الثقيلة والمعدات، فقد أبدى استعداده إلى إرسال 3 فرق مدرعة، محمولة جواً إلى سوريا، إذا ما أقدمت إسرائيل على مهاجمة دمشق.


202
في الذكرى الثالثة والاربعين لرحيل عبد الناصر
             
عبد الناصر والسادات وحرب اكتوبر73
الحلقة الأولى 1/3
حامد الحمداني                                                  28/9/2013

منذُ أن حلت نكبة 5 حزيران عام 1967 ، والتي انتهت باحتلال إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية وهضبة الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية، وفقدان مصر وسوريا معظم سلاحهما الجوي، ومدرعاتهما، كان هدف القيادتين المصرية والسورية، العمل على إعادة تسليح الجيشين من جديد، وإعدادهما للمعركة المقبلة، يقيناً أن إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة.

لقد أعلن عبد الناصر شعاره المعروف { إن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة }، وعلى ذلك كان إعادة بناء الجيشين هو الهدف الأول للقيادتين المصرية والسورية، مسخرين كل إمكانيات البلدين المادية والبشرية لهذا الهدف.

كان عبد الناصر يشعر بمرارة الهزيمة، وكان تصميمه على إزالة آثار العدوان الذي لحق بالأمة العربية في تلك الحرب، والتي كان يحلوا لحكام إسرائيل أن يسمونها تشفياً بـ[حرب الأيام الستة]،إمعاناً منهم في إذلال العرب، وإشعارهم بضعفهم، وبقدرة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر!!، وهذا بالطبع عنصر هام في الحرب النفسية التي دأب حكام إسرائيل شنها ضد العرب .

لقد صمم عبد الناصر على إزالة آثار العدوان الإسرائيلي، وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وكان قادة  مصر وسوريا، وبمساعدة الاتحاد السوفيتي اللامحدودة، يعملون الليل والنهار من أجل إعادة بناء الجيشين، وتجهيزهما بأحدث الأسلحة والمعدات وأعقدها، وتدفق الخبراء السوفييت على مصر وسوريا ليساهموا في تدريب الجيشين على الأسلحة الحديثة تلك، ولم يمضِ سوى عام واحد على الهزيمة حتى كان الجيشان المصري والسوري  قد استعادا قوتيهما، وأسلحتهما، وأصبح الجيش المصري قادراً على تحدي الجيش الإسرائيلي.

وكان أمام الرئيس عبد الناصر مهمة خطيرة وشاقة، إلا وهي رفع معنويات الجيش المصري بعد تلك الهزيمة المرة، ومجابهة الحرب النفسية التي كانت تشنها إسرائيل على الجيش المصري باستمرار، وإشعاره بضعفه.

 ووجد عبد الناصر أن السبيل إلى ذلك هو قيام الجيش المصري بحرب الاستنزاف ضد قوات إسرائيل، عبر قناة السويس، والقيام بعمليات [ كوماندوس ] ضده، وكان يرمي في ذلك إلى إفهام إسرائيل أن مصر قد استعادت قوتها، وأنها قادرة على التحدي، وأن باستطاعة الجيش المصري أن يحقق الأهداف المرجوة في إزالة آثار العدوان، كما يهدف إلى إفهام الولايات المتحدة، أن العرب لن يصبروا على الاحتلال والعدوان وأنهم عازمون على مقاومته بكل الوسائل والسبل.

وهكذا أصدر عبد الناصر أوامره للجيش المصري بالمباشرة في حرب الاستنزاف عبر قناة السويس، وانطلقت المدافع والصواريخ المصرية نحو القوات الإسرائيلية المرابطة على طول القناة، وردت عليها القوات الإسرائيلية بالمثل، وبدأت معنويات القوات المصرية تتصاعد، ويتصاعد معها حماسها  وحماس الشعب المصري للاندفاع ومنازلة العدو الإسرائيلي لإزالة آثار العدوان.

واستمرت حرب الاستنزاف، وأخذت تتسع يوماً بعد يوم، وكلما مرت الأيام ازدادت شراسة، مما دفع بإسرائيل، التي لا تستطيع تحمل حرب استنزاف طويلة الأمد، إلى اللجوء إلى الطائرات الحربية لضرب العمق المصري، وإنزال أقصى ما يمكن من الخسائر المادية والبشرية بالسكان، بغية إثارة الرعب في نفوس الشعب المصري، وفي تلك الأيام ظهر عجز في الدفاعات الجوية المصرية في العمق، حيث ركز الجيش دفاعاته الجوية على طول جبهة الحرب،على امتداد قناة السويس.

كانت الطائرات الإسرائيلية تهاجم أهدافها على ارتفاعات واطئة، تجنباً للصواريخ المصرية المخصصة للأهداف العالية، ووجد عبد الناصر أن جيشه بحاجة إلى نوع جديد من الصواريخ الخاصة بالأهداف الواطئة [ سام 3 ]، وتقدم بطلب إلى السوفييت لتزويده بها، ورد السوفييت انهم مستعدون لتزويده بها، ولكن التدريب عليها كان يتطلب مدة 6 أشهر، ولما كانت المعارك قد احتدمت، فلا يعقل الانتظار طيلة هذه المدة، وعليه قرر الرئيس عبد الناصر القيام برحلة عمل سرية إلي موسكو لإجراء مباحثات مع القادة السوفييت حول الموضوع .
وفي موسكو أجرى عبد الناصر مباحثات مستفيضة حول الوضع العسكري، ووجد أن لا مفر من أن يطلب من القادة السوفييت إرسال  صواريخ [سام 3] مع أطقمها من العسكريين السوفييت، وطائرات مع طياريها لحماية العمق المصري.

فوجئ القادة السوفيت بطلب عبد الناصر، وطلبوا إمهالهم بضع ساعات لتدرس اللجنة المركزية الطلب، وعقدت اللجنة المركزية اجتماعاً بحضور مارشالات الاتحاد السوفيتي، وقرر المجتمعون السوفييت الاستجابة لطلب الرئيس عبد الناصر، وتم إبلاغه على الفور، وبدأت صواريخ [سام 3]، والطائرات الحربية مع أطقمها تنقل على عجل إلى مصر، وتم نصب الصواريخ في المناطق الحساسة في العمق المصري، وخاصة في قاعدتي [ جانالكس في الدلتا]، و[المينا  في الصعيد]،وهكذا بدأت الطائرات الإسرائيلية، التي كانت تقصف وتعود سالمة مطمئنة فيما مضى تتهاوى الواحدة بعد الأخرى.

دهش الإسرائيليون لهذا التطور المفاجئ في مجرى الحرب، حيث خسرت إسرائيل أعداداً كثيرة من الطائرات المغيرة، حتى وصل الأمر بوزير خارجيتها أن صرح لصحيفة الديلي هيرلد تربيون قائلاً:
 [إن السلاح الجوي الإسرائيلي قد بدأ يتآكل]، وقررت إسرائيل على الأثر إيقاف غاراتها الجوية على العمق المصري، في 18 نيسان 1970 .

ونظراً لتطور الأحداث واشتداد حرب الاستنزاف، بادرت الولايات المتحدة إلى تقديم مبادرة جديدة في 6 أيلول 1970،[ مبادرة روجرز] تتضمن وقف حرب الاستنزاف لمدة ثلاثة أشهر، والبدء بإجراء مفاوضات بين مصر وإسرائيل للانسحاب من الأراضي المحتلة تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 242، وقام وزير الخارجية الأمريكية بتقديم المشروع إلى الرئيس عبد الناصر والذي عُرف مشروع بـ[ روجرز].

وفي مصر جرى تدارس المشروع من قبل القيادة المصرية، وأرتأ عبد الناصر أخذ فرصة للتشاور مع القادة السوفييت في الأمر، وعليه غادر في زيارة عمل سرية إلى موسكو، والتقى بالقادة السوفييت، وتدارس الأمر معهم، وتم الاتفاق على قبول المشروع، وإعطاء فرصة للسلام من جهة، ولإكمال استعدادات الجيش المصري، وتدريب كادره على بطاريات صواريخ سام 3 الضرورية لحماية العمق المصريمن جهة أخرى.
وهكذا أعلن عبد الناصر بعد عودته إلى مصر عن قبوله بمبادرة روجرز مبرراً قبوله بثلاثة أسباب:
1 ـ التطور في موازين القوى لصالح مصر.
2 ـ الحرص على عدم وقوع مواجهة بين الجبارين.
3 ـ تحديد وقف حرب الاستنزاف بثلاثة أشهر تتيح له الفرصة للحشد.

 وقد دعا الولايات المتحدة إلى القيام بدور فاعل لدفع إسرائيل للالتزام بالقرار 242، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وقد أعطت فترة وقف حرب الاستنزاف المجال للجيش المصري لإكمال تنظيم وتدعيم دفاعاته في العمق المصري وعلى الجبهة، فقد كان عبد الناصر يعلم أن القوة وحدها هي التي تزحزح إسرائيل من قناة السويس وصحراء سيناء، وبقية الأراضي العربية المحتلة.



حكام العراق البعثيين، وعبد الناصر:

لم يكد عبد الناصر يعلن قبوله مبادرة [ روجرز ]، ووقف حرب الاستنزاف لمدة ثلاثة أشهر، حتى بادر حكام العراق بمهاجمة عبد الناصر، وموجهين إليه أبشع النعوت، من الإنخذالية، والانهزامية والخنوع الإمبرياليين والصهاينة، ومزايدين على القضية الفلسطينية، وهم الجالسون على بعد 1000كم من ساحات الحرب وحدود إسرائيل، معلنين الحرب الكلامية، عبر إذاعتهم  وتلفزيونهم وصحافتهم، مدعين الحرص على قضايا العرب المصيرية. واستمروا على سلوكهم هذا حتى يوم 28 أيلول 1970، ساعة إعلان خبر وفاة الرئيس عبد الناصر بصورة مفاجئة، وقيل أن الوفاة كانت بسبب نوبة قلبية حادة  داهمته، ولإنزال الشكوك تدور حول حقيقة تلك الأزمة القلبية حتى اليوم.

لقد كانت وفاة عبد الناصر في تلك الأيام الحاسمة من أيام الصراع العربي الإسرائيلي
 خسارة كبرى لمصر وسائر العرب الذين أصيبوا بصدمة عنيفة لم يعرفوها من قبل، فقد كانت الأمة العربية بأحوج ما تكون في تلك الأيام لعبد الناصر، ولاسيما وأن مصر وسوريا كانتا على أبواب الحرب مع إسرائيل، وكان حلم عبد الناصر أن يحقق النصر المنشود، الذي سخّر له كل وقته وإمكانياته.

 وتنفست إسرائيل الصعداء بخبر وفاة عبد الناصر، بل كان ذلك اليوم عيداً كبيراً لها، يفوق عيدها حينما ألحقت الهزيمة بالعرب في حرب حزيران عام 1967.
كما ابتهجت الإمبريالية لمغادرة عبد الناصر الساحة، بعد سنوات من الصراع خاضتها ضد الأمة العربية منذُ تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، والنهوض الثوري في العالم العربي، الذي أحدثته حركة التحرر العربي التي قادها عبد الناصر، رغم كل الأخطاء التي وقع فيها، والتي لو لم تقع لكان الحال قد تغير كثيراً بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، والصراع العربي مع الإمبريالية، وبشكل خاص موقف الرئيس عبد الناصر من قائد ثورة 14 تموز الزعيم الخالد الشهيد عبد الكريم قاسم.

  فقد كانت الظروف تقتضي، بل تحتّم تعاون مصر والعراق، بقيادة ناصر وقاسم، من أجل دفع حركة التحرر العربي إلى الأمام، بدلاً من الصراع، والأحقاد التي وصلت حد التآمر على الكيان العراقي، وتأييد انقلاب 8 شباط الفاشي 1963، وما جره على العراق وشعبه من ويلات ومآسي، والضرر البليغ الذي لحق بكفاح الأمة العربية للتحرر من ربقة الإمبريالية، وتبيّن فيما بعد أن عبد الناصر كان ضحية خداع البعثيين، وشريكهم  خائن ثورة 14 تموز عبد السلام عارف.

أحدثت وفاة عبد الناصر فراغاً كبير في مصر والعالم العربي على حد سواء، في ظل ظروف بالغة الخطورة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية الإعداد للحرب التي كان  عبد الناصر يدرك أن لا مفر منها بسبب التعنت والاستفزاز الإسرائيلي الوقح، ولذلك فقد كان من الأهمية بمكان ملئ الفراغ الذي أحدثه وفاة عبد الناصر المفاجئة بأسرع ما يمكن، والسير قدما ًفي عملية التهيئة لحرب التحرير.

كان أنور السادات وقتذاك يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، وبموجب الدستور يتولى نائب الرئيس الحكم، في حالة شغور منصب الرئاسة، لحين  انتخاب رئيس جديد للبلاد من قبل مجلس الأمة، وبترشيح من قبل الاتحاد الاشتراكي.

وقبل إجراء الانتخاب كان هناك بالإضافة إلى السادات منافساً آخرهو [حسين الشافعي] أحد قادة ثورة 23 يوليو 1952 ذو الاتجاه الإسلامي، هذا بالإضافة إلى كتلة رئيس الوزراء [علي صبري] الناصرية، والممسكة بجميع المراكز العليا في الدولة، من مجلس الوزراء، ومجلس الأمة، والاتحاد الاشتراكي، وكان بمقدور هذه الكتلة أن تتحكم في منْ يخلف عبد الناصر.

 لكن سوء تقديرهم لأنور السادات، واعتقادهم أنه شخص ضعيف يسهل السيطرة عليه دفعهم إلى تأييد ترشيحه للرئاسة، وهكذا كان، وتم انتخاب أنور السادات رئيساً للجمهورية وهو لم يكد يصدق نفسه، فقد كان يعرف مركزه تماماً، ويعرف مركز مجموعة [ علي صبري ] وكانت تلك غلطة الناصريين الكبرى التي دفعوا ثمنها غالياً، و دفعت الأمة العربية تبعاً لذلك مستقبلها، الذي وضعه السادات رهينة بأيدي الأمريكيين لسنين طويلة .

أما أنور السادات فقد وضع نصب عينيه مسألة التخلص من الكتلة الناصرية بزعامة علي صبري، وبقية رفاق عبد الناصر، والاستحواذ على السلطة كاملة وحده بعيداً عن أي تأثير أو نفوذ لما كان يسميه بـ[ مراكز القوة ]،ولم تمضي مدة طويلة حتى تمكن السادات، بدعم من قائد الحرس الجمهوري، وعدد من كبار الضباط الموالين له، من توجيه ضربته لمجموعة علي صبري، وإزاحتها عن السلطة، بل وزجها في السجون، وليصبح بعد ذلك الحاكم المطلق للبلاد، ويصفي كل آثار الناصرية، بعد أن كان يقف خانعاً أمام عبد الناصر .

بعد أن تسنى للسادات تصفية القوى الناصرية، وكتلة علي صبري، أقدم على أخطر عملية تخص أمن مصر وشعبها، وتخص قضية الحرب التي أوقف عبد الناصر حياته لأجلها، فقد قرر السادات  في تموز 1972، ودون سابق إنذار، إخراج الخبراء السوفيت من مصر، الذين كان ومازال لهم الدور الكبير في حماية مصر من قصف الطائرات الإسرائيلية، ولهم الدور الأكبر في تدريب، وإعداد الجيش المصري ليوم المعركة التي كان الشعب ينتظرها بفارغ الصبر، ليثأر لكرامته التي امتهنت يوم 5 حزيران 1967.

شكل القرار صدمة كبرى للشعب المصري، وللحكومة السوفيتية، بعد كل الذي فعلوه من أجل مصر والأمة العربية، وتساءل الناس كيف يستطيع السادات محاربة إسرائيل المدعومة كل الدعم أمريكياً، وقد جرد نفسه وبلده من سنده القوي الاتحاد السوفيتي؟

وعلى كل حال فقد استجاب الاتحاد السوفيتي لقرار السادات، وبادر إلى سحب خبرائه وقواته المتواجدة في مصر، وكان ذلك موضع ترحيب من قبل الإمريكان واسرائيل حيث اعتبرا ذلك العمل[بطولة]!! من قبل السادات، وبدأت الاتصالات تجري بين السادات، و[كيسنجر] وزير خارجية الولايات المتحدة،  والصهيوني المتعصب عبر الخط السري، عن طريق مسؤول المخابرات الأمريكية في مصر، وكانت الرسائل بين الطرفين تصل باسم [ حافظ إسماعيل ] مستشار السادات للأمن القومي .

غير أن تلك الرسائل لم تحقق أي مصلحة لمصر في تحرير أرضها، وإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ذلك أن كيسنجر لا يفهم سوى مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبريالية الأمريكية، والتي زرعتها في قلب الوطن العربي لتفصل مشرقه عن مغربه،  ومدتها بكل وسائل القوة لتتفوق على سائر البلدان العربية، وتكون سيفاً مسلطاً على رقاب العرب،  وحامية لمصالحهم النفطية في الخليج . 

لم يكن بمقدور السادات أن يتخلى عن الهدف الذي كان يصبو إليه الشعب المصري  وقواته المسلحة، والذي أوقف عبد الناصر حياته لتحقيقه، ألا وهو تحرير الأراضي العربية المحتلة، ورد الكرامة العربية التي أهانتها إسرائيل في حرب حزيران 1967 ، كما أن الجيش المصري كان قد وصل إلى أهبة الاستعداد لتنفيذ الإرادة الوطنية، فقد كان لابدّ من قيام الحرب، أو تقويض عرش السادات.


203
حوار حامد الحمداني مع رئيس تحرير صحيفة سيفيل الكردية فيصل خليل
حامد الحمداني                                                    5/8/2013
القسم الثالث والأخير
8ـ كيف تقرأ دور العشائر في العهدين الملكي والجمهوري

الجواب
لقد كان شيوخ العشار في العهد الملكي العوبة بأيدي الشخصيات الرئيسية الحاكمة بدأ من نوري السعيد، ورشيد عالي الكيلاني، وصالح جبر، وجعفر العسكري، والوصي على عرش العراق عبد الإله، وكثيراً ما استخدمت تلك العشائر في حسم الصراعات السياسية بينهم كما جرى في ثورة العشائر  في الفرات الأوسط ، وثورة العشائر في الرميثة، وثورة العشائر في سوق الشيوخ على عهد الملك غازي، وبالإمكان العودة إلى تلك الثورات في الصفحات 174- 189 في الجزء الاول من كتابي [صفحات من تريخ العراق الحديث].

أما في عهد ثورة 14 تموز فقد تغير الحال على أثر صدور قانون الاصلاح الزراعي وسحب الأراضي من كبار الشيوخ الاقطاعيين، وتوزيعها على الفلاحين، حيث تم سحب البساط من تحت اقدم شيوخ العشائر الاقطاعيين، وفقدوا السلطة التي كانوا يتمتعون بها  في أجهزة الدولة، وسلطتهم المطلقة على الفلاحين الذين كانوا يقودونهم طعاماً للثورات التي جرت آنذاك تنفيذاً لأطماع الشخصيات الحاكمة المتصارعة على السلطة.

 إلا أن انتكاسة ثورة 14 تموز بسبب انقلاب القوى البعثية والقومية على سلطة عبد الكريم قاسم من جهة، والخلافات التي حلت بين سلطة عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وانشقاق الحزب الوطني الديمقراطي، كل ذلك قد ادى إلى اضعاف موقف عبد الكريم قاسم.

 وهذا ما ساعد القوى القومية والبعثييين على انتهاز الفرصة لتجميع كل المعادين لثورة 14 تموز وأجراءاتها التقدمية وفي مقدمتها قانون الاصلاح الزراعي، وقانون الاحوال الشخصية الذي انصف المرأة، وقد التفت هذه القوى الرجعية وفي مقدمتها السيد محسن الحكيم الذي لعب دورا بارزاً في التآمر على حكم عبد الكريم قاسم، ودعم انقلابيي 8 شباط الفاشيين.

9ـ و ما دور الحزب الشيوعي في العهد الجمهوري، و ما هو سبب ضعف هذا الحزب في الحاضر؟


الجواب
لم يرق للمحتلين الامريكان أن يجدوا في اي بلد حزب شيوعي قوي يلعب دوراً  اساسيا في البلاد، فكيف يروق لهم وجود حزب شيوعي قوى في العراق، وهم  الذين حاربوه بكل ما أوتوا من قوة.

 لقد اشركوا السكرتيرؤ الام للحزب الاستاذ حميد مجيد موسى في مجلس الحكم  من أجل تحييد الشيوعيين، لكنهم لم يفسحوا له المجال لدور بارز في شؤون  الحكم، وفي اعتقادي أنه ما كان لقيادة الحزب الاشتراك في تلك العملية السياسية البائسة، ولو وقف الحزب خارج العملية السياسية، وسعى لتقوية تنظيماته، والعمل على تطويرها كماً ونوعا، ويقف مؤيداً لأي أجراء يخدم قضايا الشعب، ويرفض ما يضر بمصلحة البلاد، لكان وضعه اليوم اقوى بكثير وكسب جماهيرية واسعة، ولف حوله الاعداد الغفيرة من الشيوعيين القدامى الذين آثروا الابتعاد عن الحزب نتيجة  لاختلاف نظرتهم لسياسته، ولكان اليوم في وضع افضل بكثير .


10ـ   ماهي قراءتك للوضع السياسى الراهن؟ خصوصا هناك مخاوف من تقسيم العراق؟
   الجواب
  الوضع العراقي الحالي على اسوأ ما يكون جراء العملية السياسية الفاشلة التي قادها الحاكم الامريكي بريمر، والتي اعتمدت مبدأ المحاصصة الطائفية والقومية، والتي اوصلت العراق إلى الحرب الأهلية الطائفية عامي 2006 و2007 ، وعزل الطائفة السنية عن المشهد السياسي، مما مكن البعثيين وحلفائهم القوميين إلى اللجوء للأعمال الارهابية من تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والاغتيالات، والتي قابلتها ميليشيات الطائفة الشيعية بالمثل لتغرق العراقيين في نهر من الدماء، وما تزال الصراعات بين الطرفين تجري على قدم وساق مهدةً بنشوب حرب طائفية جديدة لا تبقي ولا تذر إذا لم تعالج الأمور قبل فوات الأون.

أن اية محاولة لتقسيم العراق لا تعني إلا بداية للحرب الأهلية، وعلى الساعين لتقسيم العراق إن يفكروا بعمق وبعد نظر فإن النتائج لن تكون بصالحهم على اية حال، وانا يحدوني الأمل أن تعود اواصر الأخوة بين العراقيين عرباً وكرداً، شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين وصابئة وأيزيديين، فإن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، والعراق يتسع الجميع أذا ما توفر له حكومة و طنية صادقة ونظيفة، وبما يتوفر له من امكانيات مادية وبشرية  قادرعلى خلق جنة بأرض العراق تسعد الجميع، وعلى قدم المساواة، بصرف النظر عن الدين والطائفة والقومية. 

11ـ حسب الوثائق ان الحكومة البريطانية ما كانت على علم بثورة 14 تموز، هل يعقل ذلك؟ وكيف لحليفة مثل الحكومة البريطانية ولها وجود عسكري و سياسى في العراق ان تكون على غفلة  من الثورة؟
   
 الجواب
هذا غير صحيح اطلاقاً حيث أن الثورة فاجئت الغرب مما افقدها صوابها فسارعت بريطانيا فور نجاح الثورة إلى انزال قواتها العسكرية في الاردن، والولايات المتحدة إلى انزال قواتها اللعسكرية في لبنان، ودعت حلفائها في تركيا وإيران، اعضاء حلف بغداد، بتحشيد جيوشها لغزو العراق واسقاط الثورة.

لكن الموقف الحازم والحاسم للإتحاد السوفيتي آنذاك، وتهديد الغرب بالحرب دفاعاً عن ثورة العراق، وتحشيد قواته العسكرية على الحدود التركية والايرانية، وتوجيه انذار حاسم للغربيين اسقط في يدهم، واضطروا في نهاية المطاف للأعتراف بالوضع الجديد للعراق على أمل اسقاطه عن طريق التآمر،  وهذا ما جرى فعلا في الثامن شباط 1963 على ايدي عملاء امريكا البعثيين وحلفائهم القوميين سافكي الدماء. 

12-   كيف تصف علاقة بين عبدالكريم قاسم و الحزب الشيوعي العراقي؟ لماذا حرم هذا الحزب من مشاركة السلطة في عهد قاسم؟
الجواب
الحزب الشيوعي  كان أول احزاب جبهة الاتحاد الوطني الذي تم ابلاغ قادته بموعد الثورة، وقد وقف الحزب إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم وسعى بكل جهد لحماية الثورة واضعاً كل قدراته بتصر قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم. وعندما جرى تشكيل حكومة الثورة جرى اسثناء الحزب الشيوعي من المشاركة في الحكومة بدعوى لا يثير قلق الغرب في ذلك الظرف الحرج من عمر الثورة. ومع ذلك سكت الحزب عن عدم المشاركة حرصاً منه على مستقبل الثورة.

 وكانت العلاقة بينه وبين قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم على احسن ما يكون، واستطاع الحزب أن يكون سيد الشارع دون منازع، وجرت انتخابات النقابات والجمعيات والاتحادات وفاز بها الشيوعيين بجدارة، وعندما جرى تشكيل المقاومة الشعبية كانت قيادتها بيد الشيوعيين. وكانت صحافة الحزب تكتب بكل حرية، حتى أن وزير الاعلام الاستاذ حسين جميل أمر بوقف صحيفة الحزب [اتحاد الشعب]، وتم اعادتها من قبل الزعيم فورا، مما دفع بحسين جميل إلى الاستقالة من الحكومة.

لكن اصرار الحزب على المشاركة في الحكم واستخدام الظاهر في مسيرة الاول من ايار 1959التي ضمت المليون مشارك وهو يهتفون [عاش الزعيم عبد الكريم، الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم] هي التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل، فقد صار الزعيم على قناعة أن الشيوعيين قاب قوسين أو أدنى من الوثوب للسلطة، وأن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي، وليس من القوى البعثية والقومية التي تآمرت على الثورة في اول ايامها، وقد ساهمت القيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي بتأجيج مخاوف الزعيم من الشيوعيين، مما جعله يقرر تقليم اظافر الحزب، وابعاده عن سائر المنظمات والنقابات والمقاومة الشعبية التي سحب منها السلاح  ثم الغاها، وهكذاعالج الزعيم خطأ الحزب بخطأ أفدح، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم 8 شباط لما نجح الانقلاب، وهكذا دفع الحزب، ودفع الزعيم عبد الكريم قاسم ثمنا باهظاً جدا، فكل ما حدث في العراق من ويلات ومآسي ومصائب هي نتاج انقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم.
 




204
حوار حامد الحمداني مع رئيس تحرير صحيفة سيفيل الكردية فيصل خليل
القسم الثاني

حامد الحمداني                                              3/8/2013

3ـ ثمة دراسات تقارن بين العهدين الملكي و الجمهوري، و بعضها يفضل العهد الملكي. ما هو رأيك اذا قارنت بين هذين العهدين؟

الجواب
المقارنة لا تقاس هكذا، فهناك انظمة ملكية دستورية تلتزم بالدستور التزام كلي، والملك فيها يملك وادارة البلاد في ظل نظام ديمقراطي حقيقي والأمثلة على ذلك كثيرة منها السويد وبريطانيا وهولندا والدنمارك  والنروج، وهناك انظمة ملكية يحكم فيها الملك حكماً مطلقاً، ويجمع بيده كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ، ويسيطر على السلطة الرابعة وهي الصحافة والاعلام، كما هو الحال في السعودية وبعض دول الخليج، وغيرها من الدول الأخرى، ولا يمكن المقارنة بين هذين الصنفين من الأنظمة الملكية، وشتان بينها.

من الطرف الآخر هناك انظمة جمهورية ملتزمة بالدستور وتداول السلطة السلمي، واحترام الحقوق والحريات العامة، وإجراء الانتخابات البرلمانية بكل شفافية ونزاهة، واحترام المعارضة، بل واستشارتها في الكثير من القضايا الرئيسية التي تهم مصلحة شعوبها، وتحترم بكل دقة فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية دون اي تدخل ، وتحترم حرية الصحافة، وحقوق الشعب في الحرية والعدالة الا جتماعية، كما هو سائد في معظم الدول الأوربية وغيرها من البلدان الأخرى.

وهناك انظمة جمهورية يحكمها دكتاتور لايترك كرسي الرئاسة حتى الموت أو الاغتيال  او الانقلاب العسكري على نظامه، وهذا ما ساد معظم الانظمة الجمهورية في العالم العربي مع الأسف، ولا اجد حاجة لتعداد هذه الانظمة فهي معروفة للجميع.

إذا المعيار لتقييم الانظمة جمهورية كانت أم ملكية هو في مدى التزامها بالدستور، واحترام الحريات العامة، وتعزيز مبدأ الديمقراطية، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، واحترام حرية الصحافة، والايمان الحقيقي بالتداول السلمي للسلطة، وأجراء الانتخابات البرلمانية بمواعيدها بكل نزاهة وشفافية، والعمل الجاد والمخلص لتقديم الخدمات الاساسية للشعب، وتأمين حاجاته المادية، وتوفير حياة كريمة تليق به.   

4ـ يقال ان نوري سعيد كان أفضل من عبدالكريم قاسم، وعبدالكريم ما كان يفهم بالسياسة، و ادارة امور الدولة، والدليل ارتفاع نسبة البطالة في فترة حكمه، وثانيا العجز في الميزانية بمقدار 14 مليون دينار العراقي في سنة 1961، فضلا عن ذلك تدهور علاقته مع الاكراد و وجود مشاكل سياسية اخرى؟


الجواب
من قال هذا؟ ينبغي عدم اطلاق الاوصاف بهذا الشكل البعيد عن الواقع ، فهل كان نوري السعيد سياسياً عند تأسيس الدولىة العراقية؟
 لقد كان ضابطا في الجيش العثماني، وانظم إلى قوات الثورة العربية بقيادة الملك حسين بن علي ملك الحجاز، وتعلم السياسة بالممارسة، ونجح في تنفيذ الاجندات البريطانية أكثر من أي رئيس وزراء عراقي آخر، في حين انتحر رئيس الوزراء المرحوم عبد المحسن السعدون لعدم استطاعته الرضوخ لأوامر المندوب السامي البريطاني بغية فرض المعاهدة الاسترقاقية المفروضة على العراق، وفضل الانتحار على الانبطاح تحت أقدام المحتلين.

صحيح إن عبد الكريم قاسم كان رجلا عسكرياً ممنوع عليه ممارسة العمل السياسي، لكن ذلك لا يمنعه من القراءة والتتبع والاستزادة من الثقافة والخبر والتجارب شأنه شأن أي مواطن آخر، وكان الشهيد عبد الكريم قاسم يشعر بمعانات الشعب المعيشية، وانتشار الفقر  والبطالة، وانعدام الخدمات، بالإضافة إلى إلى عدم احترام الدستور والحقوق والحريات العامة، واستمرار الاحكام العرفية، واعتقال المعارضين والمحاكمات العسكرية والاعدامات، وغلق الصحف وحل الاحزاب السياسية، هذا بالاضافة إلى تدخل بريطانيا والولايات المتحدة في كل صغيرة وكبيرة بشؤون العراق، وهذا هو الذي دعاه للتفكير في تغيير الوضع القائم، والعمل على تحرير العراق من التبعية البريطانية والامريكية، والخروج من حلف بغداد، وتحرير العملة العراقية المرتبطة بالاسترليني، والتي انهكت الاقتصاد العراقي ابان الحرب العالمية الثانية، بسبب الهبوط المستمر للباون الاسترليني، هذا بالاضافة إلى سيطرة المحتلين البريطانيين على موارد العراق الزراعية، واستخدام وسائل المواصلات العراقية لقواتهم، وتسبب ذلك في فقدان لقمة الخبز الأسود كما اطلق عليه الشعب العراقي آنذاك بسبب كثرة الشوائب فيه بالإضافة إلى الطوابير الطويلة كل صباح للحصول على بضعة ارغفة، وتضاعفت الاسعار بشكل رهيب وافتقد الشعب الملابس والاقمشة الضرورية، وفوق كل ذلك استهتار القوات البريطانية التي احتلت سائر المدن العراقية وعربدتها واعتداءتها المستمرة على المواطنين.

أما ما ذكرته عن العجز في ميزانية الدولة في عهد عبد الكريم قايم عام 1961 فالسبب واضح جداً وهو اندلاع الثورة في كردستان  التي كانت أحد أهم العوامل في اغتيال ثورة 14 تموز المجيدة وتعاون القيادة الكردية مع انقلابيي 8 شباط  الأسود ظننا منهم أن البعثيين والقوميين الشوفينيين حتى النخاع هم أكثر ديمقراطية من عبد الكر يم قاسم وايماناً بحقوق الشعب الكردي، وهو الذي سطر في دستور الثورة المادة الثانية و القائلة [ العرب والاكراد شراكاء بهذا الوطن ]، ولم يمهل الانقلابيون الشعب الكردي سوى 4 اشهر ليشنوا علية حملة عسكرية شعواء لم يشهد لها الشعب الكردي مثيلا من قبل.

 ولقد كنت شاهداً بام عيني تلك الجرائم التي ارتكبها البعثيون في السليمانية حيث كنت اعمل معلماً هناك، وجرى فصلي من الوظيفة، وصدر بحقي امر بالقبض واختفيت بين احضان الشعب الكردي 6 اشهر إلى أن تيسر لي طريقاً للخروج من السليمانية إلى بغداد حيث اعتقلت هناك.

ولاشك أن الشهيد عبد الكريم قاسم كان قد وقع بأخطاء عديدة ذكرتها في مقالي الاخير بذكرى ثورة 14 تموزقبل اسبوع، ولا اود تعداها من جديد، غير أن عبد الكريم قاسم يبقى قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وحريصاً على استقلال العراق، وامينا على ثرواته، ولم يفعل لنفسه ولا لعائلته شيئاً، ولم يمتك داراً، ولا رصيداً في اي بنك، ولم يتخذ من الأبهة والتعظيم سلوكاً، ولم تكن له حماية كما يفعل الرؤساء، بل كان يكتفي بمصاحبته المرافق والسائق فقط، وكانت جماهير الشعب تستقبله بالهتاف، وترفع سيارته عن الأرض بسواعدها حباً وتقديراً، أقول كل هذا وأنا شخصياً اعتقلت في عهده وعذبت اشد التعذيب من قبل جلاد الشعب الكردي الزعيم صديق مصطفى عندما قمنا بالحملة الوطنية من أجل السلم في كردستان والديمقراطية للشعب، وذلك على اثر الانتكاسة التي حصلت للعلاقة بين الحزب الشيوعي والزعيم عبد الكريم قاسم، وجرى اعفائي مع المئات من مدراء المدارس من الادارة إلى التعليم، علماً أنني كنت مديراً منذ عام 1953 , ولا شك أن الطرفين، الحزب الشيوعي، وقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم يتحملان مسؤوليتها بكل تأكيد، وهذا ما دعاني إلى الاستقالة من الحزب في أواخر عام 1962 قبيل وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 وقررت أن اتخذ   لي مساراً مستقلا منذ ذلك الحين.

5ـ في دراسة يشير الدكتور فالح عبدالجبار الى جذور التوتاليتارية، ويقول انها ماكانت موجودة في العهد الملكي، هل هذا الصحيح ان التوتاليتارية هي من نتاج العهد الجمهوري؟


    الجواب
لا اعتقد أن ذلك دقيقاً، فقد سعى النظام الملكي إلى تكوين قاعدة قوية يستند إليها  ولكون المجتمع العراقي كان متخلفاً آنذلك، فقد عمل النظام على تمليك شيوخ القبائل الاراضي الشاسعة، وزجهم في العمل السياسي من خلال ترشحهم بالبرلمان كنواب عن الشعب الذي كان منقاداً لؤلاك الشيوخ الذين كانوا يفوزون بالتزكية دون منافس، فهيهات أن يترشح احداً لمنافسة الشيخ فمصيره الاعتقال وحتى القتل، وقد جرى استخدام العشائر الصراعات السياسية بين النخب الحاكمة، ولذلك فقد كان المثقفون في وادٍ، والنظام في وادٍ آخر.
 
6ـ يقول احد الباحثين ان البريطانيين كان يعملون بسياسة تهميش الشيعة في العهد الملكي هل انت مع هذا الرأي.
الجواب
ليس هذا صحيحاً، والدليل على ذلك أن أول رئيس للوزراء كان شيعياً وهو السيد عبد الرحمن النقيب، والذي شكل اربع وزارات متتالية، لكن السيد طالب النقيب وقف ضد تمليك الامير فيصل، واراد الملك لنفسه، مما دفع المندوب السامي إلى نفيه إلى إيران، فقد كانت بريطانيا لا ترغب بتسليمهم السلطة بعد الثورة التي قادها شيوخ العشائر الشيعية [ ثورة العشرين] وأدى ذلك إلى انكماش الطائفة الشيعية عن السلطة وتوجهت نحو الحياة الاقتصادية والتجارية وكان لهم الدور الأكبر في السوق العراقية .

7ـ كما نعرف ان بعض الشخصيات الكردية كانت موجودة في السلطة العراقية في العهد الملكي ما هو تقيمك لدور الاكراد في الوزارات العراقية ذلك العهد؟

الجواب
لقد ساهمت شخصيات كردية عديدة في السلطة في العهد الملكي، وكان في مقدمتهم السيد سعيد قزاز وزير الداخلية الذي اختاره نوري السعيد، ومن المؤسف لشخصية محترمة كسعيد قزاز أن يتولى هذه المهمة القمعية، وخاصة ضد عمال النفط المضربين في كركوك، وضد المشاركين في الاتفاضة الشعبية عام 1956.

 ومن الشخصيات الكردية البارزة السادة أحمد مختار بابان الذي كان رئيساً للوزارة، وجمال بابان، الذي شغل عدة مناصب وزارية، وآصف اغا، وشريف اغا، وحبيب الطالباني، وجميل الزهاوي، وجلال بابان، ومحمد أمين زكي، وماجد مصطفى، وبابا علي الشيخ محمود،وعبد الوهاب مرجان، وعلي حيدر سليمان، ومحمود بابان، وقد شغل الجميع مناصب وزارية، وكانوا محسوبين على النظام، وكان آخر رئيس وزراء في العهد الملكي حين قيام ثورة 14 تموز هو أحمد مختار بابان.


205
 
حوار حامد الحمداني مع رئيس تحرير صحيفة سفيل الكردية فيصل خليل
القسم الأول

حامد الحمداني                                                                  1/8/2013    
1ـ من المعروف انك كتبت عدة مولفات وابحاث عن تاريخ العراق في  العهد الملكي، و من يقرأ هذه المؤلفات يلاحظ انك تصف ذلك العهد بالتبعية للاستعمار، و لا تشير الى  نقاط ايجابية لهذه الفترة؟ على العكس من بعض المؤرخين يصفون العهد الملكي بالفترة الذهبية لتاريخ العراق فما هي وجة نظرك؟
الجواب:
الحقيقة التي يعرفها كل الكتاب والمؤرخين المعاصرين لذلك العهد أن الحكومة البريطانية كانت قد طلبت من الملك حسين بن علي [ ملك الحجاز ] أبان الحرب العالمية الأولى إن يعلن الثورة على الدولة العثمانية المتحالفة مع المانيا، ووعدته لقاء ذلك بمنح الاستقلال للبلاد العربية و تنصيبه ملكاً على العالم العربي إذا ربحت الحرب.

 لكنها بدلا من تنفيذ وعدها بعد تحقيق النصر في تلك الحرب قامت باعتقاله ونفيه إلى جزيرة شيشل حيث مات هناك منفياً، وتقاسمت العالم العربي بينها وبين حليفتها فرنسا بموجب معاهدة [ سايس بيكو]الاستعمارية، وكان نصيبها العراق وفلسطين وشرق الاردن وسائر منطقة الخليج ومصر والسودان، واحتلت العراق  وحكمته حكماً عسكرياً مباشرا منذ 1915 حتى 1920  لكنها اضطرت تحت ضربات ثورة العشرين إلى تشكيل دولة تحت الانتداب البريطاني، وجاءت بالامير فيصل ابن الملك المغدور الحسين بن علي ونصبته ملكاً على العراق، وشقيقه عبد الله ملكاً على [شرق الاردن] إرضاءاً لهما بعد الجريمة التي اقترفتها بريطانيا بحق والدهما الملك حسين بن علي رحمه الله وكل الذين عاصروا ذلك العهد يعلمون كيف تم تنصيبهما!

 ومع ذلك كان الملك فيصل الأول يعاني أشد المعانات من المندوب السامي البريطاني الذي كان يهدده باستمرار بخلعه، وبحل المجلس التأسيسي إذا لم ينفذ لهم ما يطلبون منه وخاصة معاهدة عام 1920 الاسترقاقية، والتي تستطيع العودة إلى نصها في كتابي صفحات من تاريخ العراق الحديث [الجزء الأول]، وكان الملك فيصل يرضخ لأوامر المندوب السامي مرغماً، وعندما تم تشكيل أول حكومة برئاسة عبد الرحمن النقيب كان لكل وزارة مستشاراً بريطانياً، وهو الموجه الحقيقي لعمل الوزارة.

 صحيح أن الملك فيصل الأول حاول جهده تأسيس دولة حديثة، لكن أرادة المحتلين البريطانيين فوق إرادته، ومع ذلك لم يكونوا راضين عن سياسته، وحتى أن هناك شكوكاً بأسباب وفاته المفاجئ في سوسرا، وكان بصحبته نوري السعيد ورستم حيدر، وقيل أن سبب الوفاة ناتجة عن نوبة قلبية، في حين انه كان يشكو من آلام في بطنه!، وعلى أثر وفاته اختفت مذكراته، وانا شخصيا في كتابي لم اطعن اطلاقا بالملك فيصل الأول، ولا بالملك غازي الذي تولى الملك من بعده والذي اغتيل هو الآخر على يد نوري السعيد وعبد الأله، وبالتواطئ مع زوجته شقيقة عبد الإله، والتي كان قد هجرها.

 أما الملك فيصل الثاني فكان لا حول له ولا قوة، ويتحكم به خاله عبد الإله، وبالامكان الاطلاع على القصة الحقيقية لمقتل الملك غازي الموثقة من قبل اقرب المقربين للملك وهوطبيبه الخاص صائب شوكت، والعديد من المسؤولين الكبار في الدولة.

ومنذ أن تم اغتيال الملك غازي أصبح العراق يدار فعليا من قبل نوري السعيد، والوصي على العرش عبد الإله، والذي كان الملك غازي لا يطيقهما، وكان الوصي عبد الإله ونوري السعيد اداة طيعة بيد السفير البريطاني في بغداد، وجرى حكم البلاد بموجب الأحكام العرفية معظم سنوات تلك الفترة التي سبقت ثورة 14 تموز 1958.

 وتم جر العراق إلى الحرب العالمية الثانية حيث جرى الاحتلال الثاني للعراق من قبل البريطانيين عام 1941، وزج العراق في حلف بغداد،عام 1955، وزجه في الصراعات الدولية، مما أدى إلى تعرض العراق إلى هزات كبيرة وخطيرة كادت تسقط النظام ابان وثبة كانون الثاني 1948، ووثبة تشرين الثاني 1952، ووثبة عام 1956 والتي تحدثت عنها بالتفصيل، ولكي يكون الحكم على الكتاب دقيقاً فلا بد من دراسته بإمعان، وليس قراءة سطحية عابرة، أو تقليب لبضع صفحات، وانا على قناعة بأني قد نقلت الحقيقة للقراء وبكل أمانة وتجرد.

1-   انت كتبت في كتابك عن نوري سعيد  انك تعتبر نورى سعيد عميلا للبريطانيين، ولكن احد المستشرقين يقول ان العراقيين لم يفهموا من شخصية نوري سعيد واهميته في تاريخ العراق؟
الجواب
لست انا وحدي من يقول إن نوري السعيد هو رجل المهمات البريطانية والذي كان البريطانيون يفرضونه حتى على عبد الإله، وكلما كانت لهم مهمة خطيرة يوعزوا إلى عبد الإله بتكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة، فقد تم تكليف نوري السعيد برئاسة الحكومة لتمرير معاهدة 1930 الاسترقاقية، والتي يمكن الاطلاع على نصوصها في الكتاب، كما جرى تكليف نوري السعيد وصالح جبر بتمرير معاهدة بورتسموث بعد انتهاء أمد معاهدة عام 1030 ، والتي جرى توقيعها بالأحرف الأولى في بورتسموث، والتي رفضها الشعب العراقي، ونزلت الجماهير في سائر المدن العراقية في وثبة كانون الثاني المجيدة تطالب بسقوط وزارة صالح جبر- نوري السعيد وسقوط المعاهدة، وقد تصدت قوات الامن لجموع المتظاهرين بما تملكه من سلاح، ولكنها هُزمت بعد معارك ضارية، وبات الشعب سيد الشارع في بغداد وسائر مختلف المدن العراقية، مما اضطر الوصي عبد الإله إلى اقالة الوزارة، والاعلان عن رفض المعاهدة طالما يرفضها الشعب، وكان ذلك الموقف من عبد الإله مجبراً عليه بعد أن كاد النظام يسقط على أيدي الجماهير التي دفعت ثمناً باهضاَ من دمائها، وهرب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج البلاد .

ولم تمضي سوى سنة واحدة حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وعادت تلك الوجوه إلى الواجهة وساءت اوضاع الشعب المعيشية، وجرى التآمر على القضية الفلسطينية، وتم سحب الجيش العراق من فلسطين، وأصدر نوري السعيد مرسوم اسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين تلبية لأوامر اسياده البريطانيين والامريكان، بغية تقوية دويلة اسرائيل الوليدة، وكان ذلك المرسوم جريمة كبرى بحق المواطنين اليهود، وبحق القضية الفلسطينية.
 وهب الشعب العراقي من جديد في وثبته الكبرى عام 1952، وسيطرت الجماهير على شوارع العاصمة وسائر المدن العراقية الأخرى وانهزمت قوات الشرطة، وبات النظام على كف عفريت واضطر عبد الإله أن يجازف بإنزال الجيش العراقي إلى الشوارع في كافة المدن العراقية واصطدمت قوات الجيش بالمتظاهرين، ووقعت اعداد كبيرة من الضحايا، وأتم الجيش اخماد الانتفاضة الشعبية، وجرى اعتقال الألوف من المتظاهرين ومن الشخصيات السياسية المعارضة وزُجهم في المعتقلات، وأحيلوا للمحاكم العرفية، بعد ان جرى اعلان الاحكام العرفية، وتم غلق كافة الصحف، وحل جميع الاحزاب، واصدرت المجالس العرفية العسكرية احكاماً قاسية على المعتقلين وصلت حتى الاعدام، وبالامكان الاطلاع على محاكمات النعساني العسكرية المشهورة في كتاب تاريخ الوزارات العراقية لعبد الرزاق الحسني، وكيف كانت الاحكام تصدر بالجملة.

وعاد نوري السعيد إلى الحكم من جديد لتنفيذ المهة الكبرى التي تمثلت بضم العراق إلى الحلف العسكري الباكستاني التركي الايراني المرتبط ببريطانيا والولايات المتحدة، وتأسيس [حلف بغداد]، وقد استهل نوري السعيد حكمه بحل البرلمان الذي تم انتخابه ولما يمضي عليه سوى شهر واحد بسبب فوز 11 نائباً معارضا وأجرى حملة اعتقالات واسعة شملت الكثير من السياسيين، واغلق كافة الصحف، وحل الاحزاب، واصدر العديد من المراسيم المنافية لمواد الدستور، وذلك تمهيداً لانتخاب برلمان جديد أطلق عليه الشعب بـ [ برلمان التزكية]حيث فاز بالتزكية فيه 116 نائبا دون منافس من مجوع 120 نائبا!!، بعد أن حال نوري السعيد بين المعارضين وبين الترشح للانتخابات، وزج بالعديد منهم في السجون والمعتقلات، وهكذا استطاع نوري السعيد فرض حلف بغداد بالنار والحديد، وانتهاك الدستور وقمع الحريات.

وجاء العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على الشقيقة مصر عام 1956، وهبت الشعوب العربية في مختلف بلدانها لمناصرة الشعب المصري، واستنكار العدوان، وتصدت حكومة نوري السعيد لجماهير الشعب، واقترفت قواته مجازر رهيبة ضد المتظاهرين، واتسم موقف نوري السعيد ونظامه من العدوان  الثلاثي بالتشفي بمصر وبعبد الناصر، مما صاعد من كراهية الشعب لمواقف النظام آنذاك، ويأسه من إصلاحه، وكان ذلك أكبر دافع لوحدة القوى والاحزاب المعارضة للنظام، وانبثاق جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة الوطني البارز كامل الجادرجي، وحزب الاستقلال القومي بزعامة الشيخ محمد مهدي كبة، وحزب البعث بزعامة فوآد الركابي والحزب الشيوعي بزعامة الشهيد سلام عادل، وارتباط الحزب الشيوعي بعلاقات ثنائية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، بعد رفض الاحزاب القومية ضم هذا الحزب لجبهة الاتحاد الوطني، وتم فيما بعد اللقاء بين حركة الضباط الأحرار بزعامة الشهيد عبد الكريم قاسم وجبهة الاتحاد الوطني، والذي مهد السبيل لثورة 14 تموز 1968 بمشاركة شعبية واسعة من جماهير جبهة الاتحاد الوطني مع قوات الجيش والتي حققت النصر على النظام خلال ساعات .  
واستطيع القول أن نوري السعيد وعبد الإله لو احترما الدستور، والحقوق والحريات العامة للشعب، وتجنب القمع وملء السجون بالوطنيين، لما حدثت ثورة 14 تموز، فقد كان النظام يعلن الاحكام العرفية، ويوقف العمل بالدستور، ويصدر المراسيم المخالفة لجوهر الدستور وهذا ما وصفه خير وصف شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري حيث قال في قصيدته المشهورة [ يوم الشهيد]:
وتعطل الدستور عن احكامه        من فرط ما ألوى به الحكامُ
فالوعي بغئٌ والتحرر سُـبةٌ         والهمس جرمٌ والكلام حرامُ
ومـدافع عما يـدين مخـربٌ          ومطـالبٌ بحقـوقه  هــــدامُ


206

ثورة 14 تموز المجيدة 1958، والاسباب التي ادت إلى اغتيالها
على يد انقلابيي 8 شباط وأسيادهم الامبر ياليين

  حامد الحمداني                                                              12/7/2013

لم تكن ثورة الرابع عشر من تموز 1958 انقلاباً عسكرياً كما يحلو لبعض الكتاب ، بل كانت في واقع الأمر ثورة شعبية قادها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم بدعم وإسناد حاسمين من قبل جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 1957 وضمت الحزب الشيوعي ، والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، وحزب البعث القوميين، واللذين رفضا انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني مما اضطر الحزب الشيوعي إلى عقد اتفاق ثنائي معه. فكان الدعم الشعبي الهادر بقيادة جبهة الاتحاد الوطني العامل الحاسم في نجاح الثورة.

التآمر على الثورة:
لكن الحزبين القوميين بقيادة عبد السلام عارف ، الشخص الثاني في قيادة الثورة ما لبثا في التآمر على الثورة وهي في أيامها الأولى ومحاولة اغتصاب السلطة بدعوى إقامة الوحدة الفورية مع العربية المتحدة آنذاك بقيادة عبد الناصر، والتي أثبت التاريخ كذبها وتنكر أصحابها للوحدة المزعومة بعد انقلابهم المشؤوم في 8 شباط 1963.

ولقد وقفت الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني بصلابة دفاعاً عن الثورة ومنجزاتها، وكان موقفها آنذاك أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان .

لكن الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى ذلك بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل.

فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس، ومن يتحمل مسؤوليته؟ وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف ؟
في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه .

انجازات الثورة:
لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني وكان في مقدمة تلك الإنجازات :
1 ـ الخروج من حلف بغداد ،وتحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية.
2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير العملة العراقية .
3ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين الذين يشكلون 70% من نفوس العراق وإنقاذهم من طغيان الإقطاع وكان القانون يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى.
4 ـ إصدار القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق النفطية من شركات النفط ، وتأسيس شركة النفط الوطنية من اجل استثمار الثروة النفطية وطنيا.
5 ـ السماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية في بادئ الأم، وإطلاق حرية الصحافة ، وحرية تشكيل المنظمات والنقابات منذ انبثاق الثورة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم مسألة تأليف الأحزاب السياسية .

ولم يكن عبد الكريم قاسم شوفينياً، بل كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة، وضم العديد منهم في حكومته.

فالطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني، وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل تناقضاً أساسياً.

كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم  قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة ، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963 ، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.

فلماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟

وإنصافاً للحقيقة التي عايشت أحداثها بكل تفاصيلها بحكم ارتباطي بالحزب الشيوعي آنذاك أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء يتحملون مسؤولية ما حدث، واليوم وبعد مضي 50 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد.

لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، مما أدى إلى فقدان الثقة بين الطرفين.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من اليسار وليس من جانب القوى اليمينية التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً.

 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبنينا.

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لدراسة وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك إذ من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله!!.

مسؤولية الزعيم الراحل:

ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني، واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة والتي يمكن أن نلخصها بالتالي:

1 ـ  لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل هو مسؤوليته الكاملة.

2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]  وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها بحيث تحولت الشكوك لدى الزعيم إلى القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة.

 ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها بدلاً من إصلاحها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم .

  لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح، حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب، مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963 .

3 ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القضية الكردية وقيادتها المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني، بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع تلك القيادة، كما أن القيادة الكردية قد أخطأت في إيصال الخلافات مع عبد الكريم قاسم إلى حمل السلاح و  الصراع المسلح، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963، على الرغم من أنه لم يكن يحمل أي أفكار شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي، وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، يؤكد هذا الموقف لديه، في حين أن القوى القومية التي نفذت انقلاب 8 شباط كانت غارقة في شوفينيتها وكراهيتها للشعب الكردي بحيث لم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية سوى أقل من أربعة أشهر، على الرغم من تحالفها مع الانقلابيين قبل وقوع الانقلاب، منزلة الخراب والدمار بكردستان بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية .

4 ـ لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة ،الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية سلبت السلطة من الإقطاعيين، دعائم الإمبريالية، ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية، وقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب .

الصراع مع شركات النفط:

5 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً .

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة  والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.

لقد كان على عبد الكريم قاسم إن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 63 .

6 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم :
كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد  والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.

لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.

لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات ]  و[سياسة عفا الله عما سلف ]، وأطلق سراح المتآمرين الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية والمحكومين بالإعدام، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس ]، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها،  وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم،  وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة.

تدهور العلاقة بين السلطة والقيادة الكردية:  
كانت ثالثة الأثافي في تدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وانقسام القوى الوطنية، حدوث الخلافات العميقة بين قيادة عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مصطفى البارزاني، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح، واستخدام السلطة للجيش في حسم ذلك الصراع.

بدأت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني  والسلطة بالتدهور عام 1961، عندما هاجمت صحيفة الحزب [ خه بات ] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد ، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد واحترام الحياة الحزبية وحرية الصحافة.
كان الرد من قِبل عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام .

وفي 20 تموز 961 ، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تضمنت العديد المطالب. لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد بقيادة اثنان من كبار الإقطاعيين هما كل من [رشيد لولان ] و[ عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها شاه إيران  زعزعة النظام الجديد في العراق وإسقاطه .

وهكذا اتخذ الحزب الديمقراطي الكردستاني من حشود القوات العراقية لقمع تمرد عباس مامند ورشيد لولان ورفاقهما ذريعة لحمل السلاح ومقاتلة القوات العراقية، فقد استهل صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 961 ، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون البيشمركة  باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة .

كان على القيادة الكردية أن تقدر دوافع تلك الحركة، والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، وعدم تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية وأذنابها سواء كانوا عرباً كما هي الحال مع حزب البعث وحلفائه القوميين، أو كانوا من الكرد، كما هو الحال مع تمرد الاقطاعيين رشيد لولان وعباس مامند.

كما أن عبد الكريم قاسم فضل هو الآخر اللجوء إلى استخدام القوة، ورفض  الحوار وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول الصائبة للقضية الكردية حسب ما نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المؤقت.
 ظن الزعيم عبد الكريم قاسم أن اللجوء إلى السلاح سينهي الأزمة خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963.
لقد رد الزعيم عبد الكريم قاسم  بدفع المزيد من قطعات الجيش في 9 أيلول 961، لضرب الحركة الكردية مستخدمأً كافة الأسلحة، والطائرات، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان.

ولم تجدِ نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، وإيجاد حل سلمي للقضية الكردية، حيث شن الحزب الشيوعي حملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار [ السلم في كردستان ،والديمقراطية للعراق ]، وقد أثارت تلك الحملة غضب الزعيم عبد الكريم قاسم على الحزب، وتعرض المئات من رفاق الحزب للاعتقال والتعذيب وحتى السجن وكنت أحدهم، لكن تلك الجهود باءت بالفشل، ولم تلقَ الاستجابة من الطرفين، واستمرت الحرب بينهما حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.

ومن المؤسف أن يقع قادة الحركة الكردية في خطأ جسيم آخر، عندما وضعوا أيديهم بأيدي انقلابيي شباط 963 ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية المشروعة على أيدي أولئك القوميين الفاشيين والمتعصبين. لقد كان موقفهم هذا أقل ما يقال عنه أنه ينم عن جهل بطبيعة حزب البعث، والقوى القومية المتعصبة المتحالفة معه، الذين لم يكّنوا يوماً المودة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.

 وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط ، حتى بادر الانقلابيون في 10 حزيران 1963 إلى شن حملة عسكرية هوجاء على الشعب الكردي، لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي .

لقد تمزقت الوحدة الوطنية، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها، ومع السلطة  جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء . ولاشك أن عبد الكريم قاسم يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تلك الأخطاء، لأنه كان على قمة السلطة، وكان بمقدوره أن يفعل الكثير من أجل إعادة اللحمة للصف الوطني، ومعالجة المشاكل، والتناقضات التي نشأت، والتي يمكن أن تنشأ مستقبلاً ، بروح من الود والتفاهم، والمصلحة العامة لشعبنا ووطننا، والتحلي بإنكار الذات،  وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح .
كان بمقدوره أن يعمل على إنهاء فترة الانتقال، ويجري انتخاب المجلس التأسيسي، وسن الدستور الدائم للبلاد،  وإرساء الحكم على أسس ديمقراطية صلبه، ولو فعل ذلك لتجنّب، وجنّب الشعب العراقي كل تلك الويلات والمصائب والمصير المظلم الذي حلّ بالبلاد على أيدي انقلابيي 8 شباط 1963، وهو لو شاء أن يؤسس له حزباً ويخوض الانتخابات لفاز فيها بكل تأكيد.

إن الشهيد عبد الكريم قاسم، رغم كل أخطائه، يبقى شامخاً كقائد وطني، معادى للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير.



207

كارثة حرب 5 حزيران 1967 ومسؤولية الانظمة العربية
الاسباب والنتائج لتلك الكارثة

حامد الحمداني                                                   3/6/2013


في شهر أيار من عام 1967 بلغت أوضاع المنطقة العربية غاية الخطورة، بعد أن تصاعدت لهجة التهديد، والتهديد المضاد بين إسرائيل من جهة ومصروسوريا من جهة أخرى، بعد إقدام اسرائيل على تحويل مجرى نهر الأردن بغية اغتصاب المياه العربية، مما دفع الرئيس عبد الناصر إلى اتخاذ إجراءات مضادة  تمثلت في غلق خليج العقبة بوجه الملاحة الإسرائيلية.

إثر ذلك تصاعد الصراع بين الدول العربية وإسرائيل، وبوجه خاص بين الرئيس عبد الناصر، وقادة إسرائيل، ووصل الأمر بعبد الناصر إلى الطلب من قوات الطوارئ الدولية المرابطة على الحدود بين القوات المصرية والإسرائيلية  أن تنسحب من المنطقة.

لقد كان واضحاً في ذلك الوقت أن الصراع يوشك أن ينفجر في أي لحظة، وأن الحرب بين العرب وإسرائيل قد أصبحت أمراً لا مفر منه، وكانت الاستعدادات العسكرية الاسرائيلية تجري على مقدم وساق، مدعومة من قبل الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الغربيين، وفي ذهنها أن الفرصة باتت مؤاتية للتمدد نحو الاراضي العربية مستغلة ضعف وهشاشة الانظمة العربية.

 وبسبب تصاعد التوتر بين الطرفين سارع الرئيس المصري عبد الناصر إلى دعوة قادة سوريا والاردن على عجل إلى أجراء تنسيق عسكري فيما بينهم لمواجهة التحديات العسكرية الإسرائيلية.

وسارع مجلس الأمن إلى عقد جلسة خاصة لبحث الأوضاع المتفجرة بين العرب وإسرائيل، وأصدر في ختام اجتماعه بياناً دعا فيه الأطراف المعنية بالصراع إلى التزام جانب الهدوء، وعدم تأزيم الموقف، فقد كان الوضع يوشك على الانفجار في أية لحظة، ولاسيما وأن إسرائيل كانت قد أعلنت التعبئة العامة لقواتها المسلحة.

وفي الوقت نفسه بعث الرئيس الأمريكي [ جونسون ] برسالة إلى عبد الناصر يطلب منه ضبط النفس محذراً إياه من مغبة شن الحرب، ومهدداً بعواقب وخيمة.

وفي ظل تلك الظروف البالغة الخطورة، طلب الاتحاد السوفيتي من الرئيس عبد الناصر بان لا تبدأ مصر الحرب، ولكن ينبغي اتخاذ أقصى ما يمكن من إجراءات الحذر، واليقظة للرد على أي هجوم إسرائيلي مفاجئ.

لكن قيادة الجيش المصري التي كان على رأسها المشير[عبد الحكيم عامر] لم تكن تعي خطورة الوضع، وضرورة الاستعداد التام، وجعل القوات المسلحة المصرية في أقصى درجات التأهب في كل لحظة، وخاصة القوة الجوية، التي تشكل الغطاء الحيوي للقوات المصرية في صحراء سيناء المكشوفة .

 كان من المفروض أن تكون نصف الطائرات المصرية في الجو، ومهيأة لكل طارئ، يوم الرابع من حزيران  بعد التحذير الذي وجهه الاتحاد السوفيتي إلى مصر من أن جيش إسرائيل قد بلغ أقصى درجات التأهب.

لكن شيئاً من هذا لم يحدث، حيث فاجأت الطائرات الإسرائيلية صباح الخامس من حزيران المطارات العسكرية المصرية، ودمرت معظم مدرجاتها، والطائرات الحربية الجاثمة عليها، في الساعات الأولى من ذلك اليوم، مما أفقد القوات المصرية غطائها الجوي في صحراء سيناء، وتركها مكشوفة تحت رحمة القصف الجوي الإسرائيلي المتواصل، وبكل ما أوتيت من قوة، منزلة الخسائر الفادحة بها، وممهدة الطريق أمام قواتها المدرعة للاندفاع نحو قناة السويس، حيث تم لها السيطرة على كامل صحراء سيناء خلال خمسة أيام.

ولما ضمنت إسرائيل في اليوم الأول سيطرتها الجوية على صحراء سيناء وتدميرها للقوات المصرية، وجهت جهدها الجوي إلى الجبهة السورية والأردنية، واستطاعت إسرائيل، بسبب عدم تكافؤ القوى، أن تنزل خسائر جسيمة بالقوات السورية والأردنية، وتمكنت من الاستيلاء على كامل الضفة الغربية، وأجزاء من الأردن، وهضبة الجولان السورية، ذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى لسوريا، خلال تلك الحرب الخاطفة، التي يحلو لقادة إسرائيل أن يسمونها { حرب الأيام الستة }!!استهزاءاً بالجيوش والانظمة العربية.

وبكل وقاحة أعلنت إسرائيل، أن صحراء سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية من فلسطين هي أرض إسرائيلية، وأخذت تحكّم دفاعاتها على هضبة الجولان السورية، وعلى امتداد قناة السويس، وقامت بتشييد خط دفاعي على طول القناة سمته [خط بارليف] نسبة إلى الجنرال بارليف الذي قاد القوات الاسرائيلية في سيناء.

ولم يكن العراق بما يمتلكه من قوات عسكرية كبيرة نسبيا مهيأً ولا مستعدا لتلك الحرب، فقد كانت ثلثي قواته العسكرية مشغولة في الحرب في كردستان، وبعيدة جداً عن ساحة المعارك، التي تزيد على [1000كم]، ولم يكن لدى العراق سوى اللواء الثامن الآلي قريباً من الساحة، عند الحدود السورية الأردنية، حيث أوعز لها رئيس الجمهورية آنذاك عبد الرحمن عارف بالتحرك إلى ساحة الحرب بأسلوب استعراضي لم يراعِ فيه جانب الأمان لقواته المتقدمة، مما مكّنَ اسرائيل من توجيه طائراتها لقصف القوات العراقية المتقدمة نحو سوريا.

لقد أثبتت تلك الحرب أن البونَ كان شاسعاً بين العرب وإسرائيل فالحكومات العربية كانت على درجة خطيرة من التخلف يسودها الصراعات بين مختلف الأجنحة المتصارعة، والعسكرية منها بوجه خاص حيث هيمن الضباط على معظم الأنظمة العربية، وعمت الفوضى في البلاد وساد التخلف كل جوانب الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، في حين كان الإسرائيليون قد هيأوا أنفسهم للحرب، وحولوا كل جهودهم وقواهم لتعزيز جيشهم، وأصبحت إسرائيل مسلحة حتى الأسنان، وبأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الحربية، ويقودها أناس يعرفون ما يفعلون، أفليس عاراً على الدول العربية التي تعد إمكانياتها المادية والبشرية عشرات أضعاف إسرائيل أن تستطيع إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية خلال ستة أيام؟

واليوم ماذا تغير في المشهد العربي الراهن؟
هل تعلّم الحكام العرب بعد أكثر من الأربعة عقود على حصول تلك الكارثة شيئاً من دروس تلك الحرب وتلك الهزيمة الشنعاء؟
إن ما يحزن المواطن العربي أشد الحزن أن أوضاعنا العربية قد تحولت من سيئ إلى أسوأ، و تفككت العلاقات العربية، وتحول الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع بين الأنظمة العربية، وسلك بعض الحكام سلوكاً عدوانياً تجاه بعضهم البعض.

رحل عبد الناصر عام 1971 ليتولى بعده الحكم في مصر أنور السادات ويشن حرب تحريك ضد إسرائيل، ثم ليبادر في اليوم الثاني للحرب للاتصال بالولايات المتحدة ومن خلالها بإسرائيل ممهداً السبيل لعقد صلح منفرد معها وإخراج مصر من معادلة التوازن مع إسرائيل مما أصبح موقف العرب في اضعف حالاته وشجع على تشبث حكام إسرائيل بالاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة .

أما صدام حسين فقد شن الحرب على إيران عام 1980 نيابة عن الولايات المتحدة، تلك الحرب التي دامت 8 سنوات، وجلبت الويلات والكوارث على الشعب العراقي، وتدمير بنيته الاقتصادية والاجتماعية، واستنزاف كافة موارده ومدخراته.

 ولم يكد ينته من حرب إيران حتى بادر إلى غزو الكويت واحتلالها ونتيجة لرفضه الانسحاب منها رغم كل النصائح التي قُدمت له، زج العراق في حرب كارثية أشد خطورة وأفظع مع الولايات المتحدة و30 دولة أخرى انتهت باندحار القوات العراقية ونشوب انتفاضة الأول من آذار 1991التي جرى قمعها بكل ما يملك صدام حسين من الأسلحة المدمرة ليطفئ غليل غضبه لاندحار قواته بأبناء شعبه، حاصداً أرواح مئات الألوف من المواطنين العراقيين.

 وبين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي اندلعت الحرب، وقاتل العربي أخاه العربي، لتنتهي الحرب بسيطرة الرئيس اليمني الشمالي علي صالح على اليمن الجنوبي، والتنكيل بكل من وقف ضد نظام حكمه.

 وانطلقت حرب شعواء بين الأردن والفلسطينيين في أيلول الدامي 1971، وذهب ضحية تلك الحرب المئات بل الألوف من الفلسطينيين وقوات الجيش الأردني، وقتل الأخ العربي أخاه مرة أخرى.

و في لبنان انطلقت حرب أهلية عام 1975استمرت 15 عاماً جاءت على الأخضر واليابس، وحرب أخرى بين نظام البعث العراقي ونظام البعث السوري على الساحة اللبنانية المنكوبة، ودفع الشعب اللبناني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه وممتلكاته، وجرى تخريب البنية التحية للبنان، وتشرد مئات الألوف من الشعب اللبناني في مختلف أرجاء العالم هرباً من الصواريخ المنطلقة فوق رؤوسهم والنجاة بأرواحهم.

 وبين الجزائر والمغرب جرت حرب على ساحة الصحراء الغربية، وحرب على الحدود بين مصر وليبيا، وحرب أهلية في السودان حصدت أرواح أكثر من مليوني مواطن، وحرب جديدة فرضها الدكتاتور صدام حسين على العراق مع أعتا قوة عسكرية على وجه الأرض انتهت بسقوط نظامه واحتلال العراق في 9 نيسان 2003.

وهكذا نسي الحكام العرب أخطار أكبر قاعدة متقدمة للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط والتي جرى أقامتها في نقطة التقاء المشرق العربي بالمغرب العربي [ فلسطين ] لتكون السيف المسلط على رقاب العرب، ولتحمي المصالح الأمريكية في المنطقة، وفي المقدمة من ذلك مصالحها النفطية، وقد جرى تسليح إسرائيل بأحدث الأسلحة الأمريكية، بما فيها الذرية لتصبح أقوى من كل الدول العربية مجتمعة.

وراح الحكام العرب يقدمون التنازل تلو التنازل لحكام إسرائيل بينما يدير لهم الإسرائيليون ظهورهم، واعترفوا بدولتهم، وأقاموا العلاقات معها في السر والعلن، وقدموا المشروع تلو المشروع للصلح معها دون أن تلقى كل تلك المشاريع آذاناً صاغية من حكام إسرائيل، وما تزال إسرائيل تحتل الجولان السورية والضفة الغربية إلى يومنا هذا رافضة تنفيذ كل قرارات الامم المتحدة

في المقابل تفككت الجامعة العربية، وأصبح التضامن العربي في خبر كان،  وظهرت الدعوات لحل الجامعة بدل العمل على خلق تكتل اقتصادي عربي يمتلك كل مقومات النجاح ليكون نواتاً لاتحاد عربي ديمقراطي على غرار الاتحاد الأوربي الذي لا يتمتع شعوبه بمثل الروابط التي تجمع العالم العربي، حيث الأرض المشتركة واللغة المشتركة والتاريخ المشترك والعادات والتقاليد المشتركة.
لكن أين لنا بتحقيق هذه الآمال المشتركة ما دام العالم العربي يحكمه أنظمة دكتاتورية متخلفة لا تعترف بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتضطهد شعوبها بكل ما تملك من وسائل القمع والإرهاب؟



208
مسؤولية الاحزاب الدينية عن تصاعد النشاط الإرهابي
الذي بات يهدد بحرب أهلية طائفية


حامد الحمداني                                                    21/5/2013

لم يكن حلم الشعب العراقي بإسقاط نظام الطغيان الصدامي الفاشي لكي يجد البديل لذلك النظام المتوحش طغيان جديد اشد وحشية أكثر خطورة على مستقبل العراق ومواطنيه، طغيان يتخذ من الدين الإسلامي، ومن الطائفية البغيضة ستاراً له لتنفيذ أجندة سياسية تهدف إلى الهيمنة على مقدرات البلاد، وإعادة عقارب التاريخ إلى ما قبل 14 قرناً من الزمان.

 ويتخذ أصحاب هذا التوجه من الدين وسيلة للتدخل في كل شؤون المواطنين الشخصية فارضين أجندتهم بالعنف والقوة التي وصلت إلى حد القتل الجماعي الوحشي البشع من خلال السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والاغتيالات والاختطاف والاغتصاب والتعذيب الذي تمارسه العناصر التي تحسب نفسها على الطائفة السنية.

كما تمارس الأحزاب الدينية المحسوبة على الطائفة الشيعية الاعتقالات العشوائية والتعذيب الجسدي والنفسي بحق المعتقلين سواء جرى ذلك من قبل الأجهزة الرسمية التي تهيمن عليها تلك الأحزاب، أو من قبل الأحزاب نفسها خارج سلطة القانون والدولة كما هو جاري الآن من قبل[منظمة بدر] و[جيش المهدي ]، وعناصر[ حزب ثأر الله ] و[حزب الله ] وغيرها من التنظيمات الظلامية الأخرى، ومن المفجع أن تستخدم هذه الأحزاب والمنظمات اسم الله جل شأنه، ستاراً لجرائمها البشعة من الاغتيالات التي استشرت في طول البلاد وعرضها، ومن خلال سجونها ومحاكمها اللا شرعية واللا قانونية، فارضة نفسها بقوة السلاح على جماهير شعبنا الذي نكب بنظام الطغيان البعثي الفاشي فيما مضى، والذي يُنكب اليوم على أيدي تجار الإسلام السياسي الذي نشهده على المكشوف في مختلف المدن العراقية.

ولقد وجد أنصار نظام الطغيان الصدامي ضالتهم المنشودة في لبس رداء الإسلام والاستعانة بالعناصر السلفية المجرمة القادمة من وراء الحدود والتي كان قد استقدم الكثير منها الطاغية صدام وحزبه الفاشي قبل الحرب التي أطاحت بنظامه العفن استعداداً لما سماه الجلاد بمعركة الحواسم مع القوات الأمريكية والبريطانية التي كانت تستعد لغزو العراق وإسقاط النظام، لكي تمارس أنشطتها الإجرامية الانتحارية البشعة، والقتل الجماعي، حيث أوقعت ولا تزال توقع كل يوم العشرات والمئات من الضحايا البريئة بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من الجرحى الذين أصيب الكثير منهم بالعوق الجسماني مدى الحياة.

إن العناصر التي تسمي نفسها بالمقاومة كذباً وزوراً هي العناصر الصدامية التي تستهدف استعادة السلطة، والفردوس المفقود الذي كانت تتنعم به قبل سقوط النظام والتي تمول نشاطاتها الإرهابية من الأموال التي سرقها نظام صدام طيلة 35 عاماً من حكمه البغيض، والتي تقدر بأكثر من 80 مليار دولار، وقد دربها النظام المقبور على استخدام مختلف أنواع الأسلحة واكتسبت الخبرة القتالية من خلال الحروب العبثية المجرمة التي شنها النظام، الداخلية منها والخارجية، وتركت القوات الأمريكية والبريطانية أسلحة الجيش العراقي المقهور الهائلة سائبة دون حماية أو رقابة ليغرف منها هؤلاء الإرهابيون ويستخدمونها في أفعالهم الإجرامية الوحشية ضد أبناء شعبنا المظلوم، الذي خرج من كابوس ليجد نفسه في كابوس اشد ظلاماً وأقسى.

ومن العجيب أن نجد رجال الدين هؤلاء الذين ينظمون أنفسهم اليوم تحت عباءة  [هيئة علماء المسلمين] صفاً واحداً إلى جانب القوى الإرهابية التي تطلق عليها أسم [ المقاومة الشريفة ]!! ويدافعون عنها بكل صراحة في المحافل الدولية، وهم الذين سكتوا سكوت الأموات عن جرائم صدام حسين بحق شعبه، والذي ملأ ارض العراق بالقبور الجماعية.

لماذا لم ينبسوا بحرف واحد احتجاجاً على أفعال الطاغية عندما قطّعَ الجلاد جسد الشهيد [عبد العزيز البدري] والعديد العديد من رجال الدين الشرفاء الذين رفضوا أن يكونوا أداة بيد الجلاد، يسوّقون جرائمه، ويسبّحون بإسمه من على منابر جوامعهم، داعين الله أن يحفظ الطاغية لكي يستمر بممارسة جرائمه البشعة .

ولقد كان موقف الأغلبية منهم أكثر من هذا، حيث قبلوا ارتباط أنفسهم بمخابرات صدام، يتلقّون منها خطبهم، ويقدّمون التقارير عن المؤمنين الشرفاء، والتي أودت بحياة الكثيرين منهم في أقبية المخابرات، والأجهزة الأمنية، ومحاكم الثورة وأحكامها المقررة سلفاً من قبل الجلاد، ومثارمهِ البشعة التي تفوق كل خيال.

لماذا سكتم يا رجال الدين الوطنيين النجباء!! المدافعين اليوم عن الإرهابيين صراحة، وعن الجرائم الوحشية التي يندى لها جبين الإنسانية والتي يرتكبونها كل يوم؟
 أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس؟
 أم أنكم كنتم جبناء فعلاً وآثرتم مسايرة الجلاد؟
 أم أنكم تعللون السكوت بتفاسير من عندكم ما انزل الله بها من سلطان؟

أيها السادة أن كنتم حقاً وصدقاً مؤمنين أوفياء لله ودينه شيعة كنتم أم سنة التزموا بدينكم، ووفروا جهدكم للدين المنزه من المصالح الحزبية والشخصية، واخدموا أبناء شعبكم بما يعزز الوحدة الوطنية والدعوة للمحبة والتسامح، ونبذ التعصب الديني والطائفي والقومي، وإلا فانزعوا جببكم وعمائمكم، واركبوا قطار السياسة ولا تخادعون الله ورسوله!!!

إن الشعب العراقي اليوم يمر بمحنة لا مثيل لها حيث الإرهاب الطاغي على الجبهتين السنية والشيعية، فالإرهاب واحد وإن تعددت الأوجه والمجازر ترتكب أمام سمع وبصر الجميع، ومن مختلف المجموعات، ويبقى شعبنا المظلوم يقدم كل يوم من الضحايا دون أي مبرر سوى الرغبة الجامحة للهيمنة على السلطة، وبات الإنسان العراقي الذي يخرج من بيته يشك في عودته للبيت سالماً، بل الأفضع من هذا وذاك أصبح المواطن لا يأتمن على حياته وحياة عائلته وهو في بيته، بل وفي سرير نومه، فهل هذا ما كان يحلم به شعبنا المنكوب بحكامه الجدد؟

إن الطريق الوحيد لإنقاذ الشعب من هذه المحنة يتمثل في قيام نظام حكم ديمقراطي علماني يسوده القانون، ويتساوى أمامه المواطنون كافة في الحقوق والواجبات، ويمتلكون حرياتهم الشخصية التي نص على صيانتها القانون دون أي تدخل، ومن أي جهة كانت، فلا يجوز أن يفرض نفر متخلف أجندته على الآخرين فالإنسان حر في دينه، وحر في فكره، وحر في تصرفاته الشخصية التي لا تتجاوز حرية الآخرين.

إن الشعب العراقي، وقد ضاقت به الحال، ولم يعد يتحمل المزيد، يطمح أن يسود العراق حكماً ديمقراطياً علمانياً، وأن ُيؤسسُ جيشا وشرطة وأجهزة أمنية بعيدة عن هيمنة الأحزاب السياسية الشيعية والسنية، يحترمون حقوق وحريات الإنسان العراقي، ويحفظون كرامته، ويصونون سيادة واستقلال العراق.


209

ليكن عيد الأول من أيار حافزاً للطبقة العاملة للنضال من أجل عالم أفضل يحقق العدالة الاجتماعية

حامد الحمداني                                                    1/5/2013  
 

 يحل علينا اليوم عيد الطبقة العاملة في الأول من أيار في ظل ظروف بالغة التعقيد تجتاح النظام العالمي الرأسمالي، حيث تتوالى ألازمات الاقتصادية المتلاحقة في دول أوربا والولايات المتحدة واليابان والأنظمة السائرة في فلكها، بعد تلك البهجة التي سادت العالم الرأسمالي لدى انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، والذي اعتبره فوكوياما نهاية الاشتراكية، وانتصار الرأسمالية النهائي، وقد تسبب ذلك الحدث الجلل خيبة أمل كبيرة للبشرية التي كانت تحلم بعصر الحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة، بما يحقق العدالة الاجتماعية بين بني البشر.  
                                                                                          
فقد أحدث سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتكاسة كبرى ليس فقط بالنسبة لشعوب هذه البلدان وحلمهم في قيام عالم جديد قائم على أسس من العدالة الاجتماعية، وإنهاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان، بل أن الكارثة قد حلت بالعالم اجمع، بعد أن اصبحت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة القطب الأوحد والأقوى في العالم، وتحول هذا العالم في عهد العولمة إلى سوق مفتوح، وتداخل واسع النطاق للرأسمال العالمي والشركات المتعددة الجنسيات، ولاسيما بعد حصول هذا التطور السريع والكبير لوسائل الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ولم تعد الحدود تقف حائلاً أمام تداخل وهيمنة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

لقد أدى هذا التغيير الدرامي المتسارع إلى اشتداد الضغوط التي تمارسها الرأسمالية العالمية على الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم بعد أن فقدت سندها القوي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، واشتداد قبضة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الطبقة العاملة، واغتصاب حقوقها المشروعة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان العامل الذي هو العنصر الحاسم في خلق كل هذه المنجزات التي تشهدها البشرية في عالم اليوم، ولا تحصل لقاء جهدها الكبير سوى الفُتاة، في حين تتكدس مئات المليارات في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية والكارتيلات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى.

لقد باتت الرأسمالية العالمية أكثر جشعاً في استغلال جهد الطبقة العاملة، وزاد من هذا الاستغلال التطور الهائل في وسائل الإنتاج ودخول عصر الأتمة الذي حول العامل إلى آلة صماء لا تستطيع الفكاك من متابعة العمل ولو للحظة واحدة، حيث يفرض هذا التطور أن يسير العمل دون توقف في كل مراحل الإنتاج، فأي تأخر في أي من مراحل الإنتاج يؤدي إلى تأخر المراحل التالية، وهكذا تصبح الآلة هي التي تتحكم في عمل الانسان، ولذلك فلابد للعامل أن يتحول في نهاية المطاف إلى جزء من هذه الآلة حيث يستنزف أقصى طاقته في هذا العمل المستمر دون توقف.

إن هذا التطور في وسائل الإنتاج، وتصاعد الاستغلال لجهد الطبقة العاملة، وتصاعد الضغوط التي يفرضها طبيعة العمل لابد أن يفرض على الطبقة العاملة أن تغير أساليب نضالها المشترك كماً ونوعاً، وذلك من خلال تنظيماتها السياسية والنقابية، لكي تستطيع فرض شروط عمل أفضل، وأجور تتناسب والجهد المبذول، والذي يحقق للطبقة العاملة مستوى من الحياة المعيشية تليق بالإنسان على المدى القريب، والسعي الجاد والمتواصل من خلال تنظيماتها الحزبية المسترشدة بالماركسية، وتطويرها بما يتلاءم والعصر الحالي، وخلق الظروف التي تمكن في نهاية المطاف نضال الطبقة العاملة من أجل تغيير حقيقي لعلاقات الإنتاج، وهو الذي يمثل الهدف الأبعد لنضال الطبقة العاملة، وهو الحلم الذي ناضلت من اجله البشرية جمعاء.

إن فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لن تكون نهاية المطاف أبداً، والمجتمع الإنساني سبق أن مر بمراحل متعددة، وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى قد يصاحبه أخطاء وانتكاسات، كما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكن هذه التجربة والتجارب التي سبقتها والتي ستليها ستعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية كيف تستفيد من تجاربها وتتجاوز أخطائها، والسير الحثيث من أجل خلق عالم جديد، وعلاقات إنتاج جديدة تحقق حلم الطبقة العاملة وسائر المجتمع الإنساني بحياة رغيدة خالية من الاستغلال واستعباد رأس المال.

أن الماركسية بما قدمته لنضال الطبقة العاملة وإنجازاتها كان كبيراً جداً، ولولا الأخطاء التي وقع فيها قادة الاتحاد السوفيتي الذين حولوا النظام الاشتراكي الذي سعى مؤسس الدولة لنين لبنائه ليكون نموذج للعالم اجمع، إلى رأسمالية الدولة، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق الديمقراطية للشعب السوفيتي وشعوب المعسكر الاشتراكي، لكان عالم اليوم غير هذا العالم الذي بات فيه الرأسمال العالمي يتحكم بمصير الشعوب. لكن هذا التحكم لن يستمر إلا إلى حين.

  ستبقى الماركسية هي السبيل الذي يهدي البشرية لتغيير الواقع الذي تعيشه اليوم، وتعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية أساليب النضال لتحقيق حلم البشرية في مجتمع عادل لا مكان فيه للاستغلال، مجتمع لا مكان فيه للفقر والعوز والبطالة، مجتمع تتحقق في ظله كامل حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والعيش الرغيد.

 إن منظري الرأسمالية مهما حاولوا تلميع وجهها لن يفلحوا أبداً في مسعاهم لسبب بسيط هو كون النظام الرأسمالي قائم في الأساس على استغلال الإنسان لجهد أخيه الانسان، فهو نظام تنتفي فيه العدالة، وستكون الرأسمالية في نهاية المطاف عاجزة عن تقديم حل حقيقي وإنساني للتناقض الحاصل بين المستغِلين ( بكسر الغاء) والمستغَلين (بفتح الغاء) إلا من خلال نظام بديل يؤمن للإنسان العدالة الاجتماعية الحقيقية الخالية من الاستغلال والاستعباد.  
              
تحية للطبقة العاملة وشغيلة الفكر بعيد الطبقة العاملة.
ليكن هذا اليوم المجيد حافزاً لنضال الطبقة العاملة من أجل خلق عالم أفضل.
المجد لشهداء الطبقة العاملة وشغيلة الفكر في العالم أجمع ممن دفعوا حياتهم ثمناً. لتحقيق حلم البشرية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

حامد الحمداني



210
في الذكرى العاشرة للغزو الأمريكي للعراق

الأهداف الأمريكية الحقيقية لغزو العراق
حامد الحمداني                                              21/3/2013


بعد النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية عام 1991، وبعد انهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وما تبع ذلك من فقدان التوازن الدولي، وتحوله نحو سيادة القطب الواحد الأمريكي، بدأت تتكشف الاستراتيجية الأمريكية الهادفة للهيمنة المطلقة على العالم تبدو بأجلى مظاهرها، وتميّزت هذه الاستراتيجية بتقديس السيطرة التكنولوجية التي تتمتع بها  كوسيلة فعّالة لتحقيق أهدافها.

وجاءت تحركات الولايات المتحدة الأمريكية في الإعداد لحرب الخليج الثالثة ضد العراق كمرحلة أولى ضمن هذا السياق، وكلحظة تجسيدٍ لذلك الانحراف الأمريكي الهادف لتحقيق السيطرة الكلية على مصير العالم، ومصير البشرية، متذرعة بضرورة العمل بأقصى سرعة ضد المجمع الصناعي العسكري العراقي الذي سعت لتضخيمه، وحذرت من برامجه المتقدمة في مجال صناعة أسلحة الدمار الشامل، النووي والكيماوي والبيولوجي، وسعت لإقناع حلفائها الغربيين بأن العمل العسكري المباشر هو السبيل الوحيد للتخلص من هذا الخطر الماثل علماً أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين هم من ساعدوا نظام الدكتاتور العراقي في هذا المجال، ومدوه بكل الخبرات والوسائل أبان حرب الخليج الأولى التي خاضها النظام ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، والتي امتدت لثمانية أعوام من دون أي مبرر، ودفع الشعب العراقي خلالها ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، ناهيك عن الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بالبلاد.

ويقدم الكاتب الفرنسي المعروف [ آلن جوكس ] في كتابه [أمريكا المرتزقة ] تحليلاً تفصيلياً لميكانيزمات هذا التحول الأمريكي نحو تبني نظرية الحرب الهجومية كوسيلة للدفاع عن المصالح الأمريكية، اعتماداً على توثيق دقيق للشهادات التي يدلي بها صناع القرار والتوجيه الأمريكيين أمام اللجان المختلفة للكونغرس، إضافة إلى تلك الوثائق والدراسات التي يعدها كبار الخبراء، والتي تلعب دوراً مهماً في صوغ المواقف السياسية لجزء هام من النخبة الأمريكية.

 إن  أحد أهم مفاصل هذا التحليل المعمق لميكانيزمات صنع القرار السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة يتمثل في توضيح العلاقة المتشابكة ما بين
 [السلطة التشريعية]متمثلة بالكونغرس و [السلطة التنفيذية ] متمثلة بمؤسسات الرئاسة، ووزارة الخارجية والبنتاغون، حيث أن الانفصال بينهما يجسد أحد أهم مبادئ الدستور الأمريكي، وهكذا فإن للكونغرس سلطة فعلية، تتمثل بالسلطة المالية، حيث أن سحب الثقة عن أية ميزانية مقدمة من طرف إحدى المؤسسات التنفيذية، إنما هو سلاح فعال لمواجهة سياسات لا يتفق الكونغرس على خطوطها الرئيسية.

لكنَّ هذه السلطة لدى الكونغرس ليست سوى سلطة منقوصة في حالات الحرب، وبخصوص قضايا الأمن القومي التي ينظر إليها الدستور الأمريكي على أنها حكر ٌعلى السلطة التنفيذية بامتياز.

ولغرض إقناع الرئيس الأمريكي بوش للكونغرس للموافقة على مشروع الحرب المخطط لتنفيذها إزاء العراق، كخطوة أولى في المخططات الأمريكية للهيمنة على العالم، كان سلاح المناورة والتحايل، وتضخيم الأخطار إزاء الولايات المتحدة والشعب الأمريكي، سلاحاً فعالاً بيد الإدارة الأمريكية لخلق قبول عام لفكرة الحرب على العراق.

أن تشكيل أي رأي عام مؤيد للحرب من شأنه ممارسة أشكال من الترهيب والتخويف للمجتمع الأمريكي من مخاطر الإرهاب الدولي، مستغلاً أحداث الحادي عشر من أيلول الإجرامية، وكذلك للضغط على السلطة التشريعية لإقناعها بضرورة الحرب المطلوبة، أو لإجبارها مكرهة على الالتحاق بهذا الركب.

و لا شك أن الجيل الأمريكي المتلفز قد أصبح سهل الانقياد لمناورات التضليل بعد أحداث أيلول، والأهداف المتوخاة منها، والمتمثلة بما تدعي الإدارة الأمريكية بمكافحة الإرهاب من أجل تبرير مشاريعها الحربية الهادفة للهيمنة على العالم.

وفي ظل هذا الواقع يجد المتتبعون للسياسة الأمريكية أن الديمقراطية الأمريكية قد فقدت الكثير من مصداقيتها المتمثلة بالتلاعب بالرأي العام الأمريكي بشكل خاص، والرأي العام العالمي بشكل عام، والذي يطلب منه تبني فكرة اللجوء إلى الحرب الهجومية كضرورة لا مفرَّ منها، وهذا التلاعب قد امتد إلى فترة زمنية طويلة، وكان شعارها الاقتصادي والعسكري كسلاح وحيد وفعّال لإجبار النظام العراقي على الانسحاب من الكويت عام 1991، وعلى تدمير أسلحته ذات الدمار الشامل، وفي ظل هذا الشعار المخادع جرت الاستعدادات للحرب الهجومية على قدم وساق، وهذه الاستعدادات لم تكن سراً من الأسرار، فلا مجال في الولايات المتحدة لكتمان الأسرار طويلاً، وهكذا باتت الحرب ضد العراق مؤكدة بنظر أهل الاختصاص من ذوي العلاقة  بالدوائر الحاكمة حيث تعمل المؤسسة العسكرية جاهدة على تجهيز خطة متكاملة للحرب لكي تكون جاهزة في لحظة قرار سياسي من قبل الرئيس بوش.

إن التفكير الأمريكي الذي يقدس الإمكانيات والوسائل التكنولوجية لدرجة سيادة نوع من دكتاتورية الأدوات والوسائل تتقدم لتملي على السياسة مبادئ عملها وأهدافها قد غدا العامل المحرك لسياستها الهادفة للهيمنة على العالم، وهذا الجانب المأساوي من الفكر الإستراتيجي الأمريكي الذي ينظّر لسيادة التكنولوجيا على السياسة، وهذا الانسحاب للمجتمع المدني ولتعبيراته البرلمانية والجماهيرية أمام تقدم طبقة أو شريحة من التنكوقراط المرتبطة بجملة مصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي هو ما دفع أوربا خصوصاً، والعالم عموماً، إلى إطلاق صيحة تحذيرٍ من الأهداف الأمريكية، ذلك أن الانصياع والخضوع للسياسات الأمريكية إنما يحمل خطراً جسيما على مستقبل البشرية جمعاء .

أخذت الولايات المتحدة تعمل في تلك الأيام بنشاط مكثف من أجل الحشد الميداني الذي يفوق بالفعل حاجات الانخراط في ميادين المعركة الحقيقية  وذلك لتحقيق هدف استراتيجي يتجاوز البعد العسكري للمواجهة مع العراق، في محاولة لردع النظام العراقي دون أن يضطر الطرف الأمريكي للتورط في معركة فعلية ذات أبعاد كارثية إذا ما أمكن ذلك، ومهددة النظام بمواجهة خطر التدمير الساحق الذي يتجسد عياناً بتلك الحشود الهائلة في الميدان، وهي مصرة على شن الحرب لإسقاط النظام العراقي إذا ما أصرَّ على تجاهل تلك الحشود والتهديدات.

 وكما أصر رأس النظام صدام من قبل على تجاهل الدعوات له للخروج من الكويت، رغم كل النصائح المقدمة له من خطورة الحرب التي كانت الولايات المتحدة تهيئ لها، مستقدمة قوات هائلة، ومسلحة بأحدث ما أنتجته المصانع الحربية الأمريكية، فإن صدام  استمر على مواقفه الخاطئة، ولم يتعلم الدرس من حروبه السابقة، رغم كل النصائح التي قُدمت له بعد احتلاله للكويت بضرورة الانسحاب حفاظاً على مصير العراق وشعبه، وعلى جيشه من التدمير الذي ينتظره إذا لم ينفذ قرار مجلس الأمن القاضي بالانسحاب من الكويت دون قيد أو شرط.

 لكنه تجاهل كل تلك النصائح، وركب رأسه رافضاً الانسحاب، وحينما التقى وزير الخارجية الأمريكية [ جيمس بيكر] بطارق عزيز في جنيف قبيل نشوب الحرب وجه  بيكر تحذيراً صارماً لصدام حسين من خلال الرسالة التي سلمها إلى طارق عزيز بأن البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، والقوات المسلحة العراقية ستتعرض لدمار هائل، وأن العراق سيعود القهقرة عشرات السنين إلى الوراء.

لقد كان من الطبيعي أن لا يذرف  المواطن العراقي  الدمع على صدام ونظامه إذا ما تم إزالة ذلك النظام الفاشي الذي جثم على صدور المواطنين خلال خمسة وثلاثين عاماً عجافا، أذاق خلالها العراقيين من الويلات والمآسي والمصائب ما لا يوصف جراء فاشيته و وحشيته، وحروبه العدوانية ضد إيران والكويت، وضد أبناء شعبه، وإن الشعب العراقي بمختلف أطيافه كان يتطلع إلى يوم الخلاص من ذلك النظام الذي فاق بإجرامه أعتا الأنظمة الدكتاتورية في العالم.

 لكن الشعب العراقي كان في الوقت نفسه ينتابه القلق الشديد مما تخبئه الولايات المتحدة له، ولاسيما وأن ما بدأ يتكشف من المخططات الأمريكية المستهدفة للهيمنة على مقدرات الشعوب، وهو الذي كانت لديه هواجس كثيرة، وعدم الاطمئنان والثقة بالسياسة الأمريكية، ولاسيما وأنها قد خذلته في انتفاضة آذار المجيدة عام 1991، ودعمت نظام الدكتاتور صدام في قمعها، وابتلع الرئيس جورج بوش الأب دعوته الشعب العراقي للانتفاض ضد النظام، كما سبق وأن خذلت الولايات المتحدة الحركة الكردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني عام 1975، بعد أن وقع صدام  وشاه إيران اتفاقية الجزائر، والأمثلة كثيرة على عدم مصداقية وجدية السياسة الأمريكية التي لا تعرف غير مصالحها الذاتية.

 كان أخشى ما يخشاه الشعب أن يبدل نظاماً دكتاتورياً فاشياً باحتلال أمريكي قد يطول لسنوات عديدة، فلم يعد الشعب قادراً على تحمل المزيد من العبودية والمظالم، ناهيك عن الويلات والمصائب والخراب والدمار الذي يمكن أن تسببه الحرب، ولاسيما وأن الولايات المتحدة قد أعدت آخر ما ضمته ترسانتها الحربية من الأسلحة الفتاكة، وما عاناه الشعب من ويلات خلال حربي الخليج الأولى والثانية، والحروب الداخلية المستمرة في كردستان العراق، وهو لا ينشد سوى العيش بسلام وحرية وأمان، وأن يحيا في ظل نظام ديمقراطي تعددي تسوده قيم العدالة والحرية والوئام بعيداً عن الحروب ومآسيها وويلاتها المؤلمة.

كان حلم الشعب أن يطيح بالنظام الصدامي من دون حرب واحتلال وضحايا ودمار وخراب، وكان طموحه أن يجبر مجلس الأمن النظام الصدامي على أجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية في البلاد، وإعادة الحقوق والحريات الديمقراطية المسلوبة، وإجراء انتخابات برلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة، وقيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي يطلق الحريات العامة بما فيها حرية الصحافة، والتنظيم الحزبي والنقابي، وحرية تأسيس الجمعيات ذات النشاط الاجتماعي.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية التي أصدرت عشرات القرارات ضد النظام العراقي قبل نشوب حرب الخليج الثانية عام 1991، تحت البند السابع الذي يلزم النظام العراقي بالتنفيذ، استثنت القرار الوحيد رقم 688 والمتعلق بحقوق وحريات الشعب العراقي من هذا البند، مما حول القرار في واقع الحال إلى حبر على ورق، ولم يعر له صدام أي اهتمام ما  دام غير ملزم له، بل وتمادى في تزييف إرادة الشعب من خلال الاستفتاء الزائف على رئاسته، والذي جاءت نتائجه بتأييد 99و99% وهو رقم لم يشهد له مثيلاً لدى كل دول العالم، واستمر سيفه المسلط على رقاب الشعب، واستمر يقطع رؤوس كل من يشك بعدم ولائه لنظامه الدكتاتوري الشمولي.

وتمادت الولايات المتحدة من جانبها في إيذاء الشعب العراقي بفرض الحصار الجائر ليس على صدام ونظامه، بل على الشعب المهضومة كافة حقوقه وحرياته، وسيف النظام المسلط على رقبة أبنائه، واستمر ذلك الحصار ثلاثة عشر عاما عجافاً لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل في كل تاريخه الحديث، فقد كان الحصار يمثل أشنع أنواع الحروب، حرب التجويع والإذلال والفقر والأمراض، وانهيار البنية الاجتماعية، واختفاء القيم الإنسانية النبيلة التي تعود عليها الشعب لتحل مكانها قيم وسلوكيات على النقيض منها، حيث لم يعد ما يهم المواطن العراقي غير تأمين مصادر العيش له ولعائلته مهما كانت الوسائل والسبل!!. 

وتصاعدت الأخطار المحدقة بالعراق من جديد جراء لعبة القط والفأر التي مارسها صدام مع فرق التفتيش الدولية حول أسلحة الدمار الشامل معرضاً الشعب لكارثة حرب جديدة مع الولايات المتحدة وحلفائها جراء إصراره على افتعال الأزمات مع اللجنة الدولية لنزع أسلحة الدمار الشامل من جهة، وإصرار الولايات المتحدة وبريطانيا على إيجاد واستغلال كل الذرائع الممكنة لتوجيه ضربة قاضية للعراق، حيث لا أحد يعلم مدى ما ستسببه من مآسي وويلات لشعبنا المنهك أصلاً، جراء الحصار الاقتصادي اللاإنساني، حيث بادرت الولايات المتحدة بحشد سفنها الحربية وطائراتها المجهزة بآخر ما توصلت إليه مصانعها الحربية من الأسلحة الفتاكة استعداداً لشن الهجوم على العراق بحجة تدمير الأسلحة الكيماوية والجرثومية البيولوجية التي كانت تقول أن النظام العراقي قد خبأها في مخازن تحت الأرض، ولم يظهر لها أثراً بعد الحرب، وباتت المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه كبيرة جداً، ولا أحد يستطيع تحديد مداها، لكنها في غالب الأحوال كان مقدراً لها أن تكون  أشد وطأة من حرب الخليج الثانية عام 1991، وأنها ستأتي على البقية الباقية من بنية العراق الاقتصادية والاجتماعية.

وفي ظل تلك الظروف الخطيرة المحدقة بالعراق وشعبه، والتطورات التي يمكن أن تحدث بين يوم وآخر كانت قوى المعارضة العراقية ما تزال على انقسامها وتشتتها غير عابئة بما يمكن أن تؤول إليه تلك الأحداث، فقد كانت  دون مستوى الإحداث، بل كانت تهرول وراءها، واستطاعت الولايات المتحدة أن تستقطب معظم تلك القوى التي انحازت إلى المخطط الأمريكي لغزو العراق بحجة إسقاط النظام الدكتاتوري وإنقاذ الشعب من طغيان صدام.

 أخذت الأخطار المحدقة بالعراق تسارع الخطى، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة عازمة عزماً لا رجعة فيه على غزو العراق، و إسقاط نظام صدام واحتلال العراق، ومن أجل تحقيق هذا الهدف جرى نقل القوات والأسلحة المتطورة والفائقة التدمير إلى قواعد الانطلاق القريبة من العراق في الخليج العربي وتركيا وإسرائيل والأردن، وتوجهت حاملات الطائرات والمدمرات الأمريكية نحو أقرب المواقع للعراق.

كما تبعت بريطانيا الولايات المتحدة في تعبئة أعداد كبيرة من قواتها وتجهيزاتها الحربية استعداداً للمشاركة في الحرب، كما جرت الاستعدادات الحربية في إسرائيل بكل نشاط، وبسرية مطلقة، بسبب حساسية الموقف، استعداداً لساعة الصفر التي باتت قريبة كما قدّر الكثير من المراقبين.

وفي حين كان يمضي الوقت مسرعاً نحو اندلاع الحرب التي لم  يشك أحداً بنتائجها، وبالويلات والمآسي والمصائب والخراب والدمار الذي سيحل بالشعب والوطن، فإن دكتاتور العراق كان يساوره الأمل بتجاوز الحرب، والبقاء في السلطة غير عابئ بمصالح الشعب، وسيادة واستقلال العراق.

وهكذا اقتربت ساعة الحسم، ولم يعد أمام صدام متسعاً من الوقت لكي يجنب العراق وشعبه ويلات الحرب، و يجنب نفسه وحاشيته المصير المحتوم، ولم يكن هناك من  سبيل أمامه سوى الرحيل بأسرع وقت، بعد أن وجهت له الولايات المتحدة إنذارا بمغادرة العراق مع عائلته خلال 48 ساعة وإنقاذ العراق من الخراب والدمار، لكنه استمر على  إصراره البقاء في السلطة ولسان حاله يقول على وعلى الشعب وليكن ما يكون.

وانطلقت شرارة الحرب في فجر العشرين من آذار عام 2003 ، تلك الحرب التي لم يستطع صدام وجيشه الصمود فيها سوى عشرين يوماً، حيث انهار النظام بكل مؤسساته وأجهزته العسكرية والأمنية، واحتلت القوات الأمريكية العراق، واستحصلت قراراً من مجلس الأمن يشرعن الاحتلال، ونصبت الجنرال المتقاعد [ كاردنر]  حاكماً على العراق، ثم ما لبثت أن استبدلته بالدبلوماسي الأمريكي [ بول برايمر ]  الذي حكم العراق عاماً كاملاً اقترف فيه الكثير من الأخطاء الكارثية التي أوقعت الشعب العراقي في جحيم أقسى وأمر من جحيم نظام صدام، بإقامته نظام حكم طائفي متخلف، أدى إلى استقطاب طائفي شيعي وسني أشعل نيران الحرب الأهلية الطائفية التي  باتت تطحن بالمئات من المواطنين الأبرياء كل يوم على أيدي المليشيات التابعة للأحزاب الطائفية بشقيها الشيعي والسني، وبات التهجير والعزل السكاني يجري في البلاد على قدم وساق وأخذت موجات الهجرة الداخلية والخارجية تتصاعد يوما ًبعد يوم حتى جاوزت الأربعة ملايين مواطن، هرباً من الموت الزؤام.

لقد حولت الولايات المتحدة العراق إلى ساحة لتصفية الحساب مع قوى الإرهاب المدعومة من دول الجوار المحيطة بالعراق، وفي المقدمة منها إيران وسوريا بالإضافة إلى عناصر القاعدة التي مهدت لها دول الجوار السبيل للعبور نحو العراق برعاية العناصر البعثية، لتنفذ جرائمها الوحشية التي تستهدف قتل العراقيين .

كما فسحت المجال أمام العناصر البعثية التي أُسقطت من السلطة لتستعيد أنفاسها، وتعيد تنظيم صفوفها، لتشن حربا إجرامية لا هوادة فيها ضد الشعب العراقي، وهي المدربة على السلاح، ولديها ملايين قطع السلاح التي نشرها النظام الصدامي في البلاد، بالإضافة إلى الأموال الهائلة التي سرقها النظام طوال فترة حكمه الطويلة والمقدرة بحوالي 90 مليار دولار لاستخدامها في استعادة السلطة، كما قال صدام نفسه أمام قادة حزبه في احد الاجتماعات.
 إنها حرب قوامها السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي تقتل المواطنين بالجملة كل يوم مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق.


211
من أجل اعادة حقوق الزعيم الخالد الشهيد عبد الكريم قاسم

حامد الحمداني                                                   
 16/2/2013
                                   

لم يشهد العراق عبر كل تاريخه حاكماً اتصف بالوطنية الصادقة ومعاداة الاستعمار، والعفة، والنزاهة، والأمانة وسمو الخلق، والتواضع الشديد، والزهد، ورفض الأبهة، والحرص على ثروة العراق، والشعور الصادق بمعانات الفقراء، والحرص على تأمين حياة كريمة لهم، كالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم.

ولم يحضَ أي حاكم من قبل بتلك المحبة الصادقة والنابعة من قلوب جماهير الشعب العراقي، على الرغم من كل أخطائه، كما حضي الزعيم الشهيد، الذي كان يصر على التنقل بسيارته العادية غير المصفحة، كما يفعل قادة الدول، ولم يتخذ له في تنقلاته أي نوع من الحماية، من قوات الجيش والشرطة السرية والعلنية، وإغلاق الطرق، كما يفعل القادة .

كان يدرك أنه يعيش في قلوب الشعب، حريصاً على التواصل معه ببساطته المعهودة، وشعوره الفياض بحب الشعب والوطن والحرص على مصالحهما
ولم يفعل أي شيئ طيلة فترة حكمه لنفسه ولا لعائلته، ولم يتخذ له قصراً منيفاً، ولا مزارع وأطيان، ولم يمتلك رصيداً في البنوك، ولم يحاول أن يؤسس له حزباً سياسياً، ولو فعل ذلك وجرت انتخابات حرة ديمقراطية في البلاد لكان حزبه هو الفائز بكل تأكيد .

 لكنه كان يردد دائماً شعاراته المعروفة [إنني فوق الميول وفوق الاتجاهات] و [عفا الله عما سلف] و[ الرحمة فوق القانون ]!!، وهذه الشعارات هي التي استغلتها قوى الفاشية والظلام لتدبير المحاولات الانقلابية المتتالية منذ الأيام الأولى لنجاح الثورة وتأسيس الجمهورية، وتكلل بالنجاح مع شديد الأسف انقلاب الثامن من شباط الدموي الفاشي الذي دبرته القوى الإمبريالية، ونفذه البعثيون بالتحالف مع القوى القومية، بعد أن مهدوا له استقطاب الإقطاعيين والقوى الرجعية و القوى الإقليمية القومية المتمثلة بشاه إيران [محمد رضا بهلوي] و نظام الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
 ومن المؤسف أن تتخذ لها المرجعية الدينية في النجف بزعامة السيد محسن الحكيم، والتي كان يحرص الزعيم عبد الكريم قاسم على حسن العلاقة معه من خلال الزيارات المتكررة له، موقفاً معاديا للزعيم وثورة الرابع عشر من تموز، و تضع ثقلها إلى جانب الانقلابيين، وتتجاهل تصفيتهم الوحشية للزعيم وصحبه الشهداء الأبرار دون محاكمة عادلة أمام الشعب، كما كان يجري  في ذلك العهد حيث يتم نقل المحاكمات عن طريق التلفزيون والإذاعة معاً  ليطلع عليها الشعب العراقي والعالم اجمع .

لقد عفا الزعيم الشهيد عن المحكومين بالإعدام الذين حاولوا قتله في رأس القرية وأصابوه بإصابات خطيرة، وعفا عن عبد السلام المحكوم بالإعدام كذلك لمحاوله قتله في مقره بوزارة الدفاع، لينتهي به المطاف بيد هؤلاء القتلة المجرمين بعد نجاح انقلابهم المشؤوم فلم يوفروا له محاكمة عادلة، ولم يردّوا له الجميل، فقد كانت قلوبهم قد امتلأت حقداً وإصراراً على سفك دمه ودم رفاقه الأخيار، والانتقام من كل العناصر الوطنية الصادقة والشريفة فكانت مجزرة كبرى ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة الوطنيين المحبين لشعبهم ووطنهم .

لقد استكثر القتلة السفاحون على الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء الوطنيين الأبرار حتى قبورهم، وهذا الفعل الخسيس يعبر بدون أدنى شك عن ذلك المنحدر السلوكي المتردي نحو الحضيض للانقلابيين الجبناء الذين أخافتهم قبور الشهداء.

أنظروا إلى مصير أعضاء تلك الزمرة الخائنة والجبانة واحداً واحداً، أين هم اليوم؟ وكيف انتهوا؟ لقد ذهب اغلبهم قتلاً على أيدي بعضهم البعض في صراعهم على السلطة، وكلما حلت ذكرى انقلاب 8 شباط المشؤوم يصب عليهم أبناء شعبنا اللعنات بسبب ما اقترفته أياديهم القذرة من جرائم بحق الشعب والوطن وقادته الخالدين .

 أما الشهيد عبد الكريم قاسم وكافة الشهداء الذين رحلوا معه فقد خلدهم التاريخ، وخلدهم كل الطييبين من أبناء شعبنا في قلوبهم، وفي كل عام يتذكر الشعب قادته الوطنيين ويمجدونهم ويستعيدون مآثرهم الخالدة، وتضحياتهم الكبيرة.

إننا ندعو أبناء شعبنا البررة، وفي المقدمة منهم الكتاب والمثقفين والأدباء والفنانين لمطالبة حكومة العراق إعادة الحقوق المشروعة للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار، وفي المقدمة منها:

1 ـ إيجاد جثمان الشهيد عبد الكريم قاسم وكذلك جثامين صحبه الشهداء، الأبرار ، وإقامة مقبرة خاصة لهم تليق بمقامهم السامي لدى شعبنا.

2 ـ  إعادة اسم مدينة الثورة إلى بانيها أبو الفقراء الشهيد عبد الكريم قاسم، وإطلاق إسمه عليها وعلى كافة المؤسسات التي أقامها في مختلف المدن العراقية.

3 ـ إعادة بيت الزعيم الراحل واتخاذه  متحفاً لمقتنياته وكل ما يتعلق بثورة الرابع عشر من تموز، وحبذا لو يتم استملاك المنطقة المحيطة به لتوسيع المتحف لكي يضم كل المتعلقات بثورة 14 تموز الخالدة .

4 ـ الأمر بتنفيذ قرار رئيس الجمهورية الأستاذ جلال الطلباني بمنح عائلة الزعيم الراحل الراتب التقاعدي ومضاعفته، مع تخصيص رواتب تقاعدية لسائر الشهداء الأبرار .

5 ـ إصدار تشريع بإعادة علم ثورة الرابع عشر من تموز الذي يعبر أروع تعبير عن الاخوة العربية الكردية وسائر القوميات الأخرى المتآخية في العراق، والكف عن الإصرار على بقاء علم صدام وحزبه الفاشي يذكرنا بجرائمه بحق الشعب والوطن .

6 ـ رفع وإزالة كل الكتب والمؤلفات التي سطرها وعّاظ السلاطين من الانتهازيين التي تمجد طاغية العراق وفكره الفاشي، والتي تشكل إساءة للزعيم الراحل، وتشوه الوجه المشرق لثورة الرابع عشر من تموز 1958 ومنجزاتها الكبيرة .
 

212
خمسون عاماً على انقلاب 8 شباط الفاشي في العراق
واغتيال ثورة 14 تموز1958
القسم الرابع والأخير 4/4
حامد الحمداني                                                    8/2/2013
استسلام الشهيد عبد الكريم قاسم ورفاقه للانقلابيين وإعدامهم دون محاكمة
أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر]، المرافق الأقدم لقاسم  والزعيم [عبد الكريم الجدة]، أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم لعبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي] رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، [وقاسم الجنابي] السكرتير الصحفي لعبد الكريم، والملازم [كنعان حداد] مرافق قاسم .
ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف طالباً منه بأسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه  ورعايته له، بالسماح له بمغادرة العراق.
 غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة  بكلمات نابية لا تدل على خلق، مما أثار غضب الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أمسك بالهاتف من يد عبد الكريم قاسم  ورد على عبد السلام عارف بما يستحق من كلمات الأهانة.
واتصل عبد الكريم قاسم مرة أخرى بعبد السلام عارف طالباً منه السماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له، لكن عبد السلام عارف أصر على طلب الاستسلام.
وفي صباح اليوم التالي 9 شباط خرج [ يونس الطائي] صاحب صحيفة الثورة، المعروف بعدائه للشيوعية، والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [ الثورة ]، خرج للقاء الانقلابيين، وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة، حيث قام بدور الوسيط  بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين!!، لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته، وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد، وكان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي، وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة  أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية، ولم يمسه أحد بسوء عند دخوله مبنى الإذاعة.

ثامناً: مهزلة محاكمة عبد الكريم قاسم، وإعدامه مع رفاقه:
إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه، وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ، أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن والدجال [يونس الطائي] الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه، وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة.
وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة أنبري له عبد السلام عارف، وعلي صالح السعدي بالشتائم المخجلة، التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع فقد توجه السعدي إليه قائلاً : {لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة، وهل هو موجود بيننا؟}.
 وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال علي السعدي.
 وقد أجابه عبد الكريم قاسم {غير موجود هنا بشرفي}.
 لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً {ومن أين لك بالشرف ؟}، وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً :{إن لي شرفاً أعتز به}.
وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة، وكان كل همه أن ينتزع من عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثورة، إلا أن عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة، وقد طلب عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية، تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون، ليطلع عليها الشعب، إلا أن طلبه أهمل، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي قطعات من الجيش من التحرك ضدهم .
قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم التاسع من شباط 1963، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم عبد الغني الراوي، والنقيب منعم حميد، والنقيب عبد الحق، فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم، رافضين وضع عصابة على أعينهم وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي.
سارع الانقلابيون إلى عرض جثته، وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات. لقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة.
كما أسرع الانقلابيون إلى دفنه تحت جنح الظلام دون أي معالم تذكر، في منطقة معامل الطابوق، خارج مدينة بغداد، إلا أن عدد من عمال معامل الطابوق الذين يعملون شعالة طوال الليل شعروا بوجود ثلة عسكرية في تلك المنطقة، فما كان منهم إلا أن ذهبوا بعد مغادرة الثلة العسكرية إلى المكان، حيث وجدوا ما يشبه حفرة القبر. دخلت الربية في نفوسهم من يكون ذلك الإنسان؟ ولماذا جاءوا به إلى تلك المكان؟ وصمم العمال على فتح الحفرة فكانت المفاجئة جثة عبد الكريم قاسم. اخرج العمال الجثة على عجل وحملوها إلى مكان آخر، حيث حفروا له قبراً جديداً حباً واحتراماً لذلك الرجل الذي قاد ثورة 14 تموز.
غير أن الزمرة الانقلابية أحست بما جرى، فقامت بالتفتيش عن الجثة، وتوصلت إلى القبر الجديد  وأخرجت الجثة منه، ونقلتها تحت جنح الظلام لترميها في نهر ديإلى، بعد أن تم وضعها بصندوق صُب فيه الكونكريت لكي لا تطفو الجثة في النهر، ويعثر عليها أحداً من جديد. إن ذلك العمل البائس لا يعبر إلا عن جبن الانقلابيين، وخوفهم من شبح عبد الكريم قاسم، حتى وهو ميت.
ولم يكتفِ الانقلابيون بكل ذلك، بل انبرت أقلامهم القذرة، وقد أعمى الحقد قلوب أصحابها، بنهش عبد الكريم قاسم، وإلصاق شتى التهم المزورة به، والإساءة إلى سلوكه وأخلاقه، مستخدمين ابذأ الكلمات التي لا تعبر إلا عن الإناء الذي تنضح منه.
 فعبد الكريم قاسم، رغم كل أخطائه، يبقى شامخاً كقائد وطني معادى للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لإخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير.
وها هم بعض الذين أساءوا إلى شخصه، بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء، قد بدأت تستيقظ ضمائرهم، ويعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز، بنوع من التجرد، لتعيد له اعتباره، وتقيّم تلك المرحلة من جديد.
المجد والخلود للزعيم الشهيد عبد الكريمة قاسم وسائر رفاقه الشهداء.
المجد والخلود لسائر شهداء الكرة الوطنية، وفي المقدمة منهم الشهيد سلام عادل ورفاقه الأبرار.
 والخزي والعار لأنقلابيي 8 شباط القتلة المجرمين عملاء الأمبريالية وأدواتها.
ملاحظة:
للمزيد من التفصيل عن أحداث ثورة 14 تموز المجيدة عام 1958 يرجى الرجوع إلى كتابي {ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها} بموقعي على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com





213
الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويدعو إلى مقاومتهم
القسم الثالث 3/4
حامد الحمداني                                                      8/2/2013
منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان :
{إلى السلاح! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية}.
أيها المواطنون: يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال، والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين:
 لقد دق جرس الخطر ...استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة، استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس، فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع.
يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية، وكل مؤسسة، وكل حي وقرية  وسيُلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرات الكيلاني، والشواف، وآخرين. إننا نطالب بالسلاح}.
 ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات.
 ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم، ولا سيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة، فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره ، وخاصة في صفوف الجيش ؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش من العناصر غير المكشوفة على الرغم من تصفية قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه.
ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة. لقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب، وقدموا التضحيات الجسام، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين.
كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين في أول ساعات الانقلاب، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح.
ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً، ودفع حياته، ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.
قاسم يحاول توجيه خطاب للشعب والقوات المسلحة:
في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول الزعيم عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب، والقوات المسلحة يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [كاسيت]، تحت أصوات القصف والانفجارات، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد[سعيد الدوري]، الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب، وقد حصلت على نسخة منه، وفيما يلي نصه:
إلى أبناء الشعب الكرام، وإلى أبناء الجيش المظفر:{إن أذناب الاستعمار، وبعض الخونة والغادرين والمفسدين، الذين يحركهم الاستعمار لتحطيم جمهوريتنا ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف، الذين يحاربوننا بحركات طائشة للنيل من جمهوريتنا، وتحطيم كيانها.
إن الجمهورية العراقية الخالدة وليدة ثورة 14 تموز الخالدة لا تقهر، وإنها تسحق الاستعمار، وتسحق كل عميل وخائن. إنما نحن نعمل في سبيل الشعب، وفي سبيل الفقراء بصورة خاصة، وتقوية كيان البلاد فنحن لا نقهر، وإن الله معنا، أبناء الجيش المظفر والوحدات، والقطعات، والكتائب والأفراد.
 أيها الجنود الغيارى، مزقوا الخونة، اقتلوهم، اسحقوهم، إنهم متآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا، هذه الثورة التي حطمت الاستعمار، وانطلقت في طريق الحرية والنصر، وإنما النصر من عند الله، والله معنا، كونوا أشداء، اسحقوا الخونة والغادرين.
 أبناء الشعب في كل مكان: اسقطوا الخونة والغادرين، إنهم أذناب الاستعمار والله ينصرنا على الاستعمار وعلى أذنابه وأعوانه.
ثم يتوقف التسجيل بسبب دوي القصف، ويعاود الزعيم مرة أخرى:
السلام عليكم أبناء الشعب، أيها الضباط، أيها الجنود، أيها الضباط الصف الأشاوس، أيها العمال الغيارى، إن الاستعمار يحاول أن يسخر نفراً من أذنابه للقضاء على جمهوريتنا، لكنه بتصميمنا، وتصميم الشعب المظفر، فأننا نحن جنود وشعب 14 تموز الخالد الذي وجه الضربات الخاطفة إلى العهد المباد، رغم الاستعمار، وحرر أمتنا، واسترد كرامتها فإننا في هذا اليوم المجيد قادرون على  سحق الخونه والغادرين.
أبناء الشعب، أبناء الجيش المظفر، إن النصر أمامنا، وإننا صممنا على سحق الاستعمار وأعوانه، فلا تدعو الخونة والغادرين، فأن الله معكم، وسوف نتصدى للظالمين والغادرين والسفاكين، أذناب الاستعمار، سوف نهزمهم عندما توجه إليهم الضربات الخاطفة، وقد باشرنا بتوجيهها إليهم.
إنني الزعيم عبد الكريم قاسم، وإننا أقوى وأمضى وأشد عزماً وكفاحاً في سبيل الفقراء، والنصر للشعب العراقي المظفر، والنصر لكم أيها الغيارى}.
                                                                 عبد الكريم قاسم
                                                                 8 شباط 1963
هذا هو نص الخطاب الذي لم يستطع عبد الكريم قاسم إذاعته، فقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها، رغم كل الأخطاء التي أرتكبها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع.
ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب.
أما [الحرس القومي] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع، وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم الثقيلة والخفيفة نحو كل من يصادفونه في طريقهم.
واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية، والكاظمية، وباب الشيخ، وحي الأكراد، والحرية، والشعلة، لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم.
 واصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على مئات الألوف من مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من [سلام عادل] السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب، كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من :
 جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي، أبو سعيد، وعزيز الشيخ، ومتي الشيخ، و محمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار، بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية، ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم.
موقف قطعات الجيش من الانقلاب:
 بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة والكفوءة من المراكز العسكرية، واستبدالها بعناصر انتهازية، وأخرى حاقدة وموتورة تتربص بالثورة وقيادتها، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة، ويجري التصدي للانقلابيين، وكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش من صغار الضباط، وضباط الصف، والجنود، حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا، ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش. ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط وضباط الصف والجنود للانقلاب، إلا انهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً.
وفي معسكر التاجي القريب من بغداد، حيث توجد هناك محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، وغير متكافئ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار، وضباط الصف والجنود.
كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في منطقة فايدة شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية، الذي كان يغطي ويخفي كل تحركات الانقلابيين دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم،  ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري.
ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، أصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية ولا الأمنية ساكناً، وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين.
أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين، ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء. كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي، المعروف بعدائه للثورة وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الثاني الآلي، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه.
ملاحظة:غداً الحلقة الرابعة والأخيرة


214
في الذكرى الخمسين لانقلاب 8 شباط الفاشي في العراق القسم الثاني 2/4
حامد الحمداني                                                  6/2/2013

مَنْ أعدّ، ومن ساهم في الانقلاب؟
لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، بعد صراع مرير مع تلك الشركات، والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتها عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية، هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق. 
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة آنذاك، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية والإيرانية تحذيرهما من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة قبل الإقدام على أي خطوة متهورة.
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن،كما يقول المثل،غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة، محاولين إنهاء الثورة من الداخل، مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية وسائر القوى الرجعية والاقطاعية لتنفيذ أهدافهم الشريرة.
فلقد ذكر [علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً [ لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي].
كما ذكر الملك حسين، ملك الأردن، في مقابلة أجراها معه [محمد حسنين هيكل] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [كريون] في باريس عن علاقة الانقلابيين البعثيين بالأمريكيين حيث قال الملك:
{تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 1963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني أعرف الحقيقة.
لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهم تلك الاجتماعات  في الكويت!.
وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها  الاستخبارات الأمريكية في الكويت، وكانت تبث إلى العراق، وتزود يوم 8 شباط المشؤوم رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم}.
كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث، طلب عدم ذكر أسمه، قد ذكر لمؤلف كتاب العراق، الكاتب[حنا بطاطو] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية، وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب.
لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء، والمشانق، والسجون، والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم بعد انقلاب شباط، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم وأفعالهم المشينة سماه [المحرفون].
من هم الانقلابيون؟
ضم فريق الانقلابيين حزب البعث بقيادة كل من : علي صالح السعدي، وأحمد حسن البكر، وطالب شبيب، وحازم جواد، ومسارع الراوي، وحمدي عبد المجيد، والضباط البعثيين كل من عبد الستار عبد اللطيف، والمقدم المتقاعد عبد الكريم مصطفى نصرت، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، ومنذر الونداوي، بالإضافة إلى القوى القومية التي ضمت كل من عبد السلام عارف وطاهر يحيى، وعارف عبد الرزاق، وعبد الهادي الراوي، ورشيد مصلح، وعبد الغني الراوي، وعدد آخر من صغار الضباط.

تنفيذ الانقلاب في 8 شباط 1963:
أختار الانقلابيون الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 1963، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، فيوم الجمعة يوم عطلة، ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب، كما أن قيام الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر، ورغم وصول إشارة إلى وزارة الدفاع قبل ساعة ونصف من وقوع الانقلاب، إلا أن آمر الانضباط العسكري، الزعيم الركن عبد الكريم الجدة، لم يأخذ ذلك على مأخذ الجد، وأعتقد أن ذلك نوع من المزحة أوالخيال.
يقول أحد الضباط الوطنيين المتواجدين في وزارة الدفاع، وكان ضابط الخفر ذلك اليوم:{ دق جرس الهاتف في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم، الثامن من شباط، وأسرعت لرفع سماعة الهاتف وإذا بشخص مجهول يحدثني قائلاً: إنني أحد الذين استيقظ ضميرهم، ووجدت لزاماً على نفسي أن أبلغكم بأن انقلاباً عسكرياً سيقع ضد عبد الكريم قاسم في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم، ينطلق من قاعدة الحبانية الجوية، وكتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، ثم أغلق الهاتف، ثم يضيف الضابط الخفر قائلا: أسرعت بالاتصال بالزعيم عبد الكريم الجدة، آمر الانضباط العسكري، أبلغته بالأمر، فما كان منه إلا أن أجابني قائلاً:
 {هل أنت سكران يا هذا ؟ كيف يقع انقلاب عسكري في يوم 14 رمضان، والزعيم صائم !!، والناس صيام !!، وفي مثل هذا الوقت الذي تتحدث عنه ضحى، فلم يسبق أن وقع انقلاب عسكري في وضح النهار، ثم أغلق الزعيم الجدة سماعة الهاتف}.
كان ذلك الموقف من عبد الكريم الجدة لا ينم إلا عن الجهل وسوء التقدير للوضع السياسي في البلاد، فقد كان الجو السياسي مكفهراً، ونشاط المتآمرين يجري على قدم وساق، وإضراب الطلاب على أشده، كما أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 1963، وزع بصورة علنية، وعلى نطاق واسع، حذر فيه من خطورة الوضع ومما جاء فيه:
{ وهناك معلومات متوفرة تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، وووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع وفعال في صفوف الجيش}.
 إلا أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد، معتقداً  أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.
كان الأولى بعبد الكريم الجدة الاتصال بعبد الكريم قاسم فوراً، واستنفار كل الأجهزة، والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث، وأفراد الحرس القومي، الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح !!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الأوقاتي]، وذلك لخشيتهم من السلاح الجوي على مدرعاتهم.
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار وأردوه قتيلاً في الحال، وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة، وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة.
وفي نفس الوقت قام منذر الونداوي بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل، لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة، وبعد أن تم لهم ذلك بادروا إلى قصف وزارة الدفاع.
وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد، فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون،  بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.
 لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع، على الرغم من تحذير الزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة، وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد القريبين جداً من بغداد، لكن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة، وقصفها بالطائرات والمدفعية، قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.
ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له!!، ولكن خاب ظنه بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة  والمخلصة، واستبدلهم بعناصر انتهازية لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه، سواء بقي عبد الكريم قاسم أم نجح الانقلابيون.
لقد أنتحر عبد الكريم قاسم، ونحر معه الشعب العراقي وكل آماله وأحلامه التي ضحى من أجلها عقوداً عديدة مقدماً التضحيات الجسام.
توجه [عبد السلام عارف] إلى [ معسكر أبي غريب]، حيث وصل مقر كتيبة الدبابات الرابعة، وانضم إليه [ أحمد حسن البكر]،واستقلا كلاهما إحدى الدبابات، وتوجها إلى دار الإذاعة، وبصحبتهما دبابة أخرى، وساعدهم حرس دار الإذاعة، المشاركين في الانقلاب على السيطرة عليها، ثم التحق بهم كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وهناء العمري، خطيبة علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث، أما خالد مكي الهاشمي فقد أندفع بدباباته متوجهاً إلى بغداد، رافعاً صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب التي ملأت شوارع بغداد لتدافع عن الثورة وقيادتها.
وفي نفس الوقت، وصل العقيد [عبد الغني الراوي] إلى مقر لواء المشاة الآلي الثامن في الحبانية، وتمكن بمساعدة أعوانه من الانقلابيين من السيطرة على اللواء المذكور، وتحرك به نحو بغداد، كما نزل المئات من أفراد الحرس القومي على طول الطريق بين الحبانية وأبو غريب، حاملين أسلحتهم وقد وضعوا إشارات خضراء على أذرعهم، وتقدمت قوات الانقلابيين بقيادة المقدم المتقاعد [عبد الكريم مصطفى نصرت]، وأحاطت بوزارة الدفاع، كما تقدمت قوة أخرى من الطرف الثاني لنهر دجلة، مقابل وزارة الدفاع، بقيادة العقيد طاهر يحيى متخذة لها مواقع مقابل وزارة الدفاع، وبدأت قصفها للوزارة بالمدفعية الثقيلة.
كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع، والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.
لقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة، منادين { باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يرد عليهم { إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسوف نقضي عليهم في الحال}!!.
 وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب، وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين، ولكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب، ولا عبد الكريم قاسم.
ثم يضيف رفيقي قائلاً: في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة، حيث مقر وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم .
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات. لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع خلال عشرة دقائق لاغير، وكانت مجزرة رهيبة لا  يمكن تصورها، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها.
 ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة، موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة، وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والخيانة.
وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب،  وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم، ومُورس التعذيب الشنيع بالبعض الأخر.
يتبع القسم الثالث 3/4


215
خمسون عاماً على انقلاب 8 شباط الفاشي
 واغتيال ثورة 14 تموز
 القسم الأول 1/4
حامد الحمداني                                                      4/2/2013
الظروف التي ساعدت، ومهدت للانقلاب
في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم، من جهة أخرى  تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة  والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة {سياسة عفا الله عما سلف} التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، واعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، إلى مراكز حساسة في الجيش.
وفي الوقت نفسه، أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، واحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، وتسريحه لعدد كبير من الضباط، كان من بينهم الدورة 13 للضباط الاحتياط البالغ عددهم [1700] ضابطاً، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية الوليدة، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
 كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال، والتي كان لها الأثر الحاسم في نجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم
قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.
  لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً بكل تأكيد، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب، وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ما كان لها أن تحدث، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها.
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط،  لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتيال الزعيم الشهيد قاسم بالذات، وإغراق العراق بالدماء.
لقد وقع الزعيم عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من الرجعية وعملاء الإمبريالية.
 إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بزعامته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 1963، وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف: {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.
إن استسلام الزعيم عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون، ويسفرونه إلى الخارج ،أو لربما حوكم محاكمة قانونية عادلة، أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه، وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته، وتصفية كافة أعوانه وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، ولثورة تموز المجيدة.
 كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة، وعن نفسه، كما فعل من بعده الشهيد [سلفادور اليندي ] رئيس جمهورية شيلي، عام 1972، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع وأخس العبارات، قبل تنفيذ الإعدام به، وبرفاقه الشهداء المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد دون اي محاكمة عادلة.
2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أحال على سبيل المثال قائد الفرقة الثانية في كركوك الشهيد الزعيم الركن [ داوود الجنابي]، وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959، كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [هاشم عبد الجبار] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله  في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى] المعروف بعدائه للقوى التقدمية ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963 عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري] والرئيس [كاظم عبد الكريم]، والمقدم [خزعل السعدي]، وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة، وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم.
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية، وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق] الذي أعاده للجيش بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة  ولآمرها دورهام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع.
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5ـ تنحية العقيد [عبد الباقي كاظم] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة، ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وجرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي]، والذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب.
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد سيد حسين] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد.
9ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13، المتخرجين عام 1959، والبالغ عددهم  1700 ضابط من الخدمة في الجيش، بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها.
10ـ تنحية المقدم الركن [سليم الفخري] المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها.
لقد وصفت صحيفة [صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للانتهازيين والرجعيين، بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها. كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب، وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب  عندما سارع الانقلابيون إلى الاعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن الزعيم الشهيدعبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي 9 شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة، واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير، غير المذاع، لما نجح الانقلاب.
11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد.
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين والأطباء، والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم  في 11 حزيران 1962،  في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون، لكي يقعوا في أيدي الانقلابيون فيما بعد، وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم.
لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي احدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية. ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين.
لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
16ـ  قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان، وعباس مامند، المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [هولمز] بالشيوخ المتمردين، وتم إرسال [علي حسين أغا المنكوري] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست]، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران.
وفي بداية عام 1963، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية، إحدى أكبر مدن كردستان، أتابع مجريات تلك الحرب، وأتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً. ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي، بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية، بعد أن وقف منذُ البداية مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها.
17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين على الثورة وقيادتها.
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[ محسن الرفيعي]، ومن قبله [رفعت الحاج سري ]الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
 كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز.
18ـ قيام الطلاب البعثيين، والقوميين بإضراب عام، ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين، ولم تحاول كبح جماحهم وكسر الإضراب، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب.
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب، وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.
يتبع الحلقة الثانية

216
من أجل عالم جديد يسوده الأمن والسلام والعيش الرغيد لسائر الشعوب
حامد الحمداني                                      15/10/2012
منذُ أن حققت الولايات المتحدة انتصارها في حرب الخليج الثانية عام 1991 " بشر" الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بقيام عالم جديد، معلناً أنه يرمي إلى تحقيق عالم تسوده الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تسارعت الأحداث بعد تلك الحرب، فقد وقع الزلزال الذي أدى إلى انهيار المعسكر الاشتراكي، ومن بعده الاتحاد السوفيتي، وأصبحت الولايات المتحدة سيدة العالم والقوة الأعظم فيه دون منازع.                 

وبدأت تتكشف معالم العالم الجديد الذي بشر به الرئيس بوش الأب، فإذا به عالماً يقوده القطب الأوحد، الولايات المتحدة، متجاوزة فيه جميع المؤسسات الدولية التي قامت على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية عام  بدءاً من هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وما انبثق عنهما من قوانين دوليه تنظم المجتمع الإنساني والعلاقات الدولية، وسبل حل النزاعات الدولية بالوسائل السلمية، والعمل على إنقاذ البشرية من الحروب التي جرّت على العالم الويلات الجسام، كما جاء في نص ديباجة ميثاق الأمم المتحدة.                                                                                                 
وحيث أن ميثاق الأمم المتحدة قد جرى وضعه من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، وقد أضيفت لها الصين التي كان يحكمها[شان كايشك] الموالي للولايات المتحدة، وأوجدت لنفسها امتيازاً داخل مجلس الأمن دعي [ حق النقض] لأي قرار لا توافق عليه حكومة أي من هذه الدول، وكان منح هذا الإمتياز أول نقض للديمقراطية، وقد استغلته تلك الدول، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة في كثير من المواقف لإبطال كل قرار لمجلس الأمن لا توافق عليها.  وخلال الحقبة التي كان فيها الإتحاد السوفيتي قائماً، كان الصراع على أشده بين الدولتين العظميين حيث يتبع كل منهما نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً يختلف عن الآخر، فكان كل منهما يقف بالمرصاد لأي قرار يسنده الطرف الآخر في ظل الصراع القائم بين الغرب الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي.                                     .
وبعد انهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، أصحبت الولايات المتحدة سيدة العالم دون منازع فقد تكشفت ديمقراطيتها ودعواها بالحرية وما كانت تسميه بـ[ العالم الحر] فإذا هي تضع خلف ظهرها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتبيح لنفسها الحرية المطلقة في التصرف بشؤون العالم، وتمارس ضغوطاً هائلة على أعضاء مجلس الأمن للمصادقة على القرارات التي تريدها، حيث بدا مجلس الأمن وكأنه[مجلس الأمن الأمريكي]، وأخذت تمارس دور الشرطي العالمي، وتصنف دول العالم على هواها، وتساند وتدعم من تشاء، وتشن الحرب على من تشاء، حتى بدا العالم وكأنه مزرعة أمريكية.                        .       

إن ما حدث ويحدث في فلسطين من جرائم بحق الشعب الفلسطيني على يد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على السلطة يندى لها جبين الإنسانية حيث يناضل الشعب الفلسطيني من أجل تحرره من  الاحتلال الإسرائيلي، وهو آخر احتلال في عالم اليوم، حيث نجد الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، وتدعمها في مجلس الأمن، وتحول دون صدور أي قرار يدينها ويدين جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، وتمدها بآخر ما توصلت التكنولوجيا الحربية الأمريكية لتستخدمه ضد شعب أعزل لا يملك سوى بعض الأسلحة الخفيفة التي لا يمكن أن تقارن بجبروت القوات الإسرائيلية التي جعلتها الولايات المتحدة تتجاوز كل الدول العربية مجتمعة، ولم تستثنِ من ذلك السلاح النووي، حيث تملك إسرائيل اليوم أكثر من 200 رأس نووي لكي تبقى سيفاً مسلطاً على رقاب العرب.                    .

ورغم أن هيئة الأمم المتحدة قد قدمت العديد من الإنجازات التي تهدف إلى تنظيم المجتمع الإنساني على أسس من الحرية والعدالة الاجتماعية وكان أبرز تلك الإنجازات [الإعلان العالمي لحقوق الإنسان]، لكن معظم تلك الإنجازات بقيت حبراً على الورق، ولم تلتزم بها الدول، واستمر انتهاك حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية، وحقه في الحياة الحرة الكريمة، ولاشك أن ما تنشره المنظمة العالمية لحقوق الإنسان كل عام عن تلك الانتهاكات لهو الدليل القاطع على تجاوز معظم الدول لنصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على الرغم من توقيع هذه الدول عليه، وتعهدها بالالتزام بتطبيقه، فما تزال العديد من الدول تمارس السجن والتعذيب والإعدام بحق مواطنيها دون سند قانوني، وخاصة بحق السياسيين المعارضين للأنظمة الدكتاتورية.                      .

ولو شاءت الولايات المتحدة أن تقف إلى جانب الشعوب المنتهكة حريتها، ولاسيما وهي اليوم القوة العظمى الوحيدة في عالمنا، لكانت كل تلك القرارات التي صدرت عن هيئة الأمم المتحدة قد رأت النور.
لكن ما نراه اليوم هو أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب أعتا الأنظمة المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وترفض حتى المصادقة على المحكمة الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة لمحاكمة مجرمي الحرب، مشترطة إعفاء جيشها من شموله لصلاحيات هذه المحكمة، وهي بذلك تقر وتعترف بأن جيشها قد اقترف الكثير من تلك الجرائم، وأنها تخشى من أن يطال جنودها العقاب.                                       .                                                                                         
إن كل ما قيل ويقال عن العالم الجديد الذي بشر به بوش الأب ومن بعده بوش الابن الرئيس لا يعدو أن يكون عودة إلى ذلك العصر الاستعماري البشع، والذي دفعت الشعوب ثمناً غالياً من دماء أبنائها ومن ثرواتها، من أجل التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار الذي قاست منه عقوداً عديدة.   
إننا إذا شئنا أن نحقق عالماً جديداً حقاً، عالماً يسوده القانون، وتحترم فيه حقوق الإنسان وحريته وحقه في الحياة الحرة الكريمة، عالماً تحترم فيه الشعوب بعضها بعضاً، عالماً تسوده المحبة بين بني البشر، بصرف النظر عن الدين والقومية والجنس، عالماً يعم به الرخاء لسائر البشرية، عالماً تنعدم فيه الحروب والصراعات بكل أشكالها وألوانها، فإن ذلك يتطلب أعادة النظر الجذرية في ميثاق الأمم المتحدة الذي مضى على إقراره 67 عاماً، وكذلك القانون الدولي بما يتلائم وعصرنا هذا، وهذا يتطلب من المجتمع الدولي تحقيق الإجراءات التالية:                         
 1ـ إلغاء حق النقض، حيث يتعارض هذا الحق مع الديمقراطية الحقيقية، فليس من المعقول أن يوافق 14 عضواً على قرار ما، ويستخدم أحد أعضاء الدول الخمس الكبرى لحق النقض لمنع إصداره كما جرى مراراً عند بحث القضية الفلسطينية، والعدوان الوحشي الإسرائيلي على شعب فلسطين، وكما يجري اليوم عند بحث القمع الفاشي لثورة الشعب السوري على نظام الجلاد بشار الأسد وحزبه الفاشي الذي سطا على السلطة بانقلاب عسكري منذ 8 آذار 1963 وحتى يومنا هذا، مستخدماً كل وسائل القمع لإسكات  المعارضة التي تطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية                                                                      2ـ إخضاع مجلس الأمن لهيئة الأمم المتحدة، لأنها هي  الأساس في هذه المنظمة الدولية، وينبغي أن تكون لقراراتها قوة القانون، لا كما هي اليوم تصدر القرارات من دون أن تنفذ، فقد أخذ مجلس الأمن المنبثق عن الهيئة كل الصلاحيات، وعلى هذا الأساس يكون مجلس الأمن مسؤولاً أمام هيئة الأمم المتحدة، وينفذ قراراتها، وينبغي أن يُنتخب أعضاء مجلس الأمن من قبل هيئة الأمم المتحدة، ولا بأس أن تكون الدول الكبرى أعضاء دائميين في الوقت الحاضر، ولكن من دون أية امتيازات.

 3ـ توسيع العضوية الدائمة لمجلس الأمن ليضم العديد من الدول الكبرى كالهند واليابان والمانيا والبرازيل ومصر كممثلة للعالم العربي، وزيادة عدد أعضاء المجلس غير الدائميين لكي يصبح المجموع 30 عضواً.

 4ـ ينبغي أن ينص ميثاق الأمم المتحدة على وجوب التزام كافة الدول المنضوية تحت راية الأمم المتحدة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصاً وروحاً، والذي يجب أن يتحول إلى قانون، ويمثل جزءً من القانون الدولي، وأن تجري الانتخابات في سائر الدول الأعضاء تحت إشراف الأمم المتحدة.                                                 .

 5ـ ينبغي وقف عضوية أي دولة في المنظمة الدولية لا تلتزم ببنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومقاطعتها لحين تحقيق الالتزام الحقيقي والصادق به، وتتخذ الإجراءات اللازمة بحق الحكومات لإجبارها على التقيد بالقانون الدولي بكامل نصوصه.                 .                                                                                 
 6ـ ينبغي العمل على ردم الهوة العميقة بين عالم الشمال وعالم الجنوب الذي يلفه الفقر، و تحويل جزء من مئات المليارات التي تنفقها الدول الغنية في هذا المجال تحقيقاً للعدالة الاجتماعية التي بشر بها ميثاق المنظمة، من أجل مكافحة موجة الإرهاب الدولي المستشري في عالمنا اليوم.   
إن مكافحة الإرهاب عن طريق القوة وحدها لا يمكن أن يحقق النجاح ما لم يتم مكافحة الفقر الذي يُعتبر المرتع الأول لتفريخ قوى الإرهاب.
كما أن إحساس الشعوب المستضعفة بفقدانها لحقوقها الوطنية والإنسانية يمثل عاملاً آخر لا يقل أهمية وإلحاحاً لتجفيف مصادر الإرهاب، فالشعوب جميعاً تواقة لحريتها، وحقها في الحياة الآمنة والمستقرة والكريمة.          ويحضرني هنا العالم الاقتصادي الأمريكي [ فكتور بيرلو ] مؤلف كتاب [اقتصاد السلم والحرب] الصادر عام 1952، فقد أحصى المؤلف في كتابه كلفة الحرب العالمية الثانية، وما أنفقته الدول المشاركة في تلك الحرب، وخرج بالنتيجة التالية حيث يقول : [ لو صرفت الأموال التي تم صرفها في تلك الحرب لخير وسعادة البشرية، وقُسّم سكان كوكبنا إلى عوائل وتتألف كل منها من خمسة أشخاص لنالت كل عائلة فيلة أنيقة وسيارة]!! 
فأين نحن اليوم من تكاليف التسلح والحروب التي تتجاوز الأرقام الفلكية، الخيالية في حين تعيش مئات الملايين من بني البشر تحت خط الفقر؟ إلا يكفي ما يتعرض اليوم مئات الملايين من البشر إلى الموت جوعاً؟         
ألم يحن الوقت لتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية بين بني البشر؟         

هذا هو المدخل الحقيقي لإجراء أصلاح حقيقي للمنظمة الدولية إذا شئنا بناء عالم جديد تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية بكل تفاصيلها. وينال احترام الشعوب قاطبة، وينتهي العداء، وتختفي الكراهية، وتسود المحبة، ويعم السلام بين بني البشر في شتى بقاع الأرض، ويعم الرخاء، ويتحقق العيش الرغيد، وتنتفي الحروب وويلاتها وتوجه تكاليفها الباهضة لخير وسعادة البشرية، و عند ذلك يختفي الإرهاب والإرهابيون في عالمنا مرة وإلى الأبد.                                       

 

217
من أجل مناهج تربوية ديمقراطية علمانية تواكب العصر
 لا مناهج دينية طائفية متخلفة!

حامد الحمداني                                                                                     29/9/2012   
يشهد عالمنا اليوم يشهد تطورات علمية هائلة، بل نستطيع القول أن ثورات علمية جبارة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والصحية، والتي جاءت بوتائر سريعة، قد يقف الإنسان مذهولاً أمامها على الرغم من أنه هو الذي أوجدها وطورها.

 فالعالم اليوم قد انتقل من عصر الذرة والأقمار الصناعية إلى عصر الكومبيوتر والإنترنيت ، والاتصالات، وأجهزة الاستقبال التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، ومكنت الإنسان من الحصول على كل ما يحلم به من المعلومات بدقائق معدودة. ومن الطبيعي أن هذا التطور العلمي الذي نشهده لم يقتصرعلى الاختراعات و الصناعات المختلفة، فقد كان لابد أن يحدث التطور في المجال التربوي والتعليمي جنباً إلى جنب، حيث أن المجالين يكمل بعضهما بعضاً، ولأن التطور التقني يتطلب قدرات متطورة وعالية لدى العاملين، لكي يستطيعوا مواكبة التطور التقني في العصر الحديث.

إن مدارسنا اليوم بأشد الحاجة لإجراء ثورة هائلة في أساليب التربية والتعليم، وإعادة النظر الجذرية في المناهج والكتب المدرسية، وفي الأساليب التربوية التي تمكن المدرسة من مواكبة العصر، والسير بها إلى الأمام، لا العودة إلى الوراء مئات السنين كما تحلم القوى والأحزاب الدينية والطائفية الممسكة بالسلطة في معظم بلدان العالم العربي.

إن هذا الأمر يتطلب ضرورة ربط المدرسة بالمجتمع، فهي جزء لا يتجزأ منه، و ينبغي أن يكون مجتمعاً مصغراً خالياً من الشوائب التي نجدها في المجتمع الكبير، لكي تؤدي واجبها في تربية الأجيال، وتعريفها بالتراث بعد تخليصه من كل الشوائب التي تتنافى وطبيعة العصر، والسعي الحثيث لإدخال الأساليب التربوية الحديثة التي تعتبر التربية المدرسية عملية حياتية، وليست عملية إعداد للمستقبل فحسب، حيث اعتبرت المدرسة القديمة أن العملية التربوية التي تتم في المدرسة تهدف إلى إعداد التلاميذ للمستقبل، أي أنها ترتبط بالمستقبل أكثر مما ترتبط بالحاضر،و بناءً على هذه النظرة يهون عمل أي شيء في الحاضر إذا كان يضمن قيمة أو فائدة.
إن من الضروري الاهتمام بالمواضيع العملية والمهنية عامة، والاهتمام بالأعمال اليدوية والمهنية في المنهج الدراسي، وعدم الإقلال من شأنها، والتأكيد على مبدأ الفعالية في الحصول على الخبرة والتعلم ما دامت التجربة هي التي تظهر الخطأ أو الصواب في فرضياتنا وآراءنا، وأن تكون نظرتنا إلى المسائل النظرية والمهنية على قدم المساواة، وضرورة إدخال أنواع مختلفة من المهن إلى المدرسة حيث أن هذه المهن تجدد روح المدرسة، وتربطها بالحياة، وتجعل المدرسة بيئة صادقة للطفل، يتعلم منها العيش المباشر، بدلاً من أن تكون مجرد محل لتعليم دروس نظرية ذات صلة بعيدة ومجردة بحياة قد تقع في المستقبل.

 وليكن معلوماً أن الهدف من إدخال المهن إلى المدرسة ليس من أجل القيمة الاقتصادية فقط، بل من أجل تنمية القوة الاجتماعية، وبعد نظرها، فالمهنة تجهز التلميذ بدافع حقيقي، حيث تعطيه خبرة مباشرة، وتمنحه الفرصة للاتصال بالأمور الواقعية .

ولكي تكون أساليبنا التربوية سليمة وناجحة فلا بد من ربط العملية التربوية بالديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية أسلوب راقٍ في الحياة، وهي تعني المساواة بين الأفراد، وتهيئة الفرص المتكافئة لهم دون تمييز، وتعني التكافل الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية، وحرية الاعتقاد، والقول والنشر، والاجتماع، وهي تعني كذلك إقامة علاقات إنسانية تتسم بالأخذ والعطاء، وتغليب العقل في التصرف، وتعطي الخبرة في مجابهة وحل المشكلات التي تصادفنا.

إن المدرسة الديمقراطية التي نصبو إليها هي تلك البيئة التي يعيش فيها التلاميذ والمعلمون وسائر العاملين فيها زملاءً متعاونين من أجل تحقيق الهدف المشترك الذي يخدم العملية التربوية على الوجه الأكمل. 

ولا شك أن المناهج التربوية الحاضرة في مدارسنا العراقية بوجه خاص والعالم العربي بوجه عام تتطلب إعادة النظر الجذرية فيها، وخاصة ما يخص مناهج التاريخ والتربية الاجتماعية والدينية، واستئصال الفكر الفاشي والظلامي التكفيري، والتأكيد على الجانب الإنساني في العلاقات الاجتماعية، وإحلال الفكر الديمقراطي وثقافة حقوق الإنسان، واحترام الرأي والرأي الآخر، والكفاح الفعّال ضد أساليب القمع التي يتعرض لها الأطفال في البيت والمدرسة على حد سواء.

كما أن تحقيق الأهداف المرجوة من العملية التربوية تقتضي إعادة إعداد الجهاز التربوي أعداداً ديمقراطياً يمكّنه من القيام بالمهمات الجديدة الملقاة على عاتقه بعد تلك الحقبة السوداء التي دامت أربعة عقود، والتي تم خلالها تسخير الجهاز التربوي لخدمة النظام البعثي الشمولي، وإشباع أفكار التلاميذ بالفكر الفاشي، وتقديس الدكتاتور، والطاعة العمياء.

كما إن إقحام الحوزة الدينية الشيعية، أو الأحزاب الدينية السنية في العملية التربوية، وفي إعداد المناهج المدرسية لن توصل أجيالنا إلا إلى تأصيل الفكر الطائفي، والفكر التكفيري، والتخلف والنكوص إلى الوراء مئات السنين.
إن الإجراءات التي اتخذتها وزارة التربية في تشكيل اللجان لوضع مبادئ الفلسفة التربوية لمدرس العراق تشير بوضوح إلى أن هذا التوجه لا يعني سوى إقحام المرجعية الدينية في تقرير الأساليب التربوية التي ستعمم على  مدارس العراق كافة، حتى لكأنما باتت مدارسنا قد أصبحت عبارة عن مدارس دينية تابعة لهيمنة رجال الدين.
إن هذا التوجه في الاعتماد على رجال الدين شيعة كانوا أم سنة يتنافى ومنطق العصر، ويهدد التربية في بلادنا بمستقبل مظلم ستمتد آثاره لعقود طويلة من التخلف والنكوص، بدلاً من التوجه العلماني الهادف إلى مواكبة التطورات التربوية المعاصرة، و الهادفة إلى خلق أجيال متسلحة بالعلم والمعرفة التي لا غنى لنا عنها إذا كنا ننشد حقاً بناء عراق ديمقراطي متطور، وخلق أجيال متسلحة بالكفاءات العلمية التي ستقود العراق في السنوات والعقود القادمة.   

ولا شك إن وزارة التربية العراقية تتحمل المسؤولية الكبرى في إعداد المناهج التربوية الصحيحة، وهذا يتطلب أن يكون على رأس هذه الوزارة شخصية تربوية متمرسة ذات توجه علماني وديمقراطي تتولى تكليف لجنة موسعة من العناصر التربوية الديمقراطية ذات الخبرة والكفاءة،بصرف النظر عن الانتماء الديني والطائفي والعرقي، ومن التي لم ترتبط فيما سبق بالنظام البعثي وفكره الفاشي، ولا بالمراجع الدينية مهما كانت طائفتها أو توجهاتها، فرجال الدين مكانهم وواجباتهم الدينية في الحسينيات والجوامع، وليس في المدارس، لكي تنشأ أجيالنا بعيداً عن الفكر الطائفي والظلامي التكفيري المتخلف.

 
 

218

حذار قبل أن ينطلق الزناد، وتندلع الحرب الأهلية

حامد الحمداني 
21/7/2012


ما برحت أحزاب الإسلام السياسي  الشيعية، وكتلة علاوي العراقية!،التي تضم خليطاً من العناصر البعثية والقومية، وأحزاب القومية الكردية المتمثلة بحزبي البرزاني والطلباني، والمتصارعة على السلطة والثروة  تطل علينا بين آونة وأخرى بمشاريعها الهدامة الهادفة لتمزيق العراق، وتبذل نشاطاً محموماً، كما جرى سابقاً في محافظة البصرة التي يسيطر على السلطة فيها حزب الفضيلة، في الدعوة لإقامة فيدرالية جديدة في المحافظة، وقد ركب هذه الموجه آنذاك النائب عن البصرة  وائل عبد اللطيف في دعوته لقيام فيدرالية البصرة، ومباشرته لحملة جمع التواقيع لمشروعه الهادف لتفتيت العراق، والذي فشل فيه، ثم تلاه دعوات من مجالس محافظة ديالى وصلاح الدين والانبار بدفع من كتلة أياد علاوي
كما كان زعيم  المجلس الأعلى الحكيم  قد دعا إلى إقامة فيدرالية الجنوب والفرات الأوسط، التي تضم  تسعة محافظات، رداً على مشروع حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لفيدرالية البصرة.

وتصاعدت لهجة قادة الأحزاب القومية الكردية في الآونة الأخيرة، متجاوزة الفيدرالية التي تنعم بها، والتي جاوزت حتى الكومفيدرالية بمراحل، مستخدمة أساليب التهديد والوعيد لحكومة المالكي، وداعية لإقامة دولة كردية والانفصال عن العراق.
هكذا بكل بساطة تعد القوى الطائفية والقومية الكردية مشاريعها الهادفة لتفتيت العراق، يدفعها سيل لعابها للثروة النفطية التي تزخر بها مناطق جنوب العراق وشماله، في الوقت الذي استطاعت فيه الأحزاب القومية الكردية بدعم ومساندة الحاكم الأمريكي السيئ الصيت [ بول بريمر] الذي مهد لهم السبيل بقانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية، والذي صادق عليه مجلس الحكم الذي اختار أعضائه  بريمر نفسه، والذي تمتعت فيه قيادات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية وحزبي البارزاني والطالباني بالأغلبية المطلقة فيه، ثم جرى تشريع الدستور من قبل نفس هذه القيادات التي فازت بأغلبية المقاعد في البرلمان الذي جرى انتخابه عام 2004 ، بعد مقاطعة الطائفة السنية للانتخابات، وبموجب قانون انتخابات غير عادل، وفي ظل الصراع المسلح على السلطة من قبل ميليشيات هذه الأحزاب، لتمهد لهذه القيادات الطريق لتشريع الدستور الذي جاء مطابقاً لدستور بريمر المؤقت مع إضافات عرقية لصالح الاحزاب القومية الكردية، وطائفيه لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وكان مشروع الفيدرالية الذي سطره الحاكم الأمريكي بريمر في صلب الدستور الذي تم إقراره فيما بعد من قبل هذه الأحزاب التي هيمنت على البرلمان والحكومة معا.
لقد كان مشروع الفيدرالية الذي أقرته ما كانت تسمى بأحزاب المعارضة العراقية في مؤتمراتها قبل الغزو الأمريكي للعراق يتعلق فقط بحل المشكلة الكردية المزمنة لكي يتمتع الأكراد بالحكم الذاتي ضمن إطار الدولة العراقية، ولم يتم إقرار أي مشروع لتقسيم العراق إلى دويلات طائفيه.
 لكن شهية قيادات الأحزاب القومية الكردية، وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية للسلطة والثروة بعد إسقاط نظام صدام الديكتاتوري الفاشي باتت تطغي على الساحة السياسية، ولعب قادة هذه الأحزاب الطائفية والقومية  الكردية المتحالفة مع بعضها دوراً فاعلا في تضمين الدستور العراقي نصاً يدعو إلى تحويل العراق إلى دولة فيدرالية !!، وتضمنت مواد الدستور صلاحيات واسعة للفيدرالية بحيث تجاوزت في كثير من الأحيان صلاحيات الحكومة الاتحادية!!.

 وبدأت الخلافات بين فيدرالية كردستان والحكومة الاتحادية تظهر في العلن على وجه متصاعد بحيث باتت الفيدرالية في كردستان دولة داخل دولة، فيدرالية تتمتع بكل مقومات ومتطلبات الدولة، لها دستورها وحكومتها، وبرلمانها، وجيشها، وعلمها، وحدود محدودة تضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية، وأخرى مختلف عليها!!، كما ورد في نص الدستور البريمري العتيد تطالب بها القيادة الكردية المتمثلة بالرئيس الطالباني، ورئيس الإقليم البارزاني، وتضم محافظة كركوك الغنية بالنفط  وما يزيد على نصف محافظتي الموصل وديالى، نزولا نحو الجنوب إلى بدرة وجصان!!.
كما تتمتع دولة كردستان بتمثيل سياسي في مختلف البلدان الغربية منها والشرقية، وهكذا لم يبقَ لدولة كردستان إلا الإعلان الرسمي لقيامها بانتظار الظروف الدولية والإقليمية المناسبة.
واستمرت الخلافات بين الحكومة العراقية وقادة دولة كردستان تطفوا على سطح الأحداث، وتصاعدت لهجة قادة كردستان في ردها على حكومة  المالكي، ورد المالكي على تلك التصريحات في مؤتمراته الصحفية، وبدأت الاحتكاكات بين الجيش العراقي وميليشيات البيشمركة في كركوك وخانقين وجلولاء، وتتالت تهديدات البارزاني العلنية  بالحرب الأهلية الحقيقية كما سماها إذا لم تعد كركوك وبقية المناطق المختلف عليها إلى دولته العتيدة.
لقد أدرك المخلصون الحريصون على وحدة العراق أرضاً وشعبا ما انطوى عليه الدستور من مواد ذات أبعاد خطيرة على مستقبل العراق ووحدته أرضاً وشعبا، وحذروا من أخطار الدعوات التي بدأت تتصاعد في الجنوب لإقامة كيانات جديدة على غرار فيدرالية كردستان تستهدف تمزيق العراق كدولة وإنهائها، والاستئثار بالسلطة والثروة، فمحافظة البصرة هي ثغر العراق الوحيد، وبدونها يختنق العراق بكل تأكيد، هذا بالإضافة إلى كونها غنية جداً بالنفط.

عند ذلك أدرك رئيس الوزراء المالكي بعد سنوات خطورة ما انطوى عليه الدستور، بعد أن لمس من خلال التطبيق مدى عمق التناقض والخلافات بين فيدرالية كردستان والمركز، ومحاولة تهميش دور الدولة المركزية، وتحدي قرارات وزير النفط فيما يخص العقود النفطية التي وقعتها حكومة كردستان مع العديد من شركات النفط، وحول مشروع قانون النفط والغاز الذي تحاول القيادة الكردية تمريره حسب مزاجها، وحول دور البيشمركة ووجوب كونها جزء من القوات العراقية المسلحة، تتلقى أوامرها من رئيس الوزراء المالكي، في حين ترفض القيادات الكردية التزام ميليشياتها بذلك، ولا تتلقى أوامرها إلا من حكومة البارزاني.
فقد أعلن السيد رئيس الوزراء نوري المالكي في حديث جديد له أمام مؤتمر الكفاءات والنخب المثقفة المنعقد في بغداد قائلا:
{إن هناك ضرورة لإعادة كتابة الدستور الذي كتب على عجل من جديد، حيث إن المخاوف لم تكن موضوعية، وقد وضعنا قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر، وكتفت المستقبل، ولابد من إعادة كتابة الدستور بطريقة موضوعية، تمنح الحكومة المركزية الصلاحيات التي تمكنها من القيام بمهامها، وليست للحكومات المحلية.
وأضاف المالكي قائلاً إن الدستور كان قد كتب قبل ثلاث سنوات في أجواء كانت فيها مخاوف من عودة الدكتاتورية من جديد بعد إزاحة نظام صدام لكننا ذهبنا بعيدا في تكريس المخاوف وتكريس التطلعات، وأستطيع القول أن تلك المخاوف لم تكن موضوعية، وهي التي جعلتنا نضع قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل.

وركز المالكي على عملية إعادة النظر بالدستور العراقي، وجرى تشكيل لجنة برلمانية بإعادة النظر بالدستور الذي شرع نهاية العام 2004 قائلاً:
لقد أصبحنا بحاجة إلى مراجعة الدستور بعد أن تمكنا من تأسيس الدولة وحمايتها من الانهيار، وأصبح علينا أن نتجه اليوم إلى بنائها وفق أسس وطنية دستورية واضحة تحدد فيها الملامح والصلاحيات، وأضاف قائلاً علينا أن نضع ما يضمن لنا ألا تكون اللامركزية هي الدكتاتورية مرة أخرى حيث باتت الفيدرالية هي التي تصادر الدولة اليوم.

وطالب المالكي بضرورة وجود صورة واضحة للنظام السياسي يعطي الصلاحيات للحكومة المركزية بالشكل الذي يحول دون وجود حكومات حقيقية متناحرة فيما بينها، كما يجب بناء دولة اتحادية قوية حكومتها لها مسؤولية كاملة في الأمن والسياسة الخارجية، وان تكون الصلاحيات أفضل للحكومة الاتحادية، وما عداها ينص عليه الدستور من صلاحيات الأقاليم والمحافظات، وما لا ينص عليه فيعود إلى الحكومة المركزية.

 وطالب المالكي بتوزيع الصلاحيات الأخرى بطريقة تضمن عدم ولادة مركزية حديدية سواء للمركز آو للإقليم والمحافظات قائلاً أن وجود فيدراليات وحكومات محلية دون وجود حكومة قوية قادرة على حماية السيادة والأمن أمر غير ممكن، وهو اتجاه غير صحي،. ودعا المالكي أن تناط مسؤولية الأمن للحكومة المركزية قائلاً أنا أتحدث في ذلك عن تجربة لو لم تتصد الدولة المركزية للأمن لفلتت الأمور.
وقد جاء توجه المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا مع مطالبة الطائفة السنية، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل تقوية الفدراليات على حساب الحكومة المركزية.
لقد أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة كردستان، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات، وآخذ المزيد منه .
 (وجاءت تصريحات المالكي التي نشرتها السومرية نيوز في 16/8/2011 لتؤكد من جديد أن الحكومة العراقية الحالية والدستور العراقي بنيا على أساس قومي وطائفي، وأن الدستور قد تضمن ألغاما بدأت تتفجر وليس حقوقاً، ودعا إلى تعديله بما يحقق دولة المواطنة، واعتماد الأساس الوطني،والانتماء للوطن بعيدا عن بقية الانتماءات.                                                                                 
 
وتحدث المالكي في كلمة ألقاها خلال استقباله عدداً من الصحافيين، وحضرته السومرية نيوز الدستور قائلاً إن الدستور كتبناه وكل منا أراد أن يثبت فيه انتمائه وقوميته ومذهبه بأشياء يضعها في الدستور، لكننا اكتشفنا أخيرا أننا لم نكن منذ البداية ندرك أننا زرعنا فيه ألغاما وليس حقوقاً.وأضاف المالكي أن تلك الألغام بدأت تتفجر يوماً بعد يوم على شكل حصص طائفية وقومية موضحا بالقول أي دولة عدالة ومواطنة تتحدثون عنها والحكومة اليوم تتشكل وفقا للمقاييس الطائفية والمتحاورون تحت مظلة الشراكة يضع كل حاسبته بيده، ويحسب كم هي حصته على أساس قومي أو طائف!!. 
                                       .
واعترف المالكي بان المحاصصة القومية والطائفية موجودة، وأضاف ولعلها من ابرز مشاكلنا، ولا خيار لنا!!، إلا أنه شدد على أن هذه الحالة يجب أن تنتهي، وإذا كانت قد فرضت نفسها نتيجة مخلفات وموروثات النظام السابق، وكان الجميع يبحث عن ذاته ونفسه، من اجل أن يثبت وجوده، فأصبح يطرح هذا الطرح فينبغي أن تنتهي وأضاف المالكي قائلاً                                    أنه ليس عيبا أن نقول كتبنا الدستور بأيدينا، بل علينا أن نستفيد من تلك التجربة، وأن نعدل الدستور بما يحقق دولة المواطنة، واعتماد الأساس الوطني، والانتماء للوطن، بعيدا عن بقية الانتماءات، ودعا السياسيين العراقيين إلى العمل من أجل أن يشعر المواطن أنه محترم في وطنه، وأن لا يتحول إلى ذلك السياسي الذي يتميز ويميز ويتسلط ويتجبر ويعمل من خلال مواقعه في المسؤولية لصالح هذه الهوية أو تلك، أو هذا المكون أو ذلك، مؤكدا أن العراق لا ينهض أبدا إلا إذا تساوى أبناؤه في هوية واحدة هي هوية العراق، وهو السقف والمظلة التي يمكن أن يكون تحتها هويات أخرى موجودة، وهذا يلزمنا أن نغادر وبشكل نهائي دولة الطوائف والقوميات.
 جميل جداً أن يعترف السيد المالكي بالخطأ الجسيم الذي وقع فيه عندما جرى تفصيل الدستور على مقاس أحزاب الإسلام السياسي الشيعية بالاتفاق مع حزبي البارزاني والطالباني القومية الكردية، وكان الهدف واضحاً لكل ذي بصر وبصيرة أن هذا الدستور يستهدف تمزيق العراق، وخلق دويلات الطوائف والقوميات، وبذلك يغدو برميل بارود، ومدخلاً لحروب أهلية قادمة.
لكن إدراك هذه الحقيقة، والاعتراف بالخطأ ليس كافياً إذا لم يسارع الطرف المخطئ بتلافي الخطأ، ومعالجة الأمر بكل حزم وجرأة، وبأسرع وقت ممكن قبل أن يفوت الأوان.
إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً هي مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال القادمة، وهي تقتضي إعادة كتابة الدستور من جديد،
دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه أو إشارة طائفية أو عرقية، دستور يؤكد على الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.
كما ينبغي أن ينص الدستور على كون الفيدرالية تخص المنطقة الكردية فقط مع تعديل العديد من المواد التي جعلت سلطة الإقليم فوق سلطة الدولة المركزية!!. كما ينبغي منح إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية محددة فقط، على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض.

السبيل لتجاوز الازمة الخطرة وتلافي الانفجار؟
 إن النظام الحالي بكل مؤسساته التنفيذية والتشريعية والقضائية غير مؤهل وغير جدير للقيام بهذه المهمة الصعبة، دون تشكيل حكومة محايدة غير حزبية تتولى حل البرلمان، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة بموجب قانون انتخابي ديمقراطي جديد، وقانون ينظم عمل الاحزاب السياسية بعيد عن الطائفية والعرقية، وإعادة تكوين المفوضية العامة للانتخابات من عناصر قانونية مشهود لها بالنظافة، والايمان المطلق بالديمقراطية، لتجري انتخابات برلمانية تتسم بالشفافية، والحياد التام، وتحت إشراف دولي، لكي يتولى البرلمان القادم إعداد دستور ديمقراطي جديد للبلاد، وتأليف حكومة جديدة بعيداً عن المحاصصة الطائفية والعرقية، كي تستطيع تنفيذ المهام المطروحة، والملحة، والكفيلة بإخراج العراق من مأزقه الراهن الذي ينذر بالخطر الجسيم نتيجة الصراع الدائر بين مكونات هذا الخليط العجيب والغريب للسلطة سواء داخل الحكومة أم داخل البرلمان، أم على مستوى الشارع العراقي، حيث المفخخات والاحزمة والعبوات الناسفة والاغتيالات التي تجري بالمسدسات الكاتمة للصوت، وحيث التهديدات المتتالية من قبل حكومة البرزاني،والسياسة الاستفزازية التي تتعامل بها مع حكومة بغداد بعقد الاتفاقيات النفطية مع شركات النفط العالمية بعيداً عن حكومة بغداد، والامتناع عن تصدير الكمية المتفق بها مع الحكومة المركزية والبالغة 175 الف برميل يوميا، والمباشرة بتصدير النفط لحساب حكومة الإقليم إلى تركيا، والسعي الحثيث للتسلح، وبناء جيش كردي مستقل لا سلطة لحكومة المركز عليه، كل هذه الإجراءات والأفعال إن استمرت فلا توحي إلا بحتمية الانفجار الذي لن يخرج احد منه سالماً بل سينتحر الجميع، فهل تتغلب الحكمة ويسود العقل، أم يركب المغامرون الرؤوس؟ 

219
في الذكرى الرابعة والخمسين لثورة 14 تموز
الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي
والحزب الديمقراطي الكردستاني
وعبد الكريم قاسم

حامد الحمداني                                              15 تموز 2011                                                       
القسم الثالث والأخير

لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام، فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية، محاولاً فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح.

لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة  وسيّر المظاهرات المؤيدة لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التي كانت تهتف بالشعار الذي رفعه الحزب، والذي يدعو إلى إقامة الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ شعار أسلوب الإلحاق القسري الذي رفعته القوى القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية والبعثية.

 ففي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة، وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه
من أجل دعم مسيرة الثورة، وتحقيق أهدافها.

 وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها، ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فقد كان من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل، وخاصة بعد أن استطاعت الثورة تثبيت كيانها، وتراجع القوى الإمبريالية عن محاولتها إجهاض الثورة عن طريق العمل العسكري.
 لجأ الحزب إلى تقديم مذكرة للزعيم عبد الكريم قاسم مطالبة إياه بإشراكه في السلطة، وكان لتلك المذكرة دوي كبير، وأثارت القلق الشديد لدى الزعيم عبد الكريم قاسم، والقيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي المتمثلة بكتلة محمد حديد نائب رئيس الحزب عن نوايا الحزب الشيوعي، ولاسيما وان الحزب كان سيد الشارع العراقي دون منازع، وقد ضم تحت جناحيه المقاومة الشعبية بكل تشكيلاتها، ومنظمة الشبيبة الديمقراطية، ومنظمة أنصار السلام وسائر النقابات المهنية، والاتحاد العام العمال والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، والاتحاد العام للطلاب، مما أثار الشكوك بنوايا قيادة الحزب.

لقد كان لهذه المذكرة دوي كبير في الأوساط السياسية و للسلطة العليا على حد سواء، فالقوى القومية فسرته بأنه خطة الحزب الشيوعي في التمهيد للوثوب إلى السلطة.

 أما الحزب الوطني الديمقراطي، ممثل البرجوازية الوطنية في السلطة، فقد أبدى تخوفاً من تنامي قوة الحزب الشيوعي، وتأثير ذلك على مستقبل الحكم في البلاد.

 أما الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد كانت الريبة والشكوك تخالجه من تنامي قوة الحزب الشيوعي من جهة، وحبه الشديد للاستئثار بالسلطة لوحدة من جهة أخرى، ولذلك فقد تجاهل مذكرة الحزب، ولم يرد عليها، وكان على الحزب الشيوعي أن يعي ذلك منذُ ذلك الوقت!.
وجاءت مسيرة الأول من أيارـ  عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[ إشراك الحزب الشيوعي في السلطة] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي، وجماهير الحزب، من عمال وفلاحين، ومدرسين وطلاب وأطباء ومحامين ومثقفين، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم  والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم.
وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً، أدخل بموجبه الدكتورة [نزيهة الدليمي]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين كل من المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان،  والدكتور [ فيصل السامر ] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد، والدكتور[ عبد اللطيف الشواف]، وزيراً للتجارة.

 لكن إجراء  قاسم لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن، ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي. أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى، تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، و أصابها دوّار شديد، وباشرت أجهزته على الفور تحبك الدسائس، عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف  والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب الشيوعي، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.

وحقيقة القول، كان للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.

إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.

لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، ثم عاد وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم أن يوغل في مواقفه العدائية تجاه الحزب.

أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة، لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة [الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.

 وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات.
 لقد استفادت تلك القوى فائدة كبرى من مواقف قاسم العدائية تجاه الحزب الشيوعي، التي أدت إلى انعزاله عن الشعب، وعن القوى التي وقفت بكل أمانة، وإخلاص إلى جانبه، وكانت محاولة عبد السلام عارف الانقلابية، ومؤامرة رشيد عالي الكيلاني، ومحاولة حزب البعث اغتيال قاسم نفسه، في رأس القرية، ومحاولة العقيد الشواف الانقلابية الفاشلة، أكبر برهان على صواب مواقف الحزب الشيوعي من تلك العناصر التي سلكت طريق التآمر منذُ الأيام الأولى للثورة.

وفي الوقت نفسه أثبتت تلك الوقائع خطأ الطريق الذي سلكه عبد الكريم قاسم، وإجراءاته المعادية للحزب الشيوعي، والتي مهدت السبيل لانقلابيي 8 شباط 1963، لاغتيال الثورة، واغتياله، وإلحاق أفدح الأضرار بالشعب العراقي التي استمرت إلى يومنا هذا.

انشقاق الحزب الوطني الديمقراطي ودور الحزب الشيوعي
تفاقمت الخلافات بين أقطاب الجناحين، اليميني واليساري داخل الحزب الوطني الديمقراطي بسبب المواقف التي وقفها جناح محمد حديد من مسألة تجميد نشاط الحزب بناء على طلب عبد الكريم قاسم، أثناء غياب رئيس الحزب الأستاذ كامل الجادرجي عن العراق، مما دفع الجناح اليساري في الحزب إلى إعلان عدم اعترافه بقرار التجميد، معلناً عزمه على مواصلة نشاط الحزب، وتحدي قرار القيادة اليمينية للحزب، وكان على رأس هذا الجناح كل من السادة: عبد الله البستاني، وعبد المجيد الونداوي، و علي عبد القادر نايف الحسن، وحسان عبد الله مظفر، وناجي يوسف، وعلي جليل الوردي، وحسين أحمد العاملي، وسليم حسني، وعادل الياسري، وهم جميعاً عناصر قريبة من الحزب الشيوعي. 

تصاعدت الأزمة بين الجناحين عندما عاد الجادرجي إلى بغداد، ووجه انتقاداً شديداً لقرار التجميد، ولمحمد حديد، نائب رئيس الحزب، طالباً منه ومن زميله هديب الحاج حمود الاستقالة من الوزارة بعد إقدام عبد الكريم قاسم على تنفيذ حكم الإعدام بالضباط المشاركين في محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، ولعدم امتثال الوزيرين  لطلبه، سارع الجادرجي  إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب، ومن عضويته كذلك.

كان لقرار الجادرجي بالاستقالة أثره الكبير على تفاقم الأزمة بين الجناحين داخل الحزب، وخصوصا بعد فشل المساعي التي بذلها الجناح اليساري لعودة الجادرجي لقيادة الحزب، وتباعدت مواقف الجناحين عن بعضهما، نظراً لما يكنه قادة الجناح اليساري للحزب من احترام وتقدير لشخص الجادرجي، واعتزازاً بقيادته التاريخية للحزب.

وبسبب تفاقم الأزمة داخل الحزب، أقدم جناح محمد حديد على تأسيس حزب جديد باسم [الحزب الوطني التقدمي]، وتقدم بطلب إجازة الحزب في 29 حزيران 1960، وضمت هيئته المؤسسة كل من السادة  محمد حديد، وخدوري خدوري، محمد السعدون، و نائل سمحيري، وعراك الزكم، وسلمان العزاوي، وعباس حسن جمعة، ورجب الصفار، جعفر الحسني، ورضا حلاوي، وعبد الأمير الدروي، وعباس جودي، وحميد كاظم الياسري، وعبد الرزاق محمد. 

وقد تمت إجازة الحزب دون أي تأخير، واستمرت قيادة الحزب في دعم سياسة عبد الكريم قاسم، وخاصة فيما يتعلق بمواقفه من الحزب الشيوعي.
ومن الملاحظ أن أغلبية قيادة الحزب جاءت من بين العناصر البرجوازية، ومن الملاكين، ورجال الصناعة، الذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد من تنامي قوة الحزب الشيوعي.

ونتيجة للشرخ الكبير، الذي حدث في صفوف جبهة الاتحاد الوطني، خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، وانسحاب الأحزاب القومية منها ومن الحكومة، لم يبقَ في الجبهة سوى الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، وحتى العلاقة بين هذين الحزبين أخذت بالتردي يوماً بعد يوم بعد اتساع المد الشيوعي وسيطرته على الشارع العراقي، وهيمنة الحزب الشيوعي على كافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والعمالية، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وتلك كانت أحد الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الحزب الشيوعي،  والتي سببت ابتعاد الحزب الوطني الديمقراطي، وبشكل خاص جناحه اليميني عنه، وسعيه الحثيث لكبح جماح الشيوعية، وتحريض عبد الكريم قاسم على الوقوف بوجه الحركة الشيوعية حرصاً على مصالحه الطبقية.

كان على الحزب الشيوعي، الذي حرصت قيادته على اعتبار تلك المرحلة هي مرحلة الوطنية الديمقراطية، عدم استفزاز البرجوازية الوطنية، واستبعادها عن النشاطات الديمقراطية، والاستئثار بكافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، والفلاحية.

أخذت العلاقات بين الحزبين بالتردي، كما أسلفنا يوماً بعد يوم حتى وصلت إلى طريق اللا عودة، عندما حدث الانشقاق في صفوف الحزب الوطني الديمقراطي، ومن ثم استقالة رئيسه الأستاذ كامل الجادرجي، ومن ثم استقالة الجناح اليميني بزعامة محمد حديد من الحزب، وتأليفهم [الحزب الوطني التقدمي].

لقد لعب الحزب الشيوعي دوراً في ذلك الانشقاق عندما دفع، وشجع العناصر اليسارية في الحزب الوطني الديمقراطي، إثر قرار الجناح اليميني تجميد نشاط الحزب، إلى تشكيل قيادة جديدة للحزب،  ومواصلة النشاط السياسي.

لقد كانت تلك الخطوة من جانب الحزب الشيوعي، والجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي خطوة انفعالية بلا شك عمقت من الشرخ بين الحزبين من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى، فقد كان واضحا أن قاسم قد قرر أن يقف بوجه الحزب الشيوعي مهما فعل، أضافه إلى دفع العلاقة بين الحزبين إلى مرحلة اللا عودة.

لكن الحزب الشيوعي ذهب إلى أبعد من ذلك عندما دعا الجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي، والجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى إقامة [ جبهة وطنية ديمقراطية جديدة ]، وسارع الموقعون على ميثاق الجبهة الجديدة إلى إرسال مذكرة إلى عبد الكريم قاسم تشرح فيها الأوضاع السائدة في البلاد، والمخاطر التي تجابه الثورة ومكاسبها، وأهمية الوحدة الوطنية في الكفاح ضد الاستعمار والرجعية، وتعلن فيها عن إقامة الجبهة، وأهدافها.

لكن عبد الكريم قاسم، الذي كان قد عقد العزم على ضرب الحزب الشيوعي  والحد من نشاطه، والسير في طريق الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، تجاهل تلك المذكرة، وتجاهل الجبهة، بل وأوغل أكثر فأكثر في سياسته الهادفة إلى تجريد الحزب الشيوعي من كل أسباب قوته، وجماهيريته، وتوجيه الضربات المتلاحقة له، ولم تفد الحزب تلك العبارات التي أطرى بها على قاسم، وسياسته الحكيمة!! في زحزحته عن مواقفه تجاه الحزب  بل جعلته يندفع أكثر فأكثر في هذا السبيل، مصمماً على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه السياسي، استناداً لقانون الأحزاب والجمعيات الذي أصدره في 1 كانون الثاني 1960.

أما محمد حديد ورفاقه في الحزب الوطني التقدمي فقد رفضوا الانضواء تحت راية تلك الجبهة، معللين ذلك بأن الحزب الشيوعي قد عمل من وراء ظهر الأحزاب، وأن تلك الجبهة هي من صنع الشيوعيين، ورفضوا أي نوع من التعاون مع الحزب الشيوعي، ومع الجبهة المعلنة.

وهكذا فإن هذه الجبهة لم تستطع أن تؤدي مهامها، وتحقق أهدافها، نظراً لتعقد الظروف السياسية، وتدهور العلاقات بين أطراف القوى الوطنية من جهة، ومواقف عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، إضافة للشرخ الذي أصاب الحزب الوطني الديمقراطي، وانعزال القوى القومية، وتنكبها لمسيرة الثورة، ولجوئها إلى التآمر المسلح والمكشوف لإسقاطها، والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.

وبعد كل الإجراءات التي أقدم عليها عبد الكريم قاسم بضرب الحزب الشيوعي، وانتزاع كافة المنظمات والاتحادات النقابية والطلابية، وتسليمها للقوى الرجعية، وبعد أن أزاح كل القيادة العسكرية والأمنية التي كان يشك بعلاقتها بالحزب، وبعد أن ازاح كل رؤوساء الدوائر ذوي الفكر التقدمي، وأعاد تلك العناصر المعادية التي كانت في مراكزها قبل الثورة، وبعد أن امتلأت السجون بالمناضلين الذين ذادوا عن الثورة وحموها من كيد أعدائها، بات نظام عبد الكريم قاسم معزولاً عن الجماهير، وبات استمرر بقائه في الحكم في مهب الريح الصفراء التي أخذت تقترب شيئاً فشيئا بعد أن هيأ لها قاسم الظروف المواتية للانقضاض على الثورة واغتيالها في انقلاب عسكري دموي خططت له الدوائر الإمبريالية، ونفذته العناصر الموتورة من البعثيين والقوميين والقوى الرجعية الأخرى.
 
تدهور العلاقة بين القيادة الكردية وعبد الكريم قاسم
كان لتسارع الأحداث التي أدت إلى تدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وانقسام القوى الوطنية، حدوث الخلافات العميقة بين السلطة وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح، واستخدام السلطة للجيش في ذلك الصراع، ولم تجد نفعاً كل النداءان التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، لحل القضية الكردية حلاً عادلاً، إلا أن جهوده باءت بالفشل، واستمرت الحرب بين الطرفين حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.

فقد بدأت العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والسلطة بالتدهور عام 1961 عندما هاجمت صحيفة الحزب [خه بات] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد، واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة.
كان رد عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب،  ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام.
وفي 20 تموز 1961، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى عبد الكريم قاسم  طالبه فيها بتطبيق المادة الثالثة من الدستور المؤقت، والتي نصت على حقوق الشعب الكردي، كما طالبت بسحب القوات العسكرية المرسلة إلى كردستان، وسحب المسؤولين عن شؤون الأمن والشرطة والإدارة الذين كان لهم دور في الحوادث التي وقعت في كردستان، وإعادة الموظفين الأكراد المبعدين إلى كردستان، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وإنهاء فترة الانتقال، وانتخاب مجلس تأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وتطهير جهاز الدولة من العناصر المعادية لثورة 14 تموز.

لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران في بادئ الأمر، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد قام بها عناصر من كبار الإقطاعيين بقيادة [ رشيد لولان] و[عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند، إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية، وعميلها [شاه إيران] زعزعة النظام الجديد في العراق، وإسقاطه.

 لكن من المؤسف أن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني لم تقدر دوافع تلك الحركة والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، مغلّبين التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية، ولجأت هي الأخرى إلى حمل السلاح.

كما أن عبد الكريم قاسم، الذي تملكه الغضب، رفض اللجوء إلى الحوار، وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول للأزمة السياسية التي كانت تعصف بالبلاد، وظن أن اللجوء إلى السلاح سينهي الحركة الكردية خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963.

أستهل الحزب الديمقراطي الكردستاني صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 1961، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون الأكراد باحتلال مناطق واسعة من كردستان، فكان رد السلطة دفع قطعات الجيش في 9 أيلول، لضرب التجمعات الكردية مستخدمة كافة الأسلحة والطائرات، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان، واستمرت المعارك حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.

 لكن الحزب الديمقراطي الكردستاني ارتكب خطأ أفضع بتعاونه مع انقلابيي 8 شباط، حيث جرت الاتصالات قبل الانقلاب بين سكرتير الحزب إبراهيم احمد، وطاهر يحيى ، ممثل الانقلابيين، كما شارك الطلبة الأكراد في الإضراب الذي أعلنه البعثيون قُبيل وقوع الانقلاب.
لقد وضع قادة الحركة الكردية  أيديهم بأيدي أولئك الانقلابيين الفاشيين ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظنناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية على أيدي أولئك الشوفينيين المتعصبين الذين كانوا يضمرون للشعب الكردي كل الحقد.
لقد كان موقفهم هذا يعبر بحق  عن جهل فادح بطبيعة حزب البعث، والقوى القومية الشوفينية، الذين لم يكّنوا يوماً المحبة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.

وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط، حتى بادر الانقلابيون في 1 حزيران 1963 إلى شن حملة شعواء على الشعب الكردي لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي، و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي.

لقد تمزقت الوحدة الوطنية، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها من جهة، ومع السلطة من جهة أخرى، جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء.


220
في الذكرى الرابعة والخمسين لثورة 14 تموز المجيدة

مسؤولية انتكاسة الثور واغتيالها في انقلاب 8 شباط المشؤوم
عام 1963
الحلقة الثانية

حامد الحمداني                                                10/7/2012
لم يمضِ سوى أيام قلائل على انتصار ثورة الرابع عشر من تموز1958  بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، والتي شاركت فيها كل القوى السياسية المنضوية تحت لواء جبهة الاتحاد الوطني التي جرى تشكيلها قبيل الثورة والتي ضمت حزب الاستقلال القومي، وحزب البعث، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وقد جرى الاستثناء الحزب الشيوعي من المشاركة الرسمية في حكومة الثورة لاعتبارات رأتها قيادة الثورة ضرورية لعدم استفزاز الإمبرياليين الذين انزلوا قواتهم في الأردن ولبنان فور وقوع الثورة، ودفعوا حكومتي تركيا وإيران لحشد قواتهما على حدود العراق بغية إجهاض الثورة ، واكتفى الزعيم عبد الكريم قاسم بتعيين الشخصية الماركسية الدكتور إبراهيم كبة وزيراً للاقتصاد، في الوقت الذي كان دور الحزب الشيوعي لدعم الثورة قد تجاوز كل القوى الأخرى، ولم تكد تمر سوى أيام معدودة على انتصار الثورة حتى بدأت القوى القومية والبعثية التي التفت حول عبد السلام عارف، الشخصية الثانية في قيادة الثورة مستهدفين قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، واغتصاب الثورة.
 
كان في مقدمة القوى التي التفت حول الثورة وقيادتها واحتضنتها وذادت عنها من تآمر القوى البعثية والقومية والعناصر الرجعية المرتبطة بالإمبريالية هي الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان ذلك الموقف لهذه الأحزاب أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان.
لكن الأحداث التي جرت في البلاد، والمؤامرات التي حيكت ضدها من قبل القوى اليمينية والقومية المدعومة من قبل عبد الناصر والقوى الإمبريالية،   والثورة ما تزال في أيامها الأولى، عطلت المسيرة الديمقراطية ،وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، والزعيم عبد الكريم قاسم، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية، والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل.
فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس؟
ومن كان السبب فيما جرى ؟
وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف؟

في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه، وحقق الإنجازات الكبيرة التي تناولنها في الحلقة الأولى.

وأستطيع القول أن الزمان لو طال  بعمر الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تجعل من العراق أرقى بلد في المنطقة.

فالزعيم كما يتفق الجميع، وحتى أعدائه لم يحقق أي مصلحة لنفسه أو لعائلته، لم يبني له قصراً، ولا حتى داراً متواضعاً، ولم يتخذ له ديواناً ضخماً، ولم يتملك شيئا، ولم يتنقل بمواكب ضخمة من الحراسة والحماية، فقد كان محبوباً من قبل الشعب، كما كان حريصاً على ثروات البلاد وتسخيرها في خدمة الشعب، وكان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً كأي مواطن آخر، ولقد قُدر لي أن أزوره في مقره بوزارة الدفاع ضمن وفد لنقابة المعلمين في أواخر شهر شباط عام 1959 واطلعنا على مقره البسيط وغرفة نومه المتواضعة جداً.

لم يكن عبد الكريم قاسم شوفينياً، بل على العكس من ذلك كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة، وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة، وضم العديد منهم في حكومته.

إذا الطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها، مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة، كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وأصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل تناقضاً أساسياً.

كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث [الحزب الديمقراطي الكردستاني، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي] أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، والمتمثلة بالولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى حكومة عبد الناصر، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.

لماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟

وإنصافاً للحقيقة أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء كانوا مسؤولين عما حدث، واليوم وبعد مضي 47 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بشعبنا العراقي بعربه وكورده وسائر مكوناته الأخرى، نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي، فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد.

لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من جانب هذه القوى وليس من جانب القوى التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً.

 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً، فلم يكن مركزه العسكري يمكّنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة، شئنا ذلك أم أبنينا.

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لتدارس وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك، إذ من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير الشعب والوطن !!.

ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان قادراً أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني، واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف، ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة التي يمكن أن نلخصها بالتالي :
1 ـ  لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل مسؤوليته الكاملة.
2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]، وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها، والتي سأتناولها فيما بعد بحيث أصبحت لدى الزعيم القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي، والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب، وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية ومن ثم إلغائها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم.

  لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963.

3 ـ اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القيادة الكردية المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني، على الرغم من أنه لم يكن يحمل أي أفكار شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت يؤكد هذا الموقف لدى الزعيم، في حين أن القوى القومية التي نفذت انقلاب شباط كانت غارقة في شوفينيتها، وكراهيتها للشعب الكردي، بحيث لم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية سوى أقل من أربعة أشهر، منزلة الخراب والدمار بكردستان بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية.

4 ـ اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية. ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية. لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
5 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً.

لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط ، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.

لقد كان على عبد الكريم قاسم إن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 1963.

6 ـ لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع قيادة الحركة الكردية،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963.
وهكذا أصبح النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها ، وبذلك يتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح.

7ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته، ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة، ولزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين. ومما يؤكد هذا ، الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام  [مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم وقام علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث، بالبصق في وجهه، فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له : { لماذا تبصق في وجهي؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}.

 وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم .
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[محسن الرفيعي]  ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف.
 
كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام  [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.

كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد، والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.

لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.

ولم يكن هناك ما يخيف الزعيم عبد الكريم قاسم على موقعه كقائد لثورة 14 تموز حيث كان يتمتع بشعبية كبرى لم يتمتع بمثلها أي زعيم عراقي أو عربي من قبل، وكنت على يقين أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لو شاء أن يشكل له حزباً سياسياً آنذاك، ويشارك في الانتخابات فإن حزبه كان سيفوز على جميع الأحزاب، ولست أنا من يقول ذلك فقط، بل أن الحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد أعترف في أدبياته ونشراته الداخلية في رده على  الأفكار والدعوات التي ظهرت في صفوف الحزب داعية  إلى استلام السلطة أن هذه الشعبية التي نشهدها في الشارع العراقي هي شعبية الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يمجده الشعب.

 لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات] و[ سياسة عفا الله عما سلف] ، وأطلق سراح المتآمرين الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية، والمحكومين بالإعدام، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [منذر أبو العيس] ، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها،  وبين الذين تآمروا عليها، وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها، والوثوب على الحكم، وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة، حيث استطاع حزب البعث المتحالف مع القوى القومية، والمدعومين من قبل عبد الناصر والقوى الإمبريالية من استغلال تشتت القوى الديمقراطية، وانعزال سلطة عبد الكريم قاسم، إلى إنزال الضربة القاضية بثورة 14 تموز المجيدة، واغتيال قائدها عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار، والتنكيل بقيادة وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي ، وسائر الوطنيين والديمقراطيين ،وإغراق العراق بالدماء.

ولا شك أن كل الأحداث التي جرت منذ انقلاب 8 شباط 1963 وحتى يومنا هذا على ارض العراق الجريح ليس إلا نتاج تلك الأخطاء التي ساهم بها الجميع والتي مهدت السبيل لنجاح انقلاب شباط والانقلابات المتتالية والتي أوصلت جلاد العراق الأكبر صدام حسين وزمرته الشريرة إلى سدة الحكم، وما سببه للعراق وشعبه من كوارث وويلات ومصائب وحروب مفجعة، وإرهاب وحشي بشع لا زلنا نكتوي بناره حتى يومنا هذا، وسأتناول في الحلقة الثالثة الأخطاء التي وقعت فيها الأحزاب الديمقراطية، والتي أدت إلى تلك النهاية الكارثية التي ما زلنا نعاني من نتائجها حتى يومنا هذا.




221
في الذكرى الرابعة والخمسين لثورة 14 تموز المجيدة

هذه عوامل انبثاق ثورة 14 تموز التي قادها
الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم
والإنجازات التي حققتها

الحلقة الأولى
حامد الحمداني
8/7/2012 
                                             

لم تكن ثورة 14 تموز 1958 المجيدة حدثاً آنياً على الإطلاق، بل كانت في الحقيقة نتيجة تراكم كمي هائل من التناقضات بين الحاكمين والمحكومين عبر أربعة عقود من الزمن امتدت منذُ الاحتلال البريطاني للعراق إبان الحرب العالمية الأولى حتى قيام الثورة.

لقد خاض شعب العراق خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة صراعاً مريراً ضد الاحتلال البريطاني  في بادئ الأمر، وتجلى ذلك الصراع في ذروته في [ ثورة عام 1920 ] ،عندما حمل الشعب العراقي السلاح بوجه المحتلين ،وأمتد لهيب الثورة ليشمل العراق كله، من أقصاه إلى  أقصاه ،وقد كلفت تلك الثورة المحتلين خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، وأثقلت كاهل الاقتصاد البريطاني المتعب أصلاً، بسبب التكاليف الباهظة للحرب العالمية الأولى، والتي كان لبريطانيا الدور الأساسي فيها .

وفي نهاية المطاف اضطرت بريطانيا إلى تغيير تكتيكاتها السياسية والعسكرية في العراق ،ولجأت إلى تأليف حكومة محلية موالية لها، وجاءت بالأمير فيصل ابن الحسين ملكاً على العراق، وجمعت حوله العديد من الضباط الشريفيين الذين خدموا في الجيش العثماني، كان منهم نوري السعيد ، وجعفر العسكري، وياسين الهاشمي، وطه الهاشمي، وعلي جودت الأيوبي، ومولود مخلص، وبكر صدقي، والعديد من الضباط الآخرين .

كما جمعت بريطانيا العديد من شيوخ العشائر حول النظام الجديد، وملّكتهم مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ومنحتهم سلطة واسعة على الفلاحين، وضمتهم إلى المجالس النيابية ، ومجالس الأعيان، وبذلك خلقت بريطانيا طبقة حاكمة تعمل لخدمة مصالحها، وتخوض الصراع مع الشعب نيابة عنها، وكانت باكورة تلك الخدمات التي قدمتها الطبقة الحاكمة الجديدة للإمبريالية البريطانية إقرار معاهدة عام 1922، والتي أعطت لبريطانيا الهيمنة الكاملة على مقدرات العراق العسكرية والسياسية والاقتصادية، وجعلت من العراق واحة بريطانية .

وهكذا انتقل الصراع المباشر بين الشعب العراقي والإمبريالية البريطانية إلى صراع مباشر مع السلطة الحاكمة السائرة بركاب الإمبريالية، وخاض الشعب العراقي المعارك المتواصلة مع تلك السلطة ،ودفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة من أجل تحقيق طموحه في الحرية والاستقلال ،ومن أجل حياة كريمة لأبنائه، وتوجيه موارد البلاد لتحقيق مستوى معيشي لائق ،بدل توجيهها لخدمة المخططات والمصالح الأجنبية. لقد تجلت تلك المعارك، وذلك الصراع خلال أربعة عقود من الزمن في الأحداث التالية:
1 ـ معركة الشعب ضد إقرار معاهدة عام 1922 : التي قيدت العراق بقيود ثقيلة أعطت بموجبها لبريطانيا هيمنة مطلقة على مقدرات العراق، وقد فرضها المندوب السامي البريطاني على المجلس التأسيسي مهدداً إياه بالحل إذا لم يصادق عليها ،وقد تصدى الشعب العراقي للمعاهدة بمظاهرات صاخبة، أنزلت الحكومة على أثرها قوات الجيش والشرطة إلى الشوارع ،وقمعتها بالقوة المفرطة، ودفع الشعب العراقي تضحيات كبيرة في أول صراع يخوضه ضد الحكم الملكي وضد الهيمنة البريطانية .

2 ـ التصدي لمعاهدة 1930 :
التي عقدها نوري السعيد والتي كرست الهيمنة البريطانية على العراق من جديد .
لقد مهدت السلطة، بزعامة نوري السعيد والبلاط الملكي، السبيل لإبرام المعاهدة، فاتخذت قراراً بحل المجلس النيابي، أتبعته بإجراءات قمعية لا دستورية ،حيث عطلت أكثر من عشرين صحيفة، وأحالت العديد من الصحفيين إلى المحاكم، ومنعت الاجتماعات، والتجمعات، والمظاهرات، وكممت أفواه الشعب، وقامت بأجراء انتخابات مزورة، أسفرت عن برلمان خاضع كلياً لإرادة السلطة والمندوب السامي البريطاني، واستطاع نوري السعيد إبرام المعاهدة المذكورة، على الرغم من رفض الشعب وقواه الوطنية لها، مما عمق التناقض بين الشعب وحاكميه، وتم قمع مظاهرات الشعب بالحديد والنار.

3 ـ الاحتلال البريطاني الثاني للعراق عام 1941: على أثر قيام حركة رشيد عالي الكيلاني، وقد خاض الشعب العراقي جنباً إلى جنب مع الجيش العراقي معارك الحرية ضد الاحتلال ودفع ثمناً باهظاً من دماء الشهداء البررة، لكن القوات البريطانية، بما تملكه من أسلحة ومعدات وجيش مدرب، تمكنت من فرض سيطرتها على العراق عسكرياً من جديد .

4 ـ وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948: احتجاجاً على قيام حكومة صالح جبر ـ نوري السعيد بتوقيع[ معاهدة بورتسموث] بعد أن أوشكت معاهدة عام 1930 على الانتهاء، واحتجاجاً على الموقف الخياني للحكومة من القضية الفلسطينية وقيام دولة إسرائيل، وطرد السكان العرب من فلسطين والذين لا يزالون إلى يومنا هذا لاجئين في العديد من البلدان العربية والأجنبية، وقد استطاعت تلك الوثبة إسقاط حكومة صالح جبر ـ نوري السعيد .

5ـ وثبة تشرين المجيدة عام 1952: بسبب تردي الأوضاع المعيشية للشعب، وتدهور الأوضاع الاقتصادية ،وانتهاك الحقوق والحريات العامة للشعب، وانتهاك الدستور وتعطيله، وإعلان الأحكام العرفية ، وتعطيل البرلمان، وقد أوشكت تلك الوثبة الشعبية على إسقاط النظام الملكي آنذاك لولا إقدام الوصي على العرش عبد الإله إلى إنزال الجيش إلى الشوارع، وقمع الوثبة بالقوة العسكرية .

6 ـ عقد حلف بغداد:
الذي ضم كل من العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا بالإضافة إلى ارتباط الولايات المتحدة باتفاقات ثنائية مع هذه البلدان، مما جعلها تهيمن هيمنة مطلقة على الحلف الذي كان موجهاً ضد الاتحاد السوفيتي آنذاك على الضد من مصالح الشعب .
 لقد مهدت حكومة نوري السعيد التوقيع على الحلف بشن حملة شعواء ضد الشعب وقواه السياسية الوطنية، وتصفيته لسائر الحقوق والحريات العامة، وغلق الأحزاب السياسية والصحف، وتعطيل الدستور، وحل البرلمان الذي جرى انتخابه للتو بعد افتتاحه وإلقاء خطاب العرش مباشرة بسبب فوز 11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع 121 نائباً، وأجرى انتخابات جديدة لبرلمان دعي بـ [ برلمان التزكية ] حيث تم منع أي معارض للترشيح في تلك الانتخابات وفاز مرشحو الحكومة بالتزكية دون منافس.

7ـ انتفاضة الشعب عام 1956: على أثر  العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي بسبب تأميم عبد الناصر لقناة السويس، ودعم حكومة نوري السعيد للعدوان، وقد تصدت حكومة  السعيد لتلك الانتفاضة بأقصى درجات العنف الذي مارسته القوات القمعية للسلطة، وفي ظل الأحكام العرفية والمحاكم العرفية والسجون التي امتلأت بالوطنيين.

8 ـ قيام جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت الأحزاب الوطنية المعارضة، كل من الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحزب البعث والتحالف الثنائي بين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني بعد رفض الأحزاب القومية انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني للجبهة بسبب فكرهم القومي الشوفيني المعادي للقومية الكردية .

9 ـ قيام تشكيلات عسكرية معارضة داخل الجيش: وكان أهمها تنظيمات عبد الكريم قاسم، ومحي الدين عبد الحميد، ورفعت الحاج سري ، وتنظيم الحزب الشيوعي، وقد توحدت هذه التنظيمات فيما بعد  تحت اسم [ اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار] عدا تنظيم الحزب الشيوعي الذي أعلن أنه سيساند أي تحرك عسكري لحركة الضباط الأحرار دون تردد ،بسبب ظروف تنظيمية خاصة بالحزب، وقد قام بالفعل بدور بارز في تنفيذ وإسناد الثورة.
وقد تم التلاقي بين جبهة الاتحاد الوطني واللجنة العليا للضباط الأحرار، وتم الاتفاق على التنسيق بين الجانبين السياسي والعسكري لتعبئة الجماهير الشعبية  لهذه الأحزاب لتمارس دورها لإسناد أي تحرك للجيش ضد النظام الملكي .
وبالفعل قامت الجماهير الشعبية بدورها المرسوم خير قيام وقدمت إسناداً فورياً لثورة الرابع عشر من تموز 1958 التي استطاعت بفضل ذلك الإسناد تحقيق النصر الخاطف خلال ساعات معدودة، وتم إسقاط النظام الملكي المرتبط بعجلة الإمبرياليين، وإقامة الجمهورية العراقية .

لقد تشكلت في العراق، ولأول مرة، حكومة وطنية على الضد من إرادة الإمبرياليين، بقيادة الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، واستطاعت حكومة الثورة أن تقدم إنجازات كبيرة وهامة لا يمكن نكرانها محدثة ثورة اجتماعية حقيقية في حياة الشعب من خلال تصفية النظام الإقطاعي وتحرير الفلاحين الذين يمثلون 75% من أبناء الشعب من عبودية الإقطاعيين، ويمكننا إيجاز أهم الإنجازات لثورة 14 تموز من دون التوسع فيها في هذه العجالة، بالتالي :

1 ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي: الذي جرى بموجبه تصفية الإقطاع وتحرير الفلاحين وتوزيع الأراضي عليهم ، وعلى الرغم من الثغرات التي حواها القانون والتي استفاد منها الإقطاعيون ، لكنه في كل الأحول كانت ثورة اجتماعية غيرت طبيعة المجتمع العراقي .

2 ـ إصدار قانون الأحوال المدنية:
الذي صب في خدمة المرأة العراقية التي تمثل نصف المجتمع العراقي ،وأنصافها، والتأكيد على حقوقها المشروعة التي سلبها منها المجتمع الذكوري  والقانون يمثل جانباً آخر في الثورة الاجتماعية  بلا أدنى شك.

3 ـ الخروج من حلف بغداد الذي ربط العراق بالمخططات العدوانية:
حيث تم اتخاذ سياسة مستقلة ،وبناء علاقات متكافئة مع سائر بلدان العالم وفي المقدمة الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ، على أساس احترام سيادة واستقلال العراق والمصالح المشتركة .

4 ـ الخروج من منطقة الإسترليني: حيث كان الدينار العراقي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالباون البريطاني ينخفض كلما انخفض الباون، وهذا ما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية مما تسبب في تضخم نقدي ،وارتفاع الأسعار ،وحدوث أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة عانى منها الشعب العراقي أشد المعانات . وبذلك تحرر العراق من الهيمنة النقدية البريطانية، وتمكن من تنويع مصادر العملات النادرة واستلام موارده النفطية على أساس سلة من العملات الأجنبية من بينها الدولار الأمريكي وعملات أخرى .

5 ـ معركة النفط مع الشركات الاحتكارية، وصدور القانون رقم 80:
الذي تم بموجبه سحب 99،5 %من المناطق العراقية الحاوية على خزين كبير من الثروة النفطية، بعد أن عجزت حكومة الثورة عن إقناع تلك الشركات باستثمار تلك المناطق بالنظر لحاجة العراق للتنمية الاقتصادية، مما اضطر الزعيم عبد الكريم قاسم إلى إصدار القانون المذكور وسحب تلك المناطق من الشركات الاحتكارية ، والإعلان عن تأسيس شركة النفط الوطنية.
لقد وجه القانون ضربة كبرى للمصالح الاحتكارية الغربية ، مما أثار حنق وحقد شركات النفط  على الثورة وقيادتها، وجعلها تصمم على اغتيال ثورة 14 تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم وهذا ما تم بالفعل على أيدي عملاء الإمبريالية في حزب البعث وحلفائه القوميين الآخرين في انقلابهم المشؤوم في الثامن من  شباط 1963، حيث جرى اغتيال الثورة وقادتها ، وقادة الحركة الوطنية والديمقراطية الأماجد، منهم قادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي وفي المقدمة منهم سكرتير الحزب الشهيد سلام عادل وصحبه الأبرار بأسلوب التعذيب البشع الذي  يندى له جبين الإنسانية.

6 ـ توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي :
لغرض استكمال تحرره السياسي بالتحرر الاقتصادي، وبناء البنية التحية للعراق من خلال قيام الصناعة الوطنية  والمشاريع الحيوية التي يحتاجها العراق، وتحرير التجارة من هيمنة الإمبرياليين وشروطهم المجحفة، وقد استطاع العراق  الحصول على قرض من الاتحاد السوفيتي بمبلغ 55 مليون دينار بفائدة بسيطة لا تتجاوز2،5 % ، لتغطية نفقات التصاميم، والمسوح، والبحوث وكذلك المكائن والآلات والمعدات، والاستفادة منها خلال 7 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية .

وبموجب الاتفاقية تعهد الاتحاد السوفيتي بتقديم كافة المساعدات الفنية، والخبراء، والاستشارات ونصب المشاريع، وتنفيذها ،وتدريب العراقيين للعمل عليها، وقد شملت تلك المشاريع، الفولاذ والأسمدة، والكبريت، والأدوية، ومعامل إنتاج المكائن والآلات الزراعية، ومعمل اللوازم والعدد الكهربائية، ومعمل المصابيح الكهربائية، ومحطة إذاعة، مع أربع مرسلات، ومعمل للزجاج ومعامل للمنسوجات القطنية، والصوفية، والتريكو، ومعمل للتعليب، وبناء سايلوات كونكريتية للحبوب ومساعدات فنية لتأسيس خمس مزارع حكومية، ومشاريع الري، وبزل الأراضي، وتأسيس أربعة محطات لتأجير التراكتورات، هذا بالإضافة إلى القيام بأعمال المسح الجيولوجي وتصليح الأجهزة الجيولوجية، كما نصت الاتفاقية على بناء خط سكة حديد جديد، بين بغداد والبصرة .

لقد اعتُبرت تلك الاتفاقية خطوة جريئة من جانب حكومة الثورة لبناء القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي ،وتحريره من التبعية للدول الإمبريالية .
كما استطاعت حكومة الثورة أن تعقد مع الاتحاد السوفيتي ،اتفاقية أخرى لتسليح الجيش العراقي والحصول على الأسلحة المتطورة التي حرمه منها الإمبرياليين ،وبأسعار تقل كثيراً جداً عن الأسلحة الغربية .
7 ـ إنجازات حكومة الثورة في الحقل الاجتماعي :
كان على حكومة الثورة أن تقوم بالعديد من الإجراءات، ذات البعد الاجتماعي، المتعلقة بحياة الشعب المعيشية منها :
1 ـ تخفيف الضرائب غير المباشرة عن أبناء الشعب .
2 ـ تخفيض إيجار المساكن ،والمحلات التجارية .
4 ـ زيادة رواتب الموظفين والعمال، ووضع رقابة على الأسعار .
5ـ توزيع مئات الألوف من قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود، والموظفين والعمال لغرض بناء دور لهم عليها، وتقديم كل المساعدات الممكنة والقروض بشروط بسيطة لإنجاز بنائها .
6 ـ إلغاء حزام الفقر حول بغداد من الصرائف وبيوت الطين التي أقامها مئات  الألوف من الفلاحين الهاربين من جور الإقطاع والعبودية والاستغلال، وقيام الحكومة ببناء مدينتي الثورة  والشعلة ، وتوسيع مدينة الحرية، وتوزيع آلاف المساكن على هؤلاء المعدمين والبؤساء .
7 ـ فتح معاهد الأيتام والأطفال المشردين، والأحداث الجانحين، والاهتمام بتربيتهم، ونشأتهم نشأة صالحة .
8 ـ  تقليص ساعات العمل، وجعلها 8 ساعات، بعد أن كان العمال يعملون من شروق الشمس وحتى غروبها .
9 ـ  تشجيع استثمار رأس المال الوطني في المشاريع الصناعية بدلاً من الاستثمار العقاري والمضاربة العقارية .
10 ـ  تطبيق قانون الضمان الاجتماعي للعمال الذي صدر عام 1956، ولم ينفذ حتى قيام الثورة 
11 ـ  فتح مجال الاستيراد والتصدير لكل فئات البرجوازية الوطنية، بعد أن كانت حكراً على كبار الرأسماليين المرتبطين بالنظام السابق .
12 ـ  حماية الصناعات الوطنية أمام المنافسة الأجنبية .
13 ـ  وضع حد لتهرب كبار الرأسماليين من دفع الضرائب .
14 ـ رفع معدلات التصدير للحبوب والجلود والتمور وغيرها .
15 ـ سن قانون ضريبي جديد ،وشمول الإنتاج الزراعي بالضريبة، حيث كان الإقطاعيون لا يدفعون الضرائب عن الإنتاج .
16 ـ إلغاء تكبيل السجناء بالحديد، وتخفيض عقوباتهم إلى خمس المدة .
17 ـ سن قانون مكافحة البغاء، وإنشاء مراكز إصلاح إجبارية لكافة المومسات، من أجل   إصلاحهن ،وتوجيههن نحو حياة جديدة ،ذات بعد إنساني، وتأمين مصدر دخل لهن .
18 ـ توسيع وتطوير كافة الخدمات الصحية والتعليمية، وبناء الطرق والجسور، والمشاريع الصناعية، قدر توفر الإمكانات المادية اللازمة لذلك .
19 ـ تأسيس جامعة بغداد، وتوسيع القبول فيها ،من أجل تخريج الكوادر التي يحتاجها الوطن في عملية البناء والتطور والنمو في كافة المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية ،والصحية وغيرها من المجالات الأخرى.
هذه هي أهم الإنجازات التي حققتها ثورة 14 تموز بقيادة الشهيد عبد الكريم قاسم خلال عمرها القصير والذي تخللته صراعات عنيفة بين القوى والأحزاب السياسية من جهة، والتآمر المكشوف والمتكرر من قبل القوى البعثية والقومية، وتحالفها مع القوى الإمبريالية من اغتيال الثورة وقادتها،  وقادة الحركة الوطنية ، وإغراق العراق بالدماء، وهو ما سأتناوله في الحلقة الثانية.






222
السبيل الوحيد لإنقاذ الثورة المصرية سلميا
بعد قرارات المحكمة الدستورية
حامد الحمداني
2012 / 6 / 14

على الرغم من المعانات الشديدة التي كابدها الشعب المصري في حقبة الرئيس المخلوع حسني مبارك، والتي امتدت زهاء 30 عاماً، وأوصلت الشعب المصري إلى حالة من البؤس والفاقة، والبطالة الواسعة، وخاصة بين العمال، والخريجين من المعاهد والجامعات والدراسات العليا، وانتشار وتفاقم أزمة السكن وتصاعد مستوى التلوث، وخاصة مياه الشرب، وانتشار الإمراض الفتاكة وفي مقدمتها الفشل الكلوي، والتهاب الكبد الفيروسي، وأمراض السكري والبلهارزيا، وغير من الأمراض المزمنة، فقد كان الشعب المصري ينتابه الشعور بفقدان الأمل من أي إصلاح، ومعالجة لتلك الأوضاع السائدة، بالنظر لأساليب الحكم القاسية التي اتبعها النظام والمعتمدة على قوة الأجهزة الأمنية، وقانون الطوارئ السيئ الصيت، والمحاكمة العسكرية والسجون والمعتقلات، والتصفيات الجسدية للمعارضين لنظام مبارك القمعي، فلم يكن أحداً يتوقع قبل 25 يناير أن ينفجر بركان الثورة على حين غرة، ويهز أركان النظام الذي ظن مبارك وأركان حزبه من أصحاب الثروة الذين بات بيدهم السلطة والثروة والقوة القمعية معا، إن لا أحداً يستطيع مجرد التفكير في التصدي لهذا النظام القمعي.                                                      .

وهكذا وعلى حين غرة اندفع شباب الشعب المصري، غير هياب بالشهادة وقد صمم على إسقاط النظام الذي كان يوشك على توريث جمال مبارك الرئاسة، فكانت ثورة دامية قدم خلالها الشباب المصري آلاف الضحايا وعشرات الآلاف من الجرحى والمعوقين، لكنهم بصمودهم استطاعوا إسقاط حكم مبارك ووريثه المنتظر ولده جمال مبارك.                   .

لكن المؤسف أن تلك الثورة الشجاعة كانت تفتقد القيادة القادرة على التنظيم والتخطيط، ووضع برنامج وطني تتفق عليه سائر القوى المساهمة في الثورة، وتعبئة الشباب، والسعي لزج أوسع الجماهير العمالية والفلاحية للمحافظة على زخم الثورة، وعدم ترك المجال أمام قوى الردة للقيام بالهجوم المعاكس لإجهاض الثورة.       .               
ورغم أن الأخوان المسلمون والسلفيون لم يشتركوا في بداية الثورة، لكنهم قرروا بعد أن وجدوا تصاعد المد الثوري، والتهديد الجدي لنظام مبارك، المشاركة في الثورة، واستطاعوا وهم الحزب المنظم الذي امتد به العمر عشرات السنين، أن يهيمنوا على الثورة، ويحققوا مكاسب كبيرة في البرلمان الذي جرى انتخابه بعد نجاح الثوار في إسقاط حكم مبارك.

وبدلاً من توحيد قوى الثورة، وإقامة جبهة عريضة تظم القوى المشاركة فيها، واتخاذ برنامج وطني متفق عليه لتعزيز زخم الثورة، ومواصلة تصفيه النظام السابق، والإعداد لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والمعالجة الجذرية لكل آفات النظام السابق، فإن الأخوان المسلمين، وقد أخذهم الغرور بما حققوه من مكاسب في الانتخابات البرلمانية التي جرت بموجب قانون الانتخاب الذي أسقطته المحكمة الدستورية أخيراً، حيث استأثروا بحصة الترشيح الفردي، وبدأوا بتوجيه سهامهم لشباب الثورة متهمين إياهم بالبلطجية، وغيرها من الاتهامات الأخرى بغية الاستئثار بالثورة، وبالتالي بالسلطة المطلقة في البلاد، حيث سيطروا على البرلمان، وباتت الحكومة في متناول أيديهم، كما استأثروا بأغلبية أعضاء المجلس التأسيسي لوضع الدستور الجديد للبلاد، كما نكثوا بوعودهم بأنهم لن يرشحوا أحداً من قبلهم لرئاسة الجمهورية، وكانوا قد نكثوا بوعودهم قبل الانتخابات التشريعية بأنهم لن يرشحوا لأكثر من ثلث أعضاء البرلمان، وهكذا بات الأخوان المسلمون يحلمون بالهيمنة المطلقة على السلطة في البلاد عبر هيمنتهم على البرلمان، ورئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزارة، والاستئثار بوضع الدستور الجديد، مما أثار الريبة والشكوك لدى الشعب المصري، وقوى الثورة من المصير المنتظر تحت حكم الأخوان المسلمين           .

وجاء قرار المحكمة الدستورية بإبطال انتخاب ثلث أعضاء البرلمان، ورفض قانون العزل السياسي الذي أصدره البرلمان، واستمرار المرشح الفريق أحمد شفيق في خوض المرحلة الثانية لرئاسة الجمهورية بعد يومين، ضربة قاسية لأحلام الأخوان في الهيمنة على مقدرات البلاد، والتهديد الجدي لفوز أحمد شفيق بمنصب رئاسة الجمهورية، وما ستؤول إليه مصير الثورة التي ضحى الشعب من أجلها، ودفع ثمناً غالياً من دماء الشباب.
أن مصر اليوم أمام خطر تصفية الثورة إذا ما فاز الفريق أحمد شفيق بمنصب الرئاسة، ولم يبقَ أمام الإخوان إلا طريقاً واحداً لإنقاذ الثورة والوطن، وذلك بانسحاب مرشحهم السيد محمد مرسي لصالح المرشح الثالث حمدين صباحي، وتعبئة كل القوى الثورية وراءه لينافس الفريق احمد شفيق المحسوب على النظام السابق، بعد الاتفاق على البرنامج الوطني لمستقبل مصر وشعبها.                      .

لم يبق سوى يومين لتقرير مصير الثورة، فهل يضحي الأخوان بمنصب رئاسة الجمهورية لصالح حمدين صباحي من أجل مصلحة الشعب والوطن، وتحقيق الانتصار الكامل للثورة؟                  .
وهل يفعلها الأخوان المسلمون لإنقاذ الثورة؟                    .
إننا لمنتظرين

223
في الذكرى الرابعة والستين لنكبة فلسطين
الحلقة الثانية
إعلان قيام دولة إسرائيل، ودخول الجيوش العربية فلسطين
حامد الحمداني
17/5/2012

في الرابع عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وفي نفس اليوم أعلنت المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبعد عشرين دقيقة من إعلان قيامها أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة العبرية، وتبعتها بعد ذلك بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي واعترفوا بها جميعاً.

كان ذلك الحدث قد شكل أكبر تحدي لمشاعر الملايين من الجماهير العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، وضربة قاصمة وجهتها الإمبريالية للعرب حيث بدأت العصابات الصهيونية أشنع حملة لتهجير السكان العرب من مدنهم وقراهم، فأقاموا المجازر البشعة ضدهم، مستخدمين كل أنواع الأسلحة، وقُتل من قُتل من النساء والأطفال والشيوخ، وترك ما يزيد على المليون وربع المليون من الفلسطينيين ديارهم هرباً من بطش الصهاينة، تاركين وراءهم كل ما يملكون من مساكن وأثاث وأموال ومصالح، وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة، يعيشون تحت الخيام، بانتظار مساندة ودعم الحكام العرب لعودتهم إلى ديارهم !!.

واضطر الحكام العرب تحت ضغط شعوبهم إلى دفع جيوشهم إلى فلسطين، واستبشر الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة بتحرك الجيوش العربية، لكن ظهر فيما بعد أن تلك الحرب لم تكن سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون، ونفذها الحكام العرب، لا لتحرير فلسطين، بل لتثبيت الدولة العبرية الجديدة.   
 
دخلت القوات العربية إلى فلسطين ساعيةً إلى الحرب بدون حسام، فلقد جُهز الجيش المصري بعتاد فاسد، مما أوقع خسائر فادحة في صفوفه.
 أما القوات العراقية فقد كانت أربعة أفواج مجهزة بأسلحة خفيفة لا تفِ
 بالغرض، وحتى القوة الآلية للجيش العراقي فقد كان الجنود غير مدربين على استخدام تلك الآليات، فقد ذكر قائد القوات العراقية في فلسطين، اللواء الركن [نور الدين محمود] في تقريره إلى رئاسة أركان الجيش، في حزيران 1948 ما يلي:
{ خلال مدة بقائي في المفرق، فتشت القوة الآلية فوجدت معظم جنود الفوج الآلي غير مدربين، حتى أن القسم الأعظم لم يرموا بأسلحتهم الخاصة بهم، وبالإضافة إلى ذلك علمت أن الفوج المذكور استلم مدافع الهاون في يوم حركته من بغداد ولا يعلم أحد بالفوج، ولا بالقوة الآلية كلها كيفية استخدام هذا المدفع، وقد تركت في السيارات بانتظار إرسال الجنود المدربين على استخدامها من بغداد، هذا من جهة.

 ومن جهة أخرى وجدت أن جنود المدرعات لم يدربوا بأسلحتهم مطلقاً فاضطررت إلى الإبراق إلى وزارة الدفاع للموافقة على تدريبهم على إطلاق بضعة إطلاقات بصورة مستعجلة، لكي يعرفوا خصائص أسلحتهم على الأقل، وعند الاستفسار عن كميات العتاد المتوفرة ظهر لي أن القنابل من عيار 2 رطل كان محدوداً جداً، كما أن الوحدات استصحبت عتاد الخط الأول فقط، ولم يؤسس خط للمواصلات بعد، وكانت الوحدات تستهلك الأرزاق التي جلبتها من بغداد، وكانت بقية أمور التموين والإعاشة في دور التأسيس.

 وهكذا كانت الحالة للقوة الآلية المرسلة إلى فلسطين، والمزمع إشراكها في القتال دون التهيئة، وأن وضعية كهذه جعلتني في حالة استغراب من إرسال قوات وزجها في القتال بهذا الوضع الناقص }. (1)

ومع ذلك فقد أبدا الجنود العراقيين بسالة منقطعة النظير، واستطاعوا التقدم واحتلال العديد من المواقع الصهيونية، مما أزعج الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا الضغط على الحكومة العراقية لمنع تقدم قواتها، وهكذا قُيدت حركة القوات العراقية، وظهرت تلك الأيام حكاية تداولها الشعب العراقي بتهكم شديد، وهي عبارة [ماكو أوامر]، أي أن الجيش ليس لديه أوامر للتحرك. لقد كانت تلك الحرب مخططة مسبقاً، ونتائجها مرسومة، وهي تقتضي قيام دولة إسرائيل، وخذلان الجيوش العربية.
أما الملك عبد الله الأول ـ ملك شرق الأردن  آنذاك ـ فقد أصّر على أن تكون قيادة القوات العربية له، وقد عارضت بعض الدول العربية ذلك، حيث أن الجيش الأردني يقوده الجنرال البريطاني[كلوب باشا] وبريطانيا هي التي سلمت فلسطين للصهاينة، فلا يعقل أن تسلم قيادة الجيوش العربية لكلوب باشا.

لكن حكام الدول العربية تراجعوا عن معارضتهم بضغط من بريطانيا، وتسلم كلوب باشا  القيادة الفعلية للجيوش العربية !.
كان الملك عبد الله يغتنم كل فرصة لكي يؤمن لنفسه الاستفادة مما ستؤول إليه الأمور، وكان يجري باستمرار اتصالاته السرية مع [وايزمان] و[ بن غوريون] وسلم الملك عبد لله مدينتي[اللد]و[الرملة]للصهاينة دون قتال،بعد أن كانت القوات العربية قد سيطرت عليها.

لقد نال الملك عبد الله ثقة الصهاينة، بعد أن أمر القوات العربية التي وصلت إلى أبواب [تل أبيب] بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السابقة، متيحاً الفرصة للصهاينة لتنظيم صفوفهم، وجلب الأسلحة والمعدات والقوات، للوقوف بوجه القوات العربية. (2)
ورغم خيانة الحكام العرب، ليس لفلسطين وحسب، بل لجيوشهم التي زجوا بها في المعركة دون استعداد، ودون سلاح، وتزويدها بالعتاد الفاسد، كما جرى للجيش المصري، إلا أن القوات العربية المؤمنة بقضية العرب الرئيسية فلسطين أبلوا في الحرب بلاءً قلّ نظيره، وكادت تلك القوات  برغم الظروف السيئة تلك أن تقضي على القوات الصهيونية التي أصابها الإعياء، ونفذ عتادها، مما اضطر زعماء الصهيونية إلى الطلب من الولايات المتحدة العمل على وقف القتال، وقيام هدنة بين الطرفين لاستعادة الأنفاس والتهيئة لجولة جديدة.
التوثيق
(1) تقرير قائد القوات العراقية في فلسطين اللواء نوري الدين محمود إلى رئيس أركان الجيش
    تاريخ الوزارات العراقية ـ عبد الرزاق الحسني الجزء السابع صفحة 200.
(2) يقظة العالم العربي ـ جان وولفـ صحيفة 90 .


224
في الذكرى الرابعة والستين لنكبة فلسطين
جريمة كبرى خطط لها الإمبرياليون والصهيونية
ونفذها الحكام العرب!
الحلقة الأولى
مقدمة حول القضية الفلسطينية
حامد الحمداني
16/5/2012



بدأت المشكلة الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، باندحار الدولة العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو] السرية، فقد احتلت بريطانيا العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، ومصر، والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية.

وكانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917، عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده المشؤوم الذي عرف باسمه.
بدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وصلة الوصل بين مشرقه ومغربه، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد، قبل أن تجلوا تلك القوات، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل.

وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسّ بالمؤامرة التي تحاك ضده، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين.
لقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح، وبقسوة ليس لها مثيل، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه.

لم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين.

قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان [كتابها الأبيض] الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية.

 فقد اعترفت باستقلال فلسطين، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي.

 فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم، لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها ومستشاريها باسم الانتداب.

بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة الهاجانا] و[منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون]، وقدمت بريطانيا لهم السلاح وكل المساعدات الممكنة لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على السلاح ، بل وحتى طلقة واحدة.

وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية] بعد الفورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين. وجاء تقرير اللجنة في 16 آذار 1946 مخيباً الآمال العربية واستفزازاً لها.

فقد جاء في التقرير خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود.

أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة، وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت الحكومة العراقية برئاسة جميل المدفعي المدفعي، تحت ضغط الجماهير الشعبية، إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة،  لكن حكومة المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير.

وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان] بسوريا، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعلن عن قيام دولة صهيونية، لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين!!، بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وصحراء سيناء إلى أن عقد السادات معها معاهدة [ كامب ديفد ]، كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا.

ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني]
وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلوأمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين.

وفي 22 تشرين الأول من نفس العام عقد رؤساء العشائر العربية والكردية واليزيدية مؤتمراً في مدينة الحلة لبحث القضية الفلسطينية، وخرجوا بمقررات عديدة، كان أهمها إرسال المتطوعين إلى فلسطين للتصدي للعصابات الصهيونية، إلا أن تلك القرارات بقيت حبراً على ورق، ولم يجد تنفيذها النور، ولاشك أن الإنكليز كانوا وراء إفشال ذلك المؤتمر في تنفيذ قراراته.

وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع الأنكلو أمريكي، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي.

وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون.
وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [الهاجانا] و[ الماباخ ]،القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي.

سادت التظاهرات أرجاء البلاد، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني.

 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم، وقيام الكيان اليهودي، وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب.

 وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية.

وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان، وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة تذكر.

وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة، على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة.
وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم ، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تجاب مطالبهم.

وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين.

ومن جهة أخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين، وبالتنسيق معهم ومع الولايات المتحدة، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم.

ولم يكن الحكام العرب الذين نصبهم الإمبرياليون جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !.



225
بمناسبة عيد الأول من أيار

الطبقة العاملة وأزمة الرأسمالية المعاصرة، وآفاق المستقبل

حامد الحمداني
30/4/2012 
 

 يحل علينا يوم غد عيد الطبقة العاملة في الأول من أيار في ظل ظروف بالغة التعقيد تجتاح النظام العالمي الرأسمالي، حيث تتوالى ألازمات الاقتصادية المتلاحقة في دول أوربا والولايات المتحدة واليابان والأنظمة السائرة في فلكها، بعد تلك البهجة التي سادت العالم الرأسمالي لدى انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، والذي اعتبره فوكوياما نهاية الاشتراكية، وانتصار الرأسمالية النهائي، وقد تسبب ذلك الحدث الجلل خيبة أمل كبيرة للبشرية التي كانت تحلم بعصر الحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة، بما يحقق العدالة الاجتماعية بين بني البشر. 
                                                                                         
فقد أحدث سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتكاسة كبرى ليس فقط بالنسبة لشعوب هذه البلدان وحلمهم في قيام عالم جديد قائم على أسس من العدالة الاجتماعية، وإنهاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان، بل أن الكارثة قد حلت بالعالم اجمع، بعد أن اصبحت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة القطب الأوحد والأقوى في العالم، وتحول هذا العالم في عهد العولمة إلى سوق مفتوح، وتداخل واسع النطاق للرأسمال العالمي والشركات المتعددة الجنسيات، ولاسيما بعد حصول هذا التطور السريع والكبير لوسائل الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ولم تعد الحدود تقف حائلاً أمام تداخل وهيمنة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

لقد أدى هذا التغيير الدرامي المتسارع إلى اشتداد الضغوط التي تمارسها الرأسمالية العالمية على الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم بعد أن فقدت سندها القوي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، واشتداد قبضة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الطبقة العاملة، واغتصاب حقوقها المشروعة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان العامل الذي هو العنصر الحاسم في خلق كل هذه المنجزات التي تشهدها البشرية في عالم اليوم، ولا تحصل لقاء جهدها الكبير سوى الفُتاة، في حين تتكدس مئات المليارات في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية والكارتيلات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى.

لقد باتت الرأسمالية العالمية أكثر جشعاً في استغلال جهد الطبقة العاملة، وزاد من هذا الاستغلال التطور الهائل في وسائل الإنتاج ودخول عصر الأتمة الذي حول العامل إلى آلة صماء لا تستطيع الفكاك من متابعة العمل ولو للحظة واحدة، حيث يفرض هذا التطور أن يسير العمل دون توقف في كل مراحل الإنتاج، فأي تأخر في أي من مراحل الإنتاج يؤدي إلى تأخر المراحل التالية، وهكذا تصبح الآلة هي التي تتحكم في عمل الانسان، ولذلك فلابد للعامل أن يتحول في نهاية المطاف إلى جزء من هذه الآلة حيث يستنزف أقصى طاقته في هذا العمل المستمر دون توقف.

إن هذا التطور في وسائل الإنتاج، وتصاعد الاستغلال لجهد الطبقة العاملة، وتصاعد الضغوط التي يفرضها طبيعة العمل لابد أن يفرض على الطبقة العاملة أن تغير أساليب نضالها المشترك كماً ونوعاً، وذلك من خلال تنظيماتها السياسية والنقابية، لكي تستطيع فرض شروط عمل أفضل، وأجور تتناسب والجهد المبذول، والذي يحقق للطبقة العاملة مستوى من الحياة المعيشية تليق بالإنسان على المدى القريب، والسعي الجاد والمتواصل من خلال تنظيماتها الحزبية المسترشدة بالماركسية، وتطويرها بما يتلاءم والعصر الحالي، وخلق الظروف التي تمكن في نهاية المطاف نضال الطبقة العاملة من أجل تغيير حقيقي لعلاقات الإنتاج، وهو الذي يمثل الهدف الأبعد لنضال الطبقة العاملة، وهو الحلم الذي ناضلت من اجله البشرية جمعاء.

إن فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لن تكون نهاية المطاف أبداً، والمجتمع الإنساني سبق أن مر بمراحل متعددة، وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى قد يصاحبه أخطاء وانتكاسات، كما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكن هذه التجربة والتجارب التي سبقتها والتي ستليها ستعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية كيف تستفيد من تجاربها وتتجاوز أخطائها، والسير الحثيث من أجل خلق عالم جديد، وعلاقات إنتاج جديدة تحقق حلم الطبقة العاملة وسائر المجتمع الإنساني بحياة رغيدة خالية من الاستغلال واستعباد رأس المال.

أن الماركسية بما قدمته لنضال الطبقة العاملة وإنجازاتها كان كبيراً جداً، ولولا الأخطاء التي وقع فيها قادة الاتحاد السوفيتي الذين حولوا النظام الاشتراكي الذي سعى مؤسس الدولة لنين لبنائه ليكون نموذج للعالم اجمع، إلى رأسمالية الدولة، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق الديمقراطية للشعب السوفيتي وشعوب المعسكر الاشتراكي، لكان عالم اليوم غير هذا العالم الذي بات فيه الرأسمال العالمي يتحكم بمصير الشعوب. لكن هذا التحكم لن يستمر إلا إلى حين.

  ستبقى الماركسية هي السبيل الذي يهدي البشرية لتغيير الواقع الذي تعيشه اليوم، وتعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية أساليب النضال لتحقيق حلم البشرية في مجتمع عادل لا مكان فيه للاستغلال، مجتمع لا مكان فيه للفقر والعوز والبطالة، مجتمع تتحقق في ظله كامل حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والعيش الرغيد.

 إن منظري الرأسمالية مهما حاولوا تلميع وجهها لن يفلحوا أبداً في مسعاهم لسبب بسيط هو كون النظام الرأسمالي قائم في الأساس على استغلال الإنسان لجهد أخيه الانسان، فهو نظام تنتفي فيه العدالة، وستكون الرأسمالية في نهاية المطاف عاجزة عن تقديم حل حقيقي وإنساني للتناقض الحاصل بين المستغِلين ( بكسر الغاء) والمستغَلين (بفتح الغاء) إلا من خلال نظام بديل يؤمن للإنسان العدالة الاجتماعية الحقيقية الخالية من الاستغلال والاستعباد. 
               
تحية للطبقة العاملة وشغيلة الفكر بعيد الطبقة العاملة.
ليكن هذا اليوم المجيد حافزاً لنضال الطبقة العاملة من أجل خلق عالم أفضل.
المجد لشهداء الطبقة العاملة وشغيلة الفكر في العالم أجمع ممن دفعوا حياتهم ثمناً. لتحقيق حلم البشرية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

حامد الحمداني
لمطالعة المزيد من المقالات والبحوث، وسائر كتبي العودة إلى موقعي على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.plogspot.com

226
في الذكرى السادسة عشرة لرحيل المناضل البارز
الدكتور خالد محمد خالد

حامد الحمداني                                                  29/2/2012
تمر علينا اليوم التاسع والعشرين من شهر شباط / فبراير 1996 ذكرى رحيل المفكر المصري التقدمي البارز خالد محمد خالد، الذي يعتبر واحدا من أبرز المفكرين الإسلاميين في العالم العربى، هذه الشخصية الوطنية البارزة التي رفعت راية النضال من أجل تحرر الفكر الإسلامي من ما علق به من أفكار ظلامية متخلفة أساءت إلى الإسلام بما الحقته من الشوائب الغريبة التي قادت المجتمعات الإسلامية نحو التخلف الذي ساد في العصور الوسطى، وسعى عبر مؤلفاته القيّمة إلى تحرير العقل العربي والإسلامي من تلك الأفكار التي لا علاقة لها بجوهر الدين، وإشاعة المثل الإنسانية النبيلة الداعية إلى تحرر المجتمع من الخرفات التي لصقها بالدين أولئك الجهلة، وأنصاف المثقفين الإسلاميين لأهداف وغايات سياسية لم تعد تنطوي على أحد. 
ولد الدكتور الراحل خالد محمد خالد في الخامس عشر من حزيران/ يونيو عام 1920، في قرية العدوة بمحافظة الشرقية بمصر، والتحق بكتاب القرية لسنوات، وحفظ قدراً من القرآن، ثم اصطحبه أبوه إلى القاهرة حيث تولى شقيقه الأكبر حسين تحفيظه ما بقى من القرآن كشرط الالتحاق بالأزهر، فأتم خالد محمد خالد حفظ القرآن، والتحق بالأزهر، وظل يدرس لستة عشر عاماً وتخرج فيه من كلية الشريعة في عام 1945، وعمل بالتدريس، ثم تركه عام 1954، حيث عين في وزارة الثقافة كمستشار للنشر، لكنه قرر ترك العمل الوظيفي واعتذر عن قبول أية وظائف أخرى في عهد جمال عبد الناصر، وعهد أنور السادات، حيث وجه نقداً لقادة ثورة 23 يوليو 1952 مطالباً حكومة الثورة بتطبيق الديمقراطية في البلاد، من خلال كتابه الأول [من هنا نبدأ] والذي كان له دوي كبير في العالم العربي، وذاع صيته ككاتب إسلامي تقدمي متنور، ثم جاء كتابه الثاني [الديمقراطية أبداً] الذي دعا فيه إلى إشاعة الديمقراطية في مصر وسائر البلاد الإسلامية، وإطلاق الحريات الديمقراطية كشرط للنهوض بحياة شعوبها، ثم جاء كتابه الثالث [مواطنون لا رعايا] الذي دعا إلى العدالة الاجتماعية والمساوة بين المواطنين بصرف النظر عن الدين والقومية والطائفة، ومعالجة مشاكل المجتمع وفي مقدمتها الفقر والبطالة ومعالجة الأمراض، والنهوض بمستوى حياة الشعب المعيشية، ثم توالت كتبه التالية [رجال حول الرسول] و[أبناء الرسول في كربلاء] و[كما تحدث القرآن] و[دفاع عن الديمقراطية] و[معاً على الطريق] و [محمد والمسيح] و[أزمة الحرية فى عالمنا] و[الدولة فى الإسلام]، وكان شديد الحرص على تنقية الدين مما لحق به من أفكار وفتاوى لا تمت للدين بصلة بل شكلت عبئاً عليه، ومؤكداً على التسامح الديني والمساواة بين ابناء الشعب بمختلف طوائفه وأديانه في الحقوق والواجبات.
 وكان للراحل الكبير موقفاً معارضاً لسياسات حكومة الثورة، وطالب الثورة بالعدل السياسي بدلا من العزل السياسي، وكان كتابه الأول [من هنا نبدأ] سببا فى ذيوع اسمه فى مصر والعالم العربي ككاتب إسلامي متحرر يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وتهافت القراء على اقتنائه.

لقيت كتبه محاربة شديدة من قبل الأنظمة الحاكمة في مصر والعالم العربي، ومن قبل الأزهر حيث اعتبره الأزهر خارجاً على مبادئ الدين الإسلامي!!.

كما جرى منع تداول كتبه في مختلف الدول العربية، واتهم الدكتور خالد محمد خالد بالشيوعية تارة، وبالردة عن الإسلام تارة أخرى، وباتت كتبه وثيقة إدانه لحامله أو المحتفظ به في بيته بالانتماء للحزب الشيوعي.

 وهو ما جرى معي بالذات حيث كنت قد اشتريت كتبه سراً من احد أصحاب المكتبات التقدميين في مدينة الموصل، حيث كانت ُتجلب تهريباً إلى العراق، وتباع للأشخاص الموثوقين منهم سراً، وفي عام 1953 عندما كنت مديراً لمدرسة الحضر الأثرية، وكانت وقتذاك مركزاً لمديرية شرطة البادية، فاجأني مأمور المركز بالدخول بغرفة الإدارة، وكان على منضدتي كتاب [ الديمقراطية أبدا]حيث قال لي بالنص:
أستاذ حامد هذا الكتاب شيوعي وممنوع !
وقد أجبته على الفور أنه كتاب لعالم أزهري، فكيف يكون الأزهري شيوعياً؟
وقد رد عليَّ قائلاً :{انه كتاب ممنوع وأنا متأكد من ذلك عندما كنت اعمل في الشرطة الخاصة بالأمن، وأنا أنصحك بالابتعاد عن ذلك، وأنا احترمك وأرجو أن تخلص من هذا الكتاب}.
 وما كاد يخرج من غرفتي حتى بادرت إلى إخفائه في مكان آمن، فهو وأمثاله من أفراد الشرطة لا يؤتمنون، وبعد أسبوع أعدته إلى البيت بالموصل.

هكذا كانت كتب الدكتور خال محمد خالد ترعب الأنظمة العربية، لأنها تفتح أذهان أبناء وبنات الشعب لإدراك الحقيقة، والمطالبة بحقوقهم المشروعة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتنقية .

اتسمت حياة الدكتور خالد محمد خالد بالزهد فلم يفكر المال والمناصب، وكان موقفه من الإخوان المسلمين معارضا لفكرهم  قبل الثورة، ولكنه رفض الهجوم عليهم لاحقا حينما كانوا فى المعتقلات حتى وافته المنية فى مثل هذا اليوم التاسع والعشرين من شباط/ فبراير سنة 1996 ودفن فى قريته.
 إن خالداً بما قدمه من كتب وبحوث قيمة، ومواقف جريئة في نقده لأدعياء الدين المتخلفين يبقى خالداً في قلوب كل من عرفه أو قرأ له أو سمع عنه.

227
هذا ما كتبته قبل الغزو الأمريكي للعراق محذراً من نتائجه الكارثية

حامد الحمداني
15/2/2012


خياران أحلاهما مـُر

يمر شعبنا العراقي هذه الأيام في محنة كبرى، وأي محنة أشد وأقسى من الاختيار بين خيارين أحلاهما مُـرٌ، فإن شنت الولايات المتحدة الحرب بدعوى إسقاط نظام صدام، وتدمير أسلحة الدمار الشامل، واحتلت بجيوشها الجرارة العراق، وأقامت حكومة عسكرية برئاسة جنرال أمريكي فتلك مصيبة، وإن بقي نظام صدام جاثماً على صدور العراقيين فالمصيبة أعظم.

لم يعد شعبنا العراقي قادراً على تحمل هذا النظام الذي ابتلاه بالويلات والمصائب والمآسي التي لم يشهد لها مثيلاً من قبل، بدءاً من الحرب التي شنها ضد الشعب الكردي مروراً بحملة التهجير وسلب الأموال والأملاك لمئات آلاف المواطنين بحجة التبعية الإيرانية!!، ثم تلا ذلك الحملة المجرمة على القوى السياسية الوطنية التي جرى تصفية الألوف من كوادرها ومنتسبيها، وبوجه خاص الحزب الشيوعي، وحزب الدعوة، والقوى القومية، ولم يسلم من بطش هذه السلطة الغاشمة حتى قادة حزبهم حيث اعدم صدام ثلاثة وعشرين من قادة حزبه بدعوى مؤامرة مزعومة لصالح سوريا!!

ولم يكد يستتب الأمر لنظام صدام حتى بادر إلى شن الحرب على الجارة إيران دون مبرر، بل تنفيذاً لمخطط أمريكي كان هدفه الأول والأخير إنهاك البلدين الجارين الذين يمثلان القوة المؤثرة الكبرى في منطقة الخليج، وتدمير البنية التحية لاقتصاد البلدين، وإغراقهما بالديون لكي يتم للولايات المتحدة الهيمنة المطلقة على بلدان الخليج الغنية بالنفط، وتأمين موارد النفط لأمد بعيد، وكانت الولايات المتحدة تقدم المساعدات والأسلحة والمعلومات عبر أقمارها الصناعية التجسسية إلى كلا الطرفين كي تستمر الحرب طيلة ثمان سنوات، ولولا انتقال تلك الحرب إلى مياه الخليج، وما دعي آنذاك بحرب الناقلات، لما أقدمت الولايات المتحدة على المبادرة لإصدار قرار من مجلس الأمن بوقف تلك الحرب، كي لا يتأثر انسياب النفط إليها والى بقية الدول الغربية.

لم يكن لشعبنا لا ناقة أو جمل، كما يقول المثل، في تلك الحرب التي دفع فيها من دماء أبنائه أكثر من نصف مليون شاب، ناهيك عن مئات الألوف من المعوقين والأيتام و الأرامل.

لقد خرج العراق من تلك الحرب مثقلاً بالديون، محطم الاقتصاد، وتفتق ذهن صدام أن يعوض عن تلك الخسائر الجسام بمهاجمة الكويت والاستحواذ على نفطها، وجرى نصب فخ له من قبل الولايات المتحدة لتشجيعه على دخول الكويت بغية تدمير القوة العسكرية للعراق والتي كان لها الدور الأكبر في بنائها بالتعاون مع الدول الغربية الأخرى بالإضافة إلى الاتحاد السوفيتي، بعد أن انتهت تلك الحرب ، وأصبح صدام يمثل خطراً على أمن الخليج.

وهكذا شنت الولايات المتحدة وحلفائها حرب الخليج الثانية، والتي سميت بحرب الثلاثين دولة، فحلت بالبلاد الكارثة الكبرى، تدمير شامل لبنيته التحتية، الاقتصادية منها والاجتماعية والصحية والتعليمية، وكان الحصار المجرم الذي تم فرضه على شعب العراق دون حكامه والمستمر منذ عام 1991وحتى يومنا هذا، والذي يمثل أشنع أنواع الحروب، وكان من نتائجه انهيار البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي، وحل الفقر والجوع والأمراض، وانمحت عادات وقيم وتقاليد اجتماعية رائعة، لتحل مكانها عادات وقيم وتقاليد على النقيض منها تماماً تلك التي فتكت ولا تزال تفتك وتنخر بمجتمعنا العراقي.

هذا ما جناه الشعب العراقي من هذا النظام، سجون وقتل، وحروب دموية، وفقر مدقع، وأمراض لا أول لها ولا آخر، وتزوير لإرادة الشعب وسلبه كامل حقوقه وحرياته، في حين كان يمكن أن يكون شعبنا اسعد شعوب الخليج قاطبة لولا ابتلائه بهذا النظام الكريه.

ونعود للحرب التي تزمع الولايات المتحدة شنها على العراق لغرض تدمير أسلحة الدمار الشامل، وإسقاط النظام، وبودي أن أتساءل:
هل أن الولايات المتحدة تهدف من وراء حربها حقاً تحرير شعب العراق، وإنقاذه من ظلم نظام صدام، وتتحمل التضحيات الجسام من أرواح أبنائها بالإضافة إلى تكاليف الحرب التي تقدر بمئات مليارات الدولارات لسواد عيون الشعب العراقي؟

ورب قائل يقول إن مصالح شعبنا في إسقاط نظام صدام تتفق مع مصالح الولايات المتحدة المتوخاة من هذه الحرب، وللوهلة الأولى تبدو المسألة مجرد توافق مصالح، ونحن لا نعارض توافق المصالح بين الشعوب، لكن علينا أن ندرس بإمعان هل أن ما سنحققه من مصالح نتيجة هذه الحرب تتجاوز السلبيات والأضرار التي ستحيق بشعبنا ووطننا، لو كانت الايجابيات تتفوق على السلبيات لكنت أول المصفقين لهذه الحرب التي تخلصنا من أعتا نظام فاشي عرفته الإنسانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وانحنيت إجلالاً للولايات المتحدة على جهادها في سبيل تحرير الشعوب!!

لكن التجارب التي مرت بها العديد من الشعوب لم تعطنا بصيص أمل في مستقبل أفضل فالولايات المتحدة لا تزال تؤيد وتساند العديد من الأنظمة التي تضطهد شعوبها وتسلبهم كامل حقوقهم وحرياتهم لأن هذه الأنظمة محسوبة عليها، ولنا من الأنظمة العربية خير مثال على ذلك
ثم لماذا الحرب سبيلاً أوحداً لإسقاط النظام؟

وهل هناك سبيلاً آخر لتحقيق هذا الهدف يجنب شعبنا ويلات ومآسي لا يعلم بها إلا الله ؟
لم يعد شعبنا يتحمل المزيد من الحروب وقد كفاه حروباً دامت عشرات السنين دون انقطاع.

إن الولايات المتحدة إن هي حقاً تريد إنقاذ شعبنا من جور نظام لصدام، من دون أن تلحق الأذى والخراب والدمار بالعراق، شعباً ووطنناً، فإن أمامها طريق ثالث يجنب العراق وشعبه الويلات والمآسي، وبنفس الوقت كفيل بإنهاء النظام الدكتاتوري الصدامي البغيض باللجوء إلى الأمم المتحدة، والسعي لإصدار قرار جديد من مجلس الأمن، وتحت البند السابع، يلزم النظام العراقي باحترام حقوق وحريات الشعب، وإلغاء كافة القوانين التي أصدرها النظام، والمخالفة لكل الأعراف والقوانين الدولية وشريعة حقوق الإنسان، وإلزامه إجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف صارم من الأمم المتحدة، وتأمين حقوقه وحرياته الديمقراطية، كما أن عليها أن تسعى لتفعيل محكمة الجنايات الدولية، والعمل على إحالة مجرمي الحرب الذين مارسوا أشنع الجرائم بحق الشعب العراقي، عرباً وأكراداً وسائر الأقليات الأخرى، وخلال أكثر من ثلاثة عقود ذاق خلالها شعبنا الأمرين.

أنني شديد الإيمان أن شعبنا لو تسنى له التعبير بحرية وفي انتخابات حرة ونزيهة لما نال هذا النظام الكريه واحد بالألف من السكان. إن ما سمي بالبيعة لرأس النظام يوم أول أمس هو تعبير صارخ عن مدى استهتار النظام بحقوق وحريات الشعب، فهل من يدلني على رئيس دولة في العالم أجمع نال أصوات بنسبة 100% سوى صدام حسين. أليس هذا دليل صارخ على عمق المهزلة التي يجري تنفيذها في عراقنا الجريح؟

أيتها الشعوب العربية، أيتها الشعوب في العالم أجمع، أيتها الحكومات الديمقراطية شرقية وغربية، يا هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، يا منظمات حقوق الإنسان: نناشدكم الوقوف إلى جانب شعبنا المذبوح، افعلوا كل ما في طاقتكم من أجل تخليصه من حكم الطاغية وزمرته القتلة، وجنبوه مآسي ومصائب الحرب، فقد كفاه ما قاسى عبر عشرات السنين.










228
الدور الأمريكي
 في وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في إيران
وإشعال الحرب العراقية الإيرانية

حامد الحمداني
12/2/2012


كان عام 1979 عاماً حاسماً بالنسبة لنظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، فقد بلغ السخط الشعبي أقصى درجاته، بسبب الظروف المعيشية القاسية من جهة، والأساليب القمعية التي مارسها النظام في إخضاع الشعب، وتصفية كل مظاهر الديمقراطية والحريات العامة، وانعدام العدالة الاجتماعية.

فلم يعد الشعب الإيراني يصبر على استبداد نظام الشاه، وتجاهله لتدهور أحوال الشعب المعيشية، حيث اندفعت جماهير الشعب الإيراني في تظاهرات صاخبة مطالبة بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم.

لكن نظام الشاه بدلاً من أن يستجيب لمطالب الشعب، ويجري اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية حقيقية، فإنه اتخذ الوسائل القمعية ضد المتظاهرين، والتي أوقعت العديد من الضحايا، مما أدى ذلك إلى تصاعد موجة الاحتجاجات الهادرة التي أخذت بالتوسع والانتشار، وأصر نظام الشاه على قمعها مستخدماً قواته المسلحة، حيث احتدم الصراع بين الطرفين والذي سبب سقوط الألوف من الضحايا.

 لكن المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري أتسعت أكثر فأكثر بعد أن انظم إليها سائر أطياف الشعب وقواها السياسية، حيث جعلت نظام الشاه يترنح أمام بسالة الشعب وتصميمه على خوض المعركة حتى النهاية، وبات نظام الشاه في مهب الريح موشكاً على السقوط.

سبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة، وكان لابد أن يضمن الغرب مصالحه النفطية في الخليج .

 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، الأول تيار ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري يضم حزب تودا الشيوعي، وحزب مجاهدي خلق اليساري، وقد وجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ.

 فقد كان التيار اليساري يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.

وبناء على ذلك فإن مجيء اليسار إلى الحكم في إيران سوف يعني في نظر الإدارة الأمريكية وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت [أهون الشرين] بالنسبة لها طبعاً، وهو القبول بالتيار الديني ودعمه لاستلام السلطة خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران، حيث تم نقله على عجل بطائرة خاصة  من باريس لتسلم زمام الأمور بالبلاد، بعد أن أوشك نظام الشاه على السقوط.

 وهكذا تمكن  التيار الديني من تسلم زمام السلطة، بدعم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979، وتم استبعاد وتهميش القوى اليسارية، ثم ما لبث نظام الخميني أن استأثر بالسلطة لوحده، وشن حملته ضد شركائه في الثورة، وسرقه تضحياتها من أجل انتصار الثورة.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية قادة جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

 وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد، وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يحقق هذه المهمة هو إشعال الحرب بين العراق وايران، ووجدت ضالتها في عميل مخابراتها صدام حسين، الذي مهدت له الطريق لقيادة الانقلاب ضد الرئيس أحمد حسن البكر، واستلامه السلطة المطلقة في البلاد، للقيام بهذه المهمة، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة فالعراق، وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما،  وتحطم اقتصاد البلدين، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.

وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة السيطرة على منطقة [خوزستان] وهي منطقة عربية تدعى [عربستان].

ولم يدرِ بخلد صدام ما تخبئه له الأيام؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب؟ وكم ستكلف الشعب  العراقي من الدماء والدموع، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

فقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين. فلقد صرح الرئيس الأمريكي [ ريكان ] حول الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة }.
وهكذا بدا واضحا أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر، الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية فقد صرح قائلاً:{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة ولا يخرج أحد منها منتصراً وإنما يخرج الطرفان منها مهزومين}.

وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات  والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.

لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون صور الأقمار الصناعية، تلك المجازر التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وكانت مصالحهم الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن صدام حسين قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني تربطه بالعراق علاقات تاريخية ودينية عميقة، إضافة إلى علاقات الجيرة التي تمتد جذورها لقرون عديدة.

 كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني.

وفي أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في الحرب، حيث شنت القوات الإيرانية هجوماً واسع النطاق على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع من تطويق القوات العراقية، وخاضت ضدها معارك شرسة ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم  صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.
 
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله، وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان  الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق، وأصروا على مواصلة الحرب، وطرد القوات العراقية بالقوة من منطقة خوزستان.

وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان، حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها، مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة، إلا أن حكام إيران، وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي، وأصروا على مواصلة الحرب.

واستمرت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين يمدون الطرفين بالسلاح كي تستمر الحرب كما خططوا لها، حتى تحولت بعد ثمان سنوات إلى حر الناقلات، وباتت ناقلات النفط مهددة بقصف الطائرات والصواريخ عند ذلك قررت الولايات المتحدة وقفها.

 وخرج البلدان من الحرب يمتلكان جيوشاً جرارة واقتصاد منهك، فكان أن تهور صدام مرة أخرى ، فما كاد يخرج من تلك الحرب المجنونة ليغزو الكويت، ويدخل في حرب مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وثلاثون دولة أخرى عام 1990، دمرت قدرات العراق العسكرية  والاقتصادية، وتم فرض الحصار الجائر على العراق الذي استمر حتى غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، ودمر البنية الاجتماعية العراقية.

              أما حكام طهران قد انكبوا على إصلاح أوضاعهم الاقتصادية، ثم التفتوا إلى التسلح من جديد، وأخذت طموحاتهم تتصاعد عاماً بعد عام لكي تصبح إيران دولة نووية، متجاهلين كل الضغوط الدولية، التي تطورت على التهديدات العسكرية من قبل الدول الغربية وإسرائيل، والتي قابلها حكام طهران بالتهديدات المتقابلة، مما ينذر باشتعال الحرب في الخليج من جديد والتي تهدد بالانتشار في منطقة الشرق الأوسط، ولم يتعلم حكام طهران الدرس من صدام وحروبه الكارثية، فالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لن يدعو حكام طهران يهددون مصالحهم النفطية في الخليح، ومهما بلغت إيران من أسباب القوة فإنها تبقى عاجزة عن تحقيق النصر في أي حرب جديدة، وستجلب الكوارث على شعبها ووطنها إن هي استمرت في مغامرتها العسكرية.


 


















الدور الأمريكي
 في وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في إيران
وإشعال الحرب العراقية الإيرانية
حامد الحمداني
12/2/2012

كان عام 1979 عاماً حاسماً بالنسبة لنظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، فقد بلغ السخط الشعبي أقصى درجاته، بسبب الظروف المعيشية القاسية من جهة، والأساليب القمعية التي مارسها النظام في إخضاع الشعب، وتصفية كل مظاهر الديمقراطية والحريات العامة، وانعدام العدالة الاجتماعية.

فلم يعد الشعب الإيراني يصبر على استبداد نظام الشاه، وتجاهله لتدهور أحوال الشعب المعيشية، حيث اندفعت جماهير الشعب الإيراني في تظاهرات صاخبة مطالبة بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم.

لكن نظام الشاه بدلاً من أن يستجيب لمطالب الشعب، ويجري اصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية حقيقية، فإنه اتخذ الوسائل القمعية ضد المتظاهرين، والتي أوقعت العديد من الضحايا، مما أدى ذلك إلى تصاعد موجة الاحتجاجات الهادرة التي أخذت بالتوسع والانتشار، وأصر نظام الشاه على قمعها مستخدماً قواته المسلحة، حيث احتدم الصراع بين الطرفين والذي سبب سقوط الألوف من الضحايا.

 لكن المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري أتسعت أكثر فأكثر بعد أن انظم إليها سائر أطياف الشعب وقواها السياسية، حيث جعلت نظام الشاه يترنح أمام بسالة الشعب وتصميمه على خوض المعركة حتى النهاية، وبات نظام الشاه في مهب الريح موشكاً على السقوط.

سبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة، وكان لابد أن يضمن الغرب مصالحه النفطية في الخليج .

 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، الأول تيار ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري يضم حزب تودا الشيوعي، وحزب مجاهدي خلق اليساري، وقد وجدت الإدارة الأمريكية نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ.

 فقد كان التيار اليساري يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.

وبناء على ذلك فإن مجيء اليسار إلى الحكم في إيران سوف يعني في نظر الإدارة الأمريكية وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت [أهون الشرين] بالنسبة لها طبعاً، وهو القبول بالتيار الديني ودعمه لاستلام السلطة خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران، حيث تم نقله على عجل بطائرة خاصة  من باريس لتسلم زمام الأمور بالبلاد، بعد أن أوشك نظام الشاه على السقوط.

 وهكذا تمكن  التيار الديني من تسلم زمام السلطة، بدعم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979، وتم استبعاد وتهميش القوى اليسارية، ثم ما لبث نظام الخميني أن استأثر بالسلطة لوحده، وشن حملته ضد شركائه في الثورة، وسرقه تضحياتها من أجل انتصار الثورة.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية قادة جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

 وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد، وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يحقق هذه المهمة هو إشعال الحرب بين العراق وايران، ووجدت ضالتها في عميل مخابراتها صدام حسين، الذي مهدت له الطريق لقيادة الانقلاب ضد الرئيس أحمد حسن البكر، واستلامه السلطة المطلقة في البلاد، للقيام بهذه المهمة، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة فالعراق، وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما،  وتحطم اقتصاد البلدين، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.

وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة السيطرة على منطقة [خوزستان] وهي منطقة عربية تدعى [عربستان].

ولم يدرِ بخلد صدام ما تخبئه له الأيام؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب؟ وكم ستكلف الشعب  العراقي من الدماء والدموع، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

فقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين. فلقد صرح الرئيس الأمريكي [ ريكان ] حول الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة }.
وهكذا بدا واضحا أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر، الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية فقد صرح قائلاً:{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة ولا يخرج أحد منها منتصراً وإنما يخرج الطرفان منها مهزومين}.

وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات  والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.

لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون صور الأقمار الصناعية، تلك المجازر التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وكانت مصالحهم الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن صدام حسين قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني تربطه بالعراق علاقات تاريخية ودينية عميقة، إضافة إلى علاقات الجيرة التي تمتد جذورها لقرون عديدة.

 كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني.

وفي أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في الحرب، حيث شنت القوات الإيرانية هجوماً واسع النطاق على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع من تطويق القوات العراقية، وخاضت ضدها معارك شرسة ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم  صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.
 
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله، وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان  الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق، وأصروا على مواصلة الحرب، وطرد القوات العراقية بالقوة من منطقة خوزستان.

وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان، حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها، مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة، إلا أن حكام إيران، وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي، وأصروا على مواصلة الحرب.

واستمرت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين يمدون الطرفين بالسلاح كي تستمر الحرب كما خططوا لها، حتى تحولت بعد ثمان سنوات إلى حر الناقلات، وباتت ناقلات النفط مهددة بقصف الطائرات والصواريخ عند ذلك قررت الولايات المتحدة وقفها.

 وخرج البلدان من الحرب يمتلكان جيوشاً جرارة واقتصاد منهك، فكان أن تهور صدام مرة أخرى ، فما كاد يخرج من تلك الحرب المجنونة ليغزو الكويت، ويدخل في حرب مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وثلاثون دولة أخرى عام 1990، دمرت قدرات العراق العسكرية  والاقتصادية، وتم فرض الحصار الجائر على العراق الذي استمر حتى غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، ودمر البنية الاجتماعية العراقية.

              أما حكام طهران قد انكبوا على إصلاح أوضاعهم الاقتصادية، ثم التفتوا إلى التسلح من جديد، وأخذت طموحاتهم تتصاعد عاماً بعد عام لكي تصبح إيران دولة نووية، متجاهلين كل الضغوط الدولية، التي تطورت على التهديدات العسكرية من قبل الدول الغربية وإسرائيل، والتي قابلها حكام طهران بالتهديدات المتقابلة، مما ينذر باشتعال الحرب في الخليج من جديد والتي تهدد بالانتشار في منطقة الشرق الأوسط، ولم يتعلم حكام طهران الدرس من صدام وحروبه الكارثية، فالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لن يدعو حكام طهران يهددون مصالحهم النفطية في الخليح، ومهما بلغت إيران من أسباب القوة فإنها تبقى عاجزة عن تحقيق النصر في أي حرب جديدة، وستجلب الكوارث على شعبها ووطنها إن هي استمرت في مغامرتها العسكرية.



229
من أجل تطوير مناهجنا التربوية لإجيالنا الناهضة
حامد الحمداني
5/2/2012 
                                 

أن التطور الذي شهده عصرنا الحاضر في أساليب التربية الديمقراطية قلب المفاهيم التربوية السائدة رأساً على عقب، فبعد أن كان الكتاب والمعلم، وهو لا يزال مع شديد الأسف في الكثير من البلدان النامية هما المحور الذي تدور حوله عملية التربية والتعليم، وجلّ هم المدرسة حشو أدمغة التلاميذ بالمعلومات النظرية التي تتضمنها الكتب المقررة من قبل وزارات التربية والتعليم، والتي ليس لها علاقة بواقع حياتهم، ولا صلة تربطها بالمجتمع، وإجبار التلاميذ على استيعابها بكل الوسائل،ومنها بكل تأكيد القسرية، بما فيها العقاب البدني، كي يتم حفظها عن ظهر قلب، وتأدية الامتحانات فيها.
 لكن تلك المعلومات التي اُجبر على حفظها لا تلبث أن تتبخر من أذهانهم لأن التلميذ ينسى بسرعة ما تعلمه، لكنه يذكر دائماً ما وجده بنفسه، وإن التعلم الحقيقي هو أن يقوم التلميذ نفسه بتجاربه فهو يفهم أكثر إذا عمل بدل أن يصغي و يقرأ، وإن كل المعارف التي يتلقاها التلميذ عن طريق الترديد والتلقين لا تعتبر معارف حقيقية، فقد تكون الخطورة في الترديد من دون الفهم وقد يكون الفهم خاطئاً، وهو ما يعتبر أخطر من الجهل كما يقول أفلاطون.
إن من الضروري أن يتملك التلميذ المعرفة، ويمتصها بكيانه كله، وبفكره وتجربته، لكنه يعجز عن ذلك إذا لم يٌتاح له الوقت المناسب ليدرسها، وليستعيدها لنفسه وحسابه الخاص، ولا يشك أحد أن معرفة كهذه هي أبقى من معرفة تلقن تلقيناً، لأنها تبقى أبداً في حالة استعداد لمجابهة مواقف ومشاكل أخرى حتى ولو نسيتها الذاكرة لأنها تتيح للتلميذ فرصة توسيع إمكانياته.
لقد أهملت المدرسة القديمة ميول ورغبات وغرائز الأطفال، وضرورة إشباعها، وتشذيبها وصقلها، وأهملت ضرورة فسح المجال لإظهار التلميذ لقدراته وقابليته في مختلف الفنون الموسيقية والغنائية والتمثيلية، وأهملت ضرورة إعطائه المجال الواسع للعب، وإظهار طاقاته البدنية المكبوتة، واعتُبرت مسائل ثانوية في نظر القائمين على التربية لا تستحق الاهتمام.   
ولقد أجاد المربي الكبير [ جون ديوي ] في كتابه [ المدرسة والمجتمع ] في وصف واقع المدرسة القديمة قائلاً:
{لكي أوضح النقاط الشائعة في التربية القديمة بسلبيتها في الاتجاه وميكانيكيتها في حشد الأطفال، وتجانسها في المناهج والطريقة، من الممكن أن يلخص كل ذلك بالقول بأن مركز الجاذبية واقع خارج نطاق الطفل، إنه في المعلم وفي الكتاب المدرسي، بل قل في أي مكان تشاء عدى أن يكون في غرائز الطفل وفعالياته بصورة مباشرة، وعلى تلك الأسس فليس هناك ما يقال عن حياة الطفل، وقد يمكن ذكر الكثير عما يدرسه الطفل، إلا أن المدرسة ليست المكان الذي يعيش فيه، وفي الوقت الحاضر نرى أن التغيير المقبل في تربيتنا هو تحول مركز الجاذبية، فهو تغير أو ثورة ليست غريبة عن تلك التي أحدثها كوبر نيكوس عندما تحول المركز الفلكي من الأرض إلى الشمس، ففي هذه الحالة يصبح الطفل الشمس التي تدور حولها تطبيقات التربية، وهو المركز الذي ننظمها حوله}.
أما العالم الشهير [ جان جاك رسو ] فقد دعا في عصره إلى إجراء التغيير الجذري في مناهج المدرسة قائلاً:
{حولوا انتباه تلميذكم إلى ظواهر طبيعية، فيصبح اشد فضولاً، ولكن لا تتعجلوا في إرضاء هذا الفضول. ضعوا الأسئلة في متناوله، ودعوه يجيب عليها، ليعلم ما يعلم، ليس لأنكم قلتموه له، بل لأنه فهمه بنفسه، ليكشف العلم بدلاً من أن يحفظه، فعندما يجبر على أن يتعلم بذاته فإنه يستعمل عقله بدلاً من أن يعتمد على عقل غيره.
 فمن هذا التمرين المتواصل يجب أن تنتج قوة عقلية تشابه القوة التي يعطيها العمل والتعب للجسم. إن الإنسان يتقدم بالنسبة لقواه، وكذلك الفكر فإنه مثل الجسد لا يحمل إلا ما وسع من طاقته}.
وهكذا إذاً كانت الدعوات من قبل العلماء والمفكرين تتوالى لإعادة النظر في المناهج الدراسية والتربوية من أجل تحويل المدرسة إلى صورة مصغرة من المجتمع الديمقراطي المشذب والمهذب، لكي يمارس التلاميذ حياتهم الفعلية فيها، ويستنبطوا الحقائق بأنفسهم، وليصبح الكتاب والمعلم عاملين مساعدين في تحقيق ما نصبو إليه في تربية أجيالنا الصاعدة، ولتصبح المدرسة هي الحياة بالنسبة لهم، وليست إعداداً للحياة، حيث يمارس التلاميذ داخل مدرستهم مختلف أنواع المهن الموجودة في المجتمع الكبير، ويمارسون كل هواياتهم الفنية، والرياضية، والموسيقية، وغيرها من الهوايات الأخرى.
وبكل ثقة نستطيع أن نقول أنهم بهذا الأسلوب سوف يطلقون قدراتهم الذاتية في الاستطلاع، والفهم، والاستيعاب، واستنباط الحقائق بأنفسهم، خيراً ألف مرة من تلقينهم الدروس المحددة والجامدة والتي لا تغنيهم شيئا،ً ولا تلبث أن تطير من أذهانهم .
أننا إذا كنا ننشد إقامة نظام ديمقراطي حقيقي فعلينا أن نبدأ بتربية أبنائنا على أسس ديمقراطية، وهذا يتطلب منا أحداث ثورة في المناهج التربوية تزيح جانباً الأساليب التربوية البالية، وتعتمد الأسلوب العلمي والديمقراطي الحديث، وعلينا أن نعيد أعداد الجهاز التربوي بما يتلاءم مع التطوير المنشود لمناهجنا التي عفا عليها الزمن، وهذا يقتضي بذل جهود مضنية لأعداد الدورات الدراسية للجهاز التربوي تؤهلهم للنهوض بهذه المهمة الصعبة والكبيرة.
وإذا لم نعد الجهاز التربوي إعداداً ديمقراطياً سليماً، ولم نستأصل الفكر الفاشي القائم على العنف، والذي نما وترعرع على عهد النظام البعثي، وإذا لم نحرر التربية من هيمنة الأحزاب الدينية الطائفية التي هيمنت على السلطة، وبالتالي على إعداد المناهج الدراسية، وتنقيتها من الفكر المتخلف الذي عفا عيه الزمن، والذي حول مدارسنا إلى الكتاتيب التي عرفناها فيما مضى، فليس من الممكن إطلاقاً أعداد جيل يدرك معنى الديمقراطية، ويحيا في ظلها، ويتمسك بها، فالمناهج الحديثة المتطورة والجهاز التربوي المتشبع بالفكر الديمقراطي عاملان متلازمان لا يمكن فصلهما عن بعضهما، لكي نحقق الأهداف التي نصبوا إليها في تربية أجيالنا الصاعدة التربية المنشودة .   


230
هل يدفع الشعب العراقي فاتورة الصراع على السلطة؟
حامد الحمداني
31/1/2012

يعيش المواطن العراقي اليوم محنة ما بعدها محنة، وهو يشهد هذا الصراع الرهيب بين قادة القوى السياسية المشتركة بالسلطة، وكل جهة تحاول الاستئثار بها  بكل الوسائل والسبل، مما يهدد في اندلاع الصراع المسلح الذي عانى منه الشعب عامي  2006 و 2007 .

ولم يدر في خلد الشعب العراقي الذي كان تواقاً للخلاص من نظام طاغية العصر صدام حسين وحزبه الفاشي، والخروج من ذلك الوضع القاسي، ليصبح  ضحية وضع أشد قساوة وأفضع، حيث تراق دماء المواطنين الأبرياء في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية الأخرى على أيدي القتلة المأجورين.

نعم لم يدر في خلده أن يشهد هذا الصراع العنيف بين قادة الكتل والأحزاب السياسية على السلطة، تاركين الشعب تحت رحمة القوى الإرهابية الصدامية وميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الظلامية، وحتى أجهزة السلطة الأمنية التي حولت حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق،  جراء الجرائم التي يقترفونها كل يوم بدم بارد، وعن عزمٍ وتصميم لإنزال اكبر الخسائر البشرية والمادية بالشعب العراقي، بسياراتهم المفخخة والعبوات المزروعة على الطرق والشوارع، والأحزمة الناسفة للانتحاريين الظلاميين المجرمين، والمسدسات الكاتمة للصوت،  حتى بات المواطن العراقي لا يأتمن على نفسه حتى في بيته .

وبدلا من توحيد القوى والأحزاب السياسية التي عارضت نظام الطاغية صدام جهودها للتصدي لهذا الوباء الخطير الذي يعصف بالبلاد والعباد، فقد جرى تحويل مجرى الصراع بين هذه القوى إلى صراع طائفي خطير بين الشيعة والسنة !! عامي 2006 و 2007، ووصل هذا الصراع إلى الحد الذي جرت فيه أعمال القتل الوحشية على الاسم والهوية، ولعب الإعلام المتخلف والمتعصب لهذه القوى دوراً خطيراً في تحشيد العناصر المتخلفة وغير المنضبطة، وزجها في هذا الصراع الرهيب الذي سبب إزهاق أرواح عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، وتشريد أكثر من مليونين من المواطنين الذين تركوا مساكنهم وأعمالهم ومدارس أبنائهم هربا من الموت على أيدي ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي.

لقد تخلت هذه القوى والأحزاب عن وطنيتها العراقية، واضعة نصب أعينها الحصول على المكاسب والمغانم من خلال سعيها الحثيث للإمساك بالسلطة حتى لو احترق العراق بأهله، ففي حين نشهد كل يوم عشرات الضحايا من المواطنين المقتولين خنقاً أو ذبحاً أو رصاصة بالرأس وهم معصوبي الأعين ومكتفي الأيدي على يد العناصر الإرهابية التي لم تبقَ وقفاً على العناصر الصدامية والظلامية، بل يشاركها اليوم العناصر المحسوبة على السلطة بما فيها عناصر تنتسب إلى قوات الأمن المفروض فيها حماية الأمن والنظام العام والحفاظ على أمن المواطنين، وقد اعترفت وزارة الداخلية بأن عصابات الموت في الأجهزة الأمنية قد مارست هذا العمل الإجرامي الشنيع بحق المواطنين الأبرياء .

لقد تخلت هذه القوى التي فقدت ثقة الشعب بها جراء مواقفها إلا مسؤولة، عن وطنيتها العراقية، وباتت أداة طيعة بيد القوى الإقليمية، والقوى الإمبريالية، فقد وضعت قوى سياسية عنبها في سلة إيران، ووضعت قوى أخرى عنبها في سلة سوريا، وقوى ثالثة وضعت عنبها في سلة السعودية، ورابعة وضعت عنبها في سلة أمريكا و بريطانيا، ولكل منها أجندتها وأهدافها البعيدة المدى مستعينة بما تقدمها هذه الدول من دعم مادي ولوجستي لقاء الخدمات التي تقدمها هي لهذه الدول بالضد من مصالح الشعب والوطن .

ولم تتعلم هذه القوى الدرس من تجارب التاريخ، وتناست كل تلك المؤتمرات التي كانت تعقدها يوم كانت في المعارضة الوطنية خارج الوطن، وتوافقها على توحيد الجهود لبناء عراق ديمقراطي موحد، ينعم فيه شعبنا بالسلام والحرية والعدالة الاجتماعية التي حُرم منها لعقود طويلة .

لقد تخلت هذه القوى عن الشعب في أحلك محنة تعصف به، ولم يعد ما يهمها سوى تحقيق مآربها الأنانية، وتعطشها للسلطة والاستئثار بها  والسعي لتحقيق أهدافها الخاصة حتى ولو أدت إلى تمزيق العراق شعباً ووطناً.

الشعب العراقي أيها السادة تنتابه اليوم خيبة أمل كبرى بكم، فقد تلاشى الأمل الذي كان يحلم به على أيديكم، وأصابه اليأس من إصلاح الأوضاع المأساوية التي يعيش بظلها، فلا أمان واطمئنان على الحياة، ولا خدمات اجتماعية وصحية وثقافية، والبطالة بلغت أعلى معدلاتها، والجوع والفقر والأمراض تنخر بالمجتمع، وانتم عنه لاهون، وعلى السلطة تتصارعون، ولخدمة الأجنبي تتسابقون.

الوضع خطير أيها السادة، ولم يعد هناك متسع من الوقت إلا القليل لتكفروا عن أوزاركم، وتعودوا إلى شعبكم، وتدعو جانياً مصالحكم الحزبية والشخصية الأنانية، ولتكونوا عراقيين أوفياء حقاً وصدقاً، وليشد بعضكم إزر بعض، ولتحافظوا على وحدة الشعب والوطن، وتقفوا وقفة رجل واحد ضد كل من يسعى لإحداث الفتنة الطائفية بين أبناء الشعب الواحد بمختلف قومياته وأديانه وطوائفه، والحيلولة دون نشوب الحرب الأهلية من جديد، والتي لن ينجُ منها أحد أبداً، وسيلعن التاريخ كل من يدفع أطياف الشعب العراقي المظلوم نحو الكارثة.

231
وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948
في ذكراها الرابعة والستين


حامد الحمداني
26/1/2012

ممهدات الثورة:
منذُ أن أقدم الإمبرياليون البريطانيون على احتلال العراق من جديد في عام 1941، وإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني، وتشكيل حكومة المدفعي بأمر من السفارة البريطانية، أصبح الشعب العراقي وحاكميه على طرفي نقيض، وتباعدت الهوة بينهما إلى أبعد الحدود، وخصوصاً بعد الإجراءات الانتقامية التي قامت بها حكومتي المدفعي، ونوري السعيد ضد كل من شارك أو ساند حركة الكيلاني، والعقداء الأربعة، أو وقف ضد الاحتلال البريطاني .

لقد أدركت السلطة الحاكمة أن الأمور لا بُدّ وان تؤدي إلى الانفجار إذا ما سارت على ذلك المنوال، وبغية امتصاص الغضب الشعبي العارم، أقدم الوصي عبد الإله على تأليف وزارة توفيق السويدي، وأعلن في خطاب العرش عن عزم الحكومة إعادة الأوضاع الطبيعية للبلاد، وإنهاء الأحكام العرفية، وإطلاق حرية الصحافة، والسماح بتأليف الأحزاب السياسية.

 وخلال فترة حكم تلك الوزارة تنفست الصحافة الصعداء، وظهرت العديد من الصحف الوطنية، وتم إجازة خمسة أحزاب معارضة، وهكذا خلق توجه الحكومة انفراجا نسبيا في أوضاع السياسية للبلاد .

لكن هذا التوجه لم يرق للمحتلين وأزلاهم، وعلى رأسهم نوري السعيد وشلته التي سعت بكل الوسائل والسبل لإسقاط وزارة السويدي ،وتصفية كل مظاهر الديمقراطية ، واضطهاد الصحافة والأحزاب ،والعودة بالأمور من جديد.

لقد تم لنوري السعيد وأسياده المحتلين ما أرادوا ، وسقطت وزارة السويدي، ليؤلف أرشد العمري وزارة جديدة، ادعى حين تأليفها أنها جاءت لإجراء الانتخابات النيابية  لكنها في حقيقة الأمر جاءت لتصفية الحياة الحزبية، وشل الصحافة، وقمع الشعب، ومصادرة حقوقه وحرياته العامة، وبدأت وزارة العمري تمارس سياسة القمع، مما دفع بالأوضاع نحو التدهور من جديد، وتصاعد التناقض بين الشعب وحاكميه.

القضية الفلسطينية:
وجاءت قضية فلسطين، وقرار اللجنة البريطانية ـ الأمريكية القاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة القادمين من مختلف أنحاء العالم ، تنفيذا لوعد [بلفور] بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أدى ذلك القرار إلى إثارة الغضب الشعبي العارم في كافة أنحاء العالم العربي، وقيام المظاهرات الجماهيرية الواسعة في بغداد وسائر المدن الأخرى ضد السياسة البريطانية والأمريكية، وضد حكومة ارشد العمري الممالئة للإنكليز، وقد لعب الحزب الشيوعي دوراً طليعيا في تلك المظاهرات الكبرى، التي جرت في 28 حزيران والتي قابلتها الحكومة وأجهزتها القمعية بالرصاص، حيث استشهد العديد من المواطنين ، وجرح أعداد كثيرة أخرى ، وقامت الحكومة باعتقال المئات من المحتجين على سياستها.
ثم تلتها  [مذبحة كاور باغي ] التي نفذتها حكومة العمري ضد عمال شركة النفط في كركوك لتزيد الغليان الشعبي إلى درجة خطيرة.

أزمة الخبز:
وجاءت أزمة الحبوب وفقدان رغيف الخبز في مطلع عام 1947 لتصاعد من حدة التناقض بين الشعب وحاكميه، ولترفع من حرارة الغليان الشعبي، فبسبب سياسة الحكومة الاقتصادية الرعناء، حيث سمحت بتصدير كميات كبيرة من الحبوب، إرضاءً لكبار الإقطاعيين والملاكين الزراعيين، على الرغم من سوء الموسم الزراعي ذلك العام  بسبب شحة الأمطار.

 ورغم كل التحذيرات التي وُجهت للحكومة من خطورة الوضع، وضرورة منع التصدير ذلك العام، إلا أن الحكومة أغمضت عيونها عن تلك التحذيرات، واستمرت في سياستها المتعارضة ومصالح الشعب وحياته المعيشية، مما سبب فقدان الحبوب في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وقد لاقى الشعب صعوبات بالغة في الحصول على رغيف الخبز الذي اشتهر في تلك الأيام بـ [ الخبز الأسود ] لكثرة ما خلط فيه من مواد غريبة، وكانت صفوف المنتظرين أمام المخابز تثير الأسى والحزن على ما يلاقيه الناس للحصول على الخبز.

لقد كانت أزمة الخبز أحد الأسباب الرئيسية لقيام وثبة كانون الثاني المجيدة  في مطلع عام 1948، فقد بلغ السيل الزبا، كما يقول المثل، وكانت الأوضاع تنتظر من يشعل الشرارة لتنفجر ثورة عارمة ضد نظام الحكم القائم.

المفاوضات مع بريطانيا لتوقيع معاهدة جديدة:

وجاء تسرب أنباء عن وصول وفد بريطاني بصورة سرية لأجراء مفاوضات مع حكومة صالح جبر لوضع مسودة معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1930، وضم الوفد البريطاني نائب مارشال الجو السير [بريان بيكر] والبريكادير [ كيرتس ] ونائب مارشال الجو [ كراي ]، والمستر [ بسك ] والميجر [ رنتن ] والميجر [برتواك ] فيما كان الوفد العراقي قد تألف من [صالح جبر ] و [شاكر الوادي ] و[ صالح صائب الجبوري ] رئيس أركان الجيش، وتبين أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد بدأت في 8 مايس1947 واستمرت حتى 17 منه. (1)

وتم إجراء المفاوضات في قصر الرحاب، تحت أشراف الوصي عبد الإله الشخصي، كما سافر عبد الإله إلى لندن في 15 تموز، وأجرى مباحثات مع المستر [ بيفن ] استكمالاً للمحادثات التي بدأت في بغداد ، وبعد عودة الوصي إلى العراق استأنفت المباحثات بين الطرفين في 22 تشرين الثاني ، واستمرت حتى 4 كانون الأول، وكان الجانب البريطاني يتقدم بمسودات متعددة للمعاهدة الجديدة، وسافر[نوري السعيد] و[ فاضل الجمالي] وزير الخارجية إلى لندن، وأجريا لقاءات متعددة في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قدم لهما مساعد وزير الخارجية مسودة جديدة للمعاهدة.

 اتصل نوري السعيد برئيس الوزراء [صالح جبر] داعيا إياه إلى الحضور إلى لندن لاستكمال المباحثات حول مسودة المعاهدة، وقد لبى صالح جبر الدعوة، وغادر إلى لندن وبصحبته وزير الدفاع [شاكر الوادي ] و[ توفيق السويدي ] بعد الاجتماعين الذين تمم عقدهما في قصر الرحاب برئاسة عبد الإله، وكان الاجتماع الأول في 28 كانون الأول، وضم ذلك الاجتماع 7 رؤساء وزارات سابقين، و12 وزيراً بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي [ أحمد مختار بابان ]، ثم تلاه الاجتماع الثاني في 3 كانون الثاني حيث نوقشت فيه النقاط الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها.

 ويقول السيد توفيق السويدي في مذكراته أن صالح جبر كان قد وزع على الحاضرين مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وعندما طالبته بنسخة عربية أجابني أنه لم يتسنى لنا ترجمتها إلى العربية، ويضيف السويدي قائلا:بأنه لم يجد ما يستوجب الاعتراض من الجانب السياسي، ولكن وجدت الجانب العسكري عليه الكثير من الاعتراضات، وقد رد عليّ صالح جبر بان هذا الأمر مدروس من قَبلْ ومتفق عليه بهذا الشكل، وليس فيه ما يستوجب الاعتراض، الأمر الذي دل بوضوح على أن المعاهدة قد وضعت واتُفق على موادها سلفاً، وإن الوصي أراد إضفاء الشرعية عليها، وفي نهاية الاجتماع تم تخويل الوفد برئاسة[صالح جبر] صلاحية التوقيع على المعاهدة. (2)

وعندما سرت أنباء اجتماعات قصر الرحاب سارعت الأحزاب الوطنية إلى الاحتجاج عليها بسبب استبعاد الشخصيات الوطنية منها، وأصدرت بيانات تندد بالحكومة وتستنكر سعيها لربط العراق بمعاهدة جديدة اشد وطأة، وتمتهن سيادة واستقلال البلاد، مستهترة بإرادة الشعب وحقوقه المشروعة، وظهرت تلك البيانات في الصحف في اليوم التالي.

لكن الحكومة مضت في خططها لإتمام الصفقة مع المحتلين البريطانيين متحدية إرادة الشعب، حيث أعلن عن سفر الوفد العراقي إلى لندن في 5 كانون الثاني 1948.
وجاءت تصريحات وزير الخارجية فاضل الجمالي، والتي أشاد فيها بالمعاهدة العراقية البريطانية الموقعة في حزيران 1930، وبجهود الحكومة لعقد معاهدة جديدة مع الحليفة بريطانيا، وأهمية وضرورة عقدها، لتشعل أول شرارات الوثبة، فقد كانت تصريحات الجمالي استفزازية وقحة دفعت طلاب الكليات إلى الخروج في مظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة لعقد هذه المعاهدة الجديدة
وقام طلاب كلية الحقوق بدور بارز في تلك المظاهرات.

لكن الحكومة سارعت إلى دفع قوات الشرطة للتصدي للمظاهرات مستخدمة أساليبها القمعية المعروفة لتفريقها، وقد أصيب عدد من الطلاب في الصدام واعتقل البعض الأخر، وأقدمت الحكومة على تعطيل الدراسة في كلية الحقوق ،في 5 كانون الثاني، وقد احتج أساتذة الكلية على إجراءت الحكومة وأساليبها القمعية في تعاملها مع الطلاب المتظاهرين.

 لكن الحكومة ردت باعتقال عدد من أساتذة الكليات والطلاب، واتهمتهم بحمل المبادئ الهدامة. ونتيجة لسلوك الحكومة هذا إزاء الطلاب وأساتذة الكليات أعلن طلاب الكليات والمعاهد العالية إضرابهم عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرات صاخبة سارت حتى بناية مجلس النواب للاحتجاج على الحكومة.

وبسبب تسارع الأحداث وتطورها، حاول وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] تهدئة الأوضاع فأمر بإعادة فتح كلية الحقوق، وإطلاق سراح الطلاب، وأساتذتهم المعتقلين.

توقيع معاهدة بورتسموث في 15 كانون الثاني 1948:
وصل الوفد العراقي المفاوض إلى لندن في 6 كانون الثاني، حيث عقد الوفدان العراقي والبريطاني في مقر وزارة الخارجية اجتماعاتهما حول المعاهدة المقترحة والتي كانت قد أعدت سلفاً، واستغرقت الاجتماعات أربعة أيام، وانتهت في 10 كانون الثاني بعد أن جرى الاتفاق على بنودها، وتقرر التوقيع عليها في 15 منه في ميناء [بورتسموث].

 وبادر صالح جبرإلى إرسال نسخة من مسودة المعاهدة المتفق عليها باللغة الإنكليزية ، طالبا عدم نشرها لحين ترجمتها إلى العربية، وتم بالفعل ترجمتها وإذاعتها في 16 منه ، وتناقلت الصحف نشر نصوصها، وبدأت في التعليق عليها ومهاجمتها ، وإدانة الوفد المفاوض بالتواطؤ مع الإنكليز، وقد أحدث نشرها غليانا شعبياً واسعاً ينذر بالانفجار في أية لحظة.(3)

اندلاع الوثبة كانون الثاني المجيدة:

 على أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها [صالح جبر ] مع[ارنست بيفن ] وزير الخارجية البريطاني اجتاحت البلاد موجة عارمة من الغضب الشعبي العارم ونشرت الأحزاب الوطنية في 18 كانون الثاني البيانات المنددة بالحكومة والمعاهدة، وطالبت البيانات باستقالة حكومة صالح جبر، ورفض المعاهدة التي جاءت أقسى من معاهدة 1930 وأشد وطأة.
وسارع طلاب الكليات والمعاهد العالية إلى إعلان الإضراب العام، وتشكيل [لجنة التعاون الطلابي ] التي ضمت مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية، وقامت المظاهرات الصاخبة في بغداد، ثم ما لبثت أن امتدت إلى مختلف المدن العراقية في 18  كانون الثاني، وتصاعدت موجة المظاهرات في اليوم التالي عندما انضم إليها العمال والكادحين من سكان الصرائف المحيطة ببغداد، والكسبة، والمدرسين والمحامين وسائر طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة.

 اتجهت المظاهرات إلى بناية مجلس النواب، وكانت الجماهير تنظم إليها خلال مسيرتها والكل يهتفون بسقوط الحكومة، وحلّ المجلس النيابي، ورفض المعاهدة .
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان أذيع من دار الإذاعة هددت فيه بقمع المظاهرات بكل الوسائل والسبل، وقد شكل البيان استفزازاً كبيراً لجماهير الشعب دفعهم إلى تحدي السلطة، وأعلن طلاب المدارس كافة تضامنهم مع جماهير الشعب، وتحدي البيان.

وفي 20 كانون الثاني انطلقت المظاهرات الواسعة يتقدمها طلاب كلية الشريعة بجبهم وعمائمهم البيضاء، هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة، وجابهتهم قوات كبيرة من الشرطة مطلقة الرصاص على المتظاهرين، مما أوقع العديد من الشهداء والجرحى الذين نقلوا إلى المعهد الطبي، والمستشفى التعليمي بجوار كليتي الطب والصيدلة، وقد أدى ذلك الصدام إلى انتشار لهيب الوثبة في بغداد وسائر المدن الأخرى، وتصاعدت موجات المظاهرات التي اشتركت فيها جميع فئات الشعب، واشتبكوا مع قوات الشرطة التي لم تستطع مجابهة المتظاهرين وولت هاربة رغم السلاح الذي كانت تحمله بين أيديها، ولازلت أذكر تلك الأيام المجيدة من تاريخ كفاح الشعب العراقي بدقائقها، حيث كنت أحد الطلاب المشاركين فيها وشاهدت شرطة النظام وهي تولي هاربة من غضب الجماهير الشعبية، وأسفرت تظاهرات يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني في بغداد عن استشهاد أربعة من الطلاب والمواطنين، إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى، لكن تلك التضحيات كانت حافزاً قوياً دفع جماهير الشعب على مواصلة الكفاح حتى تحقيق أهدافها في إسقاط الوزارة والمعاهدة معاً.

وفي يوم الأربعاء 21 كانون الثاني توجهت جماهير الشعب نحو المستشفى التعليمي لاستلام جثث الضحايا، لكن الشرطة فاجأتهم بوابل من الرصاص وحاولت الجماهير الاحتماء في بناية كليتي الطب والصيدلة، وبناية المستشفى ولاحقتهم الشرطة داخل البنايات المذكورة، وقتلت أثنين منهم،  وكان أحدهم طالبا في كلية الصيدلة مما أشعل الموقف، ودفع عميدي كليتي الطب، والصيدلة وأساتذة الكليتين إلى الاستقالة احتجاجا على انتهاك حرمة الكليّتين، واحتجت الجمعية الطبية العراقية ببيان شديد اللهجة على تصرف الحكومة.
وتدهور الوضع في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة والوصي على العرش [عبد الإله] الذي سارع  لدعوة أعضاء الحكومة وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية الوطنية، إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في 21 كانون الثاني، لتدارس الوضع والخروج من المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها فيه، وكان من بين الحاضرين الشيخ [ محمد الصدر ] و[جميل المدفعي ] و[ حكمت سليمان ] و[ حمدي الباجه جي ] و[ارشد العمري ] و[نصرت الفارسي] و[ جعفر حمندي ] و[ محمد رضا الشبيبي ] و[ ومحمد مهدي كبه] زعيم حزب الاستقلال و[ كامل الجادرجي ] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي و[ وعلي ممتاز الدفتري ] ممثلا لحزب الأحرار، و[عبد العزيز القصاب ] و[ صادق البصام ] ونقيب المحامين [ نجيب الراوي].
 
جرت في الاجتماع نقاشات حامية حول تطور الأوضاع بين الموالين للسلطة والمعارضين لها، وقد اتهم الوزير[ عبد المهدي ] المتظاهرين بأنهم عناصر شيوعية هدامة ورد عليه السيد كامل الجادرجي بقوله:
 [ إن المتظاهرين هم عناصر وطنية وقومية عربية صرفه ]. (4)

شعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف، وعدم استطاعة الحكومة مجابه الشعب وبعد مداولات دامت أكثر من خمس ساعات أصدر الوصي بياناً إلى الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة، ومما جاء في بيانه قوله:
{ إذا كان الشعب لا يريد هذه المعاهدة فنحن لا نريدها أيضاً}.
لقد أراد الوصي أن يمتص ببيانه هذا الغضب الجماهيري العارم الذي بات يهدد النظام، وهو في حقيقة الأمر كان مرغماً على تلك الخطوة، وهذا ما أكده وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] نفسه للسيد عبد الرزاق الحسني بعد قيام ثورة 14 تموز 1958  من أن الوصي عبد الإله أصّر في بادئ الأمر على استخدام الشدة والعنف مع المتظاهرين، وحصدهم حصداً !!، وبرر سكوته عن ذلك طيلة تلك المدة إرضاءً للوصي، وتستراً على موقفه من قصة رفض الشعب للمعاهدة التي عقدت بمعرفته وبتوجيهاته. (5)

أدى بيان الوصي عبد الإله إلى حدوث انشقاق في صفوف الأحزاب الوطنية ، فقد  انشق حزب الاستقلال داعياً جماهير حزبه إلى التوقف عن التظاهر بعد بيان الوصي ، فيما أصرت بقية القوى الوطنية على مواصلة الكفاح حتى سقوط حكومة صالح جير، وقيام حكومة حيادية تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتطلق سراح كافة المعتقلين السياسيين.

وفي الوقت الذي كان الوصي يسعى بكل جهده لتهدئة الوضع، طلع علينا صالح جبرـ رئيس الوزراءـ بتصريح في لندن، في 22 كانون الثاني، يتهم المتظاهرين بأنهم عناصر هدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941 بعد إسقاط حكومة الكيلاني على يد جيش الاحتلال البريطاني.

وقد توعد جبر في تصريحه بالعودة إلى بغداد لسحق ما أسماهم برؤوس العناصر الفوضوية !!!، وكان صالح جبر بتصريحه هذا قد صب الزيت على النار، فانطلقت مظاهرات عارمة ضد الحكومة.

وفي 25 منه أعدت الحكومة البريطانية طائرة خاصة لنقل صالح جبر وبقية أعضاء الوفد إلى بغداد لمعالجة الوضع، وكبح جماح المعارضة الوطنية، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في مطار بغداد لذي طوقته الجماهير، واضطرت إلى الهبوط في القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وتم نقله والوفد المرافق له بواسطة المصفحات والمدرعات، إلى قصر الرحاب خفية، حيث التقى بالوصي بحضور نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وقد اتهم صالح جبر وكيله جمال بابان بالتهاون في قمع المظاهرات، وطلب من الوصي منحه الصلاحيات اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية خلال 24 ساعة .(6)

لكن جمال بابان أكد استحالة إنهاء المظاهرات دون استقالة الحكومة، وأيده في موقفه جميل عبد الوهاب، وزير الشؤون الاجتماعية، فيما وقف نوري السعيد إلى جانب صالح جبر داعياً إلى استخدام أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين، فما كان من جمال بابان إلا أن قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على انتقادات صالح جبر.

وفي ليلة 26 / 27 كانون الثاني أصدر صالح جير بياناً يحذر فيه أبناء الشعب من التظاهر، ويتوعدهم بإنزال العقاب الصارم بهم، وخول متصرفي الألوية، وأمين العاصمة، ومدراء الشرطة صلاحية استخدام السلاح لتفريق المظاهرات، وإنزال قوات كبيرة من الشرطة لتحتل المراكز الحساسة في العاصمة، وبقية المدن الأخرى.

وتحدت الجماهير الشعبية صالح جبر ونوري السعيد، واجتاحت شوارع بغداد وسائر المدن الأخرى مظاهرات هادرة، منددة بالحكومة ومطالبة بسقوطها وسقوط المعاهدة، وبات الوضع خطيراً جداً في تلك الليلة، حيث كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق من قبل الشعب من جهة، والحكومة وقواها القمعية من جهة أخرى، انتظاراً لصباح اليوم التالي 27 كانون الثاني.

 فلما حلّ ذلك الصباح تحولت شوارع بغداد والمدن الأخرى إلى ساحات حرب حقيقية، فقد نشرت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة المزودة بالمصفحات في الشوارع الرئيسية، فيما نصبت الرشاشات الثقيلة فوق أسطح العمارات العالية ومنارات الجوامع، استعداداً للمعركة الفاصلة.
وفي الساعة التاسعة صباحاً بدأت الجماهير الشعبية في الأعظمية، والكاظمية وفي جانبي الكرخ والرصافة تتجمع في الساحات العامة، ثم انطلقت في مسيرتها للالتقاء ببعضها، وقابلتها قوات الشرطة بوابل من رشقات الرصاص حيث استشهد على أثرها أربعة من المتظاهرين، ووقع العديد من الجرحى، مما زاد في اندفاع الجموع الهادرة واندفاعها وإصرارها على التصدي لقوات القمع، وتقدمت مظاهرتان من جهة الأعظمية، ومن جوار وزارة الدفاع لتطويق قوات الشرطة التي حاولت الانسحاب إلى شارع [ غازي ] سابقا، والكفاح حالياً، ولاحقتها جموع المتظاهرين مشعلة النيران بسياراتها ومصفحاتها، واستولت الجماهير على مركز شرطة [العباخانة ]، وتوجهت إلى ساحة  الأمين [الرصافي حالياً] في طريقها للالتحام بجماهير الكرخ عبر جسر المأمون [ الشهداء حالياً ] .
كانت قوات الشرطة قد استعدت عند مدخل الجسر، حيث نصبت رشاشاتها فوق أسطح العمارات، ومنارات الجوامع عند طرفي الجسر في جانبي الكرخ، والرصافة لمنع مرور المتظاهرين عبر الجسر، ومعهم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين المندفعين نحو الجسر، واستطاعت قوات الشرطة إيقاف زحف الجماهير نحو الجسر من جانب الرصافة في بادئ الأمر، مما دفع بجماهير الكرخ إلى الاندفاع نحو الجسر بغية عبوره، والالتحام بجماهير الرصافة المتواجدة في ساحة الأمين .
 وعند منتصف الجسر جابهتهم قوات الشرطة بنيران رشاشاتها المنصوبة فوق منارة جامعي [ الوزير] و[الآصفية ] في جانب الرصافة، ومنارة جامع [ حنان ] في جانب الكرخ، ومن المدرعات الواقفة في مدخل الجسر، وقد استشهد ما يزيد على 40 مواطنا، وجرح أكثر من 130 آخرين، وتناثرت جثث الضحايا فوق الجسر.
اشتد ضغط الجماهير في ساحة الأمين على قوات القمع، مما أجبرها على الانسحاب نحو الجسر، وتقدم المتظاهرون عبر الجسر، ومرة أخرى أنهمر عليهم الرصاص، واستشهد عدد آخر، وجرح الكثيرون، لكن الجموع ازدادت بأساً واندفاعاً أوقع الهلع في صفوف قوات القمع التي خافت أن تقع في أيدي الجماهير الغاضبة فولت هاربة تاركة ساحة المعركة تملأ جثث الشهداء والجرحى.

حاول عبد الإله استخدام الجيش ضد الشعب، وأجرى اتصالا تلفونياً مع رئيس أركان الجيش الفريق [ صالح صائب الجبوري] في 27 كانون الثاني، حوالي الساعة الثالثة والنصف عصراً، طالباً منه إدخال عدد من قطعات الجيش إلى شوارع بغداد.

 لكن الجبوري حذر الوصي من مغبة إدخال الجيش في شوارع بغداد، ولاسيما وانه لا يزال يعاني من مرارة الاحتلال البريطاني عام 1941، وأكد الجبوري للوصي عدم ضمان وقوف الجيش ضد الشعب.

 وبرغم أن الوصي كان متحمساً لقمع الانتفاضة لكنه اضطر للأخذ برأي الجبوري طالباً منه البقاء على اتصال دائم بالقصر حتى ينجلي الوقف.(7)
وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد، قدم 20 نائبا في البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب، بالإضافة إلى استقالة وزير المالية [ يوسف غنيمة]، ووزير الشؤون الاجتماعية[جميل عبد الوهاب].
وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ [محمد الصدر] و[ نوري السعيد ] لبحث الموقف وسبل الخروج من الأزمة.   

كان نوري السعيد يلح على الوصي بقمع الحركة الشعبية، وطالبه بإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول لاحتواء المظاهرات.
 لكن الشيخ محمد الصدر نصح الوصي بإقالة الوزارة لتهدئة الأوضاع، ولاسيما وأن المظاهرات قد امتدت إلى جميع المدن العراقية كافة، وفقدت الشرطة سيطرتها على الموقف، وأشعل المتظاهرون النار في مكاتب الإرشاد البريطانية، في السليمانية، وكركوك، والموصل.

وأخذ الوصي برأي الشيخ الصدر على مضض، رغم كونه كان في الواقع يسعى لقمع  الحركة الشعبية، وأوعز إلى رئيس الديوان الملكي [أحمد مختار بابان ] للاتصال بصالح جبر، والطلب منه تقديم استقالة حكومته في 27 كانون الثاني ، 1948 اليوم الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة أعلن فيه استقالة الحكومة، وداعيا الشعب للإخلاد إلى الهدوء !!.

حقق الشعب في وثبته هدفان، فقد اسقط المعاهدة، واسقط الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين البريطانيين، على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي لو تسنى للجماهير الوصول إليهما.

الشيخ محمد الصدر يؤلف الوزارة الجديدة:
 حاول الوصي عبد الإله تكليف الشيخ محمد الصدر بتأليف الوزارة الجديدة، نظراُ لتمتعه بمركز ديني كبير، إضافة إلى كونه من الطائفة الشيعية، حيث وجد أن الشيخ الصدر هو خير من يستطيع تهدئة الأوضاع.
لكن الصدر اعتذر عن المهمة رغم إلحاح الوصي، مما اضطره إلى تكليف أرشد العمري، وقد حاول العمري بالفعل القيام بهذه المهمة لكنه جوبه بمعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التي لازالت تذكر الأعمال التي قام بها عند تشكيل وزارته السابقة، فهو بالنسبة للأحزاب الوطنية والشعب غير مرغوب فيه  وهكذا فشل العمري في مهمته.
وفي الوقت نفسه أصدرت الأحزاب الوطنية [ الوطني الديمقراطي والاستقلال والأحرار ] بيانا إلى الشعب عن تلك الأحداث التي عصفت بالحكومة، وتضمن البيان ستة مطالب من الحكومة القادمة وهي:
1 ـ الإعلان الرسمي عن بطلان معاهدة بورتسموث .
2 ـ إجراء تحقيق دقيق عن مسؤولية إطلاق النار على أبناء الشعب.
3 ـ حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
4 ـ احترام الحريات الدستورية.
5 ـ إفساح المجال للنشاط الحزبي.
6 ـ حل مشكلة الغذاء، بشكل يوفر للشعب قوته.(8)

كما قام زعماء الأحزاب الثلاثة بالاتصال بالشيخ الصدر طالبين منه الرجوع عن موقفه، والقبول بتأليف الوزارة، ونزولاً عند رغبتهم قبل الصدر المهمة رسمياً في 29 كانون الثاني 1948، وتشكلت الوزارة على الوجه التالي:
1ـ محمد الصدر ـ رئيساً للوزراء.
2 ـ جميل المدفعي ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ حمدي الباجه جي ـ وزيراً للخارجية.
4 ـ ارشد العمري ـ وزيراً للدفاع.
5 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للعدل.
6 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للاقتصاد.
7 ـ محمد رضا الشبيبي ـ وزيراً للمعارف.
8 ـ نجيب الراوي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
9 ـ صادق البصام ـ وزيراً للمالية.
10 ـ محمد مهدي كبه ـ وزيراً للتموين.
11 ـ جلال بابان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
12 ـ نصرت الفارسي ـ وزيراً بلا وزارة
13 ـ داود الحيدري ـ وزيراً بلا وزارة.
14 ـ محمد الحبيب ـ وزيراً بلا وزارة.
وهكذا جاءت وزارة الصدر من نفس الفئة الحاكمة، باستثناء محمد مهدي كبه، ومن العناصر المعروفة بولائها للمحتلين البريطانيين، ممن لا يرتاح إليهم الشعب ولاشك أن السفارة البريطانية كان لها دوراً في اختيار الوزراء.

كانت وزارة الصدر مجرد وزارة تهدئة بعد تلك الوثبة الجبارة التي أوشكت أن تطيح بالنظام، واستطاعت إسقاط حكومة صالح جبر، وإسقاط المعاهدة.
 ومن أجل تهدئة الأوضاع أقدم الصدر على تنفيذ الإجراءات التالية:
1 ـ أتخذ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 31 كانون الثاني قراراً بإلغاء معاهدة بورتسموث، وإبلاغ الحكومة البريطانية برغبة العراق بعقد معاهدة جديدة تحقق طموحات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال الناجزين، وقد عارض القرار الوزير عمر نظمي، المعروف بولائه التام للإنكليز، وقدم استقالته من الحكومة احتجاجا على القرار!!.
2 ـ قررت الحكومة في 2 شباط تأجيل جلسات مجلس النواب لمدة 50 يوماً، لامتصاص غضب الجماهير، لكن الحملة اشتدت على المجلس من قبل الأحزاب الوطنية والصحافة والاحتجاجات الشعبية، طالبين حلّ المجلس وأجراء انتخابات حرة ونزيهة، ولم ترَ الوزارة بد اً من النزول عند الضغط الشعبي وضغط الأحزاب الوطنية والصحافة، واضطرت إلى اتخاذ قرار بالطلب من الوصي بإصدار الإرادة الملكية بحل المجلس النيابي في 22 شباط، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
3 ـ كانت حكومة صالح جير قد اتخذت العديد من الإجراءات ضد الصحف، أحالت العديد من محرريها ومدراها المسؤولين إلى المحاكم، وأصدرت الأحكام الجائرة بحقهم، بسبب مواقفهم المناهضة لمعاهدة بورتسموث، وقد اتخذ مجلس الوزراء قراراً بعودة الصحف المعطلة للصدور من جديد، وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، والذين صدرت بحقهم الأحكام بالسجن، كما جرى إطلاق سراح معظم الطلاب الذين اعتقلوا خلال أحداث الوثبة، وأعادتهم إلى مدارسهم وكلياتهم.
4 ـ قرر مجلس الوزراء فسح المجال للنشاط الحزبي، بعد أن كانت الحكومة السابقة قد ضيقت عليها بكل الوسائل والسبل، ومنعتها من ممارسة نشاطها بحرية بسبب مناهضتها لمعاهدة بورتسموث.
5 ـ طلبت الحكومة سحب البعثة العسكرية البريطانية من الجيش العراقي في 22 آذار 1948، والتي كانت المهيمن الحقيقي على الجيش، وتم لها ذلك.
6 ـ سعت الحكومة إلى الاتصال بمجلس الطعام الدولي لغرض الحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل لمعالجة أزمة الخبز التي سببتها حكومة أرشد العمري.
7 ـ وافقت وزارة الداخلية على جمع مبلغ 50 ألف دينار لغرض توزيعها على عائلات الشهداء والجرحى الذين سقطوا خلال الوثبة الوطنية.
ورغم كل هذه الإجراءات استمرت المظاهرات تجوب شوارع بغداد احتجاجاً على عدم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء الشيوعيين، وعلى رأسهم مؤسس الحزب[يوسف سلمان] فهد، ورفيقيه[ زكي بسيم] و[حسين محمد الشبيبي] أعضاء المكتب السياسي، وكذلك المطالبة بفسح المجال لحزب الشعب، وحزب التحرر الوطني الذين ألغت حكومة العمري إجازتيهما، للعمل الحزبي من جديد، ومطالبة الحكومة باتخاذ سياسة أكثر حزماً تجاه الهيمنة البريطانية على العراق  وتجاه القضية الفلسطينية التي كان يعتبرها العرب آنذاك قضيتهم الأساسية، والوقوف ضد المخطط الإمبريالي الأنكلوـ أمريكي الهادف إلى تقسيم فلسطين، وإقامة كيان سياسي لليهود فها، وتشريد أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف بقاع العالم، في ظروف حياتية غاية في الصعوبة.
التوثيق:
(1) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 459 .
  (2)نفس المصدر  ـ ص 464.
  (3) ت، و، ع ت ـ  الحسني ـ ج 7 ـ ص 257.
  (4) ت، و، ع ـ الحسني ـ ج 7 تـ ص 257
  (5)المصدر السابق ـ ج 7 ـ ص 259 .
  (6) نفس المصدر ـ ص 264 .
  (7) المصدر السابق ـ ج 7 ـ ص  257 .
  (8) المصدر السابق ـ ج 7 ـ ص 280.

حامد الحمداني
www.hamid-Alhamdany.böogspot.com

232
هل اقتربت ساعة الحسم بين المقامرين
 بمصير العراق وشعبه؟
حامد الحمداني
18/1/2012


لقد قلنا فيما سبق أن المقدمات الخاطئة تعطِي نتائج خاطئة بكل تأكيد، هكذا يقول العلم والعلماء، وهكذا تعلمنا خلال سنوات الدراسة، وهذا القانون لا ينطبق على موضوع معين فحسب، بل ينطبق على كل مجالات العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وسائر العلوم الأخرى.

وما يهمنا اليوم في موضوعنا هذا تناول الأحداث التي ترتبت على الاحتلال الأمريكي للعراق، ونتائجها الكارثية على الأوضاع  السياسية والاجتماعية للمجتمع العراقي منذ الغزو الأمريكي للعراق في العشرين من آذار 2003 وحتى اليوم، والتأثيرات السلبية الخطيرة على مستقبل العراق وشعبه.

ولكن لا بأس أن نعود قليلاً إلى الوراء لنستعرض السياسة الرعناء لنظام البعث، والتي قادت العراق إلى المصير المجهول، فقد تعرض العراق على عهد هذا النظام الشمولي الذي دام 35 عاماً، وبوجه خاص على عهد الدكتاتور صدام حسين الذي فرض نفسه قائداً أوحداً يمسك بين يديه كل مفاصل الدولة، وكل القرارات المتعلقة بمصير الشعب والوطن، لكوارث رهيبة كان أبشعها حروبه الكارثية المتتالية بدءً من حرب الخليج الأولى ضد إيران التي دامت 8 سنوات بالنيابة عن الولايات المتحدة،  فاحتلال الكويت، فحرب الخليج الثانية التي خطط لها الرئيس بوش الأب، ناصباً الفخ للدكتاتور الأرعن صدام،  وبمشاركة جيوش 32 دولة أخرى بدعوى تحرير الكويت.

 لكن الهدف الأساسي لتلك الحرب كان تدمير القدرات العسكرية العراقية بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وفرض الحصار الأمريكي الجائر الذي يعتبر بحق أقسى وأشنع أنواع الحروب ضد الشعب العراقي، والذي دام 13 عاماً عجافا كانت له اشد التأثيرات الكارثية على البنية الاجتماعية والاقتصادية العراقية.

 ثم تلا ذلك حربه الداخلية لقمع انتفاضة الشعب عام 1991، فاستمراره بلعبة القط والفأر مع الولايات المتحدة حول التخلص من أسلحة الدمار الشامل، ومواصلة الإدارة الأمريكية القصف الجوي المستمر على العراق في عهد الرئيس كلنتون، وأخيراً حرب الخليج الثالثة التي قادها الرئيس بوش الأبن باسم تحرير الشعب العراقي من نظام صدام!!، وانتهت بسقوط النظام، واحتلال الجيش الأمريكي للعراق، وتكشّف زيف الادعاءات الأمريكية، حيث انتقل الشعب العراقي من طغيان نظام صدام إلى طغيان نظام الاحتلال الأمريكي وأدواته التي نصبها على قمة السلطة.

لم تكن هناك أية مبررات لتلك الحروب الكارثية، وما كان لها أن تحدث لولا استئثار نظام البعث بالسلطة المطلقة، والتصرف الطائش والأهوج، وجنون العظمة لصدام، وتطلعاته للهيمنة على منطقة الخليج فهي التي قادته، وقادت الشعب العراقي إلى هذه النهاية المفجعة، وأوصلت العراق إلى الاحتلال والخراب والدمار.

جاء الاحتلال الأمريكي للعراق على الرغم من معارضة الأمم المتحدة، ومعارضة معظم دول العالم، وفي مقدمتها فرنسا وروسيا والصين، الأعضاء الدائميين في مجلس الأمن لتلك الحرب التي سببت للعراق من الكوارث التي كانت الأشد من سابقاتها بسبب الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الحاكم الأمريكي بريمر خلال عام كامل.

 وسواء أكانت قرارات بريمر الكارثية قد جرى أعداها سلفا في دهاليس البيت الأبيض والبنتاجون، وهو ما أرجحه شخصياً، أم أنها قرارات خاطئة اتخذها بريمر بنفسه فالنتيجة كانت واحدة هي قيام نظام طائفي وعنصري شوفيني أجج الصراعات الدينية والأثنية بين مكونات المجتمع العراقي، والتي قادته إلى الصراع المسلح والحرب الأهلية الطائفية، ولا أريد الإطالة بالحديث عن تفاصيل الكوارث التي حلت في العراق على يد المحتلين، ومن جاؤوا بهم من قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وأحزاب القومية الكردية، وبوأوهم أعلى مناصب الدولة ليقودوا العراق إلى الهاوية فالشعب العراقي كله ما زال يعيش هذه كارثة، وما زال يكتوي بنيرانها، ويدفع كل يوم ثمناً باهظاً من دماء الآلاف من أبنائه البررة، وتشريد أكثر من أربعة ملايين مواطن عراقي يقاسون شظف العيش في ظل ظروف قاسية جداً بعد أن جرى إخراجهم من بيوتهم وتهجيرهم تحت تهديد السلاح والقتل والحرق.

لقد حلت الإدارة الأمريكية  الجيش وقوات الشرطة ولم تقم بواجبها في حماية مرافق الدولة وحماية المواطنين حسبما تقتضي معاهدة جنيف، فكانت النتيجة سيادة شريعة الغاب تحت سمع وبصر القوات الأمريكية التي كانت تقف مكتوفة الأيدي أمام عمليات السرقة والنهب التي امتدت إلى كل مرافق الدولة دون استثناء، فهل كانت القوات الأمريكية التي أسقطت نظام صدام بما يمتلك من جيش جرار، وأجهزة أمنية، وجيش القدس، وفدائيي صدام في 20 يوماً عاجزة عن حماية مرافق الدولة وحماية المواطنين العراقيين؟

ثم هل عجزت الإدارة الأمريكية عن إيجاد 50 عنصرا وطنياً مستقلاً من التنكوقراط بعيداً، عن الطائفية والعرقية، لتشكيل حكومة مؤقتة تتولى الحكم لفترة زمنية محددة، وتتولى إعادة الأمن والنظام في البلاد، وتأمين الخدمات الضرورية للمواطنين، وتهيئة المستلزمات لإقامة المؤسسات لنظام حكم ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة لسائر مكونات الشعب بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، أم أن الإدارة الأمريكية كانت قد قررت سلفاً حكم العراق بصورة مباشرة فنصبت بريمر حاكماً على البلاد في بادئ الأمر، ثم اضطرت أمام ضغط واحتجاج العالم اجمع إلى إقامة ما أسمته بالعملية السياسية، البائسة، وإقامة هذا النظام الطائفي والعرقي المقيت تحت جناحيها لتمزق البنية الاجتماعية للشعب، وتزجه في هذا الصراع العنيف.
 
وجاءت الإدارة الأمريكية بدستور بريمر الذي كرس الطائفية والعرقية في البلاد  وفتح الباب واسعاً أمام القوى التقسيمية لتفتيتها، و اتُخذ فيما بعد أساساً للدستور الدائم الذي تم وضعه من قبل قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية وقادة الأحزاب الكردية تحت إشراف السفير الأمريكي، حيث باتت البلاد على كف عفريت.

إن كل ما اتُخذ من إجراءات خاطئة في العراق منذ 9 نيسان 2003 وحتى اليوم تتحمل مسؤوليتها الإدارة الأمريكية، وإن العملية السياسية التي قامت على أسس خاطئة قد جاءت بهذه النتائج الخاطئة، والتي جلبت وما تزال الكوارث للشعب العراقي.

إن العملية السياسية بوضعها الحالي لا يمكن أن تحقق الأمن والسلام والحياة الهادئة للشعب، بل على العكس قد أصبحت مدخلاً لصراعات خطيرة بين المالكي وعلاوي من جهة والمالكي والقيادة الكردية المتمثلة بالبارزاني والطالباني تنذر بعودة الحرب الأهلية من جديد نتيجة الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها وما زال يرتكبها، قادة أحزاب الطوائف، ونتيجة هذا الصراع المتصاعد الذي نشهده بين إطراف العملية السياسية البائسة، والذي ينذر بالانفجار في أية لحضة ليشعل نيران الحرب الأهلية من جديد.
إن المواطنين العراقيين ينتابهم القلق الشديد مما تخبئه لهم الأيام القادمة، حيث قاربت الأزمة المستعصية بين هذه الأطراف طريق اللا عودة منذرة بالشر المستطير، والنار تبدأ بعود ثقاب، لكنها إذا ما انتشرت فستحرق الأخضر اليابس وسيدفع الشعب العراقي ثمناً لا يمكن تحديده.

 ينبغي أن تسود الحكمة بين سائر الأطراف من أجل نزع فتيل الحرب الأهلية التي قد تكون مدخلاً لتدخل القوى الإقليمية في هذا الصراع، وهو ما نشاهد بوادره  في تدخلات السعودية وإيران وتركيا الظاهر للعيان.

 لابد من إعادة النظر الجذرية للأزمة الراهنة بكل مفاصلها بدءً من الدستور والبرلمان والحكومة، بما يؤمن الحفاظ على تماسك البنية الاجتماعية والحفاظ على وحدة الشعب والوطن، وكبح جماح الساعين لتقسيم العراق باسم الفيدرالية التي باتت تستهدف تحويل العراق إلى دويلات الطوائف والأعراق، وإن إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد هو الكفيل بتأمين حقوق وحريات كل القوميات، وكل أتباع الطوائف والأديان، وتأمين الحياة الكريمة للجميع، والعراق بما يمتلك من موارد نفطية وغيرها من الموارد الوفيرة قادر بكل تأكيد على ضمان حاجات المواطن العراقي المادية على أحسن وجه إذا ما توفرت له حكومة رشيدة تتصف بالنزاهة والأمانة، وتمتلك الكفاءة التي تؤهلها لبناء العراق الجديد، عراق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والعيش الرغيد.           
     


233
ينبغي الحذر من دفع البلاد نحو الحرب الأهلية
وعدم اختزال الطائفة السنية بشخص الهاشمي والمطلك

حامد الحمداني
   11/1/2012

في ظل الظروف الخطيرة والبالغة التعقيد التي يمر بها الوطن العراقي، والصراع المكشوف والمتصاعد بين المالكي وعلاوي على السلطة، والتهديدات المتبادلة بين الطرفين، وعملية الشحن التي تمارس على مستوى الجماهير الشعبية بتوريطها في الصراع الذي لن يجن منه الشعب العراقي غير الدماء والخراب والدمار.

لقد عانت الأغلبية السنية الوطنية حالة من التغييب القسري عن مجرى التطورات التي جرت وتجري في المشهد السياسي الحالي، فتارة يمنع أبناء الطائفة بقوة السلاح من قبل القوى الإرهابية من ممارسة حقهم في الانتخابات كما جرى في انتخاب الجمعية الوطنية، وتارة أخرى تختزل الطائفة بشخوص طارق الهاشمي أو صالح المطلك، أو بعض المقربين إليهم، لكي يمثلوا الطائفة السنية في لجنة إعداد الدستور الدائم. وعلى هذا الأساس يحق لنا أن نتساءل :
كيف تم اختيار طارق الهاشمي صالح المطلك  ممثلين للسنة ؟ وعلى أي أساس جرى هذا الاختيار ؟ ومن هي الجهة التي كانت وراء هذا الاختيار، وهل يمثل الهاشمي والمطلك حقاً الطائفة السنية؟ وما هي الانعكاسات السلبية على الطائفة السنية بهذا الاختيار؟
أسئلة لا بد من الإجابة عليها كي نضع النقاط على الحروف، ونكشف زيف هذا الاختيار، والذي كان وراءه؟ والأهداف التي يرمي إليها من وراء هذا الاختيار.

ففي واقع الحال أن صالح المطلك لا يمثل إلا العناصر البعثية التي أُسقطت من السلطة في التاسع من نيسان 2003 ، وهو لا يخفى مواقفه التي يعبر عنها علناً في مختلف وسائل الإعلام مدافعاً عن رفاقه البعثيين، ورافعاً راية إلغاء الفقرة الواردة في مسودة الدستور والمتعلقة باجتثاث أعوان صدام من الحياة السياسية، واعتبار الفكر البعثي فكر شوفيني فاشي أذاق الشعب العراق من ويلاته وجرائمه ما يعجز القلم عن وصف بشاعتها، تماماً كما فعل النازيون وفكرهم الفاشي أيام حكم هتلر طاغية ألمانيا.

ويبدو أن اختيار المطلك ومجموعته قد جرى من قبل الولايات المتحدة وسفارتها في بغداد في محاولة لخلق نوع من التوازن بين قوى الإسلام السياسي الشيعي المهيمن على الحكم والعناصر البعثية التي تدعي العلمانية!، حيث لا تطمئن الولايات المتحدة لتوجهات قوى الإسلام السياسي الشيعي في إقامة دولة دينية وطائفية في العراق.

هل عجزت الولايات المتحدة عن إيجاد عناصر وطنية ديمقراطية سنية نظيفة لتمثل هذه الطائفة المغيبة عن المسرح السياسي؟
أم أن الولايات المتحدة لم ترمِ حقاً وصدقاً إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي في البلاد، بل هي سعت لخلق سلطة ذات مظهر ديمقراطي بائس تدين لها بالولاء المطلق، وتنفذ أجندتها المرسومة سلفاً لمنطقة الشرق الأوسط الكبير.

ولقد حذرنا بمقالات عديدة آنذاك من هذا التوجه الأمريكي بأنه ينطوي على مخاطر جسيمة على مستقبل العراق، ومستقبل الديمقراطية المنشودة، فالقوى البعثية بكل أصنافها ومستوياتها من جهة، ليست فقط لا تؤمن بالديمقراطية، بل لقد مارست اشد أساليب القمع لأبسط الحقوق الديمقراطية للشعب طيلة سنوات حكمها البشع، وأن أية محاولة لتبييض صفحة رموز نظام صدام ومحاولة إشراكهم في إدارة شؤون البلاد من جديد مرفوضة تماماً من قبل الشعب العراقي بكل طوائفه، وبشكل خاص من الطائفة السنية التي ترفض رفضاً مطلقاً أن يمثلها صالح المطلك ورفاقه.

إن بروز هذه الزمرة على المسرح السياسي الحالي كممثلين للسنة قد شكل إهانة كبرى وتجاهلاً خطيراً للطائفة السنية وممثليها الحقيقيين حاملي لواء الفكر المتنور، والملتزمين بالديمقراطية كمبدأ وهدف، والمؤمنين بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، والطامحين ببناء عراق ديمقراطي متحرر يتساوى فيه أبناء الشعب بكل قومياتهم وأديانهم وطوائفهم في الحقوق والواجبات دون تمييز، والاهتمام بشكل خاص بالمرأة العراقية وستقبلها الاجتماعي والسياسي لكي تأخذ دورها الرائد والضروري في المجتمع، وعلى قدم المساواة مع الرجل في كل مجالات الحياة المختلفة.

إن اختيار صالح المطلك ورفاقه ممثلين للطائفة السنية قد أدى إلى انعكاسات سلبية خطيرة على الطائفة وصلت إلى حد اعتبارها من قبل أحزاب الإسلام السياسي الشيعية مناصرة لقوى الإرهاب والفاشية والقوى الظلامية، وهي التي اكتوت بجرائم الإرهابيين والبعثيين الفاشيين والسلفيين الظلاميين القادمين من وراء الحدود لتنفيذ جرائمهم البشعة بحق الشعب العراقي. في حين أن ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية مارست هي الأخرى أبشع أساليب القتل والإرهاب، وتهجير المواطنين عندما أشعلت الحرب الأهلية الطائفية عامي 2006و2007، حيث قتل عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء على الأسم والهوية، وحيث جرى تشريد ما يزيد على المليونين من ديارهم هرباً من بطش تلك المليشيات الإرهابية.

أن الصحافة، وصحافة الانترنيت التي فسحت المجال لبعض أنصاف المثقفين لكي توجه الاتهامات الباطلة، والتي ليس لها أساس من الصحة للطائفة السنية، قد أثارت ردود فعل خطيرة على الجانبين الشيعي والسني، وهي بالمحصلة تتجه نحو إثارة العداء الطائفي، والدفع باتجاه تصعيد المواقف نحو الصراع الطائفي والحرب الأهلية من جديد، والتي لا تخدم أي من الطائفتين، وتدفع بشعبنا نحو الهاوية.

لم يكن بودي أن أتحدث عن الموضوع الطائفي، ولم أكون يوماً قد فكرت بهذا الأسلوب، وسوف لن أكن أبداً داعية لطائفة ما على حساب طائفة أخرى، وسأبقى في خدمة مجموع شعبنا بكل طوائفهم وأديانهم وقومياتهم، والمعيار عندي يبقى دائماً هو الوطنية الصادقة، وحب الشعب، والذود عن الوطن، والعيش المشترك، والاحترام المتبادل لكل مكونات شعبنا.

 ينبغي أن نكون حريصين في كل أحاديثنا وكتاباتنا، ولا نُطلق التسميات والاتهامات جزافاً على أي من مكونات شعبنا  فتعبير المثلث السني على سبيل المثال يثير ردود فعل خطيرة لدى الجانبين على حد سواء، ولا يخدم بالتالي الوحدة الوطنية، بل على العكس من ذلك يشيع الكراهية والعداء غير المبرر بين مكونات شعبنا.

إن دمائنا قد امتزجت بين مختلف طوائفنا، ويندر أن لا نجد هذا الامتزاج بين أبناء الطائفتين السنية والشيعية وبين العرب والأكراد وسائر مكونات شعبنا، وأن على كل غيور على مصالح الشعب والوطن أن يبذل أقصى ما يستطيع من جهد لإفشال المخطط الخطير بإشعال الحرب الأهلية والطائفية، وينبغي أن نحرص كل الحرص، وبكل الوسائل والسبل على تمتين عرى الأخوة والمحبة بين جميع مكونات شعبنا، وهذا الأمر هو واجب مقدس يقع على عاتق الجميع من أجل الخروج بالعراق من هذه الأزمة الخطيرة التي يمر بها اليوم، والوصول بشعبنا إلى شاطئ السلام، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة لبني وطني، ولا شك أن هذا الأمر يعتبر مسؤولية الجميع. 


234
مشاريع تمزيق العراق باسم الفيدرالية
ومسؤولية حكومة المالكي في الحفاظ على وحدة العراق

حامد الحمداني                                                                               15/12/2011
منذُ أن شرعت حكومة المالكي في إجراء الانتخابات المحلية في المحافظات بدأت بعض أحزاب الإسلام السياسي الشيعية نشاطاً محموماً في محافظة البصرة في الدعوة لإقامة فيدرالية جديدة في المحافظة، وقد ركب هذه الموجه آنذاك النائب عن البصرة وائل عبد اللطيف في دعوته لقيام فيدرالية البصرة مدعوماً من حزب الفضيلة، ومباشرته لحملة جمع التواقيع لمشروعه الهادف لتمزيق العراق، لكن أبناء البصرة النجباء الحريصون على وحدة العراق أرضا وشعباً اسقطوا ذلك المشروع المشبوه.

وفي الوقت نفسه صعد حزب الحكيم دعواته بإقامة فيدرالية الجنوب والفرات الأوسط، التي تضم  تسعة محافظات، رداً على مشروع حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لفيدرالية البصرة.

هكذا بكل بساطة أعدت القوى الطائفية مشاريعها الهادفة لتفتيت العراق، ولعابها يسيل للثروة النفطية التي تزخر بها مناطق جنوب العراق، في الوقت الذي استطاعت فيه الأحزاب القومية الكردية بدعم ومساندة الحاكم الأمريكي السيئ الصيت [ بول بريمر] الذي مهد لهم السبيل بقانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية، والذي صادق عليه مجلس الحكم الذي اختار أعضائه  بريمر نفسه، والذي تمتعت فيه قيادات أحزاب الحكيم والبارزاني والطالباني بالأغلبية المطلقة فيه، ثم جرى تشريع الدستور من قبل نفس هذه القيادات التي فازت بأغلبية المقاعد في البرلمان الذي جرى انتخابه عام 2004 ، بعد مقاطعة المحافظات السنية للانتخابات،  لتمهد لهذه القيادات الطريق لتشريع الدستور الذي جاء مطابقاً لدستور بريمر المؤقت مع إضافات طائفيه لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية.

 وكان مشروع الفيدرالية الذي أوجده الحاكم الأمريكي بريمر في صلب الدستور الذي تم إقراره فيما بعد من قبل هذه الأحزاب التي هيمنت على البرلمان والحكومة معا.
لقد كان مشروع الفيدرالية الذي أقرته المعارضة العراقية في مؤتمراتها قبل الغزو الأمريكي للعراق يتعلق فقط بحل المشكلة الكردية المزمنة لكي يتمتع الشعب الكردي بالحكم الذاتي ضمن إطار الدولة العراقية، ولم يتم إقرار أي مشروع لتقسيم العراق إلى دويلات طائفيه.

 لكن شهية قيادات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية للسلطة والثروة بعد إسقاط نظام صدام الديكتاتوري باتت تطغي على الساحة السياسية، ولعب قادة هذه الأحزاب الطائفية بالتعاون والتعاضد مع الأحزاب القومية الكردية دوراً فاعلا في تضمين الدستور العراقي نصاً يدعو إلى تحويل العراق إلى اتحاد فيدرالي، وتضمنت مواد الدستور صلاحيات واسعة للفيدرالية بحيث تجاوزت في كثير من الأحيان صلاحيات المركز.

 وبدأت الخلافات بين فيدرالية كردستان والحكومة الاتحادية تظهر في العلن على وجه متصاعد بحيث باتت الفيدرالية في كردستان دولة داخل دولة، دولة تتمتع بكل مقومات ومتطلبات الدولة، لها دستورها وحكومتها وبرلمانها وجيشها وعلمها وحدود محدودة تضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وأخرى مختلف عليها!، كما ورد في نص الدستور البريمري العتيد، تطالب القيادة الكردية المتمثلة بالرئيس الطالباني ورئيس الإقليم البارزاني، وتضم محافظة كركوك الغنية بالنفط  وما يزيد على نصف محافظتي الموصل وديالى.

كما تتمتع دولة كردستان بتمثيل سياسي في مختلف البلدان الغربية منها والشرقية، وهكذا لم يبق لدولة كردستان إلا الإعلان الرسمي لقيامها بانتظار الظروف الدولية والإقليمية المناسبة.

واستمرت الخلافات بين الحكومة العراقية وقادة دولة كردستان تطفوا على سطح الأحداث، وتصاعدت لهجة قادة كردستان في ردها على حكومة نوري المالكي، ورد المالكي على تلك التصريحات في مؤتمراته الصحفية، وبدأت الاحتكاكات بين الجيش العراقي وميليشيات البيشمركة في كركوك وخانقين وجلولاء، وتتالت تهديدات البارزاني بانطلاق الحرب الأهلية، إذا لم تعد كركوك وبقية المناطق المختلف عليها إلى دولته العتيدة.

لقد أدرك المخلصون الحريصون على وحدة العراق أرضاً وشعبا ما انطوى عليه الدستور من مواد ذات أبعاد خطيرة على مستقبل العراق ووحدته أرضاً وشعبا، وحذروا من أخطار الدعوات التي بدأت تتصاعد في الجنوب ، ثم تلتها دعوة حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لإقامة كيانات جديدة على غرار فيدرالية كردستان تستهدف تمزيق العراق كدولة، وإنهائها، والاستئثار بالسلطة والثروة، فمحافظة البصرة هي ثغر العراق الوحيد، ويختنق العراق بدونها بكل تأكيد، هذا بالإضافة إلى كونها غنية جداً بالنفط.
عند ذلك أدرك رئيس الوزراء السيد نوري المالكي مؤخرا خطورة ما انطوى عليه الدستور بعد أن لمس من خلال التطبيق مدى عمق التناقض والخلافات بين فيدرالية كردستان والمركز، ومحاولة تهميش دور الدولة المركزية، وتحدي قرارات وزير النفط فيما يخص العقود النفطية التي وقعتها حكومة كردستان مع العديد من شركات النفط، وحول دور البيشمركة ووجوب كونها جزء من القوات العراقية المسلحة، وتتلقى أوامرها من رئيس الوزراء المالكي، في حين ترفض هذه الميليشيا هذا الالتزام، ولا تتلقى أوامرها إلا من حكومة البارزاني.

فقد أعلن السيد رئيس الوزراء نوري المالكي في حديث له أمام مؤتمر الكفاءات والنخب المثقفة الذي تم عقده في بغداد قائلا: إن هناك ضرورة لإعادة كتابة الدستور الذي كتب على عجل من جديد حيث إن المخاوف لم تكن موضوعية، وقد وضعنا قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتّفتْ الحاضر وكتفت المستقبل، ولابد من إعادة كتابة الدستور بطريقة موضوعية، تمنح الحكومة المركزية الصلاحيات التي تمكنها من القيام بمهامها، وليست للحكومات المحلية.
 وأضاف المالكي في المؤتمر:
{ إن الدستور كان قد كتب قبل ثلاث سنوات في أجواء كانت فيها مخاوف من عودة الدكتاتورية من جديد بعد إزاحة نظام صدا، لكننا ذهبنا بعيدا في تكريس المخاوف وتكريس التطلعات، وأستطيع القول أن تلك المخاوف لم تكن موضوعية، وجعلتنا نضع قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل.
وركز المالكي على عملية إعادة النظر بالدستور العراقي حيث تتشكيل لتقوم لجنة برلمانية بإعادة النظر بالدستور الذي شرع نهاية العام 2004 قائلاً:
لقد أصبحنا بحاجة إلى مراجعة الدستور بعد أن تمكنا من تأسيس الدولة وحمايتها من الانهيار، وأصبح علينا أن نتجه اليوم إلى بنائها وفق أسس وطنية دستورية واضحة تحدد فيها الملامح والصلاحيات.
وأضاف علينا أن نضع ما يضمن لنا ألا تكون اللامركزية هي الدكتاتورية مرة أخرى حيث باتت الفيدرالية هي التي تصادر الدولة اليوم.
وطالب المالكي بضرورة وجود صورة واضحة للنظام السياسي يعطي الصلاحيات للحكومة المركزية بالشكل الذي يحول دون وجود حكومات حقيقية متناحرة فيما بينها.
وقال يجب بناء دولة اتحادية قوية حكومتها لها مسؤولية كاملة في الأمن والسياسة الخارجية، وان تكون الصلاحيات أفضل للحكومة الاتحادية، وما عداها ينص عليه الدستور من صلاحيات الأقاليم والمحافظات، وما لا ينص عليه فيعود إلى الحكومة المركزية.
 وطالب المالكي بتوزيع الصلاحيات الأخرى بطريقة تضمن عدم ولادة مركزية حديدية سواء للمركز آو للأقليم والمحافظات. وقال أن وجود فيدراليات وحكومات محلية دون وجود حكومة قوية قادرة على حماية السيادة والأمن أمر غير ممكن، وهو اتجاه غير صحيح.
ودعا المالكي أن تناط مسؤولية الأمن للحكومة المركزية قائلاً أنا أتحدث في ذلك عن تجربة لو لم تتصد الدولة المركزية للأمن لفلتت الأمور.

وقد جاء توجه المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا مع مطالبة الطائفة السنية آنذاك، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل تقوية الفدراليات على حساب الحكومة المركزية.

لقد أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة كردستان، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات وآخذ المزيد.

ومنذُ أن شكل المالكي حكومته الحالية بعد صراع مرير على السلطة مع زعيم كتلة العراقية أياد علاوي كما هو معروف للجميع، وبالرغم من مرور سنتين على تشكيل الحكومة، فإن المالكي لم يستطع اختيار وزراء الدفاع والداخلية والأمن الوطني، مستأثراً بالسلطة المطلقة، مما عمق الصراع وصاعد الخلافات بين الطرفين، كتلة دولة القانون والكتلة العراقية.

ومن الغريب أن القوى القومية المنضوية تحت خيمة الكتلة العراقية، والتي كانت حتى الأمس القريب تبدي حرصها الشديد على وحدة العراق أرضا وشعبا، وتتهم الطرف المتمثل بأحزاب الإسلام السياسي الشيعية بالعمل على تمزيق العراق، فإذا بها اليوم تتصدر الدعوات لتمزيق العراق شعباً ووطناً، من خلال الدعوة لإقامة فيدراليات مشبوهة في الموصل والأنبار وديالى، وهكذا سقط القناع عن قادة هذه الكتلة التي ادعت تمثيلها للطائفة السنية!!،وادعت حرصها على وحدة العراق، وبات واضحاً أن ما يهمها هو السلطة، وان صراعها مع حكومة المالكي هو الرغبة في الحصول على حصتها من السلطة والثروة.
لقد بات العراق اليوم أمام خطر جسيم يتعلق بمصيره وكيانه حيث تشتد المؤامرات الداخلية والخارجية التي تتلاعب به دون وازع وطني أو إنساني أو أخلاقي، ولم يعد السكوت وتجاهل هذه المخاطر، وهي مسؤولية كل مواطن شريف مؤمن بعراقيته ومحبٌ لشعبه.   

إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً هي مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال القادمة، ولاشك أن حكومة المالكي تتحمل المسؤولية الأكبر، وهي تقتضي الإسراع بإعادة كتابة الدستور العراقي من جديد، دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه طائفي أو عرقي يؤكد على الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، التي نص عليها الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.

كما ينبغي أن ينص الدستور على كون الفيدرالية تخص المنطقة الكردية فقط مع تعديل العديد من المواد التي جعلت سلطة إقليم كردستان فوق سلطة الدولة المركزية.
كما ينبغي منح إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية فقط على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض!!
 


235
محنة الشعب السوري
بين طغيان نظام البعث ومخاطر التدخل الدولي
حامد الحمداني
29/112011

تتصاعد وتتسارع المخاطر المحدقة بسوريا شعباً ووطنناً يوماً بعد يوم مهددة بكارثة لا أحد يستطيع تقدير مداها، والدماء والخراب والدمار الذي سيعم ليس سوريا فحسب، بل منطقة الشرق الأوسط كلها.

فما زال النظام البعثي الفاشي الذي اغتصب السلطة بانقلاب عسكري في 8 آذار عام 1963ممسكاً بها حتى يومنا هذا، وحيث تحول الحكم من حكم الحزب إلى حكم العائلة المتمثلة بعائلة حافظ الأسد، ووريثه بشار الأسد بعد وفات والده، مستعيناً بالعديد من أجهزته الأمنية والبوليسية لقمع أي معارضة للنظام مهما كانت.

ومن جهة أخرى ضاق الشعب السوري ذرعاً من هذا النظام المفروض بالقوة محروماً من حقوقه الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وحرية الصحافة والنقد لتصرفات السلطة، حتى بات النظام يعتقد أن الشعب السوري قد سلم زمام أمره لهذه السلطة الغاشمة إلى أبد الآبدين.

لكن الشعوب تبقى متطلعة دوماً للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولاسيما ونحن نعيش اليوم القرن الحادي والعشرين، وأن رياح الحرية قد هبت على منطقتنا العربية، وبدأت شعوب المنطقة كفاحها من أجل التخلص من الأنظمة الاستبدادية المتعفنة، فكانت انتفاضة الشعب التونسي، فانتفاضة الشعب المصري، فثورة الشعب الليبي، فانتفاضة الشعب اليمني الشجعان الطامحين للحرية الديمقراطية، والحيلولة دون توريث السلطة لأبناء الحكام.

وكان على نظام بشار الأسد أن يعي هذه الحقيقة، ويدرك أن رياح الحرية ستصل إلى سوريا، ويقدم على إجراء إصلاحات جذرية وحقيقية تخرج سوريا من حالة الاحتقان المزمن، لكنه أغمض عينيه عن مشاهد الانتفاضات المتلاحقة، وصم آذانه عن سماع دعوات الشعب السوري المطالبة بالإصلاحات، وبدلاً من أن يستجيب لتلك الأصوات لجأ إلى التحدي، وملاحقة كل من يطالب بالاصلاح، والزج بهم في غياهيب السجون.

وهكذا اندلعت تظاهرات الشعب السوري كاسرة عقدة الخوف من أجهزة النظام القمعية، وأخذت حناجر المتظاهرين تهتف بأعلى صوتها مطالبة بالحرية والديمقراطية، ومن أجل دستور جديد لا مكان فيه لحكم نظام البعث الأبدي، بل تداول السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وبإشراف دولي، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة للشعب السوري.

لكن نظام بشار الأسد تجاهل بادئ الأمر المخاطر المحدقة بالبلاد، فلما اتسعت حالة الاحتجاج الشعبي بدأ النظام يناور مدعياً برغبته في إجراء الاصلاحات من دون أن يقدم على أية خطوة ملموسة تشعر الشعب بصدقية النظام، وفي ذهنه استخدام عامل الوقت أولا، ومستندا بمواقف روسيا والصين المعارضة لآي تدخل من جانب الغرب في الشأن السوري، ومستقويا بحليفيه النظام الإيراني، وحزب الله المهيمن على السلطة في لبنان، وهكذا أضاع نظام بشار الأسد فرصة الإصلاح، وتحولت تظاهرات الشعب السوري إلى الانتفاضة.

ولم يدرك نظام الاسد خطورة مواقفه، والأخطار المحدقة بسوريا شعباً ووطنناً، ولم يتعض بما حل بالقذافي ونظامه وبلده وشعبه، جراء التدخل العسكري لحلف الأطلسي، وبدأ يصاعد من تحديه وزج الجيش في الصراع ضد الشعب، وبدأت أرقام الضحايا تتصاعد يوماً بعد يوم، وامتلأت السجون بشباب سوريا، وجرت أعمال التعذيب والقتل الوحشي داخل السجون، ليزيد النار اشتعالاً، في هذا الصراع الخطر.

وبدأت التصريحات الغربية تارة والحكومة التركية تارة أخرى تتوالى مهددة النظام السوري بالتدخل باسم حماية المدنيين، ورد بشار الأسد مهددا بأن أي تدخل من جانب حلف الأطلسي سوف يسبب زلزالاً هائلاً في المنطقة، وهاهو حليفه حزب الله يطلق صواريخه على إسرائيل يوم أمس ليبعث برسالة لمن يخططون للتدخل في سوريا، دون أن يكترث إلى ما يمكن أن يسببه من كارثة للبنان وشعبه، وللمنطقة المشحونة كافة.

إن على طرفي النزاع في سوريا أن يدركا قبل فوات الأوان أن المخطط الذي يجري اعداده لسوريا في الدوائر الغربية هو أبعد من حماية المدنيين، مدفوعين بعواطفهم الجياشة، فلو كانوا صادقين في دعواهم فلماذا لم تثير جرائم علي صالح في اليمن عواطفهم تاركين شعب اليمن منذ عدة أشهر يقدم الضحايا تلو الضحايا من دون أن يحمل السلاح بوجه سلطة علي صالح الغاشمة؟؟
 
إن الأمر أيها السادة يتعلق بالمخطط الواسع لإعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط، والسعي لضرب إيران التي جاوز حكامها المسموح لهم بسبب طموحهم لامتلاك السلاح النووي، والذي تأخر لغاية اليوم، ولأجل إتمام المخطط، وحرصاً من المخططين على سلامة إسرائيل من أي هجوم من قبل النظام السوري وحليفه حزب الله في اللحظة التي يجد فيها النظام السوري أنه لا مفر من النهاية أن يستخدم كل ما يمتلك من أسلحة وعتاد ضد حزب الله ، وعند ذلك ستحل الطامة الكبرى لا سمح الله، وسوف لن يسلم من نيرانها أي بلد من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، فالحريق من السهل إشعاله، ولكن من الصعب إطفائه، وتحمل نتائجه الكارثية.
ما السبيل لتجنب الكارثة؟
إن السبيل لتجنب الكارثة كما أرى تتلخص بالتالي:
أولاً: على النظام السوري أن لا يأخذه الغرور بقوته، فقد كان صدام أكثر قوة، وانتهى هو وجيشه في خلال 20 يوماً، ولا أعتقد أن روسيا مستعدة للمقامرة بمصير شعبها من أجل سوريا، وعليه أن يتخذ قراره بالرضوخ لمطالب الشعب السوري بالكف عن التمسك بالسلطة، والسماح بانتقال سلمي للسلطة لحكومة محايدة من أبناء الشعب السوري، تقوم بإعداد دستور جديد للبلاد لا مكان فيه لحزب قائد للدولة والمجتمع، ولا رئيس لأكثر من دورتين كل دورة 4 سنوات، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي محايد، وتداول سلمي للسلطة على أساس الورقة الانتخابية، وليسلّمُ بشار الأسد والملتفين حوله من أركان النظام الحكم والنجاة بأرواحهم قبل فوات الأوان، وإن إشعال الحريق في المنطقة سيتحمل أركان النظام مسؤوليته بكل تأكيد على قدم المساواة مع المعتدين، وليتعظ من مصير سلفه صدام!!، ويجنب شعبه ووطنه والشعوب العربية الأخرى ويلات الحرب المدمرة، ولا يعطي المبرر للتدخل الغربي.

ثانياً: على أبناء الشعب السوري المنتفضين أقول الحذر ثم الحذر من جر الحلف الأطلسي للتدخل، فسوريا وحلفائها إيران وحزب الله ليست ليبيا، وسيكون الثمن غالياً جداً لا يمكن تصوره، فالقوى جميعها يدها على الزناد والبقاء للأقوى في الصراع المسلح.
أتمنى من صميم القلب أن ينتصر العقل، وتسود الحكمة في تصرف الأطراف كافة، فالحرب لا تخدم أحداً من شعوب المنطقة، ولا تجني منها سوى الدماء والدموع والخراب والدمار.
وقى الله سوريا وشعبها، وليحل الأمن والسلام في البلاد وليعش الشعب السوري في ظل الأمن والسلام والحرية والديمقراطية والعيش الكريم .



 


   

236
من ذاكرة التاريخ:


القوات البريطانية تسقط حكومة الكيلاني،وتعيد عبد الإله
وصياً على العرش وولياً للعهد
الحلقة الخامسة
حامد الحمداني
1/10/2011

القوات البريطانية تحتل العشار
بعد أن عززت القوات البريطانية وجودها في البصرة، بدأت قواتها الآلية بالزحف نحو العشار فجر يوم الأربعاء  المصادف 7 أيار  1941، وتمكنت من احتلال جميع المرافق الحساسة، والجسور بعد معارك دامية مع الأهالي سقط خلالها عدد كبير من الشهداء والجرحى في معركة غير متكافئة مع جيش كبير ومنظم، وقيل أن اليهود قدموا مساعدات كبيرة لقوات الاحتلال التي أخذت تتصرف وكأنها سلطة حكومية في منطقة [العشار]، وصار مدير جمعية التمور الميجر  [لويد] يتصرف وكأنه حاكم عسكري، حيث أصدر أمراً بمنع حمل السلاح، ومنع الاستماع إلى الإذاعات المعادية لبريطانيا، ومنع التجول، وغيرها من القرارات.

 وعلى أثر ذلك أمرت الحكومة موظفيها في البصرة بالانسحاب والعودة إلى بغداد. كما قررت  في 9 أيار إنهاء خدمات الضباط البريطانيين في الجيش  العراقي، وفي 11 منه قررت الاستغناء عن خدمات جميع الموظفين والمستخدمين البريطانيين، كما قررت في  13 أيار تخويل رئيس الوزراء صلاحية عقد اتفاقات لشراء الأسلحة من الدول الأجنبية.

القوات البريطانية تحتل الفلوجة
استمرت المعارك مع القوات البريطانية حول الحبانية، لكنها لم تكن متكافئة على الإطلاق، ففي الوقت الذي كان الجيش العراقي يمتلك الإرادة الشجاعة للدفاع عن الوطن، كان يعوزه السلاح والعتاد، في حين كانت القوات البريطانية تمتلك كل أنواع الأسلحة والطائرات، والخبرة القتالية، فقد أخذت الطائرات البريطانية تقصف القطعات العسكرية العراقية حول [سن الذبان] منذ صباح يوم 2 أيار، كما أرسلت القيادة البريطانية في فلسطين قوة عسكرية أخرى تتألف من لواء خيالة وعدة كتائب مختلفة مجهزة بالآليات والمدفعية، مع قوة أخرى من رجال الفرقة العربية التي كان يقودها القائد البريطاني [كلوب باشا] في شرق الأردن.
وفي 19 أيار بدأ الجيش البريطاني هجوماً واسعاً تحت غطاء جوي كثيف من الطائرات الحربية ضد الجيش العراقي، وخاض الطرفان معركة غير متكافئة استطاعت خلالها القوات البريطانية دحر القوات العراقية، وأسرت 320 جندياً و23 ضابطاً، وانسحبت بقية القوات باتجاه بغداد، وبذلك استطاعت القوات البريطانية احتلال [الفلوجة] الواقعة على مقربة من بغداد في 20 أيار
 1941.
وفي اليوم التالي شنت القوات العراقية هجوماً معاكساً في محاولة لاستعادة الفلوجة، وكانت تلك القوات تتألف من فوجين معززة بثمانية دبابات، لكنها فشلت في هجومها بعد أن استشهد  273  جنديا و11 ضابطاً، وتدمير 7 دبابات.

القوات البريطانية تزحف نحو بغداد، وهروب الكيلاني وقادته
بعد اندحار القوات العراقية في معركة الفلوجة، بدأت الحكومة تنظيم دفاعاتها حول بغداد، حيث أصبحت القوات البريطانية على بعد 60 كيلومتر من العاصمة، لكن القوات البريطانية عاجلتها بهجوم كبير على ثلاثة محاور، منطلقةً من الفلوجة يوم 27 أيار.
 المحور الأول كان عن طريق [جسر الخر] وكان المحور الثاني عن طريق الشاطئ الأيسر لنهر الفرات نحو [أبو غريب]، أما المحور الثالث فقد كان عن طريق [سن الذبان ـ سامراء ـ التاجي].

مهدت القوات البريطانية هجومها بقصف مركز بالطائرات على مدينة بغداد لأحداث أكبر تأثير نفسي على قوات الجيش العراقي، وحكومة الكيلاني، وأبناء الشعب، وبدا في تلك الساعات أن الأمر قد أفلت من أيدي الكيلاني والعقداء الأربعة، حيث أصبح احتلال بغداد مسألة وقت لا غير، ولذلك فقد قرر[الكيلاني] وقادة جيشه [العقداء الأربعة] الهروب ومغادرة بغداد، والنجاة بأرواحهم، تاركين البلاد والشعب تحت رحمة المحتلين، حيث رحل العقداء الأربعة  إلى إيران مساء يوم 29 أيار 1941، ثم تبعهم رشيد عالي الكيلاني، وأمين الحسيني، وشريف شرف، ومحمد أمين زكي، ويونس السبعاوي.

وفور مغادرة قادة حركة أيار تشكلت في العاصمة بغداد لجنة برئاسة أمينها [أرشد العمري] دعيت [لجنة الأمن الداخلي]، وضمت اللجنة متصرف بغداد، ومدير الشرطة العام، وممثل الجيش الزعيم الركن [حميد نصرت].
 بدأت اللجنة مفاوضات مع السفارة البريطانية في بغداد على شروط وقف إطلاق النار، وإعلان الهدنة، تمهيداً لدخول القوات البريطانية إلى بغداد، وعودة الأمير عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
وفي 30 أيار توقف القتال بصورة نهائية، وعاد الوصي إلى بغداد في 1 حزيران 1941 تحت حراب المحتلين البريطانيين، وكان برفقته كل من نوري السعيد، وعلي جودت الأيوبي، وداؤد الحيدري.
 وهكذا تخلص البريطانيون وعبد الإله من العقداء الأربعة والكيلاني، الذين لعبوا دور كبيراً في الحياة السياسية في البلاد، وتم إحكام الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد.
لم يهدأ لبريطانيا وللوصي عبد الإله بال إلا بعد أن تم اعتقال العقداء الأربعة، فقد بدأت المخابرات البريطانية تتابعهم حتى تسنى لها القبض عليهم واعتقالهم في إيران، وجرى تسفيرهم إلى جنوب أفريقيا معتقلين، كما تم اعتقال وزير الاقتصاد يونس السبعاوي، و مدير الدعاية العام صديق شنشل، وتم إحالة العقداء الأربعة إلى المجلس العرفي العسكري، الذي سبق أن حكم عليهم بالإعدام. كما حكم المجلس العرفي العسكري على يونس السبعاوي بالإعدام أيضاً، وعلى صديق شنشل بالسجن لمدة 5 سنوات .
في نهاية الحرب العراقية البريطانية، سلمت بريطانيا العقداء الأربعة للحكومة العراقية، حيث جرى إعدامهم في 6 كانون الثاني 1942، بعد إعادة محاكمتهم بصورة صورية أمام المجلس العرفي العسكري، الذي أصدر قرار الحكم خلال جلسة واحدة، وبذلك تخلص الوصي من نفوذهم إلى الأبد.
أما رشيد عالي الكيلاني،  فقد تمكن من الوصول إلى تركيا، واستطاع السفير الألماني [فون بابن] أن ينقله مع أمين الحسيني إلى ألمانيا، حيث مكث فيها إلى أن أوشكت الحرب على نهايتها، وبات اندحار ألمانيا أمر حتمي، حيث هرب إلى سويسرا، ومنها إلى السعودية.
حاول عبد الإله مرارا استرداده من السعودية إلا أن السعوديون رفضوا ذلك، وبقي هناك عدة سنوات أنتقل بعدها إلى مصر بعد قيام ثورة 23 يوليو1952، وبقي هناك حتى قيام ثورة 14 تموز عام  1958، وسقوط النظام الملكي في العراق.

السفارة البريطانية تطلب من الوصي تكليف المدفعي بتأليف الوزارة
كان أمام المحتلين البريطانيين، بعد القضاء على حكومة الكيلاني، وعودة الوصي عبد الإله إلى الحكم، مهمة تأليف حكومة جديدة تأخذ على عاتقها تصفية ما خلفته حركة الكيلاني والعقداء الأربعة.
لم يشأ السفير البريطاني  بادئ الأمر تكليف رجل بريطانيا الأول نوري السعيد، نظراً للكره الشديد الذي يكنه الشعب له آنذاك، ولذلك فقد طلب من الوصي أن يكلف جميل المدفعي بتأليف الوزارة الجديدة، وبناء عليه فقد استدعاه الوصي وكلفه بتأليف الوزارة في 2 حزيران 1941، وتم تأليف الوزارة في نفس اليوم، وعلى الوجه التالي:
1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء.
2 ـ علي جودت الأيوبي ـ وزيراً للخارجية.
3 ـ مصطفى العمري ـ وزيراً للداخلية.
4 ـ نظيف الشاوي ـ وزيراً للدفاع.
5 ـ إبراهيم كمال ـ وزيراً للمالية ووكيلا للعدل.
6 ـ جلال بابان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
7 ـ نصرت الفارسي ـ وزيراً للاقتصاد ووكيلا للشؤون الاجتماعية.
8 محمد رضا الشبيبي ـ وزيراً للمعارف.
جرى تأليف الوزارة في ظل نظام منع التجول الذي فرضته[لجنة الأمن الداخلي] التي شُكلت في أعقاب انهيار حكومة الكيلاني، ولم تجرِ حفلة الاستيزار الرسمية، واكتفي بإذاعة خبر تأليفها من دار الإذاعة.
 وفي اليوم الذي تألفت فيه الوزارة، نزلت في مطار بغداد طائرة عسكرية بريطانية تحمل جنوداً بريطانيين بأسلحتهم بدعوى حماية السفارة البريطانية، وقد تجاهلت الحكومة الحدث.
كان أول إجراء اتخذته الحكومة هو إعلان الأحكام العرفية في 3 حزيران، وإيقاف العمل بكل القوانين والأنظمة المعمول بها، والتي تتعارض مع مرسوم الإدارة العرفية، وجرت إدارة البلاد إدارة عسكرية صرفه، وتم تشكيل المحكمة العرفية العسكرية برئاسة العقيد [مصطفى راغب]، وقامت الحكومة بحملة اعتقالات واسعة جداً، شملت كل من كانت له علاقة بالنظام السابق، أو أيّد  حكومة الكيلاني، وقد بلغ عدد المعتقلين أكثر من 20 ألفاً، بحيث عجزت السجون ومراكز الشرطة عن استيعابهم، وبدأت المحكمة العرفية تصدر الأحكام الجائرة، وترسل بآلاف المواطنين إلى غياهب السجون، واستمرت الأحكام العرفية سارية المفعول حتى شهر آذار من عام 1946.

كما قامت الحكومة بإلغاء امتيازات الصحف التي كانت تصدر على عهد حكومة الكيلاني، ومنحت امتيازات جديدة لصحفيين طارئين، كانت مهمتهم التشنيع بحكومة الكيلاني والعقداء الأربعة، ومداهنة الإنكليز، وفرضت الرقابة الصارمة على المطبوعات، ومنعت أي إشارة أو دعاية ضد البريطانيين، ومنعت التجمع لأكثر من أربعة أشخاص، ولجأت الحكومة إلى إصدار المراسيم، بدلا من الرجوع إلى مجلس الأمة الذي حاول الكيلاني حله ورفض الوصي ذلك، فقد أصدرت الحكومة منذ 2 حزيران  وحتى 7 تشرين الأول 1941 أحد عشر مرسوماً، كان من بينهم مرسوم تعديل مرسوم الإدارة العرفية، الذي سمح بموجبه بمحاكمة القائمين بحركة الكيلاني،  ومرسوم يقضي بفصل المشتركين والمساندين لحركة الكيلاني من مناصبهم، ومرسوم ثالث يقضي بإعادة الضباط الكبار الذين سبق لحكومة الكيلاني إحالتهم على التقاعد إلى الخدمة، وغيرها من المراسيم الأخرى.

كما قامت الحكومة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش الذين كان لهم دوراً في دعم وإسناد حكومة الكيلاني، أو المشكوك في ولائهم للإنكليز والوصي على التقاعد.
 وفي المقابل قررت الحكومة إعادة الضباط والمستشارين الإنكليز الذين طردتهم حكومة الكيلاني إلى مراكزهم السابقة، كما أعادت الموظفين والمستخدمين الإنكليز إلى أعمالهم السابقة أيضاً.
أما المحتلين فقد حولوا مدينة بغداد إلى معسكر كبير لقواتهم، فقد تم نقل ما يزيد على 100 ألف جندي إليها، وسمحت الحكومة ببقاء تلك القوات حتى نهاية الحرب،  كما سمحت الحكومة للمحتلين أن يشاركوا في إدارة ميناء البصرة، وبذلك أصبح المحتلون هم الحكام الحقيقيين للبلاد، وصارت الحكومة ألعوبة في أيديهم تنفذ لهم كل ما يطلبون.
وفي ظل تلك الظروف القاسية تدهورت الأحوال المعيشية لأبناء الشعب، حيث ارتفعت الأسعار  وفقدت السلع والحاجيات الضرورية والمواد الغذائية، وبات تدبير أمور المعيشة لسائر الطبقات الفقيرة والمتوسطة أمر صعب للغاية.

ومع كل تلك الخدمات التي قدمتها حكومة المدفعي للمحتلين، إلا أن السفارة البريطانية لم تكن راضية عن إجراءاتها بحق الذين ساندوا حكومة الكيلاني ودعموه، ورأت أن المدفعي لا يمارس القمع المطلوب ضد المعارضين للاحتلال البريطاني الجديد للبلاد، وتدل البرقية التي طيرتها السفارة  إلى وزارة الخارجية البريطانية  بتاريخ 8 آذار 1941 على الموقف الحقيقي للسفارة من حكومة المدفعي، ورغبتها في إبداله، والمجيء بنوري السعيد، رجل بريطانيا المعتمد عليه كل الاعتماد، فقد جاء في تلك البرقية ما يلي: 
{لقد تصرفت حكومة المدفعي الخامسة وكأن أحداث أيار شبيهة بأي انقلاب حكومي آخر، حيث تذهب حكومة، وتأتي حكومة أخرى، وهو أمر أصبح مألوفاً بعد وفاة الملك فيصل الأول، وينظر المدفعي إلى أحداث أيار 1941 وكأنها فصل آخر من مسرحية مؤسفة، فيدعو إلى إسدال الستار عليها بوحي من الشهامة والكرامة، حتى أصبح الموظفون يتقاعسون عن أداء واجباتهم، حين يرون الوزراء يتوسطون لأشد المعادين لبريطانيا، وعلاوة على ذلك فقد حدّ المدفعي من تدخل السفارة العلني في أمور العراق الداخلية، واستمر في غض النظر عن توصياتها الملحة في ضرورة تشديد القبضة على جميع العناصر المناوئة للإنكليز، وتطهير الجيش منهم، مما حمل السفارة على العمل على إسقاط الحكومة من الداخل، عن طريق إحداث خلاف بين أعضائها، وإثارة المشاكل أمامها، مما يؤدي إلى إضعافها وبالتالي إسقاطها}.
بهذا الأسلوب سعت السفارة البريطانية إلى إسقاط حكومة المدفعي، باختلاق الخلافات بين أعضائها، وخاصة الوزير [إبراهيم كمال] الذي اتهم المدفعي بالتهاون إزاء الانقلابيين، ودخل في مهاترات معه، مما دفع المدفعي إلى التوجه إلى الوصي باستقالة حكومته في  21 أيلول 1941، وتم قبول الاستقالة، وطلبت السفارة البريطانية من الوصي تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة، فقد حان الوقت ليعود نوري السعيد إلى المسرح السياسي من جديد، ويؤدي الدور الموكول له في قمع الحركة الوطنية، والتنكيل بكل خصوم الإنكليز الذين وقفوا إلى جانب الكيلاني وساندوه، وتصفية كل العناصر الوطنية المناهضة للاحتلال في صفوف الجيش.


237
من ذاكرة التاريخ:
الحرب العالمية الثانية، وتأثيرها على العراق
الحلقة/ الرابعة
حامد الحمداني
30/9/2011

عبد الإله يكلف طه الهاشمي بتأليف الوزارة:
على أثر اللقاء الذي تم بين الوصي عبد الإله والشيخ محمد الصدر، والنصيحة التي قدمها له الأخير، استدعى الوصي السيد طه الهاشمي، بحضور الوزير صادق البصام، وكلفه بتأليف الوزارة الجديدة، على الرغم من عدم اقتناعه به ورضاه عنه.

 لكن الظروف الدقيقة والخطيرة من جهة، ونصيحة الشيخ الصدر من جهة أخرى هي التي جعلته يكلف الهاشمي. وقد حاول الوصي أن يشهّد البصام على تعهد الهاشمي بتشتيت شمل قادة الجيش [العقداء الأربعة]، وحذره من المتصيدين في الماء العكر، والإيقاع مجدداً بينه وبينهم، ووعد الوصي بأنه سوف يسعى إلى لقاء القادة الأربعة به لتقديم الولاء والطاعة، لكن ذلك لم يتم بسبب نصيحة السفير البريطاني بعدم استقبالهم.(19)
تم تأليف الوزارة الجديدة في 31 كانون الثاني 1941، وجاءت على الوجه التالي:
1 ـ طه الهاشمي رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية والدفاع وكالة.
2 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للداخلية، ووزيراً للعدل وكالة.
3 ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للمالية ، الأشغال والمواصلات وكالة.
4 ـ عبد المهدي ـ  للاقتصاد.
5ـ حمدي الباجه جي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
6 ـ صادق البصام ـ وزيراً للمعارف.

ثم أضاف إلى الوزارة في 4 شباط السيد توفيق السويدي كوزير للخارجية.
عبر السفير البريطاني في برقيته إلى وزارة الخارجية البريطانية عن سروره لإخراج الكيلاني من الحكم، ولكنه أعرب عن عدم اطمئنانه لطه الهاشمي، ووعد بأن يكون عمر الوزارة قصيراً، وأشاد السفير بدور نوري السعيد، والجميل الذي أسداه لبريطانيا، غير أنه كان قد فقد نفوذه في الآونة الأخيرة، ورأى أن يكون بعيداً عن الأنظار حالياً.

كان همْ السفارة البريطانية، بعد استقالة حكومة الكيلاني هو التخلص من العقداء الأربعة بأي طريقة كانت، لكي يستقر الوضع لصالح بريطانيا.
أما الوصي فقد طلبت منه حكومة الهاشمي العودة إلى بغداد، وأرسلت لمرافقته كل من عمر نظمي، وزير الداخلية، ووكيل رئيس أركان  الجيش أمين زكي، إلا أن الوصي تردد في العودة خوفاً من وجود مؤامرة لقتله، مما اضطر الهاشمي إلى السفر إلى الديوانية، وإقناعه بالعودة، وعاد الوصي بصحبة الهاشمي في 3 شباط 1941.

تاسعاً:حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة الانقلابية:
بدا الوضع السياسي بعد تشكيل حكومة الهاشمي يميل نوعاً ما إلى الهدوء بعد تلك العاصفة التي حدثت بين الكيلاني والوصي.
 لكن النار كانت لا تزال تحت الرماد، فقد كان عنصر الثقة بين الوصي والهاشمي شبه مفقوداً، كما كانت الثقة بين الكيلاني، ومن ورائه العقداء الأربعة المسيطرين على الجيش، وبين الوصي قد تلاشت.

 وكان الوصي، ومن ورائه السفارة البريطانية، يعمل في الخفاء من أجل تشتيت شمل قادة الجيش تمهيداً للتخلص منهم ومن الكيلاني، ومارست السفارة البريطانية ضغوطها على رئيس الوزراء من أجل إبعاد العقداء الأربعة عن أي تأثير سياسي في البلاد، كما ضغطوا على الهاشمي لقطع العلاقات مع إيطاليا، وكان الهاشمي يخشى رد فعل الشعب إن هو فعل ذلك.

 ونتيجة لتلك الضغوط، أقدم الهاشمي، بصفته وزيراً للدفاع وكالة، بتاريخ 26 آذار 1941 على نقل العقيد [كامل شبيب]إلى قيادة الفرقة الرابعة في الديوانية، ليحل مكانه صديق الوصي، والذي أواه في الديوانية اللواء الركن [إبراهيم الراوي]، كما أصدر قراراً آخر بنقل مقر قيادة الفرقة الثالثة التي يقودها العقيد [صلاح الدين الصباغ] من بغداد إلى جلولاء.

كانت تلك الإجراءات التي اتخذها الهاشمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل، فلم يكد يبلغ القرار لقادة الجيش حتى قرروا على الفور التصدي له ورفضه، واتخاذ التدابير السريعة والضرورية لحل الأزمة بصورة جذرية.

ففي مساء يوم 1 نيسان 1941، أنذر العقداء الأربعة قطعات الجيش في بغداد، وتم إبلاغها بما ينوون القيام به، حتى إذا انتصف الليل، نزلت القوات العسكرية لتحتل المراكز الهامة والحساسة في بغداد، كدوائر البرق والبريد والهاتف، والجسور، ومداخل الطرق الرئيسية، وجميع المرافق العامة في بغداد، وتوجه العقيد [فهمي سعيد]، وبرفقته وكيل رئيس أركان الجيش [محمد أمين زكي] إلى دار رئيس الوزراء [طه الهاشمي] وأجبروه على الاستقالة.
 واضطر الهاشمي إلى تحرير كتاب استقالة حكومته إلى الوصي، وسلمها لهما، حرصاً على عدم إراقة الدماء. (20)

أما الوصي فقد أيقضه الخدم من النوم، وأبلغوه أن هناك أوضاع غير طبيعية في منطقة القصر، وأن الجيش متواجد في المنطقة، فما كان من الوصي إلا أن صمم على الهرب مرة أخرى، واستطاع الإفلات من قبضة الجيش، ولجأ إلى السفارة الأمريكية، بعد أن تعذر عليه الوصول إلى السفارة البريطانية، وقامت السفارة الأمريكية بنقله إلى قاعدة الحبانية، ومن هناك تم نقله على متن طائرة حربية بريطانية إلى البصرة، حيث نقل إلى الدارعة الحربية البريطانية [كوك شبير] الراسية قرب البصرة، وكان برفقته كل من [علي جودت الأيوبي] ومرافقه العسكري [عبيد عبد الله المضايفي]، ثم لحق بهم [جميل المدفعي].

حاولت السفارة البريطانية الاتصال بأعضاء وزارة طه الهاشمي في محاولة لنقلهم إلى البصرة للالتحاق بالوصي، لكن العقداء الأربعة حالوا دون خروجهم. كما نصبت القوات البريطانية للوصي إذاعة لاسلكية حيث قام بتوجيه خطاب إلى الشعب في الرابع من نيسان، وقامت الإذاعة البريطانية في لندن بإعادة إذاعة الخطاب مرة أخرى، وقد هاجم الوصي في خطابه الكيلاني والعقداء الأربعة، واتهمهم بالاعتداء على الدستور، والخروج على النظام العام، واغتصاب السلطة.

كما أخذ الوصي يحرض قائد الفرقة الرابعة في الديوانية [إبراهيم الراوي] وقائد حامية البصرة العقيد [رشيد جودت] وعدد من شيوخ العشائر الموالين للبلاط والإنكليز، للتمرد على الكيلاني وقادة الجيش، والزحف على بغداد، لكن الراوي وجودت رفضا السير مع الوصي بهذا الطريق الذي لو تم لوقعت حرب أهلية لا أحد يعرف مداها.
تشكيل مجلس الدفاع الوطني:
بادر العقداء الأربعة، بعد هروب الوصي، إلى تشكيل مجلس الدفاع الوطني وتم اختيار[رشيد عالي الكيلاني] رئيساً للمجلس ليقوم مقام مجلس الوزراء.
وفي أول اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قرر المجلس إرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تحذرها من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وتقديم الدعم والمساندة للوصي عبد الإله.

 كما قرر المجلس إرسال قوات عسكرية إلى البصرة لمنع أي تحرك ضد مجلس الدفاع الوطني، وتم اعتقال متصرف البصرة [صالح جبر] الذي قطع صلاته ببغداد تضامناً مع الوصي، وتم تسفيره إلى بغداد.
 
عزل عبد الإله وتعين شريف شرف وصياً على العرش:
 رداً على تحركات الوصي الرامية إلى إسقاط حكومة الدفاع الوطني، وهروبه من العاصمة، وتعاونه مع المحتلين البريطانيين في هذا السبيل، فقد وجهت حكومة الدفاع الوطني إنذاراً له بالعودة إلى بغداد فوراً، وإلا فإنها ستضطر إلى عزله من الوصاية، وتعين وصي جديد على العرش بدلا منه.

 ولما لم يستجب عبد الإله إلى الإنذار قررت حكومة الدفاع الوطني عزله من الوصاية، وتعين [الشريف شرف] وصياً على العرش بدلاً عنه، وقد صادق البرلمان على هذا الإجراء في جلسته المنعقدة في 16 نيسان1941.

الكيلاني يشكل حكومة مدنية جديدة:
بعد أن تم تعين [الشريف شرف] وصياً على العرش، قدم مجلس الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني استقالته إلى الوصي الجديد في 12 نيسان 1941 لغرض تشكيل حكومة مدنية جديدة، وقد كلف الوصي السيد الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة في اليوم نفسه، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي:
1 ـ رشيد عالي الكيلاني ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية.
2ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للمالية.
3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للدفاع.
4 ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ رؤوف البحراني ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
6 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدل.
7ـ يونس السبعاوي ـ وزيراً للاقتصاد.
8 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
9 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للمعارف.
وفور تشكيل الوزارة أعلن الكيلاني عن عزم الحكومة على عدم توريط العراق في الحرب، مع الالتزام بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، والتمسك بالتعهدات الدولية. وقد لاقت حكومة الكيلاني تأييداً كاسحاً من أبناء الشعب الحانقين على الاستعمار البريطاني وأعوانه.

عاشراً:القوات البريطانية تسقط حكومة الكيلاني،وتعيد عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد:
تسارعت التطورات في البلاد بعد أحكام سيطرة رشيد علي الكيلاني والعقداء الأربعة على مقاليد الحكم، ولاسيما وأن الحركة قد لاقت تأييداً واسعاً من أبناء الشعب عامة الذين كانوا يحدوهم الأمل في التخلص من الاستعمار البريطاني الذي أذاقهم الأمرّين، ولم يدركوا أن الاستعمار الألماني البديل أسوأ منه، وهكذا أصبحت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لبريطانيا، وتنذر بمخاطر كبيرة.

 وبناء على ذلك طّير السفير البريطاني [كورنوليس] برقية إلى المستر تشرشل ـ رئيس الوزراء ـ جاء فيها:
{ إما أن ترسلوا جيشاً كافيا إلى العراق، أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان}.
فلما اطلع تشرشل البرقية أسرع بالإبراق إلى وزير الهند لإرسال قوات عسكرية، وإنزالها في البصرة على عجل. (21)

كانت الحكومة البريطانية قد أبلغت العراق قبل وقوع الانقلاب أنها عازمة على إنزال قوات في البصرة لنقلها عبر العراق إلى حيفا في فلسطين حيث تقتضي ضرورات الحرب، وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية يحق لبريطانيا ذلك، بعد إبلاغ ملك العراق بذلك.
 ولذلك فقد اتصل القنصل العام البريطاني في البصرة بوكيل المتصرف، يوم 10 نيسان، وأبلغه أن فرقة من الجيش الهندي على ظهر ثلاث بواخر حربية، وبحراسة طرادين حربيين، وثلاث طائرات،  سوف تدخل المياه الإقليمية العراقية خلال 48 ساعة، وطلب منه إبلاغ حكومته بذلك للموافقة على نزول تلك القوات في البصرة.
 كما قام مستشار وزارة الداخلية، المستر [أدمونس] في بغداد بزيارة رئيس الوزراء الكيلاني، وابلغه بنفس الأمر. (22)

وعلى الفور أجتمع مجلس الوزراء وبحث الأمر، وبعد مناقشة مستفيضة اتخذ قرارا بالسماح للقوات البريطانية بالنزول، وفق الشروط التي اتفق عليها في 21 حزيران 1940، والتي نصت على نزول القوات لواء بعد لواء، على أن يبقى اللواء مدة معقولة، وهو في طريقه إلى فلسطين، ثم يليه نزول اللواء التالي، بعد أن يكون اللواء السابق قد غادر الأراضي العراقية،  وعلى الحكومة البريطانية أن تشعر الحكومة العراقية بعدد القوات المراد إنزالها. (23)

كما قررت الحكومة العراقي إيفاد اللواء الركن [إبراهيم الراوي] إلى البصرة لاستقبال  القوات البريطانية، كبادرة حسن نية من الحكومة.
 لكن بريطانيا كانت  قد قررت غزو العراق، وإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة، وإعادة عبد الإله وصياً على عرش العراق، وكانت تعليمات القيادة البريطانية تقضي باحتلال [منطقة الشعيبة] في البصرة، واتخاذها رأس جسر لإنزال قواتها هناك، والانطلاق بعد ذلك إلى بغداد.

وفي يومي 17 و 18 نيسان 1941 نزلت القوات البريطانية في البصرة، وعلى الفور أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال [إيمسي] في رئاسة الأركان البريطانية، يأمره بالإسراع بإنزال 3 ألوية عسكرية في البصرة، وقد بدا واضحاً من تصرف تلك القوات أنها لن تغادر العراق، كما هو متفق عليه، بل لتبقى هناك حيث قامت بحفر الخنادق، وإقامة الاستحكامات، وترتيب بقائها لمدة طويلة.
وفي 28 نيسان 1941 أبلغ مستشار السفارة البريطانية في بغداد وزارة الخارجية العراقية بنية بريطانيا إنزال  قوة أخرى قوامها 3500 جندي وضابط، في 29 نيسان ، وقبل رحيل القوات التي نزلت في البصرة قبلها.
وعند ذلك أدركت حكومة الكيلاني أن بريطانيا تضمر للعراق شراً، وأنها لا تنوي إخراج قواتها كما جرى عليه الاتفاق من قبل، بل لتستخدمها لاحتلال العراق من جديد.

 وعليه اتخذت قرارها بعدم السماح لنزول قوات بريطانية جديدة في البصرة قبل مغادرة القوات التي وصلت  إليها من قبل.
كما طلبت الحكومة العراقية من السفير البريطاني تقديم أوراق اعتماد حكومته كدليل على اعتراف بريطانيا بالوضع الجديد في العراق .(24)

وفي الوقت نفسه قررت الحكومة العراقية القيام بإجراءات عسكرية احترازية لحماية العراق، وأصدرت بياناً إلى الشعب بهذا الخصوص، وقد أشار البيان إلى إخلال بريطانيا بنصوص معاهدة التحالف، وأن الحكومة قد قدمت احتجاجاً رسميا إلى الحكومة البريطانية، كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على التمسك بحقوق العراق، وسيادته واستقلاله.

 لكن الحكومة البريطانية تجاهلت مواقف الحكومة العراقية واحتجاجاتها، وأنزلت قوات جديدة في البصرة  في 30 نيسان، وحاولت تلك القوات قطع الطريق على القوات العراقية المتواجدة هناك، لكن القوات العراقية استطاعت الانسحاب إلى المسيب، مقرها الدائم، وكررت الحكومة احتجاجها على تصرفات القوات البريطانية، لكن الحكومة البريطانية تجاهلت ذلك الاحتجاج، وأقدمت على ترحيل الرعايا البريطانيين من الموظفين، وأصحاب الشركات، والعاملين فيها، كما أوعزت لهم بتهريب موجودات البنوك من العملات.

عند ذلك أيقنت الحكومة أن الصِدام بين الجيشين العراقي والبريطاني بات أمرٌ حتمي، وقررت اتخاذ عدد من الإجراءات العسكرية لحماية بغداد.
 فقد أرسلت عدداً من قطعاتها العسكرية إلى المنطقة القريبة من [الحبانية] حيث توجد قاعدة جوية بريطانية كبيرة.
 لكن ثلاث أسراب من الطائرات البريطانية قامت على الفور بقصف تلك القوات المتمركزة في [سن الذبان] بجوار بحيرة الحبانية، وذلك صباح يوم الجمعة المصادف 2 أيار 1941، وبذلك اشتعلت الحرب بين العراق وبريطانيا، وقام على الأثر السفير البريطاني بإصدار بيان موجه إلى الشعب العراقي، كان قد أعده سلفاً، هاجم فيه بشدة حكومة الكيلاني، واتهمها بشتى التهم، وبذلك كشف البيان عن جوهر السياسة البريطانية  وأهدافها الاستعمارية العدوانية تجاه العراق.

وفي اليوم نفسه قدم السفير البريطاني إنذاراً للحكومة العراقية بسحب قواتها من أطراف الحبانية، وهدد باتخاذ أشد الإجراءات العسكرية ضدها. وعلى اثر تلك التطورات والأحداث المتسارعة، أجتمع مجلس الوزراء، واتخذ
 قرارات هامة للدفاع عن العراق، كان منها:
1ـ إعادة العلاقات مع ألمانيا، والطلب بإرسال ممثلها السياسي على الفور، وطلب المساعدة منها.
2 ـ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي فوراً.
3ـ نشر بيان صادر من رئيس الوزراء حول العدوان البريطاني على القوات العراقية.
4ـ إرسال احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية على تصرفاتها تجاه العراق.(25)

وعلى الأثر قام الوزير العراقي المفوض في تركيا بمقابلة السفير الألماني [فون بابن]، وطلب منه تقديم كل مساعدة ممكنة للصمود بوجه القوات البريطانية، وقد أبلغه السفير الألماني أن تقديم المساعدة يتطلب مدة من الزمن، وسأله كم من الزمن تستطيع القوات العراقية الصمود أمام القوات البريطانية، وأخيراً تم الاتفاق على إرسال عدد من الأسراب من الطائرات الحربية الألمانية للدفاع عن مدن العراق التي أخذت تتعرض لقصف الطائرات البريطانية، ريثما يتمكن الألمان من تقديم مساعدة فعالة للحكومة العراقية.(26)
وفي الوقت نفسه غادر الدكتور[كروبا] سفير ألمانيا السابق في العراق متوجهاً إلى بغداد لفتح السفارة الألمانية، حيث وصلها في 18 أيار، وبصحبته 5 طائرات حربية، وبعثة عسكرية جوية برئاسة الفيلد مارشال  فون بلومبرج].
 لكن المارشال الألماني أصيب قبل هبوط طائرته في مطار بغداد بصلية من الطائرات البريطانية، وقتل قبل نزوله في بغداد، وذلك خلال اشتباك جوي مع الطائرات البريطانية.(27)

وفي الوقت نفسه تلقى العراق كميات من الأسلحة عن طريق سوريا، حيث كانت ألمانيا وإيطاليا قد استولت على تلك الأسلحة بعد انهيار فرنسا.
 فقد حصل العراق على 15 ألف بندقية، و354 مسدساً و5 ملايين خرطوشة مدافع رشاشة، و10000 قنبلة عيار 75 ملم، و 6000 قنبلة عيار 155 ملم، و30 ألف قنبلة يدوية، و 6000 قنبلة زمنية، وغيرها من الأجهزة العسكرية والمتفجرات، وأجهزة الاتصال اللاسلكية وغيرها.(28 ) 

ورداً على سحب موجودات البنوك، أعلن الكيلاني انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وحاول تغير العملة بالتعاون مع المانيا، لكن الزمن لم يمهله لتنفيذ ذلك، فقد تصاعدت الأزمة بعد أن فتحت القوات البريطانية النار على القوات العراقية المتواجدة في البصرة، واستطاع الفوج العراقي الموجود هناك الانسحاب من المنطقة في 2 أيار 1941.


238
من ذاكرة التاريخ:
الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على العراق
الحلقة الثالثة
حامد الحمداني
2011/9/27


تطورات العلاقة العراقية الألمانية والعراقية البريطانية
لم يمضِ سوى أسبوع واحد على دخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا حتى استطاعت جحافل هتلر دحر القوات الفرنسية، واحتلال العاصمة الفرنسية باريس، ولم ننقذها تحصينات خط ماجينو المشيد بين الحدود الألمانية الفرنسية.

وفي تلك الأيام وصل إلى العراق [الحاج أمين الحسيني ] مفتي فلسطين هرباً من ملاحقة القوات البريطانية له، وكان معروفاً عنه أنه كان على علاقة جيدة مع ألمانيا غريمة بريطانيا، وقد نصح الحسيني الكيلاني بأن يجري اتصالاً مع السفير الألماني في تركيا [فون بابن] للوقوف على وجهة نظر ألمانيا تجاه مستقبل البلاد العربية، وسوريا على وجه الخصوص، حيث كانت تحت الانتداب الفرنسي. (13)
جرى الاتفاق بين الكيلاني والحسيني أن ترسل الحكومة وفداً مؤلفاً من وزير الخارجية[نوري السعيد] ووزير العدل [ ناجي شوكت] إلى تركيا بحجة التباحث مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا بعد انهيار فرنسا،على أن يقوم ناجي شوكت بعد انتهاء المباحثات وعودة نوري السعيد بزيارة إلى [اسطنبول] لبضعة أيام بدعوى الراحة والاستجمام لغرض الالتقاء مع السفير الألماني [فون بابن] دون علم نوري السعيد لعدم ثقة الكيلاني به، وقد زود أمين الحسيني السيد ناجي شوكت برسالة إلى السفير[فون بابن] الذي تربطه به علاقات وثيقة.

 غادر الوفد إلى تركيا، و أجرى محادثات مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا، بعد انهيار فرنسا، وقد عاد نوري السعيد إلى بغداد بعد انتهاء المباحثات، فيما توجه ناجي شوكت إلى اسطنبول، بحجه قضاء بضعة أيام فيها للراحة والاستجمام، والتقى بالسفير الألماني هناك وبحث معه موقف ألمانيا من البلاد العربية، وأبلغه أن العرب يطمحون إلى التخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي، وهو يود معرفة موقف ألمانيا من الأماني العربية، وناشده أن تصدر ألمانيا وإيطاليا بياناً حول الموضوع، وقد وعده السفير الألماني بنقل ما دار في اللقاء إلى حكومته، وأن يبذل جهده لحمل الحكومة الألمانية على تحقيق الأماني العربية.
وفي ختام اللقاء ترك إلى السفير العراقي [كامل الكيلاني] مهمة مواصلة اللقاءات مع السفير الألماني، وعاد إلى بغداد في 12 تموز، واطلع رفاقه الكيلاني، والهاشمي، وناجي السويدي على ما دار في ذلك اللقاء. (14)

 أما السفير[فون بابن] فقد توجه بعد اللقاء إلى ألمانيا ليجري اتصالاته مع الحكومة حول لقائه مع الوزير العراقي، واستطاع أن يقنع الحكومة بأن تصدر بياناً ألمانياً إيطالياً مشتركاً حول موقف دول المحور من البلاد العربية، ومستقبلها، ثم عاد إلى اسطنبول وأبلغ السفير العراقي كامل الكيلاني، شقيق رئيس الوزراء، بقرار الحكومة الألمانية، وقام السفير بدوره بإبلاغ أخيه بالأمر.

وبناء على ذلك قرر رشيد عالي الكيلاني إرسال ناجي شوكت إلى اسطنبول مرة أخرى بحجة الراحة والاستجمام للقاء السفير[فون بابن] وتقديم مسودة بالأسس التي تود الحكومة العراقية أن يتضمنها البيان، وكان في مقدمتها الاعتراف الصريح من جانب ألمانيا وإيطاليا باستقلال البلاد العربية، وحق العرب في إقامة وحدتهم القومية، ورفض إقامة كيان صهيوني في فلسطين.

غادر ناجي شوكت إلى اسطنبول في 2 آب 1940، حيث التقى بالسفير الألماني، وسلمه مسودة البيان الذي تقترحه الحكومة العراقية، وطلب منه إرساله إلى حكومته، وأبلغه أن الحكومة العراقية بانتظار صدور البيان الألماني الإيطالي المنتظر، والذي يتضمن هذه الأسس التي نقلها إليه.

 وفي 23 تشرين الأول 1940 أذيع  من راديو برلين وراديو روما البيان الموعود، لكن البيان جاء بعبارات عمومية لم تتضمن الأسس التي جاءت بها المسودة التي نقلها الوزير العراقي للسفير الألماني[ فون بابن]  الذي أعلم السفير العراقي أن هذا البيان هو مجرد بداية !!. (15)

تدهور العلاقات العراقية البريطانية

على اثر قرار حكومة الكيلاني بالتريث في قطع العلاقات مع إيطاليا رغم إلحاح السفير البريطاني، بدأت العلاقات العراقية البريطانية تأخذ بالتأزم، ولاسيما بعد أن وصل إلى علم الحكومة البريطانية الاتصالات التي أجراها ناجي شوكت مع السفير الألماني في تركيا [فون بابن].
لقد أدرك السفير البريطاني صعوبة التعاون مع حكومة الكيلاني، وأخذ يتحين الفرصة لإسقاطها، وبالمقابل أخذت حكومة الكيلاني تضيق على تحركات الإنكليز، ووسائل دعاياتهم ضد دول المحور متذرعة بعدم رغبة الحكومة بخلق مشاكل لها مع هذه الدول.

 وازدادت الأزمة تصاعداً عندما رفضت بريطانيا تزويد الجيش العراقي بالأسلحة التي كان بأمس الحاجة لها، حيث قيدت معاهدة 1930 العراق بشراء الأسلحة البريطانية فقط، فلما وجدت حكومة الكيلاني أن الباب موصود أمامها للحصول على السلاح البريطاني، لجأت إلى إيطاليا واليابان لشراء الأسلحة منهما، وكان رد الفعل البريطاني على خطوة حكومة الكيلاني أن امتنعت الحكومة البريطانية عن شراء القطن العراقي رغم تدني أسعاره، مما دفع بحكومة الكيلاني إلى عقد اتفاقية مع اليابان باعت بموجبها جميع محصول القطن، ومحصول التمور لها، مما أثار غضب الحكومة البريطانية إلى أقصى الحدود، ولاسيما وأن اليابان كانت قد دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.

ومن جانب آخر أقدمت حكومة الكيلاني على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، مما أوصل العلاقات بين العراق وبريطانيا إلى أقصى درجات التأزم، بحيث أبلغ السفير البريطاني نوري السعيد بأن الحكومة البريطانية لم تعد تثق بحكومة الكيلاني، وأن على العراق  أن يختار بين الاحتفاظ بحكومة الكيلاني أو الاحتفاظ بصداقة بريطانيا العظمى. (15)

وهكذا بدأ الصراع المكشوف بين الحكومة البريطانية والسفير البريطاني وسارع الكيلاني إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء لبحث التدخل البريطاني السافر بشؤون العراق الداخلية، وتقرر تقديم احتجاج رسمي إلى الحكومة البريطانية على تصرفات سفيرها في بغداد. (16)

ولممارسة المزيد من الضغوط على حكومة الكيلاني لجأت بريطانيا إلى الولايات المتحدة داعية إياها للضغط على حكومة الكيلاني، حيث اتصل السفير الأمريكي بالكيلاني، وطلب منه التعاون مع الحكومة البريطانية، ومنع دعاية الكراهية لبريطانيا بين صفوف الشعب العراقي.

 وقد أكد الكيلاني للسفير الأمريكي أن الحكومة لا تنوي الإضرار بالمصالح البريطانية، وأنها حريصة على تطبيق بنود معاهدة 1930، لكن شائعات سرت بعد بضعة أيام تقول أن الحكومة العراقية تنوي إعادة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا.
لم يستطع نوري السعيد تحمل سياسة الكيلاني، وهو المتحمس إلى أبعد الحدود لتشديد ارتباط العراق بالعجلة البريطانية، فكتب مذكرة إلى الكيلاني، وبعث بنسخة منها إلى الوصي عبد الإله، وإلى السفير البريطاني ينتقد فيها سياسة الحكومة تجاه بريطانيا العظمى، ويتحدث عن فقدان الانسجام والتعاون بين أعضاء الوزارة، ويحذر من مغبة السير بهذا الطريق، ويدعو الحكومة إلى اعادة النظر في مجمل سياساتها. (17)

 أما الوصي عبد الإله فقد دعا لعقد جلسة لمجلس الوزراء برئاسته في البلاط، في 17 كانون الأول، لمناقشة مذكرة نوري السعيد، وسياسة الحكومة. وخلال الاجتماع بدت على الوصي علامات الانفعال من سياسة الكيلاني، حيث تحدث إليه قائلاً:
{ إنني ألاحظ أن التآزر بين أعضاء الوزارة القائمة مفقود، والاختلافات بين أركانها في تزايد مستمر، ولاسيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلاقات بلادنا بالحليفة بريطانيا العظمى}. (18)

وقد رد السيد ناجي السويدي قائلاً:{أن ليس هناك خلافات خطيرة تستوجب ذلك}.
 لكن نوري السعيد أصر على موقفه من وجود الخلافات، وانتهى الاجتماع مع الوصي دون حدوث أي تغير.
لم يكد أعضاء مجلس الوزراء يغادرون البلاط الملكي حتى لحق رئيس الديوان الملكي السيد عبد القادر الكيلاني برشيد عالي الكيلاني ليطلب منه تقديم استقالته بناء على رغبة الوصي، حرصا على عدم إحراجه مع الإنكليز، وكان هذا التصرف من جانب الوصي بناء على طلب الحكومة البريطانية.

وهكذا بدأت الأزمة بين حكومة الكيلاني والوصي عبد الإله، وقرر مجلس الوزراء إرسال وفد لمقابلة الوصي برئاسة رئيس الوزراء الكيلاني وعضوية وزير الدفاع [طه الهاشمي] و[ناجي شوكت] وزير المالية .
وخلال اللقاء  أبلغ الوفد الوصي أن طلب استقالة الوزارة عمل غير دستوري، وأن ليس من حقه بموجب الدستور أن يقيل الوزارة. (19)

كان رشيد عالي الكيلاني في ذلك الوقت قد أمّن وقوف قادة الجيش، العقداء الأربعة [صلاح الدين الصباغ ] و[فهمي سعيد] و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] إضافة إلى مفتي فلسطين الذي يتمتع بنفوذ كبير لدى الضباط القوميين.
وفي 21 كانون الأول 1940، أعلن الكيلاني أمام مجلس النواب أن العراق دولة مستقلة، وعليه أن ينشد في كل تصرفاته مصالحه الوطنية، وأمانيه القومية، وينبغي أن لا ينجرف وراء ما لا يتلاءم مع هذه المصالح والأماني، وان الحكومة حريصة على عدم القيام بأي عمل يجر العراق إلى شرور الحرب، والمساس بسلامة البلاد،
 وعلى أثر ذلك قطع السفير البريطاني أي صلة له بالحكومة ورئيسها، وأخذت صلاته تجري مع الوصي بصورة مباشرة، متخطيا الحكومة الشرعية ورئيسها.

اشتدت الأزمة داخل مجلس الوزراء، ولاسيما بين نوري السعيد المتحمس للإنكليز، وناجي شوكت المعارض لهم، واقترح طه الهاشمي لحل الأزمة أن يستقيل نوري السعيد، وناجي شوكت من الوزارة، وبالفعل قدم نوري السعيد استقالته من الوزارة في 19 كانون الأول، فيما قدم ناجي شوكت استقالته في 25 منه.
 لكن الوصي رفض التوقيع على الاستقالة مطالباً رشيد عالي  الكيلاني بتقديم استقالة وزارته، غير أن  تدخل العقداء الأربعة أجبر عبد الإله على توقيع استقالة الوزيرين، وأسندت وزارتيهما إلى ناجي السويدي، وعمر نظمي وكالة. (20)

 لم يرضي هذا الإجراء السفير البريطاني الذي كان يلح على استقالة الوزارة، مشدداً ضغطه على الوصي عبد الإله، الذي أخذ يمتنع عن توقيع الإرادات الملكية والقوانين والمراسيم والأنظمة. وأخيراً أخذ يحرض الوزراء على الاستقالة من الحكومة، واستمر الوصي في ضغطه على الكيلاني بأن أرسل بطلب الوزير [عمر نظمي] في 25 كانون الأول 1940، وطلب منه إبلاغ الكيلاني  بأنه سيستقيل من الوصاية إذا لم تقدم وزارة الكيلاني استقالتها حتى ظهر يوم الغد. (21)

أما مجلس الوزراء فقد عقد اجتماعاً في اليوم التالي 26 كانون الأول لمناقشة الأزمة، ولم يحضر الوزيران المستقيلان، وخلال الاجتماع فاجأ الوزراء جميعاً رئيس الوزراء بتقديم استقالاتهم من الوزارة، ما عدا [رؤوف البحراني]، مما تسبب في إحراج الكيلاني الذي حاول جاهداً تثنيهم عن الاستقالة. (22)

تصاعد الأزمة بين الوصي والكيلاني واستقالة الوزارة:
تصاعدت الأزمة بين الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني بعد أن قدم الوزراء استقالاتهم، وحاول الوصي  إرغام الكيلاني على تقديم استقالته عن طريق اللجوء إلى القوة العسكرية، حيث بادر لاستدعاء رئيس أركان الجيش، ومدير الشرطة العام، وطلب إليهم عدم إطاعة رئيس الوزراء، وأبلغهم أن الوزارة أصبحت غير شرعية. لكن الكيلاني لجأ إلى قادة الجيش [العقداء الأربعة] الذين قرروا إرسال مندوب عنهم إلى الوصي ليبلغه أن الجيش يريد بقاء الكيلاني على رأس الحكومة، وبالفعل قابل العقيد[محمود سلمان] أحد العقداء الأربعة الوصي وأبلغه بالأمر.
ورغم محاولات الوصي ثني قادة الجيش عن موقفهم لكنه فشل في إقناعهم، فقد قابل العقيد محمود سلمان الوصي للمرة الثانية  بحضور الشيخ [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، وأبلغه بقرار قادة الجيش، وقد نصح الشيخ الصدر الوصي بالرضوخ للأمر الواقع تجنياً لما قد لا يحمد عقباه، إذا ما أصر على موقفه من الكيلاني. (23)

وهكذا تراجع الوصي ولو مؤقتاً، وأصدر إرادة ملكية بتعين [يونس السبعاوي] وزيراً للاقتصاد و[علي محمود الشيخ علي] وزيراً للعدل في 28 كانون الثاني بناء على طلب الكيلاني وقادة الجيش. وفي اليوم التالي قدم ناجي السويدي استقالته من الوزارة،وأسرع الكيلاني إلى تعين [موسى الشابندر] وزيراً للخارجية والمحامي [محمد علي محمود]  وزيراً للمالية، واستصدر إرادة ملكية بتعيينهم في نفس اليوم المصادف 29 كانون الثاني 1941.

حاول الكيلاني أن يوطد مركز حكومته باللجوء إلى حل البرلمان وأجراء انتخابات جديدة، وتوجه إلى عبد الإله طالباً منه التوقيع على الإرادة الملكية بحله. (24)
 لكن الوصي طلب إمهاله حتى المساء لدراسة الأمر، وغادر الكيلاني البلاط على أمل أن يوقع على حل البرلمان، لكنه بدلاً من ذلك  غادر الوصي  بغداد سراً بعد خروج الكيلاني، وتوجه إلى الديوانية، حيث حاول استعداء قائد الفرقة الرابعة اللواء الركن [إبراهيم الراوي] على حكومة الكيلاني.

 كما اتصل من هناك بقائد الفرقة الثانية في كركوك [ قاسم مقصود] لنفس الغرض، بالإضافة إلى مجموعة من السياسيين والوزراء السابقين، وعدد من متصرفي الألوية الذين طلب منهم الوصي عدم إطاعة أوامر الكيلاني والعمل على إسقاط حكومته.
 كما فرَّ نوري السعيد إلى المحمودية، واختفى في مزرعة شقيق قرينته هادي العسكري جرياً على عادته أن يفعل ذلك عند حدوث أي أزمة يشم منها رائحة الخطر. (25)

كاد الأمر أن يؤدي إلى حرب أهلية طرفاها الجيش لولا موقف القائدين الراوي ومقصود المتعقل، حيث أبلغا الوصي أنهما لا يودان زج الجيش في المشاكل السياسية، وأنهما كعسكريين يتلقيان الأوامر من رئيس أركان الجيش.
 أما الكيلاني فقد دعا مجلس الوزراء إلى عقد اجتماع عاجل لبحث الأزمة بعد هروب الوصي، وقد حضر الاجتماع قادة الجيش، وأمين الحسيني، ويونس السبعاوي، ومحمد أمين زكي، وتقرر في الاجتماع مواجهة الوزارة لمجلس النواب، وانتزاع الثقة بالوزارة منه، وقد دعا الحاضرون إلى صمود الوزارة بوجه محاولات الوصي، والسفير البريطاني لإسقاطها. وفي أثناء الاجتماع حضر كل من الشيخ [محمد الصدر] و[طه الهاشمي] وطلبا من الكيلاني معالجة الأمور قبل استفحالها، والحيلولة دون وزج الجيش في حرب أهلية، وتمكنا من إقناع الكيلاني لتقديم استقالة حكومته. (26)
 وبالفعل قدم الكيلاني استقالته في 31 كانون الثاني 1941 في برقية بعث بها إلى الوصي في الديوانية .
بادر الوصي فور استلام البرقية إلى قبول الاستقالة، ودعا عدد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، ورئيس مجلس الأعيان للبحث في تشكيل وزارة جديدة.
 وفي بغداد،عقد المدعوين للاجتماع بالوصي اجتماعاً فيما بينهم وتباحثوا في الأمر، وقد استقر رأيهم على أن يذهب كل من الشيخ [محمد الصدر] و[صادق البصام] إلى الديوانية لمقابلة الوصي والوقوف على ما يريد. وبالفعل استقل الاثنان طائرة عسكرية نقلتهم إلى الديوانية، وتباحثا مع الوصي في سبل حل الأزمة، ثم اختلى الشيخ الصدر بالوصي، وأجرى معه نقاشاً حول خطورة الأزمة، وقد أقترح الشيخ محمد الصدر على الوصي  تكليف [ طه الهاشمي ] بتأليف الوزارة الجديدة إذا ما أراد الخروج من الأزمة، وتجنب وقوع الحرب الأهلية. (27)



239
من ذاكرة التاريخ

الحرب العالمية الثانية وتأثيرها على العراق
الحلقة الأولى
حامد الحمداني                                                      22/9/2011

أولاً: صعود النازية الفاشية إلى سدة الحكم:
كان اندحار ألمانيا في الحرب العالمية الأولى عام 1918، وتجريدها من كل نفوذ لها في العالم، بموجب معاهدة [ فرساي ] الموقعة بين الحلفاء وألمانيا في نهاية الحرب، وسيطرة بريطانيا وفرنسا على الأسواق العالمية، سبباً رئيسياً لمحاولة الرأسماليين الألمان إعادة تقسيم النفوذ والأسواق العالمية من جديد، وتحطيم تلك المعاهدة .

ومن أجل تحقيق هذا الهدف لجأ الرأسماليون الألمان إلى سحق الديمقراطية، والإتيان بحكومة فاشية، وعلى رأسها زعيم الحزب النازي [أدولف هتلر] العريف السابق في الجيش الألماني، والمعروف بعدائه الشديد للديمقراطية.

كان في مقدمة أهداف حكومة هتلر تصفية جميع الأحزاب السياسية في البلاد بدءاً بالحزب الشيوعي، مروراً بالحزب الاشتراكي، وانتهاءً بالحزب الديمقراطي المسيحي.

 ومن أجل تحقيق هذا الهدف أوعز إلى رجاله بحرق [الريشستاخ] أي البرلمان، واتهم الشيوعيين الذين كانوا يمثلون قوة رئيسية في البرلمان وعلى الساحة السياسية الألمانية  بحرقه، لكي يجد الذريعة لتوجيه الضربة القاضية للحزب الشيوعي مستخدماً أبشع الأساليب النازية وحشية.

 ثم التفت هتلر إلى الأحزاب الأخرى، وفي المقدمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، تلك الأحزاب التي  ضنت أنها في منأى من بطش هتلر، ورفضت التعاون مع الحزب الشيوعي في الانتخابات، ومهدت الطريق لصعود الحزب النازي إلى السلطة، وأنزل بها هتلر ضرباته ومزقها، تماماً كما فعل بالشيوعيين. وبذلك تسنى لهتلر تصفية أي معارضة لسلطته، وأصبح طليق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات المتعلقة بمستقبل البلاد، بل العالم أجمع.
كانت الخطوة التالية لهتلر هي [التسلح]، حيث أقدم على تمزيق معاهدة [فرساي] وضربها عرض الحائط، وسخر كل إمكانيات البلاد الاقتصادية والصناعية للتسلح وإنشاء جيش ضخم وقوي، لكي يستطيع بواسطته فرض تقسيم جديد للعالم، ومناطق النفوذ.

ورغم تحذير الاتحاد السوفيتي للغرب آنذاك من مغبة السماح لهتلر بتهديد السلام في العالم، وضرورة إيقافه عند حده، إلا أن الحكام الغربيين لم يعيروا أي اهتمام إلى تلك التحذيرات.

بدأ هتلر منذ عام 1938 ينفذ خططه للتوسع، حيث أقدم على احتلال [النمسا] و[جيكوسلفاكيا] وأعلن ضمهما إلى المانيا دون أن يلقى أي ردع من جانب الدول الغربية.

وهكذا أخذت شهية هتلر تتصاعد لضم المزيد من الأراضي، فطالب بضم مقاطعة [ دانزج ]البولندية إلى المانيا، مدعياً أنها مقاطعة ألمانية، ولما لم ترضخ حكومة بولندا إلى ضغوطه، أقدم هتلر على مهاجمة بولندا عام 1939 ، حيث دفع  بـ 36 فرقة من خيرة قواته العسكرية، مع أكثر من ألفي طائرة حربية، واستطاع ابتلاعها خلال أسبوع، بعد أن دمر عاصمتها وارشو تدميراً شبه كامل، وأباد مئات الألوف من سكانها.

ثانياً:اندلاع الحرب العالمية الثانية
 بعد أن تم لدكتاتور ألمانيا هتلر احتلال النمسا وجيكوسلفاكيا، وضمهما للريخ الألماني، ومهاجمة واحتلال بولندا، أدرك حكام بريطانيا وفرنسا أن أطماع هتلر لن تقف عند حد، وأن الخطر الألماني سوف يصل إليهما عاجلاً أم عاجلاً، وهكذا سارعا إلى إعلان الحرب على المانيا في 3 أيلول 1939، وبذلك اشتعل لهيب الحرب العالمية الثانية ليشمل أوربا بأسرها، حيث توسعت بدخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا، ودخول اليابان الحرب كذلك، بعد إقدامها على قصف ميناء [ بيرل هاربر] الأمريكي على حين غرة، والذي دفع الولايات المتحدة إلى دخول الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا مكونين جبهة الحلفاء ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان.
 ثم ما لبث هتلر، وقد أغرته انتصاراته في الحرب في غرب أوربا،واحتلاله فرنسا، إلى مهاجمة الاتحاد السوفيتي، ودخول الاتحاد السوفيتي الحرب إلى جانب الحلفاء، وبذلك امتدت الحرب لتشمل العالم أجمع، ولم ينجُ من نارها وآلامها ومآسيها سوى تركيا وسويسرا والسويد، حيث بقيت هذه الدول على الحياد.

ثالثا: العراق والحرب العالمية الثانية:

لم تكد بريطانيا تعلن الحرب على المانيا، واشتعال لهيب الحرب في أنحاء أوربا، حتى بادر السفير البريطاني للاتصال بنوري السعيد على الفور، طالباً منه تطبيق معاهدة التحالف المبرمة بين البلدين في 30 حزيران 1930، وإعلان الحرب على  المانيا، وقد طمأن نوري السعيد السفير البريطاني، ووعده بقطع العلاقات مع ألمانيا، وإعلان الحرب عليها بأسرع وقت.

وعلى الفور أبلغ نوري السعيد الوصي عبد الإله برغبة بريطانيا بإعلان الحرب على المانيا، وتقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الإله، في 5 أيلول 1939، وطرح نوري السعيد أمام مجلس الوزراء الطلب البريطاني.

 لكن خلافاً حاداً حدث داخل مجلس الوزراء، فقد رفض وزير الدفاع  طه الهاشمي،  ووزير العدل محمود صبحي الدفتري فكرة إعلان الحرب على المانيا، والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، و أعلنا أنهما سيقدمان استقالتهما إذا ما أصرَّ نوري السعيد على إعلان الحرب.(1)

 وإزاء ذلك الموقف اضطر نوري السعيد للتراجع مؤقتاً والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية، وسارع بالطلب من السفير الألماني [الدكتور كروبا] بمغادرة البلاد تحت حراسة الشرطة نحو سوريا، كما قام نوري السعيد باعتقال كافة الرعايا الألمان، وسلمهم للقوات البريطانية المتواجدة في قاعدة الحبانية، ثم جرى تسفيرهم إلى الهند كأسرى حرب.

أما عبد الإله فقد سارع إلى إرسال برقية إلى الملك جورج ـ ملك بريطانيا ـ يبلغه أن العراق سوف يلتزم تماماً بمعاهدة الصداقة والتحالف المعقودة مع بريطانيا عام 1930، وسوف يقدم العراق كل ما تتطلبه المعاهدة.(2)

كما أذاع نوري السعيد بياناً للحكومة في 17 أيلول أعلن فيه التزام العراق بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعداد الحكومة للقيام بما تمليه تلك المعاهدة من واجبات تجاه الحليفة بريطانيا، وقد سبب موقف نوري السعيد وحكومته موجة من السخط العارم على تلك السياسة اللاوطنية، والتي تهدف إلى زج العراق في الحرب الإمبريالية.

ومن أجل إسكات وقمع المعارضة لزج العراق بتلك الحرب أقدم نوري السعيد على تعطيل مجلس النواب، الذي كانت وزارته قد أجرت انتخابه  قبل مدة وجيزة، ولجأ إلى إصدار المراسيم المخالفة للدستور، والهادفة إلى قمع كل معارضة لسياسته الموالية لبريطانيا، وكان من بين تلك المراسيم مرسوم مراقبة النشر رقم 54 لسنة 1939، ومرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1939، منتهكاً بذلك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للشعب، وفي مقدمتها حرية الصحافة. (3)

وتطبيقاً لمعاهدة 1930، فتح نوري السعيد الباب على مصراعيه للقوات البريطانية لكي تحتل العراق من جديد، كما سنرى، ليصبح العراق طرفاً في حرب استعمارية لا ناقة له فيها ولا جمل، كما يقول المثل.

وهكذا اتسعت ساحة الحرب العالمية الثانية، بعد أن أمتد لهيبها ليشمل أوربا وأسيا، وأفريقيا، ولم تترك بلداً إلا وكان لها تأثيراً كبيراً عليه، سواء كان عسكرياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً، وكان العراق غارقاً في خِضمْ تلك الحرب بعد أن احتلته القوات البريطانية احتلالاً كاملاً لمنع القوات الألمانية من الوصول إليه، حيث يمتلك العراق مصادر الطاقة [النفط] التي كانت ألمانيا بأمس الحاجة لها لإدامة ماكنتها الحربية.

لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين من تلك الحرب، حيث أفتقد المواد الغذائية، والملابس، وغيرها من الحاجات المادية الضرورية الأخرى، وأصبحت تلبية تلك الحاجات أمر صعب للغاية، واضطرت الحكومة إلى تطبيق نظام الحصص [الكوبونات] لكي تحصل العوائل على حاجتها من المواد الغذائية والأقمشة لصنع الملابس واشتهرت تلك الأيام بـ [أيام الخبز الأسود] بسبب النقصان الخطير في الحبوب،  ورداءة نوعية الطحين، وخلطه بمواد غريبة، هذا بالإضافة إلى صعوبة الحصول عليه، حيث كانت تمتد صفوفاً من الطوابير أمام المخابز كل يوم.

 كما أن حكومة نوري السعيد كانت قد سخرت طرق المواصلات كافة، وموارد البلاد لخدمة الإمبريالية البريطانية وحربها، مما أثار غضب الشعب العراقي وحقده على الإنكليز، وحكومة نوري السعيد ،والأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق.


240
هكذا تم تشريع الدستور على مقاس الحلف الشيعي الكردي
حامد الحمداني                                             
31/8/2011   

لم يكن الشعب العراقي مهيئاً للإنتخابات، بعد سقوط نظام الطاغية صدام وهو الذي حُرم من الديمقراطية طيلة عقود عديدة، حيث سيادة الحزب الفاشي الواحد، والقائد الدكتاتور الواحد، والعنف الذي لا مثيل له الذي استخدمه في قمع حقوق وحريات الشعب، وفرض الطاعة العمياء لسلطته الغاشمة عليه.
كان ينبغي التريث في إجراء الانتخابات، وتشريع الدستور الدائم لفترة انتقالية تمتد إلى ثلاث سنوات على الأقل ريثما يتم إعادة الأوضاع الطبيعية في البلاد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية التي جرى تهديمها من قبل المحتلين الأمريكيين، لكي تتهيأ الأجواء لمرحلة الانتخابات، وتشريع الدستور الدائم للبلاد.
لكن أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والأحزاب القومية الكردية أصرت على الاستعجال بإجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي، وتشريع الدستور الجديد، على الرغم من مقاطعة الطائفة السنية التي تشكل الأغلبية الساحقة في محافظات نينوى، والأنبار، وصلاح الدين، وديالى، وجانب كبير من محافظة كركوك.
وهكذا جاءت الانتخابات على أساس طائفي من جهة، وقومي من جهة أخرى، واستغلت الأحزاب الطائفية الشيعية معانات الطائفة على أيدي عصابات صدام حسين وأجهزته القمعية، من جهة وتأثيراتها الطائفية والدينية من جهة أخرى، لكي تضمن أصوات الطائفة الشيعية، فيما صوت أبناء القومية الكردية لقوميتهم بعد كل الذي أصابهم من نظام طاغية العصر صدام وحزبه الفاشي، ولم يكن لبرامج الأحزاب السياسية وخططها المستقبلية أي دور في نتائج الانتخابات التي جاءت بمجلس يكرس الطائفية، والعرقية، ويخلق استقطابا خطيراً يهدد بصراع طائفي والعرقي.
ومما زاد في الطين بله أن جرى على عجل تشريع دستور دائم على أيدي نفس القوى الطائفية والقومية، فجاء الدستور طائفي المحتوى رجعي التوجه من خلال فرض العديد من المواد والبنود المتعلقة بالشريعة.
وتبعاً لنتائج تلك الانتخابات تشكلت حكومة طائفية لا يمكن أن تلبي طموحات الشعب العراقي في الديمقراطية الحقيقية، وتأمين حقوق الإنسان وحرياته الشخصية والعامة، بل لقد تمادت الأحزاب الطائفية وميلشياتها في الإعتداء على الحريات الشخصية والدينية للمواطنين من خلال عمليات القتل والتهجير للأخوة المسيحيين والصابئة، ومن خلال فرض نمط الحياة المتخلف على المرأة العراقية بفرض الحجاب عليها، وقد تعرضت المرأة التي خالفت هذا الفرض للقتل والخطف والإرهاب، وتحولت مدارس العراق إلى حسينيات وجوامع لتعميق التخلف في المجتمع العراقي، واتخذ الإرهابيون من الجوامع والحسينيات قواعد ومراكز لهم، ومخازن للأسلحة التي تستخدمها في تنفيذ جرائم ميليشياتهم بحق المواطنين، وكل ذلك جرى باسم الدين، والدين برئ من أفعال هذه العصابات المتخلفة وقياداتها التي تسلطت على شعب العراق بقوة السلاح، فلم يعد المواطن يأتمن على حياته حتى وهو في بيته، وأعادت هذه العصابات شعب العراق القهقرى عشرات السنين.

كان الشعب العراقي ينتابه القلق حول طبيعة الدستور الذي سيجري تشريعه من قبل اللجنة المشكلة لهذه المهمة، والتي هي بطبيعة الحال شكلت من عناصر أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، والأحزاب القومية الكردية، وكانت شكوك المواطنين تدور حول الأمور الهامة التالية:
1 ـ توجهات تحالف القوى المتحالفة في الانتخابات؟
2 ـ طبيعة التحالفات التي انبثقت عنها تشكيل الحكومة الجديدة، واختيار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء  ومجلس الوزراء؟
3ـ موقف القوى المتحالفة من مسألة صياغة الدستور؟
4 ـ العلاقة المستقبلية  بين الدين والدولة؟
5 ـ  الموقف من المرأة التي تمثل نصف المجتمع؟
6 ـ الموقف من قضية الفيدرالية، وأية فيدرالية تريد الأحزاب الكردية.
7ـ الموقف من قوى الفاشية والظلام التي تمارس الأعمال الإرهابية في البلاد؟
8 ـ هل سيشهد العراق وحدة وطنية، أم سيدخل في صرا عات طائفية جديدة؟
9 ـ  هل يمكن إعادة بناء العراق الجديد دون قيام حكومة وحدة وطنية ؟

أسئلة كثيرة وهامة كانت تتطلب الإجابة عليها بكل صراحة وشفافية لكي يحكم الشعب العراقي على السلطة الجديدة، ولكي يطمئن على مستقبله ومستقبل الوطن.
كان المطلوب من السلطة الجديدة التي ستتولى تشريع الدستور الدائم للبلاد الإفصاح عن برنامجها السياسي، ومشاريعها المستقبلية فيما يخص الدستور الذي تطمح إلى تشريعه بكل شفافية، ودون أي لبس أو غموض، والحذر من محاولة فرض دستور لا يلبي حاجات المجتمع العراقي في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ذلك أن أية محاولة لفرض دستور إسلامي سوف لن يكون إلا مدخلاً لصراعات خطيرة لا مصلحة للشعب فيها، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي، وتقدم خدمة للقوى المعادية للشعب.
كان الشعب يتطلع إلى أن تسود الحكمة لدى القوى المتحالفة في الانتخابات لكي تحافظ على الوحدة الوطنية، والسير بالعراق نحو الديمقراطية الحقيقية، وتجنيب الشعب أية صراعات جديدة، والحرص على مشاركة كافة القوى الوطنية في السلطة، وفي صياغة الدستور بما يلبي طموحات الشعب التواق للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وكان على السلطة الجديدة الحذر من ربط الدين بالدولة، واستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية وحزبية، وليكن شعار الجميع الدين لله، والوطن للجميع .
كما أن السلطة كانت مدعوة للإفصاح عن موقفها من المرأة التي تمثل نصف المجتمع والتواقة للتمتع بكامل حقوقها وحرياتها على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات، حيث سيكون موقف السلطة من هذه المسألة هو المحك للحكم على ديمقراطية السلطة المنشودة.
وكان على السلطة أن تعالج موضوع الفيدرالية للشعب الكردي بما يضمن حقوقه القومية، وعدم تعرضه مستقبلاً لمثل تلك الحملات الفاشية التي تعرض لها خلال العقود الماضية، مع ضمان وحدة الوطن العراقي أرضاً وشعباً، في ظل الإخاء الوطني، واحترام خصوصية الشعب الكردي.
وكانت السلطة مدعوة كذلك إلى الإسراع في محاكمة أركان النظام الصدامي، والعناصر التي تلطخت أيديها بدماء أبناء الشعب البررة دون تلكأ أو تردد،  فلا بد أن يأخذ كل ذي حق حقه بموجب القانون، والعمل على استئصال الفكر البعثي الفاشي، وليس البعثيين من المجتمع العراقي، وتربية أبنائنا منذ الطفولة على القيم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، ونبذ الفكر الفاشي العدواني.

كان ما يثير المخاوف والقلق الشديد لدى أبناء الشعب ما كان يدور وراء الكواليس بين أعضاء لجنة كتابة الدستور المؤلفة أغلبيتها من أحزاب الإسلام السياسي الشيعية الطائفية، بالإضافة إلى ممثلي القائمة الكردية، من التوجهات التي بدأت تظهر للسطح حول مساعي الأحزاب الدينية لفرض نظام حكم قائم على أساس ديني وطائفي، ومحاولة تفتيت العراق، وتحويله إلى دول الطوائف الذي أوصل الشعب إلى حالة من اليأس القصوى، والقلق الشديد على مستقبله ومصيره، وهو يعيش حالة من التدهور الشديد في كافة مجالات الحياة، فلا أمان، ولا كهرباء، ولا وقود، ولا ماء صالح  للشرب، ولا صرف صحي، ولا خدمات صحية حقيقية، ولا سكن، وملايين العاطلين تعاني شظف العيش والبؤس، والمخدرات فُتحت أمامها أبواب العراق، وتجارة الرقيق الأبيض تزدهر يوماً بعد يوم، ولم تبقَ مختصة بالمرأة اليوم، بل بدأت تنافسها تجارة الأطفال التي أصبحت منظمة تتولاها عصابات متخصصة، وفوق كل هذا وذاك نجد شرطة الأحزاب الطائفية تطلق النار على المواطنين المحتجين على أوضاعهم السيئة، وفقدان الخدمات الأساسية كما جرى في بغداد والسماوة والديوانية والبصرة، وغدا العراق نهباً للطامعين في الثروة الوطنية، وانتشار الفساد في كافة أجهزة الدولة وفي كل المستويات، فأي مستقبل كان ينتظر للعراق وشعبه إذا استمر الحال على ما هو عليه؟

لقد كانت مخاوف الشعب وقلقه على مصيره أمراً واقعاً ومشروعاً بعد كل الذي جرى على الساحة العراقية حيث سلبت ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي بشقيها الشيعي والسني كل الحقوق والحريات العامة والشخصية للمواطنين، وتدخلها الفض في حياتهم وخصوصياتهم صغيرها وكبيرها، وكان انتهاك حقوق وحرية المرأة قد أصابها في الصميم، فقد فرض عليها الحجاب بقوة السلاح والتهديد بالقتل سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو صابئية، ودفع المئات منهن حياتهن على أيدي القتلة المجرمين من أدعياء الدين، وعاد المجتمع العراقي القهقرى عشرات السنين، وجرى تهجير مئات الألوف من المواطنين المسيحيين والصابئة من العراق هرباً من طغيان قوى الظلام والفاشية الدينية الجديدة.
 وفي ظل تلك الظروف الخطيرة، وسيادة قوى الظلام السوداء على الشارع العراقي بقوة السلاح جرى إعداد الدستور الذي حمل معه بذور الصراع والعنف، وتمزيق النسيج الاجتماعي.
 وعلى الرغم من أن قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الذي وضعه المحتلون الأمريكيون كان العمود الفقري للدستور الجديد، فقد استطاعت قوى الأحزاب السياسية الشيعية فرض ديباجة ذات مضمون طائفي صريح، والعديد من المواد والفقرات التي أعطت للدستور بعداً طائفياً، ولاسيما وأن الطائفة السنية كانت قد قاطعت الانتخابات عن جهل وقصر نظر خطير، ولم تشترك في كتابة الدستور، في الوقت الذي كان ينبغي يمثل الدستور العقد الاجتماعي بين سائر أطياف ومكونات المجتمع العراقي، ولذلك كان للطائفة السنية التي تمثل الأغلبية الساحقة في محافظات الموصل، وصلاح الدين، والأنبار، وديالى، وجانب كبير من مواطني محافظة كركوك،  اعتراضات كثيرة عليه، مما عمق الأزمة السياسية المستحكمة، وصعد من التدهور الأمني في البلاد بشكل خطير.

كما استطاعت الأحزاب القومية الكردية إدخال العديد من المواد والفقرات التي تتناقض مع المادة 13 من الدستور، وسأتعرض لها عند مناقشة بنود الدستور، والتناقضات التي ضمتها مواده، وما يشكله هذا التناقض من مخاطر جسيمة على مستقبل العراق.

لقد أصرت أحزاب الطائفة السنية على عدم الانخراط في العملية السياسية والمشاركة في الانتخابات القادمة إذا لم يجرِ إعادة النظر في العديد من مواد الدستور، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الفيدرالية، وقضية الثروة الوطنية، وفي المقدمة منها النفط والغاز، وكذلك طبيعة السلطة التي تؤمن التوازن المطلوب بين مكونات المجتمع العراقي.

وقد استطاعت الإدارة الأمريكية إقناع أحزاب الطائفة السنية بالانخراط بالعملية السياسية بعد أن وعدتها بإعادة النظر في المواد المختلف عليها، وعلى وجه الخصوص فيما يخص مبدأ الفيدرالية وتقاسم الثروة، وما يزال البرلمان يراوح مكانه دون أن نشهد هذا التعديل الذي بدونه لن يشهد العراق سلاماً ولا استقراراً.

نظرة في الدستور الدائم
1 ـ الديباجة:
ومن خلال هذه الديباجة يتبين لنا النفس الديني والطائفي للدستور، ويثير الخلافات الطائفية والصراع، مما لا ضرورة له، ولا بد من إعادة النظر فيه ليأتي بتأكيد على علمانية الدستور، وفصل الدين عن الدولة.   
2 ـ المادة الثانية:أولا:الإسلام دين الدولة الرسمي،وهو مصدر أساس للتشريع:                                                       .                       
أـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.               .                             
ب ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.                 .                     
ج لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
وفي هذه المادة نجد التناقض الصارخ بين الفقرات أ ، ب، وج ، فكيف ومن يحدد الثوابت الإسلامية؟ أنها مجرد أفخاخ أريد بها لصبغ الدستور بالصبغة الدينية، مما سيؤدي إلى الصراع والنزاع، ولاسيما وأن مكونات الشعب العراقي تضم المسلمين والمسيحيين والصابئة والأيزيدية. وهي تتطلب إعادة النظر بها من جديد.                                 
3 ـ المادة 115 والمادة 121 وتناقضها مع المادة 13
4 المادة (7):
أولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون. 
وهذه المادة تتطلب إجراء التعديل عليها بما يتفق مع تعديل قانون اجتثاث البعث                                                                                                 
والتأكيد على مكافحة الفكر البعثي  الفاشي.
ثم أن هذه المادة تظهر لنا أن ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي قد انتهكت المادة المذكورة بممارسة الإرهاب والتكفير والطائفية بأبشع صورها وأشكالها.
5 ـ المادة (9):                                                            .                                                   
أولاً: أ ـ تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، تراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق ولا تكون أداة في قمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة.                              .
ب ـ يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة.
وهنا تبدو الأحزاب الإسلامية والقومية الكردية قد خالفت مخالفة صريحة نص الفقرة ب وكونت لها ميلشياتها الخاصة في تحدي صريح للدستور.
6 ـ المادة (10):العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيه.
لماذا جرى زج هذه المادة في الدستور، فكل العتبات والحسينيات والجوامع والكنائس ينبغي أن تكون لها حرمتها، وحق ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز.   
7 ـ  المادة (12):                                                       .                                                               
أولاًـ ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي.
وفيما يخص هذه المادة فبرغم مرور 8 سنوات على سقوط نظام صدام فإن الأحزاب الطائفية الدينية بشقيها الشيعي والسني ترفض تنفيذ هذه المادة، وتصر على الاحتواء العلم لعبارات دينية.
8 ـ  المادة 13:                                                          .
1- عدم جواز تشريع أي قانون يتعارض مع هذا الدستور سواء كان هذا التشريع مركزيا (اتحاديا) أو محليا (إقليميا). ويحكم القضاء المختص بعدم دستورية التشريع الذي يخالف هذه القاعدة.                                     .                                                               
2- تكون قواعد هذا الدستور ملزمة في جميع أنحاء الوطن وبدون استثناء.         .                  .
3- يعد باطلا كل دستور إقليمي أو أي نص قانوني أخر إذا تعارض مع أحكام الدستور العراقي.
 وهنا تأكيد صريح على أن أي تشريع في إقليم أو محافظة يتعارض مع هذا الدستور يعتبر باطلاً وغير دستوري، لكننا نجد أن المادتين، وهذه المادة الأساسية في الدستور تتعارض تمام المعارضة مع نص المادتين 115 ، و121 التي جعلت من هاتين المادتين فوق المادة 13 الأساسية، ويشير هنا بهذا الصدد أستاذ القانون الدكتور عيسى الزهيري إلى هذا التناقض قائلا:
أن المواد (115) و (121) من الدستور العراقي الجديد تشكلان خطورة بالغة على مستقبل النظام الدستوري العراقي بسبب استبعادهما للمبادئ الدستورية المتعارف عليها، ولتغليبهما المصلحة المحلية للأقاليم والمحافظات على المصلحة الوطنية العامة عند تعارضهما أو تناقضهما.

 لذلك وجب تعديلهما بما يتطابق مع هذه المبادئ  كما يجب إعادة النظر في مشروع قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الذي اعتبر مجلس المحافظة سلطة تشريعية بخلاف ما هو معروف في النظام الإداري اللا مركزي الذي يعتبر مثل هذا المجلس مجرد سلطة تنظيمية لا يمتد اختصاصه إلى التشريع.                       
  9ـ المادة (36):                                            .
تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:                                     .
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.                 .
ثانيا: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.       
ثالثاً:حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون. 
وهنا نجد في العبارة [تكفل الدولة، وبما لا يخل بالنظام العام والآداب] إمكانية الاختلاف في تأويل هذه العبارة، وما هي الأمور التي تخل بالنظام العام والآداب؟ ولاسيما أن ما حصل ويحصل في العراق اليوم من تجاوز على حريات المواطنين الشخصية باسم مخالفة الآداب العامة، وفرض الحجاب على المرأة، وفرض إطالة اللحية، وطريقة حلاقة الرأس، ومنع صالونات الحلاقة وقتل أصحابها، وكل هذه الاعتداءات جرت باسم حماية الآداب العامة. لذلك فإن إلغاء هذه الفقرة أمر ضروري، وهناك قوانين عقابية تحاسب على ذلك بموجبها.                         
10ـ  المادة (41):                                     .
أولاً: أتباع كل دين أو مذهب أحرار في:                                .
 أ ـ ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية.                  .
ب ـ إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون.
ثانياً: تكفل الدولة حرية العبادة وحماية أماكنها.   
وهنا نجد التمييز بالنسبة للشعائر الدينية المتعلقة بالطائفة الشيعية، فهل ضرب الزناجيل والسيوف وإسالة الدماء هي من الشعائر الدينية ؟ أن الشهيد الحسين أسمى وأعظم من أن يرتضي تلك المشاهد المؤلمة التي نقلتها القنوات التلفزيونية إلى مختلف دول العالم، وأن تمجيد مآثر الحسين والإقتداء به هي السبيل الأمثل لذلك.
11 ـ المادة (109):                                   .
النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات.
وهذه مادة صريحة تتعارض مع الإجراءات التي اتخذتها حكومة إقليم كردستان العراق بعقد العديد من العقود مع شركات أجنبية لاستثمار النفط والغاز في منطقة كردستان، وإصرارها على ذلك رغم تحذير وزير النفط العراقي من كون هذه الإجراءات غير دستورية، بل تجاوزت الحكومة ذلك بالرد على وزير النفط قائلة في كل مرة تعترضون على العقود سنوقع عقدين جديدين، وهذا يشكل انتهاك صارخ للدستور. 
المادة (110):                                         .
أولا: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون.                 
 
ثانيا: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.
في هذه المادة استغلت حكومة إقليم كردستان بتفسير الفقرة ثانياً لصالح إجراءاتها في توقيع العقود مع العديد من الشركات خلافا للمادة 109 الصريحة، ولا بد من إعادة النظر في الفقرة الثانية لإزالة  هذه الثغرة في الدستور، وحصر مسألة رسم السياسات النفطية بالحكومة الاتحادية.

12 ـ   المادة (112):                                                         .
كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية تكون من صلاحيات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحية الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية لقانون الإقليم في حالة الخلاف بينهما.
وهنا تبدو الأمور معكوسة تماماً مما يشكل مخالفة صريحة للدستور، فهذه المادة تشبه ذلك الذي يقف على رأسه وليس على أقدامه، وتتطلب تعديل هذه المادة بقلبها على الوجه الصحيح.     

وأخير جاءت المادة 140 من الدستور حول ما سمي بالمناطق المتنازع عليها، والتي تضم محافظة كركوك ونصف محافظة الموصل، وديالى، والتي باتت كبرميل بارود يمكن أن ينفجر في أية لحظة ليشعل حرباً قومية بعد تلك الحرب الطائفية التي شهدتها البلاد عامي 2006و2007 على أيدي القوى الطائفية بشقيها الشيعي والسني، وما برحت التهديدات من جانب القيادات الكردية تتولى بين آونة وأخرى لإشعال فتيل الحرب.                                                                       
وأخيراً أستطيع القول أن الدستور الجديد جاء مفصلاً على مقاس أحزاب التحالف الكردي بامتياز، ومن هنا يتبين لنا السبب في إصرار الأحزاب الكردية على التمسك بالدستور بصيغته الحالية، وتعارض إجراء أي تغير عليه، وكأنه قرآن مقدس منزل من السماء، في حيت تجري التعديلات ، بل وتبدل الدساتير في مختلف بلدان العالم تبعاً لتطور الظروف، ومتطلبات حاجات المجتمع في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن إعادة النظر الجذرية في الدستور باتت ضرورية جداً من أجل تطمين سائر مكونات المجتمع العراقي إلى مستقبلها، والحفاظ على اللحمة الوطنية من التمزق ، وقطع دابر الصراع الذي لا يجني منه أي طرف كسباً، بل خسارة لسائر الإطراف الوطنية، ولا شك أن العراق بما يمتلكه من خيرات وفيرة وطاقات بشرية خلاقة قادر على أن يحقق لسائر أطياف الشعب الحياة المرفهة في ظل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، إذا ما تسنى له قيادة حكيمة، نظيفة اليد، مؤمنة بعراقيتها، وتضعها فوق كل الاعتبارات الدينية والقومية والطائفية، وتحت شعار العراق فوق الجميع. 


241
تحالف الأحزاب الطائفية الشيعية والقومية الكردية

حامد الحمداني                                                   
 29/8/2011

خرج الشعب العراقي بعد سقوط نظام صدام وحزبه الفاشي الذي استمر قرابة الأربعة عقود في حالة من التخلف الشديد في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية جراء حروب النظام الإجرامية، والحصار الإجرامي الذي فرضه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب على الشعب العراقي دون صدام، والذي مثّلَ بحق أبشع أنواع الحروب وأقساها [حرب تجويع شعب كامل]حيث تلاشت الطبقة الوسطى وبات معظم الشعب العراقي تحت خط الفقر، وانهار الدينار العراقي [حيث كان الدينار قبل حروب صدام يعادل ثلاثة وثلث دولار وبات يساوي الدولار الواحد 3000 دينار، أي هبط سعره تجاه الدولار 10000مرة] فلم يكن أمام الشعب العراقي من وسيلة للخلاص من تلك المحنة القاسية غير اللجوء التدين لعل الله ينقذهم من جور نظام صدام.
 وجاءت حملة الدكتاتور صدام الإيمانية المزعومة، وحربه الشعواء على القوى والعناصر الديمقراطية وتصفيتها، لتزيد تخلف المجتمع العراقي، وتهيئ الأجواء لأحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني للهيمنة على إرادة المجتمع العراقي مستغلة تلك الظروف، للاستئثار بالساحة السياسية وملئ الفراغ الذي تركه النظام المدحور.
وعلى جانب الطرف الكردي فقد كان حزبي البارزاني والطالباني قد هيمنا على السلطة في منطقة كردستان العراق بدعم من الولايات المتحدة أن وضعت بالتعاون مع بريطانيا تحت الحماية الجوية لمنطقة كردستان في ما سمي آنذاك بـ [بروفايد زون] بعد اندحار قوات صدام في حرب الخليج الثانية عام 1991 .
ونتيجة للتعاون الوثيق بين قوى أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وحزبي البارزاني والطالباني القومية الكردية، استطاعت هذه القوى إقناع الولايات المتحدة بإجراء انتخابات عاجلة في البلاد، وسن دستور للبلاد، على الرغم من عدم تهيئ الظروف المناسبة للشعب العراقي لها، بعد أن وجدت هذه القوى أن الفرصة سانحة لها لاكتساح مقاعد البرلمان، والاستئثار بعملية سن الدستور، ولاسيما بعد أن قاطعت الطائفة السنية تلك الانتخابات التي أفرزت المجلس التأسيسي. وكان ذلك الموقف من جانبها خاطئا جداً في واقع الحال.
وجاءت انتخابات المجلس التأسيسي فوزاً كاسحاً لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي، وفوز حزبي البارزاني والطالباني بكافة مقاعد المنطقة الكردية، فقد حازت قائمة الائتلاف على ما يقارب نصف مقاعد البرلمان، وفوز الأحزاب الكردية بواحد وسبعين مقعداً.
وعلى الفور بادر الطرفان لإجراء مفاوضات بين القيادتين من أجل تشكيل تحالف يضمن لهما أغلبية الثلثين في البرلمان، مما يجعل أيديهما طليقة في تقرير مصير البلاد من خلال تقاسم السلطة بينهما، وتشكيل الوزارة، وتشريع وإقرار الدستور الدائم.
 فقد وجدت قيادة الحزبين الكرديين أن مصلحتهما تكمن في إقامة تحالف مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي متخلين عن حلفائهم التقليديين، ومتجاهلين كونهما حزبين ديمقراطيين كما يشير ميثاق الحزبين، بل وحتى تبنيهما الماركسية يوم تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني، وكان الطالباني عضواً في مكتبه السياسي، على عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.
وقد وجد زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الراحل عبد العزيز الحكيم أن هناك قاسماً مشتركاً مع قادة الحزبين الكرديين يتمثل بإقامة كيانات  فيدرالية بموجب ما نصت عليه المادة 58 من قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الذي فرضه بريمر، والتي تستهدف في واقع الحال تمزيق الكيان العراقي وبنيته الاجتماعية، مما قد يدفع الشعب العراقي إلى الصراعات الطائفية والعرقية، وبالتالي الحرب الأهلية بين سائر مكوناته الإثنية والطائفية.
 دخل الطرفان في مباحثات واسعة ومعمقة لم تترك صغيرة ولا كبيرة في سائر شؤون الحكم، وتقاسم السلطة والوزارات السيادية، وصياغة الدستور، ومسألة الفيدرالية، والميليشيات المسلحة للطرفين، ونسب توزيع ميزانية الدولة، واستطاع الجانب الكردي الذي مثل بيضة القبان في البرلمان فرض شروطه على قادة أحزاب الائتلاف الشيعي، والتي تضمنها الاتفاق الذي جرى عقده بين الطرفين، والذي وجدت من الضروري أن يطلع عليه القراء كي يقفوا على كل ما تضمنه الاتفاق. والتعليق الذي سيتناول كافة جوانب الاتفاق، والتأثير الذي سيتركه على مستقبل العملية السياسية في العراق، وبالتالي مستقبل العراق نفسه وطناً وشعباً، وهذا هو نص الاتفاق الموقع بين الطرفين. 
نص اتفاق الائتلاف العراقي الموحد والقائمة الكردية:       .                 بسم الله الرحمن الرحيم:                                            .
الأسس والمبادئ المتفق عليها بين الائتلاف العراقي الموحدة، والتحالف الوطني الكردستاني لعمل الحكومة الانتقالية:
                .
 أفرزت الانتخابات العامة حالة جديدة في الساحة السياسية العراقية ما يستوجب شحذ الهمم، وتكاتف القوى الوطنية والإسلامية الأساسية العامة، وخصوصا الفائزة منها للعمل المشترك ووضع آلية وبرنامج عمل الحكومة الوطنية لتعكس المهمات الكبيرة لاستحقاقات المرحلة القادمة، وبذل كل الجهود من أجل تنفيذ هذا البرنامج لإنجاح العملية السياسية، ولبناء العراق الدستوري الديمقراطي الاتحادي التعددي الموحد، الذي يشعر فيه المواطن بكامل المواطنة المتساوية في ممارسته لحقوقه الفردية والجماعية، لنجعل من العراق بلد الجميع من قوميات واديان ومذاهب، يراعي ويحترم فيه الإسلام العظيم السمح المتعايش بمبادئه الخالدة مع بقية الديانات والمعتقدات في العراق وأبنائها كالمسيحيين والصابئة و الأيزيديين وغيرهم .
 بلد تتحد فيه القوميتان الكبيرتان العربية والكردية اللتان تشكلان الثقل الأعظم للشعب العراقي دون عزل أو تمييز عن الدور الكبير الذي يحتله التركمان والكلدان والآشوريين وبقية المكونات بما يؤمن الحقوق الدينية والقومية لكل الأفراد ومكونات الشعب العراقي، بلد تتآخى فيه الأغلبية الشيعية مع السنة بمكانتهم التاريخية ليعمل الجميع من أجل عراق موحد ديمقراطي اتحادي تعددي.                                                      .   
إن طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها الشعب العراقي نحو مرحلة دستورية مستقرة تتطلب تشييد البناء على أسس واضحة المعالم لجميع مكونات الشعب العراقي بأطيافه وتياراته السياسية، ولاسيما وان للكثير من أطراف الحركة الوطنية والإسلامية العراقية تحالفات سابقة فيما بينها لمناهضة النظام الدكتاتوري المقبور، وتعاون بناء في مختلف المجالات بعد سقوط ذلك النظام تكلل بالانتخابات الرائعة التي استطاع شعبنا أن ينتصر فيها، والتي تمخضت عن فوز كبير للقائمتين الكبيرتين الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، مما يوفر أرضية ممتازة للكتلتين بالتعاون إنشاء الله مع بقية الكتل واللوائح لاجتياز هذه المرحلة الحساسة سوية، وهذا شرف كبير يكتب لنا جميعا يسجله التاريخ، وتشيد به الأجيال القادمة لتعزيز الحالة الديمقراطية لبناء العراق على أساس العدالة والإنصاف والمشاركة. يتفق الطرفان على الأسس التالية لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية:                         .                                             
أولا:                                                           .
1 ـ الالتزام بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية واعتبار أن مهمة المرحلة الانتقالية هي إعداد الدستور الدائم، والسير قدما في قيام حكومة منتخبة وفق دستور دائم.   

2ـ  تشكيل حكومة وحدة وطنية، والأخذ بمبدأ المشاركة والتوافق، وتمثيل المكونات العراقية مع الأخذ بنظر الاعتبار النتائج الانتخابية والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، وتوسيع دائرة الاشتراك في العملية السياسية، والإجراءات لصياغة الدستور لكل المكونات والعناصر المقبولة والممثلة لأوساطها، والتي تنبذ الإرهاب والتخريب دون تهميش أوغبن. 
                                                           
3ـ العمل على صيانة سيادة العراق وتعزيز استقلاله ووحدته، والتعامل مع مسألة تواجد القوات المتعددة الجنسيات ضمن قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1546، والإسراع في خطط استكمال بناء القوات المسلحة العراقية لتستطيع أن تتسلم المهام الأمنية من القوات المتعددة الجنسيات عند استكمال المستلزمات عند الجانبين، وتأكيد منهج الاستمرارية والتعاون بين الطرفين بما يحقق الغايات المعلنة بانتهاء مهمة العراق. إن الإسراع في استكمال                                                                                                                 المستلزمات الذاتية وفق جدول زمني لتسليم القوات العراقية المهام الأمنية كاملة سوف يهيئ الظروف لتقليل دور القوات المتعدد الجنسيات تدريجيا وصولا إلى إنهاء مهامها.
             
4 ـ عدم قبول واقع الحرمان والمظلومية والعزل والتمييز واللامساواة والتأخر التي أصابت المناطق والمدن بسبب السياسات العنصرية والطائفية والاستبدادية للنظام السابق، خصوصا ما حصل في الجنوب وكردستان وحلبجة وبقية محافظات العراق، والبدء بتنشيط فكرة مجلس الإعمار خصوصا من أجل إعادة إعمار الجنوب، وتلك المناطق، وتشجيع السياحة الدينية وسياسات الاستثمار والخدمات العامة، كذلك إعطاء الأولوية للسياسات اللازمة في معالجة كل ذلك (المظلومين وضحايا الأنفال والحرب الكيماوية والانتفاضة الشعبانية والسجناء والمفصولين والمهجرين، وعوائل الشهداء والمناطق المحرومة ... الخ) . كل ذلك دون الإخلال بمبدأ عدم التمييز بين مناطق العراق إلا لتطبيق السياسات الايجابية، وتوفير نفس فرص التطور والخدمات لكل المناطق بدون استثناء، وكذلك الحفاظ على مبدأ الأهلية والكفاءة من جهة، ومبدأ فاعلية الأجهزة وضرورة استمرارها في تأدية واجباتها.
                                .
5 ـ  يجب الحرص على وحدة الحكومة وعملها، وتنسيق سياساتها، وتبني مجلس الوزراء لنظام داخلي ينظم عمله بما ينسجم والتوافق السياسي في اتخاذ القرارات الأساسية السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية.     .       
6 ـ الحكومة الانتقالية، وبغض النظر عن التحالفات داخلها، كل متحد، وعليه يجب الحرص على وحدتها، وانسجام عملها، وتناسق سياساتها .. وفي حالة حصول خلاف في داخل الحكومة بين الائتلاف الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، وعند استعصاء الخلاف بينها فانه لا يصار إلى حل التحالف والمطالبة باستقالة الحكومة إلا في الحالات المسوغة لحل التحالف والمنصوص عليها أدناه:                                               .
  أ ـ مخالفة مبدأ واحد أو أكثر من المبادئ العامة المتفق عليها لسياسة 
 الحكومة على نحو لا تسوغ هذه المخالفة ضرورة قاهرة تمليها ظروف داخلية أو إقليمية أو دولية يعترف بوجودها الطرف المنسحب.      .
 ب ـ إقالة عضو في موقع سيادي من موقع مجلس الوزراء أو سحب الثقة منه دونما سبب قانوني، وموافقة الطرف الذي ينتمي إليه هذا العضو 
 ت ـ اتخاذ أية إجراءات أو تدابير بواسطة الحكومة من شانها إلغاء أي مطلب من المطالب الممنوحة لأي طرف من طرفي التحالف بموجب الاتفاق المبرم بينهما.                                    .
 ث ـ وقبل استقالة الحكومة يتبع الطرفان الوسائل التالية المتدرجة لحل هذا لخلاف:                                                               .
 ـ  لقاء بين ممثلي الكتلتين داخل مجلس الوزراء.                     .
 ـ اجتماع ممثلي الطرفين من هيئة رئاسة الدولة ومجلس الوزراء وهيئة رئاسة الجمعية الوطنية.                               .
 ـ اجتماع بين رؤساء الأحزاب والقوى السياسية المنضوية داخل الكتلتين 
 في حالة عدم التوصل إلى حل، وأدى ذلك إلى انسحاب احد الطرفين من الحكومة تعتبر مستقيلة، ويجري التشاور لتشكيل حكومة إنتقالية جديدة خلال فترة أقصاها شهر واحد مع مراعاة أن لا تترك البلاد تحت فراغ دستوري أو أمني أو إداري لحين تشكيل الحكومة الجديدة تقوم الحكومة المستقيلة بتصريف الأمور.

 7 ـ إعادة الهيبة لعمل القضاء، وإرساء دولة القانون، وإتباع الأصول الإدارية والمؤسساتية، ورفض سلطة الفرد والقرارات الارتجالية وغير الأصولية، واعتبار الوزارات ومؤسسات الدولة هوية وطنية وملكا للشعب وليست هوية لحزب أو لوزير أو لأهوائه وقراراته الشخصية، ومنع أي استئثار أو هيمنة أو وصاية فكرية لأية فئة أو جماعة بالتشكيلات الحكومية والإدارية والمؤسسات العامة، واحترام حرية الرأي ومؤسسات المجتمع المدني والإسراع في محاكمة مجرمي العهد السابق، وإنزال اشد العقوبات فيهم للجرائم اللاإنسانية التي ألحقوها بالشعب العراقي، وذلك وفق أسس العدالة والقوانين المرعية.   
                                   .
  8 ـ تشكيل المحكمة الاتحادية المكونة من 9 أعضاء حسب الخطوات المبينة في قانون إدارة الدولة على أن يراعى في ذلك التمثيل العادل لكل البلاد على أساس التكافؤ بما يتناسب مع مكونات الدولة العراقية الاتحادية التاريخية والجغرافية، وان تتوفر في أعضاء المحكمة الخبرة  المؤهلات القضائيةالعالية، وان لا تسقط المحكمة تحت تأثير جماعة معينة، وان تتمتع بالحياد المطلق، وان لا يعتبر القاضي ممثلا لجماعة بل ممثلا للحقيقة والرأي القانوني والقضائي المستقل بعيداً تماما عن أية تأثيرات.                     .
 9 ـ تفعيل عمل الهيئات الواردة في قانون إدارة الدولة، وعدم الالتفاف عليها، مع مراعاة أهمية تسيير أداء عمل تلك الهيئات وفق الأهداف التي أسست من اجلها.

 10ـ حل الخلافات والمنازعات بين الجماعات وفق مواصفات التفاهم والتشاور والمواطنة والرغبة المشتركة للبناء الوطني، والعيش بسلام، بمراعاة حقوق الجميع، وعدم اللجوء إلى الاستفزاز أو الاعتداء، والتقيد بالقوانين والأنظمة والأساليب التفاوضية وقواعد الاحتكام بما يرفع الظلم ويحقق العدل والوئام والسلام بين أبناء الشعب وجماعاته المختلفة                .
 11 ـ إتباع سياسة الصداقة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع دول الجوار ودول العالم وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد الحوار والتفاوض لحل الخلافات العالقة.
                                     .
ثانيا: العمل على إعداد مسودة الدستور:                          .                                   
 1 ـ تتفق الأطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء إعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الأساسية المثبتة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الإطراف أنها تسعى إلى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنه. 
          .
 2 ـ أن تشترك الأطراف التي لم تفز في الانتخابات أو التي لم تشارك فيها لأسباب اضطرارية، وممثلو كل الفئات والجماعات التي هناك اتفاق عام على حاجتها للوحدة الوطنية، وتقرير مستقبل البلاد إلى ضرورة حضورها اللجان النقاشات وإعداد الصياغات التحضيرية لإعداد الدستور قبل طرحه على الجمعية الوطنية والاستفتاء العام، وان يراعى تحقيق التوافق الوطني لكل أطياف الشعب العراقي.
                                .
ثالثا : حقوق الأقليم والمحافظات والمواطنين:                        .
 تعزيز المكانة الخاصة لدورالأقاليم ومجالس المحافظات، واحترام نتائج انتخابات مجالس المحافظات، وللمجلس الوطني لإقليم كردستان وتطوير التنسيق والتعاون بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات، وتوفير الميزانيات اللازمة لها، واحترام مبدأ عدم التدخل في شؤونها ودورها المستقل في نطاق عملها، وتطوير صلاحياتها، كما ورد في قانون إدارة الدولة، وفي الأمر رقم 71 مع إعادة الاحترام والفاعلية لعمل الدولة لممارسة صلاحياتها، وتأدية  مهامها وعدم التمييز بين العراقيين في كل أنحاء العراق، وحقهم المشروع في الإقامة والعمل والتنقل والتملك والتمتع بالحقوق والواجبات الاتحادية والإقليمية بكل مساواة وعدم تمييز، شرط أن لا يكون ذلك قد تم وفق سياسة عنصرية  أو طائفية تفرض تغيير الواقع السكاني.
رابعاً:
 1ـ الإسراع في تطبيع الأوضاع في المناطق المختلف عليها وبضمنها كركوك من خلال إعادة المهجرين، وإعادة توطين الغرباء الذين اسكنوا في هذه المناطق ضمن سياسة التغيير السكاني والتطهير العرقي وفق قانون إدارة الدولة، وذلك بتوفير التخصيصات اللازمة لهيئة فض منازعات الملكية، وهيئة تطبيع الأوضاع في كركوك، وعلى الحكومة العراقية الانتقالية اتخاذ الخطوات العاجلة لتطبيق 1 و 2 و 3 و 4 من الفقرة (أ) من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتقوم الحكومة الانتقالية خلال فترة لا تتجاوز الشهر من تشكيلها بتفعيل إجراءات التطبيع بما فيها توفير التمويل لهيئة تطبيع الأوضاع في كركوك وهيئة منازعات الملكية.                                   .
2ـ التطبيق الكامل للمادة 58 من قانون إدارة الدولة الانتقالية بما يؤدي إلى تحديد الانتماء  الإداري للمناطق المختلف عليها بما فيها محافظة كركوك،  وعلى الرئاسة الانتقالية الإسراع في تقديم المقترحات بشان معالجة التلاعبات بالحدود الإدارية لهذه المناطق إلى الجمعية الوطنية الانتقالية، وتوضع التسويات الضرورية بما يحقق الرغبة النهائية لسكان المحافظة بعد التطبيع، وبعد المصادقة على الدستور الدائم.                   .
3ـ مواصلة الجهود لتصحيح الأوضاع في التمثيل الخارجي بما يعالج سياسات التمييز والعزل السابقة، ويسمح لكل الكفاءات العراقية بحسن الحضور والتمثيل وان يعكس الوجه الخارجي للعراق واقع الشعب العراقي والمبادئ والسياسات التي يؤمن بها.                      .
4ـ التعامل مع الملف الأمني، وإعطاء أولوية خاصة في اتجاهين رئيسيين:
 
 الاتجاهالأول: إيقاف المجازر والقتل اليومي ورفع التهديد التخريبي والإرهابي عن السكان، والذي مازال يشكله الخلل الأمني المتمثل في بعض جوانبه الخطيرة بوجود عناصر بقايا النظام السابق، والعناصر الفاسدة في بعض المؤسسات والأجهزة الأمنية .. واعتبار أن الولاء للنظام الجديد هو شرط رئيسي يجب أن يتلازم مع  الكفاءات والأهلية من جهة وضمان استمرارية عملية بناء هذه الأجهزة، وعدم تعريضها للتشويش أو للتعطيل من جهة أخرى،  وكذلك باتخاذ الإجراءات الحاسمة لمنع تدخل الدول المجاورة في الشؤون العراقية، وتشجيع الإرهابيين، وتوفير الأغطية الإيديولوجية لهم، ومحاربة المنظمات الإرهابية الموجودة  في العراق، وكشفها وتعريتها أمام الشعب العراقي، وإنزال أقسى العقوبات بعناصرها، وتطهير البلاد من كل المنظمات الإرهابية.                                       .
 
 الاتجاه الثاني: وهو بناء القوات المسلحة العراقية، وقوات الأمن بشكل ينسجم مع حاجات الأقاليم والمحافظات، وقوى أمنها الداخلي، وتوفير التخصيصات المالية والتسليحية واللوجستية لذلك وبما ينسجم مع الضرورات السوقية ومتطلبات الدفاع الوطني والأمن الداخلي للبلاد كلها .. والإسراع بتطبيق الأمر 91 ( والذي يشمل 11 مؤسسة منها قوات البيشمركة وقوات بدر وبقية التشكيلات التي قاتلت النظام بكل بسالة وإخلاص)، وان تتحول العناصر المندمجة من القوات المشار إليها إلى عنصر طبيعي في القوات المسلحة العراقية، وان يتم توفير التخصيصات لها، ويشار إلى تحويل قوى منها إلى قوى أمن داخلي في الأقاليم والمحافظات أو يتم استيعابها في المؤسسات المدنية أو تتلقى التأهيل اللازم عبر ذلك من إجراءات لاندماجها واستيعابها.   
               .
5ـ أن تعكس الموازنة العراقية وسياسات العرض والاستثمار والمنح الأجنبية حاجيات الشعب العراقي الراهنة والمستقبلية، وخصوصا فئاته الفقيرة والمحرومة، وضمان تطور العراق ليستعيد مكانته الطبيعية      كذلك أن تعكس الموازنة والسياسة المذكورة أعلاه حاجيات المحافظات  والأقاليم بشكل متوازن من جهة، ويزيل الحيف عن بعض المناطق المتضررة والمظلومة من جهة أخرى، وان تراعي الحكومة الانتقالية هذه الإعتبارت في خططها القادمة، وفي موازنة 2006، مع الالتزام بتنفيذ موازنة 2005 بكل ما تتضمنها من الأهداف أعلاه.       
                  .
 6ـ تقوم الحكومة العراقية بتأسيس وتشجيع شركات استثمار للثروات الطبيعية، ومنها النفطية على المستويات الاتحادية، وفي إقليم كردستان وفي المحافظات، وان على الحكومة إن تضع الضوابط الاتحادية والإقليمية كذلك المحافظات بالاتفاق مع السلطات المحلية لأعمال الاستغلال والاستثمار بما يحقق التوزيع العادل للعوائد وفق نسب السكان وحاجيات المناطق من جهة، وتحقيق المصالح الوطنية العامة من جهة أخرى.)                           .
 التوقيع 
 الائتلاف العراقي الموحد: عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية وخالدة العطية وفالح الفياض عضوا الجمعية الوطنية.
 التحالف الوطني الكردستاني: فؤاد معصوم عضو الجمعية الوطنية ونوري شاويس نائب رئيس الجمهورية، وبرهم صالح نائب رئيس الوزراء  وهوشيار زيباري وزير الخارجية المنتهية ولايتهم
نظرة في اتفاقية التحالف الشيعي الكردي:
من خلال دراسة متأنية لاتفاقية التحالف لقوى الأحزاب الطائفية الشيعية والقومية الكردية يتبين لنا أن الاتفاقية كانت أشبه بملخص للدستور بين فريقين استأثرا بالسلطة بعد أن شكل تحالفهما الأغلبية المطلقة في البرلمان، واستطاع الجانب الكردي فرض أدق الشروط التي تضمن لهم مطالبهم وأهدافهم البعيدة المدى.                                 .
فقد جاء في الفقرة الأولى من الاتفاق: الالتزام بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية، واعتبار أن مهمة المرحلة الانتقالية هي إعداد الدستور الدائم، وهذا يعني تمسك الفريق الكردي بنصوص قانون إدارة الحكم الذي وضعه بريمر واتخاذه أساسا لصياغة الدستور العراقي، وخاصة فيما يخص المادة 58، والتأكيد على إقامة الفيدراليات. ورغم ما ورد في الوثيقة حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، والأخذ بمبدأ المشاركة والتوافق، وتمثيل المكونات العراقية، والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، لكن الحقائق أثبتت أن القرارات كانت تمارس من قبل التحالف الشيعي الكردي، ولم يكن للأطراف المشاركة الأخرى دول فاعل مما اضطرها في نهاية المطاف إلى الانسحاب من الحكومة، وحتى من البرلمان. وبقيت البلاد تحكمها الميليشيات التابعة لهذه الأحزاب، ويتهددها التمزق والحرب الأهلية، وبقيت ميليشياتها قائمة خلافاً للدستور الذي وضعوه هم.                                                 
وجاء في الفقرة الثانية من الاتفاق: ـ تتفق الأطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء إعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الأساسية المثبتة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الإطراف أنها تسعى إلى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنها. وهنا يبدو لنا بيت القصيد في هذا الاتفاق حيث حرص الجانبان وبوجه خاص الجانب الكردي على التمسك بدستور بريمر الذي كان لهم الدور الكبير في إخراجه، ومارسوا الضغوط على بريمر ليأتي بهذا المحتوى فكان الدستور الذي تم وضعه من قبل المتحالفين نسخة من الدستور الذي وضعه المحتلون الأمريكيون، ولا شك أن ما وضع على يد المحتلين سيكون باطلاً في نهاية المطاف. 
وجاء في الفقرة الثالثة من الاتفاق: إزالة آثار سياسات النظام البائد في تغيير الواقع القومي والمذهبي والسكاني من خلال الهجرة القسرية وتوطين الأفراد الغرباء، التي جرى فرضها من قبل القيادة الكردية ليشكل برميل بارود قد يفجر الحرب الأهلية بسبب إصرار هذه القيادة على إخراج العرب من كركوك وضمها لمنطقة كردستان، ومطالبتهم بمناطق واسعة أخرى من محافظات الموصل وديالى وصلاح الدين، وقد وصل الأمر بالسيد مسعود البارزاني أن تحدث صراحة في مقابلة مع قناة الحرة بشكل استفزازي قائلا:{إن الحرب الأهلية الحقيقية ستندلع من هنا إذا لم تعد إلينا كركوك}، ولم يكمل البارزاني تهديده، ويحدثنا ضد من سيحارب، والقوة التي ستشعل الحرب الأهلية، والتي هي بكل تأكيد ميليشيا البيشمركة التي ترفض اخذ الأوامر من رئيس الحكومة المالكي باعتباره حسب الدستور القائد العام للقوات المسلحة، ورغم ذلك تدفع الحكومة العراقية 17% من موارد النفط لحكومة كردستان والتي يذهب جانب كبير منها إلى قوات البيشمركة.         
تأليف مجلس الرئاسة والحكومة برئاسة الجعفري
بعد ظهور نتائج الانتخابات للمجلس التأسيسي وفوز قائمة الائتلاف الشيعية وقائمة التحالف الكردستانية المتحالفة معها بأغلبية مقاعد المجلس بات من المحتم أن يشكل الوزارة أحد أقطاب قائمة الائتلاف الشيعية باعتبارها  فازت بالأغلبية.
كان هناك تنافس شديد بين المجلس الأعلى برئاسة السيد عبد العزيز الحكيم  وحزب الدعوة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري، قطبا التحاف الشيعي الرئيسيين حول منصب رئاسة الحكومة، فقد رشح عبد العزيز الحكيم السيد عادل عبد المهدي، فيما رشح حزب الدعوة زعيمه إبراهيم الجعفري، وبعد مشاورات تخللتها مناورات عديدة بين مختلف أطراف التحالف الشيعي استطاع الدكتور إبراهيم الجعفري تحقيق الفوز بمنصب رئاسة الوزارة، وجرى الاتفاق بين الطرفين على تعيين مجلس الرئاسة على الوجه التالي:
1 ـ السيد جلال الطالباني ـ رئيساً للجمهورية
2 ـ السيد غازي عجيل الياور ـ نائباً لرئيس الجمهورية
3 ـ السيد عادل عبد المهدي نائباً لرئيس الجمهورية
وسأتناول تشريع الدستور والذي كان يمثل بيت القصيد للتحالف في مقال قادم .


242
المالكي والدستور ومشاريع القوى القومية
والطائفية لتمزيق العراق

حامد الحمداني   
24/8/2011


ما برحت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وأحزاب القومية الكردية تطل علينا بين آونة وأخرى بمشاريعها الهدامة الهادفة لتمزيق العراق، وتبذل نشاطاً محموماً، كما جرى سابقاً في محافظة البصرة التي يسيطر على السلطة فيها حزب الفضيلة، في الدعوة لإقامة فيدرالية جديدة في المحافظة، وقد ركب هذه الموجه آنذاك النائب عن البصرة  وائل عبد اللطيف في دعوته لقيام فيدرالية البصرة، ومباشرته لحملة جمع التواقيع لمشروعه الهادف لتفتيت العراق، والذي فشل فيه.
كما دعا زعيم  المجلس الأعلى إلى إقامة فيدرالية الجنوب والفرات الأوسط، التي تضم  تسعة محافظات، رداً على مشروع حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لفيدرالية البصرة.
وتصاعدت لهجة قادة الأحزاب القومية الكردية في الآونة الأخيرة، متجاوزة الفيدرالية التي تنعم بها، وداعية لإقامة دولة كردية والانفصال عن العراق.
هكذا بكل بساطة تعد القوى الطائفية والقومية الكردية مشاريعها الهادفة لتفتيت العراق، ولعابها يسيل للثروة النفطية التي تزخر بها مناطق جنوب العراق وشماله، في الوقت الذي استطاعت فيه الأحزاب القومية الكردية بدعم ومساندة الحاكم الأمريكي السيئ الصيت [ بول بريمر] الذي مهد لهم السبيل بقانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية، والذي صادق عليه مجلس الحكم الذي اختار أعضائه  بريمر نفسه، والذي تمتعت فيه قيادات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية وحزبي البارزاني والطالباني بالأغلبية المطلقة فيه، ثم جرى تشريع الدستور من قبل نفس هذه القيادات التي فازت بأغلبية المقاعد في البرلمان الذي جرى انتخابه عام 2004 ، بعد مقاطعة الطائفة السنية للانتخابات، لتمهد لهذه القيادات الطريق لتشريع الدستور الذي جاء مطابقاً لدستور بريمر المؤقت مع إضافات عرقية لصالح الاحزاب القومية الكردية، وطائفيه لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وكان مشروع الفيدرالية الذي سطره الحاكم الأمريكي بريمر في صلب الدستور الذي تم إقراره فيما بعد من قبل هذه الأحزاب التي هيمنت على البرلمان والحكومة معا.
لقد كان مشروع الفيدرالية الذي أقرته ما كانت تسمى بأحزاب المعارضة العراقية في مؤتمراتها قبل الغزو الأمريكي للعراق يتعلق فقط بحل المشكلة الكردية المزمنة لكي يتمتع الشعب الكردي بالحكم الذاتي ضمن إطار الدولة العراقية، ولم يتم إقرار أي مشروع لتقسيم العراق إلى دويلات طائفيه.
 لكن شهية قيادات الأحزاب القومية الكردية، وأحزاب الإسلام السياسي الشيعية للسلطة والثروة بعد إسقاط نظام صدام الديكتاتوري الفاشي باتت تطغي على الساحة السياسية، ولعب قادة هذه الأحزاب الطائفية والقومية  الكردية المتحالفة مع بعضها دوراً فاعلا في تضمين الدستور العراقي نصاً يدعو إلى تحويل العراق إلى دولة فيدرالية !!، وتضمنت مواد الدستور صلاحيات واسعة للفيدرالية بحيث تجاوزت في كثير من الأحيان صلاحيات المركز.
 وبدأت الخلافات بين فيدرالية كردستان والحكومة الاتحادية تظهر في العلن على وجه متصاعد بحيث باتت الفيدرالية في كردستان دولة داخل دولة، فيدرالية تتمتع بكل مقومات ومتطلبات الدولة، لها دستورها وحكومتها، وبرلمانها، وجيشها، وعلمها، وحدود محدودة تضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية، وأخرى مختلف عليها!!، كما ورد في نص الدستور البريمري العتيد تطالب بها القيادة الكردية المتمثلة بالرئيس الطالباني، ورئيس الإقليم البارزاني، وتضم محافظة كركوك الغنية بالنفط  وما يزيد على نصف محافظتي الموصل وديالى، نزولا نحو الجنوب إلى بدرة وجصان!!.
كما تتمتع دولة كردستان بتمثيل سياسي في مختلف البلدان الغربية منها والشرقية، وهكذا لم يبقَ لدولة كردستان إلا الإعلان الرسمي لقيامها بانتظار الظروف الدولية والإقليمية المناسبة.
واستمرت الخلافات بين الحكومة العراقية وقادة دولة كردستان تطفوا على سطح الأحداث، وتصاعدت لهجة قادة كردستان في ردها على حكومة نوري المالكي، ورد المالكي على تلك التصريحات في مؤتمراته الصحفية، وبدأت الاحتكاكات بين الجيش العراقي وميليشيات البيشمركة في كركوك وخانقين وجلولاء، وتتالت تهديدات البارزاني العلنية  بالحرب الأهلية الحقيقية كما سماها إذا لم تعد كركوك وبقية المناطق المختلف عليها إلى دولته العتيدة.
لقد أدرك المخلصون الحريصون على وحدة العراق أرضاً وشعبا ما انطوى عليه الدستور من مواد ذات أبعاد خطيرة على مستقبل العراق ووحدته أرضاً وشعبا، وحذروا من أخطار الدعوات التي بدأت تتصاعد في الجنوب لإقامة كيانات جديدة على غرار فيدرالية كردستان تستهدف تمزيق العراق كدولة وإنهائها، والاستئثار بالسلطة والثروة، فمحافظة البصرة هي ثغر العراق الوحيد، وبدونها يختنق العراق بكل تأكيد، هذا بالإضافة إلى كونها غنية جداً بالنفط.

عند ذلك أدرك رئيس الوزراء السيد نوري المالكي بعد سنوات خطورة ما انطوى عليه الدستور، بعد أن لمس من خلال التطبيق مدى عمق التناقض والخلافات بين فيدرالية كردستان والمركز، ومحاولة تهميش دور الدولة المركزية، وتحدي قرارات وزير النفط فيما يخص العقود النفطية التي وقعتها حكومة كردستان مع العديد من شركات النفط، وحول مشروع قانون النفط والغاز الذي تحاول القيادة الكردية تمريره حسب مزاجها، وحول دور البيشمركة ووجوب كونها جزء من القوات العراقية المسلحة، تتلقى أوامرها من رئيس الوزراء المالكي، في حين ترفض القيادات الكردية التزام ميليشياتها بذلك، ولا تتلقى أوامرها إلا من حكومة البارزاني.
فقد أعلن السيد رئيس الوزراء نوري المالكي في حديث جديد له أمام مؤتمر الكفاءات والنخب المثقفة المنعقد في بغداد قائلا:
 {إن هناك ضرورة لإعادة كتابة الدستور الذي كتب على عجل من جديد، حيث إن المخاوف لم تكن موضوعية، وقد وضعنا قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر، وكتفت المستقبل، ولابد من إعادة كتابة الدستور بطريقة موضوعية، تمنح الحكومة المركزية الصلاحيات التي تمكنها من القيام بمهامها، وليست للحكومات المحلية.
وأضاف المالكي قائلاً إن الدستور كان قد كتب قبل ثلاث سنوات في أجواء كانت فيها مخاوف من عودة الدكتاتورية من جديد بعد إزاحة نظام صدام لكننا ذهبنا بعيدا في تكريس المخاوف وتكريس التطلعات، وأستطيع القول أن تلك المخاوف لم تكن موضوعية، وهي التي جعلتنا نضع قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل.

وركز المالكي على عملية إعادة النظر بالدستور العراقي، وجرى تشكيل لجنة برلمانية بإعادة النظر بالدستور الذي شرع نهاية العام 2004 قائلاً:
لقد أصبحنا بحاجة إلى مراجعة الدستور بعد أن تمكنا من تأسيس الدولة وحمايتها من الانهيار، وأصبح علينا أن نتجه اليوم إلى بنائها وفق أسس وطنية دستورية واضحة تحدد فيها الملامح والصلاحيات، وأضاف قائلاً علينا أن نضع ما يضمن لنا ألا تكون اللامركزية هي الدكتاتورية مرة أخرى حيث باتت الفيدرالية هي التي تصادر الدولة اليوم.
وطالب المالكي بضرورة وجود صورة واضحة للنظام السياسي يعطي الصلاحيات للحكومة المركزية بالشكل الذي يحول دون وجود حكومات حقيقية متناحرة فيما بينها، كما يجب بناء دولة اتحادية قوية حكومتها لها مسؤولية كاملة في الأمن والسياسة الخارجية، وان تكون الصلاحيات أفضل للحكومة الاتحادية، وما عداها ينص عليه الدستور من صلاحيات الأقاليم والمحافظات، وما لا ينص عليه فيعود إلى الحكومة المركزية.

 وطالب المالكي بتوزيع الصلاحيات الأخرى بطريقة تضمن عدم ولادة مركزية حديدية سواء للمركز آو للإقليم والمحافظات قائلاً أن وجود فيدراليات وحكومات محلية دون وجود حكومة قوية قادرة على حماية السيادة والأمن أمر غير ممكن، وهو اتجاه غير صحيح.

ودعا المالكي أن تناط مسؤولية الأمن للحكومة المركزية قائلاً أنا أتحدث في ذلك عن تجربة لو لم تتصد الدولة المركزية للأمن لفلتت الأمور.
وقد جاء توجه المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا مع مطالبة الطائفة السنية، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل تقوية الفدراليات على حساب الحكومة المركزية.
لقد أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة كردستان، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات، وآخذ المزيد منه .
 
(وجاءت تصريحات رئيس الوزراء نوري المالكي الأخيرة التي نشرتها السومرية نيوز في يوم الثلاثاءالمصادف 16/8/2011 لتؤكد من جديد أن الحكومة العراقية الحالية والدستور العراقي بنيا على أساس قومي وطائفي، وأن الدستور قد تضمن ألغاما بدأت تتفجر وليس حقوقاً، ودعا إلى تعديله بما يحقق دولة المواطنة، واعتماد الأساس الوطني، والانتماء للوطن بعيدا عن بقية الانتماءات                                   .                                             
 
وتحدث المالكي في كلمة ألقاها خلال استقباله  عدداً من الصحافيين، وحضرته السومرية نيوز الدستور قائلاً إن الدستور كتبناه وكل منا أراد أن يثبت فيه انتمائه وقوميته ومذهبه بأشياء يضعها في الدستور، لكننا اكتشفنا أخيرا أننا لم نكن منذ البداية ندرك أننا زرعنا فيه ألغاما وليس حقوقاً.                                                 .
وأضاف المالكي أن تلك الألغام بدأت تتفجر يوماً بعد يوم على شكل حصص طائفية وقومية موضحا بالقول أي دولة عدالة ومواطنة تتحدثون عنها والحكومة اليوم تتشكل وفقا للمقاييس الطائفية والمتحاورون تحت مظلة الشراكة يضع كل حاسبته بيده، ويحسب كم هي حصته على أساس قومي أو طائف!!.                                         .
واعترف المالكي بان المحاصصة القومية والطائفية موجودة، وأضاف ولعلها من ابرز مشاكلنا، ولا خيار لنا!!، إلا أنه شدد على أن هذه الحالة يجب أن تنتهي، وإذا كانت قد فرضت نفسها نتيجة مخلفات وموروثات النظام السابق، وكان الجميع يبحث عن ذاته ونفسه، من اجل أن يثبت وجوده، فأصبح يطرح هذا الطرح فينبغي أن تنتهي.                  .
وأضاف المالكي قائلاً أنه ليس عيبا أن نقول كتبنا الدستور بأيدينا، بل علينا أن نستفيد من تلك التجربة، وأن نعدل الدستور بما يحقق دولة المواطنة، واعتماد الأساس الوطني، والانتماء للوطن، بعيدا عن بقية الانتماءات.
ودعا المالكي السياسيين العراقيين إلى العمل من أجل أن يشعر المواطن أنه محترم في وطنه، وأن لا يتحول إلى ذلك السياسي الذي يتميز ويميز ويتسلط ويتجبر ويعمل من خلال مواقعه في المسؤولية لصالح هذه الهوية أو تلك، أو هذا المكون أو ذلك، مؤكدا أن العراق لا ينهض أبدا إلا إذا تساوى أبناؤه في هوية واحدة هي هوية العراق، وهو السقف والمظلة التي يمكن أن يكون تحتها هويات أخرى موجودة، وهذا يلزمنا أن نغادر وبشكل نهائي دولة الطوائف والقوميات.
                   
جميل جداً أن يعترف السيد المالكي بالخطأ الجسيم الذي وقع فيه عندما جرى تفصيل الدستور على مقاس أحزاب الإسلام السياسي الشيعية بالاتفاق مع حزبي البارزاني والطالباني القومية الكردية، وكان الهدف واضحاً لكل ذي بصر وبصيرة أن هذا الدستور يستهدف تمزيق العراق، وخلق دويلات الطوائف والقوميات، وبذلك يغدو برميل بارود، ومدخلاً لحروب أهلية قادمة.
لكن إدراك هذه الحقيقة، والاعتراف بالخطأ ليس كافياً إذا لم يسارع الطرف المخطئ بتلافي الخطأ، ومعالجة الأمر بكل حزم وجرأة، وبأسرع وقت ممكن قبل أن يفوت الأوان.
إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً هي مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال القادمة، وهي تقتضي إعادة كتابة الدستور من جديد،
دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه أو إشارة طائفية أو عرقية، دستور يؤكد على الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة، واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.
كما ينبغي أن ينص الدستور على كون الفيدرالية تخص المنطقة الكردية فقط مع تعديل العديد من المواد التي جعلت سلطة إقليم كردستان فوق سلطة الدولة المركزية!!. كما ينبغي منح إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية محددة فقط، على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض.

 لكن النظام الحالي بكل مؤسساته التنفيذية والتشريعية والقضائية غير مؤهل وغير جدير للقيام بهذه المهمة الصعبة، دون تشكيل حكومة محايدة غير حزبية تتولى حل البرلمان، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة بموجب قانون انتخابي ديمقراطي جديد، وقانون ينظم عمل الاحزاب السياسية بعيد عن الطائفية والعرقية، وإعادة تكوين المفوضية العامة للانتخابات من عناصر قانونية مشهود لها بالنظافة، والايمان المطلق بالديمقراطية، لتجري انتخابات برلمانية تتسم بالشفافية، والحياد التام، وتحت إشراف دولي، لكي يتولى البرلمان القادم إعداد دستور ديمقراطي جديد للبلاد، وتأليف حكومة جديدة بعيداً عن المحاصصة الطائفية والعرقية، كي تستطيع تنفيذ المهام المطروحة، والملحة، والكفيلة بإخراج العراق من مأزقه الراهن الذي ينذر بالخطر الجسيم نتيجة الصراع الدائر بين مكونات هذا الخليط العجيب والغريب للسلطة سواء داخل الحكومة أم داخل البرلمان، أم على مستوى الشارع العراقي، حيث المفخخات والاحزمة والعبوات الناسفة والاغتيالات التي تجري بالمسدسات الكاتمة للصوت.   

243
من ذاكرة التاريخ:

مؤامرة نوري السعيد لإسقاط  حكومة المدفعي
حامد الحمداني                                                    20/8/2011

حال سماع نوري السعيد بوقع انقلاب بكري صدقي، وتقدم قوات الانقلابيين نحو بغداد، ومقتل صهره وزير الدفاع [جعفر العسكري]، بادر إلى الهرب، والتجأ إلى السفارة البريطانية التي قامت بدورها بنقله خفية في سيارة السفارة ممداً في الحوض الخلفي للسيارة، وقد غطي بالسجادة لإخفائه عن الأنظار، كما جاء في كتاب دي غوري [ثلاث ملوك في بغداد]الصفحة 157 حيث تم نقله إلى قاعدة الهنيدي [معسكر الرشيد] حالياً، ومنها تم نقله بطائرة بريطانية إلى القاهرة، حيث مكث فيها فترة من الزمن، ثم انتقل إلى [لندن]، وهناك قام السعيد بنشاطات واسعة، واتصالات مع المسؤولين البريطانيين للعمل على التخلص من بكر صدقي، وحكومة حكمت سليمان، وعندما جرى اغتيال بكر صدقي، وتم إسقاط حكومة حكمت سليمان، وجرى تكليف السيد[ جميل المدفعي] بتأليف الوزارة، حاول نوري السعيد العودة إلى بغداد، وفي ذهنه تسلم السلطة، للانتقام من الانقلابيين، والضغط على جميل المدفعي من أجل استقالة حكومته مستعيناً بثلاثة من كبار قادة الجيش، وهم العقيد [صلاح الدين الصباغ] و[العقيد فهمي سعيد] و[الفريق طه الهاشمي]، وقد رفض الملك غازي والسيد جميل المدفعي عودته، وطلبا من السفارة البريطانية تأخير عودته لفترة من الزمن ريثما تهدأ الأوضاع، ويتم تجاوز أحداث الانقلاب.
 أجرى السعيد اتصالات مع العقيدين صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد عن طريق ولده صباح من أجل التوسط لدى المدفعي لتسهيل عودته، وقد تمكن العقداء من إقناع المدفعي شرط أن يمتنع السعيد عن ممارسة أي نشاط ضد الحكومة.
 عاد السعيد إلى بغداد في 25 تشرين الأول 1937وهو متعطش للانتقام من قتلة صهره جعفر العسكري، وتشريده وإبعاده عن السلطة. (1)
ولم يمضِ سوى خمسة أيام على عودته حتى باشر في حبك المؤامرات محرضاً العقداء الأربعة قادة الجيش لإزاحة حكومة المدفعي، فما كان من المدفعي إلا أن توجه إلى السفير البريطاني يشكوه من تصرفات نوري السعيد، وطلب منه أبعاده إلى خارج العراق في الوقت الحاضر على الأقل، أو القبول بمنصب وزير العراق المفوض في لندن. وبالفعل أوعز السفير البريطاني للسعيد بمغادرة البلاد، حيث بقي بعيداً عن العراق حتى تشرين الأول 1938.
 قامت الوزارة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش المحسوبين على بكر صدقي على التقاعد، وعينت آخرين بدلاً منهم. كما شنت الحكومة في 18 تشرين الثاني حملة شعواء ضد المشتبه بقيامهم بنشاط شيوعي، وأحالتهم إلى المحاكم التي أصدرت أحكاما بالسجن ضد معظمهم.
وفي 18 كانون الأول باشرت الحكومة بإجراء الانتخابات البرلمانية بنفس الأسلوب الذي درجت عليه الوزارات السابقة، حيث تقوم الحكومة بترشيح العناصر المؤيدة لها، وتفرضهم على المنتخبين الثانويين فرضاً، وبذلك استطاعت الحكومة إبعاد كل العناصر اليسارية عن المجلس الجديد، كما جرى أبعاد جميع العناصر العسكرية أيضاً.
إسقاط حكومة المدفعي بضغط من العسكريين
 عاد[ نوري السعيد] و[طه الهاشمي] إلى العراق، بعد أن ثبّت حكومة المدفعي مركزها في الحكم، وأخذا يمارسان الضغط على الحكومة لمحاكمة رجالات الانقلاب، والحكم بإعدامهم، لكن حكومة المدفعي لم تكن ترى من مصلحة البلاد اللجوء إلى ذلك، وبالتالي عارضته بشدة.
وبسبب هذا الموقف سعى كل من السعيد وطه الهاشمي إلى إسقاط الحكومة بالقوة، مستعينان بما عرف بالعقداء الأربعة، قادة الجيش الذين أخذ دورهم في الحياة السياسية يتنامى في أعقاب الدور الذي لعبوه في إسقاط حكومة حكمت سليمان، وهم كل من [صلاح الدين الصباغ ] و[فهمي سعيد] و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] وقد انضم إلى جانبهم عدد من الضباط الناقمين على بكر صدقي.
شعر جميل المدفعي بما يدبره له نوري السعيد، وطه الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني من مكيدة، فسارع إلى نفي الكيلاني إلى [عانة]،وحاول نفي العقداء الأربعة، ومعهم العقيد [يوسف العزي] والعقيد [عزيز ياملكي].
لكن نوري السعيد كان أسرع حركة منه، واستطاع  أن يرتب الأمر مع العقداء الأربعة للقيام بانقلاب عسكري لإسقاط الحكومة، وحدد له موعداً في 24 كانون الأول 1938، وقام العقداء المذكورون بتهيئة قواتهم للقيام بالحركة، وأرسلوا العقيد [عزيز ياملكي] إلى جميل المدفعي يطلبون منه الاستقالة فوراً.
كما أرسلوا الفريق [حسين فوزي] رئيس أركان الجيش، وهو من المشاركين في التمرد على الحكومة، إلى الملك غازي ليطلب منه إقالة حكومة المدفعي. (2)
استاء الملك غازي من تصرف الضباط، ومن وراءهم نوري السعيد، وطه الهاشمي، وأراد أن يستخدم القوة لقمع التمرد، لكنه تراجع عن موقفه بعد أن وجد جميل المدفعي ينوي الاستقالة، ليجنب البلاد إراقة الدماء، وربما يحدث ما لا يحمد عقباه  فآثر الاستقالة في 24 كانون الأول 1938، واضطر الملك غازي تحت ضغط العسكريين إلى تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة. (3)

نوري السعيد يشكل الوزارة وينتقم من الانقلابيين
عاد نوري السعيد ليشكل حكومته الثالثة بضغط مباشر من العسكريين على الملك غازي الذي كانت تتقاذفه أمواج الزمرة السياسية المتعاقبة على سدة الحكم، والتي تسير بهدى وتوجيهات السفارة البريطانية، واضطر الملك غازي، وهو الذي لا يطيق رؤية نوري السعيد، إلى دعوته إلى تشكيل الوزارة على مضض، في 25 كانون الأول 1938.
وهكذا قبض الثنائي نوري السعيد ـ طه الهاشمي على أخطر الوزارات الداخلية والخارجية والدفاع  إضافة إلى رئاسة الوزارة، ثم عاد نوري السعيد بعد يومين، فعين[ ناجي شوكت] وزيراً للداخلية. (4)
كان أمام الوزارة نوري السعيد مهمة حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات
 جديدة، حيث أن حكومته لا تتمتع بتأييد أغلبية أعضاء المجلس، وكان في جعبة نوري السعيد الانتقام من خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الملك غازي، وحكمت سليمان، والعديد من الضباط الذين آزروا بكر صدقي في انقلابه، وتسببوا في مقتل صهره [جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي.
ففي 22 شباط 1939 استحصل نوري السعيد إرادة ملكية بحل المجلس النيابي، لكن الحكومة تلكأت في إجراء الانتخابات بحجة قيام حكمت سليمان بالتعاون مع عدد من الضباط  بمؤامرة مزعومة لقتل عبد الإله و50 شخصية سياسية، وضباط كبار في الجيش كانوا مدعوين في قصر الأمير إلى مأدبة عشاء.
وفي حقيقة الأمر، وكما ورد على لسان العديد من الوزراء، وأعضاء المجلس العرفي الذي شكله نوري السعيد لمحاكمة المتهمين بالمؤامرة، أن المؤامرة المزعومة كانت من صنع [نوري السعيد] الذي كان يضمر لحكمت سليمان، والضباط [حلمي عبد الكريم] و[إسماعيل عباوي] و[جواد حسين] و[عبد الهادي كامل] و[علي غالب] روح الانتقام،  وينتظر الفرصة المناسبة لذلك حيث أحالهم إلى المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري الذي حكم على حكمت سليمان وأربعة من كبار الضباط بالإعدام، وعلى أثنين آخرين بالسجن لمدة 7 سنوات.
لكن نوري السعيد لم يستطع تنفيذ حكم الإعدام بسبب عدم موافقة الملك، وتم استبدال الحكم إلى السجن المؤبد بالنسبة لإسماعيل عباوي، ويونس عباوي، وجواد حسين، فيما خفض الحكم على حكمت سليمان إلى السجن لمدة 5 سنوات، وسيق إلى السجن، وأصيب هناك بمرض صدري وبقي في السجن حتى قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، حيث أطلق سراحه من السجن. (5)
التوثيق:
   (1)فرسان العروبة ـ ص 91 ـ صلاح الدين الصباغ .
   (2)الخلاف بين البلاط  ونوري السعيد ـ ص 56 خيري العمري
   (3)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 66 ـ الحسني .
   (4)نفس المصدر ـ ص 72.
   (5) نفس المصدر السابق.







244
من ذاكرة التاريخ:

وفاة الملك فيصل الأول في ظروف غامضة
وتولي الأمير غازي الملك

حامد الحمداني                                                             16/8/2011

 في الأول من أيلول 1933، وصل الملك فيصل إلى العاصمة السويسرية [ برن ] طلباً للاستشفاء، وكان الإعياء بادياً عليه، حيث نزل في فندق[bellevue] المطل على نهر[ الآر]،وهناك بدأ الملك رغم وضعه الصحي المتعب يستقبل مراسلي الصحف، والعديد من الأصدقاء، ويدلي بتصريحاته محاولاً الرد على الدعايات المضللة الموجه ضده، وضد العراق وحكومته على أثر الأحداث التي رافقت قمع ثورة الآشوريين على يد بكر صدقي.

كان القلق والانفعال باديين على وجهه، وتميزت تصريحاته بشدة اللهجة وكان يضرب بيده على الطاولة بقوة، وهو يتحدث مع الصحفيين، فقد كان قد تلقى سيلاً من التهديدات من الحكومة البريطانية بسبب قمع الحكومة العراقية، ونائب الملك [الأمير غازي] للثورة الآشورية، وقد طالبته الحكومة البريطانية بالعودة فوراً إلى بغداد، وأخذ زمام الأمر بيده، و إلا فسوف يتعرض لنتائج وخيمة!!، فقد جاء في آخر إنذار وجهته وزارة الخارجية البريطانية إليه ما يلي:

{ إن استمرار الحركات العسكرية ضد الآشوريين، وإصرار الحكومة على موقفها، وعدم إصغائها لأوامر جلالتكم، قد أحدث تأثيراً سيئاً لدى الرأي العام البريطاني وغيره، ولذلك فإن لم تعودوا فوراً إلى العراق، وتقبضوا بنفسكم على زمام الأمور، فان الحكومة البريطانية ستضطر إلى إعادة النظر في علاقاتها العهدية مع العراق}.
قضى الملك فيصل 3 أيام على تلك الحال، وهو يزداد تعباً، وتزداد صحته تردياً.
 وفي 7 أيلول أُصيب الملك بالآم حادة في بطنه، وحضر طبيبه الخاص على عجل، وتم حقنه بحقنة تحت الجلد، حيث أحس بنوع من الراحة.

غير أن صحته تدهورت عند منتصف الليل، وقد حضر إلى غرفته كل من [نوري السعيد] و[رستم حيدر] و[تحسين قدري]، حيث وجدوه وهو في حالة خطيرة يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان آخر ما قاله:
{ أنا مرتاح، لقد قمت بواجبي، وخدمت الأمة بكل قواي، ليسر الشعب بعدي بقوة واتحاد}. ثم شهق شهقة الموت.  وعلى الفور طّير[نوري السعيد] و[رستم حيدر] برقية إلى الحكومة في بغداد وجاء فيها:
 { فجعت الأمة العراقية،عند منتصف الليل بوفاة سيدها وحبيبها جلالة الملك فيصل، وذلك نتيجة نوبة قلبية}!.
الشكوك تدور حول بريطانيا ونوري السعيد
 ثارت الشكوك حول السبب الحقيقي للوفاة، حيث ذكر التقرير الطبي إن سبب الوفاة ناجم عن انسداد الشرايين، وانسداد الشرايين كما هو معروف يسبب آلاماً شديدة في الصدر، في حين أن الملك كان قد شعر في تلك الليلة بالآم حادة في البطن، وليس في الصدر، وعليه فقد كان هناك شك كبير في أن السبب الحقيقي للوفاة هو التسمم، وقيل أن الإنكليز، ونوري السعيد، هم الذين كانوا وراء العملية.

ومما زاد في تلك الشكوك ما جاء في الوثائق البريطانية مؤخراً عن تصريح للسفير البريطاني [هيمفريز]الذي جاء فيه:
{ إن جعفر العسكري ونوري السعيد اتفقا على أن لا يتحملا أية مسؤولية في المستقبل إذا لم يطرأ تغيير كامل على نفسية الملك فيصل، وأن نوري السعيد مصر على أن لا يتقلد الحكم ما دام فيصل على العرش، وأنه لا يمكن للعراق أن يتقدم على عهد ولي العهد [الأمير غازي]، فلا بد إذا من تغيير نظام الوراثة ليكون [الأمير زيد] ملكاً بعد وفاة أخيه الملك فيصل}.

تم نقل جثمان الملك إلى بغداد في 14 أيلول حيث تم تشيعه في موكب رسمي، ودفن في المقبرة الملكية في الاعظمية. وبوفاة الملك فيصل، اختفت فوراً مذكراته الخطيرة، ولم يعد أحد يعرف عنها شيئاً، وكل الشكوك كانت تشير إلى أن وراء عملية الاختفاء تلك كان نوري السعيد.

نوري السعيد يحاول إبعاد الأمير غازي عن المُلك:
وعلى أثر وفاة الملك فيصل، حاول نوري السعيد إقناع رئيس الوزراء [رشيد عالي الكيلاني] و[رستم حيدر] وزير الاقتصاد والمواصلات، والمقرب جداً من العائلة المالكة استبعاد الأمير غازي عن تولي الملك بصفته ولياً للعهد، ودعوة [الأمير زيد] لتولي الملك، بدعوى أن الأمير غازي متخلف عقلياً، ولا يصلح لتولي الملك.

 لكن الكيلاني رفض رفضاً قاطعاً محاولات نوري السعيد، وأجرى على عجل مراسيم تحليف الأمير غازي اليمين القانونية أمام مجلسي النواب والأعيان، و جرى تتويجه رسمياً مساء يوم 8 أيلول 1933 ملكاً على العراق، وبذلك اسقط في يد نوري السعيد. وبمناسبة تسلم الملك غازي سلطاته الدستورية، وحسبما ينص الدستور، قدم السيد رشيد عالي الكيلاني استقالة حكومته إلى الملك الذي قبل بدوره الاستقالة
 وكلفه من جديد بتأليف الوزارة الجديدة.
اضطراب الأوضاع في عهد الملك غازي
أحدثت وفاة الملك فيصل الأول اختلالاً خطيراً في التوازن السياسي القائم في البلاد، وقد أدت تلك الظروف إلى تفاقم التنافس السياسي بين أولئك الضباط الشريفيين المخضرمين، ومحاولة كل واحد منهم الوصول إلى سدة الحكم مستخدمين البرلمان تارة، وتحريك العشائر تارة أخرى، ووصل بهم الأمر إلى حد استخدام الجيش من أجل تحقيق مآربهم.
وقد وجد[نوري السعيد] الفرصة السانحة لتوسيع نفوذه  في إدارة شؤون البلاد، وسعى بكل جهوده للهيمنة على المسرح السياسي. فقد حاول السعيد بدعم من صهره وحليفه[جعفر العسكري] بعد فشله في منع الملك غازي من تسلم سلطاته الدستورية إلى احتوائه، والتأثير عليه لدرجة وصلت إلى حد التدخل في أموره الشخصية.

 وكان من بين تلك المسائل الشخصية تدخله في منع زواجه من ابنة السيد[يسين الهاشمي]، وفرض زواجه من[الأميرة عالية] شقيقة عبد الإله، وذلك عن طريق تحريض عمه [الملك عبد الله]الذي تدخل لدى الملك، وحمله على الزواج منها، وكانت تلك الزيجة التي تمت في كانون الثاني 1934غير ناجحة، وانتهت بهجر الملك غازي لها حتى مقتله.

 حاول رشيد عالي الكيلاني حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة تضمن له الأكثرية في المجلس، وتقدم بطلب إلى الملك غازي بهذه الرغبة، وتدخل نوري السعيد لدى السفارة البريطانية لمنع حل البرلمان، وسارع السفير البريطاني إلى توجيه تحذير إلى الملك غازي من مغبة الأقدام على حل البرلمان خوفاً من أن يأتي الكيلاني ببرلمان يضم أكثرية من الاخائيين.

 كما حذر الملك[عبد الله] ابن أخيه الملك غازي من الأقدام على هذه الخطوة، وجاء ذلك في رسالة بعث بها إليه وجاء فيها:
{ إن عليك أن لا تحل المجلس تحت أي ظرف كان، وإلا ستظهر الحاجة إلى إعادة الانتخاب من جديد، وعندها ستواجه مخاطرالصراعات الحزبية}. (8)
 بعد رفض الملك غازي حل مجلس النواب، لم يكن أمام حكومة رشيد عالي الكيلاني سوى تقديم استقالتها في 28 تشرين الأول 1933، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.
 لكن الملك آثر أن يبقي العلاقة مع الإخائيين، الذين عملوا معه جنباً إلى جنب خلال توليه المُلك نيابة عن والده الملك فيصل الأول حين غيابه، وعليه فقد كلف زعيم الإخائيين [ياسين الهاشمي] بتشكيل الوزارة الجديدة، لكنه اشترط عليه الإبقاء على المجلس النيابي الحالي. لكن ياسين الهاشمي رفض هذا الشرط، وبالتالي رفض قبول المنصب.

الملك غازي يكلف جميل المدفعي بتشكيل الوزارة
على أثر اعتذار ياسين الهاشمي عن تشكيل الوزارة الجديدة، كلف الملك غازي السيد جميل المدفعي بتشكيلها في 9 تشرين الثاني 1933، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي:
1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء.
2 ـ نوري السعيد ـ وزيراً للخارجية، ووكيلاً لوزير الدفاع.
3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للداخلية.
4 ـ نصرت الفارسي ـ وزيراً للمالية.
5 ـ جمال بابان ـ وزيراً للعدلية.
6 ـ رستم حيدر ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.
7 ـ صالح جبر ـ وزيراً للمعارف.

 وعلى اثر تشكيل الوزارة الجديدة تقدم جميل المدفعي إلى مجلس النواب بمنهاج حكومته الذي جاء خالياً من أي إشارة إلى تعديل معاهدة 1930 العراقية البريطانية، وكل ما تضمنه المنهاج لا يعدو عن كونه قضايا عامة وثانوية لا تمس قضايا الشعب الرئيسية، وبعد انتهاء الجلسة صدرت الإرادة الملكية بتعطيل المجلس لمدة 30 يوماً، بحجة إتاحة الفرصة للحكومة لتهيئة أعمالها.
إضراب عام ضد شركة الكهرباء البريطانية:
لم يكد جميل المدفعي يشكل وزارته حتى جابهت حكومته أخطر الأزمات عندما أعلن العمال الإضراب العام ضد شركة الكهرباء البريطانية  بسبب استغلالها الجشع لأبناء الشعب.
كانت شركة الكهرباء التي يمتلكها البريطانيون قد فرضت على المواطنين دفع 28 فلساً عن كل كيلوواط، مما أثقل كاهل الطبقات الفقيرة التي كانت بالأساس تعاني من الظروف الاقتصادية الصعبة في ظل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلدان الرأسمالية، وانعكست أثار تلك الأزمة على حياة الشعب المعيشية.

حاولت نقابات العمال حث شركة الكهرباء على تخفيض أسعار الوحدات الكهربائية، وبذلت جهوداً كبيرة لحمل الشركة على تنفيذ مطالبها.
غير أن الشركة رفضت الاستجابة لتلك الطلبات المتكررة، متذرعة بالتكاليف العالية لتوليد الكهرباء.
فلما وجدت نقابات العمال أن الشركة مصرة على موقفها دعت إلى الإضراب عن استخدام الكهرباء، والاستعاضة عنه بالفوانيس الزيتية، واللوكسات، لحين استجابة الشركة لمطالبهم.

لقيت دعوة نقابات العمال الاستجابة الواسعة من الطبقة العاملة، وتوقف العمال عن استخدام الكهرباء، وتوسع الإضراب ليشمل قطاعات واسعة من الشعب، مما أقلق الحكومة، وجعلها تخشى من تطور الإضراب، ودفعها ذلك الموقف إلى إجراء مفاوضات مع شركة الكهرباء في محاولة منها للضغط على الشركة لتخفيض أجور الكهرباء، لكنها لم تتوصل إلى نتائج إيجابية حاسمة في مسعاها مع الشركة حيث وافقت الشركة على تخفيض فلسين فقط من سعر الكيلوواط الواحد، وهذا ما لم يرضِ نقابات العمال، وجعلها تقرر الاستمرار في الإضراب.

غير أن الحكومة بدلاً من أن تقف إلى جانب الشعب أقدمت على اعتقال العديد من القادة النقابيين النشطين، وإحالتهم إلى المحاكم التي أصدرت بدورها الأحكام ضدهم بالسجن لمدد مختلفة، كما وجهت إنذاراً إلى الصحف التي وقفت إلى جانب الإضراب، وهددت بغلقها، ولما لم تلتزم تلك الصحف بإنذار الحكومة سارعت الحكومة إلى تعطيلها عن الصدور، كما قامت بإبعاد العديد من العمال النشطين إلى مدينة السليمانية.

أما الإنكليز فقد سارعوا إلى جلب قوات عسكرية لحماية الشركة، وحماية رعاياهم في بغداد وكركوك والموصل والبصرة.
لم تعمر حكومة المدفعي طويلاً، فقد دبت الخلافات بين أعضائها حول مشروع [نهر الغراف]، وضرورة بناء سد عليه، فيما ادعى وزير المالية أن المشروع ليس أهم من تسليح الجيش، وقد أدى اختلاف مواقف الوزراء إلى وقوع انقسام في مجلس الوزراء، وهدد بعض الوزراء بالاستقالة، فما كان من المدفعي إلا أن يقدم استقالته إلى الملك في 13 شباط 1934، وقد تم قبول الاستقالة في 19 شباط، وكلف الملك جميل المدفعي من جديد بتشكيل الوزارة في نفس اليوم، وجاءت الوزارة على الوجه التالي:
1 ـ جميل المدفعي ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للمالية.
3 ـ جمال بابان ـ وزيراً للعدلية.
4 ـ رشيد الخوجه ـ وزيراً للدفاع.
 5 ـ جلال بابان ـ وزيراً للمعارف.
6 ـ عباس مهدي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.
7 ـ عبد الله الدملوجي ـ وزيراً للخارجية.

لم تقدم هذه الوزارة أي شيء للشعب، بل على العكس من ذلك عمدت إلى إلغاء قانون المطبوعات الذي أصدرته حكومة الكيلاني عام 1933، وأعادت القانون الذي شرعه نوري السعيد عام 1930، والذي اعتبرته المعارضة أشد وطأة من قانون المطبوعات العثماني لما احتوته مواده من اضطهاد لحرية الصحافة، وقد أثار عمل الحكومة هذا غضباً واستنكاراً شديدين من قبل الصحافة والأحزاب الوطنية، ومن أبناء الشعب.

كما أقدمت هذه الحكومة على منع لفيف من المحامين والمثقفين الوطنيين من إحياء ذكرى ثورة العشرين التي كان من المقرر إقامتها يوم 30 حزيران 1934، ولجأت الحكومة إلى اعتقال العديد منهم يوم 28 حزيران في بغداد والحلة والنجف وكربلاء والديوانية بغية منع الاحتفال.

 إلا أن الشعب تحدى السلطة، وأقام الاحتفالات في بغداد، و كربلاء، والنجف وألقيت خلال الاحتفالات الخطب الحماسية عن ثورة العشرين، ودعا الخطباء إلى تعديل معاهدة 1930 الجائرة، وتحقيق الاستقلال الناجز للعراق.
استقالة المدفعي وتكليف علي جودت الأيوبي بتشكيل الوزارة:
ضج الشعب العراقي بالشكوى من سياسة الحكومة المدفعية، وشيوع ظاهرة المحسوبية والفساد، مما دفع الملك غازي إلى أن يلمح للمدفعي عن تلك الشكاوى، وفهم المدفعي قصد الملك غازي، حيث سارع إلى تقديم استقالة حكومته في 25 آب 1934، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وعهد الملك على الفور إلى السيد علي جودت الأيوبي بتشكيل الوزارة الجديدة، وتم تشكيلها في 27 آب 1934 على الوجه التالي:
1 ـ علي جودت الأيوبي ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ جميل المدفعي ـ وزيراً للدفاع.
3 ـ يوسف غنيمة ـ وزيراً للمالية.
4 ـ جمال بابان ـ وزيراً للإقتصاد.
5 ـ نوري السعيد ـ وزيراً للخارجية.
6ـ ارشد العمري ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
7 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف.
وبتولي الأيوبي منصب رئاسة الوزارة أصبح منصب رئيس الديوان الملكي شاغراً وقد حاول نوري السعيد ترشيح نسيبه [ جعفر العسكري ] لهذا المنصب، إلا أن الملك غازي رفض هذا الترشيح، وعيّن رستم حيدر رئيساً للديوان الملكي.

أعتبر الشعب العراقي هذه الوزارة امتداداً للوزارة السابقة، وهاجمتها المعارضة بشدة، وقد وزعت في ذكرى تتويج الملك غازي في 8 أيلول 1934 منشورات تندد بالحكومة والملك الذي حملته مسؤولية سوء الأوضاع الاقتصادية، مما أثار جزع الحكومة التي حاولت من دون جدوى معرفة مصدر تلك المنشورات، وقد لجأت إلى إغلاق صحيفة الأهالي لمدة سنة، والمعتقد أن الحزب الشيوعي الذي كان قد جرى تأسيسه في ذلك العام كان وراء تلك المنشورات، فقد شهدت البلاد نشاطاً واسعاً للشيوعيين في تلك الأيام، مما جعل الحكومة تشن حملة واسعة ضد العناصر المشتبه بهم، وإحالتهم إلى المحاكم بتهمة الانتماء لحزب غير مجاز.

وضعت الحكومة في مقدمة مهامها حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وقد استحصل الأيوبي الإرادة الملكية القاضية بحل المجلس، ومعلوم أن الأيوبي الذي كان يشغل منصب رئيس الديوان الملكي في عهد وزارة الكيلاني السابقة كان قد عارض حل المجلس، ونصح الملك بعدم الاستجابة لطلب الكيلاني، مما دفعه إلى تقديم استقالة حكومته.

قامت الحكومة الأيوبية بأجراء الانتخابات على مقاسها، مستخدمة كل أساليب التزوير والترهيب، والرشوة بشكل علني، وبلغ الأمر بالحكومة أنها لم تسمح للمنتخبين الثانويين بوضع أوراق الانتخاب في الصناديق إلا بعد إطلاع ممثلي الحكومة عليها، لكي تتأكد من مطابقة الأسماء مع القوائم التي أعدتها الحكومة سلفاً.

 وهكذا جاء البرلمان الجديد في واقع الأمر بالتعيين وليس بالانتخاب، مما أثار غضب واستياء أبناء الشعب والقوى السياسية الوطنية المعارضة.
لقد كان إصدار قانون الانتخاب على درجتين ـ كما أراد المحتلون البريطانيون ـ لكي يضمنوا دائماً وصول مناصريهم إلى عضوية مجلس النواب دون الإلتفات إلى إرادة الشعب، فقد كان الشعب في وادٍ، والحكومات المتوالية على سدة الحكم  في وادٍ آخر.

وتعرضت الحكومة عند افتتاح المجلس الجديد في 29 كانون الأول 1934 إلى انتقادات شديدة انهالت عليها من كل جانب، وشدد عدد من النواب على مهزلة حل المجالس النيابية باستمرار، ومن دون أن تنهي تلك المجالس دورتها المقررة بأربع سنوات، مما جعل دور تلك المجالس ضعيفاً جداً، وجعل معظم النواب منقادون للحكومات المتوالية على سدة الحكم  لكي يضمنوا فوزهم بالانتخابات الجديدة على قائمة الحكومة التي تُجري الانتخابات، مما سبب في إفساد الحياة السياسية للبلاد، وإفراغ السلطة التشريعية من جوهر واجباتها.

جوبه إجراء الحكومة بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة بنقد شديد وجهه مجلس الأعيان في رده على خطاب العرش، واعتبر الحل مخالفاً للدستور، وفنّد ادعاء الحكومة بأنها إنما أرادت من حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة لكي يكون استفتاءً للشعب، وقالت إن هذا الادعاء عارٍ عن الصحة، إذ ليس في برنامج الحكومة من جديد يستوجب الاستفتاء، ولكن الحكومة أرادت المجيء بمجلس يضمن لها الأكثرية فيه.

وعندما بلغ أسماع الشعب ما جاء في رد مجلس الأعيان على خطاب العرش، انهالت برقيات التأييد لهذا الرد، ومستنكرة إجراءات الحكومة غير القانونية. كما دعا عدد من الشخصيات السياسية المعارضة إلى إقامة حفل تكريمي للأعيان الذين وقفوا ضد إجراء الحكومة.

 ورغم محاولات الأجهزة القمعية للحكومة منع إقامة الحفل إلا أن القائمين به تحدوا الحكومة وأقاموه، وقامت الحكومة على أثر ذلك باعتقال عدد من المحامين والشخصيات السياسية المشاركة في إقامة الحفل، وقد دفع إجراء الحكومة هذا إلى إرسال برقيات الاحتجاج على تصرفات الحكومة إلى الملك غازي. كما أحتج لدى الملك عدد من الوزراء السابقين الذين منعتهم الشرطة من دخول قاعة الحفل على تصرفات الحكومة.
وجرياً على عادة كل الحكومات السابقة في تأليف أحزاب موسمية لها عند استيزارها لجأت حكومة الأيوبي إلى تأليف حزب لها دعته [حزب الوحدة الوطنية] بدعوى توحيد الأمة، ووحدة الصفوف!!، وما إلى ذلك من المبررات البعيدة عن الحقيقة والواقع.

لم يلقَ ذلك الحزب أي تجاوب شعبي، بل أقتصر على عدد من النواب الحكوميين والوزراء دون الاستناد إلى أي قاعدة شعبية، ولذلك فقد جرى تسميته بالحزب الموسمي الذي لا يلبث أن يضمحل ويزول حال مغادرة الوزارة الحكم.
اشتدت المعارضة ضد الحكومة من قبل عدد من الشخصيات السياسية، وبعض رؤساء العشائر الذين استبعدتهم الحكومة من مجلس النواب، وتداعوا إلى عقد اجتماع لقادة المعارضة في دار السيد حكمت سليمان، وقد حضر الاجتماع كل من [رشيد عالي الكيلاني] و[ياسين الهاشمي] والعديد من رؤساء العشائر الذين كونوا حلفاً معارضاً للحكومة، والعمل على إسقاطها، وقد جرى انتخاب ياسين الهاشمي زعيماً لهم، ووضعوا لهم ميثاقاً تضمن الإخلاص للملك، والمحافظة على الدستور، وحل المنازعات بين العشائر دون الرجوع إلى الحكومة، وعدم جواز الاشتراك في الحكم دون موافقة القائمين بهذا الحلف.

ملاحظة: للإطلاع على المزيد من الإحداث التاريخية بالإمكان الرجوع إلى موقعي على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com



245
هذا هو الطريق لإنقاذ العراق وشعبه
من الأزمة الراهنة!


حامد الحمداني                                        12/8/2011   
   

إن الأزمة العراقية الراهنة، والصراع المرير الذي يميز العلاقات بين أطراف السلطة، بشقيه السياسي والعنفي، والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية الدينية والقومية الذي يعصف بالبلاد، ويزهق أرواح المواطنين الأبرياء بالأسلحة الكاتمة الصوت، وتفجير السيارات المفخخة، والأحزمة والعبوات الناسفة، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، وفضائح نهب المال العام التي أزكمت أنوف الشعب العراقي، والتي جاوزت عشرات المليارات من الدولارات، والفقر والبطالة والجوع، وملايين المهجرين والمهاجرين بسبب خطورة الوضع الأمني ومخاطره، وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد خراباً حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، والمخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، والمحاولات الرامية لتمزيق العراق وطناً وشعباً من قبل الأحزاب الحاكمة نفسها، ومحاولات الحكومة الضغط على البرلمان لإصدار قانون لإعفاء آلاف المزورين لشهادتهم،وهي جريمة مخلة بالشرف بموجب القانون، والمحالين للمحاكمة من قبل هيئة النزاهة، وقوات الاحتلال الأمريكية المهيمنة على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كما فعلت بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث حكمت العراق من وراء الستار حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، عندما  تشكلت لأول مرة في العراق حكومة وطنية على الضد من إرادة الإمبرياليين، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير ينذر بكارثة كبرى تهدد، وبشكل جدي، مصير ومستقبل العراق وشعبه.
إن الطائفية التي مهد لها الدكتاتور صدام حسين بحملته الإيمانية المزيفة، والتي اعتمدها الحاكم الأمريكي بريمر في تشكيله مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة المؤقتة فيما بعد، والانتخابات السابقة كلها تمثل عاملاً حاسماً في ترسيخ جذورها، وتعميق مخاطرها على مستقبل العراق.
 كما أن التعصب القومي الشوفيني، والكراهية أخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي، بحيث غدا المواطن السني يكره الشيعي، والشيعي يكره السني، والكردي يكره العربي والعربي يكره الكردي، والتركماني يكره الكردي، والكردي يكره التركماني، دعك عن القلق الشديد الذي ينتاب الطوائف الأخرى من المسيحيين والصابئة والأيزيدية جراء تنامي الطائفية الدينية البغيضة، والشوفينية القومية المتعصبة والخطيرة، ومحاولات البعض فرض أجندتهم المتخلفة على الآخرين بالقوة والترهيب، بل لقد تجاوزت ذلك إلى حد الاغتيال، ونسف محلات بيع المشروبات الروحية، ومحلات الحلاقين الرجالية منها والنسائية، وفرض الحجاب على المرأة، والعودة بها القهقرى إلى العصور القديمة بحجة مخالفة الشريعة!!.
وبدأت النغمات تتصاعد بالدعوة إلى استقلال كردستان تارة، والجنوب والفرات الأوسط تارة أخرى، واستقلال المحافظات السنية تارة ثالثة، وكأنما العراق أصبح فريسة لكل من يملك القوة والمليشيات المسلحة ليحقق طموحاته في تمزيق العراق، وإشعال نيران الحرب الأهلية التي تنذر بالدمار والخراب، وإغراق العراق بالدماء.

وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب والوطن، فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، وعلى وجه السرعة قبل فوات الأوان، إذا أردنا صيانة الوحدة الوطنية، والقضاء على الإرهاب والإرهابيين، وعودة الأمن والسلام في ربوع العراق، والتوجه نحو إعادة بناء البنية التحتية للعراق الجديد، وفي المقدمة من هذه الإجراءات:

1ـ إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق حسب الاتفاقية الأمنية المعقودة بين الطرفين،إذا كانت هذه الدولة تحمل نوايا صادقة تجاه العراق والحرص على سيادته واستقلاله كما تدعي، على أن تُستبدلْ بقوات محايدة من الأمم المتحدة تتولى صيانة الأمن والنظام العام، والعمل على بناء جيش وأجهزة أمنية جديدة خالية من قوى الميليشيات الطائفية والأثنية، قادرة على حفظ الأمن والنظام بعد خروج قوات الأمم المتحدة.

2ـ تتولى الأمم المتحدة تشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بنظام صدام الساقط، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية أمدها ثلاث سنوات، واختيار رئيس مؤقت للبلاد من العناصر الوطنية المستقلة، المتسم بالنزاهة، ونظافة اليد، والأيمان بالعراق الحر الديمقراطي المستقل، والموحد أرضاً وشعباً.

3ـ حل البرلمان الحالي، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت يضم 150 شخصية عراقية من مختلف المناطق العراقية على أساس الكفاءة، والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لقضية البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.

4ـ يقوم أعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم، وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم، قبل مباشرتهم المسؤولية وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل  هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة، والمشهود لها بالنزاهة، ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة جميع السراق والمرتشين، وكل ناهبي أموال الشعب، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.
 
5ـ وقف العمل بالدستور الحالي المختَلًفْ عليه، والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالي يحمل بذور الحرب الأهلية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة النظر في كافة مواده من قبل لجنة دستورية مختارة من العناصر المختصة بالقانون الدستوري، والمشهود لها بالأمانة والنزاهة، والتوجه الديمقراطي، بما يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة، والشوفينية القومية، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب.

6ـ حل كافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون .

7ـ تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، والحرص على سيادة واستقلال العراق.

8ـ إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، ومنع نشاط كافة الأحزاب القائمة على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً، أو قومي شوفيني متطرف، عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً.
كما ينبغي منع الأحزاب السياسية تلقي الأموال من أي جهة أجنبية، ويحصر الدعم بالحكومة العراقية فقط من خلال وضع ميزانية خاصة للأحزاب.

9ـ منع نشاط حزب البعث، ومكافحة فكره الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر.

10ـ الإسراع بمحاكمة كل العناصر المزورة، وناهبي المال العام، وعصابات القتل والجريمة من عناصر الميليشيات أمام محكمة جدية دون إبطاء، أو تلكؤ، وإنزال العقاب الصارم بحقهم دون رحمة.

11ـ إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض، هي ملك للشعب العراقي دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية  ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعات المناطق التي كانت أكثر تضرراً، والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.

12ـ ينبغي إعادة النظر في كافة العقود الإستشمارية في مجال النفط والغاز، وكشف المتلاعبين بتلك العقود والأضرار التي سببوها للاقتصاد الوطني، ومحاسبتهم على الثروة التي امتلكوها خلال مدة الحكم السابق دون وجه حق.
كما ينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة، وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل الشهيد عبد الكريم قاسم، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة في العراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.

13ـ تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى، ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي وعلى قدم المساواة .

إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عنها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدراليات الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسعى في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني، والذي لن يخرج أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

14ـ تتولى الحكومة المؤقتة إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على أساس الكفاءة والخبرة، والأمانة والنزاهة، لكي تستطيع الحكومة إعادة بناء البنية التحتية المخربة، والنهوض بالعراق في كافة المجالات الصناعية والزراعية والاجتماعية والخدمية والصحية والتعليمية.
كما تتولى الحكومة معالجة البطالة المستشرية، وتأمين العمل الجدي والحقيقي لكل قادر على العمل، وعلى أساس الاختصاص، ومعالجة مسألة البطالة المقنعة التي ترهق ميزانية الدولة، والعمل على منع مزاولة الأطفال للعمل، وإعادتهم إلى مدارسهم حتى الدراسة الثانوية، وتأمين حياة كريمة للمواطن العراقي، ولا شك أن العراق الذي يمتلك من الثروات النفطية والغازية والمعدنية المختلفة لقادر على تحقيق ارقي مستوى معيشة للشعب إذا ما كان الحكم في أيدي أمنية ومخلصة ونظيفة اليد.

15ـ تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين من خلال سن قانون للضمان الاجتماعي والصحي، وتوزيع المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية على المحافظات بصورة عادلة، مع مراعات المحافظات الأكثر تخلفاً في هذه المجالات.
هذا هو الطريق الصائب والقادر على انتشال العراق وشعبه من الأزمة الخانقة التي يعيش في ظلها، وإن أية محاولة لإصلاح العملية السياسية الحالية ستبوء بالفشل وتقود العراق إلى منعطف خطير يصعب الخروج منه. 




246
من ذاكرة التاريخ:
الملك فيصل يطلب من نوري السعيد تقديم استقالة حكومته
حامد الحمداني                                                      9/8/2011

أدت سياسة نوري السعيد، وأساليبه القمعية التي استخدمها لفرض معاهدة 30 حزيران 1930 إلى خلافات عميقة في مجلسي النواب  والوزراء، وأدت تلك  الخلافات إلى استقالة السيد[ جميل المدفعي] من رئاسة مجلس النواب، ومن حزب نوري السعيد[حزب العهد] احتجاجاً على تصرفات الحكومة، وبالأخص وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي] إثر الهجوم العنيف الذي تعرض له في مجلس النواب من قبل نواب المعارضة، بسبب تصرفات الحكومة المخالفة للدستور، والمنتهكة للحريات، وقد بعث السيد المدفعي بكتاب إلى السعيد يعلن فيه استيائه من تصرفات وزير الداخلية غير القانونية، والتزام السعيد جانبها، وأعلن انسحابه من حزب العهد، وقد لخص المدفعي تصرفات وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي] بالتالي:
1 ـ تصرفاته المشينة خلال الإضراب الشعبي العام،  مما كان سببا في توسيعه توسعاً خطيراً.
2 ـ تطبيقه قانون العشائر على ذوات ليسوا من العشائر، وبينهم من كبار رجال القانون.
3 ـ تضيقه على كبار رجال الأمة، وتعقيبهم بالجواسيس بصورة لم يسبق لها مثيل، ومطارداته الشبيبة الوطنية لمجرد ما يظهروه من الشعور الوطني، شأن الشباب في جميع بلاد الله.
4 ـ وضع المراقبة الشديدة على حرية المخابرة، خلافاً لما هو مضمون في القانون الأساسي الذي حلفنا اليمين على التمسك به. 
5ـ تطبيقه الذيل الخاص بالعقوبات بحق رجال عرفوا بمقدرتهم وإخلاصهم، لكي يتسنى له تعيين بعض محسوبيه، ومروجي تصرفاته في محله.                                                                                             
6 ـ تفسيره القوانين كما تشتيهه أغراضه، وهتكه شرف رجال كانوا من أشد المخلصين.
7 ـ إصدار الكتب التهديدية السرية المملوءة بالبذاءات، وهتك الحرمات، وعليه أرجو اعتباري مستقيلاً من الحزب، وسأقدم استقالتي رسمياً من رئاسة مجلس الأمة أيضاً، وتقبلوا احترامي. (1)
                                              جميل المدفعي
                                          16 تشرين الأول 1931   
               
وهكذا فضح المدفعي سلوك حكومة نوري السعيد المخزي، وانتهاكها للدستور، ونكثها لليمين باحترامه، والاعتداء على حقوق وحريات المواطنين التي نص عليها الدستور، واستغلال النفوذ بهذا الشكل المكشوف، فلم يعد أمام نوري السعيد إلا أن يقدم استقالة حكومته إلى الملك  فيصل في 19 تشرين الأول 1931، وتم قبول الاستقالة.

لم يكد المندوب السامي يبلغه خبر استقالة نوري السعيد حتى سارع إلى الملك فيصل طالباً منه أن يعيد تكليف السعيد بتشكيل الحكومة من جديدة، ومارس ضغطاً على الملك لكي ينفذ طلبه، فلم يكن أمام الملك من بد إلا أن ينفذ مشيئة المندوب السامي  على مضض، حيث كانت هناك مهام خطيرة يتطلب تنفيذها من قبل شخصية قوية ومضمونة، ولقد اثبت نوري السعيد أنه هو لا غيره ذلك الرجل القوي القادر على القيام بتلك المهمات التي تنتظر الحكومة الجديدة، وهكذا رضخ الملك فيصل لمشيئة المندوب السامي، وكلف نوري السعيد من جديد بتشكيل الوزارة، وباشر السعيد على الفور باختيار أعضاء وزارته بالتشاور مع المندوب السامي، والملك فيصل في اليوم نفسه.

كان عهد هذه الوزارة مليئاً بالأحداث أصر الإنكليز أن يتولى  السعيد معالجتها وأبرزها:
1 ـ تمرد بعض قوات الليفي الآشورية.
2 ـ اندلاع الثورة البارزانية.

معالجة تمرد قوات الليفي الآشورية

قوات الليفي الآشورية أنشأها البريطانيون لمساعدة قواتهم المحتلة للعراق في حفظ الأمن والنظام، والقيام بدور الحراسة للمعسكرات والقواعد البريطانية.
كان الآشوريون يطمحون بقيام دولة لهم في  دهوك وبعض المناطق الأخرى في شمال العراق، لكن آمالهم خابت بعد صدور القرار بضم العراق إلى عصبة الأمم، وتجاهل بريطانيا تلك المطالب، مما أثار استياء قوات الليفي العاملة في خدمة القوات البريطانية، حيث استقال ما يزيد على 1300 من قوات الليفي،  وتقدمواً للمندوب السامي بالمطالب التالية:
1 ـ الاعتراف بهم كشعب ساكن في العراق، وليسوا مجرد طائفة دينية أو عنصرية.
2ـ إيجاد كيان لهم في منطقة [دهوك]، والعمل على إعادة منطقة [حكاري] الواقعة تحت السيادة التركية، وإذا ما تعذر ذلك فيجب إيجاد موطن للآشوريين في العراق مفتوح لكل الآشوريين في داخل العراق وخارجه.
3ـ الاعتراف بسلطة زعيمهم الديني المار شمعون الدينية والدنيوية.
 4ـ عدم سحب السلاح منهم .
5ـ مطالب أخرى حول فتح مدارس ومستشفى ودار أوقاف آشورية.

 ورغم طلب المندوب السامي منهم التراجع عن مواقفهم فإنهم أصروا على مطالبهم، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن تأتي بقوة عسكرية من الإنكليز المتواجدين في مصر لتحل محلهم، حيث تم نقلهم على عجل بواسطة الطائرات.
 فلما وجدت قوات الليفي أن بريطانيا عازمة على عدم تلبية مطالبهم، تراجع قسم كبير منهم وعاد إلى الخدمة، أما القسم الآخر الذي أصر على موقفه فقد قررت السلطات البريطانية إقصاءهم نهائياً.

 أما الحكومة العراقية فقد قررت في 2 تموز 1932، وبعد موافقة المندوب السامي، سحب السلاح من الليفي، ومنعت حمل أي سلاح إلا بإجازة رسمية، كما قررت وضع أفراد من الشرطة مع قوات الليفي في كافة المخافر. (1)

السعيد يقمع الثورة البارزانية:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان، ولمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة [بازيان] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى]، والتي تتوسطها قرية [بارزان] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني،عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد. (2)

رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة.

أخذ البارزاني يوسع  نفوذه في المنطقة، وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ [أحمد البارزاني] في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البارزانيين في 25 أيار1931، وكان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البارزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة.
 وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي قامت بنقله إلى مدينة [أدرنه]على الحدود البلغارية.

وفي تلك الأيام حاول الإنكليز إسكان الآشوريين في منطقة بارزان، فلما علمت الحكومة التركية بالأمر، وهي التي تكن الكره الشديد للآشوريين الذين وقفوا إلى جانب بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى، سارعت إلى إعادة الشيخ احمد البارزاني إلى منطقة الحدود العراقية. وعندما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية، تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليم الشيخ احمد. إلا أن  الحكومة التركية رفضت الطلب، مشترطة إصدار عفو عام عنه وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم، وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.

الملك فيصل يطلب من نوري السعيد تقديم استقالته
بعد أن أنجزت حكومة نوري السعيد المهام الموكولة لها، والمتمثلة بعقد معاهدة 30 حزيران 1930، وإدخال العراق في عصبة الأمم، ومنح العراق الاستقلال [الشكلي]، قدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 27 تشرين الأول 1932، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وكلف الملك فيصل السيد [ناجي شوكت] بتأليف الوزارة الجديدة في 3 تشرين الثاني 1932.

ورغم أن استقالة السعيد جاءت بناء على طلبه كما جاء في كتابه الموجه إلى الملك، إلا أن الحقيقية كانت غير ذلك، وأن الملك فيصل هو الذي طلب منه تقديمها فقد جاء في البرقية التي طيرها المندوب السامي [هيوبرت همفري] إلى وزارة الخارجية البريطانية برقم 335 بتاريخ 29 تشرين الأول 1932 ما يلي :
[ إن الملك هو الذي طلب من السعيد تقديم استقالة حكومته لأنه فقد ثقة الملك، ولما عرض على الملك استعداده لجمع نوري السعيد بالملك رفض الملك ذلك، وقرر الانفصال عن السعيد، ولم تفد توسلاتي وتوسلات المستشار [ كورنواليس] لتثني الملك عن قراره. (3) 

كان هدف الملك من طلب الاستقالة تقليص نفوذ نوري السعيد الذي تصاعد نجمه لدى البريطانيين بعد أن افلح في توقيع معاهدة 1930، وأصبح يتمتع بمنزلة كبيرة لدى المندوب السامي البريطاني والحكومة البريطانية، ونال ثقتهما، وأصبح يرى نفسه وكأنه الشخصية الوحيدة القادرة على إدارة شؤون البلاد.

كما هدف الملك فيصل من التغير الوزاري استمالة ما يدعى بالمعارضة المعتدلة، بعد الذي سببته معاهدة 30 حزيران 1930 الجائرة، والمقيدة لاستقلال العراق من جهة.وهكذا جاءت حكومة ناجي السويدي وسطاً بين الاتجاه الموالي لبريطانيا والاتجاه المعارض لسياستها، وللمعاهدة.
أما الرأي العام العراقي فقد كان بين متفائل ومتشائم من هذه الوزارة، ورأى البعض الأخر أن هذه الوزارة لا تعدو عن كونها وزارة انتقالية ليس إلا.

أما وزارة الخارجية البريطانية فقد كان رأيها أن هذه الوزارة لن تدوم طويلاً، فبريطانيا لا ترضى إلا بوزارة تكون ألعوبة بأيديها، وهي لم تعترض على تشكيلها لكي تهدئ الأوضاع في البلاد بعد الذي سببته حكومة نوري السعيد بعقد معاهدة 30 حزيران 1930.
كان على الوزارة الجديدة أن تلجأ إلى حل البرلمان الذي يتمتع فيه نوري السعيد بالأغلبية المطلقة لتقليم أظافره من جهة، ولإرضاء الشعب بعد أن زوّر نوري السعيد الانتخابات السابقة بشكل خطير.

 وحاول نوري السعيد ثني ناجي شوكت للحيلولة دون حل البرلمان واعداً إياه بتأييد نواب حزبه للوزارة.
غير أن الملك كان قد صمم على حل البرلمان، وأصدر الإرادة الملكية بحله في 8 تشرين الثاني 1932.
حاول نوري السعيد عرقلة قرار حل البرلمان بأن أوعز إلى نواب حزبه بعدم حضور الجلسة التي تتلى فيها الإرادة الملكية بحله، لكن ذلك لم يمنع من مضي الحكومة والملك قدماً في حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة. (4)

أما نوري السعيد فقد عقد اجتماع لقيادة حزبه في 10 تشرين الأول بعد يومين من قرار الحل، وأصدرت القيادة  بياناً يندد بالحل، وقررت كذلك إرسال مذكرة إلى الملك فيصل ادعت فيها عدم شرعية الحل، وفوضت نوري السعيد بمتابعة المذكرة.
ولما بلغ الأمر للملك فيصل، قرر إبعاد نوري السعيد عن العراق بتعينه ممثلاً للعراق في عصبة الأمم في 16 تشرين الثاني 1932.
كان أمام حكومة ناجي شوكت مدة أربعة اشهر تبدأ من تاريخ حل البرلمان لإجراء انتخابات جديدة حسبما نص على ذلك القانون الأساسي بمادته الأربعين، ولذلك فقد سارعت الحكومة إلى تعين يوم 10 كانون الأول 1932 موعداً لانتخاب المنتخبين الثانويين، وجرت الانتخابات في جو من اللامبالاة من قبل الشعب الذي كان يدرك أن الحكومات المتعاقبة تجري الانتخابات حسبما تريد هي والمندوب السامي والملك، شاء الشعب أم أبى.

ومع ذلك فقد رشح أعضاء من [ حزب الإخاء الوطني ] الذي يقوده الزعيم الوطني[ جعفر أبو التمن] بشكل فردي، وفاز معظم المرشحين في الانتخابات، ولكن عددهم كان قليلاً. كما رشح عدد من أعضاء [الحزب الوطني] بزعامة [يسين الهاشمي] على الرغم من حدوث انشقاق في قيادة الحزب بسبب مطالبة البعض منهم مقاطعة الانتخابات وفاز عدد من المرشحين .

أما حزب نوري السعيد [ حزب العهد ] فقد كان حزب حكومة وبرلمان فلما ذهبت الوزارة وحُل البرلمان تلاشى الحزب، لكن عدد من أعضاء الحزب رشحوا في الانتخابات بصورة فردية، وفازوا فيها.

كانت حصة الأسد كما هو جارٍ عادة في كل انتخابات للحكومة، فقد فازت كتلة الحكومة بـ  72 مقعداً في المجلس المؤلف من 88 مقعدا ودعيت كتلة رئيس الوزراء [الكتلة البرلمانية]، لكن هذه الكتلة بدأت بالتفكك عندما عقد المجلس اجتماعه في 8 آذار 1933، على أثر تواصل هجمات المعارضة على الحكومة.

حاول ناجي شوكت بعد الانتخابات أن يوسع وزارته، ويدخل فيها عناصر ما كان يدعى بالمعارضة المعتدلة مثل [يسين الهاشمي] و[حكمت سليمان] لكن الملك لم يوافق على ذلك، وأثر بقاء الوزارة على حالها، وخيره بالبقاء على رأس الوزارة أو تكليف رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة، فما كان من ناجي شوكت إلا أن قدم استقالة حكومته إلى الملك في 18 آذار 1933، وتم قبول الاستقالة، وكلف الملك السيد رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة  في 20 آذار 1933.

للإطلاع على المزيد من البحوث التاريخية والمقالات وسائر كتبي الرجوع إلى موقعي على الانترنيت التالي:

www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com

247
من ذاكرة التاريخ:
هكذا فرض نوري السعيد معاهدة عام 1930على العراق
 ونال ثقة المحتلين البريطانيين!

حامد الحمداني                                                       4/8/2011
على أثر انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، شكل نوري السعيد وزارته الأولى في 23 آذار 1930، بناء على تكليف الملك بطلب من المندوب السامي البريطاني، وكان ذلك التكليف باكورة هيمنته على سياسة العراق، حيث تولى الحكم أربعة عشر مرة منذُ ذلك التاريخ وحتى سقوط النظام الملكي إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولعب خلال تلك الحقبة دوراً خطيراً في حياة البلاد السياسية، واشتهر بإخلاصه التام للإنكليز، وبحملات القمع التي مارسها ضد أبناء الشعب، والمراسيم الجائرة التي كان يصدرها لكي يسكت أفواه المواطنين وقوى المعارضة العراقية، مستخدماً كل الوسائل والسبل المخالفة للدستور. كما اتخذ له موقفاً معادياً من حركات التحرر العربية إرضاءً  لأسياده البريطانيين. وقد جاءت وزارته على الشكل التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية.
2 ـ جميل المدفعي  ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ علي جودت الأيوبي ـ وزيراً للمالية.
4 ـ جمـال بابان ـ وزيراً للعدل.
5 ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع.
6 ـ جميل الراوي ـ وزيراً للأشغال والإسكان.
7 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف.
وقد أعلن نوري السعيد أن أمام وزارته مهمة التفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة على أساس الاستقلال، ودخول العراق إلى عصبة الأمم، لكن حقيقة الأمر أن حكومة نوري السعيد جاءت لفرض معاهدة 1930 الجائرة على العراق. (1)

إجراءات السعيد لتأمين فرض معاهدة 1930
بدأت المفاوضات العراقية البريطانية حول عقد معاهدة جديدة في 31 آذار 1930، وقد ترأس الوفد البريطاني المندوب السامي السير [هيمفريز]، وضم الوفد مساعده [الميجر يونك] و[المستر ستاجر]، فيما كان الوفد العراقي برئاسة [الملك فيصل]، وعضوية [نوري السعيد] و[جعفر العسكري] و[رستم حيدر]، وقد لعب الملك دوراً بارزاً في المفاوضات، وكانت الحكومة تصدر كل يوم بياناً مقتضباً حول مجرى المفاوضات دون الدخول في التفاصيل، حتى جاء يوم 8 نيسان 1930 حين صدر
 بيان عن الحكومة يقول:
لقد تم الاتفاق بين المتفاوضين على ما يلي:
1ـ إن المعاهدة التي تجري المذاكرة حولها الآن ستدخل حيز التنفيذ عند دخول العراق في عصبة الأمم.
2ـ إن وضع العراق كما هو مصرح في المعاهدة سيكون وضع دولة حرة مستقلة.
3ـ عند دخول المعاهدة الجديدة حيز العمل ستنتهي حالاً جميع المعاهدات والاتفاقات الموجودة ما بين العراق وبريطانيا العظمى، والانتداب الذي قبله صاحب الجلالة البريطانية سينتهي بطبيعة الحال.
 لعب نوري السعيد دوراً أساسياً في عقد المعاهدة الجديدة بالنظر للثقة الكبيرة التي أولاها البريطانيون له، والاطمئنان إليه، وكذلك ثقة الملك فيصل.
كان الشعب العراقي يدرك أن المفاوضات لن تطول، وهذا ما كان، فقد أعلن بيان رسمي للحكومة  في 30 حزيران 1930 عن توقيع معاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا العظمى، وتنفذ حال قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وأن المعاهدة ستنشر في بغداد ولندن في وقت واحد يتفق عليه الطرفان.
باشر نوري السعيد المهام التي أنيطت به، وكان جُلّ همه أن ينجح في الامتحان الصعب، وينال ثقة الإنكليز، وقد فعل ذلك ونجح، وأصبح رجل بريطانيا القوي دون منازع، فكانت بريطانيا تنيط به تأليف الوزارة كلما كان لديها مهمة صعبة تنوي تنفيذها، وقد اتخذ نوري السعيد الإجراءات التالية تمهيداً لإقرار المعاهدة.
1ـ  حل المجلس النيابي
بعد أن أتمت الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة يستطيع من خلالها تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط.
وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز، وأحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة منددة بنوري السعيد وبالمعاهدة وبالإمبريالية البريطانية، فقد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق، بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة، وتقييد العراق بقيود جديدة. (2)
 2 ـ  السعيد يزور الانتخابات لضمان فرض المعاهدة
بعد أن حلت الحكومة مجلس النواب، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط  والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو، وليس الشعب. وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول  1930 في جو مشحون بالإرهاب.
 فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية بالوكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه وأساليبه القمعية المعروفة لإرهاب المنتخبين الثانويين، وإجبارهم على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات، تنقلات واسعة بين رؤساء وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة. لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل 88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى من قبل مجلس النواب، وجاءت المعاهدة على الوجه التالي. (3)
نص معاهدة 30 حزيران 1930: (17)
صاحب الجلالة ملك العراق.
وصاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
لما كانا راغبين في توثيق أواصر الصداقة، والاحتفاظ بصلات التفاهم وإدامتها ما بين بلديهما، ولما كان صاحب الجلالة ملك بريطانيا قد تعهد في معاهدة التحالف الموقع عليها في بغداد في اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية، بأن ينظر نظراً فعلياً في تمتين علاقاتنا في فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات، ولما كانت حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قد أعلمت الحكومة العراقية في اليوم الرابع عشر من أيلول سنة 1929 أنها مستعدة لعضد ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 بلا قيد ولا شرط، وأعلنت لمجلس العصبة في اليوم الرابع عشر من كانون الأول 1929 أن هذه هي نيتها. ولما كانت المسؤوليات الانتدابية التي قبلها صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق ستنتهي من تلقاء نفسها،عند إدخال العراق عصبة الأمم، ولما كان صاحب الجلالة ملك العراق، وصاحب الجلالة البريطانية يريان أن الصلات التي ستقوم بينهما بصفة كونهما مستقلين، وينبغي تحديدها بعقد معاهدة تحالف وصداقة.
فقد اتفقا على عقد معاهدة جديدة لبلوغ هذه الغاية،على قواعد الحرية والمساواة التامتين، والاستقلال التام، وتصبح نافذة عند دخول العراق عصبة الأمم، وقد عيّنا عنهما مندوبين مفوضين هما:
عن جلالة ملك العراق : نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حامل وسامي النهضة والاستقلال من الصنف الثاني.
وعن جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار، إمبراطور الهند اللفتنانت كولونيل السر[ هنري هيمفريز]المعتمد السامي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق اللذان بعد أن تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة قد اتفقا على ما يلي:
المادة الأولى: يسود سلم وصداقة دائمين بين صاحب الجلالة ملك العراق وصاحب الجلالة البريطانية، ويؤسس بين الفريقين الساميين المتعاقدين تحالف وثيق، توطيداً لصداقتهما وتفاهمهما الودي، وصلاتهما الحسنة، وتجرى بينهما مشاورة تامة وصريحة في جميع الشؤون السياسية الخارجية، مما قد يكون له مساس مصالحهما المشتركة.
ويتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن لا يقف من البلاد الأجنبية موقفاً لا يتفق ومعاهدة  التحالف هذه، أو قد يخلق مصاعب للفريق الآخر.                                                                                                                                    المادة الثانية: يمثل كل من الفريقين الساميين المتعاقدين لدى بلاط الفريق السامي المتعاقد الآخر ممثل سياسي [دبلوماسي] يعتمد وفقاً للأصول المرعية.
المادة الثالثة:إذا أدى نزاع بين العراق ودولة ثالثة إلى حالة يترتب عليها خطر قطع العلاقات بتلك الدولة، يوحد عندئذٍ الفريقان الساميان المتعاقدان مساعيهما لتسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية، وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً لأي تعهدات دولية أخرى يمكن تطبيقها على تلك الحالة.
المادة الرابعة: إذا اشتبك أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في حرب رغم أحكام المادة الثالثة أعلاه  يبادر حينئذٍ الفريق السامي المتعاقد الآخر فوراً إلى معونته بصفة كونه حليفاً، وذلك دائماً وفق أحكام المادة التاسعة أدناه. وفي حالة خطر حرب محدق يبادر الفريقان الساميان المتعاقدان فوراُ إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية.
إن معونة صاحب الجلالة ملك العراق في حالة حرب، أو خطر حرب محدق تنحصر في أن يقدم إلى صاحب الجلالة البريطاني في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر، والموانئ والمطارات، ووسائل المواصلات.
المادة الخامسة: من المفهوم بين الفريقين الساميين المتعاقدين أن مسؤولية حفظ الأمن الداخلي في العراق وأيضاً ـ بشرط مراعاة أحكام المادة الرابعة أعلاه مسؤولية الدفاع عن العراق إزاء الاعتداء الخارجي تنحصران في صاحب الجلالة ملك العراق.
مع ذلك يعترف جلالة ملك العراق بان حفظ  وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية بصورة دائمة في جميع الأحوال هما من صالح الفريقين الساميين المتعاقدين المشترك.
فمن أجل ذلك، وتسهيلاً للقيام بتعهدات صاحب الجلالة البريطانية وفقاً للمادة الرابعة أعلاه يتعهد جلالة ملك العراق بأن يمنح صاحب الجلالة البريطانية طيلة مدة التحالف موقعين لقاعدتين جويتين ينتقيهما صاحب الجلالة البريطانية في البصرة، أو في جوارها، وموقعاً واحداً لقاعدة جوية ينتقيها صاحب الجلالة البريطانية في غرب نهر الفرات.
وكذلك يأذن جلالة ملك العراق لصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الأراضي العراقية في الأماكن الأنفة الذكر وفقاً لأحكام ملحق هذه المعاهدة، على أن يكون مفهوماً أن وجود هذه القوات لن يعتبر بأي حال من الأحوال احتلالاً، ولن يمس على الإطلاق سيادة واستقلال العراق.
المادة السادسة: يعتبر ملحق هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.
المادة السابعة: تحل هذه المعاهدة محل معاهدتي التحالف الموقع عليهما في بغداد في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922 ميلادية، والموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية، وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني سنة 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية مع الاتفاقات الفرعية الملحقة بها، التي تمسي ملغاة عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وهذه المعاهدة في نسختين في كل من اللغتين العربية والإنكليزية، ويعتبر النص الأخير المعول عليه.
المادة الثامنة: يعترف الفريقان الساميان المتعاقدان بأنه عند الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة تنتهي من تلقاء نفسها وبصورة نهائية جميع المسؤوليات المترتبة على صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق وفقاً لأحكام وثيقة دولية أخرى، وينبغي أن يترتب على جلالة ملك العراق وحده، وعلى الفريقين الساميين المتعاقدين أن يبادرا فوراً إلى اتخاذ الوسائل المقتضية لتأمين نقل هذه المسؤوليات إلى جلالة ملك العراق.
المادة التاسعة: ليس في هذه المعاهدة ما يرمي بوجه من الوجوه إلى الإخلال أو يخل بالحقوق والتعهدات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الفريقين الساميين المتعاقدين وفقاً لميثاق عصبة الأمم، أو معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في اليوم السابع والعشرين من شهر آب سنة 1928 ميلادية.
المادة العاشرة: إذا نشأ أي خلاف فيما يتعلق بتطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها، ولم يوفق الفريقان الساميان المتعاقدان إلى الفصل فيه بالمفاوضة رأساً بينهما يعالج الخلاف حينئذٍ وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم .
المادة الحادية عشرة: تبرم هذه المعاهدة، ويتم تبادل الإبرام بأسرع ما يمكن، ثم يجري تنفيذها عند قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وتظل هذه المعاهدة نافذة لمدة خمس وعشرين سنة ابتداء من تاريخ تنفيذها، وفي أي وقت كان بعد عشرين سنة من تاريخ الشروع بتنفيذها، على الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما بناء على طلب أحدهما بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار على حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال.
وعند الخلاف في هذا الشأن يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم .
وإقراراً لما تقدم قد وقع كل من المندوبين المفوضين على هذه المعاهدة وختمها بختمه .
كتب في بغداد في اليوم الثلاثين من شهر حزيران سنة 1930 ميلادي الموافق لليوم الثاني من شهر صفر سنة 1349 هجرية.
هنري هيمفر                                    نوري السعيد
                                                          ملحق
                                                        فقرة رقم 1

يعين صاحب الجلالة البريطانية من حين لأخر مقدار القوات التي يقيمها جلالته في العراق وفقاً لإحكام المادة الخامسة من هذه المعاهدة، وذلك بعد مشاورة صاحب الجلالة ملك العراق في الأمر، ويقيم صاحب الجلالة البريطانية قوات في [الهنيدي] لمدة خمس سنوات، بعد الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وذلك لكي يتمكن صاحب الجلالة ملك العراق من تنظيم القوات المقتضية للحلول محل تلك القوات، وعند انقضاء تلك المدة تكون قوات صاحب الجلالة البريطانية قد انسحبت من الهنيدي.
ولصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الموصل لمدة حدها الأعظم خمس سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وبعد ذلك لصاحب الجلالة البريطانية أن يضع قواته في الأماكن المذكورة في المادة الخامسة من هذه المعاهدة، ويؤجر صاحب الجلالة ملك العراق مدة هذا التحالف لصاحب الجلالة البريطانية المواقع المقتضية لإسكان قوات صاحب الجلالة البريطانية في تلك الأماكن.
فقرة رقم 2
بشرط مراعاة أي تعديلات قد يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على إحداثها في المستقبل، تظل الحصانات والامتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية،  بما في ذلك الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها القوات البريطانية في العراق شاملة القوات المشار إليها في الفقرة الأولى أعلاه، وتشمل أيضاً قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف، وهي القوات التي يحتمل وجودها في العراق عملاً بأحكام هذه المعاهدة وملحقها، أو وفقاً لاتفاق يتم عقده بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وأيضاً يواصل العمل بأحكام أي تشريع محلي له مساس بقوات صاحب الجلالة البريطانية المسلحة، وتتخذ الحكومة العراقية التدابير المقتضية للتثبت من كون الشروط المتبدلة لا تجعل موقف القوات البريطانية فيما يتعلق بالحصانات والامتيازات أقل ملائمة من الوجوه من الموقف الذي تتمتع به هذه القوات في تاريخ الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 3
يوافق جلالة ملك العراق على القيام بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة في الفقرة الأولى من هذا الملحق، وتدريبها وأعالتها، وعلى منحها عين التسهيلات استعمال التلغراف واللاسلكي، التي تتمتع بها عند الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 4
يتعهد صاحب الجلالة ملك العراق بأن يقدم بناء على طلب صاحب الجلالة البريطانية، وعلى نفقة صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً للشروط التي يتفق عليها الفريقان الساميان المتعاقدان، حرساً خاصاً من قوات صاحب الجلالة ملك العراق لحماية القواعد الجوية، مما قد تشغله قوات صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً لأحكام هذه المعاهدة، وأن يؤمن سنّ القوانين التشريعية التي قد يقتضيها تنفيذ الشروط الآنفة الذكر.
فقرة رقم 5
يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يقوم عند كل طلب يطلبه صاحب الجلالة ملك العراق بجميع التسهيلات في الأمور التالية، وذلك على نفقة جلالة ملك العراق، وهي:
1 ـ تعليم الضباط العراقيين الفنون البحرية والعسكرية والجوية في المملكة المتحدة.
2 ـ تقديم الأسلحة والعتاد والتجهيزات والسفن والطائرات من أحدث طراز متيسر إلى قوات جلالة ملك العراق .
3 ـ تقديم ضباط بريطانيين مجربين عسكريين وجويين للخدمة بصفة استشارية في قوات جلالة ملك العراق .
فقرة رقم 6
لما كان من المرغوب فيه توحيد التدريب والأساليب في الجيشين العراقي والبريطاني يتعهد جلالة ملك العراق بأنه إذا رأى ضرورة الالتجاء إلى مدربين عسكريين أجانب فإنهم يختارون من الرعايا البريطانيين.
ويتعهد أيضاً بأن أي أشخاص من قواته، من الذين يوفدون إلى الخارج للتدريب العسكري يرسلون إلى مدارس وكليات ودور تدريب عسكرية في بلاد جلالته البريطانية، بشرط أن لا يمنع ذلك صاحب الجلالة ملك العراق من إرسال الأشخاص الذين لا يمكن قبولهم في المعاهد، ودور التدريب المذكورة في أي قطر آخر.
ويتعهد أيضاً بأن التجهيزات الأساسية لقوات جلالته، وأسلحتها، لا تختلف في نوعها عن أسلحة قوات صاحب الجلالة البريطانية، وتجهيزاتها.
يوافق جلالة ملك العراق على أن يقوم عند طلب صاحب الجلالة البريطانية ذلك بجميع التسهيلات الممكنة لمرور قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف العسكرية عبر العراق لنقل وخزن جميع المؤن والتجهيزات التي قد تحتاج إليها هذه القوات في أثناء مرورها في العراق، وتتناول هذه التسهيلات استخدام طرق العراق، وسككه الحديدية، وطرقه المائية، وموانئه، ومطاراته، ويؤذن لسفن صاحب الجلالة البريطانية أذناً عاماً في زيارة شط العرب، بشرط إعلام جلالة ملك العراق، قبل القيام بتلك الزيارات للموانئ العراقية. (4)
                                                      دار الاعتماد  ن. س . ف
                                                     بغداد في 30 حزيران 1930
وقبل أن يعرض نوري السعيد معاهدته المشؤومة على مجلس النواب لجأ إلى تأليف حزب سياسي له ضم العناصر التي رشحها في الانتخابات لتكون سنداً له في تصديق المعاهدة فكان [حزب العهد]. وفي 4 تشرين الأول 1930 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بالموافقة على المعاهدة، وتم دعوة مجلس النواب إلى الاجتماع  في 16 تشرين الأول، واتخذ نوري السعيد احتياطات أمنية واسعة النطاق حول بناية المجلس الجديد في بناية جامعة[آل البيت]،التي ألغاها عند تشكيله لوزارته، والواقعة في الاعظمية، وأصدر قراراً بضمها إلى حدود أمانة العاصمة، حيث ينص الدستور على أن يكون مقر مجلس النواب في العاصمة. وفي اليوم المقرر لمناقشة المعاهدة من قبل مجلس النواب تقدم نوري السعيد إلى المجلس بالاقتراح التالي :
{لما كانت نصوص المعاهدة مع بريطانيا المنعقدة في 30 حزيران 1930 قد نشرت للرأي العام منذ مدة طويلة، وكانت انتخابات مجلس النواب قد جرت على أساس استفتاء الشعب فيها اقترح على المجلس الموقر أن يوافق على المذاكرة فيها بصورة مستعجلة}.
وقد تمت الموافقة على الاقتراح من قبل رئيس المجلس، و تم طرح المعاهدة بعد نقاش للمعارضة دام 4 ساعات للتصويت عليها، وقد صوت إلى جانب المعاهدة 69، وعارضها 13عضواً، وتغيب 5 أعضاء عن الحضور، وسط هياج وصياح المعارضة المنددة بالمعاهدة. (5)
 لم يبق أي عائق أمام نوري السعيد لتصديق المعاهدة، فالملك فيصل كان يرأس الوفد المفاوض أثناء عقد المعاهدة، ومجلس الأعيان يعيينه الملك، ويعمل بأمره.
أما المعارضة فقد أبرق أقطابها المعروفين السادة[جعفر أبو التمن] و[ناجي السويدي] و[يسين الهاشمي] إلى سكرتارية عصبة الأمم يحتجون على بنود المعاهدة التي لا تضمن للعراق استقلالاً حقيقياً، وتفسح المجال لبريطانيا باستغلال البلاد حسب ما تقتضيه أغراضها الاستعمارية.

 ماذا قال رجال الدولة البارزين عن المعاهدة؟ (6)

لم يكد نوري السعيد يحقق مهمته الأولى بالتصديق على المعاهدة حتى عمَّ استياء عام وهياج جماهير الشعب احتجاجاً على ربط العراق بعجلة الاستعمار البريطاني، ولم يستطع رجالات السياسة البارزين وأقطاب الحكم إلا أن يوجهوا النقد الشديد للحكومة، بالنظر لكونها قد قيدت العراق لسنوات طويلة، وربطته بعجلة بريطانيا خلافاً لمصالح الشعب والوطن، وأعلنوا رفضهم لها .
فقد قال [رشيد عالي الكيلاني] وهو من رؤساء الوزارات المخضرمين:
{إن أقل ما يقال عن هذه المعاهدة أنها استبدلت الانتداب الوقتي باحتلال دائم، وأضافت إلى القيود والأثقال الحالية  قيوداً وأثقالاً أشد وطأة}.
وقال [يسين الهاشمي]، وهو أيضاً من رؤساء الوزارات، والذي شكل العديد من الوزارات ما يلي:
 {لم تضف المعاهدة شيئاً إلى ما كسبه العراق بل زادت في أغلاله، وعزلته عن الأقطار العربية، وباعدت ما بينه وبين جيرانه، وصاغت لنا الاستقلال من مواد الاحتلال، ورجائي من أبناء الشعب أن لا يقبلوها}.
وقال [حكمت سليمان]، وهو رئيس وزراء سابق ما يلي:
{المعاهدة الجديدة تضمن الاحتلال الأبدي، ومنحت بريطانيا امتيازات دون عوض أما ذيولها المالية، فإنها تكبد العراق أضراراً جسيمة دون مبرر}.
أما السيد[محمد رضا الشبيبي] وهو وزير في وزارات عديدة فقد قال:
 {إنني أرتئي رفض المعاهدة وملحقاتها لأنها حمّلت العراق الكثير من المغارم والتبعات، ولم يكسب مقابل ذلك حقاً جديداً من الحقوق، في حين حصل الجانب الآخر على امتيازات وحقوق جديدة}.
أما السيد [عبد العزيز القصاب] وهو وزير في وزارات عدة فقد قال عن تلك المعاهدة ما يلي:
{ إن المعاهدة لا تلبِ رغبات الشعب، وجاءت هادمة لكل الجهود التي بذلت لتخفيف وطأة المعاهدات السابقة، وأنا ارفضها ويرفضها الشعب}.
وقال [حمدي الباجه جي] وهو رئيس وزارة سابق:
 { إن المعاهدة الجديدة تجعل كابوس الاستعمار البريطاني دائماً ومستمراً}.
وقال [يوسف غنيمة] وهو وزير سابق:
 {إن المعاهدة لا تتفق والاستقلال التام، ورغبات الشعب، وليست في مصلحة البلاد}.
وقال [كامل الجادرجي] وهو وزير سابق، وزعيم الحزب الوطني الديمقراطي، وأحد أبرز رموز المعارضة العراقية:
{إن نتيجة هذه المعاهدة وذيولها حمايةٌ بريطانية شديدة الوطأة، واحتلال دائم}. (7)
لكن المؤسف أن كل أولئك الساسة، باستثناء الأستاذ كامل الجادرجي، قد تنكروا لأقوالهم، واشتركوا في الوزارات التالية، ونفذوا بنود المعاهدة، وبلعوا تعليقاتهم حولها.
غير أن أكثر الشخصيات الوطنية عنفاً في مقاومة المعاهدة كان القائد الوطني البارز[جعفر أبو التمن] زعيم الحزب الوطني الذي بعث بمذكرة باسم الحزب إلى كل من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإيران وتركيا وإلى عصبة الأمم في1تشرين الأول 1930 أدان فيها أسلوب تأليف حكومة نوري السعيد، والأساليب غير الدستورية التي أقدم عليها، بتأجيل جلسات المجلس النيابي، ومن ثم حله دون أن يمض عليه خمسة أشهر، وقيامه بتعطيل أكثر من 20 صحيفة سياسية، وإحالة عدد من المحررين الصحفيين إلى المحاكم، ومنع الحكومة للاجتماعات العامة، وكمّ أفواه الشعب، وعقد معاهدة جائرة يرفضها الشعب لأنها تصب في خدمة الأغراض الاستعمارية البريطانية، وإجراء انتخابات مزورة لفرض المعاهدة التي رفضها الشعب وقواه الوطنية، وإن الحزب الوطني الذي أيدت سياسته أكثرية الشعب العراقي يعتبر أن هذه المعاهدة ملغاة وباطلة}.
كما أحتج عدد من الشخصيات السياسية الكردية على المعاهدة، وأبرقوا إلى سكرتارية عصبة الأمم عدة برقيات في 20، و26 تموز تستنكر عقد المعاهدة .
وقال عدد من أعضاء اللجنة الدائمة للانتدابات من ممثلي الدول في عصبة الأمم :
{ إن قبول العراق لهذه المعاهدة سيجعله بعد تحرره من الانتداب تحت الحماية البريطانية}.
وقال[ المسيو بار] العضو الفرنسي في اللجنة المذكورة:
{أنا شخصياً لا أحب أن أرى بلادي تدخل في مثل هذا التعهد الذي قبله العراق على نفسه}.
وهكذا أثبت نوري السعيد أنه أكثر إنكليزية من الإنكليز، وانه رجل الإمبريالية البريطانية دون منازع، وهذا ما أهله لكي يكون العمود الفقري الذي تستند عليه السياسة البريطانية في العراق، ومكنته من أن يشكل 14 وزارة، في الفترة الممتدة من منتصف حزيران 1930 وحتى سقوط النظام الملكي حين قامت ثورة 14 تموز 1958.
التوثيق
(1) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 7 .
(2) نفس المصدر ـ ص 17 .
(3) صحيفة صدى الاستقلال ـ العدد الرابع .تشرين الأول 1930
(4) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 19 .
(5) محاضر مجلس النواب 1930 ـ ص 57 .
(6) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص50 .
      (7) في غمرة النضال ـ ص 178 ـ سلمان الفياض

248
من ذاكرة التاريخ:
معاهدة 1930 وراء انتحار عبد المحسن السعدون
حامد الحمداني                                                      1/8/2011
كان رئيس الوزراء السيد جعفر العسكري قد أخذ على عاتقه إقرار معاهدة 1930، حيث كان قد سافر إلى لندن لوضع مسودة المعاهدة والتوقيع عليها بالأحرف الأولى كي تعرض على البرلمان لإقرارها.
لكن العسكري وجد نفسه في موقف صعب بعد عودته إلى بغداد. فقد استقال كل من وزير الداخلية [رشيد عالي الكيلاني]، ووزير المالية [يسين الهاشمي]، كما وجد البلاد في حالة من الغليان الشديد احتجاجاً على تلك المعاهدة التي لم تختلف في جوهرها عن سابقاتها معاهدة 1922 ومعاهدة 1926.
 فقد أصرّتْ بريطانيا تقيد العراق بقيود ثقيلة  في سائر المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية، وتتدخل بشؤون العراق صغيرها وكبيرها.
وهكذا وجد رئيس الوزراء أن مواجهة مجلس النواب بهذه المعاهدة قد بات أمراً صعباً للغاية، فلم يجد ُبد من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 8 كانون الثاني 1928، وقد تم قبول الاستقالة وكلف الملك السيد عبد المحسن السعدون بتأليف وزارته الثالثة في 14 كانون الثاني 1928. (1)

كان في مقدمة المهام الملقاة على عاتق هذه الحكومة بطبيعة الحال هو إقرار المعاهدة الجديدة في مجلس النواب، والشروع في مفاوضات لتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية. وحيث أن الحكومة الجديدة لا تضمن الأكثرية في المجلس، ولوجود معارضة قوية من قبل العديد من النواب للمعاهدة المذكورة، فقد طلب رئيس الوزراء من الملك فيصل إصدار الإرادة الملكية بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة.

وتم للسعدون ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 18كانون الثاني1928، وقامت الحكومة بحملة تنقلات واسعة في الجهاز الإداري بين كبار الموظف قبل إجراء الانتخابات العامة لتأمين حصول الحكومة على الأكثرية اللازمة لإقرار المعاهدة.

لكن أحداث خطيرة وقعت في العراق في أول عهد الوزارة، فقد قبضت الحكومة على الشيخ [ضاري الشعلان] الذي اتهم هو وأولاده بقتل الكولونيل [لجمان] بعد قرار السلطات البريطانية بالقبض عليه ومحاكمته أبان ثورة العشرين، واضطر الشيخ ضاري إلى الهرب، لكنه وقع في قبضة الحكومة في 3 تشرين الثاني 1927 نتيجة وشاية، فأحيل إلى المحاكمة، وهو في حالة صحية سيئة، وحكم عليه بالإعدام ثم جرى تخفيض الحكم إلى السجن المؤبد، ولم يمضِ على سجن الشيخ ضاري سوى بضعة أيام حتى فارق الحياة في سجنه.
أدى موت الشيخ ضاري إلى هياج الجماهير الشعبية التي خرجت في مظاهرات صاخبة واقتحمت المستشفى، وانتزعت جثة الفقيد، وسارت به في مظاهرة عارمة وهي تندد بالحكومة وبالاستعمار البريطاني، وكان ذلك أول صدمة تلقتها الحكومة السعدونية.(2)

وجاءت زيارة الصهيوني البريطاني المعروف [السير الفرد موند] إلى العراق في 8 شباط 1928، واستقباله من قبل المندوب السامي، وكبار الشخصيات اليهودية المتحمسة للحركة الصهيونية لتزيد في الطين بله، فقد أثار مقدمه إلى العراق موجة من السخط العارم لدى أبناء الشعب الذين هبوا في مظاهرة صاخبة منددين بالصهيونية والاستعمار البريطاني وبالحكومة، واستخدمت الحكومة القوة لتفريق المتظاهرين فوقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وأصيب خلال المصادمات العديد من المتظاهرين وأفراد الشرطة.(3)

لقد كانت المظاهرة من السعة بحيث ضمت أكثر من عشرين ألفاً سارت نحو محطة قطار الكرخ، حيث كان من المقرر أن يمر من هناك موكب الزائر الصهيوني، واضطرت الحكومة إلى تغير مسار الموكب نحو الكاظمية فالأعظمية، حيث نزل [الفرد موند] عند المندوب السامي البريطاني. وقامت الحكومة بحملة واسعة ضد العناصر الوطنية التي ساهمت في المظاهرة، وأغلقت [نادي التظامن] الذي اتهمت الحكومة المشرفين عليه بالتحريض على التظاهر، وأصدرت أمراً بمنع التجمعات والمظاهرات بدون موافقة السلطة.

كما قررت وزارة المعارف طرد عدد كبير من الطلاب والمدرسين وأحالت قسم منهم إلى المحاكمة، وأعلن وزير المعارف [توفيق السويدي] أن الحكومة عازمة على منع المظاهرات حتى ولو تطلب الأمر إطلاق الرصاص على الطلاب المتظاهرين المخالفين للقرار.
أما المندوب السامي فقد قدم احتجاجاً للملك على قيام المظاهرات المنددة بالصهيونية وببريطانيا، لكن المظاهرات تجددت يوم 10 شباط حيث انطلقت من جامع [الحيدرخانه] مظاهرة كبيرة تهتف بسقوط الصهيونية وسقوط وعد [بلفور] والاستعمار البريطاني، وجرى صِدام عنيف مع رجال الشرطة التي استطاعت تفريق المظاهرة بعد جهد كبير، واعتقلت عدد من الخطباء وإحالتهم إلى المحاكمة.
ولما كان مجلس النواب قد حُلّ، ولإصرار الحكومة على إعادة الأمن وقمع المظاهرات فقد لجأت إلى إصدار المراسيم العقابية ضد كل من يحاول التظاهر، ونصت تلك المراسيم على جلد المتظاهرين، ووضعهم تحت مراقبة الشرطة، والطرد من المدارس والوظائف، والأبعاد والنفي وغيرها من المراسيم المنافية لروح الدستور، وقد أثارت هذه المراسيم موجة احتجاجات عاتية من قبل الأحزاب السياسية والصحافة التي وصفتها بأنها مراسيم جائرة.

وعلى أثر ذلك استقال وزير العدل [حكمت سليمان] من منصبه احتجاجاً على حضور المستشار البريطاني  لوزارة العدل جلسة مجلس الوزراء، والتي قرر خلالها المجلس إصدار تلك المراسيم، ودور المستشار البريطاني في إصدارها، ونتيجة لكل تلك الضغوط اضطرت الحكومة إلى إلغاء تلك المراسيم في 17 أيار 1928. (4)

وفي 22 كانون الثاني 1928 شرعت الحكومة في الأعداد للانتخابات الجديدة لمجلس النواب، وعبأت المعارضة قواها لخوضها، وبدأت الحكومة تمارس ضغوطها للتأثير على سير الانتخابات للخروج بمجلس يؤيد سياستها، ويقر المعاهدة الجديدة مما أثار موجة من الاحتجاجات لدى المعارضة التي أعلنت أن الحكومة تعين النواب في واقع الأمر، وتقوم بتهديد الأهالي للتصويت لمرشحيها.

تم انتخاب المجلس في 9 أيار 1928 بالشكل الذي أرادته الحكومة بعد أن استخدمت كل وسائل التزوير والترهيب، واحتج حزبا [الاستقلال] و[الوطني] على نتائج الانتخاب في مذكرة رفعاها إلى رئيس الوزراء.
تم دعوة المجلس الجديد للاجتماع يوم 13 أيار 1928، حيث ألقى الملك فيصل خطاب العرش، والذي حاول فيه تبرير حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة بالرجوع إلى رغبات الأمة في بعض الأمور الخطيرة!، وكان الملك يقصد بذلك إقرار المعاهدة الجديدة، والتفاوض على تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.

ولما رأت بعض الشخصيات الوطنية ما تنوي الحكومة الأقدام عليه قررت تجميع صفوفها، وتأسيس حزب سياسي معارض يقف ضد تلك المعاهدة فكان تأليف [الحزب الوطني] بقيادة الشخصية الوطنية البارزة [جعفر أبو التمن]، وضمت قيادة الحزب كل من السادة [محمد مهدي البصير] و[علي محمود الشيخ علي] و[أحمد عزت الأعظمي] و[عبد الغفور البدري] و[ومولود مخلص] و[بهجت زينل] و[محمود رامز]، وبعض الشخصيات الوطنية الأخرى.(5)
قررت الحكومة السعدونية بدء المفاوضات مع بريطانيا في 11 تشرين الأول 1928 حول تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وفوضت وزراء الدفاع والمالية والمعارف للتفاوض مع الجانب البريطاني، فيما فوضت بريطانيا من جانبها المندوب السامي ومارشال الجو[أدور ولنكتون]، والسكرتير المالي لدار الاعتماد.

 وقد تقدم الوفد البريطاني بمسودة اتفاقيتين جديدتين لكي تحلان محل الاتفاقيتين الملحقتين بمعاهدة 1922. لكن الوفد العراقي المفاوض وجد أن هاتين المسودتين لا تختلفان في جوهرهما عن سابقتيهما، ولذلك اعترض عليهما، وقدم من جانبه مسودتين جديدتين تضمنتا المطالب التي تحقق طموحات العراق في التحرر من التبعية البريطانية عسكريا ومالياً.

 فقد تضمنت مسودة الاتفاقية العسكرية الطلب بأن يكون من مسؤولية الجيش العراقي الحفاظ على أمنه الداخلي والخارجي، مع تحديد عدد الضباط البريطانيين في الجيش، وأن يُعهد بإدارة الأحكام العرفية إلى ضابط عراقي بدلاً من البريطاني.

أما مسودة الاتفاقية المالية فقد تضمنت طلب العراق تملك السكك الحديدية التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وعدم تحمل الجانب العراقي نفقات المندوبية البريطانية.
أثارت المسودتين المقدمتين من الجانب العراقي غضب المندوب السامي البريطاني الذي أعلن على الفور رفض قبولهما، مما تسبب في وقوع أزمة بين الحكومة العراقية والمندوب السامي، وسارعت الحكومة إلى إرسال مذكرة للمندوب السامي في 27 كانون الأول أوضحت له فيها وجهة نظرها في المفاوضات الجارية وضمنتها المطالب التالية:
1ـ ضرورة تولي الجيش العراقي مسؤولية الدفاع عن الوطن.
2 ـ انتخاب قائد القوات المشتركة [البريطاني] من قبل الملك فيصل.
3 ـ إدارة الأحكام العرفية من قبل ضابط عراقي.
4 ـ رفض سلطة قائد القوة الجوية البريطاني على الجيش العراقي.
5 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي.
6 ـ رفض الفقرة الخاصة بالدفاع البحري عن العراق.
أما ما يخص الاتفاقية المالية فإن الحكومة ترى ما يلي:
1ـ أن العراق هو المسؤول عن مالية قواته البرية والجوية، وإن ما تقدمه الحكومة البريطانية من مساعدة يذهب إلى رواتب العدد الكبير من الضباط البريطانيين الذين لا ضرورة لبقائهم.
2ـ إن إمكانية الحكومة العراقية لا تسمح بدفع نفقات دار المندوبية البريطانية.
3 ـ يجب تعديل اتفاقية الرسوم الجمركية بما يتفق ومصالح العراق.
4ـ ضرورة تملك العراق للسكك الحديدية، والحكومة العراقية على استعداد لدفع تعويض للحكومة البريطانية.
5ـ تحديد فترة زمنية لنفاذ الاتفاقية المالية.
وفي الختام أبلغت الحكومة المندوب السامي في مذكرتها بأنها سوف لا تقدم المعاهدة الجديدة إلى مجلس الأمة قبل تعديل هاتين الاتفاقيتين المذكورتين. (6)

أما المندوب السامي، وبعد إطلاعه على مذكرة الحكومة العراقية، فقد سارع إلى الرد بعنف على ما جاء في مذكرة الحكومة، وخصوصاً فيما أعلنته حول عدم تقديم المعاهدة الجديدة إلى مجلس النواب قبل تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ودعا المندوب السامي الحكومة العراقية إلى أن تعلن أن أحكام الاتفاقيتين نافذة طالما لم يتوصل الجانبان لاتفاقيات جديدة.

سارع السعدون بعد تلقي مذكرة المندوب السامي إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء، ودعا قادة المعارضة السادة [رشيد عالي الكيلاني] و[جعفر أبو التمن] و[ياسين الهاشمي] لحضور الجلسة، وأطلعهم على مذكرة المندوب السامي، وطلب مشورتهم فيما يمكن عمله، وقد أشاروا عليه بالاستقالة مؤكدين له أن لا أحد سَيقدمْ على تشكيل وزارة جديدة. وبعد هذا اللقاء جمع السعدون قادة حزبه [حزب التقدم] وعرض عليهم الأمر، وقد اتخذ قادة الحزب قراراً بدعم موقف السعدون.

وبناء عليه سارع السعدون إلى إرسال مذكرة جوابية إلى المندوب السامي أعلن فيها أن الشعب العراقي ومجلس الأمة لا يرضيان بأقل من تحقيق المطالب التي تقدمت بها وزارته، وأن الحكومة غير مستعدة لتعلن الاتفاق على استمرار سريان مفعول الاتفاقيتين العسكرية والمالية السابقتين إلى أجل غير مسمى، وأن إقدام الحكومة على خطوة كهذه معناه الرجوع إلى الوراء، وأن ذلك مخل بكرامة الحكومة، ومَدعاة إلى القول بحقها أقوال شتى، وعليه فلم يعد أمام الوزارة غير تقديم استقالتها، وسوف أقدم استقالتي بداعي الأسباب الصحية، وعدم الإدلاء بأي بيان عن المفاوضات لمجلس الأمة، لكي لا يحدث ما لا يحمد عقباه، ويتخذ المجلس قراراً مخالفاً لخطة الوزارة المقبلة.
سارع المندوب السامي إلى إبلاغ وزير المستعمرات البريطاني برقياً في 19 كانون الثاني 1929عن الموقف المتأزم، وعن عزم الحكومة السعدونية على الاستقالة. وحالما قرأ الوزير البريطاني الرسالة، كتب إلى السعدون مذكرة مستعجلة رجاه فيها الاستمرار في الحكم، رغم فشل الطرفين في التوصل إلى اتفاق بشأن الاتفاقيتين العسكرية والمالية، واعداً إياه بمعاضدة بريطانـيا لــدخول العـراق إلى عصبة الأمم، وإمكانية تحقيق بعض المطالب التي تقدمت بها حكومته.

إلا أن السـعدون رد على مـذكرة وزيـر المستعمرات البريطاني بمذكرة أرسلها له في 19 كانون الثاني 1929 معرباً له عن رفضه الاستمرار في تحمل المسؤولية.
 قدم السعدون استقالة حكومته إلى الملك في 20 كانون الثاني 1929، واضطر الملك إلى قبول الاستقالة على مضض طالباً منه تسيير أمور الحكم حتى تؤلف وزارة جديدة.
لم يتمكن الملك فيصل من تشكيل وزارة جديدة لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ استقالة وزارة السعدون، بسبب الموقف البريطاني المتعنت من تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ولما وجد المعتمد السامي أن الأمر قد طال، ولتخوفه من خطورة الازمة أسرع إلى مقابلة الملك فيصل طالباً منه الإسراع بتأليف الوزارة بأسرع ما يمكن، وقد رد عليه الملك انه لا يستطيع تكليف أحد بتأليف الوزارة طالما بقي الموقف البريطاني على حاله.
وسارع السعدون إلى دعم موقف الملك بغية إحراج المندوب السامي، فبعث إلى الملك برسالة أبلغه فيها بأنه لا يستطيع الاستمرار في تسيير دفة الحكم أكثر من هذه المدة، وطلب من الملك قبول الاستقالة والانسحاب راجياً الملك أن يكلف أحداً بتشكيل الوزارة. (7)
وفي تلك الأيام أنتقل الحكم في بريطانيا من حزب المحافظين إلى حزب العمال، وقررت الحكومة العمالية الجديدة نقل المندوب السامي [هنري دوبس] على أثر المشادة الكلامية التي حصلت بينه وبين الملك، وبذلك انتهت خدماته في العراق، وغادر بغداد في 1 شباط 1929، وقررت الحكومة البريطانية تعيين السير[جلبرت كلايتي] خلفاً له، والذي وصل بغداد في 2 آذار 1929.

تأمل الشعب العراقي أن يحصل تغير في السياسة البريطانية تجاه العراق بعد انتقال الحكم إلى حزب العمال، وتغير المندوب السامي. فقد وعد المندوب السامي الجديد في خطابه الموجه إلى الملك فيصل أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه العراق!!، ودعاه إلى المحافظة على الثقة والاعتماد المتبادلين.

كما سارع المندوب السامي الجديد إلى لقاء رئيس الوزراء المستقيل عبد المحسن السعدون راجياً إياه العدول عن الاستقالة والاستمرار في الحكم.
 لكن السعدون أبلغه أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم طالما أصرت بريطانيا على عدم الاستجابة لمطالب العراق الوطنية المشروعة.
وعلى اثر تلك المقابلة سارع المندوب السامي إلى إعلام الحكومة البريطانية بالموقف، ووجدت الحكومة البريطانية أن بقاء التوتر بينها وبين الشعب العراقي ليس في صالح بريطانيا، وأن استمرار التوتر ينذر بأخطار كبيرة، فكتبت إلى مندوبها السامي  تعلمه أن الوزارة عازمة على إدخال العراق في عصبة الأمم  شرط أن تضمن المصالح البريطانية من خلال تعهدات ترتبط بها حكومة العراق مع بريطانيا، وأنها مستعدة للنظر في مطالب العراق فيما يخص الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وعليه فقد سارع المندوب السامي إلى إبلاغ الملك فيصل بمضمون رسالة وزير المستعمرات البريطانية في 21 نيسان 1929.

حاول الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة، إلا أن السعدون أبلغ الملك أن أعضاء حزبه في البرلمان لا يستطيعون منح الثقة لنوري السعيد، ولما لم يجد الملك مفراً من ذلك عهد إلى توفيق السويدي بتأليف الوزارة الجديدة في 28 نيسان 1929 على أمل إنقاذ الموقف، وجرى تأليف الوزارة على عجل. (8)
جاءت الوزارة الجديدة من هيئة الوزارة السعدونية السابقة، ومستندة إلى حزب السعدون الذي يتمتع بالأغلبية في مجلس النواب، لكن الحزب وضع أمام الوزارة شرط إجراء التعديلات المطلوبة على الاتفاقيتين المالية والعسكرية كي تنال ثقة البرلمان.
أثار تشكيل توفيق السويدي للوزارة موجة من الغضب الشعبي، وغضب أحزاب المعارضة على حد سواء، ولذلك فقد كان عمر الوزارة قصيراً، ولم تستطع أن تقدم شيئاً يذكر سوى تصديها للمظاهرات الوطنية التي قامت في بغدد في 30 آب 1929 احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها الصهاينة وقوات الاحتلال البريطاني في فلسطين ضد السكان العرب في ذلك الشهر، حيث تصدت الشرطة للمظاهرات وقمعتها بالقوة، وقامت الحكومة بتعطيل صحيفتي {النهضة} و{الوطن}، وتوجيه إنذار لصحيفة {العالم العربي} بسبب نشر المقالات المنددة بوعد [بلفور] وجرائم الصهاينة في فلسطين، واحتج الحزب الوطني على أساليب الحكومة القمعية، وقمعها للحريات العامة.
وبسبب الموقف الشعبي وموقف أحزاب المعارضة من الحكومة لم يجد توفيق السويدي بُداً من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 25 آب  1929 ولم يمضِ على تشكيلها سوى أقل من أربعة أشهر كي تعقبها وزارة السعدون الرابعة، حيث كلفه الملك فيصل بتأليف الوزارة الجديدة في 19 أيلول 1929.
وخلال الفترة الزمنية التي تلت استقالة حكومة السويدي وتأليف حكومة عبد المحسن السعدون توفي المندوب السامي [جلبرت كلايتي] بالسكتة القلبية في بغداد مساء يوم الأربعاء 11 أيلول 1929.
 شكل عبد المحسن السعدون وزارته الرابعة في 19 أيلول 1929 مبدياً أول ملاحظاته عن الوضع السياسي حيث أشار فيها إلى أن بريطانيا قد وافقت على العمل لإدخال العراق في عصبة الأمم دون قيد أو شرط عام 1932.

كما أعلن عن رغبة بريطانيا في عقد معاهدة جديدة لتنظيم العلاقة بين البلدين، على نفس الأسس التي أقتُرح للاتفاق المصري البريطاني، وأشار إلى أن هذا الموقف يعتبر تراجعاً من بريطانيا عن مواقفها السابقة المتصلبة تجاه المطالب العراقية المشروعة في التحرر، والاستقلال الوطني، والسيادة الحقيقية، وقد وضع السعدون في مقدمة قائمة المهام لوزارته الأمور التالية:
1 ـ العمل على عقد معاهدة جديدة وتطبيقها لتسريع دخول العراق في عصبة الأم  قبل عام 1932، وإزالة أي صبغة للاحتلال البريطاني في صلب المعاهدة الجديدة. 
2 ـ إنهاء مسؤولية بريطانيا الدفاعية عن العراق، وإناطتها بالجيش العراقي، وتطبيق قانون التجنيد الإلزامي، لبناء جيش كبير وقوي يستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه.
3 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي، وتقليص عدد المفتشين البريطانيين، والموظفين الذين لا تستدعي الحاجة إلى بقائهم، واستبدالهم بموظفين عراقيين.
 4ـ إعادة النظر في التعريفة الجمركية، وتشجيع الصناعات الوطنية وصمودها أمام المنافسة الأجنبية.
وبالنظر لوفاة المندوب السامي [ جلبرت كلايتي ] المفاجئة بالسكتة القلبية قررت الحكومة البريطانية تعيين السير [فرانسيس هيمفريز] ليحل محله كمندوب سامٍ لها في العراق، في 7 تشرين الأول 1929، ووصل بالفعل إلى بغداد لتسلم مهام منصبه في 10 كانون الأول من السنة نفسها، وأعلنت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه عن عزمها على ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932.

قررت حكومة السعدون الشروع بإجراء المفاوضات لوضع معاهدة جديدة تلبي طموح الشعب العراقي، وألّفت وفدها المفاوض من السادة وزراء الدفاع والمالية والداخلية، وسارع السعدون إلى طرح برنامج حكومته أمام مجلس النواب في أول لقاء له مع المجلس بعد تأليف وزارته.
لكن المعارضة هاجمته بشدة، واتهمته بالتراجع عن مواقفه السابقة التي أصر فيها على المطالب العراقية المشروعة فيما يخص المعاهدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية. وجاء ردّه على نواب المعارضة بنفس الدرجة من العنف عندما أنتقد النواب قبوله لتصريح الحكومة البريطانية السالف الذكر، وعما سيحصل إذا تغيرت الحكومة العمالية، وتراجعت بريطانيا عن التصريح حيث قال:
{إذا حصل ذلك فإني اعتقد أن نيل الاستقلال تابع إلى جرأة الأمة، فالأمة التي تريد الاستقلال يجب أن تتهيأ له، ولا يكون ذلك بالكلام والأقوال الفارغة، فالاستقلال يؤخذ بالقوة والتضحية، وهذا ما أحببت أن أقوله}.
انتحار عبد المحسن السعدون:
كان لكلام عبد المحسن السعدون في مجلس النواب دوي كبير لدى الجانب المعارض والجانب الموالي لبريطانيا على حد سواء، ففي الوقت الذي ثمّنَ المعارضون ما قاله من أن الاستقلال يؤخذ بالقوة، ومطالبته الشعب بالتهيؤ له والتضحية في سبيله، فإن الموالين لبريطانيا قد أغضبهم حديثه، وسعى البعض منهم للوشاية به لدى وكيل المندوب السامي البريطاني [الميجر يانك] الذي سارع إلى معاتبته، وتقريعه بكلمات خشنة وعنيفة أثارت في نفسه الحزن العميق لدرجة لم يعد يتحملها، ودفعته إلى الانتحار في 13 تشرين الثاني 1929، حيث أطلق على نفسه الرصاص تاركا رفاقه، والملك فيصل، ووكيل المندوب السامي في حالة من الذهول الشديد، والقلق العميق مما يمكن أن يحدثه انتحاره من رد فعل لدى الشعب، وقد ترك وصيته لأبنه [علي ] شرح فيها أسباب أقدامه على الانتحار، وأوصاه بوالدته و أخوته الصغار، وهذه نص الوصية:
{ ولدي وعيني، ومستندي علي: اعفِ عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذةً، وذوقاً، وشرفاً. فالأمة تنتظر مني خدمة، والإنكليز لا يوافقون، وليس لي ظهير. العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء وعاجزون، وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير أرباب الناموس أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنكليز؟ ما أعظم هذه المصيبة!!، أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني، قد كابدت أنواع الإحتقارات، وتحملت المذلات مضضاً في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش بها آبائي وأجدادي مرفهين .ولدي نصيحتي الأخيرة لك هي:
1ـ أن ترحم أخوتك الصغار، الذين سيبقون يتامى، وتحترم والدتك، وتخلص لوطنك.
2 ـ أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصاً مطلقاً.
 أعفِ عني يا ولدي علي} . (10)            
                                              التوقيع
                       عبد المحسن السعدون

سارعت الحكومة إلى إذاعة نبأ الفاجعة، وجرى تشيع مهيب للفقيد إلى المقبرة الكيلانية في باب الشيخ، وسار خلف جنازته جميع الشخصيات السياسية، وجمع غفير جداً من أبناء الشعب، وهم يعبرون عن الأسى والحزن العميق لانتحاره، وانهالت برقيات التعازي من شتى أنحاء العالم.
أما وكيل المندوب السامي فقد أحتج على الحكومة بشدة بسبب سماحها بنشر وصية السعدون، معتبراً ذلك العمل تحريضاً على بريطانيا وسياستها تجاه العراق، وتثير هيجاناً لدى الرأي العام العراقي، لكن الملك فيصل والحكومة حاولا بكل خنوع تبرير نشر الوصية إرضاءً لوكيل المندوب السامي البريطاني. (11)

بعد إتمام مراسيم تشيع الفقيد أصبحت الوزارة في حكم المستقيلة، وتَحتّمَ تشكيل وزارة جديدة تحاول تهدئة الغليان الشعبي الذي أحدثه انتحاره، ولاسيما بعد نشر وصيته، واتفق الملك فيصل مع وكيل المندوب السامي على ترشيح السيد [ناجي السويدي]، وصدرت الإرادة الملكية بتكليفه في 18 تشرين الثاني 1929، وتم تشكيل الوزارة، وأعرب رئيس الوزراء بعد تشكيل وزارته في رسالته الموجه إلى الملك فيصل عن عزمه على السير على نفس النهج الذي سارت عليه وزارة الفقيد السعدون، وأكد حرصه على فسح المجال للوزراء لممارسة مهام وزاراتهم بحرية، والعمل على الحد من تدخل المندوب السامي، والمستشارين البريطانيين، والعمل على تحقيق أماني الشعب فيما يخص المعاهدة الجديدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية بما يضمن حقوق العراق وحريته واستقلاله. وقد أوعز رئيس الوزراء إلى اللجنة التي شكلها السعدون لمفاوضة بريطانيا حول المعاهدة الجديدة، وبُوشر بالمفاوضات مع الوفد البريطاني، برئاسة المندوب السامي.

 لكن المفاوضات اصطدمت مرة أخرى برفض المندوب السامي الاستجابة للمطالب الوطنية، وبقيت مواقف الطرفين متباعدة جداً، ولم تستطع المفاوضات تحقيق أي تقدم . وفي عهد هذه الوزارة بدأ النفوذ الأمريكي بالتغلغل في العراق بشكل رسمي، بعد أن وقعت الحكومة الأمريكية من جهة، والحكومتان البريطانية والعراقية من جهة أخرى في 9 كانون الثاني 1930 على معاهدة تؤمن المصالح الأمريكية في العراق، وقد جعلت هذه المعاهدة تحت الهيمنة البريطانيةـ الأمريكية المشتركة، المتشابكة مصالحهما الاقتصادية والعسكرية والسياسية مع بعضها البعض، وكان الشيء الإيجابي الوحيد في تلك المعاهدة هو استعداد الولايات المتحدة للاعتراف باستقلال العراق. (12)

غير أن هذه الوزارة عجزت عن تحقيق أي من الأمور الرئيسية التي كان قد قررها الراحل عبد المحسن السعدون في منهاجه، والتي كانت قد وعدت بتنفيذها. فقد حاولت الحكومة تقليص الميزانية المخصصة للموظفين البريطانيين في محاولة منها لتقليص عددهم، وأدى ذلك إلى اصطدام الحكومة بالمندوب السامي الذي  استشاط غضباً على خطط الحكومة، وطلب من الملك التخلص منها، واضطرت الحكومة تحت ضغط المندوب السامي إلى تقديم استقالتها إلى الملك فيصل في 9 آذار 1930، وتم قبول الاستقالة، ورحب المندوب السامي بها، ووقف رئيس الوزراء [ناجي السويدي] يخطب في مجلس النواب شارحاً أسباب الاستقالة، ومتهماً الموظفين البريطانيين بالتحكم في أمور البلاد، ثم تلاه [يسين الهاشمي] وقال مخاطباً أعضاء المجلس أن الإنكليز يحكمون البلاد حكماً كيفياً، وإن الملك فيصل يساير الإنكليز، ولا يستطيع معارضتهم. (13)

أدت استقالة الحكومة، وبيان رئيسها حول سبب الاستقالة إلى هيجان شعبي عارم، وخرجت جماهير الشعب في مظاهرات صاخبة احتجاجاً على السياسة البريطانية تجاه العراق، ومطالبة بالاستقلال الحقيقي الناجز، والتخلص من الهيمنة الإمبريالية، وقد تقاطرت الوفود من كافة أنحاء العراق للمشاركة في مظاهرات الاحتجاج، وانهالت البرقيات على الحكومة والصحافة الوطنية، وأصبح الوضع يهدد بوقوع أحداث خطيرة، وخاصة في 21 آذار، حيث اجتاحت بغداد مظاهرة كبرى أقفلت على أثرها المحال التجارية والأسواق أبوابها، وأصدر المندوب السامي أمراً للموظفين البريطانيين بملازمة مساكنهم، وسارت المظاهرة في شوارع بغداد، وتوجهت إلى الباب الشرقي، ثم إلى دور السفارات والقنصليات، وهم يهتفون الهتافات الوطنية المطالبة بالاستقلال الناجز، ورفض الهيمنة البريطانية، وبالنظر لخطورة الموقف أشارالمندوب السامي على الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها إقرار المعاهدة.
التوثيق:
      (1)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثاني ـ ص 145 ـ عبد الرزاق الحسني .
      (2)نفس المصدر ـ ص 153
      (3)النشاط الصهيوني في العراق ـ ص 150 ـ حاييم كوهين .
      (4)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثاني  ـ ص 157 ـ الحسني .
      (5)نفس المصدر ـ ص 176 .
      (6)المصدر السابق ـ ص 208 .
(7)مذكرات توفيق السويدي ـ ص 135 ـ.
      (8)نفس المصدرـ ص 138 .
      (9)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثاني ـ ص 279 .
(10)نفس المصدر ـ ص 284 .
(11) من ذكرياتي ـ ص 283 ـ عبد العزيز القصاب .
(12)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثاني ـ ص 294 .
(13)مذكرات ناجي شوكت ـ سيرة وذكريات ثمانين عاماً ـ ص 147


249
من ذاكرة التاريخ:
                                  أسرار مقتل الملك غازي
حامد الحمداني                                                      29/7/2011

الملك غاز، ومشكلة الكويت
عندما تولى الملك غازي الحكم وضع نصب عينه مسألة إعادة الكويت إلى العراق، حيث كانت أيام حكم العثمانيين جزء من العراق، وتابعة لولاية البصرة، لكن المحتلين البريطانيين اقتطعوها من العراق، ونصبوا الشيخ مبارك حاكما عليها تحت حمايتهم، عام 1895.
تمتاز الكويت بأهميتها الاستراتيجية، حيث تتحكم برأس الخليج، وتبلغ مساحتها 7000 كيلومتر مربع، وكان يسكنها آنذاك حوالي 100 ألف نسمة، وكان الملك غازي يعتقد أن اقتطاعها من العراق سبب حرمانه من شواطئه البحرية على الخليج، إلا من بقعة صغيرة جداً قرب مصب شط العرب. وهكذا أصبح هاجسه في  كيف يعيد الكويت إلى العراق، في ظل تعارض رغبته تلك مع إرادة الإنكليز المهيمنين على مقدرات العراق.
حاول الملك غازي التقرب من ألمانيا، غريمة بريطانيا، وسعى إلى توطيد العلاقات معها، لعل ذلك يساعده على استعادة الكويت، وقد قامت الحكومة الألمانية بإهداء الملك غازي محطة إذاعة تم نصبها في قصر الزهور الملكي، واستعان الملك بعدد من العناصر القومية الشابة، وراح يوجه إذاعته نحو الكويت، وكان بثها كله موجها حول أحقية ضم الكويت إلى العراق، ومهاجمة الإنكليز الذين اقتطعوها من العراق، مما أثار غضبهم وحنقهم على الملك غازي، وجعلهم يفكرون بالتخلص منه.فقد ذكر السفير البريطاني [ باترسن] في كتابه [ Both sides of Curtain] حول تصرفات  الملك غازي ما يلي:
{ لقد أصبح واضحا للعيان أن الملك غازي إما يجب أن يُسيطر عليه، أو أن ُيخلع من العرش، وقد لمحت إلى ذلك، وبهذا المقدار، في زيارتي الوداعية للأمير عبد الإله}!!.(1)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ  فيذكر في مذكراته [فرسان العروبة] أن نوري السعيد الذي كان يقيم في القاهرة كان قد أرسل إليه، وإلى العقيد فهمي سعيد، ولده صباح، بعد مقتل بكر صدقي بأسبوعين، ليستفسر منهما عما إذا كانا يريان قتل الملك غازي، وإلحاقه ببكر صدقي، وتخليص البلاد من عبثه أمرٌ ممكن !!.
وقد رد عليه فهمي سعيد، بصوت جهوري قائلاً:
{لا يا صباح لن يحث هذا أبداً}.
أما صلاح الدين الصباغ فقد رد عليه قائلاً:
{أما بصد اغتيال الملك غازي، فنحن أبعد الناس إلى التطرق لمثل هذا العمل، ولا نسمح بأن يذكر أمامنا، ونصيحتي لك أن لا تكرر ما قلته، وأن لا تفاتح به أحد بعد اليوم}. (2)
وجم صباح السعيد وتلعثم، وأدرك خطورة ما تفوه به أمام صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد عن أفكار والده نوري السعيد.
وتطرق توفيق السويدي إلى نفس الموضع في مذكراته المعنونة [نصف قرن من تاريخ العراق، والقضية العربية] قائلاً:
{أتذكر بهذا الصدد أنني عندما كنت في لندن، التقيت بالمستر [ بتلر] وكيل وزير خارجية بريطانيا الدائم، وقد أبدى لي شكوى عنيفة من تصرفات الملك غازي فيما يتعلق بالدعاية الموجهة ضد الكويت من إذاعة قصر الزهور، وقال لي بصراحة بأن الملك غازي لا يملك القدرة على تقدير مواقفه، لبساطة تفكيره، واندفاعه وراء توجيهات تأتيه من أشخاص مدسوسين عليه، وإن الملك بعمله هذا يلعب بالنار، وأخشى أن يحرق أصابعه يوماً ما}. (3)
لقد حاول الملك غازي إعادة الكويت بالقوة، أثناء غياب رئيس الوزراء ـ نوري السعيد ـ الذي كان قد سافر إلى لندن لحضور مؤتمر حول القضية الفلسطينية في 7 شباط 1939، فقد استدعى الملك رئيس أركان الجيش الفريق [حسين فوزي] عند منتصف الليل، وكلفه باحتلال الكويت فوراً. كما اتصل بمتصرف البصرة داعيا إياه إلى تقديم كل التسهيلات اللازمة للجيش العراقي للعبور إلى الكويت واحتلالها.(4)
كما استدعى الملك صباح اليوم التالي نائب رئيس الوزراء [ناجي شوكت] بحضور وزير الدفاع، ووكيل رئيس أركان الجيش، ورئيس الديوان الملكي، وأبلغهم قراره باحتلال الكويت.
لكن ناجي شوكت نصحه بالتريث، ولاسيما وأن رئيس الوزراء ما زال في لندن، وأبلغه أن العملية سوف تثير للعراق مشاكل جمة مع بريطانيا، والمملكة العربية السعودية وإيران، واستطاع ناجي شوكت أن يؤثر على قرار الملك غازي، وتم إرجاء تنفيذ عملية احتلال الكويت.(5)
فلما عاد نوري السعيد إلى بغداد وعلم الأمر، سارع بالاتصال بالسفير البريطاني، وتداول معه عن خطط الملك غازي، وقرر الاثنان التخلص من الملك بأسرع  وقت ممكن، وهذا ما صار بعد مدة وجيزة، حيث جرى تدبير خطة لقتل الملك والتخلص منه، والمجيء بعبد الإله وصياً على العرش نظراً لصغر سن ولده الوحيد [فيصل الثاني] الذي كان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات آنذاك. (6)
 مقتل الملك غازي 
في صباح يوم الخامس من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه:
{ بمزيد من الحزن والألم، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية، انتقال المغفور له سيد شباب البلاد، جلالة الملك غازي الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة [نهر الخر]، بالقرب من [قصر الحارثية]، ي الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس، وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل، وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون}. (7)             
                                                         بغداد في 4 نيسان 1939

 لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب، حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة اتجهت نحو السفارة البريطانية، وهتافات التنديد بالإمبريالية البريطانية،وعميلها نوري السعيد  تشق عنان السماء، وامتدت المظاهرات الشعبية الهادرة إلى سائر المدن العراقية من أقصاه إلى أقصاه، وظهرت المنشورات التي وزعتها الجماهير، والتي تقول أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما قتل بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية وعملائها، وعلى رأسهم نوري السعيد بالذات، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد في تلك اللحظات لفتكت فيه ومزقته إرباً، ولذلك فقد هرب نوري السعيد بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية في الأعظمية، حيث  استقل زورقاً بخارياً من المقبرة إلى داره في جانب الكرخ.
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد.
كان رد فعل الجماهير الشعبية في الموصل شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة، وتوجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل، المستر [مونك ميسن]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد العميلة، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري لمزقته إرباً.
لكن ما يؤسف له هو مهاجمة الحي اليهودي في بغداد، وقوع عمليات النهب وحرق مساكن اليهود. وقد استغل نوري السعيد الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين.
ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي يتضمن  تقرير طبي صادر عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي:
{ ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939، متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدم سيارة صاحب الجلالة، عندما كان يسوقها بنفسه، بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور، في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام، ولم يسترجع وعيه حتى اللحظة الأخيرة}. (8)                                             
 3 /4 نيسان 1939.
التواقيع:
د. جلال حمدي   د. صبيح وهبي  د. صائب شوكت  د.أبراهام  د.سندرسن

 
وعلى اثر إعلان وفاة الملك غازي، تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وجرى الإعلان عن تولى الملك فيصل الثاني الملك، على أن يسمى وصياً عليه، نظراً  لصغر سنه، بعد دعوة مجلس النواب الذي سبق أن صدرت الإرادة الملكية بحله، وقرر مجلس الوزراء تعين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، وادعى نوري السعيد أن ذلك القرار كان  بموجب وصية الملك غازي نفسه، غير أنه لم يثبت أن هناك أي وصية من هذا القبيل، وكان معروفاً آنذاك أن الملك غازي كان يكره عبد الإله كرهاً شديداً، ولذلك فلا يعقل أن يوصي بالوصاية لعبد الإله، يأتمنه على طفله.
كما أن الملك غازي كان حسبما ورد في التقرير الطبي قد فقد شعوره فوراً، ولم يسترجعه حتى وفاته. والحقيقة أن وصاية عبد الإله قد رتبت من قبل السفارة البريطانية، وحكومة نوري السعيد.(9)
كما أن أحداً لم يقتنع بما أذاعته الحكومة عن اصطدام سيارة الملك ومقتله في الحادث، وهناك شواهد عديدة على أن الملك قد قتل نتيجة تدبير مؤامرة حبكتها السفارة البريطانية، وجرى تنفيذها من قبل نوري السعيد وعبد الإله، وأهم الشواهد على ذلك ما يلي:
‍1 ـ قبل مقتل الملك بتسعة أشهر، وبالتحديد في 18 حزيران 1938، وُجد خادم الملك غازي الشخصي مقتولاً داخل القصر، وجاء تقرير خبير التحريات الجنائية البريطاني أن القتل كان نتيجة إطلاق النار بالصدفة من مسدس القتيل نفسه ‍‍‍‍‍‍‍‍!!.
سبّب قتل الخادم رعباً في نفس الملك غازي لازمه لأيام، وبدأت الشكوك تنتابه حول مؤامرة لقتله فيما بعد، وكان شكّ الملك يحوم حول عبد الإله ونوري السعيد، وزوجته الملكة عالية ـ شقيقة عبد الإله ـ المنفصل عنها بصورة غير رسمية، وكانت تضمر له الكراهية والحقد .(23)
2 ـ إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، وهذا ما يثير الشكوك حول حقيقة مقتل الملك.
3 ـ كان بمعية الملك في السيارة، كل من خادمه، شقيق الخادم السابق القتيل، وعامل اللاسلكي، جالسين في المقعد الخلفي بالسيارة، ولكنهما اختفيا في ظروف غامضة، ولم يعرف أحد عن مصيرهما نهائياً، وقد أثارت عملية اختفائهما شكوكاً كبيرة حول مقتل الملك، وحول صدقيه حادث الاصطدام، واستمرت تلك الشكوك تحوم حول عبد الإله ونوري السعيد والسفارة البريطانية.
يقول الفريق نور الدين محمود، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش، ثم رئيساً للوزراء عام 1952، حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
 {أنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة، وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث}. (10)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيقول في مذكراته:
{ قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939 وهو في السابعة والعشرين من عمره}. (11)
ويقول الأستاذ [جان ولف] في كتابه [يقظة العالم العربي]:
{مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دون ما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة، فتعالى الهمس في بغداد متهماً بعض الجهات بتدبير الحادث}. (12)
وقال الأستاذ [كارتاكوز] في كتابه [ ثورة العراق] ما يلي:
{ لعل مأثرته الرئيسية ـ يقصد الملك غازي ـ انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف في حادث سيارة يعتقد أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه}.(13)
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ عبد الرزاق الحسني، مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، في 8 نيسان 1975 بالدكتور [صائب شوكت] طبيب الملك غازي الخاص، وأول من  قام بفحصه قبل وفاته، وسأله عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي:
 { كنت أول من فحص الملك غازي  بناء على طلب السيدين [نوري السعيد] و[رستم حيدر] لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر، والذي كان معه في السيارة  لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمت بإعادة الذراع  إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم، ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك اليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى يومنا هذا. (14)
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد [ناجي شوكت] الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك وسأله عن حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{ لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، ورستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا من وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي}. (15)
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي، وتم نقل جثمانه إلى المقبرة الملكية في الاعظمية، في الساعة الثامنة من صباح يوم الخامس من نيسان على عربة مدفع، وسط موجة من الهياج اجتاحت جماهير بغداد الغاضبة، والمنددة بالاستعمار البريطاني وأعوانه القتلة. وانهمك المتآمرون بعد دفنه بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش.

الحكومة تكمل مؤامرتها بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش
كان مقتل الملك غازي هو الجانب الأول من مؤامرة نوري السعيد وأسياده الإنكليز، وكان الجانب الثاني يتمثل بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش، وولياً للعهد. ومنذ الساعات الأولى لمقتل الملك غازي، عمل نوري السعيد جاهداً ليقنع مجلسا النواب والأعيان، والشعب العراق بما ادعاه بوصية مزعومة للملك غازي، بتكليف عبد الإله بالوصاية على العرش فيما إذا حصل له أي مكروه له.
إلا أن[ طه الهاشمي] قال في مذكراته: {أن الوصية التي عزاها نوري السعيد إلى الملك غازي كانت مزيفة دون شك}. (16)
أما وزير الدولة السيد [علي الشرقي] فيقول في كتابه [الأحلام] ما يلي:
{أوعز نوري السعيد إلى الملكة عالية أن ترفع كتاباً إلى مجلس الوزراء المنعقد للنظر في إقامة وصي على العرش  تشهد فيه أن الملك غازي قد أوصاها أن يكون خاله عبد الإله وصياً على العرش إذا ما حدث له أي مكره}. (17)
وقال السفير البريطاني [سندرسن] في كتابه [Both Side of Curtain]:
{ كان معروفاً أيضاً أن الإنكليز كانوا يميلون إلى عبد الإله، أكثر من ميلهم إلى الملك غازي}.(18)
ويقول الدكتور [صائب شوكت] طبيب الملك غازي الخاص ما يلي:
إنه عندما  تأكد من وفاة الملك غازي، كان عبد الإله وتحسين قدري بالقرب مني، حيث دنا تحسين قدري مني، وهمس في آذني أن الأمير عبد الإله يرجوك بأن تقول بأن الملك أوصاك قبل وفاته بأن يكون عبد الإله وصياً على ولده الصغير فيصل، ولكني رفضت ذلك رفضاً قاطعاً، قائلاً له:{إن الملك غازي كان قد فقد وعيه فور وقوع الحادث وحتى وفاته}.(19)
ويقول طبيب الملك البريطاني [ سندرسن ] في كتابه [Thousand and One Night] حول مقتل الملك:
{ في خلال 20 دقيقة من وفاة الملك غازي، طلب إليّ رستم حيدر أن أعلن أن الملك غازي، وقبل أن يموت قد عّبر عن رغبته بأن يتولى عبد الإله السلطة، كوصي على العرش، غير أني رفضت أن أفعل ذلك، لأن الملك لم يستعيد وعيه لحظة واحدة، وحتى لو ارتكبت جريمة مثل هذا الإدعاء الكاذب، فلابد أن يكون هناك الكثير من المستعدين لتكذيبه}. (20)
ورغم كل ذلك فقد اجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قراره بتولي عبد الإله الوصاية على العرش، وولاية العهد، ودعا نوري السعيد مجلسا النواب والأعيان إلى عقد جلسة مشتركة في يوم الخميس المصادف 6 نيسان 1939، وكان عدد الحاضرين  122 عضواً فقط من مجموع المجلسين، وكلهم من مؤيدي نوري السعيد، حيث قاطع الجلسة عدد كبير من النواب والأعيان، لكي لا يكونوا شاهدي زور على جريمة الاغتيال، وقد عرض عليهم نوري السعيد قرار مجلس الوزراء، وتمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين، وبذلك تم تنصيب عبد الإله وصياً على العرش.

وعلى اثر انتخاب عبد الإله وصياً على العرش، قدم نوري السعيد استقالة حكومته، في 6 نيسان 1939، وتم قبول الاستقالة، وعلى الفور كلف عبد الإله نوري السعيد من جديد بتأليف الوزارة التي جاءت على الشكل التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية.
2 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ رستم حيدر ـ وزيراً للمالية.
4 ـ محمود صبحي الدفتري ـ وزيراً للعدلية.
5 ـ طه الهاشمي ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات.
7 ـ صالح جبر ـ وزيراً للمعارف.
وهكذا جاءت الوزارة من نفس الأعضاء السابقين باستثناء إضافة السيد ناجي شوكت لوزارة الداخلية، حيث استوزره نوري السعيد لكونه شقيق طبيب الملك غازي الخاص [صائب شوكت]، لكي يأمن من عدم فضح صائب شوكت لدوره [أي نوري السعيد] في مقتل الملك غازي، وفرض عبد الإله وصياً على العرش، بأساليب الكذب والافتراء.
كانت أولى المهام التي أخذ نوري السعيد على عاتقه تحقيقها هي إجراء انتخابات جديدة، فقد سبق أن حصل إرادة ملكية بحل البرلمان في أواخر أيام الملك غازي، لكي يؤمن لوزارته الأغلبية المطلقة، ويصبح طليق اليدين للمهمات التالية والخطيرة، والتي كان على رأسها مشروعه للتآمر على سوريا، ومحاولة ضمها إلى العراق، وبعد أن تم له ما أراد وأجرى الانتخابات في 29 نيسان  1939  بأسلوبه المعروف في التزوير والممارسات غير المشروعة، وجاء بالمجلس كما يريده، عقد المجس أولى جلساته في 12 حزيران، بحضور عبد الإله، الذي ألقى خطاب العرش لأول مرة، ودافع في ذلك الخطاب عن إجراءات نوري السعيد  ضد حكمت سليمان، والضباط الموالين للفريق بكر صدقي بدعوى وجود المؤامرة السالفة الذكر، كما برر إعلان الأحكام العرفية في الموصل، إثر مقتل القنصل البريطاني فيها، بعد إعلان مقتل الملك غازي، وإحالة أعداد كبيرة من المواطنين الموصليين إلى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم الأحكام الجائرة والقاسية، والتي وصلت إلى حد الحكم بالإعدام على بعضهم. كما برر عبد الإله لجوء نوري السعيد إلى حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة.
بعد أن انتهى نوري السعيد من الانتخابات، وأمّن له الأغلبية المطلقة في المجلس، أنصرف إلى المهمة الأساسية والخطيرة، إلا وهي مشروعه للتآمر على سوريا ومحاولة ضمها إلى العراق.
 كان باكورة مشروعه تكليف وزير الداخلية [ناجي شوكت] بالسفر إلى تركيا، واستطلاع موقفها من مشروعه، وبالفعل غادر ناجي شوكت إلى تركيا، وأجرى محادثات مع أركان الحكومة التركية حول المشروع، ولم تعارض الحكومة التركية رغبة نوري السعيد بضم سوريا، بعد أن ضمنت لنفسها ضم لواء الإسكندرون السوري إليها. (21)
وفي الوقت الذي كان ناجي شوكت في تركيا يجري مباحثاته مع الحكومة التركية، أجرى نوري السعيد تعديلاً على وزارته، أخرج بموجبه ناجي شوكت من وزارة الداخلية، وأسندها لنفسه، كما أسند وزارة الخارجية التي كانت بعهدته إلى [علي جودت الأيوبي] وهكذا تخلص نوري السعيد من ناجي شوكت، ولما يمضي على تشكيل الوزارة سوى أيام قلائل، وهذا ما يؤكد كون نوري السعيد استوزر ناجي  شوكت حينذاك لغرض في نفسه.(22)
وفي 10 تموز من ذلك العام قُتل مدير الشرطة العام [هاشم العلوي] في الرطبة، عندما كان في طريقه إلى لبنان، وأحيط مقتله بظروف غامضة، حيث قالت الحكومة أنه انتحر، ولكن الحقيقة التي كان يتداولها  العارفين ببواطن الأمور آنذاك يقولون أن هاشم العلوي كان يعرف أسرار مقتل الملك غازي، وأراد نوري السعيد أن يتخلص منه بأسرع وقت، خوفاً من أن يقوم بإفشاء تلك الأسرار لدى وصوله إلى لبنان، نظراً لكونه كان يشغل أعلى منصب أمني في البلاد، وانه كان مطلعاً على كل شيء.
التوثيق:
  (1) مذكرات طه الهاشمي ـ ص .200
  (2) فرسان العروبة ـ صلاح الدين الصباغ ـ ص   90 .
  (3) مذكرات توفيق السويدي ـ نصف قرن من تاريخ العراق  ـ ص 326
  (4) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ت ج 5 ـ ص 76
  (5) نفس المصدر ـ ص 77 .
  (6) المصدر السابق ـ ص 77
  (7) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 78
 (8) المصدر السابق ـ ج5 ـ ص 76 .
  (9) نفس المصدر ـ ص 79 .
  (10) نفس المصدر ـ ص  87 .
  (11) فرسان العروبة ـ صلاح الدين الصباغ ـ ص 87 .
  (12) يقظة العالم العربي ـ  جان وولف ـ ص 120 .
   (13) ثورة العراق ـ كارتاكوز ـ ص 32 .
  (14) حديث الدكتور صائب شوكت مع الحسني في 8 نيسان 1975
  (15) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ ج5  ـ ص81
  (16) مذكرات طه الهاشمي ـ ص 241 .
 (17) علي الشرقي ـ كتاب الأحلام ـ ص 170
  (18) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ ج 5 ـ 79
  (19)  نفس المصدر السابق .
  (20) نفس المصدر السابق ـ ص 90 .
  (21) نفس المصدر السابق .
  (22) نفس المصدر. 


250
في الذكرى الثالثة والخمسين لثورة 14 تموز المجيدة

من المسؤول عن انتكاسة الثورة واغتيالها؟
القسم الأول
حامد الحمداني                                             13 تموز 2011

لم تكن ثورة 14 تموز1958 التي قادها الشهيد عبد الكريم قاسم انقلاباً عسكرياً كما يحلوا للبعض أن يسميها، بل كانت ثورة شعبية كان رأس رمحها اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار بقيادة الزعيم الوطني الخالد عبد الكريم قاسم، وشاركت فيها كل القوى السياسية من أقصى يمينها المتمثل بحزب الاستقلال وحزب البعث، حتى أقصى يسارها المتمثل بالحزب الشيوعي، بالإضافة إلى الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، مدعومة بالجماهير الشعبية الواسعة التي نزلت إلى الشوارع في الساعات الأولى من صبيحة ذلك اليوم، والتفت حول الثورة وقيادتها واحتضنتها، وذادت عنها من تآمر القوى البعثية والقومية والعناصر الرجعية المرتبطة بالإمبريالية، وكان ذلك الموقف لهذه الأحزاب أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وحرية التنظيم الحزبي، والنقابي، والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية لحكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان.

لكن الأحداث التي جرت في البلاد، والمؤامرات التي حيكت ضدها من قبل القوى اليمينية والقومية المدعومة من قبل عبد الناصر والقوى الإمبريالية،   والثورة ما تزال في أيامها الأولى عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق، والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة، بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية، والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق العراق والقوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل.
فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس؟
ومن كان السبب فيما جرى؟
وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف؟

في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه.

لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني، ولست في مجال تعداد إنجازات الثورة، فقد سبق وتحدثت عنها في مقال سابق، لكنني أستطيع القول أن الزمان لو طال  بعمر الثورة، وبقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تجعل من العراق أرقى بلد في المنطقة.

فالزعيم كما يتفق الجميع، وحتى أعدائه لم يحقق أي مصلحة لنفسه أو لعائلته، لم يبني له قصراً، ولا حتى داراً متواضعة، ولم يتخذ له ديواناً ضخماً، ولم يتملك شيئا، ولم يتنقل بمواكب ضخمة من الحراسة والحماية، فقد كان محبوباً من قبل الشعب، كما كان حريصاً على أموال الشعب، وكان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً كأي مواطن آخر، ولقد قُدر لي أن أزوره في مقره بوزارة الدفاع ضمن وفد لنقابة المعلمين في أواخر شهر شباط عام 1959، واطلعنا على مقره البسيط وغرفة نومه المتواضعة جداً.

عبد الكريم قاسم لم يكن شوفينياً، بل على العكس من ذلك كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة، وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة، وضم العديد منهم في حكومته.

إذا الطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني، وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة 14 تموز وقيادتها، مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة، كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل تناقضاً أساسياً.
كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث [الحزب الديمقراطي الكردستاني، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، والمتمثلة بالولايات المتحدة وبريطانيا، بالإضافة إلى حكومة عبد الناصر، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.

لماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك؟


وإنصافاً للحقيقة أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء كانوا مسؤولين عما حدث، واليوم وبعد مضي 53 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بشعبنا العراقي بعربه وكرده وسائر مكوناته الأخرى نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي تتعلم الدرس من تلك الأخطاء .
لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية، ظناً منه أن الأخطار تأتيه من جانب هذه القوى، وليس من جانب القوى التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً.
 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبينا.

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية، كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لتدارس وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك، حيث من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير الشعب والوطن!.
ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة، فقد كان قادراً أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني، واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف، ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة، والتي يمكن أن نلخصها بالتالي:

1 ـ لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة [عفا الله عما سلف]،وسياسة [فوق الميول وفوق الاتجاهات]، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم من السجن، في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها!!، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل الزعيم قاسم مسؤوليته الكاملة.

2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]، وبوجه خاص من الحزب الشيوعي الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها، والتي سأتناولها فيما بعد بحيث أصبحت لدى الزعيم القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة منه، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بقيادة محمد حديد، بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي، والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب، وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم.
  لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب، مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963 .


3 ـ لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية، سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية.
 ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية. لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.

4 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، وسعيها الحثيث لاغتيال الثورة حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
لقد كان على عبد الكريم قاسم إن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه، وتدعم موقفه، لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً، فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف، لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 1963.

6 ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القيادة الكردية المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني، على الرغم من أنه لم يكن يحمل أي أفكار شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، يؤكد هذا الموقف لدى الزعيم.
لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع قيادة الحركة الكردية، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963.
كان لتسارع الأحداث التي أدت إلى تدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وانقسام القوى الوطنية، حدوث الخلافات العميقة بين السلطة وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح، واستخدام السلطة للجيش في ذلك الصراع، ولم تجد نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، لحل القضية الكردية حلاً عادلاً، إلا أن جهوده باءت بالفشل، واستمرت الحرب بين الطرفين حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.
بدأت العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والسلطة بالتدهور عام 1961 عندما هاجمت صحيفة الحزب [خه بات] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد، واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة.
كان رد عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب،  ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام.
وفي 20 تموز 1961، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى عبد الكريم قاسم  طالبه فيها بتطبيق المادة الثالثة من الدستور المؤقت، والتي نصت على حقوق الشعب الكردي، كما طالبت بسحب القوات العسكرية المرسلة إلى كردستان، وسحب المسؤولين عن شؤون الأمن والشرطة والإدارة الذين كان لهم دور في الحوادث التي وقعت في كردستان، وإعادة الموظفين الأكراد المبعدين إلى كردستان، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وإنهاء فترة الانتقال، وانتخاب مجلس تأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وتطهير جهاز الدولة من العناصر المعادية لثورة 14 تموز.

لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران في بادئ الأمر، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد قام بها عناصر من كبار الإقطاعيين بقيادة [ رشيد لولان] و[عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند، إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية، وعميلها [شاه إيران] زعزعة النظام الجديد في العراق، وإسقاطه.

 لكن من المؤسف أن قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني لم تقدر دوافع تلك الحركة والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، مغلّبين التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية، ولجأت هي الأخرى إلى حمل السلاح.
كما أن عبد الكريم قاسم، الذي تملكه الغضب، رفض اللجوء إلى الحوار، وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول للأزمة السياسية التي كانت تعصف بالبلاد، وظن أن اللجوء إلى السلاح سينهي الحركة الكردية خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد. لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963.

أستهل الحزب الديمقراطي الكردستاني صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 1961، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون الأكراد باحتلال مناطق واسعة من كردستان، فكان رد السلطة دفع قطعات الجيش في 9 أيلول، لضرب التجمعات الكردية مستخدمة كافة الأسلحة والطائرات، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان، واستمرت المعارك حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.
 لكن الحزب الديمقراطي الكردستاني ارتكب خطأ أفضع بتعاونه مع انقلابيي 8 شباط، حيث جرت الاتصالات قبل الانقلاب بين سكرتير الحزب إبراهيم احمد، وطاهر يحيى ، ممثل الانقلابيين، كما شارك الطلبة الأكراد في الإضراب الذي أعلنه البعثيون قُبيل وقوع الانقلاب.
لقد وضع قادة الحركة الكردية  أيديهم بأيدي أولئك الانقلابيين الفاشيين ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظنناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية على أيدي أولئك الشوفينيين المتعصبين الذين كانوا يضمرون للشعب الكردي كل الحقد.

لقد كان موقفهم هذا يعبر بحق  عن جهل فادح بطبيعة حزب البعث، والقوى القومية الشوفينية المتعصبة، الذين لم يكّنوا يوماً المحبة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.
وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط، حتى بادر الانقلابيون في 1 حزيران 1963 إلى شن حملة شعواء على الشعب الكردي لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي، و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي.
لقد تمزقت الوحدة الوطنية، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها من جهة، ومع السلطة من جهة أخرى، جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء.

 ولاشك أن عبد الكريم قاسم يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تلك الأخطاء، لأنه كان على قمة السلطة، وكان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل إعادة اللحمة للصف الوطني، ومعالجة المشاكل والتناقضات التي نشأت، والتي يمكن أن تنشأ مستقبلاً، بروح من الود والتفاهم والمصلحة العامة لشعبنا ووطننا، والتحلي بإنكار الذات، وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح.

كان بإمكانه أن يعمل على إنهاء فترة الانتقال، ويجري انتخاب المجلس التأسيسي، وسن الدستور الدائم للبلاد، وإرساء الحكم على أسس ديمقراطية صلبة، ولو فعل ذلك لتجنّب، وجنّب الشعب العراقي كل تلك الويلات والمصائب، والمصير المظلم الذي حلّ بالبلاد على أيدي انقلابيي 8 شباط 1963.

7ـ  اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق الذي لم يجر عليه أي تغيير سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين. ومما يؤكد هذا الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام  [مجيد عبد الجليل] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام [علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث، بالبصق في وجهه، فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له:{ لماذا تبصق في وجهي؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}.
 وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم.
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم، رئيس الجهاز[محسن الرفيعي]  ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين ، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.

8 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم:


كانت إطالة الفترة الانتقالية، والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد، والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية، والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.
ولم يكن هناك ما يخيف الزعيم عبد الكريم قاسم على موقعه كقائد لثورة 14 تموز، حيث كان يتمتع بشعبية كبرى لم يتمتع بمثلها أي زعيم عراقي أو عربي من قبل، وكنت على يقين أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لو شاء أن يشكل له حزباً سياسياً آنذاك، ويشارك في الانتخابات فإن حزبه كان سيفوز على جميع الأحزاب، ولست أنا من يقول ذلك فقط، بل أن الحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد أعترف في أدبياته ونشراته الداخلية في رده على  الأفكار والدعوات التي ظهرت في صفوف الحزب داعية إلى استلام السلطة أن هذه الشعبية التي نشهدها في الشارع العراقي هي شعبية الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يمجده الشعب.
 لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات]!، و[ سياسة عفا الله عما سلف] وأطلق سراح المتآمرين المحكومين بالإعدام والذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي منذر أبو العيس، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها والحريصين على صيانتها، وبين الذين تآمروا عليها، وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم، وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة، حيث استطاع حزب البعث المتحالف مع القوى القومية، والمدعوم من قبل عبد الناصر والقوى الإمبريالية، من استغلال تشتت القوى الديمقراطية، وانعزال سلطة عبد الكريم قاسم، إلى إنزال الضربة القاضية بثورة 14 تموز المجيدة، واغتيال قائدها عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار، والتنكيل بقيادة وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي، وسائر الوطنيين والديمقراطيين، وإغراق العراق بالدماء، وإدخال العراق بنفق مظلم ما زال يعاني منه حتى اليوم.
فلا شك أن كل الأحداث التي جرت منذ انقلاب 8 شباط 1963 وحتى يومنا هذا على ارض العراق الجريح ليس إلا نتاج تلك الأخطاء التي ساهم بها الجميع، والتي مهدت السبيل لنجاح انقلاب 8 شباط، والانقلابات المتتالية والتي أوصلت جلاد العراق الأكبر صدام حسين وزمرته الشريرة إلى سدة الحكم، وما سببه للعراق وشعبه من كوارث وويلات ومصائب، وحروب مفجعة،  وإرهاب وحشي بشع لا زلنا نكتوي بناره حتى يومنا هذا.

في القسم الثاني: الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، وعبد الكريم قاسم



251
وحدة قوى التيار الديمقراطي طريق الخلاص للشعب العراقي من أزمته الراهنة
حامد الحمداني
3/7/2011 
                 
يمر العراق اليوم بمرحلة مفصلية في تاريخه السياسي، تتميز بتصاعد وتائر الأزمة الخطيرة في البلاد، والناشئة عن الصراع بين الكتل السياسية الطائفية والعرقية التي تولت الحكم اثر الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي فازت بها هذه القوى، وجاءت الحكومة، التي ما تزال بدون الوزراء الأمنيين[الدفاع والداخلية والأمن الوطني] حتى يومنا هذا، بعد مخاض عسير استمر عدة اشهر، وتشكلت بموجب نظام المحاصصة الطائفي والعرقي الذي اثبت فشله الذريع، واستمرار هذا الصراع السياسي الحاد على مستوى الحكومة والبرلمان، والعنفي على مستوى الشارع العراقي، حيث مازال العراق مسرحاً لأعمال التفجيرات للسيارات المفخخة والأحزمة والعبوات الناسفة، والاغتيالات بالمسدسات الكاتمة للصوت، في صراع مكشوف على السلطة والثروة.

إن حسم هذا الصراع والخروج من هذه الأزمة الراهنة بات عسيراً جداً بسبب توازن القوى بين طرفي الصراع داخل البرلمان، ولا بد في نهاية المطاف من حل البرلمان، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة تعيد اصطفافاً جديداً للقوى، ستقرر بلا شك المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي للعراق لعقود عديدة.

إن هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العراق في مختلف مجالات الحياة، وتعمق أزمته السياسية بات يتطلب العمل على تغيير المعادلة السياسية الراهنة من خلال
 نهوض ووحدة التيار الديمقراطي، واستعداده لتحقيق انعطاف حقيقي في البلاد من خلال العمل الجدي والحاسم والسريع لتحقيق الوحدة المنشودة، والتي طال انتظارها.

 لقد باتت الظروف الموضوعية لتحقيق هذه الوحدة، من أجل الاستعداد للانتخابات القادمة، حيث يعاني الشعب العراقي من خيبة أمل كبيرة من القوى الطائفية الحاكمة اليوم، وبلوغ الفساد المالي والإداري في جهاز الدولة أقصى درجاته، وحيث فقدان الأمن والسلام في البلاد، بالإضافة إلى سوء الخدمات الأساسية للشعب من الماء الصالح للشرب، والكهرباء، والصرف الصحي، والخدمات الصحية، والتعليمية، وأزمة السكن الخانقة، والبطالة الواسعة، وملايين المهجرين والمهاجرين جراء الصراع بين القوى الممسكة بالحكم.
 
لقد دعونا مراراً وتكراراً قوى اليسار والديمقراطية والعلمانية منذ سقوط نظام طاغية العراق صدام حسين لتوحيد قواها، ووضع برنامج وطني ديمقراطي، وتوحيد خطابها السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تتوجه به إلى جماهير الشعب، والذي يتحسس كل المشاكل والمصاعب المتعلقة بحياة المواطنين، ويضع الحلول الصائبة لمعالجتها، وفق خطط واقعية مدروسة ومقنعة، كي تكسب دعم ومساندة الشعب الفاعلة، وكي تكون قوة مؤثرة في البرلمان المنتخب، وعلى الساحة السياسية العراقية.

إن الشعب العراقي، بعد كل هذه المعانات، وبعد أن جرب حكومات أحزاب الإسلام السياسي الطائفي، وفشلها على كل المستويات في إخراج البلاد من عنق الزجاجة، وأحداث نقلة نوعية تحقق له الحياة الحرة الآمنة والكريمة، بات على يقين أن الحل لهذه الأزمة المستعصية في البلاد يتطلب ظهور استقطاب جديد في البلاد تقوده قوى التيار الديمقراطي الموحدة، وفق برنامج علماني متفق عليه، يتضمن الخطوط العريضة للوسائل والسبل الكفيلة بالخروج بالعراق من أزمته الراهنة هي المؤهلة لإحداث التغيّر المنشود في كافة المجالات السياسة والاقتصادية والخدمية، والصحية والتعليمية، ومكافحة الفساد المستشري في الجهاز الحكومي من القمة إلى القاعدة، والعمل على كشف كل عناصر الفساد مهما علا مركزها، وإحالتها إلى المحاكمة، واستعادة أموال الشعب المستباحة، والعمل الجاد والمثمر لتحقيق نقلة نوعيه في مجال الزراعة والصناعات الوطنية، والحد من الاستيراد غير الضروري الذي يستنزف ثروات البلاد.

فلتتوحد جهود هذه القوى، ولتتشابك الأيدي، ولتستعد لقيادة جماهير الشعب التي تتطلع لتحقيق فوز كبير في الانتخابات القادمة، وتأخذ زمام المبادرة لإنقاذ البلاد من أزمتها الراهنة. 
 
ملاحظة: للإطلاع على المزيد من المقالات والبحوث التاريخية والسياسية والتربوية، بالإضافة إلى سائر كتبي، بالإمكان متابعة ذلك على موقعي على الانترنيت التالي:www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com



252
هذا ما قدمه الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم
فماذا قدمتم يا حكام العراق الجدد؟
الحلقة الرابعة والأخيرة
حامد الحمداني                                                           2/7/2011

اخراج العراق من منطقة الإسترليني:

 
كان ضرورياً أن تُتابع حكومة الثورة تحرير العراق السياسي بتحرير اقتصاده من الهيمنة البريطانية، والقيود التي فرضتها على العراق بارتباطه بمنطقة الإسترليني، حيث كان الدينار العراقي يتأثر بصورة مباشرة بتقلبات الجنيه الإسترليني، وخاصة عند ما كانت بريطانيا تقرر تخفيض عملتها، حسبما تقتضيه ظروفها الاقتصادية، أو نتيجة عوامل اقتصادية خارجة عن إرادتها.

لقد سبب ارتباط العراق بالإسترليني تضخماً هائلا في العملة العراقية إبان الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى التردي الخطير في الأوضاع المعيشية للشعب العراقي. كما أدى هذا الارتباط بالإسترليني إلى عرقلة الإنتاج، وخفض أرباح التصدير والتأثير على الأسعار، وأدى إلى الحد من دخول رؤوس الأموال، وإلى الانكماش النقدي، و الأضرار بحركة الإنتاج. فقد كان ارتباط العملة العراقية بالإسترليني يصب في خدمة الاقتصاد البريطاني يشكل عام، وكان لابدَّ لحكومة الثورة أن تُقدِّم على تحرير العملة العراقية، وفك ارتباطها بالإسترليني.

وهكذا دعت حكومة الثورة الجانب البريطاني إلى إجراء مباحثات بين الطرفين في 31 أيار 1959، وامتدت المباحثات حتى 4 حزيران، حيث أعلن عبد الكريم قاسم في خطابه، في مؤتمر المهندسين في 4 حزيران 1959 عن انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وبذلك أصبح العراق حراً في استعمال أرصدته الأجنبية بما يلائم مصلحة البلاد، وتنويع أرصدته من العملات الأجنبية القوية كالدولار مثلاً، وقد أكتسب الدينار العراقي قوة جديدة، حيث أصبح غطاؤه مكوناً من أقوى العملات الدولية، ومن الذهب، بعد أن كان يعتمد على الإسترليني فقط.

كما أّتبع العراق خطوته هذه بإقامة العلاقات السياسية والاقتصادية مع الاتحاد السوفيتي  وسائر دول أوربا الشرقية، مما عزز استقلال البلاد الاقتصادي، وبالتالي استقلاله السياسي.


صدور قانون الأحوال المدنية


كان قانون الأحوال المدنية الذي أصدرته حكومة الثورة بمثابة ثورة اجتماعية أخرى بعد قانون الإصلاح الزراعي، حيث عالج القانون حقوق وحرية المرأة، التي تشكل نصف المجتمع العراقي، وقد أكد القانون على حقوق المرأة، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، ومنها حق الإرث، وتنظيم شؤون العائلة، وقضايا الزواج و الطلاق، ومنع القانون الزواج بأكثر من واحدة، إلا في حالات خاصة، كعدم الإنجاب، والأمراض الخطيرة والمعدية.وقد أحدث هذا القانون دوياً هائلاً في الأوساط الشعبية، ولاقى دعماً وتأيداً كبيراً من قبل الأوساط التقدمية.

 لكن الأوساط الرجعية عارضته وحاربته بشدة بادعاء أن القانون يخالف الشريعة الإسلامية، وقد ألغى انقلابيو 8 شباط 1963 مواداً عديدة من هذا القانون جردته  من العديد من حقوق المرأة التي نص عليها، لكنهم لم يجرأوا على إلغائه كلياً.

لكن مجلس الحكم الذي سيطرت عليه قوى الإسلام السياسي، والذي تولى الحكم بعد الاحتلال مباشرة، اتخذ قراراً بإلغائه عام، 2003  مما أثار موجة استياء شعبي واسع النطاق، ومعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التقدمية، ووسائل الإعلام الديمقراطية التي فضحت قرار مجلس الحكم، وأجبرت الحاكم الأمريكي بريمر على إصدار قرار بإلغاء قراره.

عقد اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي:


 وضعت حكومة ثورة الرابع عشر من تموز نصب أعينها استكمال تحرر العراق الاقتصادي، وإقامة العلاقات الاقتصادية مع سائر بلدان العالم، وخاصة بلدان المعسكر الاشتراكي التي كان النظام السابق قد قطع كل صلاته بها بضغط من الإمبرياليين أيام الحرب الباردة بين المعسكرين، مما جعل الاقتصاد العراقي وحيد الجانب تتحكم به الدول الإمبريالية حسب مشيئتها.

 وهكذا أقدمت حكومة الثورة على إعادة علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع تلك البلدان، وعملت جاهدة للاستفادة من إمكانيات وخبرات الاتحاد السوفيتي، وسائر البلدان الاشتراكية من أجل إقامة المشاريع الحيوية التي يحتاجها العراق، وتحرير تجارة العراق من هيمنة الإمبرياليين، وشروطهم المجحفة بحقه.

 وجاءت اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي تتويجاً للعلاقات الجديدة  القائمة على أساس احترام سيادة العراق واستقلاله، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والمنفعة المشتركة، واستطاع العراق بموجب هذه المعاهدة الحصول على قرض بمبلغ 55 مليون دينار عراقي بفائدة بسيطة لا تتجاوز 2,5 % سنوياً لتغطية نفقات التصاميم والمسوح والبحوث، وكذلك المكائن والآلات والمعدات، لمختلف المشاريع الصناعية والزراعية والري، والاستفادة منها خلال 7 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية.

وبموجب الاتفاقية تعهد الاتحاد السوفيتي بتقديم كافة المساعدات الفنية والخبراء، والاستشارات ونصب المشاريع، وتنفيذها، وتدريب العراقيين للعمل عليها، وقد شملت تلك المشاريع، الفولاذ، والأسمدة، والكبريت، والأدوية، ومعامل إنتاج الكائن والآلات الزراعية، ومعمل اللوازم والعدد الكهربائية، ومعمل المصابيح الكهربائية، ومحطة إذاعة مع أربع مرسلات، ومعمل للزجاج، ومعامل للمنسوجات القطنية والصوفية، والتريكو، ومعمل للتعليب، وبناء سايلوات كونكريتية للحبوب، ومساعدات فنية لتأسيس خمس مزارع حكومية، ومشاريع الري وبزل الأراضي، وتأسيس أربعة محطات لتأجير التراكتورات، هذا بالإضافة إلى القيام بأعمال المسح الجيولوجي، وتصليح الأجهزة الجيولوجية، كما نصت الاتفاقية على بناء خط سكة حديد جديد بين بغداد والبصرة.

لقد اعتبرت تلك الاتفاقية خطوة جريئة من جانب حكومة الثورة لبناء القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي، وتحريره من التبعية للدول الإمبريالية. كما استطاعت حكومة الثورة أن تعقد مع الاتحاد السوفيتي، اتفاقية أخرى لتسليح الجيش العراقي والحصول على الأسلحة المتطورة التي حرمه منها الإمبرياليين، وبأسعار تقل كثيراً عن الأسلحة الغربية.

هذا ما قدمته ثورة الرابع عشر من تموز بقيادة الزعيم الوطني الخالد عبد الكريم قاسم، وعلى الرغم من قصر عمر الثورة التي لم تتجاوز الأربعة أعوام، وعلى الرغم من أن ميزانية العراق آنذاك لم تتجاوز 50 مليون دينار، وعلى الرغم من المؤامرات المتتالية على الثورة بدءاً من مؤامرة العقيد عبد السلام عارف، ومحاولته اغتيال الزعيم بمقره في وزارة الدفاع، مروراً بمؤامرة الشواف في الموصل عام 1959، فالمحاولة الانقلابية لرشيد عالي الكيلاني بالتعاون مع زمرة من الضباط القوميين والبعثيين، فمحاولة البعثيين اغتيال الزعيم في رأس القرية ببغداد، والتي كانت جزءاً من مخطط للانقلاب على الثورة، حيث أصيب الزعيم بعدة رصاصات في صدره وكتفه، لكنه نجا من الموت بأعجوبة، حيث لم تكن معه أية حماية في طريقه إلى البيت سوى مرافقه، وسائق السيارة الذي قتل على الفور، و لم تكن سيارة الزعيم مصفحة، بل سيارة شوفرليت عادية، ولولا يقضة القوى الديمقراطية في الجيش وخاصة [ اللواء العشرين] التي كان يقوده الزعيم الركن هاشم عبد الجبار، مدعوماً بعناصر الحزب الشيوعي من العسكريين والمدنيين آنذاك لنجح المتآمرون في الاستيلاء على السلطة.

هذا ما قدمته ثورة 14 تموز وزعيمها الشهيد عبد الكريم قاسم، الذي قتله انقلابيو 8 شباط 1963 دون محاكمة تذكر، ولم يترك الزعيم سوى 14 دينار كانت في حسابه بالمصرف، ولم يمتلك داراً له، حيث كان داره مستأجرا.  ولنا وقفة مع ما قدمه حكام العراق الجدد الذين جاء بهم المحتلون الأمريكيون إلى سدة الحكم منذ إسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين في 9 نيسان 2003 وحتى هذا التاريخ، وما سببوه للشعب العراقي من ويلات ومصائب، وحرب طائفية، وإزهاق أرواح مئات الألوف من المواطنين، وهجرة الملايين هربا من الموت على أيدي ميلشيات أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، وما حل في البلاد من خراب ودمار، وانتشار الفساد المالي والإداري على أوسع نطاق على عهدهم الميمون!! 






253
هذا ما قدمه الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم فماذا قد حكام

العراق الجدد؟

الحلقة الثالثة

إصدار قانون الإصلاح الزراعي

حامد الحمداني                                                  29/6/2011

كان إصدار قانون الإصلاح الزراعي في العراق بتاريخ 30 أيلول 1958 يمثل ثورة اجتماعية حقيقية في أبعادها الإنسانية، إنه بحق تاج المنجزات التي حققتها الثورة لصالح ثلاثة أرباع الشعب العراقي، طبقة الفلاحين التي كانت تكدح وتشقى ولا تملك من دنياها شيئاً، تعمل طوال حياتها لصالح الإقطاعيين الذين استغلوها أبشع استغلال، وتركوا الفلاحين يعيشون في فقر مدقع، يسكنون الأكواخ الخالية من أبسط الشروط الصحية، حيث لا ماء نقي صالح للشرب، ولا كهرباء، ولا كساء، ولا أية خدمات صحية، أو ثقافية، أو تعليمية، يعملون بأكل بطونهم لا غير.

كانت ديون الإقطاعيين قد أثقلت كواهلهم، وأجبرتهم على  العمل في خدمة الإقطاعي، حيث ينص قانون العهد الملكي على عدم جواز ترك الفلاح عمله في خدمة الإقطاعي، طالما هو مدين له.

وكان الفلاح مضطراً للاستدانة طول السنة من أجل تأمين الحاجات المادية له ولعائلته انتظاراً لموسم الحصاد، واستلام حصته من الريع، الذي كان يذهب معظمه إلى جيب الإقطاعي.

وهكذا فقد جاء هذا القانون ليحرر هذه الملايين الغفيرة من أبناء الشعب، والذين يكونون العمود الفقري للمجتمع العراقي، ولينتزع  المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية من الإقطاعيين، ويحدد الحد الأعلى للملكية الزراعية بـ 1000  دونم من الأراضي المسقية، و2000 دونم من الأراضي الديمية، تعتمد على المطر وتوزيع الأراضي المستملكة على الفلاحين الفقراء.

كما فرض القانون على جميع الملاكين استغلال الأرض وزراعتها لحين إكمال إجراءات الاستملاك والتوزيع، وتقرر البدء باستملاك الإقطاعيات الكبيرة، وأوضح القانون أن دفع التعويضات للإقطاعيين، سوف يجري حسب القيمة الحالية للأرض، تسدد على مدى 20 سنة بفائدة سنوية مقدارها 3 % سنوياً، وتوزع قطعاً لا تزيد عن 30 دونما من الأراضي المسقية، وما بين 60ـ 120 دونماً من الأراضي الديمية، على أن يدفع الفلاح ثمن أرضه المقرر بقرار اللجان المختصة مضافاً إليها 20 % من أصل القيمة، لتسديد مصاريف الاستملاك، وُيقسّط المبلغ على الفلاحين الممنوحين أراضي لهم على  20 سنة، هذا ما جاء به الفصل الأول من القانون.

أما الفصل الثاني فقد أختص بأحكام تأسيس الجمعيات الزراعية التعاونية وتنظيمها من أجل رفع كفاءة الفلاح العراقي وزيادة الإنتاج، ولتسهيل الحصول على المعدات الزراعية الضرورية، والأسمدة والمبيدات الحشرية.

أما الفصل الثالث فقد نظم العلاقة بين صاحب الأرض والفلاح المستأجر، وفرض العقود الكتابية بينهما بصورة مباشرة على أن لا تقل مدة العقد عن 3 سنوات، ومنع القانون طرد الفلاح، أو حبس وسائل السقي على أن لا يخل الفلاح بالتزاماته تماماً، وحدد حصة الفلاح من الزراعة ما بين 55 ـ 60 % من الإنتاج السنوي.

أما الفصل الرابع فقد أهتم في تحسين وضع الأجير الزراعي، حيث نص على تحديد الحد الأدنى للأجور السنوية لمختلف المناطق الزراعية،على أن تقوم بتحديد الأجور، لجنة يشكلها وزير الزراعة، ويرأسها موظف كبير في الوزارة، وممثل لأصحاب الأراضي، وممثلان عن الفلاحين المزارعين، على أن يصادق الوزير على قرارات اللجنة. كما نص القانون على إلغاء قانون [ حقوق وواجبات الزراع لسنة 933 ]، وتقرر بموجب القانون تشكيل اللجنة العليا للإصلاح الزراعي برئاسة رئيس الوزراء، وتكون قرارات اللجنة قطعية.

حدد القانون مدة تنفيذه بخمس سنوات، وأعلن عبد الكريم قاسم ـ رئيس الوزراء ـ غداة إعلان القانون في 30 أيلول 58 ـ بأن الثورة وجدت أن القانون المذكور هذا هو الأساس في الإصلاح الاجتماعي، وأضاف بـأن الملاكين الصغار لن تمس أراضيهم، أما الكبار فسوف يعوضون تعويضاً عادلاً، وبذلك سجل عبد الكريم قاسم مأثرته الكبرى بتصفية الإقطاع ركيزة الإمبريالية والنظام الملكي المنهار في العراق. (13)

 نظرة في القانون:
من خلال قراءة متأنية لهذا القانون نستطيع القول أن القانون الذي نال موافقة جميع أطراف جبهة الاتحاد الوطني بمختلف اتجاهات أحزابها، وموافقة اللجنة العليا للضباط الأحرار، كان بحق ثورة اجتماعية كبرى تخص حياة أغلبية الشعب العراقي، وكانت له نتائج إيجابية كبيرة، أثرت على مستوى حياتهم المعيشية وحررتهم من نير الإقطاع، وفتحت الطريق واسعاً أمام إجراء تغييرات كبيرة واسعة في علاقات الإنتاج لصالحهم مما لا يمكن نكرانها أو التقليل من شأنها.
غير أن القانون لم يكن يخلُ من السلبيات التي يمكن تلخيصها بما يأتي:

1 ـ كان تحديد الحد الأعلى [ 1000 ] دونم من الأراضي المروية،و[2000] دونم من الأراضي الديمية يمثل مساحة كبيرة منحها القانون للإقطاعيين، وكان بالإمكان تحديد نصف هذه المساحة لهم فقط.  

2 ـ إن جعل مدة نفاذ القانون خمس سنوات كان طويلاً جداً، وكانت ذات تأثير سلبي على القانون، نظراً لما قام به الإقطاعيون من تخريب اقتصادي، بسبب استمرار نفوذهم طيلة تلك المدة، وكان من الأفضل أن لا تتجاوز مدة نفاذه أكثر من سنتين على أغلب الأحوال.

3 ــ إن مبلغ التعويضات الذي فرضه القانون أثقل كاهل الفلاح، في وقت كان فيه لا يملك شيئاً عندما صدر القانون، وكان بالإمكان التعويض كحد أعلى عن 10000 دونم فقط، وما زاد عنها يستملك دون تعويض، مما يخفف عن كاهل الفلاح المعدم، ويوفر له مجالاً أوسع لتطوير أوضاعه الاجتماعية، والاقتصادية. كما كان يقتضي مصادرة الأراضي العائدة للخونة من كبار الإقطاعيين الذين ساموا الفلاحين سوء العذاب طوال عقودً طويلة من الزمن دون تعويض.

4 ـ كان المفروض أن يتعرض القانون لمسألة صيانة الإنتاج الزراعي، وإدامته وصيانة المشاريع الزراعية كمشاريع الري، والمكائن الزراعية، والحفاظ على إنتاجية الأرض الزراعية، ومراقبة توزيع المياه بصورة عادلة، ومنع الإقطاعيين من القيام بالتخريب الذي أدي إلى هبوط الإنتاج الزراعي، وكان ينبغي النص على فرض العقوبات الصارمة بحق كل من يحاول التخريب، وحرمانه من أي تعويض.

ملاحظة: للإطلاع على المزيد من المقالات والبحوث التاريخية والسياسية والتربوية، وجميع كتبي يمكن الرجوع إلى موقعي على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com




254
هذا ما قدمه الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم فماذا قدم حكام العراق الجدد؟؟

الحلقة الثانية
حامد الحمداني                                                    27/6/2011

إجراءات حكومة ثورة 14 تموز 1958 في الحقل الداخلي

وضع الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم نصب عينيه فور نجاح الثورة تحقيق إنجازات آنية وسريعة تصب في خدمة الشعب العراقي الذي كان يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة بغية التخفيف من تلك الأزمة حيث اتخذ العديد من
الإجراءات ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي المتعلقة بحياة الشعب المعيشية منها:
1 ـ تخفيف الضرائب غير المباشرة عن أبناء الشعب.

2 ـ تخفيض إيجار المساكن، والمحلات التجارية.

4 ـ زيادة رواتب الموظفين والعمال، ووضع رقابة على الأسعار.
 
5ـ توزيع مئات الألوف من قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود والموظفين والعمال لغرض بناء دور لهم عليها، وتقديم كل المساعدات الممكنة والقروض بشروط بسيطة لإنجاز بنائها. علماً أن الزعيم لم يمتلك دارا،  ولا قطعة أرض حتى استشهاده

6ـ إلغاء حزام الفقر حول بغداد من الصرائف وبيوت الطين التي أقامها مئات  الألوف من الفلاحين الهاربين من جور الإقطاع والعبودية والاستغلال، وقيام الحكومة ببناء مدينتي [الثورة] و[الشعلة]، و[توسيع مدينة الحرية]، وتوزيع آلاف المساكن على هؤلاء المعدمين والبؤساء.

7ـ فتح معاهد الأيتام والأطفال المشردين، والأحداث الجانحين، والاهتمام بتربيتهم ونشأتهم نشأة صالحة.

8ـ  تقليص ساعات العمل وجعلها 8 ساعات، بعد أن كان العمال يعملون من شروق الشمس وحتى غروبها.

9ـ  تشجيع استثمار رأس المال الوطني في المشاريع الصناعية بدلاً من الاستثمار العقاري والمضاربة العقارية.

10ـ  تطبيق قانون الضمان الاجتماعي للعمال الذي صدر في العهد الملكي عام 1956، ولم ينفذ حتى قيام الثورة. 

11ـ  فتح مجال الاستيراد والتصدير لكل فئات البرجوازية الوطنية بعد أن كانت حكراً على كبار الرأسماليين المرتبطين بالنظام السابق.

12ـ  حماية الصناعات الوطنية أمام المنافسة الأجنبية.

13ـ  وضع حد لتهرب كبار الرأسماليين من دفع الضرائب.

14ـ رفع معدلات التصدير للحبوب والجلود والتمور وغيرها.

15ـ سن قانون ضريبي جديد، وشمول الإنتاج الزراعي بالضريبة، حيث كان الإقطاعيون لا يدفعون الضرائب عن الإنتاج.

16ـ إلغاء تكبيل السجناء بالحديد، وتخفيض عقوباتهم إلى خمس المدة.

17ـ سن قانون مكافحة البغاء، وإنشاء مراكز إصلاح إجبارية لكافة المومسات من أجل إصلاحهن، وتوجيههن نحو حياة جديدة ذات بعد إنساني، وتأمين مصدر دخل لهن.

18ـ توسيع وتطوير كافة الخدمات الصحية والتعليمية، وبناء الطرق والجسور والمشاريع الصناعية، قدر توفر الإمكانات المادية اللازمة لذلك.

19ـ تأسيس جامعة بغداد، وتوسيع القبول فيها، من أجل تخريج الكوادر التي يحتاجها الوطن في عملية البناء والتطور والنمو، في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية.

20ـ توسيع التعليم ومكافحة الأمية من خلال فتح ألوف المدارس في القرى والأرياف التي كانت محرومة منها.

ملاحظة: للإطلاع على المزيد من المقالات والبحوث التاريخية والسياسية والتربوية وجميع كتبي يمكن الرجوع إلى موقعي التالي على الانترنيت
www.Hamid-alhamdany.blogspot.com

255
هذه أحدى مآثر ثورة 14 تموز، فماذا قدمتم يا حكام العراق
الجدد؟

معركة النفط، وصدور قانون رقم 80 لسنة 1961

حامد الحمداني                                                     25/6/2011
كان على حكومة ثورة الرابع عشر من تموز تحرير العملة العراقية من هيمنة بريطانيا أن تُتبع ذلك باستخلاص حقوق العراق بثروته النفطية من شركات النفط الاحتكارية حيث استطاعت بريطانيا بعد احتلالها للعراق خلال الحرب العالمية الأولى الحصول على امتيازات غير عادلة لاستخراج النفط بالتعاون مع شركات فرنسية وهولندية، وشملت مناطق الامتياز العراق كله من أقصاه  إلى أقصاه، فقد تم مسح الأراضي العراقية من قبل الشركات، وظهر أن العراق يملك احتياطيات نفطية هائلة، في مختلف المناطق، إلا أن الشركات الاحتكارية لم تسع إلى استثمار النفط وزيادة الإنتاج بل اكتفت بمناطق كركوك، وعين زالة في الموصل، هذا بالإضافة إلى الشروط المجحفة بحق العراق لذلك الامتياز الذي فرضته بريطانيا على العراق، مستخدمةً قضية ولاية الموصل ومحاولة الحكومة التركية للاستحواذ عليها كوسيلة ضغط على الحكومة العراقية، ومخيرة إياها إما منح امتياز النفط بالشروط التي تريدها، وإما أن تذهب ولاية الموصل والتي تشمل محافظات الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية إلى تركيا وهكذا رضخت الحكومة العراقية لمطالب الإمبرياليين.
ولما قامت ثورة الرابع عشر من تموز 1958، كان عليها أن تضع نصب أعينها انتزاع حقوق العراق من شركات النفط الاحتكارية، والعمل على رفع معدلات الإنتاج، واستثمار مكامن الاحتياطات النفطية بغية تأمين الأموال اللازمة للنهوض باقتصاديات البلاد، وإقامة المشاريع الصناعية، والزراعية والعمرانية، والنهوض بالخدمات الأساسية للشعب كمشاريع الماء، والكهرباء، والإسكان، وبناء المدارس والمستشفيات، وشق الطرق، وبناء السدود، واستصلاح الأراضي الزراعية وكثير غيرها من المشاريع الطموحة، والتي كان العراق بأمس الحاجة إليها، لكثرة ما يعانيه من تخلف في كافة المجالات.
وعلى ذلك فقد سعت حكومة الثورة، بعد أن رسخت الثورة أقدامها، إلى دعوة الشركات النفطية لإجراء مفاوضات من أجل تعديل الاتفاقيات النفطية واستخلاص حقوق الشعب العراقي في ثروته، والعمل على إشراك العراق برأسمال الشركات المستثمِرة وإشراكه في مجالس إدارتها.
كان عبد الكريم قاسم قد نوه في أوائل أيام الثورة عن نيته في إجراء المفاوضات مع شركات النفط لاستخلاص حقوق العراق في إحدى خطبه أمام حشدٍ كبيرٍ من جماهير الشعب حيث قال:
{إن حكومة الثورة سوف تفي بتعهداتها، ولكنها سوف تعمل من أجل المحافظة على مصلحة البلاد الوطنية العليا، وآمل بأن شركات النفط سوف تتجاوب مع رغبة الحكومة في الاستمرار باستثمار مصادر ثروتها النفطية لفائدة الاقتصاد الوطني}.

لقد أراد عبد الكريم قاسم إفهام شركات النفط أن العراق لن يرضى أن تتحكم فيه شركات النفط كما تشاء، وأن مصلحة الوطن فوق كل المصالح.
هكذا إذاً دعت حكومة الثورة، بعد تم تثبيت أركان النظام الثوري الجديد إلى إجراء المفاوضات التي تناولت المسائل التالية:

  1ـ توسيع الاستثمار ليشمل كافة المناطق التي استحوذت عليها شركات النفط بموجب الامتيازات المعقودة مع العراق، وخاصة تلك المناطق التي ثبت وجود احتياطيات نفطية هائلة فيها مثل حقل الرميلة.

 2 ـ طلب العراق زيادة حصته من واردات النفط حيث أن معظم تلك الواردات تذهب إلى جيوب الشركات الاحتكارية، ولم يكن يصيب العراق منها إلا القليل.

 3 ـ طلب العراق المساهمة في رأسمال الشركات المنتجة للنفط لكي يرفع من حصته من الإنتاج، ولكي يكون له أعضاء في مجالس إدارتها.

 4 ـ طلب العراق إجراء تصحيح أسس حسابات النفقات والأسعار، ورفع الغبن الذي أصاب العراق جراء تلاعب شركات النفط بها.

 5 ـ طلب العراق أن تكون مصافي النفط في العراق خاضعة للدولة، وملكاً لها ورفع يد شركات النفط العاملة في العراق عنها.

هذه هي أهم المطالب التي قدمها العراق لشركات النفط عند بدء المفاوضات معها في أوائل شهر آب 1958، إضافة إلى الطلبات الثانوية الأخرى.
لم تبدِ الشركات النفطية أي مرونة أو تنازل تجاه مطالب العراق، وخاصة حول الطلب الأول، وأصرت على مواقفها في جميع مراحل المفاوضات التي دامت أكثر من سنتين، وكل ما حصل عليه العراق في مفاوضاته تلك لا يعدُ أن يكون في المسائل الثانوية، مما دفع قيادة الثورة إلى توجيه إنذار للشركات النفطية بسحب المناطق غير المستثمَرة التي يشكل مجموعها حوالي 9،99% من مناطق الامتياز إذا لم تقم الشركات بالاستثمار فيها.

أما شركات النفط فقد تحدت حكومة الثورة فيما إذا كانت قادرة على الأقدام على مثل هذه الخطوة على الرغم من أن الوفد العراقي المفاوض ابلغ الشركات النفطية عن عزم الحكومة العراقية  الأكيد على استرجاع حقوقه، وسحب المناطق غير المستثمرة، واستثمارها وطنياً، كان جواب رئيس الوفد المفاوض لشركات النفط ينم عن التحدي قائلا للوفد العراقي جواباً على الإنذار [سوف نرى]!!، وكان يبدو واضحاً من هذا الكلام أن شركات النفط سوف تمنع ذلك بكل الوسائل والسبل، وفي المقدمة من ذلك إسقاط النظام الثوري في العراق.

لقد كانت شركات النفط تبغي الضغط على حكومة الثورة لعرقلة كل مشاريعها الطموحة لتطوير البلاد في كافة المجالات متذرعة ببنود المعاهدة المفروضة على العراق فرضاً. وفي سبيل تنفيذ خططها المعادية لعراق الثورة بدأت تكيل التهديدات لعبد الكريم قاسم وحكومته، وعملت كل ما في وسعها لبث الشقاق والصراع بين أطراف جبهة الاتحاد الوطني، ودفعها للتناحر من أجل تهيئة الظروف لتوجيه الضربة القاضية للنظام الثوري في العراق، ولم تقدم سوى تنازلات ثانوية فقط كان من بينها التنازل عن مصفى الدورة في بغداد، ومصفى الوند في خانقين، والتنازل عن امتياز شركة خانقين، وإلغاء وكالة التوزيع لشركة نفط خانقين، واستلام العراق شؤون التوزيع، وتعريب المصافي المذكورة، والاستغناء عن خدمات الأجانب فيها، وإنشاء جهاز لتوزيع الغاز السائل على المستهلكين.

لم تجد قيادة الثورة بُداً من تنفيذ تهديداتها لشركات النفط لاسترجاع حقوق العراق في ثروته بعد تلك المفاوضات العقيمة، والتي دامت مدة طويلة دون التوصل إلى نتائج حاسمة تلبي مطالب العراق، حيث أعلن عبد الكريم قاسم في 21 كانون الأول 1961 قانون رقم 80 لسنة 1961، والذي تم بموجبه استعادة 99,9 % من مناطق الامتياز من شركات النفط، وجاء القانون الذكور ضربة قاصمة لتلك الشركات أفقدتها صوابها وجعلتها تصمم على اغتيال ثورة 14تموز وقائدها عبد الكريم قاسم.
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com


256
بمناسبة ذكرى النكبة
دراسة حول القضية الفلسطينية
الحلقة الثالثة والأخيرة

حامد الحمداني                                                                                     18/5/2011


رابعاً:استئناف القتال،والولايات المتحدة تفرض هدنة جديدة:

عندما أكره مجلس الأمن الدول العربية على وقف القتال قي فلسطين اعتباراً من 11 حزيران 1948 وعين الوسيط الدولي [ الكونت برنادوت ] لوضع حل سلمي للمشكلة الفلسطينية !!، كان أحد شروط الهدنة هو عدم استفادة أي طرف من الأطراف لتعزيز قواته، أو تحريكها.

 لكن الحقيقة أن الصهاينة استفادوا من كل يوم، بل وكل ساعة لتعزيز مواقعهم، ولجلب الأسلحة والطائرات التي أخذت تنهال عليهم من الإمبرياليين الأمريكيين والإنكليز وغيرهم، فيما بقيت القوات العربية ملتزمة ببنود الهدنة، ولم تسعَ إلى تقوية مركزها، معتمدة على مصداقية مجلس الأمن!!.

لكن الدول العربية اضطرت في نهاية المطاف، وبعد أن وجدت التعزيزات العسكرية الصهيونية تجري ليل نهار، إلى استئناف القتال من جديد في 9 تموز، وفوجئت القوات العربية بأخذ القوات الصهيونية زمام المبادرة من أيديهم، وبدأت تهاجمهم بعنف، وخسرت القوات العربية  [صفد] و[الناصرة] و [اللد] و[الرملة] والعديد من القرى العربية، وتشرد الألوف الجدد من أبناء الشعب الفلسطيني، تاركين ديارهم وأملاكهم وأموالهم، هرباً من المذابح الصهيونية.

 وهكذا استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن تفرض على العرب هدنة جديدة، في 18 تموز 1948، وتخاذل الحكام العرب، وقبلت أربعة دول عربية هي مصر والأردن والسعودية واليمن  مبدأ التقسيم، فيما رفضت الحكومتان السورية والعراقية الهدنة، لكن الموافقة على القرار تم بالأكثرية وقبل العرب إجراء مفاوضات لعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في [لوزان ] بسويسرا.

 وقد استنكرت الأحزاب الوطنية في العراق قرار مجلس الأمن، وقبول الحكام العرب له، في بيان مشترك صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار.
 كما سيروا المظاهرات في بغداد يوم الجمعة المصادف 23 تموز 1948، احتجاجاً على قبول الهدنة، في حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً يدعو فيه إلى وقف القتال، وسحب الجيوش العربية، والقبول بقرار مجلس الأمن، وكان ذلك الموقف استمراراً لمواقفه الخاطئة من القضية الفلسطينية، والتي أضرّت بالحزب وشعبيته ضرراً بليغاً .

خامساً: تطورات درامية في حرب فلسطين:

لعب الملك عبد الله، وقائد جيشه البريطاني [ كلوب باشا ] دوراً خيانيا مشهوداً، بعد أن تولى الاثنان قيادة الجيوش العربية في القاطعين الشمالي والشرقي من الجبهة .
 فبعد أن أقّر رؤساء الأركان العرب في اجتماع [ الزرقاء ] خطة عسكرية فعالة لمجابهة القوات الصهيونية، أعترض عليها كلوب باشا واستبدلها بخطة جديدة، فقد أدرك كلوب أن تنفيذ تلك الخطة سوف تفشل المخطط الإمبريالي الصهيوني، وخطة الملك عبد الله الطامع في الأرض الفلسطينية، وكان بإمكان تلك الخطة القضاء على القوات الصهيونية، ولكن إقدام كلوب باشا على إبدالها أدى إلى الفشل الذريع للجيوش العربية  وبالتالي أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة.

كان هذا على الجبهتين الشمالية والشرقية، أما على الجبهة الجنوبية التي حارب فيها الجيش المصري فكانت الخيانة اعظم، عندما جُهز الجيش المصري بالعتاد الفاسد، مما سبب كارثة للجيش، ومكّن القوات الصهيونية من محاصرته في الفالوجه، وإلحاق الخسائر الجسيمة به والاستيلاء على الفالوجة .

وعلى الأثر سافر رئيس الوزراء، مزاحم الباجه جي، إلى القاهرة، والتقى زميله رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي ] وبحثا الأحوال بعد سقوط الفالوجة، وجرى الاتفاق على إرسال لواء عراقي آلي مع فوجين سوريين لمساعدة الجيش المصري، وتم الاتفاق على موعد الهجوم على الفالوجة.

  ولما اطلع كلوب باشا على الخطة رفضها فوراً، وأعلن أن الجيش الأردني في منطقة القدس لن يسمح بمرور القوات العراقية والسورية، وبذلك أفشل كلوب باشا خطة رؤساء الأركان العرب لمساعدة الجيش المصري، والذي بقي يقاتل لوحده متحملاً ضغط القوات الصهيونية .

وبانكشاف هذه المؤامرة الجديدة على القضية الفلسطينية، قامت المظاهرات العارمة في بغداد احتجاجاً على تخاذل الحكومة، وضلوع العرشين الهاشميين في تلك المؤامرة، وقد وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، أصيب على أثرها أكثر من 200 من المواطنين بجراح، واعتقلت السلطات أعداد كبيرة أخرى منهم .

كما قام وفد من نواب المعارضة بمقابلة ولي العهد عبد الإله، ورئيس الوزراء الباجه جي، بعد اجتماع عقده نواب المعارضة، وقدموا مذكرة باسم المعارضة لهما، وقد دعت المذكرة إلى عدم التزام العراق بالهدنة التي تنتهكها إسرائيل باستمرار، والعمل فوراً على تقديم العون العسكري للقوات المصرية التي بقيت تقاتل لوحدها، وقطع النفط عن الدول الإمبريالية التي تدعم العصابات الصهيونية، وإنذار بريطانيا بإلغاء معاهدة التحالف معها إذا ما استمرت في سياستها الحالية .

كما فضحت المذكرة الدور الخياني لحكومة الأردن، وحذرت من أن  ترك مصر لوحدها سوف يؤدي إلى انهيار الجامعة العربية، وانعزال مصر عن القضايا العربية، وفقدان الأمل في قيام وحدة عربية .

 وقد وقّع على المذكرة كل من السادة النواب : خميس الضاري  ـ ذيبان الغبان  ـ داؤد السعدي ـ عبد الرزاق الظاهر  ـ محمد حديد ـ عبد الجبار الجومرد ـ عبد الكريم كنه  ـ فائق السامرائي  ـ إسماعيل الغانم  ـ  روفائيل بطي ـ عبد القادر العاني  ـ نجيب الصايغ ـ عبد الرزاق الشيخلي ـ هاشم بركات ـ حسن عبد الرحمن ـ جعفر البدر ـ ريسان كاطع ـ مصلح النقشبندي ـ خدوري خدوري  ـ جميل صادق ـ برهان الدين باش أعيان  ـ عبد الرحمن الجليلي  ـ محمد مهدي كبه  ـ حسين جميل ـ أركان العبادي ، وقد قدم النواب صورة من هذه المذكرة إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان .

وبالنظر لتطور الأحداث بهذا الشكل المتسارع، وشدة الانتقادات التي وُجهت للحكومة، ولخطورة الموقف، لم يجد مزاحم الباجه جي أمامه من طريق سوى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي، في 6 كانون الثاني 1949، وتم قبول الاستقالة على الفور، وكلف الوصي رجل بريطانيا القوي في العراق  نوري السعيد، لتأليف وزارته العاشرة  في اليوم نفسه .

سادسا: مصير القسم العربي من فلسطين:


بعد إعلان قبول الدول العربية بالهدنة الثانية، والقبول بتقسيم فلسطين، قدمت الحكومة المصرية اقتراحاً لجامعة الدول العربية يقضي بإعلان حكومة عموم فلسطين العربية، على أن يعّين [ احمد عرابي باشا ] حاكماً عليها، وقد أيد العراق الاقتراح المصري، وأيده فيما بعد كل من  لبنان والسعودية واليمن، وعارضه الملك عبد الله الذي كانت بريطانيا قد وعدته أثناء زيارته الرسمية للندن  في 21 شباط 1946 بضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارته [ شرق الأردن ]آنذاك، إذا ما حان الوقت لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولذلك جاءت معارضة الملك عبد الله، والتي اتسمت بالشدة،  وهدد باتخاذ أشد الإجراءات الهادفة إلى إحباط الاقتراح المصري .

ودبر الملك عبد الله، بالتعاون مع الإنكليز، ما سمي [مؤتمر أريحا ] والذي جاءوا له بعدد من الشخصيات الفلسطينية الموالية لبريطانيا، وللملك عبد الله، ليقرروا ضم الجزء العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن لتشكل دولة الأردن بضفتيه.   

 فيما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وهكذا اختتمت المسرحية التي أخرجتها الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، ونفذها الحكام العرب، وكان ضحيتها ليس شعب فلسطين فحسب، بل الشعب العربي كله.
 فقد أصبحت إسرائيل مصدراً للعدوان والتوسع على حساب البلدان العربية، واضطرت هذه البلدان إلى خوض عدة حروب معها، وكانت إسرائيل توسع كيانها في كل مرة على حساب العرب، ناهيك عن أنهاك الاقتصاد العربي بسبب تلك الحروب، والتسلح المستمر منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.

أثارت تلك المؤامرة الكبرى نقمة الشعوب العربية على حكامها، وأدركت هذه الشعوب أن الداء هو في وجود هؤلاء الحكام على رأس السلطة، وأن لا سبيل لإصلاح الأمور إلا بتغيير الأوضاع فيها.
كما أن الجيوش العربية التي عادت إلى بلدانها، ومرارة الحزن والأسى بادية على وجوه الجنود والضباط المغلوبين على أمرهم قد أدركوا أن الحكام العرب هم أساس البلوى، فقد باعوا  أنفسهم للإمبريالية، ونفذوا مخططاتها في المنطقة العربية، وكان من بين أولئك الضباط قائد ثورة 23 يوليو في مصر [ جمال عبد الناصر ] و قائد ثورة 14 تموز في العراق الزعيم الشهيد[ عبد الكريم قاسم ].

 ونتيجة لتك التطورات التي أفرزتها الحرب، شهدت البلدان العربية بعد عام النكبة 1948 تغيرات كثيرة حيث اختفت رموز كثيرة من المسرح السياسي، فقد وقع انقلاب عسكري في سوريا في 30 آذار 1949 بقيادة [ حسني الزعيم]،  وقتل الملك عبد الله في 20 تموز 1951، كما جرى اغتيال رئيس وزراء مصر  [محمود فهمي النقراشي ]، واغتيال رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح ] إثناء زيارته الرسمية إلى عمان في 16 تموز 1951 .

أما في العراق  فقد جرت المعارك في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية بين قوات السلطة القمعية والشعب، وتم إسقاط وزارة صالح جبر الموالي للإنكليز، ثم جاءت ثورة 23 يوليو في  مصر، وتم إسقاط حكم الملك فاروق، أحد المسؤولين الكبار عن النكبة، كما وقع انقلاب عسكري في لبنان في 18 أيلول 1952  أطاح بالرئيس اللبناني [ بشارة الخوري]، وأخيراً تكلل نضال الشعب العراقي بالنجاح في ثورة 14 تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي الموالي للإنكليز.



257
بمناسبة ذكرى النكبة
دراسة حول القضية الفلسطينية
الحلقة الأولى

حامد الحمداني                                                                    15/5/2011



أولاً : مقدمة حول القضية الفلسطينية
بدأت المشكلة الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، باندحار الدولة العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو] السرية.
 فقد احتلت بريطانيا العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، ومصر، والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية.
كانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917، عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده الذي عرف باسمه.بدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، وصلة الوصل بين مشرقه ومغربه، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد، قبل أن تجلوا تلك القوات، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل.
وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسّ بالمؤامرة التي تحاك ضده، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين.
لقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح، وبقسوة ليس لها مثيل، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه.
لم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين.
وعند قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان [كتابها الأبيض] الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فقد اعترفت باستقلال فلسطين، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي.
فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم، لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها ومستشاريها باسم الانتداب.
بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة ألهاجانا ] و [منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون] ، وقدمت بريطانيا لهم السلاح، وكل المساعدات الممكنة لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على طلقة واحدة.
وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [ لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية ] بعد الفورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين.
 وجاء تقرير اللجنة في 16 آذار 1946 مخيباً الآمال العربية، واستفزازاً لها. فقد جاء في التقرير خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود.
أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة  وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت حكومة المدفعي، تحت ضغط الجماهير الشعبية إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة.
 لكن حكومة المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير.
وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان] بسوريا، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعلن عن قيام دولة صهيونية، لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين!!.
 بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وصحراء سيناء إلى أن عقد السادات معها معاهدة [ كامب ديفيد ]، كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا.
ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني] .
وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلو أمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين.
وفي 22 تشرين الأول من نفس العام عقد رؤساء العشائر العربية والكردية والأيزيدية مؤتمراً في مدينة الحلة لبحث القضية الفلسطينية، وخرجوا بمقررات عديدة، كان أهمها إرسال المتطوعين إلى فلسطين للتصدي للعصابات الصهيونية، إلا أن تلك القرارات بقيت حبراً على ورق، ولم يجد تنفيذها النور، ولاشك أن الإنكليز كانوا وراء إفشال ذلك المؤتمر في تنفيذ قراراته.
وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع [الانكلو أمريكي]، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي.
وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون.
وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [ألهاجانا ] و[ الماباخ ]، القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي.
سادت التظاهرات أرجاء البلاد، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني.
 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم وقيام الكيان اليهودي،  وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب، وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية.
وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان، وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة تذكر.
وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة، على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة.
وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ آنذاك، وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تستجيب الحكومة لمطالبهم.
وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين.
ومن الجهة الأخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين، وبالتنسيق معهم ومع الولايات المتحدة، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم.
ولم يكن الحكام العرب الذين نصبهم الإمبرياليون، جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !!.
انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية
www.hamid-Alhamdany.blogspot.com






بمناسبة ذكرى النكبة
دراسة حول القضية الفلسطينية
الحلقة الثانية

حامد الحمداني                                                                         17/5/2011

ثانياً:إعلان قيام دولة إسرائيل،ودخول الجيوش العربية فلسطين:
في الرابع عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وفي نفس اليوم أعلنت المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبعد عشرين دقيقة من إعلان قيامها أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة العبرية، وتبعتها بعد ذلك بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي واعترفوا بها.

 وكان ذلك قد شكل أكبر تحدي لمشاعر الملايين من الجماهير العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، وضربة قاصمة وجهتها الإمبريالية للعرب.
بدأت العصابات الصهيونية أشنع حملة لتهجير السكان العرب من مدنهم وقراهم، فأقاموا المجازر البشعة ضدهم، مستخدمين كل أنواع الأسلحة، وقُتل من قُتل من النساء والأطفال والشيوخ، وترك ما يزيد على المليون وربع المليون من الفلسطينيين ديارهم هرباً من بطش الصهاينة، تاركين وراءهم كل ما يملكون من مساكن وأثاث وأموال ومصالح، وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة، يعيشون تحت الخيام، بانتظار مساندة ودعم الحكام العرب لعودتهم إلى ديارهم !!.

واضطر الحكام العرب تحت ضغط شعوبهم إلى دفع جيوشهم إلى فلسطين، واستبشر الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة بتحرك الجيوش العربية، لكن ظهر فيما بعد أن تلك الحرب لم تكن سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون، ونفذها الحكام العرب، لا لتحرير فلسطين، بل لتثبيت الدولة العبرية الجديدة.

دخلت القوات العربية إلى فلسطين ساعيةً إلى الحرب بدون حسام، فلقد جُهز الجيش المصري بعتاد فاسد، مما أوقع خسائر فادحة في صفوفه.
أما القوات العراقية فقد كانت أربعة أفواج مجهزة بأسلحة خفيفة لا تفي بالغرض، وحتى القوة الآلية للجيش العراقي فقد كان الجنود غير مدربين على استخدام تلك الآليات، فقد ذكر قائد القوات العراقية في فلسطين، اللواء الركن [ نور الدين محمود ] في تقريره إلى رئاسة أركان الجيش، في حزيران 1948 ما يلي :
{ خلال مدة بقائي في المفرق، فتشت القوة الآلية فوجدت معظم جنود الفوج الآلي غير مدربين، حتى أن القسم الأعظم لم يرموا بأسلحتهم الخاصة بهم، وبالإضافة إلى ذلك علمت أن الفوج المذكور استلم مدافع الهاون في يوم حركته من بغداد ولا يعلم أحد بالفوج، ولا بالقوة الآلية كلها كيفية استخدام هذا المدفع، وقد تركت في السيارات بانتظار إرسال الجنود المدربين على استخدامها من بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدت أن جنود المدرعات لم يدربوا بأسلحتهم مطلقاً فاضطررت إلى الإبراق إلى وزارة الدفاع للموافقة على تدريبهم على إطلاق بضعة إطلاقات بصورة مستعجلة، لكي يعرفوا خصائص أسلحتهم على الأقل، وعند الاستفسار عن كميات العتاد المتوفرة ظهر لي أن القنابل من عيار 2 رطل كان محدوداً جداً، كما أن الوحدات اسطحبت عتاد الخط الأول فقط، ولم يؤسس خط للمواصلات بعد، وكانت الوحدات تستهلك الأرزاق التي جلبتها من بغداد، وكانت بقية أمور التموين والإعاشة في دور التأسيس.

 وهكذا كانت الحالة للقوة الآلية المرسلة إلى فلسطين، والمزمع إشراكها في القتال دون التهيئة، وأن وضعية كهذه جعلتني في حالة استغراب من إرسال قوات وزجها في القتال بهذا الوضع الناقص}.

ومع ذلك فقد أبدا الجنود العراقيين بسالة منقطعة النظير، واستطاعوا التقدم واحتلال العديد من المواقع الصهيونية، مما أزعج الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا الضغط على الحكومة العراقية لمنع تقدم قواتها.

 وهكذا قُيدت حركة القوات العراقية، وظهرت تلك الأيام حكاية تداولها الشعب العراقي بتهكم شديد، وهي عبارة [ ماكو أوامر ]. أي أن الجيش ليس لديه أوامر للتحرك. لقد كانت تلك الحرب مخططة مسبقاً، ونتائجها مرسومة، وهي تقتضي قيام دولة إسرائيل، وخذلان الجيوش العربية .

أما الملك عبد الله ـ ملك شرق الأردن ـ فقد أصّر على أن تكون قيادة القوات العربية له، وقد عارضت بعض الدول العربية ذلك، حيث أن الجيش الأردني يقوده الجنرال البريطاني[كلوب باشا] وبريطانيا هي التي سلمت فلسطين للصهاينة، فلا يعقل أن تسلم قيادة الجيوش العربية لكلوب باشا.
لكن حكام الدول العربية تراجعوا عن معارضتهم بضغط من بريطانيا، وتسلم كلوب باشا  القيادة الفعلية للجيوش العربية !!.
كان الملك عبد الله يغتنم كل فرصة لكي يؤمن لنفسه الاستفادة مما ستؤول إليه الأمور، وكان يجري باستمرار اتصالاته السرية مع [ وايزمان ] و[ بن غوريون] وسلم الملك عبد لله مدينتي [ اللد] و[الرملة] للصهاينة دون قتال، بعد أن كانت القوات العربية قد سيطرت عليها.

لقد نال الملك عبد الله ثقة الصهاينة، بعد أن أمر القوات العربية التي وصلت إلى أبواب [تل أبيب] بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السابقة، متيحاً الفرصة للصهاينة لتنظيم صفوفهم، وجلب الأسلحة والمعدات والقوات، للوقوف بوجه القوات العربية.  

ورغم خيانة الحكام العرب، ليس لفلسطين وحسب، بل لجيوشهم التي زجوا بها في المعركة دون استعداد ، ودون سلاح ، وتزويدها بالعتاد الفاسد، كما جرى للجيش المصري ، إلا أن القوات العربية المؤمنة بقضية العرب الرئيسية فلسطين أبلوا في الحرب بلاءً قلّ نظيره، وكادت تلك القوات،  برغم الظروف السيئة تلك أن تقضي على القوات الصهيونية التي أصابها الإعياء، ونفذ عتادها، مما اضطر زعماء الصهيونية إلى الطلب من الولايات المتحدة العمل على وقف القتال، وقيام هدنة بين الطرفين لاستعادة الأنفاس والتهيئة لجولة جديدة.

ثالثاً : إعلان الهدنة الأولى في فلسطين :
سارعت الولايات المتحدة إلى دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع، بدعوى أن الوضع في الشرق الأوسط يهدد الأمن والسلام الدوليين، واستطاعت استصدار قرار من المجلس يقضي بوقف القتال بين الطرفين، وإرسال الوسيط الدولي السويدي [ الكونت برنادوت ] الذي قتله الصهاينة فيما بعد، ليلة 22 / 23 أيار، بعد 39 ساعة من بدء القتال.

سارع الحكام العرب إلى قبول وقف القتال، بعد اجتماع عاصف بين ممثلي الحكومات العربية، فقد هدد رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي] بأن مصر سوف تعقد هدنة مع الصهاينة لوحدها إذا لم توافق بقية الدول العربية على ذلك.
أما الملك عبد الله فقد أصرّ على قبول الهدنة، وهدد بقطع التموين عن الجيش العراقي إذا أصرّ العراق على عدم قبولها.
أما الملك عبد العزيز آل سعود، فقد رفض قطع النفط عن الولايات المتحدة، بناء على طلب الجامعة العربية، وكان ذلك كفيلاً بأن يشكل اكبر ضغط عليها.  

كانت مواقف الحكومة السورية أكثر جرأة واندفاعاً، ولذلك وجدنا القوات الصهيونية ركز هجماتها على القوات السورية .
بدأت القوات الصهيونية تستعيد أنفاسها، وبدأت الأسلحة تنهال عليها من كل جانب، وجرى تنظيم، وإعداد تلك القوات لجولة جديدة مع القوات العربية، وكان قبول الحكام العرب يمثل خيانة كبرى لمصالح الأمة العربية، ولقضية فلسطين، كما كان قرار مجلس الأمن أهم امتحان لمصداقية المهيمنين على مجلس الأمن، والذين تنكروا للميثاق الذي وضعوه هم أنفسهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

لقد كان العراق يملك من القوات والأسلحة ما يكفيه وحده لتحطيم القوات الصهيونية، لكن الحكام المؤتمرون بأوامر الإمبريالية لم يكونوا جادين في حربهم، أما الملك عبد الله فخيانته للقضية الفلسطينية لا تحتاج إلى دليل، فقد كان يقدم للصهاينة النفط الذي كان يمر عبر أنبوب النفط العراقي إلى [حيفا] والتي وقعت بأيدي الصهاينة، حيث استمر بالتدفق ليستخدموا البترول في تسيير آلياتهم العسكرية، فقد وصف المؤرخ الأردني المعروف [ سليمان موسى ] موقف الملك عبد الله قائلاً :
{ كان الأردن حتى أوائل شهر أيار 1948 يحصل على ما يحتاج إليه من مشتقات النفط من مصفاة شركة بترول العراق في حيفا، وعندما سلمت بريطانيا، مدينة حيفا للصهاينة أصبحت المصفاة بأيديهم فأخذوا يستغلونها لسد حاجاتهم، ولذلك لم يكن الصهاينة بحاجة، أو أزمة فيما يختص الوقود بأنواعه، أما الأردن فقد استطاع الحصول على ما يحتاج من وقود من محطتي H3وH5، حيث ضخت الشركة 12 مليون غالون من كركوك  إلى خزاناتها في المحطتين، ومنها أخذ الأردن حاجته من الوقود}. وهكذا اشتركت الحكومتان العراقية والأردنية في تزويد الصهاينة بالنفط الضروري لحركة آلياتهم العسكرية.
انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com

258
ملف الأول من أيار ـ عيد العمال العالمي

واقع الطبقة العاملة في عصر العولمة، وآفاق المستقبل
حامد الحمداني       
27/4/2011   
                                                                               
أحدث سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة المعسكر الاشتراكي انتكاسة كبرى ليس فقط بالنسبة لشعوب هذه البلدان وحلمهم في قيام عالم جديد قائم على أسس من العدالة الاجتماعية، وإنهاء استغلال الانسان لأخيه الإنسان، بل أن الكارثة قد حلت بالعالم اجمع، بعد أن اصبحت الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة القطب الأوحد والأقوى في العالم، وتحول هذا العالم في عهد العولمة إلى سوق مفتوح، وتداخل واسع النطاق للرأسمال العالمي والشركات المتعددة الجنسيات، ولاسيما بعد حصول هذا التطور السريع والكبير لوسائل الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة، ولم تعد الحدود تقف حائلاً أمام تداخل وهيمنة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الاقتصاد العالمي.

لقد أدى هذا التغيير الدرامي المتسارع إلى اشتداد الضغوط التي تمارسها الرأسمالية العالمية على الطبقة العاملة في مختلف بلدان العالم بعد أن فقدت سندها القوي الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، واشتداد قبضة الشركات والمؤسسات الرأسمالية على الطبقة العاملة، واغتصاب حقوقها المشروعة في تأمين العدالة الاجتماعية، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان العامل الذي هو العنصر الحاسم في خلق كل هذه المنجزات التي تشهدها البشرية في عالم اليوم، ولا تحصل لقاء جهدها الكبير سوى الفُتاة، في حين تتكدس مئات المليارات في جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية والكارتيلات والمؤسسات الرأسمالية الكبرى.

لقد باتت الرأسمالية العالمية أكثر جشعاً في استغلال جهد الطبقة العاملة، وزاد من هذا الاستغلال التطور الهائل في وسائل الإنتاج ودخول عصر الأتمة الذي حول العامل إلى آلة صماء لا تستطيع الفكاك من متابعة العمل ولو للحظة واحدة، حيث يفرض هذا التطور أن يسير العمل دون توقف في كل مراحل الإنتاج، فأي تأخر في أي من مراحل الإنتاج يؤدي إلى تأخر المراحل التالية، وهكذا تصبح الآلة هي التي تتحكم في عمل الانسان، ولذلك فلابد للعامل أن يتحول في نهاية المطاف إلى جزء من هذه الآلة حيث يستنزف أقصى طاقته في هذا العمل المستمر دون توقف.
إن هذا التطور في وسائل الإنتاج، وتصاعد الاستغلال لجهد الطبقة العاملة وتصاعد الضغوط التي يفرضها طبيعة العمل لابد أن يفرض على الطبقة العاملة أن تغير أساليب نضالها المشترك كماً ونوعاً من خلال تنظيماتها السياسية والنقابية كي تستطيع فرض شروط عمل أفضل، وأجور تتناسب والجهد المبذول، والذي يحقق للطبقة العاملة مستوى من الحياة المعيشية تليق بالإنسان على المدى القريب، والسعي الجاد والمتواصل من خلال تنظيماتها الحزبية المسترشدة بالماركسية وتطويرها بما يتلاءم والعصر الحالي وخلق الظروف التي تمكن في نهاية المطاف نضال الطبقة العاملة من أجل تغيير حقيقي لعلاقات الإنتاج، وهو الذي يمثل الهدف الأبعد لنضال الطبقة العاملة.
إن فشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي لن تكون نهاية المطاف أبداً، والمجتمع الإنساني سبق أن مر بمراحل متعددة، وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى قد يصاحبه أخطاء وانتكاسات، كما حدث في الاتحاد السوفيتي، لكن هذه التجربة والتجارب التي سبقتها والتي ستليها ستعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية وتنظيماتها النقابية كيف تستفيد من تجاربها وتتجاوز أخطائها، والسير الحثيث من أجل خلق عالم جديد، وعلاقات إنتاج جديدة تحقق حلم الطبقة العاملة وسائر المجتمع الإنساني بحياة رغيدة خالية من الاستغلال واستعباد رأس المال.

أن الماركسية بما قدمته لنضال الطبقة العاملة وإنجازاتها كان كبيراً جداً، ولولا الأخطاء التي وقع فيها قادة الاتحاد السوفيتي الذين حولوا النظام الاشتراكي الذي سعى مؤسس الدولة لنين لبنائه ليكون نموذج للعالم اجمع، إلى رأسمالية الدولة، بالإضافة إلى انتهاك الحقوق الديمقراطية للشعب السوفيتي وشعوب المعسكر الاشتراكي، لكان عالم اليوم غير هذا العالم الذي بات فيه الرأسمال العالمي يتحكم بمصير الشعوب، لكن هذا التحكم لن يستمر إلا إلى حين.

  ستبقى الماركسية هي السبيل الذي يهدي البشرية لتغيير الواقع الذي تعيشه اليوم، وتعلم الطبقة العاملة وأحزابها السياسية أساليب النضال لتحقيق حلم البشرية في مجتمع عادل لا مكان فيه للاستغلال، مجتمع لا مكان فيه للفقر والعوز والبطالة، مجتمع تتحقق في ظله كامل حقوق الانسان في الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد.

 إن منظري الرأسمالية مهما حاولوا تلميع وجهها لن يفلحوا أبداً في مسعاهم لسبب بسيط هو كون النظام الرأسمالي قائم في الأساس على استغلال الإنسان لجهد أخيه الانسان، فهو نظام تنتفي فيه العدالة، وستكون الرأسمالية في نهاية المطاف عاجزة عن تقديم حل حقيقي وإنساني للتناقض الحاصل بين المستغِلين ( بكسر الغاء) والمستغَلين (بفتح الغاء) إلا من خلال نظام بديل يؤمن للإنسان العدالة الاجتماعية الحقيقية الخالية من الاستغلال والاستعباد. 
               
تحية للطبقة العاملة وشغيلة الفكر في عيدها المجيد .
ليكن هذا اليوم المجيد الحافز لنضال الطبقة العاملة وشغيلة الفكر من أجل عالم أفضل
المجد لشهداء الطبقة العاملة وشغيلة الفكر في العالم أجمع.

ملاحظة : للإطلاع على المزيد من المقالات والكتب في موقعي على الانترنيت التالي
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com



259
الشعوب العربية تقارع أنظمة الطغاة
حامد الحمداني                                                                         19/4/2011

ثلاثة وأربعون عاماً مضت ونظام القذافي جاثم على صدور الشعب الليبي، بعد أن قام بانقلاب عسكري ضد ملك ليبيا [إدريس السنوسي ]، ولم يكن سوى مجرد ملازم في الجيش الليبي منح نفسه رتبة عقيد في الجيش، خجلاً من أن يأخذ رتبة مارشال، أو مهيب ركن، كما فعل حليفه وقرينه الدكتاتور الأرعن صدام حسين في عراقنا الحبيب، لكي يفرض سطوته وهيمنته على مقدرات الشعب الليبي الشقيق، ويتصرف بالبلاد والعباد والثروات وكأنها ملك خاص به، تماماً كما فعل الجلاد صدام حسين بشعب العراق، وثروات العراق، وأرض العراق.

ثلاثة وأربعون عاماً والشعب الليبي، شأنه شأن الشعب العراقي، محروم من أي نسيم للحرية، محروم من أية حقوق ديمقراطية، محروم من أي تنظيم حزبي أو نقابي، فشعار القذافي المعروف يقول [ من تحزب خان !!] والأحزاب ممنوعة لأنها تمثل خطراً على استمرار النظام، والشعب الليبي محروم من أي كتاب أو صحيفة تصدر خارج ليبيا، حتى ولو كان [الكتاب الأخضر] إنجيل القذافي!! الذي فرضه على شعب ليبيا، ولا كتاباً سواه، تماماً كما فعل الدكتاتور صدام حسين الذي حرّم الأحزاب السياسية، وكافحها بأشد ما تكون القسوة، فلا حزب غير حزب البعث، بل حزب العبث بمقدرات شعب العراق، ولا صحيفة في البلاد غير صحافته الصفراء، ولا كتاب سوى تلك الكتب التي تمجد بالطاغية، وغدا العراق بلا قانون، ولا دستور، ولا محاكم، فالقتل كان هو السبيل الوحيد للحفاظ على نظام صدام الجائر، والويل كل الويل لم ينبس بحرف واحد ينتقد فيه النظام، وهذه المئات من المقابر الجماعية التي تضم مئات الألوف من أبناء شعبنا الأبرار، وآخرها التي تم اكتشافها قبل أيام في محافظة الانبهار، والتي ضمت رفاة أكثر من 800 شهيد، وأغلبيتهم من الشيوعيين المناضلين  من أجل الحرية والديمقراطية، هي الدليل الساطع على جرائم الدكتاتور صدام ونظامه الفاشي.

ثلاثة وأربعون عاماً وقائد الجماهيرية الليبية الثورية الاشتراكية الشعبية.......إلخ من المسميات العجيبة والغربية، يتصرف بثروات البلاد على هواه دون حسيب أو رقيب، يبذر كيفما يشاء، ويتبرع لمن يشاء، ويدفع فدية بعدة مليارات من الدولارات تعويضاً عن إحدى جرائمه التي أعترف نظامه بارتكابها أخيراً ويا للعار، وأدت إلى إزهاق مئات الأرواح البريئة في حادثة إسقاط طائرة [بان أميركان] فوق لوكاربي، ويترك شعبه في حالة يرثى لها،حتى أوصله مرحلة لم يعد يتحمل المزيد من طغيانه، ونهبه لثروات البلاد فهب منتفضاً على هذا النظام، مطالباً بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

 لكن الدكتاتور المجنون الذي تملكه الغرور، وبات يسمي نفسه بعميد الحكام العرب تارة!، وملك ملوك أفريقيا تارة أخرى!، راعه أن ينتفض الشعب ضد حكمه الجائر، ولم يتعظ بما جرى لدكتاتور تونس بن علي الذي عجز عن إخماد ثورة الشعب التونسي البطل فولى هارباً للنجاة بجلده، ولا بدكتاتور مصر مبارك الذي عجز هو الآخر عن إخماد ثورة الشعب المصري الشجاع معلناً تنازله عن السلطة في محاولة للنجاة بنفسه، لكن الثورة ستلاحق الطغاة، وتحاسبهم على كل ما اقترفوا من جرائم بحق الشعب والوطن.

لقد ركب القذافي رأسه وأوعز إلى كتائبه العسكرية المسلحة، والتي تضم الألوف من المرتزقة الأفارقة الذين باعوا انفسهم للقذافي، والمجهزين بمختلف الأسلحة الثقيلة من طائرات ودبابات ومدفعية وصواريخ كاتيوشا،  للتصدي لانتفاضة الشعب الليبي الشجاع الذي عقد العزم على الإطاحة بنظام القذافي وأبنائه الطامعين بوراثة الحكم من بعده، وهو يقارع هذا النظام الفاشي وأجهزته القمعية ومرتزقته منذ السابع عشر من شباط الماضي، بكل قوة وتصميم، ومهما غلت التضحيات لإنزال الضربة القاضية به وبنظامه، وسينتصر الشعب الليبي لا محالة، ويذهب القذافي ونظامه العفن إلى الأبد.

إن الدكتاتوريين يتضامنون فيما بينهم في كل الأحوال، فانهيار نظام دكتاتوري ما هو نذير شؤم لهم، ويمثل خطورة على أنظمتهم تجعلهم يضعون أيديهم على قلوبهم السوداء المملوءة حقداً على شعوبهم وتطلعاتها للحرية والديمقراطية، ويقمعون أي تحرك شعبي للتخلص من نير الطغاة، تماماً كما يفعل طاغية اليمن علي عبد الله صالح، وطاغية سوريا بشار الأسد، اللذان يصران على التشبث بالسلطة، ولا يتورعان عن اقتراف أبشع الجرائم في تصديهما لانتفاضة الشعبين اليمني والسوري، ويرتكبان المجازر الوحشية التي تسببت بوقوع مئات الشهداء وألوف الجرحى، لكنهما يحاولان عبثاً إطفاء شعلة الانتفاضة وكسر عزيمة الشعبين، التي تزداد قوة واندفاعاً وإيماناً، رغم كل التضحيات، أن رياح الحرية ستقتلع أنظمتهم الفاسدة التي عفا عليها الزمن لا محالة، وأن الشعوب العربية سوف تكنس بكل تأكيد مضطهديها إلى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم.






260
خياران أمام نظام البعث في سوريا لا ثالث لهما!
حامد الحمداني                                                                       16/4/2011

كما كان متوقعاً لم يأتي الرئيس السوري بشار الأسد بجديد لمعالجة الوضع المتأزم في البلاد، حيث تجتاح البلاد حركة احتجاجات واسعة شملت كافة المدن السورية، وكافة أطياف الشعب، مطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي حرم منها الشعب منذ الانقلاب العسكري الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة في 8 آذار عام 1963،

 واستطاع البعثيون إحكام سيطرتهم على البلاد، وجرى على أيديهم تصفية كل الحقوق والحريات الديمقراطية، وأقاموا نظاماً شموليا، وجرى احتكار السلطة المطلق لحزب البعث، وتمت السيطرة على كافة وسائل الإعلام، وإلغاء امتيازات الصحف، واحتكار العمل الحزبي لحزب البعث وحده، كما جرت عملية تبعيث الجيش والأجهزة الأمنية التي سعى النظام البعثي لتوسيعها كماً ونوعاً، لتكون في خدمة النظام، حتى بات في البلاد أكثر من 20 جهازاً أمنيا، مسخراً لخنق انفاس الشعب السوري.

 ثم تحول النظام شيئاً فشيئاً إلى حكم العائلة منذ أن قام وزير الدفاع حافظ الأسد بانقلابه الذي سماه بالحركة التصحيحية عام 1970،وأعلن نفسه رئيساً للجمهورية، واستمر في حكم البلاد حتى وفاته عام 2000، حيث تولي ابنه بشار الأسد الرئاسة من بعده، في عملية قيصرية شهدت تعديل الدستور لتخفيض الحد الأدنى لعمر الرئيس لغاية 35عاماً، وصوت مجلس الشعب بالإجماع على التعديل وانتخابه رئيساً للجمهورية.

واستمر الحال على وضعه دون تغيير على الرغم من الوعود التي قطعها الرئيس بشار لأجراء إصلاحات في البلاد، واستمرت معانات الشعب السوري من فقدان الحرية، وقمع الحقوق الديمقراطية، وانتشار الفساد، وامتلاء السجون بسجناء الرأي، والتصفيات الجسدية لكل من يشك بمعارضته للنظام، واستمرار حالة الطواري التي تبيح للنظام الاعتقالات الكيفية، والمحاكم العسكرية منذ عام 1963 وحتى يومنا هذا.

وهكذا أخذ التناقض الكمي بالتصاعد بين النظام الممسك بالسلطة بيد من حديد، والشعب التواق للحرية والديمقراطية ليصل المرحلة الحرجة التي نقلته إلى التغير الكيفي على اثر عاصفة الحرية التي هبت على تونس ومصر واليمن وليبيا، حيث هبت شعوبها في مظاهرات جماهيرية واسعة تطالب بالحرية والديمقراطية، واستطاع الشعبان التونسي والمصري تحقيق التغيير المنشود في البلاد، وما يزال الشعبان الليبي واليمني يخوضان النضال لإسقاط النظامين الشموليين الفاشيين في ليبيا واليمن، وهما قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدافهما في التحرر والديمقراطية.

وانفجر الوضع في سوريا على حين غرة، وعمت المظاهرات الشبابية السلمية التي كسرت حاجز الخوف رغم علمها بطبيعة النظام القمعية العنيفة، وهب نظام بشار الأسد، وقد أرعبته انتصارات ثورة الشعبين التونسي والمصري، وثورة الشعبين الليبي واليمني التي توشك على إزاحة نظامي القذافي وعلي عبد الله صالح الفاشيين، وأصدر أمره لأجهزته القمعية للتصدي للمظاهرات السلمية للشعب السوري، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين، ظناً من قيادة النظام أنها قادرة على قمع المظاهرات في مهدها.

لكن النظام اخطأ في حساباته، ولم يتعلم الدرس من الثورات التي اجتاحت العالم العربي، فقد أخذت تظاهرات الشعب السوري بالانتشار في كل المدن السورية، وضمت المزيد من الجماهير التي هالها القمع الوحشي، وارتفاع أعداد الشهداء التي تجاوزت أكثر من مئتي شهيد، ومئات الجرحى، وكلما ازداد النظام وحشية في تصديه، كلما تصاعدت المظاهرات المتحدية للنظام، وإصرار الشعب على تحقيق أهدافه في الحرية والديمقراطية رغم كل التضحيات.

أن على النظام السوري أن يدرك قبل فوات الأوان أن التعامل مع انتفاضة الشعب  بهذا الأسلوب القمعي لن ينقذ النظام الشمولي الذي استمر 48 عاماً، هذا النظام الذي عفا عليه الزمن، فرياح الحرية قد هبت على العالم العربي المنكوب بأنظمته الدكتاتورية التي لا تقيم وزناً لشعوبها، والتي يتآكلها الفساد، في حين تعاني شعوبها اشد المعانات، وهي مصرة على المضي إلى آخر الطريق من أجل تحقيق  حريتها.

إن أمام النظام السوري طريقان لا ثالث لهما، فإما إجراء إصلاحات حقيقية وجذرية تستجيب لمطالب الشعب دون تأخير أو مناورة لكسب الوقت، وإما دفع البلاد نحو الحرب الأهلية، فالوقت يمضي ليس لصالح النظام بل يقود البلاد إلى مخاطر الحرب الأهلية بكل تأكيد، والتي لن يربح فيها النظام مهما استخدم من قوة، فإرادة الشعوب أقوى وأمضى من إرادة الطغاة، وأجهزتهم القمعية.

أن الإصلاح الفوري والجذري يتطلب الخطوات التالية التي يمكن أن ترضي الشعب والتي تتلخص بما يلي:

1 ـ إعادة النظر الجذرية في الدستور، وإلغاء أسطورة الحزب القائد، وأن يجري انتخاب الرئيس من قبل الشعب بصورة مباشرة، وتحديد مدة الرئاسة بأربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط.   

2 ـ رفع حالة الطواري فورا، وإطلاق الحريات الديمقراطية كحرية الأحزاب والصحافة والتظاهر، وتأليف منظمات المجتمع المدني، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

3 ـ حل البرلمان وإجراء انتخابات حرة وديمقراطية تتسم بالشفافية، وتحت إشراف الأمم المتحدة، وتأليف حكومة جديدة بالاستناد إلى نتائج الانتخابات، وتتولى العمل بصورة فورية على معالجة مشكلة البطالة، ومكافحة الفساد، وتأمين الخدمات الأساسية للشعب، وتحسين أوضاعه المعيشية.   

4 ـ إجراء انتخاب رئيس جديد للبلاد بصورة مباشرة من قبل الشعب، واحترام مبدأ التداول السلمي للسلطة عند انتهاء مدة الرئاسة القانونية.

5 ـ إعادة النظر في تركيب الأجهزة الأمنية كماً ونوعاً، وفصلها عن هيمنة حزب البعث، وإعادة تثقيفها بالمفاهيم الديمقراطية، واحترام حقوق وحريات الشعب، وعدم تجاوزها بأي شكل من الأشكال.
 
6 ـ إعادة النظر في تركيبة الجيش ليكون جيش الشعب، وليس جيشاً لحزب البعث، ومهمته الدفاع عن الوطن، وعدم زجه في الصراعات الداخلية.

هذا هو الطريق لمعالجة الوضع المتأزم في البلاد، وتجنب الانزلاق نحو الحرب الأهلية، التي إن وقعت لا سمح الله، فستحرق الجميع بنيرانها. فهل ستنتصر الحكمة ويخرج الشعب السوري من المحنة؟ أتمنى ذلك.
 
       

261
حكومة المالكي ومأزق الصدريين
ومحنة الشعب العراقي

حامد الحمداني                                                                    11/4/2011

منذ أن تشكلت حكومة السيد نوري المالكي وهي تعاني من أزمة مستحكمة، فقد جمعت كل النقائض التي حملت بذور فشلها، فالخلافات بين كتلة الحكيم التي دُعيت بالائتلاف الوطني العراقي والتي ضمت مجموعة من أحزاب الإسلام السياسي الشيعية وأبرزها الكتلة الصدرية، بزعامة مقتدى الصدر، والمجلس الأعلى بزعامة عمار الحكيم، وكتلة إبراهيم الجعفري، بالإضافة إلى حزب المؤتمر بزعامة احمد الجلبي، وحزب الفضيلة بزعامة اليعقوبي، وكتلة المالكي التي دُعيت بدولة القانون، والتي ضمت حزب الدعوة الذي شكل عمودها الفقري، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الانتهازية الباحثة عن المناصب، لم تكن خافية على أحد، بل هي ظاهرة للعيان أمام الجميع في صراع قادتها من أجل السلطة والثروة من جهة.
ومن جهة أخرى الخلافات العميقة بين كتلة أياد علاوي التي أطلق عليها اسم العراقية، والتي ضمت العناصر البعثية التي يمثل جانب منها من سبق و ترك الحزب، والمتمثل بحركة الوفاق التي كان يتزعمها علاوي قبل سقوط نظام صدام الدكتاتوري، واتخذ طريق المعارضة لسلطة نظام صدام الذي حول سلطة حزب البعث إلى سلطة العائلة، مما أدى إلى انفكاكه عن النظام،  والجانب الآخر ممن ربط مصيره مع مصير نظام صدام حتى سقوطه على أيدي الجيوش الأمريكية والبريطانية، في التاسع من نيسان 2003، بل لقد مارس جانب منها ما سمي بالمقاومة، والتي قامت بأعمال التفجيرات والقتل والتخريب، ولم تتوانَ عن اقتراف أشنع الجرائم بحق الشعب العراقي في صراعها من أجل استعادة السلطة بحجة مقاومة الاحتلال المفضوحة، وقد كان زعيم القائمة العراقية قد ترأس أول وزارة شكلها الحاكم الأمريكي بريمر!!.
كان أمل المالكي الذي حكم البلاد كرئيس للوزراء في الدورة البرلمانية السابقة، والذي شكل جبهته التي أطلق عليها دولة القانون، وخاض معركته ضد ميليشيات ما يدعى بجيش المهدي، والتي قادت البلاد للحرب الأهلية الطائفية عامي 2006ـ 2007، واقترفت من الجرائم بحق الشعب العراقي ما يندى لها جبين الإنسانية، حيث جرى قتل عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، وتم تشريد ما يقارب اربعة ملايين من المواطنين الذين أجبروا على ترك منازلهم بما تحتويه، هرباً من القتل الذي كان يجري على الاسم والهوية، وتدخلت تلك الميليشيات في حياة المواطنات والمواطنين الشخصية، ونمط حياتهم، وملبسهم ، بل وحتى مأكلهم!!.
واضطر المالكي أن يخوض معركة دعاها بـ[جولة الفرسان]ضد تلك العصابات التي عاثت بالبلاد والعباد فساداً وقتلاً وتشريداً، واستطاع بدعم مباشر من قوت الاحتلال الأمريكي تقليم أظافرها وإضعافها، لكنه لم يكمل حملته بسبب الضغوطات الكبيرة التي مارستها عليه أطراف داخلية وإقليمية، وفي مقدمتها النظام الإيراني.
لقد حقق المالكي بحملته التي قادها باسم دولة القانون ضد طغيان ميليشيات جيش المهدي كسبا كبيراً، ودعماً واسعاً من مختلف فئات الشعب التي عانت من ذلك الطغيان، واستطاع تحقيق فوز كبير في انتخابات المجالس المحلية في المحافظات لم يكن ليحصل عليها لولا تلك الحملة.
كنا نتمنى آنذاك أن يستمر المالكي وحكومته في مواصلة الطريق لتحقيق وعوده بقيام دولة القانون، وذكرناه باستمرار بأن ما حققه في انتخابات المجالس المحلية كان بسبب حملته على تلك الميليشيات، وإن عليه أن يستفيد من تلك الدروس إن شاء أن يحقق نصراً حاسماً في الانتخابات التي تلت انتخابات المجالس المحلية.
لكن المالكي لم يشأ أن يغضب حكومة طهران التي يرتبط بها بالعديد من الوشائج، بالإضافة إلى شركائه في أحزاب الإسلام السياسي، ورضخ لتلك الضغوطات، مما افقده ذلك الزخم من الدعم والتأييد الشعبي.

خاض المالكي الانتخابات الأخيرة التي جرت قبل عام، وكان أمله أن يحقق ما حققه في انتخابات المجالس المحلية، ويكتسح أغلبية مقاعد البرلمان، لكن نتائج الانتخابات شكلت صدمة كبرى له، حيث أفرزت تلك الانتخابات فوز قائمة علاوي  العراقية بـ 91 مقعداً في حين حصلت قائمة المالكي بـ 89 مقعداً، والائتلاف العراقي الموحد الذي ضم الصدريين 67 مقعداً، وكانت المفاجأة أن حصل الصدريون بزعامة مقتدى الصدر على 40 مقعداً، وحصلت القائمة الكردية على 43 مقعداً.
حاول المالكي بشتى الوسائل والسبل التشبث بالسلطة، ودخل في صراع مرير مع قائمة علاوي، وكذلك مع قائمة الائتلاف العراقي الموحد، واستطاع بعد مرور ما يقارب السنة بعد الانتخابات من الحصول على تأييد كتلة الصدريين والكتلة الكردية، كي تضمن له الفوز بالتكليف بتشكيل الوزارة، بعد أن قدم التنازلات الكبيرة للصدريين وللقيادات الكردية، في التشكيلة الحكومية وليضمن له ذلك تشكيل الحكومة من جديد، وانتزاع التكليف من علاوي، لكنه اضطر إلى تشكيل حكومة محاصصة من جديد ضمت كتلة علاوي بعد أن قدم لها مزيدا من التنازلات فيما يخص ما دعي بالمصالحة الوطنية، وجاء بالعناصر التي أبعدها المالكي قبيل الانتخابات لكونهم يمثلون قيادات بارزة في حزب البعث، وعلى رأسهم صلح المطلك الذي تبوأ منصب نائب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى رئاسة البرلمان وأحد عشر منصباً وزاريا، على أن يشغل علاوي منصباً مستحدثاً باسم رئيس مجلس السياسات الاستراتيجية، والذي لم يستطيع الجانبان المالكي وعلاوي الاتفاق على مهمات هذا المجلس وصلاحيات رئيسه، وبالتالي تعطيله، مما بات يهدد في أية لحظة انفصام عرى هذا الائتلاف للحكومة، وبالتالي سقوطها.

وفي الوقت الذي يخوض الطرفان هذا الصراع برز إلى السطح من جديد صراع جديد يقوده هذه المرة مقتدى الصدر، الذي منح الحكومة فرصة لستة اشهر لتحقيق ما اتفق عليه قبل تشكيل الحكومة، وأخذت نغمة التحدي للمالكي تتصاعد من قبل مقتدى الصدر مهدداً بعودة جيش المهدي من جديد بدعوى مقاومة المحتلين الأمريكان، وسارع المنشقون من ميليشيات جيش المهدي، والذين اتخذوا لهم اسم [عصائب جند الحق] للإعلان عن استعدادهم للعودة إلى جيش المهدي إذا ما عاد جيش المهدي للمقاومة من جديد.

وهكذا بات المالكي يعيش هاجس مأزق الصدريين الذي بات يهدد بانفراط حكومته، وخاصة بعد المظاهرات والاعتصام الذي قام به الصدريون مؤخراً، وبات المالكي لا يدري كيف سيقود دفة الحكم، ويحقق الوعود التي وعد بها الشعب في ظل هذه الأجواء التي تهدد حكومته بالسقوط.

فالصدريون لن ينسوا للمالكي حربه لميلشياتهم وسحقهم في البصرة، ومدينة الثورة، بدعم من القوات الأمريكية، وإجبارهم على إلقاء السلاح بعد أن دفعوا ثمناً باهظاً، وهم قد دعموا المالكي لتشكيل الحكومة كي يستعيدوا قوتهم، وسلطتهم المنهارة أيام المد الطائفي، وهم يتحينون الفرصة للانقضاض على حكومة المالكي بأقرب وقت، تنفيذاً لأجندة إيرانية مكشوفة، فقد بات الصدر رجل ملالي طهران المعول عليه لأحكام هيمنهم على مقدرات العراق، وسيندم المالكي على تعاونه مع الصدريين، وستندم الولايات المتحدة على السياسة الرعناء التي قدمت العراق هدية مجانية للنظام الإيراني.
لكن المقلق في الأمر هو احتمال التدهور الأمني في البلاد من جديد، فما زال الشعب العراقي لم يتعافَ من تلك الجروح التي سببتها له الحرب الطائفية، وينتابه اشد القلق على مصيره من ظهور عصابات جيش المهدي من جديد، والتي \تستهدف الوثوب إلى السلطة بحجة مقاومة الاحتلال الأمريكي!.     

   

262
نظام البعث السوري في قلب العاصفة
والشعب يطالب بالحرية

حامد الحمداني                                                             27/3/2011

لم يتنفس الشعب السوري نسيم الحرية منذُ عام 1949، حيث اجتاحت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية التي عصفت بالديمقراطية النسبية التي تمتع بها الشعب السوري في ظل الحكومات البرجوازية التي كان أبرز قادتها حكومة السيد صبري العسلي وحكومة السيد خالد العظم.

لقد كانت الشعوب العربية، تشعر بالغضب والألم من سلوك الحكام العرب، وتواطئهم مع الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، وتآمرهم المكشوف على الشعب الفلسطيني لإقامة كيان صهيوني في فلسطين، وكانت مسرحية الحرب التي خاضتها الجيوش العربية ضد العصابات الإرهابية الصهيونية في فلسطين، والتي كان يقود الجيوش السورية والعراقية والأردنية الملك عبد الله جد الملك حسين وقائد جيشه البريطاني الجنرال [ كلوب باشا] في القاطع الشمالي، فيما تولى الجيش المصري مسؤولية القاطع الجنوبي، وانتهت تلك الحرب بهزيمة الجيوش العربية أمام تلك العصابات التي لم تكن تمتلك جيشاً بالمعنى الصحيح!!.

أثارت خيانة الحكام العرب لقضية فلسطين، واندحار الجيوش العربية أمام قوات المنظمات الإرهابية الصهيونية، وقبول الحكام العرب بالهدنة المعقودة في [رودس] مع الكيان الصهيوني، وبالتالي القبول بتقسيم فلسطين كأمر واقع، ردة فعل واسعة اجتاحت العالم العربي، وسارت المظاهرات المنددة بالحكام العرب، وتخاذلهم، وانغمار معظمهم في المؤامرة الانكلو أمريكية، وخلق ذلك الوضع لدى الشعوب العربية يأساً شديداً من أولئك الحكام، وأصبحت لديهم القناعة من أن أي إصلاح للأوضاع العربية لا يمكن أن يكون دون زوال تلك الأنظمة، وأولئك الحكام .

واستغلت الإمبريالية الأمريكيةوالبريطانية تلك الظروف اكبر استغلال على الساحة السورية، نظراً لأهمية موقع سوريا الجغرافي بالنسبة لضمان أمن دولة إسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبريالية في قلب  العالم العربي، فقد كان قيام نظام حكم وطني حقيقي في سوريا يشكل خطراً على إسرائيل.
 هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإزاحة النفوذ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط، والاستئثار بها لوحدها نظراً لما تشكله هذه المنطقة من أهمية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، حيث يوجد اكبر خزان للنفط في العالم، فيما كانت الإمبريالية البريطانية تسعى جاهدة لإحكام سيطرتها على المنطقة، فقد سعت إلى قلب الحكومة السورية، وإقامة مشروع [الهلال الخصيب ] بزعامة العرش الهاشمي، وتحت هيمنتها.

 لعب نوري السعيد دوراً كبيراً في تنفيذ المخطط البريطاني، لكن الإمبريالية الأمريكية كانت أسرع في تحركها، حيث دبرت انقلاب[حسني الزعيم] رئيس الأركان السوري، في 30 آذار/مارس 1949، واستطاع حسني الزعيم السيطرة على الأوضاع في سوريا، دون أن يلقى انقلابه أية مقاومة تذكر، مستغلاً عواطف الجماهير السورية الناقمة على الحكومة السابقة، بسبب دورها في نكبة فلسطين.

 وطبيعي أن يستغل حسني الزعيم تلك النكبة ليظهر نفسه بمظهر الوطني الحريص على قضية فلسطين، لكن الحقيقة لا تعدو أن تكون انقلاباً أمريكياً، حيث اعترف الكاتب الأمريكي [ كوبلاند ] في كتابه [لعبة الأمم] بأن الانقلاب كان من صنع أمريكا قائلا:
{ كان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر [ميد] بإنشاء علاقات منتظمة مع[ حسني الزعيم]،الذي كان رئيساً لأركان الجيش السوري، ومن خلال هذه الصداقة أوحى [الميجر ميد] لحسني الزعيم بفكرة الانقلاب العسكري، حيث اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كل خطته، وإثبات كافة التفصيلات المعقدة }.

أحدث انقلاب حسني الزعيم قلقاً عميقاً لدى الدوائر البريطانية والعرش الهاشمي في العراق، وأسرع نوري السعيد إلى دمشق، يستكشف طبيعة الانقلاب، واختلى السعيد بحسني الزعيم، ونصحه بالعودة إلى واجباته العسكرية، وترك الأمور السياسية، وكان نوري السعيد أثناء زيارته لدمشق يلبس بزة عسكرية برتبة كبيرة في محاولة للتأثير على حسني الزعيم.                          .
 لكن بريطانيا لم تستسلم لما حدث في سوريا، ونشطت أجهزة مخابراتها في العمل لتدبير انقلاب عسكري معاكس .

ونجحت الجهود البريطانية بإحداث انقلاب جديد بقيادة اللواء [سامي الحناوي] في 14 آب/ أغسطس 1949، وقبل أن يمض على انقلاب حسني الزعيم ستة اشهر، وكان واضحا أن الانقلاب الجديد كان بإخراج بريطاني.
تم لسامي الحناوي السيطرة على البلاد، وجرى إعدام حسني الزعيم، ورئيس وزرائه [محسن البرازي] بعد محاكمة لم تدم سوى ساعتين، مما أثار غضب الإمبرياليين الأمريكيين.
لم يخفِ العرش الهاشمي، ونوري السعيد، فرحهما وسرورهما لنجاح انقلاب [سامي الحناوي]،وسارع سامي الحناوي إلى بغداد، وبصحبته الملحق العسكري العراقي [ عبد المطلب الأمين ]، واجتمع مع نوري السعيد وعبد الإله، ثم عاد في نفس اليوم إلى دمشق.

ولم تلبث حكومة بغداد أن أرسلت رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] إلى دمشق، لمناقشة موضوع إقامة اتحاد بين العراق وسوريا، لكن المشروع لم يكتب له النجاح، فقد أفلح الأمريكيون في إحداث انقلاب جديد في سوريا بقيادة العقيد[أديب الشيشكلي] في 19 كانون الأول/ ديسمبر، بالتعاون[ فوزي سلو]، وتم اعتقال سامي الحناوي، لكن أديب الشيشكلي لم يستلم الحكم بصورة رسمية، بل حكم من وراء الستار، وأعاد الحكم المدني للواجهة حتى تشرين الثاني من عام 1951، حيث قام بانقلابه الثاني وأقال الحكومة المدنية، وأعلن نفسه دكتاتوراً للبلاد.

 وبقي الشيشكلي في الحكم حتى شباط/ فبراير 1954، عندما أسقطه انقلاب جديد بقيادة [فيصل الأتاسي] بمساعدة [غسان جديد]، حيث تحرك الجيش بدعم من الأحزاب السياسية التي ضاقت الأمرين على أيدي الدكتاتور الشيشكلي.
واستمر حكم الدكتاتور أديب الشيشكلي حتى عام 1954،عندما وقع انقلاب عسكري جديد في 25 شباط/ فبراير 1954 بقيادة فيصل الأتاسي وغسان جديد ومجموعة من الضباط العسكريين وإقامة دكتاتورية عسكرية من جديد حيث شهدت شوارع دمشق المظاهرات الشعبية العارمة واشتباك المتظاهرون مع القوات الأمنية.

لكن الساحة السورية شهدت من جديد انقلاباً عسكرياً جديداً في 22 أيلول/ سبتمبر 1961، قاده [مأمون الكزبري] بالتعاون مع [النحلاوي] و[دهمان]، ومشاركة [حزب البعث] وجرى اقامة نظام ذي واجهة مدنية، وجرى تنصيب [شكري القوتلي] رئيساً للجمهورية، حيث شهدت سورياً نوعاً من الانفتاح نحو الديمقراطية، واستطاعت القوى الديمقراطية أن تستعيد أنفاسها، وتستعيد نشاطها وخاصة الحزب الشيوعي بزعامة [ خالد بكداش].

لكن حكومة القوتلي وقد راعها النشاط الشيوعي في البلاد من جهة، وتآمر حكومة نوري السعيد بالتعاون مع عبد الإله، على سوريا، ومحاولة ضمها إلى العراق، أو إقامة عرش لعبد الإله فيها، وجدت أن السبيل لإنقاذ الموقف هو اللجوء إلى الزعيم المصري عبد الناصر، وإقامة وحدة بين البلدين، وتم لهم ذلك حيث تم بعد مفاوضات سريعة الاتفاق على وحدة البلدين تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة.

لكن تلك الوحدة التي جاءت بصورة مستعجلة ما لبثت أن تحولت إلى هيمنة نظام عبد الناصر على الحكم في سوريا، وتصفية الحريات الديمقراطية، مما افقدها التأييد الشعبي، ومن ثم تحول إلى الرغبة في التخلص من حكم الضباط المصريين ومعتمدهم [عبد الحميد السراج]، وانتهى المطاف بالوحدة إلى وقوع انقلاب عسكري جديد في 28 آذار/ مارس عام 1962بقيادة الجنرال [ عبد الكريم زهر الدين] الذي أعاد الحكم الدستوري المدني للبلاد، وجرى فسخ الوحدة السورية المصرية، وتنفس الشعب السوري نسيم الحرية لفترة زمنية قصيرة حيث وقع انقلاب عسكري بعثي بقيادة [لؤي الأتاسي] في 8 آذار / مارس 1963  بعد شهر واحد فقط من قيام انقلاب عسكري بعثي في العراق في 8 شباط /فبراير، وقيام دكتاتورية عسكرية في البلاد.

وفي 23شباط/فبراير 1966، وقع انقلاب عسكري جديد قاده الجناح اليساري في حزب البعث بقيادة[صلاح جديد]و[ سليم حاطوم] ضد حكم الجناح اليمني بالحزب المتمثل بـ[أمين الحافظ]و[صلاح الدين البيطار]ومؤسس الحزب [ميشيل عفلق].
لكن حكم الجناح اليساري للحزب لم يدم طويلاً حيث وقع انقلاب عسكري جديد قاده وزير الدفاع[حافظ الأسد] في 13 تشرين الثاني/ أكتوبر 1970 دعاه بالحركة التصحيحية في الحزب، وزج في السجون رفاق الحزب الذين اتهمهم باليسارية والتطرف، وأقام دكتاتورية فاشية في البلاد، وقمع كل القوى السياسية، واستخدم كل الوسائل القمعية لإخضاع الشعب لحكمه الفاشي، بما فيها الدبابات والمدرعات والمدفعية الثقيلة، كما جرى في مدن حمص وحماة وحلب، ولم يترك أي مجال للقوى السياسية الأخرى للنشاط، وسيطر على كل وسائل الإعلام وسخرها لإدامة حكمه.

واستمر حكم الدكتاتور حافظ الأسد حتى وفاته في 10 تموز/ يوليو عام 2000 بعد أن هيأ كل الظروف لتوريث ابنه بشار الحكم منذ وفاته حتى يومنا هذا.

ورغم أن بشار الأسد  كان قد وعد الشعب السوري بإجراء إصلاحات سياسية في البلاد ، إلا انه لم ينفذ أي من وعوده، واستمر الحال على وضعه، بل تجاوزت دكتاتوريته القمعية دكتاتورية والده، وأخذ التناقض بين النظام ألبعثي الفاشي والشعب يأخذ أبعادا جديدة يوماً بعد يوم.

وجاءت انتفاضة الشعب التونسي الشجاع ضد حكم الدكتاتور [زين العابدين بن علي] التي استطاعت إسقاط النظام، وهروب الدكتاتور، وتبعتها انتفاضة الشعب المصري العظيم، والتي استطاعت إسقاط حكم حسني مبارك، لتزلزل أنظمة الطغاة في اليمن وليبيا، والتي توشك إسقاط نظام علي عبد الله صالح ونظام معمر القذافي، ولتعطي الأمل الكبير، والحافز القوي للشعب السوري المناضل للانتفاض ضد حكم الدكتاتور بشار الأسد، وإستعادة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي حرم منها لما يقرب من خمسين عاماً من بطش الأنظمة الدكتاتورية.

لقد هب الشعب السوري البطل وكسر حاجز الخوف واندفع في تظاهرات سلمية تطالب بالتغيير في دمشق، ثم ما لبثت إن امتدت إلى مدينة درعة البطلة، ومدينة صنمين واللاذقية وحماة وحمص، وغيرها من المناطق الأخرى.
لكن نظام البعث الفاشي جابه المتظاهرين بالرصاص مما أدى إلى استشهاد العشرات من المواطنين المتظاهرين، مما أدى هذا السلوك من جانب السلطة إلى توسع واشتداد الانتفاضة ضد النظام.

لقد ارتعب نظام الدكتاتور بشار الأسد، وسارع يتوسل الشعب، واعداً إياه بإجراء إصلاحات عاجلة في البلاد، وطالباً من الشعب الكف عن التظاهر، لكن الشعب الذي خبر جيداً السلطة ومواعيدها الكاذبة استمر بالتظاهر، وأنقلب الحمل الوديع من جديد إلى جلاد يقتل الشباب السوري بالرصاص.
يبدو أن النظام البعثي في سوريا لم يعي لغاية اليوم أن عاصفة الحرية التي هبت على العالم العربي ستكنس دون رجعة كل أنظمة الطغاة الفاسدة لتقيم البديل الديمقراطي، وتنشر الحرية والعدالة الاجتماعية، بعد هذا الحرمان الطويل للشعوب العربية.

إن أمام نظام بشار الأسد طريقان لا ثالث لهما، فإما الرضوخ لمطالب الشعب لتحقيق إصلاح حقيقي في البلاد، ينهي حكم الحزب الواحد، وسن دستور جديد للبلاد، وإطلاق الحريات  الديمقراطية، وفي المقدمة حرية الصحافة، والتنظيم الحزبي والنقابي، ومنظمات المجتمع المدني، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي، وانتخاب رئيس جديد للبلاد لمدة 4 أعوام، ولا يتجاوز دورتين انتخابية، وتلبية مطالب الشعب في تحقيق الحياة الكريمة، وفي ظل العدالة الاجتماعية.

أما الطريق الثاني فهو طريق الإصرار على إبقاء النظام الدكتاتوري الفاشي، والتصدي لانتفاضة الشعب بكل الوسائل القمعية التي ستفضي إلى هدر دماء غزيرة، وضحايا لا يمكن تحديد حجمها، لكن النتيجة الحتمية للصراع ستكون النهاية الدامية للدكتاتورية، وسيدفع النظام وأعوانه الثمن الذي سيتناسب مع عِظم الجريمة التي يقترفها النظام، وسينتصر الشعب السوري الشجاع في نهاية الأمر وسيحقق حلمه في العيش الكريم، في ظل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وسيرحل الطغاة، كل الطغاة، إلى مزبلة التاريخ ولعنة شعوبهم. 
 

263
لماذا يتلكأ المجتمع الدولي بإنقاذ الشعب الليبي
  من بطش القذافي وآلتهِ الحربية؟
حامد الحمداني                                                                   17/3/2011
منذ شهر بالكمال والتمام والشعب الليبي يقاوم أبشع نظام دكتاتوري فاشي فرض سطوته عليه منذ 42 عاماً، امتلك خلالها هو وابنائه ثروات البلاد الهائلة والمقدرة بمئات المليارات من الدولارات، واغتصب كامل الحقوق والحريات العامة للشعب الليبي، وفرض ستاراً هائلاً بينه وبين العالم الخارجي، حيث لا كتاب سوى كتابه الأخضر، ولا صحيفة غير الصحف التي تسبح باسمه ليل نهار، وشاد لشعبه السجون الرهيبة في أعماق الأرض ليزج فيها كل من يشم منه رائحة المعارضة لحكمه البغيض حيث يختفي أي اثر له فيما بعد.

لقد طفح الكيل من طغيان القذافي وأبنائه وعصابتهم المجرمة، ولم يعد الشعب الليبي يتحمل المزيد من هذا النظام الجائر، فانتفض في مظاهرات سلمية تطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعي، بعد تلك العقود الأربعة الكالحة السواد، على أمل أن يتعلم الدكتاتور المجنون الدرس من ثورات الشعبين التونسي والمصري، والمصير الذي انتهى إليه نظام بن علي، ونظام مبارك.
لكن القذافي تحدى إرادة الشعب الليبي التواق للحرية والديمقراطية، مستخدماً قوات أمنه ومئات المرتزقة الذي جلبهم من بلدان افريقية لقاء رواتب مجزية، لقمع مظاهرات شعبه.

لكن الشعب الليبي الشجاع تصدى ببسالة لمرتزقة وكتائب القذافي، والحق بهم هزيمة شنعاء، واستطاع إحكام سيطرته على العديد من المدن وفي مقدمتها بنغازي، وطبرق، والزاوية، واجدابيا، ومصراتة، وغيرها من المدن الأخرى التي أصبحت تحت إدارة قوى الثورة.

 عند ذلك جن جنون القذافي وأخذ يصرخ مهدداً بملاحقة ثوار ليبيا في كل مكان، وأقدم على استخدام الجيش، بما يمتلكه من طائرات ودبابات ومدفعية وصواريخ وبوارج حربية لقمع ثورة الشعب الليبي، وكأنه قد دخل بحرب مع دولة أخرى وليس ضد شعب اعزل ينشد الحرية والعيش الكريم.

لقد بدأت قنابل الطائرات، ومدافع الدبابات، وراجمات الصورايخ، والبوارج الحربية، تقصف المدن الليبية المحررة بشكل عشوائي، وبكل قسوة، لتركيع الشعب الليبي الذي لا يمتلك سوى الأسلحة الخفيفة، والتي حصل عليها من مرتزقة القذافي.
ورغم الظروف البالغة الصعوبة للشعب الليبي نجد أن المجتمع الدولي ما زال يتلكأ في إنقاذ الشعب الليبي من بطش الطاغية المجنون القذافي، الذي يقترف جريمة الإبادة ضد شعبه، وتستمر المداولات بين أعضاء مجلس الأمن لإصدار قرار بفرض حضر جوي لمنع الطيران الحربي الليبي من الاستمرار بقصف المدن الليبية، وتدميرها بوحشية منقطعة النظير، وشل أيدي القذافي وعصابته المجرمة، والحيلولة دون تماديه في جرائمه البشعة.
إن الأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الليبي، والقتل بالجملة للمدنيين، والخراب والدمار الذي يلحقه القذافي بالمدن الليبية المحررة باتت تتطلب وفورا أن يتحمل  مجلس الأمن مسؤوليته في إنقاذ الشعب الليبي، وإصدار قراره الذي لا يقبل التأخير، قبل أن يرتكب القذافي المزيد من المجازر والدمار، وخاصة إذا ما أُتيحت الفرصة للقذافي بمهاجمة مدينة بنغازي التي تعتبر ثاني كبرى المدن الليبية.
إن مجلس الأمن مطالب باتخاذ الإجراءات الضرورية التالية:
1 ـ فرض حضر جوي لمنع الطائرات الحربية الليبية  من قصف المدن المحررة.
2 ـ التصدي لتحرك دبابات نظام القذافي، وبوارجه الحربية، التي توجه قذائفها نحو المدن الليبية المحررة.
3 ـ سحب الاعتراف بحكومة القذافي، وطرد ممثلها في الأمم المتحدة.
4 ـ الاعتراف بالمجلس الوطني للثورة الليبية ممثلاً شرعياً للشعب الليبي.
5 ـ تقديم السلاح للمجلس الوطني للثورة الليبية، وسائر المساعدات المادية والغذائية والأدوية، والمستشفيات الميدانية لمعالجة الأعداد الهائلة من الجرحى.
6 ـ تمكين المجلس الوطني لثورة الشعب الليبي من استخدام أموال النظام الليبي المجمدة لتمكينها من إدارة شؤون المناطق المحررة.
إن أي تأخير لقرار مجلس الأمن لا يعني إلا مزيداً من الدماء والخراب والدمار، وخاصة إذا ما تمكن نظام القذافي من استعادة مدينة بنغازي، وإجهاض الثورة الشعبية، والتي ستنعكس سلباً على طموحات الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم، وستسمح لكل الطغاة في العالم العربي، وبوجه خاص نظام الدكتاتور علي عبد الله صالح لقمع انتفاضة الشعب اليمني بنفس الأساليب القمعية الوحشية التي يستخدمها جلاد ليبيا ضد شعبه.
كما أن على جامعة الدول العربية أن تكون السباقة لحماية الشعب الليبي من بطش الدكتاتور الأرعن القذافي، وطرد نظامه من جامعة الدول العربية والاعتراف بممثل المجلس الوطني للثورة الليبية ممثلاً شرعياً للشعب الليبي، ولا شك أن الدول العربية تمتلك أساطيل جوية حربية قادرة على شل القوة العسكرية لنظام القذافي، وهي أولى من غيرها من الدول الغربية للقيام بهذا الواجب تجاه الشعب الليبي.

أن الانتظار من جانب المجتمع الدولي، ومن جانب الجامعة العربية التي وافقت في اجتماع وزراء الخارجية الأخير على فرض حضر على الطيران في سماء ليبيا، والتصدي لاستخدام القذافي الأسلحة الثقيلة ضد شعبه، سيؤدي إلى وقوع كارثة كبرى في البلاد، وسيتحمل المجتمع الدولي، وجامعة الدول العربية المسؤولية عن كل الجرائم التي يقترفها القذافي ضد شعبه، وستبقى وصمة عار  في جبين كل من يتخلى عن إنقاذ الشعب الليبي الأعزل من المجزرة التي تنتظره إذا ما تم للقذافي إجهاض الثورة الليبية.
النصر والظفر لثورة الشعب الليبي الشقيق، والخزي والعار لنظام القذافي الهمجي، وسائر الأنظمة الدكتاتورية والفاشية التي تقمع شعوبها.



264
زيف الديمقراطية في العراق الجديد!

حامد الحمداني                                                                                        13/3/2011

لم أفاجأ أبدا بالإجراءات الأخيرة التي اتخذها زعيم دولة القانون رئيس الوزراء نوري المالكي ضد الحزب الشيوعي، وحزب الأمة، بزعامة الأستاذ مثال الآلوسي، وضد اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، بل لقد حذرت مراراً وتكراراً من خلال العديد من المقالات من عدم قناعتي بقيام نظام ديمقراطي في البلاد على يد أحزاب الإسلام السياسي التي لا تعرف من الديمقراطية سوى الوصول إلى السلطة، وإذا ما تمكنت من الوصول إلى السلطة تنكرت لكل ادعاءاتها بالديمقراطية، ودولة القانون، وهاهي الأيام تثبت للجميع زيف تلك الديمقراطية، ودولة القانون، فقد كشرت حكومة المالكي عن أنيابها المتعطشة لافتراس كل الحقوق الديمقراطية التي كفلها دستورهم الذي شرعوه، هم بكل وحشية مستخدمين الجيش والأجهزة الأمنية التي أتخموها بميليشياتهم المعروفة بجيش المهدي ومنظمة بدر، وميليشيات حزب الدعوة وأسماء أخرى لميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الأخرى.
ولقد كانت بادرة عدوان حكومة المالكي على الحزب الشيوعي لأنه يدرك أن الحزب يمتلك رصيداً كبيراً بين الجماهير العراقية، بعد أن حاول المالكي أن يبعد الحزب عن ساحة النضال مع الشعب المطالب بإصلاح الأوضاع المتردية، ومكافحة الفساد المستشري في البلاد من قمة السلطة وحتى القاعدة، وباتت ثروات البلاد نهباً من قبل هذه السلطة حكومة، وبرلماناً، وأجهزة أدارية، وحكومات المحافظات، في الوقت الذي يعاني الشعب العراقي شظف العيش، والبطالة، والإمراض الفتاكة، وسوء الخدمات في المستشفيات، وانعدام الخدمات الأساسية، وفي مقدمتها الماء الصالح للشرب، والكهرباء، والصرف الصحي، والغلاء الفاحش، وسوء الحصة التموينية، وأزمة السكن المتصاعدة، وغيرها من الخدمات الضرورية الأخرى.
لقد أراد المالكي من قيادة الحزب الشيوعي أن يسكت على هذه الأوضاع القاسية التي يعيشها الشعب العراقي، ولما لم يفلح في ضغوطه على الحزب بادر إلى شن حملته البائسة بمداهمة مقر الحزب، ومقر صحيفته طريق الشعب، والمؤجرة من قبل الحزب، طالباً إخلائها خلال ساعات، ظنا منه أن الحزب سوف ينحني لإرادته ويتخلى عن الشعب.
لكن المالكي اختار الطريق الخطأ، والوقت الخطأ، والفعل الخطأ، بهذه السياسة الرعناء، التي ستنقلب عليه بكل تأكيد، وعلى حكومته البائسة التي تهتز اليوم أمام غضبة الشباب العراقي، لما آلت إليه أوضاع البلاد من تدهور في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والصحية والثقافية في بلد تتجاوز ميزانيته ضعف ميزانية مصر وسوريا ولبنان مجتمعة، في حين والتي يتجاوز عدد نفوسها 100 مليون نسمة في حين نجد أن الفقر في العراق قد تجاوز نسبة الفقر في هذه البلاد.
لقد فضح الأستاذ موسى فرج الرئيس السابق لهيئة النزاهة كيف تذهب ثروات البلاد في جيوب دولة القانون والدائرين في فلكها حيث يوضح قائلا:
1 ـ إن تخصيصات الرئاسات الثلاث يفوق مجموع تخصيصات  قطاع [الصناعة] و [قطاع الزراعة] و [قطاع الاتصالات] و [قطاع البيئة] و [قطاع العلوم] للسنوات 2006 ـ2011 ، فأي مهزلة هذه !!! 

2 ـ إن تشغيلية [مجلس الوزراء] و[النواب] و[رئاسة الجمهورية] تعادل  ضعف تشغيلية قطاعات [الصناعة] و [الزراعة] و[الاتصالات]و[البيئة] و [العلوم] مجتمعة، فأي نهب هذا الذي يجري في بلاد دولة القانون!!!

3 ـ تخصيصات [قطاع الثقافة] والذي يعنى ببناء الإنسان في العراق بلغ :0،02% فقط!! و[تخصيصات قطاع الزراعة] بلغت [0،07% فقط]! و[تخصيصات قطاع الصناعة] بلغت [ 1،5% فقط ]!! .

4 ـ إن حكومة المالكي قد أعدت موازنة عام 2010 على أساس إن سعر برميل النفط [62 دولار] من باب الاحتياط، لكنها باعت نفوطها بمعدل سعر مقداره  [73 دولار]، ومن جراء ذلك دخل في حساب الحكومة مبلغ [12 مليار دولار] بخلاف الموازنة، فأين ذهبت هذه الثروة الطائلة ؟علماً أن الحكومة تتبع هذا الاسلوب في كل عام.
هذه هي دولة القانون، وهذه هي الخدمات التي قدمتها للشعب، وهذه هي الحياة البائسة التي يحياها لتتكدس ثروات الفاسدين في دولة الفساد التي ليس لها مثيل في سائر بلدان العالم، وبعد كل هذا يريد زعيم دولة القانون رئيس الوزراء نوري المالكي منع الشعب العراقي من التظاهر للمطالبة بحقوقه المشروعة، والضرب على أيدي الفاسدين، ويستخدم جيشه وأجهزته القمعية في التصدي للمتظاهرين، حيث استشهد العديد من المتظاهرين، وجرح المئات من الشباب المحرومين من ابسط مقومات الحياة الكريمة.
إن العملية السياسية البائسة التي أسسها المحتلون قد جاءت لنا بحكومات فاسدة، وبرلمان فاسد، ودستور مشوه، جرى تفصيله على مقياس أحزاب الإسلام السياسي الشيعية بقيادة عبد العزيز الحكيم، وأحزاب القومية الكردية بزعامة البار زاني والطلباني، وهذا الدستور يفتقد للشرعية بعد مقاطعة جانب كبير من المجتمع العراقي المتمثل بالطائفة السنية، حيث من الضروري أن يعبر الدستور عن تعاقد لكافة مكونات الشعب، ويضمن مصالحها دون تمييز، في حين بات هذا الدستور بما يحتويه من مواد تعد برميل بارود لا يلبث أن ينفجر ليجر البلاد إلى الحرب الأهلية من جديد.
ومن المثير للدهشة والغضب أن يصرح من اختاره المتساومون على السلطة  رئيساً للجمهورية بأن محافظة كركوك هي قدس كردستان!!!ولا بد أن تعود لدولة كردستان!! فهل هناك رئيساً في أي من بلدن العالم يمكن أن يصرح كما صرح الطالباني، وهو والحالة هذه يفتقد حقه في رئاسة الجمهورية، لأنه بات لا يمثل العراق، بل يمثل دولة كردستان.
ورحم الله الرصافي يوم قال قصيده المشهورة التي تنطبق على حال العراق اليوم تمام الانطباق :
علمٌ ودستورٌ ومجلس أمةٍ         كلٌ عن المعنى الصحيحٍ محرفُ

265
بمناسبة عيد الثامن من آذار

لترتفع راية النضال من أجل تحرر المرأة
ومساواتها بالرجل

حامد الحمداني                                                                   8 آذار2011

اليوم تحتفل المرأة خالقة الأجيال في مختلف بلدان العالم بعيدها الميمون، عيد الثامن من آذار الذي تحتفل فيه البشرية كل عام، ويقدم الأزواج والأبناء والأخوة والأصدقاء بقات الزهور للمرأة أكراماً لها، ولتضحياتها وعملها الدائب في دفع  مسيرة الإنسانية إلى الأمام لتحقيق عالم جديد تسوده قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الرجل المرأة في الحقوق والواجبات. 
 اليوم استقبلت المرأة العراقية عيدها العزيز على قلوبنا في ظل الظروف البالغة الصعوبة والتعقيد التي يمر بها العراق الجريح، حيث تعيث قوى الظلام والفاشية في مقدرات المواطنين، وفي المقدمة منهم المرأة التي وقع عليها الحيف الكبير، بعد أن كشرت قوى الظلام والفاشية عن أنيابها لتفترس كل ما حققته المرأة العراقية من حقوق وحريات عبر عقود من النضال الدؤوب لتنال حريتها وحقوقها المشروعة التي اقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذا الإعلان الذي لا يلقَ إلا التجاهل والازدراء من قبل الأنظمة الشمولية والطائفية كما هو الحال في العراق.

وفي الوقت الذي بلغت فيه المرأة مراحل متقدمة في تنافسها مع الرجل في المجتمعات المتقدمة، وتبوأت أعلى المناصب السياسية والإدارية بكل جدارة، فإنها تجد نفسها في ظل المجتمعات الإسلامية المعاصرة محاصرة من جميع الجهات، حيث يسود المجتمع الذكوري المتزمت، وخاصة في البلدان التي تقودها الأحزاب الدينية التي تعامل المرأة أدنى من الرجل بكثير في سائر الحقوق والواجبات.
 إنها تعتبر المرأة ملكية خاصة يتحكم فيها الرجل استناداً إلى حكم الشريعة الإسلامية!، وكأنما تعيش المرأة في مقتبل القرن الأول الهجري، وليس في القرن الحادي والعشرين.
ولقد خاضت المرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومنذ أوائل القرن العشرين نضالا لا هوادة فيه من أجل تحررها ومساواتها مع أخيها الرجل، مدعومة بسائر القوى الديمقراطية والعلمانية الساعية لتحقيق العدالة والحرية والديمقراطية التي مكنتها من تحقيق آمالها وطموحاتها المشروعة، وقد حققت خلال تلك الحقبة السابقة، وعبر تضحياتها الجسام، الكثير من التقدم،حيث بدأت تمارس العمل خارج البيت، وتحقق الاستقلال الاقتصادي الذي يعتبر العامل الأساسي لتحررها الاجتماعي والسياسي، على الرغم من المقاومة الشرسة التي كانت تبديها القوى الرجعية المتخلفة، والساعية لإبقاء المرأة رهينة البيت مهمتها الإنجاب وتربية الأطفال، وتحقيق رغبات الرجل، معتبراً إياها سلعة خاصة به يتحكم فيها كيفما يشاء، ويمارس كل وسائل القمع ضدها دون وازع من ضمير أو أخلاق.

إن المرأة العراقية اليوم تشعر بالحزن والأسى العميق لما آلت إليه الأحوال   من تردي ونكوص لا مثيل له، وهي لا تستطيع الاحتفال بعيدها الميمون كما تحتفل أخواتها في شتى بقاع العالم، حيث حل في العراق  ردة لا مثيل لها على أيدي قوى الإسلام السياسي الطائفي التي جاء بها الاحتلال الأمريكي إلى السلطة بعد حرب الخليج الثالثة التي انتهت بإسقاط النظام الدكتاتوري الصدامي الفاشي، وحيث بدأت هذه القوى المتخلفة عن روح العصر تمارس أبشع صور الامتهان للمرأة، وصلت حد الاختطاف والاغتصاب والقتل لكل من تخالف مشيئة المليشيات التابعة للأحزاب الإسلامية الطائفية التي أجبرت المرأة العراقية على العودة إلى عصر الحريم، ولبس الحجاب، والانكفاء في البيت، والويل لمن تتحدى تلك الزمر الإرهابية المتخلفة التي باتت تهيمن على الشارع العراقي، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المواطنين بصورة عامة وحياة المرأة بصورة خاصة.

أن من يزور مدارسنا اليوم يرى العجب العجاب من هذه الردة السوداء التي حلت بالبلاد على أيدي أحزاب الإسلام السياسي حيث نجد الأطفال في عمر الزهور وقد اجبروا على الحجاب، أما في المدارس الثانوية والجامعات فلا نجد إلا القلة القليلة ممن تحدوا هذا الحجاب الذي يعتبر رمزاً لعبودية المرأة.
 إن تصرفات هذه القوى تجاه المرأة يمثل عودة إلى عصر العبودية الذي تحررت منه المرأة العراقية بعد نضال عنيد وتضحيات جسيمة.

أن القوى الديمقراطية والعلمانية اليوم أمام مسؤولية تاريخية كبرى تتطلب تكاتف وتلاحم هذه القوى للتصدي الحازم للهجمة الرجعية المتخلفة التي أصابت أحلام وطموحات وآمال المرأة العراقية في الصميم، وأعادتها إلى المربع الأول، لتبدأ من جديد نضالها العنيد من أجل دحر قوى الظلام والفاشية الدينية، والتحرر من هيمنة أدعياء الدين، الذين يستغلونه لتحقيق أهداف ومصالح سياسية، وليكن شعارنا في عيد المرأة لهذا العام:
{ نناضل من أجل تحرر المرأة العراقية، وتمتعها بحقوقها الديمقراطية والإنسانية، ودحر قوى الظلام والتخلف، والفاشية الدينية}.

أن النضال من أجل تحرر المرأة هو مسؤولية كل القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية، وكل إنسان يؤمن بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، وأن الوقوف إلى جانب تحرر المرأة يعطي لنضالها زخماً كبيراً، ويعجل في نيل ما تصبو إليه من حقوق ضمنه لها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
المجد والظفر للمرأة في عيدها الميمون، والنصر الأكيد لنضالها الدائب في صراعها مع قوى التخلف والظلام من أجل تحررها الاقتصادي والاجتماعي، وفرض احترامها من قبل الرجل، والتعامل معها على قدم المساواة.





266
النهوض الثوري للشعوب العربية
 يتطلب قيام جامعة عربية تمثل إرادتها

حامد الحمداني                                                                          5/3/2011
كانت الشعوب العربية التي رزحت تحت نير الاستعمار العثماني لأربعة قرون، والتي عانت أشد المعانات من ذلك الحكم الاستعماري البغيض، يراودها الأمل في التحرر من هيمنة ذلك النظام الرجعي المتخلف، وتحقيق الاستقلال الوطني، وإقامة وحدة عربية على أسس ديمقراطية، ولاسيما بعد تلك الوعود التي وعدت بها كل من بريطانيا العظمى وفرنسا إبان الحرب العالمية الأولى بتحقيق هذا الحلم الكبير.
 
لكن العرب صُدموا بعد نهاية تلك الحرب، عندما نكث المستعمرون الجدد البريطانيون والفرنسيون بالوعود التي قطعوها لهم، وتبين فيما بعد أنهم قد قرروا اقتسام البلاد العربية فيما بينهم بموجب معاهدة [ سايكس بيكو ]السرية والتي فضحها لنين قائد ثورة أكتوبر، وهكذا وجد العرب أنفسهم مرة أخرى تحت نير استعمار جديد.

لكن عزم الشعوب العربية على تحقيق الاستقلال، وإقامة الوحدة العربية الديمقراطية لم يفتر، وبقيت الجماهير العربية تناضل من أجل تحقيق هذا الهدف، وخاضت ضد المحتلـين الجدد معارك قاسية ومتواصلة، وقدمت الآلاف من الضحايا في سبيل التحرر والانعتاق من نير الاستعمار الجديد، وجمع الشمل العربي.

واضطر الإمبرياليون البريطانيون والفرنسيون تحت ضغط الشعوب العربية، وكفاحها المتواصل إلى إقامة حكومات محلية في العراق، وسوريا، ومصر، وشرق الأردن، واليمن، والسعودية، تحت المظلة الإمبريالية.

وبدأت الجماهير العربية تضغط على حكامها الذين نصبهم الإمبرياليون من أجل تحقيق الاستقلال الحقيقي الناجز، وإقامة الوحدة العربية الديمقراطية، بعيداً عن الهيمنة البريطانية والفرنسية، ونتيجة للمد الذي شهدته الحركة الوطنية في العالم العربي، أوعز الإمبرياليون إلى الدمى العربية من الحكام في تلك البلدان لإجراء لقاء بينهم للبحث في موضوع إقامة شكل زائف من العلاقات بين بلدانهم بغية امتصاص ذلك المد الشعبي الهادر، والهادف إلى التحرر الحقيقي من الهيمنة الإمبريالية، وإقامة وحدة حقيقية تلبي مطامح الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لقد كان أخشى ما يخشاه الإمبرياليون إقامة دولة عربية قوية تتمتع بثروات هائلة، واتساع جغرافي واسع، يمتلك أراضٍ شاسعة خصبة، ومياه وفيرة، وطاقات بشرية كبيرة وخلاقة، فكان مشروع إقامة الجامعة العربية التي لا تعدو عن كونها جامعة للحكام العرب في الحدود الدنيا، وكثيراً ما تدب الخلافات بين هؤلاء الحكام، وتقطع العلاقات بين دولهم، وتغلق الحدود، وتشن الحملات الإعلامية على بعضهم البعض. 

وبناء على رغبة الإمبرياليين عقد الحكام العرب مؤتمراً لهم في القاهرة في 22 أيار 1945، وتقرر في ذلك المؤتمر إقامة الجامعة العربية القائمة إلى يومنا هذا دون أن يطرأ عليها أي تطوير!

لم تستطع الجامعة العربية تحقيق حلم الشعوب العربية في الوحدة الحقيقية، فقد كان تأثير تلك الهيمنة البريطانية والفرنسية على الحكام العرب يشكل أكبر عائق لتحقيق الوحدة، أو على الأقل تحقيق أوثق الارتباطات فيما بينها في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، لكن الأيام التالية أثبتت أن الجامعة العربية، وبالشكل الذي رسمه لها الإمبرياليون البريطانيون والفرنسيون، لن تحقـق طموحات الأمة العربية، بل على العكس من ذلك انتقلت إليها الصراعات العربية، وأخذت سلطتها تضعف شيـئاً فشيئا ، حتى أصبحت قريبـة من التلاشي ولم يبقَ لها سوى دور ثانوي في القضايا العربية.

فالدول التي تضمها الجامعة العربية لا يجمعها جامع حقيقي بسبب الأنظمة السائدة فيها، والتي هي في جوهرها أنظمة استبدادية لا تعترف بالديمقراطية، ولا تحترم حقوق المواطن العربي، سواء كانت هذه الأنظمة ملكية أم جمهورية، بل لقد تجاوزت الأنظمة الجمهورية الأنظمة الملكية في استبدادها، واستئثارها في الحكم، وإعداد الأبناء لتولي الحكم بعد الآباء حتى لكأنما قد ورثوا بلدانهم، واستعبدوا شعوبهم، وسلبوهم كامل حقوقهم الديمقراطية.
ومن أجل البقاء في السلطة والتشبث بها ضحوا ولازالوا يضحون بمصالح الشعوب العربية لكي يبقى العالم العربي مشرذماً ضعيفاً، في عصر العولمة، والتكتلات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم.

فها هي الدول الأوربية التي لا يجمعها لغة مشتركة، ولا تاريخ مشترك، ولا عادات وتقاليد مشتركة، تتوحد بمحض إرادتها مشكّلة الاتحاد الأوربي الذي شكل قوة اقتصادية كبرى في العالم، في حين يجمع الشعوب العربية التاريخ المشترك واللغة المشتركة والعادات والتقاليد المشتركة، لكنها تمزقها الخلافات والصراعات، وتعاني شعوبها الجوع والحرمان والإذلال.

وإذا ما قام نظام وطني متحرر من الهيمنة الإمبريالية انبرت الأنظمة الدكتاتورية في حملة عدائية لهذا النظام الجديد بغية إفشال تجربته في إقامة الحكم الديمقراطي الذي يحقق الحياة الحرة الكريمة للشعب.
فما كادت ثورة الرابع عشر من تموز تنجح في إسقاط النظام الملكي المرتبط بالإمبريالية حتى انبرت تلك الأنظمة العربية في حملة عدائية ضد حكومة عبد الكريم قاسم ، وانغمسوا في محاولات التآمر على الثورة، وتقديم الدعم المتواصل لعصابة البعث حتى تم لهم ما أرادوا في انقلاب 8 شباط الفاشي، واضعين أيديهم بأيدي الإمبرياليين، ومقترفين مجزرة كبرى ضد القوى الديمقراطية في العراق، واستمر الشعب العراقي تحت نير حكم عصابة البعث قرابة الأربعة عقود من الزمن ذاق خلالها من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها، وما المقابر الجماعية التي جرى كشفها في طول البلاد وعرضها إلا شاهداً على هول الجريمة التي اقترفها النظام البعثي الفاشي ضد الشعب، ناهيك عن حروبه العبثية التي استمرت خلال العقدين الأخيرين، والتي ذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين الشباب الأبرياء، وما نتج عن تلك الحروب من انهيار اقتصادي واجتماعي وصحي، وتدمير للبنية التحتية للبلاد.

وبسبب الطبيعة الهمجية العدوانية لنظام صدام والتنكيل الشنيع الذي مارسه ضد الشعب اضطر ما يزيد على أربعة ملايين عراقي إلى الهرب من العراق والبحث عن ملاذ آمن يعيشون فيه، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل مريرة من موقف معظم الأنظمة العربية التي أغلقت حدودها بوجوههم، فتوجهوا إلى البلدان الأجنبية التي استقبلتهم بما يليق بالإنسان، وأمنت لهم حياة كريمة من سكن وخدمات صحية وثقافية، ودخل يسد حاجاتهم المادية، وأهم من كل ذلك الحرية التي تمتع بها المهاجرون العراقيون في تلك البلدان.

لقد أدركت الشعوب العربية أن لا سبيل لها لتحقيق الحياة الحرة الكريمة، والتحرر الحقيقي من الهيمنة الإمبريالية، وإعادة بناء علاقات جيدة بينها في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصحية والثقافية، وصولا إلى تحقيق أوثق الروابط فيما بينها، كما هو الحال في دول الوحدة الأوربية، وفي نهاية المطاف تحقيق حلمها الكبير في تحقيق الوحدة العربية الشاملة القائمة على أسس ديمقراطية، بعيداً عن محاولات الضم القسري، إلا بالانتفاض على الأنظمة الفاسدة السائدة، وإقامة أنظمة جديدة تمثلها بحق.

وهكذا انتفض الشعب التونسي الشجاع ضد نظام الطاغية بن علي، تلك الانتفاضة الثورية الجبارة التي قدمت التضحيات الجسام، لكنها استطاعت إزاحة ذلك النظام الدكتاتوري الذي استمر قرابة ثلاثة عقود، لتقيم نظاماً ديمقراطيا يحقق أماني الشعب في الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وكانت انتفاضة الشعب التونسي الثورية فاتحة لانتفاضات بقية الشعوب العربية.

فلم تمض سوى أيام معدودة حتى انتفض الشعب المصري الشقيق ضد نظام مبارك المتحالف مع أصحاب رأس المال المنهوب من قوت الشعب المصري، فكانت ثورة عارمة صمدت بوجه جهاز النظام القمعي الكبير والمدرب على قمع أي تحرك شعبي، وقدم الشباب المصري التضحيات الجسام حتى استطاع إسقاط ذلك النظام الذي أشاع الفقر، والتبعية لأمريكا وربيبتها إسرائيل، ليقيم على أنقاضه حكماً ديمقراطياً يمثل الشعب حقاً وصدقاً ويعمل على تحقيق أمانيه في الحياة الحرة الكريمة التي تليق به.

وها هو الشعب الليبي الشجاع يخوض معركة قاسية ضد نظام القذافي المتسلط على الشعب منذ 42 عاماً، انه يخوض حرب تحرير حقيقية لم يشهد لها العالم العربي مثيلاً من قبل، ويقدم التضحيات الجسام من أجل انتصار الثورة التي  باتت وشيكة، ويحقق أمانيه في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

وانتفضت الجماهير العربية في اليمن في سعيها لإسقاط نظام الدكتاتور علي عبد الله صالح الذي حكم البلاد 28 عاماً، والذي عدّلَ الدستور ليحكم مدى الحياة، ويعد أبنه لتولي الحكم من بعده. لقد هبت الجماهير اليمنية متحدية أجهزة الدكتاتور القمعية وهي عازمة عزماً لا رجعة فيه لإسقاط هذا النظام، وإقامة البديل الديمقراطي الذي يحقق أماني الشعب، ويستعيد حقوقه المهضومة. كما أن جماهير الشعب العماني، والشعب البحريني يخوضان النضال من أجل إقامة نظام ديمقراطي يحقق العدالة الاجتماعية، والحياة الحرة الكريمة.

لقد وعت الجماهير الشبابية في جميع البلدان العربية، وأدركت أنها بتكاتفها وتصميمها وعزمها، قادرة على إزاحة الأنظمة المستبدة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، وقد اتخذت من نضال أشقائها في تونس ومصر وليبيا واليمن مناراً يضئ لها الطريق للنهوض الثوري الذي بات يحقق المعجزات، وسوف لن يمض وقت طويل حتى تتحرر كل الشعوب العربية من نير الطغاة المستبدين لتقيم عالماً عربياً جديداً، عالم الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد، وسوف تحقق الحلم الكبير بوحدتها الديمقراطية، وتقيم كياناً كبيراً وعظيماً بما يمتلكه من امتداد جغرافي واسع، وإمكانيات بشرية ومادية هائلة، وكوادر قادرة على صنع كيان مهاب تحترمه كل الدول والشعوب.   

إن الجامعة العربية في وضعها الحالي لا تمثل الشعوب العربية، ولم تقدم لها أي انجاز يحقق طموحاتها، وما عادت تود سماع اسمها وهي تقف هذه المواقف الشائن من طموحاتها في بناء عالم عربي ديمقراطي تعددي ينعم شعوبه بكل فئاتها وقومياتها وطوائفها بالحرية والمساواة ،والحياة الحرة الكريمة.

إن الشعوب العربية قد فقدت ثقتها في هذه الجامعة بوضعها الحالي، ولا بد أن يتدارك الجميع إصلاح الأمر، وبناء جامعة عربية جديدة تعمل بصدق وتفانٍ من أجل جمع شمل العرب تحت مضلة الديمقراطية والحرية الحقيقية ، وبناء اقتصاد عربي متكامل، وعملة عربية واحدة وتعاون وثيق في كافة المجالات، وهذا لن يتم إلا عبر أنظمة ديمقراطية تحترم إرادة شعوبها، وتتفانى في خدمتهم، لا كما تفعل اليوم، حيث قد سخرت شعوبها لخدمتها، وسلبتهم كل حقوقهم وحرياتهم، واستأثرت بخيرات البلاد على حساب بؤس ومعانات شعوبها.
   


267
النصر والظفر لثورة الشعب الليبي الجسور
ضد نظام الطاغية المجنون القذافي

حامد الحمداني                                                       21/2/2011

بوركت ثورة الشعب الليبي الجسور، فقد تحققت الآمال المعقودة على تحرك هذا الشعب الذي رزح تحت نير أعتا دكتاتورية شهدها العالم العربي منذ أكثر من أربعة عقود كالحة السواد، ليعلنها ثورة عاصفة ضد نظام دكتاتوري متخلف، نظام يفتقد المؤسسات الدستورية، فلا  دستور، ولا برلمان منتخب، ولا حقوق وحريات ديمقراطية!

 فالطاغية المعتوه القذافي، ذلك الضابط الصغير المغمور الذي استولى على الحكم بانقلاب عسكري، قُدر له النجاح في غفلة من الزمن، لكي يحكم البلاد بالحديد والنار متخذاً من ثروات البلاد ملكاً شخصياً له ولعائلته، وجاعلاً من الشعب الليبي فلاحين في مزرعته!، قامعاً لأي تحرك شعبي من أجل حقوقه الديمقراطية، ومن أجل تحقيق حياة كريمة تليق به، في بلد من أغنى بلدان العالم

لقد أدرك الشعب الليبي وهو يراقب ثورة أشقائه الشجعان أبناء وبنات الشعبين التونسي والمصري ضد الطغيان أن لا سبيل له للتحرر، ونيل حقوقه المشروعة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلا السير على هذا الطريق، طريق التصدي لنظام القذافي بثورة عارمة تسقطه مرة واحدة وإلى الأبد.

ولقد كان يدرك الشعب الليبي الجسور أن الثورة على نظام هذا الطاغية تتطلب التضحيات الجسام نظراً لما يتسم به هذا الدكتاتور المعتوه من رعونة واستهتار، حيث لا يتوانى عن اقتراف أشنع الجرائم بحق الشعب والوطن حفاظاً على سلطته المغتصبة، والتي لا شرعية لها أبداً

نعم لقد أدرك الشعب الليبي أنه أمام نظام متوحش مستعد لارتكاب أبشع الجرائم لقمع أي تحرك شعبي، لكنه اندفع بعزم لا يلين معلناً الثورة على هذا النظام الذي عفا عليه الزمن، يتملّكه إيمان لا يتزعزع بتحقيق النصر وإسقاط هذا النظام البائس.

وهكذا انطلقت شرارة الثورة لينتشر لهيبها في معظم المدن الليبية متحدية أجهزة النظام القمعية، ومرتزقته الذين استوردهم من بعض البلدان الأفريقية، واندفع الثوار في مقارعة أعوان النظام وكتائبه المسلحة، ودفع الشعب الليبي ثمناً باهظاً من دماء أبنائه قرباناً لحريته وكرامته، وما هي إلا أيام معدودة حتى باتت معظم المدن الليبية بيد الثوار، وانكفاء كتائب السلطة ومرتزقتها هاربة من ساحة المعركة .

لكن القذافي الذي بقي متحصناً في العاصمة طرابلس تحت حماية كتائبه المسلحة يحاول التصدي للجماهير الليبية في العاصمة مستخدماً الطائرات الحربية والطائرات السمتية لتلقي برصاصها على رؤوس وصدور الشباب الليبي أمام سمع وبصر الجتمع الدولي، وتحدى بكل وقاحة وصفاقة الشرائع الدولية ، معلناً في خطاب وجهه ليس للشعب الليبي فحسب، بل للعالم اجمع، متباهياً أن المجرم يلسن كان قد استخدم الدبابات في قصف البرلمان الروسي على رؤوس النواب،  أنه سيستخدم كل ما يمتلك من قوة وأسلحة لسحق الثورة!
أي مجنون هذا الطاغية؟
وأي استهتار بشريعة الأمم المتحدة والقانون الدولي؟
وأي وقاحة وانحطاط وصل إليه القذافي في استخدامه أقذع وأوسخ الكلمات بحق شعبه وثورته، والتي لا يمكن أن تخرج من إنسان سوي يحترم نفسه .
إن رجلاً معتوهاً كالقذافي لا يتوانى عن ارتكاب حمام دم رهيبة ضد الشعب الليبي إذا لم يسارع المجتمع الدولي إلى اتخاذ جميع الوسائل الكفيلة بلجم تهوره وجنونه، وسيتحمل مسؤولية كبرى، وعلى وجه الخصوص الدول الغربية والولايات المتحدة إذا لم تسارع إلى التصدي لجنون القذافي قبل أن يغرق الشعب الليبي بالدم.
ينبغي لمجلس الأمن، والمجتمع الدولي، وكل الدول التي يهمها حقوق وحرية الشعوب الوقوف بحزم إلى جانب الشعب الليبي المناضل، وتحذير الدكتاتور القذافي من مغبة زج الجيش في قمع ثورة الشعب الليبي، واتخاذ كل الإجراءات الضرورية ولجمه.
إن الموقف المطلوب من المجتمع الدولي سيكون المحك الحقيقي لمواقفه من حقوق وحرية الشعوب، بصرف النظر عن المصالح الاقتصادية الآنية التي تربطها بهذا النظام البشع، ونحن بانتظار موقف واضح وصريح من خطاب القذافي، وتهديداته للشعب بإغراقه بحمام دم من أجل أن يجلس ابنه سيف الإسلام على قلوب أبناء الشعب الليبي لخمسين عاماً قادمة، فهذا الدكتاتور الذي اقترف جريمة طائرة لوكربي، وقتل مئات المسافرين الأبرياء، لا يتوانى عن اقتراف أبشع الجرائم ضد أبناء شعبه ووطنه.

وعلي المجتمع الدولي أن يدرك أن لا عودة للشعب الليبي عن مواصلة النضال حتى تحقيق النصر الحاسم مهما غلت التضحيات، وإسقاط هذا النظام الجائر الذي جثا على صدور أبنائه 42 عاماً.
النصر والظفر لثورة الشعب الليبي الشقيق
وإلى مزبلة التاريخ المعتوه القذافي وأبنائه وزمرته المجرمة.
  

268
أنتم مدعون للنهوض يا شباب العراق
والمستقبل لكم قطعاً

حامد الحمداني                                                     19/2/2011
الشعب العراقي هذا الشعب الثوري الذي شهدت له انتفاضاته وثوراته منذ الاحتلال البريطاني للعراق إبان الحرب العالمية الأولى وحتى حل الطاعون البعثي في البلاد في الثامن من شباط عام 1963، بدءاً من ثورة العشرين، مروراً بوثبة كانون الثاني 1948، فوثبة تشرين الثاني عام 1952، فانتفاضة عام 1956، فثورة الرابع عشر من تموز المجيدة عام  1958.
 يوم كان لا يصبر على ضيم، ولا يرتضِ الذل، يعشق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويثور ضد مغتصبيها، غير مبال بعظم التضحيات، متحدياَ السلطة الجائرة، وجهازها القمعي، ومحاكمها العرفية ومشانقها وسجونها.

هذا الشعب العراقي العظيم، شعب النهوض الثوري ضد الظلم والطغيان، ضد الأنظمة الطائفية الظلامية التي تبغي إعادة العراق إلى عصر الظلام والفاشية الدينية، وضد الاحتلال الأمريكي الغاشم، وأدواته من أحزاب الإسلام السياسي، والقيادت القومية الكردية التي ساهمت مساهمة فعلية في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ، هذا هو الشعب الذي أعرفه منذ كنا نخوض النضال ضد الإمبريالية وصنيعتها نوري السعيد وحلف بغداد، ما كان يرتضي الذل والخضوع ، يتقحم ساحات النضال غير مبال بعظم التضحيات، وهو يردد قصيدة ألجواهري العصماء
تقحم لعنت أزيز الرصاص******وجرب من الحظ ما يقسمُ

اليوم وأنت يا شعب العراق الأبي  تعاني الطائفية التي أججت الحقد الطائفي والتي أوصلت البلاد للحرب الأهلية، وتعاني من نظام لم يشهد العالم مثيلا في الفساد السياسي، وسرقة ثروات الشعب بمليارات الدولارات، حتى وصل الأمر بين حرامية الإسلام السياسي الذين تنازعوا فيما بينهم على الغنائم ليفضح بعظهم بعضاً كما فعل عمار الحكيم، متهماً حكومة المالكي بتبديد 300 مليار دولار، ثروة كبرى بكل المقاييس للنهوض بوضع الشعب العراقي في كل مجالات الحياة إلى مصاف الدول الراقية في عالم اليوم.
لكنك اليوم تعيش البطالة والجوع والتشرد بلا ماء صافٍ للشرب ، وبلا كهرباء في صيف العراق الشديد الحرارة، وشتائه القاسي، على الرغم من مخصصات وزارة الكهرباء التي جاوزت 28 مليار دولار دون تحقيق أي نتيجة إيجابية.
أيها الشعب العراقي العظيم إن قوى الإسلام السياسي تستخدم الملايين من العراقيين البسطاء في مسيرات دينية تنفيذاً لأجندتها السياسية في الهيمنة على السلطة إلى ما لانهاية، طالما تدرُّ عليهم مليارات الدولارات سنويا، ولسان حالهم يقول: ليذهب شعب العراق إلى الجحيم في هذه الدنيا، فلهم الآخرة مخلدين فيها، هكذا يخدعونكم، ويستغلون طيبة قلوبكم، واحترامكم لدينكم لينعموا بالسلطة والثروة على حساب بؤسكم، وعذاباتكم، أنتم أصحاب الثروة الحقيقيين في بلد من أغنى بلدان العالم.
إذا كان قادة أحزاب الإسلام السياسي صادقين في دينهم فعليهم أن يتعففوا عن السرقات، ونهب ثروات البلاد، كي ينعموا بالآخرة التي يعدونكم بها، فبأي وجه سيقابل السراق وناهبي ثروات الشعب الله؟ ليس لدي أدنى شك بأن من يقوم بمثل هذه الأعمال لا علاقة له بالدين، بل هم والدين على طرفي نقيض يخادعون بتدينهم بسطاء الناس، لكنهم لا يستطيعون مخادعة الله في قوله تعالى حيث يصفهم :
{ يخادعون الله والرسول، ولا يخدعون إلا أنفسهم}.

أيها الشعب العراقي العظيم ينبغي أن تهنأ بثروة البلاد وتعيش عيشة كريمة خالية من العوز والفقر والجهل والمرض، وفقدان أبسط الخدمات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وقد آن الأوان لتنهض من جديد، وتحاكي شباب تونس و مصر الشجعان الذين ضربوا لك المثال في النهوض والتضحية من أجل حياة أفضل في ظل الحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ونظام علماني عادل، يضع شرعة حقوق الإنسان في صلب دستور جديد.

أيها الشعب العراقي الباسل: لقد بدأ المخاض العظيم لنهوض الشعوب العربية الرازحة تحت بطش أنظمة فاشية قمعية سطت على الحكم بقوة السلاح لتستمر في الحكم عشرات السنين، وها هي الشعوب العربية في ليبيا والجزائر واليمن والبحرين، وغداً يعم العالم العربي كله شرقاً وغربا نهوض جبار لبناء عالم عربي جديد عالم الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد، فهذا العالم الواسع بجغرافيته وموقعه الشديد الأهمية في عالمنا، الغني بثرواته الهائلة التي يمكنها أن تحقق حياة مُثلى ، وتكون في الوقت نفسه دولاً يحترمها العالم أجمع وخصوصا إذا ما استطاعت أن تحقق حلمها الكبير بالسير على طريق الاتحاد الأوربي كخطوة أولى وصولا في المستقبل إلى كيان عربي قوي بملايينه الثلاثمائة ليجعل من هذه الدولة الحلم حقيقة واقعة يهابها العالم، دولة تقدس الديمقراطية والحريات العامة والخاصة، والعدالة الاجتماعية بين سائر المواطنين، بصرف النظر عن الجنس والدين والقومية والطائفة، دولة علمانية، تحترم كل الأديان دون زج الدين في السياسة، حيث تفسد الدين والسياسية معا.

أيها الشعب العراقي الباسل: أنت مدعو اليوم أن تكون السباق في هذا النهوض الثوري الذي يشهده العالم العربي الذي زلزل عروش الطغاة في تونس ومصر ، ولقد جاء دورك لتنهض من جديد يوم الجمعة الخامس والعشرين من هذا الشهر، ولنفض عنك غبار الذل والمهانة التي سلطها عليك نظام البعث أربعون عاماً، وتلاهم الحكام الجدد من أحزاب الإسلام السياسي وسائر أزلام  الاحتلال الذين لا هم لهم سوى نهب ثروات البلاد، ولا شك انك أهلاً لهذا النهوض، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون.
   وإذا تعانقت الشعوب *****ومزقت حجب الظلام
                       فأي درب يسلكون؟
  وإذا تشابكت الأكـف******* فأي كف يقطعون؟


269
صدور كتاب جديد للمؤرخ حامد الحمداني عن دار المحروسة للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة تحت عنوان:

صدام والفخ الأمريكي
غزو الكويت وحرب الخليج الثانية

حامد الحمداني                                        16/2/2011

من مقدمة الكتاب

منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 1968 [عبد الرزاق النايف] بدأ نجمه يتصاعد، حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، على الرغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.
وعندما حلت الذكرى الحادية عشر للانقلاب البعثي في 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
أما لماذا وكيف تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان يقف وراءه!!.
أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح الإستراتيجية الأمريكية، وكان في مقدمتها إفشال التقارب الذي حصل بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ميثاق العمل القومي الذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى حكام الولايات المتحدة وإسرائيل تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.
 كما استهدف احتواء الثورة الإسلامية في إيران، لاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدءوا يتطلعون إلى تصدير ونشر مفاهيم الثورة الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل للتصدي لهذا الخطر هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين في حرب سعت إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر الثورة الإسلامية في المنطقة.
كما استهدفت الحد من تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، ومحاولة تزعم العالم العربي التي طغت على تفكيره، وكان صدام قد وجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته.
وجاءت الزيارة قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر حول قلق الإدارة الأمريكية من مشروع الوحدة بين سوريا والعراق من جهة، وحول أخطار توسع وانتشار الثورة الإسلامية في المنطقة من جهة أخرى، وضرورة التصدي لها، وشوهد الموفد الأمريكي يخرج بعد الاجتماع متجهم الوجه، وقد بدا عليه عدم الارتياح، ثم أنتقل إلى مكتب صدام حسين، وأجرى معه محادثات أخرى، خرج بعدها وعلامات السرور بادية على وجهه، وقد علته ابتسامة عريضة.
لقد بقي ما دار في الاجتماعين سراً من الأسرار، إلا أن التكهنات والأحاديث التي كانت تدور حول الاجتماعين تشير إلى أن النقاش دار حول نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى دارت حول تطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل.
 أما النقطة الثانية فقد دارت حول الأوضاع في إيران، بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج ، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وقيل أن الموفد الأمريكي سعى لتحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري، وأن صدام حسين قد أبدى كل الاستعداد للقيام بالدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.
وهذا ما أكدته الوقائع على الأرض، فلم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر، بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه، على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع، بتهمة التآمر مع النظام في سوريا ضده، وتصفيه كل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة، ليغدو الدكتاتور الأوحد ويحكم البلاد بالحديد والنار.
 وما أن استتب له الأمر حتى زج البلاد في حربٍ مع إيران ظنها نزهة قد تمتد لأيام أو أسابيع، ولكنها كانت حرب طاحنة استمرت ثمان سنوات ذهب ضحيتها ما يزيد على النصف مليون من أبناء العراق، إضافة إلى مئات الألوف من الجرحى والمعوقين، ومثلها من الأرامل واليتامى، وهدر مواردنا الاقتصادية على تلك الحرب، ولشراء الأسلحة وبناء المصانع الحربية المختلفة، من صواريخ وأسلحة كيماوية، وجرثومية وحتى الذرية.
خرج العراق من حربه مع إيران، بوضع اقتصادي لا يحسد عليه، فقد أستنفذ نظام صدام كل احتياطيات البلاد من العملة النادرة، والذهب البالغة [36 مليار دولار]، وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، والتي كانت تقدر بـ  25 مليار دولار سنوياً، وفوق كل ذلك خرج العراق بديون كبيرة جداً للكويت، والسعودية، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي السابق، والبرازيل، والعديد من الدول الأخرى، وقد جاوزت الديون [90 ملياراً من الدولارات]، وصار العراق ملزماً بدفع فوائد باهظة لقسم من ديونه بلغت حدود 30 % ، مما جعل تلك الفوائد تتجاوز 7مليارات دولار سنوياً.
هذا بالإضافة إلى ما تطالب به إيران من تعويضات الحرب، بعد أن أقرت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بأن العراق هو المعتدي في تلك الحرب، وتطالب إيران من العراق مبلغ [160 مليار دولار] كتعويضات حرب.
لقد أصبح العراق بعد حربه مع إيران يمتلك القوة، ولكنه في الوقت نفسه يعاني من اقتصاد متدهور، وديون تثقل كاهله، وجواره بلدان عربية ضعيفة عسكرياً، ولكنها غنية جداً، تغري ثرواتها أصحاب القوة، وخاصة بالنسبة إلى بلد مثل العراق، الذي يحكمه نظام دكتاتوري يقوده رجل كصدام حسين.
ولاشك أن تلك الظروف الاقتصادية الصعبة، التي خلقها النظام العراقي نتيجة تهوره، واندفاعه لتنفيذ المخططات الإمبريالية، بشنه الحرب ضد إيران، والتي ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر على أبعد الاحتمالات، وأراد لها مخططوها أن تدوم سنوات طوال، وبقوا يغذونها باستمرار، فكانوا تارة يقدمون المساعدات للعراق، وتارة أخرى يقدمونها لإيران كي تُنهك الحرب كلا البلدين.
حاول صدام حسين أن يعوض عن خسائره في تلك الحرب بمهاجمة الكويت والاستحواذ على نفطها، وسهلت له الإدارة الأمريكية الأمور لكي تدفعه إلى الفخ الذي نصبته للعراق بغية تهديم بنيته الاقتصادية والعسكرية، والاستحواذ على نفط الخليج بشكل مطلق، وإقامة القواعد العسكرية الدائمة في المنطقة. وهكذا أقدم  صدام حسين على غزو الكويت، وعمل فيها تخريباً، وتدميراً، ونهباً وسلباً، مدعياً بإعادة [الفرع إلى الأصل] .
 وبذلك تحقق للإمبرياليين ما أرادوا، ودخل صدام الفخ الذي نصبه له الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، وسارع الإمبرياليون إلى إرسال جيوش 32 دولة على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى المنطقة ليشنوا حرباً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل ضد دولة صغيرة من دول العالم الثالث كالعراق، والذي خرج لتواه منهكاً من حربه بالنيابة عن الولايات المتحدة ضد إيران وهو مثخنٌ بالجراح.
 وكان الإمبرياليون وهم يعدون العدة للحرب مع العراق وكأنهم سيخوضون حرباً عالمية ثالثة، لضخامة حجم القوات العسكرية التي استقدمت إلى السعودية وقواعدهم في دول الخليج، والعديد من حاملات الطائرات والصواريخ البعيدة المدى، وألوف الطائرات الحربية، وأحدث ما أنتجته المصانع الحربية الغربية من مختلف أنواع الأسلحة والعتاد ذات الدمار الشامل بغية إيقاع أقصى ما يمكن من الخراب والدمار في البنية التحية العراقية العسكرية والمدنية.                                                                                                                                                                                                                                                                               
 فقد هاجمت طائراتهم مدن العراق كافة وطرق مواصلاته، وجميع مرافقه الاقتصادية دون استثناء لمدة 45 يوماً بمعدل 2000 غارة جوية في اليوم الواحد، وألقت خلالها الطائرات مئات الألوف من القنابل والصواريخ، ومستخدمين أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية الأمريكية، بما في ذلك اليورانيوم المستنفذ، الذي سبب كارثة بيئية رهيبة لا أحد يعرف مداها.
 ثم بادروا بالهجوم البري مخترقين حدود العراق، حيث تقدمت تلك الجيوش من الأراضي السعودية نحو جنوب العراق بغية محاصرة الجيش العراقي، وقطع طرق مواصلاته لجيشه في الكويت، وتقدمت تلك القوت في هجومها السريع حتى مدينة [الناصرية]، وطائراتهم تلاحق الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت بوابل من القذائف والأسلحة الرشاشة بغية  إبادة اكبر عدد منهم.
 واستسلم صدام حسين لشروط الإمبرياليين دون قيد أو شرط، سوى  بقائه على سدة الحكم، وتوقفت تلك الحرب، لتبدأ انتفاضة الشعب في الأول آذار 1991، تلك الانتفاضة التي امتد لهيبها ليشمل 14 محافظة من مجموع 18 محافظة.
 كاد نظام صدام يتهاوى  لولا وقوف الولايات المتحدة إلى جانبه، وضد الشعب، بعد أن وجدت الإدارة الأمريكية أن السيد محمد باقر الحكيم، زعيم منظمة بدر المدعوم من حكام طهران قد سيطر على الانتفاضة، وتيقنوا أن العراق سوف يقع فريسة بيد النظام الإيراني، حيث فتحوا الطريق لقوات صدام المحاصرة جنوب الناصرية لعبور دباباتها ومدفعيتها وصواريخها، وطائراتها لمحاصرة المدن العراقية وضربها وإغراقها بالدم، وهكذا تمّ للإمبرياليين وصدامهم سحق انتفاضة الشعب  وذهب ضحيتها مئات الألوف من أبناء الشعب.
 وبادرت الإمبريالية الأمريكية بتدمير أسلحة العراق ذات الدمار الشامل، والتي صرف عليها صدام مئات المليارات الدولارات من ثروات الشعب، وشدد الإمبرياليون الحصار على شعب العراق، دون صدام، في حين كان الشعب، وبعد أكثر من ثلاثة عشر سنة من الحصار، يقاسي أهوال الجوع والأمراض والفقر المدقع، في بلد من أغنى بلدان العالم.
وفي نهاية المطاف قرر الرئيس الأمريكي [ جورج بوش- الابن] إكمال المهمة التي بدأها أبوه عام 1991، والتخلص بشكل نهائي من نظام صدام حسين، بشن الحرب على العراق وإسقاط النظام في  التاسع من نيسان 2003، وما جرته تلك الحرب على العراق وشعبه من ويلات ومآسي ، وخراب ودمار وصراع طائفي وحرب أهلية حصدت على أرواح ما يزيد على 867 ألف مواطن حسبما أوردته الإحصاءات الأخير، وتهديم البنية الاجتماعية، مما لا يمكن معالجته وإصلاحه قبل عدة عقود.   
ملاحظة: يقع الكتاب في 305 صفحات من القطع الكبير

270
ثورة شباب مصر الشجعان تزلزل عروش الطغاة
 في العالم العربي

حامد الحمداني                                                         5/2/2011

لم اشهد في حياتي التي أوشكت تجاوز الثمانية عقود في العالم العربي ثورة جبارة كثورة شباب مصر الشقيقة الشجعان الذين ضربوا مثالا في العزم والتصميم، والتنظيم والدخول في معركة حاسمة مع نظام فاسد تزاوج فيه أصحاب رؤوس الأموال مع السلطة القمعية، هذه الزمرة التي أوصلت شعب مصر العظيم إلى ما تحت حافة الفقر  والجوع، والعيش بين المقابر، والبطالة، في حين تستمر تلك الزمرة الجشعة التي لا تشبع بطونها من تكديس الثروة، تستمر في الوقت نفسه في قمع الشعب المصري بكل الوسائل والسبل.
لن أبخس أبداً ثورة الشعب التونسي الشقيق التي كانت فاتحة الأبواب على مصرعيها أمام شعوب العالم العربي للنهوض والانتفاض على مستعبديهم ومستغليهم، بل أقدسها وأقدس إبطالها كل التقديس، فقد كان لهذه الثورة شرف السبق في مقارعة الطاغية بن علي ، وحفزت شباب الشعب المصري الشجعان على السير بهذا الطريق والأخذ بيد الشعب المصري نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولا شك انها ستحفز، وقد حركت بالفعل الشعوب العربية على مقارعة الطغاة.
لكن ثورة الشباب المصري قد زلزلت الأرض تحت عروش الطغاة ليس في مصر فحسب بل في العالم العربي كله.
إن مصر ذات وزن كبير جداً، وتأثير حاسم على مجمل الأوضاع في العالم العربي. إنها بلد الخمسة والثمانون مليوناً، وبما يمتلكه من إمكانيات مادية وبشرية، وموقع جغرافي أهلته لمركز القيادة في هذا الجزء الهام من العالم الغني بثرواته، وعلى وجه الخصوص النفط والغاز، عصب الحياة لتسيير العجلة الاقتصادية في العالم.
لقد تمثلت هذه الشجاعة النادرة لشباب مصر الأبطال في تصميمهم على دخول ساحة الصراع [ساحة الحرية] والاعتصام بها من أجل إسقاط هذا النظام الجائر، وهم لا يحملون سلاحاً بأياديهم، بل يحملون الإرادة والصمود، وسلاحهم الوحيد هو صرختهم الشجاعة التي يوجهونها لزمرة النظام بأن الشعب لم يعد يخاف سطوتكم، ولا يخاف أجهزتكم القمعية وأسلحتها، ولم يعد يصبر على الجوع والفقر والبطالة، ولسان حالهم يقول ليس لدينا ما نخسره سوى قيودنا .
إنها ثورة حضارية بكل معنى الكلمة شهد على عظمتها كل مراسلي القنوات الفضائية العربية والأجنبية، وكل وسائل الصحافة والإعلام والإذاعة والتلفزيون في العالم أجمع.

لقد حاول النظام المصري قمع ثورة الشباب بالحديد والنار، فوجه أجهزته القمعية المدججة بالأسلحة وقنابل الغاز المسيل للدموع، حيث تصدى لها جماهير الثوار الشباب العزل من أي سلاح سوى سواعدها القوية، وعزمها الذي لا يلين.
وحاول النظام أن يشوه عظمة هذه الثورة فأرسل بأزلامه من عناصر الأمن السياسي، وبلطجية الحزب الوطني، لتشعل النار في العديد من المؤسسات والمحلات التجارية، والمصارف، وكان رد الثوار تشكيل أحزمة بشرية لحماية المؤسسات الحكومية والأهلية من عبث المجرمين.
وحاول النظام زج الجيش في الصراع ضد الثوار، لكن الجيش وقف موقفاً مشرفاً وأعلن أن مطالب الثوار مشروعة، وانه لن يقف بوجه الثوار.

وعندما لم تُجِدِ كل تلك الأفعال التي قامت بها الحكومة لقهر الثورة، بدأت بتسخير شرطتها السرية، وبلطجية الحزب الحاكم الذين استخدموا الجمال والخيول حاملين الأسلحة النارية، والعيدان، والأسلحة البيضاء، وكميات كبيرة من الحجارة، والقنابل الحارقة وحامض الكبريتيك، وأسلحة الليزر.
وحاولت هذه الزمر الجبانة دخول ساحة التحرير لإخراج الثوار الشباب، حيث دارت معارك قاسية لم اشهد لها مثيلاً من قبل، وكان الثوار يتلقون الحجارة، ويردون بها على تلك العصابات المجرمة.
لقد كانت معركة قاسية بكل معنى الكلمة صمد فيها الثوار دون أن يمتلكوا أي سلاح سوى العزيمة والشجاعة،  واندحرت قوى الشر، وبات الشعب سيد الساحة، وكانت حصيلة المعركة غير المتكافئة أكثر من 2000 جريح و15 شهيداً.   
أدرك النظام المصري أنه غير قادر على إجهاض الثورة، فبدأ بتقديم التنازلات، في محاولة للإبقاء على ما يمكن إبقاؤه، فقد تم إقالة الوزارة، وتشكيل وزارة جديدة ، وجرى تعيين عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العسكرية نائباً لرئيس الجمهورية، لأول مرة منذ 30 عاماً، واعلن رئيس الجمهورية مبار ك أنه لن يرشح من جديد للرئاسة ولا ابنه جمال، وانه على استعداد لتسليم السلطة في سبتمبر/ أيلول القادم،حيث تنتهي مدته الرئاسية.
لكن الثوار الشباب رفضوا وما يزالون يرفضون هذه التنازلات مطالبين باستقالة مبارك ورحيل النظام، وأنهم لا يمكن أن تخدعهم الوعود!
وفي يوم الجمعة 4/2/2011 أعلن الثوار أن هذه الجمعة ستكون جمعة الرحيل، وأنهم لن يوقفوا انتفاضتهم حتى النصر، وما زالت التجمعات تتسع وتتوسع لتظم أكثر من مليون من الشباب  في ساحة الحرية، وأكثر من مليون في الإسكندرية، ومئات الألوف في سائر المدن المصرية، وكل الحناجر تهتف بأعلى صوت برحيل النظام ورأسه، والانتقال السلمي للسلطة، وتشكيل حكومة تنكوقراط تحل البرلمان، ومجلس  الشورى، وانتخاب مجلس تأسيسي، وسن دستور  ديمقراطي جديد للبلاد.

لقد زعزعت ثورة الشباب المصري وقبله الشباب التونسي، عروش الطغاة في العالم العربي، وهي سائرة لا محالة للسقوط ، فقد وعت الشعوب العربية، وبدأت نهوضها من جديد لتكنس سائر الأنظمة الدكتاتورية والأوليكارية المتخلفة، وتشيد أنظمة ديمقراطية جديدة تحترم الحرية وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال والسيادة الحقيقية بعيداً عن هيمنة الإمبرياليين.
لقد نالت ثورة الشباب المصري إعجاب العالم اجمع بتنظيمها وسلميتها، وشجاعة أبنائها، وتصميمهم الذي لا رجعة فيه لتحقيق ما يصبوا إليه الشعب المصري في الحرية والعيش الكريم، وفي الوقت نفسه استنكر العالم لجوء النظام لقمعها بالقوة الغاشمة، واستخدام البلطجية والمجرمين الذين أخرجوهم من السجون في محاولة لإجهاض الثورة.
النصر والظفر لشعب مصر وطليعته المناضلة من الشباب،
والنهاية الأكيدة لكل أنظمة الطغاة.
المجد والخلود لشهداء الثورة الذين سطروا بدمائهم  أناشيد  الحرية، والشفاء العاجل للجرحى الشجعان.
والخزي والعار لبلطجية النظام ومن دفعهم، ودفع لهم النقود 

271
فاقد الشيء لا يعطيه!
حامد الحمداني       
22/1/2011 
                                                                                               
واهم من يعتقد أن أحزاب الإسلام السياسي يمكن أن تؤسس لنظام ديمقراطي في العراق، وأكثر وهماً من صدق شعارات دولة القانون، بزعامة المالكي، بتوجهها نحن الديمقراطية، ولقد نبهنا مراراً وتكراراً في العديد من المقالات منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وتشكليه مجلس الحكم باغلبية قيادات احزاب الإسلام السياسي الشيعية، بعد مقاطعة قيادات احزاب الإسلام السياسي السنية، لما دعي بالعملية السياسية التي قادها الحاكم الأمريكي بول بريمر، علماً أن شقي أحزاب السلام السياسي الشيعية والسنية يمثلان وجهان لعملة واحدة.

لكن المؤسف أن تنخدع قوى يسارية كان لها دور بارز في قيادة الحركة الوطنية العراقية لعقود عديدة، بتلك العملية السياسية البائسة، وبقادتها زعماء احزاب الإسلام السياسي الشيعية المتحالفة مع قادة الحركة القومية الكردية الذين اتفقت أهدافهم على تمزيق العراق، وتأسيس كيانات مشبوهة بدعوى العراق الفيدرالي!!، والإدارة اللامركزية للمحافظات، والتي نتج عنها قيام حكومات المحافظات السيئة الصيت، التي باتت تتصرف كحكومات مستقلة، تتجاوز حكومة المركز، على الرغم من أن قيادات هذه الحكومات المحلية من  بين صفوف أحزاب الاسلام السياسي الحاكمة.

 فقد تمثلت تصرفاتها الفاشية بمعاداة كل توجه ديمقراطي، ومعاداة كل المنظمات الديمقراطية والتقدمية، كما هو الحال مع اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وتطاول حكومة محافظة بغداد على خيرة أبناء الشعب العراقي من الكتاب والشعراء والفنانين والأدباء، والقيام بهجمات مسعورة على مبنى الاتحاد، بما لم يسبق له مثيل حتى على عهد الدكتاتور الأرعن صدام حسين.

 إن قيادة حكومة بغداد بعملها هذا تريد أن تبرهن للشعب أنها أشد رعونة وأقسى من نظام صدام الفاشي، وهذا ما كنت قد حذرت منه في مقالي المعنون{ العراق من الفاشية القومية إلى الفاشية الدينية}، وأوضحت فيه أن الفاشية الدينية أشد خطراً على مستقبل الديمقراطية في العراق، بسبب استخدامها للدين كوسيلة في العمل السياسي، وبسبب تخلف المجتمع العراقي، والتأثيرات الدينية التي تمارسها أحزاب الاسلام السياسي عليه.

 إن ما نشهده من المراسيم الدينية التي تقودها أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، والتي يقوم على حراستها أكثر من 45 ألف من عناصر الجيش والشرطة بالإضافة إلى ميليشياتهم المسلحة، بالإضافة إلى الأموال الخيالية التي تخصصها حكومة المالكي الإسلامية لهذه المراسيم والشعائر التي لا تجدي نفعاً للشعب، بل تصب فقط في خانة هذه الأحزاب الإسلامية، لإدامة هيمنتها على السلطة والثروة، في حين لا يجد أبناء الشعب، وعلى وجه الخصوص أبناء الطوائف المسيحية والصابئية والأيزيدية من يحميهم من بطش عصابات الاغتيالات بمسدسات الكاتمة للصوت، والتفجيرات لبيوت غير المسلمين، كما هو حال الطائفتين المسيحية والأيزيدية، من دون أن يشعر المواطنون المغلوبون على أمرهم بأي إجراءات لحكومة المالكي للحفاظ على حياتهم، وأدى ذلك إلى تصاعدت موجات الرحيل لأبناء هذه الطائفة البررة عن وطنهم، ووطن أجدادهم، هرباً من طغيان ميليشيات الاسلام السياسي المجرمة.

إن أحزاب الإسلام السياسي في عرفها ترى أن الديمقراطية لا تعني سوى الانتخابات البرلمانية، والوصول إلى السلطة، مستخدمة الدين والطائفة، بالإضافة إلى الأموال التي تجنيها عن طريق الفساد المالي والإداري المستشري في أجهزة الدولة من القمة إلى القاعدة للوصول إلى هذا الهدف، والحفاظ على سلطتها بكل الوسائل والسبل.

 وبمجرد وصولها إلى السلطة تنكرت لكل  شعاراتها التي خاضت الانتخابات بموجبها، وكأنها قد باتت تمتلك تفويضاً إلهياً للتصرف بشؤون المواطنين وحقوقهم وحرياتهم التي كفلها الدستور، وشرعة حقوق الإنسان التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة منذ عام 1948، والتي تناولت بالتفصيل الحقوق والحريات التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والطائفة، وقد أكد الإعلان العالمي على حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، كما أكد على حقوق الطفل بكل تفاصيلها.
لكن أحزاب الإسلام السياسي، بشقيه الشيعي والسني، ما أن استلمت الحكم حتى باشرت بفرض أجندنها المتخلفة التي عفا عليها الزمن على المجتمع، وحقوقه وحرياته الديمقراطية، العامة منها، والشخصية، مستخدمة سلاح الدين والشريعة، بالإضافة إلى سلاح السلطة من جهة، وميليشياتها المسلحة لفرض إرادتها على المجتمع بالقوة، مستغلة حالة التخلف السائدة في البلاد.

وتباشر المدارس الدينية التي يشرف عليها عناصر سلفية و شيعية متخلفة، تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايات سياسية بأساليب قسرية، وتمارس هذه المدارس نشر الفكر التكفيري والعنفي، وتفسر الدين بالطريقة التي تحقق لها أهدافها وغاياتها الشريرة، وتستخدمه لغسل أدمغة الناس البسطاء، وحثهم على القيام بأعمال إرهابية من قتل وتخريب وخطف واغتصاب، وتكفير المواطنين الذين يعارضون هذا التوجه، وتتدخل في كل صغير وكبيرة في حياة المواطنين الخاصة وتحاول فرض القيود في أسلوب حياتهم ومظهرهم وملبسهم وغير ذلك من الأمور بحجة مخالفة الشريعة !!.
أن التعويل على حكم احزاب الاسلام السياسي في إقامة الديمقراطية ودولة القانون هو الركض وراء السراب بعينه، ففاقد الشئ لا يمكن أن يعطيه، وهذه الأحزاب  لا تؤمن بالديمقراطية، والشريعة الإسلامية لا يمكن أن تتفق مع الديمقراطية، بل هي والديمقراطية على طرفي نقيض، ومن ينتظر منها بناء عراق ديمقراطي فهو كمن يبدو له السراب ماءاً، ولكن هيهات...

 أن الأنظمة الدكتاتورية، والأحزاب والمنظمات الفاشية، والأنظمة المتخلفة التي تتخذ من الدين ستاراً لإدامة حكمها هي المرتع الخصب لتوليد وانتشار الإرهاب، ولا سبيل للحد من النشاط الإرهابي، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق،وفي سائر البلدان الإسلامية، وبناء نظام ديمقراطي مكين لا يمكن أن يتم إلا بفصل الدين عن الدولة، ومنع استخدام الدين كوسيلة للعمل السياسي، وقيام حكم ديمقراطي حقيقي، وسن دستور علماني يحترم الإنسان، ويرعى حقوقه وحرياته العامة والشخصية، ويؤمن العدالة الاجتماعية، ويوفر للشعب حياة كريمة تليق بالإنسان العراقي بمختلف أطيافه دون تمييز بسبب الدين والقومية والطائفة والجنس.

كما ينبغي تأمين حقوق المرأة التي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، وإن الشريعة التي تنتقص من قيمة المرأة، وتسلب حقوقها الإنسانية، لم تعد تناسب المجتمع الإنساني في القرن الحادي والعشرين، فإن كل شئ في الدنيا في حالة تغيّر وتطور مستمر، ولا يمكن أن يبقَ ثابتاً، وإن عدم تطور الشريعة يجعلها حجر عثرة لا بد من تجاوزها أمام تقدم المرأة، ونيل حقوقها المهضومة، باسم الشريعة!!

إن المرأة التي تمثل نصف المجتمع الإنساني هي في واقع الحال أكثر جدارة من الرجل، وما تقوم به من أعمال وأدوار يقف عندها الرجل عاجزاً، أنها الأم التي تولّدُ المجتمع، وتحافظ على ديمومته، أنها تحمل، وتعاني آلام الولادة القاسية، وتربي وتتحمل مصاعب التربية، وتؤدي واجباتها البيتية، وتمارس العمل في مختلف مؤسسات الدولة، وفي العمل الحر، وتمارس العمل السياسي بكل جدارة وتضحية، فهي والحال هذه لا بد أن تتحرر من القيود الجائرة التي فُرضت عليها باسم الشريعة والدين، ولا بد أن تأخذ دورها في الدولة والمجتمع.   

كما ينبغي سن قانون لتنظيم الحياة الحزبية في البلاد تقوم على أسس ديمقراطية، ومنع استخدام الدين أو الطائفة أو الشعارات القومية الشوفينية في العمل السياسي،
إذا شئنا إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد.
 كما ينبغي إعادة النظر الجذرية بالأساليب التربوية السائدة في مدارسنا حالياً، والمناهج الدراسية المتخلفة التي فرضتها احزاب الاسلام السياسي الحاكمة، وهذا التحول يتطلب أن يكون على رأس وزارة التربية شخصية تنكوقراطية متخصصة، وذات أفق ديمقراطي حقيقي، لانتشال مدارسنا من حالتها المزرية التي باتت تعلم أطفالنا في مدارسنا، وحتى رياض الأطفال اللطم والتطبير، كما عرض أحد أفلام اليوتيوب في إحدى رياض الأطفال في الحلة، بدل تعليمهم حب الحياة، وترسيخ القيم الإنسانية والعلمية الضرورية لبناء شخصيتهم.
أن هذه الأساليب لا تهدف إلا إلى خدمة احزاب الاسلام السياسي التي تهدف إلى بقاء المجتمع على تخلفه، كي تستمر في قيادته كقطيع أنعام!، تماماً كما فعل الدكتاتور صدام في حملته الإيمانية المزيفة، ولا تريد أن تتفتح أذهان أطفالنا وشبابنا على الحقائق العلمية والإنسانية.
إن العراق ينتظره مستقبل مظلم إذا ما استمرت الحال كما هي عليه اليوم، وعلى سائر قوى اليسار والديمقراطية والعلمانية أن تعي دورها الهام، وواجبها في الظروف الحالية التي يمر بها العراق، وهي مدعوة إلى أخذ زمام المبادرة، والعمل على توعية أبناء وبنات الشعب، وحثهم على المطالبة بحقوقهم الديمقراطية، وعدم إتاحة المزيد من الوقت لقوى الظلام والتخلف لتثبيت هيمنتها على مقدرات البلاد التي يمكن أن تمتد لعقود طويلة، وهذا يتطلب أولاً وقبل كل شئ توحيد سائر هذه القوى في جبهة وطنية عريضة، وميثاق عمل تتفق عليه، وتلتزم بتنفيذه، والعمل بكل جدٍ وتفانٍ وإنكار ذات، بعيداً عن المصالح الأنانية والحزبية الضيقة، وهذا هو السبيل، ولا سبيل غيره لبناء عراق ديمقراطي حقيقي، وقيادة العراق إلى شاطئ الأمان والسلام، والعيش الرغيد لشعبه.




272
لتتعزز ثورة الشعب التونسي
من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية


حامد الحمداني                                                             17/1/2011
   
لاشك أن انتفاضة الشعب التونسي الشجاع  التي أسقطت النظام الدكتاتوري الذي أسسه زين العابدين بن علي، ذلك النظام البوليسي الرهيب الذي استمر 23 عاماً، والذي انتهك الحقوق والحريات الديمقراطية في البلاد، وأشاع البطالة والفقر في المجتمع التونسي، جاءت ضربة قاصمة وسريعة لهذا النظام الذي ظن بن علي انه باقٍ إلى الأبد على رأسه، وجعلته يرتجف خوفاً ورعباً وهو يوجه كلمته للشعب وقد انهارت قواه قائلا:
 الآن عرفت أن هناك فساد كبير في النظام!
 الآن عرفت أن هناك بطالة وفقر وجوع في البلاد!
 وأنه يعتذر للشعب الذي اضطهده أكثر من عقدين من الزمن، ويقدم له الوعود المعسولة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ظناً منه أن استعطاف الشعب في تلك اللحظات الحاسمة من الانتفاضة، يمكن أن تخدعه، وتمتص ثورته الكاسحة،
ليعيد الكرة من جديد، وينتقم من الثائرين على حكمه.
 ولكن هيهات فقد فات الأوان، ونفذ صبر الشعب على الظلم والطغيان، ولا يمكن آن تخدعه وعود معسولة جاءت نتيجة ضعف أمام زخم الثورة الجبارة التي زعزعت أركان النظام خلال أسبوع من النضال والتضحيات الجسام التي قدمها الشعب التونسي الشجاع، وولى الدكتاتور في تلك الليلة الحاسمة هارباً من البلاد يبحث عن بلد يأويه.

لكن مجرد هروب الدكتاتور لا يمثل سوى الخطوة الأولى في صراع الشعب التونسي مع السلطة الحاكمة بكل مؤسساتها السياسية  والقمعية، والتي مازالت باقية لغاية اليوم، وهي تتطلب إتباعها بخطوات حاسمة لانتصار الثورة النهائي، وإن انحناء رئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، الذي استلم الرئاسة مؤقتاً، والإعلان من جانبهما عن التزامهما بالديمقراطية، وإجراء تحولات واسعة في حياة المجتمع التونسي لا يمكن الاطمئنان لها.

 فالحكومة والبرلمان الحالي لا يمكن أن يمثل الشعب، بل يمثل الجزء الأساسي من السلطة الغاشمة التي اضطهدت الشعب التونسي، وأفقرته وجوعته، وإهانته، وهي مؤسسات يعشش فيها الفساد السياسي والاقتصادي، ولا بد للشعب التونسي أن يحافظ على زخم الثورة التي دفع فيها ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة من أجلها، والذي خسر أكثر من عقدين من الزمن من حياته في متاهات الفقر والجوع والعبودية والسجون والمعتقلات.
إن على الشعب التونسي بكافة فئاته وقواه السياسية وأحزابه الوطنية التزام الحيطة والحذر من سرقة هذا الإنجاز العظيم، الذي ينبغي تدعيمه بالمتطلبات والخطوات الضرورية التالية التي لا غنى عنها:

1 ـ ينبغي تشكيل جبهة وطنية بأسرع ما يمكن تضم كل القوى والأحزاب السياسية التي ناضلت ضد دكتاتورية بن علي، وفق ميثاق وطني يتفق عليه الجميع، ويتعهد فيه الجميع بإجراء التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما يعزز التوجه الديمقراطي الحقيقي، واحترام الحريات العامة والتداول السلمي للسلطة، بموجب انتخابات ديمقراطية شفافة، على المستويين البرلماني والرئاسي، مع التأكيد على تحريم التجديد للرئاسة أكثر من دورتين برلمانيتين بأية حال من الأحوال.

2 ـ تشكيل حكومة وطنية يكون لقوى الثورة القول الفصل فيها، وتتولى الإعداد الانتخابات برلمانية ورئاسية خلال مدة لا تتجاوز الثلاثة اشهر، مع حرمان العناصر التي كانت تمثل السند لنظام بن علي الدكتاتوري وجهازه القمعي من ممارسة العمل السياسي لفترة لا تقل عن عشر سنوات، مع إحالة العناصر التي كان لها دور في اضطهاد الشعب، وسلب حرياته، وممارسة التعذيب والقتل بحق أبناء الشعب التونسي، وكذلك العناصر التي تمثل الفساد المالي والسياسي في أجهزة الدولة إلى المحاكم لينالوا جزاءهم العادل.

3 ـ ينبغي الإسراع بحل البرلمان، استعداداً لانتخاب برلمان جديد بعد 3 اشهر ، وتشكيل هيئة من رجال القانون الدستوري لإعادة النظر الجذرية بمواد الدستور، وإزالة كل المواد التي سطرها النظام الدكتاتوري لتكريس سلطته القمعية، والتأكيد على أن يتضمن الدستور الجديد الحقوق الديمقراطية للشعب التونسي، وضمان التحول الديمقراطي للبلاد، ومن الضروري أن تضع الهيئة التي ستتولى إعادة النظر في الدستور أن يتضمن الدستور الجديد كافة الحقوق والحريات التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وينبغي أن يعرض الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي بالتلازم مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

4 ـ من الضروري لنجاح وديمومة الثورة التزام القوى السياسية بالميثاق الذي تحدثنا عنه بما يضمن وحدة هذه القوى، وضمان تطبيق التحولات الديمقراطية في البلاد، وحذار ثم حذار من محاولات أية جهة من الإلتفاف على الثورة، والاستئثار بالسلطة في المرحلة القادمة، والحرص على عدم السماح بإحداث أي شرخ فيما بين القوى المنضوية في الجبهة الوطنية المرتجاة ضماناً لتحقيق الانتصار النهائي للثورة، والحرص عليها من محاولات الاختراق والتخريب والسعي للعودة بالبلاد إلى الوراء، وعودة الدكتاتورية من جديد.

5 ـ ينبغي اعادة النظر الجذرية في وضع الجهاز الأمني الذي سخره الدكتاتور بن علي لاضطهاد الشعب، على وجه الخصوص جهاز الأمن الرئاسي، وتطعيمه بالعناصر المؤمنة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، ومحاسبة كل من ساهم في عمليات التعذيب والقتل في السجون التونسية على عهد الدكتاتور، والعمل على تثقيف عناصر هذا الجهاز بوجوب احترام حقوق وحريات الشعب التونسي، وتحريم التعذيب النفسي والجسدي، واحترام الإنسان.
كما ينبغي تعزيز اللجان الشعبية التي تتولى إقرار الأمن والنظام، والتصدي لمحاولات اللصوص والمجرمين من أجهزة الأمن الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة في محاولة لتشويه الثورة، بدعم وإسناد من الجيش الوطني، لحين استتباب الأمن والسلام في ربوع البلاد، وعودة الجيش إلى ثكناته.

6 ـ ينبغي التركيز وفوراً على المسائل المتعلقة بحياة المجتمع التونسي، وفي المقدمة منها معالجة مشكلة البطالة المستعصية، وتأمين دخل للعاطلين لحين تأمين العمل لهم، وتخفيض الأسعار بما يتناسب ودخل المواطن التونسي، والتي ينبغي آن تأتي قبل إعادة النظر في مستوى الرواتب وأجور العاملين، لكي لا تتآكل الزيادات في الأجور بسبب التضخم والاستغلال من قبل العناصر الجشعة المتحفزة دوماً لرفع الأسعار كلما تمت زيادة في الأجور، لكي تمتص تلك الزيادات ربحاً صافيا في جيوبها التي لا تمتلئ أبداً.

وعلى حكومة الثورة أن تلتفت إلى مسألة تقديم الخدمات الأساسية للشعب لقاء أجور تتناسب ومدخولات المواطنين، ولا تثقل كواهلهم المثقلة أصلاً، فالثورة الشعبية لم تكن لتحدث لولا إحساس الشعب بعمق الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيش بظلها، ولولا الفساد المستشري في أجهزة الدولة، وانتشار البطالة، وخاصة في صفوف المثقفين من الخريجين الجامعيين الذين أفنوا شبابهم في الدراسة وتلقي العلم ليجدوا أنفسهم في خانة البطالة والفقر والعوز، ولا بد من إشعار الشعب بأن تضحياتهم لم تذهب سدى، وليذهب دكتاتور، ويأتي دكتاتور جديد.

وأخيراً أيها الشعب التونسي الشجاع أُناشدك الحذر ثم الحذر، والحرص الشديد على هذا الإنجاز الكبير، والسعي لتطويره وتوسيعه، من أجل تحقيق كل الأهداف التي ناضلت من أجلها، ودفعت التضحيات الجسام ليس من أجل تغيير حاكم بحاكم جديد، بل لتحقيق كل ما تصبو إليه من حياة كريمة لا مكان فيها للعوز، ولا مكان فيها لانتهاك الحريات العامة والخاصة، ومن أجل عيش رغيد.
 كل التهاني القلبية لك يا شعب تونس البطل بهذا الانجاز العظيم، وإلى تحقيق المزيد من الإنجازات الجديدة لتحقق كل الأحلام التي ناضلت من أجلها، ولتسقط الدكتاتورية مرة واحدة وإلى الأبد.

 المجد والخلود للشهيد محمد بوعزيزي مشعل شرارة الثورة.
 المجد والخلود للشهداء الذين سطروا بدمائهم الزكية هذا الإنجاز التاريخي الكبير.
الشفاء التام والعاجل لكل جرحى الثورة ليعودوا لإكمال مسيرة الثورة مع رفاقهم الشجعان.
ولتحيا تونس الخضراء جمهورية ديمقراطية تقدس الحرية وحقوق الإنسان.

273
لبنان في مواجهة العاصفة
حامد الحمداني                                                            14/1/2011

تتصاعد الأخطار المحدقة بلبنان بشكل خطير ينذر بهبوب عاصفة عاتية ما برح زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله وحليفة ميشيل عون يهددان بها منذُ أن تسربت بعض المعلومات عن المحكمة الدولية، عن قرب إعلان لائحة الاتهام لقتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، والتي أشارت إلى تورط عدد من أعضاء حزب الله الذي يتزعمه السيد حسن نصر الله، والذي أخذ يصعد تهديداته للحكومة، وقد أقلقته الأنباء باتهام حزب الله بتدبير وتنفيذ عملية اغتيال رفيق الحريري، والعديد من الشخصيات السياسية اللبنانية من الوزراء والنواب الذين جرى اغتيالهم في السنوات الخمس الأخيرة، ومخيّراً كتلة 14 آذار بزعامة السيد سعد الحريري بين الحكومة والنظام، وبين وقف المحكمة.
وجاء فشل المساعي التي بذلتها الحكومتان السعودية والسورية لاحتواء الأزمة اللبنانية لتزيد الأزمة تعقيدا ًوخطورةً، فقد بادر وزراء حزب الله، وكتلة نبيه بري رئيس البرلمان، وحليف حزب الله، وكذلك كتلة حليفهم ميشيل عون، الطامع برئاسة الجمهورية، استقالتهم من الحكومة يوم أمس، مستهدفة إسقاط حكومة سعد الحريري، ومعلوم أن المعارضة المتمثلة بـ8 آذار لها 10 مقاعد في مجلس الوزراء من مجموع 30 وزيراً، وطلب حزب الله من الوزير عدنان حسين المحسوب على رئيس الجمهورية، والمتعاطف مع حزب الله بتقديم استقالته، واستجابته للطلب حيث أدى ذلك على سقوط وزارة السيد سعد الحريري، الموجود حالياً في زيارة رسمية للولايات المتحدة، وسارع حزب الله بالطلب من رئيس الجمهورية بالمبادرة الفورية لإجراء الاستشارات مع الكتل النيابية لتشكيل حكومة لبنانية جديدة، في سباق مع الزمن قبل صدور القرار الظني من قبل المحكمة الدولية، حيث توشك المحكمة الدولية المختصة بقضية اغتيال رقيق الحريري والعديد من كبار السياسيين اللبنانيين إلى إصداره بين لحظة وأخرى.

ماذا بعد سقوط وزارة الحريري؟
جاءت عملية حزب الله بإسقاط حكومة الحريري في غيابه لتعقد المشهد السياسي، ولتضع الشعب اللبناني في دوامة القلق الخوف مما تخبئه له الأيام، وهو الذي كانت له تجربة مفزعة مع حزب الله عام 2007 عندما احتلت مليشياته بيروت والجبل، ووقوع مئات القتلى، وكادت تلك الحركة من حزب الله أن تؤدي إلى كارثة الحرب الأهلية لولا تدرك الجهود العربية الموقف، وجمع الطرفين المتصارعين، كتلة 14 آذار، وكتلة 8 آذار، في مؤتمر الدوحة الذي أدى على حلول جزئية للأزمة، حيث جرى الاتفاق على اختيار قائد الجيش ميشيل سليمان رئيساً توافقياً للجمهورية، وتشكيل حكومة جديدة قلقة التوازن لتفادي الحرب الأهلية، وجاءت الوزارة بأربعة وثلاثين وزيراً، عشرون وزيراً لكتلة 14 آذار، و10 وزراء لكتلة 8 آذار، وأربعة وزراء محسوبين على رئيس الجمهورية، للحيلولة دون أن يكون لكتلة 8 آذار الثلث المعطل القادر على إسقاط الحكومة.
 لكن واقع الحال أثبت هشاشة ذلك الحل، فالوزراء الأربعة المحسوبين على رئاسة الجمهورية اثنان منهم فقط هم الذين اختارهم الرئيس فعلاً، والفريقان المتخاصمان اختار كل منهم وزيراً مستقلاً بالأسم، ومتعاطفاً في الواقع كل مع جهته التي اختارته. هكذا إذاً تعقدت الأزمة اللبنانية بشكل خطير، وبات مصير شعب لبنان على كف عفريت، وهو يتطلب معجزة لخروجه منها بسلام.
وهنا يتبادر إلى الأذهان الأسئلة التالية:
ماذا سيكون موقف الرئيس سليمان من الأزمة الجديدة؟
هل سيقبل الرئيس سليمان استقالة كتلة حزب الله، وكتلة نبيه بري، وميشيل عون؟
هل سيقبل الرئيس سليمان استقالة الوزير المحسوب عليه عدنان حسين؟
هل  سيقدم رئيس الوزراء الحريري استقالة حكومته؟
وإذا ما تم استقالة الحكومة، فمن سيشكل الحكومة الجديدة؟

معلوم أن كتلة 14 آذار لها الأغلبية المطلقة في البرلمان، وعليه فإن من يشكل الحكومة الجديدة ينبغي أن يكون من صفوف كتلة 14 آذار بموجب أحكام الدستور، أي أن رئيس الجمهورية ملزم بتكليف الحريري أو من يمثله مرة أخرى، وهو لا يستطيع تجاوزه.
وإذا ما دعاه لتشكيل الحكومة، وجرى تشكيل حكومة من قبل الأكثرية المتمثلة بكتلة 14 آذار برئاسة الحريري، فستبرز مرة أخرى مخاوف غلق البرلمان من قبل الرئيس نبيه بري، كما جرى فيما مضى حيث بقي البرلمان معطلاً قرابة السنتين، ليبقى لبنان دون حكومة دستورية، أي حكومة تصريف أعمال، وقد تلجأ قوى المعارضة إلى احتلال شوارع وساحات بيروت مرة أخرى، وقد تلجأ في نهاية المطاف إلى السلاح لحل ألازمة السياسية التي أشعلها حزب الله، تماماً كما فعل فيما مضىى عام 2007، فكل الاحتمالات مفتوحة نحو تصاعد الأزمة بانتظار صدور القرار الظني من المحكمة.

ماذا لو نفذ السيد حسن نصر الله تهديداته واستولى على السلطة؟

هل ستسلم قوى الأكثرية بالواقع الذي يفرضه حزب الله بقوة السلاح؟
ماذا سيكون موقف حكام اسرئيل من سيطرة حزب الله على لبنان؟
هل يمكن أن تبقى الأزمة محصورة في حدود لبنان، أم ستمتد إلى سوريا وغزة إذا ماذا لو اشتعلت الحرب بين حزب الله وإسرائيل؟
ماذا سيكون موقف إيران أذا نشب الصراع المسلح في المنطقة؟
ماذا سيكون موقف الدول العربية من تطورات الأزمة؟
ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إذا ما اندلع صراع مسلح؟
أسئلة كثيرة تتطلب الجواب حيث أن لبنان بات مهدداً بالحرب الأهلية من جهة وبالحرب مع إسرائيل من جهة أخرى ، واحتمال أن تنجر سوريا وإيران إليها.
أغلب الظن أن الرئيس سليمان واقع في مأزق، فمن ناحية دستورية من حق أي وزير أو كتلة أن تنسحب من الوزارة، وتلك مسألة تتعلق بالديمقراطية، وحرية المشاركة في السلطة، وهو إذا ما عجز عن إقناع المستقيلين بالعودة عن استقالتهم، فسوف تعتبر الحكومة بحكم المستقيلة، وسيبدأ الرئيس سليمان بمشاوراته لتشكيل الحكومة الجديدة مع سائر الكتل النيابية، وطبيعي أن قوى 8 آذار لا تمتلك الأكثرية التي تؤهلها لتشكيل الحكومة، وبالتالي فلا بد من دعوة زعيم الأكثرية في البرلمان الحريري، أو من يختاره من بين كتلته لتشكيل الحكومة الجديدة.
وستذهب الحكومة التي ستشكلها الأكثرية إلى البرلمان وهي تمتلك الأغلبية المطلقة، فهل ستسمح قوى 8 آذار بعقد الجلسة للبرلمان، أم سيحول السيد بري دون التئام المجلس، كما جرى فيما مضى، وعند ذلك ستبقى حكومة الحريري في السلطة كحكومة تصريف أعمال لا غير.
وإذا ما استمر الحال على وضعه فلن يبقَ مجال لحل الأزمة المستعصية، مهدداً باندلاع الحرب الأهلية بما تمثله من إخطار جسيمة على الشعب، والذي ما زالت في ذاكرته مآسي وويلات الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، واستمرت 15 عاماً، وذهب ضحيتها عشرات الألوف، وهجرة مئات الألوف من شباب لبنان.

ومن المؤكد أن إسرائيل تراقب الوضع في لبنان بكل جوانبه، وأنها لن تدع حزب الله بما يمثله من قوة عسكرية مدعومة إيرانيا تسليحاً وتمويلاً يسيطر على لبنان، لكي تصبح بين فكي كماشة طرفاها حزب الله في الشمال، وحركة حماس في الجنوب بغزة، وستتخذ من أي تطورات في لبنان لصالح حزب الله ذريعة لأشغال الحرب في المنطقة.
وإذا ما اشتعلت الحرب، فأغلب الظن لن تبقَ محصورة في حدود لبنان وإسرائيل وغزة، وستجد سوريا وإيران نفسيهما متورطتان في معمعان الحرب، وستغيّر الحرب الأوضاع في المنطقة.
ومن الطبيعي أن يكون موقف الولايات المتحدة، وحلفائها الغربيين داعماً للموقف الإسرائيلي بكل تأكيد، وسيكون رد فعلها يتناسب تبعاً لتطورات الصراع في المنطقة، فإسرائيل في واقع الأمر ما هي إلا القاعدة الأمريكية المتقدمة في الشرق الأوسط لحماية مصالحها ومصالح حلفائها الغربيين في هذه المنطقة الهامة من العالم التي تمتلك أكثر من نصف الثروة النفطية التي تمثل عصب الحياة للغرب.
وهناك احتمال بتدخل عدد من الدول العربية المرتبطة بالسياسة الأمريكية في الصراع باشكال مختلفة، ولاسيما وان أغلبية الدول العربية تتوجز الخيفة من سيطرة حزب الله على الحكم في لبنان، والتمدد للنفوذ الإيراني  في المنطقة.
يبقى الأمل في أن لا ينزلق حزب الله  أكثر فأكثر في الصراع الجاري سلمياً لحد الآن، لكي لا يتحول الصراع إلى كارثة مخيفة ليس على لبنان فحسب، بل على سائر بلدان المنطقة، فالنار يمكن أن تشتعل بعود ثقاب، لكنها أذا ما امتدت فإن إطفائها سيكون عسيراً، وأغلب الظن ستكون حاسمة للصراع، وسيتحمل الطرف الذي أشعلها مسؤولية نتائجها بكل تأكيد.
                    حامد الحمداني
www.Hamid-alhamdany.blogspot.com
 



274
مكافحة الإرهاب يتطلب حملة مشتركة واسعة
على المستوى العالمي
حامد الحمداني                                       3/1/2011

 المخاطر التي يتعرض لها عالمنا اليوم بسبب انتشار موجات الإرهاب في مختلف البلدان باتت خطيرة جداً جراء الفقر والجوع والبطالة لمئات الملايين من البشر، وتنامي الفكر الديني المتطرف والمتخلف، والذي أساء إساءة بالغة للإسلام، وأدى إلى تبدل كبير في النظرة إلى الإسلام والمسلمين لدى جانب كبير من الشعوب التي أخذت تتوجس الخيفة والحذر من كل عربي مسلم بعد أن تصاعدت الأعمال الإجرامية التي يقترفها هؤلاء المهوسون اللذين يجري غسل أدمغتهم من قبل أولئك الذين لبسوا جلباب الدين، وجعلوا من أنفسهم منظرين لا ينطقون عن الهوى، بل من وحي يوحى !!، ودفعوا بهؤلاء المهوسين الجهلاء للقيام بأعمالهم الإجرامية لقاء وعد بالجنة والحور الحسان والغلمان، متجاهلين أن الإسلام ينهى عن قتل الأبرياء ويعد القتلة بعقاب شديد وعذاب أليم، كما ورد في نصوص العديد من الآيات القرآنية الصريحة التي لا تقبل الاجتهاد والتفسير الكيفي الذي يمارسه هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم منظرين للدين ويفلسفون جرائهم البشعة بكونها جهاد في سبيل الله!، فأي جهاد هذا الذي يحصد أرواح الأبرياء نساءً ورجالاً وأطفالا؟
وتخطئ الدول التي يعتقد قادتها أن الوقوف على الحياد تجاه الإرهاب الذي يشهده العراق بصورة خاصة، والعديد من الدول الأخرى بصورة عامة، يمكن أن يجنبها المخاطر، ويجعلها في مأمن من الجرائم البشعة التي نشهدها اليوم في العراق، فلم يعد الإرهاب في هذا العصر مقتصراً على منطقة بعينها، أو دولة بذاتها، بل هو اليوم بات يمثل شبكة دولية واسعة الامتداد في معظم دول العالم، ولدى هذه الشبكة الدولية الخطيرة نوعان من الخلايا، النوع الأول يتمثل بالخلايا الفعّالة، والنوع الثاني يتمثل بالخلايا النائمة.
والخلايا الفعّالة هي التي تمارس الأعمال الإرهابية بشكل فعلي حالياً كما يجري في العراق، حيث تشهد الساحة العراقية بصورة يومية أبشع الجرائم من السيارات المفخخة، وزرع المتفجرات، واختطاف المواطنين والأجانب الذين يعملون في مختلف المشاريع، والاغتيالات بالأسلحة الكاتمة للصوت التي تطال المواطنين من المسؤولين والعلماء وأساتذة الجامعات على حد سواء، والتي مارست هذه العصابات الإرهابية عملية ذبح المخطوفين على الطريقة الإسلامية البشعة بقطع رؤوس ضحاياها، وصورت تلك المشاهد الوحشية بالفيديو وعرضتها عبر الإنترنيت على العديد من المواقع التي تسمي نفسها إسلامية !!، والتي تمثل أكبر إساءة للإسلام كدين، بغية إرهاب المواطنين، ومن أجل تحقيق أهدافها الشريرة.

أما الخلايا النائمة فهي تلك التي تنتشر في مختلف بلدان العالم لكنها تتخفى آناً لتظهر على حين غرة، وتضرب ضربتها الجبانة كما حدث في  الولايات المتحدة واسبانيا واندونيسيا والباكستان والهند وكينيا والمغرب والسعودية وبريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا، وأخيراً في السويد وفي مصر ضد الكنيسة القبطية في الإسكندرية في عيد راس السنة الجديدة، حيث ذهب ضحية ذلك الهجوم الإجرامي 22 شهيداً و97 جريحاً، و تبقى هذه الخلايا  النائمة في مختلف بلدان العالم جاهزة للقيام بالأعمال الإرهابية متى طُلب منها ذلك، وهي تمثل الطابور الخامس في الدول المتواجدة فيها، والتي  يمكنها في أي لحظة أن تنفذ جرائمها البشعة.
إن محاولة بعض الدول الأوربية والآسيوية اتخاذ الحياد سياسة لها، لتتجنب العصابات الإرهابية ينم عن قصر نظر سياسي خطير، فلن تكون هذه الدول في منأى عن الإرهاب مستقبلاً، ولا بد أن تصيبها يوماً ما سهام تلك العصابات التي أعمى الحقد قلوبها، وأعمى التعصب الديني والتخلف بصيرتها، بحيث أصبحت أداة طيعة تنفذ إرادة قادتها بعد أن تم غسل أدمغتها، وتم إشباعها بالفكر السلفي الرجعي المتخلف، ووعد الانتحاريين القتلة  بالجنة !، وبالحور الحسان !.
وإزاء هذه الحالة الخطيرة التي باتت تهدد المجتمع الدولي لا بد من طرح الأسئلة التالية، وتسليط الضوء عليها:
 1ـ ما هي العوامل التي أدت إلى انتشار هذا الفكر الديني المتخلف والإجرامي؟
 و من ساهم في بعث هذا التوجه ومهد له البيئة الصالحة للانتشار، ولماذا؟
 2ـ ما هو السبيل الناجع للتصدي للإرهاب بشقيه المادي، والفكري؟
وللإجابة على هذه التساؤلات أستطيع تحديدها بالتالي:
أولاً: إن أهم العوامل التي ساعدت على انتشار الفكر الديني المتطرف والمتخلف هو السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة بين المعسكرين قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد شجعت الولايات المتحدة وجندت الكثير من تلك العناصر للجهاد ضد الشيوعية، كما كانت تسميه آنذاك، فكان أن وجدنا انتشار مجموعات كثيرة من هؤلاء الإسلاميين المتزمتين والمتطرفين في مختلف مناطق الصراع بين المعسكرين، فكان الأفغان العرب، والبوسنيون العرب، والشيشانيون العرب، والكوزفيون العرب، وغيرهم من المجموعات الأخرى التي جندتها الولايات المتحدة في حربها ضد الشيوعية، وكانت الولايات المتحدة ترعى هذه المجموعات، وتجهزها بكل المتطلبات القتالية والرواتب، وتضغط على حكام بعض البلاد العربية ، وفي المقدمة منها السعودية، للمساهمة في نفقات تجنيد هؤلاء، وليس [أسامة بن لادن] وزمرته سوى نتاج تلك السياسة الأمريكية.

ولم تلتفت الولايات المتحدة إلى حقيقية أن تجنيد هؤلاء، بالرغم من عملهم في خدمة الجهد الأمريكي في صراعها مع الشيوعية آنذاك، فقد كان هناك جانباً سلبياً لتنامي هذه المجموعات المتطرفة شكل خطراً جسيماً على الولايات  المتحدة نفسها، وعلى العالم اجمع، حيث تنتشر هذه المجموعات في مختلف بلدان العالم، وفي متناولها المتفجرات ومختلف أنواع الأسلحة، وأصبح الاتصال فيما بين هذه المجموعات وقادتها أمراً يسيراً وسريعاً جداً في عصر الإنترنيت، وأصبح بإمكان هذه المجموعات المتطرفة الحصول على المعلومات التي تمكنها من إعداد المتفجرات والسيارات المفخخة، وهناك مخاطر من حصولها على أسلحة كيماوية أو جرثومية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل التي باتت تقضُّ مضاجع مختلف دول العالم، وتثير القلق والرعب في نفوس مواطنيهم .

ومما يزيد في الطين بله موقف الولايات المتحدة من حقوق الشعب الفلسطيني ودعم مواقف إسرائيل في المحافل الدولية على الرغم من الممارسات العدوانية غير الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من مواصلة حكومة نتنياهو مواصلة بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وإفشال مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية،  مما يشجع العناصر المتطرفة التي تتخذ من تصرفات الولايات المتحدة وإسرائيل المتجاهلة لحقوق الشعب الفلسطينية ذريعة لممارسة نشاطها الإرهابي .
 إن على الولايات المتحدة أن تعي هذه الحقيقية، وتقف موقفاً منصفاً من قضية الشعب الفلسطيني الذي يلاقي أبشع أنواع الاستعمار الاستيطاني، ويقدم المزيد من الضحايا كل يوم من أجل تحرره واستقلاله.
إن الاستمرار على هذه السياسة المنحازة لإسرائيل، وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني يخلق مرتعاً خصباً لنشاط المتطرفين من كلا الجانبين الديني والقومي، وأن الحل الوحيد والصائب هو تحقيق انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بصورة كاملة، ومن هضبة الجولان السورية، وإقامة دولة فلسطينية لها مقومات البقاء والاستمرار، وتقديم الدعم والمساعدات اللازمة لإعادة البنية التحتية المخربة في المناطق الفلسطينية، ومعالجة مشكلة  البطالة المنتشرة في صفوف الشعب الفلسطيني الذي يعاني من فقر مدقع لا يمكن تحمله، لدرجة أن أكثر من 70% من الفلسطينيين قد أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر.

ثانياً: دعم الولايات المتحدة للأنظمة الدكتاتورية المرتبطة بها، وتجاهلها لاضطهادهم لشعوبهم يخلق البيئة المناسبة للتطرف والإرهاب، عندما يصبح من المستحيل إصلاح الأوضاع السياسية واستعادة الحريات المسلوبة، وعليه فعلى الولايات المتحدة،إن هي أرادت حقاً وصدقاً مكافحة الإرهاب، أن تمتنع عن دعم أي حكومة تمارس القمع تجاه شعوبها، أو العدوان على الشعوب الأخرى، وفي المقدمة من تلك الدول إسرائيل التي تضطهد الشعب الفلسطيني، وتمارس التقتيل وهدم البيوت، واعتقال المواطنين دون تهمة ولسنوات عديدة. 

ثالثاً: إن معالجة التطرف الديني والطائفي والقومي ينبغي أن ينطلق من معالجة أسباب نشوئه وانتشاره، وإن اللجوء إلى استخدام وسائل القمع لملاحقة الإرهابيين وحده لا يحل المشكلة إطلاقاً، ولا بد من معالجة المشكلة من جذورها، ومعالجة مشكلة الفقر المنتشرة بشكل رهيب.
 فهناك بوناً شاسعاً في مستوى معيشة السكان بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، كما ينبغي معالجة مشكلة البطالة التي تخلق البيئة الصالحة للإرهاب، وأن على البلدان الغنية أن تخصص جانباً من ثرواتها المتراكمة لمعالجة هاتين الآفتين الخطيرتين، الفقر والبطالة، وعن هذا الطريق نستطيع أن نحقق حياة كريمة للشعوب الفقيرة، والتي ستكون بكل تأكيد عاملاً حاسماً في الحد من النشاط الإرهابي ومن ثم تلاشيه.

رابعاً: أن معالجة الإرهاب الفكري والذي بدوره يهيئ البيئة المناسبة للإرهاب لا يمكن أن يتم دون إشاعة الديمقراطية الحقيقية وصيانة الحقوق والحريات العامة، والحيلولة دون أي انتهاك لهذه الحريات من قبل الحكام، والحرص على مبدأ التداول السلمي للسلطة على أساس الورقة الانتخابية، وتحت الأشراف الدولي النزيه، للحيلولة دون قيام أنظمة حكم دكتاتورية، وعلى الأمم المتحدة أن تأخذ على عاتقها هذه المهمة، وأن تعمل على جعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ من القانون الدولي الذي ينبغي أن تلتزم به الدول كافة صغيرها وكبيرها دون استثناء.
 وبذلك يصبح ملزماً لسائر الحكومات المنضوية تحت راية الأمم المتحدة تطبيق بنود هذا الإعلان العالمي الهام جداً لضمان حقوق وحريات الشعوب، ومنع قيام أنظمة دكتاتورية شمولية تضطهد شعوبها من أجل أن تبقى في سدة الحكم عقوداً عديدة دون وجه حق.
خامساً:إن اخطر الوسائل التي تستعين بها قوى الإرهاب والتطرف الديني هي
وسائل الإعلان المرئية والمسموعة والمكتوبة، فهناك مئات القنوات الفضائية التي يديرها منظروا الإرهاب لنشر التخلف والكراهية والعدوان باسم الدين، والتي تنشر سمومها في صفوف الجهلاء من الفقراء والعاطلين عن العمل، والذين يعيشون حياة بائسة لحد اليأس، ويقبلون على الانظمام إلى هذه المنظمات الإرهابية، حيث لا يقيمون للحياة وزناً، وهذا يتطلب من سائر الدول العمل على وقف هذه القنوات الفضائية، وسمومها الخطيرة، كما ينبغي مراقبة مواقع الانترنيت التي تعد بعشرات الألوف، والتي تتخذ من الدين ستاراً لها، لتدعو إلى الإرهاب والجريمة، والعمل على وقفها، والحيلولة دون إصدار الكتب والنشرات التي تصب في خانة الإرهاب مع الحرص على احترام الحريات العامة وعدم المساس بها بأي شكل من الأشكال.
وعلى مختلف الدول الإسلامية أن تعيد النظر في مناهجها الدراسية، وتشذيبها من كل ما يدعو من قريب أو بعيد إلى الكراهية الدينية والتعصب الديني والقومي والطائفي، والحرص على أن تركز المناهج الدراسية على الحرية والديمقراطية وتآخي الشعوب، ومحبة الأنسان لأخيه الإنسان، ورفض التعصب والكراهية.
وأخيرا لا بد من فصل الدين عن الدولة، والحيلولة دون استخدام الدين وسيلة للعمل السياسي، كي يبقَ الدين منزهاً ونقيا. 
ومن كل ما سبق نستطيع القول أن الخلاص من الإرهاب وتحقيق الأمن والسلام في العالم أجمع لا يمكن أن يتم دون مكافحة الفقر والبطالة على المستوى العالمي من جهة، ودون قيام أنظمة ديمقراطية حقيقية تحترم إرادة الشعوب، وكامل حقوقها وحرياتها، وأن تحقيق ذلك يتطلب أن تمارس هيئة الأمم المتحدة دورها الرئيسي والفعّال في هذا المجال.






275
حكومة المالكي الجديدة ومحنة الشعب والوطن!
حامد الحمداني                                                         29/12/2010
من غرائب الأمور أن يتحدث رئيس الوزراء السيد نوري المالكي في حفلة تنصيبه وتشكيل الحكومة العراقية العتيدة بقوله أنه غير راضي عن تشكيل هذه الحكومة!،  بل وأضاف أن لا أحداً راضٍ بها، وتلك هي المهزلة الكبرى.
وفي واقع الأمر إن ما قاله المالكي  يمثل الحقيقة المرة، فقد تشكلت الحكومة بعد مخاض عسير دام ثمانية أشهر من الصراع بين المالكي وعلاوي، ونتيجة لإصرار المالكي على التمسك بمنصب رئاسة الوزارة مهما كانت الوسائل والسبل، فقد أخذ الطرفان المتصارعان على السلطة يمارسان عملية المساومات  مع بقية الكتل السياسية لضمان الحصول على دعم كتلهم في المجلس النيابي، وطبيعي أن تلك المساومات جاءت على حساب الشعب والوطن، حتى بات الشعب والوطن أشبه بملكية شخصية للمتصارعين المالكي وعلاي، واشتدت التدخلات والضغوط الإقليمية والدولية لدعم المتنافسين، وبدأت التنازلات التي قدمها المالكي لقادة الكتل السياسية تتوالى، فقد تعهد  لمقتدى الصدر بإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين من أعضاء ما يسمى بجيش المهدي الذين ارتكبوا أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي خلال الحرب الأهلية التي أشعلوها عامي 2006 و2007، والتي استهدفت تفريغ بغداد من أبناء الطائفة السنية، وبالفعل تم تهجير 4 ملايين مواطن عراقي من ديارهم هرباً من الموت على أيدي هؤلاء القتلة المجرمين وبينهم 160 عنصراً محكوم عليهم بالإعدام من قبل المحاكم العراقية، وزاد المالكي بأن منح للكتلة الصدرية 5 وزارات بينها منصب نائب رئيس الوزراء مكافئة لهم على جرائمهم بحق الشعب والوطن، متناسيا عشرات الألوف من الضحايا الذين فقدوا أرواحهم على أيديهم.
ومن جهة أخرى مارست القيادة الكردية ضغوطها على المالكي لكي يوقع لها على تنفيذ قائمة ضمت 19 عشر بنداً من المطالب لقاء تأييد ترشيحه لرئاسة الوزارة، من بينها فرض إعادة انتخاب السيد جلال الطالباني رئيساً للجمهورية، وإعادة تعيين السيد هوشيار زيباري وزيراً للخارجية، وضم مدينة كركوك والمناطق التي دعيت بالمتنازع عليها، والتي تضم نصف محافظة الموصل وديالى لدولة السيد البارزاني، بالإضافة إلى الاعتراف بعقود النفط التي وقعتها حكومة البارزاني خلافاً للدستور والقانون، ومسألة تمويل قوات البيشمركة وتسليحها من الميزانية الاتحادية، علماً أن هذه القوات الكردية لا تتلقى أوامرها من القائد العام للقوات المسلحة الذي هو رئيس الوزراء المالكي، بل من قبل رئيس الاقليم البارزاني، وغيرها من المطالب الأخرى التي تضمنتها ورقة السيد البارزاني، وكل ذلك من أجل أن تصوت الكتلة الكردية لتولي المالكي منصب رئيس الوزراء، وهكذا باتت مصالح الشعب والوطن سلعة يتاجر بها السيد المالكي.
ومما زاد في الطين بلة أن قادة الكتل السياسية قد فرضوا على المالكي توزير شخصيات غير معروفة بكفاءتها، ولم يستطع المالكي الذي أحرجه الوقت لتشكيل الوزارة رفض الوزراء المفروضين عليه، واضطر للرضوخ والقبول بهم ، وهذا هو السبب الذي دفعه للقول عن عدم رضائه عن تشكيل الوزارة الجديدة، ولا احد رضي عنها.
فإذا كان السيد المالكي غير راضٍ عن الوزارة، فهو الذي سيتحمل بكل تأكيد مسؤولية النتائج التي ستتمخض عنها أعمال وزارته التي جاءت نسخة من الوزارة السابقة حيث المحاصصة الطائفية والعرقية هي التي جرى تأليف الوزارة بموجبها، والتي تفتقد الكفاءة والانسجام الذي تتطلبه المرحلة الحرجة التي يمر بها  العراق.
كيف سيحكم السيد نوري المالكي العراق؟
وكيف يستطيع أن يلبي الشروط المفروضة عليه؟
وكيف يستطيع إيصال السفينة التي يقودها 42 ملاحاً إلى شاطئ السلام؟
فإن استجاب السيد المالكي لشروط القادة الكرد حول ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها فسينهار ائتلافه الوزاري عاجلاً أم آجلا، وسيخسر إلى الأبد أي انتخابات برلمانية يخوضها مستقبلاً، وسيدمغ الشعب العراقي حكمه بكونه قد فرط بمصالح الشعب والوطن، وتنكر للقسم الذي اقسمه حين تولى رئاسة الوزارة.
وفيما يخص عودة عصابة جيش المهدي السيئة الصيت إلى الواجهة من جديد بعد العفو عنهم، فسوف يعني ذلك استمرار حالة الفوضى في البلاد، واستمرار الإرهاب بكل اشكاله وصوره، النفسية منها والجسدية، لينخر بالمجتمع العراقي من جديد، وهذه العصابة المجرمة على الرغم من ضغط ملالي طهران على زعيمهم مقتدى الصدر لتأييد ترشيح المالكي لرئاسة الوزارة، إلا إن هذه العصابة لن تغفر للسيد المالكي حملته العسكرية التي خاضها ضدهم في البصرة ومدينة الثورة.
 والمالكي نفسه كما اعتقد ينتابه نفس الشعور تجاه هذه العصابة التي أوشكت أن تصفيه مع كل أفراد حمايته في معارك البصرة، بعد أن حاصرته تلك العصابة، لولا تدخل القوات العسكرية الأمريكية التي استطاعت فك الحصار المحكم حوله وإنقاذه من موت محقق، هو وسائر حمايته ومرافقيه.
كيف سيستطيع المالكي قيادة الدولة، وبناء مؤسساتها المدنية منها والعسكرية وهو الذي يعتمد على كادر يضم الآلاف من المزورين لشهاداتهم، والتي أدانتهم هيئة النزاهة المشكلة من قبل حكومة المالكي نفسها، وقدمت ما يزيد على 2500 من المزورين الذين يتبوأون أعلى المناصب في أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية، من وزراء ونواب ومدراء عامين، همهم الشاغل كيف يغرفون من المال العام في أقصر وقت ممكن لكي يتحولوا إلى ملياديرية العهد الجديد!! بعد أن كان معظمهم يعيش على المساعدات الاجتماعية في بلدان اللجوء بأوربا وأمريكا !!.
ومن المفارقات العجيبة أن يسعى رئيس الوزراء المالكي إلى إصدار عفو عن هؤلاء المزورين الذين مكانهم الطبيعي ينبغي أن يكون السجن بجريمة مخلة بالشرف، فهؤلاء الفاسدين المزورين لا يمكن أن يبنوا بلداً على الإطلاق، بل يزيدوا في تخريبه.
ثم أن محاولة السيد المالكي بإصدار عفو عنهم تشكل أكبر إساءة لسمعته باعتباره يغطى على المزورين والفاسدين، وهذا العمل بحد ذاته يحاسب عليه القانون، حتى لمجرد التستر عليهم فما بالنا والمالكي يريد استصدار عفو عنهم لكي يشجعهم ويشجع غيرهم على نفس السلوك.
لقد غدت شهادات الدكتورا تباع في سوق مريدي، وفي قم بأبخس الأثمان لهؤلاء الأميين الجهلة لذي لا يمتلكون أية مؤهلات تؤهلهم لشغل المناصب التي يتمتعون بها حالياً بعلم وقبول السيد المالكي. وهذا ما دفع العديد من حملة شهادة الدكتورا إلى الدعوة لحرق شهاداتهم بصورة علنية في ساحة الفردوس احتجاجاً على موقف رئيس الوزراء المالكي.
لقد باتت دولة العراق كما وصفها الشاعر بحر العلوم تماماً ، حيث قال:
   دولة يُؤجر فيها كل أفـاكٍ عنيدِ
أجره لا عن جهودٍ بل لتعطيل الجهودِ
العراق اليوم في أزمة خانقة لا فكاك منها، والشعب العراقي في محنة يصعب الخروج منها، وهو في وادٍ وحكومته وبرلمانه في وادٍ آخر يفصل بينهما جبال شاهقة، وستمضي الأيام والأشهر والسنين، والشعب يتملكه الدوار والحزن والأسى والندامة، فهو الذي يتحمل مسؤولية وصولهم إلى قمة السلطة دون أن يتعلم الدرس من الانتخابات السابقة، وقديماً قيل: المرء لا يلدغ من جحرٍ مرتين، لكن الشعب لُدغ ثلاث مرات دون أن يتعض!!.
موقع حامد الحمداني الجديد
www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com

276
أهمية اختبارات الذكاء في تحديد مستقبل أبنائنا
حامد الحمداني                                                           25/12/2010

ماذا يقصد بالذكاء؟
الذكاء كما هو معلوم، القدرة على التعلم واكتساب الخبرات، وكلما زاد الذكاء، كلما زادت القدرة على التعلم، وطبيعي أن الأطفال جميعاً يختلفون بعضهم عن بعض بنسبة الذكاء، كاختلافهم في القدرة الجسمية سواء بسواء.
ولقد كان العلماء فيما مضى يهتمون بكمية الذكاء لدى الطفل بصورة عامة، إلا أن الأبحاث الجديدة كشفت أن للذكاء أنواع متعددة، فقد نجد تلميذاً متفوقاً في الرياضيات، ولكنه ضعيف في الإنشاء والتعبير. إن لاختبارات الذكاء أهمية قصوى وينبغي أن تأخذها مدارسنا بالحسبان لكي تستطيع أن تؤدي عملها بنجاح .

ماذا تكشف لنا اختبارات الذكاء؟
1ـ تعرفنا هذه الاختبارات إن كان تحصيل التلميذ متفقاً مع قدراته، أم أن تحصيله أقل من ذلك، وإلى أي مدى؟
2ـ تساعدنا على تقبل نواحي النقص أو الضعف لدى التلميذ
 فلا نضغط عليه، ولا نحمله ما لا طاقة له به، فيهرب من
  المدرسة، ويعرض مستقبله للضياع.
3ـ تساعدنا على تحديد نواحي الضعف وإمكانية معالجتها.
4ـ توضح لنا الفروق الفردية بين التلاميذ، ولهذا الأمر أهمية بالغة جداً، لا يمكن لأي معلم ناجح الاستغناء عنها.
5ـ تساعدنا هذه الاختبارات على تحديد نواحي القوة والتفوق لدى التلميذ، والتي يمكن الاستعانة بها على معالجة نواحي الضعف لديه .
6- تساعدنا هذه الاختبارات على توجيه التلميذ الوجهة الصحيحة، فلا يكون معرضاً للفشل وضياع الجهود والأموال. (25)
وهكذا يتبين لنا أن الاهتمام بمثل هذه الاختبارات يتسم بأهمية كبيرة إذا ما أردنا النجاح في عملنا التربوي، وتجنبنا إضاعة الجهود، وحرصنا على أحوال التلاميذ النفسية، وجنبناهم كل ما يؤدي إلى الشعور بالفشل، وضعف الثقة بالنفس، وعدم القدرة، والشعور بالنقص، وربما يلجأ التلميذ إلى الهروب من المدرسة إذا ما وجد نفسه غير قادر على القيام بواجباته المدرسية شأنه شأن بقية زملائه في الصف.
أنواع اختبارات الذكاء:

 أولاً: نوع يقيس القدرة العقلية بصورة عامة:
(26)

يوضح لنا هذا النوع من الاختبارات العلاقة بين [العمر العقلي]و[العمر الزمني]للتلميذ، وتعبر عنه هذه النتيجة بـ [ نسبة الذكاء ]  حيث تقاس نسبة الذكاء بحاصل قسمة العمر العقلي على العمر الزمني مضروباً في 100،  فلو فرضنا أن طفلاً عمره الزمني يعادل 10 سنوات، وأن نتائج اختبارات الذكاء بينت أن عمره العقلي يعادل 9 سنوات فإن نسبة الذكاء لديه تساوي 90% . ومن الواضح أن التلميذ المتوسط تكون نسبة ذكائه 100 %، فمن كان نسبة ذكائه ما بين 80 إلى 90% كان ذكاء ذلك التلميذ دون المتوسط. ومن كان نسبة ذكائه من بين 90 إلى 110 فهو متوسط الذكاء .
ومن كانت نسبة ذكائه ما بين 110 إلى 120 كان ذكياً
ومن كانت نسبة ذكائه ما بين 120 إلى 140 كان ذكياً جداً .
ومن كان نسبة ذكائه ما فوق 140 كان التلميذ عبقرياً.

ثانيا: نوع يقيس الأنواع المختلفة للقدرات العقلية:
 وهذا النوع يبين لنا موطن الضعف، وموطن القوة، إلى جانب الذكاء الكلي، وطبيعي أن هذا النوع أدق من الاختبار الأول.
كان علماء النفس  يعتقدون أن نسبة الذكاء ثابتة، وغير قابلة للتغيير، ولا زال البعض منهم يأخذ بهذه الفكرة، غير أن الدلائل تشير إلى أن النمو في قدرة الطفل العقلية لا تسير على وتيرة واحدة، ولا بشكل منتظم، بل تتخلله حالات من البطء، وحالات من السرعة، وهي تتوقف على طبيعة النمو  وعوامله المختلفة.
إن الذكاء يتأثر حتماً بالتفاعل بين عاملي [الوراثة] و[البيئة] وإذا ما تبين أن ذوي التلميذ لا يعانون من أي عوق أو تخلف عقلي أو اضطرابات نفسية، وإذا ما توفرت البيئة الصحية والطبيعية الملائمة، فإن النمو يجري على أحسن الوجوه.
غير أن هناك حقيقة لا ينبغي إغفالها أبداً وهي أن اختبارات الذكاء قد لا توصلنا إلى حد الكمال، وذلك لوجود عوامل مختلفة تؤثر على مدى دقتها كالمرض، والاضطراب النفسي، والخبرة التي اكتسبها الطفل من بيئته، لأنها جميعاً تلعب دوراً مهماً في الموضوع.
وعلى كل حال يمكننا أن نحصل على النتائج المفيدة إلى حد بعيد إذا ما كانت الاختبارات التي أجريناها دقيقة، وإذا ما أخذنا في الاعتبار جميع العوامل المؤثرة في هذا المجال،  وينبغي لنا أن نؤكد على أن نجاح التلميذ في اختبارات الذكاء لا يعني أنه لن يفشل في دراسته العليا، إذا ما اجبرالتلميذ على دراسة فرع لا يرغب به، وليست له القدرة عليه.
 ولذلك لابدّ أن تكون هناك اختبارات أخرى تحدد لنا الاتجاه الذي ينبغي للتلميذ أن يسلكه.

ثالثاً: اختبار القدرات
وهذا النوع من الاختبارات له أهمية خاصة، حيث أنه لا يعطينا فقط مستوى قدرة التلميذ في مجال ما، في الوقت الذي جرى فيه الاختبار، وإنما يتعداه إلى كشف المستوى الذي يمكن أن تبلغه قدراته في هذا المجال، إذا ما نال من مربيه في البيت والمدرسة، الرعاية والعناية اللازمتين.

الأنواع الشائعة لهذه الاختبارات:
1ـ الاختبار في القدرة الموسيقية.
2 ـ الاختبار في القدرة الفنية، من رسم ونحت وتمثيل.
3 ـ الاختبار في القدرة الميكانيكية.
4 ـ الاختبار في القدرة الأدبية.
وبهذه الأنواع من الاختبارات نستطيع أن نحدد قابلية التلميذ في هذه المجالات، ومدى إمكانية تطوير هذه القابلية في أي من هذه المجالات، كي نوجهه الوجهة الصحيحة التي تمكنه من النجاح  فيها بتفوق.

رابعا: اختبارات التكيف الشخصي والاجتماعي 

وهذه الاختبارات تكشف لنا عن ميول التلميذ، ومزاجه، ومشاكله الشخصية، وهي لا  تعطينا فقط إجابات محددة صحيحة أو خاطئة عن الأسئلة المطروحة، والتي يطلب فيها من التلميذ الإجابة بما يشعر به، بل تقيس جميع مظاهره الشخصية.
 وهذا النوع من الاختبارات له أهمية بالغة بالنسبة لعمليتي التربية والتعليم، وذلك لأن المعلم لا يستطيع أن يربي تلاميذه التربية الصحيحة، ويعلمهم بسهولة ويسر، إلا إذا فهم كل تلميذ فهماً صحيحاً، من حيث الميول، والرغبات والمزاج، والتعرف على المشاكل التي يعانيها في البيت والمدرسة، ويعمل على تذليلها.
بقي لي كلمة أخيرة أقولها بكل أسف ومرارة، أن المدارس في معظم ما يسمى بالعالم الثالث لا تهتم بهذه الأنواع من الاختبارات، وجل اهتمامها ينصب على اختبارات التحصيل الدراسي، بل لا أغالي إذا قلت أن الكثير من المعلمين لم يسمعوا عن هذه الاختبارات، ولا يعرفون شيئاً عنها، وهكذا بقيت الأساليب التربوية والتعليمية مبتورة، وسببت ضياع الجهود والإمكانيات لدى الأبناء، وعلى هذه المدارس أن تغير من أساليبها، لتلافي نواحي النقص فيها إذا شاءت النهوض بشعبها إلى مصاف الأمم المتقدمة الأخرى.



277
الوالدين والموقف من الغريزة الجنسية
 لدى الأبناء المراهقين
حامد الحمداني                                                         21/12/2010


تعتبر الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز البشرية، وأخطرها في الوقت نفسه، أنها غريزة البقاء للجنس البشري، والتي تتشابك مع غريزة الأبوة والأمومة لتكونا معاً اتحاداً مقدساً يجمع بين الذكر والأنثى، لكي تنشأ الخلية الصغيرة في مجتمعنا أي [الأسرة] حيث يكّون مجموع الأسر المجتمعات البشرية.
تبدأ هذه الغريزة بالظهور منذ مراحل الطفولة الأولى بشكل بسيط وبدائي في بادئ الأمر، لكنها سرعان ما تتطور في بداية مرحلة المراهقة، وتشتد عنفواناً، حيث نجد الأبناء  يميلون كل إلى الجنس الآخر[الذكر والأنثى].
 ففي هذه المرحلة يأخذ الجنس لدى المراهقين بالسيطرة على تفكيرهم باستمرار، ولذلك فأن مرحلة المراهقة تعتبر اخطر مراحل النمو، وأكثرها حاجة لإشراف الآباء والأمهات والمربين، وضرورة تقديم النصائح والإرشادات للمراهقين غير مكتملي النضوج، والذين يمكن أن يتعرضوا لأخطار كثيرة إذا أهملنا واجبنا تجاههم كمربين، وتركناهم يتخبطون في سلوكهم وتصرفاتهم.
 ينبغي أن نعطي اهتماماً كبيراً للتربية الجنسية، سواء في البيت أو المدرسة، وعدم التهيب من إعطاء أبنائنا وبناتنا المعلومات الكافية عن الحياة الجنسية، وينبغي لنا أن ندرك أن الاضطراب العصبي الذي نجده لدى المراهقين عائد في الواقع لتهديدهم من الاقتراب من المسألة الجنسية.
إن سياسة السكوت وحجب الحقائق الجنسية عن الأبناء تؤثران تأثيراً سلبياً بالغاً عليهم، إضافة إلى أنهم  سيدركون أن ذويهم يكذبون عليهم، وهم سوف يجدون الحقيقة عاجلاً أم آجلاً، وعندما يكتشفونها فإنهم سوف لن يستمروا بمتابعة طرح الأسئلة على ذويهم، وسوف يستعيضون عن ذلك بالحصول على كل المعلومات المتعلقة بالحياة الجنسية من زملائهم الآخرين.
 إن الكذب على الأبناء عملُ غير صحيح إطلاقاً وغير مرغوب فيه، وإن المعلومات عن المواضيع الجنسية ينبغي أن تعطى لهم تماماً بنفس اللهجة، ونفس الشيء من المعلومات عن المواضيع الأخرى، وأن تعطى بنفس الحديث المباشر.
وإذا كان الوالدان غير قادرين على التحدث مع أطفالهم بشكل طبيعي في المواضيع المتعلقة بالجنس فسيدعونهم يستمعون إلى الآخرين الذين هم أقل تمسكاً بالتقاليد وقيم العائلة، وليس هناك أية صعوبة قبل البلوغ في جعل الطفل يبقى طبيعياً بالنسبة للجنس، تماما كما في المواضيع الأخرى، وحتى بعد البلوغ سوف تكون أقل بكثير عندما ينعمون بصحة سليمة أكثر مما عندما تكون عقولهم قد امتلأت بالرعب والحرمان غير المعقول.
إن التضحية بالذكاء في سبيل الفضيلة عن طريق جعل الأولاد مشغولين ومتعبين جسدياً، كي لا تكون لديهم فرصة أو ميل للجنس يسبب لهم الأضرار التالية:
 1 ـ يغرس رعباً وهمياً في عقول الأولاد.
 2 ـ يسبب نسبة كبيرة من الخداع.
 3ـ يجعل التفكر في المواضيع الجنسية مشيناً ووهمياً.
 4ـ يسبب تشوقاً فكرياً قد يظهر مخطئاً ومدمراً، وقد يصبح مؤذياً قذراً يفقد الراحة، ويعيق الإدراك. 

إن من المهم في جميع تصرفاتنا مع الأطفال أن لا نشعرهم أن الحصول على فكرة عن الجنس هو شيء قذر وسري.
 إن الجنس موضوع هام جداً، ومن الطبيعي للمخلوقات البشرية أن تفكر به، وتتكلم عنه وخير لنا أن لا ندع أبنائنا يتعلمون عنه من الجهلة أو المراهقين المنحرفين فينزلقون وينحرفون، وخاصة ما نراه اليوم من انتشار الأمراض الفتاكة الناجمة عن فقدان الوعي الجنسي والصحي لدى المراهقين بصورة خاصة، والمنتشرة بشكل خطير في أنحاء العالم كمرض [ فقدان المناعة] الذي بات يهدد حياة مئات الملايين بالموت المحقق، وحيث لم يتوصل العلم لحد الآن إلى علاج شافٍ له، أو الوقاية منه، والذي يمكن أن يُنقله المصابون للآخرين الذين لا يملكون المعرفة والخبرة الكافية لتجنب هذا الوباء الوبيل.
إن مصارحة الآباء والمهات لأبنائهم وبناتهم في كل ما يتعلق بالمسألة الجنسية هي السبيل القويم لأعطائهم الثقافة الجنسية الصحيحة، وتجنيبهم تلقي هذه المعلومات من مصادر غير موثوق بها، وحسناً فعلت المدارس في العالم المتقدم بتدريس طلابها وطالباتها المسألة الجنسية، ومن المؤسف أن يقف جانب كبير من الآباء والأمهات المهاجرين موقفاً سلبياً من ذلك، ويعتبرونه يشكل خطراً على ابنائهم وبناتهم!، غير مدركين انهم سيحصلون على هذه المعلومات عاجلاً أم آجلاً من زملائهم في المدرسة وخارجها ، وأن من الأسلم لهم أن يتلقوا هذه المعلومات المتعلقة بالحياة الجنسية من ذويهم بكل تأكيد.
حامد الحمداني
الموقع الجديد :www.Hamid-Alhamdany.blogspot.com

278
الإسلام السياسي وديمقراطية آخر زمان
 حامد الحمداني                                                    16/12/201 
   
  هنيئاً لك يا شعب العراق، وهنيئاً لكم يا من وضعتم بيضكم في السلة الأمريكية، وصدقتم بوعود بوش الابن بعراق ديمقراطي على أنقاض دكتاتورية صدام وحزبه الفاشي،فإذا الديمقراطية الموعودة التي بشركم بها المحتلون الأمريكيون نظام طائفي متخلف عفا عليه الزمن ليعيد العراق إلى الوراء 1300 عاما، بعد أن سلم الحكم لأحزاب الإسلام السياسي الطائفي،الذين تقاسموا السلطة، وسيطروا على البرلمان، وشرّعوا لنا دستوراً على مقاسهم، وفي كل مادة فيه ثغرة، وبكل ثغرة قنبلة موقوتة ليبقى الشعب يعيش في دوامة فقدان الأمن والعيش بسلام، دون أن يعكره عشاق الجنة، والحالمين بالحوريات الحسان، بسياراتهم المفخخة، وأحزمتهم الناسفة، وقنابلهم المزروعة في شتى الطرقات لتحصد كل يوم أرواح الأبرياء، ويخاطب القتلة ذويهم بأن لا تحزنوا على ضحاياكم فمأواهم الجنة الموعودة!!.
 والحرية التي لا قيمة للمواطن بدونها، باتت ألعوبة بأيدي أحزاب الإسلام السياسي، تفسرها كيفما تشاء، باسم الديمقراطية العرجاء، طالما سمح لهم الدستور العتيد الملئ بالتناقضات في مواده كما هو معروف للجميع.
لم يعد لشرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة مكان في قاموس المتأسلمين، فهؤلاء لهم شرعتهم التي يفرضونها على الشعب بالقوة، فيفرضون الحجاب على المرأة، بل لقد تعداها إلى الأطفال الصغار من الإناث الذين يمثلون نصف المجتمع، وتمادى المتأسلمون في غيهم ليفرضوا ذلك على الطوائف الأخرى من المسيحيين والصابئة والأيزيديين، وكأنما الشرف والأخلاق في عرفهم يتمثل بهذا السجن الرهيب.
لماذا لا يضعوا هم الأكياس السوداء لتغطي رؤوسهم كي تطفئ شهواتهم المكبوتة، فهم لا يفهمون من الحياة سوى شهواتهم الجنسية، ولا يعترفون بالمرأة كإنسانة على قدم المساواة مع الرجل، بل يعتبرونها عورة حسب زعمهم وهي في واقع الحال أقدس وأعظم وأنبل منهم.
لقد بات في عرف هؤلاء الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين بعقلية ما قبل ألف وثلاثمائة عام، ولا يدركون ان العالم قد تغير، وأن كل شئ في حالة تغير وتطور مستمر، ولن يستطيع أصحاب الأفكار السوداء الوقوف بوجه هذا التطور والتغير.
إن قيم الأخلاق ايها السادة تتمثل في الصدق والأمانة والعفة والنزاهة، واحترام حريات المواطنين الشخصية والعامة، وليس في منع الموسيقى ومختلف الفنون  وإغلاق مقر اتحاد الأدباء والكتاب بدعوى تناول المشروبات!، وإذا كنتم حقاً حريصين على الأخلاق والقيم النبيلة فعليكم أولاً وقبل كل شئ أن تكونوا صادقين مع أنفسكم ومع المواطنين، ولا تحاولوا من خلال استغلال الدين، للتغطية على أهدافكم السياسية المتمثلة بمحاربة ذوي العقول النيرة من الكتاب والفنانين والشعراء، وقادة الفكر الذين يتابعون كشف الفساد والفاسدين، وتحاولون عاجزين عن تشويه سمعتهم، فالشعب العراقي يدرك تماماً ماذا تمثل هذه الفئة النيرة، وماذا تمثلون أنتم، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لقد بلغ العراق على أيديكم الدرك الأسفل من الفساد الذي بات ينخر سائر جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، وهذا ما أكدته هيئة النزاهة، والمنظمة الدولية التي وضعت العراق في  أول قائمة الدول التي ينخرها الفساد، والفاسدون لا يحق لهم التحدث عن الأخلاق والفضيلة، فهم والفضيلة على طرفي نقيض.
                                           

279
حكومة المالكي بحاجة لقسام شرعي

حامد الحمداني                                                         4/12/ 2010

ثلاثة أسابيع مضت، وما زال الشعب العراقي ينتظر نهاية الصراع والمساومات الجارية بين الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات الديمقراطية!، التي جرت منذ 8 أشهر، والتي تأخر إعلان نتائجها أكثر من شهر، وتلك هي ظاهرة غربية جداً بالنسبة للانتخابات في جميع بلدان العالم المتمدن، وهذا الذي جرى في العراق يعطي المتتبعين لتلك الانتخابات الانطباع بأن هناك تلاعباً قد جرى في تلك النتائج، وهناك شكوك بأن للمحتلين الأمريكيين اليد الطولى فيها، وإلا لما تأخر إعلان النتائج طيلة هذه المدة، فقد جاءت بنتيجة لا تؤهل أي جهة لتشكيل الحكومة، ولابد من العودة إلى المحاصصة  الطائفية والعرقية لتشكيل الحكومة العتيدة، كما كان الحال في الانتخابات السابقة.
وهكذا بدأ الصراع بين الكتل السياسية التي تصدرت الانتخابات، وأبتعلت أصوات الكتل الصغيرة بموجب ذلك القانون الجائر الذي ليس له مثيل في الدنيا،على طريقة المشاريع الكبيرة [الكارتيلات الرأسمالية] تأكل المشاريع الصغيرة، كما هو الحال في العالم الرأسمالي.
واستمر الصراع والمساومات بين الكتل على من يشكل الوزارة مدة سبعة أشهر بكاملها، وتحول ذلك الصراع من صراع سياسي إلى صراع طائفي، الكتلة الشيعية بزعامة المالكي، والكتلة ذات الأغلبية السنية بزعامة علاوي الحاصلتين على أكثرية المقاعد في المجلس النيابي المنتخب، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، واستمر المالكي يحكم البلاد بحكومة فاقدة الشرعية طيلة هذه المدة، فإما أن يشكل المالكي الحكومة أو لا حكومة، وهو القائل [مَنْ يستطيع أخذ السلطة كي نعطيها؟]!!، والشعب العراقي المهضوم الحقوق يعاني أشد المعانات من تصاعد النشاط الإرهابي في البلاد بشكل خطير، ناشراً الموت والخراب والدمار كل يوم، وفي كل مكان.
 وهذا التصاعد في النشاط الإرهابي بلا أدنى شك مرتبط تمام الارتباط بالصراع الدائر على السلطة والثروة بين الكتل المتصارعة، يتصاعد كلما اشتد الصراع، ويخفت كلما ظهرت بادرة أمل في الاتفاق بين المتصارعين.
وبات أمر تشكيل الوزارة ألعوبة بيد دول الجوار، وفي المقدمة منها إيران الحليفة             
الطبيعية،الداعمة والممولة لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، والتي تتولى تهريب السلاح والمتفجرات والإرهابيين إلى داخل العراق، ليقوموا بتنفيذ جرائمهم الوحشية في تفجير العبوات والأحزمة الناسفة، وعمليات الاغتيالات الواسعة النطاق بمسدساتهم الكاتمة للصوت، ضد كل من يشك بالوقوف ضد أهدافهم الشريرة في العراق.
 والسعودية المتحالفة مع الكتلة السنية بزعامة علاوي، والممولة لها، بالإضافة إلى سوريا حاضنة الصداميين الذين يتولون قيادة النشاط الإرهابي في البلاد، يداً بيد مع عناصر القاعدة المجرمة، حيث تتولى قيادتهم استقبال عناصر القاعدة، وتدبير عبورهم الحدود، وإعداد المأوى، وتجهيز السلاح والمتفجرات، وتوجيههم إلى الأهداف التي يختارونها لهم لتنفيذ جرائمهم البشعة، والتي تصيب المواطنين الأبرياء، وتحويل حياة الشعب العراقي إلى جحيم لا يطاق.
لقد بات الشعب العراقي يعيش محنة كبرى، محنة فقدان الأمن والعيش بسلام، وبات المواطن لا يأتمن على حياته وهو في طريقه إلى عمله أو مدرسته أو جامعته، بعد أن استفحل النشاط الإرهابي في البلاد، بل لقد امتدت يد الإرهاب الأسود إلى المساكن ودور العبادة، كما جرى للإخوة أبناء الطائفة المسيحية النبيلة والمسالمة، والتي ليس لها يد في الصراع السياسي الجاري على السلطة والثروة، ولا طامعة فيه، بل تود فقط العيش في أمن وسلام.
 فما هي الدوافع لمدعي الإسلام السياسي لتفجير مساكنهم على رؤوسهم، ودور عبادتهم، والسعي لتهجيرهم من وطنهم الأصلي منذ آلاف السنين؟
وإلى متى يستمر الصراع بين الكتل السياسية، والمساومات، وعمليات البيع والشراء للمناصب الوزارية، والشعب العراقي ينتظر بفارغ  الصبر انتهاء هذه المحنة، وتشكيل الحكومة، والتوجه الفعال لمكافحة قوى الإرهاب، وإعادة السلام والطمأنينة إلى النفوس التي حطمها القلق والرعب والجريمة؟
لقد طال المطال، وانتم تتنازعون أيها السادة على هذه الوزارة أو تلك، وبات توزيع الوزارات والمناصب العليا على النقاط، واستجد صراع جديد على توزيع النقاط، وبات المتنازعون على الوزارات والمناصب بحاجة إلى قسام شرعي يتولى توزيعها، وإلا فإن أزمة تشكيل الوزارة قد تمتد إلى أجل غير مسمى، وليبقى الشعب العراق يعيش في ظل هذا الجحيم المخيف، فرفقاً أيها المتنازعون بهذا الشعب ،الذي أوصلكم مع مزيد الأسف إلى البرلمان، وقمة السلطة، دون أن يتعض من الانتخابات السابقة!!، ونصيحتي أن تستعينوا بهيئة القسام الشرعي، وتشكيل هذه الهيئة من اللاعبين الكبار في الشأن العراقي، الإيرانيون والسعوديون والسوريون والأتراك، وبرئاسة السيد الأمريكي، ولا بأس بإضافة حلالة المشاكل العربية قطر فهم من بيدهم الحل والربط في الشأن العراقي، وما على الشعب العراقي الذي لا حول له ولا قوة سوى الانتظار!!.


280
العراق من الفاشية القومية إلى الفاشية الدينية
والأزمة مستمرة بإدارة أمريكية!

 
حامد الحمداني                                                           26/11/2010
رزح الشعب العراقي المنكوب منذ انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 في ظل حكم الفاشية القومية المتمثلة بحزب البعث وحلفائه القوميين في بداية المرحلة التي امتدت 40 عاماً، ثم تنكر الحزب لحلفائه القوميين بعد أن استتب له الأمر حاكماً أوحداً،وتحت قيادة دكتاتور أوحد أهوج لم يترك فوهة مهما صغرت أمام الشعب العراقي يتنفس من خلالها رائحة الحرية والديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان، مستخدماً أبشع أساليب البطش والتعذيب والقتل ضد كل من يشك، مجرد الشك، بأي نشاط سياسي، وأية صلة بأحزاب ومنظمات سياسية، بل لقد قنن جرائمه بقوانين جائرة نصت على إنزال عقوبة الإعدام بكل من يمارس العمل السياسي محتكراً العمل السياسي لحزب البعث الفاشي وحده، بل حتى العضو البعثي الذي يترك الحزب لأي سبب كان، ويُشك في إقامة علاقة مع أية جهة سياسية فإن عقوبته الإعدام.
ولم يكفِ نظام صدام الدكتاتوري كل ذلك، بل امتدت يداه الملطخة بدماء أبناء الشعب حتى إلى قادته الذين كان يشك في ولائهم المطلق لحكمه مقترفاً مجزرة حصدت أرواح 23 منهم، وأمر قادة حزبه الموالين له بتنفيذ المجزرة بأيديهم، بعد أن تعرضوا لتعذيب شنيع، فما بال المواطنين الذين لا سند لهم يحميهم من تنكيل هذا الحزب القومي الفاشي الذي ملأ أرض الرافدين بالقبور الجماعية التي ضمت جثث مئات الألوف من الأبرياء، من أجل تثبيت حكمه الأرعن، وانتهى المطاف بحزب البعث إلى أن يتحول إلى جهاز مخابرات لنظام صدام الدكتاتوري.
وما أن استتب الأمر لصدام ونظامه لحكم العراق حتى بات يتطلع للتمدد لمديات أبعد، واستغلت الإدارة الأمريكية هذا التطلع لتدفع صدام إلى مهاجمة إيران وخوض حرب ضروس ظنها صدام حرباً قد تدوم بضعة أسابيع، فإذا بها حربٌ خططت لها الإدارة الأمريكية لتستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج منها أحد منتصراً، ودفع خلالها الشعب العراقي أكثر من نصف مليون ضحية، ومثلها من المعوقين والأيتام والأرامل.
وخرج جلاد العراق صدام من تلك الحرب التي امتدت 8 سنوات عجاف يمتلك جيشاً جراراً، واقتصاداً منهاراً، وتفتق ذهن مجرم الحرب عن وسيلة تخرجه من أزمته الاقتصادية الخانقة، فكان قراره بغزو الكويت.
وتلقفت إدارة بوش الأب قرار صدام لتنصب للعراق فخاً محكماً تحقق بواسطته تدمير كافة الأسلحة والمصانع الحربية التي جهزوه بها يوم كان يحارب إيران نيابة عنهم، وليأتوا على البقية الباقية من البنية الاقتصادية للعراق، وتدمر كافة منشآته الحيوية الصناعية والزراعية والخدمية والصحية، وتعيد العراق 100 سنة نحو الوراء، فقد أوهمته السفيرة الأمريكية [كلاسبي] أن أمريكا لا تتدخل في المشاكل العربية العربية، قائلة له: { تستطيعون حل مشاكلكم مع الكويت بالطريقة التي ترونها مناسبة}.
وبلع صدام الطعم ظناً منه أن الكارت الأخضر قد منحته الإدارة الأمريكية له لغزو الكويت، في الوقت الذي كانت قد وضعت الخطة المحكمة لحرب الخليج الثانية لتدمير العراق.
 لكن بوش أبقى على صدام دكتاتوراً للعراق ضعيفاً ومسيطراً عليه ، بعد أن أحس أن الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضد نظامه بعد الحرب مباشرةً قد سيطر عليها محمد باقر الحكيم زعيم منظمة بدر الإيرانية التمويل والتدريب والتسليح، وهكذا وضعت الإدارة الأمريكية ثقلها إلى جانب نظام صدام، وفتحت الطريق أمام الحرس الجمهوري المحاصر جنوب الناصرية لسحق الانتفاضة منعاً من وقوع العراق لقمة سائغة في حلوق ملالي طهران.
ولم يتعلم جلاد العراق صدام الدرس من تلك الحرب، ولا من التي قبلها، ومارس لعبة القط والفار مع الإدارة الأمريكية حول تدمير أسلحته ذات الدمار الشامل ظنا منه بإمكانه خداع أمريكا التي جهزته هي نفسها بهذا السلاح يوم كان يحارب إيران نيابة عنها، وهي لا تقبل أن يكون هناك دكتاتوراً يمتلك جيشاً جراراً في رأس الخليج الذي يضم النفط، عصب الحياة لاقتصادها واقتصاد حلفائها الغربيين، فكانت النتيجة أن صممت الإدارة الأمريكية على إزاحة هذا النظام الذي انتهى دوره كخادم للمصالح الأمريكية، حيث أن أمريكا ليست لها صداقة دائمة بل مصالح دائمة، وهكذا أعدت العدة للحرب، وأمهلت صدام بمغادرة العراق خلال 48 ساعة وإلا واجه الحرب.
وركب صدام رأسه متشبثاً بحكم العراق الذي كان بمثابة ضيعة له ولعشيرته معرضاً العراق وشعبه لحرب جديدة أقسى وأمر من سابقاتها حربي الخليج الأولى والثانية، فكانت حرب الخليج الثالثة التي لم تسقط نظام صدام فحسب، بل أسقطت العراق كنظام بكامل مؤسساته، وحلت الجيش والأجهزة الأمنية، وتركت البلاد مستباحة من قبل عصابات الأجرام التي أتت على كل شئ، كما تأتي موجات الجراد على الزرع فلا تترك فيه شيئاً، وفي يقيني أنها سمحت بنهب أهم كنوز العراق وكان لها حصة الأسد فيها، وإلا كيف نصدق أن جيوشاً جرارة لأمريكا وبريطانيا والحلفاء الغربيين، التي أسقطت نظام صدام بكل جبروته وقوته العسكرية في عشرين يوماً، لم تكن قادرة على حماية المتحف العراقي بدبابتين ؟؟؟
احتلت أمريكا العراق إذاً، واستحصلت قراراً من مجلس الأمن باعتبارها دولة محتلة، وبان كذب الرئيس بوش في بيانه الذي ألقاه قبيل ساعات من اندلاع الحرب أنه يهدف إلى تحرير العراق، وإنقاذ الشعب العراقي، مسلماً زمام الحكم لأحزاب الإسلام السياسي المرتبطة بوشائج قوية مع نظام ملالي طهران ومع السعودية، هذا النظام الذي شيده الحاكم الأمريكي بريمر السيئ الصيت على أسس طائفية وعرقية أوصلت الشعب العراقي إلى الحرب الأهلية الطائفية بين الشيعة والسنة الذين عاشوا معاً فيما مضى إخوة متحابين، وكانت صلة الدم بين الطائفتين تمثل أجلى تمثيل تلك العلاقة الأخوية بين أبناء الطائفتين، وسالت الدماء في شوارع وطرق العراق، وصار الذبح على الاسم والهوية بين الطرفين، وامتلأت المزابل بجثث الضحايا، وصارت طعاماً للكلاب السائبة والقطط، وجرى تهجير أكثر من أربعة ملايين مواطن من دورهم هرباً من القتل، وكل ذلك جرى باسم الدين والطائفة، وليس هناك سلاحاً في المجتمعات المتخلقة أمضى من سلاح الدين، لقد كره المواطنون الدين، فلا يخدعنك هذه المظاهر الخارجية، فهي مظاهر كاذبة سببها الخوف من عصابات الميلشيات الإرهابية لأحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، بعد أن بات الدين مرادفاً للإرهاب والقتل والجريمة، وكل ذلك الذي جرى ويجري ما هو إلا صراع من أجل السلطة والثروة، وقد بلغ العراق أقصى درجات الفساد حسب إحصاءات المنظمات الدولية، حيث بات الجهاز الذي شيده المحتلون الأمريكيون موغل في الفساد من قمة رأسه حتى القاعدة السفلى، وظهرت طبقة جديدة من كبار الفاسدين وهي تمتلك المليارات، وأخرى تمتلك الملايين من الدولارات، في حين يرزح الشعب العراقي في ظل البطالة والجوع والفقر والأمراض الفتاكة التي سببتها أسلحة أمريكا، محررة الشعب العراقي!!، وناشرة الحرية والديمقراطية في البلاد، وكأنما الديمقراطية هي فقط ما نكتب أو نتحدث بحرية كاذبة، حيث المسدسات الكاتمة للصوت والعبوات اللاصقة تلاحق المواطنين الشرفاء كل يوم.
 الديمقراطية أيها السادة تعني مجتمعاً ينعم بالأمن والسلام والحرية، خالي من العوز و الفقر والجوع والحرمان، وضمان الخدمات العامة الصحية والتعليمية والثقافية، والصرف الصحي، والماء الصافي الصالح للشرب، والكهرباء عصب الحياة،  تعني تكافؤ الفرص، والرجل المناسب في الموقع المناسب، لا محاصصة بين أحزاب جاءت إلى الحكم وراء الدبابات الأمريكية، واتت بعناصر لا هم لها سوى الإثراء السريع من المال العام، على الرغم الرواتب الخيالية التي يتقاضونها والتي ليس لها مثيل في أغني الدول الرأسمالية الكبرى.
إن هذه العملية السياسية التي شادها بريمر، وهذا الدستور الذي هو لب وجوهر دستور بريمر المؤقت، وأضافت له أحزاب الإسلام السياسي والأحزاب القومية الكردية مواداً هي اليوم بمثابة برميل بارود سينفجر آجلاً أم عاجلا، ولا أمل في البرلمان لمعالجة الخلل بهذا الدستور.
كما أن حكومة يؤلفها المالكي ستكون بلا أدنى شك أمام معضلات كبرى بعد ما قدمه من تنازلات سواء لقائد عصابة جيش المهدي، أم لورقة القيادة الكردية ذات الشروط التسعة عشرة، والتي باتت مصالح الشعب والوطن تباع في سوق السياسة، وحتى انظمام كتلة العراقية للحكومة ليس إلا خطوة تكتيكية من قبل كلا الطرفين، وكل طرف يتربص بالآخر، مع انعدام الثقة بينها، ولا يهمهما سوى السلطة والثروة، فهم في ودٍ والشعب في وادٍ آخر، وستبقى الأزمة العراقية الخانقة على حالها، وهذا ما تريده الإدارة الأمريكية، صاحبة القول الفصل في الشؤون العراقية، وستكشف الأيام القادمة مدى صدفية الولايات المتحدة، سلطة، وصدقية السلطة السياسية القادمة  في خدمة الشعب والوطن، وأنا لمنتظرون.
 


281
من ذاكرة التاريخ:
الخلافات والتمزق في قيادة انقلابيي 8 شباط 1963
وانقلاب عبد السلام عارف

أولاً : الخلافات الداخلية والتمزق في قيادة البعث:
 لم يكن حزب البعث يحوي عنصر التجانس بين أعضائه، فقد كان أعضاءه وقيادييه ينتمون لطبقات مختلفة، قسم منهم من الطبقة البرجوازية، أو البرجوازية الصغيرة، ونسبة قليلة من العمال والفلاحين والحرفيين ذوي الدخل المحدود.
وكانت قيادة الحزب، على وجه الخصوص، تضم حوالي  5 %  من الفلاحين، أكثرهم من الديوانية و20 % من العمال من منطقتي الكرخ والأعظمية، و50 % من الطلاب ذوي الأصول الاجتماعية المختلفة والباقي من الضباط والموظفين والمهنيين (1).
كما كان معظم ضباطهم من الطائفة السنية، في حين كانت قيادتهم القطرية تتألف من خمسة من الشيعة، وثلاثة من الطائفة السنية، ويرجع معظم أعضاء البعث من المناطق الريفية المختلفة نوعا ما، والواقعة على نهري دجلة والفرات الأعليين ومن مجموع 52 من قادة وكوادر الحزب كان 38,5% منهم من السنة، و53,8 % من الشيعة، و7,7 % من الأكراد الفيلين.(2)
وبسبب هذا التباين في التركيبة القومية، والطائفية، والطبقية، فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات في التطلعات والتوجهات والأفكار والعواطف، كما أن ما ورد حول ارتباط عدد من أعضاء قيادة الحزب بالاستخبارات الأمريكية، وتلقيهم الأوامر والتوجيهات منها، من جهة، ووجود نسبة عالية من الطلاب 50 %الذين لا تتجاوز أعمارهم على الأغلب 20 عاماً بين صفوفهم، وعدم نضوج هؤلاء فكرياً وسياسياً، حيث كان كل همهم منصباً على حربهم الشعواء ضد الشيوعية، وحتى قياديي الحزب، كانوا من هذا الطراز، كما وصفهم مؤسس الحزب، عندما قائلاً:
  {بعد الثورة ـ أي انقلاب 8 شباط ـ بدأت أشعر بالقلق من فرديتهم، وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب}.
لقد كان الحزب عبارة عن تجمع لعناصر معادية للشيوعية، لا يجمعها أي رابط أيديولوجي، وظهرت بينهم تكتلات أساسها المنطقة، أو العشيرة أو الطائفة، وهكذا كانت التناقضات والخلافات تبرز شيئاً فشيئاً على سطح الأحداث والتي كان من بينها :

1 ـ الموقف من عبد السلام عارف :

في 11 شباط 1963، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف، الذي نصبوه رئيساً للجمهورية،  صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي، أمين سر القيادة القطرية للحزب، إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف أو إزاحته من منصبه، قائلاً:
{ إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي خلال اجتماع القيادة في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه، لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع ذهب حازم جواد إلى عبد السلام عارف، وأخبره بما دار في الاجتماع، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}.(3)

2 ـ الموقف من قانون الأحوال المدنية:
الخلاف الثاني حدث بين أعضاء القيادة القطرية حينما طُرح موضوع قانون الأحوال المدنية، رقم 188 لسنة 1959 الذي شرعه الزعيم عبد الكريم قاسم، والذي اعتُبر ثورة اجتماعية أنجزتها ثورة 14 تموز فيما يخص حقوق المرأة وحريتها، وإطلاق سراح نصف المجتمع العراقي الذي تمثله المرأة من عبودية الرجل، وكان القانون قد ساوى المرأة بالرجل في الإرث، ومنع تعدد الزوجات إلا في حالات خاصة وضرورية، ومنع ما يعرف بالقتل غسلاً للعار، وغيرها من الأمور الأخرى، وقام عبد السلام عارف بإلغاء القانون في 18 آذار 1963، أثناء وجود علي صالح السعدي في القاهرة، وانقسم مجلس قيادة الثورة ذو الأغلبية البعثية وأعضاء القيادة القطرية حول مسألة الإلغاء، حيث أيده بعض الأعضاء، وعارضه البعض  الآخر.
3 ـ الموقف من الحركات السياسية القومية :
كان الخلاف الثالث بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم، وبرز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من  ذلك أدى الأمر إلى تعيمق الخلافات، والصراعات فيما بين أعضاء القيادة.
4 ـ الموقف من الحرس القومي :
في شهر حزيران 1963 ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام وراحة المواطنين. فقد كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب  بشكل عام، والشيوعيين منهم بوجه خاص، قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم، وإجرامهم.
إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [منذر الونداوي] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً، والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة، هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره.(4)
وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، وبدأ عبد السلام عارف يفكر في قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.
5 ـ الحرب في كردستان:
وجاءت الحرب في كردستان، التي بدأها البعثيون في 10 أيار 63 لتزيد وضعهم حرجاً، وتعمق من الخلافات فيما بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم  وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم.
حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد، وطالب شبيب التخلص من علي صالح السعدي، وإخراجه من الحكومة ومجلس قيادة الثورة، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية لمثل هذا العمل، في ذلك الوقت.
ففي 13 أيلول عُقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من:
[هاني الفكيكي] و[حمدي عبد المجيد] و[محسن الشيخ راضي]، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز [أحمد حسن البكر] و[صالح مهدي عماش] و[كريم شنتاف] بتلك الانتخابات.
 وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر، فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الإدعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين.
وفي الفترة ما بين 5 ـ23 تشرين الأول، عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث، في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي و[حمود الشوفي]حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين، والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب [ميشيل عفلق]، وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي، وحول المزارع التعاونية للفلاحين. (5)
ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي و الشوفي]داخل المؤتمر، وجعلته يصرح علناً [ هذا لم يعد حزبي].

ثانياً:الخلافات بين الجناحين المدني والعسكري في الحزب:

بعد أن قوي مركز علي صالح مركزه داخل القيادتين القطرية والقومية، و بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، و أخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقف السعدي، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب، فقد وقف الونداوي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي، بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب، إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد  وطالب شبيب، وطاهر يحيى ـ رئيس أركان الجيش ـ وحردان عبد الغفار التكريتي ـ قائد القوة الجوية، وعبد الستار عبد اللطيف ـ وزير المواصلات، ومحمد المهداوي ـ قائد كتيبة الدبابات الثالثة، إلى الجانب المعارض لجناح السعدي، بينما وقف أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش على الحياد، لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، وأنهما يؤيدان معارضيه في الخفاء.

ثالثاً:الصراع بين البعث والضباط القوميين والناصريين والحركيين:
كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية، والناصرية، والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية، والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف، واشتداد الصراع بين الجناحين وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف من السعدي نفسه عندما حاول جناح [ جواد و شبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف.
وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 1963، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية، وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما عيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية.
وكان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي. ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة، ومجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.


 عارف يعفي الونداوي من قيادة الحرس والونداوي يرفض الأمر:
وفي 1 تشرين الثاني63 صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم، وأصرّ على البقاء في منصبه، في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام.
ففي11 تشرين الثاني عُقد مؤتمر قطري استثنائي لانتخاب ثمانية أعضاء جدد للقيادة القطرية، لكي يصبح العدد 16 عضواً، بموجب النظام الداخلي الذي تبناه المؤتمر القومي السادس [المادة 38 المعدلة من النظام الداخلي]، غير أنه ما أن بُوشر بإجراء الانتخاب حتى داهم 15 ضابطاً مسلحاً قاعة الاجتماع بقيادة العقيد محمد المهداوي، الذي بدأ يتحدث أمام المؤتمرين قائلاً:
{لقد اخبرني الرفيق ميشيل عفلق، فيلسوف الحزب، أن عصابة استبدت بالحزب في العراق، ومثلها في سوريا، وأن العصابتين وضعتا رأسيهما معاً، وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس، ولذلك يجب القضاء عليهما}.
كما هاجم المهداوي قرارات المؤتمر القومي السادس واصفاً إياه بمؤامرة ضد الحزب، وطالب بانتخاب قيادة قطرية جديدة، تحت تهديد أسلحة الضباط المرافقين له، وتظاهر المؤتمر باختيار قيادة جديدة، واشترك الضباط بالتصويت،علماً بان بعضهم لم يكن بعثياً على الإطلاق، وجاء على رأس القيادة الجديدة [حازم جواد] بالإضافة إلى فوز أنصاره.
غير أن المهزلة لم تنتهِ إلى هذا الحد، بل أسرع الضباط إلى اعتقال علي صالح السعدي، ومحسن الشيخ راضي، وحمدي عبد المجيد، وهاني الفكيكي، وأبو طالب الهاشمي، الذي كان يشغل منصب نائب القائد العام للحرس القومي،وسُفر الجميع على متن طائرة عسكرية إلى مدريد.
3 ـ امتداد الصراع إلى الشارع :
هكذا إذاً أنفجر الوضع المتأزم في ذلك اليوم، وامتد الصراع إلى الشارع، ففي صباح يوم 13 تشرين الثاني اندفعت أعداد غفيرة من مؤيدي علي صالح السعدي  ومن الحرس القومي، إلى شوارع بغداد، وأقاموا الحواجز في الطرق، واحتلوا مكاتب البريد والبرق والهاتف، ودار الإذاعة، وهاجموا مراكز الشرطة، واستولوا على الأسلحة فيها، و أسرع الونداوي إلى قاعدة الرشيد الجوية ومعه طيار آخر وامتطيا طائرتين حربيتين، وقاما بقصف القاعدة المذكورة، ودمرا [5 طائرات] كانت جاثمة فيها.
وفي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم أذاع صالح مهدي عماش، وزير الدفاع، بياناً من دار الإذاعة حذر فيه أحمد حسن البكر من أن هناك محاولة لجعل البعثيين يقتلون بعضهم بعضاً، وهذا ما لا يفيد إلا أعداء الحزب، كما وجه نداءً للعودة إلى العلاقات الرفاقية وإلى التفاهم  والأخوة. وفي تلك الأثناء فرضت قوات الحرس القومي سيطرتها على أغلب مناطق بغداد، ورفض البكر وعماش إعطاء الأمر إلى الجيش بالتدخل، وأصبحت قيادة فرع بغداد للحزب هي التي تقود الحزب في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ حكم البعث، وطالبت تلك القيادة بإعادة السعدي ورفاقه إلى العراق، وممارسة مهامهم الحزبية والرسمية.غير أنها لم تفلح في ذلك، واضطرت إلى الموافقة على إحالة القضية إلى القيادة القومية لتبت فيها.

4 ـ عفلق وأمين الحافظ في بغداد لمحاولة حسم الصراع:
وفي مساء ذلك اليوم، 13 تشرين الثاني، وصل إلى بغداد مؤسس الحزب [ميشيل عفلق] والرئيس السوري [أمين الحافظ] بالإضافة إلى عدد آخر من أعضاء القيادة القومية للحزب.
غير أن عبد السلام عارف لم يجر لهما استقبالاً رسمياً، كما يقتضي البروتوكول والعرف الدبلوماسي، كما لم يحاول الالتقاء بالوفد، مما جعل الوفد يحس أن هناك جو غير طبيعي في بغداد، وأن لابد من أن يكون هناك أمراً يدبر ضد حكم البعث.
حاول ميشيل عفلق ورفاقه في الوفد، التصرف بشؤون العراق!،وأصدروا  قراراً بنفي حازم جواد، وزير الداخلية، وطالب شبيب، وزير الخارجية، متهمين إياهما بأنهما أساس الفتنة.
كما أصدر الوفد قراراً آخر بحل القيادة القطرية التي جرى انتخابها تحت تهديد الضباط الخمسة عشرة، وكذلك القيادة القطرية التي كان يقودها علي صالح السعدي، وأعلن عن تسلم القيادة القومية للمسؤولية لحين انتخاب قيادة قطرية جديدة.
هكذا إذاً كان تصرف عفلق والوفد الموافق له، تجاهلاً لعبد السلام عارف، بصفته رئيساً للجمهورية، كما أن الرابطة التي كانت تجمع الضباط البعثيين بالقيادة المدنية قد تفككت، ودبت الخلافات العميقة بينهم، وسارع الجناح المدني في الحزب يتحدى من أسماهم بأعداء الحزب، ودعا اتحاد العمال، الذي يسيطر عليه الحزب إلى سحق رؤوس البرجوازيين الذين خانوا الحزب، وإعدام أصحاب رؤوس الأموال الذين هربوا أموالهم إلى الخارج.
كما دعوا إلى تأميم كافة المشاريع الصناعية في البلاد، وكانت تلك الاندفاعات لجناح الحزب المدني كلها  تصب في خانة عبد السلام عارف، الذي صمم على إزاحة حزب البعث عن السلطة، وأحكام قبضته على شؤون البلاد دون منازع أو شريك.
رابعاً:انقلاب عبد السلام عارف ضد البعث في 18 تشرين الثاني 63:
بعد أن وصلت حالة الحزب إلى أقصى درجات التمزق والتناحر، وبعد أن عمت الفوضى أرجاء البلاد، وبلغ استياء ضباط الجيش الممسكين بالمراكز القيادية في الجهاز العسكري من تصرف القيادة البعثية مداه، قرر عبد السلام عارف بالتعاون مع تلك العناصر العسكرية توجيه ضربته القاضية لحكم البعث، وإنهاء سيطرتهم على مقدرات البلاد، فقد استغل عبد السلام تلك الظروف البالغة الصعوبة التي مرّ بها حزب البعث وبالتنسيق مع عدد من أولئك الضباط ، كان منهم:
1-عبد الرحمن عارف، شقيقه، قائد الفرقة الخامسة.
2 – الزعيم الركن عبد الكريم فرحان، قائد الفرقة الأولى.
3 – العقيد سعيد صليبي، آمر الانضباط العسكري.
4 – الزعيم الركن الطيار حردان التكريتي، قائد القوة الجوية [ بعثي].
5 – اللواء الركن طاهر يحيى، رئيس أركان الجيش.
هذا بالإضافة إلى العديد من الضباط الآخرين ذوي الميول القومية.
وفي فجر يوم 18 تشرين الثاني 1963، قامت طائرات عسكرية بقصف مقر القيادة العامة  للحرس القومي في الأعظمية، ثم تقدمت الدبابات، والمصفحات لتستولي على كافة المرافق العامة في بغداد، ومقرات الحرس القومي، وحاول البعثيون مقاومة الانقلاب في بادئ الأمر، إلا أن الأمر كان قد حسم في نهاية النهار، فلم يكن باستطاعة الحرس القومي، وهو يحمل الأسلحة الخفيفة أن يقاوم الدبابات والمصفحات والصواريخ والطائرات.
 سارع أفراد الحرس  إلى إلقاء سلاحهم، والتخلص منه، برميه في الحقول والمزارع والمزابل بعد أن هددهم النظام العارفي الجديد بإنزال العقاب الصارم بهم  إن هم استمروا على حمل السلاح أو إخفائه، وأجرى الجيش مداهمات لدور أفراد الحرس القومي بحثاً عن السلاح.
 كما جرى إلقاء القبض على أعداد كبيرة من البعثيين لفترة محدودة من الزمن، حيث تمكن الجيش من إحكام سيطرته على البلاد، وأخذ النظام فيما بعد يطلق سراح البعثيين المعتقلين في حين بقي السجناء والموقوفين الشيوعيين والديمقراطيين في السجون !!، وجرى تنفيذ أحكام بالإعدام كانت قد أصدرتها المحاكم العرفية على عهد البعثيين، بعد تسلم عبد السلام عارف زمام الأمور في البلاد، فقد كان العداء للشيوعية هو الجامع الذي جمع البعثيين والقوميين، دون استثناء، ربما شيء واحد قد تغير، هو تخفيف حملات التعذيب أثناء التحقيقات مع المعتقلين، واستمرت المحاكم العرفية تطحن بالوطنيين طيلة عهد عارف.

1 ـ عبد السلام عارف يحكم سيطرته على البلاد :
في مساء يوم الثامن عشر من تشرين الثاني 1963، تلاشت مقاومة حزب البعث، وحرسه القومي في أنحاء البلاد، وتم لعبد السلام عارف وقادته العسكريين السيطرة التامة على البلاد، وبدأ على الفور بترتيب البيت، مانحاً نفسه صلاحيات استثنائية واسعة لمدة سنة، وتتجدد تلقائياً، إذا اقتضى الأمر ذلك، وعمد عبد السلام إلى الاعتماد على الروابط العشائرية، وخاصة عشيرة [الجميلات]، فقد عين شقيقه [عبد الرحمن عارف] وكيلاً لرئيس أركان الجيش، رغم عدم كونه ضابط أركان .   كما عين صديقه، وأبن عشيرته [سعيد صليبي] قائداً لحامية بغداد، فيما أعلن عارف نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة.(6)
كما جاء عارف باللواء العشرين، الذي كان يقود أحد أفواجه عند قيام ثورة 14 تموز، واتخذه حرسه الجمهوري الخاص به، كل العناصر المؤيدة له فيه من عشيرة الجميلات وغيرها من عشائر محافظة الأنبار.
بدأ عبد السلام عارف حكمه معتمداً على ائتلاف عسكري ضم الضباط القوميين والناصريين، والضباط البعثيين الذين انقلبوا على سلطة البعث، فقد أصبح [طاهر يحيى] رئيساً للوزراء، و[حردان التكريتي]، نائباً للقائد العام للقوات المسلحة  ووزيراً للدفاع، فيما عيين [أحمد حسن البكر] نائباً لرئيس الجمهورية، والزعيم [رشيد مصلح]وزيراً للداخلية وحاكماً عسكرياً عاماً، ويلاحظ أن هؤلاء جميعاً من تكريت، ومن العناصر البعثية، أما العناصر القومية التي شاركت في الحكم فكان على رأسها الزعيم الركن [محمد مجيد]،مدير التخطيط العسكري، والزعيم الركن[عبد الكريم فرحان]،الذي عيين وزيراً للإرشاد، و[عارف عبد الرزاق]، الذي عيين قائداً للقوة الجوية، والعقيد الركن [هادي خماس] مدير جهاز الاستخبارات العسكرية، والمقدم [صبحي عبد الحميد] الذي عيين وزيراً للخارجية.
 
عبد السلام عارف يبعد العناصر البعثية عن الحكم:
رغم تعاون الضباط البعثيين مع عبد السلام عارف في انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 ضد قيادتهم المدنية، واشتراكهم في حكومته الانقلابية، إلا أن عارف لم يكن يطمأن لوجودهم في السلطة، ولم يكن إشراكهم في الحكم من قبله سوى كونه عمل تكتيكي من أجل نجاح انقلابه ضد سلطة البعث، وتثبيت حكمه، لكنه كان في نفس الوقت يتحين الفرصة للتخلص منهم، وقد ساعده في ذلك الكره الشعبي الواسع النطاق للحكام البعثيين بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق الوطنيين طيلة فترة حكمهم، وهكذا وبعد أن تسنى لعارف تثبيت أركان حكمه، بدأ بتوجيه الضربات للعناصر البعثية تلك.
ففي 4 كانون الأول 964 ،أعفى عارف المقدم [عبد الستار عبد اللطيف] من وزارة المواصلات، وفي 16 منه ، أزاح عارف [ حردان التكريتي ] من منصبه كقائد للقوة الجوية، وفي 4 كانون الثاني 64 ألغي عارف منصب نائب رئيس الجمهورية، وتخلص من [احمد حسن البكر] الذي كان يشغل المنصب، وعينه سفيراً بديوان وزارة الخارجية. (7)
وفي 2 آذار 64، أعفى عارف [ حردان التكريتي ] من منصب وزير الدفاع، وعين محله طاهر يحيى، بالإضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء، ولم يبقَ إلا رشيد مصلح التكريتي، وزير الداخلية والحاكم العسكري العام الذي ربط مصيره بمصير عارف، مهاجماً أعمال البعثيين وجرائمهم بحق الشعب، وبذلك أصبح الحكم بقيادة عبد السلام عارف، وبرز الناصريون في مقدمة النظام، وبدأ النظام يقلد الجمهورية العربية المتحدة في أساليبها وخططها التنموية، حيث أقدمت الحكومة على تأميم المصارف، وشركات التأمين مع 32 مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، وخصصت الدولة 25% من الأرباح للعمال، والموظفين العاملين فيها، وقررت تمثيلهم في مجالس الإدارة.
كما أقدم النظام الجديد على تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز 1964  على غرار الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة، ودُعيت القوى السياسية في البلاد إلى الانضواء تحت راية هذا الاتحاد، وقد أستهوى هذا الإجراء  وتلك التحولات الاقتصادية جانباً من قيادة الحزب الشيوعي، حيث برزت دعوة لحل الحزب، والانضمام إلى الاتحاد المذكور، لكن هذا الاتجاه لم ينجح في جر الحزب إليه، بعد أن وقفت العناصر الحريصة على مصلحة الحزب ضد دعوة الحل والانضمام للاتحاد الاشتراكي المزعوم.

282
ينبغي وضع حد عاجل لمحنة المواطنين المسيحيين الاصلاء
حامد الحمداني                                                     16/11/2010
الهجمة الوحشية الشرسة التي تعرض وما زال يتعرض لها المواطنات والمواطنون المسيحيون الأصلاء، والذين لا يستطيع أحداً إنكار أنهم أبناء هذا الوطن الأولين، على أيدي زمرة حقيرة لا دين لها، ولا تحمل أية قيم إنسانية أو أخلاقية، زمرة مسخرة من قبل أيادي خارجية لا تمت للوطن والمواطن العراقي بصلة، والتي استنكرها اشد الاستنكار أبناء شعبنا العراقي بكل قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، ووقفوا جميعاً إلى جانب المسيحيين الذين عاشوا بينهم أخوة متحابين كعائلة واحدة في هذا الوطن الذي هو ملك الجميع، وكان المسيحيون على مدار التاريخ وطنيون مساهمون بفعالية في رفع شأن العراق، ومسالمون لا يحملون ضغينة ضد أحد، ويتمتعون بخلق عالي، ويكنون المحبة للآخرين، ولا تعرف قلوبهم الكراهية والأحقاد.
إن مجزرة كنيسة سيدة النجاة الرهيبة بحق المصلين المسيحيين ورجال الدين المسالمين، والتي أسفرت عن استشهاد 42 فرداً من النساء والرجال والأطفال، وإصابة العشرات بجروح بالغة، وإثارة الرعب والخوف بين المواطنين المسيحيين من خلال عمليات تفجير مساكنهم، وسياراتهم، وحملة الاغتيالات المتواصلة تتطلب إجراء تحقيق دولي بغية الوقوف على منفذي هذه الجرائم والذين يقفون وراءهم ويدعمونهم بالمال والسلاح، حيث باتت القضية أكبر من عملية إرهابية هنا وهناك، بل هي عملية إجرامية منظمة، واسعة النطاق لتهجير ملايين المسيحيين من أرض أجدادهم منذ آلاف السنين، فهي والحالة هذه تعتبر بحق جريمة ضد الإنسانية، وينبغي أن يتولى التحقيق بهذه الجريمة محققون دوليون على مستوى عالٍ من الكفاءة، بغية الوصول إلى الجهة التي تدفع هذه العصابات الفاقدة لصفة الإنسان، وتجاوزت في غيها وإجرامها كل الحدود، وإحالتم ومن يقف وراءهم إلى محكمة دولية، وإنزال العقاب الصارم بهم ليكونوا درساً لكل من تسول له نفسه العبث بالنسيج الاجتماعي للعراقيين، وإثارة النعرات الدينية والطائفية والعنصرية المقيتة.
إن الولايات المتحدة تتحمل كامل المسؤولية عن الأوضاع المأساوية التي حلت بالعراق منذ احتلاله عام 2003 وحتى يومنا هذا بحكم احتلالها للعراق، وهي قادرة دون أدنى شك لو شاءت الوصول إلى المستفيد من عملية تهجير المسيحيين من وطنهم ووطن أجدادهم منذ فجر التاريخ، حيث لم يعد هناك أدنى ثقة بالأجهزة الأمنية المخترقة من قبل ميليشيات الإرهاب المعروفة والجاهزة للقيام بأي دور إجرامي مطلوب لحساب من يدفع الثمن.
 أن على الأمم المتحدة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية تشكيل الهيئة التحقيقية، بالتعاون مع الحكومة العراقية التي ستشكل قريباً وبأسرع وقت، قبل أن تتفاقم المحنة، وتتحول إلى حركة نزوح جماعية واسعة النطاق، وما تسببه من مصائب وويلات ومعانات لا حدود لها لمئات الألوف من النازحين.
إن على الأخوة المسيحيين أن يثبتوا أقدامهم بأرض أجدادهم، وأن لا ترهبهم هذه العصابات المنحطة الفاقدة لكل القيم الإنسانية، والتي ستنتهي لا محالة إلى قفص الاتهام، لتعترف عن من دفعها ومولها وجهزها بالسلاح لتنفيذ جرائمها البشعة ، وسينال كل مجرم جزاء ما اقترفت يداه.
إن الشعب العراقي يقف بكل قومياته وأديانه وطوائفه إلى جانبكم في هذه المحنة ولن يتخل عنكم أبدا، فأنتم جزء أصيل من النسيج الاجتماعي العراقي، وسيكون عوناً لكم في المساهمة بالكشف عن المجرمين واسيادههم وتقديمهم للعدالة.
إننا نقدر صعوبة الظروف التي تمرون بها اليوم، وعظم التضحيات، ولقد عشنا مثيلا لها بين أعوام 1959 و1963 في مدينة الموصل على أثر فشل انقلاب العقيد الشواف، وقيام العناصر البعثية، وجانب من القوميين بتلك الحملة الإجرامية من الاغتيالات من قبل عناصر حقيرة مدفوع لها اجرها، ومسنودة من الأجهزة الأمنية، حيث لم يكن يمر يوم واحد دون اغتيال ما بين خمسة و عشرة مواطنين أبرياء، فكانت حصيلة تلك الحملة الإرهابية المنظمة أكثر من ألف شهيد، وهجرة حوالي 30 ألف عائلة من الموصل إلى بغداد والعديد من المدن الأخرى، وكان القتلة معروفون تماماً لأبناء الموصل، وكذلك مموليهم، وقد تحدثت عن تلك المحنة في كتابي [ صفحات من تاريخ العراقي الحديث] الجزء الثاني بكل تفاصيلها، وكيف كانت تلك الجرائم تجري تحت سمع وبصر الحكومة وأجهزتها الأمنية دون أن تتخذ أي إجراء سوى القبض على جثث الضحايا.
ستنتهي محنكم لا محالة، وستعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية، وستبقون دائماً وأبدا أخوات وأخوة وأبناء وأحفاد أعزاء على قلوبنا، فخورون بكم، وبحبكم للوطن والمواطن وللإنسانية جمعاء.
المجد والخلود لشهداء كنيسة سيدة النجاة، وسائر الشهداء المسيحيين الآخرين في الموصل وبغداد والمدن الأخرى، والخزي والعار للقتلة المأجورين وكل من يقف وراءهم، دولاً ومنظمات وأفراد. 


283
حكام طهران وذراعهم المسلح حزب الله
يدفعان لبنان نحو الهاوية

حامد الحمداني                                              16/10/2010


لبنان هذا البلد الصغير بمساحته والكبير بأهله، الذي كان وما يزال منذ عقود عديدة الرئة التي يتنفس بها العالم العربي طعم الحرية والديمقراطية، وكان ملجأ جميع الأحرار المضطهدين من قبل الأنظمة العربية في أوطانهم، هذا البلد الذي أنجب كوكبة رائعة من الكتاب والشعراء والأدباء والمثقفين التقدميين الذين كان لهم دور ريادي في النهضة التي شهدها العالم العربي في الخمسينات من القرن الماضي، هذا البلد الذي يجد القارئ فيه حرية الصحافة بكل تلاوينها واتجاهاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هذا البلد الذي يطبع الكتب بمختلف اتجاهاتها لينهل منها  بنات وأبناء العالم العربي، هذا البلد العظيم ، وهذا الشعب المثابر والشجاع يراد له اليوم أن يدفع ثمن الحرية والديمقراطية من جديد، فكأنما ما دفعه الشعب اللبناني من الدماء والدموع والتشرد في مختلف بقاع العالم بعد أن أصبح ساحة للصراع بين القوى المتصارعة في عالمنا العربي مع إسرائيل.
فقد شهد لبنان عام 1975 أبشع حرب أهلية كان من أطرافها الفصائل الفلسطينية المسلحة من جهة وإسرائيل وهجماتها المتكررة التي بلغت حد احتلال بيروت، بالإضافة إلى القوى اللبنانية التي انقسمت بين مناصر لمنظمة التحرير الفلسطينية وذراعها المسلح من جهة، والأطراف المناهضة لها، حيث دفع الشعب اللبناني ثمناً باهظا من أرواح أبنائه بعشرات الألوف، بالإضافة إلى الهجرة الواسعة لمئات الآلاف من شباب لبنان هرباً من الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، ولم تتوقف تلك الحرب المجنونة إلا بعد أن دخلت قوات الردع العربية في محاولة لإعادة الأمن والسلام في البلاد.
 لكن تلك القوات ما لبثت أن انسحبت من لبنان باستثناء القوات السورية التي خاضت ضد قوات ميشيل عون الذي سلمه الرئيس اللبناني المنتهية ولايته أمين الجميل زمام السلطة من جهة، وضد ميليشيات القوات اللبنانية من جهة أخرى حتى استتب الأمر لسوريا لكي تحكم لبنان من وراء الستار، فكانت الحكومة السورية هي  الحاكم الحقيقي للبنان، وتمكن الفرقاء اللبنانيون المتخاصمون من التوصل إلى السلام بينهم عبر اتفاق الطائف بعد 15 عاماً من الصراع المسلح والدامي.
ومنذُ ذلك التاريخ وحتى حادثة اغتيال الرئيس اللبناني رفيق الحريري كانت الأرض اللبنانية ساحة الصراع بين سوريا وإسرائيل، فتعرض لبنان إلى هجمات إسرائيلية متتالية، وتم احتلال جنوب لبنان من قبل إسرائيل الذي كان العامل الحاسم في ظهور المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، والتي خاضت صراعاً مريراً مع المحتلين الإسرائيليين تكلل بالنجاح بانسحاب القوات الاسرائلية من جنوب لبنان.
استبشر الشعب اللبناني خيراً بعد تحرير الجنوب، وشارك بكل طوائفه بالاحتفال بذلك النصر، على أمل وقف النزيف اللبناني، والتمتع بالأمن والسلام بعيداً عن العدوان الإسرائيلي.
وعلى اثر اغتيال الشهيد الحريري، وبضغط من المجتمع الدولي ومجلس الأمن اضطرت سوريا إلى سحب قواتها من لبنان، واستقالت حكومة عمر كرامي الموالية لسوريا ، وجرى تكليف السيد نجيب ميقاتي بتشكيل حكومة انتقالية مستقلة أجرت انتخابات برلمانية جديدة أسفرت عن فوز قوى 14 آذار المناوئة للاحتلال السوري.
 لكن الأوضاع اللبنانية لم تهدأ، فقد تحول الصراع من جديد بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار بزعامة حزب الله الذراع المسلح لحكام طهران، وبالتحالف مع ميشيل عون الطامع بمنصب رئاسة الجمهورية.
وجاء اختطاف حزب الله لجنديين إسرائيليين بكارثة جديدة نزلت على رؤوس اللبنانيين، حيث زج حزب الله لبنان بحرب جديدة مع إسرائيل، متجاهلاً الحكومة اللبنانية، ومتخذاً قرار الحرب بنفسه، وقد دفع الشعب اللبناني ثمناً باهظاً في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، وتشريد مئات الألوف من أبناء الجنوب هرباً من الموت.
وتصاعد الصراع بين الحكومة وحزب الله يوماً بعد يوم، واحتل حزب الله قلب بيروت، وأعلن الاعتصام فيه لأشهر عديدة، وشل عمل مجلس النواب الذي ظل مغلقاً، وقاطع حكومة فؤاد السنيورة، وشل عملها، كما شل الاقتصاد اللبناني والحركة السياحية التي يعتمد عليها الاقتصاد اللبناني، واتخذ الصراع أسلوب التهجم من جانب حزب الله على الحكومة ورئيسها السنيورة، والحيلولة دون انتخاب رئيس جديد للبلاد خلفاً للرئيس إيميل لحود الذي فرضت سوريا تمديد ولايته المنتهية لعامين خلافاً للدستور، واستمر الصراع بالتصاعد حتى بلغ الذروة باحتلال بيروت من قبل قوات حزب الله، ووقوع العشرات من القتلى والجرحى، وبات حزب الله صاحب السلطة الفعلية في لبنان مما هدد النظام القائم في لبنان، وإشعال حرب أهلية جديدة .
لكن الجهود الدولية والعربية التي بذلت لوقف التدهور الحاصل في البلد استطاعت جمع الطرفين في مؤتمر الدوحة، حث تم الاتفاق على تشكيل حكومة مشتركة، وانتخاب قائد الجيش ميشيل سليمان رئيساً للجمهورية.
 لكن ذلك الاتفاق لم يكن سوى حل وقتي لتفادي الحرب الأهلية، فقد بات حزب الله الذراع المسلح لحكام طهران، بما يمتلكه من أسلحة وصواريخ، ودعم مادي غير محدود من قبل حكام طهران جاوزت قدرات الجيش اللبناني، الحاكم الفعلي للبنان، ورغم كل المحاولات من جانب الحكومة الشرعية لوضع قدرات حزب الله العسكرية تحت خيمة الجيش اللبناني، فقد باءت بالفشل كل تلك المحاولات، وأصر زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله على موقفه، مما جعل قرار الحرب والسلام بيد الحزب وليس بيد الحكومة الشرعية، وبات مصير لبنان وشعبه رهينة بيد حكام طهران، حيث أعلن السيد حسن نصر الله صراحة أنه فخور بكونه يتبع ولاية الفقيه المتمثلة بحاكم إيران علي خامنئي.
وجاءت أخبار المحكمة الجنائية الدولية المشكلة لمحاكمة قتلة الشهيد رفيق الحريري والعديد من الشخصيات السياسية باحتمال أن يتضمن القرار ألضني توجيه تهمة تلك الجرائم إلى حزب الله لترفع من درجة الاحتقان في الوضع السياسي، وتصاعد التهديدات من جانب السيد حسن نصر الله لحكومة السيد سعد الحريري، وللنظام القائم في لبنان في خطاباته المتكررة حيث أخذت لهجة نصر الله بالتصاعد يوماً بعد يوم بحيث بات مصير لبنان كوطن وكشعب على كف عفريت، وتصاعدت وتائر الخوف والقلق لدى الشعب اللبناني مما تخبئه لهم الأيام القادمة بعد أن تحولت مقاومة حزب الله لإسرائيل إلى الداخل اللبناني، ولاسيما وأن عملية احتلال بيروت من قبل ميليشيات حزب الله ما تزال ماثلة أمام الشعب اللبناني بكل مخاطرها المحتملة على صيغة التعايش القلقة بين مكونات الشعب.
وجاءت زيارة الرئيس الإيراني احمدي نجاد لبيروت لتزيد من حدة التناقض بين جبهتي الصراع من جهة، واحتمال إشعال حرب جديدة مع إسرائيل بعد التهديدات التي أطلقها أحمدي نجاد لإسرائيل في زيارته لبنت جبيل على بعد أربعة كيلومترات من الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
لقد أصاب الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني في بنت جبيل الشعب اللبناني بالذهول والرعب مما ينتظره لو اندلعت الحرب مع إسرائيل من جديد، والتي ستكون بكل تأكيد أفضع بما لا يقاس من حرب صيف عام 2006، والتي لا قبل لشعب لبنان بتحملها هذه المرة ، وربما شرارة بسيطة ستطلق وابل الصواريخ من كلا الجانبين إسرائيل وحزب الله، وهناك احتمالاً كبيراً أن لا تقتصر الحرب على لبنان بل سوريا كذلك، وربما تمتد نيران الحرب لتشمل الشرق الأوسط برمته .
إن حكام طهران وذراعهم المسلح في لبنان [حزب الله] يلعبان بالنار التي ستحرق الجميع، وسيكون أول الضحايا الشعب اللبناني المغلوب على أمره، حيث الحكومة اللبنانية عاجزة عن امتلاك قرار السلم والحرب الذي يمسك به السيد حسن نصر الله، والذي ينفذ الإرادة الإيرانية متجاهلاً حكومة وشعب لبنان، إن حزب الله بتبعيته المطلقة لحكام طهران يقود لبنان نحو الهاوية إذا لم يبادر المجتمع الدولي إلى تولي زمام الأمر بأسرع ما يمكن، وقبل أن يفوت الأوان، للحيلولة دون وقوع الكارثة التي ربما باتت وشيكة، فالنار يمكن إشعالها بعود ثقاب، لكن إطفائها سيكون عسيراً بكل تأكيد، وستكلف بلدان المنطقة والعالم غالياً جداً من الدماء والدموع والخراب والدمار الذي سيأتي على كل شيء.
إن مهمة الحفاظ على السلم الأهلي في لبنان باتت قضية ملحة لا تقبل التأجيل ، وهي بلا أدنى شك تقع على عاتق المجتمع الدولي،ومجلس الأمن، لنزع فتيل الحرب الأهلية من جهة، ولإجبار حكام تل أبيب على تنفيذ الحل العادل للقضية الفلسطينية، جوهر النزاع في الشرق الأوسط، وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل أراضي الضفة الغربية حتى حدود 4 حزيران 1967بما فيها القدس الشرقية كاملة، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة الخاصة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإقامة السلام الحقيقية والدائم في منطقة الشرق الأوسط.

284
هل من طريق لإخراج العراق من عنق الزجاجة
 بأقل المخاطر والخسائر؟

حامد الحمداني                                                      8/10/2010


ما تزال الأزمة السياسية العراقية الخانقة تراوح في مكانها، وما زالت البلاد دون حكومة شرعية تستمد سلطتها من مجلس النواب المنتخب، وما زال الدستور الذي سنته الفئة الحاكمة، ينتهك على أيديها، وما زال البرلمان الذي مضى على انتخابه سبعة اشهر عاجزاً عن الانعقاد، وما زال أعضاء المجلس النيابي المنتخب يعدون الأشهر ويقبضون رواتب خيالية دون أن يباشروا عملهم كنواب، وما زالت الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات عاجزة عن تأمين النصاب القانوني لتشكيل الوزارة العتيدة، وما برح قادة هذه الكتل يصارعون بعضهم بعضاً تارة، ويغازلون ويساومون بعضهم بعضا تارة أخرى، ويتاجرون بمصالح الشعب والوطن، من أجل السلطة التي باتت الهدف الأسمى لهم جميعاً، أما العراق، ومصائب ومعانات شعب العراق، فهي أمور ثانوية لا تستحق الاهتمام!!.
أنها محنة، وأي محنة يعيش فصولها الشعب المغلوب على أمره دون أن يرى بصيص أمل في الخروج منها، يساوره القلق الشديد على ما تخبئه الأيام القادمة، وأحداث عامي 2006و2007 ماثلة أمام ناظريه مع تصاعد الأزمة السياسية واحتمال تحولها نحو العنف الوحشي من جديد الذي يصيب المواطنين الأبرياء.
ومما يصاعد من مخاوف الشعب عودة الكتلة الصدرية وجيشها السيئ الصيت والمسمى بجيش المهدي ، والذي اقترف من الجرائم في الأعوام السابقة ما تقشعر من هولها الأبدان، وتدخلهم الفظ في شؤون المواطنين الحياتية، وحرياتهم الشخصية، وفرض الحجاب على المرأة العراقية بصرف النظر عن الدين والطائفة والقومية، بقوة السلاح، وشروطهم التي قدموها للمالكي المتضمنة طلبهم بحصص كبيرة في الوزارات والجيش والقوى الأمنية، مما يهدد بشكل جدي السلام والاستقرار الذي ينشده الشعب، والذي لن يتحقق إلا من خلال إبعاد الجيش والأجهزة الأمنية عن الحزبية والطائفية التي تمثل برميل بارود يهدد بالانفجار في أي لحظة ليشعل نار الحرب الأهلية من جديد.
إن الحل الوحيد الممكن للأزمة العراقية الخانقة يتطلب عودة الاتصالات بين كتلتي دولة القانون والعراقية الفائزتين بأكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب لتشكيل حكومة قوية لا تهزها العواصف، ولا تضعفها المساومات، مع ضم الكتلة الكردية وسائر الكتل الأخرى التي تقبل ببرنامج محدد للحكومة، ولا بد من عقد مائدة مستديرة لهذه الكتل لوضع الخطوط الرئيسية لهذا البرنامج الذي يهدف إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية تحترم الحريات العامة، وتحقق العدالة الاجتماعية بين سائر مكونات الشعب، بعيداً عن الطائفية والتعصب القومي، والمصالح الحزبية الضيقة، وهذا يتطلب التنازل من قبل قيادة الطرفين الرئيسيين المالكي وعلاوي، وذلك بتنازل المالكي عن بعض صلاحياته لرئيس الجمهورية ، وقبول علاوي بمنصب رئاسة الجمهورية، على أن يتم الاتفاق على إعادة النظر في الدستور لتثبيت صلاحيات كل من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ولابد من العودة للنظام الرئاسي، وانتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب لكي لا تتكرر الأزمة السياسية الراهنة مرة أخرى.
 كما يتطلب تشريع قانون جديد للانتخابات على الطريقة النسبية منعاً لتكرار سرقة أصوات الكتل الصغيرة، كما جرى في الانتخابات الأخيرة، وكذلك سن قانون الأحزاب السياسية على أسس ديمقراطية، وإبعاد الدين عن السياسة، ومنع استخدام الدين وسيلة للعمل السياسي، هذا الأسلوب الذي يفسد الدين والسياسة معا، ولا بد من تحديد تمويل الأحزاب السياسية من قبل الدولة، ومنع قبول أي تمويل خارجي من أية جهة كانت، مع خضوع مالية الأحزاب لرقابة صارمة، وضرورة الشفافية،وإتاحة الفرص المتساوية للأحزاب السياسية لاستخدام وسائل إعلام الدولة لعرض برامجها السياسية، والتعهد بالتداول السلمي للسلطة على أساس الورقة الانتخابية .
هذا هو السبيل الممكن لحلحلة الأزمة المستعصية الراهنة، في ظل الظروف الحالية التي يمر بها العراق، والمشحونة بالمخاطر الجسيمة التي تهدد مستقبل البلاد، فهل تعي هذه القيادات هذه المخاطر وتتنازل عن مصالحها الأنانية رحمة بالعراق وشعبه الذي لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الويلات والمصائب وإراقة الدماء؟

285
هل رضخت الولايات المتحدة للإرادة الإيرانية بتشكيل الحكومة العراقية من قبل المالكي؟

حامد الحمداني                                                            6/10/2010


بعد صراع مرير بين القوى الدولية والإقليمية، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة وحكام إيران من جهة، وبين قادة الكتل السياسية العراقية في صراعها على السلطة والثروة من جهة أخرى، هذا الصراع الذي امتد سبعة اشهر، وما يزال مستمراً لغاية كتابة هذا المقال حول من سيشكل الحكومة العراقية العتيدة، المالكي أم علاوي أم عبد المهدي أم الجعفري، وبرغم الصراع المرير الذي خاضته حكومة المالكي المنتهية ولايتها مع ميليشيات ما يسمى بجيش المهدي التابع للكتلة الصدرية في البصرة وبغداد، ووقوع مئات القتلى والجرحى في صفوف الطرفين، الجيش العراقي والصدريين، ورغم وجود المئات من أفراد تلك المليشيات في السجون، والحكم على أكثر من 160 فرداً منهم بالإعدام، وبرغم الرفض المتواصل والقاطع لقيادات الكتلة الصدرية لترشيح المالكي لرئاسة الوزارة من جديد ، تفاجأ الشعب العراقي بانقلاب موقف الكتلة الصدرية بـ 180 درجة من الرفض المطلق للمالكي ، إلى الخروج على موقف الائتلاف الوطني الذي جرى تشكيله لخوض الانتخابات الأخيرة، والذي ضم المجلس الأعلى الإسلامي، وحزب الفضيلة وكتلة الجعفري بالإضافة للصدريين، حيث أعلن قادة الكتلة الصدرية في قرار مفاجئ عن تأييدهم لترشيح المالكي لرئاسة الوزارة ، وقد امتنع شركاء الصدريين في الائتلاف الوطني عن حضور الاجتماع الذي جرى فيه الإعلان عن القرار، مما يؤكد امتعاض حلفاء الصدريين من انقلابهم المفاجئ.
 وعلى الرغم من تبعية المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحكيم، وحزب الفضيلة وكتلة الجعفري للقيادة الإيرانية، وعلى الرغم من مختلف الضغوط التي مارستها القيادة الإيرانية للحفاظ على تماسك الائتلاف الوطني، فقد فشلت تلك الضغوط في إقناع هذه الكتل في التصويت للمالكي مرشحاً وحيداً لرئاسة الوزارة، وامتنعوا عن حضور الجلسة التي عقدت لاختيار مرشحهم، مما يشير إلى تضحية القيادة الإيرانية بحلفائها التقليديين من جهة، وإقناع زعيم الكتلة الصدرية مقتدى الصدر المتواجد في إيران بقبول المالكي مرشحاً وحيداً لرئاسة الوزارة، بعد أن يئست القيادة الإيرانية من إمكانية وصول عبد المهدي أو الجعفري لهذا المنصب، حيث استأثرت الكتلة الصدرية بالحصة الكبرى في البرلمان الجديد وحصدت 40 مقعداً من مجموع لمقاعد التي حصلت عليها الكتلة،والبالغة 71 مقعداً، في حين حصل المجلس الأعلى على 9 مقاعد، وحزب الفضيلة وكتلة الجعفري على22 مقعداً، في حين حصلت كتلة المالكي[دولة القانون] على 89 مقعداً، وكان العامل الحاسم في تغير الموقف الإيراني باتجاه المالكي للحيلولة دون وصول علاوي إلى رئاسة الوزارة، باعتباره موالياً للولايات المتحدة أولاً، وبعثياً سابقاً ثانيا، وفي واقع الحال فإن جميع قادة الكتل تحت المظلة الأمريكية!.
ويتساءل المتتبعون لتطورات الأوضاع السياسية في العراق عن حقيقة الموقف الأمريكي المتذبذب من التدخل الصارخ لحكام طهران في الشأن العراقي؟
فهل أن الولايات المتحدة قد ساومت إيران على حساب مصالح العراق وشعبه؟
أم أن الإدارة الأمريكية قد رضخت للإرادة الإيرانية؟
أم أن للإدارة الأمريكية مآرب أخرى من سياستها الحالية تجاه حكام إيران؟ وهذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
الأمر الذي أدركه أن الولايات المتحدة لن تسمح لأي قوى في المنطقة الهيمنة على نفط الخليج، وهي تدرك تمام الإدراك أن العراق سيكون في العقد القادم المنتج الأكبر للنفط في المنطقة، وهذا ما أكده مبدأ كارتر المعروف، والذي جاء فيه:
{إن أية محاولة من جانب أية دولة للهيمنة على نفط الخليج سوف يعتبر اعتداءاً على المصالح الأمريكية الاستراتيجية، وسوف يرد عليه بسائر الوسائل العسكرية بما فيها السلاح النووي}.
كما أن الولايات المتحدة تدرك تمام الإدراك أن الهيمنة الإيرانية على العراق سوف يمثل خطرا كبيراً على قاعدتها المتقدمة في الشرق الأوسط [ إسرائيل] وهو ما لا تسمح به أبدا.

إن مشكلة تشكيل الوزارة العراقية المستعصية ليست قريبة الحل، وهي تعتمد على توفر جملة أمور قد لا يمكن تجاوزها .
فهناك مستجدات على ساحة الصراع بين الكتل، حيث تجري لقاءات بين كتلة العراقية بقيادة علاوي، وبين الكتلة الوطنية يتزعمها الحكيم لتشكيل كتلة موازية لكتلة المالكي مع الصدريين، وبذلك سيكون عصياً على أي من الكتلتين[علاوي والمالكي] تشكيل الحكومة المرتقبة من دون كسب الكتلة الكردية التي باتت تمثل بيضة القبان في المعادلة العراقية الجديدة، وسيكون ثمن كسبها غاليا، حيث وضعت القيادة الكردية مطالب عديدة جاوزت العشرين، وستعزز التطورات الجديدة مواقف الكتلة الكردية وتشددها لتحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب على حساب المصلحة العامة للشعب العراقي ككل، فهل سيساوم المالكي أم علاوي بمصالح الشعب العراقي على مذبح رئاسة الوزارة؟
ثم لو تمكن المالكي من تشكيل الحكومة بدعم من القيادة الكردية، ورفضت كتلة علاوي المشاركة في الحكومة، فهل سيستقيم الحال في العراق بمعزل عن مشاركة الطائفة السنية؟
إن كل الدلائل تشير إلى أن الوضع الأمني مهدد بمخاطر جسيمة إذا لم يتم الاتفاق
على حكومة مشاركة وطنية، لا محاصصة طائفية، تستطيع انتشال العراق من أزمته الحالية المستعصية، وتحقق الأمن والسلام للشعب العراقي الذي كابد وما يزال منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في 9 نيسان 2003 وحتى يومنا هذا من تدهور امني خطير، أقّضَ مضاجع الشعب وجعله يدفع ثمناً باهضاً من دماء بناته وأبنائه، وهو اليوم يعيش حالة من القلق الشديد والرعب الدائم مما تخبئه له الأيام القادمة إذا لم يتم وضع حد لهذا الصراع المجنون على السلطة والثروة.
إننا بحاجة قصوى إلى تشكيل حكومة وطنية بعيداً عن المحاصصة الطائفية أو العرقية، حكومة تؤمن بعراقيتها، ولا تتلقى الأوامر والتوجيهات من إيران أو السعودية أو تركيا أو سوريا أو الأردن، دعك عن التدخل الأمريكي السافر في الشؤون العراقية صغيرها وكبيرها، فقد غدا العراق ساحة مفتوحة لهذه الدول، تتلاعب بمصيره ومصير الشعب، من أجل تحقيق مصالحها الإقليمية في المنطقة.
فهل يعي المتصارعون على السلطة مخاطر هذه اللعبة على مستقبل العراق،وعظم المسؤولية الكبرى التي سيتحملونها إن هم فرطوا بمصالح الشعب والوطن؟

286
أيها الشعب العراقي المنكوب
خذ الزمام واصنع القدرَ!

حامد الحمداني                                                         20/9/2010
سبعة أشهر مرت على إجراء الانتخابات البرلمانية وما زال هذا البرلمان العتيد! عاجزاً عن عقد الجلسة الأولى لانتخاب رئيس له، وانتخاب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، وتشكيل الحكومة، ومازالت البلاد دون حكومة شرعية، ورئيس شرعي، وما زال قادة الكتل الذين انتخبتهم أنت بمحض إرادتك، ودون أن تأخذ العبرة من الانتخابات السابقة التي لم تجنِ منها سوى الدماء والدموع، وسوى ضياع ثروات البلاد التي جاوزت 300 مليار دولار على أيدي الفاسدين دون وازع من ضمير!!
أنك تدفع يومياً فاتورة كبرى لهذا التجاهل لمصالحك ومصالح الوطن من قبل المتصارعين على السلطة والثروة، تتمثل في إزهاق أرواح المئات من أبنائك الأبرياء، ومئات الجرحى والمعاقين كل يوم، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة على أيدي هؤلاء القتلة المجرمين الذين يمثلون أدوات هذا الصراع الإجرامي المجنون، فلا قيمة عندهم لأرواح أبنائك، ما داموا يعيشون في أمان في المنطقة الخضراء التي تتمتع بحماية شديدة، وليذهب أبناؤك البررة إلى الجحيم.
المثل الشعبي المعروف يقول: {المرء لا يلدغ من جحر مرتين}، ولقد لدغت أيها الشعب العراقي المنكوب بحكامك، وبمن انتخبتهم ليمثلوك في البرلمان ثلاث مرات مع الأسف الشديد، دون أن يحققوا لك أبسط طموحاتك في العيش بسلام وأمان ، والحصول على الخدمات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وبودي أن أسألك يا شعبنا المغدور:
* ماذا تحقق لك على أيدي هؤلاء الذين انتخبتهم لثلاث مرات متتالية من حقوق  وخدمات ضرورية؟

* هل حققوا لك ولأبنائك العيش بسلام وأمان، والتي  تمثل أبسط حقوق الإنسان التي أقرتها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان؟

* هل حققوا لك ولأبنائك العيش الكريم وأنت تعيش في بلد من أغنى بلدان لعالم، وهل سألتهم أين ذهبت المليارات الثلاثمائة ؟

* هل تمتعت أنت وأبنائك بطاقة كهربائية تقيكم قيض الصيف اللاهب ، وبرد
 الشتاء القاسي.

* هل تشرب أنت وأبناك ماءاً صافياً خالياً من البكتريا والجراثيم، فلا تنال منكم الأمراض والأوبئة القاتلة؟

* هل تتلقى أنت وأبنائك العلاج الشافي والخدمات الجيدة في المستشفيات الرسمية، فلا تضطرون إلى اللجوء للمستشفيات الأهلية التي تستنزف كل مدخراتكم، وعلى حساب مستوى معيشتكم الأخذ بالتدهور  يوماً بعد يوم؟

* هل حققوا لك ولأبنائك حلاً لمشكلة البطالة المستعصية، من خلال إعادة بناء البنية التحية الصناعية والزراعية القادرة على استيعاب جيش العاطلين، ومكافحة البطالة المقنعة التي أتخموا فيها أجهزة الدولة من الأحباب والمقربين؟

* هل أعادوا ترميم مشاريع الصرف الصحي، حيث باتت مياه الصرف الصحي التي تغطي الشوارع والطرقات في الأحياء السكنية مرتعاً خصباً للحشرات والمكروبات التي تسبب الأمراض والأوبئة لأبنائك؟

* هل تم إعادة ملايين المهجرين ضحايا الحرب الأهلية التي أشعلوها عامي 2006، و2007، تاركين مساكنهم وأعمالهم ووظائفهم بغية النجاة بأرواحهم
من طغيان أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني؟

*هل تحقق للوطن العزيز الاستقلال الحقيقي والسيادة الوطنية؟

* هل هذه هي الديمقراطية التي وعدنا بها المحتلون الأمريكان وسيدهم بوش؟

إلى متى أيها الشعب العراقي المهضوم الحقوق يستمر بك الحال؟ لقد طال صبرك ، وليس هناك شعاع نور في هذا النفق المظلم، ولا أمل يرتجى من هذا البرلمان الذي انتخبته ليمثلك، ولا بهذه الزعامات المتصارعة على السلطة والثروة، لتحقيق طموحاتك في الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة التي تليق بالإنسان.
أنت أيها الشعب العراقي من صنعهم نواباً وزعامات ، وأنت من يستطيع سحب الثقة عنهم، بنضالك وكفاحك الذي عرفت به عبر التاريخ، فلتتوحد الجهود، وللتتشابك الأيادي لسائر مكونات شعبنا بكل قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، ولتطلق صرختك المدوية بسحب الثقة بهم ، و حل هذا البرلمان، وتشكيل حكومة مستقلة عن سائر الكتل السياسية المتصارعة تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات برلمانية جديدة، بعد تعديل قانون الانتخابات الجائر الذي جرى تفصيله على مقاسهم
الأمر بيد أبنائك أيها الشعب ، فأنت من صنع هذه الزعامات ، وأنت وحدك من يسحب الثقة بهم، والإتيان ببديل عنهم، ممن تجد فيهم الوطنية الصادقة والنزاهة، ويمتلك المؤهلات التي تؤهلهم لإنقاذ العراق وشعبه من هذا المأزق الحرج، فخذ أيها الشعب الزمامً، واصنع القدرَ.
 


 

287
من ذاكرة التاريخ:

أسرار وخفايا الحرب العراقية الإيرانية
حرب الخليج الأولى

حامد الحمداني                          القسم الثاني                     28/8/2010

أولاً:إيران تستعيد قدراتها، وتشن الهجوم المعاكس:

في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه، بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في تلك الحرب.

لقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري، مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية!، وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال، وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء، ولبس قسم منهم الأكفان، وهم يتقدمون الصفوف.
وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع الجيش الإيراني، والحرس الثوري من تطويق القوات العراقية، وخاض ضدها معارك شرسة، ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الجلاد صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.

 واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري، وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [ خرم شهر] وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة، واشتدت المعارك بين الطرفين، واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [خوزستان] في تموز من عام 1982، بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من القتلى، وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية، وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب، وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط .
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان  الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق، وأصروا على مواصلة الحرب، وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم.
وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان، حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين، بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها، مستغلاً قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام  1982 باجتياح لبنان، واحتلالها للعاصمة بيروت، وفرضها زعيم القوات الكتائبية [بشير الجميل] رئيساً للبلاد، تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني، لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه، مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة.
 إلا أن حكام إيران، وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي، وأصروا على مواصلة الحرب، وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان، لتقديم الدعم للشعب اللبناني، وقد رفض حكام العراق الطلب الإيراني كذلك.

وحاول حكام العراق بكل الوسائل والسبل وقف الحرب، ووسطوا العديد من الدول، والمنظمات ،كمنظمة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب، وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران، في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين، حيث أُسقطت طائرته، ولف الحادث الصمت المطبق، وبقي سراً من الأسرار.

كما اغتيل رئيس وزراء السويد [أولف بالمه] الذي بذل جهوداً كبيرة من أجل وقف القتال، في أحد شوارع العاصمة السويدية، وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك، وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي، والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة.

لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب، من أعظم الأخطاء التي وقعوا فيها، ولا يمكن تبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال، فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988، إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين العراقي والإيراني، وبُددت ثروات البلدين، وانهار اقتصادهما، وتراكمت عليهما الديون، وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا، كما كانت شعاراتهم تقول.

لا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونوا عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية، وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة، وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة، والمعدات وقطع الغيار، والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين، من أجل إطالة أمد الحرب، وعليه كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين  بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية المجرمة والمتمثلة بصدام حسين وزمرته، والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً حيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب، أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال.

لقد كان أحرى بالنظام الإيراني، وبالإمام الخميني على وجه التحديد وهو رجل الدين الأول في إيران إيقاف القتال، وحقن الدماء، والعمل بقوله تعالى:
{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله }.
 وقوله في آية أخرى:
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين}،
كما جاء في آية ثالثة قوله:
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فاصلحوا بينهم }.

 تلك هي آيات قرآنية، تحث على السلام، وحل المشاكل بالحسنى والعدل. وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات، وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب، ليسوا صدام حسين وزمرته، وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين؟

ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين  ويمدونهم بالسلاح والمعلومات العسكرية، أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية استهدفت البلدين والشعبين والجيشين، من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج، وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟
 ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب خدمة كبرى للإمبرياليين، وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما؟

 لقد أعترف صدام حسين عام 1990، بعد إقدامه على غزو الكويت، في رسالة إلى الرئيس الإيراني [هاشمي رفسنجاني]، أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية، حيث ورد في نص الرسالة ما يلي :
{إن هناك قوى أجنبية كانت لها يد في الفتنة}.

لكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة، وبشكل دقيق، لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين أشعل الحرب بأمر أو تحريض أمريكي، وظن أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة ولعب دور شرطي الخليج، بعد أن كانت إيران على عهد الشاه تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً واسعاً على الخليج .

لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية، ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل، كما يقول المثل، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه البررة، وبدد صدام حسين ثروات البلاد، واغرق العراق بالديون ،ودمر اقتصاده، ولم يستفد من تلك الحرب سوى الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم ، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما، ومن قبل الإمبرياليين أساس البلاء.

ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق كقيام ثورة [ شيعية ] تسقط نظام صدام، لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق لسبب بسيط وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني، ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة، وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج، وليس أدل على ذلك من إعلان الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي دُعي بمبدأ كارتر، وجاء فيه ما يلي :
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية}.

هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج، والتي جهلها أو تجاهلها حكام البلدين، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب في القرن العشرين.

ثانيا:استمرار الحرب، وإيران تستكمل تحرير أراضيها:

اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام 1983 ـ 1986، حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين، واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان، أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب، وشنت هجوماً واسعا على القوات العراقية، مسددة له ضربات متواصلة استطاعت من خلالها تحرير مدن  [قصر شيرين] و[سربيل زهاب] و[الشوش]، وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية، ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح، والمعدات، وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه، والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تُركوا في ساحات المعارك، ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية.

 ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة، وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً، وغضباً على صدام ونظامه الذي ورط العراق بتلك الحرب، وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف، فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب الموت الزؤام.

لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ  من المال، أو قطعة أرض أو شقة  أو دار، وكانت الحكومة السعودية، وحكام دول الخليج الأخرى تدفع الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى، ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي، بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب، واستنفذ كل موارد العراق النفطية  والبالغة 25 مليار دولار سنوياً، هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون، والتي جاوزت حدود أل 90 مليار دولار.

لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره، ومستوى معيشة شعبه، نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية وأراضي زراعية خصبة، ومياه وفيرة، ولكن الجلاد آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر، والوطن نحو الدمار والخراب.


ثالثاً:الجيش الإيراني يحتل شبه جزيرة الفاو وجزر مجنون الغنية بالنفط

اشتدت المعارك بين الجيشين العراقي والإيراني، وبدت إيران في وضع يمكنها من شن الهجمات  البشرية المتتالية، تارة على القاطع الجنوبي نحو البصرة، وتارة أخرى نحو القاطع الأوسط، حول مدن مندلي وبدرة وجصان، وتارة ثالثة نحو القاطع الشمالي المحاذي لكردستان، وكان الوضع في كردستان في غير صالح النظام، بالنظر إلى الجرائم التي أقترفها بحق الشعب الكردي، مما دفع الأكراد إلى الوقوف إلى جانب إيران رغبة في إسقاط النظام، واستطاعت القوات الإيرانية من احتلال أجزاء من المناطق في كردستان.

 أما هجماته في القاطعين الأوسط والجنوبي، فقد كان حكام العراق قد حشدوا قوات كبيرة مجهزة بشتى أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي أستخدمها صدام حسين لدحر الهجمات الإيرانية، موقعاً خسائر جسيمة في صفوف القوات الإيرانية والعراقية، حيث سقط عشرات الألوف من جنود وضباط الطرفين في تلك المعارك الشرسة التي تقشعر من هولها الأبدان، ولم يفلح الإيرانيون في الاحتفاظ بأي تقدم داخل الأراضي العراقية حتى نهاية عام 1985.

لكن الوضع أصبح خطيراً بالنسبة للعراق عام 1986، عندما استطاعت القوات الإيرانية الاندفاع نحو شبه جزيرة الفاو واحتلالها بأكملها بعد معارك دموية شرسة  ودفع فيها الشعب العراقي ما يزيد على 50 ألف من أرواح أبنائه، في محاولة من صدام حسين لاستعادتها من أيدي  الإيرانيين، وكان الإيرانيون يستهدفون من احتلالها قطع الاتصال بين العراق ودول الخليج العربي، التي كان العراق يحصل على الأسلحة والمعدات عن طريقها، إضافة إلى محاولة إيران منع العراق من تصدير نفطه عن طريق الخليج، وحرمانه من موارده النفطية اللازمة لإدامة ماكينته الحربية، وقد أضطر العراق إلى مد أنبوبين لنقل النفط إلى الأسواق الخارجية، الأول عبر الراضي التركية، والثاني عبر الأراضي السعودية بعد أن أصبح نفطه مطوقاً، وسيطرت البحرية الإيرانية على مداخل الخليج.  وأستمر الإيرانيون في تكثيف هجماتهم على القوات العراقية بعد احتلالهم شبه جزيرة الفاو وركزوا على منطقة [ جزر مجنون ] الغنية جداً بالنفط، واستطاعوا احتلالها بعد معارك عنيفة. 

رابعاً:النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل:

كاد صدام يفقد صوابه، بعد أن تطورت الأوضاع على جبهات القتال لغير صالح العراق، وبدأ يعبئ كل موارد البلاد لخدمة المجهود الحربي، كما أخذ يطلب المساعدة من دول الخليج، ومن السعودية بشكل خاص، وشعر حكام الخليج أن الخطر قد بدأ يتقدم نحو المنطقة، فسارعوا إلى تقديم كل أنواع الدعم، والمساعدة المالية، وحصل العراق في تلك الفترة على 12 مليار دولار، وكان عدد من الدول العربية كمصر والسعودية والكويت تقوم بشراء الأسلحة لحساب العراق.

غير أن حكام العراق وجدوا أخيراً أن السعي لإنشاء مصانع الأسلحة ذات الدمار الشامل يمكن أن تكون أداة فعالة لدفع الخطر عن البلاد، وتم إنشاء هيئة التصنيع العسكري، وبدأ العراق بإنتاج الأسلحة الكيماوية، مستفيدين من خبرة العلماء المصريين، وبعض العلماء الأجانب، الذين سبق وعملوا في برامج الأسلحة الكيماوية في عهد عبد الناصر، وأوقفها السادات من بعده، ثم بدأ العراق في إنتاج وتطوير الصواريخ من طراز[سكود]، وطوروا مداها لكي تصل إلى أبعد المدن الإيرانية.

  وكان الإيرانيون قد حصلوا على عدد من تلك الصواريخ، وضربوا بها العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى، حيث كانت تلك الصواريخ تطلق نحو العراق كل بضعة أيام أو أسابيع لتصيب الأهداف المدنية، وتفتك بالأبرياء، فقد أصاب أحد تلك الصواريخ مدرسة ابتدائية في بغداد، وقتل العديد من الأطفال وجرح أعداد أخرى، وكان الشعب العراقي ينتابه القلق الشديد كل يوم من هذا السلاح الخطير، حيث لا أحد يعلم متى وأين سيقع الصاروخ، وكم سيقتل من الآمنين!!.

وتمكن العراق من الحصول على أعداد كبيرة من تلك الصواريخ، وبدأ في تطويرها، وزيادة مداها، وبدأ حكام العراق يطلقونها على العاصمة  الإيرانية والمدن الأخرى بكثافة، حتى جاوز عدد الصواريخ التي أطلقوها على المدن الإيرانية أكثر من [1000 صاروخ]،منزلين الخراب والدمار بها ، وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، وأخذت الحرب تزداد خطورة وأذى للسكان المدنيين.

كما تمكن العراق من إنتاج كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية، واستخدمها في صد هجمات القوات الإيرانية منزلاً بها الخسائر الجسيمة في الأرواح، كما راح حكام العراق يعبئون صواريخ سكود بالغازات السامة، كغاز[الخردل] و[السارين] السامين، ثم بدءوا يتطلعون إلى تطوير ترسانتهم الحربية في مجال الأسلحة البيولوجية والجرثومية، وتمكنوا من إنتاجها وتعبئة القنابل بها.

أحدث برامج التسلح العراقي هذا، قلقاً كبيراً لدى إسرائيل، التي كانت تتابع باهتمام بالغ تطوير برامج التسلح العراقي، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلية [الموساد] بحملة ضد العلماء الذين ساهموا في تطوير البرامج، وضد الشركات الغربية التي جهزت العراق بالأجهزة، والمعدات اللازمة لتطويرها، وخاصة ،الشركات الألمانية والفرنسية والأمريكية والبلجيكية والسويسرية، التي بلغ عددها أكثر من 300 شركة.

كما قام الموساد باغتيال العالم المصري، والأمريكي الجنسية [ يحيى المشد]الذي عمل في تطوير الأسلحة العراقية ذات الدمار الشامل،  كما أغتال العالم البلجيكي، الدكتور[جيرالد بول] في بروكسل، حيث كان هذا العالم يعمل لإنتاج المدفع العملاق للعراق، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلي أيضاً بنسف توربينات المفاعل النووي [أوزيراك] في ميناء [مرسيليا] الفرنسي، حيث كان معداً لنقله إلى العراق. غير أن العراق واصل نشاطه في بناء مفاعل جديد بإشراف العالم النووي العراقي [جعفر ضياء جعفر]، الذي استطاع أن يحقق نجاحاً بارزاً في هذا المجال، وكان  ذلك يجري تحت سمع وبصر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين ومساعدتهم، من أجل إبقاء نار الحرب مشتعلة بين العراق وإيران. 

انتهى القسم الثاني ويليه القسم الثالث
www.Hamid-Alhamdany.com

288
من ذاكرة التاريخ:
أسرار وخفايا الحرب العراقية الإيرانية
حرب الخليج الأولى

حامد الحمداني                                                    25/8/2010
تمهيد
منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 968  [عبد الرزاق النايف ] بدأ نجمه يتصاعد  حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، رغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري، وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.
وعندما حلت الذكرى الحادية عشر لانقلاب 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فلم يكتب عن ذلك الحدث لحد الآن  إلا القليل، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب، ومن كان وراءه !!.

أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح  الإمبريالية الأمريكية وأبرزها:
1ـ إفشال التقارب الحاصل بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ما سمي بميثاق العمل القومي آنذاك، والذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، تحسبا لما يشكله من خطورة على أمن إسرائيل.
2ـ احتواء الثورة الإسلامية في إيران، ولاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدءوا يتطلعون إلى تصدير الثورة، ونشر مفاهيم الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل إلى ذلك هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين الكبيرين في المنطقة بحرب سعت الولايات المتحدة إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، كما سنرى .
3ـ مكافحة النشاطات الشيوعية، والإسلامية في البلاد على حد سواء، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر أفكار الثورة الإسلامية في المنطقة.
4ـ بالإضافة لما سبق كانت تطلعات صدام حسين لأن يصبح شرطي الخليج، وتزعم العالم العربي قد طغت على تفكيره، ووجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته .
لم يكن انقلاب صدام ضد البكر بمعزل عن المخططات الأمريكية، فقد قام مساعد وزير الخارجية الأمريكي بزيارة لبغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر وبحث معه في مسالتين هامتين بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية:

المسألة الأولى: تتعلق بتطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على إسرائيل التي تحرص على عدم السماح بإقامة الوحدة بين العراق وسوريا.

المسألة الثانية: دارت حول الأوضاع في إيران، بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج، وضرورة التصدي لتلك الأخطار، وسعى الموفد الأمريكي إلى تحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري، وقيل بأن الرئيس البكر لم يقتنع بفكرة الموفد الأمريكي، وخاصة وأن البكر رجل عسكري يدرك تمام الإدراك ما تعنيه الحرب من ويلات ومآسي، وتدمير لاقتصاد البلاد.

وبعد انتهاء اللقاء مع البكر التقى الموفد الأمريكي مع صدام الذي كان آنذاك نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبحث معه نفس المواضيع التي بحثها مع البكر، وقد  أبدى صدام كل الاستعداد للقيام بهذا الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى.
لم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر، بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه، على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع وانتهاءً بكل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة .
لقد أخذت أجهزته القمعية تمارس أبشع الأعمال الإرهابية بحق العناصر الوطنية من ِشيوعيين وإسلاميين وقوميين وديمقراطيين، بالإضافة للشعب الكردي، وملأ السجون بأعداد كبيرة منهم، ومارس أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم  وقضى العديد منهم تحت التعذيب.
لقد كانت ماكنة الموت الصدامية تطحن كل يوم بالمئات من أبناء الشعب، لكي يقمع أي معارضة لحكمه، وحتى يصبح مطلق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات التي تتحكم بمصير الشعب والوطن، ولكي يعدّ العدة، ويهيئ الظروف المناسبة لتنفيذ الدور الذي أوكلته له الإمبريالية الأمريكية، في العدوان على إيران.
لقد وصل الأمر بصدام حسين أن جمع وزراءه، وشكل منهم فريق إعدام في سجن بغداد، لكي يرهب كل من تسول له نفسه بمعارضته، كما قام بإعدام عدد كبير من ضباط الجيش، لكي يصبح وحده الأقوى في المؤسسة العسكرية، رغم أنه لم يكن في يوم من الأيام عسكرياُ.
 
العلاقات العراقية السورية:
 رغم أن العراق وسوريا يحكمهما حزب البعث، إلا أن العلاقات بين الحزبين، والبلدين اتسمت دائماً بالخلافات والتوتر الذي وصل إلى درجة العداء والقطيعة لسنين طويلة، وتطور العداء بين الحزبين إلى حد القيام بأعمال تخريبية، وتدبير التفجيرات، وغيرها من الأعمال التي أدت إلى القطيعة التامة بين البلدين.

ولاشك أن لأمريكا وإسرائيل دور أساسي في إذكاء العداء والصراع بين البلدين الشقيقين، ذلك لأن أي تقارب بينهما ربما يؤدي إلى قيام وحدة سياسية تقلب موازين القوة بين سوريا وإسرائيل نظراً لما يمتلكه العراق من موارد نفطية هائلة،  وقوة عسكرية كبيرة، بالإضافة إلى ما يشكله العراق من امتداد إستراتيجي لسوريا في صراعها مع إسرائيل، وهذا ما تعارضه الولايات المتحدة وإسرائيل أشد المعارضة .
وفي أواخر عام 1978، وأوائل عام 1979، جرت محاولة للتقارب بين البلدين، تحت ضغط جانب من أعضاء القيادة في كلا الحزبين السوري والعراقي، وقد أدى ذلك التقارب إلى تشكيل لجان مشتركة سياسية واقتصادية وعسكرية، وعلى أثر توقيع ميثاق للعمل القومي المشترك الذي وقعه الطرفان في تشرين الأول عام 1978، وقد أستهدف الميثاق بالأساس إنهاء القطيعة بين الحزبين والبلدين الشقيقين وإقامة وحدة عسكرية تكون الخطوة الأولى نحو إقامة الوحدة السياسية بين البلدين وتوحيد الحزبين.
 كان وضع سوريا في تلك الأيام قد أصبح صعباً بعد أن خرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، وعقد السادات اتفاقية [ كامب ديفيد] مع إسرائيل مما جعل القادة السوريين يقرون بأهمية إقامة تلك الوحدة للوقوف أمام الخطر الإسرائيلي.
وبالفعل فقد تم عقد عدد من الاتفاقات بين البلدين، وأعيد فتح الحدود بينهما، وجرى السماح بحرية السفر للمواطنين، كما أعيد فتح خط أنابيب النفط [التابلاين ] لنقل النفط إلى بانياس في سوريا، والذي كان قد توقف منذُ نيسان 1976.
وفي 16 حزيران تم عقد اجتماع بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي أحمد حسن البكر في بغداد، ودامت المحادثات بين الرئيسين ثلاثة أيام أعلنا في نهايتها أن البلدين سيؤلفان دولة واحدة، ورئيس واحد، وحكومة واحدة، وحزب واحد، وأعلنا تشكيل قيادة سياسية مشتركة تحل محل اللجنة السياسية العليا التي جرى تشكيلها بموجب اتفاق تشرين الأول 1978، والتي ضمت 7 أعضاء من كل بلد، يترأسها رئيسا البلدين، وتجتمع كل ثلاثة أشهر لتنسيق السياسات الخارجية، والاقتصادية، والعسكرية.

تدهور العلاقات العراقية السورية
لم تمضِ سوى بضعة أشهر على الاتفاق الذي عقده البكر والأسد، حتى أزيح البكر عن السلطة، وتولى صدام حسين قيادة الحزب والدولة في العراق، وبدا بعد إقصاء البكر، أن هزة عنيفة قد ألمت بالعلاقة بين قيادة  البلدين والحزبين، وبدأت الغيوم السوداء تغطي سماء تلك العلاقة.
وفي 28 كانون الأول 1979، جرى لقاء قمة بين الأسد وصدام في دمشق دام يومين، وقد ظهر بعد اللقاء أن الخلافات بين القيادتين كانت من العمق بحيث لم تستطع دفع عملية الوحدة إلى الأمام، بل على العكس تلاشت الآمال بقيامها.
وهكذا بدأت العلاقة بالفتور بين البلدين من جديد، واتهمت سوريا القيادة العراقية بوضع العراقيل أمام تنفيذ ما أتُفق عليه في لقاء القمة بين الأسد والبكر.
أدى هذا التدهور الجديد في العلاقة بين الحزبين، إلى وقوع انقسام داخل القيادة القطرية في العراق، قسم وقف إلى جانب الاتفاق المبرم بين الأسد والبكر، وقسم وقف إلى جانب صدام حسين، فما كان من صدام إلا أن أتهم الذين أيدوا الاتفاق بالاشتراك بمؤامرة مع سوريا على العراق، وجرى اعتقالهم، وتعذيبهم حتى الموت، ثم أعلن صدام حسين، عبر الإذاعة والتلفزيون، أن هذه المجموعة قد تآمرت على العراق، وأحيلت إلى محكمة حزبية قررت الحكم عليهم بالإعدام وجرى تنفيذ الأحكام بحقهم.
لكن الحقيقة أن هذه المجموعة أرادت تحقيق الوحدة أولاً، والتخلص من دكتاتورية صدام حسين ثانياً، بعد أن أغتصب السلطة من البكر بقوة السلاح.
وهكذا ذهبت الآمال بتحقيق الوحدة أدراج الرياح، وتدهورت العلاقة بين البلدين من جديد، وفرض صدام حسين سلطته المطلقة على قيادة الحزب والدولة دون منازع، وأصبح العراق ملجأ لكل المناوئين للحكم في سوريا ابتداءً من [ أمين الحافظ] و[ميشيل عفلق] وانتهاءً بالإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى العراق بأعداد كبيرة، بعد فشل حركتهم في مدينة حماه عام 1982.
ولم يقتصر تدهور العلاقات بين البلدين على القطيعة، والحملات الإعلامية، بل تعداها إلى الصراع العنيف بين الطرفين على الساحة اللبنانية، حيث أدخلت سوريا عدد من قطعاتها العسكرية في لبنان ضمن قوات الردع العربية لمحاولة وقف الحرب الأهلية التي اندلعت هناك عام 1975.
غير أن القوات المشتركة العربية انسحبت من لبنان فيما بعد، تاركة القوات السورية لوحدها هناك.
وانتهز صدام حسين الفرصة ليرسل إلى القوى الطائفية الرجعية المعادية لسوريا السلاح والعتاد والعسكريين لمقاتلة الشعب اللبناني، والقوات السورية والفلسطينية، وأصبح لبنان مسرحاً للصراع بين البلدين، واستمر الحال في لبنان حتى سقوط حكومة [ميشيل عون] حليف صدام ضد سوريا، وانتهاء الحرب الأهلية، وانعقاد مؤتمر الطائف للأطراف اللبنانية المتصارعة لحل الخلافات بينهم، وإعادة الأمن والسلام إلى ربوع لبنان الذي مزقته تلك الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً.

  وهكذا حقق صدام حسين للإمبريالية الأمريكية ما كانت تصبو إليه، حيث عادت العلاقات بين سوريا والعراق إلى نقطة الصفر من جديد، وتحقق الهدف الأول الذي رسمته له، وبدأت تتفرغ للهدف الثاني الهام، هدف التصدي للنظام الإيراني الجديد، وخلق المبررات لصدام لشن الحرب على إيران في الثاني والعشرين من أيلول عام 1980، تلك الحرب التي كانت لها نتائج وخيمة على مستقبل العراق وشعبه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، وكانت سبباً مباشراً لأقدام صدام حسين على غزو الكويت، وبالتالي قيام حرب الخليج الثانية، التي جلبت على العراق وشعبه من ويلات ومآسي ، وخراب ودمار لم يسبق لها مثيل.
العلاقات العراقية الإيرانية،ودور أمريكا في تأجيج الصراع بينهما
اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي]، حيث قام الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية المتعلقة باقتسام مياه شط العرب بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين أحدهما للعراق والآخر لإيران، وقيام شاه إيران والولايات المتحدة بدعم الحركة الكردية التي حملت السلاح ضد السلطة القائمة آنذاك، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود، واستمرت زمناً طويلاً، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي واضطر حكام بغداد إلى التراجع، ووسطوا الرئيس الجزائري [هواري بو مدين ] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين
. وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية، وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975، وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد!، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع البعثيون إنهاءها، وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد.
وفي عام 1979 في أواخر عهد البكر وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية.
 أتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة.

 كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري، يقوده [حزب تودا الشيوعي]، ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ،
فهي لا ترتاح لسيطرة للطرفين.
 لكن التيار الشيوعي كان يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.
وبناء على ذلك فإن مجيء الشيوعيين إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد المصالح الأمريكية النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت الولايات المتحدة [أهون الشرين] بالنسبة لها طبعاً!، وهو القبول بالتيار الديني  خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس ، لتسلم زمام الأمور بعد هروب الشاه من البلاد، وهكذا تمكن  التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.
إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.
.وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران، من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.
وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة. فالعراق، وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما  تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.
 وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين، بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية تدعى [عربستان ].
لم يدرِ بخلد صدام حسين ماذا تخبئه له الأيام ؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب ؟ وكم ستكلف الشعب  العراقي من الدماء والدموع ، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.
لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين.
فلقد صرح الرئيس الأمريكي [ ريكان ] حول الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة}!!.
وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق  الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر، الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية، فقد صرح قائلاً :{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ تمنينا أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج أحد منها منتصراً وإنما كلا الطرفين مهزومين}!! .
وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.
لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون، وصور الأقمار الصناعية، تلك المجازر الوحشية التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وتفاخر صدام أمام القائم بأعمال السفارة الأمريكية بعد مغادرة السفير [كلاسبي] العراق وقبيل غزو صدام للكويت قائلا بزهو قائلاً:
{ هل تستطيع الولايات المتحدة تقديم 10 آلاف شهيد في معركة واحدة؟ نحن أعطينا 50 ألف شهيد في معركة تحرير الفاو}.

هكذا وبكل وقاحة دفع صدام وأسياده الأمريكان أكثر من نصف مليون شهيداً من شباب العراق في عمر الزهور، ودون وازع من ضمير وأخلاق.
كانت مصالح الإمبرياليين الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن عميلهم صدام قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم، بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني شعب جار تربطه بنا علاقات تاريخية ودينية عميقة، تمتد جذورها لقرون عديدة.
كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .
لكن ذلك التقدم لم يدم طويلاً، وتمكن الجيش الإيراني من طرد القوات العراقية الغازية من إقليم خوزستان شّر طردة  عام 1982، مكبداً القوات العراقية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، ولنا عودة إلى تلك الحرب، وتفاصيل مجرياتها، في حلقة قادمة.

بداية الحرب وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية  بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران وكافة المراكز الحيوية فيها ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية، وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة، وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين:

1 ـ الجبهة الأولى: في المنطقة الوسطى من الحدود  باتجاه [قصر شيرين]، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو محافظة ديالى و بغداد، وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال[ قصر شيرين].

2ـ الجبهة الثانية: في الجنوب نحو منطقة [ خوزستان ] الغنية بالنفط  وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى حيث تطل على أعلى الخليج.
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل استطاعت القوات العراقية التي كانت قد استعدت للحرب من السيطرة على منطقة [خوزستان] بكاملها، واحتلت مدينة [خرم شهر] وقامت بالتفاف حول مدينة [عبدان] النفطية وطوقتها.

وعلى الجانب الإيراني قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية، وقصفت العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، إلا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية، وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها، حيث تم نصب المضادات أرض جو فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى، وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد.

 وهكذا فقد فقدت إيران أعدادا كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق، كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة، مما اضعف قدرات سلاحها الجوي، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين.
وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب فيما يخص تجهيزها بالأسلحة، كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب.

 كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري  أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق، وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان، حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل، وقام السادات بالدور الموكول له، وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981، كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة والمدافع عيار 122 ملم طيلة سنوات الحرب.

لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي، حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي، فقد بلغ قيمة ما باعه السادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد، وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية، وكان صدام حسين مرغماً على قبولها.

أما الاتحاد السوفيتي فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق بعد توقف لفترة من الزمن  وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55  و250 دبابة طرازT 72)) كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات [ميك] و[سوخوي ] و[ توبوليف] بالإضافة إلى الصواريخ.
كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل بمليارات الدولارات لشراء الدبابات والمدرعات وأسلحة أخرى، وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية، واستمرت العلاقات التسليحية مع البرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.

 وهكذا استمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب ] و[الشوش] و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى.
                                   
كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي في العمق الإيراني عابرة نهر الطاهري، وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي بأمر من صدام حسين !!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله وتطويقه، رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهظاً من أرواح جنوده، ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش بعد عملية التطويق الإيرانية، والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي، واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان، وطرد القوات العراقية خارج الحدود.

إيران تبحث عن السلاح:
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن، وتمكنت تلك العناصرعن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وهما[أودولف سكويمر]و[يلكوف نامرودي]،بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي[عدنان خاشقجي]الذي قام بدور الوسيط؟
 وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران حيث كانت تعتبر العراق يشكل خطراً عليها، وإن إضعافه وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل، ولم يكن تصرفها ذاك يجري بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة                                                                                                                                                                                        ورضاها واستراتيجيتها، إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين.
             
وفي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية، وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران، وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم.
إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى  تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها، وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى هي ما سمي [إيران ـ كونترا]على عهد الرئيس الأمريكي [ رونالد ريكان] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور  [جون تاور] وعضوية السناتور [ ادموند موسكي ] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت] وذلك في 26 شباط 19987، وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران، وموضوع الحرب العراقية الإيرانية، وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:

الهدف الأول:
يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.
الهدف الثاني: هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي.
 لقد قام الكولونيل [ أولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس  الذي كان قد أصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى متمردي الكونترا في نيكاراغوا حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد، وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.

وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك، إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس[ريكان] ومستشاره للأمن القومي [مكفرن] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية  لإزالة ورم سرطاني في أمعائه، وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران حيث أجابه الرئيس ريكان على الفور: [أذهب وافتحه].

وبدأ الاتصال المباشر مع إيران حيث سافر [أولفر نورث] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها، وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران، لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي المتخلف، وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة.
ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران، على إسرائيل والولايات المتحدة فقط، وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة، ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.
إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي
 انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي نظام صدام لبناء برنامجه النووي حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار.
وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد، وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك. 
وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل، إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم] من اليورانيوم المخصب بنسبة 93%  وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية.
 لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية بعد أن غرقوا في خضم تلك الحرب المجنونة، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، ولم يدر في خلدهم أن تلك الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق الجلاد صدام الشعب العراقي بالدماء، ويعم بالبلاد الخراب والدمار، وينهار اقتصاد العراق.

للبحث تتمة



289
من ذاكرة التاريخ:
انقلابيوا 17 تموز والحزب الشيوعي والحركة القومية الكردية
حامد الحمداني                                                    18/8/2010

كان استمرار الحرب في كردستان يشكل أحد المخاطر الجسيمة على السلطة حزب البعث في أيامها الأولى، ولذلك فقد سعت هذه السلطة  للتفاوض مع القيادة الكردية للوصول إلى وقف القتال، وقد أثمرت اللقاءات التي جرت بين قيادة حزب البعث وزعيم الحركة الكردية السيد مصطفى البارزاني إلى ما سمي  باتفاقية [11 آذار للحكم الذاتي] .

 تنفس البعثيون الصعداء في تلك الأيام،  ووجدوا تعويضاً لهم عن العلاقة مع الحزب الشيوعي، وقد بدا في تلك الأيام وكأنه لا يوجد في الساحة السياسية غير حزب البعث والحزب الديمقراطي الكردستاني، وتعرضت العلاقة بين البعثيين والشيوعيين إلى الانتكاسة عند إقدام حكومة البعث على تفريق تجمع للشيوعيين يوم 21 آذار احتفالاً بعيد النوروز بالقوة.

 كما تم في تلك الليلة اغتيال الشهيد [محمد الخضري] عضو قيادة فرع بغداد للحزب في أحد شوارع بغداد.
 ورغم إنكار البعثيين صلتهم بالجريمة، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنهم كانوا هم  مدبريها، وقد أتهمهم الحزب الشيوعي بالقيام بحملة اعتقالات ضد العديد من الشيوعيين في أنحاء البلاد المختلفة.

وفي 1 تموز عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره العام، وألقى السيد [كريم أحمد] عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي كلمة في المؤتمر دعا فيها إلى إيقاف الإجراءات القمعية للسلطة ضد العناصر الوطنية، وركز على شعار الحزب الداعي للديمقراطية للشعب العراقي والحكم الذاتي لكردستان، مما أثار رد فعل قوي من جانب السلطة البعثية الحاكمة، وخاصة بعد أن قامت صحيفة الحزب الديمقراطي الكردستاني [التآخي] بنشر نص الخطاب.

 لكن الغزل استمر بين قيادة حزب البعث وقيادة الحزب الشيوعي لإقامة جبهة الاتحاد الوطني على الرغم من الإجراءات الوحشية  التي اتخذتها لقمع التجمع الذي أقامه الحزب في ساحة السباع بمناسبة عيد النوروز، وعلى الرغم من حملات الاغتيالات التي طالت العديد من الكوادر الشيوعية.
البعثيون والحزب الشيوعي
منذُ أن عاد البعثيون إلى الحكم عن طريق انقلاب 17 ـ 30 تموز 968 وقف الشعب العراقي من الانقلاب موقفاً سلبياً منهم، حيث كان مدركاً أن الوجوه التي جاءت إلى الحكم هي نفسها التي قادت انقلاب 8 شباط الفاشي عام 963، ولا تزال تلك الجرائم التي ارتكبوها بحقه وحق القوى السياسية عالقة في الأذهان.
 كان همّ البعثيين آنذاك هو تثبيت حكمهم، وتبييض صفحتهم السوداء فلجئوا إلى اتخاذ بعض الخطوات لاسترضاء الشعب وقواه السياسية وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي الذي يتمتع بتأييد ودعم جانب كبير من أبناء الشعب، حيث ركزوا كل جهودهم لجره إلى التعاون معهم وصولاً إلى التحالف، وإقامة الجبهة الوطنية معه، وكان  من جملة تلك الإجراءات:
1ـ إصدار قرار بالعفو عن السجناء السياسيين في 5 أيلول 968 وإطلاق سراحهم.     
2ـ إصـدار قـرار بإعادة كافة المفصـولين السياسيين المدنيـين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم في 12 أيلول 968.                                                 
3-احتساب مدة الفصل لأسباب سياسية قدماً لغرض الترفيع والعلاوة والتقاعد.

غير أن تلك الإجراءات لم تكن كافية لجرّ الحزب الشيوعي، والقيادة المركزية المنشقة عن الحزب، لتشكيل جبهة وطنية عريضة.
 فقد كان المطلوب من حزب البعث تشريع دستور دائم للبلاد، عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة لمجلس تأسيسي، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وحرية الصحافة، وحرية النشاط الحزبي والنقابي، وهذا ما لم توافق عليه قيادة حزب البعث.

ولذلك لجأت القيادة المركزية [الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي] إلى الكفاح المسلح ضد  سلطة البعث، وجرى مهاجمة دار صدام حسين وصلاح عمر العلي وإطلاق الرصاص على الدارين، لذلك قرر البعثيون العمل على اعتقال قيادة الحزب [القيادة المركزية] وكوادرها، وتصفية تنظيماتها.

 وفي شباط عام 969، استطاع البعثيون إلقاء القبض على زعيم التنظيم [عزيز الحاج] وأعضاء قيادته، وسيقوا إلى قصر النهاية، أحد أهم مراكز التعذيب لدى البعثيين لإجراء التحقيق معهم، وهناك أنهار عزيز الحاج، وقّدم اعترافات شاملة عن تنظيم حزبه مكّنت البعثيين من إلقاء القبض على أعداد كبيرة من كوادر وأعضاء الحزب، وجرى تعذيبهم بأبشع الوسائل من أجل الحصول على المعلومات عن تنظيمهم، حيث استشهد العديد منهم تحت التعذيب كان من بينهم  القائدين الشيوعيين  [متي هندو] و[أحمد محمود العلاق]، بينما انهار القيادي الثالث [ بيتر يوسف] ملتحقاً برفيقه عزيز الحاج، مقدماً كل ما يعرف عن تنظيم حزبه، حيث  كافأ البعثيون كلاهما بأن عينوهما سفيرين في السلك الدبلوماسي، في فرنسا والأرجنتين، وذهب ضحية اعترافاتهم عدد كبير من الشيوعيين الذين استشهدوا تحت التعذيب الشنيع، وزُج في السجون بأعداد كبيرة أخرى منهم .

 وبذلك تسنى للبعثيين توجيه ضربة خطيرة للقيادة المركزية لم يتعافى الحزب منها إلا بعد مرور سنة على تلك الأحداث، حيث تسلمت قيادة جديدة بزعامة المهندس [إبراهيم علاوي]، وبادرت تلك القيادة إلى تجميع قوى الحزب، وتشكيل تنظيمات جديدة، وبدأت تمارس نشاطها من جديد.

 إلا أن تلك الضربة كان تأثيرها ما يزال يفعل فعله، حيث فقد الحزب العديد من أعضائه إما قتلاً أو سجناً أو اعتكافاً عن مزاولة أي نشاط سياسي  بسبب فقدان الثقة التي  سببتها اعترافات قادة الحزب عزيز الحاج و بيتر يوسف وحميد خضر الصافي وكاظم رضا الصفار.

أما الحزب الشيوعي [ اللجنة المركزية ] فقد ألتزم جانب السكوت عما جرى، وتمسك بالهدنة المعلنة مع حكومة البعث، ثم بادر الطرفان البعث والشيوعي بالتقارب شيئاً فشيئاً بعد أن أقدمت حكومة البعث على تنفيذ جملة من القرارات والإجراءات التي أعتبرها الحزب الشيوعي مشجعة على هذا التقارب، وبالتالي التعاون والإعداد لإقامة الجبهة!!.

فقد أقدمت حكومة البعث على الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، ووقعت في 1 أيار 969 عقدا مع بولونيا لاستثمار الكبريت وطنياً، كما تم عقد اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي والفني مع الاتحاد السوفيتي وبولونيا في 5 تموز 969، ومن ناحية أخرى قام الحزبان البعث والشيوعي بنشاطات مشتركة في اجتماعات مجلس السلم العالمي، وانتخابات نقابة المحامين عام 970، وسمح البعثيون للحزب الشيوعي بإصدار مجلة [الثقافة الجديدة]، كما تم تعيين الشخصية الوطنية المعروفة السيد[عزيز شريف] وزيراً للعدل في 31 كانون الأول 969.

لكن تلك الإجراءات لم تكن لترضي الحزب الشيوعي الذي كانت له مطالب أساسية هامة تتعلق بالحريات الديمقراطية، وأعلن الحزب أن دخول السيد عزيز شريف الوزارة بصفته مستقلاً، وأن دخول أي شخصية وطنية في الوزارة ليس بديلاً عن حكومة جبهة وطنية، وأن تمثيل كل الأحزاب الوطنية في السلطة على أساس برامج ديمقراطية متفق عليها هو الطريق الصائب.

البعثيون يطرحون شروطهم للتحالف مع الشيوعيين:
في العاشر من تموز تقدم حزب البعث بشروطه للحزب الشيوعي لقيام جبهة بينهما، طالباً من الحزب قبولها والإقرار بها كشرط لقيام الجبهة، وكان أهم ما ورد في تلك الشروط:
1ـ اعتراف الحزب الشيوعي بحزب البعث كحزب ثوري وحدوي اشتراكي ديمقراطي!.                                                         
2ـ وجوب تقييم انقلاب 17 ـ 30 تموز كثورة وطنية تقدمية!.
3ـ وجوب إقرار الحزب الشيوعي بالدور القيادي لحزب البعث سواء في الحكم أو قيادة المنظمات المهنية والجماهيرية!.                       
4ـ وجوب عدم قيام الحزب الشيوعي بأي نشاط داخل الجيش والشرطة!.
5ـ العمل على قيام تعاون بين الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية وبين وحزب البعث.
6 ـ القبول بالوحدة العربية كهدف أسمى، ورفض الكيان الإسرائيلي، وتبني الكفاح المسلح لتحرير كامل الأراضي الفلسطينية.     
                             
 ورغم أن شروط البعث كانت غير مقبولة من جانب قواعد الحزب الشيوعي، إلا أن الحزب أستأنف حواره مع حزب البعث من جديد، وما لبث الرئيس أحمد حسن البكر أن أعلن في 15 تشرين الثاني 1971 عن برنامج للعمل الوطني، عارضاً على الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني القبول به لإقامة جبهة وطنية بين الأطراف الثلاثة.

وفي 27 تشرين الثاني أبدى الحزب الشيوعي رد فعل إيجابي على البرنامج في بيان له صادر عن المكتب السياسي داعياً حكومة البعث إلى تحويل البرنامج إلى نص مقبول لدى جميع الأطراف التي دُعيت للعمل المشترك، ووضع نهاية حاسمة لعمليات الاضطهاد والملاحقة والاعتقال ضد سائر القوى الوطنية.

ثم جرت بعد ذلك لقاءات ومناقشات بين الأطراف دامت أشهراً حول سبل تحويل البرنامج إلى وثيقة للعمل المشترك دون أن تسفر عن توقيع أي اتفاق. لكن البعثيين أصدروا قراراً في 4 أيار 972 يقضي بتعيين أثنين من قادة الحزب الشيوعي في الوزارة وهما كل من[ مكرم الطالباني] الذي عيّن وزيراً للري، و[عامر عبد الله] الذي عيّن وزيراً بلا وزارة، إلى جانب وجود أعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني سبق أن جرى تعينهم في الوزارة.
أحدث ذلك القرار انقساماً في صفوف الحزب الشيوعي، وتباعداً بين القاعدة والقيادة، فلم تكن تلك الخطوة مبررة من وجهة نظر كوادر وقواعد الحزب من دون أن يكون هناك برنامج متفق عليه يحقق طموحات الحزب في إيجاد نظام ديمقراطي حقيقي، وفرص متكافئة لكل حزب للقيام بنشاطاته السياسية في جو من الحرية الحقيقية. 
 
إلا أن قيادة الحزب اتخذت قرارها بالموافقة على المشاركة في الحكومة بعد نصيحة قدمها لهم رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي [كوسجين] !!. كان أمل الحزب الشيوعي أن تتحول هذه المشاركة إلى اتفاق حقيقي بين الأحزاب الثلاثة على برنامج يحقق طموحات الجميع، واقترحت قيادة الحزب على حزب البعث منح مجلس الوزراء صلاحيات أوسع لإدارة شؤون البلاد التي أحتكرها مجلس قيادة الثورة البعثي، كما اقترحت تعديل الدستور المؤقت بما يحقق السير بهذا الاتجاه، وطالبوا بإطلاق حرية الصحافة، وإصدار صحيفة الحزب بشكل علني، ووعد البعثيون بدراسة هذه المقترحات.

غير أن الأمور استمرت على حالها السابق أكثر من سنة، ولاسيما وأن ظروف البلاد كانت تستدعي التعجيل بهذا الاتجاه بعد اشتداد الصراع مع شركات النفط ، وقرار حكومة البعث بتأميم شركة نفط العراق العائدة للشركات الاحتكارية في الأول من حزيران 1972، واستمرت العلاقات بين الحزبين على وضعها ذاك حتى وقوع محاولة ناظم كزار الانقلابية  حيث دفعت حكام البعث إلى الاتفاق على برنامج للعمل الوطني.

وفي السابع عشر من تموز وقع الرئيس أحمد حسن البكر، بالنيابة عن حزب البعث، و[عزيز محمد]السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي ميثاقاً للجبهة، وبذل الطرفان جهوداً واسعة لإدخال الحزب الديمقراطي الكردستاني معهم في ما سمي بـ{الجبهة الوطنية، والقومية التقدمية}، والتي انبثقت بعد توقيع الميثاق، إلا أن جهودهما لم تسفر عن أي نتيجة.

 ومن دراسة مواد الميثاق  نجد أن البعثيين لم يقدموا تنازلات جوهرية للحزب الشيوعي، فقد كان أهم ما قدموه له ما يلي :
1ـ حصول الحزب الشيوعي على الشرعية القانونية لمزاولة نشاطه العلني، وإصدار صحيفته المعبرة عن سياسته[طريق الشعب] حيث صدرت بالفعل وكانت توزع على نطاق واسع. 
2ـ إطلاق سراح السجناء السياسيين والمعتقلين، وهدم [قصر النهاية] السئ الصيت                                                     
الذي كان مقراً لتعذيب الشيوعيين، وسائر الوطنيين المعارضين لحكم البعث!!.
 3ـ مشاركة الحزب الشيوعي في الحكومة بوزيرين، لكن تلك المشاركة في الوزارة لم تكن جوهرية، أو ذات تأثير على سياسة الدولة، هذا بالإضافة إلى أن مجلس قيادة الثورة الذي ينفرد به البعثيون هو الذي يقرر سياسة الدولة، ويتمتع بكافة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية.

وفي المقابل قدم الحزب الشيوعي للبعثيين تنازلات واسعة وجوهرية تضمنت التالي:
 1ـ إقرار الحزب الشيوعي بأن انقلاب 17 ـ 30 تموز ثورة وطنية ديمقراطية اشتراكية!!.
 2 ـ الإقرار بمبدأ قيادة حزب البعث للجبهة !. 
 3 ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على بقائه بعيداً عن الجيش والقوات المسلحة الذي أصبح مقفلاً لحزب البعث!.
 4ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على الدور القيادي لحزب البعث لكافة المنظمات الطلابية والنقابية والجماهيرية والاتحادات العمالية والفلاحية!.
 5ـ إعلان موافقة الحزب الشيوعي على مواقف حزب البعث من قضية فلسطين، وقضية الوحدة العربية.
وهكذا يتبين لنا أن الحزب الشيوعي قد خسر الكثير من المواقع، وقدم للبعث الكثير من التنازلات، في حين لم يحصل على دور هام وأساسي في تسيير سياسة البلاد.
 أحدثت موافقة قيادة الحزب الشيوعي على شروط البعثيين وتوقيعه على ميثاق الجبهة شرخاً كبيراً بين القيادة من جهة، والكادر وقواعد الحزب من جهة أخرى، حيث لم تستطع قواعد وكوادر الحزب هضم تلك الشروط، وكان الشعور بخيبة الأمل والقلق على المستقبل/ وعدم الثقة بالبعثيين سائداً صفوف الحزب، وجانباً كبيراً من كوادره، ولاسيما وأن تلك الجرائم التي أرتكبها البعثيون بحق الشيوعيين بعد انقلاب 8 شباط 963، ما تزال ماثلة أمام عيون الجميع، فتلك المآسي لا يمكن أن يطويها الزمن بهذه السرعة، وعِبَر هذه الجبهة التي قامت على أسس غير متكافئة على الإطلاق.

 كان الشعور العام لدى كل متتبع لسياسة البعثيين هو أن هذه الجبهة لن تعمر طويلاً، ولن يكتب لها النجاح، وأن البعثيين لا يمكن أن يضمروا للشيوعيين الخير، لكنهم لجاءوا إلى إقامة الجبهة معهم لمرحلة معينة يستطيعون خلالها تثبيت أركان حكمهم المتضعضع، وإحكام سيطرتهم على الجيش والقوات المسلحة الأخرى وأجهزة الأمن.

فالجبهة في الحقيقة لم تكن هدفاً إستراتيجياً لحزب البعث، وإنما كان تكتيكياً يمكنهم من العبور إلى شاطئ الأمان، وتثبيت حكمهم، ولم يكفّ البعثيون عن مضايقة الشيوعيين، وتقليص نشاطهم وتحجيمه، واستمرت أجهزتهم الأمنية في ملاحقة واعتقال العديد منهم  بحجج وتبريرات مختلفة، حتى وصل الأمر إلى أن تصبح اللقاءات مع قيادة البعث تدور حول الانتهاكات والتجاوزات التي ترتكبها الأجهزة الأمنية، وقد سبب ذلك في تنامي خيبة الأمل لدى قواعد الحزب من مستقبل الجبهة، لا بل بدأت الأصوات تظهر وتعلوا شيئاً فشيئاً متهمة قيادة الحزب باليمينية وبالتفريط بمصالح الحزب وجماهير الشعب، وبدت الجبهة مجرد اتفاق بين قيادة حزبين تفتقد تماماً إلى أي قبول جماهيري، وكلما مرت الأيام كلما كان التباعد بين قواعد الطرفين يزداد ويتصاعد، وبدأت الأصوات تحذر مما يخبئه البعثيون للحزب الشيوعي في مستقبل الأيام.

 ولم تمضي فترة طويلة من الزمن حتى بدأ التناقض ظاهراً بين قيادة الحزب وقواعده، كما بدا واضحاً أن قيادة الحزب غير بعيدة عن توجيهات قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، بل وفرض إرادته على مجمل سياسته، ولاسيما بعد أن وقع البعثيون معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي في نفس العام، وقام الاتحاد السوفيتي على أثرها بتزويد حكومة البعث بالأسلحة الحديثة والمتطورة، ومدت الجيش العراقي بالخبراء العسكريين،  حيث استخدم البعثيون تلك الأسلحة بعد ذلك في قمع الشعب العراقي عرباً وأكراداً، وتصفية ما كان يسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي أقاموها مع الحزب الشيوعي مصحوبة بأعنف حملة اعتقالات وتعذيب وقتل للعناصر الشيوعية، وكل مناصري الحزب، ومتنكرين لاتفاقية 11 آذار حول إقامة الحكم الذاتي لكردستان، وشن الحرب الإجرامية الشعواء على الشعب الكردي، وفي العدوان على إيران والكويت، وزج العراق في حروب مدمرة. 

موقف القيادة الكردية من الجبهة
أحدث إعلان قيام الجبهة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث تصدعاً في العلاقات بين قيادة الحركة الكردية والحزب الشيوعي، فقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني  بزعامة الملا مصطفى البارزاني كانت قد أصيبت هي الأخرى بخيبة الأمل من سياسة البعثيين فيما يخص تطبيق اتفاقية الحكم الذاتي التي حُدد لتنفيذها مدة 4 سنوات  بالرغم من قيام حكومة البعث بتعين عدد من الوزراء الأكراد في الحكومة، وإجازة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتوسيع الدراسة الكردية، وزيادة البرامج الكردية في إذاعة بغداد وتلفزيون كركوك، وتشكيل وحدات حرس الحدود من قوات البيشمركة الكردية.
أخذت العلاقات بين الأكراد وحكومة البعث تتباعد شيئاً فشيئاً حتى وصلت إلى أقصى درجات التقاطع، وعدم الثقة في تطبيق البعثيين الحقيقي لاتفاقية آذار، وبدا للقيادة الكردية أن البعثيين غير جادين في اتفاقهم،وأنهم يكسبون الوقت لتثبيت حكمهم، وتوجيه ضربة جديدة للحركة الكردية، وجاءت محاولة اغتيال الزعيم الكردي [الملا مصطفى البارزاني ]عام 971  لتهدم كل الجسور التي بناها الطرفان في 11 آذار عام 1970.

ولهذه الأسباب اعتبرت القيادة الكردية أن دخول الحزب الشيوعي في جبهة مع حزب البعث في ذلك الوقت ضربة موجهة لهم،  وأخذوا يوجهون اللوم والانتقاد للحزب، وتطور النقد على صفحات جريدة الحزب الرسمية[ خه بات] في حين راح الحزب الشيوعي يحث القيادة الكردية على الانضمام للجبهة، والنضال من خلالها، إلا أن جهوده لم تثمر في هذا الاتجاه، بل على العكس توترت العلاقات بينهما إلى درجة خطيرة، وتصاعدت بسرعة إلى حد التصادم المسلح بين الحزبين في كردستان، وشنت صحافة الحزبين حملات إعلامية ساخنة على بعضها البعض، ولعب حزب البعث دوراً كبيراً في إذكاء الصراع، وتسعير نيران الاشتباكات بين الطرفين في كردستان.

وفي آذار 1974 قام عملاء السلطة بتفجير سلسلة من القنابل في مدينة أربيل، مما جعل إمكانية تلاقي القيادة الكردية مع حكومة البعث بعيد المنال. وعند انتهاء فترة السنوات الأربع المحددة لتطبيق الحكم الذاتي كان التباعد في وجهات نظر الطرفين حول تطبيق اتفاقية 11 آذار قد اتسع كثيراً، وأصرّ البعثيون على تطبيقها بالشكل الذي يريدونه هم، ورفضت القيادة الكردية فرض الحلول البعثية، ولجأت إلى حمل السلاح مرة أخرى، وبدأ القتال من جديد، وشن الجيش حرباً جديدة ضد الشعب الكردي، مستخدماً الطائرات والدبابات  والصواريخ وكل الوسائل العسكرية المتاحة لديه، فدمروا مئات القرى، وشردوا مئات الألوف من أبناء الشعب الكردي، إضافة إلى عشرات الألوف من الضحايا .

 الجأت تلك الأحداث القيادة الكردية إلى طلب الدعم من الولايات المتحدة وإيران، حيث انهالت عليهم الأسلحة والمعدات والتموين، وجرى علاج جرحى البيشمركة في المستشفيات الإيرانية، وقد أدى ذلك إلى اشتداد ضراوة القتال في كردستان، ووقف الاتحاد السوفيتي إلى جانب الحكومة في صراعها مع الأكراد، ولم تستطع حكومة البعث القضاء على الحركة الكردية إلا بعد توقيع صدام حسين وشاه  إيران على اتفاق الجزائر في 16 آذار 1975، وقدم صدام حسين الكثير من التنازلات لشاه إيران لكي يرفع يده عن الحركة الكردية التي انهارت بسرعة مذهلة بعد توقيع الاتفاق بأيام.
واستسلمت معظم قوات البيشمركة لقوات الجيش ملقية سلاحها، وهربت القيادة الكردية إلى إيران، وقامت حكومة البعث بنفي الألوف من أبناء الشعب الكردي إلى المناطق الجنوبية من العراق وفي الصحراء!! وأفرغت مناطق الحدود من الوجود الكردي، وجمعت الأكراد في مجمعات سكنية إجبارية، وهدمت جميع القرى القريبة من الحدود الإيرانية والتركية، وكذلك جميع القرى المحيطة بمدينة كركوك.

كما زج البعثيون بعشرات الآلاف من الأكراد في السجون وجرى إعدام المئات منهم، ومات في أقبية التعذيب، في مديرية الأمن العامة، وزنزانات هيئة التحقيق الخاصة في كركوك والموصل ودهوك والسليمانية وأربيل المئات منهم، وتحول الألوف من الشعب الكردي من عناصر منتجة  إلى عناصر مستهلكة بعد أن تركت مزارعها ومواشيها وانهار اقتصاد كردستان.

لم يهدأ الشعب الكردي على الضيم الذي ألحقه البعثيون بهم، فلم يكد يمضِ عام واحد على انهيار الحركة الكردية عام 975 حتى بادر إلى حمل السلاح من جديد ضد سلطة البعث، وشن البعثيون حرباً جديدة في كردستان بشراسة منقطعة النظير. لقد كان من نتائج التصادم بين الحزب الشيوعي والقيادة الكردية أن خسر الحزب الشيوعي أغلب مواقعه في كردستان، حيث قامت القيادة الكردية بتصفية نفوذ الحزب هناك بقوة السلاح.

فشل الجبهة وانفراطها والبعثيون ينكلون بالشيوعيين
لم يكد البعثيون يصفون الحركة الكردية، بعد تفاهمهم مع شاه إيران وعقد اتفاقية الجزائر، حتى بدءوا يشعرون أن مراكزهم في السلطة قد أصبحت قوية، وراحوا يتصرفون وكأن الجبهة غير موجودة، وتوضح هدفهم الحقيقي من قيام الجبهة، ولم يتحملوا وجود شريك لهم في السلطة حتى ولو كان ضعيفاً، بل لم يتحملوا حتى صدور صحيفة علنية للحزب الشيوعي، أو القيام بنشاط جماهيري للحزب، وهم الذين جاءوا بالأساس يوم 8 شباط 963، وعند عودتهم إلى الحكم في عام 968 لتصفية الحركة الشيوعية في العراق.

لقد بدأت المضايقات والاعتقالات تتصاعد ضد أعضاء الحزب، وجرى اغتيال العديد من قادته وكوادره، عن طريق الصدم أو الدهس بالسيارات، أو إطلاق الرصاص، مدعين بأنها حوادث مؤسفة !!، وتقيّد ضد مجهول !! وكان من بين القياديين  الذين استشهدوا بهذه الطريقة كل من[ستار خضير] و[محمد الخضري] و[ عبد الأمير سعيد] و[ شاكر محمود]، كما بدأت صحف البعث تتعرض للحزب الشيوعي، وتوجه حملاتها ضده، وأصبح الحزب أمام وضع صعب للغاية، وكانت اللقاءات بين الحزبين تدور كلها تقريباً حول التجاوزات التي يعاني منها رفاق الحزب، ولم تعد الجبهة سوى حبراً على ورق.

أدرك الحزب الشيوعي أن هناك مخططاً بعثياً لتوجيه ضربة جديدة وموجعة له، وبدأ يرتب أوضاعه للعودة إلى العمل السري، وتشديد الصيانة، وخاصة بالنسبة للقيادة والكادر، وغادر العديد من قادة وكوادر الحزب العراق هرباً من بطش البعثيين بعد أن تأكد لهم أن الحملة البعثية ضد الحزب قد باتت وشيكة !!، وحدث الذي كان بالحسبان، وشنّ البعثيون عام 1978 حملة واسعة النطاق لاعتقال ما أمكن من قيادات وكوادر الحزب وأعضائه في كافة أنحاء البلاد.

 لكن معظم أعضاء القيادة كان قد أفلت من الاعتقال، وغادروا إلى خارج العراق، واختفى البعض الأخر ليقود الحزب، في ظل ظروف العمل السري البالغة الصعوبة، بينما وقع في أيدي البعثيين أعداد كبيرة من أعضاء الحزب، حيث جرى تعذيبهم بأبشع الأساليب والوسائل لأخذ الاعترافات منهم حول تنظيمات الحزب، وكان من بين القياديين المعتقلين الدكتور[ صفاء الحافظ ] والدكتور [ صباح الدرة]، اللذان جرت تصفيتهما تحت التعذيب.

كما قامت السلطات البعثية بكبس مقرات الحزب، وصحيفته [ طريق الشعب]، وصادرت كل الوثائق الموجودة هناك، كما صادرت مطبعة الحزب، وجرى جمع كافة الكتب الماركسية، والتقدمية من الأسواق، ومن الدور التي داهمتها قوى الأمن وتم إحراقها، وجرى إعدام العديد من رفاق الحزب، ومات تحت التعذيب أعداد أخرى، وزج البعثيون بالسجون بالآلاف من أعضاء وأصدقاء الحزب.

وهكذا لم يبقَ حزب سياسي يمارس نشاطه على الساحة سوى حزب البعث، وبدا الوضع قد استتب لهم وحدهم للانفراد بالساحة، وكشف البعثيون عن وجههم القبيح كونهم يمثلون حزباً فاشياً وشمولياً، ولا يحتملون نشاط أي أحزاب أخرى.


290
مسؤولية المحكمة الدستورية العليا في معالجة الأزمة العراقية المستعصية!
حامد الحمداني                                                    14/8/2010
خمسة أشهر مضت والأزمة العراقية المستعصية تراوح مكانها، البرلمان المنتخب معطل، وأعضاء البرلمان بيادق شطرنج بأيدي قادة الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات، بموجب ذلك القانون الانتخابي السيئ الصيت!، وهم فاقدي الإرادة، لا يجرأون على حضور جلسة البرلمان تنفيذاً لأوامر قادتهم، والدستور بات ألعوبة بيد رئيس الحكومة المنتهية ولايتها نوري المالكي، الذي فوجئ بانتصار القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي، والتي ضمت في الجانب الأكبر العناصر القومية السنية والبعثية بحصولها على 91 مقعداً، مقابل 89 مقعداً حصلت عليها قائمة دولة القانون بزعامة المالكي، والذي كان يأمل بتحقيق قائمته فوزاً ساحقاً في الانتخابات، كما جرى في انتخابات المجالس المحلية التي سبقتها قبل عام.

 لكن آماله بتحقيق الفوز المرتجى ذهبت إدراج الرياح، ولا شك أن السبب في ذلك يعود الى عدم مواصلة الحملة التي خاضها ضد الميليشيات المسلحة لإنهاء وجودها، ورضوخه لمطالب حلفائه أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، التي مارست عملية اعاقة العديد من مشاريع القوانين التي تستهدف تحقيق مطالب الشعب في تامين الخدمات الضرورية من ماء صافي للشرب، وكهرباء، ومشاريع الصرف الصحي، والخدمات الصحية، والتعليمية، وتأمين العمل للعاطلين، والسكن للمهجرين، وتأمين حياة كريمة تليق بالمواطن العراقي.

كما أن القائمة الوطنية التي ضمت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية المتمثلة بالمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة الحكيم، وحلفائه الصدريين، وحزب الفضيلة وكتلة إبراهيم الجعفري، وحزب الله! وثأر الله!....إلخ، التي فازت ب[ 70 مقعداً، مضافاً إلى ذلك التحالف الكردي الذي حصل على 46 مقعدا في البرلمان العتيد!.
وهكذا بات من المتعذّر على أي كتلة أن تشكل الوزارة بمفردها، ولا بد من تحالف كتلتين أو ثلاثة كتل لتشكيل الحكومة العتيدة، وكل كتلة تصارع من أجل أن يكون منصب رئاسة الوزراء من نصيبها، بالنظر للسلطات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الوزراء، والشبيهة بسلطات الدكتاتور السابق صدام حسين، ورئيس الوزراء المالكي الذي استطاب الجلوس على كرسي رئاسة الوزارة لا يستطيع التنازل عنها، ولذلك فقد احتج على وجود تزوير في احتساب الأصوات في الانتخابات، وطالب بإعادة الفرز، ونتيجة الفرز أظهرت عدم وجود تغير في النتائج، ومضى أكثر من شهرين دون أن يجتمع مجلس النواب لينتخب رئيساً للمجلس ورئيساً للجمهورية الذي بدوره سيدعو رئيس الكتلة الأكبر  لتشكيل الوزارة، وعندما لم يتمكن المالكي من إحداث تغيير لنتائج الانتخابات لجأ إلى التحالف مع القائمة الوطنية بزعامة عمار الحكيم، لكي يشكل التحالف الجديد الأكثرية في البرلمان تمهيداً لتشكيله الوزارة من جديد.

لكن ذلك التحالف الهش لم يكن سوى حبراً على الورق، حيث ترفض القائمة الوطنية التجديد للمالكي، وخاصة الكتلة الصدرية التي تمثل ما يقارب ثلثي أعضاء الكتلة في البرلمان، والتي جرى بين ميليشياتها وبين الجيش العراقي بقيادة المالكي حرب ضروس، وكسر عظام تلك المليشيات في البصرة ومدينة الثورة، التي سرق اسمها الدكتاتور صدام ، ومن بعده الصدريين الذين سرقوها وأطلقوا عليها مدينة الصدر.
وما زالت كتل الحكيم والمالكي وعلاوي ترفض عقد اجتماع للبرلمان لغاية اليوم بسبب هذا الصراع على رئاسة الوزارة، وكل جهة تصر على أحقيتها في تشكيلها وترفض التجديد للمالكي.

ونتيجة لهذه الأزمة المستعصية تدهورت الأوضاع الأمنية في البلاد، وتصاعدت موجة التفجيرات بالسيارات المفخخة والأحزمة والعبوات الناسفة لتحصد كل يوم المئات من أرواح الأبرياء من المواطنات والمواطنين، وقد بلغ الحال أن صرح رئيس الوزراء المنتهية ولايته السيد المالكي يوم أمس أن قيادات الجيش قد انشغلت بالسياسة، وأهملت واجباتها بحفظ الأمن والنظام، وصيانة أرواح المواطنين المغلوبين على أمرهم الذين يدفعون وحدهم ضربية الدم المسفوح على حساب المتصارعين على السلطة والثروة، والمتحصنين في المنطقة الخضراء، فليس المهم أن يتعطل البرلمان، ويتعطل تشكيل الحكومة، وانتخاب رئيس الجمهورية، ما دام قادة الكتل المتصارعة مؤمنين على حياتهم في المنطقة الخضراء، وليبقَ الشعب العراقي في أتون جحيم الانفجارات التي تحصد المزيد والمزيد من أرواح الأبرياء، وليعش قادة الكتل السياسية بنعيم السلطة والثروة.
إن هذا الوضع الشاذ والخطير الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، وتزداد أرقام الضحايا، وفواجع الأرامل والأيتام والمعوقين، قد بلغ حداً لا يمكن السكوت عنه أبدا، ولا بد من وضع حد لهذه الأزمة المستعصية، فقد بلغ السيل الزبا، ولم يعد الشعب الذي فقد أعصابه في هذا الجو القائض والشديد الحرارة، قادراً على تحمل المزيد من الصبر، و ينذر بالانفجار بوجه المتلاعبين بمصيره.
إن المحكمة الدستورية العليا مدعوة وبإلحاح لتقول كلمتها الفصل بتوجيه إنذار للمتخاصمين، فإما عقد جلسة لمجلس النواب، وأجراء انتخاب رئيس ونواب رئيس البرلمان، وانتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف الرئيس المنتخب أحد رؤساء الكتل الفائزة بتشكيل الوزارة بأسرع وقت ممكن، وحسب المدة التي اقرها الدستور، وإلا اعتبار الحكومة القائمة وهيئة رئاسة الجمهورية، والرئيس المؤقت للبرلمان، جميعاً فاقدين للشرعية، وحل البرلمان، ووقف العمل بالدستور الذي بات ألعوبة بأيديهم، والدعوة لتشكيل حكومة إنقاذ وطني، من قبل عناصر وطنية مستقلة ومتخصصة، ومشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد ولفترة سنتين، لتقوم بإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية، بعيد عن الطائفية والعرقية، والمصالح الذاتية الأنانية، وإعادة النظر في قانون الانتخابات، وتشريع قانون للأحزاب السياسية، وتشكيل لجنة من كبار رجالات القانون الدستوري لإعادة النظر الشاملة في الدستور، وتشريع قانون [من أين لك هذا؟] لمحاسبة كل من أثرى من ثروات البلاد دون وجه حق، وإنزال العقاب الصارم بحقهم واستعادة الأموال المنهوبة.
وأن إصرار زعماء الكتل المتصارعة على الاستمرار في تأزيم الوضع في البلاد والذي يهدد بنشوب حرب أهلية لا أحد يستطيع تحديد مداها ونتائجها الكارثية، فسيوصمهم الشعب العراقي بالخيانة العظمى، وسيتحملون نتائج الكارثة التي ستحل بالشعب والوطن.   

291
من ذاكرة التاريخ
الإمبرياليون يعدون للانقلاب على نظام عبد الرحمن عارف

حامد الحمداني                                                   15/8/2010

 لا شك أن هناك أمورٌ كثيرة تتعلق بالوضع السياسي في العراق كانت قد أقلقت الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين، وجعلتهم يستبقون الأحداث، ويدبرون انقلابهم ضد حكومة عبد الرحمن عارف، وكان أهم تلك الأمور المقلقة ما يلي:

1- ضعف سلطة عبد الرحمن عارف، وتنامي النشاط الشيوعي من جديد، وظهور توجهات لدى الحزب الشيوعي، ولدى القيادة المركزية التي انشقت عن الحزب، للسعي لقلب الحكم بالقوة واستلام السلطة، مما أثار قلق الإمبرياليين  الذين وضعوا في الحسبان إمكانية إسقاط ذلك النظام الهش الذي يفتقر لأي سند شعبي، وتتآكله الصراعات بين الضباط المهيمنين على السلطة، وانشغالهم في السعي للحصول على المكاسب والمغانم، مما جعل الحكم في فوضى عارمة يمكن أن تُسّهل عملية الانقضاض عليه، وتوجيه الضربة القاضية له، وإسقاطه .

2ـ محاولات القوى الناصرية لفرض الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة كانت تسبب للإمبرياليين المزيد من القلق، حيث تشكل الوحدة أكبر خطر على الوجود الإمبريالي في المنطقة، وعلى إسرائيل التي تمثل القاعدة المتقدمة للإمبرياليين، وسيفهم المسلط على رقاب العرب. 
                                               
3- قرار حكومة طاهر يحيى الصادر في 6 آب 967  باستعادة حقل الرميلة  الشمالي من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، ومعروف أن هذا الحقل غني جداً بالنفط، مما أثار حنق شركات النفط الاحتكارية التي اعتبرته تحدياً جدياً لمصالحها النفطية.
                                                                 
4- عقد اتفاقية نفطية مع الاتحاد السوفيتي بتاريخ 24 كانون الأول 1967 حيث تعهد الاتحاد السوفيتي بموجبها بتقديم كل المساعدات التقنية وتجهيزات الحفر لحقل الرميلة الشمالي، واستخراج النفط  وتسويقه لحساب شركة النفط الوطنية، وقد اعتبرت الإمبريالية هذا الأمر تغلغلاً سوفيتياً في هذه المنطقة الهامة التي تحتوي على نصف الخزين من الاحتياطات النفطية في العالم، واتخذت قرارها بالتصدي لهذا التغلغل المزعوم .
5ـ إقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية مع شركة إيراب الفرنسية                                                                                                                                                   للتنقيب والحفر واستخراج النفط في منطقة تزيد مساحتها على  11000 كم مربع تقع في وسط وجنوب العراق، وذلك بمعزل عن الاحتكارات النفطية البريطانية والأمريكية، حيث اعتبر ذلك تجاوزاً على مصالحهما النفطية في المنطقة.

6- رفض حكومة عارف منح شركة [ بان أميركان ] الأمريكية امتيازاً لاستخراج الكبريت في العراق، حيث اكتشفت كميات كبيرة منه على نطاق تجاري مما أثار نقمة الحكومة الأمريكية.

كل هذه العوامل جعلت الإمبريالية تقرر قلب نظام عبد الرحمن عارف الهش، والإتيان بحكومة جربتها يوم دبرت انقلاب 8 شباط 1963، تلك هي حكومة انقلابيي 8 شباط 1963 البعثية التي أعلنت الحرب الشعواء على الشيوعيين وكل الوطنيين، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وصفت كل منجزات الثورة التي ناضل الشعب العراقي من أجل تحقيقها.

وحيث أن حزب البعث لم يكن له القدرة على تنفيذ الانقلاب بمفرده، فقد    استطاعت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا الاتصال بـ [عبد الرزاق النايف] رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، و[إبراهيم الداود] آمر الحرس الجمهوري، و[سعدون غيدان] أمر كتيبة دبابات القصر الجمهوري، والاتفاق معهم للقيام بالانقلاب، وذلك بالتعاون مع حزب البعث، وكانت تلك خطوة تكتيكية من قبل الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين تستهدف امتلاك حزب البعث، الذي سبق وجربته فيما مضى،  لناصية  السلطة المطلقة في البلاد، ولذلك كان لا بد من تأمين مشاركة قيادات عسكرية متنفذة في أجهزة السلطة العارفية لتقود التحرك الانقلابي المنشود، وأوعزت لهم ضرورة التعاون مع حزب البعث لضرورة كسب الشارع العراقي بدعوة امتلاك حزب البعث لقاعدة شعبية. 

كيف أُعدّ الانقلاب وَمنْ قاده؟
جرت عملية الإعداد للانقلاب من قبل الدوائر الإمبريالية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، حيث سعت تلك الدوائر لتعاون العناصر الموالية لكلا الجانبين. فهناك البعثيون على الجانب الأمريكي، وعبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداؤد وزمرتهما على الجانب البريطاني.
كان النايف يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، فيما كان الداؤد يشغل منصب آمر الحرس الجمهوري.
سارع الإمبرياليون بالاتصال بالانقلابيين عن طريق عميليهما الدكتور [ناصر الحاني] سفير العراق في بيروت، و[بشير الطالب] الملحق العسكري في السفارة المذكورة، والذي سبق أن شغل قيادة الحرس الجمهوري في عهد عبد السلام عارف، حيث جرى التنسيق معهم من خلال السعودية، وقد قام النايف والداؤد بالاتصال[ بسعدون غيدان] آمر كتيبة الدبابات المكلفة بحماية القصر الجمهوري، والملحقة بالحرس الجمهوري، واستطاعا جره إلى جانبهما.
وبعد أن تم لهم تأمين اشتراك القادة الثلاثة في الانقلاب طلبوا من النايف الاتصال بالبعثيين ودعوتهم للمشاركة في الانقلاب.
وجد البعثيون فرصتهم الذهبية للعودة إلى الحكم من جديد، وأعلنوا على الفور استعدادهم للمشاركة في الانقلاب، وقد ورد ذلك على لسان عبد الرحمن عارف، في حديث له في اسطنبول في  18 شباط 1970، حيث قال: { إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال، وإن شركات النفط العاملة في العراق والقوى التي تقف وراءها كانت قد سعت منذُ منحت الحكومة عقداً لشركة [إيراب] الفرنسية، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان ] الأمريكية، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف هو الرجل الذي يحتاجون إليه، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين الدكتور ناصر الحاني و بشير الطالب وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة لما جرى وليس مجرد شكوك }.
أما عبد الرزاق النايف فقد أكد دوره في ذلك المخطط ،بعد أن قام البعثيون بانقلابهم ضده بعد  مرور 13 يوماً من تنفيذ انقلاب 17تموز 968، ونفيه إلى خارج العراق، حيث عقد مؤتمراً صحفياً في لندن فضح فيه دوره، ودور شركائه البعثيين في الانقلاب، وعلاقاتهم بالإمبريالية حيث قال:
{ أنا لا أنكر علاقتي  بالأمريكيين لكنهم هم الذين فرضوا عليَّ التعاون مع البعثيين}.
وكان عرّاب الانقلاب الدكتور ناصر الحاني، الذي أصبح وزيراً للخارجية عند وقوع الانقلاب، وقد سارع البعثيون إلى اغتياله في أحد شوارع بغداد، ثم اتبعوه باغتيال النايف بعده في لندن، محاولين بعملهم هذا حجب نور الشمس بواسطة الغربال!!.

 أما اللواء الطيار حردان عبد الغفار التكريتي الذي كان له دور بارز في   انقلاب 8 شباط 1963 ، وانقلاب 17ـ 30 تموز 1968، وشغل مناصب عليا في الجيش والحكومة كان منها رئاسة أركان الجيش، وقائد القوة الجوية، ووزيراً للدفاع، وعضوا في مجلس قيادة الثورة فقد ذكر في مذكراته بعد إقالته من مناصبه قائلاً:
لو أني ُسئلت عن أسباب انقلاب 17 تموز، وانقلاب 30 تموز لما ترددت في الإشارة إلى واشنطن كجوابٍ عن الانقلاب الأول، وإلى بريطانيا كجواب عن الانقلاب الثاني، فقد أعلن الرئيس السابق [عبد الرحمن عارف] قبل انقلابنا بشهرين عن إجراء تعديلات في اتفاقيات نفطية عراقية لصالح شركة [إيراب] الفرنسية، وقد طلبني البكر عشية هذا التعديل، وشرح لي آثاره السيئة على علاقتنا ببريطانيا وأمريكا ، قائلا إن علينا أن نستغل هذا الوضع الجديد للقيام بعمل جدي لقلب حكومة عبد الرحمن عارف.
وجرت اتصالات بيننا في العراق وبين [صدام حسين] الذي كان آنذاك في بيروت، وأخبرناه حينها بإقامة صلة بينه وبين السفارة الأمريكية، وبإجراء اتصال مع مؤسس حزب البعث [ ميشيل عفلق] بهذا الشأن، وبعد أسبوع أخبرنا صدام بأن الحكومتين الأمريكية والبريطانية أبديتا استعدادهما للتعاون معنا بشرطين:

الشرط الأول : أن نقدم تعهداً خطياً بالعمل وفق ما يُرسم لنا.

الشرط الثاني: أن نبرهن على قوتنا في الداخل بأن يقوم حزب البعث بتظاهرة ضد عبد الرحمن عارف، وبالفعل نظم الحزب التظاهرة، وكنت أسير في مقدمة المظاهرة مع أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش مع بعض الرفاق البعثيين الآخرين، وقد أخبرتنا السفارة الأمريكية في بيروت أنها على استعداد للتعاون معنا مقابل التساهل بعد نجاح الانقلاب في المسائل النفطية مع الشركات الأمريكية ونحن موافقون على هذا الشرط .

 وبعد ثلاثة أيام جاءنا من يبلغنا من السفارة الأمريكية طالبا التعاون مع آمر الحرس الجمهوري [ إبراهيم الداود]، ومدير الاستخبارات العسكرية [ عبد الرزاق النايف]، وتطبيق الخطة التي وضعها النايف، وقد اتفقنا على تفاصيل الخطة بعد أن التقينا به  ليلة 12 تموز 1968، ونجح الانقلاب بأسرع مما كنا نتصور، ومن دون مقاومة، بل رفع عبد الرحمن عارف يداه استسلاماً بمجرد أطلاق ثلاث إطلاقات من الدبابات في الهواء.

وبعد 6 أيام على الانقلاب أعلمتنا السفارة خطورة استمرار عبد الرزاق النايف في سياسته بصفته رئيساً جديداً للوزراء من خلال حديثه في مؤتمره الصحفي الأول حيث كان قد صرح  بأن حكومته ستتخذ اتجاهاً مستقلاً في قضايا النفط، وأنها ستعيد النظر في كل الاتفاقيات المعقودة بين حكومة العراق ومجمل الشركات النفطية، وقد عبرت السفارة البريطانية عن استعداها للتعاون إلى أبعد حد لإسقاط عبد الرزاق النايف، وإعطاء حزب البعث ومن يمثله من العسكريين سلطات مطلقة على العراق، ولذلك دبرنا انقلاباً جديداً في 30 تموز، وجرى إقصاء رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف، ووزير الدفاع إبراهيم الداود، ورئيس أركان الجيش، ومجموعة من الوزراء الموالين للنايف والداودي.
وهكذا نجح الانقلاب الذي خططته السفارة البريطانية لصالح الشركات النفطية البريطانية، ونفذه مجموعة من البعثيين العسكريين برئاسة أحمد حسن البكر، وبهذا ألغينا اتفاقية شركة [ إيراب] الفرنسية مع الرئيس السابق عبد الرحمن عارف، وأحقيتها في التنقيب عن النفط في شمال سامراء، كما ألغينا صفقة طائرات بين الحكومة السابقة والحكومة الفرنسية بإشارة من السفارة البريطانية في بغداد، كما جرى تعيين [سعدون حمادي]، الموظف في شركة نفط العراق، وزيراً للنفط بطلب من السفارة كذلك.   
     
 كيف نفذ انقلاب 17 تموز 968:

سارع عبد الرزاق النايف إلى إعداد خطة تنفيذ الانقلاب بالاشتراك مع إبراهيم عبد الرحمن الداؤد، وسعدون غيدان، واحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، وأنور عبد القادر الحديثي، حيث جرى الاتفاق فيما بينهم على تفاصيل خطة الانقلاب، معتمدين على كتيبة الدبابات التي كانت في القصر تحت إمرة سعدون غيدان، وجرى الاتفاق على أن يأخذ  سعدون غيدان كل من أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي بسيارته الخاصة إلى داخل القصر الجمهوري ليقوموا جميعاً بالسيطرة على كتيبه الدبابات فجر يوم 17 تموز 968، فيما يقوم عبد الرزاق النايف بالسيطرة على وزارة الدفاع، وأنيطت مهمة السيطرة على دار الإذاعة إلى إبراهيم الداؤد.

وفي فجر ذلك اليوم قام سعدون غيدان بإدخال الضباط المذكورين الذين يمثلون حزب البعث بسيارته الخاصة ، وتم لهم على الفور السيطرة على كتيبة الدبابات المذكورة ، وأحاطوا بها القصر، وقاموا بإطلاق3 إطلاقات من مدافع الدبابات كخطوة تحذيرية لعبد الرحمن عارف، الذي استيقظ من نومه مذعوراً، وحالما وجد القصر مطوقاً بالدبابات، أعلن استسلامه على الفور، وطلب تسفيره إلى خارج العراق.

وفي الوقت نفسه تحرك عبد الرزاق النايف نحو وزارة الدفاع  بمساعدة عدد من الضباط الموالين له، وسيطر على الوزارة دون عناء، فيما توجه الداؤد إلى دار الإذاعة بعدد من الدبابات وسرية من الحرس الجمهوري وسيطر عليها دون قتال، و قام بإذاعة البيان الأول للانقلاب في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم 17 تموز 1968.
حاول الإنقلابيون في بيانهم هذا التغطية على الأهداف الحقيقية للانقلاب، وجرى ذلك تحت شعار حل القضية الكردية، وإحلال السلام في كردستان، وإقامة الديمقراطية في البلاد، وإتاحة الفرص المتساوية للمواطنين، وانتصار حكم القانون، والتأييد الحازم للقضية الفلسطينية، داعين إلى تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران، ولم ينسَ البيان التهجم على الحكم السابق، واتهامه بشتى التهم، من رجعية وعمالة وغيرها!!، وكل ذلك جرى بموجب نصائح وإرشادات خبراء غربيين متمرسين في النشاطات التآمرية السياسية.

وخلال الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تم للانقلابيين السيطرة على البلاد، وانتهى كل شيء  وجرى اعتقال رجالات نظام عبد الرحمن عارف وعلى رأسهم رئيس الوزراء [ طاهر يحيى ]، وجرى على الفور تسفير رئيس الجمهورية [عبد الرحمن عارف] بطائرة عسكرية إلى لندن، حيث كانت زوجته تعالج هناك، ثم انتقل بعد ذلك إلى تركيا واتخذها مقراً لإقامته لسنين عديدة.

وبعد مرور تلك السنوات تقدم عبد الرحمن عارف بالتماس لحكومة البعث طالبا السماح له بالعودة على العراق، والعيش كأي مواطن عادي  متعهداً بالامتناع عن ممارسة أي عمل سياسي، ولكونه لا يشكل خطراً على النظام، فقد وافق البعثيون على طلبه بالعودة إلى العراق، وتقرر صرف راتبه التقاعدي.
أما الشعب العراقي فقد أستقبل الانقلاب ببالغ القلق والاكتئاب، فالوجوه هي نفسها التي أغرقت البلاد بالدماء إثر انقلاب 8 شباط عام  1963.


292
من ذاكرة التاريخ

الصراع على السلطة بين الجناحين المدني والعسكري
والعسكر يفرضون عبد الرحمن عارف رئيساً


حامد الحمداني                                                    11/8/2010

لم يكد يذاع خبر مصرع عبد السلام عارف في حادث الطائرة المروحية حتى بدأ الصراع على قمة السلطة، وكانت أطراف الصراع تتمثل أساساً في جبهتين رئيسيتين، على الرغم من محاولة الزعيم الركن [ عبد العزيز العقيلي] ترشيح نفسه للرئاسة كجبهة ثالثة، وهاتان الجبهتان هما:

1ـ الجبهة الأولى: وتتمثل بالعسكريين الممسكين بزمام القوة، حيث يمسكون بأيديهم كل المراكز الأساسية في الجيش، وقد وقفت هذه الجبهة إلى جانب اللواء [عبد الرحمن عارف] شقيق عبد السلام عارف، وكيل رئيس أركان الجيش آنذاك، بالإضافة إلى قيادة الفرقة العسكرية الخامسة المدرعة.

2 ـ الجبهة الثانية: وتتمثل برئيس الوزراء [عبد الرحمن البزاز] ومن حوله كل العناصر المدنية من الوزراء

وبموجب الدستور فأن انتخاب رئيس الجمهورية في حالة شغور المنصب يتمّ من قبل مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الأعلى بصورة مشتركة.
وهكذا فقد بادر مجلس الوزراء، ومجلس الدفاع الأعلى بعقد اجتماع عاجل في 16 نيسان 1966 لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وقد طُرح في الاجتماع ثلاثة أسماء:
1ـ الأول:عبد الرحمن عارف، وكيل رئيس أركان الجيش، وقائد الفرقة الخامسة المدرعة.
2 ـ الثاني :عبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء.
3ـ الثالث: الزعيم الركن عبد العزيز العقيلي ، قائد الفرقة العسكرية الأولى.

وفي دورة الاقتراع الأولى، حصل البزاز على 14صوتاً، من مجموع  28صوتاً، فيما حصل عبد الرحمن عارف على 13 صوتاً، ونال عبد العزيز العقيلي على صوت واحد فقط، هو صوته، وكان الضباط المصوتين لعبد الرحمن عارف 11ضابطاً من مجموع 12 [ باستثناء العقيلي ] فيما صوت 14 من الوزراء للبزاز، وعضوان لعارف.
وحيث لم يفز بأغلبية الثلثين بموجب الدستور فقد جرت دورة ثانية، كان فيها تأثير الضباط حاسماً، فقد أصروا على انتخاب عبد الرحمن عارف مهما كان الثمن، رافضين قبول تولي البزاز رئاسة الجمهورية، مما أضطر البزاز إلى سحب ترشيحه تحت ضغط العسكريين لصالح عبد الرحمن عارف، فقد كانت القوى المسيطرة على الجيش، وخاصة عدد من أقرباء عارف، وفي المقدمة منهم [ سعيد صليبي ] رجل النظام العارفي القوي، لها القول الفصل في عملية الانتخاب.

 كما أن عبد الناصر والناصريين، وقفوا إلى جانب عبد الرحمن عارف ضد البزاز، المعروف بولائه للغرب، هذا بالإضافة إلى أن عبد الرحمن عارف الذي يتسم بالضعف، وعدم القدرة على إدارة شؤون  البلاد وقلة طموحه جعل البزاز ورفاقه يرضخون لانتخاب عارف، ويفضلونه على أي مرشح آخر، حيث اعتبروه أقل خطراً من غيره على مراكزهم في السلطة.
وهكذا تولى عبد الرحمن عارف رئاسة الجمهورية، فيما بقي البزاز رئيساً للوزارة، وكان نظام عبد الرحمن عارف امتداداً لنظام أخيه عبد السلام، وإن كان أقل عدوانية منه، وبقي محور النظام يستند على الحرس الجمهوري، وتعاون  [الجمليين ] الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للحرس الجمهوري.

ضعف حكم عبد الرحمن عارف 
كان عبد الرحمن يفتقر إلى الدهاء والطاقة، ولا يتمتع بسلطة قوية لاتخاذ القرارات، ويفتقد للحدس و الحنكة السياسية والمعرفة بالشؤون العامة، وعدم القدرة على إدارة دفة الدولة، كما كان يفتقر إلى روح المبادرة والمناورة حتى شعر كل من كان حوله، إلى انه لم يخلق ليكون رئيس دولة، فاقداً لأي طموح، ولذلك فقد كان الحكم العوبة بيد عدد من الضباط المتخلفين والأنانيين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية، معتمدين على الولاءات العشائرية والإقليمية، وكان [سعيد صليبي ] يلعب الدور الأكبر من بين جميع الضباط ، في إدارة شؤون البلاد العسكرية، فيما أعتمد عارف على [خير الدين حسيب ] الناصري النزعة من مدينة الموصل، في جميع الأمور المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والنفطية.
 أما الشؤون السياسية فكانت من حصة عبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء.
لم يسد في العراق على عهده أي استقرار سياسي بسبب تصارع الأجنحة  المدنية منها والعسكرية، فلم يكن العسكريون راضين على وجود البزاز رئيساً للوزارة، واضطر البزاز في آخر الأمر إلى تقديم استقالة حكومته تحت ضغط العسكريين في 16  آب 966 1.
لقد حاول البزاز خلال فترة حكمه الممتدة من 18 نيسان 1965 إلى 16 آب  1966 إعادة الاعتبار للإقطاعيين وكبار ملاكي الأرض القدامى، كما قدم لهم خدمات وامتيازات حرمهم منها قانون الإصلاح الزراعي الذي شرعته حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم، فقد رفع معدل الفائدة المدفوعة للإقطاعيين عن ثمن الأرض المستملكة منهم بموجب القانون من 0,5% إلى 3 % سنوياً، وبذلك حمل الفلاحين المعدمين حملاً ثقيلاً ليست لهم القدرة على حمله مما أدى إلى تدهور أوضاعهم الاقتصادية أكثر فأكثر كما انه قام بتحديد قيمة مياه فروع الأنهر التي تتدفق لسقي تلك الأراضي، وبذلك حقق للإقطاعيين دخلاً كبيراً، أقتطعه من دخول الفلاحين الضعيفة أصلاً.
لقد سعى البزاز إلى تقليص دور العسكريين وامتيازاتهم، وحاول تقليص ميزانية وزارة الدفاع، مما أثار غضب العسكريين عليه، ودفعهم إلى السعي للتخلص منه، مستغلين محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية في 15 آب 1966 ليطلبوا منه الاستقالة، واضطر البزاز للرضوخ لأمر العسكر، وقدم استقالة حكومته، وطلب عبد الرحمن عارف من الزعيم الركن المتقاعد [ناجي طالب] تأليف وزارة جديدة في آب عام  1966.
ومعلوم أن ناجي طالب هو أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار الذين ساهموا في ثورة 14 تموز 1958، وهو من مواليد 1917، من مدينة الناصرية الشيعة، ويمثل الاتجاه القومي في تلك اللجنة، وقد تولى عدة مناصب وزارية في عهد عبد الكريم قاسم، لكنه انشق عنه، وتحول نحو التعاون مع القوميين، وحزب البعث للإطاحة بحكومته، وقد شغل منصباً وزارياً في الحكومة التي شكلها الانقلابيون في 8 شباط 1963.
عُرف ناجي طالب بتذبذبه السياسي ما بين القومي المستقل، والناصري، وحاول الجمع بين الأجنحة العسكرية المتصارعة داخل السلطة باتخاذه المواقف المعتدلة.
وقد تألفت وزارته من 7 ضباط و12 مدنياً من كبار موظفي الدولة الاختصاصين، لكن تناحر الأجنحة استمر في عهد وزارته رغم محاولته الجمع بين القوميين والناصريين والبعثيين الذين بدءوا بالظهور من جديد على المسرح السياسي.

واستمرار الصراع من جهة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد من جهة أخرى، إثر نشوب الخلافات مع شركات النفط ، بسبب خلافات تلك الشركات مع سوريا حول حصتها السابقة والمتراكمة عن عائدات مرور النفط عبر أراضيها  إلى ميناء بانياس، وطرابلس، وتوقف تدفق النفط مما سبب انخفاضاً كبيراً في عائدات النفط التي كان العراق بحاجة ماسة إليها، ونتيجة لهذه الأوضاع قدم ناجي طالب استقالة حكومته.

عبد الرحمن عارف يشكل الوزارة برئاسته
 
نتيجة لتلك الظروف الصعبة، وتناحر الأجنحة العسكرية، وتكالبها على السلطة، أضطر عبد الرحمن عارف إلى تشكيل الوزارة برئاسته، وبذلك أصبح ممسكاً بالمنصبين، رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزارة، واتخذ له أربعة نواب لرئاسة الوزارة، يمثلون مختلف الأجنحة. فقد عين طاهر يحيى، بعثي سابق، وعبد الغني الراوي، قومي و ذو اتجاه إسلامي، وإسماعيل مصطفى، شيعي من جماعة عبد العزيز العقيلي، وفؤاد عارف، عن القوميين الأكراد، وقد ضمت الوزارة كل من عبد الستار عبد اللطيف  للداخلية، وشاكر محمود شكري للدفاع، وفاضل محسن الحكيم للمواصلات، وعبد الكريم فرحان للإصلاح الزراعي، بالإضافة إلى 16 شخصية مدنية، من اتجاهات مختلفة، ولذلك فقد بدا منذُ الوهلة الأولى أن من الصعب جداً الجمع بين هذا التكوين ذي الاتجاهات والميول المختلفة، وأصبح بقاء هذه الوزارة مسألة وقت ليس إلا.
 و تسارعت الأحداث حينما وقعت حرب 5 حزيران العربية الإسرائيلية التي استمرت لمدة ستة أيام فقط، وانتهت بهزيمة منكرة للعرب، واحتلال إسرائيل لكامل الضفة الغربية، وهضبة الجولان السورية، وصحراء سيناء المصرية.

حرب 5 حزيران، العربية الإسرائيلية

في شهر أيار من عام 1967 بلغت أوضاع المنطقة العربية غاية التعقيد، بعد أن تصاعدت لهجة التهديد والتهديد المضاد وخاصة بين إسرائيل وسوريا، بعد إقدام حكام إسرائيل على تحويل مجرى نهر الأردن، مما دفع الرئيس عبد الناصر إلى اتخاذ إجراءات مضادة، تمثلت في غلق خليج العقبة بوجه الملاحة الإسرائيلية.
إثر ذلك تصاعد الصراع بين الدول العربية وإسرائيل، وبوجه خاص بين الرئيس عبد الناصر وقادة إسرائيل، ووصل الأمر بعبد الناصر إلى الطلب من قوات الطوارئ الدولية المرابطة بين القوات المصرية والإسرائيلية أن تنسحب من المنطقة.
لقد كان واضحاً في ذلك الوقت أن الصراع يوشك أن ينفجر في أي لحظة، وأن الحرب بين العرب وإسرائيل قد أصبحت أمراً لا مفر منه، وقد أجرى عبد الناصر تنسيقاً مع سوريا والأردن لمواجهة التحديات العسكرية الإسرائيلية.

سارع مجلس الأمن إلى عقد جلسة خاصة لبحث الأوضاع المتفجرة بين العرب وإسرائيل، وأصدر في ختام اجتماعه بياناً دعا فيه الأطراف المعنية بالصراع إلى التزام جانب الهدوء، وعدم تأزم الموقف، فقد كان الوضع يوشك على الانفجار في أية لحظة، ولاسيما وأن إسرائيل كانت قد أعلنت التعبئة العامة لقواتها المسلحة، وكانت استعداداتها الحربية تجري على قدم وساق.
وفي الوقت نفسه بعث الرئيس الأمريكي [ جونسون ] برسالة إلى عبد الناصر يطلب منه ضبط النفس محذراً إياه من مغبة شن الحرب، ومهدداً إياه بعواقب وخيمة.
وفي ظل تلك الظروف البالغة الخطورة طلب الاتحاد السوفيتي من الرئيس عبد الناصر بان لا تبدأ مصر الحرب، ولكن ينبغي اتخاذ أقصى ما يمكن من إجراءات الحذر، واليقظة للرد على أي هجوم إسرائيلي مفاجئ.
لكن قيادة الجيش المصري التي كان على رأسها المشير[ عبد الحكيم عامر] لم تكن تعي خطورة الوضع، وضرورة الاستعداد التام، وجعل القوات المسلحة المصرية في أقصى درجات التأهب في كل لحظة، وخاصة القوة الجوية، التي تشكل الغطاء الحيوي للقوات المصرية في صحراء سيناء المكشوفة.
 كان من المفروض أن تكون الطائرات المصرية على أقصى درجات الاستعداد وبعضها يراقب الوضع في الجو، ومستعدة لكل طارئ يوم 4 حزيران،  بعد التحذير الذي وجهه الاتحاد السوفيتي إلى مصر من أن جيش إسرائيل قد بلغ أقصى درجات التأهب.
 لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث، وفاجأت الطائرات الإسرائيلية صباح يوم 5 حزيران المطارات العسكرية المصرية، ودمرت معظم مدرجاتها، والطائرات الحربية الجاثمة عليها، في الساعات الأولى من ذلك اليوم، مما افقد القوات المصرية غطائها الجوي في صحراء سيناء، وجعلها تحت رحمة القصف الجوي الإسرائيلي المتواصل، وبكل ما أوتيت من قوة، منزلة الخسائر الفادحة بها، وممهدة الطريق أمام قواتها المدرعة للاندفاع نحو قناة السويس، حيث تم لها السيطرة على كامل صحراء سيناء خلال خمسة أيام.
ولما ضمنت إسرائيل في اليوم الأول سيطرتها الجوية على صحراء سيناء، وتدميرها للقوات المصرية،  وجهت جهدها الجوي إلى الجبهة السورية والأردنية، واستطاعت إسرائيل بسبب عدم تكافؤ القوى أن تنزل خسائر جسيمة بالقوات السورية والأردنية، وتمكنت من الاستيلاء على كامل الضفة الغربية، وأجزاء من الأردن،  وهضبة الجولان السورية ذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى لسوريا، خلال تلك الحرب الخاطفة التي كان يحلو لإسرائيل أن تسميها يـ{ حرب الأيام الستة }!!.
وبكل وقاحة أعلنت إسرائيل على لسان قادتها، أن صحراء سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية من فلسطين، هي ارض إسرائيلية، وأخذت تحكّم دفاعاتها على هضبة الجولان السورية، وعلى امتداد قناة السويس، وقامت بتشييد خط دفاعي سمته بـ [خط بارليف].

موقف حكام العراق من الحرب:

لم يكن العراق مهيأ ولا مستعدا لتلك الحرب، فقد كانت ثلثي قواته العسكرية مشغولة في الحرب في كردستان، وبعيدة جداً عن ساحة المعارك، التي تزيد على [1000كم]، ولم يكن لدى العراق سوى اللواء الثامن الآلي قريباً من الساحة عند الحدود السورية الأردنية، حيث أوعز لها عبد الرحمن عارف بالتحرك إلى ساحة الحرب بأسلوب استعراضي لم يراعِ فيه جانب الأمان لقواته المتقدمة، وهو العسكري الذي كان بالأمس رئيساً لأركان الجيش، ثم أصبح قائداً عاماً للقوات المسلحة، بعد توليه مقاليد الحكم في البلاد.
لقد وقف عبد الرحمن عارف يخطب من دار الإذاعة والتلفزيون معلناً تحرك القوات العراقية إلى ساحة المعركة، وكان ذلك التصرف خير منبه لإسرائيل لتهاجم طائراتها القوات العراقية وهي في طريقها عبر الصحراء منزلة بها الخسائر الكبيرة.
 ومن المضحك والمبكي في تصرفات عارف وجهله، أنه وقف يخطب بعد نهاية الحرب قائلاً:
[ إن إسرائيل تعرف عنا أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا ] فيا للكارثة أن يقود العرب حكام بهذا المستوى.
لقد أثبتت تلك الحرب أن البونَ كان شاسعاً بين العرب وإسرائيل فالحكومات العربية كانت على درجة خطيرة من التخلف يسودها الصراعات بين مختلف الأجنحة المتصارعة، والعسكرية منها بوجه خاص، حيث هيمن الضباط على معظم الأنظمة العربية، وعمت الفوضى في البلاد، وساد التخلف كل جوانب الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، في حين كان الإسرائيليون قد هيئوا أنفسهم للحرب، وحولوا كل جهودهم وقواهم لتعزيز جيشهم، وأصبحت إسرائيل مسلحة حتى الأسنان، وبأحدث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا الحربية، ويقودها أناس يعرفون ما يفعلون، وهذا في واقع الحال يشكل عاراً على الدول العربية التي تعد إمكانياتها المادية والبشرية عشرات أضعاف إسرائيل أن تستطيع إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية خلال ستة أيام ؟
 
طاهر يحيى يؤلف وزارة جديدة
في 10 تموز 1967، وبعد مرور شهر واحد على هزيمة 5 حزيران كلف عبد الرحمن عارف اللواء طاهر يحيى بتأليف وزارة جديدة، في جو الصراع والتناحر بين مختلف الفئات القومية، وجاءت وزارته التي ضمت عناصر ناصرية وقومية مستقلة، أكثر تجانساً وتوافقاً من سابقاتها من الوزارات.
 غير أنها كانت تفتقر إلى الدعم الشعبي، فقد كان الشعب في وادٍ، والنظام الحاكم في وادٍ آخر، ولذلك فقد كان من العسير على تلك الوزارة أن تقدم أي شيئا ملموساً للبلاد الغارقة بالمشاكل الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى مرارة الهزيمة، وتأثيرها النفسي على أبناء الشعب الذي كان قد أصيب بإحباط شديد جراء تلك الهزيمة  الشنعاء.
 حاول طاهر يحيى التخفيف من ضغط تلك الأوضاع البالغة السوء، فقام ببعض الإجراءات التي تتعلق بالأوضاع الاقتصادية.

* ففي 6 آب 967 أصدرت الحكومة قراراً بتحويل كامل حقوق الاستثمار في حقل الرميلة الشمالية الغنية بالنفط إلى شركة النفط الوطنية التي تملكها الدولة.

* وفي 23 تشرين الثاني 967  منحت الحكومة شركة النفط الفرنسية [إيراب] التابعة للدولة الفرنسية عقداً للتنقيب عن النفط واستخراجه في مساحة تبلغ حوالي  11000 كم مربع، وتقع في وسط  وجنوب العراق.

* وفي 24 كانون الثاني توصلت الحكومة مع الاتحاد السوفيتي إلى عقد اتفاقية يقدم بموجبها الاتحاد السوفيتي الخبرة والأجهزة والمعدات، والمساعدة التقنية لحفر حقل الرميلة الشمالي والمساعدة على استخراج النفط وتسويقه.

غير أن حكومة طاهر يحيى لم تستطع إصلاح الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في البلاد، واستمرت الشكاوى الشعبية العارمة من سوء تلك الحالة، ومن تصرفات الضباط الذين كانوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة من شؤون البلاد، واشتكى التجار من قيام العديد من أولئك الضباط بالمتاجرة بإجازات الاستيراد حتى وصل الأمر إلى أن أخذ الشعب يتندر بتلك الحكومة.



293
من ذاكرة التاريخ
الشيوعيون والبعثيون والناصريون ونظام عبد السلام عارف

حامد الحمداني                                                      9/8/2010

بعد سقوط حكم حزب البعث على أثر انقلاب 18 تشرين الثاني  1963الذي قاده رئيس الجمهورية عبد السلام عارف، حدث بعض الانفراج للوضع السياسي في البلاد، وخفت حملات الاعتقالات  والملاحقات، وتوقفت أساليب التعذيب ضد المعتقلين السياسيين التي كان يمارسها حزب البعث، كما حدثت تطورات في العلاقات بين القوى السياسية في البلاد، والعلاقات بين العربية المتحدة والعراق من جهة، والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، وكانت أهم تلك التطورات ما يأتي:

1ـ عودة العلاقات الطبيعية بين العربية المتحدة والاتحاد السوفيتي، وحدوث انفراج سياسي داخل مصر، تمثل في إطلاق سراح السجناء الشيوعيين، وتوّجت العلاقة الجديدة بزيارة الزعيم السوفيتي [ نكيتا خرشوف] للقاهرة، ولقاءه مع الرئيس عبد الناصر، مما أعاد العلاقة بين البلدين بعد الهجمات التي شنها عبد الناصر على الإتحاد السوفيتي.

2ـ توقف القتال بين الأكراد وقوات الحكومة بعد تدخل الرئيس عبد الناصر، وتوسطه بين حكومة عبد السلام عارف والقيادة الكردية.     
                       .
3ـ عودة نشاط فرع الحزب الشيوعي في كردستان بعد توقف القتال، وكان تنظيم الحزب في كردستان قد نجا أغلبه من ملاحقة البعثيين إبان حكمهم الأسود.

4ـ استئناف العلاقات العراقية السوفيتية، واستئناف السوفيت تجهيز العراق بالسلاح، الذي توقف على أثر انقلاب 8 شباط الفاشي.

5ـ الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة بدفع من العناصر الناصرية.

كل هذه العوامل دفعت قيادة الحزب الشيوعي إلى إعادة تقييم موقفه من نظام عبد السلام عارف بعد نقاش للوضع السياسي في اجتماع موسع عقدته اللجنة المركزية للحزب في أواخر آب 1964.
لقد ظهر خلال النقاش داخل اللجنة المركزية تياران متناقضان، التيار الأول دعا إلى التعاون مع حكومة عبد السلام عارف، مثمناً توجه العراق والعربية المتحدة نحو ما سمي بطريق [التطور اللا رأسمالي] وباتجاه الاشتراكية!، وذهبت العناصر اليمينية في قيادة الحزب إلى أبعد من ذلك  فدعت إلى حل الحزب، والانخراط في الاتحاد الاشتراكي، معتبرين قيام عبد السلام عارف بانقلابه ضد البعثيين، وإنهاء سلطتهم الدموية، قد أوجد شروطاً أكثر ملائمة لنضال القوى المعادية للإمبريالية، من أجل الحفاظ على استقلالنا الوطني، والعودة إلى قافلة حركة التحرر الوطني للشعوب.
غير أن التيار الثاني في قيادة الحزب كان له تقيماً آخر، وموقفاً آخر من حكومة عبد السلام عارف، ذلك أن أعداداً كبيرة من الشيوعيين كانوا لا يزالون يقبعون في سجون النظام، كما أن السلطة العارفية كانت قد فسحت المجال واسعاً أمام العناصر الرجعية والشوفيتية لخلق الطائفية وترويجها، وتواجد أعداد كبيرة من تلك العناصر في مختلف أجهزة الدولة، هذا بالإضافة إلى تدهور الأحوال الاقتصادية للشعب، وحالة عدم الاستقرار السياسي بسبب وجود التيارات المتناقضة داخل السلطة، فهناك عناصر رجعية ترتبط بشكل أو بأخر بالإمبريالية، وهناك عناصر ناصرية تسعى نحو التطور اللا رأسمالي، كما كان يجري في العربية المتحدة، ولكن  نتائج الاجتماع صبت  في خانة الإقدام على التعاون مع حكومة عبد السلام عارف.
 أدى اتجاه قيادة الحزب الشيوعي نحو التعاون مع السلطة العارفية إلى موجة من الاستياء في قواعد وكوادر الحزب الذين رفضوا هذا التوجه والتعاون مع شركاء البعثيين بالأمس في كل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب والوطن، والشيوعيين بوجه خاص، و تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، وتحدت تلك الكوادر مع جانب كبير من قواعد الحزب قرارات اللجنة المركزية رافضة إياها، في الوقت الذي أصرت فيه اللجنة المركزية على السير في الطريق الذي رسمه الاجتماع الموسع  مهما كان الثمن.
غير أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فقد حدثت تطورات داخلية، عربية ودولية، أفشلت مسعى القيادة اليمينية للحزب. فقد استُؤنفت الحرب في كردستان من جديد في 5 نيسان 1965، وشنت حكومة عبد السلام عارف الشوفينية حرباً شعواء ضد الشعب الكردي.
كما أن عبد الناصر أصيب بخيبة أمل مريرة بعبد السلام عارف، وأصبح على يقين أن عارف لا يؤمن إيماناً صادقاً بالوحدة، وإنما أتخذها وسيلة للوثوب إلى السلطة، فقد تظاهر النظام الجديد لعبد السلام عارف بالسير باتجاه إقامة أقرب اتفاق ممكن مع العربية المتحدة، في كل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
ففي 26 أيار 1964 أتفق عبد السلام عارف وجمال عبد الناصر على إقامة مجلس رئاسي مشترك، للتخطيط والتنسيق في المجالات المذكورة كافة باتجاه إقامة اتحاد دستوري بين البلدين فيما بعد.
وفي 16 تشرين الأول 1964 جرى توقيع اتفاقية الوحدة، وتكوين المجلس الرئاسي المشترك للقيادة السياسية الموحدة للعراق ومصر، وتعهد الطرفان بإقامة الوحدة بينهما .

وفي 16 تشرين الأول 1964 جرى توقيع اتفاقية الوحدة، وتكوين المجلس الرئاسي المشترك للقيادة السياسية الموحدة للعراق ومصر، وتعهد الطرفان بإقامة الوحدة بين البلدين خلال سنتين.
 إلا أن تلك القيادة لم تجتمع سوى مرتين خلال هذه المدة، وجرى نسيانها فيما بعد، وانتهت إلى الزوال، فلم يكن عبد السلام عارف جاداً في إقامة الوحدة كسابقيه حكام البعث، وقد اثبتت التجارب والوقائع أن عبد السلام الذي كان أول من شق الوحدة الوطنية، وتأمر على ثورة الرابع عشر من تموز، وقائدها عبد الكريم قاسم بدعوى الوحدة الفورية مع العربية المتحدة لم يكن يهدف حقاً إقامة الوحدة، وإنما أراد استخدام مسألة الوحدة ورصيد عبد الناصر للوثوب إلى قمة السلطة والاستئثار بها لوحده، وقد أدرك عبد الناصر أن عبد السلام عارف لا يتمتع بقاعدة واسعة في حكمه، وأن حكمه عبارة عن أقلية قليلة من الضباط لا سند شعبي لهم على الإطلاق، وأن عارف لا يختلف عن سابقيه حكام البعث بأي حال من الأحوال.
لقد كان انكشاف موقف عبد السلام عارف من الوحدة مع العربية المتحدة سبباً في حدوث شرخ كبير بينه وبين القوى الناصرية والحركية، وتطور ذلك الشرخ إلى صراع متصاعد، أدى في النهاية إلى تقديم الوزراء الناصريين والحركيين استقالتهم من الحكومة، وإلى محاولة هذه القوى قلب السلطة العارفية كما سنرى تفاصيل ذلك فيما بعد.
وهكذا اضطرت القيادة اليمينية للحزب الشيوعي العراقي إلى تغير سياستها تجاه السلطة العارفية، ودعت إلى إسقاطها، وقيام حكومة ائتلاف وطني تضم كل القوى والأحزاب السياسية الوطنية المعادية للإمبريالية.
وأشارت قيادة الحزب إلى فشل الاتحاد الاشتراكي، ونظرية الحزب الواحد، وهاجمت السياسة الاقتصادية للحكومة التي شكلها [ عبد الرحمن البراز]، وأعلن الحزب أن حكومة البزاز ترعى مصالح الإمبريالية البريطانية، وشركات النفط، وتحاول إعادة الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق من جديد.، وإعادة الهيبة والسلطة لرجالات الإقطاع، والملاكين العقاريين، وكبار الرأسماليين.

الحزب الشيوعي يطرح مسألة استلام السلطة
على أثر تلك التطورات السياسية السالفة الذكر طرح، الحزب الشيوعي في 9 تشرين الأول 1965  مسألة إسقاط حكومة عارف واستلام السلطة في الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب خلال الاجتماع مشروعان حول الموضوع:
المشروع الأول:
 قُدم من قبل [عامر عبد الله ] الذي رأى أن السلطة العارفية قد أصبحت معزولة  بعد أن خرج منها الناصريون، كما أن عودة الحرب في كردستان، وزج ثلثي الجيش العراقي فيها من جهة، واشتداد الخلافات بين عبد الناصر وعارف من جهة أخرى، جعلت الظروف في صالح الحزب لتوجيه الضربة القاضية لنظام عبد السلام عارف وإسقاطه، واستلام السلطة، معلناً أن مصير الحزب يتقرر هذه الأيام.
أما المشروع الثاني:
 الذي طرحه [ بهاء الدين نوري ] فقد شكك في استطاعة الحزب لوحده القيام بالتغيير، وتخوّفَ من تشكيل جبهة واسعة ضد الحزب، وادعى أن جماهير الحزب غير مستعدة لمثل هذا العمل، كما أن الأوضاع الدولية والعربية لا تساعد على ذلك، رغم اعترافه بإمكانية نجاح التغيير!!، ولكنه رأى أن يسبق ذلك تعاون القوى السياسية المعارضة لحكم عارف، وقد أيده في موقفه [عبد السلام الناصري] فيما أيد موقف عامر عبد الله كل من [اراخاجادور] و[صالح دكلة ] وفي نهاية المناقشات خرج الحزب بستة قرارات كان أهمها القرار المتعلق بمسألة قلب السلطة العارفية والذي جاء فيه :
{ ومن الضروري التشديد على طريقة النضال التي تبناها الحزب، والتي تعتمد على الدور الحاسم إلى [هاء] ويقصد بذلك التنظيم العسكري للحزب، في الإطاحة بالسلطة الحاكمة، وسيجد [هاء] له دعماً في إجراءات ثورية أخرى سيتخذها الحزب، وفي العمل الشعبي الحيوي في ميادين مختلفة}.
لقد جرى الاتفاق في ذلك الاجتماع على الإعداد للعمل الحاسم، على أن يبذل كل جهد ممكن لقيام تعاون مع القوى الوطنية الأخرى، كالحزب الديمقراطي الكردستاني، والضباط القاسميين والعناصر القومية ذات التوجه الاشتراكي [الناصريين]، وأن لا يقوم الحزب بالحركة بمفرده إلا في حالة عدم حصول التعاون المنشود على أن يكون المكتب السياسي مقتنعاً بان الظروف ملائمة والنصر بمتناول اليد.
وفي ختام الاجتماع تقرر إرسال رسالة من قيادة الخارج إلى اللجنة المركزية للحزب في  العراق جواباً على رسالة الحزب، وكانت وجهة نظر القيادة في الخارج تمثل تياراً وسطاً بين جناحي اللجنة المركزية، ولكنها حذرت اللجنة المركزية من مغبة الإقدام على أي خطوة متسرعة مغامرة دون نضوج الشروط الموضوعية اللازمة للتغيير الثوري.
رفضت لجنة تنظيم الخارج الرأي القائل بإلغاء فكرة[العمل المستقل للحزب] ولكنها رأت أن على الحزب أن يحاول تحقيق التعاون الوطني كهدف ثابت له في جميع الأحوال والظروف، حتى ولو بدت تلك المحاولات صعبة التحقيق في ظل الظروف الراهنة، وما يعتريها من صعوبات،ورأت أن آفاق التعاون ستكون أوسع نطاقاً كلما زاد نفوذ الحزب بين صفوف الجماهير، ورأت أيضاً أن على الحزب أن يلجأ إلى خطة مستقلة إذا كانت جماهير الشعب على استعداد كامل للإطاحة بالسلطة، وتلكأت القوى الوطنية في استيعابها لهذه الإمكانية أو رفضتها، وعلى الحزب في هذه الحالة أن يسعى لتعبئة قوى واسعة من جماهير الشعب.
وفي حالة إقدام الحزب على خطة مستقلة فإن هذه الخطة يجب أن تؤكد على أن التعاون المشترك، والدعوة إليه من خلال الشعارات التي يتبناها الحزب أثناء تحركه وبعده. كما أيدت لجنة تنظيم الخارج مسألة الإعداد لانتفاضة جماهيرية شعبية من خلال نضال الجماهير نفسها، مع عدم الاستهانة بالعدو وأساليبه القمعية تجاه الحركات الشعبية، كما أيدت فكرة الاعتماد على الجهد الفعال لتنظيم الحزب، داخل صفوف القوات المسلحة في لحظة تطور الحركة الجماهيرية، ووصولها إلى حالة متقدمة [أي حالة الانتفاض الثوري]، أي استخدام عناصر الجيش الحزبية في الوقت المناسب تماماً لدعم الانتفاضة الجماهيرية، وإسنادها نحو تحقيق أهدافها. كما أن على الحزب أن يأخذ في الحسبان احتمال تطور الأوضاع إلى قيام حرب أهلية بسبب تواجد القوى الرجعية على الساحة من جهة، وكون الحزب الشيوعي يمثل الاتجاهات اليسارية التقدمية، وعليه فالواجب يقتضي الإعداد الجيد للتصدي للحرب الأهلية، ووضع الثورة الكردية بعين الاعتبار كعنصر مساعد.
كما حذرت لجنة تنظيم الخارج من التسرع بشكل مصطنع، أو محاولة القفز فوق المراحل الضرورية للتطور والنضج الطبيعي للحزب، والانتباه الدقيق لمحاولات الأعداء نصب فخ للحزب للإقدام على خطوة متسرعة لكي يوجهوا له الضربة القاضية، وفي الختام حددت الرسالة الأهداف الآنية للحزب ذات الأهمية الأكثر إلحاحاً وهي:
1ـ السعي لتقوية مواقع الحزب داخل الجيش دون محاولة إحداث أي ضجة، والعمل على حماية التنظيم العسكري، وتطوير إمكانياته جنباً إلى جنب مع تطوير إمكانيات الجماهير الشعبية.
 2 ـ بذل الجهود المتواصلة من أجل التعاون الوطني، والسعي لتشكيل التحالفات مع القوى الوطنية التي لها الاستعداد للتعاون من أجل الإطاحة بالنظام .
3 ـ تثقيف جماهير الحزب ورفاقه بشكل هادئ وتدريجي من دون إحداث ضجة حول طرق نضال الحزب في المرحلة الراهنة، وتنشيط الحركة الجماهيرية ومنظماتها كافة، وتوحيد جهودها، وحثها على التحرك الجماهيري كالإضرابات والاحتجاجات على الحرب في كردستان، ودفع الفلاحين إلى مقاومة النظام وإعلان العصيان.
4 ـ التغلب على حالة القصور البارزة في الحزب، وأهمية إصدار صحيفة الحزب على فترات غير بعيدة ومنتظمة، والاهتمام بالكادر، وأهمية إجراءات الحماية لقيادة الحزب وكوادره، من أجل حماية أسرار الحزب الهامة.
وفي الختام وجهت قيادة الخارج انتقاداً إلى الإجراءات التي اتخذتها لجنة الحزب المركزية في الداخل حول الانتخابات، وإخراج [ناصر عبود] من عضوية اللجنة المركزية، وإدخال خمسة أعضاء جدد في اللجنة، بالإضافة إلى بقاء كافة الأعضاء السابقين، سواء الموجود منهم في الداخل أو الخارج.

البعثيون يحاولون الإطاحة بحكم عبد السلام عارف

لم يهدأ البعثيون، بعد أن غدر بهم شريكهم في انقلاب 8 شباط عبد السلام عارف الذي نصبوه رئيساً للجمهورية، ولجأوا إلى العمل السري لتجميع قواهم والتمهيد للقيام بانقلاب مضاد، ولاسيما بعد أن غدر عبد السلام عارف للمرة الثانية بالضباط الذين تمردوا على قيادتهم المدنية، وتعاونوا معه في انقلاب في 18 تشرين الثاني 963 1، ولاسيما وأن البعثيين كانوا يتخوفون من تجدد نشاط الحزب الشيوعي، وتنامي قدراته التنظيمية، وتوسع قاعدته، وينتابهم القلق من أمكانية قلب نظام عارف واستلام السلطة، بالإضافة إلى قلق المخابرات الأمريكية والبريطانية من اتساع نشط الحزب، وربما بتنسيق بين الطرفين بادر حزب البعث استعداداته لقلب نظام عبد السلام عارف.
فقد استطاع البعثيون تجميع قواهم وتنظيمها وإعدادها للعمل الانقلابي، وتقرر القيام بالحركة يوم 4 أيلول 1964 معتمدين في تحركهم على كتيبة الدبابات الرابعة التي استخدموها في انقلاب 8 شباط 1963، بالإضافة إلى 6 طائرات  [ميك عسكرية ] يأخذ طياريها على عاتقهم قصف طائرة عبد السلام عارف يوم توجهه إلى مؤتمر القمة العربية بالإسكندرية.

غير أن جهاز استخبارات عارف كشف خيوط المؤامرة قبل تنفيذها وجرت على الفور حملة اعتقالات واسعة في كافة أنحاء العراق، وزُج بالبعثيين في السجون والمواقف، وسارع عبد الناصر إلى إرسال 600 عسكري إلى العراق لدعم نظام عارف، وعسكرت هذه القوات في مقر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب لشل حركتها، وهكذا تم لعبد السلام عارف إجهاض الحركة الانقلابية للبعثيين، وكنس كل بقايا العناصر البعثية في جهاز السلطة المدنية والعسكرية على حد سواء.
كما أجرى عبد السلام عارف تعديلاً وزارياً في 14 تشرين الأول 1964 أدخل بموجبه ثلاثة وزراء ناصريين في حكومته، وبذلك أصبح للناصريين ستة مقاعد وزارية في الحكومة، وأصبحوا في موقف أقوى تجاه العناصر القومية اليمينية داخل السلطة.
حاول الناصريون دفع سياسة السلطة نحو إجراء تغييرات أكثر عمقاً في المجالات الاقتصادية والسياسية، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الوحدة مع العربية المتحدة، مما أثار صراعاً داخل السلطة من جديد بين العناصر القومية ذات الاتجاهات المختلفة والمتناقضة، فقد حاولت كل مجموعة إزاحة المجموعة الأخرى من أمامها، وانتهى ذلك الصراع بانتصار الجناح اليميني في الحركة القومية، وإزاحة الناصريين من الحكم من جديد.

إزاحة الناصريين من الحكم
بدأ الناصريون يخسرون مواقعهم داخل السلطة منذُ ربيع عام 1965 ، تحت تأثير أسباب عديدة، منها ما يتعلق بالموقف من عبد الناصر، ومشروع الوحدة،  ومنها ما يتعلق بالأوضاع الداخلية، وخاصة  الاقتصادية منها، وما سببته مراسيم التأميم من تأثيرات سلبية بسبب عدم وجود الخبرة لدى أجهزة السلطة تمكنها من إدارة الشؤون الاقتصادية بعد التأميم، وزاد في الطين بله قيام أصحاب رؤوس الأموال بتهريب أموالهم إلى خارج البلاد، وتراجع النمو الاقتصادي، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، حيث بلغ عدد العاطلين المسجلين رسمياً 20 287 عاملاَ، ولذلك فقد بدأت العناصر اليمينية في الحكومة تدعوا إلى إعادة النظر في تأميم المشاريع التي جرى تنفيذها، والعدول عن الاتجاه الاشتراكي، وبالفعل نجحوا في إبطاء حركة التغيير التي بدأها الناصريون.
حاول الناصريون إحكام سيطرتهم على التجارة الخارجية في نيسان 1965، للحد من تهريب رؤوس الأموال، وتلاعب كبار الرأسماليين في الاقتصاد الوطني، إلا أنهم فشلوا في إقناع عبد السلام عارف بالسير في هذا الاتجاه، مما سبب تباعد المواقف بينه وبين الناصريين شيئاً فشيئاً،  وتطور هذا التباعد، وتعمقت الخلافات، وأصاب الناصريين اليأس من القدرة على التأثير على سياسة عارف، وأخيراً أضطر الوزراء الناصريون إلى تقديم استقالاتهم من الوزارة في 4 تموز 1965، وعلى الأثر توترت العلاقات بين عبد الناصر وعبد السلام من جديد.
حاول عبد السلام عارف تجنب القطيعة مع عبد الناصر، فأقدم على تشكيل وزارة جديدة برئاسة الناصري [ عارف عبد الرزاق ] في 6 أيلول 965، واحتفظ عارف عبد الرزاق بوزارة الدفاع، إضافة إلى رئاسة الوزارة.
 كما عين عبد الرحمن البزاز نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية والنفط، و عبد اللطيف الراجي، وزيراً للداخلية ليوازن بين الاتجاهين المتناقضين.

محاولة الناصريين الانقلابية
 لم تُجدِ محاولات عبد السلام عارف نفعاً في رأب الصدع بينه وبين الناصريين، وذهبت تلك المحاولات أدراج الرياح، ولم تنجح في زحزحة مواقفهم، بل زادتهم اندفاعاً للقيام بانقلاب عسكري تزعمه [عارف عبد الرزاق] رئيس الوزراء ، ووزير الدفاع، ووكيل رئيس الجمهورية في 15 أيلول 1965، أثناء وجود عبد السلام  في الدار البيضاء لحضور مؤتمر القمة العربي. إلا أن العقيد [سعيد صليبي] آمر الانضباط العسكري، وآمر حامية بغداد، والساعد الأيمن لعبد السلام عارف، عرف بأمر تحركهم، فوجه لهم الضربة مسبقاً، وهرب الانقلابيون إلى خارج العراق.
 وهكذا وصلت العلاقة بين عبد السلام عارف  والناصريين إلى القطيعة التامة، ودخل الحكم العارفي في مرحلة جديدة من الحكم القبلي، فقد أصبح معظم رجالات الدولة وقادتها من قبيلة الجميلات، وأخذ سعيد صليبي يلعب الدور الرئيسي في إدارة دفة الحكم، وأصبح عبد الرزاق النايف ـ جميلي ـ مديراً للاستخبارات العسكرية، ولعب دورا كبيراً في الحفاظ على حكم عارف.
وفي الوقت نفسه أصبح عبد الرحمن البراز رئيساً للوزراء، ومُنح صلاحية إصدار القرارات، وتسيير شؤون البلاد.
 كما أقدم عبد السلام على حل مجلس قيادة الثورة الذي تألف من العسكريين، وانتقلت السلطة التشريعية إلى مجلس الوزراء، وأنيطت مسؤولية جهاز الأمن والاستخبارات بمجلس شكله حديثاً ودعاه بـ [ مجلس الدفاع الوطني ] بإشراف عبد السلام عارف نفسه.
حاول عبد الرحمن البزاز إضفاء صفة المدنية على جهاز الحكم، وإشاعة سيادة القانون، والتسريع لإقامة البرلمان،  وإجراء انتخابات نيابية، وتنشيط الاقتصاد، وزيادة الإنتاج في القطاعين العام والخاص، وغيرها من الإصلاحات السطحية الأخرى، غير أن جهود البزاز لم ترَ النور، فقد كان الموت بانتظار عبد السلام عارف في 13 نيسان 1966، وإخراجه من الحكم بعد أربعة أشهر من تولي عبد الرحمن عارف شقيق عبد السلام عارف، بضغط من العناصر العسكرية التي كانت تتمتع بنفوذ كبير.
ففي الثالث عشر من نيسان  1966أعلنت محطتا الإذاعة والتلفزيون العراقية أن الرئيس عبد السلام عارف قد لقي مصرعه بحادث سقوط طائرة مروحية كان يستقلها مع بعض الوزراء، وكبار مساعديه في جنوب العراق قرب القرنة، ولم يُكشف النقاب عن حقيقة مقتل عبد السلام عارف، إذ أعلنت الحكومة أن الطائرة التي كان يستقلها عبد السلام عارف قد سقطت  بسبب هبوب عاصفة رملية، ولكن هناك الكثير من الشكوك حول حقيقة مصرعه، فهناك الصراعات الداخلية بين عارف والعناصر الناصرية من جهة، وبينه وبين البعثيين من جهة أخرى.
 كما كان هناك صراع بين الإمبريالية، والعناصر الناصرية التي أقلقها محاولاتهم المتكررة إلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة، وليس ببعيد أن تكون وراء مصرعه، وربما كان هناك ما هو أبعد من ذلك، حيث حاول عبد الرحمن البزاز، المعروف بولائه للبريطانيين، الوصول إلى كرسي الرئاسة، ودخوله في منافسة مع عبد الرحمن عارف المدعوم من قبل القوى العسكرية المهيمنة على الحكم كما سيرد في حلقة قادمة.




294

الدكتور شاكر النابلسي والرئيس بوش‘ وغزو العراق والوحي الإلهي!
حامد الحمداني                                                        7/8/2010

في مقاله الأخير بعنوان [ماذا كان على أمريكا أن تفعل؟] تناول الدكتور شاكر النابلسي تعليقات القراء على مقاليه السابقين التي انصبت على لوم أمريكا في الدرجة الأولى وتحميلها مسؤولية ما يجري في العراق، دون باقي الأطراف الأخرى من العرب، ومن السياسيين العراقيين، وقد اعترف الدكتور النابلسي                       
بقوله: ولا شك أن أمريكا مسؤولة عما جرى، بل هي ارتكبت بغزوها للعراق [غلطة تاريخية]!! لا تغتفر لها من قبل العرب ناسياً أن يضع العراقيين الذي وقع عليهم كل هذا الضيم في مقدمة العرب!.
ثم تساءل قائلاً: ما هي مسئولية أمريكا تجاه الكارثة التي حلت بالعراق 2003، وماذا كان عليها أن تفعل لكي لا ينتهي العراق إلى مرحلة الاحتقان السياسي والدكتاتورية المُقنَّعة التي تحكمه الآن؟                       .               
لكن الدكتور النابلسي قبل أن يجيب على السوآل الذي طرحه، طالب الذين يلومون أمريكا أن يعترفوا بادئ ذي بدء، بأن أمريكا لم تكن تعلم العلم الكثير والواثق عن أحوال العراق، ولا عن تركيبته الاجتماعية، ولا يعرفون شيئا عن تاريخ العراق السياسي قبل 2003. ورغم أن الجامعات والمعاهد الأمريكية مليئة بالدراسات التاريخية والسياسية عن الشرق الأوسط، وعن العراق خاصة، إلا أن الإدارة الأمريكية السابقة في عهد بوش الابن لم تقرأ هذه الدراسات، وإن قرأتها فهي لم تفهمها، أو أنها تجاهلت الحقائق السياسية والاجتماعية والثقافية التي تضمنتها. واعتمدت في قرارها لغزو العراق على ساسة المعارضة العراقية، الذين كانوا يتربصون بخزائن العراق وثرواته لنهبها والفرار بها. وهو ما حدث منذ 2003 حتى الآن، إلى الحد الذي وصفت به "منظمة الشفافية الدولية" الفساد المالي والنهب المسعور في العراق، بأنه "أكبر فضيحة فساد شهدها تاريخ البشرية" كما ذكرنا، ووثقنا ذلك في مقالات سابقة، هنا على هذه الصفحة.   
         
إذن، فقد غزت أمريكا العراق، وهي لا تعلم ما هو العراق، ولا طبيعة المجتمع العراقي رغم أنها تملك من الأجهزة الاستخباراتية والمعلوماتية ما يمكّنها من معرفة حتى الدبيب الذي يدبي على أرض العراق، فكيف فات على الإدارة الأمريكية أن تعلم طبيعة وتركيبة النظام الاجتماعي والسياسي والتاريخي للعرق
لكن الدكتور النابلسي عزى إقدام بوش على غزو العراق إلى تخيلات دينية                                      نتيجة لنقل الرئيس بوش الابن مكتبه من البيت الأبيض إلى الكنيسة، كما سبق وقلنا في عام 2008. وكاد الرئيس بوش أن يكون هو الرئيس الأمريكي الوحيد، الذي نقل مكتبه من البيت الأبيض إلى الكنيسة. وأن سياسة بوش في الداخل والخارج، تنبع من منطلق ديني بحت، شجعه عليه فريق في أمريكا يطلق عليه فريق الصلاة الرئاسية، ويتولى هذا الفريق تثقيف الرئيس بوش دينياً، وإخضاع قراراته السياسية المهمة لتبريرات دينية، ويضيف النابلسي قائلاً: ودليلنا على أن بوش الابن، اتخذ قرار غزو العراق من منطلق ديني وليس من منطلق سياسي!!
ويعزو إلى بوش قوله أنه يقوم بمهماته من حرب في أفغانستان ضد الإرهاب هو أمر من الله. قائلاً: لقد أمرني الله أن اذهب واحارب الإرهابيين في أفغانستان، فذهبت إلى أفغانستان، ثم أمرني الرب، بأن أذهب وأحارب الطغيان في العراق، فذهبت وحاربته ثم يضيف بوش قائلاً: أنا رئيس ملهم من الرب، وبدون هذا الإلهام، لا أستطيع أن أقوم بعملي!!                                          .                                                     
لا يا سيدي الدكتور شاكر النابلسي، أنني استغرب اشد الاستغراب من هكذا تعليلات لسياسة أعظم دولة في العالم يقودها مجنون!!، فلا أخال أن أحداً يصدق هذا الادعاء مهما كان جاهلا. إن سياسة الولايات المتحدة الخارجية على وجه الخصوص لا يقررها شخص واحد هو الرئيس بل هناك نخبة ذات كفاءة عالية ومتخصصة بمختلف الشؤون السياسة والاقتصادية والمالية الاستراتيجية التي لا يستطيع أي رئيس أمريكي أن يحيد عنها، وأعضاء هذه النخبة يخططون، كل مجموعة باختصاصها، ليس لمدة عام أو عامين، بل لعقود عديدة، وهي خاضعة باستمرار للمراجعة، والتنقيح بما تتطلبه التطورات التي تحصل في العالم أجمع.
لقد بدأت الولايات المتحدة عام 2002 ، بالتعاون مع حليفتها بريطانيا، إعداد الخطط  لشن الحرب على العراق، وفي نهاية ذلك العام كان يبدو لكل المتتبعين لتطورات الأزمة العراقية أن الولايات المتحدة قد أوشكت على وضع اللمسات الأخيرة للمسار الذي ستتخذه هذه الحرب، وهي عازمة على المضي قدماً في تحضيراتها، متجاهلة كل الاحتجاجات والمظاهرات المنددة بالحرب.
 ورغم المواقف التي اتخذتها كل من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين برفض الحرب كوسيلة لمعالجة الأزمة العراقية، وعلى أقل تقدير كانت دعواتها إلى عدم التسرع في شنها على العراق قبل استنفاذ كل الوسائل السلمية للتعامل مع نظام الدكتاتور صدام.
لقد كان موضوع الحرب على العراق الشغل الشاغل للعالم أجمع ما بين مساند لها ومعارض، وكان لكل طرف حساباته الخاصة، ومصالحه القريبة والبعيدة المدى، لكن مصالح الولايات المتحدة كانت في مقدمة تلك المصالح. فالولايات المتحدة استهدفت من الحرب التي كانت تعد لها تحقيق الأهداف التالية:
أولا: احتلال العراق الذي يطفوا على اكبر خزين احتياطي من البترول، والذي يعتبر ثاني خزين احتياطي نفطي في العالم، بما قد يصل إلى  أكثر من 300 مليار برميل، ناهيك عن الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي والعديد من الثروات الطبيعية الأخرى، وكان نظام صدام قد عقد العديد من الاتفاقيات النفطية مع روسيا وفرنسا والصين، كما مارست الولايات المتحدة الضغوط على حكومة المالكي للإسراع بتصديق قانون النفط الذي رهن النفط العراقي باطن الأرض للشركات الأمريكية والبريطانية لعدة عقود، ويخطئ من يعتقد أن أمريكا ستخرج من العراق قبل أن تضمن قيام نظام حكم موالٍ لها بشكل مطلق ودائمي.

ثانيا:التخلص من نظام الدكتاتور صدام حسين الذي كانت له تطلعات للهيمنة على منطقة الخليح الغنية بالبترول، الذي يمثل عصب الحياة للاقتصاد الغربي، والتي اعتبرتها الولايات المتحدة تشكل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج، ولاسيما بعد أن أقدم صدام على غزو الكويت واحتلاله، حيث كان سيصبح العراق يمتلك ثلث نفط الخليج لو قدر له الاحتفاظ بالكويت، مما لا يمكن أن تتساهل في التصدي له.

ثالثاً: فرض هيمنتها على الشرق الأوسط من خلال مشروعها الذي أطلقت عليه  [الشرق الأوسط الجديد]، والذي يستهدف أجراء تغيرات واسعة في منطقة الشرق الأوسط وفق أجندتها الهادفة إلى تأمين المصالح الأمريكية في المنطقة.

رابعاً: الرغبة بتفردها في الهيمنة على العالم من خلال هذه الحرب، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف وجدت نفسها في موقف لا يمكن التراجع عنه حتى لو اقتضى الأمر تحدي الأمم المتحدة ومجلس الأمن!!، وهذا ما أكده الرئيس بوش بوجه معارضيه الأوربيين، وفي المقدمة منهم فرنسا وألمانيا، بالإضافة إلى روسيا والصين، وعلى الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها جراء الحرب، إضافة إلى تكاليفها الباهظة، كي لا يصاب حلمها في الهيمنة على العالم  بنكسة كبرى إن هي تراجعت عن خططها الحربية، وهذا ما لا يمكن أن تسمح به.

  خامساً: إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان على الوضع القائم في روسيا اليوم، وعلى الرغم من العلاقات التي تربط بين الطرفين والتي يسودها التوتر حاليا، وهي تخشى من حدوث تغيرات في قمة السلطة تعيد الحرب الباردة والصراع بين الطرفين، وهذا ما يسبب أشد القلق للولايات المتحدة، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن العراق ومنطقة الخليج، بل ولتطويقها، ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها، حيث سعت إلى ضم بولندا وجيكيا ولتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى حلف الأطلسي، وهي تحاول كذلك ضم أوكرانيا وجورجيا، بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو] أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً.
وهكذا وجدت شعوب العالم اليوم نفسها في محنة يصعب الخروج منها دون أن تصيبها المخاطر والأضرار البالغة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالحرب بكل تأكيد عندما تقع، يكتوي بنارها الجميع، وعليه كان لا بد من مبادرة على وجه السرعة للخروج من هذا المأزق الحرج.
 لكن كل المحاولات التي بذلت لتجنب الحرب باءت بالفشل، وأصرت الولايات المتحدة على الاستمرار في التحضير لها متحدية العالم أجمع، ومتجاهلة لدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
فقد كشفت الوثائق التي نشرها الموقع الخاص بـ[أرشيف الأمن القومي الأمريكي] وهو هيئة بحثية خاصة غير حكومية تتخذ من جامعة جورج في واشنطن مقرا لها، على شبكة الإنترنيت، بعد رفع السرية عنها، تفاصيل خطة الحرب التي أعدتها القيادة الأميركية الوسطى لغزو العراق في شهر آب 2002، كما عرض رسومات خطط هذه الوثائق التي قال بإنه حصل عليها استنادا إلى قانون حرية المعلومات بعد رفع السرية عنها.
                                                                                                                                                                                                                                                                                                       
وتشير الوثائق إلى أن المخططين في القيادة الأمريكية الوسطى كانوا قد أعدوا خطط العدوان على العراق بطلب من قائد القيادة الأمريكية الوسطى آنذاك الجنرال [تومي فرانكس] تحت اسم رمزي هو [خطوة بولو] POLO STEP ليتم عرضها خلال العام 2002 على الرئيس جورج بوش ومجلس الأمن القومي، ووزير الدفاع آنذاك [دونالد رامسفيلد] وهيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية والقادة العسكريين في القيادة الوسطى، واستنادا إلى الرسومات التوضيحية فإن تلك الخطط قد كشفت عن أنه بعد الانتهاء من العمليات الحربية الرئيسية سيكون هناك فترة تتراوح ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر تسمى [مرحلة الاستقرار]، ثم تتبعها [مرحلة الشفاء]، وتمتد ما بين 18-24 شهرا، ثم تتبعها [المرحلة الانتقالية]، وتمتد من 12-18 شهرا لتنتهي بمرحلة [استكمال الانسحاب] بعد فترة 45 شهرا،على أن تبقى في العراق قوة رمزية تتألف من خمسة آلاف جندي أمريكي فقط.
كان شهر آب من عام 2002 مهما من حيث التوقيت، حيث كان الرئيس بوش يستعد للذهاب إلى الأمم المتحدة للحديث عن النظام العراقي، ويؤكد أنه ما يزال يمتلك برنامجا لأسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي كان  التخطيط للحرب على العراق مستمرا، وقد أبلغ [تومي فرانكس] كبار ضباط قيادته بأنه يفترض أن يكون لوزارة الخارجية الأمريكية الدور الرئيسي في تولي مسؤولية إعادة بناء المؤسسات السياسية في العراق، حيث تذكر الوثائق أن وزارة الخارجية ستعمل على إيجاد حكومة مؤقتة ذات قاعدة واسعة، وذات صدقية يُعتمد عليها كي تتولى الحكم في العراق حال تحقيق النصر وإسقاط نظام صدام حسين.   
      .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                     
لكن المدير التنفيذي لأرشيف الأمن القومي [توماس بلانتون] كان قد ذكر إن خطط الحرب هذه تتضمن افتراضات غير واقعية كليا حول مرحلة ما بعد صدام، وعزا بلانتون رأيه في تلك الخطط إلى أنها تفترض قيام حكومة مؤقتة غداة إسقاط النظام، وان الجنود العراقيين سيبقون في مواقعهم العسكرية، وسيكونون شركاء يعتمد عليهم، وأخيرا فان مرحلة ما بعد الأعمال الحربية ستستمر لبضعة أشهر.

 لكن كل هذا الإدعاء لم يكن سوى مجرد أوهام لا أساس لها من الصحة
 فقد كانت إدارة الرئيس بوش قد استبعدت إقامة حكومة عراقية مؤقتة عقب احتلال العراق غير أن العقيد [جونو] وهو من مخططي القيادة الأمريكية الوسطى آنذاك قد ذكر بإنه لم يكن قد أدرك الكيفية التي ستكون عليها ترتيبات ما بعد الحرب إلى أن تم تعيين الجنرال المتقاعد [جاي غارنر] فور إعلان بوش انتهاء الحرب للعمل كأول مسؤول إداري أمريكي في العراق عقب احتلاله، وقد أتبعت إدارة بوش ذلك فيما بعد في شهر أيار 2003 بتشكيل [سلطة الاحتلال المؤقتة] برئاسة الدبلوماسي الأمريكي [بول بريمر] الذي لم تكن لديه أي خبرة في شؤون العراق، والذي أصدر على الفور مرسوما بحل الجيش العراقي دون التفكير بعواقب ذلك القرار الخطير الذي حول مئات الألوف من منتسبيه ضباطاً ومراتب عاطلين عن العمل، ودون دخل يتدبرون به شؤون عائلاتهم، وكان ذلك الإجراء خطأ جسيمأ أدى إلى عواقب خطيرة على الأمن والنظام في البلاد، فقد كان من نتائجه تحول أعداد غفيرة من منتسبي الجيش ضباطاً ومراتب، وبما يمتلكونه من خبرة عسكرية، إلى حمل السلاح والقيام بنشاط  عسكري ضد القوات الأمريكية، ونشاط إرهابي استهدف حياة المواطنين الأبرياء من خلال تفجير السيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة التي أخذت بالتصاعد يوماً بعد يوم حتى باتت السيطرة عليها  امرأ عسيراً.
ثم تساءل الدكتور شاكر النابلسي قائلاً:إذا كانت إدارة بوش تعلم طبيعة المجتمع العراقي فلماذا اتخذت قرار الغزو لزراعة الديمقراطية في غير أرضها، المهيأة لها تهيئة سليمة؟ وإذا كانت لا تعلم فالمصيبة أعظم، فمن يمكن أن يعلم غيرها في هذه الحالة، وهي التي تُوصف بأنها حامية العالم!، وسلطان العالم!، وعلوم العالم؟
وبودي أن أسئلك يا سيدي:
* هل حقاً غزا بوش العراق كي ينقذ الشعب العراقي من طغيان صدام ونظامه الفاشي، ويقيم لنا نظاماً ديمقراطياً؟
*هل تسليم الحكم لأحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني يمكن أن يقيم أي نوع من الديمقراطية حتى المزيفة منها؟
*هل تؤمن أحزاب الإسلام السياسي بالديمقراطية، بل أرادتها أن تكون سُلماً للصعود إلى السلطة بعد الانتخابات النظيفة جداً!!، لتتمسك فيها ولا تنفك عنها وأخذت تتوالى تصريحات قيادات هذه الأحزاب بأن الحكم ينبغي أن يكون شيعيا!، ولا تخفي أحزاب الإسلام السياسي السنية رغبتها في أن يكون الحكم سنيا هي الأخرى!.
* هل عجزت إدارة بوش عن إيجاد أربعين شخصية تنكوقراطية متخصصة، وتتصف بالأمانة والنزاهة ونظافة اليد، والأيمان بالعراق وطن مقدس، وتسلمهم السلطة مدعومة بقواتهم المحتلة لكي يقيموا دولة مؤسسات حقيقية في البلاد، ويعملوا على النهوض بالبلاد في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والخدماتية، والسياسية، لو كانت تهدف حقاً وصدقاً لأقامة نظام ديمقراطي في العراق. أن الدولة الكبرى في العالم التي تحمي أشد الدول الدكتاتورية والرجعية التي لا تحترم ابسط حقوق الإنسان لا يمكن أن تبني الديمقراطية في العراق.
أما قولك أن الشعب العراقي غير مؤهل للديمقراطية، وأن الإدارة الأمريكية قد أخطأت في سعيها لإقامة نظام حكم ديمقراطي في البلاد، فهذا تجنٍ كبير على الشعب العراقي، واحتقاراً له كشعب متخلف غير جدير بالديمقراطية، فيا سيدي الشعب العراقي هو أشد الشعوب العربية تواقاً للديمقراطية، وقد مارسها منذ العهد الملكي، على الرغم من محاولات القمع من قبل السلطات التي كانت تخشى على سلطتها التي استأثرت بها، فكانت تمنح الشعب حقوقاً ديمقراطية بالقيراط، فتفتح منفذا للديمقراطية حيناً، وتعلن الاحكام العرفية، وتوقف العمل بالدستور وتصدر المراسيم المنافية للدستور حيناً آخر. ليس هناك شعباً يرفض الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وحكومة منتخبة بكل شفافية تؤمن لشعبها حياة رغيدة تليق بالإنسان، ولاسيما في بلد من أغنى بلدان العالم كالعراق الذي تستطيع حكومة نزيهة ونظيفة اليد، كنظافة يد الشهيد عبد الكريم قاسم تقوده قادرة بكل تأكيد أن تحقق حلم الشعب العراقي بحرية الوطن واستقلاله الحقيقي، والحياة السعيدة.     


295
من ذاكرة التاريخ
مأزق انقلابيي 8 شباط،، وانقلاب عبد السلام عارف

حامد الحمداني                                                    6/8/2010

الخلافات الداخلية والتمزق في قيادة البعث

 لم يكن حزب البعث يضم عنصر التجانس بين أعضائه، فقد كان أعضاءه وقيادييه ينتمون لطبقات  مختلفة ، قسم منهم من الطبقة البرجوازية ، أو البرجوازية الصغيرة، ونسبة قليلة من العمال والفلاحين  والحرفيين ذوي الدخل المحدود .
وكانت قيادة الحزب على وجه الخصوص تضم حوالي  5 %  من الفلاحين أكثرهم من الديوانية، و20 % من العمال من منطقتي الكرخ والأعظمية، و50 % من الطلاب ذوي الأصول الاجتماعية المختلفة والباقي من الضباط والموظفين والمهنيين.  (1)
كما كان معظم ضباطهم من الطائفة السنية، في حين كانت قيادتهم القطرية تتألف من خمسة من الشيعة، وثلاثة من الطائفة السنية، ويرجع معظم أعضاء البعث من المناطق الريفية المختلفة نوعا ما والواقعة على نهري دجلة والفرات الأعليين، ومن مجموع 52 من قادة  وكوادر الحزب كان 38,5% منهم من السنة، و53,8 % من الشيعة، و7,7 % من الأكراد الفيلين. (2)
وبسبب هذا التباين في التركيبة القومية والطائفية والطبقية، فقد كان من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات في التطلعات والتوجهات والأفكار والعواطف، كما أن ما ورد حول ارتباط عدد من أعضاء قيادة الحزب بالاستخبارات الأمريكية، وتلقيهم الأوامر والتوجيهات منها من جهة، ووجود نسبة عالية من الطلاب  50 % الذين لا تتجاوز أعمارهم  على الأغلب 20 عاماً بين صفوفهم، وعدم نضوج هؤلاء فكرياً وسياسياً، حيث كان كل همهم منصباً على حربهم الشعواء ضد الشيوعية، وحتى قياديي الحزب كانوا من هذا الطراز، كما وصفهم مؤسس الحزب عندما قال:{بعد الثورة ـ أي انقلاب 8 شباط ـ بدأت أشعر بالقلق من فرديتهم، وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب}.

لقد كان الحزب عبارة عن تجمع لعناصر معادية للشيوعية التي لا يجمعها أي رابط أيديولوجي، وظهرت بينهم تكتلات أساسها المنطقة أو العشيرة أو الطائفية، وهكذا كانت التناقضات والخلافات تبرز شيئاً فشيئاً على سطح الأحداث، والتي كان من بينها:
1 ـ الموقف من عبد السلام عارف:
ففي 11 شباط 1963، حدث بين قيادة البعث وعبد السلام عارف، الذي نصبوه رئيساً للجمهورية صِدامٌ مكشوف، مما دفع علي صالح السعدي، أمين سر القيادة القطرية للحزب، إلى أن يطرح موضوع بقاء عبد السلام عارف، أو إزاحته من منصبه، قائلاً:
{ إن عبد السلام عارف سوف يثير لنا الكثير من المتاعب، وربما يكون خطر علينا، إلا أن أغلبية القيادة لم تأخذ برأي السعدي، خلال اجتماع القيادة في دار حازم جواد، وقد هدد السعدي بالاستقالة إذا لم تأخذ القيادة برأيه لكنه عدل عن ذلك بعد قليل، وبعد نهاية الاجتماع ذهب حازم جواد إلى عبد السلام عارف وأخبره بما دار في الاجتماع، وحذره من أن السعدي ينوي قتله والتخلص منه}. (3)

2 ـ الموقف من قانون الأحوال المدنية:
حدث خلاف آخر بين أعضاء القيادة القطرية حينما طُرح موضوع قانون الأحوال المدنية رقم 188 لسنة 1959الذي شرعه عبد الكريم قاسم، والذي اعتُبر ثورة اجتماعية أنجزتها ثورة 14 تموز فيما يخص حقوق المرأة وحريتها، وإطلاق سراح نصف المجتمع العراقي الذي تمثله المرأة من عبودية الرجل، وكان القانون قد ساوى المرأة بالرجل في الإرث، ومنع تعدد الزوجات إلا في حالات خاصة وضرورية، ومنع ما يعرف بالقتل غسلاً للعار، وغيرها من الأمور الأخرى، وقام عبد السلام عارف بإلغاء القانون في 18 آذار 1963، أثناء وجود علي صالح السعدي في القاهرة، وانقسم مجلس قيادة الثورة ذو الأغلبية البعثية وأعضاء القيادة القطرية حول مسألة الإلغاء، حيث أيده بعض الأعضاء وعارضه البعض  الآخر، وفي نهاية المطاف فرض عبد السلام عارف أجراء تعديلات جوهرية على نص القانون أفرغته من محتواه فيما يخص حقوق المرأة .

3 ـ الموقف من الحركات السياسية القومية:
كان الخلاف الثالث بين أعضاء قيادة البعث ينصب حول الموقف من الحركات السياسية القومية [القوميون، والناصريون، والحركيون]، وقد أجرت قيادة الحزب نقاشات حادة حول الموقف منهم، و برز خلال النقاش فكرتان متعارضتان، الأولى تدعو إلى تحجيم القوى القومية، والأخرى تدعو للتعاون معها، لكن القيادة البعثية لم تستطع حسم الأمر، بل على العكس من  ذلك أدى الأمر إلى تعمق الخلافات والصراعات فيما بين أعضاء القيادة.

4 ـ الموقف من الحرس القومي :

في شهر حزيران 1963  ظهرت أسباب أخرى للخلافات بين أعضاء قيادة الحزب حول الحرس القومي، فقد وجهت القيادة العليا للقوات المسلحة في 4 تموز 1963 برقية إلى قيادة الحرس القومي تحذرها وتهددها بحل الحرس القومي إذا لم تتوقف هذه القوات عن الإجراءات المضرة بالأمن العام وراحة المواطنين.
 كانت روائح الجرائم التي يقترفها الحرس القومي ضد أبناء الشعب بشكل عام والشيوعيين منهم بوجه خاص قد أزكمت الأنوف، وضجت الجماهير الواسعة من الشعب من تصرفاتهم وإجرامهم.
إلا أن القائد العام لقوات الحرس القومي [ منذر الونداوي ] لم يكد يتسلم البرقية حتى أسرع إلى الطلب من القيادة العليا للقوات المسلحة سحب وإلغاء البرقية المذكورة في موقف يبدو منه التحدي، مدعياً أن الحرس القومي قوة شعبية ذات قيادة مستقلة، وأن الحق في إصدار أوامر من هذا النوع لا يعود إلى أي شخص كان، بل إلى السلطة المعتمدة شعبياً والتي هي في ظل ظروف الثورة الراهنة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة ولا أحد غيره. (4)
وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، مما جعل عبد السلام عارف يصمم على قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن.

5 ـ الحرب في كردستان:
جاءت الحرب في كردستان التي بدأها البعثيون في 10 حزيران1963  لتزيد وضعهم صعوبة، وتعمق الخلافات بينهم حتى أصبح حزب البعث في وضع لا يحسد عليه، فقد تألبت كل القوى السياسية والعسكرية ضدهم ، وسئمت أعمالهم وتصرفاتهم .
حاول عبد السلام عارف، وأحمد حسن البكر، بالتعاون مع حازم جواد وطالب شبيب التخلص من علي صالح السعدي، وإخراجه من الحكومة، ومجلس قيادة الثورة، إلا أن الظروف لم تكن مؤاتية لمثل هذا العمل في ذلك الوقت.
ففي 13 أيلول تم عقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى فيه انتخاب ثلاث أعضاء جدد من مؤيدي علي صالح السعدي، وهم كل من:
هاني الفكيكي، وحمدي عبد المجيد، ومحسن الشيخ راضي، فيما أُسقط طالب شبيب في الانتخابات، وبقي حازم جواد، كما فاز أحمد حسن البكر  وصالح مهدي عماش، وكريم شنتاف بتلك الانتخابات.
 وهكذا بدا الانقسام ظاهراً أكثر فأكثر  فجماعة السعدي تتهم جماعة حازم جواد باليمينية، بينما تتهم جماعة حازم جواد السعدي وجماعته باليسارية، ووصل الأمر بعلي صالح السعدي إلى الإدعاء بالماركسية، وحاول أن يبرئ نفسه من دماء آلاف الشيوعيين والقاسميين.
وفي الفترة ما بين 5ـ23 تشرين الأول، عُقد المؤتمر القومي لحزب البعث، في دمشق، وجرى تعاون بين السعدي وحمود الشوفي، حيث ضمنا لهما أكثرية من أصوات المؤتمرين العراقيين، والسوريين، وسيطرا على المؤتمر وقراراته، وبلغ بهم الحال أن شنوا هجوماً عنيفاً على جناح مؤسس الحزب [ميشيل عفلق] وطرحوا أفكاراً راديكالية فيما يخص التخطيط الاشتراكي، وحول المزارع التعاونية للفلاحين.(5)
ضاقت الدنيا بميشيل عفلق، حيث لم يتحمل الانقلاب الذي أحدثته كتلة [السعدي و الشوفي] داخل المؤتمر في تركيبة القيادة القومية مما افقده القدرة على التأثير في مجرى الأحداث وجعلته يصرح علناً [ هذا لم يعد حزبي].

الخلافات بين الجناحين المدني والعسكري

بعد أن قوي مركز علي صالح داخل القيادتين القطرية والقومية و بدأ هو وكتلته يطرحون أفكاراً راديكالية، وتحولا نحو اليسار، بدأ الضباط البعثيون يشعرون بعدم الرضا من اتجاهات السعدي وكتلته، و أخذت مواقفهم تتباعد شيئاً فشيئاً عن مواقف السعدي، وانقسم تبعاً لذلك الجناح المدني للحزب، فقد وقف منذر الونداوي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي، بالإضافة إلى الحرس القومي، واتحاد العمال، واتحاد الطلاب، إلى جانب السعدي، فيما وقف حازم جواد، وطالب شبيب، ورئيس أركان الجيش طاهر يحيى، وقائد القوة الجوية حردان عبد الغفار التكريتي، ووزير المواصلات عبد الستار عبد اللطيف، وقائد كتيبة الدبابات الثالثة محمد المهداوي إلى الجانب المعارض لجناح السعدي ، بينما وقف أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش على الحياد، لكن السعدي أتهمهما بأنهما يدفعان الحزب نحو اليمين، و يؤيدان معارضيه في الخفاء.

الصراع بين البعث والضباط القوميين والناصريين والحركيين:

كان أحد العوامل الرئيسية للصراع داخل قيادة حزب البعث هو الموقف من القوى القومية والناصرية والحركية، فقد انقسمت القيادة القطرية في مواقفها إلى كتلتين، فكتلة حازم جواد وطالب شبيب كانت تطالب بقيام جبهة واسعة تضم حزب البعث وكل الفئات القومية والناصرية والحركية، فيما كانت كتلة السعدي تعارض هذا التوجه، وقد أدى ذلك إلى تأزم الموقف، واشتداد الصراع بين الجناحين وتصاعده حتى وصل الأمر إلى الموقف من السعدي نفسه عندما حاول جناح [ جواد و شبيب] إزاحة السعدي متهمين إياه بالتهور والتطرف، وتعاون احمد حسن البكر مع عبد السلام عارف على إزاحته، فكانت البداية قد تمثلت بإجراء تعديل وزاري في 11 أيار 1963، جرى بموجبه إعفاء السعدي من منصب وزير الداخلية وتعيينه وزيراً للإرشاد، فيما جرى تعيين غريمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية. وكان ذلك الإجراء أول ضربة توجه إلى قيادة السعدي، ومن ثم تطور الأمر إلى محاولة إخراجه من الوزارة ومجلس قيادة الثورة، والسيطرة على الحرس القومي الذي يقوده منذر الونداوي، والذي يعتمد عليه السعدي اعتماداً كلياً.

عارف يعفي الونداوي من قيادة الحرس، والونداوي يرفض القرار

في 1 تشرين الثاني  صدر مرسوم جمهوري يقضي بإعفاء منذر الونداوي من قيادة الحرس القومي، وتعيين عبد الستار عبد اللطيف بدلاً عنه، غير أن الونداوي تحدى المرسوم، وأصرّ على البقاء في منصبه، في قيادة الحرس القومي، وقد أدى ذلك إلى تعقد الموقف، وتصاعد حمى الصراع الذي تفجر بعد عشرة أيام.
ففي11 تشرين الثاني عُقد مؤتمر قطري استثنائي لانتخاب ثمانية أعضاء جدد للقيادة القطرية لكي يصبح العدد 16 عضواً بموجب النظام الداخلي الذي تبناه المؤتمر القومي السادس [ المادة 38 المعدلة من النظام الداخلي ].
 غير أن المؤتمر لم يكد يباشر بإجراء الانتخاب حتى داهم 15 ضابطاً مسلحاً قاعة الاجتماع بقيادة العقيد [محمد المهداوي] الذي بدأ يتحدث أمام المؤتمرين قائلاً :
{لقد اخبرني الرفيق ميشيل عفلق، فيلسوف الحزب، أن عصابة استبدت بالحزب في العراق، ومثلها في سوريا، وأن العصابتين وضعتا رأسيهما معاً، وسيطرتا على المؤتمر القومي السادس، ولذلك يجب القضاء عليهما }.
كما هاجم المهداوي قرارات المؤتمر القومي السادس واصفاً إياه بمؤامرة ضد الحزب، وطالب بانتخاب قيادة قطرية جديدة تحت تهديد أسلحة الضباط المرافقين له.
تظاهر المؤتمر باختيار قيادة جديدة، واشترك الضباط بالتصويت،علماً بان بعضهم لم يكن بعثياً على الإطلاق، وجاء على رأس القيادة الجديدة [حازم جواد] بالإضافة إلى فوز أنصاره.
غير أن المهزلة لم تنتهِ إلى هذا الحد، بل أسرع الضباط إلى اعتقال [علي صالح السعدي] و[محسن الشيخ راضي] و[حمدي عبد المجيد] و[هاني الفكيكي] و[أبو طالب الهاشمي] الذي كان يشغل منصب نائب القائد العام للحرس القومي، وجرى تسفير الجميع على متن طائرة عسكرية إلى مدريد.

امتداد الصراع إلى الشارع
أنفجر الوضع المتأزم في ذلك اليوم، وامتد الصراع إلى الشارع، ففي صباح يوم 13 تشرين الثاني اندفعت أعداد غفيرة من مؤيدي علي صالح السعدي ومن الحرس القومي إلى شوارع بغداد، وأقاموا الحواجز في الطرق، واحتلوا مكاتب البريد والبرق والهاتف ودار الإذاعة، وهاجموا مراكز الشرطة واستولوا على الأسلحة فيها.
 وفي الوقت نفسه أسرع منذر الونداوي إلى قاعدة الرشيد الجوية ومعه طيار آخر، وامتطيا طائرتين حربيتين، وقاما بقصف القاعدة المذكورة، ودمرا [5 طائرات] كانت جاثمة فيها.
وفي الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم أذاع [صالح مهدي عماش] وزير الدفاع بياناً من دار الإذاعة حذر فيه [أحمد حسن البكر] من أن هناك محاولة لجعل البعثيين يقتلون بعضهم بعضاً، وهذا ما لا يفيد إلا أعداء الحزب، كما وجه نداءً للعودة إلى العلاقات الرفاقية، وإلى التفاهم  والأخوة.
وفي تلك الأثناء فرضت قوات الحرس القومي سيطرتها على أغلب مناطق بغداد، ورفض البكر وعماش إعطاء الأمر إلى الجيش بالتدخل وأصبحت قيادة فرع بغداد للحزب هي التي تقود الحزب في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ حكم البعث، وطالبت تلك القيادة بإعادة السعدي ورفاقه إلى العراق، وممارسة مهامهم الحزبية والرسمية،غير أنها لم تفلح في ذلك، واضطرت إلى الموافقة على إحالة القضية إلى القيادة القومية لتبت فيها.

عفلق وأمين الحافظ في بغداد لمحاولة حسم الصراع
وفي مساء ذلك اليوم الثالث عشر من تشرين الثاني، وصل إلى بغداد مؤسس الحزب[ميشيل عفلق] والرئيس السوري [أمين الحافظ] بالإضافة إلى عدد آخر من أعضاء القيادة القومية للحزب.
غير أن عبد السلام عارف تجاهل وصولهما، ولم يجر لهما استقبالاً رسمياً  كما يقتضي البروتوكول والعرف الدبلوماسي، كما لم يحاول الالتقاء بالوفد، مما جعل الوفد يحس أن هناك جو غير طبيعي في بغداد، وأن لابد من أن يكون هناك أمراً يدبر ضد حكم البعث.
حاول ميشيل عفلق ورفاقه في الوفد التصرف بشؤون العراق، فقد أصدروا  قراراً بنفي [حازم جواد] وزير الداخلية، و[طالب شبيب] وزير الخارجية متهمين إياهما بأنهما أساس الفتنة، كما أصدر الوفد قراراً آخر بحل القيادة القطرية التي جرى انتخابها تحت تهديد الضباط الخمسة عشرة، وكذلك القيادة القطرية السابقة التي كان يقودها علي صالح السعدي، وأعلن عن تسلم القيادة القومية للمسؤولية لحين انتخاب قيادة قطرية جديدة.
هكذا إذاً كان تصرف عفلق والوفد الموافق له، تجاهلاً لعبد السلام عارف بصفته رئيساً للجمهورية، وتجاهلا لسيادة واستقلال العراق، والتدخل الفض في شؤونه الداخلية، حيث وصل الأمر إلى أن يعين عفلق أعضاء في الحكومة ويقيل أعضاءً آخرين، وقد أدى تصرفه هذا إلى استياء الضباط العراقيين الممسكين بزمام الجيش.
كما أن الرابطة التي كانت تجمع الضباط البعثيين بالقيادة المدنية قد تفككت، ودبت الخلافات العميقة بينهم، وسارع الجناح المدني في الحزب بتحدى من اسماهم أعداء الحزب، ودعا اتحاد العمال الذي يسيطر عليه الحزب إلى سحق رؤوس البرجوازيين الذين خانوا الحزب، وإعدام أصحاب رؤوس الأموال الذين هربوا أموالهم إلى الخارج.
 كما دعوا إلى تأميم كافة المشاريع الصناعية في البلاد، وكانت تلك الاندفاعات لجناح الحزب المدني كلها تصب في خانة عبد السلام عارف الذي صمم على إزاحة حزب البعث عن السلطة، وأحكام قبضته على شؤون البلاد دون منازع أو شريك.
رابعاً:انقلاب عبد السلام عارف ضد البعث

بعد أن وصلت حالة الحزب إلى أقصى درجات التمزق والتناحر، وبعد أن عمت الفوضى أرجاء البلاد، وبلغ استياء ضباط الجيش الممسكين بالمراكز القيادية في الجهاز العسكري من تصرف القيادة البعثية مداه، قرر عبد السلام عارف بالتعاون مع تلك العناصر العسكرية توجيه ضربته القاضية لحكم البعث، وإنهاء سيطرتهم على مقدرات البلاد، فقد استغل عبد السلام تلك الظروف البالغة الصعوبة التي مرّ بها حزب البعث وبالتنسيق مع عدد من الضباط  وكان من بينهم :
1-الزعيم عبد الرحمن عارف قائد الفرقة الخامسة- شقيق عبد السلام .
2 ـ الزعيم الركن عبد الكريم فرحان، قائد الفرقة الأولى.
3 ـ العقيد سعيد صليبي، آمر الانضباط العسكري.
4 ـ الزعيم الركن الطيار حردان التكريتي، قائد القوة الجوية [ بعثي] .
5 – اللواء الركن طاهر يحيى، رئيس أركان الجيش.
هذا بالإضافة إلى العديد من الضباط الآخرين ذوي الميول القومية.
وفي فجر يوم 18 تشرين الثاني 1963 ، قامت طائرات عسكرية بقصف مقر القيادة العامة  للحرس القومي في الأعظمية، ثم تقدمت الدبابات، والمصفحات لتستولي على كافة المرافق العامة في بغداد، ومقرات الحرس القومي، وحاول البعثيون مقاومة الانقلاب في بادئ الأمر.
 إلا أن الأمر كان قد حسم في نهاية النهار، فلم يكن باستطاعة الحرس القومي، وهو يحمل الأسلحة الخفيفة أن يقاوم الدبابات والمصفحات والصواريخ والطائرات.
 سارع أفراد الحرس  إلى إلقاء سلاحهم، والتخلص منه، برميه في الحقول والمزارع والمزابل بعد أن هددهم النظام العارفي الجديد بإنزال العقاب الصارم بهم  إن هم استمروا على حمل السلاح أو إخفائه، وأجرى الجيش مداهمات لدور أفراد الحرس القومي بحثاً عن السلاح.
 كما جرى إلقاء القبض على أعداد كبيرة من البعثيين لفترة محدودة من الزمن، حيث تمكن الجيش من إحكام سيطرته على البلاد، وأخذ النظام فيما بعد يطلق سراح البعثيين المعتقلين  في حين بقي السجناء والموقوفين الشيوعيين والديمقراطيين في السجون، وجرى تنفيذ أحكام بالإعدام، كانت قد أصدرتها المحاكم العرفية على عهد البعثيين، بعد تسلم عبد السلام عارف زمام الأمور في البلاد، فقد كان العداء للشيوعية هو الجامع الذي جمع البعثيين والقوميين، دون استثناء، ربما شيء واحد قد تغير، هو تخفيف حملات التعذيب أثناء التحقيقات مع المعتقلين، واستمرت المحاكم العرفية تطحن بالوطنيين طيلة عهد عارف.

1 ـ عبد السلام عارف يحكم سيطرته على البلاد
في مساء يوم الثامن عشر من تشرين الثاني 963 ، تلاشت مقاومة حزب البعث وحرسه القومي في أنحاء البلاد، وتم لعبد السلام عارف وقادته العسكريين السيطرة التامة على البلاد، وبدأ على الفور بترتيب البيت، مانحاً نفسه صلاحيات استثنائية واسعة لمدة سنة، تتجدد تلقائياً، إذا اقتضى الأمر ذلك، وعمد عبد السلام إلى الاعتماد على الروابط العشائرية، وخاصة عشيرة [ الجميلات ]،  فقد عين شقيقه [عبد الرحمن عارف] وكيلاً لرئيس أركان الجيش، رغم كونه ليس ضابط أركان.
  كما عين صديقه، وأبن عشيرته [ سعيد صليبي ] قائداً لحامية بغداد، فيما أعلن عارف نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة. (6)
كما جاء عارف باللواء العشرين الذي كان يقود أحد أفواجه عند قيام ثورة 14 تموز، واتخذ منه الحرس الجمهوري الخاص به، واعتمد على العناصر المؤيدة له فيه من عشيرة الجميلات وغيرها من عشائر محافظة الأنبار.
بدأ عبد السلام عارف حكمه معتمداً على ائتلاف عسكري ضم الضباط القوميين والناصريين، والضباط البعثيين الذين انقلبوا على سلطة البعث فقد عيّن [ طاهر يحيى ] رئيساً للوزراء، و[حردان التكريتي ] نائباً للقائد العام للقوات المسلحة  ووزيراً للدفاع، فيما عيّن [أحمد حسن البكر] نائباً لرئيس الجمهورية، والزعيم [رشيد مصلح ] وزيراً للداخلية وحاكماً عسكرياً عاماً، ويلاحظ أن هؤلاء جميعاً من تكريت، ومن العناصر البعثية، أما العناصر القومية التي شاركت في الحكم فكان على رأسها الزعيم الركن [ محمد مجيد] مدير التخطيط العسكري، والزعيم الركن[عبد الكريم فرحان] الذي جرى تعيينه وزيراً للإرشاد،و[عارف عبد الرزاق] الذي عيين قائداً للقوة الجوية، والعقيد الركن [ هادي خماس ] الذي عيّن مديرا لجهاز الاستخبارات العسكرية، والمقدم [صبحي عبد الحميد]  الذي عيّن وزيراً للخارجية .

2 ـ عبد السلام عارف يبعد العناصر البعثية عن الحكم
رغم تعاون الضباط البعثيين مع عبد السلام عارف في انقلاب 18 تشرين الثاني 963 ضد قيادتهم المدنية، واشتراكهم في حكومته الانقلابية، إلا أن عارف لم يكن يطمأن لوجودهم في السلطة، ولم يكن إشراكهم في الحكم من قبله سوى كونه عمل تكتيكي من أجل نجاح انقلابه ضد سلطة البعث، وتثبيت حكمه، لكنه كان في نفس الوقت يتحين الفرصة للتخلص منهم، وقد ساعده في ذلك الكره الشعبي الواسع النطاق للحكام البعثيين بسبب ما اقترفوه من جرائم بحق الوطنيين طيلة فترة حكمهم، وهكذا بعد أن تسنى لعارف تثبيت أركان حكمه، بدأ بتوجيه الضربات للعناصر البعثية تلك.
 ففي 4 كانون الأول 964 ،أعفى عارف المقدم[عبد الستار عبد اللطيف] من وزارة المواصلات، وفي 16 منه أزاح عارف [ حردان التكريتي ] من منصبه كقائد للقوة الجوية، وفي 4 كانون الثاني 64 ألغي عارف منصب نائب رئيس الجمهورية وتخلص من [احمد حسن البكر] الذي كان يشغل المنصب، وعينه سفيراً بديوان وزارة الخارجية. (7)
وفي 2 آذار 964، أعفى عارف [ حردان التكريتي ] من منصب وزير الدفاع وعين محله طاهر يحيى بالإضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء، ولم يبقَ إلا رشيد مصلح التكريتي وزير الداخلية والحاكم العسكري العام الذي ربط مصيره بمصير عارف، مهاجماً أعمال البعثيين وجرائمهم، وبذلك أصبح عبد السلام عارف الحاكم المطلق في البلاد، وبرز الناصريون في مقدمة النظام، وبدأ النظام يقلد الجمهورية العربية المتحدة في أساليبها وخططها التنموية، حيث أقدمت الحكومة على تأميم المصارف  وشركات التأمين مع 32 مؤسسة صناعية وتجارية كبيرة، وخصصت الدولة 25% من الأرباح للعمال والموظفين العاملين فيها، وقررت تمثيلهم في مجالس الإدارة.
كما أقدم النظام الجديد على تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في 14 تموز 964، على غرار الاتحاد الاشتراكي في الجمهورية العربية المتحدة، ودُعيت القوى السياسية في البلاد إلى الانضواء تحت راية هذا الاتحاد.


296
بعد عشرين عاما على غزو صدام للكويت

هل تعلم حكام الكويت الدرس؟

حامد الحمداني                                        2/8/2010

خرج العراق من حربه بالوكالة عن الولايات المتحدة ضد إيران، بوضع اقتصادي لا يحسد عليه، فقد أستنفذ نظام صدام كل احتياطيات البلاد من العملة النادرة، والذهب، البالغة [36 مليار دولار]، وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، الثمان، والتي تقدر بـ  25 مليار دولار سنوياً، وفوق كل ذلك خرج العراق بديون كبيرة جداً للكويت، والسعودية، وفرنسا، والاتحاد السوفيتي السابق، والبرازيل، والعديد من الدول الأخرى، وقد جاوزت الديون أكثر من [90 ملياراً من الدولارات]، وصار العراق ملزماً بدفع فوائد باهظة لقسم من ديونه بلغت حدود 30 % ، مما جعل تلك الفوائد تتجاوز 7مليارات دولار سنوياً.

لقد أصبح العراق بعد حربه مع إيران يملك القوة، ولكنه في الوقت نفسه يعاني من اقتصاد متدهور، وديون تثقل كاهله، وجواره بلدان عربية ضعيفة عسكرياً، ولكنها غنية جداً، تغري ثرواتها أصحاب القوة، وخاصة بالنسبة إلى بلد مثل العراق، الذي يحكمه نظام دكتاتوري يقوده رجل كصدام حسين.

ولاشك أن تلك الظروف الاقتصادية الصعبة، التي خلقها النظام العراقي نتيجة تهوره، واندفاعه لتنفيذ المخططات الإمبريالية، بشنه الحرب ضد إيران، والتي ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر على أبعد الاحتمالات، وأراد لها مخططوها أن تدوم سنوات طوال، وبقوا يغذونها باستمرار، فكانوا تارة يقدمون المساعدات للعراق، وتارة أخرى يقدمونها لإيران كي تنهك الحرب كلا البلدين.

ورغم تلك الظروف الاقتصادية الصعبة التي كان يعاني منها نظام صدام، كان تصرف حكام الكويت من خلال سياستهم النفطية تثير غضب النظام الصدامي.
فقد أعلن نظام صدام في 3 أيار 1990 أن الكويت تقوم بدور كبير في تخريب أسعار النفط، حتى وصل سعر البرميل إلى أدنى مستوى له منذُ عام 1972، وبلغ 11 دولار، وإن هذا العمل يضر بمصالح العراق، الذي خرج من حرب دامت 8 سنوات، وقد سببت الحرب للعراق أزمة اقتصاد حادة، وذكّر حكام الكويت بأن هبوط دولار واحد من أسعار النفط يسبب للعراق خسارة تتجاوز المليار دولار، وإن العراق لا يمكنه السكوت على هذه الحال.
وفي شهر تموز من عام1990، عاد صدام حسين مرة أخرى إلى علاقته مع الكويت، ومسألة التزام حكومتها بحصص الإنتاج المقررة من قبل منظمة الأوبك، والمحافظة على مستوى الأسعار، التي أخذت تنحدر شهراً بعد شهر، ولم تخفي الحكومة الكويتية، وحكومة الإمارات العربية المتحدة أنهما قد زادا من إنتاجهما تجاوزاً على الحصص المقررة، مما أثار غضب العراق.
لقد بدا من تصرفات حكام الكويت والإمارات أن هناك أمراً يدبر في الخفاء، لا من قبل هاتين الدولتين، وإنما من جهة كبرى، وهي بالتأكيد الولايات المتحدة، التي رأت في التضييق على العراق اقتصاديا، خير سبيل لكسر شوكته، فليس من المعقول أن تتحدى دويلتان صغيرتان كالكويت والإمارات العراق المزهو بنصره على إيران، والذي يملك أقوى وأكبر جيش في الشرق الأوسط إذا لم يكن وراءهما الولايات المتحدة.
لقد وصل الأمر بوزير النفط الكويتي [على خليفة الصباح] أن تحدى العراق علناً، في مؤتمر الأوبك قائلاً بان الكويت لا تنوي الالتزام بحصتها المقررة من الإنتاج، وهي مليون وسبعة وثلاثين ألف برميل يومياً، وتصر على إنتاج مليون وثلاثمائة وخمسون ألف  برميل، وكان وزير النفط الكويتي يتحدث في المؤتمر، وكأنه رئيس دولة عظمى، تملي شروطها على الآخرين، ولاشك أن الكويت ما كانت لتجرأ على هذا التصرف لولا تحريض، ودعم الولايات المتحدة.
وحاول الوزير الكويتي أن يجعل الخلاف ليس مع العراق وحده، وإنما مع السعودية كذلك للتمويه، لأنها طالبت بالالتزام بحصص الإنتاج حيث تحدث قائلاً:
 {إن الكويت والسعودية على طريق التصادم المحقق بسبب حصص الإنتاج، فنحن لا ننوي التراجع عن موقفنا}!!.
لكن كلام علي الخليفة الصباح في حقيقة الأمر لم يكن موجهاً للسعودية، وإنما بكل تأكيد موجهاً للعراق، وأنه بهذا الخلط أراد أن يُشعر العراق وكأن خلافات الكويت ليست مع العراق فحسب، وإنما مع السعودية أيضاً!!.
 كاد صدام، في تلك الأيام، أن يفقد صبره من تصرفات حكام الكويت، فقد سبب انهيار أسعار النفط خسارة كبيرة قُدرت بـ 7 بليون دولار، في وقت هو أحوج ما يكون لهذا المبلغ الكبير، بعد حربه مع إيران.
وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة الكويت تزيد من إنتاجها النفطي، فأنها كانت تجني الأرباح الطائلة من استثماراتها في الخارج، وتعوض فرق أسعار النفط، حيث أن نصف دخل الكويت يأتي من تلك الاستثمارات.

وهكذا أخذت الأزمة بين العراق والكويت تتصاعد حدتها يوماً بعد يوم، وكانت الولايات المتحدة تدفع حكام الكويت على عدم الاستجابة لأي من مطالب العراق، لكي تعمق الأزمة، وتوصلها إلى مرحلة الانفجار، وتدفع صدام حسين إلى عمل متهور ضد الكويت، لكي تتخذه  ذريعة لتوجيه ضربة قاضية للعراق، ولتدمر ترسانته الحربية، وبنيته الاقتصادية، وتعود به إلى الوراء عشرات السنين.
كما ضغطت الولايات المتحدة على حكومة الكويت لكي لا تقدم أي تنازلات للعراق مهما كانت خلال محادثات مؤتمر جدة الذي تقرر عقده بين الطرفين في 31 تموز. ومما يؤكد ذلك الموقف هوالخطاب الذي تم العثور عليه في مكتب أمير الكويت، بعد الغزو، والموجه من الأمير إلى الشيخ سعد، رئيس الوفد الكويتي المفاوض في مؤتمر جدة، والذي جاء فيه:
{نحن نحضر الاجتماع بنفس شروطنا المتفق عليها، والمهم بالنسبة لنا مصالحنا الوطنية، ومهما ستسمعون من السعوديين والعراقيين، عن الأخوة، والتضامن العربي، لا تصغوا إليه، فكل واحد منهم له مصالحه، السعوديين يريدون إضعافنا، واستغلال تنازلنا للعراقيين، لكي نتنازل لهم مستقبلاً عن المنطقة المقصودة، والعراقيون يريدون تعويض خسائر حربهم على حسابنا، وهذا لا يحصل، ولا ذاك،  وهذا رأي أصدقائنا في واشنطن ولندن. أصروا على موقفنا في مباحثاتكم، فنحن أقوى مما يتصورون}.
 ومعلوم أن الشيخ جابر ما كان ليجرأ على تحدي العراق بهذا الشكل لولا الضغط والدعم الأمريكي!، فالكويت أضعف من أن تقف أمام الجيش العراقي حتى ولو ليوم واحد، لكن التوجيهات الأمريكية هي التي فرضت ذلك، وقد وضعت المخابرات الأمريكية خطة الحماية لحكام الكويت لتخرجهم سالمين، عند أول تحرك للقوات العراقية، لكي لا يقعوا بأيديهم، ولتكن ذريعة بيد الولايات المتحدة لإعادة الشرعية للبلاد.


أما صدام فقد ركب رأسه وقرر مهاجمة الكويت والاستحواذ على نفطها، وسهلت له الإمبريالية الأمور لكي تدفعه إلى الفخ الذي نصبته لصدام، من خلال حديث السفيرة الأمريكية [ كلاسبي] معه، حيث أبلغته بأن الولايات المتحدة لا تتدخل في المشاكل بين العراق والكويت، وتستطيعون حلها بالطريقة التي ترونها مناسبة، لكي تدفع صدام إلى تنفيذ مغامرته بغزو الكويت ، بغية تهديم بنية العراق  الاقتصادية والعسكرية، والاستحواذ على نفط الخليج بشكل مطلق، وإقامة القواعد العسكرية الدائمة في المنطقة.
 وهكذا أقدم  صدام حسين على غزو الكويت، وعمل فيها تخريباً، وتدميراً، ونهباً وسلباً، مدعياً بإعادة [الفرع إلى الأصل] !!.
وتحقق للإمبرياليين ما أرادوا، ودخل صدام الفخ الذي نصبه له الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، وسارع الإمبرياليون إلى إرسال جيوش 32 دولة على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى المنطقة ليشنوا حرباً لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل ضد دولة صغيرة من دول العالم الثالث كالعراق، والذي خرج تواً منهكاً من حربه بالنيابة عن الولايات المتحدة ضد إيران وهو مثخنٌ بالجراح.

 وكان الإمبرياليون وهم يعدون العدة للحرب مع العراق وكأنهم سيخوضون حرباً عالمية ثالثة، لضخامة حجم القوات العسكرية التي استقدمت إلى السعودية وقواعدهم في دول الخليج ، والعديد من حاملات الطائرات والصواريخ البعيدة المدى، وألوف الطائرات الحربية، وأحدث ما أنتجته المصانع الحربية الغربية من مختلف أنواع الأسلحة والعتاد ذات الدمار الشامل بغية إيقاع أقصى ما يمكن من الخراب والدمار في البنية التحية العراقية العسكرية والمدنية.
               
 فقد هاجمت طائراتهم مدن العراق كافة وطرق مواصلاته، وجميع مرافقه الاقتصادية دون استثناء لمدة 45 يوماً بمعدل 2000 غارة جوية في اليوم الواحد، وألقت خلالها الطائرات مئات الألوف من القنابل والصواريخ، ومستخدمين أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية الأمريكية، بما في ذلك اليورانيوم المستنفذ، الذي سبب كارثة بيئية رهيبة لا أحد يعرف مداها.
 ثم بادروا بالهجوم البري مخترقين حدود العراق، حيث تقدمت تلك الجيوش من الأراضي السعودية نحو جنوب العراق بغية محاصرة الجيش العراقي، وقطع طرق مواصلاته لجيشه في الكويت، وتقدمت تلك القوت في هجومها السريع حتى مدينة [الناصرية]، وطائراتهم تلاحق الجنود العراقيين المنسحبين من الكويت بوابل من القذائف والأسلحة الرشاشة بغية  إبادة أكبر عدد منهم.

وهكذا دمرت الحرب البنية التحية العراقية بكل مقوماتها الصناعية والزراعية والخدمية والصحية والتعليمية، لكن الحصار الأمريكي الغاشم على العراق كان قد دمر البنية الاجتماعية للشعب العراقي، حيث انهارت الطبقة الوسطى، ووصلت هي والطبقة العاملة والكسبة نحو الحضيض، بسبب الجوع والحرمان وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية والخدمية، وتدهور القوة الشرائية للدينار بحيث لم يعد يسد رمق العيش للعوائل العراقية، مما أثر تأثيراً خطيراً على القيم والسلوك والعادات والتقاليد العراقية النبيلة التي أخذت بالتلاشي لتحل قيم وسلوكيات وعادات هي على النقيض مما كانت، وهذا هو أخطر ما يواجه المجتمع العراقي اليوم ، فإصلاح البنية الاجتماعية أمر صعب للغاية ، ويتطلب فترة زمنية طويلة جداً لكي تُمحي هذه القيم والعادات والسلوكيات، وتحل محلها قيم وسلوكيات وعادات إنسانية، تلك التي عرفناها من قبل.
إن إصلاح أوضاع العراق الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والخدمية تتطلب إمكانيات مادية كبيرة، وجهود جبارة، وسلطة وطنية وديمقراطية نظيفة وحريصة وقادرة على القيام بهذه المهمة الصعبة لإخراج الشعب العراقي من هذا المأزق الحرج الذي يعيشه اليوم.
وبرغم هذه الظروف القاسية التي يمر بها الشعب العراقي نجد اليوم على الجانب الكويتي هذا الموقف الذي يقفه حكام الكويت من العراق المتشبثين بالماضي بكل ما فيه من أحقاد وكراهية تجاه الشعب العراقي، وكأنما الشعب العراقي هو صدام، وصدام هو الشعب، وهم كانوا على دراية أن الشعب العراق كان مغلوباً على أمره في ظل ذلك النظام الدكتاتوري المستبد، وتراهم يوغلون في مواقفهم العدائية تجاه العراق، وبالرغم من استحواذهم على أراضي عراقية غنية بالنفط بمساعدة الولايات المتحدة، فما زالوا يسعون إلى ابتزازه، وامتصاص ثرواته منذ عام 1990 وحتى هذا اليوم، ويوغلون في عدائهم أكثر فأكثر فيطالبون ببقاء العراق تحت البند السابع رهينة بيد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ويسعون لتعطيل عجلة إعادة بناء البنية العراقية المدمرة، فكأنما هذه السنوات العشرين العجاف لم تشفي غليلهم وحقدهم على العراق والعراقيين.

هل كان صدام ونظامه الفاشي هو المجرم الوحيد في كل ما جرى خلال هذه الأعوام التسعة عشر؟
وللإجابة على هذا السوأل أستطيع القول بكل ثقة أن إدارة بوش الأب وبوش الأبن وحكام الكويت شركاء في كل ما جرى دون أدنى شك.
لقد كان بالإمكان حل جميع الخلافات بين القطرين الشقيقين لولا تدخل الإدارة الأمريكية لدى الجانب الكويتي، والطلب من حكام الكويت بعدم إبداء أي مرونة أو تساهل مع نظام صدام، ورفض الاستجابة لآي مطالب للعراقيين، ورفض الالتزام بحصص الإنتاج للنفط الذي قررته الأوبك، لكي يوصلوا نظام صدام المتهور إلى مرحلة اللا عودة كي يهاجم الكويت.
و في الوقت نفسه كانت الإدارة الأمريكية قد نصبت لصدام ذلك الفخ القاتل، واعدت العدة لشن الحرب على العراق وتدمير أسلحة العراق التقليدية، وذات الدمار الشامل، بل لقد امتدت الخطط الأمريكية لكي تشمل الحملة تدمير كل المرافق الحيوية في العراق، وتعيد العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، كما قال بوش في رسالته لصدام قبيل نشوب الحرب بيومين.
لقد تواطأ حكام الكويت مع الإمبريالية الأمريكية لتدمير العراق، وتجويع شعبه، وتخريب بنيته التحية بكل صنوفها، وفي المقدمة منها البنية الاجتماعية، وعليه فهم يتحملون مع الولايات المتحدة مسؤولية كل ما حل في العراق من مصائب وويلات، وضحايا جاوزت مئات الألوف من أفراد الجيش العراقي، ومن المدنيين، وبوجه خاص جراء الحصار حيث ذكر تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الصادر في عام 1995 أن الحصار المفروض على العراق قد أدى إلى وفات أكثر من مليون بينهم 567 ألفاً من الأطفال دون سن الخامسة، فكم بلغ عدد الوفيات منذ عام 1995 وحتى اليوم؟
أنه يشكل بلا أدنى شك كارثة وطنية كبرى جاوزت كل الكوارث السابقة، وتركت للعراق 4 ملايين من الأيتام وأكثر من مليونين من الأرامل ومثلهم من المعوقين، وأكثر من أربعة ملايين من المشردين، وجرى نهب كل كنوز وثروات العراق بعد أن استباح الاحتلال الأمريكي للعراق من قبل اللصوص والمجرمين والقتلة الذين أتوا على كل شئ، وعلى وجه الخصوص آثار العراق التي لا يمكن أن تقدر بثمن.
وبعد كل الذي حل بالعراق من ويلات ومصائب وآلام لم يشفَ غليل حكام الكويت، بل ما زالوا يطلبون المزيد، بدلاً من أن يضعوا ما جرى وراء ظهورهم، ويفكروا بما أصاب العراقيين على أيديهم وأيدي حلفائهم الأمريكيين، ولاسيما بعد زوال نظام صدام الذي أذاق الشعب العراقي المزيد من المصائب والويلات خلال ثلاثة عقود ونصف قاتمة السواد.
إن الشعب العراقي هو صاحب الحق الشرعي في طلب التعويضات من الولايات المتحدة والكويت معاً على كل ما سببوه للعراق من خسائر بشرية، ودمار اقتصادي، وخراب البنية الاجتماعية، ونكوص العراق عشرات السنين إلى الوراء، وهي تعويضات باهظة الثمن بلا أدنى شك.
إن على حكام الكويت أن يفكروا بعمق، وينظروا بعيداً لا بين سيقانهم، ويعيدوا النظر في مجمل سياستهم تجاه الشعب العراقي، ويتطلعوا نحو المستقبل بقلوب صافية تجاه أشقائهم العراقيين في وقت المحنة هذه، فهي فرصتهم الوحيدة والأخيرة لقيام علاقات أخوية بين الشعبين والبلدين، وعدم إضاعة هذه الفرصة التي ربما لن تكرر،  وإن الاستمرار على مواقفهم العدائية تجاه العراق ستجر البلدين إلى مالا يحمد عقباه، وليكن في علم حكام الكويت أن العراق سينهض لا محالة عاجلاً أم آجلا، وأن العراق باقٍ لن يزول، وأن أمريكا سترحل عن المنطقة عاجلاً أم آجلاً، ولا قوة تحمي الكويت سوى علاقة الأخوة والمحبة والتعاون مع العراق، ونسيان الماضي بكل آلامه، والتطلع نحو المستقبل المشرق للجميع. فهل يتعلم حكام الكويت الدرس؟ أم يصرون على السير في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر؟

297
حوار [مجلة لفين الكردية]  مع المؤرخ حامد الحمداني
القسم الثاني 2/2

       حامد الحمداني                                               30/7/2010

•   ما هي انعكاسات القضية الكردية على دول الجوار والموقف الدولي والعربي منها؟.

•   
انعكاسات القضية الكردية على دول الجوار والموقف العربي والدولي تأخذ مسارين، المسار الأول يعتمد على حكمة القيادات الكردية في اختيار الأساليب السلمية والديمقراطية لتحقيق طموحات الشعب الكردي، والمسار الثاني يعتمد على وسائل القوة ، والاستعانة بالقوى الخارجية ، ولا شك أن المسار الأول هو المسار الأفضل والأسلم والذي يمكن إعطاء نتائج إيجابية ودائمية ، أما المسار الثاني فهو المسار الخطر الذي ربما يمكنه إعطاء بعض النتائج الإيجابية ، لكنها غير دائمية، وتعتمد على الظروف التي يجب عدم تجاهلها، ولقد تحدثت في كتابي عن حركة التحرر الكردية في الفصل الأخير بالتفصيل عن الشعب الكردي وحق تقرير المصير وآفاق المستقبل، ويمكن الإطلاع على الكتاب في موقعي على الانترنيت

•   هل أن بناء نظام فدرالي في العراق ضمان لحماية حقوق الأكراد وتعزيز الأخوة بين الكرد والعرب؟.
    بكل تأكيد الفيدرالية ، وفي ظل الديمقراطية ضمان لحماية حقوق الشعب الكردي، وتعزيز الأخوة العربية الكردية، شرط إن تكون الفيدرالية بمعناها الحقيقي وليس بالكومفدرالية. وأنا أعتقد أن الانفصال في ظل الظروف الدولية الحالية لا يخدم القضية الكردية ومستقبلها، ولولا هذا الاعتقاد لكنت أول من يدعو إلى انفصال كردستان .

•   ما رأيكم حول مشكلة الديمقراطية في العراق ومسألة تحقيق مفهوم المواطنة؟.
الديمقراطية هي السبيل الوحيد للخروج بالعراق من النفق المظلم الحالي، وهذا يتطلب فصل الدين عن الدولة، وتشريع قانون الأحزاب ينص على قيام حياة حزبية بعيداً عن التخندق القومي والديني والطائفي ، بل أحزاب تؤمن حقاً وصدقاً بالديمقراطية، ولذلك أرى أن الدستور العراقي يتطلب إعادة نظر شاملة به، وأن يتضمن الدستور الحقوق والحريات التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان  ورفع أي إشارة  تشير إلى التمييز العرقي والطائفي والديني، كما ينبغي تحديد شروط الفيدرالية في كردستان بما لا يتجاوز حقوق السلطة المركزية في بغداد.

•    موضوع العلاقة التاريخية بين الكرد و العرب موضوع هام، ولكن هناك إجحاف كبير من قبل الكتاب و المثقفين العرب، ولها تأثيراتها السلبية على هذه الأخوة التاريخية، أنتم كمؤرخ عربي ما هو دوركم لإبراز هذه العلاقة الودية بين الكرد و العرب؟.


•   يبدو لي أنكم لم تطلعوا على ما يكتبه العديد من الكتاب الكرد، مع شديد الأسف، ولست أنا هنا في معرض شرح تفاصيل كتاباتهم المسيئة لعلاقات الأخوة العربية الكردية، و التي تنضح بالعنصرية والكراهية للعرب ، ولكني أحيلكم إلى المقالات الأربع للكاتب الأستاذ صائب خليل بعنوان:
•   {ايها الشعب الكردي : نستعين بكم على كُتّابكم ومثقفيكم}، والموجودة في أرشيف الحوار المتمدن.                                    
•   إن لكل فعل ردة فعل مساوي له في المقدار ومعاكس في الاتجاه، وهذه حقيقة لا جدال فيها فكُتّابكم ومثقفيكم هم من بدأ السير في هذا الطريق ، وكان الأولى بهم أن يحرصوا على عرى الأخوة العربية الكردية، ويثقفوا جماهير الشعب الكردي على نبذ التعصب القومي، وتآخي الشعوب، حتى أنا شخصياً لم اسلم من تهجمات البعض من كتابكم الذين لم يكونوا قد ولدتهم أمهاتهم عندما كنت أدافع عن القضية الكردية واعُتقلت وعُذبت من أجلها، وكتاباتي تشهد على مواقفي من القضية الكردية، لكني لا استطيع الدفاع عن الأخطاء، ولا بد من انتقاد المواقف الخاطئة للقيادة الكردية، ولا اعتقد أن هناك من لا يخطأ، إلا الذي لا يعمل [ من لا يعمل لا يخطأ] .

•   هل تعيش العلاقات العربية الكردية مرحلة ترد و تدهور؟ إذ ستنعكس بصورة سلبية على مستقبل العلاقات بين القوميتين العربية و الكردية في الشرق الاوسط.

نعم هناك خلل في العلاقات العربية الكردية، وعلى الأخوة الكرد شعباً وقيادات أن يتداركوا هذا التعصب  القومي والكراهية التي تفجرت منذ الاحتلال الأمريكي للعراق ضد العرب، لقد وصل الأمر أن يتهم بعض الكتاب الكرد أن العرب غير عراقيين بل هم جاءوا من اليمن عند انفجار سد مأرب، وعليهم أن يعودوا إلى بلادهم الأصلية!! . لقد كان شعارنا الدائم نحن العرب {على صخرة الاتحاد العربي الكردي تتحطم مشاريع الإمبريالية }، ولدي مقال منشور بهذا العنوان يمكن الإطلاع عليه في موقعي والحوار المتمدن، ويكفي أنني أهديت كتابي [ لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية في العراق] إلى شهداء حلبجة وحملة الأنفال الصدامية، لقد عملت سبع سنوات في السليمانية معلماً، بين عامي 1960 و1967، وأنا كنت ولا أزال وسأبقى أكن كل المحبة والاحترام للشعب الكردي، بل أنا مدين لهم بحياتي عندما أنقذوني من براثن عصابة البعث على اثر انقلاب 8 شباط الفاشي، ومنحوني الحماية والمأوى 6 اشهر عند مواطنين أكراد لم يكن لي سابق علاقة بهم.

•   ما هي طروحاتكم حول إعادة تأسيس العلاقات الكردية العربية على شكل عقلاني ومنطقي؟.
•       أنا اليوم أتوجه للشعب الكردي من خلال مجلتكم المحترمة داعياً إياه العمل الجدي من أجل عودة اللحمة والأخوة بين الشعبين من أجل مصلحة الشعبين، ومصلحة العراق وطن الجميع، وطن لا يميّز بين عربي وكردي وتركماني وآشوري وأيزيدي وصابئ، الكل متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، والكل ينعمون بخيرات هذا الوطن، ولتكن كل مدن العراق لنا جميعاً، ولتتكاتف الأيادي جميعاً من أجل بناء عراق ديمقراطي متحرر من الاحتلال، ولإقامة نظام حكم ديمقراطي بعيداً عن الطائفية السياسية المقيتة والتعصب القومي والديني والطائفي التي لم نجنْ منها غير الويلات والمصائب والدماء البريئة المراقة، ولنبني يداً بيد العراق الحر، ولنحقق لشعبه العيش السعيد.      


•   ما رأيكم حول نوعية العلاقات  الإسرائيلية - الكردية؟ هل أن هذه العلاقات لها تأثير سلبي على العلاقات بين الكرد والعرب عامة؟.
•   
•   بكل تأكيد العلاقة الكردية مع إسرائيل ذات تأثير سلبي كبير على العلاقة بين الشعبين العربي والكردي، ولقد قرأت لبعض الكتاب الكرد مقالات يفاخرون فيها بالعلاقات مع إسرائيل، ويهاجمون في الوقت نفسه العرب ويتهمونهم بمعاداة الكرد، ويحملونهم جرائم صدام في الأنفال وحلبجة ناسين أن صدام الذي قتل 180 ألفا من الكرد قد قتل من العرب في انتفاضة 1991 أكثر من 300 ألف من العرب، والقبور الجماعية خير شاهد على ذلك، ناهيك عن حروب صدام في حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة التي ذهب فيها أكثر من مليوني شهيد وأكثر من مليون معوق، وملايين الأيتام والأرامل ، فمن الظلم والإجحاف الشديد اتهام العرب بمعادات الكرد .
•   إن حاضنة الكرد الحقيقية هم إخوتهم العرب، ووطنهم العراق، لا إسرائيل عدوة العرب، الكيان غير الشرعي الذي أقامه الإمبرياليون في قلب الوطن العربي ، وجهزوه بأحدث الأسلحة، بما فيها النووية، لتكون سيفاً مسلطاً على رقاب العرب، ولحماية مصالحهم الإمبريالية في الشرق الأوسط والخليج على وجه التحديد.
•    إن العلاقة مع إسرائيل لا تعني إلا خسران الشعوب العربية ، ولا بد للقيادات الكردية أن تحسب حساب الربح والخسارة عند إقامة مثل هذه العلاقات مع الآخرين.
•   
يمر العراق الآن بمأزق سياسي جديد بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة للعام 2010، ذلك أن الكتل السياسية والأطراف السياسية في العراق، خاصة الرؤوس السياسية لم تكن مؤمنة لا بالديمقراطية، ولا بقانون الانتخابات، لم يتقدم أي فائز بأية خطوة وطنية من أجل تشكيل حكومة وطنية مبنية على الشراكة الوطنية، ما هي مستقبل الحكومة العراقية؟ هل هي بالفعل حكومة شراكة وطنية أم تتقاسم فيه السلطات على أساس عرقي وطائفي؟.

•   
بصراحة أنا لم أومن بالعملية السياسية البريمرية منذ البداية، فهذا الرجل أول من تحث بأسلوب طائفي، شيعة وسنة، وشجع على ترسيخ هذا التوجه للسلطة الشيعية، مما أدخل البلاد في صراع شيعي سني، الإدارة الأمريكية لم تأتي بجيوشها وتغزو العراق لإنقاذ العراق من نظام صدام الفاشي ، وهم الذين صنعوه، وهم الذين نصبوه دكتاتوراً على العراق، وبوش لم يشن الحرب على العراق لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وما تأليف مجلس الحكم إلا دليل صارخ على الأهداف الأمريكية من الغزو الهادفة للهيمنة المطلقة على العراق، بلد آخر برميل من النفط حسب تقرير الخبراء. لقد سلموا السلطة لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية بالتعاون مع الأحزاب القومية الكردية، ثم أضافوا لهم فيما بعد أحزاب الإسلام السياسي السنية بعد اشتداد الصراع المسلح على السلطة، ولم تغير الانتخابات تلك الوجوه التي لا يهمها من أمر البلاد والعباد سوى السلطة ، وما تدره من ثروة ، وما تمنحه من جاه ، أما الوطن والوطنية فتلك مسألة أخرى!!. أنا شخصياً اعتقد أن الحكومة القادمة لا تختلف عن سابقاتها حكومة محاصصة لا تستطيع إنجاز أي شئ ، والتناقضات بين أطرافها، والفساد ينخر فيها.
  
•   ما هي أهم السيناريوهات العراقية المحتملة في ظل التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون العراق الداخلية؟
•   
•   رؤساء الكتل السياسية كلُ يلعب على الآخر من أجل السلطة فلا مبادئ ولا برامج سياسية تجمعهم، والكل مستقتلون على منصب رئيس الوزراء لما يملكه من سلطات لا تختلف عن سلطات  الدكتاتور صدام، وفي نهاية الأمر سيبقى الحال على ما عليه الآن، محاصصة طائفية وعرقية، وليذهب العراق بشعبه إلى الجحيم!!
•   
•   ما هي مستقبل مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها؟.
•   
•   كركوك ستبقى مدينة التآخي القومي وستدار من قبل كل الأطراف ضمن الحكومة المركزية، وبالنسبة لما يسمى بالمناطق المتنازع عليها في الموصل أرى أن يضاف قضاء عقرة ومخمور إلى منطقة إقليم كردستان ، وتنسحب قوات البيشمركة من بقية المناطق الأخرى  في محافظة الموصل، ومحافظة ديالى .

•   هل سيبقى العراق موحدا؟ إذ أن فكرة الانفصال موجود في تصورات بعض القادة الكرد.

•   
ليس من مصلحة الكرد الانفصال عن الوطن العراقي، ولو وجد القادة الكرد أن الانفصال يخدمهم لانفصلوا منذ سقوط نظام صدام، لكنهم يستخدمون دعوة الانفصال كورقة ضغط للحصول على أقصى ما يستطعون من مكاسب، وأنا أدعو جميع الأطراف عرباً وأكراداً إلى أن يمدوا أيديهم إلى بعضهم ، ويضعوا مصالحهم الشخصية خلف ظهورهم، ويعملوا سوية للنهوض بالعراق في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، وبالامكان إن صفت النوايا، أن نخلق من العراق جنة في الأرض، فالعراق يمتلك كل المقومات لبناء هذه الجنة الحقيقية.  

            حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com
Alhamdany34@gmail.com

298
حوار [مجلة لفين الكردية]  مع المؤرخ حامد الحمداني
القسم الأول 1/2
حامد الحمداني                                                                           28/7/2010

•   العراق في كل المراحل التاريخية الماضية لم يشهد فيها صرا عات دموية عنيفة بين مكونات شعبه وبالأخص بين القوميتين الرئيسيتين الكردية والعربية، أنتم كمؤرخ وباحث أكاديمي ما  هو رأيكم حول الانتفاضات والثورات الكردية في العراق؟ هل هي نتيجة لتخمر الوعي القومي الكردي أم ردة فعل إزاء الحكومات المتعاقبة في العراق؟.
•   
•   لم يشهد العراق في كل تاريخه الحديث صراعاً بين القوميات العراقية المتآخية، وعلى وجه الخصوص ما بين القوميتين الرئيسيتين العربية و الكردية، بل على العكس من ذلك كان هناك تعاطفاً شديداً مع الشعب الكردي في نضاله من أجل حقوقه القومية في العهد الملكي، بل لقد تعدى ذلك التعاطف إلى المشاركة الفعلية لذلك النضال، وشواهد التاريخ كثيرة في هذا المجال. لكني أستطيع القول أن كلا الطرفين السلطة والقيادات القومية اقترفوا أخطاء كثيرة قادتهم إلى الصراع المسلح لسنوات عديدة، وكان بالإمكان تجنبها، واتخاذ الأساليب النضالية السلمية، مما كان سيجنب الشعب الكردي تلك الويلات والمآسي التي قاسى منها جراء الحروب المستمرة لسنوات عديدة، والتي انتهت بلجوء السيد مصطفى البارزاني ورفاقه إلى الاتحاد السوفيتي، ومكوثه فيها حتى انبثاق ثورة 14 تموز عام 1958
•   لكن الأمور تغيرت بعد انبثاق ثورة 14 تموز المجيدة، بقيادة الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم ، والذي بادر إلى تضمين الدستور المؤقت الذي صدر بعد أيام من وقوع الثورة، العبارة الصريحة التالية [ العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن] وهذا الدستور المؤقت كان يعكس بلا أدنى شك الفكر الحقيقي للزعيم عبد الكريم قاسم كونه لا يحمل فكراً شوفينيا تجاه الشعب الكردي ، وهو الذي حرص على المشاركة الفعلية للكرد في مجلس السيادة والحكومة، ومبادرته إلى دعوة الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني ورفاقه للعودة إلى العراق، واستقبالهم رسمياً وشعبيا، وإسكانه في قصر غريمه نوري السعيد، واستعداد الزعيم عبد الكريم قاسم لاستقباله في مقره بوزارة الدفاع في أي وقت يشاء، والسماح بنشاط حزبه، وصدور صحافته، أفليس ذلك الموقف من الزعيم ينم عن احترام القومية الكردية وزعامتها آنذاك؟
•   وللحقيقة والتاريخ أقول كان موقف القيادة القومية الكردية المتمثلة بالسيد البارزاني هو موقف الإسناد للثورة والدفاع عنها ضد مؤامرات القوى الإمبريالية وحلفائها البعثيين والقوميين، الذين سرعان ما تنكروا لجبهة الاتحاد الوطني ولثورة 14 تموز وباشروا بالتآمر ضدها .
•   لكن نشوب حركة التمرد التي قادها الإقطاعيان رشيد لولان وعباس مامند بدعم مكشوف من قبل الولايات المتحدة وشاه إيران هي التي دفعت الزعيم قاسم إلى إرسال قوات الجيش لقمعها، ولم يكن هناك مبرراً من قيادة البارزاني لمغادرة بغداد إلى كردستان، والمسارعة إلى حمل السلاح ضد الثورة مهما كانت تلك المبررات التي هي في الحقيقة تمثل تناقضاً ثانوياً بين أجنحة القوى الوطنية، وليس تناقضاً أساسيا، وكان بالإمكان تجاوز ذلك التناقض، وحل جميع المعضلات لو التزم الطرفان جانب الحكمة، وعدم دفع الأمور إلى الصراع المسلح، وانحياز القيادة الكردية إلى جانب انقلابيي 8 شباط 1963 المدعوم من قبل الإمبريالية ، والذي كان أحد أهم العوامل التي أوصلت العراق إلى الكوارث منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا ، وللإطلاع على المزيد من التوضيح لمجريات تلك الأحداث يمكن العودة إلى كتابي [لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية في العراق]، والتي تناولتها بالتفصيل.

•    ما هي أهم نقاط الضعف (كعب أخيل) في الحركة القومية الكردية؟ وما هو تقيمكم للحركات الكردية في العراق؟.
•   
•   في اعتقادي أن لجوء القيادات القومية الكردية إلى السلاح لحل التناقضات مع السلطة العراقية قبل استنفاذ كل الوسائل السلمية كان خطأ كبيراً دفع ثمنه الشعب الكردي والشعب العراقي بوجه عام ثمناً كبيراً من الدماء والدموع والخراب، وخاصة التناقضات التي حدثت على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم . لقد كان بإمكان الزعيم أن لا يدعو السيد البارزاني للعودة إلى العراق لو شاء، لكنه شاء أن يعيد اللحمة بين الشعبين العربي والكردي بعد ذلك الصراع في العهد الملكي، وإشراك الكرد مشاركة حقيقية في إدارة شؤون الوطن المشترك، ولقد أدرك الزعيم البارزاني بعد فوات الأوان أن انقلابيي 8 شباط ليسوا أكثر ديمقراطية من عبد الكريم قاسم، بل أنهم غارقون في شوفيتهم وأنهم قد خدعوه بوعود كاذبة، واستعدوا بعد تثبيت حكمهم إلى مهاجمة الشعب الكردي بكل وحشية، ولم يكد يمضِ على انقلابهم المشؤوم سوى 4 اشهر .
•   إن القيادة الكردية تتحمل مسؤولية كبرى عن وصول البعثيين إلى الحكم وما اقترفوه من جرائم بحق الشعب العراقي بكل قومياته، وحروبهم الكارثية التي أوصلت العراق إلى هذه الحال التي نشهدها اليوم.
•   كما أن اعتماد القيادات الكردية الحالية على الولايات المتحدة في حل تناقضاتها مع السلطة المركزية حول ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها أمر لا يخدم القضية الكردية على المدى البعيد، بل يهدد في اندلاع الصراع المسلح من جديد، وإن اللجوء إلى الحكمة هو السبيل الوحيد للحفاظ على المكاسب التي حصل عليها الشعب الكردي.علماً أن الولايات المتحدة ليس لها صداقة دائمة، بل مصالح دائمة، وشواهد التاريخ كثيرة في هذا المجال في علاقاتها مع القيادة الكردية.
•   

•   كيف تقيّمون شخصية وإنجازات الشيخ محمود الحفيد في بداية العشرينات حتى نهاية حكمه؟.

•   
•   الشيخ محمود الحفيد، بلا أدنى شك، كان قائد كبير لحركة التحرر الكردية في العراق، واستطاع أن يحقق إنجازات كبيرة في مجالات حركة التحرر الكردية، لكنه أخطأ في تقييم توجهات الإمبريالية البريطانية بالنسبة لمستقبل العراق من جهة، وأخطأ في تقييمه للظروف الدولية السائدة آنذاك، وخاصة وأن بريطانيا كانت تمثل الدولة العظمى الأولى في العالم، وكانت عصبة الأمم أداة طيعة بيدها.
•   ومن جهة أخرى كان سعيه لإقامة دولة كردية في تلك الظروف، ودخوله في صراع مسلح مع بريطانيا، ومع الحكومة العراقية والجيش العراقي قد افقده التأييد الشعبي العربي الذي كان هو بأحوج ما يكون إليه، وكان بإمكانه الحفاظ على المكتسبات التي حققها، والعمل على تطويرها مستقبلا، عندما تكون الظروف الداخلية والدولية مناسبة. 

•   هل كان لدى الأحزاب القومية الكردية في الماضي خطاب سياسي عقلاني مبني على الواقعية السياسية في التعامل مع الظروف السياسية؟.
•   
•   بصراحة أعتقد أن التسرع والانفعال كان يغلب على الخطاب السياسي للأحزاب القومية الكردية، مما أوقعها في مطبات كبيرة كان يمكن تجاوزها ، والتي ذكرتها في الفقرة الأولى على وجه الخصوص. ومن المؤسف أن هذا الخطاب ما زال يسيطر على فكر القيادات الكردية اليوم، ولاسيما التهديدات التي توالت على لسان أعلى القيادات الكردية والتي وصلت إلى حد التهديد بالحرب الأهلية على لسان السيد مسعود البارزاني والسيد نجرفان البارزاني قد أضرت بالغ الضرر بالأخوة العربية الكردية.
•   أن النضال من أجل الديمقراطية، وتمتين أواصر العلاقة الأخوية بين الشعبين العربي والكردي هي السبيل الوحيد لتحقيق آمال وأحلام الشعب الكردي، وإن السبيل لحماية الفيدرالية في كردستان العراق هو الديمقراطية والكف، بل ومكافحة التعصب القومي، واندفاع العديد من الكتاب الكرد في استخدام أساليب الشتائم والتطاول على العرب بأقذع الكلمات، مما سبب هذا الشرخ الذي نشهده اليوم في العلاقة الأخوية بين أبناء القوميتين، وهذا بكل تأكيد لا يخدم مصالح الشعب الكردي على المدى القريب والبعيد.

•   القضية الكردية في عهد الملكي (1921-1958) الذي تم فيه معرفة نضال الكرد منذ تأسيس الدولة العراقية على يد الملك فيصل الأول حتى قيام الجمهورية العراقية عام 1958 وتنصيب عبد الكريم قاسم رئيسا للعراق، ما هي أهم الأحداث التي شهدها العراق في تلك المراحل التاريخية وانعكاساتها غلى القضية الكردية؟.
•   
•   أعتقد أنني قد تناولت جانباً كبيراً من تلك الأحداث في الفقرات السابقة، وأود التركيز على موقف القيادة الكردية من حكومة عبد الكريم قاسم كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها هذه القيادة، وهي التي كانت أحد العوامل الحاسمة في إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، واستيلاء  البعثيين وحلفائهم القوميين على السلطة، وكل ما حدث من ويلات ومصائب منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم هو من نتاج ذلك الانقلاب المشؤوم، والذي شاركت فيه الأحزاب القومية الكردية مع شديد الأسف، ونالهم ما نالهم على يد حلفاء الأمس!!

•   يتهم الأكراد عبد الكريم قاسم بأنه تلاعب بالقضية الكردية في عام 1958؟ هل هذا صحيح؟.

•   
•   هذا غير صحيح، بل وإجحاف بموقف عبد الكريم قاسم، ولقد تطرقت بالتفصيل لشرح موقف الطرفين، وأخطائها. إن عبد الكريم قاسم لم يكن يوماً شوفينيا، بل كان يحب ويحترم سائر القوميات والأديان والطوائف العراقية، وكان يسعى لرفع مستوى معيشة الفقراء إلى مستوى الأغنياء ، ولم يفعل أي شئ لمصلحته الذاتية.

•   حاول البارزاني تحقيق تجربة مماثلة في العراق أي تجربة جمهورية مهاباد الكردية، ثم قاسم قام بحملة عسكرية على معاقل البارزاني عام 1961، ما هي أهم العوامل التي تسببت في نشوب الحرب بين الطرفين؟.

بدأت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحكومة عبد الكريم قاسم بالتدهور عام 1961، عندما هاجمت صحيفة الحزب [خه بات] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد، واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة.
كان الرد من قِبل عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب، واعتقال بعض قادته في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام .
وفي 20 تموز 961 ، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى الزعيم عبد الكريم
طالبت بتطبيق المادة الثالثة من الدستور المؤقت المتعلقة بالشعب الكردي. وسحب القوات العسكرية المرسلة إلى كردستان، وسحب المسؤولين عن شؤون الأمن والشرطة والإدارة الذين كان لهم دور بارز في الحوادث التي وقعت في كردستان، وإعادة الموظفين الأكراد المبعدين إلى كردستان، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وإلغاء الأحكام العرفية، و إنهاء فترة الانتقال، وانتخاب مجلس تأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد.
لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران في أول الأمر، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد رجعية بقيادة اثنان من كبار الإقطاعيين هما [رشيد لولان ] و [عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان وعباس مامند  إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها شاه إيران زعزعة النظام الجديد في العراق وإسقاطه.
أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد استهل صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 961 ، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون الأكراد باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة.
كما أن عبد الكريم قاسم فضل هو الآخر اللجوء إلى استخدام القوة ورفض  الحوار، وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول الصائبة للقضية الكردية، حسب ما نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المؤقت.

           حامد الحمداني
www.hamid-Alhamdany.com

299
الشرق الأوسط
 بين فكي ملالي طهران وحكام تل أبيب

حامد الحمداني                                                   27/7/2010

تجتاز منطقة الشرق الأوسط مرحلة بالغة الخطورة في ظل التهديدات والتهديدات المضادة من جانب حكام تل أبيب وملالي طهران بسبب إصرار النظام الإيراني على المضي قدماً في برنامجه النووي، وصولاً لإنتاج السلاح النووي من جهة، وإصرار حكام إسرائيل على منع امتلاك إيران، وأي دولة أخرى في المنطقة لهذا السلاح، وهي التي امتلكت وحدها هذا السلاح منذ سنوات عديدة، بدعم وإسناد من الولايات المتحدة لكي تبقى الدولة الأقوى في المنطقة، لتحمي كيانها من جهة، ولتكون قادرة على حماية المصالح الأمريكية، وبوجه خاص ضمان تدفق النفط من منطقة الخليج من جهة أخرى.
ولهذا السبب وجدنا حكام تل أبيب يهاجمون المفاعل النووي العراقي ويدمروه، في الوقت الذي كان العراق يخوض حرباً إجرامية ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، منتهزة فرصة انشغال العراق في حربه الكارثية التي أرادها الأمريكيون أن تستمر أطول مدة ممكنة ولا يخرج منها أحد منتصرا، كما اعترف كيسنجر في مذكراته.
ولم يكتفِ حكام تل أبيب بتدمير المفاعل النووي العراقي، بل كانوا قد عقدوا العزم على تدمير كامل القوات العراقية وأسلحة الدمار الشامل التي جهزوا بها عميلهم الدكتاتور صدام، فور انتهاء الحرب، وعملوا على افتعال المشاكل مع نظام صدام، وبدأوا سلسلة من التهديدات لنظام صدام، واستطاعوا جره نحو التهديدات المضادة التي أخذت بالتصاعد يوماً بعد يوم، تارة تهدد إسرائيل العراق بأسلحة الدمار الشامل، وتارة يهددها صدام بحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج، وهكذا استطاع حكام تل أبيب دفع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لإقناع إدارة الرئيس بوش الأب بضرورة مهاجمة العراق، وتدمير ليس فقط أسلحته فحسب بل وكل مرافقه الاقتصادية، وبنيته التحية، بل وكل مرافق البلاد.
وسارع الرئيس بوش إلى نصب فخ لدكتاتور العراق صدام الذي خرج بعد ثمان سنوات من حربه الكارثية مع إيران يمتلك جيشاً جرارا واقتصاد منهارا، لغزو الكويت بعد أن أبلغته السفيرة الأمريكية [ كلاسبي] بأن الولايات المتحدة لا تتدخل في المشاكل بينكم وبين حكام الكويت.
 ظن صدام أن حديث كلاسبي كارت أخضر لغزو الكويت والتعويض عن خسائر وديون الحرب، وابتلع الطعم، وكان سرور بوش عظيماً لتهور صدام، وسارع إلى تجييش الجيوش بمشاركة حلفائه الغربيين، والحكام العرب، لينزلوا تلك الضربة القاضية للعراق، ويدمروا أسلحته وبنيته التحية، ولم يتركوا للعراق هدفاً عسكرياً كان أم مدنياً:
 ولم يُشبع غليل حكام تل أبيب الخراب الذي أصاب العراق، ولا مئات الألوف من الضحايا والمعوقين، والأرامل والأيتام، فسارع بوش إلى فرض الحصار على الشعب العراقي دون صدام، ذلك الحصار الجائر الذي دمر البنية الاجتماعية للعراق، وأشاع الفقر والجوع والأمراض الفتاكة خلال ثلاثة عشر عاماً هي أسوأ الأعوام التي عاشها الشعب العراقي المنكوب، واستسلم صدام لكل شروط بوش في خيمة صفوان، لكي يبقى على رأس السلطة، وليذهب الشعب العراقي إلى الجحيم!!
ما أشبه اليوم بالبارحة، حيث يبدوا أن ذلك السيناريو يوشك أن يتكرر، ولكنه بشكل أفضع، كما يبدوا أن ملالي طهران لم يتعلموا الدرس من حرب الخليج الثانية، وما حل بالعراق من خراب ودمار وويلات ومصائب لا يمكن وصفها.
لقد عبأ حكام طهران كل طاقاتهم المادية للتسلح، تماما كما فعل صدام استعداداً للمنازلة مع إسرائيل وسادتها الأمريكان، وحلفائهم الغربيين، وسعى حكام طهران إلى تجهيز حزب الله اللبناني بكميات هائلة من الصواريخ والأسلحة استعداداً ليوم النزال الموعود، دون أن يدرك هؤلاء الحكام أنهم مهما استعدوا للحرب، ومهما تسلحوا بالأسلحة فلا مقارنة بين قوة الولايات المتحدة وحلفائها، وفي مقدمتهم إسرائيل
إن الحرب إذا ما نشبت فستكون بكل تأكيد أقسى بكثير من حرب الخليج الثانية التي خاضها صدام، والكل كانوا يدركون أنها حرباً خاسرة بالنسبة لدكتاتور العراق، لكنه ركب رأسه، وأصر على عدم الانسحاب من الكويت، فكان الخاسر الأكبر هو شعب العراق.
إن حكام طهران بكل تأكيد قادرون على توجيه ضربات موجعة لإسرائيل، ولمنطقة الخليج الغنية بالنفط، والتي تضم العديد من القواعد العسكرية الأمريكية.
كما أن حزب الله قادر على توجيه الآلاف من صواريخه نحو إسرائيل، وربما تنجر سوريا إلى هذه الحرب، وحتى حركة حماس.
لكن هذه الحرب إذا ما نشبت فسوف يجابه كل فعل رد فعل اشد ضرواة وأقسى. صحيح أن إسرائيل ستتلقى ضربات مؤلمة، وعلى نطاق واسع ربما يغطي كل أراضيها، لكن لبنان سيكون الضحية الأكثر إيلاماً ، وستكون حرب حزب الله عام 2006 مجرد نزهة، وكذلك إذا تورطت سوريا، وقطاع غزة فيها، وستكون دول الخليج مسرحاً لعمليات إيران الحربية وصواريخها، وستتلقى إيران أشد الضربات التي لا يتصورها حكامها، وسيدفع الشعب الإيراني المغلوب على أمره ثمناً لا يمكن تصوره، وبعبارة أخرى إن الحرب إذا نشبت فستحرق الشرق الأوسط، وتقطع شريان النفط عصب الحياة بالنسبة لمعظم دول العالم، التي ستكون عاجزة عن شراء النفط من مناطق أخرى بأربعة أضعافها.
إن شعوب الشرق الأوسط تعيش اليوم حالة من الذعر والقلق الشديد على مصيرها  لأن نيران الحرب ستطالها بكل تأكيد، وهي في وضع العاجز عن تجنب نيرانها، ونتائجها الكارثية التي ستعم المنطقة كلها، وعلى إيران وحلفائها أن يدركوا إن الحرب إذا ما انطلقت فلا أحد يستطيع تحديد نتائجها الكارثية.
صحيح أن حكام إسرائيل الذين خاضوا حربين مع العرب عامي 1967، و1973 لم يستخدموا ترسانتهم النووية، لأن تلك الحروب لم تكن تهدد مصير إسرائيل ووجودها، لكن الحرب التي يستعد لها الطرفان تتطلب أن يدرك حكام طهران أن إزالة دولة إسرائيل التي يبشر بها الرئيس الإيراني احمدي نجاد لا يمكن تحقيقها في ظل الظروف الدولية السائدة، حيث الولايات المتحدة هي الدولة العظمى الأولى في العالم، وأن إسرائيل تمثل خط الدفاع الأول له، لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة  والخليج على وجه الخصوص.
إن على طرفي النزاع أن يلتزموا جانب الحكمة، وعدم التهور، والعودة إلى سبيل المفاوضات الجادة، والعمل على إفراغ المنطقة من الأسلحة  النووية وسائر أسلحة الدمار الشامل، والحفاظ على السلام والأمن في المنطقة، وسيتحمل الطرفان مسؤولية كبرى لِما قد يحل في المنطقة من خراب ودمار، وسفك دماء، وويلات ومصائب لا يمكن تقدير حجمها، فهل تتغلب الحكمة، ويتغلب العقل، أم سيركب الطرفان روؤسهم لتحل الكارثة بالجميع دون استثناء.
إن على حكام تل أبيب أن يدركوا أن إسرائيل لن تحقق الأمن والسلام لها من دون أن تنسحب من هضبة الجولان والضفة الغربية وغزة، وتعود إلى حدود الرابع من حزيران، وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، مع أقامة علاقات طبيعية مع جيرانها العرب قائمة على احترام سيادة واستقلال جميع دول المنطقة، والمنافع المشتركة لما فيه خير الجميع.
 أما الحروب فلن تجنِ إسرائيل، ويجني منها جيرانها سوى الخراب والدمار والمصائب، وفي الوقت نفسه فإن السلام العادل سيؤدي بكل تأكيد إلى انحسار العمليات الإرهابية ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم أجمع، وبدلا من إهدار مئات المليارات من الدولارات على الحروب والتسلح، والخراب والدمار، فبإمكان هذه الدول استخدامها في تجفيف منابع الإرهاب عن طريق معالجة مسألة الفقر والبطالة، وتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان في مختلف بقاع الأرض.   
     
 

300
إلى متى يبقى العراق على مائدة المقامرين؟
حامد الحمداني                                                                        20/7/2010

أربعة اشهر مضت على الانتخابات البرلمانية، تلك الانتخابات التي يعلم الجميع كيف جرت بموجب ذلك القانون الانتخابي الجائر، الذي جرى تفصيله على مقاس أحزاب الإسلام السياسي، وكم من الأموال التي صرفتها تلك الأحزاب لشراء أصوات المواطنين البسطاء والذين أنهكهم الفقر والجوع، وفتكت بهم الأمراض، فجاءت لنا بهذا المجلس الذي أعاد لنا نفس الوجوه التي لم يكن همها خلال الدورات السابقة للبرلمان سوى السعي للحصول على المكاسب والامتيازات والرواتب التي ضربت أرقاما قياسية لم يسبق لها مثيل في العالم أجمع منذ أن عرفت الشعوب الانتخابات البرلمانية!!.
جاءت لنا نتائج الانتخابات بالقوائم الأربعة المعروفة التي هيمنت على السلطة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والشعب العراقي على أحر من الجمر ليشهد الحكومة العتيدة التي تنقذه من وضعه المأساوي الذي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، صيف شديد الحرارة من دون كهرباء ولا ماء صافٍ صالح للشرب، وبطالة ضاربة أطنابها في طول البلاد وعرضها، وأمراض خطيرة تفتك بالمواطنين، وانعدام الخدمات الصحية، وتدهور الأحوال المعيشية، وتصاعد موجات الغلاء الفاحش، هذا بالإضافة إلى التدهور الأمني، وتصاعد التفجيرات التي تفتك بمئات المواطنين كل يوم، واشتداد موجات الاغتيالات بالأسلحة الكاتمة للصوت لكوادر البلاد العلمية التي أزهقت أرواح الألوف منهم منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 وحتى اليوم.
ورغم كل هذا الظروف القاسية التي يعاني منها الشعب العراقي المغلوب على أمره ، ورغم مرور أربعة اشهر على الانتخابات فما زال قادة الكتل الفائزة يتصارعون مع بعضهم البعض حول تقاسم كعكة الحكم، فهذا هو همهم الأول والأخير، حيث السلطة تجلب لهم الثروة وهنا بيت القصيد، لقد بلغ الفساد في أجهزة الدولة، من القمة وحتى القاعدة، حداً لم يسبق له مثيل في كل بلدان العالم، 300 مليار دولار ذهبت أدراج الرياح دون أن يحصل الشعب العراقي، على ماء صافي للشرب وعلى طاقة كهر بائية تقيهم حرارة الصيف التي وصلت 60 درجة في الظل، ولا خدمات ضرورية ، ولا رعاية اجتماعية ، ولا معالجة لأزمة السكن، فالمهم لهذه السلطة أن كل ما تحلم به قد جرى توفيره لهم في المنطقة الخضراء!!
وبات الشعب والوطن على مائدة القمار، وكل زعيم فيهم لا يهمه سوى ربح السلطة، تراهم ظاهرياً أصدقاء وزملاء، وباطنيا أعداء يتمنى أن يأكل بعضهم بعضا، لا قيماً، ولا برامج سياسية ، ولا مبادئ تجمعهم، فكيف نرتجي منهم خيرا؟
الأزمة العراقية الخانقة لن تجد حلاً على أيديهم ، ومن يأمل ذلك فإن أمله ستذروه الرياح، وحتى لو توصلوا في مساوماتهم الجارية خلال الأشهر الأربعة المنصرمة فلن تدوم هذه الحكومة التي تجمع النقيض مع النقيض، والفاسدين مع الفاسدين ، والأوضاع الأمنية تهدد بالانفجار لتشعل حرباً أهلية جديدة أشدة قسوة من التي شهدناها عامي 2006 و2007
إن الأمم المتحدة مدعوة بموجب مسؤوليتها عن العراق بموجب البند السابع، أن تعالج الوضع الخطير في العراق قبل فوات الأوان، وقبل أن يفلت الزمام من يد الجميع .
 إن معضلة العراق أمام خيار  وحيد ، خيار إقامة حكومة إنقاذ وطني من عناصر تنكوقراط مستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية القائمة في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بنظام صدام المسقط، ولا أي ارتباطات بدول الجوار، وخاصة تلك التي تمارس التدخل الفض في شؤون العراق، كإيران وسوريا والسعودية وتركيا، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية يمتد أمدها لفترة زمنية محددة، بدعم من قوات تابعة للأمم المتحدة، لإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد وإنهاء دور للميليشيات الحزبية، وسحب كافة الأسلحة منها                                 
وينبغي إلغاء الانتخابات الحالية، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت من قبل الأمم المتحدة يضم 150 شخصية وطنية عراقية من مختلف محافظات العراق على أساس الكفاءة والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، ويختار البرلمان الاستشاري رئيساً مؤقتاً للجمهورية خلال الفترة الانتقالية، وتتولى السلطة المؤقته اصلاح ما خربته حقبة صدام الفاشية، والحرب الكارثية الأمريكية، للبنية التحية العراقية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والخدماتية، وفي المقدمة من ذلك إعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، وإعادة المهجرين، واستعادة مساكنهم وممتلكاتهم، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لمسألة البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء صالح للشرب، وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948 أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.                                       

كما ينبغي أن يقوم رئيس الجمهورية المؤقت وأعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم كافة، قبل مباشرتهم المسؤولية، وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة والمشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة، والحماية الأمنية الضرورية، لملاحقة السراق والمرتشين، وناهبي أموال الشعب، وهدر ثروات البلاد، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل، ولابد من سن قانون { من أين لك هذا} لمحاسبة السراق والمرتشين وناهبي ثروات البلاد، خلال مرحلة نظام صدام، والنظام الذي أقامه المحتلون الأمريكيون، وإحالتهم إلى المحاكم لينالوا عقابهم الصارم، واستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة  منهم.                                               .
إن وقف العمل بالدستور  الحالي المختلف عليه أمر ضروري جدا، حيث يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالي يحمل بذور الحرب الأهلية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة النظر في كافة مواده من قبل لجنة دستورية مختارة من العناصر القانونية العراقية المشهود لها بالأمانة والنزاهة والتوجه الديمقراطي الصادق، بما يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة، والشوفينية القومية البائسة، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب.

كما ينبغي تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والإدارية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء أفراد الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان والحرص على سيادة واستقلال العراق.  إن تواجد العناصر المرتبطة بالأحزاب داخل صفوف الجيش والأجهزة الأمنية سيبقى يمثل برميل بارود معرض للانفجار في أي لحظة ، حيث الولاء للحزب وليس للعراق وشعبه، فلا مجال للنشاط الحزبي في صفوف الجيش والأجهزة الأمنية                                .
ومن الضروري إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، ورفض قيام الأحزاب على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً،أو قومي شوفيني متطرف عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً.                                      .
وينبغي منع نشاط حزب البعث، ومكافحة فكره الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر، محاكمة كافة أعوان نظام صدام الذين ارتكبوا الجرائم الوحشية بحق الشعب من دون إبطاء، أو تلكؤ، وإنزال العقاب الصارم بحقهم، فهؤلاء يتحملون المسؤولية عن كل الويلات والمصائب التي حلت بالشعب والوطن جراء طغيانهم، وجراء شن الحروب الإجرامية الداخلية منها والخارجية، والتي أزهقت أرواح الملايين من أبناء شعبنا، وشردت ملايين أخرى في مختلف بقاع الأرض، ودمرت البنية الاجتماعية والاقتصادية، واستنفذت كل موارد العراق، وأغرقته بالديون بمئات المليارات من الدولارات، وملأت ارض العراق بالقبور الجماعية، وهمشّت القوى والأحزاب السياسية الوطنية، وقمعت الحقوق والحريات الديمقراطية العامة للشعب.                          .

كما ينبغي أن ينص الدستور على إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض هي ملك للشعب العراقي كله دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعاة المناطق الأكثر تضرراً، والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهله.          .                             
وينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم ، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة للعراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.                                     .
 وينبغي تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات.                                          .
كما ينبغي العمل على انسحاب كافة القوات الأجنبية من البلاد حال استتباب الأمن والسلام في البلاد، وإكمال بناء قوات الجيش والأجهزة الأمنية وتجهيزها بكافة الأسلحة الثقيلة والطائرات المتطورة للجيش بما يمكنه من صيانة الأمن الداخلي وسلامة الحدود وصيانة استقلال البلاد، والسعي لإقامة أفضل العلاقات مع سائر دول العالم على أساس المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، شرط عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة واستقلال العراق، ووحدة أراضيه.                                             .



301
ثورة 14 تموز في ذكراها الثانية والخمسين
دروس وعبر

حامد الحمداني           القسم الثاني والأخير                     14 تموز 2010

لماذا تدهورت العلاقة بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي ؟
كان الحزب الشيوعي على علم بثورة 14 تموز قبل وقوعها، حيث تم إبلاغه من قبل الزعيم عبد الكريم قاسم عن طريق صديقه الشخصي [ رشيد مطلك]، حيث أصدرت قيادة الحزب في 12 تموز التوجيه التالي لقيادات الحزب:
  توجيه عام :
 نظراً للظروف السياسية المتأزمة، الداخلية والعربية، ووجود احتمالات تطورها بين آونة وأخرى، وبغية ضمان وحدة النشاط السياسي لمنظماتنا الحزبية في الظروف الطارئة، والمعقدة نرى من الضروري في الوقت الحاضر أن تكون شعاراتنا الأساسية:
 الخروج من ميثاق بغداد، وإلغاء الاتفاقية مع بريطانيا والوقوف ضد [مبدأ أيزنهاور] إطلاق الحريات الديمقراطية لجماهير الشعب [حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية النشر والاجتماع ...الخ ]،وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين وإطلاق سراحهم، وإلغاء المراسيم والقوانين غير الدستورية التي تستهدف الحركة الوطنية، واتخاذ التدابير الفعالة لحماية ثروتنا الوطنية واقتصادنا  والعمل على حل المشاكل المعيشية لجماهير الشعب، وقيام حكومة تنتهج سياسة وطنية عربية مستقلة، تدعم نضال الشعب اللبناني وسائر الشعوب العربية، وتخدم السلم، وتحول {الاتحاد العربي} إلى اتحاد حقيقي بين الأردن والعراق ليضمن مصالح شعبنا، ويخدم النضال ضد الاستعمار والصهيونية، ومن أجل الوحدة العربية، وإقامة اتحاد فيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة. ونرى التأكيد على ما يلي :
1ـ ضرورة تجنب إبراز شعارات مبهمة أو متطرفة،أو تلك التي تمجد هذا الزعيم أو ذاك من قادة الحركة الوطنية على حساب طمس شعاراتنا الأساسية، والتقليل من شأن نضال الجماهير الشعبية، والجبهة الوطنية.
2ـ ضرورة إبداء اليقظة السياسية العالية تجاه مختلف المناورات والمؤامرات، وتجاه نشاط عملاء الاستعمار، والعمل بحزم وبأمانة تامة لسياسة الحزب، واعتبار أن واجبنا الأساسي في كل الظروف هو تعبئة أوسع الجماهير الشعبية، ولفها حول الشعارات الصائبة في اللحظة المعينة، وحول الشعارات الكبرى لحركتنا الوطنية الديمقراطية.   
                                                 الحزب الشيوعي العراقي
                                         12 تموز 1958

الحزب يعلن مساندته للثورة وقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم دون قيد أو شرط
 سارع الحزب فور وقوع الثورة إلى إعلانه بإسناد الثورة وسلطة عبد الكريم قاسم دون قيد أو شرط في برقيته للزعيم قاسم التالية:
رئيس مجلس الوزراء السيد عبد الكريم قاسم
نهنئكم من صميم قلوبنا على خطواتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة لعهد طويل من المآسي والمحن التي قاسى منها شعبنا المجاهد النبيل على يد الاستعمار وأعوان الاستعمار.
 إننا نعبر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية وتطور عراقنا الحبيب، وتبؤ شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحررة الناهضة والحبة للسلام، وموكب الإنسانية العاملة من أجل تحررها من نير الاضطهاد والاستعمار.
 إن شعبنا العراقي بعربه وأكراده سيسجل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية، وإنه لعلى ثقة كبرى من قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة القوى التحررية العربية في جميع ديارها، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة ، ومن قوى الحرية والسلام في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي .
 إن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي تضع كافة قوى حزبنا إلى جانب مؤازرتكم، وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة.
                  سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
                                             14 تموز 1958
استبعاد الحزب من التشكيلة الوزارية لثورة 14 تموز
من المعلوم أن الحزب الشيوعي لم يشترك في حكومة الثورة التي شُكلت صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، رغم ثقله السياسي الكبير، ورغم مساهمته الفعالة في نجاح الثورة، وإسنادها منذ اللحظة الأولى واستمرت حتى النهاية على الرغم من تغير موقف الزعيم قاسم من الحزب.
لم يطلب الحزب الشيوعي آنذاك إشراكه في السلطة بسبب الظروف الدولية الخطيرة التي كانت تحيط بالثورة، حيث نزلت القوات البريطانية في الأردن، والقوات الأمريكية نزلت في لبنان فور وقوع الثورة.
كما تم حشد القوات التركية والإيرانية على الحدود الشمالية والشرقية، وكان واضحاً أن الإمبرياليين وعملائهم في تركيا وإيران قد صُدموا بقيام الثورة التي هدمت أحد أهم أركان حلف بغداد، وأضاعت أحلامهم في ضم بقية الدول العربية إلى ذلك الحلف، وخاصة سوريا.
ولم يكن الحزب الشيوعي، ولا السلطة الثورية الجديدة يريدان مزيداً من الاستفزاز للإمبرياليين آنذاك، لكي لا يصورا ثورة 14 تموز على أنها ثورة شيوعية قامت في بلد كالعراق له أهمية قصوى في حساباتهم الإستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
 فالعراق بلد نفطي أولاً، ويقع على رأس الخليج ثانياً، ومعلوم أن الخليج يتسم بأهمية كبرى، بكونه أكبر مورد للنفط في العالم، لذلك كله سكت الحزب الشيوعي عن المطالبة في إشراكه في السلطة، أسوةً ببقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، ولم يكتف بسكوته هذا، بل بادر منذُ الساعات الأولى لانبثاق الثورة إلى إرسال برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم يبلغه بوضع كافة إمكانيات الحزب في خدمة الثورة وحمايتها دون قيدٍ أو شرط.
لقد أدركت قيادة الحزب الشيوعي تماماً أن المهمة الأولى بالنسبة للحزب هي صيانة الثورة، وحمايتها من تدخل الإمبرياليين، وشل نشاط الرجعيين الرامي إلى إجهاضها، وإعادت العراق الجامح إلى سيطرتهم من جديد.
لم يكتفِ الحزب الشيوعي ببرقيته المرسلة إلى عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، بل أتبعها بمذكرة إيضاحية حول السياسة التي يرى أهمية الأخذ بها لقيادة مسيرة الثورة، وهي مذكرة تعبر عن سياسة الحزب تجاه الأحداث الجارية، والمستقبلية للثورة.
ركزت المذكرة على ضرورة انتهاج سياسة وطنية واضحة، وذلك عن طريق الإعلان الرسمي لانسحاب العراق الفوري من حلف بغداد، وإلغاء كافة الاتفاقات المعقودة مع بريطانيا، والولايات المتحدة، والتي تخل بسيادة العراق واستقلاله، وتتعارض مع سياسة الحياد الإيجابي، والتعاون مع جميع الدول على قدم المساواة، من أجل مصلحة الشعب والوطن.
كما دعت المذكرة إلى إعلان الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، وإلى تبادل التمثيل الدبلوماسي مع البلدان الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وقيام علاقات اقتصادية، وثقافية وغيرها، مما يعزز موقف العراق، ويحمي مصالحه.
كما دعت المذكرة إلى فرض رقابة حازمة على مؤسسات شركات النفط، والبنوك، وكافة المؤسسات الاقتصادية الكبرى ذات العلاقة الكبيرة بحياة الشعب، وحماية اقتصاد البلاد من مؤامرات الإمبريالية وعملائها في الداخل، والهادفة إلى تخريب الاقتصاد الوطني، ومنعه بشتى الوسائل والسبل من التطور والنمو لخدمة طموحات الشعب والثورة.
كما دعت المذكرة إلى انتهاج سياسة وطنية أساسها الثقة بالشعب، وإطلاق الحريات الديمقراطية، والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية، بتأليف الأحزاب، والجمعيات، والمنظمات الجماهيرية، وحرية الصحافة، والعمل على إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين، بأسرع وقت ممكن، وتكوين فصائل المقاومة الشعبية وتسليحها لتكون درعاً واقياً للثورة، جنباً إلى جنب مع جيشنا المقدام، وتطهير جهاز الدولة، والأمن، والشرطة، من العناصر الفاسدة، والمعادية للثورة.
كما دعا الحزب الشيوعي إلى الاهتمام بالأعلام، ووضعه في أيدي أمينة على مصالح الشعب والوطن، نظراً للدور الهام الذي يلعبه الإعلام في الدفاع عن مصالح الشعب وحماية الثورة، وفضح ألاعيب المستعمرين، وأذنابهم في الداخل.
لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام، فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية محاولاً فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح.
لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة  وسيّر المظاهرات المؤيدة لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التي كانت تهتف بالشعار الذي رفعه الحزب، والذي يدعو إلى إقامة الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ شعار أسلوب الإلحاق القسري الذي رفعته القوى القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب، ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية والبعثية.

الحزب الشيوعي يطلب إشراكه في السلطة :
في الخامس من تشرين الثاني 1958، رفع الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم مذكرة هامة دعاه فيها إلى الاعتماد على الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، مذكراً إياه بإشراك كافة أحزاب جبهة الاتحاد الوطني في السلطة باستثناء الحزب الشيوعي.
 وفي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة، وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه من أجل دعم مسيرة الثورة، وتحقيق أهدافها.
 وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها، ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فإن من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل.

لكن عبد الكريم قاسم لم يستجب لمذكرة الحزب، مما دفع الحزب إلى اللجوء إلى الشارع في مطالبته إشراكه في السلطة.
وجاءت مسيرة الأول من أيارـ  عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[ إشراك الحزب الشيوعي في السلطة] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي، وجماهير الحزب، من عمال وفلاحين، ومدرسين وطلاب وأطباء ومحامين ومثقفين ، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بكتلة [ محمد حديد وحسين جميل] ورفاقهم، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم .

وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً، أدخل بموجبه الدكتورة [نزيهة الدليمي]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين كل من المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان،  والدكتور [ فيصل السامر ] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد ، والدكتور[ عبد اللطيف الشواف]، وزيراً للتجارة.
 لكن إجراء  قاسم لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن، ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي.

أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى، تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، وأصابها دوّار شديد، وباشرت أجهزتها على الفور تحبك الدسائس، عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف  والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.
وحقيقة القول، كان للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.
إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.
لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، ثم عاد وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم أن يوغل في مواقفه العدائية تجاه الحزب.
أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة، لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة[الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.

 وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات
ومن جانبه وقع الحزب الشيوعي بأخطاء كان من الممكن تجنبها، وجرى استغلالها من جانب القوى المعادية للثورة ، كما جرى استخدامها لتحريض عبد الكريم قاسم ضد الحزب ، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:


1 ـ الاستئثار بالمقاومة الشعبية التي كانت أشبه بقوة تابعة للحزب مما دفع عبد الكريم قاسم، وقد تملكه الشك من نوايا الحزب، إلى سحب السلاح من المقاومة ومن ثم إلغائها، وبذلك عالج الخطأ بخطأ أعظم، فقد كان الواجب يقتضي إصلاحها لا حلها، ولو كانت المقاومة باقية يوم 8 شباط لما تمكن الإنقلابيون من النجاح في انقلابهم.

2 ـ الاستئثار بالمنظمات الشعبية والنقابات
واتحاد الطلاب والفلاحين ولم يراعي الحزب أهمية إشراك حلفائه الآخرين وخاصة الحزب الوطني الديمقراطي.

3 ـ الانجرار وراء القيادة الكردية التي حملت السلاح ضد الثورة، مما أثار غيظ عبد الكريم قاسم، وخاصة بعد أن أقدم الزعيم على اعتقال المئات من كوادر ورفاق الحزب على أثر حملته [السلم في كردستان والديمقراطية للشعب] واستخدمها ذريعة لتوجيه ضربته للحزب، وتعليم أظافره.

4 ـ عدم التعامل الصارم مع تلك الدعوات التي كانت تتردد على لسان البعض من رفاقه وأصدقاء الحزب حول ضرورة استلام السلطة، بعد أن انقلب الزعيم على الحزب، والتي كانت القوى المعادية توصلها للزعيم قاسم مما أثار الريبة والشكوك لديه، كما أن البرجوازية الوطنية عملت على إقناعه بأن الحزب قد أصبح قاب قوسين أو أدنى لانتزاع السلطة منه.

5 ـ الأحداث التي رافقت قمع انقلاب الشواف : لقد كان للحزب  دور أساسي في قمع انقلاب العقيد الشواف، وحماية الثورة، لكن الفوضى سادت في المدينة، وبات من المتعذر السيطرة على الأوضاع فيها خلال الأيام الثلاث التي تلت الانقلاب حيث وقعت بعض أعمال القتل والسحل من قبل عناصر لا علاقة للحزب بهم، وجرى لصقها بالشيوعيين، لكن الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه قيادة الحزب في الموصل هو   محاكمة 17 فرداً من المشاركين في الانقلاب خلافاً للقانون، وكان المفروض تسليمهم للسلطة لمحاكمتهم أمام المحاكم العراقية.

6 ـ تماهل قيادة الحزب في كركوك في وقف الصدامات بين الأكراد والتركمان خلال الاحتفالات بالذكرى الأولى لثورة 14 تموز، ولم تتخذ الإجراءات السريعة للسيطرة على الموقف، مما أدى إلى وقوع العديد من الضحايا التركمان، وحرق العديد من المحلات التجارية والمقاهي والدور العائدة لهم، وقد جرى من قبل القوى المعادية للثورة زج اسم الحزب في الصراع الكردي التركماني ، وقد جرى استغلال تلك الأحداث بالإضافة لأحداث الموصل من قبل الزعيم عيد الكريم قاسم كذريعة لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي، حيث جرى اعتقال المئات من رفاقه وجرى إحالتهم إلى المجالس العرفية [ المحاكم العسكرية]، والتي حكمت عليهم بعقوبات قاسية جداً وصلت حد الإعدام كما سهلت السلطة للقوى الرجعية في الموصل وللأجهزة الأمنية لحملة الاغتيالات الإجرامية التي طالت الشيوعيين وجماهير الحزب والتي ذهب ضحيتها ما يناهز 1000 شهيد، من دون أن تؤدي السلطات الأمنية واجبها في إلقاء القبض على القتلة وأحالتهم إلى المحاكمة ، بل كانت تكتفي فقط بالقبض على الضحايا!!.وقد أدت تلك الجرائم إلى هجرة أكثر من ثلاثين ألف عائلة من الموصل إلى المدن العراقية الأخرى للنجاة بحياتهم.
وهكذا مهدت سياسة السلطة الطريق لإعداء الثورة لإنزال ضربتها القاضية بثورة 14 تموز المجيدة وقيادتها، وأغرقت البلاد بالدماء في 8 شباط 1963.
 
إن تلك الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه، وأوصلت حزب البعث الفاشي إلى السلطة، وتولي الدكتاتور الأرعن صدام حسين السلطة، وما جره حكمه الإرهابي، وحروبه الدموية الكارثية، تستدعي من سائر القوى الوطنية كافة هذا اليوم أن تتعلم الدرس البليغ من تلك الأحداث، لكي لا تقع في تلك الأخطاء وتدخل في صراعات فيما بينها، وعليها أن توحد جهودها في جبهة وطنية عريضة، وتتفق فيما بينها على الخطوط العريضة لبناء عراق ديمقراطي تعددي، وتشريع دستور علماني، ويصون الحقوق والحريات العامة للشعب بكافة مضامينها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية، ويصون التآخي القومي والديني والطائفي في البلاد، وهذا هو السبيل الوحيد للخروج بالعراق من هذا المأزق الواقع فيه اليوم نتيجة الأعمال الإرهابية التي تمارسها نفس تلك القوى الرجعية التي أسقطت حكومة عبد الكريم قاسم، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز، وأغرقت العراق بالدماء، وجرت على شعبنا كل الويلات والمآسي التي عشناها طيلة 52 عاماً قاتمة السواد، ولاشك الأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب العراقي حتى اليوم هي نتاج لانقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963.
المجد لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.
المجد والخلود لقائد ثورة 14 تموز الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار.
المجد لشهداء الحركة الوطنية الذين قضوا تحت التعذيب في زنازين البعثيين الفاشست، والخزي والعار والاحتقار للقتلة المجرمين.


302
في الذكرى الثانية والخمسين لثورة الرابع عشر من تموز
دروس وعبر
القسم الأول 1/2

حامد الحمداني                                                    12 تموز 2010
عندما قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم كان في مقدمة القوى التي التفت حول الثورة وقيادتها واحتضنتها وذادت عنها من تآمر القوى البعثية والقومية والعناصر الرجعية المرتبطة بالإمبريالية هي الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان ذلك الموقف لهذه الأحزاب أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة ، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان.

لكن الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، ومن جانب الأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة، بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل.
هل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس ؟
من كان السبب فيما جرى ؟
ما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف ؟

في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه، وتشكلت لأول مرة في تاريخ العراق حكومة وطنية على الضد من إرادة الإمبرياليين.
لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني، وكان في مقدمة تلك الإنجازات :
1 ـ الخروج من حلف بغداد، وتحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية.

2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير العملة العراقية.

إصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتحرير الفلاحين الذين يشكلون 70% من نفوس العراق، وإنقاذهم من طغيان الإقطاع، وكان القانون يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى.

4 ـ إصدار القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق النفطية من شركات النفط، بعد أن رفضت تلك الشركات استثمارها لمنع حكومة الثورة في استخدام عائداتها في بناء البنية التحية للعراق، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب العراقي.

إصدار قانون تشكيل شركة النفط الوطنية كي تقوم باستثمار المناطق النفطية المسحوبة من شركات النفط وطنياً، للنهوض بالعراق في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والصحية والتعليمية، ومختلف الخدمات العامة.

السماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية وإطلاق حرية الصحافة وحرية تشكيل المنظمات والنقابات منذ انبثاق الثورة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم مسألة تأليف الأحزاب السياسية.

إزالة حزام الفقر حول بغداد، وتشييد مدينة الثورة، ومدينة الشعلة لإسكان مئات الألوف من الفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين وسكنوا تلك الصرائف حول بغداد والتي لا تتوفر فيها أي من الشروط التي تليق بالإنسان.

8 ـ أقامة علاقات اقتصادية وسياسية وفي كافة المجالات الأخرى مع سائر دول العالم على أساس المنافع المشتركة والاحترام المتبادل لسيادة واستقلال العراق.

أقامة جملة من المشاريع الصناعية التي كان يفتقدها العراق في مختلف الفروع، وامتصاص البطالة التي كانت مستشرية، وعمل جاهداً على رفع مستوى معيشة الشعب.

 10ـ توزيع مئات الألوف من الأراضي السكنية على المواطنين من ذوي الدخل المحدود، وتقديم القروض لهم لبناء المساكن فيها، ونشر التعليم في مختلف مناطق العراق من خلال أقامة ألوف المدارس في القرى والأرياف التي كانت محرومة منها.

ولا أريد أن أطيل في تعداد إنجازات الثورة، لكنني أستطيع أن أقول أن الزمان لو طال  بعمر الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تجعل من العراق أرقى بلد في المنطقة.

فالزعيم عبد الكريم قاسم، كما يتفق الجميع، وحتى أعدائه، لم يحقق أي مصلحة لنفسه أو لعائلته، لم يبني له قصراً، ولا حتى داراً متواضعة، ولم يتخذ له ديواناً ضخماً، ولم يتملك شيئا، ولم يتنقل بمواكب ضخمة من الحراسة والحماية، فقد كان محبوباً من قبل الشعب، كما كان حريصاً على أموال الشعب وكان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً كأي مواطن آخر، ولقد قُدر لي أن أزوره في مقره بوزارة الدفاع ضمن وفد لنقابة المعلمين في أواخر شهر شباط عام 1959، واطلعنا على مقره البسيط، وغرفة نومه المتواضعة جداً.
عبد الكريم قاسم لم يكن يحمل فكراً شوفينياً، بل على العكس من ذلك كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة، وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة، وضم العديد منهم في حكومته.

إذا الطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها، مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين سلطة الثورة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل في واقع الأمر تناقضاً أساسياً .
كان على أطراف السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم  قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث[الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني] أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، والمتمثلة بالولايات المتحدة وبريطانيا بالإضافة إلى حكومة عبد الناصر، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.

لماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟

إنصافاً للحقيقة أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء كانوا مسؤولين عما حدث، واليوم وبعد مضي 52 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بشعبنا العراقي بعربه وكورده وسائر مكوناته الأخرى نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد .
لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة تعاملها مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من جانب اليسار وليس من جانب القوى التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً.
 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً ، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبينا.

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لتدارس وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع، مع تحمل المسؤولية عن ذلك، إذ من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله !!.

ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة والحفاظ على لحمة الصف الوطني واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف، ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة والتي يمكن أن نلخصها بالتالي :

أخطاء الزعيم عبد الكريم قاسم:

1 ـ  لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل مسؤوليته الكاملة.

2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار
[القوى الديمقراطية]، وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء عديدة ما كان له أن يقع فيها، والتي سأتناولها  في الحلقة الثانية بحيث أصبحت لدى الزعيم القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة منه، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي، والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، وتهويل القوى الإمبريالية من خطورة الأوضاع في العراق، وتنامي قوة الحزب الشيوعي، وتخويف الزعيم عبد الكريم من نوايا الحزب ، وإلحاح قيادة الحزب على إشراكه في السلطة، فقرر تقليم أظافر الحزب، وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم .

لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على تلك الأخطاء بخطأ أعظم وأفدح حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب، مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963.

3 ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع المسألة الكردية
وضرورة اللجوء للحل السلمي، وتجنب الحرب، والاستماع إلى نصيحة الحزب الشيوعي في هذا الصدد.
 وفي المقابل أخطأت القيادة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني في جر الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة التي قادها الإقطاعيان [رشيد لولان] و[عباس مامند]، وحمل السلاح بوجه السلطة الوطنية،  ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة  وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان وعباس مامند المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [ هولمز] بالشيوخ المتمردين،  وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست ] ، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران .
 قاد الحزب الشيوعي حملة واسعة النطاق شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار [ السلم في كردستان والديمقراطية للعراق ]، وقد جوبهت تلك الحركة من قبل السلطة بالعنف والاعتقالات والسجون.

وعلى الرغم من أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لم يكن يحمل أفكاراً شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد مصطفى البارزاني، ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي، وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، كل ذلك يؤكد هذا الموقف لدى الزعيم.
لكن القيادة الكردية انزلقت نحو التعاون مع تلك القوى القومية التي نفذت انقلاب شباط 963، والتي كانت غارقة في شوفينيتها، وكراهيتها للشعب الكردي، والتي خدعت القيادة الكردية بوعود شفهية كاذبة، ولم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية بعد نجاح انقلابها سوى أقل من أربعة أشهر، منزلة الخراب والدمار بكردستان  بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية.

4 ـ لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية.
 ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، والقوى القومية الكردية.
 لقد استغلت الرجعية المتحالفة مع الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين  تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.

5 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط،
من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5 % من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة  والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط .

لقد كان على عبد الكريم قاسم أن يُدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه، لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 1963.

6 ـ لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض
مع قيادة الحركة الكردية،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963لإسقاط الثورة.
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية، إحدى أكبر مدن كردستان، أتابع مجريات تلك الحرب، وأتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل الوطنيون بعضهم بعضاً، على الرغم من قيام الحزب الشيوعي بحملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، وأدى موقفه هذا لتعرض رفاقه إلى حملة اعتقالات ومحاكمات للعديد منهم حيث حكم عليهم بالسجن لسنوات، ولقد كان لي شرف المشاركة في تلك الحملة، وتعرضت نتيجة ذلك  للاعتقال من قبل قوات الجيش في السليمانية، وتعرضت لتعذيب وحشي على أيدي أولئك الضباط الشوفينيين المجرمين بقيادة جلاد الشعب الكردي الزعيم[ صديق مصطفى ] وآمر الانضباط العسكري المجرم [ رشيد علوان المهداوي ] اللذين كان لهما دوراً فاعلاً في انقلاب 8 شباط 1963.
 وهكذا أصبح النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها، وبذلك يتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح.

7ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق
، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية ضد السلطة، وحماية المتآمرين.
 ومما يؤكد ذلك هو الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام  [مجيد عبد الجليل] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث، بالبصق في وجهه، فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له: { لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}.
 وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم .
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم، رئيس الجهاز[محسن الرفيعي] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للعقيد الشواف بالموصل، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.

كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها .

8 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم :

كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد، والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.

ولم يكن هناك ما يخيف الزعيم عبد الكريم قاسم على موقعه كقائد لثورة 14 تموز، حيث كان يتمتع بشعبية كبرى لم يتمتع بمثلها أي زعيم عراقي أو عربي من قبل، وكنت على يقين أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لو شاء أن يشكل له حزباً سياسياً آنذاك، ويشارك في الانتخابات فإن حزبه كان سيفوز على جميع الأحزاب، ولست أنا من يقول ذلك فقط، بل أن الحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد أعترف في أدبياته ونشراته الداخلية في رده على  الأفكار والدعوات التي ظهرت في صفوف الحزب داعية  إلى استلام السلطة أن هذه الشعبية التي نشهدها في الشارع العراقي هي شعبية الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يمجده الشعب.
 لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات]!،[وسياسة عفا الله عما سلف] وأطلق سراح المتآمرين المحكومين بالإعدام الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس]، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها، وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها، والوثوب على الحكم، وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة التي شهدناها وما زلنا نشهدها منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.


303
في الذكرى السابعة والأربعين

 لانتفاضة الشيوعيين في معسكر الرشيد ببغداد
في 3 تموز 1963

حامد الحمداني                                                     6/7/1010 
                                   

بعد وقوع انقلاب 8 شباط 1963، وحملة التنكيل بالحزب الشيوعي، واستشهاد الكثير من قياداته  وكوادره، وبعد امتصاص تلك الضربة الموجعة التي وجهها الانقلابيون له، بدأ الشيوعيون الناجون من الاعتقال بتجميع صفوفهم وتنظيمها من جديد، وكان هناك عدد من قياديي وكوادر الحزب مازالوا طليقين، قسم منهم لم يكن مكشوفاً، وقسم آخر كان في الاختفاء. وأخذ يعمل في الخفاء، وكان من بين الناجين من قيادة الحزب الرفاق [ محمد صالح العبلي] و[جمال الحيدري] و[عبد الجبار وهبي] و [ كريم أحمد الداؤد].
بدأ أولئك القادة حملة نشيطة لإعادة بناء الحزب من جديد، والنضال ضد الانقلابيين، وكانت هناك مجموعة كبيرة من العناصر الثورية الجريئة في صفوف الحزب، مستعدة لكل التضحيات في سبيل القضية التي ناضلوا من أجلها.
كما كان من بين الكوادر المتقدمة في الحزب التي استطاعت النجاة من الاعتقال الشهيد[إبراهيم محمد علي الديزئي] من مدينة مخمور، عضو اللجنة العمالية المركزية للحزب المتصلة مباشرة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والتي تمثل العمود الفقري لتنظيمات الحزب، حيث كانت تدير أكثر من 50 نقابة عمالية في كافة المشاريع الكبيرة والصغيرة في مختلف أنحاء العراق. (16)
 تتفرع من هذه اللجنة العليا ثلاث لجان هي :
1ـ اللجنة العمالية الكبرى : وتضم هذه اللجنة عمال المنشآت الكبيرة كالنفط والكهرباء والسكك.
2 ـ اللجنة العمالية الوسطى: وتضم عمال المشاريع الصناعية الكبيرة كالنسيج والمطاحن والمياه الغازية والجوت والبريد وعيرها من المشاريع الأخرى.
3 ـ اللجنة العمالية الصغرى:  وتضم عمال المطابع والأفران والمطاعم والمخازن والعلاوي وسائر المصالح الحكومية والأهلية.(17)
كان إبراهيم كادراً حزبيا بارزا عمل في المنظمات العمالية والفلاحية في كردستان العراق، ثم انتقل إلى بغداد واحترف العمل الحزبي تحت الاسم المستعار[ جهاد]، وعمل في الوقت نفسه ملاحظا في مطبعة الرابطة بالعيواضية العائدة للشخصية الوطنية  البارزة [ عبد الفتاح إبراهيم ]، وهي من كبريات المطابع في بغداد ، وقد استطاع إبراهيم بخلقه وإخلاصه في عمله من كسب محبة وثقة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم الذي صار يأتمنه في كل صغيرة وكبيرة.
 وفي الوقت نفسه حل محل الرفيق [مهدي أحمد الرضي]  بمسؤولية هيئة المشاريع الصغرى لتنظيم الحزب الشيوعي ، حيث كلف الحزب  مهدي الرضي، مسؤول اللجنة، بتولي مسؤولية مطابع الحزب السرية بناء على توصية أخيه سلام عادل ، وكان مهدي الرضي هو الذي رشح شخصيا إبراهيم لهذه المهمة.         
بعد وقوع انقلاب 8 شباط تلقى الحزب الشيوعي ضربة قاسية جدا لم يعرف لها مثيلاً من قبل ، فقد كانت مهمة الانقلابيين الأساسية سحق تنظيمات الحزب الشيوعي، وقد اعتقلت معظم قيادات وكوادر الحزب وجرى قتلهم بأساليب وحشية يندى لها جبين الإنسانية، حيث لم يدخروا وسيلة تعذيب إلا واستخدموها ضد المعتقلين.
عمل الشهيد إبراهيم  جاهدا  في ظل تلك الظروف القاسية والخطير من أجل ربط خلايا الحزب وإعادة التنظيم في الخط العمالي من جهة، وإعادة ربطها بقيادة الحزب المذكورة آنفاً من جهة أخرى، والتي كانت السبب في وقوعه في الفخ الذي نصبته له عصابات الحرس القومي بعد القبض على [محمد حبيب] المعروف بـأبي سلام، واعترافه بكون إبراهيم محمد علي هو مسؤوله الحزبي الذي يقود التنظيم.
وبحكم كون إبراهيم محمد علي مسؤولاً عن اللجنة العمالية الثالثة فقد كان المسؤول الحزبي لمحمد حبيب المسمى بأبي سلام، وعلى صلة مباشرة به، وكان محمد حبيب مسؤولاً حزبياً عن المجموعة الشجاعة التي قادت ونفذت انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963، بقيادة المناضل الجسور[حسن سريع] ، وكان إبراهيم يلتقي به في دار الكادر الحزبي [ خضير] بالقرب من ساحة الوثبة.
لقد شاءت الظروف أن تجمعني بالشهيد إبراهيم علاقة عائلية وثيقة، حيث كان قد تزوج شقيقة زوجتي المناضلة الشيوعية المعروفة[ رهبية محمد لطيف] ابنة المناضل الشيوعي البارز [محمد عبد اللطيف] وهو من رفاق فهد القدامى، حيث كان عضو في اللجنة المحلية للحزب في الموصل في الأربعينات ،و الذي قضى معظم سنوات عمره في السجون  وجرى اغتيال  ابنته الشهيدة [غنية] ذات الخمسة عشر ربيعاً من قبل الانقلابيين بزعامة العقيد الشواف في الموصل عام 1959.
  تم اقتران إبراهيم بزوجته رهبية قبيل انقلاب 8 شباط بوقت قصير، ولكني لم تتح لي الفرصة للالتقاء به إلا بعد الانقلاب، حيث كنت أمارس التعليم في مدينة السليمانية، وصدر بحقي إلقاء القبض في اليوم الأول لانقلاب شباط 63، وفصلت من الوظيفة. لكني استطعت النجاة من الاعتقال، ومكثت في السليمانية متخفيا حتى العشرين من حزيران، واضطررت إلى مغادرة السليمانية إلى بغداد بعد اندلاع الحرب في كردستان بمساعدة الرفاق الأكراد .
لم يكن لدي ملجأ آمن في بغداد، وقد استطاعت زوجتي الوصول إلى شقيقتها رهبية وزوجها الشهيد إبراهيم حيث كانا مختفيان  في دار شقيقه إسماعيل محمد علي، وعلى الفور دعانا للقدوم بشكل مؤقت ريثما يستطيع تأمين استئجار دار لنعيش فيه مختفين معا . كانت معي زوجتي وطفلاتي الثلاث، واستطاع  إسماعيل محمد علي ـ شقيق إبراهيم ـ أن يستأجر لنا داراً في الصليخ الجديدة بالقرب من دار أهل زوجتي، حيث انتقلنا إليه وكانت فرحتنا به كبيرة جداً، حيث استطعنا تحقيق الاستقلال دون أن نثقل على أحد أو نجلب المخاطر لأحد.
 ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، فقد عشنا أياماً كنت خلالها اكتشف كل يوم صفات وخلق وشجاعة ذلك الإنسان النبيل الذي اتصف بالبساطة، وسمو الخلق، والروح الجهادية العالية، والإيمان بالمبادئ، والاستعداد للتضحية اللامتناهي.
لقد حدثني الشهيد إبراهيم وزوجته رهبية عن تفاصيل الإعداد لحركة ثورية واسعة تطيح بحكم حزب البعث الفاشي كان من المقرر تنفيذها في 5 تموز، وتقتضي الخطة بالسيطرة على  معسكر الرشيد والقاعدة الجوية فيه، وإطلاق سراح الضباط المعتقلين في سجن رقم واحد في المعسكر المذكور، وهذا الدور كان قد أنيط سياسيا بمحمد حبيب، وتنفيذيا بقيادة المناضل الشجاع حسن سريع .
وكانت هناك مجموعة داعمة كان من المفترض إن تعمل خارج معسكر الرشيد ، وكانت صلاتها مع الحزب، وكان صلة الوصل بينها وبين الحزب احد الرفاق من أهالي تلعفر يدعى  عباس التركماني، وهو عامل في معمل الدرزي وبرايا للكاشي والموزائيك في منطقة النعيرية والقيارة قرب معسكر الرشيد وقاعدة الرشيد الجوية، وفي منطقة كمب سارة الملاصقة لمعسكر الرشيد التي كان يسكن فيها قائد الحزب الشهيد [جمال الحيدري] الذي كان يتابع بنفسه نشاط جماهير الحزب في منطقة الصرائف قرب نهر دجلة، ومعمل الزيوت النباتية شمال معسكر الرشيد، والتي كان يسكنها آلاف العوائل الفقيرة، وهم في غالبيتهم يشكلون جماهير الحزب، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من أبناء عشيرة البو عامر قرب المحمودية.
كانت ساعة الصفر هي إذاعة البيان الأول للانتفاضة من إذاعة بغداد حيث كان لدى الحزب مجموعة من الجنود المكلفين بحراسة دار الإذاعة مستعدين للقيام بالسيطرة عليها فجر يوم 5/7/1963.
كما تم وضع خطة بديلة إذا تعذر السيطرة على دار الإذاعة، وكانت الخطة تقتضي بالاستيلاء على محطة الكهرباء المحاذية لمعمل الأسلحة والمعادن حيث يمكن إذاعة البيان من مرسلة إذاعية موجودة داخل محطة الكهرباء الوطنية.                                                            كانت لدى الحزب خطة محكمة، وعلى نطاق واسع، ويشارك فيها رفاق ومناصرون من قطعات أخرى، وكان الجميع بانتظار أن يطلق سراح الضباط في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد ليتولوا قيادة القطعات التي أبدت كامل استعداها للمشاركة في الانتفاضة.
لكن محمد حبيب بدأ يتهرب من اللقاء مع إبراهيم في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الانتفاضة، وبات واضحا أنه أراد الانشقاق عن الحزب والاستئثار بالحركة لنفسه، ومن وراء ظهر المجموعة المنفذة بقيادة الشهيد حسن سريع، فأقدم على تغيير موعد تنفيذ الانتفاضة المقرر في 5 تموز إلى يوم 3 تموز، مدعيا أن ذلك قد تم بأمر الحزب، وقد تسبب محمد حبيب بعمله هذا إلى تصفيه خيرة قيادات وكوادر وقواعد الحزب.

حسن سريع قائد الانتفاضة:
كان حسن سريع على رأس تلك المجموعة المناضلة والمفعمة بالأيمان بقدرتها على خلق المعجزات، والتصدي لطغيان العصابة التي اغتصبت السلطة في انقلاب 8 شباط الفاشي في ذلك العام 1963 ودحرها ، وعلى الرغم من كونها مجموعة من بقايا خلايا الحزب الشيوعي التي سلمت من الانكشاف والاعتقال والسجون والقتل، آلت على نفسها أن تناضل لإسقاط  سلطة البعث، ذلكم هو الرجل الشجاع أبن الخامسة والعشرين الشهيد البطل [حسن سريع].شاب نحيف متوسط البنية ذو سحنة سمراء وعينان صغيرتان سوداوان، من مواليد قضاء شثاثة [ عين التمر] في أوائل الأربعينات، و ينتمي إلى عائلة من بني حجام القادمة من مدينة السماوة، ويرى البعض من رفاقه أنه من آل الأزيرج المعروفة بمواقفها الوطنية الشجاعة.(18)
ويصفونه رفاقه الذين ساهموا في انتفاضة معسكر الرشيد أنه كان ذو شخصية فذة، ومحترم جداً في وحدته العسكرية من قبل الجميع بما فيهم الأعلى منه رتبة حيث تمييز بالقدرة الفائقة على الحوار والإقناع والتمسك بالصدق في القول، والعمل ، حافظاً لوعوده ، حريصاً على أسرار حزبه ورفاقه الذين شاركوه في تلك الانتفاضة الشجاعة.(19)
درس الشهيد حسن سريع الابتدائية في شثاثة، وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب لعائلته الكادحة  تطوع للجيش بمدرسة قطع المعادن المهنية بمعسكر الرشيد في بغداد، ولذكائه الوقاد، وخلقه العالي جرى اختياره معلماً في نفس المدرسة، ورُفع على رتبة نائب عريف ، وفي الوقت نفسه التحق بالثانوية المسائية لإكمال دراسته وتطوير مستواه العلمي.(20)
انطلاق الانتفاضة
كان القائد الثوري الميداني الشهيد حسن سريع قد استطاع بجهاديته ونشاطه الدؤوب تجميع وتهيئة العناصر التي أبدت استعدادها للمشاركة في الانتفاضة مع علمها الأكيد بالمخاطر التي تنتظرهم سواء خلال تنفيذ الانتفاضة  التي لا بد أن يسقط فيها الضحايا، أو في حالة فشلها، لكن الروح الثورية التي كانت عامرة بها نفوسهم الجريئة هي التي قادت اندفاعهم لتنفيذ الانتفاضة بكل جرأة ورباطة جأش.
لقد كانت الانتفاضة تحرك ثوري جرئ ينطوي على مهاجمة معسكر الرشيد القريب من بغداد والسيطرة عليه، وإطلاق سراح الضباط الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين المعتقلين في سجن رقم واحد داخل المعسكر، وكان عددهم يقدر بأكثر من 1300 ضابط من مختلف الرتب والأصناف، بينهم مجموعة كبيرة من الطيارين، وكان إطلاق سراحهم وسيطرتهم على المعسكر وقاعدته الجوية  يمكن أن يقلب موازين القوى ويقتلع حكم البعث، ذلك أن الجنود وضباط الصف، كانوا لا يدينون بالولاء لتلك السلطة الغاشمة، التي أغرقت العراق بالدماء، بل كانوا على العكس من ذلك يدينون بالولاء لثورة الرابع عشر من تموز التي أغتالها الانقلابيون، واغتالوا قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار.
كان تحرير الضباط من السجن، وقيادتهم للجنود وضباط الصف، والعديد من الضباط ذوي الرتب الصغيرة الذين لم يكشفهم الانقلابيون، والاستيلاء على قاعدة الرشيد الجوية، يشكل تهديداً خطيراً لسلطة الانقلابيين. وبالفعل تهيأت تلك المجموعة للعمل في فجر 3 تموز  1963، وتحت جنح الظلام تحرك قائد المجموعة ورفاقه من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية، ومجموعة من المدنيين الذين كانوا قد لبسوا الملابس العسكرية، وحمل بعضهم رتب الضباط، والتحق بهم مجموعة أخرى من الجنود وضباط الصف من وحدات أخرى منطلقين نحو كتيبة الهندسة، وعندما أصبحت المجموعة قريبة جداً من باب الحرس صرخ حسن سريع بأعلى صوته داعياً الحرس إلى إلقاء أسلحتم، وفوجئ الحرس بمشاهدة مجاميع من الجنود المسلحين تتقدم نحوهم فأسرعوا إلى إلقاء السلاح وأعلنوا استسلامهم. (21)
 واندفعت القوة التي يقودها حسن سريع لتسيطر بسرعة خاطفة على كتيبة الهندسة، ومن ثم السيطرة على أغلب أقسام معسكر الرشيد حيث يضم أكبر قوة عسكرية في بغداد، وحيث تضم القاعدة الجوية بطائراتها  أعداداً كبيرة من الدبابات والمدرعات، وتمكنت المجموعة  من اعتقال وزير الخارجية [طالب شبيب] ووزير شؤون رئاسة الجمهورية [حازم جواد] والقائد العام للجيش الشعبي [منذر الونداوي ]،حيث كانوا متواجدين داخل المعسكر آنذاك، واعتقال عدد من الضباط الموالين لسلطة البعث، وقاموا بتجهيز عدد من الطائرات بالعتاد انتظاراً لتحرير الضباط الشيوعيين والقاسميين من سجن رقم واحد، وكان من بينهم العديد من الطيارين، و ضباط من مختلف الصنوف العسكرية . (22)
كانت المجموعة الشجاعة تلك تعوّل على  تحرير الضباط السجناء ليتولوا قيادة  القطعات العسكرية في معسكر الرشيد والمعسكرات الأخرى في التاجي وأبو غريب والمحاويل، وكان في تلك المعسكرات مجموعات كبيرة من الجنود وضباط الصف المستعدين للقيام بمهماتهم في اللحظة الحاسمة، وكان قد جرى تبليغهم بساعة الصفر التي تبدأ حال وصول الضباط المطلق سراحهم من السجن لتلك الوحدات.
كما أجرت الحركة اتصالات مع العديد من التنظيمات الشيوعية في بغداد والفرات الأوسط ، وبعض المحافظات الأخرى، وكانت المجموعة يحدوها الأمل الكبير في انضمام الجنود وضباط الصف الذين كانوا يدينون بالولاء لثورة 14 تموز، وللزعيم عبد الكريم قاسم، وكانت الحركة من التنظيم والتصميم والاندفاع والشجاعة ما يؤهلها لتحقيق النصر لو تمكنت من تحرير الضباط من السجن داخل المعسكر.
 لكن تخاذل قائد الدبابة الوحيدة المتقدمة نحو باب السجن، والتي كان يقودها الجندي [ خلف شلتاغ]، ودفاع قوة حراسة السجن المستميتة هي التي أخرت كسر أبواب السجن وإطلاق سراح الضباط ، وأعطت الفرصة للسلطة  لجلب قوات كبيرة مجهزة بأسلحة ثقيلة من خارج المعسكر، حيث اشتبكت تلك القوات مع المجموعة الثورية المهاجمة، ودارت معركة شرسة بين الطرفين قبل تمكن المجموعة من كسر باب السجن  لتحرير الضباط .
 و بسبب عدم وجود أي تكافئ بين الطرفين من جهة، واعتماد المجموعة على الأسلحة الخفيفة من جهة أخرى استطاع انقلابيو شباط إجهاض الانتفاضة، بعد استشهاد عدد كبير منهم، وتم اعتقال ما تبقى من المجموعة، حيث نقلوا إلى مقر هيئة الحقيق لزمرة وناظم كزار، وعمار علوش، وخالد طبرة وغيرهم من القتلة حيث تعرضوا لصنوف من  التعذيب الوحشي على أيديهم، واستشهد قسم منهم، وأحيل القسم الآخر إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليهم بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم بهم،  وكان على رأس  المعدومين القائد الشجاع حسن سريع.
على أثر فشل انتفاضة معسكر الرشيد جرت المداولات بشأن الضباط المعتقلين، وقد أصر عبد الغني الراوي، وصالح مهدي عماش والعديد من الضباط معهم على تنفيذ حكم الإعدام بهم والتخلص منهم مرة وإلى الأبد.
إلا أن الرأي استقر في النهاية على قتلهم بطريقة إجرامية أخرى، حيث بادرت السلطة الفاشية بنقل كافة الضباط المعتقلين إلى سجن [نقرة السلمان] الواقع في البادية الجنوبية حيث تم حشرهم في عربات الحمل الحديدية التي ليس فيها أي تهوية، وفي ذلك الشهر الشديد الحرارة من أشهر الصيف، وكان الفاشيون يرمون بذلك إلى القضاء عليهم بسبب شدة الحرارة، وفقدانهم للسوائل، ولولا شهامة سائق القطار الذي علم  بأن ما تحمله عربات النقل هم الضباط المعتقلين من شيوعيين وقاسميين، وقاد القطار بأسرع ما يمكن حتى مدينة السماوة لكان هلك الجميع .
 كما كان للموقف الوطني البطولي لأبناء السماوة، رغم أنف جلاوزة السلطة، الذين استقبلوا المعتقلين، وقدموا لهم المياه واللبن والملح للتعويض عن السوائل المفقودة لكان الكثير منهم قد هلك، فقد كان المعتقلون في وضع خطير جداً، وقد تم بعد ذلك نقل المعتقلين بواسطة السيارات إلى سجن نقرة السلمان، في وسط الصحراء بعيداً عن أهلهم وذويهم .
اندفعت قطعان الفاشست من عصابات الحرس القومي بعد إجهاض انتفاضة الرشيد ضد انقلابيي 8 شباط في حملة محمومة ضد العناصر الشيوعية التي ساهمت في الإعداد وتنفيذ الانتفاضة في الثالث من  تموز من ذلك العام، وضد من تبقى من العناصر القيادية والكوادر الحزبية، فقد تمكنت تلك العصابات من الوصول إلى الشهداء قادة الحزب [ جمال الحيدري ] و[ محمد صالح العبلي ] [عبد الجبار وهبي]ـ أبو سعيد و ،وتمت تصفيتهم تحت التعذيب الشنيع.

اعتقال إبراهيم محمد علي واستشهاده:

كنا في تلك الليلة أنا وزوجتي والشهيد إبراهيم وزوجته جالسين أمام التلفاز نستمع إلى الأخبار، وقد اشتد بنا الحزن لفقد الرفاق، وقد تصاعدت بنا المخاطر من كل جانب. كانت ليلة الثامن عشر من تموز عام 1963 أشبه بكابوس رهيب، فقد اشتدت الحملة الفاشية ضد الشيوعيين، ولاسيما أن كلانا بالإضافة إلى زوجة إبراهيم ملاحقين منذ اليوم الأول لوقوع الانقلاب المشؤوم. ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، أبلغني الشهيد إبراهيم في تلك الليلة بأنه سوف يخرج في الصباح لمدة ساعتين في مهمة عاجلة، ثم سكت برهة، وعاد ليقول لي أن خروجي كما تعلم فيه الكثير من المخاطر، أنا معروف في بغداد، ولاسيما من بعض العناصر التي انهارت وتعاونت مع البعثيين، أما أنت فلست معروفاً هنا ولم يسبق لك العمل الحزبي في بغداد، ولذلك ومن أجل الصيانة فيما إذا حدث أمر ما لي فإني سأقول أنكم جئتم إلى بغداد كضيوف عندنا لتباركوا لنا زواجنا، أرجو أن تؤكد كلامي هذا وتصر عليه. في تلك اللحظة شعرت لأول مرة أن الخطر سيداهمنا، وشعرت بثقل تلك الليلة، ويبدو أن الشهيد كان لديه نفس الشعور.
التفت إلى إبراهيم قائلاً: أرجوك يا إبراهيم إن لم تكن هناك ضرورة ملحة للخروج أن لا تخرج، فالظرف عصيب، والحملة البعثية على أشدها لملاحقة الشيوعيين الذين لا زالوا طليقين، لكنه أجابني على الفور أنه لا بد من الخروج لأمر ضروري، وأرجو أن لا تقلق أبداً، وكل ما قلته لك هو من باب الاحتياط ليس إلا.
وفي صباح اليوم التالي خرج إبراهيم مبكراً، وقد استبد بنا القلق، وحاولت أن أكتم قلقي عن زوجتي، لكني لم استطع إخفاء ذلك، ومرت الساعتين ولم يعد إبراهيم، وهو المعروف بدقة مواعيده، وبدأنا أنا وزوجتي، حيث كانت زوجته قد خرجت لمراجعة الطبيب، نعد الدقائق والثواني ونحن على أحر من الجمر، ومرت ساعة أخرى ولم يعد إبراهيم، كانت تلك الساعة كأنها سنوات طويلة، وتصاعد شعورنا بالقلق عليه، إن مواعيده مضبوطة، لا بد أن أمراً ما قد حصل له، وبينما نحن على تلك الحال وإذا بطرقات شديدة ومتتالية على الباب، واشتد القلق بنا من يا ترى هو الطارق؟                                        .                                        تقدمت نحو الباب قائلاً من الطارق؟ وإذا بصوت إبراهيم يخرج من فمه بصعوبة بالغة دلت على أنه في وضع سيئ جداً.
 فتحت الباب ويالهول ما رأيت، إبراهيم مكبل بالحديد، وقد غطت جسمه  الدماء من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وهو لا يقوى على الوقوف والكلام، وحوله ما يزيد على عشرة من قطعان الفاشست أفراد الحرس القومي، وقد شهروا رشاشاتهم بوجوهنا مما أرعب أطفالي، وجعلهم يصرخون عندما شاهدوا إبراهيم على تلك الحال.                                     
 سارعت زوجتي للتخلص من هويتي المزورة حيث استطاعت تمزيقها ورميها في المرافق، وأخذ الفاشست يفتشون الدار حيث قلبوا أثاثه رأساً على عقب بحثاً عن أية أدلة أو مستمسكات حزبية، وطلبوا مني أن أرافقهم مع إبراهيم، وهكذا أصبحت حياتنا معلقة على شعرة دقيقة. وفي تلك الأثناء صادفت عودة زوجة إبراهيم من المستشفى، وما أن اقتربت من الدار، ووجدت أن الوضع غير طبيعي حوله حتى استدارت عائدة لكي لا يراها أحد، فقد كانت هي الأخرى مطلوبة للقبض عليها.
لكن عصابة الفاشست لمحتها وهي ترجع هاربة من براثنهم فلحقوا بها واستطاعت الإفلات منهم في بادئ الأمر حيث تمكنت من ركوب حافلة الركاب.                                           
لكنهم لحقوا بالحافلة، وأمروا السائق بالتوقف، وصعدوا إلى الحافلة والقوا القبض عليها، وقد تعرضت للتعذيب الشنيع على أيديهم القذرة لفترة طويلة في ملعب الإدارة المحلية بالمنصور الذي اتخذه البعثيون سجنا للنساء، فقدت على أثرها الجنين الذي كان سيحمل اسم الشهيد إبراهيم، فقد أجهضت بسبب التعذيب الذي تعرضت له، وأحيلت إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليها بالسجن لمدة 7 سنوات ومراقبة الشرطة لمدة سنتين، ولم يطلق سراحها إلا في عهد عبد الرحمن عارف حيث استدعاها رئيس الوزراء آنذاك طاهر يحيى، وبعد نقاش حامٍ معها أوعز طاهر يحيى بإطلاق سراها على أن تخضع لمراقبة الشرطة المحكومة بها وأمدها سنتين.
وقبل أن يأخذنا الحرس القومي معهم، طلبوا من زوجتي إخلاء الدار وتسليم مفاتيحه لهم، حيث أمروا اثنان من المجموعة البقاء والمبيت في الدار ظننا منهم أن الدار وكر حزبي، على أمل إلقاء القبض على من يتردد على الدار، تم  جرى نقلنا إلى مقر هيئة التحقيق البعثية التي كان يشرف عليها[ ناظم كزار] و[عمار علوش] و[خالد طبرة] و[عباس الخفاجي] وهو شيوعي مرتد تعاون مع البعثيين، ومارس أشد أنواع التعذيب مع رفاق حزبه، وكان البعثيون قد اتخذوا مقر محكمة الشعب لتكون مقراً للهيئة التحقيقية، ومركزاً للتعذيب والقتل الذي مارسوه ضد العناصر الشيوعية.
 وعند وصولنا إلى المقر استقبلنا الجلاد [ناظم كزار] الذي عرفت اسمه من المعتقلين، حيث تم إدخالنا غرفة التعذيب.   
   كان في وسط الغرفة رجل فاقد الوعي ممداً على الأرض، وفي الحال التفت نحوي ناظم كزار قائلاً: هل تعرف هذا؟ مشيراً للشخص الممد على الأرض، وقد أجبته على الفور: ومن أين لي بمعرفته؟ لكنه فأجابني بأن هذا هو [أبو سلام]. وقد أجبته على الفور : ومن هو أبو سلام ؟ وجاء جوابه ضربة شديدة على رأسي وهو يصرخ كالثور الهائج: ألا تعرف من هو أبو سلام ؟ ألم تسمع بحركة الرشيد؟ وقد أجبته نعم لقد سمعت بما جرى في معسكر الرشيد، لكني لا أعرف من هو أبو سلام، ولا اسكن أنا في بغداد، وليس عندي أي علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما في الأمر أن شقيقة زوجتي قد تزوجت، وقد جئت بصحبة زوجتي مع أطفالنا لمباركة زواجها والعودة من حيث أتينا.                                                                    كان علي أن أعمل جهدي على إقناعهم بأني لا صلة لي بالسياسة والأحزاب لكي أنفذ بجلدي من مجزرة هؤلاء المجرمين، وفي حقيقة الأمر فقد كان علي أمراً بإلقاء القبض، ولوا أنهم سألوا عني من أي جهة أمنية لكان مصيري كمصير إبراهيم. في تلك اللحظة التفت ناظم كزار إلى عباس الخفاجي قائلاً له : خذه إلى الموقف فإن قضيته متعلقة بقضية إبراهيم محمد علي.
تم نقلي إلى إحدى غرف التوقيف، كان هناك ثلاثة غرف وكل غرفة تضم ما يزيد على الأربعين موقوفاً وهم جميعاً من المشاركين في انتفاضة الرشيد، وأنا الشخص الغريب بينهم، وكل ما يعرفونه عني أنني قد اعتقلت مع إبراهيم محمد علي. كانت الغرفة مكتظة بالموقوفين في ذلك الصيف الحار حيث يتعذر على الإنسان أن يجد له مكاناً كافياً لكي يتمدد أو ينام، وكانوا يخرجونا مرة واحدة يومياً للمرافق على أن لا تتجاوز حصة كل واحد في المرافق عن الخمس دقائق، حيث يهجم الحرس على من يتأخر بأعقاب البنادق، ويمعنون بنا ضرباً.                       
  أما الشهيد إبراهيم فقد أبقوه في غرفة التعذيب الرهيبة وهو في حالة يرثى لها، وبدءوا بممارسة أشد أنواع التعذيب بغية الحصول منه على أي اعترافات، ولاسيما وأن محمد حبيب [ أبو سلام ] كان قد اعترف لهم أنه مسئوله الحزبي، واستمروا في ضربه حتى فقد الوعي.                         .                                                                                         كان هناك أحد أفراد الحرس، وعلى ما أتذكر كان اسمه صبار، يتردد علينا في الموقف، وأثناء خروجنا إلى المرافق، كان يبدوا عليه الطيب، لكنه كان حذراً جداً من الحديث مع الموقوفين، حيث استطاع أن يحدثني بضع كلمات فقط عن إبراهيم قائلا لي: [إنه صلب وشجاع، لم يحصلوا منه على كلمة واحدة، لكن حياته في خطر، لقد كسروا أضلاعه وأطرافه. وفي اليوم الثالث استطاع الهمس في أذني:[ إبراهيم قضى بطلاً وقطعت أوصاله، والقيت في نهر دجلة.
 لم استطع تحمل الصدمة، وبدأت الأرض تدور من حولي، وانهالت الدموع من عيناي وأنا لا أستطيع أن افعل شيئاً، يا لهول الصدمة، ويا لعظم الخسارة، لقد تمنيت أن أموت بدلاً عنه،  أي نوع من الوحوش هذه الزمرة التي لا تعرف معنى لحقوق الإنسان!!.
 لقد انقطع الخيط الذي كان القتلة يريدون من خلاله التوصل إلى حقيقة علاقتي بأبراهيم فكان صموده وبطولته الخارقة هي العامل الحاسم في إنقاذي من أيدي الجلادين البعثيين الفاشست، وبقائي على قيد الحياة. أما الشهيد إبراهيم فستبقى ذكراه خالدة في ذاكرتي ما حييت كإنسان نبيل ، ومناضل شجاع صمد تحت أيدي جلاديه حتى الموت دون أن ينطق بكلمة واحدة عن أسرار الحزب، وبذلك أنقذ الكثير من رفاق الحزب من الوقوع في أيدي الجلادين.
ملاحظة: الموضوع مقتطع من كتابي [ سنوات الجحيم] أربعون عاماً من حكم البعث الفاشي في العراق، ويمكن الإطلاع على الكتاب في موقعي على الانترنيت  وفي موقع الحوار المتمدن كذلك.
www.Hamid-Alhamdany.com

304


في الذكرى التسعين لثورة العشرين
30 حزيران 1920


حامد الحمداني                                                               3/7/2010

لم يكن حلم الشعب العراقي التواق للتحرر من هيمنة الاستعمار العثماني، وينال حريته واستقلال وطنه العراق ، ليقع تحت هيمنة الاستعمار البريطاني الجديد، وتنكر بريطانيا وفرنسا لوعودهما بالحرية والاستقلال للعالم العربي، وتبين أن هاتين الدولتين قد تقاسما العالم العربي فيما بينهما بموجب معاهدة [ سايكس بيكو[ التي فضحها زعيم الثور الاشتراكية في روسيا فلادمير لنين بعد انتصار ثورة 17 أكتوبر.
فلم يكد يمضِ وقت طويل على الاحتلال البريطاني للعراق في أواخر عام  1915حتى تكشفت كامل الأهداف الاستعمارية لبريطانيا، وتصميمها على إدامة هيمنتها على العراق، فقد أصدرت عصبة الأمم، التي كانت تهيمن عليها بريطانيا صك الانتداب البريطاني على العراق، في 17 حزيران 1920، وجاء فيه:

{حيث أن حكومة جلالته قد تقررت وكالتها في خصوص العراق، فنتوقع جعل العراق مستقلاً ، تضمن استقلاله جمعية عصبة الأمم، وتكليف الحكومة البريطانية بالمسؤولية في حفظ السلم الداخلي والأمن الخارجي، وبعد انقضاء الإدارة العسكرية سنعطي السلطة للسير [بيرسي كوكس ] لتنظيم مجلس شورى تحت رئاسة عربي }.

   وهكذا كشف صك الانتداب الأهداف الحقيقية للسياسة البريطانية، وأثار صدوره موجة غضب عارمة لدى كافة فئات الشعب العراقي التواق للحرية والانعتاق من العبودية، وأخذت شرر ذلك الغضب تنذر بوقوع أحداث جسيمة.

كانت اجتماعات قادة التحرر الوطني في تلك الأيام تتوالى في المساجد والدواوين في مدن بغداد والحلة والنجف وكربلاء وغيرها من المدن العراقية.
 كما كانت الاتصالات مع رؤساء العشائر تجري على قدم وساق، وأجراس الثورة تدق، وأصواتها تتعالى شيئاً فشيئاً لتملئ أسماع العراقيين جميعاً، فيما كان المحتلون البريطانيون يزدادون هستيرية وعنفاً في قمع نشاطات الوطنيين، حيث منعوا [المواليد] التي كان يجتمع خلالها الناس، حيث تلقى الخطب الوطنية فيها .
 فقد أصدر القائد العام البريطاني قراراً في 12 آب 1920 بمنعها، وأنذر بإنزال أشد العقوبات بحق المخالفين، وأقرن القائد أمره بالأفعال، فأقدم على إعدام ستة من المناضلين الوطنيين، لتحديهم القرار، وهم كل من الشهداء:
1 ـ سليمان أحمد  2 ـ حسين أحمد  3ـ محمد سلمان  4 ـ صالح محمد 5 ـ أحمد عبد الله  6 ـ سامي محمود . وقد عرف هؤلاء الشهداء بمواقفهم البطولية، وجرأتهم في تحدي الاحتلال البريطاني، وأدى إعدامهم إلى هياج الرأي العام العراقي، ودفعهم إلى التظاهر ضد الاحتلال الغاشم.
 كما رفع المشاركون في التظاهر مذكرة للسلطات البريطانية تضمنت جملة من المطالب كان منها:
1 ـ تأليف مؤتمر يمثل الشعب العراقي، ليقرر شكل الإدارة الوطنية وعلاقاتها بالدول الأجنبية.
2 ـ إطلاق حرية الصحافة والمطبوعات، ليستطيع الشعب التعبير عن آماله وتطلعاته الوطنية.
3 ـ رفع الحواجز البريدية، والبرقية بين أنحاء البلاد، وبينها وبين الأقطار الأخرى.
كان الشعب العراقي في تلك الأيام ينتظر مَنْ يطلق الطلقة الأولى، لتنبعث شرارة الثورة إلى شتى أنحاء العراق، بعد أن أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال الشيخ  [شعلان أبو الجون ] المعروف بعدائه للاحتلال، وسبب اعتقاله هيجاناً كبيراً في صفوف العشائر .

انطلاق ثورة العشرين :

صمم أبناء العشائر على إطلاق سراح الشيخ شعلان، وتحدي قرار المحتلين باعتقاله، فانطلقت عشائر الرميثة تهاجم السجن الذي أودع الإنكليز فيه الشيخ شعلان، وتم تحريره من الاعتقال، وكانت هذه العملية إيذاناً ببدء اشتعال نار الثورة، وبدء المعارك بين الشعب العراقي والمحتلين.

ففي مساء يوم 6 تموز 1920 توجهت قوة عسكرية بريطانية تضم 2000 ضابط وجندي بقيادة الكولونيل [دي مارفين ] نحو الرميثة التي سيطرت عليها قوى الثورة، في محاولة لفك الحصار عن القوات البريطانية المتواجدة هناك، فكانت [معركة العارضيات] التي يفتخر بها أبناء العشائر الثائرة والشعب العراقي كافة، حيث لم تستطع القوات البريطانية من الوصول إلى[ الرميثة]، نظراً للمقاومة الباسلة التي واجهتها تلك القوات، حيث تم إيقافها على بعد 7 كيلومترات منها، بعد معركة دامية دامت 17 ساعة متواصلة، استبسل فيها أبناء الشعب، واضطر قائد الجيش البريطاني إلى التراجع والانسحاب نحو الديوانية.
لكن تلك القوات لم تستطع الوصول إلى الديوانية، حيث جوبهت بقطع الطريق عليها، وقلع السكة الحديدية التي كانت القوات البريطانية تستخدمها في الانسحاب، وجوبهت بوابل من الرصاص من قبل العشائر الأخرى التي هبت لدعم الثورة في الرميثة، وهرب قائد الحملة البريطانية لينجو بنفسه، تاركاً قواته تحت رحمة الثوار الذين استطاعوا قتل أعداد كبيرة منهم، وتم أسر من بقي منهم على قيد الحياة، واستولى الثوار على جميع أسلحة القوة البريطانية، وقد بلغ عدد القتلى البريطانيين زهاء 260 فرداً.
ولما بلغ الأمر إلى قائد القوات البريطانية [ الميجر ديلي ] أمر بإعداد قوة أخرى قوامها 5000 ضابط وجندي مجهزين بكامل المعدات الحربية، واستعدت قوى الثورة للمعركة القادمة، وأخذت تنظم صفوفها، وترتب استحكاماتها ، وتحفر الخنادق في منطقة العارضية، على بعد 7 كم من الرميثة استعداداً لمجابهة قوات الاحتلال الجديدة بقيادة [ الميجر كونتنكهام ]، حيث وصلت تلك القوات إلى[الحمزة ] في 16 تموز 1920، تحت غطاء جوي من الطائرات الحربية.

 أبدى الثوار مقاومة باسلة منقطعة النظير، وانزلوا بقوات الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات .
وامتد لهيب الثورة إلى [ الرارنجية ]، التي ضربت مثلاً رائعا في البطولة والفداء، وقامت قوات الثورة بمحاصرة مدينة الكوفة في أواخر شهر تموز 1920 من جميع أطرافها، مشددون الضربات على القوات البريطانية المحاصرة فيها، والتي أصبح موقفها في غاية الإحراج، وطلبت النجدة من القائد البريطاني في الحلة، الذي أسرع إلى إرسال قوات كبيرة لفك الحصار عن القوات المحاصرة في الكوفة.

 تقدمت القوات البريطانية باتجاه المدينة حتى وصلت إلى [ الرارنجية ]، التي تبعد 12 كم عن مدينة الحلة، و8 كم عن [ الكفل ] وعسكرت هناك .
واستعد الثوار لملاقاة القوات البريطانية في منطقة الكفل، وقسموا قواتهم إلى قسمين، قسم أخذ مواقعه على طرف شط الهندية الشرقي، والقسم الثاني أخذ مواقعه على امتداد سكة القطار التي تربط الحلة بالكفل، وكانت قوات الثورة، مدفوعة بإيمانها بعدالة قضيتها، قد عقدت العزم على التصدي لقوات الاحتلال المدججة بشتى أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة، وهي لا تملك سوى الأسلحة الخفيفة، من بنادق قديمة ومسدسات وفؤوس ومكاوير، ولكنها كانت تملك الأيمان بعدالة القضية التي تناضل من أجلها، والإصرار على التحرر من ربقة الاستعمار الجديد، فيما كان الجنود البريطانيون الذين أتعبتهم الحرب يحاربون من أجل ملئ جيوب الرأسماليين الإمبرياليين.
كانت ثلة من الجنود البريطانيين برشاشاتهم الثقيلة قد أخذت مواقعها واستحكاماتها عند قنطرة على [قناة الرارنجية ]، وعندما أزفت ساعة الهجوم، انقضّتْ قوات الثورة على القوات البريطانية عند الجسر، وما هي إلا برهة حتى وقع الجسر في أيديهم ، فيما التحمت قوات الثورة من الجهتين مع القوات البريطانية في معركة شرسة ومتلاحمة بحيث تعذر على قوات الاحتلال استخدام المدافع في القتال، وكانت المعركة تجري بالبنادق والسيوف والفؤوس والمكاوير، وكان الثوار يرددون الأهزوجة الشعبية المشهورة { الطوب احسن، لو مكواري ، فقد تغلب المكوار على السلاح البريطاني، واندحرت قوات الاحتلال، وهرب قائد الحملة تاركاً جثث المئات من أفراد قواته تغطي أرض المعركة .
وفي الوقت الذي كانت قوات العشائر في الجنوب تخوض المعارك ضد المحتلين  كان رصاص الثوار في كردستان ينطلق بغزارة ضد المحتلين هناك، فقد هب ثوار كردستان بوجه المحتلين، ووقعت بين الطرفين معارك شرسة في  [السليمانية وعقره وكفري].
وتمكنت قوات الثورة في [كفري ] بقيادة [ إبراهيم خان ] في أواخر تشرين الأول 1920 من الاستيلاء على المدينة وتحريرها من سيطرة قوات الاحتلال، وقتل القائد البريطاني [ جاردن ]، واستمر لهيب المعارك ضد المحتلين في المنطقة 23 يوماً، قبل أن تتمكن القوات البريطانية التي وصلتها نجدات جديدة من إعادة احتلالها.
لقد امتد لهيب الثورة إلى كل بقاع الوطن، وانغمر فيها عدد كبير من رجال الدين  وشيوخ العشائر والمثقفين، والعمال، والفلاحين الشجعان الذين كانوا عماد الثورة، وكانت الثورة، على الرغم من التأخر الذي سببه الاستعمار العثماني الطويل، على درجة عالية من التنظيم والتخطيط والدقة، ويستدل على ذلك من التوجيهات التي كانت تصدرها قيادات الثورة إلى القوات المشاركة فيها، والتي جاء فيها التوجيهات التالية:
1 ـ يجب على كافة الأفراد أن يفهموا بأن المقصود من هذه الثورة إنما هو طلب الاستقلال التام .
2 ـ يجب أن يهتف الجميع للاستقلال في كل ميادين القتال.
 3ـ يجب التمسك بالنظام، ومنع الاعتداء، فلا نهب ولا سلب، ولا ضغائن قديمة ولا أحقاد .
4 ـ يجب تأمين الطرق، وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة.
5 ـ بذل الهمة لحفظ الرصاص، فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة.
6 ـ يجب الاعتناء بالأسرى، ضباطاً وجنوداً، إنكليزاً كانوا أم هنوداً.
7 ـ المحافظة على أعمدة الهاتف، والأسلاك لضمان استمرار الاتصالات.
8 ـ الاهتمام بقطع السكة الحديدية، ونسف الجسور، لمنع قوات الاحتلال من استخدامها.
9 ـ الحفاظ على كافة وسائل النقل التي تقع في أيدي قوات الثورة، والاستفادة منها.
10 ـ المحافظة على الأسلحة المصادرة من العدو، وإدامتها لغرض استخدامها ضده.
11 ـ عند تحرير أي مدينة، يجب الاهتمام بتشكيل إدارة وطنية فيها، والاهتمام بالأبنية الحكومية، وعدم هدمها أو إحراقها والمحافظة على الوثائق فيها.
12 ـ المحافظة على المستشفيات وأدواتها وأجهزتها والأدوية الموجودة فيها.
13 ـ الرفق بالجرحى وإسعافهم، والاهتمام بهم، والعمل على إنقاذ حياتهم.
هذه هي الوصايا التي عممتها قيادة الثورة على قواتها، وهي تمثل أرقى درجات التنظيم في إدارة شؤون الثورة، والحرص على سمعتها، والتحلي بالخلق السامي في معاملة الأسرى والجرحى، والاهتمام بمرافق البلاد من عبث العابثين  وهي تدل دلالة أكيدة على الشعور العالي بالمسؤولية.

المحتلون يستقدمون قوات كبيرة من خارج البلاد لمجابهة الثورة:

بعد كل تلك الضربات القاسية التي وجهتها قوى الثورة لقوات الاحتلال البريطاني، وانتشار لهيب الثورة إلى كافة أنحاء العراق لجأ المحتلون إلى استقدام قوات كبيرة من خارج البلاد لمجابهة قوى الثورة الوطنية، وجلبوا مختلف الأسلحة والمعدات الثقيلة لغرض إخماد لهيب الثورة، وخاضت تلك القوات معارك شرسة دامت طيلة خمسة اشهر ضد قوى الثورة التي كانت تفتقد السلاح الذي يمكن أن تحارب به قوات الاحتلال، واستخدم المحتلون أقسى درجات العنف وأشنعها ضد قوى الثورة، وضد أبناء الشعب، وأبدى الثوار صنوفاً من البطولة النادرة، رغم عدم تكافؤ أسلحة الطرفين، والإمكانيات المادية والعسكرية للمحتلين الإمبرياليين، الذين كانوا يمثلون أقوى دولة استعمارية في العالم، واستطاع المحتلون في نهاية الأمر إجهاض الثورة، بعد أن دفعت قواتهم ثمناً باهظاً من أرواح جنودهم ومن اقتصادهم الذي أنهكته الثورة، لدرجة أن أصوات الشعب البريطاني ارتفعت عالياً مطالبة الحكومة بسحب قواتها من العراق وإنقاذ جنودها من لهيب المعارك مع الثوار، وامتدت صيحاتهم إلى مجلس العموم البريطاني نفسه، حيث طالب العديد من أعضاء المجلس بانسحاب القوات البريطانية من العراق، نظراً للتكاليف الباهظة التي دفعتها بريطانيا للإدامة سيطرتها على العراق، وتصاعد احتجاجات الشعب البريطاني على ارتفاع عدد القتلى من الجنود البريطانيين.

نتائج ثورة العشرين:

رغم أن ثورة العشرين لم تنجز هدفها الرئيسي في تحقيق الاستقلال الناجز للعراق  إلا أن تلك الثورة كان لها الدور الحاسم في إسراع المحتلين البريطانيين في تغيير سياستهم تجاه العراق، وصرف النظر عن حكمهم العسكري، بعد أن كلفتهم الثورة آلاف القتلى والجرحى، أثقلت كاهل خزانه الدولة البريطانية، المثقلة أصلاً بأعباء الحرب العالمية الأولى.

لذلك فقد وجد المحتلون الإمبرياليون أن خير سبيل إلى تجنب المزيد من الخسائر البشرية والمادية هو إقامة ما سمي بالحكم الوطني، وتأليف حكومة محلية، والإتيان بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق، مكتفين بالاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية، بعد تكبيل البلاد بقيود ثقيلة، بموجب معاهدة سنة 1920، التي تم بموجبها لهم الهيمنة الفعلية على مقدرات العراق السياسية، والاقتصادية، والعسكرية والثقافية، وسائر المجالات الأخرى .

أما لماذا لم تحقق الثورة هدفها الأساسي في الاستقلال الحقيقي، والناجز فيمكن حصرها بما يلي :
1 ـ عدم تكافؤ القوى بين المحتلين والثوار، وخاصة في مجال الأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات، هذا بالإضافة إلى الخبرة العسكرية للجيوش البريطانية.

2ـ ضعف مستوى الخبرات العسكرية للثوار، على الرغم ما قدموه من التضحيات  وصنوف البطولة التي يعتز بها كل عراقي، وكانت مثار إعجاب الجميع .

3 ـ استخدام المحتلين لسياسة التفرقة، وخلق الحزازات، والصِدام بين العشائر، واستمالة عدد من رؤساء العشائر الكبار إلى جانبهم، وإغرائهم بالإقطاعيات والمناصب والسلطة، كما استخدم المحتلون الخلافات الدينية، والطائفية، والعقائدية لتمزيق الوحدة الوطنية.

4 ـ ضعف القيادة السياسية، من حيث تنظيمها، وتركيبها الطبقي، وخاصة البرجوازية الوطنية الضعيفة جداً آنذاك، اقتصادياً، وسياسياً، مما حال دون أن تلعب دورها القيادي بشكل صحيح .

5 ـ عدم صلة الثورة بأي ارتباط أو دعم خارجي يساعدها على مقاومة المحتلين، فقد كان الثوار ينقصهم الكثير من الأسلحة، والمعدات، والخبرات العسكرية والتدريب على استخدام الأسلحة المستولى عليها من العدو المحتل، في حين كان العدو على أتم الاستعداد، ومن كل الوجوه.

6 ـ عدم وجود قيادة موحدة للثورة، وضعف التنسيق بسبب صعوبة الاتصالات آنذاك بين المناطق المختلفة، ويعتبر هذا العامل من العوامل الهامة التي أدت إلى إجهاض الثورة، وحالت دون تحقيق هدفها الرئيسي في الاستقلال الناجز .

وهكذا بات على الشعب العراقي متمثلاً بقواه الوطنية النضال من أجل تحقيق الاستقلال الناجز للبلاد، وكان النضال قد اتخذ مسارين متلازمين ضد  الاستعمار البريطاني الجديد من جهة، وضد السلطة التي نصبها لحكم البلاد، والتي كانت أداة طيعة بيده، وكانت معارك الحرية تخبوا تارة لتنطلق تارة أخرى حيث بلغت أوجها في وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948، ووثبة تشرين عام 1952، وانتفاضة عام 1965، لتتكلل بالنجاح في ثورة الرابع عشر من تموز 1958التي قادها بنجاح الزعيم الخالد الشهيد عبد الكريم قاسم بدعم وإسناد حاسم من جبهة الاتحاد الوطني التي تأسست عام 1957، وتشكلت لأول مرة في تاريخ العراق الحديث حكومة وطنية مستقلة عن إرادة الإمبرياليين.
لقد فاجأت ثورة 14 تموز المجيدة عام 1958 القوى الإمبريالية بضربتها الخاطفة، وانتصارها مما جعل الإمبرياليين يفقدون توازنهم ويبادرون إلى انزال قواتهم في عمان وبيروت بغية إجهاض الثورة، واوعزوا إلى حلفائهم في تركيا وإيران لتحشيد جيوشهم على حدود العراق بغية العدوان.
 لكن الموقف الحازم للقيادة السوفيتية، والإنذار الشديد الذي وجهته القيادة للإمبرياليين آنذاك اسقط في يدهم، واجبرهم على تغيير خططهم لإسقاط الثورة بالتخطيط والتعاون مع القوى البعثية والقومية والإقطاعية، حيث جرت محاولات عديدة، وتأمر مكشوف بدءاً من انقلاب العقيد الشواف، فمحاولة قتل عبد السلام عارف الزعيم عبد الكريم قاسم، فمحاولة انقلاب رشيد عالي الكيلاني ، فمحاولة انقلاب عبد السلام عارف، فمحاولة البعثيين اغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية، والعديد من المحاولات الأخرى التي كشفت عنها الوثائق البريطانية والأمريكية التي مضى عليها 40 عاماً، والتي جاوزت العشرين محاولة، وتكللت مؤامراتهم ضد الثورة بالنجاح في انقلاب 8 شباط 1963 الذي اغرق البلاد بالدماء على يد البعثيين والقوميين بعربهم وأكرادهم المتحالفين مع الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، وكل الأحداث المفجعة التي جرت في العراق منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا هي نتاج لذلك الانقلاب الفاشي المشؤوم.       


305
هل من سبيل للخروج بالعراق من المأزق الحالي؟
حامد الحمداني                                                   25/6/2010
الصراع السياسي الجاري بين القوى السياسية التي هيمنت على مقاعد البرلمان الجديد حول من سيتسلم منصب رئيس الوزراء ينذر بمخاطر جسيمة قد تعيد العراق إلى أيام الحرب الأهلية التي عاشها الشعب العراقي بكل محنها ودمائها وآلامها ودموعها، وما يجري اليوم على الساحة العراقية من تصاعد العمليات الإرهابية من التفجيرات والاغتيالات واستهداف مؤسسات الدولة إلا نذيراً شؤم لما ينتظر الشعب المغلوب على أمره من أيام أشد قسوة، وأكثر إيلاماً، ودماراً وخراباً أفضع.

 في ظل هذه الظروف البالغة القسوة التي يعيشها الشعب العراقي المنكوب نجد قادة الكتل السياسية التي فازت في الانتخابات التي جرت منذ أكثر من ثلاثة أشهر لا هم لهم إلا السعي للحصول على كعكة الحكم بما يدره عليهم من نعم السلطة والجاه تاركين الشعب الذي أوصلهم إلى قبة البرلمان، تحت سيف الصيف اللاهب دون كهرباء!، وفي ظل تدهور الخدمات ألأساسية من ماء صالح للشرب ، والرعاية الصحية والضمانات الاجتماعية، والتعليمية التي وصلت الحضيض على يد هذه الحكومات التي جاء بها الاحتلال الأمريكي للعراق عام .

فقادة الكتل السياسية الفائزة، ومنذ ظهور نتائج الانتخابات التي لدينا عليها تحفظات كثيرة، وحتى يومنا هذا عاجزين عن تشكيل حكومة جديدة، والكل يلعب على بعضهم البعض، والكل يناور ويساوم هذه الكتلة وتلك، فلا تشغلهم قضية الشعب والوطن عن الصراع على السلطة، فالمالكي يناور ويساوم علاوي،  وعلاوي يناور ويساوم المالكي، وثلاثي الجعفري وعبد المهدي والحكيم يناور ويساوم الطرفين ، والأطراف الثلاث تخطب ود الكتلة الكردية ، ولا بأس بالمساومة معها حتى ولو على حساب مصلحة العراق، والكتلة الكردية لا يهمها مصلحة العراق قد ر اهتمامها بمصلحة إقليم كردستان، وهي مستعدة للتعاون مع من يلبي طموحاتها .
ليس هناك برامج ولا دوافع وطنية تجمع هذه الكتل مع بعضها ، بل استطيع القول إن لا احد منهم يطيق رؤية الآخر، على الرغم من المظاهر التي يتم عرضها أمام شاشات الفضائيات.
ومن جهة أخرى قارن رئيس الوزراء المالكي يوم أمس بين العراق وإيطاليا وهولندا في معرض رده في المؤتمر الصحفي على تأخر تشكيل الوزارة العراقية قائلاً : ألم تتأخر تشكيل الحكومة الهولندية والإيطالية ثلاثة أشهر فما الضرر في ذلك إذا تأخر تشكيل الحكومة العراقية ؟
لقد نسي المالكي أن هذه الدول تمتلك مؤسسات دولة قويمة ومستقيمة، وذات كفاءة عالية جداً تستطيع تسيير شؤون البلاد على خير ما يرام ، ونسي كذلك أن هذين البلدين يعيشان حالة من الاستقرار التام في ظل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، في حين بات العراق بلداً مخرباً دمرته حروب الدكتاتور الأرعن صدام وأتت الحرب الأمريكية البريطانية لإسقاط نظامه على كل مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والقوات المسلحة ، وجاءت لنا بأحزاب الإسلام السياسي إلى سدة الحكم لكي توصل العراق إلى الحرب الأهلية عامي 2006 و2007 ، تلك الحرب المفجعة التي دفع ثمنها الباهظ الشعب العراقي، وما يزال يدفع حتى اليوم، وهو يعيش اليوم حالة من القلق الشديد والخوف من عودة تلك الأيام الرهيبة.

أن  السلوك الخطر لقادة الكتل السياسية المتصارعة بات يشكل  الخطر الداهم الذي ينذر بوقوع كارثة جديدة أشد وطأة إذا ما استمر هذا السلوك.
كما أن العودة إلى نظام المحاصصة الطائفية والعرقية لن يوصل العراق إلى شاطئ السلام، ولا يمكن أن يؤسس دولة مؤسسات حقيقية قادرة على النهوض بالبلاد في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدماتية، وإعادة بناء الصناعة الوطنية التي ما عاد لها وجود.
إن أمام هذه الكتل ثلاث خيارات ،كما أرى لانتشال العراق من المأزق الحالي، إذا أرادت تجنيب الشعب العراقي المزيد من الويلات والمصائب، والحرص على مستقبل البلاد.
الخيار الأول: يقتضي أولاً وقبل كل شئ عقد مؤتمر يجمع قادة هذه الكتل لوضع برنامج وطني متكامل يتناول كافة أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والخدماتية والصحية والتعليمية، ووضع خطة مستقبلية تتفق كل الأطراف على الالتزام بها، ومن ثم العودة للدستور ليكون الحكم في من سيشكل الحكومة، علاوي أم المالكي أم الجعفري أم عبد المهدي، ويتم دعوة البرلمان لمواصلة جلسته المفتوحة!!، وانتخاب رئيس البرلمان ونائبيه بالتصويت السري المباشر، والكف عن المماطلة، وعدم العودة لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وليرشح من يشاء من النواب نفسه لهذه المناصب، ويفوز من ينال ثقة الأغلبية فيها.
وعلى الرئيس المنتخب أن يدعو البرلمان لانتخاب رئيس جديد للبلاد بالتصويت السري المباشر، وليرشح نفسه من يشاء لهذا المنصب بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، لكي يكون لدينا رئيسا لكل العراقيين، ويتولى على الفور، بعد حلف اليمين، دعوة رئيس الكتلة الأكبر، وبموجب الدستور هو الدكتور أياد علاوي، ليشكل حكومة تضم شخصيات متخصصة يختارها هو بالاتفاق مع كتلهم من دون أن يكون الوزير مفروضاً عليه من قبل كتلته ليكون مسؤولاً أمام رئيس الوزراء على أداء عمله، مع حق رئيس الوزراء في استبدال الوزير الذي يفشل في أداء مهامه على الوجه الأكمل، ويتم عرض وزراء الحكومة على البرلمان لنيل الثقة بالحكومة.
أما إذا فشلت حكومة علاوي في نيل ثقة البرلمان في المدة المحددة قانونا وهو أمر وارد جداً، فعلى رئيس الجمهورية دعوة رئيس الكتلة التالية  السيد نوري المالكي ليجرب حضه في تشكيل الحكومة، بموجب المعايير السالفة الذكر، فإذا فشل هو الآخر في نيل حكومته ثقة البرلمان يتم دعوة رئيس القائمة التالية برئاسة الدكتور عبد المهدي أو الدكتور الجعفري ليجرب حضه هو الآخر، وهو بالتأكيد لن يكون أكثر حضا من سابقيه، عند ذلك فلا مفر من تنازل الأطراف جميعا، والاتفاق على شخصية مستقلة تحضى بقبول سائر الأطراف مع الالتزام بالبرنامج المتفق عليه من قبل الكتل الفائزة.
الخيار الثاني:
ويتضمن اتفاق رئيسي الكتلتين الأكبر، علاوي والمالكي، أو كتلة علاوي والحكيم، بالاشتراك مع الكتلة الكردية إن هي شاءت ذلك، لتشكيل حكومة يترأسها لمدة سنتين كل من علاوي والمالكي، أو علاوي مع عبد المهدي أو الجعفري، مع الالتزام التام بالبرنامج المتفق عليه من قِبل الكتل الفائزة.
الخيار الثالث:
تشكيل حكومة تنكوقراط مستقلة، تتولى الدعوة لحل البرلمان، واجراء انتخابات جديدة بعد تعديل قانون الانتخابات الحالي الذي سلبت الكتل الكبيرة بموجبه أصوات الكتل الصغيرة دون وجه حق، والتي عارضها قرار المحكمة الدستورية مؤخرا، لكنها سكت عن سلب تلك الأصوات !!.
كما يتوجب جعل الانتخابات على الطريقة النسبية فقط ، لا كما هو الحال في القانون الحالي. ومن المهم تشريع قانون ديمقراطي لتأسيس الأحزاب السياسية قبل الشروع في الانتخابات المقبلة.
وعلى الحكومة الانتقالية المستقلة أعادة النظر في تشكيلة المفوضية العليا للانتخابات، والمحكمة الاتحادية العليا، بما يضمن استقلاليتها عن تأثيرات الأحزاب والكتل السياسية. 
ماذا لو فشلت الخيارات الثلاث؟
إذا لم تتوصل هذه الكتل إلى حل لهذا الصراع السياسي المحموم، فلم يعد هناك أمامهم سوى خيار الصراع المسلح، والحرب الأهلية الطائفية لفرض شروطهم على الآخرين، وقد ينقسم الجيش على نفسه، وعند ذلك تحل الطامة الكبرى التي ستتحمل مسؤوليتها هذه الأطراف بكل تأكيد.
فهل يتعظ قادة الكتل السياسية بما حل بالبلاد عامي 2006 و2007، أم سيأخذوا العراق وشعبه نحو المجهول مرة أخرى؟؟

306
الشاعر والمناضل كاظم السماوي
الكلمة التي ألقيتها  في الحفل ألتأبيني للشاعر والمناضل الكبير كاظم السماوي الذي أقامه النادي الثقافي الاجتماعي في مدينة يوتبوري [كوتنبرك] هذا اليوم 5/6/2010
حامد الحمداني                                                   5/6/2010
                   
أيها الأخوات والأخوة الحضور الكرام : نلتقي هذا اليوم لنستعيد ذكرى
الشاعر الكبير والمناضل العنيد من أجل السلم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لسائر بني الإنسان، هذا الإنسان ألأممي الذي قضى معظم سنوات حياته يحمل راية الحرية متحديا سلطة الطغاة وأجهزتها القمعية ، غير مبالٍ بالسجون والتعذيب والفصل والتشريد الذي دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في المنافي الممتدة من المجر وحتى الصين، سلاحه الشعر والكلمة الحرة الصادقة التي لا تعرف التدليس للحاكمين، فكانت قصائده سيفاً بتاراً يقض مضاجع الطغاة في وطنه العراق وفي سائر بلدان العالم التي كانت تعاني من ظلم الحاكمين وبطشهم.
لقد تحدث عن شاعرنا الكبير وقيّم شعره ونضاله وثوريته ، وتحديه للطغاة العديد من الكتاب البارزين كان منهم الكاتب والشاعر الكبير الراحل محمد شرارة حيث قال:
أرأيت الزوبعة كيف تنطلق ؟ أو العاصفة كيف تندفع ؟ أو البركان كيف يتنفس؟ أو الغابة كيف تشتعل ؟ فإذا كنت قد رأيت هذه العوالم فخذ انطلاق الزوبعة، واندفاع العاصفة ، وتنفس البركان ، واشتعال الغابة ، وأضف بعضها على بعض ، ثم صور منها كائنا حياً متحركاً واعياً عميق الوعي ، مدركاً قوي الإدراك ، فإذا انتهيت من هذا التصوير وجدت أمامك هذا الشاعر الذي يسكب روحه في [أغاني القافلة] ، ويذيب حياته في أحداثها. أنه كاظم السماوي ، أنه شاعر القافلة ، هذه القافلة التي تسير في طريق موحش تتطاير في جنباته الصخور ، تتواثب في قلبه الأشواك ، وترف في فضائله أرواح الضحايا ، ويختلط بترابه دماء الشهداء.
في مثل هذا الطريق تسير قافلة الشاعر كاظم السماوي تصارع في سيرها جبابرة الوحوش ، ومواكب الأشرار ، وبمثل هذا الطريق المظلم المرعب تندفع قافلة الشاعر العظيمة تحدوها أغاني الأمل ، وتسوقها أنشودة الفجر الجديد، الذي بدأ يرسل خيوطه البيض في حواشي الأفق الأسود، فإذا مسها اللغب ، أو نالها الإعياء، انطلقت من قيثارة الشاعر نغمة أعمق من الأمل ، وأقوى من الموت ، وأعذب من نشيد الساقية بين الأزاهر، وإذا التعب الذي مس القافلة دخان في وجوه الأعاصير، وإذا الإعياء الذي نالها ضباب خفيف في وجوه الشموس النيّرة المشرقة ، وإذا القافلة تتحرك من جديد، وتسير في طريقها الموحل الشائك، وهي تستمد من أغاني الشاعر عزماً يدك الصخور، وأُنساً يمزق الوحشة، ونوراً يصرع الظلمة . 
أما الدكتور جورج حنا الكاتب التقدمي المشهور فقد كتب عن شاعرنا الكبير كاظم السماوي قائلا :
لم تسبق لي معرفة شخصية بالشاعر العراقي كاظم السماوي، ولا اعرف إن كان ابيض اللون أو أسمره، ولكن ما لا يمكن إلا أن يكونه نفساً ثائرة متمردة ، وإنسانية أبية سامية ، وفكراً تقدمياً مجدداً ، وشعلة من شعلات النور والحرية في عالمنا العربي.
إن ملحمته التي بين يدي تقول لي إنه كذلك . هناك خلاف في وجهة النظر إلى الشعر من حيث الغاية منه، فمن الشعراء أو نقاد الشعر من يعتبر أن للشعر غاية وحيدة هي اللذة العقلية ، وسمو النفس ، وإثارة المسرة ، أو الحسرة في الصدور ، وإنْ لا شأن للشعراء في أن يشغلوا أنفسهم بالحقيقة والذهن، والواجب، والضمير ، وإذا شغلوا أنفسهم بشئ من هذا فيجب |أن يكون اشتغالهم بها بصورة عرضية فقط. هؤلاء هم الخياليون ، وسكان الأبراج العالية الذين لا يرون للشعر قيمة إلا في ذاتيته ، ومنهم من يعبر إن الشعر تعبير عن نفسية الشاعر ومشاعره، يستمدها من واقع الحياة، فيسكبها في قالبٍ يستطيع بواسطته الوصول إلى قرائه، أو مستمعيه، عن أعذب الطرق، لبلوغ غاية يرمي إليها، وهي سعادة الإنسانية وخلاصِها وتثقيفها وتوجيهها ، فالشعر بنظر هؤلاء ليس فناً قائماً بنفسه، ولا قالباً جميلاً وحسب، إنما الشعرُ ذهنُ، وحقيقةُ، وواجبُ، وضميرُ، وثقافةُ، وعلمُ أيضا.
على أن أجود الشعر بنظري على الأقل ، وأظنه بنظر الكثيرين غير ، هو ما يجمع بين الغايتين ، أي بين اللذة العقلية، والشعور النفساني، وبين الإرشاد، والإلهام الذهني، والفكري، والضميري؟ بحيث لا يكون الشعر قالباً فنياً وحسب. 
وعلى ضوء نظرتي هذه في الشعر استقبلت الملحمة التي جادت بها قريحة السماوي وطربت لها، فشاعرنا جمع في ملحمته عن السلم والحرب كما جمع قبلاً في [أغاني القافلة] بين الغايتين .فهي تثير في القارئ شعوراً نفسانياً وهو يقرأها ، ثم لا تلبث حتى تنتقل به في ثورة نفسية كلما استمر في قراءتها حتى إذا انتهى شعر بشعور الشاعر ، وأحس بدافع يدفعه إلى مشاركة آلامه وآماله، وأحس بدافع آخر يدفعه إلى النقمة على مبعث الألم والارتياح إلى مبعث الأمل ، ثم يدفعه أيضاً إلى عمل ما ، يقضي عليه واجبه الضميري والإنساني .
إننا نقف في هذا اليوم لنؤبن شاعرنا الكبير كاظم السماوي، ونستعيد ذكرى ومآثر هذا الشاعر الكبير الذي رحل عنا في [ 15 آذار2010]، بعد عناء شديد مع المرض.
المجد والخلود لشاعرنا أبا الشهيد نصير، ولتبقى راية الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي حملها طوال حياته ترفرف فوق هاماتنا لكي تكون دائماً وأبداً محفزة لنا لمواصلة السير على هذا الطريق الذي سار عليه السماوي . 


307
بمناسبة عيد المرأة العالمي في الثامن من آذار

إلى النضال يداً بيد من أجل أن تستعيد المرأة العراقية حريتها وتأخذ دورها في المجتمع
حامد الحمداني                                           8/3/2010

عندما نجري تقييماً دقيقاً لأوضاع المرأة العراقية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وأوضاعها اليوم نجد أن أوضاعها قد انتكست وتراجعت إلى الوراء منذ وقوع انقلاب الثامن من شباط 1963 ، وأخذت بالتدهور يوماً بعد يوم بعد أن اغتصب صدام حسين السلطة من سيده البكر، وزج العراق في حرب دموية مفجعة مع إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة ، تلك الحرب التي دامت ثمان سنوات عجاف من أسوأ نتائجها تدمير البنية الاجتماعية، حيث لم تترك تلك الحرب عائلة عراقية دون أن تقدم ضحية في تلك الحرب المجرمة، فقد تجاوز عدد ضحاياها نصف مليون شهيد ، بالإضافة إلى مليون معوق، ومئات الألوف من الأرامل والأيتام بالإضافة إلى الخراب الاقتصادي، وإغراق العراق بالديون .
ولم يكد الشعب العراقي يجر أنفاسه حتى زج صدام البلاد في حرب جديدة أقسى وأشد قادتها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والعديد من الدول العربية عندما أقدم الدكتاتور على غزو الكويت، وزادت أوضاع الشعب سوءاً بعد أن فرضت الولايات المتحدة الحصار الإجرامي على العراق، ذلك الحصار الذي أدى إلى تلك الكارثة الاجتماعية المعروفة، والتي دفعت خلالها المرأة العراقية الثمن الأكبر، وخاصة بعد ما دعي زوراً وبهتاناً بالحملة الإيمانية!! التي عادت بالمرأة العراقية القهقرة وانكفأت في بيتها بعد أن أصبحت اجورها لا تساوي شيئا، وبذلك فقدت تحررها الاقتصادي الذي يعتبر العامل الحاسم في تحررها الاجتماعي.
وجاءت كارثة الغزو الأمريكي للعراق وتولي أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية ، وسيطرة ميليشياتها المسلحة على الشارع العراقي، وفرضها الحجاب على المرأة وتعرض ألوف النساء للقتل على أيدي تلك العصابات المجرمة حتى عادت أوضاع المرأة إلى ما قبل الثلاثينات من القرن الماضي، وفقدت كل ما اكتسبت من حقوق وحريات أبان نضالها الشاق لعقود عديدة بدعم وإسناد من العناصر المثقفة من الوطنيين الديمقراطيين والشيوعيين الذين كان لهم دور فعّال في تطور أوضاع المرأة وتحررها.
ومهما قيل ويقال عن أن المرأة العراقية قد حصلت على تقدم في أوضاعها الاجتماعية ودخولها البرلمان فإن الحقيقة التي لا تخفى على أحد فقد كان وجودها في البرلمان مجرد إشغال مقعد بموجب القانون الذي شرعه الحاكم الأمريكي بريمر مما أتى بعناصر مبرقعة إلى البرلمان بترشيح من أحزب الإسلام السياسي لا دور فاعل لها إلا ما ندر.
فأحزاب الإسلام السياسي لا تؤمن أبدا بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل 
بل ينظرون إليها من منطلق ذكوري متخلف على أنها قاصرة عقل ودين!!، وأنها دون مستوى الرجل، وأنها خلقت للبيت، وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والقيام بشؤون العائلة كافة، وتأمين طلبات الرجل، وهم بلا شك المختلفون بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهم عدوانيون لا يقيمون وزناً للعلاقات الإنسانية، وهم أنانيون لا يحبون إلا أنفسهم ولذاتهم، وهم لا يفهمون من الثقافة غير قشورها، وهم في واقع الحال أقل وزناً من المرأة في مختلف مجالات الحياة، وهم الأقل تحملاً وصبراً، والأكثر تهوراً ورعونة، في تعاملهم مع زوجاتهم، ومع بناتهم، أنهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين، لكنهم يحملون ثقافة القرون الغابرة في نظرتهم وتعاملهم مع المرأة، وكأنها سلعة من سلع البيت دفع ثمنها مهراً بموجب الشريعة الإسلامية!!.
المرأة أيها السادة أكبر وأعظم وأقدس مما تتصورن، أنها خالقة الإنسانية، أنها هي التي ربتكم وعلمتكم وثقفتكم وحرصت عليكم أكثر من حرصها على بؤبؤ عينها، وضحت من أجلكم بسعادتها كي تسعدوا، وبصحتها كي تصحو، وبراحتها كي تنعموا بالحياة، ومع كل ذلك فهي تمارس العمل بكل جد في مختلف المجالات التي قد يعجز الكثير من الرجال القيام بها، العالمة الفيزيائية والكيميائية والمهندسة والطبية والقاضية والمحامية والصيدلانية والمعلمة مربية الأجيال، والعاملة في مختلف المعامل الإنتاجية، بل لقد تجاوزت أرقى سلم الثقافة والعلم، وتولت أعلى مناصب الدولة ليس فقط في البلدان المتقدمة، بل حتى في العديد من دول العالم الثالث الإسلامية كالهند وباكستان وأندونيسا وبنكلادش، دعك عن ألمانيا وبريطانيا والأرجنتين وتايلاند والعديد من الدول الأخرى، واغلب الذين يديرون دوائر الدول الأوربية هم من النساء، فأي ادعاء هذا الذي يدعونه أصحاب المجتمع ألذكوري الذين خولوا أنفسهم قوامون على النساء، وقد اتخذوا من الدين الذي جاء قبل 15 عشر قرناً وسيلة وحجة كي يستعبدوا النساء، ويفرضوا عليهن طاعتهم عنوة، ويمارسون العنف معهن بدعوة أن الدين قد أباح ضرب المرأة، وهم يفرضون عليها اليوم سجناً رهيباً من خلال هذا الذي يسمونه الحجاب، وكأنما قطعة القماش هذه هي التي ستصون المرأة من الزلل، حين يقترف الرجل نفسه الكثير من الزلات التي يمارسها كل يوم بحرية، ودون حساب.
أن الحجاب الذي يحمي الإنسان من الزلل هو في عقله وتفكيره وسلوكه وتصرفه، أنها الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، أنها العدالة الاجتماعية بين بني البشر مهما اخلتفت أجناسهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم .
ومهما فعل الرجل، ومهما قدم وأنجز فهو عاجز أن يقارن نفسه بالمرأة التي تعمل وتعطي أضعاف ما يعطيه الرجل دون منة أو كلل، وبكل رحابة صدر، حيث تحس بمسؤولية كبيرة تجاه أبنائها وبيتها وزوجها من جهة، وتجاه بني شعبها ووطنها والإنسانية جمعاء من جهة أخرى .
أن القوى التقدمية والعلمانية وسائر العناصر المثقفة مدعوة اليوم لخوض النضال يداً بيد مع المرأة العراقية والأخذ بيدها للوقوف أمام الهجمة الرجعية الشرسة التي تقودها قوى الإسلام السياسي باسم الدين والشريعة تستهدف إبقاء المرأة في القمقم الذي صنعوه لها مجرد خادمة له وتلبي حاجاته مسلوبة الحقوق والحريات التي كفلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان .
إن استعادت المرأة لحقوقها وحرياتها، ومساواتها بالرجل أمر حاسم في تطور وتقدم المجتمع العراقي، ولا يمكن لأي مجتمع ان يتقدم ويتطور إذا كان نصفه في المطب.
لنجعل من يوم الثامن من آذار عيد المرأة العالمي، يوماً للتضامن والنضال من أجل تحقيق ما تصبو إليها المرأة فهي جديرة بأن تأخذ دورها في المجتمع عنصراً فعالا لا تقل عن قدرات الرجل بل تتجاوزه في مجالات كثيرة.
المجد للثامن من آذار عيد المرأة العالمي، وبوركت المرأة العراقية في عيدها العتيد. 
 

308
قبل ثلاثة أيام من الانتخابات المصيرية
قائمة اتحاد الشعب 363 خير من يمثل طموحات الشعب العراقي
في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية

حامد الحمداني                                         3/3/2020

ثلاثة أيام فقط تفصلنا عن يوم الانتخابات البرلمانية المصيرية التي ستحدد مستقبل العراق لسنوات، بل لعقود طويلة، حيث ينتظر الشعب العراقي بفارغ الصبر الخروج من المحنة المتشعبة المفاصل التي يعيشها، وفي مقدمتها أزماته الأمنية والسياسة والاقتصادية والمعيشية والصحية والخدمية والتعليمية وغيرها من الجوانب المتعلقة بحياة المواطن العراقي اليومية التي باتت تقلق الجميع، هذا بالإضافة إلى المهام التي ينتظرها الشعب من البرلمان القادم فيما يخص مصير التعديلات الدستورية التي ستحدد مصير ومستقبل العراق، وتسوية المشكلات العالقة بين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان، فيما بخص ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، والتي باتت تشكل برميل بارود يهدد بالانفجار في أية لحظة.                                              
 أن طموحات الشعب العراقي الكبيرة هذه تتطلب بلا أدنى شك انتخاب برلمان يمثل أعضاءه إرادة الشعب الحقيقية من حيث النزاهة والكفاءة ، من المؤمنين بعراقيتهم الصادقة قبل أحزابهم وقومياتهم وطوائفهم، فقد كفى ما عناه الشعب من البرلمان السابق الذي مثل أسوأ تمثيل تلك الطائفية الدينية والسياسية البشعة التي قادت الشعب إلى أتون الحرب الأهلية الطائفية التي دفع الشعب فيها أرواح ودماء عشرات ألوف من خيرة لبنائه البررة، وشرد الملايين من المواطنين من بيوتهم ومدنهم ليعيشوا في خيام حقيرة ـ أو غادروا الوطن إلى دول اللجوء للحفاظ على أرواحهم تاركين بيوتهم وأعمالهم ومدارس أبنائهم وبناتهم من بطش قوى الميليشيات لتابعة للأحزاب الطائفية الشيعية والسنية مما خلق فجوة واسعة في المجتمع العراقي بين اصطيافه الشيعية والسنية يصعب تجاوزها عبر عقود قادمة                                          .
إن الشعب العراقي بحاجة إلى حكومة ديمقراطية علمانية يتميز أعضاءها بالكفاءة والتخصص، وبالنزاهة والحرص على وحدة العراق أرضا وشعباً، في ظل نظام ديمقراطي حقيقي يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات على قدم المساواة ،لا فرق بين عربي وكردي أو صابئ أو ايزيدي ، ولا بين مسلم شيعي كان أو سني،  ومسيحي                    
لننبذ الطائفية الدينية والطائفية السياسية مرة واحدة وإلى الأبد، ولنعمل معاً يداً بيد من أجل عراق الحرية والديمقراطية والعيش السعيد لسائر المواطنين .                                  
أيها العراقي الغيور على مستقبله ومصيره ومصير الوطن، أنت اليوم من سيقرر هذا المصير فالخيار بيدك، وأن أفضل من يمثل طموحاتك هذه هم بكل تأكيد مرشحوا:                
 {قائمة اتحاد الشعب رقم 363} ذوي الأيادي النظيفة،الذين لم تتلوث أياديهم بأموال الشعب، ولا في دماء أبنائهم الزكية التي سفحتها ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي وأحزاب الفاشية القومية المتمثلة بحزب البعث وحلفائه من عصابات القاعدة، فقائمة اتحاد الشعب تمثل كافة أطياف المجتمع العراقي مسلمين ومسيحيين وصابئة مندائيين وتركمان وأيزيديين بكل تأكيد .                                                


309
التصدي لمذبحة المسيحيين في الموصل مسؤولية وطنية ودولية وإنسانية
حامد الحمداني                                                      2/3/2010
المسيحيون في الموصل أبناء هذه المدينة الأصليين الذين لا يمكن أن يزايد أحداً على أصلهم وموطنهم الذي عاشوا فيها آلاف السنين حيث يؤكد تاريخ هذه المدينة أنهم هم السكان الأصليين، قد تعرضوا منذ الاحتلال الأمريكي للعراق لحملة شعواء من القتل والتهجير والاضطهاد يندى لها جبين الإنسانية، حيث تجاوزت أرقام الشهداء منهم 400 مواطن أريقت دمائهم الزكية ظلماً وعدواناً، وجرى تهجير آلاف العوائل من مساكنهم هرباً من عصابات الموت والجريمة المنظمة، من دون أن تلقى هذه الجرائم الاهتمام اللازم من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة على سدة الحكم منذ عام 2003 وحتى اليوم ، ولا نجد الإجراءت الجدية
من قبل الحكومة بما يتناسب وخطورة هذه الجرائم البشعة بحق مواطنين أبرياء مسالمين لم يصدر منهم أي آذى تجاه الآخرين، وكان آخر هذه الجرائم الوحشية مهاجمة عصابة مجرمة تتألف  من أربعة مسلحين هاجمت منزل رجل الدين القس مازن إيشوع واختطفته مع شقيقته ووالدته بعد أن قتل المجرمون شقيقيه باسم وفاضل ووالدهم إيشوع مروكي، ولم يكتف المجرمون بكل هذا  لعمل الشنيع بل جرى اغتصاب الأخت والأم بكل وحشية                                                         
إن أية حكومة تحترم نفسها  ما كان لها أن تسكت عن هذه الجرائم وتمر عليها مرور الكرام، وكأن شيئاً لم يحدث، وهي المسؤولة مسؤولية مباشرة عن حماية أمن المواطنين، وعلى وجه الخصوص المسيحيين منهم والصابئة والأيزيدية الذين تعرضوا جميعاً لمثل هذه الجرائم، والاعتداء على كنائسهم ودور عبادتهم التي جرى استهدافها بالمتفجرات والقنابل، فإذا كانت الحكومة عاجزة عن التصدي للقتلة المجرمين فما عليها إلا أن تستقيل وتعلن عجزها، فهي والحالة هذه تتحمل مسؤولية هذه الجرائم ضد المواطنين المسيحيين                                         .
كما أن المحتلين الأمريكيين يتحملون نفس المسؤولية عما يلحق بالأخوة المسيحيين وسائر الأطياف الأخرى من أذى بحكم كونها دولة محتلة ، ولا يمكن إقناعنا بأن المحتلين قد سلموا مقاليد الحكم لحكومة عراقية، فهم في واقع الحال من يحكم العراق اليوم                                     
لقد باتت المحنة التي يعيشها المسيحيون في الموصل اليوم خطيرة  جداً وتعدت كونها تهم العراق وحده بل هي اليوم تمثل عملية تطهير ديني وعرقي، وتتطلب من المجتمع الدولي، وفي المقدمة هيئة الأمم المتحدة، التدخل الم، واستئصال شأفتهم ومن يقف وراءهم، فهذه الجرائم المنظمة لا بد أن يقف وراءها ويمولها ويدفعها لتنفيذ أجندتها الإرهابية لأسباب سياسية معروفة ولم تعد خافية على أحد                                      .
ينبغي التدخل المباشر لوقف هذه المجازر ضد المسيحيين وسائر الأقليات الأخرى فهم جميعاً مواطنون عراقيون أصلاء يعيشون حياة الرعب والخوف من زوار الليل والنهار الذين يمارسون جرائمهم بدم بارد                                                                                   .
إن سائر الكتاب والمثقفين العراقيين مطالبون بالوقوف إلى جانب الأخوة المسيحيين في محنتهم والعمل على فضح من يقف وراء هذه الجرائم الوحشية ومن يقف وراءها، ومطالبة الهيئات الدولية للقيام بدور فاعل في إنقاذهم.                                                                         
الخلود لسائر الشهداء الأبرار والخزي والعار للقتلة المجرمين وكل من يقف وراءهم.                                                                       
                 

310
جمهورية البعث الأولى
8 شباط ـ 17 تشرين الثاني 1963
أولاً: البعثيون ينظمون السلطة الانقلابية الجديدة.
ثانياً : ما هو برنامج حزب البعث ؟
ثالثاً : البعثيون  والحزب الشيوعي .
رابعاً: وقوع انقلاب بعثي في سوريا ، ومشروع الوحدة الثلاثية .
خامساً: البعثيون يشنون الحرب على الأكراد .
سادساً: انتفاضة الشيوعيين في معسكر الرشيد.

أولاً: البعثيون يرتبون السلطة الانقلابية الجديدة:


1 ـ عبد السلام  رئيساً للجمهورية والبكر رئيساً للوزراء:
حال ما أستتب الأمر للانقلابيين في السيطرة على الوضع في البلاد ، باشر قادتهم  باقتسام السلطة ، فجرى تنصيب عبد السلام عارف رئيسا ًللجمهورية ، لكونه أعلى رتبة من البكر ، إضافة إلى وجود عدد كبير من المؤيدين له في صفوف الضباط المشاركين في الانقلاب ، ولدوره السابق  في ثورة 14تموز 958 ، والذي أكسبه الشهرة والتأييد في صفوف القوى القومية .
لقد كان البعثيون مضطرين إلى هذا التعيين ، رغم عدم اطمئنانهم له، ورغبتهم في مسك السلطة كلياً بأيديهم ، ولذلك فقد تم معادلة منصب رئيس الجمهورية بمنصب رئيس الوزراء الذي أسند إلى احمد حسن البكر، بالإضافة إلى سيطرة البعثيين على معظم الوزارات المهمة، ومجلس قيادة الثورة الذي شكلوه بعد الانقلاب.
وفي الوقت نفسه كان عبد السلام عارف غير مرتاح لازدواجية السلطة  وهو معروف بحبه  للاستئثار بها، ومحاولته قلب سلطة عبد الكريم قاسم في أوائل أيام ثورة 14 تموز 1958، لكنه تقبل الواقع على مضض، وبدأ يخطط لانتزاع السلطة من البعثيين في اقرب فرصة سانحة، وتصفية نفوذهم، وركز اهتمامه على الجيش نظرا لوجود عدد كبير من الضباط المؤيدين له.
 كان  موقف البعثيين داخل الجيش ضعيفا، حيث كان أغلبية الضباط المشاركين في الانقلاب من القوميين، لذلك وجدناهم يركزون اهتمامهم على قوات الحرس القومي  الذي شكلوه من الحزبيين، والعناصر المؤيدة لهم ، والذي كان تعداده حين وقوع الانقلاب يقدر بـ [5000] عنصرا ، وجرى توسيعه بعد نجاح الانقلاب حتى بلغ تعداده [ 34000] عنصرا لكي يعززوا سلطتهم في البلاد، وعهدوا بقيادته إلي الملازم الأول  [منذر الونداوي] أحد ضباطهم العسكريين، والطيار الذي هاجم وزارة الدفاع بطائرته يوم الانقلاب، ومنحوه رتبة مقدم. (1)

2 ـ مجلس قيادة الثورة:
كانت الخطوة التالية للبعثيين تشكيل ما يسمى [ مجلس قيادة الثورة ]،  في 8 شباط 63 بموجب البيان رقم 15، وأعطى القرار صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة للمجلس، ومن تلك الصلاحيات:
1 ـ إصدار القوانين وتعديلها.
2 ـ تعين الوزراء، وإقالتهم.
3 ـ منحه صلاحيات القيادة العامة للقوات المسلحة.
4 ـ الإشراف على شؤون الجمهورية.
5 ـ الإشراف على جهازي الأمن، والاستخبارات العسكرية.
وجاء المجلس المشكل مكوناً من [ 18 عضواً]، منهم  15 عضواً من حزب البعث، وعضوين فقط من القوميين، كان أحدهم عبد السلام عارف الذي رقي من رتبة عقيد ركن إلى رتبة مشير ركن، وهي أعلى رتبة عسكرية في الجيش، وجاء تشكيل المجلس على الوجه التالي :
1ـ عبد السلام عارف ـ رئيس الجمهورية.
2 ـ  أحمد حسن البكر ـ عضو القيادة القطرية لحزب البعث.
3 ـ علي صالح السعدي    ـ  أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث.
4 ـ حازم جواد              ـ عضو القيادة القطرية للحزب
5 ـ طالب شبيب            ـ    كذلك
6 ـ حمدي عبد المجيد      ـ    كذلك
7 ـ كريم شنتاف            ـ    كذلك
8 ـ محسن الشيخ راضي  ـ    كذلك
9 ـ صالح مهدي عماش   ـ    كذلك
10 ـ هاني الفكيكي        ـ     كذلك
11 ـ حميد خلخال          ـ    كذلك
12 ـ عبد الستار عبد اللطيف  ـ عضو المكتب العسكري للحزب.
13 ـ خالد مكي الهاشمي  ـ     كذلك
14 ـ حردان التكريتي     ـ      كذلك
15 ـ عبد الكريم نصرت ـ      كذلك
16 ـ أنور عبد القادر الحديثي ـ كادر بعثي، عين سكرتيراً للمجلس.
17 ـ العقيد طاهر يحيى ـ بعثي اسمياً، رقي إلى رتبة لواء.
18ـ الزعيم الركن عبد الغني الراوي، إسلامي النزعة، وصديق لحزب البعث. (2)
ومن هذه التشكيلة يتبين أن حزب البعث قد أحكم سيطرته على هذا المجلس دون منازع ، أصبحت له اليد الطولى في إدارة شؤون البلاد.


 2 ـ مجلس وزراء الانقلابيين :
تشكل مجلس الوزراء من ( 20 ) عضواً، كانت حصة حزب البعث منها ( 13 ) عضواً، أي ثلثي أعضاء المجلس، واحتفظ البعثيون بأغلب الوزارات المهمة، وجاء تشكيله على النحو التالي :
1 ـ أحمد حسن البكر    ـ رئيساً للوزراء
2 ـ علي صالح السعدي ـ نائباً لرئيس الوزراء، و وزير الداخلية.
3 ـ صالح مهدي عماش ـ وزيراً للدفاع .
 4 ـ حازم جواد      ـ  وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية.
5 ـ طالب شبيب     ـ  وزيراً للخارجية.
6 ـ عزت مصطفى ـ  وزيراً للصحة.
7 ـ سعدون حمادي  ـ  وزيراً للإصلاح الزراعي.
8 ـ مهدي الدولعي   ـ  وزيراً للعدل.
9 ـ مسارع الراوي  ـ  وزيراً للإرشاد.
10 ـ صالح كبه      ـ  وزيراً للمالية.
11ـ أحمد عبد الستار الجواري ـ وزيراً للتربية.
12 ـ عبد الكريم العلي ـ  وزيراً للتخطيط .
13 ـ حميد خلخال ـ وزيراً للعمل.
14 ـ عبد الستار عبد اللطيف ـ وزيراً للمواصلات.
15 ـ ناجي طالب  ـ وزيراً للصناعة.
16 ـ شكري صالح زكي  ـ وزيراً للتجارة.
 17 ـ عبد العزيز الوتاري ـ وزيراً للنفط .
 18 ـ محمود شيت خطاب ـ وزيراً للبلديات.
19 ـ بابا علي الشيخ محمود ـ وزيراً للزراعة.
20 ـ فؤاد عارف  ـ وزيراً للدولة. (3)
 وهكذا ضمت الوزارة ثلاثة من القوميين هم كل من:
 الزعيم الركن ناجي طالب، الذي شغل منصب وزير الصناعة واللواء المتقاعد شكري صالح زكي ، الذي شغل منصب وزير التجارة، والدكتور عبد العزيز الوتاري، الذي شغل منصب وزير النفط، وضمت الوزارة واحداً من الإخوان المسلمين هو السيد محمود شيت خطاب، الذي شغل منصب وزير البلديات،  فيما ضمت وزيرين  من الأكراد، هما بابا علي الشيخ محمود الذي شغل منصب وزير الزراعة، وفؤاد عارف الذي عين وزيرا للدولة.

3 ـ الانقلابيون يرتبون أوضاع الجيش والأجهزة الأمنية:

كما أسلفنا سابقاً كان موقف حزب البعث داخل الجيش  ضعيفاً، ومعظم الضباط البعثيون من ذوي الرتب الصغيرة، ولذلك فقد جاءت تشكيلة قيادات الجيش من عناصر قومية في غالبيتها، وكان لتلك العناصر الدور الحاسم في إسقاط سلطة حزب البعث، بعد 9 أشهر من وقوع انقلاب 8 شباط 963 ، وفيما يلي التعيينات التي أجريت في الجهاز العسكري إثر وقوع الانقلاب:
1 ـ تعيين العقيد طاهر يحيى رئيساً لأركان الجيش، مع ترقيته إلى رتبة لواء.
2 ـ تعيين المقدم خالد مكي الهاشمي نائباً لرئيس الأركان وترقيته إلى رتبة عقيد .
3 ـ تعيين المقدم حردان التكريتي قائداً للقوة الجوية، وترقيته إلى رتبة عقيد .
4 ـ تعيين المقدم صبحي عبد الحميد مديراً للعمليات العسكرية وترقيته إلى رتبة عقيد.           
5 ـ تعيين المقدم سعيد صليبي أمراً للانضباط العسكري،  وترقيته إلى رتبة عقيد.
6 ـ تعيين المقدم محمد مجيد مدير للتخطيط العسكري، وترقيته إلى رتبة عقيد.
8 ـ تعين الرئيس محي الدين محمود مديراً للاستخبارات العسكرية.
9ـ تعين العقيد رشيد مصلح التكريتي حاكماً عسكرياً عاماً،وترقيته إلى رتبة زعيم.
وفي الوقت نفسه أصدر الانقلابيون قرارا ت أخرى  بتعين قادة الفرق العسكرية، وجاءت على الوجه التالي:
1 ـ تعين العقيد عبد الكريم فرحان  قائداً للفرقة الأولى، وترقيته إلى رتبة زعيم.     
2 ـ العقيد إبراهيم فيصل الأنصاري قائداً للفرقة الثانية، وترقيته إلى رتبة زعيم .   
3 ـ تعيين العقيد عيد الغني الراوي قائداً للفرقة الثالثة، وترقيته إلى رتبة زعيم .     
4 ـ تعيين الرائد عبد الكريم نصرت قائداً للفرقة الرابعة المدرعة، وترقيته إلى رتبة عقيد.
5 ـ تعيين العقيد عبد الرحمن عارف قائداً للفرقة الخامسة، ورقيته إلى رتبة زعيم.   
أما كتائب الدبابات، فقد أسندت إلى الضباط التالية أسماؤهم:
 1ـ المقدم صبري خلف الجبوري قائداً لكتيبة خالد.
2 ـ المقدم الركن حسن مصطفى النقيب  قائداً لكتيبة الدبابات الأولى.
3ـ المقدم محمد المهداوي  قائداً لكتيبة الدبابات الثالثة.
4 ـ المقدم خالد مكي الهاشمي قائداً لكتيبة الدبابات الرابعة، بالإضافة إلى منصبه كنائب لرئيس أركان الجيش. وكان واضحاً أن البعثيين أرادوا إبقاء هذه الكتيبة التي كان لها الدور الحاسم في الانقلاب بين أيديهم.(4) 
 
ثانيا: ما هو برنامج حزب البعث ؟

لم يكن حزب البعث قد وضع له أي برنامج، سواء قبل استلامه السلطة ولا بعدها، وكل من كان لديه هي شعاراته الجوفاء حول الوحدة، والحرية، والاشتراكية !!!، تلك الشعارات التي أستخدمها عند قيام ثورة 14 تموز مباشرة، لشق جبهة الاتحاد الوطني، واللجنة العليا للضباط الأحرار، وتبين فيما بعد أن تلك الشعارات لم تكن إلا وسيلة للوثوب إلى السلطة واغتصابها، فلا وحدة ، ولا حرية، ولا اشتراكية ، بل كان جُلّ همهم يتركز حول وسائل تثبيت حكمهم، والسيطرة على المرافق العامة للدولة  العسكرية منها والمدنية، وقد جرّت سياستهم تلك إلى فرض حكم الحزب الواحد، وتقليص دور شركائهم القوميين، مما أدى إلى قيام، وتنامي الصراع بين الجانبين بعد فترة وجيزة.
لقد اعتمد البعثيون في تحقيق آمالها  يوسعون قاعدة حرسهم حتى وصل تعداده إلى ( 34 ) ألفاً، هادفين من ذلك إلى أن يكون لهذه القوات اليد الطولى، متجاوزين على الجيش، حتى وصل بهم الأمر إلى التجاوز على ضباط الجيش، وتوقيف بعضهم، وتفتيشهم، وأهانتهم ، وبلغ بهم الاستهتار حدوداً بعيدة .
لكن حسابات البعثيين كانت خاطئة،  فالحرس القومي مهما بلغ تعداده ، فهو لا يصل إلى تعداد قوات الجيش، كما أن السلاح الذي يمتلكه الحرس القومي لا يمكن أن يقاس بما لدى الجيش من أسلحة ثقيلة، ومعدات ، وطائرات، وخبرات قتالية، وإمكانات مختلفة، هذا بالإضافة إلى افتقار الحرس القومي، وقيادته إلى الحكمة، والتبصر، فقد اتسمت كل تصرفاتهم بالاستهتار والتسرع والهمجية، مما أفقدها أي تعاطف سواء كان من الشعب، أو من الجيش، وزاد في الطين بله، سعيهم إلى تقليص نفوذ الضباط القوميين داخل الجيش، مما دفع بالصراع بين الطرفين إلى مرحلة أعلى، وبعد اقل من تسعة أشهر حُسم الصراع لصالح القوميين ، وتم إسقاط سلطة البعث .
ولابد أن أشير هنا إلى أن قيادة حزب البعث كلها، كانت من العناصر الشابة، التي ينقصها الخبرة السياسية، فقد كان 4 من أعضائها في العشرينات من عمرهم و11 في الثلاثينات، واتسمت قراراتها بالتسرع والتهور، والصراع فيما بينهم على السلطة.
لقد أدرك مؤسس الحزب [ ميشيل عفلق ] تلك الحقيقة ، وعبر بوضوح عن حال تلك القيادة في أحد الاجتماعات الحزبية المغلقة حيث قال :
{ بعد الثورة، يقصد انقلاب 8 شباط، بدأت اشعر بالقلق من فرديتهم ، وطريقتهم الطائشة في تصريف الأمور، واكتشفت أنهم ليسوا من عيار قيادة بلد وشعب، بل إنهم يصلحون فقط لظروف " النضال  السلبي "}، ولا يعني ذلك إلا الأعمال الإرهابية، كالاغتيالات، والاعتداءات ، وغيرها من الأعمال الإجرامية التي كانوا يمارسونها قبل انقلابهم .(5)
أما [أحمد حسن البكر] رئيس الوزراء، فقد ذكر لعفلق قائلاً:
{ كنت في السابق ألاحظ المحبة في عيون الناس، أما الآن فإني اهرب إلى الشوارع الخلفية غير المطروقة للابتعاد عن عيون الناس، وتجنب نظرات الكراهية }.(6)
أما ثالثهم [علي صالح السعدي] أمين سر الحزب، ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، فقد صرح قائلاً:
{ لقد ضعنا في الحكم، وكان انقلاب شباط يمثل قفزة نحو المجهول}.(7)
 لقد كانت القيادة  تتسم بالتهور لا تمتلك أية خبرة سياسية ، وقد دفعها حقدها الأعمى على الحزب الشيوعي، وعلى الزعيم عبد الكريم   قاسم ورفاقه الوطنيين  قادة ثورة الرابع عشر من تموز ، وكان التعذيب والقتل وسيلتهم الوحيدة لتثبيت حكمهم الفاشي.



ثالثاً: البعثيون والحزب الشيوعي:

عندما اغتصب البعثيون الحكم في 8 شباط 1963  كان في مقدمه أهدافهم شن حرب لا هوادة فيها ضد الحزب الشيوعي،  وسائر القوى الديمقراطية، وكان هذا هو هدف الإمبريالية التي جاءت بهم إلى الحكم ، فلقد راعها المد الشيوعي الذي أعقب ثورة 14 تموز 958، وتعاظم قوة الحزب، ولاسيما بعد مسيرة الأول من أيار 959، والتي رفع  خلالها الحزب الشعار المطالب بإشراكه في السلطة، واعتبرت الامبريالية الأمريكية ذلك تجاوزاً خطيراً على مصالحها في هذه المنطقة الهامة من العالم ، حيث تمتلك نصف الاحتياطي العالمي من النفط ، ولذلك فقد سعت الإمبريالية بكل جهودها من أجل إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم ، وإنهاء دور الشيوعيين في العراق، واستعان الإمبرياليون بحزب البعث كما جاء على لسان أمين سر الحزب [ على صالح السعدي ] عندما صرح بأن الحزب جاء إلى الحكم بقطار أمريكي.
جاء البعثيون إلى الحكم  لينفذوا الأهداف التي خططها لهم الإمبرياليون فشنّوا حملة إبادة شعواء ضد أعضاء ومناصري الحزب الشيوعي وجماهيره، لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل، بادئين حملتهم ببيانهم السيئ الصيت [ رقم 13 ] والذي دعوا فيه إلى إبادة الشيوعيين، وهذا نصه :
بيان رقم 13 صادر من الحاكم العسكري العام:
نظراً للمحاولات اليائسة للعملاء الشيوعيين ـ شركاء عدو الكريم !!،في الجريمة، لزرع الفوضى في صفوف الشعب، وتجاهلهم للأوامر والتعليمات الرسمية، فقد كُلف قادة الوحدات العسكرية، والشرطة والحرس القومي بالقضاء على كل من يعكر صفو السلام، وإننا ندعو أبناء الشعب المخلصين إلى التعاون مع السلطات بالإعلام عن هؤلاء المجرمين، وإبادتهم !!! .(8)
لم يشبع نهم البعثيين مئات الشيوعيين وسائر الوطنيين الذين سقطوا دفاعاً عن ثورة الرابع عشر من تموز، يوم انقلابهم المشؤوم، فقد بادروا بعد أن أستتب لهم الأمر إلى شن حملة اعتقالات واسعة شملت العراق ،من أقصاه إلى أقصاه، مستخدمين حرسهم القومي، وجهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه الإمبرياليون وعملائهم، وعلى رأسهم [ نوري السعيد ]، والذي لم يناله من حكومة ثورة 14 تموز سوى بعض التغيير الذي شمل عدداً من ضباط الأمن.
وهكذا جاء اليوم الذي ينفذون فيه الهجوم الكاسح على الحزب الشيوعي والشيوعيين، وكل من يحمل فكراً ديمقراطياً تقدمياً، وشملت الاعتقالات  الألوف من الوطنيين، وكانت عصابات الحرس القومي تداهم البيوت، في الليل والنهار بحثاً عن كل من يمت بصلة إلى الديمقراطيين والشيوعيين و القاسمين.   
ونظراً لكثرة المعتقلين، فقد استخدم الانقلابيون الملاعب الرياضية، ودور السينما، والنوادي، والدور السكنية كمعتقلات، ومارسوا فيها أبشع أنواع التعذيب والقتل، وتقطيع الأطراف، وقلع العيون، والأظافر وكل ذلك جرى بموجب قوائم أعدت سلفاً بأسماء الشيوعيين ومؤيديهم من قبل المخابرات المركزية الأمريكية، وكانت إذاعة تابعة للمخابرات المركزية تبث من الكويت، وتذيع أسماء وعناوين سكن الشيوعيين المعروفين لغرض اعتقالهم وتصفيتهم من قبل عصابات البعث.
وقد جاء ذلك على لسان الملك حسين في حديث معه، أجراه الصحفي المعروف محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير صحيفة الأهرام القاهرية كما سبق أن مر ذكره من قبل.
لقد بدأت عصابات الحرس القومي التحقيق مع المعتقلين، عسكريين ومدنيين، ومن ضمنهم معظم قادة الحزب الشيوعي وكوادره، باستخدام أبشع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي، لمحاولة انتزاع الاعترافات منهم عن تنظيمات الحزب، وقضى تحت التعذيب عدد كبير منهم، بعد أن قطعت أطراف البعض، وقلعت عيونهم، وأحرقت ألسنتهم، ونزعت أظافرهم، وأعتدي على شرف النساء، أمام أزواجهن وأقاربهن، وبنيت أعمدة من الطابوق والأسمنت حول أجساد عدد منهم، وكان من بين الذين استشهدوا تحت التعذيب من قادة الحزب:
1 ـ سلام عادل ـ حسين محمد الرضي ـ السكرتير الأول للحزب .
2 ـ جمال الحيدري           ـ عضو المكتب السياسي للحزب .
3 ـ حسن عوينة               ـ    كذلك   
4 ـ محمد حسين أبو العيس -   كذلك   
5 ـ نافع يونس                 ـ عضو اللجنة المركزية للحزب .
6ـ جورج  تللو                ـ  كذلك   
7ـ طالب عبد الجبار         ـ  كذلك 
8 ـ محمد صالح العبلي      ـ  كذلك
9 ـ عزيز الشيخ               ـ  كذلك
10 ـ شريف الشيخ            ـ  كذلك
11 ـ حمزة سلمان             ـ  كذلك
12 ـ عبد الرحيم شريف      ـ كذلك
13 ـ عبد الجبار وهبي        ـ كذلك
14 ـ مهدي حميد               ـ  كذلك
15 ـ لطيف الحاج              ـ عضو قيادة فرع بغداد .
هذا على مستوى القيادة، أما كوادر وأعضاء، ومناصري الحزب فلا يمكن عدهم، فقد بلغ إجرام الحرس القومي، وعلى رأسه [عمار علوش] و[ ناظم كزار ] و[خالد طبره ] وأعضاء اللجنة التحقيقية العسكرية في معسكر الرشيد ـ حيث يوجد السجن  رقم واحد ـ وهم كل من :
[حازم الصباغ ] و[حازم الشكرجي ] و[طه حمو] ،أقصى درجاته ، فقد كان شغلهم الشاغل في الليل والنهار هو تعذيب المعتقلين، مدنيين وعسكريين لنزع الاعترافات منهم، وقد قضى المعتقلون أشهراً عديدة في المواقف، ومراكز الحرس القومي، وقصر النهاية، السيئ الصيت ومقر محكمة الشعب سابقاً، والتي أتخذها عمار علوش وزمرته مقراً لهم وكانوا يمارسون التعذيب فيها بحق المعتقلين، وكل يوم يمر يموت فيه عدد من المعتقلين بسبب التعذيب، حتى أزكمت جرائمهم الأنوف ، واضطر الحاكم العسكري العام [رشيد مصلح التكريتي] إلى إصدار أمرٍ بعدم جواز بقاء الموقوفين لدى الحرس القومي، ووجوب إرسالهم إلى السجن بالنسبة للمدنيين، وإلى سجن رقم واحد ، بالنسبة للعسكريين . وبعد أن أتمت لجانهم التحقيقية عملها، أحيل المعتقلون إلى المجالس العرفية التي شكلوها، والتي بدأت بمحاكمتهم، وإصدار الأحكام القاسية بحقهم، فأرسلت أعداداً كبيرة منهم إلى المشانق، أو الإعدام رمياً بالرصاص، وبالآلاف منهم إلى السجن، محملين بأحكام الطويلة تراوحت بين السجن لمدة ثلاث سنوات، والسجن المؤبد. 
ولم يكتفِ الانقلابيون بذلك ،بل أعادوا محاكمة السجناء السابقين ، الذين حكمتهم المجالس العرفية في عهد عبد الكريم قاسم ، خلافاً للقانون، وحكموا عليهم بالإعدام، ونفذوا الحكم فيهم في ساحات وشوارع الموصل وكركوك .
وحتى الذين لم يثبت انتماؤهم للحزب الشيوعي أمام المجالس العرفية، فكان رئيس المجلس يطلب منهم سبّ الحزب الشيوعي وقادته، وعند رفضهم ذلك، يحكم عليهم بموجب المادة 31 بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وعشر سنوات، متخذاً من رفضهم دليلاً على الاتهام.
لقد أدى سلوك حزب البعث هذا، وحربه الشعواء ضد الحزب الشيوعي  إلى فقدان علاقاتهم بالاتحاد السوفيتي، والمعسكر الاشتراكي، آنذاك وأخذت إذاعتهم تتهجم على تلك البلدان، وغدت الإذاعة وكأنها إحدى إذاعات أمريكا الموجهة إلى البلدان الاشتراكية، وانجروا نحو الحرب الباردة إلى جانب الإمبريالية . (9)

رابعاً: وقوع انقلاب بعثي في سوريا،ومشروع الوحدة الثلاثية
 
لم يكد يمضي سوى شهر واحد على وقوع انقلاب 8 شباط 963 في العراق ، حتى قام البعثيون السوريون بانقلاب عسكري في سوريا، في 8 آذار 963، بقيادة [ لؤي الأتاسي ] بالتعاون مع عدد من الضباط الآخرين، وقد أثار الانقلاب السوري موجة عارمة من الفرح لدى انقلابيي 8 شباط في بغداد، وتملكهم الغرور، وشعروا أن العالم العربي قد أصبح رهن أيديهم، وجرى لقاء بين قادة الانقلابيين في العراق وسوريا،  وبدءوا يخططون لمشروع وحدة ثلاثية، تضمهم إلى جانب العربية المتحدة، بشروطهم الخاصة، وفي ذهنهم أن يكون لهم اليد الطولى في تقرير أمور الوحدة المنشودة.
وبالفعل سافر وفد من بعثي العراق وسوريا، إلى القاهرة،في شهر آذار 1963 حيث تم اللقاء مع الرئيس عبد الناصر، وجرت مفاوضات بين الأطراف الثلاثة حتى شهر نيسان لإقامة وحدة ثلاثية خلال سنتين يجري خلاها التنسيق بين الأطراف في المجالات المختلفة، وكان المشروع لا يعدو عن كونه أدنى من [الاتحاد الفدرالي] الذي وقف البعثيون ضده بقوة عند قيام ثورة 14 تموز 1958، مطالبين بالوحدة الفورية!! .
وبعد مفاوضات طويلة بين الأطراف الثلاث تم عقد [اتفاقية 17 نيسان 963 ]، لإقامة علاقات وحدوية مع العربية المتحدة، لكنها لم تصل إلى حتى مستوى الاتحاد الفدرالي، وعاد الوفدان العراقي والسوري إلى بلديهما، ولم يلبث الاتفاق المبرم أن تلاشى وتم نسيانه بحلول شهر تموز، وأدرك الرئيس عبد الناصر أن البعثيين لم يكونوا صادقين في شعاراتهم ونواياهم، وخاب أمله بهم وبحزبهم . (10)
ومما زاد في الطين بله، اشتداد التناقض بين البعثيين والقوميين ، ومحاولة البعثيين تحجيم العناصر القومية والناصرية والحركية ، الذين حُرموا من المشاركة في المنظمات المختلفة، ومما زاد في تأزم العلاقة بين الطرفين وقوع مصادمات بين أتباع تلك الحركات وقوات الحرس القومي في الموصل وبغداد، وغيرها من المدن الأخرى، ووقوع عدد من القتلى بين الطرفين، مما حدا بمجلس قيادة الثورة الذي يسيطر عليه البعثيون أن يصدر بياناً في 25 أيار وَصفَ فيه الحركيين بالرجعيين والأذناب والانتهازيين، وبأنهم عناصر حاقدة تدبر مؤامرة سوداء ضد الدولة، وضد حزب البعث(11).
ورد الحركيين على بيان الحزب، واصفين تلك التهم بأنها زائفة، ولا تعدوا عن كونها محاولة خسيسة لتصفية العناصر الوحدوية داخل الجيش وخارجه.     
لقد كان الشقاق الذي حصل بين حزب البعث وبين القوميين والناصريين
والحركيين لا يعني إلا الشقاق بين حزب البعث وعبد الناصر، أما في سوريا فقد سارت الأمور هناك نحو الأسوأ، فقد حدث انشقاق في صفوف حزب البعث، وظهر حزب جديد يقوده [ صلاح جديد] و[حافظ الأسد] و[محمد عمران] وأعلنوا معارضتهم إقامة أية وحدة مع العربية المتحدة، متأثرين بالظروف التي آلت إليها سوريا خلال تجربة الوحدة السورية المصرية عام 1958.
وكان هؤلاء الضباط ذوي تأثير ونفوذ كبيرين في صفوف الجيش، وثبتوا أقدامهم بعد انفصام الوحدة، وعملوا على تطهير الجيش من العناصر القومية المؤيدة للوحدة.
وهكذا كان الفتور في التوجه الحقيقي نحو الوحدة بادياً للعيان، وانتهى الاتفاق بعد وقت قصير من ولادته، وبدأ عبد الناصر يوجه سهامه نحو عفلق وصلاح الدين البيطار متهماً إياهم بالخيانة لقضية الوحدة .(12)
حاول عبد السلام عارف مصالحة عبد الناصر مع البعثيين، إلا أنه فشل في مسعاه، وتوسعت الخلافات بين البعثيين وعبد السلام عارف، والضباط القوميين في صفوف الجيش، وباتت تنذر بالخطر على سلطة حزب البعث.
وهكذا  تخلى البعثيون عن شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ذلك الشعار الذي رفعوه منذُ اليوم الأول لثورة 14تموز، وكان سبباً في شق وحدة جبهة الاتحاد الوطني، وحركة الضباط الأحرار، وفي الصراع السياسي الذي تبع ذلك بين القوى ذات التوجه الديمقراطي، والقوى ذات التوجه القومي، والذي أدى بدوره إلى انتكاسة ثورة 14تموز، وقد اثبت الأيام بعد وثوبهم إلى السلطة عبر انقلاب 8 شباط 63 أنهم استخدموا ذلك الشعار، واسم عبد الناصر للوثوب على السلطة وفعل نفس الشيء شريكهم عبد السلام عارف بعد انقلابه على البعثيين.

خامساً:البعثيون يشنون الحرب على الشعب الكردي
اتسمت العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب البعث العربي الاشتراكي بالفتور والتنافر منذ بداية تشكيل جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 بسبب المواقف الشوفينية لهذا الحزب من القضية الكردية، ورفضه انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني للجبهة رغم كل المحاولات التي بذلها الحزب الشيوعي في إقناع حزب البعث  بقبول الحزب الديمقراطي الكردستاني بعضوية الجبهة، مما اضطر الحزب الشيوعي إلى عقد تحالف ثنائي معه. (13)
وعندما مزق حزب البعث جبهة الاتحاد الوطني، وتآمر على ثورة 14 تموز وقيادتها المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم وقف الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جانب الحزب الشيوعي في الدفاع عن الثورة وقيادتها، وساهم الحزبان مساهمة فعالة في قمع انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل عام 1959، وحدثت القطيعة بين الحزبين منذ ذلك الحين وحتى عام 1961 عندما ساءت العلاقات بين حكومة عبد الكريم قاسم والقيادة الكردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني، وتعمق الخلافات بين الطرفين حول الحقوق القومية للشعب الكردي، مما أدى في نهاية الأمر إلى تصادم قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بحكومة عبد الكريم قاسم، واندلاع القتال بين الطرفين رغم كل المساعي التي بذلها الحزب الشيوعي لتجنب الحرب.(14)
و دخلت كردستان في حرب طرفيها يمثلان قوى وطنية، و أستمر لهيبها حتى نهاية حكم عبد الكريم  قاسم، وفي تلك الفترة كان أعداء ثورة 14 تموز يعدون العدة لانقلابهم الفاشي مستغلين وقوع الحرب في كردستان وانشغال الحكومة وقوات الجيش في تلك الحرب.
وفي تلك الأثناء حصلت القناعة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني  أن تحالفاً مع تلك القوى البعثية والقومية، لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم يمكن أن يحقق لهم آمالهم في نيل حقوقهم القومية المشروعة !!.
وهكذا بدأت القيادة الكردية بمغازلة الانقلابيين من أجل إقامة التعاون بينهم، وكان ذلك التفكير ينم عن عدم إدراك لطبيعة هذه القوى ، وتوجهاتها القومية الشوفينية، وكراهيتها للشعب الكردي .     
ورغم التحذيرات المتكررة التي وجهها الحزب الشيوعي للقيادة الكردية 
من مخاطر انجرارهم إلى التآمر على ثورة14 تموز، والتي سوف تصيب الشعب الكردي بأفدح الأضرار، إلا أنهم لم يأخذوا بتلك النصيحة، واخذوا يتبادلون المذكرات واللقاءات مع الانقلابيين، وشاءت الظروف أن تقع بين يديّ تلك المذكرات المتبادلة بين السيد إبراهيم احمدـ سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ وطاهر يحيى ممثل الانقلابيين، بعد يوم من وقوع انقلاب 8 شباط مباشرة.
 وهكذا، مع مزيد الأسف ، وضعت القيادة الكردية أيديها بأيدي الانقلابيين، أعداء القومية الكردية، الذين لا يعترفون بالأكراد كقومية، وهللوا وتظاهروا فرحين يوم الانقلاب في الثامن من شباط عام 1963، وأسرع ممثليهم [صالح اليوسفي] و[فؤاد عارف] إلى دار الإذاعة صباح يوم الانقلاب لتقديم التهاني والتبريكات للانقلابيين، وسارعت قيادة الحزب إلى إرسال برقية التهنئة للانقلابيين تقول فيها [ اليوم تعانقت الثورتان .....] وكانوا فرحين مستبشرين بالعهد الجديد يحدوهم الأمل بأن يمنح هؤلاء الشوفينيين القتلة الحقوق القومية للشعب الكردي!.(15)
 غير أن الانقلابيين كانوا يضمرون كل الشر للأكراد، وتظاهروا في لقاءاتهم، ومذكراتهم بحرصهم على تلك الحقوق، وكانوا يهدفون من وراء ذلك تجميد الأكراد يوم الانقلاب، وضمان عدم التصدي لهم كما فعل الشيوعيون، ولاشك أنه كانت لهم كل الإمكانية للقيام بدور فاعل في كركوك والسليمانية والموصل وأربيل وسائر المناطق الكردية  بالتصدي للانقلابيين، وإفشال مؤامرتهم ضد ثورة 14 تموز المجيدة.             
لكن القادة الأكراد وقعوا في الفخ الذي نُصب لهم، وتنكّروا  لثورة 14 تموز، شاءوا أم أبوا، وضيعوا ليس حقوق الشعب الكردي فحسب، بل الشعب العراقي كافة، فلم يكد يمضي سوى أقل من أربعة أشهر على الانقلاب حتى بادر الانقلابيون بدون سابق إنذار إلى شن حملة عسكرية واسعة النطاق على كردستان، مستخدمين كل ما يمتلكون من الأسلحة المدمرة والطائرات  للتنكيل بالشعب الكردي، وهدم قراهم، وتقتيل  الآلاف من أبنائهم .   
لقد شهدت بأم عيني ماذا فعل الانقلابيون في مدينة السليمانية، ففي فجراليوم العاشر من حزيران 963 طافت سيارات عسكرية تحمل مكبرات الصوت، وتدعوا الناس إلى عدم مغادرة منازلهم، وتعلن منع التجول وبنفس الوقت، تحركت قطعانهم العسكرية لتداهم المنازل، منزلاً فمنزلاً وحسب الأرقام ، وتفتشها تفتيشاً دقيقاً، وتعتقل كل شخص تجاوز السادسة عشرة من عمره .
كنت في ذلك الوقت متخفياً في السليمانية منذُ وقوع انقلاب 8 شباط ، حيث أصدر الحاكم العسكري أمراً بالقبض عليَّ، وتمكنت بأعجوبة من الإفلات من قبضة الانقلابيين .
لقد أعتقل الانقلابيون الآلاف من أبناء الشعب الكردي، ولم يسلم من الاعتقال الحكام والأطباء  والمحامون والمهندسون وسائر الموظفين ، وبدأ الانقلابيون يجرون عملية فرز للمعتقلين، فمن كان شيوعياً أو بارتياً أطلقوا عليه الرصاص في الحال، دون محاكمة، حيث استشهد منهم المئات، وكان من بينهم العديد من رفاقي وأصدقائي، وقام الانقلابيون بحفر خنادق كبيرة بالبلدوزرات العسكرية، وتم دفنهم بصورة جماعية، في مكان قريب من معسكرهم .
أما الذين بقوا رهن الاعتقال في معسكرات الجيش  فقد أبقاهم الانقلابيون ثلاثة أيام متوالية دون طعام، ومنعوهم من أخذ أي شيء معهم إلى المعتقل، ومكثوا في الاعتقال عدة أشهر، ويوم خروجهم من المعتقلات كانت لحاهم، وأظافرهم قد أصبحت طويلة جداً، فلم يسمح لهم الانقلابيون حتى بأخذ ماكنة الحلاقة.
لقد قام الانقلابيون أثناء حملة التفتيش للمنازل بقتل العديد من الأكراد أمام عوائلهم، ومنعوا ذويهم من الخروج لدفنهم، مما اضطرهم إلى دفنهم في فناء منازلهم، كما جرى نهب العديد من المحلات التجارية وحرقها، وكل هذا لا يمثل إلا جزءاً ضئيلا  من الجرائم التي أرتكبها البعثيون الفاشست في كردستان، وسائر المدن العراقية.
ولم يكتفِ البعثيون بقواتهم العسكرية بل استقدموا قوات عسكرية من البعث السوري بقيادة الفريق [ فهد الشاعر] بغية تصفية الحركة الكردية. 
أستمر لهيب الحرب في كردستان حتى سقوط حكم البعث ،وتولي عبد
السلام عارف الحكم، إثر انقلابه على البعثيين في 17 تشرين الثاني من نفس العام ، حيث توصل البارتيون وعبد السلام عارف، عبر وساطة الرئيس عبد الناصر إلى إيقاف القتال في 10 شباط 964.
غير أن تباين التطلعات القومية لدى القوميين العرب والأكراد جعل من المستحيل استمرار تلك الهدنة الهشة، واندلع القتال من جديد في 5 نيسان 1965، وعلى عهد عبد السلام نفسه أيضاً.


311
سنوات الجحيم
أربعون عاماً من حكم البعث الفاشي في العراق
الحلقة /3     

حامد الحمداني                                    27/ 2/2010

: دستور حزب البعث:
بعد تأسيس ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار لحزب البعث في 7نيسان 1947 كان لابد من وضع ميثاق للحزب ، وقد عكف ميشيل عفلق على وضع ذلك الميثاق الذي دعاه [ دستور الحزب] وجاء الدستور من بناة أفكاره ، وقد جرى اتخاذه بعد توحيد حزب البعث مع حزب أكرم الحوراني[الحزب الاشتراكي] وتشكيل[حزب البعث العربي الاشتراكي]من دون إجراء أي تغيير عليه، وقد وجدت من الضروري أن يتضمن البحث في تاريخ حزب البعث نص الدستور لكي يطلع القراء والمتتبعون على الفكر الحقيقي لقادة البعث، وعلى رأسهم ميشيل عفلق من جهة، وعلى الواقع العملي لتاريخ حزب البعث خلال أربعين عاما من حكمهم للعراق وسوريا من جهة أخرى.
نص الدستور
المادة1: حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب عربي شامل تُؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية ، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا.
المادة2: مركز الحزب العام هو حاليا دمشق، ويمكن أن ينقل إلى أي مدينة عربية أخرى إذا اقتضت المصلحة القومية.
المادة3: حزب البعث العربي الاشتراكي قومي يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة، وبأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقاً هو شعور مقدس حافل بالقوى الخالقة ، حافز على التضحية، باعث على الشعور بالمسؤولية، عامل على توجيه إنسانية الفرد توجيهاً عملياً مجدياً، والفكرة القومية التي يدعو إليها الحزب هي إرادة الشعب العربي أن يتحرر ويتوحد، وأن تُعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ، وأن يتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرها القويم إلى الخير والرفاهية. 
المادة4:حزب البعث العربي الاشتراكي،اشتراكي يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية، لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكاناته، وتفتح عبقريته على أكمل وجه، فيضمن للأمة العربية نمواً مطرداً في إنتاجها المعنوي والمادي، وتآخيا وثيقاً بين أفرادها.
مادة 5: حزب البعث العربي الاشتراكي شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب، وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها، لذلك يعتمد الحزب على أداء رسالته على الشعب، ويسعى للاتصال به اتصالاً وثيقاً، ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي والاقتصادي والصحي، لكي يستطيع الشعور بشخصيته، وممارسة حقوقه في الحياة الفردية والقوم
المادة6: حزب البعث العربي الاشتراكي انقلابي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال، وإن الاعتماد على التطور البطيء، والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع لذلك فهو يقرر:
ـ النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً.
ـ النضال لجمع شمل العرب كلهم في دولة واحدة.
ـ الانقلاب على الواقع الفاسد يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
المادة 7: الوطن العربي هو البقعة التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه، وخليج البصرة، والبحر العربي، والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط
المادة8: لغة الدولة الرسمية ولغة المواطنين المعترف بها في الكتابة والتعليم هي اللغة العربية.
المادة9: راية الدولة العربية هي راية الثورة العربية التي انفجرت عام 1916 لتحرير الأمة العربية وتوحيدها.
المادة10: العربي هو كل من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية ، أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه للأمة العربية. 
المادة11:  يجلى عن الوطن العربي كل من دعا ، أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب،وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية
المادة12: تتمتع المرأة العربية بحقوق المواطن كلها، والحزب يناضل لرفع مستوى المرأة حتى تصبح جديرة بتمتعها بهذه الحقوق.          .               
المادة 13: تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في التعليم والحياة الاقتصادية كي يظهر المواطنون في جميع مجالات النشاط الإنساني كفاءاتهم على وجهها الحقيقي وفي حدود النص في حدودها القصوى.   
 المادة 14: نظام الحكم في الدولة العربية هو نظام نيابي دستوري، والسلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب.   
 المادة 15:الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين، وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية            .               
المادة16: نظام الإدارة في الدولة العربية نظام لا مركزي.                 
المادة 17: يعمل الحزب على تعميم الروح الشعبية [حكم الشعب] وجعلها حقيقة حية في الحياة الفردية، ويسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم، واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً، ويهيئ لهم بذلك حياة حرة ضمن نطاق القوانين.
المادة 18: يوضع بملء الحرية تشريع موحد للدولة العربية منسجم مع روح العصر الحاضر، وعلى ضوء تجارب الأمة العربية في ماضيها         .                             
المادة19: السلطة القضائية مصونة ومستقلة عن أية سلطة أخرى، وهي تتمتع بحصانة مطلقة.                              .
المادة 20: تمنح حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن عاش في الأرض العربية، وأخلص للوطن العربي، وانفصل عن كل تكتل عنصري             .                           
المادة 21: الجندية إجبارية في الوطن العربي.   
 المادة22: تستوحي السياسة الخارجية للدولة العربية من المصلحة القومية العربية، ومن رسالة العرب الخالدة، التي ترمي إلى المساهمة مع الأمم الأخرى في إيجاد عالم منسجم حر آمن يسير في سبيل التقدم                .
المادة23: يناضل العرب بكل قواهم لتقويض دعائم الاستعمار والاحتلال وكل نفوذ سياسي أو اقتصادي أجنبي في بلادهم.              .
المادة 24: لما كان الشعب العربي وحده مصدر كل سلطة لذلك تلغى كل ما عقدته الحكومات من معاهدات وصكوك تخل بسيادة العرب              .
المادة25: إن السياسة العربية الخارجية تستهدف إعطاء الصورة الصحيحة عن إرادة العرب بأن يعيشوا أحراراً، وعن رغبتهم الصادقة بأن يجدوا جميع الأمم تتمتع مثلهم بالحرية.
المادة 26: حزب البعث العربي الاشتراكي، اشتراكي يؤمن بأن الثروة الاقتصادية في الوطن ملك للأمة             .                 .                                           
المادة 27: إن التوزيع الراهن للثروات في الوطن العربي غير عادل ولذلك يعاد النظر في أمرها وتوزع بين المواطنين توزيعاً عادلاً              .
المادة 28: المواطنون جميعاً متساوون بالقيمة الإنسانية، ولذا فالحزب يمنع استثمار جهد الآخرين.                         .
المادة29: المؤسسات ذات النفع العام، وموارد الطبيعة الكبرى، ووسائل الإنتاج الكبيرة، ووسائل النقل، ملك للأمة تديرها الدولة مباشرة، وتلغى الشركات والامتيازات الأجنبية     .                         .
المادة30: تحدد الملكية الزراعية تحديداً يتناسب مع مقدرة المالك على الاستثمار الكامل دون استثمار جهد الآخرين تحت إشراف الدولة، ووفق برنامجها الاقتصادي العام.                         .
المادة 31: تحدد الملكية الصناعية الصغيرة بما يتناسب مع المستوى الاقتصادي الذي يتمتع به بقية المواطنين في الدولة.                       .
المادة 32: يشترك العمال في إدارة المعمل، ويمنحون عدا أجورهم التي تحددها الدولة نصيباً من أرباح العمل تحدد الدولة نسبته               .
المادة 33: ملكية العقارات المبنية مباحة للمواطنين جميعاً على أن لا يحق لهم إيجارها واستثمارها على حساب الآخرين، وأن تضمن الدولة حداً أدنى من التملك العقاري للمواطنين جميعاً.                        .
المادة 34: التملك والإرث حقان طبيعيان ومصونان في حدود المصلحة القومية.
المادة 35: يلغى الربا بين المواطنين، ويؤسس مصرف حكومي واحد يصدر النقد الذي يضمنه الإنتاج القومي، ويغذي المشاريع الزراعية والصناعية الضرورية.                                         
المادة36: تشرف الدولة إشرافاً مباشراً على التجارتين الداخلية والخارجية لإلغاء الاستثمار بين المنتج والمستهلك، وحمايتهما وحماية الإنتاج القومي من مزاحمة الإنتاج الأجنبي، وتأمين التوازن بين الصادر والوارد               .
المادة 37: يوضع برنامج شامل على ضوء أحدث التجارب والنظريات الاقتصادية لتصنيع الوطن العربي، وتنمية الإنتاج القومي وفتح آفاق جديدة له وتوجيه الاقتصاد الصناعي في كل قطر بحسب إمكاناته وبحسب توافر المواد الأولية فيه.
المادة 38: الأسرة والنسل والزواج:                            .
البند الأول: الأسرة خلية الأمة الأساسية، وعلى الدولة حمايتها وتنميتها وإسعادها.
البندالثاني: النسل أمانة في عنق الأسرة أولا، والدولة ثانيا،ً وعليهما العمل على تكثيره، والعناية بصحته وتربيته.                     .
البندالثالث:الزواج واجب قومي وعلى الدولة تشجيعه وتسهيله ومراقبته.
المادة 39: صحة المجتمع:                                   .
تنشئ الدولة على نفقتها مؤسسات الطب الوقائي والمصحات والمستشفيات التي تفي بحاجات المواطنين كلهم على الوجه الأكمل، وتضمن لهم المعالجة المجانية.                                   
المادة 40: العمل:                                                      .
البند الأول: العمل إلزامي على كل من يستطيعه، وعلى الدولة أن تضمن عملاً فكرياً أو يدوياً لكل مواطن.                            .
 البند الثاني: يجب أن يكفل مورد العمل لعامله على الأقل مستوى لائقاً من الحياة.                                                 .
البندالثالث: تضمن الدولة معيشة العاجزين عن العمل جميعاً.
البندالرابع: سن تشريع عادل للعامل يحدد ساعات العمل اليومي، ويمنحه عطلة أسبوعية وسنوية مأجورتين، ويصون حقوقه ويكفل التأمين الاجتماعي في الشيخوخة، وتعويض العطل الجزئي أو الكلي .
البند الخامس: تأليف نقابات حرة للعمال والفلاحين وتشجيعها لتصبح أداة صالحة للدفاع عن حقوقهم، ورفع مستواهم، وتعهد كفاءاتهم وزيادة الفرص الممنوحة لهم وخلق روح التضامن بينهم وتمثيلهم في محاكم العمل العليا.                                                     
البند السادس: تأليف محاكم خاصة للعمل تمثل فيها الدولة ونقابات العمال والفلاحين، وتفصل في الخلافات التي تقع بينهم وبين مديري المعامل وممثلي الدولة.                                               .
المادة41: ثقافة المجتمع:                                  .
 البند الأول: يعمل الحزب في سبيل إيجاد ثقافة عامة للوطن العربي قومية ـ عربية ـ حرة ـ تقدمية ـ شاملة ـ عميقة ـ وإنسانية في مراميها، وتعميمها في جميع أوساط الشعب.                      .
البند الثاني : الدولة مسؤولة عن صيانة حرية القول والنشر والاجتماع والاحتجاج والصحافة، في حدود المصلحة القومية العربية العليا، وتقديم كل الوسائل والإمكانيات التي تحقق هذه الحرية.                           .
البند الثالث: العمل الفكري من أقدس أنواع العمل، وعلى الدولة أن تحمي المفكرين والعلماء وتشجعهم.                                .
البند الرابع: فسح المجال في حدود الفكرة القومية العربية لتأسيس النوادي وتأليف الجمعيات والأحزاب ومنظمات الشباب ومؤسسات السياحة والاستفادة من السينما والإذاعة والتلفزيون وكل وسائل المدنية الحديثة في تعميم الثقافة القومية وترفيه الشعب.                      .
المادة 42: إلغاء التفاوت الطبقي والتمايز:                                  .
التمايز الطبقي نتيجة لوضع اجتماعي فاسد.. لذلك فالحزب يناضل في صف الطبقات الكادحة المضطهدة من المجتمع حتى يزول هذا التفاوت والتمايز، ويستعيد المواطنون جميعاً قيمتهم الإنسانية كاملة، وتتاح لهم الحياة في ظل نظام اجتماعي عادل لا ميزة فيه لمواطن على آخر سوى كفاءة الفكر ومهارة اليد.                                    .                                                               
المادة43: البداوة حالة اجتماعية ابتدائية تضعف الإنتاج القومي، وتجعل من فريق كبير من الأمة عضواً أشل، وعاملاً على عرقلة نموها وتقدمها، والحزب يناضل في سبيل تحضير البدو، ومنحهم الأراضي وإلغاء النظم العشائرية، وتطبيق قوانين الدولة عليهم.
المادة 44: طبع كل مظاهر الحياة الفكرية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والفنية بطابع قومي عربي يعيد للأمة صلتها بتاريخها المجيد، ويحفزها إلى أن تتطلع إلى مستقبل أمجد وأمثل                   ..
المادة 45: التعليم وظيفة من وظائف الدولة وحدها، ولذا تلغى كل مؤسسات التعليم الأجنبية والأهلية.                                               
المادة 46: التعليم بكل مراحله مجاني للمواطنين جميعاً، وإلزامي في مراحله الابتدائية والثانوية..                                                     
المادة 47: تؤسس مدارس مهنية مجهزة بأحدث الوسائل، والدراسة فيها مجانية.
المادة 48: حصر مهنة التعليم وكل ما له مساس بالتربية بالمواطنين العرب ويستثنى من ذلك التعليم العالي.
مادة منفردة: تعديل الدستور:                                        .             
لا تعدل المبادئ الأساسية والعامة، وتعدل بقية مواد الدستور بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الحزب بعد اقتراح يقدم من اللجنة التنفيذية، أو ربع أعضاء المجلس، أو عشر أعضاء الهيئة العامة.
رابعاً: نشر بذور حزب البعث في العراق ولبنان والأردن
من أجل تحقيق دعواته لوحدة الأمة العربية سعى عفلق لنشر أفكاره في مختلف البلدان العربية، مستفيداً من الأحداث التي جرت في فلسطين عام 1948، عندما قامت بريطانيا بالانسحاب منها، وتسليم أسلحتها للمنظمات الصهيونية الإرهابية، حيث تم إعلان قيام دولة إسرائيل فور خروج القوات البريطانية من فلسطين، وشنت هذه المنظمات حملة تقتيل وتهجير واسعة النطاق لأبناء الشعب الفلسطيني الذين هربوا بجلدهم من بطش تلك المنظمات الإرهابية، ولجئوا إلى البلدان العربية المجاورة، وعاشوا في المخيمات انتظاراً للحكام العرب لكي يعيدونهم إلى مدنهم وقراهم في وطنهم فلسطين.
 لكن الحكام العرب كانوا جزءاً من المؤامرة الإمبريالية لإقامة دولة إسرائيل، فكان إرسال القوات العسكرية التي أرسلوها إلى فلسطين للقتال ضد المنظمات الصهيونية عبارة عن مسرحية أعدت في لندن وواشنطن، حيث لم يسمح للقوات العربية أن تقوم بدورها المطلوب، وقد جرى تسليم قيادتها للقائد البريطاني  كلوب باشا رئيس أركان الجيش الأردني، والملك عبد الله جد الملك حسين الذي كان على تواصل مستمر مع قيادات المنظمات الصهيونية.
 وهكذا بقي اللاجئون الفلسطينيون منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا في الشتات يعيشون في المخيمات التي لا تتوفر فيها ابسط الشروط الصحية، ولا مقومات الحياة الكريمة، وما زالت إسرائيل ترفض عودتهم إلى مدنهم وقراهم في إطار أي حل للقضية الفلسطينية.
أحدث تآمر الحكام العرب وتخاذلهم موجة عارمة من المظاهرات التي عمت العالم العربي منددة بالإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين، وخدمهم الحكام العرب، وظهرت دعوات داخل الوطن العربي لإجراء تغيير للأنظمة القائمة آنذاك.
وهكذا بدأت بذور حزب البعث تنبت في الدول المجاورة لسوريا والمتمثلة بالعراق ولبنان والأردن في بادئ الوقت، ومن ثم بدأت تتغلغل في العديد من البلدان العربية الأخرى.

خامسا: تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق

كان بداية نشر بذور حزب البعث في العراق بعد ذلك المد القومي الذي اجتاح العالم العربي كما أسلفنا، من خلال الطلاب الذين كانون يدرسون في العراق، وكان أول من زرع بذور الحزب في العراق ثلاثة من أبناء لواء الاسكندرون هم[فائز إسماعيل] الطالب في كلية الحقوق في بغداد و[وصفي الغانم] الطالب في دار المعلمين العالية، وهو شقيق [وهيب الغانم] أحد ابرز المؤسسين للخلايا البعثية الأولى، وعضو قيادة البعث السوري، والشاعر الحلبي سليمان العيسى. (10)
وكانت بدايات نشوء خلايا الحزب في منطقة الأعظمية ببغداد، ثم ما لبثت أن انتشرت بين الطلاب القريبين من حزب الاستقلال القومي بزعامة[محمد مهدي كبة] وحتى من المنتمين لهذا الحزب، في بعض المدن الأخرى كالموصل والبصرة والرمادي والناصرية.
بدأ تنظيم حزب البعث في العراق عام 1950 بزعامة [فائز الغانم] في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن انتقلت إلى طالب الحقوق[عبد الرحمن الضامن] وهو مواطن عراقي من بغداد، لكن القيادة ما لبثت أن انتقلت إلى المهندس [فؤاد الركابي] وهو شيعي من الناصرية في الحادية والثلاثين من العمر، وذلك عام 1951، واستمر في قيادة الحزب حتى عام 1959.
كان فؤاد الركابي قد تشبع بالفكر القومي، حيث كان قريبا من حزب الاستقلال القومي لكنه لم ينضم إلى الحزب المذكور، بل انتمى إلى حزب البعث مباشرةً في عام 1950، واستطاع بنشاطه واندفاعه أن يتولى قيادة الحزب بعد سنة واحدة من انتمائه على أثر مرض عبد الرحمن الضامن وتركه الحزب، وفي عهد قيادته توسعت قاعدة الحزب التي كانت تضم ما يقارب 50 عضواً، حيث تجاوز عددهم الضعف عام 1952 ، ومن ثم بلغ تعداد أعضائه فيما بعد 289 عضواً في عام 1955 باستثناء المؤيدين وغالبيتهم من الطلاب، وقد جرى اعتراف قيادة الحزب في سوريا بحزب البعث العراقي كفرع للحزب، واتخذت قيادة الحزب من أسلوب تنظيمات الحزب الشيوعي الشيء الكثير، ولاسيما وأن الحزب كان يمارس نشاطه بصورة سرية شأنه شأن الحزب الشيوعي، فكان لا بد من اختيار الوسائل التي تحافظ على التنظيم من الانكشاف أمام السلطات الأمنية آنذاك.
وعلى اثر تشكيل حزب البعث في الأردن عام 1947، وتشكيل الحزب في لبنان عام 1949، وتشكيل الحزب في العراق عام 1950، وتوسع قاعدة ونشاطات الحزب خلال الأعوام الثلاثة التالية، تم الإعلان عن تأسيس القيادة القومية للحزب عام 1954، وقد ضمت القيادة أمناء سر القيادات القطرية بالإضافة إلى عدد من القيادات الحزبية الأخرى الذين جرى اختيارهم من قبل أمناء سر القيادات القطرية. (11)
ركز فؤاد الركابي جهده لتوسيع صلاته بالأحزاب الوطنية الفاعلة على الساحة العراقية والمتمثلة بالحزب الشيوعي بقيادة سلام عادل [حسين محمد الرضي]،والحزب الوطني الديمقراطي بزعامة[ كامل الجادرجي]   
وحزب الاستقلال بزعامة [محمد مهدي كبة]، حيث تكللت جهود الجميع في إقامة جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، والتي استطاعت بدورها إجراء التنسيق مع اللجنة العليا للضباط الأحرار بزعامة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم الذي استطاع بنجاح قيادة ثورة 14 تموز عام 1958. وتم تشكل أول حكومة عراقية خارج إرادة السفارة البريطانية في بغداد وضمت الوزارة أعضاء من كافة الأحزاب المنضوية لجبهة الاتحاد الوطني باستثناء الحزب الشيوعي، حيث اكتفى عبد الكريم قاسم بتعيين الماركسي القريب من الحزب [إبراهيم كبه] وزيرا للاقتصاد، وكان تعليل ذلك بسبب الوضع الخطير الذي كان يحيط بالثورة من قبل القوى الإمبريالية التي كانت متوثبة لإجهاض الثورة الوليدة.
 كما شغل فؤاد الركابي منصب وزير الإعمار، وشغل زعيم حزب الاستقلال عضوية مجلس السيادة الذي كان يقوم مقام رئاسة الجمهورية،أما الحزب الوطني الديمقراطي فقد مثله في الوزارة كل من [محمد حديد]و[هديب الحاج حمود] فيما مثل الأكراد [خالد النقشبندي] عضوا في مجلس السيادة ، و[بابا علي الشيخ محمود] وزيرا للاشغال.
 لكن فوأد الركابي الذي شغل مركز الأمين العام للقيادة القطرية لم يلبث أن استقال من الوزارة مع عدد من الوزراء القوميين بسبب الموقف الرسمي للحكومة العراقية من عبد الناصر، الذي تدخل بشكل فض في الشؤون الداخلية للعراق، وقدم الدعم المادي والإعلامي والسلاح للحركة الانقلابية في الموصل التي تزعمها العقيد عبد الوهاب الشواف، ثم ما لبث أن ترك الحزب على أثر حدوث الخلافات بين أعضاء القيادة، وجرى انتخاب علي صالح السعدي أمينا عاما للحزب، وقاد الحزب بعد انقلاب الثامن من شباط 1963 الذي أوصلهم إلى السلطة، والذي قال عنه السعدي نفسه قولته المشهورة:
[ لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي].
 وقد دام حكم حزب البعث تسعة أشهر كان انجازه الوحيد خلالها هو تنفيذ المهمة التي |أوكلتها لهم الإمبريالية الأمريكية بشن الحرب الدموية ضد الحركة الشيوعية في العراق، والتنكيل بكل من يمت بصلة بالحزب الشيوعي من قريب أو بعيد سجناَ وتعذيبا وقتلا، وإعدام الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه قادة ثورة الرابع عشر من تموز دون محاكمة، وشن الحرب ضد الشعب الكردي المطالب بحقوقه القومية، وملء السجون بعشرات الألوف من المواطنين، وسأتناول تفاصيل كل ما جرى في فصول قادمة.
سادساً: الصراعات والانشقاقات داخل قيادات حزب البعث
لم تكد الوحدة المصرية السورية أن تنفرط على اثر الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الكريم زهر الدين  في سوريا حتى دبت الخلافات بين قادة الحزب في سوريا، والتي بدورها قادت إلى الانشقاقات المتعددة.   
فقد ظهرت ثلاثة مواقف متباينة داخل قيادة الحزب تجاه الموقف من   الانفصال، فقد دعا قادة الاتجاه الأول إلى عودة الوحدة مع مصر ، فيما طالب قادة الاتجاه الثاني بقيادة أكرم الحوراني بضمانات لعدم العودة للوضع السابق وعودة الهيمنة المصرية المطلقة على سوريا.
أما الاتجاه الثالث الذي قاده ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار فقد دعا إلى التمسك بخط القيادة القومية الذي يمثلانه، ووقفت إلى جانبهما القيادة القطرية في العراق بقيادة فوأد الركابي، وقد دعا عفلق والبيطار إلى عقد المؤتمر القومي الخامس في أيار 1962.
لكن المؤتمر لم يستطع الحفاظ على وحدة الحزب، بل على العكس من ذلك انفض المؤتمر وقد انشق إلى ثلاث كتل.
فقد انشقت الكتلة الأولى التي عارضت الانفصال عن الحزب مكونة تنظيماً جديداً تحت اسم [حركة الوحدويين الاشتراكيين].
كما انشقت الكتلة الثانية التي عارضت حل الحزب، وأعلنت نفسها القيادة التي تمثل الحزب تحت اسم [القيادة القطرية السورية] محملة قيادة عفلق والبيطار والحوراني مسؤولية حل الحزب. 
أما كتلة أكرم الحوراني فقد أعلنت عن تأسيس [حركة الاشتراكيين العرب] عام 1962.
وفي الثامن من شباط 1963 وقع انقلاب عسكري في العراق ضد حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم قائد ثورة الرابع عشر من تموز، قاده حزب البعث بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا، واستولى على مقاليد الحكم في البلاد.
وفي الثامن من آذار1963[أي بعد مرور شهر على انقلاب العراق] وقع انقلاب عسكري قاده الجناح العسكري لحزب البعث بقيادة[صلاح جديد] و[حافظ الأسد] ،ورغم عودة جناح عفلق والبيطار إلى قيادة الحزب إلا أن العسكريين ما لبثوا أن انقلبوا على قيادة عفلق والبيطار في 23 شباط 1964، بعد أقل من عام من وقوع الانقلاب.
وهكذا انشق الحزب إلى جناحين، الجناح الأول المتمثل بالعسكريين الممسكين بزمام الحكم في سوريا، والجناح الثاني المتمثل بالقيادة القومية التي ضمت القيادة التاريخية لحزب البعث.
 وبسبب وقوف القيادة القطرية لحزب البعث في العراق إلى جانب القيادة التاريخية لعفلق والبيطار، فقد أقدمت القيادة السورية التي كان على رأسها صلاح جديد ونور الدين الأتاسي إلى إصدار قرار بفصل [أحمد حسن البكر] من الحزب، مما أدى إلى انشقاق عفلق والبيطار عن الحزب، حيث أصبح للحزب قيادتين قوميتين، القيادة الأولى بزعامة عفلق، والثانية بزعامة [نور الدين الأتاسي]، وقد عقدت قيادة الفريق الأول مؤتمرها القومي التاسع في شباط 1968، والذي شاركت فيه القيادة القطرية في العراق، وجرى استبعاد [حافظ الأسد] و[إبراهيم ناصر] من القيادة القومية، في حين عقدت قيادة الفريق الثاني مؤتمرها التاسع في تموز 1968، حيث اتخذ قرارا بفصل القيادة التاريخية للحزب.

ولم يكد حزب البعث العراقي يعود إلى الحكم بعد الانقلاب العسكري الذي جرى في العراق في 17 تموز 1968 بقيادة مجموعتي عبد الرزاق النايف وحزب البعث، الذي انقلب على شريكه النايف بعد ثلاثة عشر يوماً، وقاد انقلاباَ ثانياً في 30 تموز، وتم إبعاد النايف عن الحكم، وجرى تسفيره إلى لندن ، ثم ما لبث حزب البعث أن دبر عملية اغتياله في لندن وبذلك سيطر الحزب على الحكم دون منازع، وانتخب قيادة قومية مركزها العراق. أما ميشيل عفلق فقد آثر الإقامة في لبنان،حيث بقي هناك حتى عام 1975 ، لكنه انتقل إلى العراق بعد نشوب الحرب الأهلية في لبنان، وبقي هناك بصفته القائد المؤسس، لكن القيادة الحقيقية كانت لأحمد حسن البكر، ومن ثم لصدام حسين، وعاش عفلق في بغداد حتى وفاته.
أما القيادة القومية في سوريا فقد تعرضت مرة أخرى نتيجة للصراعات الداخلية على السلطة هزة عنيفة على أثر قيام حافظ الأسد بانقلاب على قيادة [صلاح جديد] دعاه بـ [الحركة التصحيحية] وأقدم على سجن القيادة القومية السابقة لسنوات طويلة، ومات صلاح جديد في السجن، وجرى تشكيل قيادة قومية جديدة بزعامة [حافظ الأسد] وعضوية[عبد الحليم خدام] و[عبد الله الأحمر] و[محمد حيدر] وآخرين،واستطاع حافظ الأسد أن يمسك بزمام السلطة في سوريا بيد من حديد، ويقمع أية معارضة لحكمه سواء جاءت من بين صفوف حزب البعث أم من  أي جهة سياسية أخرى، وكانت أجهزته القمعية ومخابراته المختلفة تترصد كل صغيرة وكبيرة لحماية حكمه، حيث استمر في حكم البلاد حتى وفاته في 11 حزيران 2000، وكان قبل وفاته قد هيأ ابنه البكر باسل الأسد لتولي السلطة من بعده.
لكن باسل قُتل في ظروف غامضة، وقيل انه قتل بحادث سيارة في طريق المطار، وبدأ حافظ الأسد يعد ولده الأصغر بشار لتولي السلطة من بعده، وعند وفاته كان بشار دون السن القانونية التي تؤهله لرئاسة الجمهورية حسبما نص عليه الدستور، مما تطلب دعوة البرلمان بصورة عاجلة ، وبأمر من قيادة الحرس الجمهوري، لتعديل الدستور، حيث اجتمع البرلمان، وقرر خلال مدة لا تزيد على عشر دقائق على تعديل الفقرة الخاصة بعمر المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية، لكي يتسنى للبرلمان انتخاب بشار رئيساً للجمهورية ، على الرغم من وجود من هو أجدر منه في صفوف الحزب، وأكثر منه خبرة وتجربة.

أما في الجانب العراقي فقد حدثت صراعات داخل الحزب بعد تسلم الحزب السلطة بانقلاب عسكري في 8 شباط 1963 بين الجناح المدني من جهة، وبين الجناح المدني والجناح العسكري من جهة أخرى مما مهد السبيل لعبد السلام عارف ليقوم بانقلابه العسكري على سلطة حزب البعث في 17 تشرين الثاني من نفس العام، وانضمام جانب كبير من الجناح العسكري للحزب إلى حركة عبد السلام عارف، فيما قاد علي صالح السعدي والعديد من رفاقه العراقيين والسوريين وبعض البلدان العربية انشقاقا عن الحزب، وشكلوا حزبا جديدا ذو توجه يساري أطلق عليه أسم [حزب البعث العربي الاشتراكي اليساري]، وتبنى الحزب النظريةالماركسية.
لكن الحزب لم يلبث أن تلاشى بعد أن حكم الثنائي أحمد حسن البكر وصدام حسين العراق بيد من حديد، حيث جرى تصفية كل المجموعات المعارضة لقيادتهما بصورة وحشية سواء بين صفوف حزب البعث، أو بين صفوف القوى والأحزاب الوطنية. 



312
سنوات الجحيم/ أربعون عاماً من حكم البعث الفاشي في العراق
 كتاب في حلقات / الحلقة 2

حامد الحمداني                                                                    25/2/2010

موجز تاريخ
حزب البعث العربي الاشتراكي

أولاً: نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي
ثانيا: توحيد حزبي عفلق و الحوراني
ثالثاً: دستور حزب البعث لعام 1947   
رابعاً: نشر بذور حزب البعث في العراق ولبنان والأردن
خامساًً: تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق
 سادسا: الصراعات والانشقاقات داخل قيادات حزب الب

أولاً: نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي

يتفق معظم الباحثين المتتبعين لتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي نشأ في سوريا، أن الحزب كان قد نشأ من خلال ثلاث مجموعات لم يكن بينها رابط في بادئ الأمر، وهذا ما صرح به كل من زكي الأرسوزي، وميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وأكرم الحوراني الذين كان لهم الدور القيادي في الحزب في أحاديث أجراها معهم الباحث الكبير حنا بطاطو حول أصول الحزب ومراحل تأسيسه.(1)
 وقد ضمت المجموعة الأولى من الطلاب والمعلمين السوريين التي ظهرت عام 1939 في لواء الاسكندرونة السوري، الذي انتزعته تركيا وضمته إليها في ذلك العام .
وقد كانت هذه المجموعة بزعامة السيد زكي الأرسوزي خريج جامعة السوربون البالغ من العمر 38 عاماً، فرع الفلسفة، وهو ابن لمحامي وملاك من قرية الأرسوز في لواء الاسكندرون.
 شكل السيد زكي الأرسوزي تنظيمه الأول تحت اسم [الحزب التقدمي العربي] الذي تأسس عام 1938 حيث استطاع أن يجمع حوله أعداداً كبيرة من الطلاب والمدرسين الذين كانوا يمثلون جزءاً من آلاف المهاجرين السوريين من لواء الاسكندرون إلى سوريا بعد ضمها إلى تركيا عام 1939. (2)
لكن الأرسوزي  ما لبث أن شكل تنظيمه الجديد تحت اسم [ حزب البعث العربي] بتاريخ 26 تشرين الثاني عام 1940، في الذكرى الأولى لاقتطاع لواء الاسكندرون وإلحاقه بتركيا، بعد أن توسع التنظيم برفده بأعداد غفيرة من الطلاب والمدرسين في دمشق، حيث كان الأرسوزي ُيدرّس في إحدى مدارسها الثانوية من ذوي التفكير القومي العروبي الذين وجدوا في توجهات زكي الأرسوزي القومية العروبية المتسمة بالتعصب من جهة، وبما يمتلكه من قوة الحجة والحماس للعمل الذي لا يخلو من التعصب القومي العروبي، واتخذ من كارثة إلحاق لواء         الاسكندرون بتركيا قضية مركزية لتنظيمه.
لكن السيد الأرسوزي لم يستطع الحفاظ على تنظيمه، حيث انفك عنه الكثير من رفاقه عام 1944 بعد أن شعروا بعنصريته، وأسلوب تعامله معهم حيث كانت ظروفه الشخصية قد أثرت كثيراً على تصرفاته واتسمت حياته بالكآبة وسرعة الانفعال بسبب الفقر الذي كان يعاني منه، وانضم معظم الذين تركوا تنظيم الأرسوزي إلى مجموعة السيد [وهيب الغانم] التي كانت تستمد أفكارها من[ميشيل عفلق] و[صلاح الدين البيطار].
أما المجموعة الثانية فكانت بزعامة [ميشيل عفلق] و[صلاح الدين البيطار]الذين شكلا تنظيماً أطلقا عليه في بادي الأمر أسم [الإحياء العربي] حيث أصدرا أول بيان له في أواخر شباط 1941، وكان موجهاً لدعم الإضراب العام ضد الاحتلال الفرنسي الغاشم.
وفي 24 تشرين الأول عام 1942استقالا من وظيفتيهما حيث كانا يدرّسان في إحدى المدارس الثانوية في دمشق، وتفرغا للعمل الحزبي بعد أن توسع نشاط تنظيمها بانضمام رفاق الأرسوزي إليه، وجرى تغيير اسم التنظيم إلى [ البعث العربي].
كان ميشيل عفلق البالغ من العمر 34 عاما، المسيحي الأرثدوكسي، وصلاح الدين البيطار البالغ من عمره 32 عاما، المسلم السني من عائلة عرفت بتوجهها الديني،حيث برز منها رجال دين بارزين وكلاهما من مواليد دمشق من حي الميدان الذي ارتبط تاريخه بالانتفاضة الكبرى ضد المستعمرين الفرنسيين بين عامي 1925ـ 1926 الذين تقاسموا  البلدان العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية بموجب معاهدة [سايكس بيكو] السرية مع بريطانيا بعد اندحار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وقد أبدى أهالي الحي بطولة نادرة ومقاومة باسلة ضد المحتلين الفرنسيين الذين أمطروا الحي بوابل من قذائف مدفعيتهم، وعملوا في الحي تدميرا وتخريباً كبيرين، ودفع الكثير من سكان الحي أرواحهم ودماءهم من أجل التحرر من ربقة الاستعمار الجديد وهذا ما اكسب عفلق والبيطار التأييد لتنظيمهما.
وعلى الرغم من الاختلاف الديني ما بين عفلق والبيطار، فقد جمعتهما أيام الدراسة في جامعة السوربون بفرنسا عام 1929، حيث كانا يدرسان الفلسفة فيها، وتوطدت الصداقة فيما بينهما، وقد اشتركا في توجهاتهما لدراسة أفكار كبار الفلاسفة أمثال [ نيتشه] و[ماتزيني] و[أندريه جيد] و[رومان رولان] و[كارل ماركس] و[ فيردريك أنكلز] و[لنين]، وقد استهوتهما الأفكار الماركسية في بادئ الأمر، وسيطرت على عقليهما خلال الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالنظام الرأسمالي في الفترة بين عامي 1929 ـ 1932، وحيث أعلن كلاهما عن هذا التوجه قائلين: {لقد جئنا إلى الاشتراكية عن طريق الفكر والعلم، ووجدنا أنفسنا أمام تفسير بارع وساحر لكل المشاكل السياسية والاجتماعية التي ترهق العالم عموما، والتي نعاني منها نحن العرب بشكل خاص}. وقد كان لدعم اليسار الفرنسي لقضية التحرر العربي تأثير بارز على توجهما نحو اليسار. ( 3)
أما التنظيم الثالث فتمثل بمجموعة[أكرم الحوراني] التي نشأت في الأساس في حماة تحت شعار محاربة الإقطاع الذي كان سائدا المجتمع آنذاك، وتراكم الثروة لدى الإقطاعيين في حين كان الفقر المدقع يلف الجانب الأكبر من أبناء الشعب.
وكان الحوراني الذي ولد في عام 1912 قد أكمل دراسته الثانوية ودرس الطب في الجامعة اليسوعية، لكنه لم يكمل دراسة الطب، وتحول نحو دراسة القانون عام 1936، وانظم في العام نفسه على الحزب القومي السوري.
 لكنه سرعان ما ترك الحزب بعد سنتين حيث تخرج محاميا وعاد إلى حماه لممارسة المحاماة، ولم يلبث أن تسلم قيادة[ حزب الشباب] الذي أسسه ابن عمه عثمان الحوراني ثم عمد إلى تغيير اسمه فيما بعد إلى[الحزب الاشتراكي العربي]،وقد لعب الحوراني دورا كبيرا في السياسة السورية حيث انتخب نائبا عن حماه، وارتبط اسمه بالانقلابات الثلاثة التي حدثت في سورية بدءا من انقلاب [حسني الزعيم] في 30 آذار 1949، فانقلاب [سامي الحناوي] في 14 آب من نفس العام، فانقلاب [أديب الشيشكلي] في 19 كانون الثاني 1951.

كان الحوراني يلقب بالثعلب ذو المخالب الملونة، وقد مكنه هذا الدهاء، وهذا التقلب من إقامة العلاقات بالعسكريين الذين قادوا تلك الانقلابات، وشغل مناصب وزارية في الحكومات التي شكلها الانقلابيون، وقد اخذ تنظيمه يتوسع يوما بعد يوم، كما توسعت علاقاته بالضباط الذين أخذوا يلعبون دوراً سياسياً كبيراً من خلال تلك الانقلابات.(4)

ثانيا:توحيد حزبي عفلق والحوراني


وجد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ضالتهم المنشودة في شخص   أكرم الحوراني بالنظر لتوسع نفوذه السياسي،وعلاقاته مع ضباط الجيش السوري، وتوسع تنظيم حزبه فبادرا إلى مفاتحته حول توحيد التنظيمين تحت اسم [حزب البعث العربي الاشتراكي]، وتم الاندماج في تشرين الثاني عام 1952، وجرى تبني دستور الحزب لعام 1947 دون تغيير، وجرى اتخاذه من قبل كافة فروع حزب البعث في البلدان العربية.
تألفت قيادة الحزب بعد توحيده من[ميشيل عفلق]و[صلاح الدين البيطار] و[جلال السيد]عن حزب البعث، و[أكرم الحوراني] والأستاذ الجامعي              [ أنطوان مقدسي] وأصبح ميشيل عفلق منظر الحزب.
لكن الأمر لم يدم لعفلق بعد أن توسع الحزب، وانظم في صفوفه مجموعات عديدة من المثقفين، مما أوجد بالتالي تيارات متعددة ومتنازعة داخل الحزب، ولكل منها توجهاتها المتباينة عن الآخرين، فمجموعة كان لديها توجهات تميل للماركسية، ومجموعة ثانية حملت أفكارا تميل للنازية العنصرية والفاشية، ومجموعة ثالثة كانت تتطلع نحو الاشتراكية الديمقراطية السائدة في أوربا الغربية، وقد انعكست هذه التوجهات على القاعدة الحزبية التي وجدت في هذه التوجهات ما يثير الشك، وأصابها نوع من اليأس والقلق على مستقبل الحزب وساورتها الشكوك في إمكانية استمرار وجوده على الساحة السياسية. (5)
كانت أفكار ميشيل عفلق وكتاباته عبارة عن مجموعة من الخطب المتناثرة التي كتبها خلال تتبعه للأحداث الجارية في سوريا، وهي لا تشكل كلا متجانسا ومترابطاً، وتخلو من التحليل الدقيق واستنباط الحقائق، وهي تمثل خليطاً من مما دعاه[بالقومية الإنسانية] و[ديمقراطية اليعاقبة] و[مثالية مانزيني] مع بعض الأفكار المقتبسة من ماركس ولتين، وكانت أفكاره تلك متشبعة بالروحية المسيحية والإسلامية لتمييزها عن الفكر الماركسي الذي يعتنقه الشيوعيون.
وضع عفلق للحزب شعاره الثلاثي المعروف[الوحدة والحرية والاشتراكية] جاعلا منها الهدف الرسمي  للحزب.
 وقد حدد عفلق منطلقات شعار الحزب من الآتي:
1 ـ وحدة الآمة العربية
 وضع عفلق لهذا الشعار[امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة]، وقد فسر عفلق الأمة بكونها عبارة عن مخلوق حي ، واعتبر الرابط بين الإنسان العربي وبين الأمة العربية رابط عضوي، وعليه فلا معنى للفرد دون الأمة، ولا يمكنه تحقيق ذاته إلا كعضو فيها ومن خلالها، وإذا لم يشعر الإنسان العربي بجذوره القومية فإنه سيعيش حياة عقيمة، وعليه فلا بد من قيام الوحدة التي تجمع هذه الأمة. (6)
لكن هذا الشعار لم يستطع الصمود في واقع الحال، حيث تم تجاهل الظروف الموضوعية لكلا البلدين سوريا ومصر،عندما أقدم حزب البعث وحلفائهم القوميين بزعامة رئيس الجمهورية[ شكري القوتلي] على إقامة الوحدة بين البلدين في الرابع من شباط عام 1958.
وأمام تجاهل الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي السوري من قبل قيادة الحزب، فقد ظهرت صعوبات جمة ومشاكل خطيرة خلقت استياءً عاما لدى الشعب السوري، مما أدى إلى انفراط الوحدة على أثر الانقلاب العسكري الذي قاده[مأمون الكزبري] بالتعاون مع الدهمان والنحلاوي في 22 أيلول 1961، بعد أن بلغ الاستياء الشعبي من هيمنة الجانب المصري على مقدرات سورية مداه الواسع بين جماهير الشعب.
  بقي شعار الوحدة لعفلق حبرا على الورق، ولم يستطع حزب البعث السوري الذي قفز إلى السلطة بانقلاب عسكري قاده [ لؤي الاتاسي] في 8 آذار 1963،والذي استمر في حكم سوريا حتى اليوم، وانقلاب حزب البعث العراقي في العراق في 8 شباط 1963 الذي دام تسعة أشهر، وانقلابه الثاني في 17 تموز 1968، حيث حكم حزب البعث العراق منذ ذلك التاريخ وحتى إسقاط نظام صدام حسين على أيدي القوات الأمريكية والبريطانية في التاسع من نيسان 2003، لم يستطع الحزبان أقامة الوحدة من جديد بموجب اتفاقية الوحدة الثلاثية المعقودة بين العراق وسوريا ومصر والتي لم ترى النور.
 كما لم يستطع الحزبان العرقيان السوري والعراقي إقامة أي نوع من الوحدة بين البلدين طيلة أربعة عقود من حكمهما، بل على العكس من ذلك تميزت علاقات الحزبين والحكومتين بالصراع والاحتراب، وانقطاع العلاقات، وغلق الحدود المشتركة بين البلدين، وقطع العلاقات الدبلوماسية، بل لقد خاض الحزبان والحكومتان حربا غير معلنة بينها على الساحة اللبنانية أيام الحرب الأهلية، ومارس الحزبان والحكومتان الأعمال التخريبية في بلديهما من تفجير السيارات المفخخة والاغتيالات.
لقد تحول الحكم في كلا البلدين من حكم الحزب إلى حكم العائلة، وأصبح حافظ الأسد حاكماً مطلقاً لسوريا، ولم يكتفِ بذلك بل ورث الحكم من بعده لولده بشار الذي يحكم سوريا اليوم.
أما في العراق فقد اغتصب صدام حسين السلطة من سيده احمد حسن البكر، وأعلن نفسه حاكما مطلقا للعراق، وحول حزب البعث إلى جهاز أمني مهمته الأولى والأخيرة حماية نظامه الدكتاتوري الاستبدادي، وزج البلاد في حروب دموية مرعبة طيلة فترة حكمه التي دامت منذ عام 1979 وحتى إسقاط النظام في حرب الخليج الثالثة عام 2003.
اغرق العراق بالدماء، ودمر اقتصاده، وكبل البلاد بالديون، وسبب للشعب الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرضته الولايات المتحدة بعد حرب الخليج الثانية، والذي دام 13 عاماً، وأدى إلى انهيار البنية الاجتماعية للشعب العراقي.
2 ـ الحرية:
وتعني في نظر مؤسس الحزب عفلق حرية الأمة في إدارة شؤونها ، أي تحررها من الهيمنة الأجنبية، لكن هذا التحديد لا يمكن اعتباره هو الهدف، بل هو الوسيلة لتحقيق حقوق وحريات الشعب التي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان التي أصدرتها هيئة الأمم المتحدة عام 1948، من أجل تحقيق حياة حرة كريمة للمجتمع، يمارس من خلالها الإنسان كامل حقوقه وحرياته، في جو من الديمقراطية التي تتيح له المشاركة في العمل السياسي، والوصول إلى السلطة عن طريق الورقة الانتخابية، والتداول السلمي للسلطة.
لكن واقع الحال في سوريا والعراق حيث حكم حزب البعث البلدين أربعة عقود تميزت في قمع الحريات العامة، وقمع الأحزاب السياسية، والتصفية الجسدية لكل من يعارض سلطتهم الدكتاتورية، وإجبار المواطنين على الانتماء لحزب البعث بكل الوسائل والسبل، والحكم بالإعدام على كل من يشك في انتمائه إلى أي حزب سياسي غير مجاز، وطبيعي لن يجاز أي حزب يمتلك أي نوع من الاستقلالية، بل ُسمح فقط للأحزاب التي تسير في ركاب سلطتهم ، وتحت رقابتهم المطلقة.   .   وهكذا أصبح البلدان يقودهما الحزب الواحد دون منازع، وصار الدستور مجرد قصاصة ورق،  والبرلمان ليس أكثر من مجلس صوري يجلس فيه إمعات لا حول لهم ولا قوة، فصدام حسين انتخب بنسبة 99,99%!! ، وحافظ الأسد حكم سوريا منذ 13 تشريه الثاني 1970 حتى وفاته في 11حزيران عام 2000، وجرى بعد وفاته مباشرة جمع مجلس الشعب [البرلمان] ليعدل الدستور خلال عشرة دقائق ليمكن بشار الأسد تولي السلطة بعد والده، والويل لمن لا يوافق على التعديل ، فقد كانت الموافقة بالإجماع، وتم تنصيب بشار رئيساً للجمهورية وهو دون السن التي تؤهله لهذا المنصب.
لا أثر للحرية في ظل حكم البعث منذ سطا الحزب على السلطة في العراق وسوريا قبل 43 عاما، ولا أثر للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا اثر للصحافة الحرة، فقد احتكر الحزب كل وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئية بموجب المادة 41 من دستور الحزب الذي ينص على [ تكون الدولة مسؤولة عن حرية الكلام والنشر والاجتماع ضمن حدود المصلحة القومية العليا ]!!. (7)
3 ـ الاشتراكية:

وهي ثالثة الأثافي في شعار حزب البعث حيث يحدد عفلق اشتراكية حزبه بكونها تنبع من أعماق الأمة!!، وهي اشتراكية غير مرتبطة بالتفسير المادي للحياة، بل بوجهة نظره التي تقول [ أن الروح هي الأمل الكبير، والقوة المحركة بالعمق لولادتنا الجديدة]!!.(8) 
وبقي عفلق متمسكاً بفكرته عن الاشتراكية حتى بعد ظهور توجهات في
حزب البعث السوري تنادي بالاشتراكية العلمية، واضطراره لمجارات هذه التوجهات، محاولا فلسفتها بالقول:
[ إن اشتراكيتنا هي اشتراكية علمية زائداً الروح]!! (9)
وواضح من كلام عفلق أنه يرمي إلى تمييز اشتراكيته عن الاشتراكية العلمية التي جاء بها ماركس، وربطها بالمثالية الطوباوية.
وفي واقع الحال لم يستطع حزب البعث في كلا البلدين أن يقيم أي شكل من الاشتراكية، وكل ما فعله هو سيطرة الدولة على الحركة الاقتصادية وكافة المشاريع الصناعية أي [رأسمالية الدولة]،والتصرف بثروات البلاد وكأنها ملك شخصي للدكتاتور، تاركا الشعب يعيش في حالة يرثى لها، في حين ينعم بالحياة المرفهة الدكتاتور والزمرة المحيطة به، والقوى الأمنية التي تحمي نظامه. 
 



313
سنوات الجحيم
أربعون عاماً من حكم البعث الفاشي في العراق

حامد الحمداني                                                          23/2/2010
الحلقة الأولى

مقدمة الكتاب
في كتابنا السابق [ ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها ] تناولنا بالتفصيل الظروف التي سادت العراق بعد نجاح الثورة، والآمال التي عقد عليها الشعب العراقي وقواه الوطنية لإحداث نقلة نوعية في حياة مواطنيه، بعد أن تولى زمام السلطة الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي اتسم بالنزاهة والوطنية الصادقة، ولاسيما وأن العراق يعتبر من أغنى دول العالم بما يمتلكه من ثروات هائلة، وفي المقدمة منها النفط، وكان أمل الزعيم قاسم أن تحقق حكومة الثورة حياة مرفهة لسائر المواطنين في ظل عراق ديمقراطي امتلك سيادته لأول مرة منذ أمد بعيد. لكن القوى القومية، وفي المقدمة منها حزب البعث العربي الاشتراكي،  والتي كانت منضوية في جبهة الاتحاد الوطني سرعان ما تخلت عن مبادئ الجبهة، والتفت حول العقيد عبد السلام عارف، الشخص الثاني في قيادة الثورة، في محاولة لاغتصاب السلطة، ولما يمضي ِعلى تشكيل الحكومة سوى أيام معدودة، على الرغم من تمثيلها في الحكومة بعدد من الوزراء، وعلى الرغم من إشغال عبد السلام عارف مناصب عليا في السلطة، حيث شغل منصب نائب رئيس الوزراء، ونائب القائد العام للقوات المسلحة، ووزير الداخلية. لكن القوى القومية، وعلى رأسها عبد السلام عارف، كانت قد اتخذت قرارها بالوثوب على السلطة واغتصابها،  حيث بدأت تظهر للعلن  بوادر الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية، فقد كانت خطب عبد السلام عارف وهو يطوف المدن العراقية الواحدة بعد الأخرى، ويزور قطعات الجيش المتواجدة فيها، تتناقض كلياً مع توجهات الثورة وأهدافها الآنية في إجراء التغييرات الضرورية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تصفية مخلفات  العهد السابق، وإجراءاته القمعية لحقوق الإنسان العراقي وحرياته.
 لقد سببت تلك الخطابات غير المسؤولة بلبلة كبرى في صفوف أبناء الشعب والقوات المسلحة من جهة، وإحراجاً لحكومة العراق أمام مختلف دول العالم، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية عبد الجبار الجومرد ، وهم من القوميين، أن أبدى انزعاجه مراراً وتكراراً مما يرد في خطابات عبد السلام عارف.
لقد تبنت القوى القومية والبعثية عبد السلام عارف، ودعمته تحت شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، دون مراعاة اختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية بين البلدين ودون مراعاة التركيب القومي للمجتمع العراقي، رافضين إعطاء الفرصة لإحداث التغييرات اللازمة في الهياكل السياسة والاقتصادية، والاجتماعية في الوطن.
بدأت تلك القوى منذُ الأيام الأولى للثورة تسيّر التظاهرات المطالبة بالوحدة الفورية دون أن تستخلص التجربة من وحدة سوريا مع مصر، التي جرت بصورة مستعجلة، وأدت إلى ظهور تناقضات واسعة وعميقة بين البلدين والتي انتهت بالانفصال فيما بعد.
لقد اتهمت تلك القوى بقية القوى السياسية الوطنية بالشعوبية والقطرية وغيرها من الاتهامات المشينة، لأنها أرادت التريث في الأقدام على خطوة خطيرة كهذه بالنسبة لمصير الشعب والوطن، وإيجاد أفضل الوسائل والسبل الكفيلة بإقامة أوسع ارتباط مع الجمهورية العربية المتحدة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية  والثقافية، وصولاً إلى الوحدة فيما بعد، على أن تكون قائمة على أُسس ديمقراطية، ويقرر الشعب نفسه عبر انتخابات برلمانية حرة ونزيهة كيف  ومتى يمكن إقامة الوحدة، لكن عبد السلام عارف والسائرين وراءهُ، ومحاولات التدخل من جانب السفارة المصرية لفرض الوحدة، أدت إلى تعمق الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية.
ولم يكتفِ عبد السلام عارف بخطبه تلك، بل سارع إلى إصدار صحيفة [صوت الجماهير] باسمه، وترأس تحريرها الدكتور[ سعدون حمادي ] أحد قياديي حزب  البعث، مخالفاً بذلك قانون الصحافة، ومتجاوزاً كونه الشخص الثاني في حكومة الثورة، وقد استخدم تلك الصحيفة لإشاعة مفاهيم غير متفق عليها فيما يخص قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ولعبت تلك الصحيفة دوراً كبيراً في شق الصف الوطني منذُ الأيام الأولى للثورة.
لقد حذر الزعيم عبد الكريم قاسم رفيقه في الثورة عبد السلام عارف من مخاطر تلك التصرفات وأثارها السلبية على مصير الثورة والشعب، وأضطر عبد السلام عارف تحت ضغط عبد الكريم قاسم  إلى التنازل عن ملكية الصحيفة تلك، لكنه سلمها لحزب البعث، لكي تستمر على سياستها الهادفة إلى شق وحدة الشعب وقواه السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني ، وخيمة ثورة 14 تموز المجيدة.
وبعد عشرة أيام من قيام الثورة، زار العراق [ميشيل عفلق ] مؤسس حزب البعث، والتقى برفاقه في الحزب، مشدداً عليهم بضرورة العمل الجدي من أجل قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة.
وفي 19 تموز سافر وفد عراقي إلى دمشق برئاسة عبد السلام عارف، وعضوية عدد من الوزراء، والتقى الوفد بالرئيس [جمال عبد الناصر] وجرت مباحثات بين الطرفين انتهت بالتوقيع على اتفاقية للتعاون تضمنت النقاط التالية:
  1ـ التأكيد على الروابط بين البلدين، وعلى المواثيق والعهود، كميثاق الجامعة العربية، وميثاق الدفاع المشترك بين الدول العربية.
  2ـ التأكيد على تنسيق المواقف بين البلدين فيما يخص الموقف الدولي، وتصميم الطرفين على التعاون والتنسيق ضد أي عدوان محتمل.
  3 ـ التعاون بين الطرفين في مجال العلاقات الدولية، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة ودعم السلم العالمي.
  4 ـ التشاور والتعاون بين البلدين في كل ما يخص الشؤون المشتركة.
وخلال تواجد الوفد العراقي في دمشق أجتمع عبد السلام عارف مع الرئيس عبد الناصر على انفراد، حيث دار بين الجانبين نقاش حول محاولة إقامة الوحدة الفورية بين البلدين، وعاد الوفد إلى العراق، وعاد عبد السلام عارف يصعّد من حملته الرامية إلى الوحدة الفورية، ومُحدثاً شرخاً كبيراً في صفوف قيادة الثورة، والحركة الوطنية العراقية.
واستغلت الإمبريالية وعملائها من الإقطاعيين والرجعيين الذين  تضررت مصالحهم من قيام ثورة 14 تموز تلك الأوضاع للإجهاز على ثورة الرابع عشر من تموز،  فقد وجدت الإمبريالية ضالتها المنشودة في تمزيق وحدة الشعب، وقواه السياسية، وبدأت تصب الزيت على النار، مستغلة الشعارات التي رفعتها تلك القوى، لا حباً بالوحدة ولا رغبة فيها، وهي التي سعت دوماً إلى تمزيق الصف العربي، بل لتمزيق وحدة الشعب العراقي، وقواه الوطنية المنضوية تحت راية الثورة ، لكي يسهل عليها تمرير مؤامراتها الهادفة إلى إسقاط الثورة، وتصفية كل منجزاتها. كان على الطرف الآخر من المعادلة، وأعني به كل القوى الديمقراطية، التصدي لذلك الشعار غير المدروس، والذي رُفع في غير أوانه، حيث بادرت تلك القوى إلى رفع شعار [الاتحاد الفدرالي ] مع الجمهورية العربية المتحدة، مع السعي لرفع تلك العلاقة إلى مستوى الوحدة الكاملة عندما تتوفر الشروط الموضوعية لها في المستقبل، وقد وقفت القوى الديمقراطية والشيوعية، بكل ثقلها إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم  من أجل الحفاظ على الثورة، وعلى مستقبل العراق.
بدأ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي، مظاهرات بعثية وقومية تهتف [وحدة  وحدة] وأخرى شيوعية وديمقراطية تهتف بـ [اتحاد فدرالي و ديمقراطية]، وأخذ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي ويزداد عمقاً يوماً بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئاً نحو العداء السياسي، والخصومة الدموية بين البعثيين والقوميين من جهة، وبين الشيوعيين والديمقراطيين من جهة أخرى، وجرت احتكاكات بين المتظاهرين من كلا الجانبين، وتوسعت تلك الاحتكاكات لتصبح حالة من الصدام الشرس بين الطرفين حلفاء الأمس، وللحقيقة والتاريخ أقول أن الشيوعيين والديمقراطيين بذلوا أقصى الجهود من أجل إعادة اللحمة لجبهة الاتحاد الوطني والسير معاً لتحقيق آمال وأحلام الشعب العراقي في الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد.
كان الشعب العراقي يخوض خلال تلك الحقبة نضالاً متواصلاً من أجل حريته، وامتلاك ناصية أمره،  لكن كل تلك الجهود التي بذلت في هذا السبيل ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الطرف المنشق قد عقد العزم على السير حتى النهاية في هذا الطريق، طريق التآمر على الثورة وقيادتها. وهكذا تنافر القطبان اللذان كانا بالأمس القريب يعملان معاً من أجل انتصار الثورة ونجاحها، وتحقيق الأهداف التي ناضل شعبنا من أجلها.
ومما زاد في الطين بله دخول الجمهورية العربية المتحدة حلبة الصراع، واضعةً كل ثقلها السياسي إلي جانب تلك القوى، ضاربةً عرض الحائط أهم ركن من أركان حركة التحرر العربي، ولم يكن الرئيس عبد الناصر يدري آنذاك  أن أولئك الذين رفعوا تلك الشعارات لم يكونوا جادين في أقوالهم، بل أرادوا أن يكون التصاقهم به سلماً يصعدون بواسطته إلى قمة السلطة لا غير.
أستمر عبد السلام عارف بإثارة الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية وتعميقه، مهاجماً القوى السياسية الرافضة لشعار الوحدة الفورية، وكانت خطاباته السياسية في أنحاء البلاد قد أثارت قلق الزعيم عبد الكريم قاسم، وسائر القوى الديمقراطية، فلم تكن تلك الخطابات تنم عن نضوج سياسي، ولا إدراك للمسؤولية، معرضاً الثورة لخطر جسيم.
ورغم كل النصائح التي وجهها له عبد الكريم قاسم وزملاؤه في اللجنة العليا للضباط الأحرار، ومجلس الوزراء، من مغبة الاستمرار على هذا النهج، وما يسببه من أضرار على مجمل الحركة الوطنية، ومستقبل العراق وشعبه، لكن عبد السلام عارف كان قد عقد العزم على السير في طريقه  الخاطئ  ضارباً عرض الحائط بكل تلك النصائح، موصلاً البلاد إلى حافة الحرب الأهلية وتعريض الثورة للضياع.
 ولما لم يجد عبد الكريم  قاسم سبيلاً آخر لوقفه عن نهجه، ومحاولته إثارة الجيش، من خلال خطاباته المتواصلة بين القطعات العسكرية  فقد قرر إبعاده عن الجيش، وإعفاءه من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، لكنه استمر على غيه مما دفع عبد الكريم قاسم إلى إعفائه من منصب وزير الداخلية وتعينه سفيرا في ألمانيا الغربية آنذاك.
لكن النشاط التآمري لقوى القومية، وفي مقدمتها حزب البعث، استمرت في محاولاتها لاغتصاب السلطة،  فكانت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، ومؤامرة عبد السلام عارف، ومحاولته اغتيال عبد الكريم قاسم، ومؤامرة العقيد الشواف، ومؤامرة حزب البعث لاغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية، وانتهى المطاف بنجاح الانقلابيين في 8 شباط 1963، حيث تم لهم اغتيال ثورة 14 تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم، وإغراق العراق بالدماء. لقد أثبتت الأحداث بعد اغتيال ثورة 14 تموز على أيدي نفس تلك الرموز في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 عدم صدقيتهم وإيمانهم بالوحدة، فما أن تسلم البعثيون السلطة أثر نجاح انقلابهم  حتى تنكروا لكل شعاراتهم، واستطابوا السلطة، واضعين تلك الشعارات على الرف، وحتى عبد السلام عارف، الذي أطاح بحكم البعث في انقلاب 18 تشرين الأول من نفس العام  963 ، وأستحوذ على السلطة بصورة كاملة، فقد تنكر لكل أقواله وشعاراته حول الوحدة، وحبه لعبد الناصر، تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها، فقد كانوا غير وحدويين إطلاقاً، وإنما استخدموا رصيد عبد الناصر السياسي من أجل وثوبهم على السلطة.
 وهكذا اغتصب البعثيون السلطة في البلاد بالتعاون مع القوى القومية الأخرى، وبوجه خاص العناصر القومية في الجيش، وحيث لم يكن لدى حزب البعث الكوادر الكفوءة للإمساك بالسلطة،  فقد جاءوا بعبد السلام عارف رئيساً للجمهورية، واسندوا المراكز العسكرية العليا للضباط القوميين من أعوان عبد السلام عارف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ركزوا جل جهودهم لقمع القوى الديمقراطية والشيوعية بوسائل وحشية لم يشهد لها العراق مثيلاً، فكان الانجاز الوحيد الذي حققوه في فترة حكمهم الأول الذي دام 9 أشهر هو الحرب بلا هوادة على الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية كافة.
لكن شريكهم عبد السلام عارف الذي نصبوه رئيساً للجمهورية، والذي تملكه هوس السلطة، ما لبث أن انقلب عليهم واسقط حكمهم في 18 تشرين الثاني من نفس العام، بدعم وإسناد من الضباط القوميين والبعثيين المنشقين، وبذلك أصبح الحاكم المطلق في البلاد.
لكن عبد السلام قضى في سقوط طائرته المروحية في 13 نيسان 1966، في ظروف غامضة، ليفرض الضباط القوميون شقيقه عبد الرحمن عارف رئيسا للجمهورية، وقد اتصف حكم عبد الرحمن عارف بالضعف الشديد، مما مهد السبيل لحزب البعث الذي ذاق طعم السلطة، للوثوب على السلطة من جديد بدعم من الولايات المتحدة وبريطانيا في انقلاب 17 تموز 1968 بالتعاون مع مجموعة من الضباط بزعامة العقيد عبد الرزاق النايف  مدير الاستخبارات العسكرية الذي عين رئيساً للوزراء.
لكن البعثيين ما لبثوا أن دبروا انقلابا على النايف بعد 13 عشر يوماً من انقلاب 17 تموز، أي في 30 تموز1968، وقبضوا على مقاليد الحكم في البلاد بيد من حديد، وتم تعيين احمد حسن البكر رئيساً للجمهورية ورئيساً لما سمي بمجلس قيادة الثورة، في حين جرى تعيين صدام حسين الذي لعب دوراً بارزاً في تدبير انقلاب 30 تموز نائباً لرئيس المجلس، وجرى تسفير عبد الرزاق النايف إلى لندن ، وبذلك تمهد السبيل لصدام حسين لكي يستولي على السلطة المطلقة في البلاد، في 17 تموز 1979، ويقصي سيده احمد حسن البكر من السلطة، ويقوم بتصفية كل القوى السياسية في البلاد، ويرغم المواطنين على الانتماء لحزب البعث بالقوة، ويدخل العراق في حروب كبرى  طيلة مدة حكمه التي استمرت 25 عاماَ، و كانت بحق سنوات الجحيم ، حتى تم إسقاط نظام حكمه الدكتاتوري المطلق من قبل جيوش الولايات المتحدة وبريطانيا في التاسع من نيسان 2003.
لقد قاد صدام حسين العراق من كارثة إلى كارثة اشد وأقسى، وبدد ثروات البلاد على حروبه العبثية، وأغرق العراق بالديون، وأوصل الاقتصاد العراقي إلى الحضيض، حيث انهارت العملة العراقية، وأصبح الدولار يعادل 3000 دينار،بعد أن كان الدينار يعادل 3,3 دولار، وبذلك تراجعت قيمة الدينار العراقي 10000 مرة عن قيمتها قبل تولي صدام السلطة المطلقة في البلاد، وقد أدى ذلك بدوره إلى انهيار البنية الاجتماعية في العراق بسبب حروبه،  والحصار الأمريكي الجائر على الشعب العراقي، وفقدان القدرة الشرائية للمواطنين، وانهيار الطبقة الوسطى إلى دون مستوى حتى الطبقة العاملة والفلاحين، وتسبب النظام الصدامي في وقوع العراق تحت نير الاحتلال الأمريكي وحلفائه، وهيمنة الأحزاب الدينية الطائفية الشيعية والسنية على مقاليد السلطة في البلاد، وجر البلاد إلى الصراع الطائفي الذي بات يزهق كل يوم أرواح المئات من المواطنين، وينذر بتوسع وانتشار الحرب الأهلية في البلاد.
                                                                 المؤلف
                                                              2/1/2007
                                                                                    


314
الشعب العراقي أمام خيارين
دكتاتورية دينية طائفية أم ديمقراطية علمانية

حامد الحمداني                                                         21/ 2 / 2010
لم يبقَ أمام الشعب العراقي متسع من الوقت ليقرر المسار الذي سيتخذه العراق في السنوات القادمة، وهي بلا شك سنوات مصيرية ستقرر مستقبل العراق، فإما استمرار سيطرة قوى الإسلام السياسي الطائفي على مقاليد الحكم، وتحول العراق إلى ديكتاتورية دينية طائفية سافرة، واستمرار الصراع الطائفي الذي قد يقودنا إلى كارثة حرب أهلية جديدة، وإراقة المزيد من الدماء، وإلى تصاعد الفساد المستشري في البلاد ، وتدهور الأوضاع الاجتماعية، وفقدان الخدمات، واتساع البطالة، والفقر، وأما أجراء تحول حقيقي يخرج العراق من أزمته  الحالية الخانقة التي عانى منها سبع سنوات عجاف لم يشهد لها مثيلا من قبل.      الخيار بيدك أيها الشعب العراقي المغتصب الحقوق والمسلوب للحريات لتغيير هذا الواقع المزري، ولن تستطيع تغيير هذا الواقع إلا تلك القوى المؤمنة حقاً وصدقاً بعراقيتها، والساعية لإقامة نظام حكم ديمقراطي علماني قادر على إحداث التحول المنشود في حياتك، وما عليك إلا أن تختار لمن ستعطي صوتك في الانتخابات التي باتت وشيكة بعد بضعة أيام لاختيار البرلمان الجديد.               
       
 إن تصويتك للقوى الديمقراطية والعلمانية وفي المقدمة منها لقائمة اتحاد الشعب تصويت لحريتك وحقك في الحياة الكريمة الخالية من العوز والفقر والفاقة، فهذه القائمة رقم [ 363] التي تضم نخبة من العناصر الأمينة على مصالح الشعب والوطن والمعروفة  بنظافة اليد، والتي لها تاريخ مشهود ومشرف في الوطنية هي التي يمكن أن تعول عليها في إحداث التغير المنشود. إنها فرصتك الأخيرة أيها المواطن العراقي الكريم، وعليك أن تتذكر المثل المعروف [ المرء لا يلدغ من جحرٍ مرتين ] فاحرص على أن لا تضيعها لإخراج العراق من هذا المأزق الحرج.                                 .                                                                                       
 أن أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني قد اقترفت من الجرائم بحق الشعب والوطن خلال حكمها الذي امتد سبع سنوات كانت مليئة بالدماء والدموع حيث استشهد مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، وتشريد ملايين المواطنين الأبرياء من ديارهم ومدنهم في هجمة طائفية شرسة شبيهة بالتطهير العرقي الذي جرى البوسنة والهرسك، وجرى استخدام الدين بأبشع صورة لتحقيق مآربها في الاستئثار بالسلطة ونهب ثروات البلاد في عملية فساد وإفساد لم يعرف لها الشعب العراقي مثيلاً من قبل                                                   .

                                                 
 لقد أفسدت هذه الأحزاب الدينية الدين والسياسة معا، مما جعل المواطن العراقي يشعر بالخديعة عندما صوت لصالح هذه الأحزاب في الانتخابات السابقة حيث جاءت تلك الانتخابات إلى مجلس النواب بعناصر جاهلة وشبه أمية مارس العديد منهم تزوير شهاداتهم، وكان همهم الوحيد إصدار القوانين التي تحقق لهم امتيازات ورواتب خيالية على حساب فقر وجوع الشعب العراقي المهضوم الحقوق                                                                                         

إن الحل الوحيد لأزمة العراق الحالية تتطلب فصل الدين عن الدولة، والكف عن استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية تتلخص في الإمساك بالسلطة والثروة التي باتت نهباً لهذه القوى التي حكمت البلاد طيلة  السنوات السبع الماضية                         
         
  كما  إن أحلام قوى الظلام والفاشية الدينية الطائفية في تمزيق العراق من خلال الدعوة لقيام فيدرالية الجنوب خدمة لأغراض ملالي طهران ما تزال قائمة، وإذا ما فازت هذه القوى في الانتخابات فإن مستقبل العراق سيكون على كف عفريت فهذه القوى الدينية الطائفية المرتبطة بوشائج متينة مع نظام ملالي طهران  هي التي  فسحت المجال لحكام طهران واسعا للتغلغل في البلاد وتسترت على جرائمهم بحق الشعب والوطن، وما هو النظام الإيراني اليوم يحاول يثبت أقدامه في البلاد، ويوسع من تدخلاته الفضة في الشأن العراقي، ويبعث لنا كل يوم مختلف أنواع الأسلحة والمتفجرات لتريق المزيد من الدماء البريئة في شوارع وطرق بغداد والمدن العراقية الأخرى .                                                   
                                                 
إذا كنت تسعى أيها المواطن الكريم إلى تحقيق الأمن والسلام والحرية والديمقراطية والعدالة، والنهوض بالعراق في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية، فما عليك سوى التصويت لذوي الأيادي النظيفة والذين يتمتعون بالكفاءة والنزاهة، والإخلاص للشعب والوطن ، وهؤلاء تجدهم ضمن القائمة 363، قائمة اتحاد الشعب، بكل تأكيد             .                                                   
                                                                                                                                                   
                     
                                                                   

315
 

من المسؤول عن عودة البعثيين إلى الواجهة من جديد؟
حامد الحمداني                                                                          8/2/2010
منذ أن أدركت الولايات المتحدة المخاطر المتصاعدة للتغلغل الإيراني في الساحة السياسية العراقية بدعم وتنسيق من قوى أحزاب الإسلام السياسي الشيعية المرتبطة بأوثق الوشائج مع نظام ملالي طهران، حيث مكنتها هذه الأحزاب التي نشأت معظمها في إيران، والتي مولها وسلح ميليشياتها النظام الإيراني، ومكنها من الانتقال إلى العراق بعد الاحتلال لتلعب ذلك الدور المعروف لدى الشعب العراقي الذي  ابتلى بجرائمها البشعة في ذلك الصراع الطائفي الذي اندلع على اثر تفجير مرقد الإمام العسكري في سامراء.
لقد بات النظام الإيراني يمتلك اليد الطولى في البلاد، وهكذا اخذ القلق ينتاب الإدارة الأمريكية من نتائج هذا التغلغل الإيراني في العراق على مستقبل المنطقة التي تعتبرها الإدارة الأمريكية عصب الحياة للاقتصاد الغربي بما تمتلكه من ثروات نفطية .
وهكذا أخذت الجهود الأمريكية تتسارع في تشديد ضغوطها على حكومة المالكي لإعادة عناصر بارزة من الوجوه البعثية إلى الواجهة من جديد، ولاسيما بعد إلغاء قانون اجتثاث البعث، وطرح مشروع ما سمي بالمصالحة.
 كما تسارعت الجهود الأمريكية لإعادة الأجهزة الأمنية التي نكلت أبشع تنكيل بكل العناصر الوطنية المعارضة للدكتاتورية، وإعادة رموز كبيرة من ضباط الجيش في العهد الصدامي إلى الخدمة من جديد، كما سبق أن أعيد إلى الواجهة العديد من العناصر المحسوبة على حزب البعث في السلطتين التنفيذية والتشريعية في الوقت الذي يمارس العديد منهم قيادة النشاطات الإرهابية في البلاد .

 فلماذا جرى ويجري كل هذا النكوص عن آمال وأحلام الشعب العراقي في التخلص النهائي من النظام الصدامي الدكتاتوري الفاشي، وإقامة نظام ديمقراطي جديد يحترم حقوق وحريات الإنسان ويصون كرامته؟
و لماذا تجري الاستهانة بتضحيات الشعب خلال العقود الأربعة الماضية من أجل التحرر من سلطة الطغيان البعثي الفاشي، ويجري العمل على عودة عقارب الساعة إلى الوراء، ليس فقط وكأن شيئاً لم يكن ، بل لقد تجاوز التدهور الحاصل في البلاد أمنياً واجتماعياً واقتصادياً وخدماتيا بمراحل كبيرة عما كانت عليه في السابق، وأدى بالتالي هذا التدهور إلى تحويل حياة المواطن العراقي إلى جحيم حقيقي لا يطاق، حيث يدفع الشعب كل يوم فاتورة الحرب الأمريكية على العراق المتمثلة بدماء وأرواح المئات من المواطنين الأبرياء  وحيث جرى تهجير الملايين من العراقيين للنجاة من طغيان قوى الإرهاب البعثي وأعوانهم من عناصر القاعدة، من جهة، وطغيان قوى الإسلام الطائفي الشيعية عبر ميليشياتها المتعددة من جهة أخرى؟
 فعلى مَنْ تقع مسؤولية هذا النكوص عن طموحات الشعب العراقي والعودة به إلى ذلك العهد المظلم ، بل إلى عهد اشد قتامة ؟
ليس من العسير على كل باحث حصيف يتتبع مجريات الأحداث في العراق أن يتوصل إلى  المسؤولين عن هذه الحالة المأساوية، وإلى هذا التحول في مسيرة بناء العراق الديمقراطي الجديد!!، وباعتقادي أن تلك المسؤولية يشترك فيها أطراف ثلاث :
الطرف الأول يتمثل بالإدارة الأمريكية التي أقدمت على أقامة نظام حكم طائفي في البلاد، وفسحت المجال واسعاً لأحزاب الإسلام السياسي الطائفي بتشكيل المليشيات العسكرية المسلحة لدى كلا الطائفتين الشيعة والسنية، وتسليم السلطة لأحزاب الإسلام الطائفي الشيعية بالتحالف مع الأحزاب القومية الكردية، ومحاولة الحاكم المدني الأمريكي بريمر إبعاد أبناء الطائفة السنية عن مراكز السلطة كان عاملاً حاسماً في تشجيع العناصر السنية المرتبطة بالنظام الصدامي على امتشاق السلاح والغوص في العمليات الإرهابية الوحشية البشعة.

الطرف الثاني المتمثل بأحزاب الإسلام الطائفي الشيعية التي استأثرت بالسلطة بدءاً من  مجلس الحكم، وانتهاء  بالحكومات التي تشكلت فيما بعد، وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت بصورة متعجلة دون تهيئة الظروف المؤاتية لها، حيث رزح الشعب العراقي خلال أربعة عقود لطغيان نظام قمعي متوحش حرم الشعب خلاله من أي من الحقوق الديمقراطية ، وفرض عليه نمطاً واحداً من التفكير القومي الفاشي المعادي لسائر الحقوق والحريات الديمقراطية، وزاد في الطين بله زج النظام الصدامي البلاد بحروبه الإجرامية الكبرى المعروفة لدى الجميع، وبالحروب الداخلية ضد الشعب الكردي في كردستان العراق، وضد عموم الشعب العراقي أبان انتفاضة آذار 1991، وتسببه في فرض الحصار الجائر على الشعب العراقي لثلاثة عشر عاماً عجافا، شديدة القسوة ، بحيث تعتبر بمقاييس الحروب أشنعها، وأشدها تأثيراً في تخريب البنية الاجتماعية، فقد أوصلت الشعب العراقي إلى حالة من اليأس الشديد للخروج من تلك المحنة إلا بالتوجه نحو التدين وطلب العون من الله.
واستغلت الأحزاب الطائفية الشيعية هذا التوجه الديني لدى أبناء الشعب لتستخدمه سلاحاً فعالاً في حملاتها الانتخابية، واستخدمت كذلك التخلف والنكوص الذي حل بالمجتمع العراقي خلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق لإقناع المواطنين البسطاء بلزوم التصويت لأحزابها كي تنال رضا الله والأئمة وتنال الجنة !.
كما أن الكثير من المواطنين أبناء الطائفة الشيعية قد صوتوا لتلك الأحزاب بعد الذي نالهم من طغيان نظام صدام وحزبه الفاشي الذي اجبر الكثيرين منهم  على الإنضام لحزب البعث فيما سبق، فكان تصويتهم للطائفة، ولم يصوتوا على برامج حزبية معينة، وها هي الجماهير الشعبية بدأت تتفتح أذهانها، وتدرك خطأ خياراتها الانتخابية بعد الذي حل بالبلاد على أيدي هذه السلطة وأحزابها الطائفية وميليشياتها الظلامية المتوحشة.
ومما زاد في تعقيد الوضع السياسي والأمني في البلاد لجوء ميلشيات الأحزاب الطائفية الشيعية إلى الاقتصاص من العناصر البعثية خارج القانون والمحاكم، وشنت هذه المليشيات حملات اغتيالات واسعة ضد الضباط والطيارين منهم بوجه خاص ، والعناصر البعثية المعروفة بوجه عام، مما دفع بالجانب الثاني المتمثل بعناصر حزب البعث، وقوى الإسلام الطائفي السنية استغلال هذا الفعل بردة فعل معاكسة، حيث مارسوا وما زالوا يمارسون عمليات الاغتيالات والسيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة لإيقاع اكبر عدد من الخسائر البشرية في صفوف المواطنين الأبرياء، وتدمير أقصى ما يمكن من الممتلكات العامة والشخصية، والحيلولة دون أي إمكانية لإعادة بناء العراق من جديد، وإجبار السلطة على تخصيص معظم الدخل الوطني لمكافحة العمليات الإرهابية، مما يحول في نهاية الأمر دون إعادة بناء العراق، ويؤدي إلى تدهور الوضع المعيشي للشعب.
ومن جانب آخر كان التغلغل الإيراني في العراق، والعلاقات الوثيقة التي تربط أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بحكام طهران، وبالخصوص كون المليشيات التابعة لهذه الأحزاب على ارتباط وثيق بالنظام الإيراني تسليحاً وتمويلاً وتدريباً، وتمادي هذه المليشيات في أعمال القتل والاغتيالات، وتحويل الحسينيات إلى مراكز عسكرية لها دفعت الإدارة الأمريكية إلى التفكير في المخاطر التي يمكن أن تلحق بمصالحها في المنطقة جراء الهيمنة الإيرانية على العراق ، فبادرت إلى السعي لخلق نوع من التوازن بين قوى الإسلام الطائفي الشيعي والقوى البعثية والطائفية السنية، وبدأت تمارس الضغوطات الشديدة على حكومة المالكي لإعادة البعثيين إلى الواجهة من جديد في مختلف مرافق الدولة بدءً من الحكومة والبرلمان والجيش والأجهزة الأمنية وسائر مرافق الدولة الأخرى.

الطرف الثالث المتمثل بالأحزاب القومية الكردية التي تحالفت مع أحزاب الإسلام الطائفي الشيعي، وبشكل خاص مع المجلس الأعلى بزعامة الراحل عبد العزيز الحكيم، بدافع إسناد وتأييد فيدرالية كردستان المتفق عليها من جانب القوى السياسية  سعياً وراء حل عادل ودائمي للقضية الكردية، فالحكيم كما هو معروف لدى الجميع كان يسعى حثيثاً لتشكيل ما دعاه بفيدرالية الوسط والجنوب، والتوجه نحو أقامة دويلات طائفية في العراق، ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعى للتحالف مع الأحزاب القومية الكردية.
وهكذا قام التحالف المصلحي بين الطرفين، وتخلت الأحزاب القومية الكردية عن حلفائها الحقيقيين المؤمنين حقاً وصدقاً بحقوق الشعب الكردي، وإقامة الفيدرالية في كردستان على أساس الحفاظ على وحدة الشعب والوطن العراقي، وفي يقيني أن هذا التحالف ليس سوى تحالف وقتي لا يلبث أن ينقلب أصحابه على الشعب الكردي.
إن من المؤسف حقاً أن أقول أن الأحزاب القومية الكردية لم تتعلم الدرس من تحالفها السابق مع البعثيين والقوميين الذين تآمروا على ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم ، وباركوا انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ظناً منهم أن البعثيين هم أكثر ديمقراطية وإيماناً بحقوق الشعب الكردي من قاسم، لكن أولئك القوميين العنصريين لم يمهلوا الشعب الكردي وقواه السياسية سوى أقل من أربعة اشهر ليشنوا حملة تنكيل شعواء بالشعب الكردي ، ويحرقوا الحرث ويقتلوا النسل.
إن سياسة حرق المراحل، وخلق جو من التعصب القومي لا يخدم القضية الكردية بل يزيدها  تعقيدأ، هذا بالإضافة إلى خلق رد فعل معاكس لدى العناصر القومية المتطرفة في الجانب الآخر، والذين يستغلون هذه الأخطاء لخلق جبهة معادية للشعب الكردي بين صفوف المواطنين البسطاء .
إن الحرص على الأخوة العربية الكردية وسائر القوميات الأخرى هي حجر الزاوية في تحقيق أماني الشعب الكردي وسائر القوميات العراقية الأخرى، وإن السبيل إلى تحقيق آمال وطموحات الشعب الكردي مرتبط كل الارتباط بتحقيق طموحات إخوتهم أبناء الشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه وقومياته وأديانه هو الديمقراطية، ولا سبيل غير الديمقراطية التي تستطيع بها مكونات شعبنا تأمين كافة الحقوق والحريات العامة والخاصة، وتؤمن الحياة الرغيدة لمجموع الشعب عندما يحل الأمن والسلام في ربوع العراق، ويجري التنافس الديمقراطي الحر بين قواه السياسية على أساس احترام الرأي والرأي الآخر، وإبعاد الدين عن الشؤون السياسية، وفصله عن الدولة ، فزج الدين في السياسة قد افسد الدين والسياسة معاً، ولا سبيل للخروج من المحنة التي عصفت وما تزال تعصف  بالعراق وشعبه إلا بنبذ الطائفية والتعصب القومي ، والإيمان الحقيقي بالوطنية العراقية ، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وقيام حياة حزبية لا مكان فيها للتطرف الطائفي والعنصري، ومن خلال إعادة النظر الجذرية في الدستور، وإعادة النظر في قانون الانتخابات على أساس الدوائر الانتخابية، وسن قانون جديد للأحزاب يؤكد على مبدأ الديمقراطية.
واليوم والعراق مقبل على الانتخابات البرلمانية بعد شهر واحد يساور قوى الإسلام السياسي الشيعية ، والأحزاب القومية الكردية القلق الشديد من عودة البعثيين إلى الواجهة من جديد ليشاركوا في الانتخابات القادمة بنشاط واسع قد يعيد العراق إلى جو من الرعب من عودة نظام البعث الفاشي للحكم من جديد.
ولا شك أن الولايات المتحدة ليس لها صديق دائم بل لها مصالح دائمة، ولا يهمها تحقيق الديمقراطية في البلاد ، بل يهمها ضمان مصالحها وهيمنتها على مقدرات العراق والمنطقة  ولقد اختبرت حزب البعث، وخدماته الجلى للمصالح الأمريكية منذ انقلاب 8 شباط المشؤوم ، وأغرقت العراق بالدماء منذ ذلك الحين وحتى سقوط النظام، ثم ما لبث البعثيون بعد أن وجدوا أن المحتلين الأمريكيين ليسوا في صدد تصفية نظام البعث ، وتركت لهم الحبل على الغارب ، ولم يمسسهم أي آذى، لبادروا في شن حملاتهم الإجرامية ضد أبناء الشعب العراقي الأبرياء عن طرق سياراتهم المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة والاغتيالات، والتي ما تزال إلى يومنا هذا ، ولا زال الشعب يدفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة .   
إن الشعب العراقي مدعو أكثر من أي يوم مضى أن يدرك المخاطر التي تواجهه إذا عادت الوجوه المتمثلة بأحزاب الإسلام السياسي الشيعية منها والسنية ، وإذا ما حقق البعثيون نتائج مؤثرة في الانتخابات البرلمانية الجديدة، وليكن خياره في الانتخابات التصويت للقوى المؤمنة حقاً وصدقاً بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، ولا مجال لتضييع الفرصة السانحة لأن البديل هو الوقوع في كماشة طرفاها فاشية دينية وفاشية بعثية.
وعلى الشعب وقواه العلمانية والوطنية والتقدمية أن تحرص على منع القوى الممسكة بالسلطة من أي تدخل أو تزوير، والحرص على أن تتسم الانتخابات بالشفافية والديمقراطية، ومنع استخدام الدين والطائفة لتحقيق أهداف سياسية، والسعي لقيام حكومة علمانية بعيداً عن المحاصصة الطائفية من أجل إنجاز التحول نحو نظام ديمقراطي حقيقي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات دون استثناء أو تمييز.
                                                                                                                                      

316
شهادة للتاريخ
الحلقة الثانية

حامد الحمداني                                                      8/1/2010

الهجوم الرجعي في الموصل وموجة الاغتيالات
لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية، فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية، أي تغيير جوهري على أوضاع الموصل، وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها من جديد، مستغلة الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص  جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي.
 وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري، مرتدية رداء القومية العربية، وتحت راية الرئيس المصري عبد الناصر، وهي التي كانت حتى الأمس القريب من أشد أعدائه، ووضعت نفسها تحت تصرف العقيد الشواف، الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها. غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم، الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة، ودافعت عنها،  وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها.
عبد الكريم قاسم يقلب ظهر المجن للحزب الشيوعي:
 لقد بادر عبد الكريم قاسم باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة، ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، وإحالهم إلى المجالس العرفية{ المحاكم العسكرية}، وحرض الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل، وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام.
ومن جهة أخرى أقدم عبد الكريم قاسم على سحب السلاح من المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، ومن ثم أقدم على إلغائها، وأجرى تغييرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة، والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين جرى إبعادهم على اثر فشل محاولة الشواف الانقلابية إلى مراكزهم السابقة، وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، و المفتي، والأرحيم، وغيرها من العوائل الأخرى، نشاطها المحموم  مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين  الذين كان لهم الدورالأساسي في إخماد تمرد الشواف.
و بادرت تلك العوائل، تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية والديمقراطية المؤيدة للثورة، ووجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية أكثر من 30 الف عائلة على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها وأعمالها ووظائفها، من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل، أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه، حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجرِ تحقيقاً ضد عصابات القتلة ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا، ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة مهما كانت ضعيفة وعاجزة، عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، وإلقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف  أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة، الذين بقوا مطلقي السراح، يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء، ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم  في وضح النهار .
إما أجهزة الأمن فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح، فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى، حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك، الدكتور[ عبد الوهاب حديد ]، وهو من أبناء عمومة[ محمد حديد] وزير المالية.
 ولا بد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ  حركة العقيد الشواف وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، لنتعرف على أولئك الذين كان لهم الدور البارز في تلك الأحداث.
من كان يحكم الموصل؟
1 ـ مدير الشرطة ـ إسماعيل عباوي: إسماعيل عباوي من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش، الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936،ضد حكومة [ياسين الهاشمي].
 قام إسماعيل عباوي باغتيال[ جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال[ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد[مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس النواب، عندما وقع انقلاب الفريق [ بكر صدقي].
 أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش، بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939  بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.
  وقبل أحداث حركة الشواف بأيام أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل، لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، والسيطرة على الأوضاع في المدينة بعد دخول الجيش إليها بقيادة العقيد حسن عبود الذي عين فيما بعد آمراً للواء الخامس  بالموصل، وبقي المقدم إسماعيل عباوي مديراً لشرطة الموصل ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى للعناصر الديمقراطية والشيوعية فيها خلال ثلاث سنوات متوالية، حيث جرت حملة اغتيالات منظمة ذهب ضحيتها ما يناهز 1000 مواطن دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات باسم مجهول!!.
2ـ متصرف اللواء ( المحافظ) ـ العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي:
متصرف الموصل العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة، في الرابع عشر من تموز 958،  حيث كان آمر الفوج الأول، في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف، الذي كان آمر الفوج الثالث  في نفس اللواء. عين الدراجي آمراً للواء العشرين  بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية، إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه،  كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم،  ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4  تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد وعُين محافظاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى محافظة الموصل فيما بعد.
 ولاشك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم، بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على  إضعاف وعزل  عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8  شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف، بعد انقلابه على البعثتين، وزيراً للداخلية.
 لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل، شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين، وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان.
3 ـ مدير الأمن ـ  حسين العاني:
حسين العاني، كما هو معروف، من عائلة رجعية إقطاعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي ، كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً، ورغبتها في الانتقام أكبر ، وكان وجود العاني على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليون على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها، والتستر عليها وحمايتها.
كان جهاز الأمن يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح  لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً دون خوف  أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة، رغم شيوع أسمائهم، وتداولها بين الناس جميعاً.
 ولابد أن أُشير هنا لحادث جرى لي شخصياً، لكي أعطي الدليل، وبكل أمانة وصدق،على دور ذلك الجهاز في جرائم الاغتيالات .
 لقد وصلتني رسالة موقعة من قبل [شباب الطليعة العربية، لمحلتي الدواسة والنبي شيت]، وكانت الرسالة مليئة بالكلمات البذيئة، وتهديد بالقتل القريب، حيث جاء في الرسالة:[ لقد جاء دورك، وقد حفرنا لك قبرا،ً  وسوف لن يمر وقت طويل، إلا ونكون قد دفناك فيه] .
أخذت الرسالة، مع عريضة شكوى، وتوجهت إلى المحافظ، ومدير الشرطة، ومدير الأمن، وكنت أنتظر أن يجري جهاز الأمن تحقيقاً مع مرسلي الرسالة، لكن الجهاز الأمني أرسل بطلبي دون أصحاب الرسالة.
توجهت إلى مديرية الأمن، ودخلت على المدير، و كان ضابط الأمن المدعو فاضل موجوداً في غرفته، وسبق لهذا الضابط أن اعتقلني عام 1956، وبعد أن عرفت مدير الأمن بنفسي بادرني بالسؤال عن سبب إرسال هذا التهديد بالقتل، وجرى بيني وبينه الحوار التالي أنقله حرفياً بكل  أمانة:
 سؤال :  لماذا أرسل لك هؤلاء رسالة تهديد بالقتل؟
 جواب: لماذا لا تسأل الذين أرسلوا الرسالة؟
 سؤال : يبدو أنك شيوعي، أليس كذلك؟
 جواب: وهل تبيحون قتل الشيوعيين في الشوارع، كما يجري الآن؟                    سؤال : إذاً أنت شيوعي .
 وهنا تدخل ضابط الأمن ثم بدأت الاستفزازات تنهال عليّ من قبل الضابطين، عندها أدركت أن لا فائدة من طلب الحماية من جهاز يحمي القتلة، ويدعمهم بكل الوسائل وقررت الانسحاب من التحقيق، وسحب الدعوى، والعودة إلى البيت، وأنا مدرك كل الإدراك أن حياتي في خطر أكيد.
 ولم تمضِ سوى أيام حتى جرى تطويق بيتي من قبل تلك العصابة بغية قتلي، لكنني كنت قد قررت المكوث في بيت شقيقتي بضعة أيام من باب الاحتراس، حتى سنحت إلى الفرصة بمساعدة أحد الجيران، الذي تكفل بشراء بطاقة طائرة لي، واستطاع نقلي إلي المطار سراً بسيارته، حيث غادرت الموصل  إلى بغداد، هذا مثال أنقله للقارئ،عن موقف جهاز الأمن والشرطة ومتصرف اللواء من تلك الاغتيالات بكل أمانة وصدق.
وهذا مثال آخر جرى لأحد أقرب أصدقائي هو الشهيد الأستاذ [ فيصل الجبوري] مدير ثانوية الكفاح بالموصل، الذي  أُطلق عليه النار من قبل أحد أفراد عصابة التنفيذ المدعو[عايد طه عنتورة] في 10 أيار 1960، ولم يفارق الحياة، وتم نقله إلى المستشفى، وكان يصرخ  بأعلى صوته[ قتلني عايد طه عنتورة . ولم يُتخذ أي إجراء ضد الجاني إطلاقاً، أما فيصل الجبوري فقد فارق الحياة في المستشفى في اليوم التالي.
 وهذا مثال آخر، حيث أطلق الرصاص على الشهيد [حميد القصاب] في محله الكائن بمحلة المكاوي، وشخص الشهيد بأم عينه الجاني، وأخذ يصرخ بأعلى صوته، وهو يصعد سيارة الإسعاف برجليه ودون مساعدة: قتلني [ محمد حسين السراج]، وتم نقله إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة في اليوم التالي، أما الجاني فلم يُستدعى للتحقيق، ولم تُتخذ أية إجراءات قانونية ضده.
 وأذكر أيضاً أحد أصدقائي، الشهيد [أحمد مال الله]، الذي أُطلق عليه الرصاص أيضاً، وأُصيب بجروح،  لكن أهله نقلوه على الفور إلى بغداد، حيث عُولج هناك في إحدى المستشفيات وتماثل للشفاء، لكن يد الغدر لاحقته بعد مدة واغتالته في أحد شوارع بغداد.
 أما الشهيد المدرس [ زهير رشيد الدباغ ] فقد دخل عليه أحد تلاميذ المدرسة المدعو[عادل ذنون الجواري ] إلى داخل الصف، وهو يدرس التلاميذ ، ليطلق عليه وابلاً من الرصاص من رشاشة كان يحملها، أمام 45 طالباً، دون أن يمسه أذى، أو يجري معه أي تحقيق، أما زهير، فقد أستشهد في الحال. ليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات غيرها جرت للمواطنين الأبرياء، وذهبت دماؤهم هدراً على يد تلك العصابات المجرمة، ولم يفتح فيها جميعاً أي تحقيق إلى يومنا هذا.
4 ـ آمر موقع الموصل ـ العقيد حسن عبود:
 العقيد حسن عبود، أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه، ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين، وتحجيم حزبهم،  وبالنظر للعلاقة التي تربطه بهم، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام، وأناط ذلك كله بجهاز الأمن  السعيدي، وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.
 كما أصدر قاسم أمراً بنقل كل الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين، والذين كان لهم الدور الحاسم في قمع انقلاب الشواف، إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، وفق منهج ُ تم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع، وبإشراف قاسم نفسه.
 وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود فيما يخص حفظ الأمن والنظام، ولم يعد له أي دور في ذلك، ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال، وأخيراً إلى التقاعد.

حملة الاغتيالات في الموصل :
1ـ منْ مول ، ونظم الاغتيالات :
 بعد كل الذي جرى الحديث عنه حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا، أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون والمساندة للقائمين على تنظيمها وتمويلها.
 لقد كان على رأس تلك العصابة  يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية  والإقطاعية المعروفة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
  1  ــ عائلة كشمولة   2ــ عائلة الأغوات    3 ــ عائلة كرموش .
  4 ــ عائلة حديد       5 ــ عائلة العاني      6 ــ عائلة نوري الأ رمني
  7 ــ عائلة المفتي .   8 ــ عائلة عبد الرزاق وعبد القادر الإ رحيم  
 كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [ حاوي الكنيسة ] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك، بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات  كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز.
ورغم العديد من المقالات للعديد من الشخصيات الوطنية التي نشرتها الصحف، مطالبة بوقفها ومعاقبة القائمين بها، والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط عام 1963.
2 ـ مَنْ نفذ الاغتيالات؟              
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ  بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلي ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية، أو المحلات، أو المعامل، أو الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت إجرة قتل الإنسان [50 دينار]!!،وهذه أسماء بعض أولئك القتلة الذين كانوا يفاخرون بجرائمهم البشعة والتي يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم:

أسماء بعض منفذي الاغتيالات :
  1 ـ زغلول كشمولة .
  2 ـ شوكت نوري الأرمني .
  3 ـ محمد سعيد حسين السراج .
  4 ـ طارق عبد كرموش .
  5 ـ يعقوب كوشان .
  6 ـ صبار الدليمي .
  7 ـ نجم فتحي
  8 ـ موفق محمود .
  9 ـ فهد الشكرة .
  10 ـ هادي أبن الطويلة .
 11 ـ عادل ذنون الجواري .
 12 ـ حازم بري .
 13 ـ عارف السماك .
 14 ـ أحمد جني .
 15 ـ نجم البارودي .
 16 ـ طارق قباني .
 17 ـ طارق نانيك .
 18 ـ محمود ، أبن البطل .
 19  ـ قاسم ، أبن العربية
 20 ـ عدنان صحراوية
 21 ـ طارق شهاب البني .
 22 ـ فوزي شهاب البني .
 23 ـ جبل العاني .
 24 ـ فاضل مسير .
 25 ـ موفق ، أبن عم فاضل .
 26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه .
 27 ـ جنة  ـ  مجهول اسم أبيه .
28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان، لان أصحابها أرادوا ذلك. لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع أ و عقاب، ما دامت السلطة تحميهم وتدعمهم.
لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على واحد من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم  لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين، والممولين لتلك الجرائم.
 لقد ذهبت دماء الضحايا هدراً، حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق، وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد، وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني، و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.
لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف  تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت.
 ليست متوفرة لدي، وأنا أعيش في الغربة  بعيداً عن وطني، قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك، لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا أذكر منهم :

أسماء بعض الشهداء من ضحايا جرائم الاغتيالات
  1  ـ كامل قزانجي  ـ محامي وسياسي بارز.
  2  ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة.
  3  ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة .
  4 ـ فيصل الجبوري   ـ مدير متوسطة الكفاح.
  5 ـ زهير رشيد الدباغ  ـ مدرس .
  6 ـ شاكر محمود  ـ معلم .
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر .
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ) .
  9 ـ نافع برايا و عائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة، وضعت بسيارتهم
 10 ـ ياسين شخيتم  ـ قصاب، ونصير سلم .
 11 ـ عبد الإله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي  ( قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري .
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام .
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب .
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب .
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل .
 17 ـ سالم محمود ـ معلم .
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف .
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس .
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي .
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي .
 22 ـ أحمد ميرخان ـ ( نقل إلى المستشفى جريحاً ، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى ) .
 23 ـ عثمان جهور  ـ كاسب ، كردي .
 24 ـ محمد زاخو لي ـ كاسب ، كردي .
 25 ـ سر كيس الأرمني ـ صاحب كراج .
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس .
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف .
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية .
 30 ـ زكي عزيز توتونجي  ـ توتونجي [ بائع تبغ]
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي .
 32 ـ نجاح ….. ـ طالب جامعي ، قتله المجرم جبل العاني ،أحد أفراد العصابة.
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب .
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل .
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي .
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية .
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب .
 38 ـ حمزة الرحو   ـ قصاب .
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ــ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري .
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه ، وخضراوات .
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب .
 43 ـ حاتم الحلة ــ طالب .
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر .
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب .
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر .
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر .
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم .
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف .
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر .
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف .
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف .
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر .
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي .
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش .
 56 ـ جورج  ـ سائق .
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية .
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب .
 59 ـ شاكر محمد .
 60 ـ فريد السحار .
61 ـ واصف رشيد ميرزاـ تاجر.
62ـ جميل ألياس ـ طالب أعدادية
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل خلال تلك السنوات الممتدة من أوائل عام 1960 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط عام 1963، وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب ضئيل من أسماء الضحايا من أبناء الموصل البررة، ولم يكتفِ انقلابيي 8 شباط بالدم المسفوح هدراً بل نصبوا المشانق في شوارع الموصل للعشرات من السجناء.

أما الذين أعدمهم انقلابيوا 8 شباط 1963 فهم :
مجموعة الموصل

1 ـ مهدي حميد ـ ضابط في الجيش ـ قتل تحت التعذيب
2 ـ شاكر محمود اللهيبي ـ معلم
3 ـ إبراهيم محمد العباس [ أبراهيم الأسود ـ ضابط في الجيش
4 ـ عزيز أبو بكر ـ نائب عريف في الجيش
5 ـ غازي خليل محي الدين ـ نائب عريف في الجيش
6 ـ أحمد علي سلطان ـ نائب عريف في الجيش
7 ـ سيدو يوسف الحامد ـ نائب عريف في الجيش
8 ـ عز الين رفيق ـ جندي
9 ـ عصمت بيروزيني ـ جندي
10 ـ صالح أحمد يحيى ـ جندي
11 ـ جاسم محمد أحمد ـ جندي
12 ـ رمضان أحمد ـ جندي
13 ـ يوسف إبراهيم ـ جندي
14 ـ أنوردرويش يوسف ـ جندي
16ـ عبد محمد يونس ـ جندي
17 ـ شمعون ملك بكر ـ جندي
18 ـ محمد شيت صالح ـ جندي
19 ـ عمر بابكر ـ جندي
20 ميكائيل حسن اسماعيل ـ جندي
21 ـ خضر شمو ـ جندي
22ـ هاني مجيد هبونة ـ قصاب
23ـ  متي اسطيفان ـ معلم
24 ـ وعد الله النجار ـ نجار موبيليا
25 ـ ساطع اسماعيل الغني ـ قاضي
26 ـ طارق الجماس ـ تاجر اغنام
27 ـ طه الفارس ـ جندي
مجموعة تلكيف
28 ـ إبراهيم داؤودـ معلم ـ
29 ـ حنا قديشه ـ معلم
30 ـ كوركيس داؤود ـ معلم
31ـ ميخائيل ججو
32 ـ بطرس سنكو
33 ـ يحيى مراد
34 ـ ثامر عثمان ـ ضابط بفوج الهندسة ـ قتل تحت التعذيب
35 ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ آمر فوج الهندسة ـ قتله الانقلابيون لمقاومته  لانقلاب الشواف
مجموعة دهوك
36 ـ عبد الرحمن زاويتي ـ معلم
37 ـ خيري نشأت ـ معلم
38 ـ طاهر العباسي ـ معلم
39 ـ عيسى ملا صالح ـ جندي
مجموعة كركوك
1 ـ حسين البرزنجي
2 معروف البرزنجي
3 ـ حسين خورشيد
4 ـ خليل إبراهيم عجم
5 ـ خورشيد محمد
6 ـ رحيم سعيد
7 ـ طالب عمر
8 ـ عادل حسين
9 ـ عبد الجبار بيروزخان
10 ـ عبد الحافظ شريف
11 ـ فاتح ملا داؤود الجباري
12ـ فتاح صالح
13ـ كريم رمضان أحمد
14 ـ مجيد حسن
15 ـ محمد حسن عزيز
16 ـ محمود علي
17 ـ محمود مجيد الشكرجي
18 ـ مختار برغش
19ـ مهدي مردان
20 ـ نجم الدين نادر شوان
21 ـ نعيم عنبر
22 ـ ملا نوري عبدالله
23 ـ أحمد محمد أمين
24 ـ إحسان حسين الصالحي
25 ـ نوري سيد ولي
26 ـ كريم خلف
27 ـ عطا جميل
29 ـ توفيق مصطفى


أما الذين قتلوا من أنصار الشواف خلال الانقلاب، وهم الذين قالت عنهم إذاعة صوت العرب 20 إلفا ، وتبين بعد اجراء محاكمات الشيوعيين من قبل المجلس العرفي العسكري برئاسة العقيد شمس الدين عبد الله بعد انقلاب  8 شباط أن عددهم كان 36 شخصاً نشرت صورهم الصحافة ، كما جرى تعليق صورهم اثناء الاحتفال الذي اقامه البعثيون في الموصل بذكراهم بعد انقلاب شباط ، وهم :
1 ـ أحمد السوري ـ صاحب مكتبة
2 ـ صالح حنتوش رئيس نقابة سواق السيارات
3 ـ حامد عبد الرحمن ـ عامل في الصحة
4 ـ إدريس كشمولة ـ تاجر
5 ـ فاروق إدريس كشمولة ـ طالب
6 ـ عبد الرحمن الأعضب ـ عامل أفران
7 ـ يونس خليل أحمد ـ رائد في الجيش ـ قتل خلال الانقلاب
8 ـ عزيز سليم ـ ملاحظ الاحصاء في التربية
9 ـ محمد فاتح البكري ـ طالب
10 ـ عبد الله محمد البزاز ـ عامل
11 ـ زكي عزيز الخشاب ـ عامل
12 ـ سعيد الخشاب ـ عامل
13ـ اسماعيل الحجار ـ صاحب ىمقهى
14 ـ هاشم الشكرة ـ معلم
15 ـ كريم كشمولة ـ ملاك
16 ـ شيت كشمولة ـ ملاك
17 ـ عادل سيد خضر
18 ـ احمد الحاج بكر
19 ـ عبد الرزاق شندالة
20 مصطفى الشيخ خليل
21 ـ نوري فيصل الياور ملاك اراضي
22 ـ حامد السنجري ـ غنام
23 ـ محمد خيري كشمولة ـ ملاك
24 ـ عقيل أحمد ملا إبراهيم
25 ـ داؤود السنجري ـ غنام
26 ـ فاروق عمر كشمولة ـ ملاك
27 ـ علي العمري ـ تاجر
28 ـ حفصة العمري
29 ـ عبد الله الجبوري  ـ قائمقام قضاء دهوك
30 ـ سعدالدين إبراهيم الجلبي ـ طبيب في دهوك
31 ـ قاسم الخشاب ـ مفوض شرطة دهوك
32 ـ أمجد المفتي ـ قاضي
33 ـ قاسم الشعار محامي
34 ـ هاشم عبد السلام ـ إمام جامع عجيل الياور
35 ـ توفيق النعيمي ـ رجل دين
36 ـ مصطفى الخشاب ـ عامل

الضباط المشاركين في الانقلاب الذين إدانهم المحكمة واعدمهم عبد الكريم قاسم
في شهر آب 1959

1 ـ محسن عموري ـ ملازم أول
2 ـ غانم عموري ـ ملازم
3 ـ نافع داؤود ـ نقيب ركن
4 ـ هاشم الدبوني ـ مقدم
5ـ صديق اسماعيل ـ نقيب
6 ـ علي توفيق ـ مقدم ركن
7 ـ اسماعيل هرمز ـ مقدم
8 ـ مجيد الجلبي ـ مقدم
9 ـ محمد امين عبد القادر ـ نقيب
10 ـ خليل سلمان ـ عقيد طيار
11 ـ توفيق يحيى أغا ـ نقيب
12 ـ زكريا طه ـ نقيب
13 ـ عبد الله ناجي ـ عقيد طيار
14 ـ قاسم العزاوي ـ نقيب طيار
15 ـ فاضل ناصر ـ ملازم طيار
16 ـ أحمد عاشور ـ ملازم طيار
17 ـ ناظم الطبقجلي ـ عميد ركن ـ قائد الفرقة الثانية
18 ـ رفعت الحاج سري ـ عميد ركن ـ رئيس الاستخبارات العسكرية

نتائج الاغتيالات، والحملة الرجعية في الموصل:
بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:

 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل، أكثر من 30 ألف عائلة إلى بغداد والمدن الأخرى طلباً للأمان، تاركين مساكنهم، ومصالحهم  ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها، وأن بقائهم في الموصل لا يعني سوى انتظار القتلة لينفذوا جرائمهم بحقهم، وعليه فقد كانوا مجبرين على التضحية بكل مصالحهم، ومغادرة مدينتهم التي نشأوا وترعرعوا  فيها حرصاً على حياتهم.

 2ـ  شل و تدمير الحركة  الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة .

 3ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة  والتي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي .
 لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد  هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، و كل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام، من دماء أبنائه البررة.
 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد، و العهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد.

 ولم يدر في خلد قاسم، أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها كانت هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين في انقلاب 8 شباط 1963.

موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟
لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها !! دون أن تتخذ قيادة الحزب موقفاً صارماً من السلطة وهو يدرك أن لها اليد الطولى فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم [عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].
 وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت له القناعة المطلقة أن الحزب  بكل تأكيد  سوف يقفز إلي السلطة، ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك،  ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية[ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية التي كانت تصوّر الحالة في العراق أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة.
 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع، ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك، في حين  كان بإمكانه استلام السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.
 لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم، واستفز البرجوازية الوطنية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له.
 كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، لكن الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حول الخليج حالت دون إقدام الحزب الشيوعي على استلام السلطة، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئاً لا يستفز عبد الكريم قاسم، عن طريق اللقاءات والحوار والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها  للمطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة إئتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.
 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي  القاضي بتحجيمه  وعزله عن جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه ، بعد أن اصبحت لديه القناعة!! أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي وليس من أحزاب اليمين المتمثلة بحزب البعث والقوميين رغم أنهم تآمروا عليه مرات عديدة، في حين لم يكن يدور في خلد الشيوعيين خيانة عبد الكريم قاسم ، بل ذادوا عن ثورة 14 تموز حتى النهاية، ودفهوا ثمناً باهظاً جداً .
 أما قيادة الحزب فكانت  بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات ، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى به المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة  لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب  360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.
 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية  وتنامي عدد حوادث القتل  يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق، بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.
 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم، وكل الذين يقفون وراءهم .
إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه، متهماً المنادين به بالفوضويين !! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم، التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهضاً من أرواحهم وممتلكاتهم، ومصير وطنهم.
 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة. لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى غضب عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه، ومواقفه من الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية، واصفاً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو، وجنكيز خان !!؟  لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً وذريعة لضرب الحزب وتحجيمه.  
لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها، وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته ، وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء.
 
حامد الحمداني
8/1/2010

317

شهادة للتاريخ
حقيقة أحداث الموصل قبل وبعد انقلاب العقيد الشواف 
الحلقة الأولى
   حامد الحمداني                                                    7/1/2010

تناول العديد من الكتاب والمهتمين بمتابعة الأحداث التاريخية ،المحاولة الانقلابية الفاشلة للعقيد الشواف في الموصل ضد القيادة الوطنية لثورة الرابع عشر من تموز ،وما رافقها من أحداث، وقد اتسمت معظم الأقلام التي تناولت تلك الأحداث بالتشويه أحياناً وبالضبابية أحياناً أخرى ،مما يدفعني إلى إلقاء الضوء على تلك الأحداث التي عايشتها بكل دقائقها ،لا ابتغي في عرضي هذا سوى الحقيقة التي أرجو أن يطلع عليها الجميع. 
 
منُذُ الأيام الأولى لثورة الرابع عشر من تموز 1958 حدث شرخ خطير في صفوف الحركة الوطنية التي كانت بقيادة أحزاب {جبهة الاتحاد الوطني} ، و{اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار} قاده عبد السلام عارف بدعم من حزب البعث ،وجانب كبير من القوى القومية الذين سيروا المظاهرات في شوارع بغداد مطالبين بالوحدة الفورية الاندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة خلافاً لرأي أغلبية القوى والأحزاب الوطنية التي رفعت في المقابل شعار{ الاتحاد الفدرالي} كخطوة أولية مؤكدة على إقامة أوثق الروابط بين العراق والجمهورية العربية المتحدةبزعامة عبد الناصر، وصولاً في المستقبل إلى إقامة وحدة حقيقية تقوم على أسس ديمقراطية ترعى مصالح الشعب العراقي، الذي خرج لتوه من هيمنة القوى الإمبريالية والنظام الملكي المدعوم من قبلهم، ومن قبل القوى الرجعية والإقطاعية.
 لم تكن تلك القوى التي رفعت ذلك الشعار{  الوحدة الفورية}  صادقة في دعواها بل كانت ترمي إلى الوثوب إلى السلطة،  وإزاحة القوى الديمقراطية وقيادة عبد الكريم قاسم ، وهي لو كانت جادة في دعواها لحققت الوحدة عندما اغتالت ثورة الرابع عشر من تموز في انقلابها الدموي الفاشي في الثامن من شباط عام 1963 سواء في عهد حكم حزب البعث ، أو حكم عبد السلام عارف الذي قاد انقلاب 17 تشرين ضد حكم البعث ،وكذلك عندما عاد البعثيون إلى الحكم إثر انقلاب 17 تموز 1968على حكومة عبد الرحمن عارف ، بل على العكس من ذلك اتخذوا موقفاً معادياً من عبد الناصر ، واستمروا على مهاجمته في كافة وسائل إعلامهم ومن ضمنها الإذاعة والتلفزيون حتى ساعة وفاته .
لقد سعت  تلك القوى إلى تعميق الخلافات والانقسام في صفوف القوى الوطنية مستخدمة كل الوسائل والسبل ، على الرغم من كل المحاولات التي بذلتها الأحزاب الوطنية ، وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي،  إدراكاً منها لخطوة المرحلة التي كانت تمر بها ثورة الرابع عشر من تموز ، وهي ما تزال في أيامها الأولى ،ولا سيما وأن الإمبرياليين كانوا قد انزلوا قواتهم العسكرية في لبنان والأردن،  وأوعزوا إلى حلفائهما تركياوإيران الشاهنشاهية  بحشد جيوشها على حدود العراق بغية الإجهاز على الثورة، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

واستمر الانقسام في صفوف القوى الوطنية في أوائل عام 1959 حتى بلغ مداه،ورفضت القوى القومية والبعثية أي دعوة للتعاون والتلاحم من أجل مصلحة الشعب والوطن .
انتخابات المنظمات الديمقراطية والنقابية:
 لقد جرت في تلك الأيام انتخابات النقابات ،والمنظمات الجماهيرية ، وبذل الحزب الشيوعي جهوداً كبيرة ،من أجل لمّ الشمل ، والخروج بقائمة موحدة في الانتخابات ، ولكن القوى القومية والبعثية رفضتا ذلك ،رفضاً قاطعاً ،وأصرتا على خوض الانتخابات بصورة منفردة ،قاطعة الطريق على أي تقارب وتعاون .
 كان في مقدمة الأنتخابات التي جرت نقابة المعلمين ، حيث جرت الانتخابات بروح ديمقراطية ،بإشراف ممثلين عن القائمة الديمقراطية والتي ضمت الشيوعيين ،والديمقراطيين ،والبارتيين ،والقائمة الجمهورية التي ضمت البعثيين والقوميين ،وقد لفوا حولهم كل العناصر الرجعية ، المناهضة للثورة أساساً ، تلك القوى التي وجدت فرصتها في هذا الانقسام للظهور بمظهر القومية الزائفة ،والوحدوية !!،في حين أنها كانت ، ولعهد قريب ، من أشد أعداء الوحدة وعبد الناصر ، ولا تزال تلك الأحداث في ذاكرتي عندما فازت{ القائمة الديمقراطية  المهنية } للمعلمين ، وكنت أحد مرشحيها بفارق كبير، وأعترف ممثلي{ القائمة الجمهورية } بتوقيعهم على محاضر الانتخابات بعد فرز الأصوات بان الانتخابات قد جرت في جو ديمقراطي لا تشوبه شائبة ، وكانت نقابة المعلمين ، تمثل قطاعاً كبيراً من المثقفين ، وقد تجاوز عدد أعضائها   أكثر من خمسة وخمسون ألف معلم ،ومدرس ،وأستاذ جامعي آنذاك .
كانت الانتخابات تلك خير مقياس لتوزيع القوى ، حيث كان لها دور فاعل في الحياة السياسية للبلاد ، وجرت بعد ذلك انتخابات الطلاب ، حيث جرى الاستقطاب بين القوى السياسية ، على غرار ما جرى في انتخابات نقابة المعلمين ، وفازت القائمة الديمقراطية ،المسماة بـ { اتحاد الطلبة } فوزاً ساحقاً، وتبع ذلك انتخابات نقابة المهندسين ، والأطباء ، والعمال والجمعيات الفلاحية ، وفشلت تلك القوى الرافضة للتعاون في الحصول على أي مكسب فيها .
  لقد تعمق الاستقطاب في صفوف الحركة الوطنية ، وأخذ التباعد يتسع يوماً بعد يوم ، وأخذ الجانب الخاسر في التنافس الحر ، منحى آخر يستند إلى العنف في تحقيق ما عجز عن تحقيقه عن طريق التنافس الديمقراطي الحر ، وبدأت عقولهم تفكر في استخدام القوة ،والعنف لتغيير الأوضاع لصالحهم .
العقيد الشواف يركب الموجة:
 وجد العقيدعبد الوهاب الشواف ـ آمر موقع الموصل ـ فرصته الذهبية في ركوب الموجة، فقد كان يشعر بأنه قد أصابه الغبن الكبير عند ما عُيّين آمراً للواء الخامس ، وآمر موقع الموصل ، وكان يطمح في الحصول على منصب وزاري ، أو منصب الحاكم العسكري العام ، عند قيام الثورة ، حتى لكأنما قامت الثورة لتوزيع المناصب على القائمين بها ، وليس من أجل خدمة القضية الوطنية.

  كنت في تلك الأيام مديراً لإحدى مدارس الموصل  مسقط ،وكنت أرى  وأحس والمس ذلك الصراع يتطور ويتعمق ،والانقسام يبلغ مداه ،ويتحول إلى عداء واعتداء ،وتحول ذلك الجانب الخاسر في الانتخابات إلى عصابات تنتشر هنا وهناك تتحين الفرص للاعتداء على العناصر الديمقراطية والشيوعية، بوجه خاص ، وكانت توجيهات الحزب الشيوعي آنذاك  تقضي بعدم الانجرار وراء تلك الأعمال ، وتجنب الصدام ،وكان أمله في إعادة الصواب إلى رشد تلك القوى والعودة إلى التلاحم والتعاون ،من أجل مصلحة الشعب والوطن ،وديمومة الثورة ونضوجها ، وتعمقها من أجل تحقيق أحلام الشعب العراقي الذي ضحى من أجلها سنين طويلة .
الإعداد للإنقلاب:
كان يدرك معنى الانقسام في صفوف الحركة الوطنية ،والمخاطر التي تسببها،  وفعل كل ما يمكن من أجل إعادة اللحمة للقوى الوطنية ،إلا أن كل محاولاته ذهبت أدراج الرياح ،وراحت تلك القوى تعد العدة ، وتهيئ لمحاولة انقلابية في مدينة الموصل ، ثاني أكبر مدن العراق ،وكانت تحركاتهم وإعدادهم لذلك الانقلاب بادية للعيان ،تجري على قدم وساق، فيما كان الجانب الثاني من الاصطفاف ـ الشيوعيون والديمقراطيون ،والبارتيون ـ يراقبون الأوضاع بدقة فالخطر لا يعني عبد الكريم قاسم وحده ،أو الثورة وحدها ،وإنما يعني أيضاً تعرض كل القوى المساندة للثورة للتصفية ،إذا ما تحقق النصر لمحاولتهم الانقلابية .
كان العقيد الشواف ،وعدد من الضباط القوميين ،والبعثيين ينشطون بهذا الاتجاه وينسقون مع القوى الرجعية للإعداد لتك المحاولة.
وفد مؤتمر المعلمين يقابل عبد الكريم قاسم
 .وأنتهز أعضاء المؤتمر الأول لنقابة المعلمين في الموصل ـ وكنت احدهم ـ وجوده في بغداد ، لحضور المؤتمر ،المنعقد في أواسط شباط 1959 ، الفرصة وطلب مقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم لأمرٍ يخص الثورة والجمهورية وأمنها .
 وافق عبد الكريم قاسم على استقبال الوفد في مقره بوزارة الدفاع ، وحضر الوفد في الوقت المحدد،  ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى حضر عبد الكريم قاسم ، ودخل القاعة وسط التصفيق والهتاف باسم الثورة وقيادتها.
بدأ الزعيم الحديث موجهاً كلامه للوفد مرحباً به وقائلاً :
{ إنني كنت واحداً منكم ، أنتم مربي الأجيال ، نعم  لقد كنت معلماً ، في إحدى قرى الشامية بعد تخرجي من الإعدادية ،وقبل أن أدخل الكلية العسكرية ،وأنا فخورٌ بذلك}.
وتحدث الزعيم طويلاً عن دور المعلم في المجتمع ، وبعد نهاية حديثه ،طلب من الوفد الحديث .
  بدأ أكبر أعضاء الوفد سنا الشهيد {يحيى الشيخ عبد الواحد} المعروف يحيى ق والذي كان مشهوداً له بالمواقف الوطنية أيام الحكم الملكي والمواقف الجريئة ضد حكم الطاغية نوري السعيد ،وناله بسبب مواقفه تلك صنوفٌ من الاضطهاد،والاعتقال ،وأستحق محبة الشعب العراقي وقواه الوطنية .

بدأ يحيى بالحديث عن أوضاع الموصل المتدهورة ،والنشاط التآمري الذي يجري على قدم وساق ، موضحاً للزعيم أن العراق في خطر ، وإن الثورة في خطر كذلك ،إذا لم تسارع حكومة الثورة في معالجة الأمور بأسرع وقت ممكن ،من أجل نزع الفتيل قبل حدوث الانفجار ، مشيراً إلى العناصر التي تقود ذلك النشاط ، وعلى رأسها العقيد الشواف ،وزمرة من الضباط القوميين والبعثيين المتعاونين معه ، بالإضافة إلى القوى الرجعية والإقطاعية ، وعلى رأسها شيخ مشايخ شمر الإقطاعي الكبير والنائب السعيدي المزمن{  أحمد عجيل الياور} .
 وتحدث يحيى عن السلاح الذي كان المتآمرون ينقلونه عبر الحدود السورية ويخزنوه في الموصل ،وكذلك عملية تسليح قبائل شمر ،التي تدين بالولاء لرئيسها ،والحاقد على الثورة وعلى قانون الإصلاح الزراعي الذي جرده من سلطانه . كما تحدث يحيى عن نشاط عملاء شركات النفط في عين زالة في الموصل ،في هذا الاتجاه .
 إلا أن الزعيم عبد الكريم قاسم رد على الوفد بعباراته المشهورة:
{الصبر والتسامح والكتمان والمباغتة} هذه العبارة التي كان يرددها دائماً.
وقد رد عليه يحيى قائلاً :
يا سيادة الزعيم: إن هناك حكمة تقول  الوقاية خيرٌ من العلاج  ، إن انتظار حدوث الكارثة ومعالجتها بعد ذلك ، أمرٌ خطيرٌ جداً ، إذ ربما  تكون لها إمتدادات في مختلف أنحاء العراق ، ولربما تؤيدها غيرها من القطعات العسكرية في مناطق أخرى ، وربما تنجح تلك المحاولات في اغتيال الثورة  وفي أحسن الأحوال ، حتى لو قامت المحاولة وفشلت ، فلا أحد يستطيع تقدير خسائرها وأضرارها ، لذلك فأن منع وقوعها ، أفضل بكثير من انتظار وقوعها ،والقضاء عليها .
  كان جواب عبد الكريم قاسم غير متوقع إطلاقاً ، لقد غضب قاسم من حديث يحيىحيث أجاب قائلاً:
{إننا ندرك الأمور إدراكاً جيداً ، وإن العقيد الشواف هو أحد الضباط الأحرار، وأنتم تهولون الأمور،وتضخمونها ،نحن أقوياء واثقون من أنفسنا}.
  وعاد الأستاذ يحيى مخاطباً الزعيم قاسم قائلا :
 سيادة الزعيم : إننا لا نطلب من سيادتكم سوى طلب بسيط ،فنحن لا نطلب أن تعاقب أحداً ،أو تسجن أحداً ،وكل ما نطلبه هو نقل زمرة الضباط المذكورة ، وتفريقها في مناطق أخرى ، منعاً لوقوع الواقعة .
 لكن الزعيم قاسم رفض ذلك رفضاً قاطعاً ،وأجاب بحدة:
 { إن هذه الأمور تتعلق بنا وحدنا ، ونحن لا نسمح لأحد بالتدخل فيها}.
وهكذا فقد بدا جو اللقاء مكفهراً ، مما حدا بالمرافق الأقدم للزعيم  الشهيد   وصفي طاهر إلى التدخل لتحسين الجو قائلاً :
{ إننا لا نهاب الشواف ،ونحن قادرون على جلبه إلى هنا هاتفياً في أية لحظة}.  وأخيراً بدا عبد الكريم قاسم يغير اتجاه الحديث ، عارضاً منجزات الثورة ، وطموحاتها المستقبلية ، وبعد ذلك أنتهي اللقاء ،وغادر الوفد وزارة الدفاع ، والكل يضرب أخماساً بأسداس ،كما يقول المثل ،ويسأل بعضه بعضا :
 هل ستقع الواقعة ؟ بل متى ستقع بالتأكيد ؟ وماذا ستكون النتائج ؟
 عاد الوفد إلى الموصل والقلق بادٍ على وجوه الجميع ، فقد كان الجو مكفهراً وينذر بالخطر.
 وفي تلك الظروف البالغة الحراجة ، قرر الحزب الشيوعي ،وحركة أنصار السلام ، التي يساهم فيها الحزب بنشاط كبير تحدي المتآمرين ،وتوجيه تحذير إليهم بأن مدينة الموصل سوف لن تكون مسرحاً لاغتيال الثورة ومنجزاتها ، وأن الشعب العراقي سوف يقف بالمرصاد لأي تحرك ، معلناً عن تنظيم مهرجان لأنصار السلام في الموصل في أوائل آذار 1959.
 واستعدت القوى الديمقراطية ،والشيوعية والبارتية لذلك اليوم الموعود ، وتقاطرت الوفود من أنحاء القطر للمشاركة في ذلك المهرجان .
كانت التظاهرة من الضخامة ،وحسن التنظيم ما أقلق قوى الظلام ، وأثار غضبها  فنصبت الكمائن لتصب جام غضبها على المسيرة ، وأمطرتها بوابل من الحجارة وحتى بالرصاص فجرح من جرح ، وأدى ذلك إلى وقوع صدامات عنيفة مع المهاجمين .
أكفهر الجو ، ونزلت قوات كبيرة من الجيش والشرطة لإيقاف الصدام ، وانتهى ذلك اليوم، وعادت الوفود إلى مدنها ،وخيم الوجوم على الموصل وأبنائها ، وتصاعد القلق كثيراً ، فقد بدا واضحاً أن الوضع قد ينفجر في أية لحظة ، وبالفعل لم يكد يمضِ سوى يومان حتى نفذ المتآمرون فعلتهم ، بادئين ليلة 7/8آذار باعتقال كل القادة ،والنشطاء في الأحزاب ،والمنظمات الديمقراطية ،وبوجه خاص منتسبي الحزب الشيوعي ، وقد جرى الاعتقال بأسلوب الاحتيال ، حيث طلب الشواف اللقاء معهم في مقره ، لدراسة الأوضاع السياسية المتدهورة وسبل معالجتها ، ولبى من لبى ذلك النداء ووقع في الفخ الذي نصبه الشواف لهم ،واختفى من أختفي  مشككاً بأهداف الاجتماع ، وكان ما كان ، فقد جرى أُخذَ الجميع بالشاحنات العسكرية معتقلين ، وأودعوا الثكنة الحجرية .
تنفيذ الانقلاب:
 وفي الصباح كان المتآمرون قد هيأوا  إذاعة منصوبة في شاحنة طويلة  تحمل صندوقا كبيراً كانت قد وصلتهم من الجمهورية العربية المتحدة ، عبر الحدود السورية ، وبادروا إلى إعلان بيانهم الأول معلنين قيام الانقلاب ، ومطالبين عبد الكريم قاسم بالاستقالة ، وفيما يلي نص البيان الذي أذيع في تمام الساعة السادسة والنصف من صبيحة  ذلك اليوم 8 آذار .

 نص بيان العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابي :
 أيها المواطنون :
 عندما أعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة في صبيحة 14 تموز الخالد ، عندها حطم الاستعمار وعملائه ، وقضى على النظام الملكي ، وأقام بمؤازرتكم وتأييدكم النظام الجمهوري الخالد ، عندما فعل جيشكم ذلك كله ، لم يدر بخلده ، ولا بخلدكم ، أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد ، وتزول طبقة استغلالية بشعة ، ليحل محلها فئة غوغائية تعيث بالبلاد والنظام و القانون فساداً،  ويُستبدل مسؤولون وطنيون بآخرين يعتنقون مذهباً سياسياً ، لا يمت لهذه البلاد العربية الإسلامية العراقية بمصلحة . أجل لم يدر بخلد جيشكم الباسل ولا بخلدكم أنتم أيها المواطنون الأباة ، وقد انصرم على قيام ثورتكم الخالدة ثمانية أشهر ، ولم تكن بلادكم ، الوفيرة الخيرات ، إلا مسرحاً للفوضى ، والبطالة ، فيتحطم اقتصادها الوطني ، وتتعطل مشاريعها العمرانية ، وتنتزع الثقة من النفوس ، ويختفي النقد من الأسواق ، وتعيث بالبلاد مقابل ذلك فئة ضالة باغية لا دين لها،ولا ضمير ، تخلق لها صنماً به لوثة في عقله وتعبده ، ولا تخشى الله، وتنادي به رباً للعالمين ، وتُسخر موارد الدولة لتخلق منه زعيماً أوحداً ،ومنقذاً أعظم .
هذا الزعيم ، الذي خان ثورة 14 تموز ، وعاث بمبادئها ، وأهدافها ، ونكث بالعهد ، وغدر بإخوانه الضباط الأحرار ، ونكل بهم ، وأبعد أعضاء مجلس الثورة الأشاوس ليحل محلهم زمرة انتهازية رعناء ، وقادته شهواته العارمة الى تصدر الزعامة ، وأعتمد على فئة تدين بعقيدة سياسية معينة لا تملك من رصيد التأييد الشعبي  غير التضليل ، والهتافات الغوغائية ، والمظاهرات ، وغير الزبد الذي يذهب جفاء ، وركب رأسه وأعلنها دكتاتورية غوغائية ، فنحى زعماء الثورة عن المسؤولية ،وأطلق للإذاعة والصحف عنان الفوضى ، تخاصم جميع الدول ، وشنها حرباً عدوانية على الجمهورية العربية المتحدة التي جازفت بكيانها من أجل نجاح الثورة ، ودعم كيانها وكيان الجمهورية ، وأستهتر بدستور جمهوريتنا المؤقت ، وسلب مجلس السيادة المؤقت كل مسؤولياته الدستورية ، وأحتكرها لنفسه ، وأعلنها حرباً شعواء على الجهات الوطنية ، والعناصر القومية المخلصة فزج في المعتقلات آلافاً من المواطنين الأبرياء بما لم يسبق له مثيل حتى مع الطاغية نوري ولا المجرم  عبد الإله، ولم يجرأ على فعلته الإجرامية أحد ،وأنحرف منفذاً أوامر الجهات الغوغائية عن أغلى وأثمن ما يعتز به العراقيون عرباً وأكراداً ، ألا وهو السير بسفينة البلاد الى التضامن مع سائر البلاد العربية المتحررة ، وأعلنها حرباً شعواء على الأمة العربية لدرجة أن صار الهتاف بسقوط القومية العربية شعاراً له ولزمرته الباغية الفاجرة ، وسلك في سياسته الخارجية مسلكاً وعراً ، فلم يتقيد بمبادئ الثورة التي ترى من سياسة الحياد الإيجابي شعاراً لا يمكن الانحراف عنه.
لهذه  الأسباب كلها ، أيها المواطنون الأباة في شتى أنحاء جمهوريتنا الخالدة ، عزمنا باسم العلي القدير ، بعد اتفاقنا مع أخينا الزعيم الركن { ناظم الطبقجلي} قائد الفرقة الثانية ،ومع كافة الضباط الأحرار في جيشكم الباسل ،وبعد مشاوراتنا مع سائر العناصر السياسية المخلصة عزمنا في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ جمهوريتنا ، على تحرير وطننا الحبيب من الاستعباد والاستبداد ، وتخليصه من الفوضى ، معلنين لكافة المواطنين عرباً وأكراداً ،وسائر القوميات العراقية الأخرى التي يتألف من مجموعها شعبنا العراقي الأبي الكريم إننا المحافظون على العهد  متمسكون بأهداف ثورة 14 تموز الخالدة ، مراعون مبادئ دستور جمهوريتنا الفتية ،نصاً وروحاً  عاملون على حسن تنفيذ وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي ، وتطبيق سياسة اقتصادية اشتراكية ديمقراطية  تعاونية ، ونطالب بحزم وإصرار تنحي الطاغية المجنون وزمرته الانتهازية الرعناء عن الحكم فوراً ، والقضاء على السياسة الغوغائية  التي أخذت تمارسها فئة ضالة من شعبنا  لكي يسود النظام وحكم القانون في أرجاء وطننا الحبيب ، ونعلن في هذه اللحظة التاريخية للعالم أجمع ، أن سياستنا الخارجية منبثقة من مصالح شعبنا وأمتنا ، وإننا إذ نتبنى سياسة الحياد الإيجابي الدقيق إزاء الدول الأخرى ، نصادق من يصادقنا ، ونعادي من يعادينا ، نعلن باسم الشعب العراقي ،أننا سنحافظ على التزاماتنا الدولية بوصفنا عضواً في الأمم المتحدة ، ونعتز بصداقة البلاد التي أدت لنا ولأمتنا العربية أجل العون في محنتها الماضية ، ومن تلك البلاد الاتحاد السوفيتي وسائر البلدان الاشتراكية ، والى جانب هذا ، نعلن بإصرار تمسكنا باتفاقاتنا النفطية مع الشركات الأجنبية مراعين في ذلك مصالح اقتصادنا ، وحقوقنا الشرعية ، وسنضمن بحزم سير أعمال الشركات النفطية ، بكل حرية . ويسرنا أن نفتح صفحة جديدة من الصداقة القائمة على أساس الند للند مع كل دولة ، ونود أن نوضح بجلاء أن أي تدخل خارجي في شؤوننا الداخلية من أي دولة كانت في هذه الفترة التي تسبق قيام مجلس السيادة بمسئوليته الدستورية ليؤلف وزارة شرعية في العاصمة بغداد ، بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة ، فأن هذا التدخل يعتبر ماساً باستقلال وسيادة جمهوريتنا ، ويؤدي ذلك إلى أوخم العواقب .
أيها المواطنون : إننا ، إلى أن يستجيب عبد الكريم قاسم ، فينصاع للحق ، ويتنحى عن الحكم فوراً والى أن يمارس مجلس السيادة سلطاته ، ليؤلف وزارة بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة ، قد أخذنا على عاتقنا  بعد الاتكال على الله ، مسؤولية إدارة البلاد ، طالبين من إخواننا المواطنين الكرام  شد أزرنا وعوننا  بالإخلاد إلى الهدوء والسكينة ، دون أن يلزمونا إلى اتخاذ تدابير من شأنها الأضرار بالممتلكات ، أو إلى سفك الدماء ، وليكن كافة أبناء الشعب مطمئنين إلى إننا سنكون عند حسن ظنهم بتولي المطالبة بتحقيق أمانيهم .
 ونحذر في الوقت ذاته العناصر الهدامة من أننا سنأخذهم بالشدة إن عرضوا حياة المواطنين وحياة الأجانب وممتلكاتهم للخطر ، وليعلم الجميع أن حركتنا الوطنية تستوي عندها جميع الفئات والهيئات ، وأنها تحفظ لهم حقوقهم في الحرية إن لم يتجاوزا حدود القانون المرسوم ، والله ولي التوفيق 
                                                 العقيد الركن عبد الوهاب الشواف
                                                                قائد الثورة
                                                               8 آذار 1959
نظرة فاحصة  في بيان الشواف :
بنظرة فاحصة لبيان العقيد الشواف ، يتبين لنا أن الشواف لم يكن سوى رجل متعطش للسلطة والتزعم ، فلقد تجاوز قائده ورفيقه الزعيم{ناظم الطبقجلي } قائد الفرقة الثاني  التي كان اللواء الذي يقوده  العقيد الشواف تابعاً له ، متخذاً له صفة قائد الثورة ،مما دفع الزعيم الركن الطبقجلي إلى عدم التحرك والمشاركة في الانقلاب ،على الرغم مما ورد في البيان حول الاتفاق معه لتنفيذ الانقلاب .
كما أن الحركة كانت قد اعتمدت على الدعم الخارجي من قبل الجمهورية العربية المتحدة ، فقد أرسلت للانقلابيين محطة إذاعة متنقلة ، منصوبة فوق شاحنة كبيرة ، مع كمية كبيرة من الأسلحة بالإضافة إلى الدعم الإعلامي الكبير ،عبر محطتي إذاعة دمشق ،وصوت العرب من القاهرة ، وكان من المنتظر تقديم الدعم الميداني للحركة لو قدر لها الصمود فترة 48 ساعة ، ولكن سرعة قمع الحركة حال دون ذلك .
حاول العقيد الشواف مغازلة شركات النفط ، وكسب ودها من أجل دعم انقلابه ، مطمئناً إياها بأنه سيلتزم بحزم بالاتفاقيات المعقودة مع الشركات ،ويضمن مصالحها .
لم يكن العقيد الشواف صادقاً بمواصلة تطبيق قانون الإصلاح الزراعي ،وهو الذي لف حوله العناصر الرجعية ،والإقطاعية ، والتي كان على رأسها شيخ مشايخ شمر {احمد عجيل الياور} الإقطاعي الكبير ، حيث جرى تسليح القبائل الموالية له وزجها في الحركة ، كما ركز العقيد الشواف في بيانه على  حملته الشعواء على الشيوعيين متهماً إياهم بنفس التهم التي كان{ نوري السعيد } يستخدمها ضدهم ، في العهد الملكي في محاولة لكسب ود الغرب ودعمهم لحركته .
واستخدم العقيد الشواف شتى النعوت والكلمات البذيئة بحق عبد الكريم قاسم ، والتي تعبر عن الضحالة ، وعدم النضوج ، ونال استهجان غالبية الشعب العراقي ، الذي يكن الولاء لقيادته .
 لقد تبين أن حركة العقيد الشواف لم تكن سوى حركة لمجموعة من الضباط المغامرين  التواقين إلى السلطة ، ولا يستندون إلى أي قاعدة شعبية ، ولا عسكرية ، فقد وقف فوج الهندسة التابع للواء القائم بالحركة ، بكافة ضباطه وجنوده ضد الحركة الانقلابية منذُ اللحظة الأولى ، وقاومه بقوة السلاح ، أما الجنود وضباط الصف ، الذين كانوا بإمرة الانقلابيين ، والذين انساقوا تحت وطأة الخوف من قادتهم ، فسرعان ما انتفضوا على ضباطهم المتآمرين وانضموا إلى جانب السلطة ،ومقاومة الانقلاب .
وخلال المعارك التي دارت بين الانقلابيين ، والقوى المساندة للسلطة ، سقط من بين الانقلابيين  (47) فرداً ، وذلك حسبما ورد في تقرير الطب العدلي ،وأكده المقدم{يوسف كشمولة } أحد المشاركين في الحركة الانقلابية خلال الاحتفال الذي أقيم في ملعب الموصل ،إحياءاً لذكرى انقلاب الشواف ،بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ، وإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم .
 كما أن المجلس العرفي العسكري الذي أقامه انقلابيوا  8شباط ، قد أكد العدد المذكور. في حين أن الإنقلابيين قتلوا عشرات الجنود حيث كانوا قد نصبوا رشاشاتهم على منارة جامع باب الجديد.
في ذلك الحين كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة  تذيع أخباراً مذهلة عما سمته بالمجازر التي وقعت في الموصل ، وادعت أن عدد القتلى من البعثيين والقوميين قد جاوز  ( 20) ألفاً  في محاولة منها لإثارة القوى القومية والبعثية للانتفاض على حكومة الثورة وإسقاطها .
لقد سُخرت هذه الإذاعة في تلك الأيام للهجوم على حكومة الثورة ، وعلى القوى الديمقراطية والشيوعية ، مستخدمة أبذأ الكلمات والعبارات التي لا تليق بدولة ، كان لها من الاحترام والحب لدى الشعب العراقي إبان العهد الملكي ما يفوق الوصف ، وخاصة عندما خاضت مصر بقيادة الرئيس عبد الناصر معركة السويس عام 1956 ضد العدوان الثلاثي  البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، ويتلهف لسماع إذاعة  {صوت العرب}.
لقد تكشف للأمة العربية وللعالم أجمع زيف وكذب تلك الإذاعة عما كانت تبثه من أخبار المجازر المزعومة في الموصل ، وأساليب التحريض الرخيصة ضد ثورة 14 تموز وقيادتها ، ليس حباً بالعراق وشعبه ، ولا حرصاً على مصالحه ، وإنما حباً في السيطرة على العراق ، وضمه قسراً للجمهورية العربية المتحدة ، دون أخذ رأي الشعب العراقي في مثل هذا الأمر الخطر الذي يتعلق بمصيره ومستقبله.
 كان من المؤسف أن ينبري الرئيس عبد الناصر في خطاباته آنذاك ، يومي 11 و13 آذار لمهاجمة عبد الكريم قاسم ،واصفاً إياه بالشعوبي تارة ،وقاسم العراق تارة أخرى ، ومركزاً حملته على الشيوعيين ، متهماً إياهم بالعمالة لموسكو ، وبخيانة الأمة العربية ، كما صورت أجهزة إعلامه الأحداث التي جرت خلال وبعد القضاء على تمرد الشواف بأنها أحداث رهيبة.
لقد كان ذلك الموقف من الرئيس عبد الناصر من الأخطاء الكبرى في سياسته تجاه العراق وثورته ،فقد كان الأحرى بالرئيس عبد الناصر أن يمد يده لعبد الكريم  قاسم  من أجل دعم ونهوض حركة التحرر العربي ، ومكافحة النفوذ الإمبريالي في أنحاء العالم العربي ،والعمل على إيجاد أحسن الوسائل والسبل للتعاون ،والتضامن مع العراق ، واتخاذ الكثير من الخطوات التي تعزز التعاون والتكامل في مختلف المجالات الاقتصادية ،والسياسية ،والعسكرية ،والثقافية وغيرها من المجالات الأخرى ،وصولاً إلى إقامة أفضل أشكال الارتباط بين البلدين حين تتوفر الشروط الموضوعية والضرورية لنجاحها وديمومتها.
 إن الوحدة العربية هي فعلاً أمل كل الملايين من أبناء شعبنا العربي ، لكنها ينبغي أن تقام على أسس صحيحة ومتينة ، وبأسلوب ديمقراطي بعيداً عن الضم  وأساليب العنف .
فشل تمرد الشواف:
 لم تصمد حركة العقيد الشواف الانقلابية سوى أقل من 48 ساعة ، فقد كان رد الفعل لحكومة الثورة ، والحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي ، وحزب البارت الكردي ، وسائر الجماهير الشعبية المساندة للثورة سريعاً وحازماً ، حيث جرى التصدي للانقلابيين ، وقام فوج الهندسة التابع للواء المنفذ للانقلاب بالإضافة إلى جانب كبير من الجنود ،وضباط الصف ، وآلاف المسلحين العرب والأكراد ، والذين نزلوا إلى الشوارع للتصدي للانقلابيين ، وإفشال خططهم للإطاحة بالثورة وحكومتها ، وقامت طائرات من سلاح الجو العراقي بقصف مقر قيادة الشواف الذي أصيب بجروح خلال القصف ، ونقل إلى المستشفى الميداني  في معسكر الغزلاني ، حيث قتل هناك على يد النائب ضابط  المضمد يونس، وبمقتله تلاشت مقاومة الانقلابيين .
 وهكذا فشل تمرد الشواف ،وتمت السيطرة على المدينة خلال أقل من 48 ساعة، وتم اعتقال عدد من الضباط المتآمرين ،فيما هرب البعض الآخر إلى سوريا ،وذهب ضحية ذلك الانقلاب حوالي (135) فرداً من الجنود والضباط، الوطنيون  الذين ساهموا في قمع الانقلاب .

 الأحداث التي رافقت قمع المحاولة الانقلابية :
لا أحد يستطيع أن ينكر وقوع أحداث وتصرفات وأخطاء ما كان لها أن تحدث  قامت بها عناصر معينة ، أساءت إساءة كبرى للحزب الشيوعي ، فقد جرى قتل وسحل عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية ، وجرى نهب ،وحرق بيوتهم ،من قبلف عناصر غوغائية لاصلة لها بالحزب الذي كان عاجزاً عن إعادة الأمن والسلام في المدينة حتى دخول قوات عسكرية بقيادة العقيد حسن عبود ، وهي أعمال مرفوضة في كل الأحوال، و بعيد كل البعد عن الروح الإنسانية ،ولا تتفق والمبادئ الشيوعية .
لكن أقترف الحزب أخطاً خطأً كبيثراً عندما نصّبَ عدد من كوادر الحزب أنفسهم حكاماً ، وقاموا بمحاكمة عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية ، وحكموا على (17) منهم بالإعدام ، وجرى تنفيذ الحكم  في منطقة الدملماجة في ضواحي الموصل ، وهذا أمرٌ لا يمكن قبوله إطلاقاً .
لقد كان الأجدى بأولئك القادة اعتقال هؤلاء المتآمرين ، وتسليمهم للسلطة الشرعية لتحيلهم بدورها إلى المحاكم المختصة لمحاكمتهم ، والحكم على من يثبت مشاركته في المحاولة الانقلابية ، فليس من حق أحد أن يمارس السلطة القضائية ويصدر ، وينفذ الحكم دون تخويل .
 كما أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه ، الذي جرى تحذيره ،كما ورد سابقاً ،من حدوث ما لا يحمد عقباه ،ولكنه صمّ أُذنيه عن سماع التحذير، ورفض اتخاذ أي إجراء لمنع وقوع الكارثة ،في حين كان بإمكانه أن يفعل ذلك .
 والأنكى من كل ذلك فأن قاسم نفسه اتخذ فيما بعد من تلك الأحداث ذريعة ليصفي نفوذ الحزب الشيوعي في العراق ، موجهاً الاتهامات لهم ، ولاصقاً بهم الجرائم ، بعد أن كان قد أستقبل وفداً من قيادة الموصل  للحزب ، بعد قمع انقلاب الشواف وخاطبهم قائلا بالحرف الواحد :
{ بارك الله فيكم ، وكثّر الله من أمثالكم من المخلصين لهذا البلد}.

عبد الكريم قاسم يستغل أحداث الموصل لضرب الحزب الشيوعي:
غير أنه لم يمضِ سوى بضعة أشهر على ذلك اللقاء حتى بادر قاسم إلى اعتقال كافة الشيوعيين النشطين ،وأودعهم سجن بغداد ، ثم أحالهم الى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم أحكاماً قاسية وصلت حتى الإعدام ،وأبقاهم رهائن في السجن لكي يأتي انقلابيوا 8 شباط 1963 وينفذوا فيهم حملة اعدامات بشعة  ويعلقون جثثهم على أعمدة الكهرباء ،في شوارع الموصل بعد أن مارسوا أشنع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم .
 لقد كان لموقف قاسم الجديد ،خير مشجع لنشاط الزمر الرجعية ،والعناصر التي شاركت في محاولة الشواف الانقلابية ،والتي تكّن أشد العداء له ،ولثورة الرابع عشر من تموز ،ولم يدرك قاسم أن عمله هذا إنما يعني انتحاره هو ، ونحر الشعب العراقي  ونحر الثورة كذلك .
 لقد اتخذت تلك القوى من موقفه الجديد ذريعة لهم لشن حملة واسعة من الاغتيالات استمرت أكثر من ثلاث سنوات ،وذهب ضحيتها مئات الوطنيين الأبرياء ،وسوف أعود إلى هذا الموضوع في الحلقة القادمة  .
 وللحقيقة والتاريخ أقول أن الحزب الشيوعي لم يكن يستحق من قاسم هذا الجزاء رغم كل ممارساته الخاطئة ، فقد كان الحزب وفياً لقيادته ،سانده وحماه وحمى الثورة في أشد الأيام صعوبة وخطورة ،ولم يفكر يوماً في خيانته ،أو محاولة سلب السلطة منه آنذاك،  في حين أن فرصاً كثيرة كانت لدى الحزب للسيطرة على الحكم بكل سهولة ويسر ،لو أراد ذلك .
لقد كانت مواقف قاسم تلك من الحزب الشيوعي ،أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اغتيال الثورة ،وأغتياله هو بالذات .
لقد جرد نفسه من كل سند يحميه ، وأخذ منه الغرور مكانه ، معتقداً أن تلك القوى المعادية لمسيرة الثورة ستعود إلى رشدها ،وتغير موقفها من السلطة،  لكن الواقع كان يشير إلى تنامي الخطر الرجعي والنشاط التآمري ،على المستويين ، المحلي والدولي ،من أجل إسقاط الثورة ،وهذا ما تم فعلاً على يد تلك الزمرة الانقلابية يوم 8 شباط  1963 ، ويذكرني هنا قول الشهيد{ جلال الاوقاتي } قائد القوة الجوية آنذاك ،حيث قال :
{ إن الزعيم عبد الكريم قاسم ، سوف يدمر نفسه ،ويدمر الشعب معه} .
لقد حكم الإمبرياليون بالموت على عبد الكريم قاسم منذُ اللحظة التي قاد فيها ثورة 14 تموز ضد النظام الملكي المرتبط بهم ، وقد حاولوا اغتيال الثورة في أيامها الأولى ، بالتدخل العسكري المباشر ، عندما نزلت القوات البريطانية في الأردن ، و الأمريكية في لبنان ، وعندما حشدت تركيا قواتها على طول الحدود العراقية ، لكن موقف الاتحاد السوفيتي الداعم للثورة ، وتهديدهم للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق حال دون ذلك ، وأضطر الإمبرياليون إلى تغير خططهم في إسقاط الثورة .
 وعندما أقدم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ،واستطاع انتزاع 99،5 %من المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة ،بلغ استفزاز الثورة لهم أقصى درجاته ، وجعلهم يركزون جهودهم بشكل محموم  لإسقاط الثورة .
لكن قاسم لم يتعظ بدروس التاريخ ،ووقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه مصدق ، وانتهى إلى الموت صبيحة الثامن من شباط،  1963 ،وحلت الكارثة الكبرى بالشعب العراقي ،حيث جرّت تلك الأحداث المآسي ،والويلات على شعبنا منذُ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا.
انتهت الحلقة الأولى ، وتليها الحلقة الثانية



318
أيها الأمريكيون: إنه من صنع أيديكم!

حامد الحمداني   5/1/2010
المأزق الذي تجابهه الإدارة الأمريكية اليوم آخذ بالتصاعد كماً ونوعا جراء استشراء العمليات الأرهابية من قبل منظمات القاعدة وطالبان وأحزاب الاسلام السياسي التي انشأتها ومولتها وسلحتها الإدارات الامريكية المتعاقبة على السلطة أبان صراعها مع الاتحاد السوفيتي السابق.
ففي إيران إبان الصراع الذي اندلع بين الشعب الإيراني ونظام الشاه الذي خدم المصالح الأمريكية لعقود، وكان يمثل شرطي الخليج آنذاك، لضمان الهيمنة الأمريكية على منابع النفط التي تمثل عصب الحياة للإقتصاد الغربي، كانت الإدارة الأمريكية أمام خيارين آنذاك بعد أن أوشك نظام الشاه على السقوط، فإما استلام قوى اليسار والديمقراطية الحكم في إيران، أو قوى الاسلام السياسي بزعامة الإمام الخميني.
 وهكذا اتخذت الإدارة الأمريكية قرارها باختيار الاسلام السياسي بزعامة الخميني ليقود الثورة والحكم في البلاد، حيث انتابها القلق والخوف مما دعته بوصول الاتحاد السوفيتي إلى مياه الخليج الدافئة، وهكذا أقدمت على نقل الخميني اللاجئ في فرنسا على عجل بطائرة خاصة إلى طهران ليتولى قيادة النظام في إيران، وليشكل النظام الجديد ستاراً ضد ما اسمته بالخطر الشيوعي على الخليج، وعلى مصالحها النفطية فيه.

وفي افغانستان التي كان قد وقع فيها انقلاب عسكري يساري بقيادة [ نورمحمد تراقي]، ودخول قوات سوفيتية بدعوة من الحكومة الأفغانية الجديدة، اتخذت الإدارة الأمريكية قرارها بالتصدي لما اسمته بالتمدد السوفيتي في منطقة الشرق الأدنى، فقررت تشكيل منظمات ارهابية لمقاومة التدخل السوفيتي في افغانستان، فكانت منظمة القاعدة بزعامة عميل المخابرات الأمريكية أسامة ابن لادن، وحركة طالبان في افغانستان وباكستان، وأوعزت إلى حكام الدول الدائرة في الفلك الأمريكي، وفي المقدمة منها السعودية والباكستان لرفد القاعدة وحركة طالبان بالمزيد من العناصر المفسولة ادمغتها من قبل شيوخ الوهابيين في السعودية ليحاربوا ما كانوا يدعونه بالإلحاد الشيوعي، وأجبرت حكام الدولتين على تقديم الدعم المادي لتمويل هذه الحركات الإسلامية التي توسع نشاطها بعد انسحاب القوات السوفيتية من افغانستان، وانهيار النظام السوفيتي  حيث شمل نشاط هذه القوى الارهابية البوسنة، والشيشان، وكوسوفو، وغيرها من الدول الأخرى.
لقد تجاهلت الادارات الأمريكية المتعاقبة على سدة الحكم الجانب السلبي الخطير لهذا العمل طالما الجانب الإيجابي، بالنسبة للمصالح الأمريكية والغربية يصب في مصلحتها الآنية معتقدة أن هذه التنظيمات مسيطر عليها طالما هي التي تتولى تمويها، وتسليحها، وتشرف على نشاطها.
لكن الحسابات الأمريكية باءت بالفشل، بعد أن قوى عود المنظمات الإرهابية التي صنعتها هي، وتوسعت نشاطاتها كماً ونوعاً في مختلف بقاع العالم، وخاصة العالم الثالث، حيث الفقر والحرمان والحياة البائسة،وفتك الأمراض، والاستغلال الإمبريالي لخيرات هذه الشعوب، مما خلق بيئة مثلى لتوسع النشاط الإرهابي استغلته المنظمات الإرهابية على اوسع نطاق لتمديد نشاطها في تلك البلدان، بل لقد تجاوت تلك الحدود للتوجه بنشاطها الإرهابي إلى مختلف البلدان الأوربية، وحتى الولايات المتحدة في عقر دازها، وعلى الرغم من قدرات وخبرات الأجهزة الأمنية وإمكاناتها التكنيكية، فقد استطاعت المنظمات الأرهابية، وفي مقدمتها القاعدة أن تنفذ جرائمها في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا واسبانيا  وروسيا وغيرها من الدول الغربية الأخرى، وما تزال فيها الخلايا النائمة لهذه المنظمات الإرهابية تشكل تهديداً جدياً للأمن في هذه البلدان.
لكن الخطر الجدي الذي يواجه عالمنا اليوم هو تنامي النشاط الإرهابي الذي يفوق التصور في افغانستان والباكستان وإيران والعراق ولبنان وفلسطين والجزائر والمغرب واليمن والسعودية والصومال ومصر وسوريا، وأندونسيا والفلبين وغيرها من الدول الاسلامية الأخرى، بحيث بات من المتعذر السيطرة عليها رغم كل الجهود التي بذلتها وما زالت تبذلها حكومات هذه الدول وجيوشها وأجهزتها الأمنية، ومخابراتها، ورغم مئات المليارات من الدولارات التي تستنزفها الحرب على الإرهاب، فما زالت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عاجزين على تصفية المنظمات الارهابية التي وسعت هي الأخرى من قدراتها وإمكاناتها مستفيدة من التطور الكبير في عالم الاتصالات والانترنيت، ومن الدعم المادي التي تتلقاه من مصادر سرية عديدة، وفي مقدمتها تجارة المخدرات، وتجارة السلاح.
إن الوضع الخطير في افغانستان وباكستان، والتعاون والتنسيق بين منظمة طالبان الافغانية والباكستانية باتت تثير القلق الكبير ليس في هذه المنطقة فحسب ، بل في العالم أجمع.
فالوضع في الباكستان، هذا البلد النووي، تتصاعد مخاطره يوماً بعد يوم، والانفجارات تتسع في مختلف المدن الباكستانية، في وقت تواجه فيه الحكومة الباكستانية مصاعب جمة مع الأحزاب الإسلامية من جهة، ومع أعضاء المحكمة الدستورية التي سبق للرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف أن أقالها، وأعادتها الحكومة الحالية، والتي هي قريبة من الاحزاب الإسلامية، حيث بادرت المحكمة إلى إلغاء العفو الذي كان قد أصدره برويز مشرف عن وزيري الداخلية والدفاع الحاليين والرئيس الحالي سرداري، زوج بنازير بوتو، تمهيداً لتحالف الطرفين في الانتخابات النيابية، والتي عادت هي وزوجها من منفاها في دولة الأمارات العربية المتحدة، وجرى اغتيالها خلال الحملة الانتخابية، وتولى زوجها قيادة حزبها، وانتخب رئيساً للجمهورية بعد فوز حزبها في الانتخابات، مما ضعضع النظام القائم في الباكستان، وقوى نشاط حركة طالبان في محاولة لأسقاط النظام الحالي، مما يهدد بوقوع الأسلحة النووية الباكستانية بأيدي حركة طالبان والقوى الإسلامية الأخرى.
وفي إيران تسابق حكومة ملالي طهران الزمن في مشاريعها النووية من أجل الحصول على القنبلة الذرية، وفي الوقت نفسه توسع نشاطها التخريبي شرقاً في افغانستان وغرباً في البلاد العربية، وبات النظام الإيراني يلعب دوراً خطيراً في العراق مدعوماً من قبل احزاب الاسلام السياسي الشيعية المسيطرة على الحكومة والبرلمان بفضل السياسة الأمريكية الرعناء، والتي قادت البلاد إلى الحرب الأهلية الطائفية عامي 2006 و2007 ، ودفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من أرواح الأبرياء، وما زال 4 ملايين من المهجرين يعيشون إما في الخيام أو في سوريا والاردن ومصر ودول اللجوء الأوربية والأمريكية.
وفي الوقت نفسه سهلت الحكومة السورية والبعثيين العراقيين من أيتام صدام المتواجدين على اراضيها دخول إعداد غفيرة من عصابات القاعدة لتعيث في البلاد قتلا ودماراً وتخريباً، مما أدى إلى تصاعد أعداد الضحايا من العراقيين الأبرياء حتى تجاوز 650 الفاً، وما يزال العراق حتى اليوم مسرحاً لنشاط القوى الارهابية، الذي تصاعد في الاشهر الأخيرة وما يزال يتصاعد كلما اقرب موعد الانتخابات النيابية.
وفي لبنان تلعب ايران دوراً أساسياً في تقرير مصير البلاد من خلال دعمها لحزب الله الذي بات يتحكم في مسيرة الحكم في البلاد دون منازع، وعرّض وما زال يعرّض أمن لبنان ، هذا البلد الضعيف والصغير، للخطر جراء تحكمه في قرار الحرب والسلم بمعزل عن الحكومة، وزج البلاد في حرب مع اسرائيل لا قدرة للبنان وشعبه على تحملها.
وفي غزا ما برحت إيران تمد حكومة حركة حماس بالسلاح والأموال، وتشجعها على السير على حافة الحرب مع اسرائيل، وهي تدرك أن لا قبل لها على كسب الحرب معها، متجاهلة ما سببته الحرب في العام الماضي من ضحايا وويلات ومآسي ودموع للشعب الفلسطيني المنكوب، دعك عن الحصار اللاإنساني واللا قانوني للقطاع مما حوله إلى سجن كبير ورهيب .
ولا شك أن الولايات المتحدة، بسياستها الداعمة لأسرائيل على طول الخط،  هي التي تتحمل المسؤولية لما يجري في فلسطين ولبنان، وهي التي فسحت المجال واسعاً أمام حكومة ملالي طهران للتدخل في الشأن الفلسطيني واللبناني و العراقي واليمني أخيراً، ولا أحد يستطيع تقدير مدى التمدد الإيراني في المجال العربي إذا ما امتلكت السلاح النووي.
ولا شك أن الوضع الخطير في اليمن والصومال، ودولة اريتريا التي صنعتها الإرادة الامريكية بات يشكل تهديداً كبيراً على مستقبل الشرق الأوسط، حيث يتصاعد نشاط القاعدة وحلفائهم من القوى الاسلامية المتطرفة، وبات مضيق باب المندب ، الشريان الرئيسي للتجارة العالمية مع أوربا وأمريكا يتهدده الخطر الأكيد، حيث لا يمضِ يوم دون أن نسمع باختطاف سفينة تجارية في البحر العربي وسواحل الصومال والابحر الأحمر.
كل هذا الذي جرى وما زال يجري من نشاط إرهابي هو بالتأكيد من صنع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين صنعوا القاعدة وطالبان، وشجعوا القوى والأحزاب الإسلامية المتطرفة إبان صراعهم مع الاتحاد السوفيتي السابق  واليوم وقد نمت وتوسعت هذه المنظمات الإرهابية بحيث بات من الصعب جداً معالجتها والقضاء عليها، وستدفع هذه الدول وسائر الدول الأخرى المبتلية بالإرهاب الفاتورة الكبيرة من دماء أبنائها، ومواردها المالية، لمكافحة هذا الخطر الجسيم الذي بات خطراً عالمياً ، ويتطلب الكفاح ضده جهداً عالمياً كذلك، ليس في مجال استخدام القوة فحسب، بل وفي معالجة مشاكل الانسانية المعذبة، ومعالجة مسألة الفقر والبطالة والجوع والأمراض الفتاكة، المفرخة الأساسية للإرهابيين، وذلك من خلال تحويل الأموال الضخمة المخصصة للحروب ومكافحة الارهاب إلى معالجة المشاكل التي تعانيها شعوب العالم الثالث، والكف عن استغلالها، وإقامة نظام عالمي جديد قائم حقاً وصدقاً على أسس قويمة من الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والعلاقات المتكافئة القائمة على المنافع المتبادلة، والمصالح المشتركة، دون التدخل في السيادة والاستقلال للدول الأخرى.       

319
دولة بسبعة رؤوس مصيرها الخراب
حامد الحمداني                                                             26/12/2009
لا يوجد نظام في العالم شبيه بالنظام العراقي الذي أقامه المحتلون  الامريكان والانكليز، انه نظام بسبعة رؤوس، وكل رأس يغني على ليلاه، نظام إقيم على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية من دون أن يحقق الحد الأدنى من التوافق بين الرؤوس الممسكة بالسلطة، على الرغم من أن السلطة الفعلية بيد المحتلين الذين صاغوا لنا قانون إدارة الدولة لما سموه بالمرحلة الانتقالية، فإذا هو يصبح جوهر ولب الدستور الذي وضعته تلك القوى التي تقاسمت فيما بينها الحكم، وجرى تحت اشراف الحاكم الأمريكي بول بريمر اختيار ما سمي بمجلس الرئاسة الذي ضم السيد جلال الطالباني [كردي]والسيد[عادل عبد المهدي]عربي شيعي والسيد[طارق الهاشمي]عربي سني من أحزاب الاسلام السياسي الطائفي، وجرى الاتفاق برعاية أمريكية على اختيار [أياد علاوي] رئيساً للوزراء، ومن ثم بعده السيد[ابراهيم الجعفري]، ثم بعد الانتخابات الأخيرة، وبعد مخاض عسير جرى اختيارالسيد[نوري المالكي]رئيساً للوزراء، وجرى اختيار وزير الدفاع [العبيدي] ووزيرالداخلية [جواد البولاني] بعد صراع عنيد بين القوى المتحاصصة، وبتدخل مباشر من السفارة الأمريكية، وجرى منح رئاسة مجلس النواب للسيد [محمود المشهداني] في عملية ترضية لقوى الاسلام الطائفية السنية بغية ادخالها في العملية السياسية البائسة، والذي تحول في عهده البرلمان العراقي إلى مهزلة، حيث قاده ارهابي اعترف صراحة في حوار على قناة البغدادية مع النائب [ مكي] عضو حزبه الإسلامي الطائفي حيث خاطبه قائلاً بصريح العبارة{ مَنْ قتل الناس على الاسم والهوية؟ أنا وأنت من قتل الناس الأبرياء} وقد أوقع نفسه في مطبات كثيرة في تعامله مع اعضاء البرلمان بكل خشونة، مما تم اجباره على طلب التقاعد بعد أن تم اقناعه براتب تقاعدي 40 الف دولار شهريا!!، وجئ بالسيد[اياد السامرائي] وهومن نفس كتلته الطائفية، وهكذا بات النظام العراقي يدار بسبعة رؤوس لا تعرف الانسجام فيما بينها، وكل جهة تحاول الايقاع بالجهة الاخرى في صراعها على السلطة، وخاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التي حدد لها يوم 16 كانون الثاني 2010، ولتأخر المصادقة على قانون الانتخابات بسبب الصراع القائم بين القوى المتحاصصة، تم تحديد موعد جديد للانتخابات في 16 آذار 2010.
ولم يستطع البرلمان العتيد أن يؤدي واجبه في اقرار العديد من القوانين المعروضة عليه، وفي مقدمتها قانون النفط والغاز بسبب الصراع الذي خاضته القوى المتحاصصة التي لم تستطع انجاز غير القوانين المتعلقة بمصالح النواب الشخصية من رواتب وتقاعد، ومنح قطع الاراضي على شواطئ دجلة، وغيرها من المكاسب الأخرى، وليذهب الشعب العراقي إلى الجحيم، ما دام حكامنا ونوابنا قابعين في قصورهم في المنطقة الخضراء بأمان.
لقد بات الحكم مشلولاً، والامن مفقوداً، وحمى الصراع بين القوى المتصارعة على السلطة قبيل الانتخابات، وقادة الاحزاب المتصارعة جالسين في البرلمان والوزارة، والمؤسسات الأمنية، وعصاباتهم تتولى تنفيذ اجندتهم في التفجيرات والاغتيالات والخطف والابتزاز، وكل يوم يسقط من الضحايا العشرات في شوارع وطرقات بغداد والمدن الأخرى على مذبح السلطة والثروة، والكل يسعى من أجل الفوز في الانتخابات القادمة، والاستحواذ على السلطة.       
لقد شاهدنا وسمعنا تصريحات المسؤولين السبعة التي تناقض بعضها بعضاً والتي أخذت تتصاعدت في الآونة الأخيرة حتى بلغت مستوى الاتهامات المتبادلة والتحديات والمهاترات لدرجة بات من يستمع إليهم لا يصدق أنهم يمثلون قمة السلطة في البلد، ولاسيما العلاقة بين مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء، وبين حلفاء الأمس في الائتلاف الشيعي بعد انفصال حزب الدعوة برئاسة السيد نوري المالكي حيث بلغت حد الدعوة لاعتبار حكومة المالكي حكومة تصريف اعمال، وهذا يعني تجريد المالكي من صلاحياته الواسعة التي تضمنها الدستور، كما أن الخلافات بين رئيس الوزراء وحكومة اقليم كردستان وصلت حد القطيعة، وجرى إطلاق التهديدات من قبل قيادة الاقليم باستخدام القوة مراراً وتكراراً، ولولا الإرادة الأمركية التي هي فوق كل الإرادات لاستطاعت هذه القوى سحب الثقة من حكومة المالكي من قبل البرلمان.
إن هذا الوضع الشاذ، وهذه العملية السياسية البائسة إذا ما استمربهما الحال بعد الانتخابات القادمة فسوف لا يعني ذلك سوى قيادة العراق نحو الخراب والدمار، وسيعني المزيد من الضحايا والدماء والآلام، والمزيد من النزيف للكوادر العراقية التي تعتبر ثروة العراق الكبرى، وأن الشعب العراقي مدعواً اليوم أن يعي حقيقة الموقف، ويتخذ الموقف الصحيح والجرئ باستبعاد انتخاب تلك العناصر التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة البائسة، وان ينتخب العناصر النزيهة والكفوة والمؤمنة بعراقيتها بعيداً عن الارتماء في الحضن الإيراني او السوري أو السعودي أو الامريكي، بل عراقيون فحسب.
إن البرلمان القادم تنتظره مهام جسام ستقرر مصير ومستقبل العراق، وفي مقدمة تلك المهام :
1ـ إعادة النظر الجذرية في الدستور بما يضمن التوجه الحقيقي نحو قيام نظام ديمقراطي حقيقي بعيداً عن المحاصصة الطائفية والعرقية، وفصل الدين عن الدولة، وأن يتضمن الدستور الجديد شرعة حقوق الانسان التي اقرتها الأمم المتحدة، والغاء مجلس الرئاسة وانتخاب الرئيس من قبل الشعب بصورة مباشرة، وليرشح من يرشح من المواطنين العرب والكرد والتركمان والأشوريين والأيزدية ، ومن المسلمين والمسيحيين والصابئة بكل حرية، ولينتخب الشعب من يراه مناسباً لهذا الموقع القيادي الأول بكل حرية وشفافية، ودون فرض من أية جهة، مع تحديد دقيق لصلاحيات الرئيس، ورئيس الوزراء، بما لا يحتمل التأويل والاجتهادات التي تؤدي إلى الخلافات بين الطرفين.

2 ـ العمل الجاد على تنظيف الأجهزة الأمنية والعسكرية من عناصر الميليشيات الحزبية بغية خلق جيش وأجهزة أمنية محترفة تدين بالولاء للدولة وحدها ، والعمل على تدريبها وتجهيزها بالسلاح والعتاد الكفيل بردع العناصر الأرهابية المجرمة، والعمل على جمع السلاح من كافة الميليشيات وحصرها بقوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، والعمل على عودة المهجرين إلى ديارهم، وتعويضهم عن كافة خسائرهم.

 3ـ حل الخلافات مع القيادة الكردية، وفي المقدمة منها قضية كركوك، وما يسمى بالمناطق المتناع عليها!، ومسألة عقود النفط التي وقعتها القيادة الكردية مع الشركات الأجنبية .

4 ـ تشريع قانون النفط والغاز الذي عجز البرلمان الحالي عن انجازه، بما يؤكد مسؤولية الحكومة المركزية عن كافة الشؤون المالية، بالاضافة للشؤون الدفاعية والأمنية حصراً بالحكومة المركزية.

5 ـ تشريع قانون جديد للأحزاب يتضمن وجوب التوجه الديمقراطي العلماني، وابعاد الدين عن الحزبية والطائفية والعرقية، مع الأشراف الدقيق على تمويل الأحزاب السياسية، وتحريم التمويل من الجهات الاجنبية، وحل أي حزب يثبت تلقيه دعماً أجنبياً من أية جهة كانت.

6 ـ  العمل الجاد من أجل تحقيق التحرر الناجز والكامل من الاحتلال، والتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للعراق، مع اقامة العلاقات المتكافئة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع كافة الدول على اساس احترام سيادة واستقلال العراق، والمنافع المشتركة.
7 ـ النهوض بالصناعة الوطنية التي أصابها الدمار جراء حروب نظام صدام وجراء الغزو الأمريكي، ومطالبة الولايات المتحدة بتعويض العراق عن الخسائر التي اصابت البنية التحية العراقية.
7 ـ النهوض بالزراعة وأقامة المشاريع الزراعية على اسس علمية، وبدعم مباشر من الدولة، ومعالجة التصحر، وحماية حقوق العراق من المياه التي جرى التجاوز عليها من دول الجوار بما يضمن حقوقه العادلة.

8 ـ معالجة مشكلة البطالة التي تشكل أكبر بيئة لتنامي الارهاب، وضمان العمل لكل القادرين عليه، بما يحقق لهم ولعوائلهم حياة كريمة خالية من العوز والفقر، وذلك من خلال اقامة المشاريع الصناعية والزراعية، ومكافحة البطالة المقنعة.

9 ـ حل ازمة السكن في البلاد من خلال اقامة المشاريع السكنية العمودية، والاستعانة بالشركات العالمية المتخصصة لهذا الغرض .

10 ـ تشريع قانون من {أين لك هذا؟}، وأجراء تحقيقات واسعة مع كل الذين اتهموا بالفساد وسرقة المال العام، والمرتشين، وانزال العقاب بهم واستعادة المال المنهوب.
إن هذه المهام تتطلب انتخاب برلمان يتصف أعضائه بالأمانة والنزاهة والقدرة العلمية والخبرة التي تؤهله للقيام بهذا الواجب، فهذه المهام، وهذه المرحلة، تستدعي اختيار عناصر التكنكوقراط الكفوءة، من الذين لم تتلوث اياديهم بالمال العام .
إن الأمر بيدكم يا أبناء وبنات الشعب العراقي النبيل، وخياركم هو الذي سيحدد مستقبلكم، ومستقبل أطفالكم، فإما حكم ديمقراطي علماني يقوده عناصر نظيفة مشهود لها بالأمانة والنزاهة والقدرة، ومستقبل مسشرق للبلاد، وأما برلمان على غرار البرلمان الحالي، ومستقبل مظلم للبلاد، ويبقى لكم الخيار إيها الشعب العراقي المهضوم الحقوق.   

320
ينبغي وضع حد لمحنة الأخوة المسيحيين في العراق 
وانزال العقاب الصارم بالقتلة


حامد الحمداني   19/12/2009

ما تزال الطائفة المسيحية في العراق التي تمثل جانباً كبيراً من المجتمع العراقي، والتي لها تاريخ عريق في هذه البلاد، وعلى وجه الخصوص في محافظات الموصل وبغداد والبصرة وكركوك، والتي عرفت بمواقفها الوطنية الصادقة، ونزوعها إلى السلام الاجتماعي، وترسيخ علاقات الأخوة والمحبة والتضامن مع سائر مكونات الشعب العراقي الأخرى، ما برحت منذ وقوع الغزو الأمريكي للعراق، وإقامة نظام الحكم الطائفي فيه من قبل المحتلين، يتعرضون لحملة وحشية من قبل عصابات وميليشيات أحزاب الأسلام السياسي الطائفي والعرقي ،وعصابات القاعدة، حيث يتعرض المسيحيون إلى حملات الاغتيال والتهجير، وتجري عمليات تفجير الكنائس في الموصل وبغداد، دون وازع أخلاقي، كما جرى فرض الحجاب على بنات ونساء الطائفة المسيحية بقوة الميليشيات، مما يتنافى والحريات الدينية والشخصية والاجتماعية.
وعلى الرغم من عودة الهدوء النسبي للبلاد بعد تلك الحملة المجرمة التي تعرض لها الشعب العراقي في الاعوام 2006، و2007، إلا ان الطائفة المسيحية ما تزال تتعرض لحملات القتل والتهجير التي شملت عشرات الألوف من العوائل  التي تركت العراق طالبة اللجوء إلى الدول الغربية هرباً من القتل .

ففي يوم الثلاثاء الماضي المصادف 17/200912 تعرضت كنيستان مسيحيتان في الموصل لعملية تفجير مجرمة، فقد انفجرت سيارة مفخخة عند كنيسة مريم العذراء للسريان الارثوذكس، وفقا اما أورده مصدر في الشرطة، ما ادى الى مقتل طفل واصابة 40 شخصا بينهم خمسة اطفال بجروح، وفقا لمصدر طبي في مستشفى مدينة الطب في الموصل.                          .
كما استهدف انفجار اخر بعبوة ناسفة كنيسة للسريان الكاثوليك في حي الشرطة دون وقوع ضحايا، وفقا لمصدر في الشرطة كذلك.                         .

وفي 26 تشرين الثاني الماضي، استهدف انفجاران كنيسة للكلدان، وديراً للرهبان الدومينيكان في الموصل دون وقوع خسائر في الارواح.            .
وفي اواخر العام 2008 استهدفت حملة من أعمال العنف المسيحيين وأدت الى مقتل أربعين مسيحيا، ورحيل اكثر من 12 الف عائلة من مختلف الطوائف المسيحية الى خارج العراق.                                                            .
أن هذه الجرائم لم تعد جرائم فردية، بل هي تمثل عملية منظمة للتطهير العرقي ضد أقدم مواطني العراق، والتي يعاقب عليها القانون الدولي، وقد خلقت هذه الجرائم حالة من الاستياء العام لدى المجتمع الدولي، ودفعت القاصد الرسولي في العراق والأردن المونسنيور [فرنسيس شولّيكات] إلى الطلب من سلطات بغداد بالتدخل على الفور لضمان الحماية الضرورية للطائفة المسيحية في العراق في17 كانون الأول.

وفي تصريحات له لخدمة الإعلام الديني التابعة لمجلس الأساقفة الايطاليين قال المسؤول الفاتيكاني أن عودة العنف هذا ينبغي مواجهته من قبل سلطات البلاد التي أكدت سابقا أنها ستتدخل على الفور في حالات مماثلة لضمان الأمن للمسيحيين، والذين يمتلكون حق المطالبة بالحماية كونهم أقلية، لافتا إلى ضرورة التدخل لضمان تمكن المسيحيين من العيش بسلام وأمان في البلاد، وأوضح القاصد الرسولي أن لهذا التدخل حاجة إضافية في الوقت الحاضر نظرا لاقتراب أعياد الميلاد ورأس السنة، معربا عن أمله بألا تكون الانفجارات مرتبطة بانتخابات آذار/مارس المقبل، حيث أشار إلى أن المسيحيين هم الأقلية الأكثر عرضة لخطر الهجمات، لعدم امتلاكهم أي نوع من الحماية، وخلص إلى القول أننا نرد على العنف بالرجاء والخير، وسنبقى أمناء على رسالتنا هذه في ظل وعينا التام بوقوف الكنائس جمعاء والبابا إلى جانبنا.
إن استمرار هذه الجرائم ضد المسيحيين في العراق هي وصمة عار في جبين مقترفيها، ولا شك أن الحكومة العراقية تتحمل المسؤولية الكاملة عن حماية المسيحيين، وهي ملزمة أن تتخذ كافة الإجراءات الكفيلة بوقفها على الفور، وإلقاء القبض على الفاعلين وكل من يقف وراءهم، وانزال العقاب الصارم بحقهم، انقاذاً لسمعة العراق المتدنية أمام المجتمع الدولي.
ينبغي أن نعيد الأمن والطمأننية إلى قلوب الأخوة المسيحيين، ولنهيئ لهم الظروف الأمنة للإحتفال بأعياد الميلاد المجيد وعيد رأس السنة الجديدة، ولنشاركهم احتفالهم وأفراحهم بهذه المناسبة، ونعبر لهم جميعاًعن دعمنا الكامل والوقوف إلى جانبهم أخوة أعزاء، ونبارك لهم أعيادهم.   

321
أما لهذا الليل الكالح من آخر؟
حامد الحمداني                                                               14/12/2009

لم يهدأ الوضع الأمني في العراق منذ بداية الاحتلال الأمريكي عام 2003 وحتى اليوم جراء السياسة الرعناء التي اتخذتها الادارة الأمريكية في البلاد، بدءاً من استحصال قرار من مجلس الأمن بشرعنة الاحتلال، وابتلاع الرئيس الأمريكي بوش الأبن لوعوده للشعب العراقي، عبر خطابه الذي استهل به الغزو، الذي دعاه بـ[ حرب تحرير العراق]!، حيث ادعى بأن الغزو يستهدف انقاذ العراق من طغيان صدام ونظامه الفاشي الدموي، لكن تلك الوعود ما لبثت أن تلاشت، وبات العراق تحت رحمة المحتلين الأمريكيين والبريطانيين من جهة، وطغيان القوى السياسة الطائفية والعرقية من جهة أخرى.

كان الاحتلال أول الغيث لما حل في البلاد من ويلات ومصائب وخراب ودمار ونهب، حيث فسحت قوات الاحتلال المجال واسعاً أمام قوى الشر والجريمة لتعيث في البلاد نهباً لكل ما وقعت عليه أيديهم الأثمة، وأقدمت على حرق معظم مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية، من دون أن تتخذ قوات الاحتلال أي إجراء لوقف هذه الجرائم الخطيرة التي لم تترك شيئاً إلا نهبته وخربته، وكان المتحف العراق بما يحتويه من نفائس الأثار العراقية العريقة التي لا يمكن أن تقدر بثمن في مقدمة الأهداف، دون أن يعني ذلك الادارة الأمريكية المسؤولة بموجب القانون الدولي بإعتبارها دولة محتلة، وهي لو شاءت حماية مرافق الدولة هذه لفعلت ذلك بكل يسر وسهولة دون أدنى ريب.

وجاءت الخطوة التالية للإدارة الأمريكية بتعيين حاكم عسكري أمريكي هو الجنرال [كاردنر]لحكم العراق، ثم ما لبثت بعد ايام واستبدلته بحاكم مدني هو الدبلوماسي[بول بريمر]والذي لا يعرف شيئاً عن العراق، ولم يسبق له العمل فيه ولا حتى زيارته، حيث حكم العراق حوالي السنة اقترف فيها العديد من الأخطاء الجسيمة التي تقع في عداد الجرائم، والتي أوصلت العراق نحوى كارثة الحرب الأهلية الطائفية بين عامي 2006 و2007 ، والتي أراقت دماء عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء وشردت ما يزيد على المليونين من ديارهم في عملية تطهير طائفي لم يعرف الشعب العراقي لها مثيلاً من قبل .

فقد أقدم بريمرعلى حل الجيش والأجهزة الأمنية وترك البلاد تغرق في الفوضى، دون أن يتخذ الاجراءات الكفيلة بحماية الأمن والسلم الأهلي في البلاد. بل اكتفى بملاحقة قائمة ال 55 لعصابة النظام الصدامي، وتغاضى عن أعوان النظام الذين اقترفوا من الجرائم خلال 35 عاماً من حكم البعث ما يندى لها الجبين، والذين تواروا عن الانظار في بادئ الأمر خوفاً على حياتهم من الاعتقال والمحاكمة عن الجرائم التي اقترفهوها بحق الشعب والوطن.

وهكذا وجد أعوان النظام من البعثيين الفرصة سانحة، بعد أن اطمأنوا بعدم مواجهة الحساب والعقاب لما اقترفت أياديهم من الجرائم الوحشية البشعة بحق مئات الالوف من المواطنين الأبرياء، وبدأوا بتنظيم صفوفهم من جديد، وهم الذين يمتلكون الأموال المنهوبة، والخبرات القتالية، ووسائل القتل الوحشية، والسلاح الذي تركته قوات الاحتلال سائباً بعد حل الجيش، حيث تم نهب المعسكرات كلها بالإضافة إلى الاسلحة التي كدسها نظام صدام في المدارس والطرقات والشوارع استعداداً للحرب  التي كانت على وشك الوقوع.

وبدأت تلك العصابات المجرمة ترفع رؤوسها من جديد، وقد حملت السلاح لاستعادة الفردوس المفقود، وبدأت باستقبال واحتضان وتجهيزعناصر حلفائها من عصابات القاعدة المجرمين الذين بدأوا يتدفقون على العراق من سوريا وإيران والسعودية بدعوى محاربة المحتلين الأمريكان والبريطانيين!، وشرعوا بتنفيذ جرائمهم البشعة بحق المواطنين العراقيين من خلال السيارات المفخخة والعبوات المزروعة في الطرقات وألاحزمة الناسفة ليوقعوا اقصى ما يمكن من الضحايا بقصد ارهاب الشعب، وخلق حالة من الرعب والخوف والانكفاء للمواطنين. 

وزاد في الطين بله أقدام الحاكم الأمريكي بريمر على اقامة ما دعاه بالعملية السياسية البائسة، والتي أثبتت فشلها بعد ستة أعوام من عمر الاحتلال، فقد أقام ما سمي بمجلس الحكم على اسس طائفية وعرقية مقيتة، وجاءت بأحزاب الاسلام السياسي والقيادات القومية الكردية في ذلك المجلس، مما عمق الشرخ بين مكونات الشعب العراقي، وقدم ذلك الاجراء الكارثي خدمة كبيرة لقوى البعث وحلفائهم القاعديين، حيث استغلتها لتأجيج الصراع الطائفي، ولا سيما بعد أن اقدمت أحزاب الاسلام السياسي الشيعية والسنية على تشكيل الميليشيات المسلحة، لتأخذ الصراع نحو أبعاد خطيرة قادت البلاد إلى الحرب الأهلية الطائفية.
وأصدر الحاكم الأمريكي بريمر قانون الأدارة الموقتة للمرحلة الانتقالية، والذي جاء ملبياً لطموحات قيادة التحالف القومي الكردي، و قيادة الائتلاف الشيعي الطائفي، ثم جرت الانتخابات الأولى التي قاطعتها المحافظات التي تضم اغلبية سنية، وكان قرار المقاطعة يتسم بعدم الادراك لنتائجه، مما اسفرت تلك الانتخابات عن برلمان سيطر عليه تحالف الائتلاف الشيعي بزعامة الحكيم والتحالف الكردي بزعامة السيد البارزاني والسيد الطالباني بأغلبية كبيرة، مكنتهم من تولى عملية صياغة الدستور الدائمي للبلاد الذي جاء مقصلاً على مقاس صائغيه، واستطاعت الحكومة التي انبثقت عن تلك الانتخابات إجراء الاستفتاء على الدستور الذي جاء مليئاً بالثغرات الخطيرة، وتمريره بعد مقاطعة المحافظات التي تضم أغلبية سنية للاستفتاء، مما عمق الشرخ بين الطائفتين الشيعية والسنية وأدى إلى تصاعد الصراع.

حاولت الادارة الأمريكية، بعد أن تصاعد الصراع الطائفي تقديم تنازلات للطرف السني في عملية ترضية، واقناع أحزاب الطائفة السنية بالاشتراك في العملية السياسية بعد اضافة مادة جديدة في الدستور تنص على اعادة النظر في المواد التي اعترضت عليها .
وهكذا استطاعت الادارة الأمريكية إشراكهم في العملية السياسية، ومنحتهم مواقع هامة في الحكومة والبرلمان، وعضوية هيئة الرئاسة، بالإضافة للأجهزة الأمنية وقوات الجيش التي باتت تضم عناصر مختلف الميليشيات المسلحة، والتي لا تدين بالولاء للوطن بل لقيادات أحزابها السياسية.
وهكذا انخرطت احزاب الاسلام السياسي السنية، وبعض القوى التي لها ارتباطات سابقة مع نظام صدام في العمل السياسي، وشاركت في الانتخابات الثانية، وحصلت على نسبة كبيرة نوعاً ما في البرلمان الجديد.

لكن الصراع لم ينتهِ بين الطرفين، بل اتخذ له مسارين هذه المرة ، المسار الأول صراع سياسي داخل البرلمان ، والمسار الثاني صراع مسلح في الشارع، وهكذا بدأت هذه القوى تستخدم صفتها العسكرية والأمنية، وعجلات الجيش والشرطة والأمن، في تنفيذ الجرائم ضد المواطنين حتى بات المواطنون يرتعبون من مواجهة قوات الجيش والشرطة، ولا يأمنون جانبها، بعد وقعت الكثير من الهجمات التي شنها مسلحون يرتدون الملابس العسكرية ويستخدمون عجلات الدولة ضد المواطنين الأبرياء،  وبات المواطنون غير قادرين على التمييز بين  العصابات المسلحة للميليشيات وقوات الأمن الحقيقية، وخاصة نقاط السيطرة والتفتيش المنتشرة في كافة الطرق والشوارع التي كانت الكثير منها سيطرات مزيفة لعصابات الجريمة التي استطاعت حصد أروح الكثير من المواطنين الابرياء واخنطاف وابتزاز البعض الآخر، وباتت جميع الطرقات تشكل خطراً على حياة المواطنين.
أما البرلمان فقد تحول إلى أشبه بسوق الهرج، يُخجلُ كل من شاهد جلساته وصراعاته، ومعظم أعضائه لا يدين بالولاء للعراق والشعب الذي انتخبهم، بل لقادة أحزابهم الطائفية والقومية، ولم يستطع انجاز معظم القوانين المعروضة عليه، بل لقد عجز في كثير من الجلسات عن تحقيق النصاب بسبب غياب الكثير من أعضائه دون عذر مشروع، يتجولون في بلدان أوربا وأمريكا والبلاد العربية ويتقاضون الرواتب الضخمة، ويشرّعون لهم مكاسب وامتيازات لم يسبق لها مثيل في كل برلمانات العالم، مما اثار استياء وغضب الشعب العراقي المنكوب بممثليه، والذي ندم إشد الندم على انتخابهم.
وامتد الصراع داخل مجلس الرئاسة، وبينه وبين رئاسة الوزراء، وباتت السفينة العراقية التي يقودها ثلاث ملاحين في مهب الريح، وخاصة بعد أن اقترب موعد الانتخابات البرلمانية التي كان مقرراً لها أن تجري في 16 كانون الثاني القادم، حيث تسعى القوى السياسية المسيطرة على الحكومة والبرلمان الحالي للحفاظ على مواقعها الحالية في الانتخابات القادمة، وهكذا دخلت في صراع فيما بينها، وبلغ أوج هذا الصراع في تشريع قانون الانتخابات الجديد، حيث أدى ذلك الصراع إلى رفض ممثل الطائفة السنية في هيئة الرئاسة لذلك القانون، وأعاده البرلمان من جديد، وبعد مخاض عسير أجرى البرلمان تعديلات عليه، لكن تلك التعديلات شملت مواداً لا علاقة لها بالنقض، مما جعل القانون مهدداً بالنقض من جديد، واضطر البرلمان إلى إجراء إضافات جديدة على القانون في عملية ترضية.
لكن القانون لم يحقق طموحات الشعب العراقي الذي سئم هيمنة قوى الاسلام الطائفي بشقيه الشيعي والسني والقوى القومية الكردية، والذي يطمح بانتخاب برلمان يضم عناصر ديمقراطية علمانية تمتلك من الكفاءة والعفة والنزاهة والمقدرة، والأخلاص للوطن، والحرص على وحدته، لتنبثق منه حكومة وطنية لكل العراقيين، بعيدة عن المحاصصة الطائفية والعرقية.
إن الصراع الجاري بين القوى السياسية اليوم قد اتخذ العنف والجريمة وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية، بمناسبة قرب الانتخابات من جهة، وقرب استحقاق سحب القوات الأمريكية من العراق الذي أشك في انجازه لأمد طويل، وقد بلغ الصراع أوجه في تفجيرات ما عرف بأيام الأحد والثلاثاء والاربعاء الدامية التي حصدت أرواح المئات من المواطنين الابرياء، وأشاعت الدمار والخراب في مناطق واسعة من بغداد، وأشاعت الرعب في نفوس المواطنين الذين باتوا لا يأتمنون على حياتهم لا في بيوتهم، ولا في مقرات عملهم، ولا في تنقلاتهم.
وجاءت تصريحات رئيس الوزراء المالكي أمام البرلمان خير دليل على طبيعة هذا الصراع الدموي الذي تحدثنا عنه،[ وشهد شاهد من أهلها]، حيث اتهم المالكي بصريح العبارة الكتل السياسية بوقوفها وراء التدهور الأمني في البلاد قائلاً:
{ان تدخل كتل سياسية هو وراء تدهور الوضع الامني، وطالب بتطهير الاجهزة
الامنية من جميع الجهات السياسية، وأكد ان الجرائم الاخيرة سببها خلافات سياسية وطائفية، وطالب المالكي مجلس النواب بان يصدر قرارا بتطهير الاجهزة الامنية من المنتمين لاي جهة سياسية بما فيها حزبه، ليكون الجهاز الامني مهنيا وكفؤا وشعبيا، ويعتمد على المواطنة، كما طالب مجلس النواب                                   
بان يصدر قرارات تدعم الامن من خلال استصدار القوانين، معتبرا على سبيل المثال أن جهاز المخابرات الوطني لم يستطيع حتى الآن أن يعيّنَ رئيسا بعد أن تقاعد رئيس جهاز المخابرات محمد عبد الله الشهواني بسبب عدم التوافق السياسي، مضيفاً أن كل جهة تريد ان تكون مسؤولة عن الجهاز، ولا زال الجهاز معطلا بسبب عدم التوافق السياسي}!!.                            .
هذا هو حال البرلمان والحكومة وهيئة الرئاسة الذين  أوصلوا البلاد إلى ما نحن عليه اليوم، بسبب هذه العملية السياسية الشوهاء، والقائمة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، والذي بات يهدد بتصاعد الصراع كلما اقترب موعد الانتخابات، وسيستمر كذلك بعد الانتخابات، عند البدء بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة التي تنتظرها مهام كبيرة وخطيرة تتعلق بمواضيع تعديل الدستور، والعلاقة بين حكومة المركز وحكومة اقليم كردستان، وخاصة فيما يتعلق بقضية كركوك، وما يسمى بالمناطق المتنازع عليها!، وقانون النفط والغاز، والتي باتت تهدد بصراع قومي جديد، سيكون وقوده المواطن العراقي المغلوب على أمره.
إن الشعب العراقي مدعو اليوم أن يأخذ الزمام بيده ليقرر مصير العراق من خلال الاستعداد للانتخابات القادمة، والمشاركة فيها بنشاط، ومن خلال نبذ كل أولئك الذين اوصلوا البلاد إلى هذه الحالة البائسة، واختيار العناصر الوطنية الكفوءة والنزيهة المؤمنة بعراقيتها، وحرصها على وحدة البلاد، والبعيدة عن التعصب القومي والطائفي الذي لم يجلب للعراقيين سوى الويلات والمصائب والخراب.
                             



322
الأهداف الحقيقية وراء دعوة البارزاني
 لتأليف جيش كردي!

حامد الحمداني                                                    28/11/2009
أثارت التصريحات الأخيرة للسيد مسعود البارزاني، التي عبر فيها عن حلمه بتأليف جيش كردي، الشكوك والقلق العميق حول الاهداف الحقيقية لهذا الجيش من لدن سائر العراقيين بمختلف أطيافهم، وزعزعت الثقة في نوايا السلطة القائمة في كردستان العراق حول مستقبل الفيدرالية، والتي تشير كل التوقعات إلى أن هذه الفيدرالية ليست سوى مرحلة انتقالية استهدفت من ورائها القيادات القومية الكردية
تحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب على الأرض من جهة، واستنزاف أقصى ما يمكن من مدخولات العراق النفطية من جهة أخرى لتعزيز وترصين الكيان القائم في كردستان العراق، وتعزيز قوات ميليشيا البسشمركة تدريباً وتسليحاً، وإعدادها للمرحلة القادمة التي تستهدف الضم القسري لمساحات شاسعة من محافظات الموصل وديالى بالإضافة إلى محافظة كركوك الغنية بالنفط قبل إعلان استقلال منطقة كردستان عن الوطن الأم.
إن القيادات القومية الكردية كانت قد حسمت أمرها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، عندما تم فصل محافظات السليمانية وأربيل ودهوك عن الوطن العراقي تحت الحماية الأمريكية ومظلتها الجوية، بالانفصال عن العراق شعباً ووطناً، ومارست، وما تزال تمارس القطيعة بين الكرد والعرب، وعلى الأخص في مجال اللغة حيث نشأ في كردستان العراقي جيلاً لايعرف العربية، بالتالي لا يستطيع التفاهم مع أخوته العرب العراقيين، مما شكل انفصالاً حقيقياً بين شعبين لا تربطهم أية رابطة، لغات منفصلة، وأرض منفصلة، وشعب منفصل، مع اشباع الأجيال الكردية الناهضة بروح التعصب والعنصرية، والكراهية لأخوتهم العرب الذين وقفوا إلى جانبهم منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، والذين دعموا حقوق الشعب الكردي بكل ما أوتوا من قوة، بما فيها حملهم السلاح إلى جانب إخوتهم الكرد.
لقد تكشفت نوايا القيادات الكردية الهادفة إلى تمزيق الكيان العراقي منذ بداية الاحتلال الأمريكي عندما سيطرت قوات البيشمركة الكردية على أسلحة الفيالق الثلاث التي كانت مرابطة على تخوم كردستان، ولم تسلمها للجيش العراقي، بل على العكس بادرت إلى شراء ونقل مختلف انواع الأسلحة من بلدان أوربية مختلفة، فضحتها صحيفة نيويوك تايم.
 ومن جهة أخرى سعيها لإثارة النعرات القومية والتعصب الأعمى، واعداد الشعب الكردي للدخول في صراع مسلح ضد إخوتهم أبناء الشعب العربي، ومكوناته الأخرى من التركمان والآشوريين والشبك، حول ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، وتكررت لهجة التهديدات المتصاعدة والصادرة عن السيد مسعود البارزاني ورئيس وزرائه السابق نجرفان البارزاني مستغلين الأزمة العراقية الراهنة لتحقيق اقصى المكاسب على الأرض، وفي الوقت نفسه إعداد جيشهم للمعركة الفاصلة إذا لم تتحقق أحلامهم في الاستحواذ على مايسمونه بالمناطق المتنازع عليها!!
من حقنا أن نسأل السيد البارزاني السوآل التالي، وندعوه للإجابة عنه بصراحة:
 مَنْ ستحاربون بهذا الجيش الموعود؟
هل ستحاربون به تركيا ؟ أم تحاربون إيران؟
لا شك في أن هذا الأمر مستحيل، ومهما تسلحتم واستعد جيشكم فليس لديكم القدرة على محاربة هذين البلدين.
إذا العدو الذي تستعدون لمحاربته هو الشعب العراقي بكل تأكيد، انها فرصتكم في تحقيق طموحاتكم في العراق الجريح، العراق المحتل، العراق الذي تتناحر فيه القوى السياسية الطائفية التي نصبها المحتلون لحكم البلاد في صراعها على السلطة والثروة، فلم تعد هذه القوى تؤمن بالوطنية العراقية، وهي التي شاركتكم في وضع هذا الدستور المسخ لكي تقسموا العراق على هواكم.
لكن الشعب العراقي قد افاق من غيبوبته بعد هذه السنوات العجاف التي تلت الغزو الأمريكي للعراق، وبعد كل الويلات والمآسي والدماء والدموع التي شهدها وتجرعها، وقد ادرك كم هو أخطأ عندما صوت لهذه القوى الطائفية والعنصرية في الانتخابات السابقة، وفي الاستفتاء على الدستور الذي جرى تفصيله على مقاسكم، والذي بات اليوم يشكل مشروع حرب أهلية وقومية!
لكن الحلم بتمزيق العراق قد بات عسيراً بعد أن وعي الشعب العراقي لما يخطط له،  وهو سوف يقف بالمرصاد لأفشال هذه المخططات الشريرة، وإن من يفكر في اشعال نار الحرب الأهلية سيكون أول المحترقين فيها، وإن هذه الحرب سوف لن تكون نزهة، ولن تكون محصورة في نطاق العراق، بل ستمتد لتصبح حرباً أقليمية قومية، وستحل الكارثة بالجميع، وعلى القادات القومية الكردية أن تكون أكثر حرصاً على مصالح الشعب الكردي، وتتجنب زجه في حرب كارثية لن يجن منها الجميع سوى الدماء والدموع، والخراب والدمار.
ويبادر إلى الذهن السوآل التالي:
 هل من مصلحة الشعب الكردي الانفصال في هذه المرحلة؟ وما تأثير ذلك على مستقبل قضية الشعب الكردي في كل من تركيا وإيران وسوريا؟
واستطيع الإجابة بكل ثقة أن الانفصال في هذه المرحلة، وخوض الصراع المسلح مع الشعب العربي في العراق، سيؤديان إلى نتائج خطيرة بالنسبة لمستقبل القضية الكردية في تركيا وإيران وسوريا، وستؤخر إلى أمد بعيد مسألة تحقيق الحقوق القومية للشعب الكردي، ويزعزع ثقة حكام هذه الدول بنوايا الكرد ، وربما تتدهور العلاقة القائمة حالياً نحو الأسوأ من الصراع المسلح، حيث ستؤدي التجربة العراقية رد فعل شديد من قبل حكام البلدان الثلاث تجاه نوايا الكرد في بلدانهم.
إن سياسية حرق المراحل لتحقيق طموحات الشعب الكردي لن تجلب الخير له أبداً  بل على العكس من ذلك يمكن أن تسبب كارثة حقيقية، وإن حصول الشعب الكردي في البلدان الثلاث المجاورة سيتوقف على سلوك القيادة الكردية في العراق تجاه الدولة العراقية، وبقدر ما تعزز القيادة الكردية في العراق علاقات الأخوة بين الشعبين، واعادة الروابط التاريخية والكفاح المشترك من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بقدر ما تتفهم حكومات الدول المجاورة لحقوق وحريات الشعب الكردي في بلدانها اسوة بالعراق الذي نال حقوقه وحريته على اوسع نطاق، وتستفيد من التجربة العراقية في حل المشكلة الكردية في بلدانها لتبلغ ما بلغه الشعب الكردي في العراق من حقوق قومية، وهذا ما طرحته في كتابي الموسوم [ لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية في العراق ] في الفصل الأخير تحت عنوان {الشعب الكردي وحق تقرير المصير وآفاق المستقبل}.
أما مسألة اقامة الدولة الكردية بنطاقها الواسع فتلك مسألة تتطلب وقتاً ليس بالقصير عندما تقام انظمة ديمقراطية متطورة في هذه البلدان تمكنها من حل القضية الكردية حلاً جذرياً باسلوب سلمي ديمقراطي، بعيداً عن اساليب القوة والحروب والعنف التي لن تجلب الخير لأحد.
ولآمد طويل سيبقى العراق خيمة للشعب الكردي يعيش جنباً إلى جنب مع إخوته العرب والتركمان والاشوريين، وسائر المكونات الشعب الأخرى، فلا تدعوا مجالاً للتعصب والكراهية، ولنعمل جميعاً جاهدين على إعادة اللحمة بين سائر مكونات الشعب العراقي، ولنمد أيدينا إلى بعضها، ونصفي القلوب من الضغائن، فهذا هو الطريق، ولا طريقاً غيره لخير وسعادة كافة ابناء الشعب العراقي بكل أطيافه تغمرهم المحبة، ويسود التآخي بين الشعوب جميعاً دون تمييز. 
 
 



323
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 21 والأخيرة

حامد الحمداني                                               24/11/2009
استسلام عبد الكريم قاسم وإعدامه
واغتيال ثورة 14 تموز 


موقف بعض قطعات الجيش من الانقلاب
 بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة، والكفوءة من المراكز العسكرية، واستبدالها بعناصر انتهازية، وأخرى حاقدة وموتورة، تتربص بالثورة، وقيادتها، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة، ويجري التصدي للانقلابيين، وكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش، من صغار الضباط، وضباط الصف والجنود حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا  ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش.
 ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط، وضباط الصف والجنود للانقلاب إلا أنهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً.
وفي معسكر التاجي القريب من بغداد، حيث توجد هناك محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف غير متكافئ وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار، وضباط الصف والجنود.
كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف، والجنود  في منطقة فايدة، شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية، الذي كان يغطي، ويخفي كل تحركات الانقلابيين، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم  ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري.
ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، أصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية، ولا الأمنية ساكناً، وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين.
أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام  فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما أصدر أمراً يوم 5 شباط، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام، قراراً يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين. ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء.
كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي، المعروف بعدائه للثورة وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه.

سابعاً:استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين:
أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر]، المرافق الأقدم لقاسم  والزعيم [عبد الكريم الجدة]، أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب، القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي]، رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد]، مدير الحركات العسكرية، [ وقاسم الجنابي] السكرتير الصحفي لعبد الكريم، والملازم [كنعان حداد] مرافق قاسم.
ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف، طالباً منه بأسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه  ورعايته له، بالسماح له بمغادرة العراق.
غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة بكلمات نابية لا تدل على خلق، مما أثار غضب الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أمسك بالهاتف من يد عبد الكريم قاسم  ورد على عبد السلام عارف، باللهجة العامية قائلا له:
{ شوف ولك ، أنا طه الشيخ أحمد أكلمك، أنت نذل، وحقير، وجبان وخائن، وزقاقي من الأول إلى الأخير، وراح تبقى  كذلك سواء كنت رئيس جمهورية أو صعلوك من الصعاليك}.
ورد عليه عبد السلام عارف قائلاً :
{ أنجب ( أي اسكت )، اترك الهاتف، شيوعي قذر} .
واتصل عبد الكريم قاسم مرة أخرى بعبد السلام عارف، طالباً منه السماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام .
 وفي صباح اليوم التالي التاسع من شباط خرج [ يونس الطائي] صاحب  صحيفة الثورة، المعروف بعدائه للشيوعية، والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [الثورة]، خرج للقاء الانقلابيين، وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة، حيث قام بدور الوسيط  بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين!!، لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد.
كان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي، وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة، أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة  وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية، ولم يمسه أحد بسوء عند دخوله مبنى الإذاعة.

ثامناً: مهزلة محاكمة عبد الكريم قاسم وإعدامه:

إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض كذب وهراء، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه، وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ، أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن والدجال [يونس الطائي]، الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه، وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة.
 وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة، أنبري له عبد السلام عارف، وعلي صالح السعدي بالشتائم المخجلة، التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع، فقد توجه السعدي إليه قائلاً:
{ لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة  وهل هو موجود بيننا؟}، وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال السعدي، وقد أجابه عبد الكريم قاسم {غير موجود هنا بشرفي}، لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً: ومن أين لك بالشرف؟  وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً:{إن لي شرفاً أعتز به}.
وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة، وكان كل همه أن ينتزع من عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثور .
 إلا أن عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة، وقد طلب عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية، تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون ليطلع عليها الشعب، إلا أن طلبه أهمل، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي قطعات من الجيش من التحرك ضدهم.
قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه، وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين.
 وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم، 9 شباط 1963، أقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم القتلة عبد الغني الراوي، والرئيس منعم حميد، والرئيس عبد الحق، فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم، رافضين وضع عصابة على أعينهم، وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي.
 سارع الانقلابيون إلى عرض جثته، وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات، فقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم، وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة.
 كما أسرع الانقلابيون إلى دفنه تحت جنح الظلام، دون أي معالم تذكر، في منطقة معامل الطابوق، خارج مدينة بغداد، إلا أن عدد من عمال معامل الطابوق الذين يعملون شعالة طوال الليل، شعروا بوجود ثلة عسكرية في تلك المنطقة، فما كان منهم إلا أن ذهبوا، بعد مغادرة الثلة العسكرية إلى المكان، حيث وجدوا ما يشبه حفرة القبر دخلت الربية في نفوسهم وهم يتساءلون فيما بينهم :
 من يكون ذلك الإنسان؟
ولماذا جاءوا به إلى تلك المكان؟
صمم العمال على فتح الحفرة، فكانت المفاجئة جثة عبد الكريم قاسم. اخرج العمال الجثة على عجل وحملوها إلى مكان آخر، حيث حفروا له قبراً جديداً واحتراماً لذلك الرجل الذي قاد ثورة 14 تموز .
 غير أن الزمرة الانقلابية أحست بما جرى، فقامت بالتفتيش عن الجثة، وتوصلت إلى القبر الجديد  أخرجت الجثة منه، ونقلتها تحت جنح الظلام لترميها في نهر ديالى، بعد أن تم وضعها بصندوق صُب فيه الكونكريت لكي لا تطفو الجثة في النهر، ويعثر عليها أحداً من جديد.
 إن ذلك العمل البائس لا يعبر إلا عن جبن الانقلابيين، وخوفهم من شبح عبد الكريم قاسم، حتى وهو ميت.
ولم يكتفِ الانقلابيون بكل ذلك، بل انبرت أقلامهم القذرة، وقد أعمى الحقد قلوب أصحابها بنهش عبد الكريم قاسم، وإلصاق شتى التهم المزورة به، والإساءة إلى سلوكه، وأخلاقه مستخدمين ابذأ الكلمات التي لا تعبر إلا عن الإناء الذي تنضح منه.
 إن عبد الكريم قاسم، رغم كل أخطائه، يبقى شامخاً كقائد وطني، معادى للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير.
وها هم بعض الذين أساءوا إلى شخصه، بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء، قد بدأت تستيقظ ضمائرهم، ويعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز، بنوع من التجرد، لتعيد له اعتباره، وتقيّم تلك المرحلة من جديد.

انتهى الكتاب


ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي
Alhamdany34@gmail.com
www.Hamid-Alhamdany.com

324
ثورة 14 تموز لفي نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 20

حامد الحمداني                                             22/11/2009
تنفيذ انقلاب 8 شباط 1963

ضم فريق الانقلابيين حزب البعث بقيادة كل من: علي صالح السعدي، وأحمد حسن البكر، وطالب شبيب، وحازم جواد، ومسارع الراوي، وحمدي عبد المجيد، والضباط البعثيين كل من عبد الستار عبد اللطيف، و المتقاعد عبد الكريم مصطفى نصرت، صالح مهدي عماش، و حردان عبد الغفار التكريتي، ومنذر الونداوي، بالإضافة إلى القوى القومية التي ضمت كل من: عبد السلام عارف، وطاهر يحيى  وعارف عبد الرزاق، وعبد الهادي الراوي، ورشيد مصلح، وعبد الغني الراوي، وعدد آخر من صغار الضباط.
أختار الانقلابيون الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 1963، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، فيوم الجمعة يوم عطلة، ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب، كما أن قيام الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر، ورغم وصول إشارة إلى وزارة الدفاع قبل ساعة ونصف من وقوع الانقلاب، إلا أن آمر الانضباط العسكري، الزعيم الركن عبد الكريم الجدة لم يأخذ ذلك على مأخذ الجد، وأعتقد أن ذلك نوع من الخيال.
يقول أحد الضباط الوطنيين المتواجدين في وزارة الدفاع، وكان ضابط الخفر ذلك اليوم: { دق جرس الهاتف في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم، الثامن من شباط، أسرعت لرفع سماعة الهاتف وإذا بشخص مجهول يحدثني قائلاً:
إنني أحد الذين استيقظ ضميرهم، ووجدت لزاماً على نفسي أن أبلغكم بأن انقلاباً عسكرياً سيقع ضد عبد الكريم قاسم في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم، ينطلق من قاعدة الحبانية الجوية، وكتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، ثم أغلق الهاتف}. ثم يضيف الضابط الخفر حديثة قائلا:
{أسرعت بالاتصال بالزعيم عبد الكريم الجدة، آمر الانضباط العسكري، أبلغته بالأمر، فما كان منه إلا أن أجابني قائلاً: هل أنت سكران يا هذا ؟ كيف يقع انقلاب عسكري في يوم 14 رمضان، والزعيم صائم !! والناس صيام !!، وفي مثل هذا الوقت الذي تتحدث عنه ضحى، فلم يسبق أن وقع انقلاب عسكري في وضح النهار، ثم أغلق الزعيم الجدة سماعة الهاتف}.
كان ذلك الموقف من عبد الكريم الجدة  ينم عن الجهل وسوء التقدير للوضع السياسي في البلاد، فقد كان الجو السياسي مكفهراً، ونشاط المتآمرين يجري على قدم وساق، وإضراب الطلاب على أشده، كما أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 963  وزع بصورة علنية، وعلى نطاق واسع، حذر فيه من خطورة الوضع، ومما جاء فيه:
{ هناك معلومات متوفرة تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين، والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة، وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، وووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع وفعال في صفوف الجيش}.(11)
 إلا أن عبد الكريم قاسم  لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد، معتقداً  أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.
كان الأولى بعبد الكريم الجدة الاتصال بعبد الكريم قاسم فوراً، واستنفار كل الأجهزة والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث وأفراد الحرس القومي، الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح !!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد[جلال الأوقاتي].
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار، وأردوه قتيلاً في الحال وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية، وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة، وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة.
وفي نفس الوقت قام منذر الونداوي بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك، بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل، لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة، وبعد أن تم لهم ذلك بادروا إلى قصف وزارة الدفاع .
وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد، فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون،  بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين .
 لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع، على الرغم من تحذير الزعيم الركن [ طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين، ومهاجمتهم قبل توسع الحركة، وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد، القريبين جداً من بغداد.
 لكن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته، مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة  وقصفها بالطائرات والمدفعية قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.
ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له!!، ولكن خاب ظنه بهم، بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة، واستبدلهم بعناصر انتهازية لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه، سواء بقي عبد الكريم قاسم، أم نجح الانقلابيون.
لقد أنتحر عبد الكريم قاسم، ونحر معه الشعب العراقي، وكل آماله وأحلامه التي ضحى من أجلها عقوداً عديدة مقدماً التضحيات الجسام.
توجه [عبد السلام عارف] إلى [معسكر أبي غريب]،حيث وصل مقر كتيبة الدبابات الرابعة، وانضم إليه [أحمد حسن البكر]، واستقلا كلاهما إحدى الدبابات، وتوجها إلى دار الإذاعة، وبصحبتهما دبابة أخرى، وساعدهم حرس دار الإذاعة، المشاركين في الانقلاب على السيطرة عليها، ثم التحق بهم كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وهناء العمري، خطيبة علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث.
  أما خالد مكي الهاشمي فقد أندفع بدباباته متوجهاً إلى بغداد، رافعاً صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب التي ملأت شوارع بغداد لتدافع عن الثورة وقيادتها. وفي نفس الوقت، وصل العقيد [عبد الغني الراوي] إلى مقر لواء المشاة الآلي الثامن في الحبانية، وتمكن بمساعدة أعوانه من الانقلابيين من السيطرة على اللواء المذكور، وتحرك به نحو بغداد، كما نزل المئات من أفراد الحرس القومي على طول الطريق بين الحبانية وأبو غريب، حاملين أسلحتهم، وقد وضعوا إشارات خضراء على أذرعهم، وتقدمت قوات الانقلابيين بقيادة المقدم المتقاعد  [عبد الكريم مصطفى نصرت ]، وأحاطت بوزارة الدفاع، كما تقدمت قوة أخرى من الطرف الثاني لنهر دجلة، مقابل وزارة الدفاع، متخذة لها مواقع مقابل وزارة الدفاع، وبدأت قصفها للوزارة بالمدفعية الثقيلة.
كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.
لقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى  فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة منادين:{ باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، كان الجو رهيباً والجموع الثائرة تريد السلاح من عبد الكريم قاسم للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يرد عليهم { إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسوف نقضي عليهم في الحال}.
 وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية العليا، سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين، ولكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب، ولا عبد الكريم قاسم .
 ثم يضيف رفيقي قائلاً: في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات، تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة حيث وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور، وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم.
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات. لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع خلال عشرة دقائق لا غير، وكانت مجزرة رهيبة لا يمكن تصورها، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها.  ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة، موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات، ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة، وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد.
 إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والخيانة. وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين، والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب،  وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم، ومُورس التعذيب الشنيع بالبعض الأخر.

رابعاً:الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين و يدعو إلى مقاومتهم

منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان:
{إلى السلاح ! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية} .
أيها المواطنون، يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال، والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين:
 لقد دق جرس الخطر ...استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس، فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع.
يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية، وكل مؤسسة، وكل حي وقرية  وسيُلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرات الكيلاني، والشواف وآخرين. إننا نطالب بالسلاح}.
 ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات، ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة، فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره، وخاصة في صفوف الجيش؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه .
ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة.
لقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب، وقدموا التضحيات الجسام، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين.
كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، في أول ساعات الانقلاب، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح.
ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً، ودفع حياته، ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.

خامسا:عبد الكريم قاسم يحاول توجيه خطاب للشعب والقوات المسلحة
 
في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، قام عبد الكريم قاسم بتسجيل خطاب موجهه إلى الشعب، والقوات المسلحة، يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [كاسيت]، تحت أصوات الانفجارات والقصف المدوية، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد[ سعيد الدوري]، الذي ائتمنه عليه، والذي تبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في الانقلاب، حيث سلم الخطاب للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب، وفيما يلي نص ذلك الخطاب. (10)
{إلى أبناء الشعب الكرام، وإلى أبناء الجيش المظفر }
[إن أذناب الاستعمار، وبعض الخونة والغادرين والمفسدين، الذين يحركهم الاستعمار لتحطيم جمهوريتنا ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف، الذين يحاربوننا بحركات طائشة للنيل من جمهوريتنا، وتحطيم كيانها. إن الجمهورية العراقية الخالدة، وليدة ثورة 14 تموز الخالدة لا تقهر ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف، وإنها تسحق الاستعمار، وتسحق كل عميل وخائن. إنما نحن نعمل في سبيل الشعب، وفي سبيل الفقراء بصورة خاصة، وتقوية كيان البلاد، فنحن لا نقهر  وإن الله معنا أبناء الجيش المظفر والوحدات، والقطعات، والكتائب والأفراد.
 أيها الجنود الغيارى: مزقوا الخونة، اقتلوهم، اسحقوهم، إنهم متآمرون على جمهوريتنا ليحطموا مكاسب ثورتنا، هذه الثورة التي حطمت الاستعمار، وانطلقت في طريق الحرية والنصر، وإنما النصر من عند الله، والله معنا ...كلمات غير مفهومة بسبب القصف، كونوا أشداء، اسحقوا الخونة والغادرين ـ دوي شديد ـ أبناء الشعب في كل مكان ـ دوي شديد ـ إنهم خونة ـ قصف ـ إنهم أذناب الاستعمار والله ينصرنا على الاستعمار وعلى أذنابه وأعوانه.
ثم يتوقف التسجيل بسبب دوي القصف، ويعاود الزعيم مرة أخرى:
السلام عليكم أبناء الشعب، أيها الضباط، أيها الجنود، أيها الضباط الصف الأشاوس، أيها العمال الغيارى: إن الاستعمار يحاول أن يسخر نفراً من أذنابه للقضاء على جمهوريتنا، لكنه بتصميمنا، وتصميم الشعب المظفر، فأننا نحن جنود وشعب 14 تموز الخالد الذي وجه الضربات الخاطفة إلى العهد المباد رغم ... كلمات غير مفهومة بسبب القصف، رغم الاستعمار، وحرر أمتنا، واسترد كرامتها  فان هذا اليوم المجيد ... كلمات غير مفهومة بسبب القصف، لسحق الخونه والغادرين ... كلمات غير مفهومة.
أبناء الشعب: أبناء الجيش المظفر إن النصر أمامنا، وإننا صممنا على سحق الاستعمار وأعوانه فلا ... كلمات غير مفهومة، الخونة والغادرين، فأن الله معكم، وسوف ... كلمات غير مفهومة، الظالمون والغادرون والسفاكون، أذناب الاستعمار، سوف ...كلمات غير مفهومة، عندما توجه إليهم الضربات الخاطفة، وقد باشرنا بتوجيهها إليهم ...كلمات غير مفهومه، إنني الزعيم عبد الكريم قاسم
وإننا أقوى وأمضى، وأشد عزماً وكفاحاً في سبيل الفقراء، والنصر للشعب المظفر
 والنصر لكم أيها الغيارى].
                                                              عبد الكريم قاسم
                                                                  8 شباط 1963

هذا هو نص الخطاب الذي لم يستطع عبد الكريم قاسم إذاعته، والذي احتفظ في أرشيفي بنصه مسجلاً على شريط كاسيت بصوت عبد الكريم قاسم نفسه، فقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها، رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة التي إذا غرقت غرق الجميع، ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم  لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب، حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع .
ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة، فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب.
أما[ الحرس القومي] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع، وهاجموا مراكز الشرطة واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم.
واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية والكاظمية، وباب الشيخ، وحي الأكراد والحرية والشعلة لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم، وأصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم [رقم13] الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على نصف مليون مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من الشهداء [سلام عادل] السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب، كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من: جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي، أبو سعيد، ومتي الشيخ، و محمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، و عبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار، بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم .
التوثيق
   توثيق الفصل العاشر:
 (11)المصدر السابق ـ ص 287 .
(12)خطاب عبد الكريم قاسم غير المذاع يوم الانقلاب
.

ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي
Alhamdany34@gmail.com
www.Hamid-Alhamdany.com


325
هل يتهدد العراق الصراع المسلح من جديد؟

حامد الحمداني                                                    19/11/2009


يجتاز العراق اليوم مرحلة خطيرة من تاريخه، حيث تتصاعد حمى الصراع بين ديناصورات الكتل السياسية الممسكة بالسلطة اليوم من جهة، وبينها وبين القوى السياسية التي تضم عناصر حزب البعث المنحل تحت يافطات مختلفة، في محاولة للتغطية على طبيعة هذه القوى التي تسعى لدخول الانتخابات البرلمانية بقوة، يحدوها الأمل بتحقيق هدفها المعروف في العودة إلى حكم العراق من جديد.    وفي الوقت نفسه تتشبث أحزاب الاسلام السياسي الشيعية بالأمساك بالسلطة بكل الوسائل والسبل، على الرغم من انقسامها إلى معسكرين يضم المعسكرالأول المجلس الأعلى والمتحالف مع الصدريين، وحزب الفضيلة، وغيرها من الأحزاب الطائفية الأخرى كحزب الله، وثأر الله!، وغير من التسميات الآخرى، والمعسكر الثاني الذي يضم حزب الدعوة بزعامة المالكي وحلفائه الطامعين بالحصول على جانب من كعكة الحكم، حيث يتشبث السيد نوري المالكي بالإمساك بمنصب رئيس الوزراء بصلاحياته الواسعة التي منحها له دستورنا العتيد، لكي يستمر في حكم البلاد اربعة أعوام أخرى.                                                                    .
 ومن جانب أخر يسعى قادة  الحزبين القوميين الكرديين الممسكين بالسلطة في كردستان العراق للحفاظ على سلطتهما في كردستان، بعد الانشقاق الذي حل بالاتحاد والوطني الكردستاني من جهة، والتملل الحاصل في الحزب الديمقراطي الكردستاني جراء الفساد الذي بات ينخر بالنظام مما خلق استياءاً عاماً لدى المواطنين الأكراد، ومن جهة أخرى سعي قادة الحزبين المذكورين إلى التشبث بالمراكز القيادية في الحكومة المركزية من خلال الضغوط التي يمارسونها على الحكومة المركزية حول ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها، بل لقد اخذوا يطلقون التهديدات عبر وسائل الاعلام على المكشوف حتى وصل الأمر إلى التهديد بالحرب القومية                                                                                 
إن هذا الوضع السياسي الملئ بالألغام بات يهدد بالانفجار كلما قرب موعد الانتخابات، وحتى إذا ما استطاعت هذه الأطراف تأجيل الانفجار قبل الانتخابات، فهذا لا يعني أن الأخطار قد زالت، حيث سيكون الصراع على أشده عندما يبدأ مشور تأليف الوزارة الجديدة، ومن سيحكم العراق في السنوات الأربع القادمة، وشرارة واحدة قادرة على اشعال الصراع المسلح، والذي بكل تأكيد لن يربح منه أحداً، بل الكل سيخسرون بكل تأكيد، وفي المقدمة الشعب العراقي المسلوب                                                                                             
الإرادة.  إن حزب البعث ما زال يمثل خطراً كبيراَ، تماماً كما تمثل أحزاب الاسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، وتماماً كما يمثل التطرف العنصري للأحزاب القومية الكردية خطرا على مستقبل العراق.          .                         هذه الأطراف كلها مع الأسف لا تؤمن الديمقراطية كسبيل للخروج بالعراق من أزمته الراهنة، والتي تشير التكهنات إلى احتمال تصاعد خطير للأزمة قبل وبعد الانتخابات، مما سيدخل العراق في صراعات جديدة قد تكون اقسى بكثير من سابقتها خلال الأعوام  2003 ـ  2007 .                                                 . إن الأمريكيين لن يخرًجوا من العراق مطلقا، وواهم من يعتقد ذلك، وهم يرتبون أمورهم في البلاد على هذا الأساس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن امريكا لاصداقة دائمة لها مع أية قوى سياسية، ولا مع أي بلد آخر، بل لها فقط مصلحة دائمة، وهي التي جاءت باحزاب الإسلام السياسي وشركائهم الأحزاب القومية الكردية إلى قمة السلطة والبرلمان، ومكنتهم من الاستحواث على سائر مرافق الدولة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والقضائية، وسائر اجهزة الدولة، بعد أن أسقطت نظام البعث بقيادة صدام حسين، وحلت سائر أجهزة الدولة، وفي المقدمة منها الجيش والأجهزة الأمنية، والتي حل محلها أجهزة مخترقة من قبل ميليشيات أحزاب الاسلام السياسي، بالإضافة إلى قوات البيشمركة الكردية التي باتت تمثل جيشاً آخر لا سلطة للحكومة المركزية عليه.                                              .
لقد أدى اختراق اجهزة الدولة من قبل ميليشيات أحزاب الاسلام السياسي الشيعية وخاصة في صفوف القوات المسلحة والاجهزة الأمنية، إلى تصاعد النشاط الإيراني في العراق من خلال ارتباط هذه الاحزاب بحكام طهران، وهي التي اسست، ومولت، وسلحت هذه الاحزاب عندما كان يقيم قادتها، والكثير من عناصرها في إيران، هرباً من طغيان نظام صدام، وهذه الهيمنة لحكام طهران قد سببت القلق الكبير للإدارة الأمريكية التي باتت تخشى على مصالحها في منطقة الخليج، التي تحتوي على منابع النفط التي تمثل عصب الحياة، والشريان الذي يغذي الصناعات الغربية، ونتيجة لهذا السلوك من جانب أحزاب الاسلام السياسي الشيعية بدأت الإدارة الأمريكية تعيد النظر في حساباتها في العراق من خلال إعادة احتواء حزب البعث من جديد، هذا الحزب الذي جربته الولايات المتحدة منذ انقلاب 8 شباط عام 1963، وعند عودة الحزب للحكم عام ،1968 ولا اجد داعياً للحديث عما اقترفه هذا الحزب بحق الشعب والوطن، فتلك الجرائم ما تزال ماثلة امام انظارنا. لقد وجدت الإدارة الأمركية بعد أن تصاعد النفوذ الإيراني في العراق أن خير سبيل لتقليص النفوذ الإيراني في العراق هو السعي لخلق نوع من التوازن مع أحزاب الاسلام السياسي الشيعية من خلال ما سمته بالمصالحة، واشراك حزب البعث في العملية السياسية، والمشاركة في الانتخابات القادمة، بعد شهرين، ولا يخفى على أحد أن حزب البعث، وقد اسقط نظامهم الذي حكم العراق 35 عاماً، هو اليوم أكثر عزماً على اعادة ذلك النظام الكريه، وإذا ما تسنى له العودة إلى الحكم فإن ما مارسه من عنف خلال سنوات حكمه سوف تتضاعف كثيراً ، ولاسيما وأن قلوب البعثيين قد امتلأت غيظاً بعد اسقاط نظامهم.            .
 إن امريكا لاتفكر في بناء نظام ديمقراطي في العراق، ذلك لآن الديمقراطية لا تتوافق مع دوام المصالح الأمريكية في العراق ولا في أي بلد من البلدان الأخرى، ولذلك نجدها تدعم أشد الدول الرجعية والدكتاتورية في العالم العربي، والعالم الثالث طالما تضمن هذه الانظمة المصالح الأمريكية، ولا يهما ما تفعله هذه الانظمة بشعوبها                                                                               .
الوضع إذا كما أراه خطيرٌ في العراق، وإذا لم تتدارك القوى السياسية الأمر، وتعيد النظر في مجمل سياساتها وتوجهاتها، وتتخلى عن احلام الهيمنة على السلطة بإساليب غير ديمقراطية، ولسيرها على نفس النهج السابق، وإذا تتخلى عن ارتباطاتها بدول الجوار،  وتتمسك بعراقيتها، وإذا لم يجر فصل الدين عن الدولة، وقيام حياة حزبية وقف الاسس الديمقراطية، وقانون ديمقراطي للأحزاب، فإن السفينة ستغرق الجميع، والعاقل من اتعظ بتجارب التاريخ.                           
                                             


326
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 19

حامد الحمداني                                               16/11/2009

انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، واغتيال ثورة 14 تموز

أولاً : الظروف التي ساعدت ،ومهدت للانقلاب .
 ثانياً : مَنْ أعدّ ،وساهم في الانقلاب ؟
 ثالثاً : تنفيذ الانقلاب في الثامن من  شباط 1963.
 رابعاً: الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويدعو إلى مقاومتهم.
 خامساً: قاسم يحاول توجيه خطاب للشعب والقوات المسلحة.
 سادساً:موقف قطعات الجيش من الانقلاب .
 سابعاً :استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين.
 ثامناً  : مهزلة محاكمة عبد الكريم قاسم ،وإعدامه .


أولاً:الظروف التي ساعدت، ومهدت للانقلاب:

في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم، من جهة أخرى، تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، وعبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة {سياسة عفا الله عما سلف} التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، إلى مراكز حساسة في الجيش.
وفي الوقت نفسه أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، وأحالهم إلى المحاكم العرفية العسكرية الأولى والثانية التي كان يرأسها كل من [ العقيد شمس الدين عبد الله ] والعقيد [ شاكر مدحت السعود ] المعروفين بعدائهما للشيوعيين وسائر القوى الديمقراطية، حيث  أصدرا بحقهم أحكاماً قاسية بالسجن لمدد طويلة.
 كما أقدم على تسريح عدد كبير من الضباط، والقادة العسكريين، ومجاميع كبيرة من الضباط الاحتياط، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية، التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة، والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات التي اتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963:

1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.(1)
لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب.
وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة ما كان لها أن تحدث، واستغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها  ومن ثم إلغائها.
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط،  لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتياله هو بالذات وإغراق العراق بالدماء.
لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم آخرعندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي، وليس من جانب الرجعية، وعملاء الإمبريالية.
إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بقيادته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 1963، وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف: {باسم العامل والفلاح ، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.
 إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون، ويسفرونه إلى الخارج، أو ربما حُوكم محاكمة قانونية عادلة، أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته، وتصفية كافة أعوانه وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، ولثورة تموز المجيدة.
 كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة وعن نفسه، كما فعل من بعده الشهيد[سلفادور اليندي]، رئيس جمهورية شيلي عام 1972، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع  وأخس العبارات  قبل تنفيذ الإعدام به وبرفاقه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد.

2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم مرسوماً جمهورياً في 29 حزيران 1959 يقضي بإحالة  قائد الفرقة الثانية في كركوك الزعيم الركن [داوود الجنابي ] وخمسة من مساعديه وهم كل من الرئيس[حسون الزهيري ]، والملازم الأول [ فخري عبد الكريم ]، والملازم الأول [هاشم مرعيٍ ]، والرئيس الأول [عبد الجبار الخطيب]،والرئيس الأول [صبار خضر حيدر] على التقاعد في 29 حزيران 1959. (2)
 كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [هاشم عبد الجبار] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله  في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم  [صديق مصطفى]، المعروف بعدائه للقوى التقدمية، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963، عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد، الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.(3)
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري] والرئيس [كاظم عبد الكريم] والمقدم [خزعل السعدي]الذين كان لهم الدور الرئيسي في كشف مؤامرة رشيد عالي الكيلاني،حيث
أودعهم في إمرة الإدارة بوزارة الدفاع لكي يقعوا صيداً ثميناً بأيدي انقلابيي الثامن
من شباط 1963 حيث جرى تصفيتهم تحت التعذيب الوحشي.
 كما أقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي]، الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم.

3ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية، وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق] الذي أعاده للجيش، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة، ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع.

4ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.

5ـ تنحية العقيد[عبد الباقي كاظم] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة، ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.(4)

6ـ إعادة  19 من الضباط القوميين، والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وقد جرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي]، والذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب، وكان أحد قتلة الزعيم عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة.

7ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في 21 شباط 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.(5)

8ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد سيد حسين] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد.

9ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 1959، والبالغ عددهم  1700 ضابط من الخدمة في الجيش، بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها.

10ـ إعفاء المقدم الركن [سليم الفخري] المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وتسليمها
لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها. فقد وصفت صحيفة [صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للمتآمرين والانتهازيين  والرجعيين، بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها. (6)
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب واتخذوها مقراً لقيادة الانقلاب.
كان لذلك الحال تأثيراً كبيراً على معنويات الجيش والشعب، عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثبات عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي، 9 شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة، واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير غير المذاع، لما نجح الانقلاب. (7)

11ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد.

12ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين  والأطباء، والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب. (8)

13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته، وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم  في 11 حزيران 1962،  في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون، وتولى الانقلابيون فيما بعد جريمة قتل أعداد كبيرة منهم . لقد شجعت سياسة العفو، والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.

14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية.
 ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز، بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، واستغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
15ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط  من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة، والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.

16ـ  قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان، وعباس مامند، المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [هولمز] بالشيوخ المتمردين، وتم إرسال [علي حسين أغا المنكوري] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [ تاودست]، كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران.
وفي بداية عام 1963، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية إحدى أكبر مدن كردستان، أتابع مجريات تلك الحرب، واتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً.
ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي، بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية، بعد أن وقف منذُ البداية مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها. كما يتحمل قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح.

17ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته، ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء لا للثورة ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين  ومما يؤكد هذا هوالحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [مجيد عبد الجليل] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث، بالبصق في وجهه، فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له:
{ لماذا تبصق في وجهي؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم.
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز [محسن الرفيعي]، ومن قبله [رفعت الحاج سري]الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه. كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.

18ـ قيام الطلاب البعثيين والقوميين بإضراب عام، ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف  لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين، ولم تحاول كبح جماحهم وكسر الإضراب، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب.
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب  وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.

ثانيا: مَنْ أعدّ وساهم في الانقلاب؟
لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، بعد صراع مرير مع تلك الشركات، والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتهم عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية، هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق. 
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية، وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة  قبل الإقدام على أي خطوة متهورة.
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة، محاولين إنهاء الثورة من الداخل مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية، لتنفيذ أهدافهم الشريرة فلقد ذكر [علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً: {لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي}.
كما ذكر الملك حسين، ملك الأردن في مقابلة أجراها معه [ محمد حسنين هيكل] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [كريون] في باريس حيث قال الملك:
{تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني اعرف الحقيقة.
لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهم تلك الاجتماعات في الكويت، وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها  الاستخبارات الأمريكية في الكويت، وكانت تبث إلى العراق، وتزود يوم 8 شباط، رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم}.( 9)
كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث عام 1963، طلب عدم ذكر أسمه  قد ذكر لمؤلف كتاب العراق، الكاتب [حنا بطاطو ] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية، وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب.(10)
لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر، كان إنجازهم الوحيد خلالها هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء والمشانق، والسجون والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة، التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم، بعد انقلاب 8 شباط، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم وأفعالهم المشينة سماه [المنحرفون].

التوثيق
(1)   تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري ـ ص 299 .
(2)   نفس المصدر السابق ـ ص 299 .
(3)   المصدر السابق ـ ص 299 .
(4)   المصدر السابق .
(5)   العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص258 .
(6)   صحيفة صوت الأحرار في 12 حزيران 1962 .
(7)   نص بيان عبد الكريم قاسم على شريط كاسيت بصوته ومحفوظ لدى المؤلف .
(8)   العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 258 .
(9)   صحيفة الأهرام القاهرية ـ في 27  أيلول 1963 .
(10)العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 300 .

ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي
Alhamdany34@gmail.com
www.Hamid-Alhamdany.com


327
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 18

حامد الحمداني                                               17/11/2009

سابعاً:الحزب الشيوعي يحاول تكوين جبهة وطنية ديمقراطية جديدة
 
نتيجة للشرخ الكبيرالذي حدث في صفوف جبهة الاتحاد الوطني خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، وانسحاب الأحزاب القومية منها ومن الحكومة، لم يبقَ في الجبهة سوى الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي، وحتى العلاقة بين هذين الحزبين أخذت بالتردي يوماً بعد يوم، بعد اتساع المد الشيوعي، وسيطرته على الشارع العراقي، وهيمنة الحزب الشيوعي على كافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والعمالية، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وتلك كانت أحد الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الحزب الشيوعي، والتي سببت ابتعاد الحزب الوطني الديمقراطي، وبشكل خاص جناحه اليميني عنه، وسعيه الحثيث لكبح جماح الشيوعية، وتحريض عبد الكريم قاسم على الوقوف بوجه الحركة الشيوعية، حرصاً على مصالحه الطبقية.
كان على الحزب الشيوعي، الذي حرصت قيادته على اعتبار تلك المرحلة هي مرحلة الوطنية الديمقراطية، عدم استفزاز البرجوازية الوطنية، وعدم استبعادها عن النشاطات الديمقراطية، والاستئثار بكافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، والفلاحية.
أخذت العلاقات بين الحزبين بالتردي، كما أسلفنا يوماً بعد يوم حتى وصلت إلى طريق اللا عودة، عندما حدث الانشقاق في صفوف الحزب الوطني الديمقراطي، ومن ثم استقالة رئيسه الأستاذ كامل الجادرجي، ومن ثم استقالة الجناح اليميني، بزعامة محمد حديد من الحزب، وتأليفهم [الحزب الوطني التقدمي].
لقد لعب الحزب الشيوعي دوراً في ذلك الانشقاق عندما دفع، وشجع العناصر اليسارية في الحزب الوطني الديمقراطي، إثر قرار الجناح اليميني تجميد نشاط الحزب، إلى تشكيل قيادة جديدة للحزب، ومواصلة النشاط السياسي.
 وهكذا أقدم عدد من الشخصيات السياسية المحسوبة على الجناح اليساري على إصدار بيان يستنكر فيه إقدام محمد حديد وكتله على قرار تجميد نشاط الحزب، بتحريض من الحزب الشيوعي الذي أصدر بياناً في 22 أيار9 بعنوان [ حول إيقاف نشاط الحزب الوطني الديمقراطي]، شجب فيه قرار التجميد، داعياً العناصر اليسارية في الحزب إلى مواصلة النشاط السياسي، وعلى أثر ذلك أصدرت الكتلة اليسارية في الحزب، والتي ضمت كل من السادة:
1 ـ عبد الله البستاني     2 ـ عبد المجيد الونداوي      3 ـ علي عبد القادر
4 ـ نايف الحسن          5 ـ حسان عبد الله مظفر       6 ـ ناجي يوسف
7ـ علي جليل الوردي   8 ـ حسين أحمد العاملي        9 ـ سليم حسني
10 ـ عادل الياسري
أصدروا بياناً في 22مايس 1959، حول رفض قرار التجميد، ومما جاء في البيان:
{ونحن إذ نعلن مخالفتنا لقرار التجميد فإننا ندعو أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي، المؤمنين بأداء واجبهم الحزبي في هذه الظروف، إلى الاستمرار في النشاط الحزبي، كما نعتبر أن الذين أصدروا قرار وقف نشاط الحزب، ومن يؤيدهم من أعضاء الحزب، إنما قرروا ذلك بالنسبة لأنفسهم فقط}.
لقد كانت تلك الخطوة من جانب الحزب الشيوعي، والجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي خطوة انفعالية بلا شك، عمقت من الشرخ بين الحزبين من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى، فقد كان واضحا أن قاسم سوف يقف بوجه الحزب الشيوعي مهما فعل، أضافه إلى دفع العلاقة بين الحزبين إلى مرحلة اللا عودة.
لكن الحزب الشيوعي ذهب إلى أبعد من ذلك عندما دعا الجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي، والجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى إقامة [جبهة وطنية ديمقراطية جديدة]، وتوصل معهما إلى مشروع ميثاق جديد للجبهة المذكورة، في 28 حزيران 1959، وتضمن الميثاق الجديد البنود التالية:
1ـ صيانة الجمهورية، والحفاظ على خط سيرها، باتجاه الديمقراطية، وتطهير كافة مؤسسات الدولة، والقوات المسلحة من العناصر المعادية للثورة، وإحلال العناصر المخلصة والكفوءة محلها.
2ـ التضامن مع كافة البلاد العربية المتحررة في كفاحها ضد الاستعمار والصهيونية.
3 ـ السير على سياسة الحياد الإيجابي، ومقاومة الإمبريالية.
4 ـ تعزيز الأخوة العربية الكردية، والسعي من أجل الوحدة الوطنية.
5ـ اعتماد مبدأ الديمقراطية الموجهة، وإشاعة الحريات الديمقراطية، وحرية التنظيم الحزبي  والنقابي، وحرية الصحافة، لكل القوى التي تدافع عن الجمهورية  ومكاسب ثورة 14 تموز المجيدة.

 وقد وقع على ميثاق الجبهة عن الحزب الشيوعي كل من السادة:
1 ـ عامر عبد الله       2 ـ عبد القادر إسماعيل      3 ـ زكي خيري
4 ـ عزيز الحاج       5 ـ بهاء الدين نوري         6 ـ كريم أحمد
                             7 ـ محمد حسين أبو العيس

فيما وقعها عن الجناح اليساري للحزب الوطني الديمقراطي كل من السادة:
  1 ـ المحامي ناجي يوسف                       2 ـ  صلاح خالص     
  3 ـ علي جليل الوردي                           4 ـ  أحمد الجلبي
  5 ـ عبد المجيد الونداوي                         6 ـ نايف الحسن                             
  7 ـ حسين أحمد العادلي
 
أما الجناح اليساري للحزب الديمقراطي الكردستاني فقد وقع عنه كل من السادة:
   1 ـ المحامي حمزة عبد الله                  2 ـ خسرو توفيق
   3 ـ عزيز صالح الحيدري                  4 ـ نزار أحمد                               
5 ـ المهندس نوري شاويس                6 ـ شمس الدين المفتي
   7 ـ صبغة الله المزيوري

وقد سارع الموقعون على ميثاق الجبهة الجديدة إلى إرسال مذكرة إلى عبد الكريم قاسم تشرح فيها الأوضاع السائدة في البلاد، والمخاطر التي تجابه الثورة ومكاسبها، وأهمية الوحدة الوطنية في الكفاح ضد الاستعمار والرجعية، وتعلن فيها عن إقامة الجبهة، وأهدافها، وفيما يلي نص المذكرة :

نص مذكرة الجبهة الوطنية الديمقراطية للزعيم عبد الكريم قاسم

سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم المحترم : (17)
 منذُ أنْ وطأ الاستعمار بلادنا، وطوال سنوات الكفاح المريرة في العهد المباد كان العمل من أجل وحدة الصف الوطني، هدف الشعب الأسمى، وسلاحه التعبوي الحاسم لتحقيق انتصاراته.
 وبالعكس كانت الفرقة، أحد الأسباب الرئيسية للانتكاسات، وفي غمرة الكفاح الوطني، في ظروف مده وجزره، ومن خلال تجارب النجاحات والإخفاقات، انبثقت فكرة الجبهة الوطنية الموحدة وتبلورت، وغدت ستار الشعب الحقيقي.
 وكان لابدّ للقوى والأحزاب والعناصر الوطنية أن تستجيب لإرادة الشعب في الوحدة، فتضافرت جهودها، واتحدت صفوفها، وأدركت كل واحدة منها بتجربتها  وتجربة الحركة الوطنية عموماً، وبالاستناد إلى تقدير موضوعي، أن أية قوة بمفردها، وبدون مساندة الشعب، لن يكون بمستطاعها تحقيق مهمة الانتصار على الاستعمار وأعوانه.
 وبفضل تضامن الجيش، والقوى السياسية، وبفضل جهودهما المشتركة، بصرف النظرعن تباين الأساليب، وتفاوت الطاقات العملية، وبفضل مساندة الشعب الحازمة، كُتب الانتصار الساحق والسريع لثورة 14 تموز الظافرة عام 1958.
إن هذه الحقيقة لم تفقد أهميتها وصحتها بعد الانتصار، وبعد تحقيق أهداف الشعب في ضرب النظام الملكي الاستعماري الإقطاعي، وفي إقامة نظام حكم جمهوري وطني متحرر، فلم يكن بإمكان أي قوة بمفردها أن تصون الثورة وجمهورية الرابع عشر من تموز، فقد آزر الشعب جيشه الباسل، وحكومته الوطنية، ووقف الجيش مع الشعب، واستندت الحكومة على الشعب وقواه الوطنية المناضلة المخلصة، وظل المخلصون لإرادة الشعب، ومبادئ الثورة، وانتم على رأسهم متمسكين في كل الظروف والأوقات العصيبة التي مرت بجمهوريتنا بشعار  [وحدة الصفوف] هذا الشعار الذي التزمت به ، ودافعت عنه الغالبية الساحقة من القوى الوطنية، ولم تشذ عنه سوى العناصر والجماعات التي تضافرت جهودها مع جهود الطامعين، والقوى المعادية للجمهورية، من الاستعماريين، والإقطاعيين.  ولولا وعي الشعب ويقظته، ويقظة القوى الوطنية، لكان بمستطاع تلكم الزمر المعادية والمفرقة شق وحدة الشعب، وتلاحم صفوفه، والتسبب في جلب الكوارث الحقيقية على البلاد.
بيد أن الشعب فوت الفرص على الأعداء والطامعين، ومفرقي الصفوف، وبقي صامداً موحداً تحت زعامتكم، وقد أصبح ذلك ممكناً بفضل وحدة الجيش والشعب بقيادتكم الحكيمة الحازمة، هذه الوحدة التي كانت العامل الأساس الذي مكن البلاد من تخطي المؤامرات والهزات التي تعرضت لها، والقضاء عليها بتفوق باهر، وسرعة فائقة،  وكما أن الشعب، وقواه الوطنية، وقيادة البلاد، أدركت أهمية الوحدة الوطنية، وضرورتها التي لا غنى عنها، فقد أدرك الاستعمار وأعوانه الطامعون كذلك، عظم وخطر وحدة الصف على مشاريعهم، ومؤامراتهم ومآربهم الهادفة إلى نسف كيان الجمهورية، وضرب زعامتكم.
 لقد ركز الاستعمار خلال الأشهر الأخيرة بوجه خاص، كل جهوده من أجل بث الشكوك والريبة داخل القوى الوطنية، بغية الإخلال بوحدتها، وتأليب بعضها ضد البعض الآخر، لفتح الثغرات، والنفوذ منها، جرياً على سياسة " فرق تسد "، وتعلمون سيادتكم أن الاستعمار لا ينهج لتحقيق أغراضه سُبلاً مكشوفة يمكن تمييزها بسهولة ويسر، بل يعمد  وهو العدو المسلح بتجربة واسعة في هذا المضمار إلى استخدام أعقد الخطط، وأكثر السبل الماكرة، وغير المباشرة، والملتوية والخبيثة.
ولئن كان الاستعمار أخفق في نسف استقلال البلاد، وقلب الحكم الجمهوري الديمقراطي، والإطاحة بزعامتكم، فإن هدفه هذا لم يتغير، ولن يتغير، حيث لا يمكن للاستعمار أن يتخلى عن مساعيه، ودسائسه في سبيل إرجاع نيره المهشم، واستعادة نفوذه المنهار حتى لو أدى ذلك إلى إغراق الوطن في بحر من الدماء الزكية.
إن مما يأسف له كل مخلص، حدوث بعض الأمور والملابسات والمواقف التي صدرت من هذا وذاك من الأطراف الوطنية، والتي أدت إلى تقوية أمل المستعمرين، وانتعاش مقاصدهم اللئيمة ضد بلدنا الحبيب، وكان من نتائج ذلك، مع الأسف، هذه البلبلة الواضحة التي سرت في صفوف الشعب، وقواه الوطنية، وخلخلت الصف الوطني.
إننا حينما نشير إلى هذا الوضع المؤسف، فنحن لا نتطير منه بحال من الأحوال، ولسنا مساقين بنظرة التشاؤم، وإنما نستند إلى وقائع ملموسة اطلع عليها الرأي العام، وتحسستها أوسع الجماهير، والعناصر الوطنية المخلصة، وفعلت فعلها السلبي في سريان القلق المشروع في الأوساط الشعبية، والجماهير محقة كل الحق  في استنتاجاتها وشعورها، خاصة وأن الشعب تعلم من خلال تجربته، وتجارب الأمم الأخرى، أن الاستهانة بالأعداء المتربصين، سواء كانوا داخليين أم خارجيين هي داء وبيل، أصابت عدواه حركات وطنية كثيرة، وأدت بها إلى الانتكاس والخذلان .
 ومما لا ريب فيه أن المخلصين كافة لا يوجد بينهم من يرغب، أو يقبل مثل هذا المصير لثورتنا المباركة المظفرة، التي هي كما أكدتم سيادتكم دائماً للشعب إنها حصيلة دماء غزيرة وعزيزة، وجهود وآلام بذلتها الملايين من أبناء الشعب خلال سنوات طويلة من الكفاح والعذاب المتواصل.
 وقد آن للشعب المكافح الصابر عقوداً من السنين، بل دهوراً، أن يحصد الثمار، ويتمتع بحريته الكاملة، وحقوقه الديمقراطية العادلة، وخيرات بلاده الوفيرة، وهذا ما يناضل من أجله كل المخلصين، كما سبق لسيادتكم أن صرحتم به دائماً.
 إن الواقع للوضع المؤسف هذا الذي أشرنا إليه قبل قليل قد أثار، ولم يكن بالإمكان أن لا يثير، أقصى درجات اليقظة لدى الشعب، وحفز وعيه على الاستعانة بتجاربه  وتجارب الأمم الأخرى التاريخية، فبرز على الألسن، كما تغلغل في القلوب أكثر من أي وقت مضى، شعار وحدة [الصف الوطني] وتقويته، والدفاع عنه وعن الجمهورية، و مكاسب ثورة الشعب وجيشه المقدام.
وما كان لهذه الرغبة النبيلة الواعية لدى جماهير الشعب إلا أن تنعكس على مختلف قواه الوطنية التي يقف على رأسها ويرعاها سيادتكم، ونحن كجزء من هذه القوى الوطنية حملنا شعورنا بالمسؤولية، إزاء هذا الوضع الراهن، وإزاء مهمة الحفاظ على مكاسب الشعب، وعلى تضافر الجهود، ودفعنا إلى التقارب بين بعضنا لدراسة المعالم المميزة للظرف الذي يكتنف الجمهورية، وتحديد واجباتها فيها.
ولقد توصلنا بنتيجة دراستنا للعوامل التي أدت إلى الإخلال بوحدة الصف الوطني والإساءة إليه، وتحري الحلول الممكنة، والعملية التي تساعدنا على بعثها مجدداً، وعلى أفضل وجه، وتوصلنا إلى مواصلة نشاطنا في [جبهة الاتحاد الوطني]، واتخاذ جميع الخطوات المقتضية لإعادة حيويتها، وتحويلها إلى واقع ملموس، وجهاز وطني فعّال، قادر على تعبئة وتوحيد صفوف الشعب.
 وبناء عليه، فقد تم الاتفاق فيما بيننا على إقرار[ميثاق إنشائي] نبلور ونصوغ فيه وجهة نظرنا المشتركة في المسائل الكبرى التي نصت عليها بنود الميثاق، والتي تواجه البلاد في الظرف الراهن، سواء ما كان يتعلق منها بصيانة الجمهورية، أو بتخطيط وبناء مستقبل البلاد، وهذا الميثاق الوطني، هو عهد مقدس بين القوى المنضوية، أو التي ستنضوي في المستقبل تحت لواء جبهة الاتحاد الوطني، والتي ستمارس نشاطها المشترك تحت قيادتكم الحكيمة.
وما من شك أن ما جاء في هذا الميثاق، قد يحتمل الإضافة، أو التعديل متى ما أرادت الأطراف المشتركة فيه، أو متى ما ارتأت تلك القوى الوطنية ضرورتها.  وباعتقادنا أن خطوتنا هذه من أجل وحدة الصفوف ستكون ذات أهمية كبرى، وأكثر جدوى في خدمة الجمهورية، كلما ضمت جبهة الاتحاد الوطني قوى شعبية أخرى، وإمكانيات جديدة.
إننا إذ نتقدم إليكم بصورة من ميثاقنا الوطني الذي تم اتفاق كلمتنا عليه برغم الاختلاف في اتجاهاتنا، وميولنا السياسية نحن القوى المؤتلفة في جبهة الاتحاد الوطني، لنا وطيد الأمل بأننا سنجد من لدن سيادتكم كل التشجيع والرعاية، وتقبلوا فائق احترامنا. (18)               
                                المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي
                                                   بغداد في 28 حزيران 1959


2 ـ عبد الكريم قاسم يتجاهل المذكرة ويواصل سياسته المعادية للحزب الشيوعي 
إن عبد الكريم قاسم، الذي كان قد عقد العزم على ضرب الحزب الشيوعي، والحد من نشاطه، والسير في طريق الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، تجاهل تلك المذكرة، وتجاهل الجبهة، بل وأوغل أكثر فأثر في سياسته الهادفة إلى تجريد الحزب الشيوعي من كل أسباب قوته وجماهيريته، وعدم التوقف في توجيه الضربات المتلاحقة له.
 ولم تفد الحزب تلك العبارات التي أطرى بها على قاسم، وسياسته الحكيمة!! في زحزحته عن مواقفه تجاه الحزب، بل جعلته يندفع أكثر فأكثر في هذا السبيل، مصمماً على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه السياسي، استناداً لقانون الأحزاب والجمعيات الذي أصدره في الأول كانون الثاني 1960.
أما محمد حديد ورفاقه في الحزب الوطني التقدمي فقد رفضوا الانضواء تحت راية تلك الجبهة، معللين ذلك بأن الحزب الشيوعي قد عمل من وراء ظهر الأحزاب، وأن تلك الجبهة هي من صنع الشيوعيين، ورفضوا أي نوع من التعاون مع الحزب الشيوعي، ومع الجبهة المعلنة.
وهكذا، فإن هذه الجبهة لم تستطع أن تؤدي مهامها، وتحقق أهدافها، نظراً لتعقد الظروف السياسية، وتدهور العلاقات بين أطراف القوى الوطنية من جهة، ومواقف عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، إضافة للشرخ الذي أصاب الحزب الوطني الديمقراطي، وانعزال القوى القومية، وتنكبها لمسيرة الثورة، ولجوئها إلى التآمر المسلح، والمكشوف لإسقاطها، والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم .

ثامناً: تدهور العلاقة بين الأكراد والسلطة ولجوء الطرفين إلى السلاح:

كان ثالثة الأثافي في تدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وانقسام القوى الوطنية، حدوث الخلافات العميقة بين السلطة وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح، واستخدام السلطة للجيش في ذلك الصراع. ولم تجد نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، لحل المشاكل المعقدة، إلا أن جهوده باءت بالفشل، واستمرت الحرب بين الطرفين حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963 .
بدأت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والسلطة بالتدهور عام 1961 عندما هاجمت صحيفة الحزب [ خه بات ] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة،  وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد، واحترام الحياة الحزبية، وحرية الصحافة. (19)
وجاء رد عبد الكريم قاسم سريعاً حيث أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب  ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام .
وفي 20 تموز 1961، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى عبد الكريم قاسم، طالبه فيها بتطبيق المادة الثالثة من الدستور المؤقت، والتي نصت على حقوق الشعب الكردي، كما طالبت بسحب القوات العسكرية المرسلة إلى كردستان، وسحب المسؤولين عن شؤون الأمن والشرطة والإدارة، الذين كان لهم دور بارز في الحوادث التي وقعت في كردستان العراق، وإعادة الموظفين الأكراد المبعدين إلى ديارهم، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وإنهاء فترة الانتقال، وانتخاب مجلس تأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وتطهير جهاز الدولة من العناصر المعادية لثورة 14 تموز. (20)
لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران، حيث كان قد اندلع تمرد قام بها كبار الإقطاعيين، بقيادة الإقطاعيين الكبيرين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند، إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية، وعميلها [ شاه إيران] زعزعة النظام الجديد في العراق تمهيداً لإسقاطه. (20)
لكن من المؤسف أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، وزعيمه الملا مصطفى البارزاني، ركبوا نفس الموجة التي ركبها رشيد لولان، وعباس مامند، وحملوا السلاح بوجه السلطة، دون أن يقدروا دوافع تلك الحركة، والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، مغلّبين التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية.
كما أن عبد الكريم قاسم ركب رأسه، ورفض اللجوء إلى الحوار، وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول للأزمة السياسية التي كانت تعصف بالبلاد، وظن أن اللجوء إلى السلاح سينهي الأزمة خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963.
أستهل الحزب الديمقراطي الكردستاني صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 1961، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون الأكراد باحتلال مناطق واسعة من كردستان، فكان رد السلطة دفع قطعات الجيش في 9 أيلول، لضرب التجمعات الكردية مستخدمة كافة الأسلحة، والطائرات، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان، واستمرت المعارك حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، وتبين فيما بعد أن الحزب الديمقراطي الكردستاني قد تعاون مع انقلابيي 8 شباط حيث كانت الاتصالات بينهم مستمرة قبل الانقلاب، كما شارك الطلبة الأكراد في الإضراب الذي أعلنه البعثيون قُبيل وقوع الانقلاب.
لقد وقع قادة الحركة الكردية في خطأ جسيم آخر، عندما وضعوا أيديهم بأيدي أولئك الفاشيين ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظنناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية على أيدي أولئك الانقلابيين القوميين والبعثيين الفاشيين المتعصبين.
لقد كان موقفهم هذا، أقل ما يقال عنه، أنه موقف لا ينم إلا عن قصر نظر سياسي كبير، وعن جهل بطبيعة حزب البعث ، والقوى القومية المتعصبة، الذين لم يكّنوا يوماً المحبة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.
وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط ، حتى بادر الانقلابيون في 10 حزيران 1963 إلى شن حملة شعواء على الشعب الكردي لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي، و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي .
 لقد تمزقت الوحدة الوطنية، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها، ومع السلطة، جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق والصراع، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء.
ولاشك أن عبد الكريم قاسم يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تلك الأخطاء، لأنه كان على قمة السلطة، وكان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل إعادة اللحمة للصف الوطني، ومعالجة المشاكل، والتناقضات التي نشأت، والتي يمكن أن تنشأ مستقبلاً  بروح من الود والتفاهم، والمصلحة العامة لشعبنا ووطننا، والتحلي بإنكار الذات، وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح.
كان بإمكانه أن يعمل على إنهاء فترة الانتقال، ويجري انتخاب المجلس التأسيسي، وسن الدستور الدائم للبلاد، وإرساء الحكم على أسس ديمقراطية صلبة، ولو فعل ذلك لتجنّب، وجنّب الشعب العراقي كل تلك الويلات والمصائب، والمصير المظلم الذي حلّ بالبلاد على أيدي انقلابيي 8 شباط 1963، وعلى أيدي كل الأنظمة التي حكمت البلاد منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، وبوجه خاص نظام الدكتاتور صدام حسين الذي أغرق العراق بالدماء، وملأ أرض العراق بالقبور الجماعية.


التوثيق
(17)صحيفة اتحاد الشعب ـ العدد 131 في 29 حزيران 1959 .
(18)كردستان والحركة القومية الكردية ـ جلال الطالباني ـ ص 278 .
(19)المصدر السابق  ـ ص  288 ـ 296 .
(20)ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 255 .



328
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 17
   
حامد الحمداني                                                15/11/2009
         
ثالثاً:عبد الكريم قاسم يوجه ضرباته للحزب الشيوعي:

بدأ عبد الكريم قاسم، بعد أن أرعبته مسيرة الأول من أيار، يخطط لكبح جماح الحركة الشيوعية في العراق، وجاءت أحداث الموصل وكركوك لتعطي له المبرر لبدء حملته الشعواء ضد الحزب عبر خطاباته المتلاحقة، والتي كان يهدف منها إلى تشويه سمعة الشيوعيين، متهماً إياهم بقوله أنهم أسوأ من هولاكو وجنكيز خان  اللذان دمرا بغداد! ، وسفكا دماء مئات الألوف من أبنائها! ، ليتخذ من ذلك الحجة لتقليم أظافر الحزب الشيوعي، وتجريده من أسباب قوته، وإنزال الضربات المتلاحقة به، ومن أجل تحقيق هذا الهدف اتخذ العديد من الإجراءات التي كان أهمها ما يلي:
أولاً ـ حل المقاومة الشعبية:
كان أول ما فكر به عبد الكريم قاسم لتحجيم الحزب الشيوعي، هو تجريده من أقوى سلاح يمتلكه، المتمثل بهيمنته على قوات المقاومة الشعبية، فقد بدا واضحاً، وبشكل خاص، بعد وقوع انقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل، أن المقاومة الشعبية فرضت سيطرتها على الشارع العراقي، وفي كافة المدن العراقية، وكان واضحاً أيضاً أن الهيمنة الحقيقية على تلك القوات كانت بيد الشيوعيين، وأصدقائهم، وعلى ذلك أقدم عبد الكريم قاسم على الخطوة الأولى المتمثلة في سحب السلاح من قوات المقاومة الشعبية.
وبعد إن تم تجريد المقاومة من سلاحها، أصبح من اليسير على قاسم أن يصدر قرار حلها، وهذا ما تم بالفعل، وخلال فترة وجيزة.
رضخ الحزب الشيوعي للقرار، فقد كان الحزب قد اتخذ سياسة التراجع، حرصاً منه   ـ كما كان يظن ـ على العلاقة مع عبد الكريم قاسم،  لكن تلك السياسة لم تجلب ِللحزب نفعاً، فبقدر ما كان الحزب يتراجع، بقدر ما كان عبد الكريم قاسم يندفع في إجراءاته ضده.
لكن الخسارة الحقيقية الكبرى الناجمة عن إجراءات قاسم كانت ليس للحزب الشيوعي وحده، وإنما للثورة، ولقاسم نفسه، والذي دفع حياته ثمناً لتلك الأخطاء، فلو لم يلجأ قاسم إلى حل المقاومة الشعبية، ومحاربة الحزب الشيوعي، لما استطاع انقلابيي 8 شباط  تنفيذ جريمتهم بحق الشعب والوطن عام 1963.


ثانياًـ تصفية قيادات المنظمات،والاتحادات،والنقابات الوطنية

كانت خطوة عبد الكريم قاسم التالية، بعد حل المقاومة الشعبية، تتمثل بسحب كافة المنظمات الجماهيرية، واتحاد النقابات، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة وكافة النقابات المهنية، كنقابة المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وسائر المنظمات الأخرى، من أيدي الشيوعيين، لكي يجرد الحزب الشيوعي من جماهيريته في تلك المنظمات والاتحادات والنقابات ذات التأثير الكبير على سير الأحداث.
لم يكن عبد الكريم قاسم، ولا البرجوازية الوطنية، المتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي، بقادرين على استقطاب تلك المنظمات والاتحادات، والنقابات، والسيطرة عليها، فكانت النتيجة أنْ وقعت جميعها تحت سيطرة أعداء الثورة، والمتربصين بعبد الكريم قاسم نفسه، وبالحزب الشيوعي، سند الثورة العنيد والقوي.
لقد فسح عبد الكريم قاسم المجال واسعاً أمام تلك القوى، من بعثيين، ومدعي القومية من الرجعيين، وأذناب الاستعمار، لكي يسيطروا سيطرة كاملة على تلك المنظمات والاتحادات والنقابات بأسلوب من العنف والجريمة لم تعرف له البلاد مثيلاً من قبل.
كانت العصابات البعثية والقومية، وقد لفّت حولها كل العناصر الرجعية،  تترصد لكل من يبغي الوصول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب قيادات تلك المنظمات والاتحادات والنقابات بأسلحتها النارية، وسكاكينها، وعصيها، وحجارتها لدرجة أصبح معها من المتعذر حتى للمرشحين الديمقراطيين والشيوعيين الوصول إلى صناديق الاقتراع، والإدلاء بأصواتهم، أليست هذه هي الديمقراطية التي أرادها عبد الكريم قاسم؟
أن قاسم، شاء أم أبى، قد وضع السلاح بأيدي أعداء الثورة والشعب، لكي يتم نحر الجميع يوم الثامن من شباط 1963. (6)

ثالثاً ـ تصفية القيادات الوطنية في الجيش،والجهازين الإداري والأمني

كانت الخطوة الثالثة لعبد الكريم قاسم تتمثل في تصفية نفوذ الحزب الشيوعي في الجيش، وفي الجهازين الإداري والأمني، فقد قام قاسم بحملة واسعة جرى خلالها إحالة أعداد كبيرة من العناصر الشيوعية، أو العناصر المؤيدة للحزب الشيوعي إلى التقاعد، وأحلّ محلهم عناصر إما أنها انتهازية، أو معادية للثورة، في صفوف الجيش، وجهازي الشرطة والأمن، والجهاز الإداري، كما أبعد أعداداً كثيرةً أخرى من المناصرين للحزب الشيوعي إلى وحدات غير فعالة، كدوائر التجنيد، والميرة، أو جرى تجميدهم في إمرة الإدارة، أو تم نقلهم إلى وظائف مدنية ثانوية، بالإضافة إلى اعتقال أعداد أخرى منهم.
ولم يكتفِ قاسم بكل ذلك، بل التفت إلى الكليات، والمدارس، ليزيح كل العناصر الشيوعية، ومناصريهم من مراكزهم الإدارية، وليعيد تسليمها إلى تلك العناصر الحاقدة على الثورة، والتي وقفت منذ اللحظة الأولى ضدها، وكانت أداة طيعة بيد السلطة السعيدية السابقة، وهكذا مهد قاسم السبيل للرجعية، والقوى المعادية للثورة لاغتيالها، واغتيال آمال الشعب العراقي وأحلامه التي ناضل طويلاً من أجلها، وكان باكورة نتائج السياسة التي سار عليها عبد الكريم قاسم وقوع محاولة اغتياله هو بالذات، ومحاولة اغتصاب السلطة في 7 تشرين الأول 1959،على أيدي زمر البعثيين في رأس القرية بشارع الرشيد. (7)

رابعا: محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم :

في 7 تشرين الأول 1959، جاء أول الغيث من القوى المعادية للثورة وقيادتها، ففي ذلك اليوم جرت محاولة خطيرة لاغتيال عبد الكريم قاسم في رأس القرية بشارع الرشيد، وهو في طريقه إلى بيته في العلوية دون حماية، حيث كان يرافقه مرافقه الخاص [ قاسم الجنابي] بالإضافة إلى سائقه فقط.
قام بتدبير المحاولة حزب البعث، بالتعاون مع جانب من القوميين المتعاطفين معه،  لكن من المؤسف أن تكون للجمهورية العربية المتحدة يدُ فيها.
فقد ذكر [علي صالح السعدي] أمين سر حزب البعث، في صحيفة[نضال البعث] في الصفحة 17، أن فؤاد الركابي الذي كان أمين سر الحزب آنذاك، تلقى بواسطة  [خالد علي الصالح ] و[ أياد سعيد ثابت ] مبلغ [ 7000 جنيه مصري] من الملحق العسكري المصري، العقيد[عبد المجيد فريد] لتسهيل عملية تصفية عبد الكريم قاسم جسدياً. (8)
أصيب عبد الكريم قاسم بعدة رصاصات، في كتفه وصدره، وقُتل سائقه، وجُرح مرافقه [ قاسم الجنابي]، وتم نقل عبد الكريم قاسم إلى مستشفى السلام على الفور، حيث اُجريت له عمليات جراحية لاستخراج الرصاصات من جسمه، ومكث في المستشفى فترة من الزمن قبل أن يتماثل للشفاء.
وفي أثناء تبادل إطلاق النار بين المهاجمين من جهة، وعبد الكريم قاسم ومرافقه من جهة أخرى، قتل أحد المهاجمين البعثيين، المدعو [عبد الوهاب الغريري]، واستطاع المحققون من التوصل إلى كل المدبرين، والمساهمين، والمنفذين لتلك المحاولة، التي تبين من سير التحقيقات إنها لم تكن تستهدف حياة عبد الكريم قاسم وحده، بل كان هناك مخطط واسع للاستيلاء على السلطة، والانتقام من القوى الديمقراطية، وإغراق البلاد بالدماء.
إلا أن سرعة تحرك الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية الأخرى، وجماهير الشعب الغفيرة، ونجاة عبد الكريم قاسم من الموت بتلك المحاولة، حال دون تنفيذ بقية المؤامرة التي تبين اشتراك عدد من كبار الضباط فيها، ومن جملتهم رئيس مجلس السيادة [نجيب الربيعي] الذي توجه إلى وزارة الدفاع، مقر عبد الكريم قاسم، وقد لبس بزته العسكرية، وهو محال على التقاعد قبل الثورة، لكن سيطرة العناصر الوطنية على الوزارة أسقط في يده، واستطاعت السلطة إلقاء القبض على ما يقارب 75 فرداً من المتآمرين، فيما هرب عدد آخر منهم إلى سوريا، وكان من بينهم [صدام حسين] أحد المشاركين الفعليين في تنفيذ محاولة الاغتيال.
لقد كان دور الحزب الشيوعي في إفشال مخططات القوى الرجعية، وأسيادهم الإمبرياليين مشهوداً، لقد وقف إلى جانب عبد الكريم قاسم، يذود عن سلطته، على الرغم من كل ما أصابه منه، ولم يفكر الحزب في استغلال الفرصة، والوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك في مثل ذلك اليوم، لفعل ونجح بكل يسرٍ وسهولة، فقد كان كل شيء تحت سيطرته في ذلك اليوم.
لكن الحزب الشيوعي بقي مخلصاً لعبد الكريم قاسم، معتبراً إياه قائداً وطنياً معادي الاستعمار أولاً، ومعتبراً ما أصابه منه لم يكن سوى مجرد أخطاء ثانياً، ومعتقداً أن الظروف المستجدة سوف تؤكد له خطأ سياسته ومواقفه ثالثاً.
 إلا أن عبد الكريم قاسم، الذي خرج من المستشفى، بعد شفائه عاد من جديد إلى نفس سياسته السابقة تجاه الحزب الشيوعي، ساعياً إلى إضعافه وتحجيمه، دون الاتعاظ بالتجربة الخطيرة التي مرً بها لتوه، بل على العكس من ذلك لم يمض ِوقت طويل حتى أصدر عبد الكريم قاسم قراراً بالعفو عن المجرمين الذين أدانتهم محكمة الشعب، وقائلاً قولته المعروفة { عفا الله عما سلف }.
 لكن عفوه ذاك كان مخصصاً لأولئك المجرمين، وأعداء الشعب والثورة ومستثنياً كل الوطنيين المخلصين، الذين زج بهم في السجون، بل وأكثر من ذلك صادق في الوقت نفسه على تنفيذ حكم الإعدام بعضو الحزب الشيوعي [منذر أبو العيس] وحدد يوم تنفيذ الإعدام ‎في صباح اليوم التالي.
 إلا أن المظاهرة الجماهيرية الكبرى التي أحاطت بوزارة الدفاع، مقر عبد الكريم قاسم، أجبرته على إيقاف التنفيذ، وبقي الشهيد أبو العيس في السجن حتى وقوع انقلاب 8 شباط 63، حيث نفذ الإنقلابيون حكم الإعدام فيه.

خامساً:عبد الكريم قاسم يحاول تجميد نشاط الحزب الشيوعي 

1 ـ في محاولة من عبد الكريم قاسم لاحتواء الحزب الشيوعي، توجه بطلب إلى الأحزاب السياسية لتجميد نشاطها بحجة أن العراق يمرّ بفترة انتقال، متناسياً أن الأحزاب السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني كان لها الدور الكبير في التهيئة والإعداد لثورة 14تموز، وتقديم الدعم الكامل والسريع لها حال انبثاقها  مما أدى إلى شل قوى النظام السابق، ومنعه من القيام بأي تحرك ضد الثورة.
كان هناك في الحقيقة ثلاثة أحزاب تعمل بصورة علنية بعد انسحاب القوى القومية والبعثية من السلطة، ولجوئها إلى العمل السري، وهذه الأحزاب هي الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان قصد عبد الكريم قاسم من طلبه ذاك حرمان الحزب الشيوعي من نشاطه العلني، بعد أن جرده من سلطانه على المنظمات المهنية والنقابات والاتحادات العمالية والفلاحية  والطلبة.
واستغل عبد الكريم قاسم مناسبة عيد العمال العالمي في الأول من أيار ليلقي خطاباً يدعو فيه على وقف النشاط الحزبي في فترة الانتقال قائلا:
{إن التكتلات الضيقة والحزبية والأحزاب في هذا الوقت لا تفيد البلد وتجعله في مأزق حرج . إن القصد من ذلك هو تفريق الصفوف، وضرب الواحد منا بالآخر  إننا في عهد انتقال، وقد صممنا أن نصون مكاسب ثورتنا مهما كلف الأمر.(9)
كان عبد الكريم يقصد في خطابه هذه الحزب الشيوعي حيث لم يكن يمارس على الساحة النشاط السياسي العلني سوى الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الوطني الديمقراطي الذي سارعت  قيادة اليمينية، وقد سرها ذلك الطلب، منتهزة فرصة وجود زعيم الحزب [ كامل الجادرجي] خارج العراق في رحلة للاستشفاء في موسكو، معلنة قرارها بإيقاف نشاط الحزب تلبية لدعوة عبد الكريم قاسم مستهدفة من ذلك إحراج الحزب الشيوعي، ودق إسفين جديد بينه وبين عبد الكريم قاسم.
 لكن الحزب الشيوعي تجاهل الطلب هذه المرة، وشن حملة واسعة في جملة من المقالات التي طلعت بها صحيفة الحزب [اتحاد الشعب]على ذلك الطلب، وعلى الجناح اليميني في الحزب الوطني الديمقراطي لقراره بتجميد نشاط الحزب، وأستمر الحزب الشيوعي على نشاطه، رافضاً أي تجميد. (10)

أما الأستاذ [كامل الجادرجي ] زعيم الحزب فقد وجه نقداً شديداً للقيادة اليمينية للحزب، عند عودته إلى بغداد، على قرارها بتجميد نشاط الحزب، وأدى ذلك الموقف إلى حدوث تصدع كبير في قيادة الحزب، وخاصة بعد ما طلب الأستاذ الجادرجي من عضوي الحزب في الوزارة [ محمد حديد] و[هديب الحاج حمود]، الاستقالة من الوزارة، ورفض الوزيران طلب زعيم الحزب، مما دفع الأستاذ الجادرجي إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب وعضويته، واحتجاب صحيفة الحزب [صدى الأهالي]، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد، واشتداد التناحر الحزبي. (11)

2ـ عبد الكريم قاسم يصدر قانون الأحزاب، ويرفض إجازة الحزب الشيوعي: (12)
نتيجة لعدم التزام الحزب الشيوعي بالطلب الذي دعا إليه عبد الكريم قاسم، بتجميد نشاط الأحزاب السياسية، محاولة منه منع الحزب الشيوعي من ممارسة نشاطه السياسي، أقدم على إصدار قانون الأحزاب والجمعيات رقم ،1 والذي نشر في الوقائع العراقية في 2 كانون الثاني 1960، بدعوى تنظيم الحياة الحزبية في البلاد  وتبين بعد ذلك  أن الهدف من إصداره كان يرمي إلى حرمان الحزب الشيوعي من إجازة ممارسة النشاط السياسي بصورة قانونية.
  فعلى أثر صدور القانون تقدم عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي زكي خيري بطلب تأسيس الحزب. (13)
 كما تقدم كل من الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والحزب الجمهوري، وأحزاب دينيةأخرى، بطلباتهم لإجازة أحزابهم، إلا أن الحزب الشيوعي فوجئ باعتراض وزارة الداخلية على ميثاق الحزب، طالبة إجراء تغير، وحذف لعدد من العبارات الواردة في الميثاق، في حين وافقت على إجازة الحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني.
ومع ذلك فقد أعاد الحزب صياغة ميثاقه من جديد، وأجرى التغيرات التي طلبتها وزارة الداخلية، إلا أن الحزب فوجئ مرة أخرى بحكومة عبد الكريم قاسم تجيز حزباً مسخاً بزعامة [ داؤد الصايغ] يحمل أسم الحزب الشيوعي العراقي، وضمت هيئته المؤسسة عددا من الشخصيات غير المعروفة لدى الشعب العراقي وهم:(13)
1 ـ داؤد الصائغ        2 ـ إبراهيم عبد الحسين      3 ـ جميل العلوي       
 4 ـ زكية ناصر        5 ـ كاظم الشاوي              6 ـ سالمة جاسم               
7 ـ عجاج خلف        8 ـ عبد محسن                  9 ـ كاظم محمد     
 10 ـ جاسم محمد      11 ـ سليم شاهين
غير أن ستة من هؤلاء ما لبثوا أن استقالوا من الحزب، بعد أن أدركوا أن في الأمر مؤامرة على الحزب الشيوعي  لمنع نشاطه. أوقع انسحابهم من الهيئة المؤسسة داؤد الصايغ والسلطة في حيرة،لكن السلطة اسرعت في اختيار بديل عنهم  من العناصر النكرة، التي لا يعرف أحدُ عنهم  أي تاريخ نضالي، وقيل أن عدد منهم من رجال الأمن، في حين جمع الحزب الشيوعي أكثر من 360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.
لقد كان عبد الكريم قاسم قد صمم على عدم منح الحزب الشيوعي الإجازة، لكي يصبح الحزب بموجب القانون غير شرعي، وبالتالي خارجاً على القانون، وليتخذ من ذلك ذريعة لضربه، ومطاردة رفاقه، ولم يدرك قاسم أنه بعمله هذا، إنما يوجه السهام إلى صدره، وصدر الثورة.
وهكذا فقد تم رفض طلب إجازة الحزب مجدداً، ولكن هذه المرة بحجة أن هناك حزب شيوعي مجاز بهذا الاسم.
ومع ذلك تدارست قيادة الحزب الوضع، واتخذت قراراً بتقديم طلب جديد باسم [اتحاد الشعب]، لكن طلبه رفض مرة أخرى من قبل وزارة الداخلية، عند ذلك أدركت قيادة الحزب أن قرار عبد الكريم قاسم لا رجعة فيه، ولم يحاول الحزب الاعتراض لدى محكمة التمييز ـ حسب نص القانون ـ حيث وجد  أن لا فائدة من ذلك، فقد عقد عبد الكريم قاسم العزم على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه بصورة قانونية، وبالتالي ملاحقة رفاقه من قبل الأجهزة الأمنية.(14)

3 ـ السلطة ترفض إجازة الحزب الجمهوري:
 
لم يكتفِ عبد الكريم قاسم وحكومته برفض إجازة الحزب الشيوعي، بل تعدى ذلك إلى رفض إجازة الحزب الجمهوري الذي كان قد تقدم بطلب تأسيسه في 12 شباط 1960، نخبة من الشخصيات السياسية المشهود لها بالوطنية، وهم السادة:

1ـ عبد الفتاح إبراهيم                   12 ـ الشاعر مهدي الجواهري
2 ـ أحمد جعفر الأوقاتي                13 ـ الدكتور صديق الأتروشي   
 3 ـ الدكتور عبود زلزلة               14 ـ المهندس عبد الرزاق مطر           
 4 ـ الدكتور طه باقر                   15 ـ عبد الحميد الحكاك         
 5  ـ  صالح الشالجي                   16 ـ  الدكتور عبد القادر الطلباني   
6 ـ رفيق حلمي                          17 ـ الدكتور عبد الصمد نعمان
 7 ـ جلال شريف                        18 ـ الدكتور عبد الأمير الصفار
 8 ـ حسن الأسدي                       19 ـ عبد الحليم كاشف الغطاء
 9 ـ شاكر الحريري                     20 ـ حسن جدوع   
 10 ـ نيازي فرنكول                    21  ـ نايف الحسن
11 ـ سعيد عباس                        22 ـ مهدي فريد الأحمر 
                                              23 ـ سليم حلاوي

  غير أن عبد الكريم قاسم رفض إجازة الحزب المذكور، بحجة أنه يضم عناصر ماركسية لها علاقات طيبة بالحزب الشيوعي، وأصرّ على مواصلة السير في الطريق الخاطئ، الذي أبعده عن جماهير الشعب وقواه الوطنية، وترك نفسه أعزلاً  أمام قوى الردة التي أخذت تتحين الفرصة لتوجيه ضربتها له، ولثورة الرابع عشر من تموز.


4 ـ إجازة الحزب الوطني الديمقراطي :  

 في 9 كانون الثاني 1960، تقدم محمد حديد ورفاقه بطلب تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، وقد ضمت هيئته التأسيسية كل من:
1 ـ محمد حديد               2  ـ حسين جميل            3 ـ هديب الحاج حمود
4 ـ جعفر البدر               5 ـ عواد علي النجم         6 ـ خدوري خدوري
7 ـ مظهر العزاوي          8 ـ عبد الله عباس           9 ـ نائل سمحيري
10 ـ محمد السعدون        11 ـ سلمان العزاوي        12  ـ عراك الزكم
13 ـ يوسف الحاج الياس  14  ـ الدكتور حسن زكريا               
 
وهكذا جاءت الهيئة المؤسسة للحزب خالية من قائد الحزب، الشخصية الوطنية البارزة الأستاذ [ كامل الجادرجي ]، وذلك بسبب الخلاف الحاصل مع زعيم الجناح اليميني في الحزب [ محمد حديد] عندما طلب منه ومن رفيقه [ هديب الحاج حمود] الاستقالة من الوزارة ورفضا ذلك، وقد تمت إجازة الحزب دون تأخير.

5 ـ إجازة الحزب الديمقراطي الكردستاني:

في 9 كانون الثاني 1960، تقدم السيد مصطفى البارزاني بطلب تأسيس الحزب [الديمقراطي الكردستاني] إلى وزارة الداخلية، وقد ضمت هيئته المؤسسة كل من السادة :
1 ـ مصطفى البارزاني       2 ـ إبراهيم أحمد        3 ـ عمر مصطفى
4 ـ نوري صديق شاويس    5 ـ علي عبد الله        6 ـ صالح اليوسفي
7 ـ ملا عبد الله إسماعيل    8 ـ حلمي علي شريف  9 ـ إسماعيل عارف
10 ـ شمس الدين المفتي


وقد تمت الموافقة من قبل وزارة الداخلية على الطلب دون تأخير، أو اعتراض على ما ورد في ميثاق الحزب، حيث أشار الميثاق إلى إيمان الحزب بالماركسية اللينينية، وهي نفس العبارة التي اعترضت عليها وزارة الداخلية، عندما قدم الحزب الشيوعي طلبه بإجازة الحزب، وهذا ما يؤكد أن اعتراضات وزارة الداخلية على ميثاق الحزب لم تكن سوى ذريعة لحرمانه من ممارسة نشاطه السياسي بصورة رسمية.


6 ـ إجازة الحزب الإسلامي العراقي:
في 2 شباط تقدمت مجموعة من العناصر الرجعية، المتخفية وراء رداء الإسلام بطلب تأسيس حزب جديد بأسم [ الحزب الإسلامي العراقي ]، وقد ضمت هيئته المؤسسة كل من :
    1 ـ إبراهيم عبد الله شهاب                 2 ـ نعمان عبد الله       
    2ـ صبري محمود الليل                    4 ـ وليـد  الأ عظمي     
    5 ـ إبراهيم منير المدرس                  6 ـ فليح حسن الصالح     
    7 ـ حميد الحاج حمد ذهبية                8 ـ عبد الجليل إبراهيم 
9 ـ فاضل دولان                            10 ـ جاسم العاني
11 ـ محمد اللامي                          12 ـ يوسف طه     
             
وقد تضمن منهاج الحزب، العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية، ومحاربة الإلحاد والأفكار والمفاهيم الشيوعية!!، ومعاداة الأفكار الديمقراطية!!.
وفي مسرحية واضحة رفضت وزارة الداخلية إجازته، في عملية تمثيلية مكشوفة، مستندة إلى كون الحزب لا يؤمن بالأفكار الديمقراطية، ولا يسير في خط الثورة، إلا أن هيئته المؤسسة اعترضت لدى محكمة تمييز العراق التي أبطلت قرار وزارة الداخلية، وسمحت لها بممارسة النشاط السياسي، في تحدي لقرار الحكومة!!، وكان نشاطه منصباً على محاربة الحزب الشيوعي الذي سعى عبد الكريم قاسم لتهميشه وإضعافه وضربه.
أصدر الحزب صحيفته [الحياد] التي ركزت جهدها لمحاربة الشيوعية بادئ الأمر  ولكنها تحولت فيما بعد نحو مهاجمة ثورة 14 تموز، وعبد الكريم قاسم بالذات، حيث وصفت حكمه بكونه حكماً استبدادياً عسكرياً، مما أضطر عبد الكريم قاسم إلى إلغاء إجازته فيما بعد.

7 ـ رفض إجازة حزب التحرير الإسلامي :

بتاريخ 12 شباط 1960 ، تقدمت مجموعة أخرى من الإسلاميين بطلب تأسيس حزب سياسي جديد باسم [ حزب التحرير ]، وهو حزب لا يختلف في أهدافه وتوجهاته عن الحزب الإسلامي، لكن وزارة الداخلية رفضت الطلب، وقد ضمت هيئته المؤسسة كل من:
1 ـ عبد الجبار عبد الوهاب                 2 ـ محمد عبيد البياتي         
3 ـ عبد الجبار حسين  الشيخلي            4 ـ غصوب يونس الجبوري 
 5 ـ صالح عبد الوهاب بكر                 6 ـ علي السيد فتحي
7 ـ محمد سليم الكواز                       8 ـ عبد الهادي علي النعيمي   
9 ـ حسن سلمان النعيمي                    10 ـ أحمد حامد الإبراهيمي

سادساً:انشقاق الحزب الوطني الديمقراطي وحديد يؤلف الحزب الوطني التقدمي: 
         
تفاقمت الخلافات بين أقطاب الجناحين، اليميني واليساري داخل الحزب الوطني الديمقراطي بسبب المواقف التي وقفها جناح محمد حديد من مسألة تجميد نشاط الحزب، بناء على طلب عبد الكريم قاسم، أثناء غياب رئيس الحزب الأستاذ كامل الجادرجي عن العراق، مما دفع الجناح اليساري في الحزب إلى إعلان عدم اعترافه بقرار التجميد، معلناً عزمه على مواصلة نشاط الحزب، ومتحدين قرار القيادة اليمينية، وكان على رأس هذا الجناح كل من السادة :
1 ـ عبد الله البستاني         2 ـ عبد المجيد الونداوي     3 ـ علي عبد القادر
4 ـ نايف الحسن             5 ـ حسان عبد الله مظفر     6 ـ ناجي يوسف
7 ـ علي جليل الوردي      8 ـ حسين أحمد العاملي      9 ـ سليم حسني
10 ـ عادل الياسري  (15)

تصاعدت الأزمة بين الجناحين عندما عاد الجادرجي إلى بغداد، ووجه انتقاداً شديداً لقرار التجميد، و لمحمد حديد، نائب رئيس الحزب، طالباً منه ومن زميله هديب الحاج حمود الإقالة من الوزارة، بعد إقدام عبد الكريم قاسم على تنفيذ حكم الإعدام بالضباط المشاركين في محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل،  ولعدم امتثال الوزيرين لطلبه، سارع الجادرجي  إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب، وعضويته معاً.
كان لقرار الجادرجي بالاستقالة أثر كبير على تفاقم الأزمة بين الجناحين داخل الحزب، وخصوصا بعد فشل المساعي التي بذلها الجناح اليساري لعودة الجادرجي لقيادة الحزب، وتباعدت مواقف الجناحين عن بعضهما، نظراً لما يكنه قادة الجناح اليساري للحزب من احترام وتقدير لشخص الجادرجي، واعتزازاً بقيادته التاريخية للحزب.
وبسبب تفاقم الأزمة داخل الحزب، أقدم جناح محمد حديد على تأسيس حزب جديد باسم [الحزب الوطني التقدمي]، وتقدم بطلب إجازة الحزب في 29 حزيران 1960 وضمت هيئته المؤسسة كل من السادة : (16)

1ـ  محمد حديد                 2 ـ خدوري خدوري            3 ـ محمد السعدون
4 ـ نائل سمحيري             5 ـ عراك الزكم                 6 ـ سلمان العزاوي
7 ـ عباس حسن جمعة       8 ـ رجب علي الصفار          9 ـ د.جعفر الحسني
10 ـ د. رضا حلاوي        11 ـ عبد الأمير الدوري        12 ـ عباس جودي
13 ـ حميد كاظم الياسري   14 ـ عبد الرزاق محمد 

وقد تمت إجازة الحزب دون أي تأخير، واستمرت قيادة الحزب في دعم سياسة عبد الكريم قاسم، وخاصة فيما يتعلق بمواقفه من الحزب الشيوعي.
 ومن الملاحظ أن أغلبية قيادة الحزب جاءت من بين العناصر البرجوازية، ومن الملاكين، ورجال الصناعة، الذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد من تنامي قوة الحزب الشيوعي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية.


التوثيق
(6)العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 258 ـ 259 .
(7)نفس المصدر السابق ـ ص 269
(8)نضال البعث ـ ص 17 ـ 1959 .
(9)مبادئ ثورة 14 تموز في خطب الزعيم ـ الجزء الأول ـ ص 80 .
(10)مذكرات بهاء الدين نوري ـ طبعة كردستان ـ 1995 ـ ص 202 ـ207 .
(11)ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 252 .
(12)الوقائع العراقية ـ العدد 283 ـ في 2 كانون الثاني 1960 .
(13)صحيفة اتحاد الشعب ـ 10 كانون الثاني 1960 .
(14)العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 252 .
(15)صحيفة الأهالي ـ 3 آذار 1960 .
(16)صحيفة البيان الناطقة باسم الحزب الوطني التقدمي ـ  30 نيسان 1960 .

ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي:
Alhamdany34@gmail.com
www.Hamid-Alhamdany.com

329
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 16

حامد الحمداني                                                    14/11/2009
الحزب الشيوعي وسلطة عبد الكريم قاسم
أولاً : العلاقات بين الحزب الشيوعي والسلطة:

1ـ إسناد الحزب الشيوعي للسلطة دون قيدٍ أو شرط منذُ 14 تموز:
من المعلوم أن الحزب الشيوعي لم يشترك في حكومة الثورة التي شُكلت صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، رغم ثقله السياسي الكبير، ورغم مساهمته الفعالة في نجاح الثورة، وإسنادها فيما بعد.
لم يطلب الحزب الشيوعي آنذاك إشراكه في السلطة بسبب الظروف الدولية الخطيرة التي كانت تحيط بالثورة، فالقوات البريطانية نزلت في الأردن، والقوات الأمريكية نزلت في لبنان، والقوات التركية تمّ حشدها على الحدود الشمالية، وكان واضحاً أن الإمبرياليين وحلفائهم في تركيا وإيران والأردن قد صُدموا بقيام الثورة التي هدمت أحد أهم أركان حلف بغداد، وأضاعت أحلامهم في ضم بقية الدول العربية إلى ذلك الحلف، وخاصة سوريا.

ولم يكن الحزب الشيوعي، ولا السلطة الثورية الجديدة يريدان مزيداً من الاستفزاز للإمبرياليين آنذاك، لكي لا تصور ثورة 14 تموز على أنها ثورة شيوعية قامت في بلد كالعراق له أهمية قصوى في حساباتهم.
 فالعراق بلد نفطي يمتلك ثاني خزين استراتيجي في العالم أولاً، ويقع على رأس الخليج ثانياً، ومعلوم أن الخليج يتسم بأهمية كبرى، بكونه أكبر مورد للنفط في العالم  لذلك كله.
 سكت الحزب الشيوعي عن المطالبة في إشراكه في السلطة، أسوةً ببقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، ولم يكتف بسكوته بل بادر منذُ الساعات الأولى لانبثاق الثورة إلى إرسال برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم  يبلغه بوضع كافة إمكانيات الحزب في خدمة الثورة وحمايتها دون قيدٍ أو شرط.
 لقد أدرك الحزب الشيوعي تماماً أن المهمة الأولى هي صيانة الثورة وحمايتها من تدخل الإمبرياليين، ونشاط الرجعيين الرامي إلى إجهاضها، وأعادت العراق الجامح إلى سيطرتهم من جديد، وهذا نص البرقية التي بعثها الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم :
سيادة رئيس مجلس الوزراء عبد الكريم قاسم المحترم:
 نهنئكم من صميم قلوبنا على خطوتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة لعهد طويل من المآسي والمحن، والتي قاسى منها شعبنا المجاهد النبيل، على يد الاستعمار وأعوانه.
إننا نعبر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية  وتطور عراقنا الحبيب، وتبوء شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحررة  الناهضة المحبة للسلام، ومواكبة الإنسانية العاملة من أجل تحررها الأبدي من الاضطهاد والاستعمار.
إن شعبنا العراقي، بعربه وأكراده، سيسجل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية، وإنه لعلى ثقة كبرى من أن قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة قوى التحرر العربية في جميع ديارها، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة، ومن قوى الحرية والسلم في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي .
إن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي تضع قوى الحزب لمؤازرتكم، وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة. (1)
                        سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
                                                 14 تموز 1958


2ـ مذكرة الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم:

لم يكتفِ الحزب الشيوعي ببرقيته المرسلة إلى عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، بل أتبعها بمذكرة إيضاحية حول السياسة التي يرى أهمية الأخذ بها لقيادة مسيرة الثورة، وهي مذكرة تعبر عن سياسة الحزب تجاه الأحداث الجارية والمستقبلية للثورة.
ركزت المذكرة على انتهاج سياسة وطنية واضحة، وذلك عن طريق الإعلان الرسمي لانسحاب العراق الفوري من حلف بغداد، وإلغاء كافة الاتفاقات المعقودة مع بريطانيا والولايات المتحدة، والتي تخل بسيادة العراق واستقلاله، وتتعارض مع سياسة الحياد الإيجابي والتعاون مع جميع الدول على قدم المساواة، من أجل مصلحة الشعب والوطن.
كما دعت المذكرة إلى إعلان الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، وإلى تبادل التمثيل الدبلوماسي مع البلدان الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وقيام علاقات اقتصادية وثقافية وغيرها، مما يعزز موقف العراق، ويحمي مصالحه.
كما دعت المذكرة إلى فرض رقابة حازمة على مؤسسات شركات النفط والبنوك، وكافة المؤسسات الاقتصادية الكبرى، ذات العلاقة الكبيرة بحياة الشعب، وحماية اقتصاد البلاد من مؤامرات الإمبريالية وعملائها في الداخل، الهادفة إلى تخريب الاقتصاد الوطني، ومنعه بشتى الوسائل والسبل من التطور والنمو، لخدمة طموحات الشعب والثورة.
كما دعت المذكرة إلى انتهاج سياسة وطنية أساسها الثقة بالشعب، وإطلاق الحريات الديمقراطية، والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية بتأليف الأحزاب  والجمعيات، والمنظمات الجماهيرية، وحرية الصحافة، والعمل على إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين بأسرع وقت ممكن، وتكوين فصائل المقاومة الشعبية، وتسليحها لتكون درعاً واقياً للثورة، جنباً إلى جنب مع جيشنا المقدام، وتطهير جهاز الدولة والأمن والشرطة من العناصر الفاسدة، والمعادية للثورة.
كما دعا الحزب الشيوعي إلى الاهتمام بالأعلام، ووضعه في أيدي أمينة على مصالح الشعب والوطن، نظراً للدور الهام الذي يلعبه الإعلام في الدفاع عن مصالح الشعب وحماية الثورة، وفضح ألاعيب المستعمرين، وأذنابهم في الداخل والخارج. (2)
لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام،  فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة  ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية، محاولاً باسم الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة التآمر على الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح وعلى المكشوف.
 لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة، وسيّر المظاهرات المؤيدة لعبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب الداعية إلى الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ أسلوب الإلحاق القسري، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب، ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية.

3 ـ بيان الحزب الشيوعي حول الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة 
في خضم الانقسام الذي قاده عبد السلام عارف بالتعاون مع الأحزاب القومية، في محاولة لفرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، كما كان يدعي، بادر الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان هام للشعب بعنوان {حول الاتحاد}، وجاء في البيان:
{إن الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية الأخرى، وأوساط وطنية مختلفة، وجماهير شعبية غفيرة قد أبدت رأيها حتى الآن باعتبار الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة واليمن هي خير خطوة يعمل من أجلها العراق في كفاحه القومي نحو الوحدة العربية الشاملة.
إن الحزب الشيوعي العراقي، والقوى الوطنية الديمقراطية لم ترفع شعار الاتحاد الفدرالي على اعتباطاً، ولا هي مدفوعة بعواطفها فحسب، بل أن الدراسة الموضوعية، والذاتية النزيهة لواقع شعبنا، وواقع أُمتنا، والشعور بالمسؤولية التاريخية إزاء القضية القومية العربية، ومستقبل تطورها الوطني الديمقراطي، هما العاملان الأساسيان اللذان أوصلاهما إلى رفع هذا الشعار.
كما أكد البيان أن الجمهورية العراقية الفتية تحمل معها الآن آمال جماهير شعبنا، بعربه وأكراده، وبمختلف طبقاته الاجتماعية، وتعطشها إلى الحريات الديمقراطية التي حرمها منها الاستعمار طوال عشرات السنين، بغية تمكين سيطرته عليها، ومنعها من تنظيم نفسها، والإفصاح عن إرادتها للدفاع عن حقوقها العادلة، وهي عندما تسمع بالانضمام للجمهورية العربية المتحدة تقلق أشد القلق على مصير حقوقها الديمقراطية، بسبب انعدام حرية التنظيم الحزبي والاجتماعي،  وحرية إبداء الرأي في الجمهورية العربية المتحدة.
ولا يهون عليها أن تستسلم لمستقبل لا يضمن لها حرية النشاط الوطني، السياسي والاجتماعي والفكري، والكفاح الاقتصادي في  الدفاع عن حقوقها المعيشية.
كما أن الشعب الكردي، الذي امتزجت دماء أبنائه الشجعان، بدماء أبناء الشعب العربي الميامين في الكفاح ضد عهود الظلم والطغيان، هو الأخر قلق على مصير حقوقه القومية، كشعب ينشد لنفسه بحق، أسباب التقدم والرفاه.
كما أكد البيان على أن اختلاف التطور الاقتصادي بين العراق والعربية المتحدة، والتأخر الناجم عن عهود التخلف، والسيطرة الإمبريالية، يتطلب استثمار ثروات البلاد لتطوير الاقتصاد، والرأسمال الوطني، ولتأمين الحاجات المادية الملحة لسائر جماهير الشعب، وإن إلحاق العراق بالعربية المتحدة، بالأسلوب الذي نادت به الأحزاب القومية سوف يلحق الضرر الكبير بمصالح الشعب العراقي، وسوف لا يوفر الفرص الكافية للازدهار والتطور، ولا شروطاً عادلة للتعاون الاقتصادي  نظراً لاختلاف درجات تطور كل منها. (3)

ثانياً: الحزب الشيوعي يطلب إشراكه في السلطة

في الخامس من تشرين الثاني 1958، رفع الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم مذكرة هامة دعاه فيها إلى الاعتماد على الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، مذكراً إياه بإشراك كافة أحزاب جبهة الاتحاد الوطني في السلطة باستثناء الحزب الشيوعي، وفي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة،  وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه من أجل دعم مسيرة الثورة وأهدافها.
 وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها  ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فإن من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل، وفيما يلي نص المذكرة:

1ـ مذكرة الحزب الشيوعي لعبد الكريم قاسم :(4)

سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم المحترم:
نعتقد أيها الأخ أن تجربة الحكم خلال الأشهر القلائل التي انقضت، منذُ بدء الثورة  قد أوصلتكم إلى حقائق واضحة نرجو أن تسمحوا لنا في التحدث معكم بشأنها.
إن اصطفاؤكم للحكم بعض العناصر الحزبية، ولاسيما بعض قادة الحزب الوطني الديمقراطي هو بلا شك عمل سديد، وقد برهنت التجربة على سداده، حيث قام وزيرا الحزب الوطني الديمقراطي بواجباتهما بكفاءة، وإخلاص كما نظن.
 وكان اختياركم لبعض العناصر المستقلة، في بدء الثورة، أمراً ربما وجدتم أن الظروف كانت تستلزمه وقتئذٍ. لكن سير الثورة الحثيث، بقيادتكم الواعية والنشطة  قد خلق للحكم مهمات جديدة وخطيرة، عاصرتها بعض الصعوبات الجدية، المنبعثة أساساً من نشوء تناقض بين تركيب السلطة، وبين القوى الشعبية الحقيقية التي تمثلها هذه السلطة.
ومن المعلوم أيها الأخ أن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب هي من الفلاحين والعمال، والجماهير الكادحة، وثمة تاريخ طويل من الجهاد يشهد بأن ليس في العراق حزب من الأحزاب يستطيع أن يمثل أماني وأهداف هذه الجماهير كما يمثلها حزبنا أولاً، وسائر الأحزاب والقوى الديمقراطية ثانياً.
 إن تاريخنا الحافل بالحقائق يشهد بأن هذه الجماهير قد أولت حزبنا، وسائر القوى الديمقراطية ثقتها التامة، ومنحتها حق التعبير عن مصالحها، هذا بالإضافة إلى فئات واسعة من المثقفين ترى في كفاح حزبنا تحقيقاً لأمانيها في التحرر، والازدهار.
ومما لا ريب فيه أن متابعة السير في إبعاد الممثلين الحقيقيين لهذه الجماهير، عن السلطة السياسية، سيوجد حالة من التناقض يستعصي حلها، وسينشأ من ذلك صعوبات حقيقية في إدارة شؤون السلطة، كما أتضح من تجربة الأشهر الأخيرة.
لقد كان اعتمادكم في تكوين السلطة على بعض العناصر البعيدة في أفكارها عن مشاعر الشعب، والتي لا تملك تجربة جهادية، تمكنها من التعرف على حقائق الوضع الشعبي، قد أوجد للحكم بعض الصعوبات التي لا تخفى عليكم، وأقام في طريق الثورة بعض العراقيل.
كما أن إدخالكم في السلطة بعض العناصر المشبوهة، أو الضعيفة القدرة على تفهم حقيقة الثورة، ومجاراة سيرها الحثيث، قد خلق للحكم، ولكم شخصياً، صعوبات وأعباء، نعتقد أنكم قد عانيتم منها الكثير.
ونتيجة لذلك كله، اضطررتم إلى توزيع الجهد، بدلاً من تركيزه، واضطررتم لأن تعملوا بيد واحدة، وتحجزوا الخطر باليد الأخرى، اضطررتم لأن تناموا بعين واحدة، وتتركوا الأخرى ساهرة مترقبة.
نحن نعرف ـ كما يعرف أبناء الشعب ـ أنكم أصبحتم مضطرين، بسبب هذا الوضع غير الطبيعي في تركيب السلطة، أن تكرسوا قسطاً كبيراً من جهودكم، ومن وقتكم  لرقابة المساعي المريبة، ولشل الأيدي العابثة.
كما حمّلتم أنفسكم مهمة أخذ الأعباء عن بعض المسؤولين، الذين تعوزهم الجدارة  والنية الخالصة، وكذلك عن بعض الأجهزة التي لم تبرهن على نزاهة قصدها في تثبيت كيان الجمهورية، ومسايرة سياستها الديمقراطية.
لقد أصبح واضحاً أنكم أخذتم بأيديكم جملة من المسؤوليات والمهام التفصيلية، حرصاً منكم على تحقيق أهداف الثورة، وضمان سيرها المظفر، ومما لاشك فيه أن هذه المسؤوليات والمهام لو كانت بأيدي أمينة وقديرة لما اضطررتم إلى ذلك، ولتيسّر لكم وقتٌ فسيح تستطيعون فيه التفكير والمساهمة بقسط أوفر في رسم السياسة العليا للبلاد، والتركيز على المسائل الكبرى فقط.
إننا نعلم أن رئيس الوزراء يأخذ على عاتقه الآن قسطاً كبيراً من المهام، الكثيرة والثقيلة، وإنه لهذا السبب، يحمل نفسه فوق طاقتها، ونحن على يقين بأن ذلك ليس في مصلحة الجمهورية أبداً، لأن شؤون الحكم ينبغي أن توزع على أيدٍي مخلصة وأمينة، لكي يستطيع قائد الدولة أن ينصرف إلى مسائل السياسة العليا.
إن تفسيرنا لهذا الوضع المرهق هو كما بينا وضع غير طبيعي في تركيب السلطة،  إن في العراق وضع خاص وفريد، ونحن لا نضيف إلى الحقيقة جديداً عندما نذكر أن القوى الديمقراطية في البلاد هي القوى الساحقة الكفوءة، والدرع الحقيقي لوقاية مكاسب الثورة والحكم الوطني. تلك هي الحقيقة التي برهنتها حقائق السنوات العصيبة قبل الثورة، وكشفت عنها وقائع ما بعد الثورة.
وليس اعتباطاً أن تمنح الجماهير الشعبية ثقتها المطلقة للحركة الوطنية الديمقراطية، وتتبنى شعاراتها  وأهدافها، وتذود عن سياستها. إن الجماهير الساحقة من الشعب تجنح  بقوة لا مثيل لها صوب الحركة الديمقراطية، وهي تفعل ذلك عن وعي أصيل، وإدراك واقعي سليم.
لقد تعرفت الجماهير من تجاربها المريرة أن القوى الديمقراطية إنما تمثل عن إخلاص وجدارة أعز أمانيها، ومطامحها، وإنها تضم في صفوفها صفوة من أبناء البلاد النجباء البواسل الذين لم يتلوثوا بأدران الخيانة، ولم يهادنوا المستعمر، أو استسلموا لطغيانه، ولم يطمحوا إلى أكثر من تحقيق الخير للبلاد.
تعلمون أيها الأخ  أن القوى الديمقراطية كانت ولا تزال وستظل إلى النهاية الأساس للحكم الوطني الشعبي الأصيل، والصخرة العنيدة التي تتحطم عليها مؤامرات المستعمرين، ومكائد أعداء الثورة.
 ولقد رأى الجميع بأم أعينهم أن الذين تنكبوا عن الحقيقة، وراحوا يناطحون الصخرة، لم يجنوا من وراء طيشهم غير تهشيم رؤوسهم، وارتدادهم إلى أعقابهم خاسرين، ذلك هو واقع العراق أيها الأخ.
ولذلك يصبح واضحاً أن قضية الحكم  لا يمكن أن تحل إلا بالاستناد إلى هذا الواقع  وإن أي حل آخر، لا يمكن أن ينتهي إلا إلى نتيجة واحدة، إلى أن تأخذوا على عاتقكم أعباء تفيض عن قابلية الإنسان، وفي هذه الحالة ستجدون أنفسكم في حالة من الإرهاق المستمر، تعملون بيدٍ، وتضربون باليد الأخرى، وتنامون بعينٍ، وتحرسون بالعين الأخرى.
إن الحل الوحيد، الحل الطبيعي، المنسجم مع واقع الحال في العراق، هو الحل الذي يتوجه إلى إعادة النظر في تشكيلات السلطة، على أساس الاستناد إلى مبدأ التعاون بين قيادة الحكم العليا من جهة، وبين الجبهة الشعبية، المكونة من الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والقوى الديمقراطية الجديدة في الجيش، والأوساط الديمقراطية الأخرى، والعناصر القومية النظيفة.
تلك هي الحقيقة الكفوءة المخلصة، التي تمثل عن جدارة وحق أهداف ومصالح الغالبية الساحقة من الشعب، وإن الحكم الذي يستند إلى هذه القاعدة الشعبية الواسعة والمتينة، هو الحكم الديمقراطي الصحيح، والسلطة التي تتكون على هذا الأساس هي السلطة القوية التي تتمتع بالنفوذ  والبأس، والقادرة فعلاً على قيادة الثورة نحو أهدافها ، والصمود بوجه أحداث الزمن .ثمة من له مصلحة في تجنيب سياسة البلاد عن السير في هذا الطريق القويم. إنهم يهدفون إلى تعميق التناقض في طبيعة الحكم، وإرباك مسيرة الثورة، وبالتالي إضعاف السلطة، وحفر هوة بينها وبين الجماهير الواسعة من الشعب.
إن هؤلاء الذين يضربون على وتر [الخطر الشيوعي] إنما هم أناس يرددون شعارات الاستعمار، وينفذون خططه، ومؤامراته على كيان جمهوريتنا البطلة.
إنهم يسيرون على سِنة الاستعمار، في التخريب والدس، على ذات الطريق التي سار عليها نوري السعيد، وإضرابه من الطغاة، في كل زمان ومكان.
إنهم يهوشون ويفترون ويدسون على حزبنا المنشورات والشعارات والسياسات، ويزعمون أننا إذ نضع إمكانياتنا وطاقاتنا في خدمة أهداف الثورة، وحراسة الحكم الوطني من الأخطار، إنما نسعى إلى هدف خفي ألا وهو اغتصاب السلطة وفرض النظام الشيوعي!!.
إن المرء لا يحتاج إلا إلى قليل من حسن النية، لكي يتبين أهدافنا الحقيقية في دعم الحكم الوطني، تلك هي الأهداف التي ليس من أخلاقنا أن نكتمها على أحد.
إن الشيوعيين أُناس لا يتقنون صناعات السياسة، وهم إذ ينبرون للدفاع عن حياض الثورة، ويدعمون قيادة عبد الكريم قاسم وسياسته، إنما هم يفعلون ذلك عن إيمان بأن في عملهم هذا خدمة كبرى لمصالح شعبنا، ولذلك فهم رغم كل هذه الضوضاء التي تثار حولهم، واثقون بأنفسهم  ثقة لا تتزعزع، وسيتابعون موقفهم هذا إلى نهاية الطريق، وبمزيد من الإصرار، ونكران الذات.
وثمة آخرون يدعون إلى [الاعتدال] لكنهم، رغم نياتهم الحسنة، يلتقون مع الفريق الأول في نتيجة واحدة، هي وضع السلطة في موضع صعب، لا يأتلف مع واقع العراق، وهو بالتالي يساهم في عزل السلطة عن الجماهير الشعبية الواسعة، ويضعف كفاءتها القيادي .
إن هؤلاء مثلاً، يصرون على إبعاد الشيوعيين، والتقدميين، والعناصر الديمقراطية الكفوءة عن الحكم، ذريعتهم في ذلك هو تحاشي استفزاز المستعمرين. إن الإنسان السوي لا يحتاج إلى أعمال الفكر لكي يدرك بوضوح، أن المستعمرين قد استفزوا  وروعوا وانتهى الأمر منذُ صبيحة 14 تموز.
لقد استفزوا منذُ أن دُكت هياكل نظامهم الاستعماري، وأبيد عملائهم صبيحة 14 تموز، وإن عدوهم اللدود الذي أستفزهم هو عبد الكريم قاسم وصحبه، وليس الشيوعيين وحدهم، ولذلك عملوا، وسوف يعملون كل ما في وسعهم لتحطيم النظام الذي قام على أنقاض نظامهم البائد، ومصالحهم الزائلة، وإن كانوا لم يستطيعوا حتى الآن أن يبلغوا هدفهم فليس ذلك إلا لأن يدٍ قديرة ماحقة ستلطمهم، ولأن الشعب العراقي وجيشه يقفان حارسان قويان على مصائر الوطن.
 إن تجربة سوريا ومصر وإندونيسيا وإيران والأردن وكل بلد أنتزع حريته من بين مخالب الوحش الاستعماري، تدل دلالة قاطعة على أن المستعمرين لا يرتضون بأقل من عودة نظام عبوديتهم القديم بقيادة صنائعهم وأذنابهم، كما تدل هذه التجارب على أن المراضاة، والمصانعة لا تجدي مع  المستعمرين.
 إن ثورة العراق الظافرة قد جاءت ضربة موجعة، هائلة للمستعمرين وأعوانهم، ولذلك فسيظل العراق هدفاً لمؤامراتهم وعدوانهم سواء أتجه الحكم نحو إشراك التقدميين في الحكم، أو سار في طريق المراضاة، والمصانعة.
تلك هي مسألة فوق الجدل، وفوق كل ريب. إن تهويشات عملاء الاستعمار في الداخل ضد الخطر الشيوعي المزعوم، وسعيهم المحموم لإبعاد التقدميين، والشيوعيين، والديمقراطيين، والعناصر النظيفة والكفوءة عن المساهمة في أجهزة السلطة، ليس إلا تنفيذاً أميناً لخطط الاستعمار الرامية إلى إضعاف السلطة تمهيداً لضربها، وإسقاطها.
إن دعاة " الاعتدال " و" تحاشي استفزاز العدو"، رغم نياتهم الحسنة، هم على خطأ بّين، وسيظلون ينقبون عبثاً، ودونما طائل، عن عناصر معتدلة، لا حزبية، غير مشهورة بأفكارها التقدمية، كفوءة ومخلصة  ونزيهة !!.
إن مثل هذه العناصر الفريدة موجودة فعلاً، لكنها غير موجودة إلا في أوساط الحركة الديمقراطية، وأوساط الشيوعيين، والحزب الوطني الديمقراطي، والجيش والديمقراطيين المستقلين، والقوميين الحقيقيين النظيفين.
هذا هو الطريق الوحيد والصحيح، والمؤتلف مع حقيقة الواقع. إن هذا هو الحل الجدي والصائب لمسألة الحكم. وإن الأخذ بهذا الواقع هو الذي سيرسي قواعد الحكم على أسس ديمقراطية وطيدة، ويهيئ لقيادة البلاد جهازاً كفواً، فعالاً ومخلصاً، يأخذ على عاتقة نصيبه من مهام قيادة الحكم، ويوفر لزعيم البلاد معالجة مسائل السياسة العليا للبلاد.
 إننا أيها الأخ الكريم، إذ نضع أمامكم هذه الحقائق، نرجو أن تكونوا على يقين أننا لا نفكر قط بأنفسنا، ولا نجني أي مكاسب حزبية، وإنما نفكر أولاً وقبل كل شيء بمصلحة البلاد، بنجاح الثورة، بترصين الحكم الوطني، والسير معكم نحو الظفر النهائي، هذا وتفضلوا بقبول خالص اعتزازنا، واحترامنا.
                                     المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي
                                             15 تشرين الثاني 1958


لقد كان لهذه المذكرة دوي كبير في الأوساط السياسية و للسلطة العليا على حد سواء، فالقوى القومية فسرته بأنه خطة الحزب الشيوعي في التمهيد للوثوب إلى السلطة، أما الحزب الوطني الديمقراطي، ممثل البرجوازية الوطنية في السلطة، فقد أبدى تخوفاً من تنامي قوة الحزب الشيوعي، وتأثير ذلك على مستقبل الحكم في البلاد.
 أما الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد كانت الريبة والشكوك تخالجه من تنامي قوة الحزب الشيوعي من جهة، وحبه الشديد للاستئثار بالسلطة لوحدة من جهة أخرى  ولذلك فقد تجاهل مذكرة الحزب، ولم يرد عليها، وكان على الحزب الشيوعي أن يعي ذلك منذُ ذلك الوقت.

2 ـ مسيرة الأول من أيار 1959، ومطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة
جاءت مسيرة الأول من أياربمناسبة عيد العمال العالمي، في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[إشراك الحزب الشيوعي في السلطة ] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت مئات الألوف من أعضاء ومؤيدي وجماهير الحزب، من عمال وفلاحين ومدرسين وطلاب وأطباء ومحامين ومثقفين، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم، والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بكتلة[ محمد حديد وحسين جميل ورفاقهم]، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم، وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من السلطة.
وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً أدخل بموجبه الدكتورة [ نزيهة الدليمي ]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان، والدكتور[ فيصل السامر] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد ، والدكتور[عبد اللطيف الشواف] وزيراً للتجارة.
لكن إجراء  قاسم هذا لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن،  ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي .
أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى وهي تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، و أصابها دوّار شديد، وقلق لا حدود له، حتى أن رئيس جهاز المخابرات الأمريكية آنذاك  [آلن دلس ] صرح آنذاك قائلاً:
{ إن أخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع الخطير في العراق }.
 وباشرت أجهزته على الفور تحبك الدسائس عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب الشيوعي، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.
وحقيقة القول، أن للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.
إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.
لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، ثم عاد وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم أن يوغل في مواقفه العدائية تجاه الحزب.(5)
أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة.
 لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً، بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة [الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.
 وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات.
لقد استفادت تلك القوى فائدة كبرى من مواقف قاسم العدائية تجاه الحزب الشيوعي  التي أدت إلى انعزاله عن الشعب، وعن القوى التي وقفت بكل أمانة وإخلاص إلى جانبه، وكانت محاولة عبد السلام عارف الانقلابية، ومؤامرة رشيد عالي الكيلاني   ومحاولة حزب البعث اغتيال قاسم نفسه، في رأس القرية، ومحاولة العقيد الشواف الانقلابية الفاشلة، أكبر برهان على صواب مواقف الحزب الشيوعي من تلك العناصر التي سلكت طريق التآمر منذُ الأيام الأولى للثورة.
وفي الوقت نفسه أثبتت تلك الوقائع خطأ الطريق الذي سلكه عبد الكريم قاسم، وإجراءاته المعادية للحزب الشيوعي، والتي مهدت السبيل لانقلابيي 8 شباط، لاغتيال الثورة واغتياله، وإلحاق أفدح الأضرار بالشعب العراقي والتي استمرت إلى يومنا هذا.

التوثيق
(1)   سلام عادل ـ ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد ـ الجزء الأول ـ ص 224.
(2)   المصدر السابق ـ ص 230 .
(3)   صحيفة اتحاد الشعب ـ 18 تموز 1958 .
(4)   نفس المصدر ـ في 16 تشرين الثاني 1958 .
(5)   تقرير الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوسط تموز 1959 .


ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب يؤجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي:Alhamdany34@gmail.com
          www.Hamid-Alhamdany.com

330
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 15

جامد الحمداني                                      12/11/2009



موجة الاغتيالات في الموصل

  أولاً  : الهجوم الرجعي في الموصل ودور السلطة في إذكاءه :
  ثانياً : مَنْ كان يحكم الموصل ؟
  ثالثاً ـ حملة الاغتيالات في الموصل .
 رابعاً ـ نتائج الاغتيالات ، والحملة الرجعية في الموصل .
 خامساً: ما هو موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات ؟


أولاً : الهجوم الرجعي في الموصل ودور السلطة:
لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية، فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية، أي تغيير جوهري على أوضاع الموصل، وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها من جديد، مستغلة الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص  جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي.(1)
 وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري، مرتدية رداء القومية العربية، وتحت راية الرئيس المصري عبد الناصر، وهي التي كانت حتى الأمس القريب من أشد أعدائه، ووضعت نفسها تحت تصرف العقيد الشواف، الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها. (2)
غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم، الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة، ودافعت عنها  وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها. لقد بادر عبد الكريم قاسم باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة، ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، وإحالهم إلى المجالس العرفية  وحرض الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل، وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام.
ومن جهة أخرى أقدم عبد الكريم قاسم على إلغاء المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، وأجرى تغييرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة، والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين جرى إبعادهم على اثر فشل محاولة الشواف الانقلابية إلى مراكزهم السابقة. (3)
وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، و المفتي، وغيرها من العوائل الأخرى، نشاطها المحموم  مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين  الذين كان لهم الدور الأساسي في إخماد تمرد الشواف.
و بادرت تلك العوائل، تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية والديمقراطية المؤيدة للثورة، ووجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها المئات من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية عشرات الألوف من العوائل على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها وأعمالها ووظائفها، من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة. (4)
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل، أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه، حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجرِ تحقيقاً ضد عصابات القتلة ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا، ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة مهما كانت ضعيفة وعاجزة، عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، وإلقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف  أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة، الذين بقوا مطلقي السراح، يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء، ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم  في وضح النهار .
إما أجهزة الأمن فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح، فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى، حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك، الدكتور[ عبد الوهاب حديد ]، وهو من أبناء عمومة[ محمد حديد] وزير المالية.(5)
 ولا بد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ  حركة العقيد الشواف وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963، لنتعرف على أولئك الذين كان لهم الدور البارز في تلك الأحداث؟
ثانياً: من كان يحكم الموصل؟
1 ـ مدير الشرطة ـ إسماعيل عباوي: إسماعيل عباوي من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش، الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936،ضد حكومة [ياسين الهاشمي].
 قام إسماعيل عباوي باغتيال[ جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال[ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد[مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع، ورئيس مجلس النواب، عندما وقع انقلاب الفريق [ بكر صدقي].
 أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش، بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939  بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.
  وقبل أحداث حركة الشواف بأيام أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل، لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، والسيطرة على الأوضاع في المدينة بعد دخول الجيش إليها بقيادة العقيد حسن عبود الذي عين فيما بعد آمراً للواء الخامس  بالموصل، وبقي المقدم إسماعيل عباوي مديراً لشرطة الموصل ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى للعناصر الديمقراطية والشيوعية فيها خلال ثلاث سنوات متوالية، حيث جرت حملة اغتيالات منظمة ذهب ضحيتها ما يزيد على 1000 مواطن دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات باسم مجهول!!.
2ـ متصرف اللواء ( المحافظ) ـ العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي:
متصرف الموصل العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة، في الرابع عشر من تموز 958،  حيث كان آمر الفوج الأول، في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف، الذي كان آمر الفوج الثالث  في نفس اللواء. عين الدراجي آمراً للواء العشرين  بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية، إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه،  كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم،  ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4  تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد وعُين متصرفاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى متصرفية لواء الموصل فيما بعد.
 ولاشك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم، بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على  إضعاف وعزل  عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8  شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف، بعد انقلابه على البعثتين، وزيراً للداخلية.
 لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل، شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين، وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان.
3 ـ مدير الأمن ـ  حسين العاني:
حسين العاني، كما هو معروف، من عائلة رجعية إقطاعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي ، كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً، ورغبتها في الانتقام أكبر ، وكان وجود العاني على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليون على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها، والتستر عليها وحمايتها.
كان جهاز الأمن يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح  لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً دون خوف  أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة، رغم شيوع أسمائهم، وتداولها بين الناس جميعاً.
 ولابد أن أُشير هنا لحادث جرى لي شخصياً، لكي أعطي الدليل، وبكل أمانة وصدق،على دور ذلك الجهاز في جرائم الاغتيالات .
 لقد وصلتني رسالة موقعة من قبل [شباب الطليعة العربية، لمحلتي الدواسة والنبي شيت]، وكانت الرسالة مليئة بالكلمات البذيئة، التي أخجل من ذكرها، وتهديد بالقتل القريب، حيث جاء في الرسالة:[ لقد جاء دورك، وقد حفرنا لك قبرا،ً  وسوف لن يمر وقت طويل، إلا ونكون قد دفناك فيه] .
أخذت الرسالة، مع عريضة شكوى، وتوجهت إلى متصرف اللواء، ومدير الشرطة، ومديرية الأمن، وكنت أنتظر أن يجري جهاز الأمن تحقيقاً مع مرسلي الرسالة، لكن الجهاز الأمني أرسل بطلبي دون أصحاب الرسالة.
توجهت إلى مديرية الأمن، ودخلت على المدير، و كان ضابط الأمن المدعو فاضل موجوداً في غرفته، وسبق لهذا الضابط أن اعتقلني عام 1956، وبعد أن عرفت مدير الأمن بنفسي بادرني بالسؤال عن سبب إرسال هذا التهديد بالقتل، وجرى بيني وبينه الحوار التالي أنقله حرفياً بكل  أمانة:
 سؤال :  لماذا أرسل لك هؤلاء رسالة تهديد بالقتل؟
 جواب: لماذا لا تسأل الذين أرسلوا الرسالة؟
 سؤال : يبدو أنك شيوعي، أليس كذلك؟
 جواب: وهل تبيحون قتل الشيوعيين في الشوارع، كما يجري الآن؟                    سؤال : إذاً أنت شيوعي .
 وهنا تدخل ضابط الأمن فاضل قائلاً:
 لماذا تركضون وراء الروس، الذين يفتقدون لقمة الخبز، وبناتهم عاهرات ؟ 
ثم بدأت الاستفزازات تنهال عليّ من قبل الضابطين، عندها أدركت أن لا فائدة من طلب الحماية من جهاز يحمي القتلة، ويدعمهم بكل الوسائل وقررت الانسحاب من التحقيق، وسحب الدعوى، والعودة إلى البيت، وأنا مدرك كل الإدراك أن حياتي في خطر أكيد.
 ولم تمضِ سوى أيام حتى جرى تطويق بيتي من قبل تلك العصابة بغية قتلي، لكنني كنت قد قررت المكوث في بيت شقيقتي بضعة أيام من باب الاحتراس، حتى سنحت إلى الفرصة بمساعدة أحد الجيران، الذي تكفل بشراء بطاقة طائرة لي، واستطاع نقلي إلي المطار سراً بسيارته، حيث غادرت الموصل  إلى بغداد.
 هذا مثال أنقله للقارئ،عن موقف جهاز الأمن والشرطة ومتصرف اللواء من تلك الاغتيالات بكل أمانة وصدق.
وهذا مثال آخر جرى لأحد أقرب أصدقائي هو الشهيد الأستاذ [ فيصل الجبوري] مدير ثانوية الكفاح بالموصل، الذي  أُطلق عليه النار من قبل أحد أفراد عصابة التنفيذ المدعو[عايد طه عنتورة] في 10 أيار 1960، ولم يفارق الحياة، وتم نقله إلى المستشفى، وكان يصرخ  بأعلى صوته[ قتلني عايد طه عنتورة . ولم يُتخذ أي إجراء ضد الجاني إطلاقاً، أما فيصل الجبوري فقد فارق الحياة في المستشفى في اليوم التالي. (6)
 وهذا مثال آخر، حيث أطلق الرصاص على الشهيد [حميد القصاب] في محله الكائن بمحلة المكاوي، وشخص الشهيد بأم عينه الجاني، وأخذ يصرخ بأعلى صوته، وهو يصعد سيارة الإسعاف برجليه ودون مساعدة: قتلني [ محمد حسين السراج]، وتم نقله إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة في اليوم التالي، أما الجاني فلم يُستدعى للتحقيق، ولم تُتخذ أية إجراءات قانونية ضده.(7)
 وأذكر أيضاً أحد أصدقائي، الشهيد [أحمد مال الله]، الذي أُطلق عليه الرصاص أيضاً، وأُصيب بجروح،  لكن أهله نقلوه على الفور إلى بغداد، حيث عُولج هناك في إحدى المستشفيات وتماثل للشفاء، لكن يد الغدر لاحقته بعد مدة واغتالته في أحد شوارع بغداد. (8)
 أما الشهيد المدرس [ زهير رشيد الدباغ ] فقد دخل عليه أحد تلاميذ المدرسة المدعو[عادل ذنون الجواري ] إلى داخل الصف، وهو يدرس التلاميذ، ليطلق عليه وابلاً من الرصاص من رشاشة كان يحملها، أمام 45 طالباً، دون أن يمسه أذى، أو يجري معه أي تحقيق، أما زهير، فقد أستشهد في الحال.(9)
 ليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات غيرها جرت للمواطنين الأبرياء، وذهبت دماؤهم هدراً على يد تلك العصابات المجرمة، ولم يفتح فيها جميعاً أي تحقيق إلى يومنا هذا.
4 ـ آمر موقع الموصل ـ العقيد حسن عبود:
 العقيد حسن عبود، أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه، ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين، وتحجيم حزبهم،  وبالنظر للعلاقة التي تربطه بهم، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام، وأناط ذلك كله بجهاز الأمن  السعيدي، وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.
 كما أصدر قاسم أمراً بنقل كل الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين، والذين كان لهم الدور الحاسم في قمع انقلاب الشواف، إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، وفق منهج ُ تم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع، وبإشراف قاسم نفسه. (10)
 وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود فيما يخص حفظ الأمن والنظام، ولم يعد له أي دور في ذلك، ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال، وأخيراً إلى التقاعد.

ثالثاً : حملة الاغتيالات في الموصل :
1ـ منْ مول ، ونظم الاغتيالات :
 بعد كل الذي جرى الحديث عنه حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا، أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون والمساندة للقائمين على تنظيمها وتمويلها.
 لقد كان على رأس تلك العصابة  يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية  والإقطاعية المعروفة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
  1  ــ عائلة كشمولة   2ــ عائلة الأغوات    3 ــ عائلة كرموش .
  4 ــ عائلة حديد       5 ــ عائلة العاني      6 ــ عائلة نوري الأ رمني
  7 ــ عائلة المفتي .   8 ــ عائلة الإ رحيم   
 كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [ حاوي الكنيسة ] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك، بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات  كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز. (11)
ولم تفد كل الاحتجاجات، وكل المقابلات لقاسم، حتى أن نائب رئيس الوزراء السوفيتي [انستاس ميكويان] تحدث على عبد الكريم قاسم حين زيارته لبغداد في 9 ـ 10 نيسان 1960 حول ما يجري في الموصل من اغتيالات ضد العناصر الوطنية، والشيوعيين بوجه خاص، ورجاه  العمل على وقف تلك الجرائم، لكن عبد الكريم قاسم انفجر غاضبا ًبوجه ميكويان قائلاً:
{إني لا سمح لحد بالتدخل في الشؤون الداخلية لبلادي}. (12)
وقد رد عليه ميكويان قائلاً: { إنني لا أتدخل في شؤون بلادكم، إنما أناشدكم ، ثم غيرَّ ميكويان الموضوع نحو العلاقات الاقتصادية مع العراق.(13)
ورغم العديد من المقالات للعديد من الشخصيات الوطنية التي نشرتها الصحف، مطالبة بوقفها ومعاقبة القائمين بها، والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط عام 1963.
2 ـ مَنْ نفذ الاغتيالات؟              
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ  بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلي ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية، أو المحلات، أو المعامل، أو الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبح قتل الإنسان يساوي [ 50 دينار]،وهذه أسماء بعض أولئك القتلة الذين كانوا يفاخرون بجرائمهم البشعة والتي يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم:

أسماء بعض منفذي الاغتيالات : (14)
  1 ـ زغلول كشمولة .
  2 ـ شوكت نوري الأرمني .
  3 ـ محمد سعيد حسين السراج .
  4 ـ طارق عبد كرموش .
  5 ـ يعقوب كوشان .
  6 ـ صبار الدليمي .
  7 ـ نجم فتحي
  8 ـ موفق محمود .
  9 ـ فهد الشكرة .
  10 ـ هادي أبن الطويلة .
 11 ـ عادل ذنون الجواري .
 12 ـ حازم بري .
 13 ـ عارف السماك .
 14 ـ أحمد جني .
 15 ـ نجم البارودي .
 16 ـ طارق قباني .
 17 ـ طارق نانيك .
 18 ـ محمود ، أبن البطل .
 19  ـ قاسم ، أبن العربية
 20 ـ عدنان صحراوية
 21 ـ طارق شهاب البني .
 22 ـ فوزي شهاب البني .
 23 ـ جبل العاني .
 24 ـ فاضل مسير .
 25 ـ موفق ، أبن عم فاضل .
 26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه .
 27 ـ جنة  ـ  مجهول اسم أبيه .
28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان، لان أصحابها أرادوا ذلك. لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع أ و عقاب، ما دامت السلطة تحميهم وتدعمهم.
لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على واحد من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم  لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين ، والممولين لتلك الجرائم.
 لقد ذهبت دماء الضحايا هدراً، حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق، وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد، وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء، ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني، و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.
لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف  تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت.
 ليست متوفرة لدي، وأنا أعيش في الغربة  بعيداً عن وطني، قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك، لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا أذكر منهم :

أسماء بعض الشهداء من ضحايا جرائم الاغتيالات (15)
  1  ـ كامل قزانجي  ـ محامي وسياسي بارز.
  2  ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة.
  3  ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة .
  4 ـ فيصل الجبوري   ـ مدير متوسطة الكفاح.
  5 ـ زهير رشيد الدباغ  ـ مدرس .
  6 ـ شاكر محمود  ـ معلم .
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر .
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ) .
  9 ـ نافع برايا و عائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة، وضعت بسيارتهم
 10 ـ ياسين شخيتم  ـ قصاب، ونصير سلم .
 11 ـ عبد الإله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي  ( قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري .
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام .
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب .
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب .
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل .
 17 ـ سالم محمود ـ معلم .
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف .
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس .
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي .
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي .
 22 ـ أحمد ميرخان ـ ( نقل إلى المستشفى جريحاً ، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى ) .
 23 ـ عثمان جهور  ـ كاسب ، كردي .
 24 ـ محمد زاخو لي ـ كاسب ، كردي .
 25 ـ سر كيس الأرمني ـ صاحب كراج .
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس .
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف .
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية .
 30 ـ زكي عزيز توتونجي  ـ توتونجي [ بائع تبغ]
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي .
 32 ـ نجاح ….. ـ طالب جامعي ، قتله المجرم جبل العاني ،أحد أفراد العصابة.
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب .
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل .
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي .
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية .
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب .
 38 ـ حمزة الرحو   ـ قصاب .
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ــ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري .
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه ، وخضراوات .
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب .
 43 ـ حاتم الحلة ــ طالب .
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر .
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب .
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر .
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر .
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم .
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف .
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر .
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف .
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف .
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر .
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي .
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش .
 56 ـ جورج  ـ سائق .
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية .
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب .
 59 ـ شاكر محمد .
 60 ـ فريد السحار .
61 ـ واصف رشيد ميرزاـ تاجر.
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل خلال تلك السنوات الممتدة من أوائل عام 1960 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط عام 1963، وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب ضئيل من أسماء الضحايا من أبناء الموصل البررة، ولم يكتفِ انقلابيي 8 شباط بالدم المسفوح هدراً بل نصبوا المشانق في شوارع الموصل للعشرات من السجناء.

رابعاً :  نتائج الاغتيالات ،والحملة الرجعية في الموصل:
بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:

 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل، عشرات الألوف من العوائل إلى بغداد والمدن الأخرى طلباً للأمان، تاركين مساكنهم، ومصالحهم  ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها، وأن بقائهم في الموصل لا يعني سوى انتظار القتلة لينفذوا جرائمهم بحقهم، وعليه فقد كانوا مجبرين على التضحية بكل مصالحهم، ومغادرة مدينتهم التي نشأوا وترعرعوا  فيها حرصاً على حياتهم.
 2ـ  شل و تدمير الحركة  الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة .
 3ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة  والتي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي .
 لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد  هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، و كل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام، من دماء أبنائه البررة.
 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد، و العهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد.
 ولم يدر في خلد قاسم، أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة ومنجزاتها كانت هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين في انقلاب 8 شباط 1963.
وتعود بي الذاكرة، إلي المقال الذي كتبه الشهيد [عبد الجبار وهبي ، أبو سعيد ] في صحيفة الحزب الشيوعيـ اتحاد الشعب ـ في حقل كلمة اليوم بعنوان  [سارق الأكفان ] وكان المقال موجه بالتأكيد لعبد الكريم قاسم بالذات، أراد فيه أن ينبهه إلى ما ألت إليه أوضاع البلاد، والاستياء الشديد لدى غالبية الشعب العراقي عامة، وأهالي الموصل بوجه خاص، وكان ملخص المقال أن أحد السرّاق كان يترصد المقابر وينبش قبور المتوفين حديثاً، ويسرق الكفن ليبيعه، ويترك الجثة في العراء 
 أخذ الناس يلعنون السارق على فعله ، واستمرت اللعنات عليه حتى بعد وفاته، مما حزّ في نفس ولده، الذي فكر في طريقة يجعل بها الناس يكفون عن لعنة أبيه.
 عاد الولد إلى فعلة أبيه، لكنه لم يكتفي بنبش القبور، وسرقة الأكفان، وإنما أخذ يمثل بالجثة، وينثر أشلائها.
 أحدثت فعلة الولد صدمة كبيرة لدى  جميع الناس، جعلتهم يترحمون على سارق الأكفان السابق، الذي كان يكتفي بسرقة الكفن، دون تقطيع الجثة ونثر أشلائها، وهكذا خلّص الولد أبيه من اللعنات.
أراد الشهيد أبو سعيد، أن يقول لعبد الكريم قاسم، أن الشعب العراقي  صار يترحم على عهد نوري السعيد، ويكفر بالثورة، ويتمنى لو لم تحدث نتيجة لما آلت إليه أوضاع البلاد من تدهور، والمآسي والويلات التي لم يسبق لها مثيل.(16)

خامساً: ما هو موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟

لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها !! دون أن تدرك قيادة الحزب أن للسلطة يداً طويلة فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم [عاش الزعيم عبد الكريمِ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].
 وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت له القناعة  أن الحزب  بكل تأكيد  سوف يقفز إلي السلطة، ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك،  ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية[ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية التي كانت تصوّر الحالة في العراق أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة.
 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع، ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك، في حين  كان بإمكانه استلام السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.
 لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم، واستفز البرجوازية الوطنية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له.
 كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، لكن الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حول الخليج حالت دون إقدام الحزب الشيوعي على استلام السلطة، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئاً لا يستفز عبد الكريم قاسم، عن طريق اللقاءات والحوار والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تسعى للمطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة إئتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.
 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي  القاضي بتحجيمه  وعزله عن جماهيره تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه.
 أما قيادة الحزب فكانت  بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات ، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى به المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة  لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب  360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.
 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية  وتنامي عدد حوادث القتل  يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق، بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.
 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ورغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم، وكل الذين يقفون وراءهم .
إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه، متهماً المنادين به بالفوضويين !! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم، التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهضاً من أرواحهم وممتلكاتهم، ومصير وطنهم.
 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة. لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى غضب عبد الكريم قاسم، وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه، ومواقفه من الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية، واصفاً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو، وجنكيز خان !!؟  لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً وذريعة لضرب الحزب وتحجيمه. 
لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها، وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته ، وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء.
 توثيق الفصل الثامن
     (1) معايشة شخصية لأوضاع الموصل آنذاك .
(1)   العراق في عهد قاسم ـ جرجيس فتح الله ـ ص 797 .
(2)   معايشة شخصية لأوضاع الموصل آنذاك .
(3)   تم خلال الفترة الزمنية 1960 ـ 1963 ما يربوا على 1000 مواطن من الشيوعيين والديمقراطيين وحتى من غير السياسيين واضطر ما يربو على 30 ألف عائلة الهجرة إلى مدن أخرى طلبا للأمان
(4)   لم تلقي السلطة القبض على أي من القتلة على الرغم من إشارة العديد من الضحايا عن أسماء قاتليهم قبل مفارقتهم الحياة في المستشفى ، بل كانت السلطات تكتفي بالقبض على جثث الضحايا
(5)   الشهيد فيصل الجبوري مدير ثانوية الكفاح  كان من أقرب أصدقائي الشخصيين ، وقد نقل لي شاهد عيان لجريمة اغتياله أنه كان يصيح بأعلى صوته [ قتلني عايد طه عنتورة ] وتم نقله للمستشفى حيث فارق الحياة في اليوم التالي ولم تتخذ الإجراءات بحق القاتل .
(6)   الشهيد حميد القصاب جرى له نفس ما جرى لفيصل الجبوري وصعد برجله سيارة الإسعاف وهو يصيح [قتلني محمد حسين السراج ] دون أن تتخذ السلطة الأمنية أي إجراءات ضد القاتل ، وتوفي حميد في المستشفى .
(7)   الشهيد احمد مال الله وحيد أبويه ، وكان من أقرب أصدقائي ، أطلقت عليه الرصاص وجرح ، وقام ذويه بنقله على بغداد على عجل للعلاج لعدم ثقتهم بإدارة المستشفى بالموصل  ، وتمت معالجته ، لكن القتلة لاحقوه في بغداد واغتالوه في أحد شوارع بغداد .
(8)   الشهيد زهير الدباغ ـ مدرس ثانوية الحدباء ـ وهو إبن خالي ، دخل عليه طالبه [ عادل ذنون الجواري ] وهو يدرس في الصف وافرغ فيه رشاشته أمام سمع وبصر طلاب الصف دون أن تتخذ السلطة أي إجراء ضد القاتل المجرم .
(10)كانت هذه الإجراءات جزء من حملة عبد الريم قاسم ضد الشيوعيين .
(11)لم تكن اجتماعات هذه الزمرة وتخطيطاتها بعيدة عن أنظار القوى الوطنية ، فقد كانت تتحرك بكل حرية تحت سمع وبصر السلطات الأمنية .
(12)العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 256 .
(13)نفس المصدر السابق .

331
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة 14

حامد الحمداني                                        12 /11/10


أحداث كركوك في  الذكرى الأولى
لثورة 14 تموز


  أولاً : التركيب السكاني في كركوك ودوره في الأحداث .
  ثانياً : احتفالات الذكرى الأولى للثورة ووقوع الأحداث .
  ثالثاً : نتائج أحداث كركوك وانعكاساتها ,
  رابعاً : قاسم يهاجم الحزب الشيوعي ويتوعد بمعاقبة المسؤولين عن الأحداث .
 خامساً : رد فعل الحزب الشيوعي على إجراءات قاسم.



أولاً: التركيب السكاني لمدينة كركوك، ودوره في الأحداث

 قبل الولوج في تلك الأحداث التي وقعت في كركوك، في الذكرى الأولى لثورة الرابع عشر من تموز 1958، لابد أن نستعرض أحوال المدينة، والظروف التي كانت سائدة فيها، والمشاكل التي كانت تعاني منها، والتي كان لها الدور الأكبر في تلك الأحداث.
إن مدينة كركوك تضم ثلاث قوميات رئيسية هي التركمانية، والكردية، والعربية، وبالإضافة إلى ذلك أقلية آشورية.
 كانت العلاقة بين القوميتين، الكردية والتركمانية  يسودها جوٌ من التوتر والريبة منذُ زمن طويل، يمتد إلى أيام الحكم العثماني، وكان هناك صراعٌ بين القوميتين للسيطرة على المدينة، ولاسيما وأن التركمان كانوا يعتبرون أنفسهم يمثلون الأغلبية فيها، في حين يعبر الأكراد أن كركوك هي جزء من منطقة كردستان.
ولما قامت ثورة 14 تموز 958 1، وقف الأكراد في بداية الثورة إلى جانبها وساندوها بشكل حاسم، بعد تلك المعانات التي قاسوا منها أيام الحكم الملكي الذي قمع ثوراتهم المتتالية، واعدم عدد من قياداتهم، وخرب قراهم، واضطر زعيمهم الملا مصطفى البارزاني إلى اللجوء إلى الاتحاد السوفيتي منذ عام 945 ا وحتى قيام ثورة 14 تموز 58، حيث  سمح الزعيم عبد الكريم قاسم بعودته مع رفاقه البيشمركة، وكرمهم، واسكن البارزاني في قصر نوري السعيد، ومنحه راتب وزير، فيما وقف التركمان بعيدين عن تلك الثورة، على أقل تقدير.
وكان لاصطفاف الأكراد مع جبهة الاتحاد الوطني ودفاعهم عن الثورة أثرٌ كبير في ازدياد حنق التركمان على الأكراد، كما أن الأكراد لم يشعروا يوماً بالاطمئنان للتركمان، الذين اتهموا بالولاء لتركيا، ولم ينسى الأكراد ما فعلته الدولة العثمانية بهم، وقد أستمر تنامي الكره لتركيا، بسبب موقفها من الشعب الكردي في جنوب تركيا، والذي يشكل حوالي 15 مليون نسمة.
لقد وقعت أحداث عديدة في كركوك، وكانت مؤشراً على عمق الهوة بين التركمان والأكراد، بتحريض من عملاء شركات النفط، حيث قام التركمان باغتيال عدد من الأكراد، أذكر من بينهم [ سيد ولي] و[ محمد الشربتجي] ومهاجمة [احمد رضا] بماء النار [حامض الكبريتيك].
 كما قامت زمرة منهم بزرع قنبلة تحت سيارة الزعيم الكردي [مصطفى البارزاني]  لمحاولة اغتياله، ولحسن الحظ تم اكتشاف القنبلة وتعطيلها قبل انفجارها، فقد كانت تلك المحاولة ستؤدي إلى مذبحة لا أحد يعرف مداها. (1)

ثانياً: احتفالات الذكرى الأولى للثورة ووقوع الأحداث:

 أقترب موعد الذكرى الأولى لقيام ثورة الرابع عشر من تموز، وجرت الاستعدادات اللازمة للاحتفال بهذه المناسبة في مختلف أنحاء البلاد، وجرت اتصالات في كركوك مع الجانب التركماني، من أجل أن يكون الاحتفال بهذه الذكرى مشتركاً بين كل القوى السياسية، وكل القوميات، فثورة 14 تموز ثورة الشعب العراقي كله، بمختلف فئاته وانتماءاته وقومياته، غير أن التركمان المتعصبين رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً، وأصروا على أن تكون احتفالاتهم منفردة، وفشلت كل المحاولات للجمع بين الأطراف. (2)
 وعلى هذا الأساس، تقرر أن تأخذ مسيرة الاحتفال خط سيرٍ بعيدٍ عن منطقة تجمع التركمان المتعصبين، حرصاً على عدم وقوع  أي احتكاك بين الطرفين.
 نظمت المسيرة من قبل الحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، ودعيت [مسيرة الجبهة الوطنية ]، وتقرر أن تكون ساحة المدرسة الثانوية، مكان تجمع المسيرة، ثم تنطلق إلى الشارع الرئيسي في [ قورية]، ثم تمر أمام الثكنة العسكرية قرب الجسر، بالقرب من القلعة القديمة، ثم إلى الجسر الثاني، حيث تتجه إلى شارع أطلس، ومن ثم تعود المسيرة إلى المكان الذي انطلقت منه، في ساحة الثانوية، وقد قررت قيادة المسيرة عدم العبور إلى [الصوب الصغير]  منطقة تجمع التركمان، تجنباً لأي احتكاك.
بدأت المسيرة بصورة نظامية، تعلوها الشعارات المقررة سلفاً، والتي تدعوا إلى وحدة القوى الوطنية، من أجل دعم مسيرة الثورة، وكان يتقدمها مجموعات كبيرة من الأطفال يحملون حمامات السلام، وهذا دليل على أنه لم تكن في نية القائمين بالمسيرة ولا في تفكيرهم  الاحتكاك  أو التصادم مع القوميين التركمان، وكل ما قيل عن تصميم مسبق للمسيرة لمهاجمة التركمان، أمرٌ عارٍ عن الصحة، اختلقته الرجعية، وعملاء شركات النفط، من أجل الإساءة للشيوعيين والبارتيين.
تقدمت  مجموعة الأطفال في المسيرة مجموعة النساء، من رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ثم بقية المنظمات، والنقابات المهنية والعمالية والجمعيات الفلاحية  والتحق بالمسيرة عدد كبير من الجنود، ومن المقاومة الشعبية.
  وما أن دخلت المسيرة [شارع أطلس]، ومرت قرب [كازينو14  تموز]، حتى انهال عليها القوميون التركمان المتعصبون  بالحجارة وقطع الطابق  من سطح الكازينو، ثم ما لبثوا أن انهالوا عليهم الرصاص من كل جانب، وحلت الفوضى بالمسيرة، وأخذ المشاركون يتزاحمون، ويندفعون للخروج من الشارع الضيق، وديس عدد منهم تحت الأرجل، واستطاع بعض المشاركين في المسيرة شق طريقهم نحو مصدر النيران والحجارة، فيما راحت الجموع تزحف فوق بعضها البعض، في جو من الفزع والفوضى ، وكان منظر الأطفال ، والأقدام تدوسهم مؤلم جداً ، كما سقط العديد من النساء بين الأرجل . (3)
 لم يكن في تلك اللحظة من الممكن السيطرة على جموح وغضب الجماهير الشعبية بينما الرصاص والحجارة ما زالت تنهمر عليهم من القلعة القديمة، لكن رد الفعل لدى المشاركين في المسيرة من المواطنين الكرد كان اشد بكثير من الفعل سواء كانوا من العناصر المحسوبة على الحزب الديمقراطي الكردستاني أم الحزب الشيوعي، فقد تغلبت الدوافع القومية لدى الأكراد بما فيهم الشيوعيين منهم، والمعبأة بالكراهية بين القوميتين الكردية والتركمانية، مما أفقد القدرة لدى قيادة المسيرة على السيطرة على جموح المشاركين فيها، والذين اندفعوا للانتقام من العناصر التركمانية، وخاصة المعروفة منهم بعدائها للكرد، وللشيوعيين.

وهكذا انفلت الوضع، وباتت السيطرة عليه شبه مستحيلة، وسيطرت روح الانتقام،  ووقعت الواقعة التي كان يخشى من حدوثها، وانطلقت لغة الرصاص الذي ستمر ثلاثة أيام متتالية، ولم يسكت إطلاق الرصاص إلا بعد أن نزلت قوات الجيش والمقاومة الشعبية، وجرت مصادمات عنيفة بين قوات الجيش والمقاومة الشعبية وبين العناصر التركمانية، وجرى تمشيط القلعة للبحث عن المسلحين، وقد جرت مشاركة المقاومة الشعبية بطلب من قيادة الفرقة الثانية، بموجب توجيهات وصلتها من بغداد، وكان حصيلة تلك الأحداث ،مقتل [ 32 ] فرداً معظمهم من التركمان، وتم اعتقال عدد آخر منهم وضعوا رهن التحقيق.

ثالثاً : نتائج أحداث كركوك وانعكاساتها:
 إن  احداث  كركوك، لم تكن إلا مؤامرة دبرتها القوى الرجعية المعادية لثورة 14 تموز ومسيرتها، ولم يكن عملاء شركات النفط بعيدين عن تلك الأحداث، ومحرضين عليها.
لقد جرى تضخيم تلك الأحداث، وفبركة وقائع لم تقع إطلاقاً، وظهرت شائعاتهم التي كانت تقول أنه كانت هناك مجزرة  أُعد لها مسبقاً، وذهب ضحيتها المئات، بل الألوف، ملصقين أشنع التهم بالحزب الشيوعي، من أجل استعداء السلطة عليه وجرى تصوير جثث عدد من القتلى من جهات مختلفة، وكانت الوجوه مشوهة، لكي يقال أن عدد القتلى كان كبيراً، كما تكّشف فيما بعد، أن كثيراً من صور حرب التحرير الجزائرية، وجرائم المستعمرين الفرنسيين، ضد الشعب الجزائري قد استخدمت في ذلك التزييف، لكي يصوروا ما حدث وكأنه مجزرة كبرى قام بها الشيوعيون ضد التركمان، في حين كان الحزب دائم الحرص على تمتين عرى الاخوة العربية التركمانية، وبيانات الحزب المنشورة في صحيفته [اتحاد الشعب] خير دليل على ذلك، فقد ورد في الصحيفة في عددها الصادر في 3 آب 1959 ما يلي : (4)
{ إننا ننبه أولئك الرجعيين الشوفينيين الذين يوغرون صدور التركمان، ويثيرون المخاوف بين الكردي والعربي والتركماني، ويزرعون في عين الوقت بذور الفتن   ويبثون الشكوك والأكاذيب بين الجماهير الكردية، ضد إخواننا التركمان، إننا ندعو المواطنين الكرام إلى التزام جانب الحذر واليقظة، والتمسك بعرى الاخوة  والاتحاد بين مختلف القوميات} .
 وفي شهادة مدير شرطة كركوك أمام المجلس العرفي العسكري حول الأحداث ورد فيها ما يلي: 
{ إنه بسبب العداء المستحكم بين التركمان والأكراد، وبالنظر إلى الاستفزازات التي قام بها التركمان، والتي سبقت المسيرة، وفي أثنائها  اتخذت التدابير المقتضية من قبلنا، وفي حوالي الساعة السابعة، عندما وصلت المسيرة إلى الجسر القديم، وهي في طريقها إلى القلعة، اقتربت منها تظاهرة للتركمان، وكان أهلها يركبون سيارات تابعة للجيش، فتدخلت الشرطة، وحجزت بين الطرفين، وتقدمت المسيرة حتى وصلت إلى مقهى 14 تموز، وهي مقهى يرتادها التركمان، وعلى حين غرة انهالت الأحجار فوق رؤوس المشاركين في المسيرة، وصار هرج ومرج، ثم تطور ذلك إلى استخدام السلاح، ودوى صوت إطلاق الرصاص على المسيرة.

 أخذ الجنود وقوات المقاومة الشعبية يطلقون الرصاص باتجاه مصدر النيران والحجارة، وكانت غالبيتهم من العناصر الكردية، وقد تمللكم  الحنق والكراهية وُقتل نتيجة ذلك 20 فرداً من التركمان، وجرى سحل بعضهم، وكان ذلك العمل بشعاً ومرفوضاً، وكان من بينهم[عطا خير الله] و[عثمان الجايجي]  صاحب المقهى، واثنان من أبناء مختار محلة الخاصة [فؤاد عثمان]، وبلغ عدد الجرحى من الطرفين [ 13] فرداً، وقد جرى خلال تلك الأحداث مهاجمة 70  مقهى ومحل تجاري عائدة للتركمان، وجرى نهبها أو إحراقها. ( 5)

رابعاً:قاسم يهاجم الشيوعيين ويتوعد بمعاقبة المسؤولين عن الأحداث:

 بدأت التقارير والصور والعرائض من قبل التركمان، تنهال على عبد الكريم قاسم  تتهم الشيوعيين بتدبير مجزرة في كركوك ضدهم، وصدّق قاسم تلك التقارير والصور، قبل أن يجري أي تحقيق.
 ربما لم يدرك ألاعيب الرجعية، وعملاء شركات النفط، التي غذت تلك الأحداث وضخمتها من أجل تمزيق وحدة القوى الوطنية، وبالتالي إضعاف السلطة وعزلها عن أشد المدافعين عنها.
 وربما أراد قاسم نفسه بالذات، تضخيم تلك الأحداث، واتخاذها مبرراً لإضعاف الحزب الشيوعي وتحجيمه، ومن ثم ضربه، بعد أن تنامت قوته، وتوسع تأثيره على مجرى الأحداث في البلاد، فلقد سارع قاسم إلى عقد مؤتمر صحفي تحدث فيه عن الأحداث قائلاً:
 { إن الفوضويون يتوجهون إلى المنازل التي أُشروا عليها سابقاً في خرائطهم، فأخرجوا أصحابها، وفتكوا بهم}. (6)
 وقد تبين فيما بعد، أن دائرة الكهرباء هي التي قامت بوضع إشارات على الدور، لأسباب فنية وإدارية تتعلق بعملها. (7)
  وفي 2 آب 1959، ذكر قاسم أن عدد القتلى كان [79] فرداً، ثم عاد في 2 كانون الثاني وأكد أن عدد القتلى لا يتجاوز (32 ) فرداً، وقد تأكد للمجلس العرفي العسكري أن عدد القتلى كان ( 32 ) فرداً منهم (29 ) تركمانياً، و( 3 ) أكراد، وجرح ( 130 ) فرداً بينهم (6) أكراد أستمر قاسم في مهاجمة الحزب الشيوعي، وكانت خطاباته عنيفة جداً، وتصريحاته لا تخلو من التهديد والوعيد، وكان رد فعله عنيفاً أثناء خطابه في كنيسة مار يوسف، وفي مؤتمره الصحفي، وفي حديثه مع وفد اتحاد نقابات العمال في 4 آب 1959. (8)

 ففي خطابه في كنيسة مار يوسف، قال عبد الكريم قاسم:
 { إن ما حدث أخيراً في كركوك، فأني اشجبه تماماً، وباستطاعتنا أيها الاخوة، أن نسحق كل من يتصدى لأبناء الشعب بأعمال فوضوية، نتيجة للحزازات، والأحقاد والتعصب الأعمى. أنني سأحاسب حساباً عسيراً أولئك الذين اعتدوا على حرية الشعب في كركوك بصورة خاصة، ثم أضاف قاسم قائلاً :
 أولئك الذين يّدعون بالحرية، ويدّعون بالديمقراطية، لا يعتدون على أبناء الشعب  اعتداءً وحشياً. إن أحداث كركوك لطخة سوداء في تاريخنا، ولطخة سوداء في تاريخ ثورتنا. هل فعل ذلك جنكيز خان، أو هولاكو من قبل؟ هل هذه هي مدنية القرن العشرين؟ لقد ذهب ضحية هذه الحوادث 79 قتيلاً، يضاف إليهم 46 شخصاً دُفنوا أحياء، وقد تم إنقاذ البعض منهم}. (9)
لكن قاسم ما لبث أن تراجع قليلاً عن كلامه قائلاً:
{ إننا لا نلقي اللوم  والمسؤولية على مبدأ، أو حزب معين، الأفراد هم المسؤولون عن هذه  وسنحاسبهم كأفراد، ولا نريد اضطهاد المنظمات}!!. (10)

 لقد كان قاسم في تلك الأيام على غير عادته، قد فقد توازنه، وانساق بشكل عاطفي  أنساه ما أعتاد عليه من حذر وصبر وأناة، فكانت خطاباته تلقي الحطب على الحريق، وتبين أن ما ورد حول دفن الأحياء لا أساس له من الصحة، كما ورد في محاكمات المجلس العرفي العسكري. (11)
  وتبين فيما بعد أن قاسم أراد استغلال تلك الأحداث كذريعة لتحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، وضربه، بعد أن توسع نفوذه في صفوف الجماهير، وقد أرعبته مسيرة الأول من أيار 1959، والتي رفع خلالها الحزب الشيوعي شعار إشراكه في السلطة { عاش الزعيم عبد الكريمٍ، الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم} .
 هكذا إذاً وجد قاسم أن استخدام أحداث الموصل وكركوك خير ذريعة لتوجيه ضربته للحزب. ولا بد لكل منصف، وحيادي أن يسأل:
  1 ـ مْن بدأ الاعتداء على المسيرة ؟ ومن أطلق النار وقذف الحجارة ؟
  2ـ منْ زور الصور، وصوّر الأحداث كأنها مجزرة كبرى قالت عنها أذاع راديو [ صوت العرب] بأن عدد القتلى بلغ [ 3500 فرداً] ؟ (12)
  3ـ هل خُدع قاسم بالتقارير التي نُقلت له عن تلك الأحداث؟ وهل كان من الصعب عليه الوصول للحقيقة؟
 4ـ هل كان قاسم يعرف الحقيقة، لكنه أراد استخدام تلك الأحداث  لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي؟
5ـ هل كان بمقدور الحزب الشيوعي خلال تلك الأحداث، السيطرة على الجماهير الغاضبة، ومنع القتولات التي حصلت، وما رافقها من سحل للجثث؟
6 ـ ما هو دور عملاء شركات في تلك الأحداث؟
 إن الإجابة على هذه الأسئلة تلقي الضوء على تلك الأحداث التي كانت تمثل بداية الانتكاسة لثورة الرابع عشر من تموز، واستمرت في تراجعها حتى وقوع انقلاب  الثامن شباط 963 1.
 لقد قام قاسم بتشكيل لجنتين للتحقيق، ومنحهما صلاحيات واسعة، وأرسل الأولى إلى الموصل والثانية إلى كركوك، وزودها مسبقا بأسماء ابرز الشيوعيين المعروفين في المدينتين المذكورتين، مع مذكرات بإلقاء القبض عليهم، حيث جرى اعتقالهم، مما يشير إلى قرار مسبق من الزعيم عبد الكريم قاسم بتقليم أظافر الشيوعيين تمهيداً لضرب حزبهم وإخراجه من الساحة السياسية، بعد أن حصلت لديه القناعة أن الحزب الشيوعي بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة !!.
وطافت سيارات عسكرية مجهزة بمكبرات الصوت، داعية الناس إلى التقدم للشهادة ضد المعتقلين، المتهمين بأحداث الموصل وكركوك، وأُحيل المعتقلون إلى المجالس العرفية العسكرية لتحكم عليهم بأحكام قاسية وطويلة، وسيق المحكومون إلى سجن [ نقرة السلمان] السيئ الصيت، والذي أنشأه نوري السعيد في وسط الصحراء بعيداً عن أهلهم وذويهم ، وحينما وقع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963  وجد الانقلابيون الصيد في القفص، حيث أسرعوا إلى إعادة محاكمتهم من جديد، خلافاً للقانون، بعد أن استخدموا معهم أبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، وأصدروا بحق العديد منهم  أحكام الموت، ونفذوها في شوارع الموصل وكركوك .
خامساً: ما هو رد فعل الحزب الشيوعي على إجراءات قاسم؟

جاء رد فعل الحزب الشيوعي على الهجوم الذي شنه قاسم عليه سريعاً، حيث أعلن الحزب في مقال افتتاحي لصحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] وجاء فيه:
 { قيل عنا بأننا نؤمن بالعنف، ضمن إطار الحركة الوطنية، وبعلاقاتنا مع القوي الوطنية الأخرى. إن هذا محض دس وافتراء، يقصد به التشهير ليس إلا، وكنا قد أكدنا في مقال افتتاحي معروف نُشر منذُ زمن بعيد، بأن الأسلوب هو المحك، ولكن يبدو الآن أن هناك نية متقصدة لُيقرن هذا الموقف الصحيح الثابت باندفاع بعض البسطاء، وغير الحزبيين من جماهير الشعب.
نحن نرفض وندين بصورة مطلقة كل أشكال الاعتداء على الناس الأبرياء، وأي عمل من أعمال التعذيب حتى بحق الخونة، إن إدانتنا لهذه الممارسات هي إدانة مبدأية}. (13)
وفي الثالث من آب 1959، نشر الحزب موجز التقرير الموسع لاجتماع اللجنة المركزية للحزب الذي أكد على إدانة كل شكل من أشكال الاعتداء، والعنف ضد الخصوم السياسيين، وكل أعمال القتل، أو السحل، أو النهب والحرق، التي حدثت في كركوك والموصل، مؤكداً على أهمية الحلف بين الحزب والسلطة، وكافة القوى الوطنية من أجل دفع مسيرة الثورة إلى أمام لتحقيق أماني الشعب، مؤكداً السير بخطى ثابتة مع قيادة الثورة، وحماية مكتسباتها التي هي ثمرة تضحيات كبيرة عبر السنين. (14)
لقد كانت أحداث كركوك تمثل القشة التي قصمت ظهر البعير، كما تقول الأمثال  بالنسبة للحزب الشيوعي، وقد اتخذها عبد الكريم قاسم ذريعة لشن هجومه على الحزب واصفا تصرفاته بأنها أسوأ من تصرفات هولاكو، ولا شك في أن تلك التشبيهات لا صلة لها بالواقع .
لكن موقف الحزب الشيوعي أتسم بعد أحداث كركوك بالتراجع، والضعف، ولم يتخذ موقف الدفاع عن نفسه ضد الهجمة الشرسة التي شنتها القوى الرجعية ضده  وساعدها جهاز السلطة الموروث عن العهد الملكي، وكان لموقف قاسم من الحزب الأثر الحاسم في دعم تلك الهجمة من أجل تقليص دور الحزب وتحجيمه، وتوجيه الضربات المتتالية له، كما سيرد فيما بعد.
 
توثيق الفصل السابع
  (1)سلام عادل ـ سيرة مناضل ـ ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد ـ ص 66 ـ67 .
 (2) العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 226
 (3) نفس المصدر السابق
 (4) بيان صادر من ا الشيوعي العراقي في 3 أيلول 1958
 (5) تقرير الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ـ أواسط تموز 1959 .
 (6) العراق ـ الجزء الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 269 .
 (7) صحيفة اتحاد الشعب ـ العدد 131 ـ 29 حزيران 959 .
 (8) ثورة 14 تموز ـ د . ليث الزبيدي ـ ص 252 .
 (9) نفس المصدر ـ ص 253 .
 (10) المصدر السابق ـ ص 255 .
 (11)محاكمة المتهمين بأحداث كركوك أمام المجلس العرفي العسكري في أيلول 1959 .
 (12)إذاعة صوت العرب من القاهرة
 (13) افتتاحية اتحاد الشعب في 2 آب 1959 .
 (14) صحيفة اتحاد الشعب في 23 آب 1959 .
 











332
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة/ 13

حامد الحمداني                                                      8/11/2009
سادساً:انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف الفاشل في الموصل:
 كان الانقسام في صفوف القوى الوطنية في أوائل عام 1959 قد بلغ مداه، ورفضت القوى القومية والبعثية أي دعوة للتعاون والتلاحم من أجل مصلحة الشعب والوطن.
 لقد جرت في تلك الأيام انتخابات النقابات، والمنظمات الجماهيرية، وبذل الحزب الشيوعي جهوداً كبيرة ،من أجل لمّ الشمل، والخروج بقائمة موحدة في الانتخابات، ولكن القوى القومية والبعثية رفضتا ذلك رفضاً قاطعاً، وأصرتا على خوض الانتخابات بصورة منفردة، قاطعة الطريق على أي تقارب وتعاون.
 جرت الانتخابات بروح ديمقراطية، بإشراف ممثلين عن القائمتين [الديمقراطية]التي ضمت الشيوعيين والديمقراطيين والبارتيين، والقائمة [الجمهورية] التي ضمت البعثيين والقوميين، وقد لفوا حولهم كل العناصر الرجعية، المناهضة للثورة أساساً، تلك القوى التي وجدت فرصتها في هذا الانقسام للظهور بمظهر القومية الزائفة، والوحدوية في حين أنها كانت، ولعهد قريب، من أشد أعداء الوحدة وعبد الناصر، ولا تزال تلك الأحداث في ذاكرتي عندما فازت القائمة الديمقراطية [المهنية] للمعلمين، وكنت أحد مرشحيها، بفارق كبيرفي الأصوات، وأعترف ممثلي القائمة [الجمهورية] بتوقيعهم على محاضر الانتخابات وفرز الأصوات بان الانتخابات قد جرت في جو ديمقراطي لا تشوبه شائبة، وكانت نقابة المعلمين، تمثل قطاعاً كبيراً من المثقفين، وقد تجاوز عدد أعضائها أكثر من خمسة وخمسين ألف معلم ومدرس وأستاذ جامعي آنذاك.
كانت الانتخابات تلك خير مقياس لتوزيع القوى، حيث كان لها دور فاعل في الحياة السياسية للبلاد، وجرت بعد ذلك انتخابات الطلاب، حيث جرى الاستقطاب بين القوى السياسية، على غرار ما جرى في انتخابات نقابة المعلمين، وفازت القائمة الديمقراطية المسماة بـ [اتحاد الطلبة] فوزاً ساحقاً، وتبع ذلك انتخابات نقابة المهندسين، والأطباء، والعمال والجمعيات الفلاحية، وفشلت تلك القوى الرافضة للتعاون في الحصول على أي مكسب فيها.
 لقد تعمق الاستقطاب في صفوف الحركة الوطنية، وأخذ التباعد يتسع يوماً بعد يوم، وأخذ الجانب الخاسر في التنافس الحر، منحى آخر يستند إلى العنف في تحقيق ما عجز عن تحقيقه عن طريق التنافس الديمقراطي الحر،  وبدأت عقولهم تفكر في استخدام القوة والعنف لتغيير الأوضاع لصالحهم.
 وجد العقيد الشواف ـ آمر موقع الموصل ـ فرصته الذهبية في ركوب الموجة، فقد كان يشعر بأنه قد أصابه الغبن الكبير عند ما جرى تعينه آمراً للواء الخامس، وآمر موقع الموصل، وكان يطمح في الحصول على منصب وزاري، أو منصب الحاكم العسكري العام عند قيام الثورة، حتى لكأنما قامت الثورة لتوزيع المناصب على القائمين بها، وليس من أجل خدمة القضية الوطنية.
كنت في تلك الأيام مديراً لإحدى مدارس الموصل [مسقط رأسي]، وكنت أرى وأحس والمس ذلك الصراع يتطور ويتعمق، والانقسام يبلغ مداه، ويتحول إلى عداء واعتداء، وتحول ذلك الجانب الخاسر في الانتخابات إلى عصابات تنتشر هنا وهناك تتحين الفرص للاعتداء على العناصر الديمقراطية والشيوعية، بوجه خاص، وكانت توجيهات الحزب الشيوعي آنذاك  تقضي بعدم الإنجرار وراء تلك الأعمال، وتجنب الصدام، وكان أمله في إعادة الصواب إلى رشد تلك القوى والعودة إلىالتلاحم والتعاون من أجل مصلحة الشعب والوطن، وديمومة الثورة ونضوجها، وتعمقها من أجل تحقيق أحلام الشعب العراقي في الحرية التي ضحى من أجلهاسنين طويلة.
كان يدرك معنى الانقسام في صفوف الحركة الوطنية، والمخاطر التي تسببها، وفعل كل ما يمكن من أجل إعادة اللحمة للقوى الوطنية.
إلا أن كل محاولاته ذهبت أدراج الرياح، وراحت تلك القوى تعد العدة  وتهيئ لمحاولة انقلابية في مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق،وكانت تحركاتهم وإعدادهم لذلك الانقلاب بادية للعيان، وتجري على قدم وساق، فيما كان الجانب الثاني من الاصطفاف ـ الشيوعيون والديمقراطيون والبارتيون ـ يراقبون الأوضاع  بدقة، فالخطر لا يعني عبد الكريم قاسم وحده، أو الثورة وحدها، وإنما يعني أيضاً تعرض كل القوى المساندة للثورة للتصفية إذا ما تحقق النصر لمحاولتهم الانقلابية.
كان العقيد الشواف ومعه عدد من الضباط القوميين والبعثيين ينشطون بهذا الاتجاه، وينسقون مع القوى الرجعية للإعداد لتك المحاولة.
وأنتهز أعضاء المؤتمر الأول لنقابة المعلمين في الموصل ـ وكنت أحدهم ـ وجوده في بغداد، لحضور المؤتمر الأول للنقابة المنعقد في أواسط شباط 1959 الفرصة طالبين مقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم لأمرٍ يخص الثورة والجمهورية وأمنها.                                                               .                                                               وافق عبد الكريم قاسم على استقبال الوفد في مقره بوزارة الدفاع، وحضر الوفد في الوقت المحدد، ولم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى حضرالزعيم
 عبد الكريم قاسم  ودخل القاعة وسط التصفيق والهتاف بالثورة وقيادتها.
 بدأ الزعيم الحديث موجهاً كلامه للوفد مرحباً به وقائلاً:
{ إنني كنت واحداً منكم، أنتم مربي الأجيال، نعم  لقد كنت معلماً، في إحدى قرى الشامية بعد تخرجي من الإعدادية، وقبل أن أدخل الكلية العسكرية، وأنا فخورٌ بذلك}.
ثم تحدث الزعيم طويلاً عن دور المعلم في المجتمع، وبعد نهاية حديثه طلب من الوفد الحديث.
 بدأ أكبر أعضاء الوفد سناً، الشهيد المناضل [ يحيى ق الشيخ عبد الواحد] الذي كان في العهد الملكي، مشهوداً له بالوطنية، والمواقف الجريئة ضد حكم الطاغية نوري السعيد، وضد النظام الملكي، وناله بسبب مواقفه تلك صنوفٌ من الاضطهاد والاعتقال، وأستحق محبة الشعب العراقي وقواه الوطنية.
بدأ يحيى بالحديث عن أوضاع الموصل المتدهورة، والنشاط التآمري الذي يجري على قدم وساق، وموضحاً للزعيم أن العراق في خطر، وإن الثورة في خطر كذلك، إذا لم تسارع حكومة الثورة في معالجة الأمر بأسرع وقت ممكن من أجل نزع الفتيل قبل حدوث الانفجار، مشيراً إلى العناصر التي تقود ذلك النشاط، وعلى رأسها العقيد الشواف، وزمرة من الضباط القوميين والبعثيين المتعاونين معه  بالإضافة إلى القوى الرجعية والإقطاعية، وعلى رأسها شيخ مشايخ شمر[أحمد عجيل الياور].
 وتحدث يحيى عن السلاح الذي كان المتآمرون ينقلونه عبر الحدود مع سوريا، ويخزنوه في الموصل، وكذلك عملية تسليح قبائل شمر التي تدين بالولاء لرئيسها أحمد عجيل الياور، أكبر إقطاعيي المنطقة الشمالية قاطبة، والنائب السعيدي المزمن في العهد الملكي، والحاقد على الثورة، وعلى قانون الإصلاح الزراعي الذي جرده من سلطانه.
كما تحدث يحيى عن نشاط عملاء شركات النفط في [عين زالة] في الموصل في هذا الاتجاه.
إلا أن الزعيم عبد الكريم قاسم رد على رئيس الوفد بكل برود مردداً عباراته المشهورة [الصبر] و[ التسامح ] و[ والكتمان ] و[المباغتة] ، والتي كان يرددها دائماً، وقد رد عليه يحيى قائلاً:
يا سيادة الزعيم: إن هناك حكمة تقول [الوقاية خيرٌ من العلاج]، إن انتظار حدوث الكارثة ومعالجتها بعد ذلك أمرٌ خطيرٌ جداً، إذ ربما  تكون لها ارتباطات مع قطعات عسكرية في مناطق أخرى من العراق، وربما تؤيدها غيرها من القطعات العسكرية في مناطق أخرى، وربما تنجح تلك المحاولات في اغتيال الثورة، وفي أحسن الأحوال، حتى لو قامت المحاولة وفشلت، فلا أحد يستطيع تقدير خسائرها وأضرارها، لذلك فأن منع وقوعها أفضل بكثير من انتظار وقوعها والقضاء عليها.
 كان جواب عبد الكريم قاسم غير متوقع إطلاقاً، لقد غضب قاسم من حديث يحيى وأجابه قائلاً:{ إننا ندرك الأمور إدراكاً جيداً، وإن العقيد الشواف هو أحد الضباط الأحرار وأنتم تهولون الأمور وتضخمونها، نحن أقوياء واثقون من أنفسنا}.
 وعاد الأستاذ يحيى مخاطباً الزعيم قاسم قائلا:
 سيادة الزعيم: إننا لا نطلب من سيادتكم سوى طلب بسيط، فنحن لا نطلب أن تعاقب أحداً، أو تسجن أحداً، وكل ما نطلبه هو نقل زمرة الضباط المذكورة إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، أو تفريقها في مناطق أخرى، منعاً لوقوع الواقعة.
 لكن الزعيم قاسم رفض ذلك رفضاً قاطعاً وأجاب بحدة:
{ إن هذه الأمور تتعلق بنا وحدنا ونحن لا نسمح لأحد بالتدخل فيها}.
وهكذا فقد بدا جو اللقاء مكفهراً، مما دفع بالمرافق الأقدم للزعيم [وصفي طاهر] إلى التدخل لتحسين الجو قائلاً:
{إننا لا نهاب الشواف، ونحن قادرون على جلبه إلى هنا هاتفياً في أية لحظة}.
 وأخيراً بدا عبد الكريم قاسم يغير اتجاه الحديث، عارضاً منجزات الثورة، وطموحاتها المستقبلية، وقبل نهاية اللقاء نهض الزعيم وتناول مجموعة من صوره الموقعة من قبله، وأخذ يوزعها على أعضاء الوفد، وبذلك أنتهي اللقاء، وغادر الوفد وزارة الدفاع، والكل يضرب أخماساً بأسداس، كما يقول المثل، ويسأل بعضه بعضا:
 هل ستقع الواقعة؟ بل متى ستقع بالتأكيد؟ وماذا ستكون النتائج؟
 عاد الوفد إلى الموصل والقلق بادٍ على وجوه الجميع، فقد كان الجو مكفهراً وينذر بالخطر.
 وفي تلك الظروف البالغة الخطورة، قرر الحزب الشيوعي بالتعاون مع حركة أنصار السلام، التي يساهم فيها الحزب بنشاط كبير، تحدي المتآمرين، وتوجيه تحذير إليهم بأن مدينة الموصل سوف لن تكون مسرحاً لاغتيال الثورة ومنجزاتها، وأن الشعب العراقي سوف يقف بالمرصاد لأي تحرك، معلناً عن تنظيم مهرجان لأنصار السلام في الموصل في أوائل آذار 1959.
 واستعدت القوى الديمقراطية والشيوعية والديمقراطية الكردستانية لذلك اليوم الموعود، وتقاطرت الوفود من أنحاء القطر للمشاركة في ذلك المهرجان، وكانت المظاهرة من الضخامة وحسن التنظيم ما أقلق قوى الظلام، وأثار غضبها، فنصبت الكمائن لتصب جام غضبها على المسيرة، وأمطرتها بوابل من الرصاص والحجارة، فجرح من جرح، وأدى ذلك إلى وقوع صدامات عنيفة مع المهاجمين.
 أكفهر الجو، ونزلت قوات كبيرة من الجيش والشرطة لإيقاف الصدام، وانتهى ذلك اليوم، وعادت الوفود إلى مدنها، وخيم الوجوم على الموصل وأبنائها، وتصاعد القلق كثيراً، فقد بدا واضحاً أن الوضع قد ينفجر في أية لحظة.
 وبالفعل لم يكد يمضِ سوى يومين حتى نفذ المتآمرون فعلتهم  بادئين ليلة 7/8  آذار باعتقال كل القادة  والناشطين في الأحزاب والمنظمات الديمقراطية، وبوجه خاص منتسبي الحزب الشيوعي، وقد جرى الاعتقال بأسلوب الاحتيال، حيث طلب الشواف اللقاء معهم في مقره  لدراسة الأوضاع السياسية المتدهورة، وسبل معالجتها، ولبى من لبى ذلك النداء ووقع في الفخ الذي نصبه الشواف لهم، واختفى من أختفي مشككاً بأهداف الاجتماع، وكان ما كان، فقد تم أخذَ الجميع بالشاحنات العسكرية معتقلين، وأودعوا الثكنة الحجرية.
 وفي الصباح كان المتآمرون قد هيئوا إذاعة منصوبة في شاحنة طويلة تحمل صندوقا كبيراً، كانت قد وصلتهم من الجمهورية العربية المتحدة  عبر الحدود السورية، وبادروا إلى إعلان بيانهم الأول معلنين قيام الانقلاب، ومطالبين عبد الكريم قاسم بالاستقالة.
 وفيما يلي نص البيان الذي أذيع في تمام الساعة السادسة والنصف من صبيحة  ذلك اليوم 8 آذار.
  نص بيان العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابي (26)
 أيها المواطنون:

 عندما أعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة في صبيحة 14 تموز الخالد، عندها حطم الاستعمار وعملائه، وقضى على النظام الملكي، وأقام بمؤازرتكم وتأييدكم النظام الجمهوري الخالد، عندما فعل جيشكم ذلك كله، لم يدر بخلده، ولا بخلدكم  أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد، وتزول طبقة استغلالية بشعة، ليحل محلها فئة غوغائية، تعيث بالبلاد والنظام والقانون فساداً، ويُستبدل مسؤولون وطنيون بآخرين يعتنقون مذهباً سياسياً لا يمت لهذه البلاد العربية الإسلامية العراقية بمصلحة. أجل لم يدر بخلد جيشكم الباسل، ولا بخلدكم أنتم أيها المواطنون الأباة، وقد انصرم على قيام ثورتكم الخالدة ثمانية أشهر، ولم تكن بلادكم الوفيرة الخيرات، إلا مسرحاً للفوضى، والبطالة، فيتحطم اقتصادها الوطني، وتتعطل مشاريعها العمرانية، وتنتزع الثقة من النفوس، ويختفي النقد من الأسواق، وتعيث بالبلاد مقابل ذلك فئة ضالة باغية لا دين لها، ولا ضمير، تخلق لها صنماً به لوثة في عقله وتعبده، ولا تخشى الله وتنادي به رباً للعالمين، وتُسخر موارد الدولة لتخلق منه زعيماً أوحداً، ومنقذاً أعظم. هذا الزعيم الذي خان ثورة 14 تموز، وعاث بمبادئها وأهدافها، ونكث بالعهد، وغدر بإخوانه الضباط الأحرار ونكل بهم، وأبعد أعضاء مجلس الثورة الأشاوس ليحل محلهم زمرة انتهازية رعناء، وقادته شهواته العارمة إلى تصدر الزعامة، وأعتمد على فئة تدين بعقيدة سياسية معينة لا تملك من رصيد التأييد الشعبي  غير التضليل، والهتافات الغوغائية، والمظاهرات، وغير الزبد الذي يذهب جفاء، وركب رأسه وأعلنها دكتاتورية غوغائية، فنحى زعماء الثورة عن المسؤولية، وأطلق للإذاعة والصحف عنان الفوضى، تخاصم جميع الدول،  وتشنها حرباً عدوانية على الجمهورية العربية المتحدة، التي جازفت بكيانها من أجل نجاح الثورة، ودعم كيانها وكيان الجمهورية، وأستهتر بدستور جمهوريتنا المؤقت، وسلب مجلس السيادة المؤقت كل مسؤولياته الدستورية، وأحتكرها لنفسه، وأعلنها حرباً شعواء على الجهات الوطنية، والعناصر القومية المخلصة، فزج في المعتقلات آلافاً من المواطنين الأبرياء، بما لم يسبق له مثيل حتى مع الطاغية [نوري السعيد] ولا المجرم [عبد الإله]، ولم يجرأ على فعلته الإجرامية أحد، وأنحرف منفذاً أوامر الجهات الغوغائية عن أغلى وأثمن ما يعتز به العراقيون عرباً وأكراداً، ألا وهو السير بسفينة البلاد إلى التضامن مع سائر البلاد العربية المتحررة، وأعلنها حرباً شعواء على الأمة العربية، لدرجة أن صار الهتاف بسقوط القومية العربية شعاراً له ولزمرته الباغية الفاجرة، وسلك في سياسته الخارجية مسلكاً وعراً، فلم يتقيد بمبادئ الثورة التي ترى من سياسة الحياد الإيجابي شعاراً لا يمكن الانحراف عنه.
 لهذه  الأسباب كلها، أيها المواطنون الأباة في شتى أنحاء جمهوريتنا الخالدة، عزمنا باسم العلي القدير، بعد اتفاقنا مع أخينا الزعيم الركن[ناظم الطبقجلي] قائد الفرقة الثانية، ومع كافة الضباط الأحرار في جيشكم الباسل، وبعد مشاوراتنا مع سائر العناصر السياسية المخلصة عزمنا في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ جمهوريتنا على تحرير وطننا الحبيب من الاستعباد والاستبداد، وتخليصه من الفوضى، معلنين لكافة المواطنين، عرباً وأكراداً، وسائر القوميات العراقية الأخرى التي يتألف من مجموعها شعبنا العراقي، الأبي الكريم إننا المحافظون على العهد  متمسكون بأهداف ثورة 14 تموز الخالدة، مراعون مبادئ دستور جمهوريتنا الفتية، نصاً وروحاً  عاملون على حسن تنفيذ وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي، وتطبيق سياسة اقتصادية اشتراكية ديمقراطية، تعاونية، ونطالب بحزم وإصرار تنحي الطاغية المجنون وزمرته الانتهازية الرعناء عن الحكم فوراً، والقضاء على السياسة الغوغائية، التي أخذت تمارسها فئة ضالة من شعبنا، لكي يسود النظام وحكم القانون في أرجاء الوطن العراقي الحبيب.
 ونعلن في هذه اللحظة التاريخية للعالم أجمع أن سياستنا الخارجية منبثقة من مصالح شعبنا وأمتنا، وإننا إذ نتبنى سياسة الحياد الإيجابي الدقيق إزاء الدول الأخرى، نصادق من يصادقنا، ونعادي من يعادينا، نعلن باسم الشعب العراقي أننا سنحافظ على التزاماتنا الدولية بوصفنا عضواً في الأمم المتحدة، ونعتز بصداقة البلاد التي أدت لنا ولأمتنا العربية أجل العون في محنتها الماضية، ومن تلك البلاد الاتحاد السوفيتي، وسائر البلدان الاشتراكية.
 وإلى جانب هذا، نعلن بإصرار تمسكنا باتفاقاتنا النفطية مع الشركات الأجنبية مراعين في ذلك مصالح اقتصادنا، وحقوقنا الشرعية، وسنضمن بحزم سير أعمال الشركات النفطية بكل حرية. ويسرنا أن نفتح صفحة جديدة من الصداقة القائمة على أساس الند للند مع كل دولة، ونود أن نوضح بجلاء أن أي تدخل خارجي في شؤوننا الداخلية من أي دولة كانت، في هذه الفترة التي تسبق قيام مجلس السيادة بمسئوليته الدستورية، ليؤلف وزارة شرعية في العاصمة بغداد، بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة، فأن هذا التدخل يعتبر ماساً باستقلال وسيادة جمهوريتنا، ويؤدي ذلك إلى أوخم العواقب.
أيها المواطنون:إننا، إلى أن يستجيب عبد الكريم قاسم، فينصاع للحق، ويتنحى عن الحكم فوراً، وإلى أن يمارس مجلس السيادة سلطاته، ليؤلف وزارة بالتعاون مع مجلس قيادة الثورة، قد أخذنا على عاتقنا بعد الاتكال على الله، مسؤولية إدارة البلاد، طالبين من إخواننا المواطنين الكرام شد أزرنا وعوننا، بالإخلاد إلى الهدوء والسكينة، دون أن يلزمونا إلى اتخاذ تدابير من شأنها الأضرار بالممتلكات، أو إلى سفك الدماء، وليكن كافة أبناء الشعب مطمئنين إلى إننا سنكون عند حسن ظنهم بتولي المطالبة بتحقيق أمانيهم. ونحذر في الوقت ذاته العناصر الهدامة من أننا سنأخذهم بالشدة إن عرضوا حياة المواطنين وحياة الأجانب وممتلكاتهم للخطر، وليعلم الجميع أن حركتنا الوطنية تستوي عندها جميع الفئات والهيئات، وأنها تحفظ لهم حقوقهم في الحرية إن لم يتجاوزا حدود القانون المرسوم والله ولي التوفيق.
                                                  العقيد الركن عبد الوهاب الشواف
                                                    قائد الثورة  ـ 8 آذار 1959
 
نظرة فاحصة في بيان الشواف:
 
بنظرة فاحصة لبيان العقيد الشواف، يتبين لنا أن هذا الشواف لم يكن سوى رجل متعطش للسلطة والتزعم، فلقد تجاوز قائده ورفيقه الزعيم [ناظم الطبقجلي]، قائد الفرقة الثانية، التي كان اللواء الذي يقوده  العقيد الشواف تابعاً له، متخذاً له صفة قائد الثورة، مما دفع الزعيم الركن الطبقجلي ناظم إلى عدم التحرك والمشاركة في الانقلاب، على الرغم مما ورد في البيان حول الاتفاق معه لتنفيذ الانقلاب.
كما أن الحركة كانت قد اعتمدت على الدعم الخارجي من قبل الجمهورية العربية المتحدة، فقد أرسلت للانقلابيين محطة إذاعة متنقلة، منصوبة فوق شاحنة كبيرة، مع كمية كبيرة من الأسلحة، بالإضافة إلى الدعم المادي والإعلامي الكبير، عبر محطتي إذاعة دمشق، وصوت العرب من القاهرة،  اللتان بادرتا إلى إذاعة بيان الشواف مراً وتكراراً، وكان من المنتظر تقديم الدعم الميداني للحركة لو قدر لها الصمود فترة أطول، ولكن سرعة قمع الحركة، ومقتل قائدها العقيد عبد الوهاب الشواف حال دون ذلك.
حاول العقيد الشواف مغازلة شركات النفط، وكسب ودها من أجل دعم انقلابه، مطمئناً إياها بأنه:[سيلتزم بحزم بالاتفاقيات المعقودة مع الشركات، ويضمن مصالحها] .
لم يكن العقيد الشواف صادقاً بمواصلة تطبيق قانون الإصلاح الزراعي وهو الذي لف حوله العناصر الرجعية والإقطاعية، والتي كان على رأسها شيخ مشايخ شمر[احمد عجيل الياور ]،الإقطاعي الكبير، والنائب السعيدي المزمن، حيث جرى تسليح القبائل الموالية له، وزجها في الحركة، كما ركز العقيد الشواف حملته الشعواء على الشيوعيين متهماً إياهم بنفس التهم التي كان [نوري السعيد] يستخدمها ضدهم، في العهد الملكي في محاولة لكسب ود الغرب ودعمهم لحركته.
واستخدم العقيد الشواف شتى النعوت والكلمات البذيئة بحق عبد الكريم قاسم  والتي تعبر عن سوء الخلق والضحالة، وعدم النضوج، ونال استهجان غالبية الشعب العراقي الذي يكن الولاء لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم.
 لقد تبين أن حركة العقيد الشواف لم تكن سوى حركة لمجموعة من الضباط المغامرين التواقين إلى السلطة، ولا يستندون إلى أي قاعدة شعبية، ولا عسكرية، فقد وقف فوج الهندسة التابع للواء القائم بالحركة بكافة ضباطه وجنوده ضد الحركة الانقلابية منذُ اللحظة الأولى، وقاومه بقوة السلاح، أما الجنود وضباط الصف، الذين كانوا بإمرة الانقلابيين، والذين انساقوا تحت وطأة الخوف من قادتهم فإنهم سرعان ما انتفضوا على ضباطهم المتآمرين
 وانضموا إلى جانب السلطة، ومقاومة الانقلاب.
وخلال المعارك التي دارت بين الانقلابيين، والقوى المساندة للسلطة، سقط من بين الانقلابيين [47 فرداً]، وذلك حسبما ورد في تقرير الطب العدلي، وأكده المقدم [ يوسف كشمولة]، أحد أركان المشاركين في الحركة الانقلابية خلال الاحتفال الذي أقيم في ملعب الموصل، بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، وإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، إحياءً لذكرى انقلاب الشواف، كما أن المجلس العرفي العسكري الذي أقامه انقلابيوا 8 شباط، قد أكد العدد المذكور.
في ذلك الحين كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة  تذيع أخباراً مذهلة عما سمته بالمجازر التي وقعت في الموصل، وادعت أن عدد القتلى من البعثيين والقوميين قد جاوز [20 ألفاً]، في محاولة منها لإثارة القوى القومية والبعثية للانتفاض على حكومة الثورة وإسقاطها.
لقد جرى تسخير هذه الإذاعة في تلك الأيام للهجوم على حكومة الثورة، وعلى القوى الديمقراطية والشيوعية، مستخدمة أبذأ الكلمات والعبارات التي لا تليق بدولة، كان لها من الاحترام والحب لدى الشعب العراقي إبان العهد الملكي ما يفوق الوصف، وخاصة عندما خاضت مصر بقيادة  عبد الناصر معركة السويس عام 1956 ضد العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي و الإسرائيلي، ويتلهف لسماع إذاعة[صوت العرب]!!.
لقد تكشف للأمة العربية وللعالم أجمع زيف وكذب تلك الإذاعة عما كانت تبثه من أخبار المجازر المزعومة في الموصل، وأساليب التحريض الرخيصة ضد ثورة 14 تموز وقيادتها، ليس حباً بالعراق وشعبه، ولا حرصاً على مصالحه، وإنما حباً في السيطرة على العراق، وضمه قسراً للجمهورية العربية المتحدة، دون أخذ رأي الشعب العراقي في مثل هذا الأمر الخطير، والهام الذي يتعلق بمصيره ومستقبله.
 كان من المؤسف أن ينبري الرئيس عبد الناصر في خطاباته آنذاك، يومي 11، و13 آذار لمهاجمة عبد الكريم قاسم، واصفاً إياه بالشعوبي تارة، وقاسم العراق تارة أخرى، ومركزاً حملته على الشيوعيين، متهماً إياهم بالعمالة لموسكو، وبخيانة الأمة العربية، كما صورت أجهزة إعلامه الأحداث التي جرت  خلال وبعد القضاء على تمرد الشواف بأنها أحداث رهيبة. 
لقد كان ذلك الموقف من عبد الناصر من الأخطاء الكبرى في سياسته تجاه العراق وثورته، فقد كان الأجدى به أن يمد يده لعبد الكريم  قاسم من أجل دعم ونهوض حركة التحرر العربي، ومكافحة النفوذ الإمبريالي في أنحاء العالم العربي، والعمل على إيجاد أحسن الوسائل والسبل للتعاون والتضامن مع العراق، واتخاذ الكثير من الخطوات التي تعزز التعاون والتكامل في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، وغيرها من المجالات الأخرى، وصولاً إلى إقامة أفضل أشكال الارتباط بين البلدين حين تتوفر الشروط الموضوعية والضرورية لنجاحها وديمومتها.
 إن الوحدة العربية هي فعلاً أمل كل الملايين من أبناء شعبنا العربي، لكنها ينبغي أن تقام على أسس صحيحة ومتينة، وبأسلوب ديمقراطي بعيداً عن الضم، وأساليب العنف.
 لم تصمد حركة العقيد الشواف الانقلابية سوى أقل من 48 ساعة، فقد كان رد الفعل لحكومة الثورة، والحزب الشيوعي، وحزب البارت الكردي وسائر الجماهير الشعبية المساندة للثورة سريعاً وحازماً، حيث جرى التصدي للانقلابيين، وقام فوج الهندسة التابع للواء المنفذ للانقلاب، بالإضافة إلى جانب كبير من الجنود وضباط الصف، وآلاف المسلحين العرب والأكراد، والذين نزلوا إلى الشوارع للتصدي للانقلابيين، وإفشال خططهم للإطاحة بالثورة وحكومتها، وقامت طائرات من سلاح الجو العراقي بقصف مقر قيادة الشواف الذي أصيب بجروح خلال القصف، ونقل إلى المستشفى الميداني، في معسكر الغزلاني حيث قتل هناك على يد النائب ضابط  المضمد [يونس جميل] وبمقتله تلاشت مقاومة الانقلابيين.
 وهكذا فشل تمرد الشواف، وتمت السيطرة على المدينة خلال أقل من 48 ساعة، وتم اعتقال عدد من الضباط المتآمرين، فيما هرب البعض الآخر إلى سوريا، وذهب ضحية ذلك الانقلاب حوالي (135) فرداً من الجنود الذين ساهموا في قمع الانقلاب.

الأحداث التي رافقت قمع المحاولة الانقلابية: 

لا أحد يستطيع أن ينكر وقوع أحداث وتصرفات وأخطاء ما كان لها أن تحدث، قامت بها عناصر معينة، أساءت إساءة كبرى للحزب الشيوعي، فقد جرى قتل وسحل عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية، وجرى نهب وحرق بيوتهم، وكان ذلك عمل لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال، وهو بعيد كل البعد عن المبادئ والمثل الإنسانية.
لقد وقف الحزب الشيوعي موقف المصدوم على ما يجري، دون أن يبذل الجهد الكافي لإيقاف تلك الأعمال والسيطرة على الغوغاء.
كما أقترف الحزب خطاً أكبر، عندما نصّبَ عدد من كوادر الحزب أنفسهم حكاماً، وقاموا بمحاكمة عدد من المشاركين في المحاولة الانقلابية، وحكموا على [17] منهم بالإعدام، وجرى تنفيذ الحكم  في منطقة الدملماجة  في ضواحي الموصل، وهذا أمرٌ لا يمكن قبوله إطلاقاً، وقد شكل إساءة كبيرة للحزب الشيوعي. 
لقد كان الأجدى بأولئك القادة اعتقال هؤلاء المتآمرين، وتسليمهم للسلطة الشرعية لتحيلهم بدورها إلى المحاكم المختصة لمحاكمتهم، والحكم على من يثبت مشاركته في المحاولة الانقلابية، فليس من حق أحد أن يمارس السلطة القضائية، ويصدر الأحكام  وينفذ الحكم، دون تخويل.
 كما أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه، الذي جرى تحذيره كما ورد سابقاً من حدوث ما لا يحمد عقباه ، ولكنه صمّ أُذنيه عن سماع التحذير، ورفض اتخاذ أي إجراء لمنع وقوع الكارثة، في حين كان بإمكانه أن يفعل ذلك.
 والأنكى من كل ذلك فأن قاسم نفسه، اتخذ فيما بعد من تلك الأحداث ذريعة ليصفي نفوذ الحزب الشيوعي في العراق، موجهاً الاتهامات لهم، ولاصقاً بهم الجرائم، بعد أن كان قد أستقبل وفداً من قيادة الموصل  للحزب بعد قمع انقلاب الشواف، وخاطبهم قائلا:
{ بارك الله فيكم، وكثّر الله من أمثالكم من المخلصين لهذا البلد}!!.
غير أنه لم يمضِ سوى بضعة أشهر على ذلك اللقاء، حتى بادر قاسم إلى اعتقال كافة الشيوعيين النشطين، وأودعهم سجن بغداد، ثم أحالهم إلى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم أحكاماً قاسية وصلت حتى الإعدام، وأبقاهم رهائن في السجن لكي يأتي انقلابيوا 8 شباط 1963، وينفذوا فيهم حملة إعدامات بشعة، ويعلقون جثثهم على أعمدة الكهرباء، في شوارع الموصل وكركوك، بعد أن مارسوا أشنع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم.
 لقد كان لموقف قاسم الجديد، خير مشجع لنشاط الزمر الرجعية، والعناصر التي شاركت في محاولة الشواف الانقلابية، والتي تكّن أشد العداء له ولثورة الرابع عشر من تموز، ولم يدرك قاسم أن عمله هذا إنما يعني انتحاره هو، ونحر الشعب العراقي، ونحر الثورة كذلك.
 لقد اتخذت تلك القوى من موقفه الجديد ذريعة لهم لشن حملة واسعة من الاغتيالات استمرت أكثر من ثلاث سنوات، وذهب ضحيتها مئات الوطنيين الأبرياء، وسوف أعود إلى هذا الموضوع في فصل قادم.
 وللحقيقة والتاريخ، أقول أن الحزب الشيوعي لم يكن يستحق من قاسم هذا الجزاء  رغم كل ممارساته الخاطئة، فقد كان الحزب وفياً لقيادته، سانده وحماه، وحمى الثورة في أشد الأيام صعوبة وخطورة، ولم يفكر يوماً في خيانته أو محاولة سلب السلطة منه آنذاك، في حين أن فرصاً كثيرة كانت لدى الحزب للسيطرة على الحكم بكل سهولة ويسر لو أراد ذلك.
 لقد كانت مواقف قاسم تلك من الحزب الشيوعي أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اغتيال الثورة، واغتياله هو بالذات.
لقد جرد نفسه من كل سند يحميه، وأخذ منه الغرور مكانه، معتقداً أن تلك القوى المعادية لمسيرة الثورة ستعود إلى رشدها، وتغير موقفها من السلطة  لكن الواقع كان يشير إلى تنامي الخطر الرجعي، والنشاط التآمري، على المستويين المحلي والدولي، من أجل إسقاط الثورة، وهذا ما تم فعلاً على يد تلك الزمرة الانقلابية يوم 8 شباط 1963، ويذكرني هنا قول الشهيد [جلال الأوقاتي] قائد القوة الجوية آنذاك، حيث قال:
{ إن الزعيم عبد الكريم قاسم سوف يدمر نفسه، ويدمر الشعب معه بسياسته الخاطئة}.
لقد حكم الإمبرياليون بالموت على عبد الكريم قاسم منذُ اللحظة التي قاد فيها ثورة 14 تموز ضد النظام الملكي المرتبط بهم، وقد حاولوا اغتيال الثورة في أيامها الأولى  بالتدخل العسكري المباشر، عندما نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وعندما حشدت تركيا وإيران قواتها على طول الحدود العراقية للمشاركة في العدوان.
 لكن موقف الاتحاد السوفيتي الداعم للثورة، وتهديدهم للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق حال دون ذلك، وأضطر الإمبرياليون إلى تغير خططهم من أجل إسقاط الثورة.
 وعندما أقدم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، واستطاع انتزاع 99,5 % من المناطق التي تحتوي على احتياطات نفطية هائلة بلغ استفزاز الثورة لهم أقصى درجاته، وجعلهم يركزون جهودهم بشكل محموم  لإسقاط حكومة الثورة.
لقد كان على قاسم أن يقدر طبيعة الصراع مع الإمبريالية، ويأخذ الدروس من مصير الدكتور مصدق، رئيس وزراء إيران، الذي أمم النفط الإيراني، لكنه لم يتخذ الإجراءات الاحترازية من أساليب الإمبرياليين ومؤامراتهم، فكان الانقلاب الذي دبرته الإمبريالية الأمريكية، والذي انتهي بكارثة كبرى على الشعب الإيراني.
 لكن قاسم لم يتعظ بدروس التاريخ، ووقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه مصدق، وانتهى إلى الموت صبيحة التاسع من شباط 1963، وحلت الكارثة الكبرى بالشعب العراقي، حيث جرّت تلك الأحداث المآسي والويلات على شعبنا منذُ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا.
ملاحظة:للحصول على نسخة من ذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التاليِ: Alhamdany34@gmail.com
www.Hamid-Alhamdany.com       





333
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الثانية عشرة

حامد الحمداني                                                       6/11/2009
الانشقاق

أولاً:انشقاق القوى القومية والبعثية بقيادة عبد السلام عارف:
لم تكد تمر سوى أيام قليلة من عمر الثورة التي باركها الشعب بكل قواه السياسية الوطنية حتى ظهرت بوادر الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية، فقد كانت خطب عبد السلام عارف وهو يطوف المدن العراقية، الواحدة بعد الأخرى، ويزور قطعات الجيش المتواجدة فيها تتناقض كلياً مع توجهات الثورة وأهدافها الآنية في إجراء التغييرات الضرورية في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تصفية مخلفات العهد السابق، وإجراءاته القمعية لحقوق الإنسان العراقي وحرياته. (1)
لقد سببت تلك الخطابات غير المسؤولة بلبلة كبرى في صفوف أبناء الشعب والقوات المسلحة من جهة، وإحراجاً لحكومة العراق أمام مختلف دول العالم، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية عبد الجبار الجومرد أن أبدى انزعاجه مراراً وتكراراً مما يرد في خطابات عبد السلام عارف.(2)
لقد تبنت القوى القومية والبعثية عبد السلام عارف، ودعمته تحت شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، دون مراعاة اختلاف الظروف الاقتصادية، والسياسية بين البلدين ودون مراعاة التركيب القومي للمجتمع العراقي، رافضين إعطاء الفرصة لإحداث التغييرات اللازمة في الهياكل السياسة والاقتصادية، والاجتماعية في الوطن.
بدأت تلك القوى منذُ الأيام الأولى للثورة تسيّر التظاهرات المطالبة بالوحدة الفورية، دون أن تستخلص التجربة من وحدة سوريا مع مصر التي جرت بصورة مستعجلة، وأدت إلى ظهور تناقضات  واسعة وعميقة  بين البلدين، والتي انتهت بالانفصال فيما بعد.
لقد اتهمت تلك القوى بقية القوى السياسية الوطنية بالشعوبية، والقطرية وغيرها من الاتهامات المشينة، لأنها أرادت التريث في الأقدام على خطوة خطيرة كهذه بالنسبة لمصير الشعب والوطن، وإيجاد أفضل الوسائل والسبل الكفيلة بإقامة أوسع ارتباط مع الجمهورية العربية المتحدة في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وصولاً إلى الوحدة فيما بعد، على أن تكون قائمة على أُسس ديمقراطية حقة، وبقرار الشعب نفسه، عبر انتخابات برلمانية حرة ونزيهة كيف ومتى يعلن الوحدة.
إن الوحدة العربية أملٌ كبيرٌ وعزيزٌ على كل عربي محب لأمته ووطنه،  ومن الضروري الأعداد لها بمنتهى التبصر والحكمة، وعدم التسرع، لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها الوحدة السورية المصرية.
لكن عبد السلام عارف والسائرين وراءهُ، ومحاولات التدخل من جانب السفارة المصرية لفرض الوحدة، أدت إلى تعمق الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية.
لم يكتفٍ عبد السلام عارف  بخطبه تلك بل سارع إلى إصدار صحيفة [صوت الجماهير] باسمه وترأس تحريرها الدكتور[سعدون حمادي] أحد قياديي حزب  البعث، مخالفاً بذلك قانون الصحافة، ومتجاوزاً كونه الشخص الثاني في حكومة الثورة، وقد استخدم تلك الصحيفة لإشاعة مفاهيم غير متفق عليها فيما يخص قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ولعبت تلك الصحيفة دوراً كبيراً في شق الصف الوطني منذُ الأيام الأولى للثورة. (3)
لقد حذر الزعيم عبد الكريم قاسم رفيقه في الثورة عبد السلام عارف من مخاطر تلك التصرفات وأثارها السلبية على مصير الثورة والشعب، وأضطر عبد السلام عارف تحت ضغط عبد الكريم قاسم إلى التنازل عن ملكية الصحيفة تلك، لكنه سلمها لحزب البعث، لكي تستمر على سياستها الهادفة إلى شق وحدة الشعب وقواه السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني، وخيمة ثورة 14 تموز المجيدة.(4)
وبعد عشرة أيام من قيام الثورة  زارالعراق [ميشيل عفلق] مؤسس حزب البعث، والتقى برفاقه في حزب البعث، مشدداً عليهم ضرورة العمل الجدي من أجل قيام الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. (5)
وفي 19 تموز سافر وفد عراقي برئاسة عبد السلام عارف، وعضوية عدد من الوزراء، والتقى الوفد بالرئيس [جمال عبد الناصر] وجرت مباحثات بين الطرفين انتهت بالتوقيع على اتفاقية للتعاون تضمنت  النقاط التالية:
1ـ التأكيد على الروابط بين البلدين، وعلى المواثيق، والعهود كميثاق الجامعة العربية، وميثاق الدفاع المشترك بين الدول العربية.
2ـ التأكيد على تنسيق المواقف بين البلدين فيما يخص الموقف الدولي  وتصميم الطرفين على التعاون والتنسيق ضد أي عدوان محتمل.
3ـ التعاون بين الطرفين في مجال العلاقات الدولية، والالتزام بميثاق الأمم المتحدة ودعم السلم العالمي.
4ـ التشاور والتعاون بين البلدين في كل ما يخص الشؤون المشتركة.(6)
وخلال تواجد الوفد العراقي في دمشق أجتمع عبد السلام عارف مع الرئيس عبد الناصر بصورة منفردة، حيث دار بين الجانبين نقاش حول محاولة إقامة الوحدة الفورية بين البلدين، وعاد الوفد إلى العراق، وعاد عبد السلام عارف يصعّد من حملته الرامية إلى الوحدة الفورية، ومُحدثاً شرخاً كبيراً في صفوف الثورة، والحركة الوطنية للشعب العراقي. (7)
واستغلت الإمبريالية وعملائها من الإقطاعيين والرجعيين الذين  تضررت مصالحهم من قيام ثورة 14 تموز تلك الأوضاع، فلقد وجدت الإمبريالية ضالتها المنشودة في تمزيق وحدة الشعب وقواه السياسية، وبدأت تصب الزيت على النار، مستغلة الشعارات التي رفعتها تلك القوى،لا حباً بالوحدة ولا رغبة فيها، وهي التي سعت دوماً إلى تمزيق الصف العربي، بل لتمزيق وحدة الشعب العراقي، وقواه الوطنية المنضوية تحت راية الثورة، لكي يسهل عليها تمرير مؤامراتها الهادفة إلى إسقاط الثورة، وتصفية كل منجزاتها.
كان على الطرف الآخر من المعادلة، وأعني به كل القوى الديمقراطية والشيوعية، التصدي لذلك الشعار غير المدروس، والذي رُفع في غير أوانه، حيث بادرت تلك القوى إلى رفع شعار[الاتحاد الفدرالي] مع الجمهورية العربية المتحدة، مع السعي لرفع تلك العلاقة إلى مستوى الوحدة الكاملة عندما تتوفر الشروط الموضوعية لها في المستقبل.

ثانياً:الوحدة الفورية والاتحاد الفدرالي وموقف السلطة:
بدأ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي، مظاهرات بعثية وقومية تهتف بالوحدة]، وأخرى شيوعية، وديمقراطية تهتف بالاتحاد الفدرالي و [الديمقراطية]، وأخذ الصراع يتصاعد في الشارع العراقي، ويزداد تعمقاً يوماً بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئاً نحو العداء السياسي، والخصومة الدموية بين البعثيين والقوميين من جهة، وبين الشيوعيين والديمقراطيين من جهة أخرى، وجرت احتكاكات بين المتظاهرين من كلا الجانبين، وتوسعت تلك الاحتكاكات لتصبح حالة من الصدام الشرس بين الطرفين حلفاء الأمس.
 وللحقيقة والتاريخ أقول أن الشيوعيين والديمقراطيين بذلوا أقصى الجهود من أجل إعادة اللحمة لجبهة الاتحاد الوطني، والسير معاً لتحقيق آمال وأحلام الشعب العراقي الذي قاسى عقوداً من الزمن من ذلك النظام القمعي،  الذي أمتهن حقوق الشعب وحرياته، والذي بدد ثروات البلاد في أمور لا تخدم مصالح الشعب، مما أبقاه في تخلف وجهل، وفقر مدقع.
كان الشعب العراقي يخوض خلال تلك الحقبة نضالاً متواصلاً من أجل حريته، وامتلاك ناصية أمره، لكن كل تلك الجهود التي بذلت في هذا السبيل ذهبت أدراج الرياح، فقد كان الطرف المنشق قد عقد العزم على السير حتى النهاية في هذا الطريق الخاطئ.
وهكذا تنافر القطبان اللذان كانا بالأمس القريب يعملان يداً بيد من أجل انتصار الثورة ونجاحها، وتحقيق الأهداف التي ناضل شعبنا من أجلها. ومما زاد في الطين بله دخول الجمهورية العربية المتحدة حلبة الصراع واضعةً كل ثقلها السياسي إلي جانب تلك القوى، ضاربةً عرض الحائط أهم ركن من أركان حركة التحرر العربي، ولم يكن الرئيس عبد الناصر يدري آنذاك أن أولئك الذين رفعوا تلك الشعارات لم يكونوا جادين في أقوالهم، بل أرادوا أن يكون التصاقهم به سلماً يصعدون بواسطته إلى قمة السلطة لا غير.(8)
لقد أثبتت الأحداث، بعد اغتيال ثورة 14 تموز،على أيدي نفس تلك الرموز في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 عدم صدقيتهم وإيمانهم بالوحدة، فلم يكد البعثيون يغتصبون السلطة أثر نجاح انقلابهم المشؤوم في الثامن من شباط 1963، حتى تنكروا لكل شعاراتهم، واستطابوا السلطة، واضعين تلك الشعارات على الرف.
 وحتى عبد السلام عارف، الذي أطاح بحكم البعث في انقلاب 18 تشرين الأول من نفس العام 1963، وأستحوذ على السلطة بصورة كاملة، فقد تنكر لكل أقواله وشعاراته حول الوحدة، وحبه لعبد الناصر، تلك هي الحقيقة التي لا مراء فيها، فقد كانوا غير وحدويين إطلاقاً، وإنما استخدموا رصيد الرئيس عبد الناصر السياسي والوطني من أجل وثوبهم على السلطة.
هكذا إذاً تعمقت الخلافات بين القوى السياسية، وأشتد التنافر بين القطبين الذين قادا ثورة الرابع عشر من تموز[عبد الكريم قاسم] و[عبد السلام عارف]، وحدث شرخ كبير بين تلك القوى التي سعت  قبل الثورة لأحداث التغيير المنشود، أمل الشعب الذي ناضل وضحى من أجله عدة عقود، ولم تفد جميع المحاولات لرأب الصدع، ورجوع عبد السلام والأحزاب القومية وحزب البعث عن سلوك التآمر على الثورة وقيادتها.
لقد وقفت القوى الديمقراطية والشيوعية بكل ثقلها إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم من أجل الحفاظ على الثورة ومكاسبها، ومن جانبه أعلن عبد الكريم قاسم في رده على أولئك الذين رفعوا شعار الوحدة الفورية، وسيروا المظاهرات في بغداد والمدن الأخرى، ولم يكونوا صادقين في شعاراتهم كما اثبت الواقع، فقد تحدث  قاسم في 27 تموز قائلاً:
{ ليست الوحدة شيئاً يقرره إنسان بمفرده، بل يجب أن تقرره الشعوب العربية نفسها}. (9)
 وفي خضم ذلك الصراع ظهر شعار[الزعيم الأوحد]، ذلك الشعار الذي كانت له جوانب سلبية على مجمل الحركة الوطنية، وعلى مستقبل العراق السياسي، حيث شجع عبد الكريم قاسم، وقد استهواه ذلك الشعار، على الاتجاه نحو الحكم الفردي  بعيداً عن أمال الشعب في قيام حكم ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة للمجلس التأسيسي، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق الحريات العامة، حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وتأسيس المنظمات الجماهيرية والمهنية، وتداول السلطة بشكل ديمقراطي سليم.
وكان الحزب الشيوعي قد انجّر هو وجماهيره  وراء ذلك الشعار من أجل تغليب كفة عبد الكريم قاسم، والحيلولة دون اغتيال  الثورة، وآمال الشعب التي عقدها عليها، وكان لذلك الموقف جانبه السلبي الخطير كما سنرى على مجمل مسيرة الثورة، حيث أخذ عبد الكريم قاسم يتحول شيئًا فشيئاً نحو الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، وتحجيم  بل وضرب تلك القوى التي كان لها الدور الفاعل والرئيسي في رجحان كفته في ذلك الصراع مع القوى البعثية والقومية، وإتباعه لسياسة التوازن  بين القوى المدافعة عن الثورة والمتآمرة عليها، وإطلاق يد الجهاز القمعي الذي أنشأه النظام السابق ضد الشيوعيين، والديمقراطيين، مما أدى إلى انعزاله عن الشعب وقواه الوطنية، وسهل على الإمبرياليين إنجاح مؤامراتهم الدنيئة يوم الثامن من شباط عام19.
ثالثاً:عبد السلام عارف يحاول اغتيال عبد الكريم قاسم
1ـ إعفاء عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة
   
أستمر عبد السلام عارف بإثارة الانشقاق في صفوف الحركة الوطنية وتعميقه، مهاجماً القوى السياسية الرافضة لشعار الوحدة الفورية، وكانت خطاباته السياسية في أنحاء البلاد قد أثارت قلق الزعيم عبد الكريم قاسم وسائر القوى الديمقراطية، فلم تكن تلك الخطابات تنم عن نضوج سياسي، ولا إدراك للمسؤولية، معرضاً الثورة لخطر جسيم.
ورغم كل النصائح التي وجهها له عبد الكريم قاسم وزملاءه في اللجنة العليا للضباط الأحرار، ومجلس الوزراء من مغبة الاستمرار على هذا النهج، وما يسببه من أضرار على مجمل الحركة الوطنية، ومستقبل العراق وشعبه.
 لكن عبد السلام عارف كان قد عقد العزم على السير في طريقه الخاطئ  ضارباً عرض الحائط بكل تلك النصائح، موصلاً البلاد إلى حافة الحرب الأهلية، وتعريض الثورة للضياع.
ولما لم يجد عبد الكريم  قاسم سبيلاً آخر لوقفه عن نهجه، ومحاولته إثارة الجيش، من خلال خطاباته المتواصلة بين القطعات العسكرية، فقرر إبعاده عن الجيش، وإعفاءه من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة. (10)
ففي 28 آب 1958 صدر مرسوم جمهوري وأُذيع من دار الإذاعة يقضي بإعفاء عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، مع بقائه بمنصبه الثاني كوزير للداخلية، وكان المرسوم قد أصبح ضرورياً، من أجل منع انقسام الجيش، وتهديد الثورة، ومصالح الشعب والوطن، والحد من اتصالاته بقطعات الجيش، وإلقاء الخطب النارية الداعية للوحدة الفورية!!.
لقد حاول عبد الكريم قاسم بذل أقصى جهده لإعادته إلى خط الثورة، اعترافاً منه بدوره في قيادة وتنفيذ الثورة، والحفاظ على العلاقة الوطنية التي جمعته به.
غير أن عبد السلام أزداد اندفاعاً وتهوراً، وأزداد دعم القوى البعثية والقومية له في مواقفه من خلال المظاهرات التي قاموا بها، والتي قابلتها القوى الديمقراطية بمظاهرات كبرى مضادة، رافعين شعار الاتحاد الفدرالي، و داعمة موقف عبد الكريم قاسم، الذي خرج ذلك اليوم ثلاث مرات ألقى خلالها خطابات سياسية أمام المتظاهرين المؤيدين له، والذين قُدّر عددهم بمئات الألوف، وقد بدا الوضع معقداً بصورة خطيرة، ينذر بوقوع أحداث جسيمة، فكان لابد والحالة هذه من اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد عبد السلام عارف.
2 ـ إعفاء عبد السلام من منصب وزير الداخلية،وتعينه سفيراً في بون: وهكذا أقدم عبد الكريم قاسم على خطوته الجريئة والحاسمة، فقد صدر مرسوم جمهوري وأذيع مساء يوم 30 أيلول 1958 يقضي بإعفاء عبد السلام عارف من منصب وزير الداخلية، وتعينه سفيراً في ألمانيا الغربية  آنذاك. (11)
 كما أجرى تعديلاً وزارياً شمل إعفاء [ فؤاد الكابي]ـ أمين سر حزب البعث ـ من وزارة الأعمار، وتعينه وزيراً بلا وزارة، كما أعفى الدكتور[جابر عمر] وزير المعارف، وأُنيطت الوزارتان المعارف والاعمار     بالوزيرين [محمد حديد] و[هديب الحاج حمود]، إضافة إلى منصبيهما  وهما من الحزب الوطني الديمقراطي، كما جرى تعيين الزعيم الركن [أحمد محمد يحيى ] وزيراً للداخلية.
رفض عبد السلام عارف الرضوخ لقرار الإعفاء، وقبول تعينه سفيراً، وأعتكف في بيته بالأعظمية رافضاً السفر.
وفي 2 تشرين الأول زاره في بيته الزعيم الركن[ ناجي طالب] والزعيم  [فؤاد عارف] والدكتور[جابر عمر]، وأبدوا عدم رضاهم لما حصل ووعدوه بالعمل على إعادته، وقد شكر لهم عارف موقفهم، مؤكداً لهم أن الحاجة تدعو إلى أكثر من ثورة. (12)
وفي صباح اليوم التالي وصل إلى عبد الكريم قاسم تقريرُ عن ذلك اللقاء  فما كان منه إلا أن أمر بإعادة الفوج الثالث من اللواء العشرين، الذي كان يقوده عبد السلام عارف، إلى مقره السابق في جلولاء، وأصدر قراراً بنقل العقيد الركن [عبد اللطيف الدراجي ] الذي  سبق أن عين آمراً للواء العشرين بعد نجاح الثورة، إلى آمرية الكلية العسكرية، كأجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم، من حدوث ما لا يحمد عقباه.

3 ـ عبد السلام عارف يحاول اغتيال عبد الكريم قاسم :
 في 11 تشرين الأول عُقد اجتماع بمقر عبد الكريم قاسم  بوزارة الدفاع حضره كافة قادة الفرق العسكرية، ورئيس أركان الجيش [أحمد صالح العبدي] والزعيم [عبد الكريم الجدة ] آمر الانضباط العسكري، والعقيد [وصفي طاهر] المرافق الأقدم  لقاسم، والزعيم الركن [ناجي طالب] وزير الشؤون الاجتماعية، والزعيم [فؤاد عارف]، وكان إشراك الثلاثة الأخيرين بسبب صداقتهم مع عارف، وجئ بعارف إلى هناك، حيث جرى نقاش طويل معه دام أكثر من خمس ساعات دون جدوى، غادر بعدها الجميع، ما عدا عبد السلام عارف، وفوأد عارف وصفي طاهر.
وبينما كان عبد الكريم قاسم يتناول بعض الأوراق من فوق المنضدة، فاجأه عبد السلام عارف بإخراج المسدس من جيبه، و محاولاً اغتياله، وبحركة خاطفة مسك عبد الكريم قاسم ذراع عبد السلام عارف مبعداً المسدس وصارخاً به: ماذا تفعل؟ أتريد قتلي؟
وبنفس اللحظة هجم فؤاد عارف نحو عبد السلام عارف، وأخذ منه المسدس وأفرغ منه الرصاص. (13)
وفي تلك اللحظة دخل العقيد وصفي طاهر، المرافق الأقدم لعبد الكريم قاسم وأمسك بعارف، الذي بدا عليه الانهيار والخور، فقد أصبح في موقف لا يحسد عليه، وادعى أنه كان ينوي الانتحار، وقد أجابه عبد الكريم قاسم على الفور:
{إذا كنت تنوي الانتحار فلماذا لم تنتحر في بيتك؟}. (14)
وعلى الرغم من  كل ما حدث، وبعد أن هدأ الموقف، ألتفت قاسم إلى عارف ناصحاً إياه قائلاً‍‍‍‍:
{سوف أعفو وعنك، ولكن عليك بالسفر إلى بون، من أجل مصلحة البلاد، لقد شقيت الشعب إلى نصفين، وأنا أُريد إبعادك عن رجال السوء، وسوف تعود حتماً بعد أن يهدأ الوضع، ويعود الوضع لحالته الطبيعية}.              لكن عارف ظل معانداً رغم كل النصائح .(15)                                 
وفي ساعة متأخرة من الليل أنفرد قاسم بعارف، وأبلغه بأن عليه أن يرحل غداً، وهذا قرار لا رجعة فيه، بعد أن شقت تصرفاته الشعب العراقي مما ينذر بحرب أهلية، وانقسام الجيش، وأن مستلزمات السفر قد هُيأت له، وقد
 وعده بالعودة بعد أن تهدأ الأمور.

4 ـ سفر عبد السلام عارف :
 رضخ عارف للأمر أخيراً، وقرر السفر يوم 12 تشرين الأول، وغادر بغداد بصحبة السفير العراقي السابق في بون السفير[علي حيدر سليمان]، وجرت له مراسيم توديع  شارك فيها قاسم نفسه، وعدد من كبار الضباط واتخُذت الإجراءات الأمنية المشددة في بغداد، وتقدمت سيارة عارف حتى الطائرة، وعانقه عبد الكريم قاسم  قبل أن يصعد عارف إلى الطائرة.
 توجه عارف برفقة السفير[علي حيد سليمان] إلى بروكسل، حيث زارا معرضها الدولي، ثم غادراها إلى روما، ومنها إلى فييّنا، وقد قدمت السفارات العراقية في تلك البلدان كل ما يلزم لاستقباله، والاهتمام به.
 لكن عبد السلام عارف لم تك له أية رغبة في تسلم مهام منصبه كسفير في ألمانيا الغربية  آنذاك، ورفض الدروس التي كُلف السفير علي حيدر سليمان إعطاءها له حول العمل الدبلوماسي قائلا له بالحرف الواحد:
 {لا تتعب نفسك فأنا لست سفيراً، ولن أكون كذلك}. (16)
لم يستقر عبد السلام عارف في عمله كسفي، ولم يحاول حتى ممارسة مهامه، بل كان يخطط للعودة إلى بغداد بالتنسيق مع زمرته من الضباط الذين كانوا يخططون للقيام بانقلاب عسكري، واغتيال ثورة الرابع عشر من تموز، واغتصاب السلطة، والتخطيط للقيام بمجزرة ضد الشيوعيين، وسائر القوى الديمقراطية التي وقفت إلى جانب عبد الكريم قاسم.
في 30 تشرين الأول، أبرق عارف لعبد الكريم قاسم يطلب منه العودة إلى بغداد، وقد أبلغه عبد الكريم قاسم برفض الطلب، ودعاه إلى عدم الإقدام على هذه الخطوة رحمة بالعراق وشعبه وثورته، إلا أن عارف كان قد صمم على العودة، وقام بشراء بطاقة السفر بنفسه، حيث غادر النمسا ليلة 3 /4 تشرين الثاني، خلافاً للأمر، وتوجه إلى بغداد.(17)
أبرقت السفارة العراقية في فينّا إلى وزارة الخارجية تبلغها بعودته، ووصل عبد السلام عارف بالفعل يوم 4 تشرين الثاني، وأستأجر سيارة أجرة من المطار، وتوجه إلى داره محاطاً برجال الأمن، واستدعاه عبد الكريم  قاسم بمقره في وزارة الدفاع، وحدثت أثناء المقابلة مشادة كلامية بينهما، بحضور الزعيم [عبد الكريم الجدة] آمر الانضباط العسكري.
ومع ذلك عاد عبد الكريم قاسم وخيره بأي سفارة يختارها محاولاً إقناعه، ولكن جميع المحاولات ذهبت أدراج الرياح، وعند ذلك أضطر عبد الكريم قاسم إلى الطلب من عبد الكريم الجدة اعتقاله، ونقله إلى آمرية الانضباط العسكري.
رابعاً: اعتقال عبد السلام، وإحالته إلى المحاكمة، والحكم بإعدامه:    
 في مساء ذلك اليوم 4 تشرين الثاني، وفي تمام الساعة العاشرة مساءاً  أذاعت محطتا الإذاعة والتلفزيون بياناً من القائد العام للقوات المسلحة هذا نصه:
 {عاد العقيد المتقاعد عبد السلام عارف، سفير العراق في بون، إلى بغداد دون أمرٍ أو إجازة، وبناءاً على مقتضيات المصلحة العامة، وبسبب من محاولاته المتكررة للإخلال بالأمن، والراحة العامة، فقد تمّ اعتقاله في هذا اليوم، وسيحال إلى المحاكمة بتهمة التآمر على سلامة الوطن. (18)
وفي ذلك اليوم أُعلن عن اكتشاف  مؤامرة  كان من المقرر تنفيذها يوم 5 تشرين الثاني يشترك فيها كل من العقيد [رفعت الحاج سري] مدير الاستخبارات العسكرية والعقيد [ صبحي عبد الحميد] والرائد [جاسم العزاوي] والمقدم[محمد مجيد] والرائد [ عبد الستار عبد اللطيف] والعقيد[صالح مهدي عماش] والعقيد [أحمد حسن البكر]، وعدد من الضباط الموالين لعبد السلام عارف، تهدف إلى تصفية عبد الكريم قاسم، ووصفي طاهر، وقد جرى اعتقالهم}. لكن عبد الكريم قاسم  أطلق سراحهم فيما بعد!!. (19)
 أما عبد السلام عارف  فقد تمت إحالته إلى المحكمة العليا الخاصة [محكمة الشعب] في 9 كانون الأول  1958 وفق المادة 80 من قانون العقوبات البغدادي، وقد أنكر عبد السلام وجود مثل تلك المؤامرة في محاكمته أمام محكمة الشعب، غير أن توقيت عودته في ذلك اليوم [ 4 تشرين الثاني] أثار الكثير من الشكوك حول تلك المحاولة الانقلابية، وعلاقة عبد السلام عارف بها.
وجهت المحكمة إلى عبد السلام عارف خلال محاكمته تهمة تنظيم وترأس جماعة من الضباط الناقمين، والذين كانوا على رأس عدد من الوحدات العسكرية، من أجل تدبير انقلاب عسكري ليلة 4/5 تشرين الثاني 1958، وهي تهمة تنطبق والمادة 80 من قانون العقوبات البغدادي، وعقوبتها الإعدام.
 كما وجهت له المحكمة تهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع، وقد نفى عارف عنه التهمتان، مدعياً أنه من أخلص الناس لعبد الكريم قاسم، وأنه لا يمكن أن يفكر بالأقدام على مثل تلك الخطوة.
 لقد جرت محاكمته حسب الأصول القانونية، وأُستدعي للشهادة عدد من كبار الضباط،  وكان من بينهم الزعيم فؤاد عارف الذي كان شاهداً على محاولة الاغتيال.
 وفي 5 شباط أصدرت المحكمة قرارها بتجريم عبد السلام عارف والحكم عليه بموجب التهمة الثانية بالإعدام، بعد أن برأته من التهمة الأولى لعدم ثبوت الأدلة. كما أوصت المحكمة الزعيم عبد الكريم قاسم بوصفه القائد العام للقوات المسلحة بتخفيف العقوبة، بموجب الصلاحية المخولة له، كما نص عليه قانون تشكيل المحكمة. (20)
 ومع كل ذلك فأن حكم الإعدام لم ينفذ بعارف، ولكنه مكث في السجن حتى أيلول 1961، حيث أطلق عبد الكريم قاسم سراحه من السجن، بعد وقوع الانفصال بين سوريا ومصر، كما أعاد له كافة حقوقه التقاعدية وأكرمه، وأرسله إلى مكة لأداء فريضة الحج، ظناً منه ـ أي عبد الكريم قاسم ـ أن سياسة  التسامح والعفو عن من حاول مراراً وتكراراً الغدر به وبالثورة قد تعيده إلى رشده وصفائه.
 لكن التاريخ أثبت عكس ذلك تماماً، حيث أستمر عارف بالتآمر على الثورة وقيادتها حتى تسنى له ذلك، بالتعاون مع حزب البعث، من اغتيال الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم  يوم الثامن من شباط عام 1963، حيث وقع عبد الكريم قاسم أسيراً بيد عبد السلام عارف وشركائه البعثيين، وناله من حقدهم ما ناله من الإهانات، وتم إعدامه على أيديهم، ولم يفد تذكير عبد الكريم قاسم لرفيقه عبد السلام عارف بأنه كان قد عفا عنه، وأنقذه من حكم الإعدام.

خامساً: مؤامرة رشيد عالي الكيلاني:
 رشيد عالي الكيلاني، رئيس وزراء، ووزير مخضرم في العهد الملكي، حيث شغل العديد من المناصب الوزارية، ولعب دوراً كبيراً في إسقاط العديد من الوزارات، والإتيان بغيرها، مستغلاً العشائرية والطائفية، قاد عام 1941، انقلاباً ضد حكومة[ياسين الهاشمي] بمعاونة قادة الجيش، العقداء الأربعة[صلاح الدين الصباغ] و[كامل شبيب] و[محمود سلمان] و[فهمي سعيد] وشكل وزارة برئاسته، وعلى اثر ذلك هرب الوصي عبد الإله إلى القاعدة البريطانية في الشعيبة.
 لكن القوات البريطانية احتلت بغداد وأعادت الوصي عبد الإله إلى العرش من جديد، وهرب الكيلاني إلى خارج العراق، حيث تمكن من الوصول إلى ألمانيا، وبقي فيها إلى ما قبل سقوط برلين، حيث هرب إلى سويسرا، ومنها إلى السعودية، وأخيراً أستقر به المقام في مصر.
 وعندما قامت ثورة 14 تموز عام 1958، أصدرت حكومة الثورة قراراً بالعفو عنه، حيث كان قد حكم عليه بالإعدام، واعتبرت حركة أيار 1941 حركة وطنية، وأُعيد الاعتبار إلى قادتها، وعليه فقد عاد رشيد عالي الكيلاني إلى العراق في الأول من أيلول 1958، بعد غياب دام 17 سنة مكرماً معززاً كأحد أبطال حركة أيار 1941، وقبل عودته قابل الرئيس عبد الناصر، وصرح بعد المقابلة، أنه يشعر بوجوب إقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة.
 قام عبد السلام عارف بزيارته في بيته، كما أستقبله عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع مرحباً به، بوصفه قائداً لحركة أيار 1941، لكن الكيلاني سرعان ما عاد إلى عادته القديمة ليشبع رغباته، وشهوته للحكم، ولم يمضِ على عودته سوي أيام قلائل حتى أصبح داره ملتقى لأصدقائه وأعوانه من الإقطاعيين والعديد من القوميين، وكان في مقدمتهم أبن أخيه [مبدر الكيلاني] والمحامي [عبد الرحيم الراوي] و[عبد الرضا سكر]، كما كان على علاقة وثيقة بسفارة الجمهورية العربية المتحدة.
  فُوجئ الشعب العراقي في 8 كانون الثاني  1959 بإذاعة بيان من دار الإذاعة صادر من القائد العام للقوات المسلحة [عبد الكريم قاسم ] جاء فيه:
 { أيها الشعب العراقي العظيم  بعون الله القدير، وبيقظة الشعب، تمّ اكتشاف مؤامرة خطيرة كان مقرراً لها أن تنفذ ليلة 8/9 لتعرض وحدة جمهوريتنا إلى الخطر، وتشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، وتهدد الأمن الداخلي،هذه المؤامرة هي من تدبير بعض العناصر الفاسدة  أُعدت بمساعدة الأجنبي من خارج البلاد، وإن الأدلة والأموال، والأسلحة التي كانت ستستخدم لتنفيذ هذه المؤامرة قد تم وضع اليد عليها. كما أن الضالعين والمدبرين لها قد أُحيلوا إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة [محكمة الشعب] لمحاكمتهم بتهمة الخيانة والتآمر على الوطن إننا ندعو الشعب إلى مزيد من اليقظة والحذر، من أجل المحافظة على النظام وإحباط الأعمال الدنيئة للعناصر المخربة في جمهوريتنا الخالدة}(21)
 كما قام تلفزيون بغداد بعرض جانب من الأسلحة والأموال التي تم ضبطها مع المتآمرين، ولم يوضح البيان بادئ الأمر طبيعة المؤامرة، ولا أسماء القائمين بها، ولا الدولة التي كانت وراءها، غير أن الراديو ذكر في اليوم التالي أن الرجعية التي تضررت مصالحها سبب قانون الإصلاح الزراعي  والشعارات القومية المزيفة كانت وراء تلك المؤامرة، وبعد أسابيع من صدور البيان، تبين أن رشيد عالي الكيلاني كان على رأس تلك المؤامرة التي ضمت زمرة من الإقطاعيين، وعدد من الضباط المحسوبين على الجناح القومي، وكان من بين تلك الزمرة أبن أخيه [مبدر الكيلاني]، والمحامي[ عبد الرحيم الراوي] و[عبد الرضا سكر] بالإضافة إلى عدد من شيوخ العشائر، وعدد من الضباط، كان من بينهم [طاهر يحيى] مدير الشرطة العام و[عبد اللطيف الدراجي] معاون رئيس أركان الجيش، و[رفعت الحاج سري]  رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، و[عبد العزيز العقيلي] قائد الفرقة الأولى في الديوانية، و[عبد الغني الراوي] أمر اللواء الخامس عشر  في البصرة وغيرهم من الضباط.
كما تبين للمحكمة أن رشيد عالي الكيلاني كان على اتصال وثيق بسفارة الجمهورية العربية المتحدة، وبشكل خاص مع رجال المخابرات، الملحقين العسكريين[عبد المجيد فريد] و[طلعت مرعي] و [محمد كبول]، وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها تمتلك أدلة قاطعة على وقوف عبد الناصر وراء محاولة رشيد عالي الكيلاني الانقلابية، وأن السفير البريطاني مايكل رايت قد قابل عبد الكريم قاسم الساعة الثانية ليلاً قبيل تنفيذ المحاولة الانقلابية، وابلغه بأن هناك محاولة انقلابية يقودها الكيلاني، وتقف وراءها الجمهورية العربية المتحدة، وأن هناك سلاحاً وأموالاً قد وُضعت تحت تصرف للانقلابيين. (22)
كان المقرر أن تقوم الحركة الانقلابية بتدبير الفوضى والاضطراب، وذلك عن طريق قطع خطوط الهاتف، وإخراج القطارات عن سكتها، واعتراض البريد، ووضع العوارض في الطرقات، وركز الكيلاني جهود حركته في مناطق العشائر في جنوب العراق، والفرات الأوسط، وعندما يتم لهم إثارة القلاقل والاضطرابات والبلبلة، يتقدمون بطلب استقالة عبد الكريم قاسم، مدعين أنه قد أوصل البلاد إلى الخراب والانقسام، وإذا رفض قاسم الاستقالة يتحرك الضباط المشاركون في المحاولة لإسقاطه بالقوة، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الكيلاني، ويعلن نفسه حاكماً عسكرياً عاماً  وقائماً بمهام رئيس الجمهورية.
 كما كان مقرراً تأليف مجلس لقيادة الثورة مؤلفاً من 15 عضواً، وتقرر أيضاً فور نجاح المؤامرة تأليف وزارة جديدة، وإعلان انضمام العراق للجمهورية العربية المتحدة، كما خطط المتآمرون لإلغاء قانون الإصلاح الزراعي، والقيام بحملة لإبادة الشيوعيين وأنصارهم.
لقد هيأ الانقلابيون الأسلحة المهربة من العربية المتحدة ـ القطر السوري  لكي توزع على مناصريهم حال بدء الحركة، كما أُعدت الطائرات العسكرية في سوريا لإسقاط التجهيزات العسكرية في أي منطقة من العراق يكون المتآمرون بحاجة إليها.
كما تلقى الكيلاني الأموال من السفارة المصرية لتوزيعها على شيوخ العشائر، عن طريق المصرف الوطني للتجارة والصناعة. (23)
 عين المتآمرون ليلة 8/9 كانون الأول 958 للشروع بالمؤامرة، ولكن المخابرات العراقية استطاعت كشف المؤامرة قبل وقوعها، حيث تمكنت من الوصول إلى عبد الرحيم الراوي ومبدر الكيلاني، واستطاعت نيل ثقتهما، وتمكنت من الوصول إلى كثير من أسرارها، وتسجيل أحاديث المتآمرين بكل تفاصيل المؤامرة.(24)
كان على رأس مجموعة أعضاء الاستخبارات التي كشفت المؤامرة  الرئيس [حسون الزهيري]، وضمت كل من الملازم الأول [أحمد العلي] و المحامي [عبد الرسول الصراف] و[ جاكوب بلاكن ] والملازم احتياط [محمد محسن سميسم ]، حيث أجتمع هؤلاء وكونوا جمعية سرية وهمية باسم [ جمعية الإخاء العربي] لغرض تغيير الوضع في العراق بالقوة، و تمكن أعضاء المخابرات المذكورون من الاتصال بـ [فارس الحسن]، أحد المتآمرين عن طريق [جاكوب بلاكن] عارضين التعاون لقلب حكومة عبد الكريم قاسم، وقد استطاعوا كسب ثقة [فارس الحسن]، الذي أباح لهم الكثير من تفاصيل المؤامرة وأهدافها ومدبريها، كما استطاعوا عقد اجتماع مع المحامي [عبد الرحيم الراوي ]، واستطاعوا تسجيل محضر الاجتماع وتم فيما بعد اعتقال المتآمرين، وضبط السلاح والنقود، وفي أثناء المحاكمة أعترف [ناصر الحسن] بتفاصيل المؤامرة. (25)
مثُل رشيد عالي الكيلاني، ومبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة ـ محكمة الشعب ـ حيث جرت محاكمتهم ليلة 9/10 كانون الأول، وصدر الحكم على مبدر الكيلاني، وعبد الرحيم الراوي، بالإعدام، ولم يثبت الاتهام ضد رشيد عالي الكيلاني، وتمت تبرئته من تهمة الاشتراك في المؤامرة.
غير أن المحكمة استدعته مرة أخرى يوم 15 كانون الأول بتهمة جديدة، هي تحريض دولة أجنبية على القيام بأعمال عدوانية ضد العراق، بعد أن تقدم كل من [مبدر الكيلاني] و[عبد الرحيم الراوي] برسالة إلى رئيس المحكمة طالبين الحضور إلى المحكمة لتقديم إفادة جديدة عن دور[رشيد عالي الكيلاني] في المؤامرة، وقد استجابت المحكمة إلى طلبهما واستدعتهما للتحقيق مرة أُخرى، حيث تحدثا أمام الهيئة التحقيقية بالتفصيل عن دور[رشيد عالي الكيلاني]، وهكذا أصبح الاثنان شاهدا إثبات في قضية جديدة.
كما استقدمت المحكمة شهوداً آخرين كان من بينهم [عبد الرضا سكر].
 وفي 17 كانون الأول صدر قرار الحكم ضد رشيد عالي الكيلاني بالإعدام شنقاً حتى الموت.
 لكن عبد الكريم قاسم لم يتخذ أي  إجراء ضد الضباط المشاركين في المؤامرة، بل أكتفي باحتجازهم لفترة قصيرة ثم أفرج عنهم، وعين عدد منهم في مناصب مدنية، وشارك هؤلاء فيما بعد في اغتيال الثورة، وعبد الكريم قاسم نفسه، فقد كان لهم دور رئيسي في انقلاب 8 شباط 1963، وكان تصرف قاسم هذا يمثل أحد أخطائه الكبرى في مهادنته وتسامحه مع المتآمرين، والعفو عنهم، لكي يعودوا من جديد للتآمر على الثورة وعليه هو بالذات.
 حرص قاسم على أن تجري المحاكمة في بادئ الأمر بصورة سرية، نظراً لعلاقة الجمهورية العربية المتحدة بها،  لكي لا يجعل المحاكمة سبباً في زيادة التوتر بين البلدين، ولم يتحدث الزعيم عبد الكريم قاسم بكلمة واحدة تمس سمعة الرئيس عبد الناصر طوال مدة حكمه.
 غير أن المحكمة ارتأت، بعد افتضاح أمر[رشيد عالي الكيلاني] واعترافات مبدر الكيلاني وعبد الرحيم الراوي أن تُجرى بصورة علنية، حيث افتضح دور العربية المتحدة في تلك المؤامرة.
 تعرضت المحكمة إلى حملة شعواء من العربية المتحدة، والعناصر القومية والقوى الرجعية، وعملاء الإمبريالية، وشركات النفط، والإقطاعيين الذين تضررت مصالحهم بقانون الإصلاح الزراعي، وجردوا من سلطانهم على ملايين الفلاحين، وفقدوا مراكزهم السياسية في البلاد، وشن عبد الناصر حملة شعواء على الزعيم عبد الكريم قاسم متهماً إياه تارة بكونه[شعوبي] وتارة أخرى[قاسم العراق]، وتهجم على محكمة الشعب، ولم يحاول عبد الكريم قاسم أن يرد ناصر بل تجاهله تماماً.
 ومهما قيل عن [محكمة الشعب] ورئيسها الشهيد [ فاضل عباس المهداوي] فأن تلك المحكمة كانت تمثل ضمير الشعب والثورة، فقد كانت المحكمة تعقد جلساتها بصورة علنية، وتنقل للشعب وللعالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون، وتوكل المحامين للمتهمين، وتمنحهم حرية الدفاع عن أنفسهم واستدعاء شهود الدفاع.
 إن على الذين أدانوا و يدينوا محكمة الشعب، ورئيسها الشهيد [المهداوي] أن يحدثونا عن محاكم العهد الملكي، ومجالسه العرفية، ومحاكم انقلابيي 8 شباط 963 الفاشيين، وعن المحاكم الصدامية الذائعة الصيت، وأخص بالذكر منها محكمة الثورة السيئة الصيت، وما اقترفته تلك الأنظمة من جرائم يندى لها جبين الإنسانية أزكمت روائحها أنوف ليس أبناء الشعب العراقي فحسب، بل انتشرت نتونها في جميع أرجاء العالم.

التوثيق
  (1) موسوعة 14 تموز ـ العدد 7 ـ ص 263 ز
(2) نفس المصدر السابق ـ العدد 1 ـ ص 79 .
(3) أسرار ثورة 14 تموز ـ صبحي عبد الحميد ـ ص 120 .
(4) صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 84 .
(5) العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 127 .
(6) تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري ـ نوري عبد الحميد العاني ورفاقه ـ الجزء ا ص99 .
(7) صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 85 .
(8) العراق ـ الكتاب الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 174 .
(9) المصدر السابق ـ ص 130 .
(10) مرسوم جمهوري صادر في 28 آب 1958 ـ أذيع من إذاعة وتلفزيون بغداد .
(11) مرسوم جمهوري صادر في 30 أيلول 1958 وأذيع من إذاعة وتلفزيون بغداد .
(12) ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 181 .
(13) نفس المصدر ـ ص 211 .
(14) المصدر السابق ـ ص 212 .
(15) نفس المصدر السابق .
(16) المصدر السابق ـ ص 207 .
(17 ) عبد الناصر والعالم ـ محمد حسنين هيكل ـ ص 189 .
(18) محاكمة عبد السلام ـ الجزء الخامس ـ 2043 ـ 2049 .
(19)أسرار ثورة 14 تموز ـ صبحي عبد الحميد ـ ص 144 ـ الطبعة الثانية .
(20) محاكمة عبد السلام عارف ـ الجزء الخامس ـ ص 2222 .
(21) بيان صادر عن الحاكم العسكري العام ـ أذيع من راديو وتلفزيون بغداد .
(22) ثورة 14 تموز ـ إسماعيل العارف ـ ص 376 .
  (23) التاريخ لم يبدأ غداً ـ نجم الدين السهروردي ـ ص 398 ـ 399
  (24) العراق في عهد قاسم ـ أوريل دان ـ الجزء الأول ـ ص 164 .
(25) ملف سيرة سلام عادل ـ نزيهة الدليمي وثمينة ناجي يوسف ـ الحلقة 8 ـ صحيفة الزمان 5/4/2000

ملاحظة: للحصول على هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي

 ِAlhamdany34@gmail.com
        www.Hamid-Alhamdany.com


334
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الحادية عشرة

حامد الحمداني                                                      4/11/2009
ثامناً: حكومة الثورة تواصل تدعيم كيانها:
كان لابدّ للثورة الوليدة أن تقوم ببعض الإجراءات السريعة لتثبيت أركانها، وصيانتها من أي تحرك معادي لها، وإجراء تغييرات جذرية في جهاز السلطة، بشقيه الأمني والإداري، والمقصود بالجهاز الأمني جهاز الشرطة والأمن، والمخابرات العسكرية التي أنشأها ورباها ودرّبها النظام السابق بأشراف الإمبريالية وهيمنتها، وقد قامت الثورة بإصدار عدد من المراسيم الجمهورية في هذا الاتجاه، إلا أن تلك الإجراءات لم تتخذ طابعاً جذرياً أبداً،  وفي كثير من الحالات، اكتفت بتغيير فوقي محدود جداً، مما أبقى ذلك الجهاز القمعي دون أن يصيبه ضرر كبير، وكان له دور فاعل فيما بعد في شل أعمال وتوجهات الثورة، ودق إسفين بين الشعب  والقيادة، والتستر على نشاط انقلابيي 8  شباط  1963، وبالتالي اغتيال الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، كما سنرى في فصول قادمة.
أما المراسيم التي صدرت في الأيام الأولى للثورة فكانت ما يلي:
1ـ مرسوم جمهوري بإلغاء الاتحاد الهاشمي الصادر في 15 تموز1958 
2ـ مرسوم جمهوري يقضي بمصادرة جميع أموال وأملاك العائلة المالكة والصادر في19 تموز.
3ـ مـرسوم جمهوري يقضي بإحالة [112] من كبار ضباط الجيش والشرطة على التقاعد خلال شهري تموز وآب 958 ، وقد أُعيد استخدام العديد منهم في وظائف مدنية.
 4 ـ  مرسوم جمهوري يقضي بطرد [ 4] من رجال الأمن، العاملين في مديرية التحقيقات الجنائية[الأمن العامة] تحت رئاسة [ بهجت العطية ] ولابدّ أن أشير هنا إلى أن هذا الأجراء لم تكن له سوى تأثيرات طفيفة على هذا الجهاز الخطير، الذي رُبي على انتهاك  حقوق الإنسان العراقي، وقد كان الواجب يقتضي حلّ هذا الجهاز تماماً، وإعادة تشكيل جهاز جديد، يحرص على الثورة، ويصون حقوق وحريات الشعب.
5 ـ صدور قانون المقاومة الشعبية، وبدء التطوع في 9 آب 1958، وقد عُين العقيد  شاكر علي قائداً عاماً لها، وقد أنظم إليه أكثر من [ 10] آلاف مواطن في اليوم الأول، ووصل العدد إلى [30] ألفاً خلال أسبوع.
6 ـ صدور قانون تطهير الجهاز  الحكومي، في 14 آب 1958، ويهدف القانون كما هو واضح من أسمه، إلى التخلص من العناصر الفاسدة التي أعتمد عليها النظام السابق إلا أنه لم يجر تغيراً جوهرياً في الجهاز الإداري  واكتُفى بفصل حوالي  100شخص فقط، وبقي هذا الجهاز دون أن تُجرى عليه تغيرات هامة، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى إضعاف مسيرة الثورة، وإبعاد جماهير الشعب عن قيادته بسبب تصرف ذلك الجهاز.
7ـ صدور مرسوم جمهوري بتكوين المحكمة العسكرية الخاصة[ محكمة الشعب] لمحاكمة رجال العهد الملكي السابق، ومحاكمة العناصر التي تحاول التآمر على الثورة، وأشار المرسوم إلى اختصاصات وصلاحيات المحكمة، ونص على محاكمة كل من أستخدم نفوذه، أو شارك في توجيه سياسة البلاد لغير المصلحة العامة، وتعريضها لخطر الحرب، أو زجها فيه أو أستخدم القوات المسلحة ضد الدول العربية الشقيقة، أو هدد باستخدامها، وكل من يتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الشقيقة، أو يقبل المتآمرين كلاجئين، أو يشوه سمعة رؤساء تلك الدول في المحافل الدولية.
 كما أعتبر بموجب القانون، متآمراً على سلامة الوطن، كل من صادر حقوق وحريات المواطنين المقررة في القانون الأساسي السابق، عن طريق المراسيم والأوامر والتعليمات والبيانات، أو تدخّل في شؤون القضاء، أو أستخدم القانون لمصلحة  شخصية، أو زّور الانتخابات، أو قام بالتأثير على معنويات الشعب، أو عرقل تطبيق القوانين الهادفة للعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، وكل من يبدد أموال الدولة، يعتبرون مفسدين لنظام الحكم .
 وقد نص القانون على معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن، بالأشغال الشاقة المؤبدة، أو الإعدام،  كما نص القانون على معاقبة مفسدي نظام الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة، وخول القانون القائد العام للقوات المسلحة، حق إيداع أي قضية، أو سحبها من المحكمة، وتصديق القرارات الخاصة بالإعدام، ونص القانون أيضاً على أن يطبق قانون العقوبات الساري المفعول بما لا يتعارض وقانون تشكيل المحكمة.
لقد تمّ في 19 آب 1958، إحالة ثلاثين من كبار الضباط، وواحد وسبعون من كبار المسؤولين من رؤساء الوزارات، والوزراء، وكبار رجالات الدولة إلي المحكمة التي بدأت محاكماتها في 16 آب 1958، واتخذت من مقر مجلس النواب السابق مقراً لها وجرت المحاكمات بشكل علني، حيث تم نقلها بالإذاعة، وعبر شاشة التلفزيون، على الشعب مباشرة.
8 ـ في 24 تموز 1958 أعلن وزير العدل عن إلغاء محاكمة السياسيين المعتقلين من قبل النظام السابق.
وتم تشكيل لجنة لدراسة قضايا كافة المعتقلين، لغرض إطلاق سراح السياسيين، وذلك لأن النظام السابق كان قد ألصق بالسياسيين تهماً غير سياسية، لغرض حرمانهم من كل حقوقهم وحرياتهم، وقد أطلقت الثورة سراح أكثر من[220] سجيناً شيوعياً كانوا قد قضوا سنين طويلة في السجون، وتعرضوا لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي.
9 ـ في 4 أيلول صدر قانون العفو العام عن جميع الأفعال الجرمية، ما بين سنة 1939، وحتى يوم 13 تموز 1958.

تاسعاً: إصدار قانون الإصلاح الزراعي:
كان إصدار قانون الإصلاح الزراعي في العراق في 30 أيلول 1958 ثورة اجتماعية حقيقية في أبعادها الإنسانية، إنه بحق تاج المنجزات التي حققتها الثورة لصالح ثلاثة أرباع الشعب العراقي، طبقة الفلاحين، التي كانت تكدح وتشقى، ولا تملك من دنياها شيئاً، تعمل طوال حياتها لصالح الإقطاعيين الذين استغلوها أبشع استغلال، وتركوا الفلاحين يعيشون في فقر مدقع، يسكنون الأكواخ الخالية من أبسط الشروط الصحية، حيث لا ماء نقي صالح للشرب، ولا كهرباء، و لا كساء، ولا أية  خدمات صحية، أو ثقافية، أو تعليمية يعملون بأكل بطونهم لا غير.
كانت ديون الإقطاعيين قد أثقلت كواهلهم، وأجبرتهم على  العمل في خدمة الإقطاعي، حيث ينص قانون العهد الملكي على عدم جواز ترك الفلاح عمله  في خدمة الإقطاعي طالما هو مدين له، وكان الفلاح مضطراً للاستدانة طول السنة من أجل تأمين الحاجات المادية له ولعائلته انتظاراً لموسم الحصاد، واستلام حصته من الريع الذي كان يذهب معظمه إلى جيب الإقطاعي، وهكذا فقد جاء هذا القانون ليحرر هذه الملايين الغفيرة من أبناء الشعب الذين يكونون العمود الفقري للمجتمع العراقي، ولينتزع  المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية من الإقطاعيين، ويحدد الحد الأعلى للملكية الزراعية [1000] دونم من الأراضي المروية، و[2000] دونم من الأراضي الديميةـ تعتمد على المطر ـ وتوزيع الأراضي المستملكة على الفلاحين الفقراء.
كما فرض القانون على جميع الملاكين استغلال الأرض وزراعتها لحين إكمال إجراءات الاستملاك والتوزيع، وتقرر البدء باستملاك الإقطاعيات الكبيرة، وأوضح القانون أن دفع التعويضات للإقطاعيين سوف يجري حسب القيمة الحالية للأرض، تسدد على مدى  20 سنة بفائدة سنوية مقدارها 3 % سنوياً، وتوزع قطعاً لا تزيد عن 30 دونما من الأراضي المسقية، وما بين 60ـ 120 دونماً من الأراضي الديمية على أن يدفع الفلاح ثمن أرضه المقرر بقرار اللجان المختصة مضافاً إليها 20 % من أصل القيمة، لتسديد مصاريف الاستملاك، وُيقسّط المبلغ على  20 سنة، هذا ما جاء به الفصل الأول من القانون.
أما الفصل الثاني فقد أختص بأحكام تأسيس الجمعيات الزراعية التعاونية وتنظيمها من أجل رفع كفاءة الفلاح العراقي، وزيادة الإنتاج، ولتسهيل الحصول على المعدات الزراعية الضرورية والأسمدة والمبيدات الحشرية. 

أما الفصل الثالث فقد نظم العلاقة بين صاحب الأرض والفلاح المستأجر، وفرض العقود الكتابية بينهما بصورة مباشرة، على أن لا تقل مدة العقد عن 3 سنوات، ومنع القانون طرد الفلاح، أو حبس وسائل السقي على أن لا يخل الفلاح بالتزاماته تماماً، وحدد حصة الفلاح من الزراعة ما بين 55 ـ 60 % من الإنتاج السنوي.
أما الفصل الرابع فقد أهتم في تحسين وضع الأجير الزراعي، حيث نص على تحديد الحد الأدنى للأجور السنوية لمختلف المناطق الزراعية على أن تقوم بتحديد الأجور، لجنة يشكلها وزير الزراعة، ويرأسها موظف كبير في الوزارة، وممثل لأصحاب الأراضي، وممثلان عن الفلاحين المزارعين، على أن يصادق الوزير على قرارات اللجنة.
كما نص القانون على إلغاء قانون [ حقوق وواجبات الزراع لسنة 933] وتقرر بموجب القانون تشكيل اللجنة العليا للإصلاح الزراعي برئاسة رئيس الوزراء، وتكون قرارات اللجنة قطعية.
حدد القانون مدة تنفيذه بخمس سنوات، وأعلن عبد الكريم قاسم ـ رئيس الوزراء ـ غداة إعلان القانون في 30 أيلول 58 ـ بأن الثورة وجدت أن القانون المذكور هذا هو الأساس في الإصلاح الاجتماعي، وأضاف بـأن الملاكين الصغار لن تمس أراضيهم، أما الكبار فسوف يعوضون تعويضاً عادلاًً، وبذلك سجل عبد الكريم قاسم مأثرته الكبرى بتصفية الإقطاع ركيزة الإمبريالية والنظام الملكي المنهار في العراق .(21)

نظرة في قانون الإصلاح الزراعي:
من خلال قراءة متأنية لهذا القانون نستطيع القول أن القانون الذي نال موافقة جميع أطراف جبهة الاتحاد الوطني بمختلف اتجاهات أحزابها، وموافقة اللجنة العليا للضباط الأحرار، كان بحق  ثورة اجتماعية كبرى تخص حياة أغلبية الشعب العراقي، وكانت له نتائج إيجابية كبيرة أثرت على مستوى حياتهم المعيشية، وحررتهم من نير الإقطاع، وفتحت الطريق واسعاً أمام إجراء تغييرات كبيرة واسعة في علاقات الإنتاج لصالحهم مما لا يمكن نكرانها أو التقليل من شأنها.
غير أن القانون لم يكن يخلُ من السلبيات التي يمكن تلخيصها بما يأتي:
1ـ كان تحديد الحد الأعلى 1000 دونم من الأراضي المروية و2000
دونم من الأراضي الديمية يمثل مساحة كبيرة، وكان بالإمكان تحديد نصف هذه المساحة.
2 ـ إن جعل مدة نفاذ القانون خمس سنوات كان طويلاً جداً، وكانت ذات تأثير سلبي على القانون نظراً لما قام به الإقطاعيون من تخريب اقتصادي بسبب استمرار نفوذهم طيلة تلك المدة، وكان من الأفضل أن لا تتجاوز مدة نفاذه أكثر من سنتين على أغلب الأحوال.
3 ــ إن مبلغ التعويضات الذي فرضه القانون أثقل كاهل الفلاح، في وقت كان فيه لا يملك شيئاً عندما صدر القانون، وكان بالإمكان التعويض كحد أعلى  عن 10000  دونم فقط، وما زاد عنها يستملك دون تعويض مما يخفف عن كاهل الفلاح المعدم، ويوفر له مجالاً أوسع لتطوير أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية.
 كما كان يقتضي مصادرة الأراضي العائدة للخونة من كبار الإقطاعيين الذين ساموا الفلاحين سوء العذاب طوال عقودً طويلة من الزمن دون تعويض.
4 ـ كان المفروض أن يتعرض القانون لمسألة صيانة الإنتاج الزراعي، وإدامته، وصيانة المشاريع الزراعية كمشاريع الري والمكائن الزراعية، والحفاظ على إنتاجية الأرض الزراعية، ومراقبة توزيع المياه بصورة عادلة، ومنع الإقطاعيين من القيام بأي تخريب يؤدي إلى هبوط الإنتاج الزراعي، والنص على فرض العقوبات الصارمة بحق كل من يحاول التخريب، وحرمانه من أي تعويض.
لقد سببت تلك الثغرات في قانون الإصلاح الزراعي هبوطاً حاداً في الإنتاج، وعرضت البلاد إلى مشاكل كبيرة كان بالإمكان أن لا تقع لو ألتفت مشرعو القانون لتلك الثغرات.
كما أن امتداد مدة نفاذ القانون إلى خمس سنوات كان سبباً في خلق الصراعات الحادة، والمشاكل الكثيرة بين الفلاحين التواقين إلى إنهاء سيطرة الإقطاع، والتحرر من نيرهم، وبين الإقطاعيين الذين عملوا جهدهم على عرقلة تنفيذ القانون.
 كما لعب الجهاز الإداري الذي خلفه النظام السابق، والذي لم يمسه سوى تغير سطحي طفيف، دوراً بارزاً في خلق العقبات أمام تنفيذ القانون، واستغلال الإقطاعيين لعلاقاتهم السابقة بذلك الجهاز من أجل وضع العراقيل وخلق المصاعب أمام اللجنة العليا للإصلاح الزراعي.
عاشراً: صدور قانون الأحوال المدنية:
كان قانون الأحوال المدنية الذي أصدرته حكومة الثورة، ثورة اجتماعية أخرى بعد قانون الإصلاح الزراعي، حيث عالج القانون حقوق وحرية المرأة، التي تشكل نصف المجتمع العراقي، وقد أكد القانون على حقوق المرأة، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، ومنها حق الإرث، وتنظيم شؤون العائلة، وقضايا الزواج و الطلاق، ومنع القانون الزواج بأكثر من واحدة، إلا في حالات خاصة، كعدم الإنجاب، والأمراض الخطيرة والمعدية.
أحدث هذا القانون دوياً هائلاً في الأوساط الشعبية، ولاقى دعماً وتأيداً كبيراً من قبل الأوساط التقدمية. لكن الأوساط الرجعية عارضته وحاربته بشدة بادعاء أن القانون يخالف الشريعة الإسلامية، وقد ألغى انقلابيوا  شباط 1963 مواداً عديدة من هذا القانون. 
أحد عشر:إجراءات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية:
كان على حكومة الثورة أن تقوم بالعديد من الإجراءات، ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي، المتعلقة بحياة الشعب المعيشية منها:
1 ـ تخفيف الضرائب غير المباشرة عن أبناء الشعب.
2 ـ تخفيض إيجار المساكن، والمحلات التجارية.
4 ـ زيادة رواتب الموظفين والعمال، ووضع رقابة على الأسعار.
5ـ توزيع مئات الألوف من قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود والموظفين والعمال لغرض بناء دور لهم عليها، وتقديم كل المساعدات الممكنة والقروض بشروط بسيطة لإنجاز بنائها.
6ـ إلغاء حزام الفقر حول بغداد من الصرائف وبيوت الطين التي أقامها مئات  الألوف من الفلاحين الهاربين من جور الإقطاع والعبودية والاستغلال، وقيام الحكومة ببناء مدينتي الثورة والشعلة، وتوسيع مدينة الحرية، وتوزيع آلاف المساكن على هؤلاء المعدمين والبؤساء.
7ـ فتح معاهد الأيتام والأطفال المشردين، والأحداث الجانحين، والاهتمام بتربيتهم، ونشأتهم نشأة صالحة.
8 ـ  تقليص ساعات العمل، وجعلها 8 ساعات، بعد أن كان العمال يعملون من شروق الشمس وحتى غروبها.
9 ـ  تشجيع استثمار رأس المال الوطني في المشاريع الصناعية بدلاً من الاستثمار العقاري والمضاربة العقارية.
10ـ  تطبيق قانون الضمان الاجتماعي للعمال الذي صدر عام 1956، ولم ينفذ حتى قيام الثورة 
11 ـ  فتح مجال الاستيراد والتصدير لكل فئات البرجوازية الوطنية بعد أن كانت حكراً على كبار الرأسماليين المرتبطين بالنظام السابق.
12 ـ  حماية الصناعات الوطنية أمام المنافسة الأجنبية.
13 ـ  وضع حد لتهرب كبار الرأسماليين من دفع الضرائب.
14ـ رفع معدلات التصدير للحبوب والجلود والتمور وغيرها.
15ـ سن قانون ضريبي جديد، وشمول الإنتاج الزراعي بالضريبة، حيث كان الإقطاعيون لا يدفعون الضرائب عن الإنتاج.
16ـ إلغاء تكبيل السجناء بالحديد، وتخفيض عقوباتهم إلي خمس المدة.
17ـ سن قانون مكافحة البغاء، وإنشاء مراكز إصلاح إجبارية لكافة المومسات، من أجل  إصلاحهن، وتوجيههن نحو حياة جديدة  ذات بعد إنساني، وتأمين مصدر دخل لهن.
18ـ توسيع وتطوير كافة الخدمات الصحية والتعليمية، وبناء الطرق والجسور، والمشاريع الصناعية  على قدر توفر الإمكانات المادية.
19ـ تأسيس جامعة بغداد، وتوسيع القبول فيها، من أجل تخريج الكوادر التي يحتاجها الوطن في عملية البناء والتطور والنمو  في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية.
كانت هذه أهم الإنجازات التي حققتها الثورة في الأشهر الأولى من عمرها في الحقل الداخلي .
 أما في الحقل الخارجي فقد كان أمام الثورة مهمات كبيرة وخطيرة يتعلق عليها مصير البلاد في المجالين السياسي والاقتصادي، وكان على رأس تلك المهمات ما يلي:
1ـ الخروج من حلف بغداد:
كان على رأس المهمات لحكومة الثورة في الحقل الخارجي الخروج من حلف بغداد، وتحرير العراق من التبعية السياسية والعسكرية للإمبريالية التي تهيمن على الحلف، والتي سخرت ثروات البلاد لكل ما يحقق أهدافها في المنطقة.
لم تستطع حكومة الثورة الإقدام على هذه الخطوة عند قيامها، بسبب الوضع الحساس الذي كانت تمر به الثورة، والتكالب الإمبريالي الهادف إلى إجهاضها، لكن عضوية العراق في واقع الأمر كانت قد انتهت منذُ اليوم الأول لقيام الثورة، ولم يشترك العراق في أي اجتماع لذلك الحلف.
وفي 24 آذار 1959  قررت حكومة الثورة الخروج من الحلف بصورة رسمية، وقام وزير الخارجية [هاشم جواد ] في ذلك اليوم بإبلاغ سفراء بريطانيا وتركيا وإيران والباكستان بقرار العراق الانسحاب من الحلف وتحرير العراق من أي قيد أو معاهدة تمس سيادته واستقلاله،  وأن هذا القرار يعبر عن رغبة الشعب العراقي في التخلص من كل أشكال الهيمنة الإمبريالية، وبذلك أصبح حلف بغداد بدون بغداد، واضطر الإمبرياليين إلى تغير أسمه ومقره، وأصبح يدعى [منظمة المعاهدة المركزية]، وتخلص العراق لأول مرة  من الهيمنة البريطانية منذُ احتلاله إبان الحرب العالمية
 الأولى ، وتمتع بحقوقه الكاملة كدولة مستقلة ذات سيادة. (22)
2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني:
كان ضرورياً أن تُتابع حكومة الثورة تحرير العراق السياسي بتحرير اقتصاده من الهيمنة البريطانية، والقيود التي فرضتها على العراق بارتباطه بمنطقة الإسترليني، حيث كان الدينار العراقي يتأثر بصورة مباشرة بتقلبات الجنيه الإسترليني، وخاصة عند ما كانت بريطانيا تقرر تخفيض عملتها، حسبما تقتضيه ظروفها الاقتصادية، أو نتيجة عوامل اقتصادية خارجة عن إرادتها.
لقد سبب ارتباط العراق بالإسترليني تضخماً هائلا في العملة العراقية إبان الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى التردي الخطير في الأوضاع المعيشية للشعب العراقي.
كما أدى هذا الارتباط بالإسترليني إلى عرقلة الإنتاج، وخفض أرباح التصدير والتأثير على الأسعار، وأدى إلى الحد من دخول رؤوس الأموال، وإلى الانكماش النقدي، و الأضرار بحركة الإنتاج.(24)                                                       
وهكذا فقد كان ارتباط العملة العراقية بالإسترليني يصب في خدمة الاقتصاد البريطاني يشكل عام، وكان لابدَّ لحكومة الثورة أن تُقدِّم على تحرير العملة العراقية، وفك ارتباطها بالإسترليني.
وهكذا دعت حكومة الثورة الجانب البريطاني إلى إجراء مباحثات بين الطرفين في 31 أيار 1959، وامتدت المباحثات حتى 4 حزيران، حيث أعلن عبد الكريم قاسم في خطابه، في مؤتمر المهندسين في 4 حزيران 1959 عن انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وبذلك أصبح العراق حراً في استعمال أرصدته الأجنبية بما يلائم مصلحة البلاد، وتنويع أرصدته من العملات الأجنبية القوية كالدولار مثلاً، وقد أكتسب الدينار العراقي قوة جديدة، حيث أصبح غطاؤه مكوناً من أقوى العملات الدولية، ومن الذهب، بعد أن كان يعتمد على الإسترليني فقط.
أّتبع العراق خطوته هذه بإقامة العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول المعسكر الاشتراكي، مما عزز استقلال البلاد الاقتصادي، وبالتالي استقلاله السياسي.
3 ـ معركة النفط وصدور قانون رقم 80 لسنة1961
كان على حكومة الثورة، بعد أن حررت العملة العراقية من هيمنة بريطانيا  أن تُتبع ذلك باستخلاص حقوق العراق بثروته النفطية من شركات النفط الاحتكارية، حيث استطاعت بريطانيا بعد احتلالها للعراق خلال الحرب العالمية الأولى الحصول على امتيازات غير عادلة لاستخراج النفط  بالتعاون مع شركات فرنسية وهولندية، وشملت مناطق الامتياز العراق كله من أقصاه  إلى أقصاه، فقد تم مسح الأراضي العراقية من قبل الشركات، وظهر أن العراق يملك احتياطات نفطية هائلة في مختلف المناطق.
إلا أن الشركات الاحتكارية لم تسع إلى استثمار النفط، وزيادة الإنتاج واكتفت بمناطق [كركوك] و[عين زاله] في الموصل، هذا بالإضافة إلى الشروط المجحفة بحق العراق لذلك الامتياز الذي فرضته بريطانيا على العراق، مستخدمةً قضية ولاية الموصل، ومحاولة  الحكومة التركية للاستحواذ عليها كوسيلة ضغط على المجلس التأسيسي، مخيرة إياه إما امتياز النفط بالشروط التي تريدها وإما أن تذهب ولاية الموصل، والتي تشمل محافظات الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية إلى تركيا، وهكذا تم إجبار الحكومة  العراقية على الرضوخ لمطالب الإمبرياليين.
  ولما قامت ثورة الرابع عشر من تموز 1958، كان عليها أن تضع نصب أعينها انتزاع حقوق العراق من شركات النفط الاحتكارية، والعمل على رفع معدلات الإنتاج، واستثمار الاحتياطات النفطية بغية تأمين الأموال اللازمة للنهوض باقتصاديات البلاد، وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية والعمرانية، والنهوض بالخدمات الأساسية للشعب  كمشاريع الماء والكهرباء، والإسكان، وبناء المدارس والمستشفيات وشق الطرق، وبناء السدود، واستصلاح الأراضي الزراعية، وكثير غيرها من المشاريع الطموحة التي كان العراق بأمس الحاجة إليها، لكثرة ما يعانيه من تخلف في كافة المجالات.
وعلى ذلك فقد سعت حكومة الثورة، بعد أن رسخت الثورة أقدامها، إلى دعوة الشركات النفطية لإجراء مفاوضات من أجل تعديل الاتفاقيات النفطية، واستخلاص حقوق الشعب العراقي في ثروته، والعمل على إشراك العراق برأسمال الشركات المستثمِرة، وإشراكه في مجالس إدارتها.
كان عبد الكريم قاسم قد نوه في أوائل أيام الثورة عن نيته في إجراء المفاوضات مع شركات النفط لاستخلاص حقوق العراق في إحدى خطبه أمام حشدٍ كبيرٍ من جماهير الشعب حيث قال:
 {إن حكومة الثورة سوف تفي بتعهداتها، ولكنها سوف تعمل من أجل المحافظة على مصلحة البلاد الوطنية العليا، وآمل بأن شركات النفط سوف تتجاوب مع رغبة الحكومة في الاستمرار باستثمار مصادر ثروتها النفطية لفائدة الاقتصاد الوطني}.
لقد أراد عبد الكريم قاسم إفهام شركات النفط، أن العراق لن يرضى أن تتحكم فيه شركات النفط كما تشاء، وأن مصلحة الوطن فوق كل المصالح. هكذا إذاً دعت حكومة الثورة، بعد تم تثبيت أركان النظام الثوري الجديد إلى إجراء المفاوضات حول المسائل التالية:
 1ـ توسيع الاستثمار ليشمل كافة المناطق التي استحوذت عليها شركات النفط بموجب الامتيازات المعقودة مع العراق، وخاصة تلك المناطق التي ثبت وجود احتياطات نفطية هائلة فيها مثل حقل الرميلة.
 2ـ طلب العراق زيادة حصته من واردات النفط، حيث أن معظم تلك الواردات تذهب إلى جيوب الشركات الاحتكارية، ولم يكن يصيب العراق منها إلا القليل.
 3 ـ طلب العراق المساهمة في رأسمال الشركات المنتجة للنفط لكي يرفع من حصته من الإنتاج، ولكي يكون له أعضاء في مجالس إدارتها التي كانت حكراً على شركات النفط فقط.
 4 ـ طلب العراق إجراء تصحيح أسس حسابات النفقات والأسعار ورفع الغبن الذي أصاب العراق جراء تلاعب شركات النفط بها.
 5 ـ طلب العراق أن تكون مصافي النفط في العراق خاضعة للدولة وملكاً لها، ورفع يد شركات النفط العاملة في العراق عنها.
كانت هذه هي أهم المطالب التي قدمها العراق لشركات النفط عند بدء المفاوضات معها في أوائل شهر آب 1958، إضافة إلى الطلبات الثانوية الأخرى. (24)
لم تبدِ الشركات النفطية أي مرونة، أو تنازل تجاه مطالب العراق، وخاصة حول الطلب الأول، وأصرت على مواقفها في جميع مراحل المفاوضات التي دامت أكثر من سنتين، وكل ما حصل عليه العراق في مفاوضاته تلك لا يعدُ أن يكون في المسائل الثانوية، مما دفع قيادة الثورة إلى توجيه إنذار للشركات النفطية بسحب المناطق غير المستثمَرة، والتي يشكل مجموعها حوالي 99.5% من مناطق الامتياز إذا لم تقم الشركات بالاستثمار فيها.
أما شركات النفط فقد تحدت حكومة الثورة فيما إذا كانت قادرة على الأقدام على مثل هذه الخطوة، وعلى الرغم من أن الوفد العراقي المفاوض ابلغ الشركات النفطية عن عزم الحكومة العراقية الأكيد على استرجاع حقوقه، وسحب المناطق غير المستثمرة، واستثمارها وطنياً، كان جواب رئيس الوفد المفاوض لشركات النفط ينم عن التحدي قائلا للوفد العراقي جواباً على الإنذار:[سوف نرى]!!، وكان يبدو واضحاً من هذا الكلام أن شركات النفط سوف تمنع ذلك بكل الوسائل والسبل، وفي المقدمة من ذلك السعي لإسقاط النظام الثوري في العراق.
 لقد كانت شركات النفط تبغي الضغط على حكومة الثورة، لعرقلة كل مشاريعها الطموحة لتطوير البلاد في كافة المجالات متذرعة ببنود المعاهدة المفروضة على العراق فرضاً، وفي سبيل تنفيذ خططها المعادية لعراق الثورة بدأت تكيل التهديدات لعبد الكريم قاسم وحكومته، وعملت كل ما في وسعها لبث الشقاق والصراع بين أطراف جبهة الاتحاد الوطني، ودفعها للتناحر من أجل تهيئة الظروف لتوجيه الضربة القاضية للنظام الثوري في العراق، ولم تقدم سوى تنازلات ثانوية فقط، كان من بينها التنازل عن مصفى الدورة في بغداد، ومصفى الوند في خانقين، والتنازل عن امتياز شركة خانقين، وإلغاء وكالة التوزيع لشركة نفط خانقين، واستلام العراق شؤون التوزيع، وتعريب المصافي المذكورة، والاستغناء عن خدمات الأجانب فيها، وإنشاء جهاز لتوزيع الغاز السائل على المستهلكين. (25)
لم تجد قيادة الثورة بُداً من تنفيذ تهديداتها لشركات النفط  لاسترجاع حقوق العراق في ثروته بعد تلك المفاوضات العقيمة التي دامت مدة طويلة دون التوصل إلى نتائج حاسمة تلبي مطالب العراق.
 حيث أعلن عبد الكريم قاسم في 21 كانون الأول 1961  القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي تم بموجبه استعادة 99,5 % من مناطق الامتياز من شركات النفط، وجاء القانون ضربة قاصمة لتلك الشركات  أفقدتها صوابها  وجعلتها تصمم على اغتيال ثورة  14تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وبدأت تعد العدة لانقلاب عسكري يطيح بحكومة عبد الكريم قاسم .(26)

4 ـ اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي:
 وضعت حكومة ثورة الرابع عشر من تموز نصب أعينها استكمال تحرر العراق الاقتصادي، وإقامة العلاقات الاقتصادية مع سائر بلدان العالم، وخاصة بلدان المعسكر الاشتراكي التي كان النظام السابق قد قطع كل صلاته بها بضغط من الإمبرياليين، مما جعل الاقتصاد العراقي وحيد الجانب تتحكم به الدول الإمبريالية حسب مشيئتها.
 وهكذا أقدمت حكومة الثورة على إعادة علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع تلك البلدان، وعملت جاهدة للاستفادة من إمكانيات وخبرات الاتحاد السوفيتي، وسائر البلدان الاشتراكية من أجل إقامة المشاريع الحيوية التي يحتاجها العراق، وتحرير تجارة العراق من هيمنة الإمبرياليين، وشروطهم المجحفة بحقه .
 وجاءت اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي تتويجاً للعلاقات الجديدة  القائمة على أساس احترام سيادة العراق واستقلاله، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والمنفعة المشتركة، واستطاع العراق بموجب هذه المعاهدة الحصول على قرض بمبلغ 55 مليون دينار عراقي بفائدة بسيطة لا تتجاوز 2,5 % سنوياً لتغطية نفقات التصاميم والمسوح والبحوث، وكذلك المكائن والآلات والمعدات، لمختلف المشاريع الصناعية والزراعية
والري، والاستفادة منها خلال 7 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية.
وبموجب الاتفاقية تعهد الاتحاد السوفيتي بتقديم كافة المساعدات الفنية والخبراء، والاستشارات ونصب المشاريع، وتنفيذها، وتدريب العراقيين للعمل عليها، وقد شملت تلك المشاريع، الفولاذ والأسمدة والكبريت، والأدوية، ومعامل إنتاج الكائن والآلات الزراعية، ومعمل اللوازم والعدد الكهربائية، ومعمل المصابيح الكهربائية، ومحطة إذاعة مع أربع مرسلات ومعمل للزجاج، ومعامل للمنسوجات القطنية والصوفية، والتريكو، ومعمل للتعليب، وبناء سايلوات كونكريتية للحبوب، ومساعدات فنية لتأسيس خمس مزارع حكومية، ومشاريع الري وبزل الأراضي، وتأسيس أربعة محطات لتأجير التراكتورات، هذا بالإضافة إلى القيام بأعمال المسح الجيولوجي، وتصليح الأجهزة الجيولوجية، كما نصت الاتفاقية على بناء خط سكة حديد جديد بين بغداد والبصرة. (27)
لقد اعتبرت تلك الاتفاقية خطوة جريئة من جانب حكومة الثورة لبناء القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي، وتحريره من التبعية للدول الإمبريالية.
كما استطاعت حكومة الثورة أن تعقد مع الاتحاد السوفيتي، اتفاقية أخرى لتسليح الجيش العراقي والحصول على الأسلحة المتطورة التي حرمه منها الإمبرياليين، وبأسعار تقل كثيراً عن الأسلحة الغربية.

التوثيق
 (21) الإصلاح الزراعي في العراق - عبد الرزاق الظاهر - ص 15 .
 (22) مذكرة وزارة الخارجية العراقية / الدائرة السياسية / الشعبة الغربية / الرقم غ /63/63
 (23) خطاب الزعيم عبد الكريم قاسم في مؤتمر المهندسين في 4 حزيران 1959       
 (24) هذا طريق 14 تموز ـ إبراهيم كبه ـ ص 41 .
 (25) المصدر السابق  ـ إبراهيم كبه ـ ص 43 .
 (26) نفس المصدر ـ ص 45 .
 (27) دراسة حول اتفاقية التعاون الجاسم ـ ص 3 ، 4 .

ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي

Alhamdany34@gmail.com

335
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة العاشرة

حامد الحمداني                                                       2/11/2009

سادساً:البيانات والمراسيم الصادرة في اليوم الأول للثورة

  بيان رقم ـ2ـ يقضي بتعيين مجلس السيادة من السادة:
     محمد نجيب الربيعي ـ رئيساً     
     محمد مهدي كبه ـ عضواً   
     خالد النقشبندي  ـ عضواً     
 وقد روعي في تشكيل مجلس السيادة أن يمثل الطوائف الإسلامية، الشيعية والسنية، والقوميتان العربية والكردية، هذا وقد صدرت عن قيادة الثورة المراسيم التالية :
1 ـ مرسوم جمهوري رقم (1 ) يقضي بتعين كل من:
  الزعيم الركن عبد الكريم قاسم قائداً عاماً للقوات المسلحة.
  العقيد الركن عبد السلام عارف نائباً للقائد العام للقوات المسلحة.
2ـ مرسوم جمهوري رقم (2) يقضي بتشكيل أول وزارة للجمهورية العراقية، تم اختيار أعضائها من أعضاء اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار، واللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني، وجاءت الوزارة على الوجه التالي :
1ـ عبد الكريم قاسم ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع.
2ـ عبد السلام عارف ـ نائباً لرئيس الوزراء، ووزيراً للداخلية.
3ـ ناجي طالب ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
4 ـ عبد الجبار الجومرد ـ وزيراً للخارجية.
5 ـ جابر عمر ـ وزيراً للمعارف.
6 ـ محمد حديد ـ وزيرا للمالية.
7 ـ هديب الحاج جمود ـ وزيرا ًللزراعة.
8 ـ إبراهيم كبه ـ وزيراً للاقتصاد.
9 ـ مصطفى علي ـ وزيراً للعدلية.
10 ـ محمد صالح محمود ـ وزيراً للصحة.
11 ـ فوآد الركابي ـ وزيراً للأعمار.
12 ـ صديق شنشل ـ وزيراً للإرشاد.
13 ـ بابا علي الشيخ محمود ـ وزيراً للمواصلات. (19)
وبنظرة متبصرة في التشكيلة الوزارية نجد أن تشكيلها قد روعي فيه إشراك كل القوى السياسية من القوميتين العربية والكردية، باستثناء الحزب الشيوعي، حيث أكتفي بإسناد وزارة الاقتصاد للشخصية الماركسية  [الدكتور إبراهيم كبه]، وكان تعليل ذلك بسبب الظروف المحيطة بالثورة، وعدم رغبة قيادة الثورة باستفزاز الإمبرياليين، من وجود ممثلين عن الحزب الشيوعي في الحكومة.
غير أن الحقيقة التي لا جدال فيها أن مجرد قيام الثورة قد شكل أكبر استفزاز للإمبرياليين، ومع ذلك فقد أعلن الحزب الشيوعي عن وضع كافة إمكاناته في خدمة الثورة.
  ضمت الوزارة بالإضافة للعسكريين الثلاثة من اللجنة العليا للضباط  الأحرار [عبد الكريم قاسم] و[عبد السلام عارف ] و[ وناجي طالب]، ممثلاً لحزب البعث بشخص أمينه العام [ فوآد الركابي]، وممثل الحزب الاستقلال بشخص نائب الرئيس[صديق شنشل]،بالإضافة إلى عضو مجلس السيادة،رئيس الحزب [محمد مهدي كبه].
أما الحزب الوطني الديمقراطي فقد مثله كل من [ محمد حديد ]، نائب رئيس الحزب و[هديب الحاج حمود ]، عضو قيادة الحزب.
 ومن الناحية القومية فقد مثل الأكراد كل من [بابا علي الشيخ محمود] و[مصطفى علي]، فيما مثل القوميين المستقلين كل من الدكتور[عبد الجبار الجومرد] والدكتور[ جابر عمر] والدكتور[محمد صالح محمود].
3 ـ  مرسوم جمهوري رقم ( 3): يقضي بتعيين قادة القوات المسلحة وكما يلي :
الزعيم الركن احمد صالح العبدي ـ رئيساً لأركان الجيش.
 الزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي ـ قائداً للقوة الجوية
الزعيم الركن عبد العزيز العقيلي ـ قائداً للفرقة الأولى.
الزعيم الركن ناظم الطبقجلي ـ قائداً للفرقة الثانية.
الزعيم الركن خليل سعيد ـ قائداً للفرقة الثالثة.
الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد ـ قائداً للفرقة الرابعة المدرعة.
العقيد طاهر يحي ـ مديراً عاما للشرطة.
العقيد عبد المجيد جليل ـ مديراً للأمن العام.
4 ـ  مرسوم جمهوري رقم (4 ): تغير أسماء ألوية الجيش التي كانت تعود لأسماءٍ ملكية.
5 ـ  مرسوم جمهوري رقم (5): يقضي بتعيين عدد من كبار الضباط بوظائف مدنية ، حيث يقضي القانون العسكري بعدم جواز وجود من هو أعلى رتبة من القائد العام في الجيش والمتمثل  بالزعيم  عبد الكريم قاسم.
6 ـ صدور بيان رقم (3 ) : صادر من القيادة العامة للقوات المسلحة معلناً سريان الأحكام العرفية في كافة أنحاء البلاد، وتنصيب الزعيم الركن [احمد صالح العبدي] حاكماً عسكرياً عاما، و ذكر البيان أن الأحكام العرفية  لها صفة مؤقتة، من أجل   حماية الثورة، وتثبيت أركانها، لكن ما يؤسف له كثيراً أن الأحكام العرفية بقيت سارية المفعول حتى النهاية.
لقد استند بيان الأحكام العرفية إلى مرسوم الإدارة العرفية رقم 18 لسنة 1935، الذي صدر على عهد وزارة المدفعي، وكان رشيد عالي الكيلاني وزيرا ًللداخلية آنذاك، وكان بالإمكان أن يكون البديل عن هذا المرسوم غير الدستوري، محكمة الشعب ـ المحكمة العسكرية العليا الخاصة - التي صدر قرار بتشكيلها، وتوسيع صلاحياتها لضمان حماية الثورة، وانتهى اليوم الأول للثورة بتدعيمها وتعزيزها وشل قدرة النظام السابق، ومنعه من القيام بأي عمل ضدها لإجهاضها والقضاء عليها.
لقد حمت الثورة نفسها وثبت أقدامها بمساندة ودعم جماهير الشعب التي نزلت في شوارع بغداد، وبقية المدن الأخرى بمئات الألوف، مما أرعب القوى المضادة للثورة وشل حركتها، كما كان للموقف الذي وقفه الاتحاد السوفيتي المساند الحازم للثورة أثره الكبير في إفشال خطط الإمبرياليين في إجهاضها.
سابعاً: صدور الدستور المؤقت

 كان من الطبيعي بعد نجاح الثورة، وسقوط النظام الملكي، أن يسقط الدستور تلقائياً، وهذه القاعدة لها سوابق كثيرة، ولذلك فقد ارتأت حكومة الثورة إصدار دستور مؤقت للبلاد، لحين انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه وضع دستور دائم للبلاد.
 وهكذا فقد عهدت حكومة الثورة إلى لجنة برئاسة المحامي [حسين جميل] العضو القيادي في الحزب الوطني الديمقراطي، وعضوية السيدين [حسين محي الدين] و[عبد الأمير العكيلي] وهم جميعاً من رجالات القانون المعروفين، مهمة وضع مسودة دستور مؤقت للبلاد في 20 تموز 1958   بعد أن أعطيت لهم الخطوط العريضة في توجه حكومة الثورة، ليسيروا على هديها.
 وقد أتمت اللجنة عملها ورفعته إلى مجلس الوزراء، الذي صادق عليه، بعد أن أجرى عليه بعض التعديلات، وأحاله إلى مجلس السيادة الذي صادق عليه بدوره، وصدر في بغداد في 27 تموز 1958، وتضمن مقدمة وأربعة أبواب. (20)
 
نص الدستور المؤقت
المقدمة :
لما كانت الحركة الوطنية التي قام بها الجيش العراقي، بمؤازرة الشعب  وتأييده، في 14تموز 1958 تهدف إلى تحقيق سيادة الشعب، والعمل على منع اغتصابها، وضمان حقوق المواطنين وصيانتها، ولما كان الحكم السياسي السابق  في البلاد الذي تمّ التخلص منه قائما على أساس الفساد السياسي حيث أغتصب السلطة أفراداً حكموا البلاد على خلاف إرادة الأكثرية، وضد مصالح الشعب، وإذ كان هدف الحكم تحقيق منافعهم، وحماية مصالح الاستعمار، وتنفيذ مآربه كما جاء في البيان الأول، الذي أُعلن للشعب في 14 تموز 1958، في بدء الحركة الوطنية، فأننا باسم الشعب نعلن سقوط القانون الأساسي العراقي، وتعديلاته كافة، منذُ 14تموز 1958، ورغبة في تثبيت قواعد الحكم، وتنظيم الحقوق والواجبات لجميع المواطنين نعلن الدستور المؤقت هذا، للعمل بأحكامه في فترة الانتقال، أن يتمّ تشريع الدستور الدائم .
الباب الأول
 الجمهورية العراقية
المادة  1: الجمهورية العراقية، جمهورية مستقلة ذات سيادة.
المادة 2 : العراق جزء من الأمة العربية.
المادة 3 : يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة  باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم، ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، ويقرّ هذا الدستور حقوقهم القومية، ضمن الوحدة العراقية.
المادة 4 : الإسلام دين الدولة.
 المادة 5: عاصمة الجمهورية العراقية بغداد.
المادة 6: تعيين العلم العراقي، وشعار الجمهورية والأحكام الخاصة بها بقانون.
الباب الثاني
 مصدر السلطات ،والحقوق،والواجبات العامة
المادة 7 : الشعب مصدر السلطات.
المادة 8 : الجنسية العراقية يحددها القانون.
المادة 9:المواطنون سواسية أمام القانون، في الحقوق والواجبات العامة.
المادة 10: حرية الاعتقاد، والتعبير مضمونة، وتنظم بقانون.
المادة 11: الحرية الشخصية، وحرمة المنازل مصونتان، ولا يجوز التجاوز عليهما إلا حسبما تقتضيه السلامة العامة، وينظم ذلك بقانون.
المادة 12: حرية الأديان مصونة، ويجب احترام الشعائر الدينية،على أن لا تكون مخلة بالنظام  العام، ولا متنافية  مع الآداب  العامة.
المادة 13: الملكية الخاصة مصونة، وينظم القانون وظيفتها الاجتماعية، ولا تنتزع إلا للمنفعة العامة مقابل تعويض عادل وفق القوانين.
المادة 14 : الملكية الزراعية تحدد وتنظم بقانون.
المادة 15: لا يجوز فرض ضريبة، أو رسم أو تعديلهما، أو الغائهما إلا بقانون.
المادة 16: الدفاع عن الوطن واجب مقدس، وأداء الخدمة العسكرية شرف للمواطنين وتنظم أحكامها بقانون.
المادة 17: القوات المسلحة في الجمهورية العراقية ملك للشعب، ومهمتها حماية سيادة البلاد وسلامة أراضيها.
 المادة 18: الدولة هي وحدها التي تنشئ القوات المسلحة، ولا يجوز لأية هيئة، أو جماعة إنشاء تشكيلات عسكرية، أو شبه عسكرية.
المادة 19: تسليم اللاجئين السياسيين محظور .
الباب الثالث
 نظام الحكم
المادة 20: يتولى رئاسة الجمهورية مجلس السيادة، ويتألف من رئيس وعضوين.
المادة 21: يتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية، بتصديق مجلس السيادة.
المادة 22: يتولى مجلس الوزراء، والوزراء، كلٌ فيما يخصه من أعمال السلطة التنفيذية.
المادة 23: القضاة مستقلون، ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأي سلطة التدخل في استقلال القضاء، أو في شؤون العدالة، وينظم القانون الجهاز القضائي.
المادة 24: جلسات المحاكم علنية، إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية، مراعاةً للنظام والآداب العامة.
المادة25: الأحكام تصدر، وتنفذ باسم الشعب.                       .                                             المادة 26: تنشر القوانين في الجريدة الرسمية، ويعمل بها من تاريخ نشرها  إلا إذا نص فيها على خلاف ذلك وإذا لم يذكر تاريخ تنفيذها، تنفذ بعد عشرة أيام من اليوم التالي ليوم النشر.
الباب الرابع
 أحكام انتقالية
المادة 27: يكون للقرارات والأوامر والبيانات، والمراسيم الصادرة من القائد العام للقوات المسلحة، أو رئيس الوزراء، أو مجلس السيادة في الفترة من 14 تموز 1958، إلى تاريخ تنفيذ هذا الدستور المؤقت، قوة القانون، وهي تعدّل ما يتعارض مع أحكامها من نصوص القوانين النافذة قبل صدورها .
المادة 28: كل ما قررته التشريعات النافذة قبل 14 تموز 1958، تبقى سارية المفعول، ويجوز إلغاء هذه التشريعات، أو تعديلها بالطريقة المبينة بهذا الدستور المؤقت.
المادة 29: ينفذ هذا الدستور من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
المادة 30: على وزراء الدولة تنفيذ هذا الدستور.
المادة 31: كتب في بغداد في اليوم التاسع من محرم الحرام، سنة 1378 هجرية، الموافق لليوم السابع والعشرين من شهر تموز سنة 1958 ميلادية .
مجلس السيادة
الرئيس محمد نجيب الربيعي


      العضو ،خالد النقشبندي                   العضو ،محمد مهدي كبه
  عبد الكريم قاسم ـ رئيس الوزراء، ووزير الدفاع.
  عبد السلام عارف ـ نائب رئيس الوزراء، ووزير الداخلية.
  محمد حديد   ـ وزير المالية.         
   جابر عمر ـ  وزير المعارف.
   مصطفى علي  ـ وزير العدل.   
   بابا علي الشيخ محمود ـ وزير الأشغال.
   فوآد الركابي ـ وزير الأعمار.       
 محمد صالح محمود ـ وزير الصحة.         
   صديق شنشل ـ وزير الإرشاد.       
  هديب الحاج حمود ـ وزير الزراعة.
  إبراهيم كبه ـ وزير الاقتصاد.       
   ناجي طالب ـ وزير الشؤون الاجتماعية.
نظرة في الدستور المؤقت:
بقراءةٍ متأنية لمواد الدستور المؤقت يستطيع المتتبع إدراك أفكار قادة الثورة وآفاقها المستقبلية، فالدستور المؤقت بشكل عام يحمل طابعاً تقدمياً، ويؤكد على تغيير البنية الاجتماعية، وتحرير الفلاح العراقي الذي يشكل 75 % من مجموع الشعب، من ربقة الإقطاع والعبودية والاستغلال هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأن تحرير الفلاح من سيطرة الإقطاع تعني بالتأكيد هدم القاعدة التي استندت عليها الإمبريالية، وحليفها النظام السابق، حيث كان أغلب أعضاء البرلمان من الإقطاعيين الذين لعبوا دوراً رئيسياً في الحياة السياسية للبلاد، وحيثُ كانوا يفوزون بالتزكية في كل الانتخابات الصورية التي أجرتها الحكومات المتعاقبة، ولم يكن أحد يجرأ على منافستهم في تلك الانتخابات.
 كما أن الدستور المؤقت أكد في مادته الثالثة على أن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، ويقر الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية  غير أن هذه المادة كان يعوزها تثبيت تلك الحقوق بإضافة [وحقهم في الحكم الذاتي] .
ويشير الدستور في مادتيه الأولى والثانية إلى أن العراق جمهورية مستقلة ذات سيادة كاملة ومن هاتين المادتين نستشف أن الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة لم تكن مطروحة في فكر الثورة وقيادتها، وإنما كانت قيادة الثورة تستهدف إقامة أوثق العلاقات معها مع الاحتفاظ بالاستقلال الوطني، إلا في حالة تعرض العراق لغزو خارجي من قبل القوى الإمبريالية، ومن هنا يتبين أن سلوك وتصرفات عبد السلام عارف وبعض الأحزاب القومية، برفع شعارات الوحدة، ومحاولة فرضها بالقوة كان مخالفاً لنص الدستور.
إن ما كان يعوز الدستور المؤقت في الحقيقة هو أن يحدد الفترة الانتقالية بمدة محددة لا تتجاوز السنتين من أجل الانتقال نحو المؤسسات الديمقراطية، حيث يجري انتخاب المجلس التأسيس الذي يأخذ على عاتقه تشريع الدستور الدائم للبلاد، ويرسي النظام الجديد على قاعدة ديمقراطية صلبة، ويمكّن الشعب، وقواه السياسية على اختلافها من ممارسة النشاط السياسي في جو ديمقراطي، بعيداً عن العنف والعنف  المضاد، وضمان جميع الحريات السياسية للأحزاب والصحافة، وتأسيس النقابات، والمنظمات الديمقراطية.
إن إطالة فترة الانتقال كانت أحد الأسباب الرئيسية في لجوء بعض القوى السياسية إلى أساليب العنف، والتآمر المسلح لإسقاط السلطة، كما أن استمرارها كان له تأثير سلبي على الشعب العراقي الذي كان يتطلع للحكم الديمقراطي الحقيقي، حيث بدأ اليأس يتصاعد، ويأخذ حيزاً لدى الكثيرين من أبناء الشعب، نتيجة للأوضاع الاستثنائية التي استمرت حتى النهاية.
ومن ما يؤخذ على الدستور المؤقت إبقائه على التشريعات التي صدرت
 في العهد الملكي، كما نصت المادة 28 ، واعتماد  الثورة على تلك القوانين، والمراسيم المخالفة للدستورين  الملكي والجمهوري المؤقت، كمرسوم الإدارة العرفية الصادر عام 1935، وبقية المراسيم الأخرى التي أصدرها نوري السعيد، والتي سلبت من الدستور كل حقوق وحريات الشعب، وجرى استخدام تلك المراسيم، بعد انتكاسة الثورة ضد القوى السياسية، وأبناء الشعب.
لقد كانت هذه المادة مخالفة لتطلعات الشعب إلى الحياة الديمقراطية، فهي والحقيقة تقال مناقضة للمادة الثالثة والمادة العاشرة، والمادة الحادية عشر من الدستور المؤقت، ومع ذلك فقد جرت موافقة القوى السياسية في البلاد على الدستور المؤقت بتوقيع الوزراء جميعاً والذين يمثلون الأحزاب السياسية في البلاد، وحتى الحزب الشيوعي، الذي لم يكن ممثلاً في الوزارة على أمل أن تكون فترة الانتقال مؤقتة من جهة، ولمنع أي تحرك معادٍ للثورة الوليدة في أيامها الأولى من جهة أخرى، ولكن الذي يؤسف له أن فترة الانتقال استمرت، واستمرت السلطة باستخدام الأحكام  العرفية والمحاكم العسكرية، وظلت تطحن حتى النهاية بخيرة الوطنيين المدافعين بإخلاص عن الجمهورية وقيادتها!!.
وكلمة أخيرة، أقول أن العبرة ليست في ما يرد في الدستور من مواد تنص على حقوق الشعب وحرياته، وإنما العبرة في تطبيق الدستور، ومراقبة سير هذا التطبيق، ومحاسبة كل من يحاول الاعتداء عليه.
 وهذا الأمر لا يتم إلا في ظل الأوضاع الطبيعية، وقيام المؤسسات الديمقراطية، ومن ضمنها المحكمة الدستورية العليا، التي تكون المرجع الوحيد لمراقبة تطبيق الدستور، ومحاسبة من يحاول التلاعب به وتفسيره بشكل مغاير للحقيقة، وإن استمرار فترة الانتقال، واستمرار السلطة بممارسة السلطتين، التشريعية والتنفيذية، بالإضافة إلى تدخلها في أمور السلطة القضائية جعلت  الدستور حبراً على ورق، تماماً كما فعل النظام السابق، الذي هيمن على السلطة التنفيذية، وزوّر الانتخابات البرلمانية باستمرار، وهيمن على البرلمان، وأستخدم المراسيم التشريعية التي أفرغت الدستور من محتواه، وانتهك كافة الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور، فلو طُبّق ذلك الدستور بأمانة وصدق، واحترمت إرادة الشعب، لما حدثت ثورة  14تموز 1958، ولما حلّ بالعراق وشعبه ما حلّ من الويلات، منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.
التوثيق
 (19) صحيفة البلاد ـ العدد 5268 ـ بتاريخ 18 تموز 1958
 (20)إذاعة وتلفزيون بغداد ـ 30 أيلول 1958 ، ونشرت نصه الصحف

336
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة التاسعة

حامد الحمداني                                                    31/10/2009   
فجر الثورة   
أولاً: ساعة الصفر:
كان موعد الحركة للقوات العسكرية قد حُدد الساعة الثالثة فجراً، وفي الوقت المحدد، قبيل تحرك القوات استطاع عبد السلام عارف، وعبد اللطيف الدراجي التحفظ على آمر اللواء العشرين الزعيم الركن [احمد حقي] واعتقال آمر الفوج الثاني العقيد الركن [ ياسين عبد الرؤوف ]،بعد أن فاتحه عبد السلام عارف للانضمام إلى قوى الثورة ورفضه التعاون، وبذلك تمّ لعبد السلام عارف التحرك نحو بغداد بعد أن وزع العتاد الذي كان قد خزنه بصورة سرية استعداداً لهذا اليوم.
وفي الوقت نفسه تحرك عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر نحو مقر الفرقة الثالثة في بعقوبة للسيطرة عليها، واعتقال قائدها اللواء الركن [غازي الداغستاني]الذي كان يعتمد عليه النظام الملكي في حماية النظام.
 كما جرى إبلاغ رفاقهم في حركة الضباط الأحرار في الديوانية، حيث مقر قيادة الفرقة الأولى بضرورة اعتقال قائد الفرقة الزعيم الركن [عمر علي ] ومعاونه الزعيم الركن [وفيق عارف] شقيق رئيس أركان الجيش [ رفيق عارف ] ومساعديه.
كان الهدف الأول لعبد السلام عارف السيطرة على دار الإذاعة،لإذاعة البيان الأول للثورة، حيث توجه إليها وبصحبته قوة تتألف من دبابتين فيما سبقه إليها النقيب [خزعل السعدي] وبإمرته  ثمان دبابات أخرى، وتمّ لقوى الثورة السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة، وأسرع عبد السلام عارف بإذاعة البيان الأول في تمام الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 14 تموز 1958.

ثانياً:البيان الأول للثورة :
بيان من القائد العام للقوات المسلحة :
بسم الله الرحمن الرحيم :
أيها الشعب العراقي الكريم :

بعد الاتكال على الله، ومؤازرة المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة، أقدمنا على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصّبها الاستعمار لحكم الشعب، والتلاعب بقدراته لمصلحتهم، وفي سبيل المنافع الشخصية.
أيها الأخوان: إن الجيش هو منكم واليكم، وقد قام بما تريدون، وأزال الطبقة الباغية، التي استهترت بحقوق الشعب، فما عليكم إلا أن تؤازروه، وأعلموا أن الظفر لا يتم إلا بترصينه والمحافظة عليه من مؤامرة الاستعمار وأذنابه وعليه فأننا نوجه إليكم نداءنا للقيام بإخبار السلطات عن كل مفسد ومسيء، وخائن لاستئصاله، ونطلب منكم أن تكونوا يداً واحدة للقضاء على هؤلاء والتخلص من شرهم.
أيها المواطنون: إننا في الوقت الذي نكبر فيكم الروح الوطنية الوثابة، والأعمال المجيدة، ندعوكم إلى الخلود للهدوء والسكينة، والتمسك بالنظام والاتحاد، والتعاون، والعمل المثمر في سبيل مصلحة الوطن.
أيها الشعب: لقد أقسمنا أن نبذل كلّ عزيز علينا في سبيلكم، فكونوا على ثقة واطمئنان بأننا سنواصل العمل من أجلكم، وأن الحكم يجب أن يعهد إلى حكومة تنبثق من الشعب، وتعمل بوحي منه، وهذا لا يتم إلا بتأليف جمهورية شعبية تتمسك بالوحدة العراقية الكاملة، وترتبط برباط الأخوة مع الدول العربية والإسلامية، وتعمل بمبادئ الأمم المتحدة، وتلتزم بالعهود والمواثيق، وفق مصلحة الوطن، وبقرارات مؤتمر[باندونك]، وعليه فأن الحكومة الوطنية تسمى منذُ ألان {الجمهورية العراقية}، وتلبية لرغبة الشعب قد عهدنا رئاستها بصورة وقتية إلى مجلس سيادة يتمتع بسلطة رئيس الجمهورية، ريثما يتم استفتاء الشعب لانتخاب الرئيس، فالله نسأل أن  يوفقنا قي أعمالنا لخدمة وطننا العزيز إنه سميعٌ مجيب.
بغداد في اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة  1377هجرية والموافق لليوم الرابع عشر من تموز 1958. (1)
                                          الزعيم الركن عبد الكريم قاسم                                      القائد العام للقوات المسلحة

ثالثاًً: مهاجمة قصر الرحاب ومقتل العائلة المالكة:

كان إذاعة البيان الأول للثورة بصوت عبد السلام عارف إيذانا بحلول ساعة الصفر، وتحرك القوات العسكرية الثورية بقيادة الضباط الأحرار للسيطرة على جميع المرافق العامة، وكافة الأهداف المحددة، حيث واصلت تقدمها، وسيطرتها على وزارة الدفاع، ومديرية الشرطة السيارة، ومعسكر الوشاش، ومطار بغداد الدولي، والاتصالات السلكية واللاسلكية، فيما تقدمت قوة أخرى إلى قصر الرحاب حيث يتواجد الملك فيصل الثاني، وولى العهد عبد الإله، وكان على رأس تلك القوة إحدى  سرايا  المشاة  بقيادة  آمر  السرية  الرئيس [منذر  سليم]  مكلفة باحتلال  قصر  النهاية ومعه  أمراء  الفصائل  كل  من  الملازم  [عبد  الجواد  حميد] والملازم  [عبد  الكريم  رفعت]، وكانت  ملاكات  السرية  غير  كاملة، ولدى  كل  جندي  عشرون  طلقة  بندقية،  وعندما اقتربت السرية  من  الباب  الخارجي للقصر  أحس  بهم  حرس  القصر، وبعد  تبادل  الكلام  والصياح  بين  الطرفين  أطلق  الجنود  بعض  الاطلاقات بأمر  آمر  السرية ، وعلى  أثر  انسحاب  الحرس  إلى  داخل  القصر تقدمت  السرية، ودخلت  إلى  حديقة  القصر، وأخذ  الجنود  وضع  الانبطاح مستفيدين من  شجيرات  وسواقي  الحديقة، ومن  ثم  بدأ  إطلاق  النار.
 وحيث  أن العتاد  كان  على  وشك  النفاذ  لدى  الجنود فقد أصبح  موقف  السرية  محرجاً جداً ، وفي  تلك  اللحظات الحرجة  حضرت  مدرعة  عسكرية  بقيادة  الملازم  الأول [عبد  الرزاق  غصيبة]  ومعه  الملازم [جبار  خضر  الحيدر] وهما  من الحزب  الشيوعي  قدما  للاستفسار عن  الموقف  بعد  أن  احتلا  معسكر  الوشاش، وبعد  أن  أخبرهما  آمر  السرية  بالموقف  وحاجته  إلى  عتاد  سارعا بالذهاب إلى  مدرسة  الأسلحة  في  معسكر  الوشاش  مقابل  القصر، وكان  فيها  آنذاك  كل  من  الملازم  الأول [عبد  الستار  العبوسي] والملازم  الأول [عبد الله الحديثي] وهما  من  الضباط المعلمين  في  المدرسة لتدريب  التلاميذ على  رمي  الصواريخ  من  القاذفة  حجم  105  مم  المحملة  على سيارة  جيب  فقام  عبد  الستار  بفتح  مشجب  المدرسة، وأخذ  العتاد  وركب  معهما  الملازم [مصطفى  عبد  الله]  الذي  كان  من  ضباط  الدورة  التدريبية  وذهبوا  جميعا  إلى  قصر  الرحاب، وقاموا  بتسليم  العتاد، واستمر  تبادل  إطلاق  النار والتحاور  بين  الطرفين  للتسليم  للثوار دون  قيد  أو  شرط،  فمن  جانب  الثوار  كان  المفاوض  آمر  السرية،  ومن  الجانب  المقابل  كان  المفاوض  مرافق  الملك  الملازم  الأول [ يونس  ثابت] والذي  هو  بنفس  الوقت  ضابط  الخفر  لتلك  الليلة، كما  كان  في  القصر  رئيس  خفر  هو  الرئيس  [محمود  صالح]الذي  اتصل  بمقدم  الخفر  لتلك  الليلة  المقدم [ طه  البامرني] الذي  كان  في  مقر  لواء  الحرس  في  ثكنة  قصر الزهور، إلا  أنه  لم  يستجب  لطلب  تحريك  القطعات  لصد  الثوار، وفي  هذه  اللحظة  تقدم  الملازم  الأول [عبد  الستار العبوسي]  بعجلته  وبمدفعها  ضد  الدبابات وأطلق  طلقة  واحدة  أصابت عمود  شرفة  الباب ومن  ثم  أطلق  الطلقة  الثانية  فأصابت  جدار القصر  الأيسر، وعندها  ظهرت  راية  بيضاء  علامة  الاستسلام .
خرج الملك فيصل الثاني وولي العهد عبد الإله والملكة نفيسة، أم عبد الإله، والأميرة عابدية، شقيقة عبد الإله، والأميرة هيام زوجة عبد الإله وابنة أمير ربيعة بلاسم الياسين، أكبر إقطاعيي العراق، وبمعييتهم الخادمة رازقية، والطباخ التركي، حاملين الرايات البيضاء ومعلنين الاستسلام، وكان يتقدمهم  الملازم الأول [يونس  ثابت] وهو  رافع  المنديل الأبيض، وعند  اقترابهم  من  الثوار، وعلى  بعد  عشرون  متراً أو  أقل  نهض  الجنود  وهم  بوضع  التهيؤ للرمي  لغرض  استلام الخارجين، وفي  لحظة  مفاجئة  سحب  الملازم  الأول  يونس  ثابت  مسدسه وأطلق  عدة  عيارات  منه أصاب  بها  الملازم  [مصطفى  عبد  الله]  وعدد آخر  من  الجنود  كما  فتح بعض الجنود  النار  من  شرفة  القصر  في  الطابق  الثاني، وعلى الأثر بادر النقيب [عبد الستار السبع] ورفاقه الثوار إلى إطلاق النار على جميع أفراد العائلة المالكة وأرداهم قتلى في الحال، ما عدا الأميرة هيام زوجة عبد الإله التي أُصيبت بجروح، لكنها استطاعت أن تزحف إلى داخل القصر، ثم نُقلت فيما بعد إلى المستشفى، وهكذا كانت نهاية العائلة المالكة في العراق. (2)
و هنا يتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية حول حقيقة مقتل العائلة المالكة:
1ـ هل كان مقرراً قتل الملك فيصل، وعبد الإله وبقية الآسرة المالكة ؟
2ـ  هل تلقى المهاجمون أمراً من قيادة الثورة بقتل العائلة المالكة أم تصرفوا بذاتهم؟
3ـ لماذا لم يدافع لواء الحرس الملكي عن القصر؟
 فيما يخص السؤالان الأول والثاني أدعى كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في لقاءات متعددة معهما بأنهما لم يأمرا بقتل الملك وولي عهده عبد الإله، والعائلة المالكة، وكان هدف الثورة إلقاء القبض على الملك وعبد الإله، وتقديم الثاني للمحاكمة، حتى أن عبد الكريم قاسم كان يحتفظ بتقرير قدمه له النقيب عبد الستار السبع يؤكد فيه أنه هو المسؤول عن قتل العائلة المالكة، وأنه لم يتلقَ أمراً من أحد. (3)
وهنا يتبادر للذهن السوآل التالي: إذا كان من المقرر اعتقال الملك وعبد الإله وعدم قتلهما، فلماذا لم يلتزم المهاجمون بالأمر؟
ولماذا لم يحاسبوا على عملهم هذا؟ بل تم تجاهلها، ولم يتعرض لها أحد من المسؤولين فيما بعد.
 وأغلب الظن أن التخلص من العائلة المالكة كان قد تقرر سلفاً بغية منع أي محاولة لإجهاض الثورة سواء كان ذلك من قبل القطعات العسكرية الموالية للملك، أو من عدوان خارجي يدبره حلف بغداد، مما قد يؤدي إلى مواجهة دموية لا أحد يعرف مداها، فكان قرار قتل العائلة المالكة دفعاً لما قد يحدث ما هو أعظم بكثير سواء كان ذلك من وقوع حرب أهلية، أو رداً لعدوان خارجي. أما ما يخص السوآل الثالث، فأغلب الظن أن أمر لواء الحرس الملكي [العقيد الركن طه البامرني] ـ كردي الأصل ـ إما أنه كان مع الثورة أو أنه تعاطف معها في اللحظة الحاسمة، وإلا لكان قد قام بعمل الكثير دفاعاً عن القصر، والعائلة المالكة، حيث كان لواء الحرس الملكي مجهزاً تجهيزاً جيداً ومدرباً تدريباً عالياً، ويملك كميات كبيرة من العتاد  في حين أن قوى الثورة كانت لا تملك سوى كمية قليلة جداً من العتاد.
 لكن طه البامرني آثر الوقوف مع الثورة، ولم يحاول المقاومة  بل سارع إلى الاستسلام لقوى الثورة.
 أخذت جثث أفراد العائلة المالكة في سيارة ـ بك آب ـ عسكرية إلى الطب العدلي في باب المعظم، وفي الطريق أوقفت الجموع الهائجة السيارة، وأنزلت جثة عبد الإله من السيارة ومثلوا فيها، وعلقوها على أحد الأعمدة الكهربائية، وكان هذا العمل يمثل أساء كبرى للثورة، وما كان ينبغي السماح لتلك العناصر القيام بهذا العمل، الذي لم يجلب أي فائدة للثورة بل أساء إليها، على الرغم من كل ما أقترفه عبد الإله من جرائم بحق الشعب والوطن.
 أما نوري السعيد، أخطر رجالات العهد الملكي، والحاكم الفعلي للعراق، والمعتمد الأول للسفارة البريطانية في بغداد، والذي كان يشغل منصب رئيس وزراء الاتحاد الهاشمي، فقد أسرع للهرب من قصره حال سماعه إطلاق النار، وقبل أن تصل إليه قوات الثورة، حيث أستخدم زورقاً صغيراً، عبر به متنكراً  نهر دجلة إلى جانب الرصافة في كرادة مريم، حيث قصد دار الدكتور[صالح مهدي البصام]، وانتقل بعد ذلك بسيارته إلى دار صديقه المدعو [الحاج محمود الاستربادي]، ومنه أنتقل مرة أخرى إلى دار شقيق الوزير ضياء جعفر، المدعو[هاشم جعفر]، وكان يرتدي ملابس نسائية وعباءة، خوفاً من الجماهير المتحمسة لإلقاء القبض عليه.
لكن نوري السعيد شكّ بابن هاشم جعفر، الذي خرج من الدار، خوفاً من إبلاغ السلطة الجديدة عن مكان وجوده، فغادر الدار متوجها إلى قصر الإقطاعي الكبير [ محمد العربي ] في منطقة البتاويين وبرفقته زوجة الاستربادي وخادمه.
 وفي الطريق اكتشفته جماهير الشعب، فراح يطلق النار في الهواء من مسدسه، لعله يستطيع التخلص منهم، لكنه فشل في ذلك، وأضطر إلى أن يطلق آخر رصاصة على رأسه، مفضلاً الانتحار على الوقوع بأيدي الشعب، وقد مثلت الجماهير بجثته. (4)

رابعاً: الثورة تواصل تثبيت أقدامها:
اندفعت قوات الثورة، بعد إذاعة البيان الأول لأحكام السيطرة على بقية القطعات العسكرية والمرافق العامة في شتى أنحاء القطر، فقامت قوة عسكرية بالسيطرة على قاعدة الحبانية، البريطانية  وأجهزة الرادار فيها، دون أية مقاومة، وتمّ نزع سلاح القوات البريطانية المتواجدة في القاعدة وتولى مسؤولياتها الزعيم الركن [محي الدين عبد الحميد ]أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة للضباط الأحرار، وكان لهذه العملية أهمية كبرى في دعم الثورة وحمايتها، ومنع القوات البريطانية من تقديم أي دعم للنظام الملكي. (5)
 وفي الموصل  سيطر الزعيم الركن [ ناظم الطبقجلي] آمر اللواء الخامس  وآمر موقع الموصل على المدينة، وهي ثاني مدن العراق، دون إراقة قطرة دماء.
أما في كركوك فقد أصدر قائد الفرقة الثانية الزعيم الركن [عبد الوهاب شاكر] أوامره بالزحف إلى بغداد، لكن الضباط الأحرار في الفرقة كانوا أسرع منه، استطاعوا السيطرة على مقر الفرقة واعتقاله، وبذلك زال أخطر تهديد للثورة من قيادة الفرقتين الأولى، والثانية، وتمّ تعين الزعيم الركن ناظم الطبقجلي آمر موقع الموصل، وآمر اللواء الخامس قائداً للفرقة المذكورة،وسارع الطبقجلي إلى التوجه إلى كركوك لاستلام مهام منصبه الجديد. (6)
أما في بعقوبة القريبة من بغداد  فقد أخذ الزعيم عبد الكريم قاسم على عاتقه مهمة السيطرة على الفرقة الثالثة في بعقوبة التي كان يقودها الزعيم الركن غازي الداغستاني، و كان يشغل منصب معاون رئيس أركان الجيش في الوقت نفسه، ويعتمد عليه النظام اعتماداً تاماً في حمايته من أية محاولة انقلابية، واستطاع الزعيم عبد الكريم قاسم بمعاونة بعض ضباط الهندسة في الفرقة المشاركين في الثورة من اعتقال غازي الدغستاني ومنعه من التحرك لحماية النظام، وتمت السيطرة على الفرقة. (7)
 وهكذا استطاع عبد الكريم قاسم حماية مؤخرة قوات الثورة التي قادها عبد السلام عارف، والتي دخلت العاصمة بغداد، وتوجهت قواته على الفور نحو بغداد التي دخلها في الساعة العاشرة صباحاً، وأتمت قوات الثورة السيطرة على المرافق الرئيسية فيها، وفي مقدمتها دار الإذاعة والتلفزيون، وقصر الرحاب حيث تتواجد العائلة المالكة، ووزارة الدفاع، ومعسكرات الرشيد، والوشاش، وأبو غريب، ومطار بغداد الدولي، ومديرية الشرطة السيارة التي كان يعتمد عليها النظام لحماية بغداد، وهكذا استطاعت  الثورة أن تثبت أقدامها، ساعة بعد ساعة، وبدأت المراسيم الجمهورية تتوالى من دار الإذاعة لأجراء التغيرات الضرورية في أجهزة السلطة الحساسة، والعسكرية والأمنية منها على وجه الخصوص، ولا شك أن جماهير الشعب كان لها دوراً كبيراً في نجاح الثورة واسنادها.
وفي الديوانية  حاول اللواء الركن [عمر علي] قائد الفرقة الأولى في الديوانية التصدي للثورة والزحف إلى بغداد، فأصدر أوامره إلى اللواء الأول في المسيب الذي يقوده الزعيم الركن [ وفيق عارف ] شقيق رئيس أركان الجيش، وإلى آمر حامية البصرة الزعيم الركن [ناجي طالب] للتحرك نحو بغداد .
 لكن عدداً من الضباط الأحرار بقيادة العقيد [ فاضل عباس المهداوي] كانوا أسرع منه، حيث تمكنوا من اعتقال [وفيق عارف]، والسيطرة على اللواء المذكور.
أما في البصرة فقد كان آمر الحامية العسكرية فيها أحد أعضاء اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار [الزعيم الركن  ناجي طالب ] قد سيطر على البصرة، مما أُسقطَ في يد الزعيم الركن [عمر علي] قائد الفرقة الأولى الذي أصدر له الأمر بالاستعداد  للتصدي  للثورة.
 كما أن الجماهير الفلاحية التي هبت لمساندة الثورة، والتي أحاطت بمقر الفرقة كان لها أثرها البالغ في إفشال خطط قائد الفرقة اللواء الركن [عمر علي] للزحف إلى بغداد، وإخماد الثورة .(8)
وفي الأردن حاول الزعيم الركن [هادي علي رضا] قائد رتل الهادي، والملحق العسكري في الأردن [صالح مهدي السامرائي] وبدعم من السلطات الأردنية السيطرة على الرتل، والتوجه به نحو بغداد، لإجهاض الثورة، لكن الضباط الأحرار أخذوا زمام المبادرة للسيطرة على الرتل رافضين تلقي الأوامر منه معلنين تأييدهم للثورة، واستلام الأوامر من قيادتها في بغداد.
ومساء يوم الثورة تلقى الضباط الأحرار في الرتل أمراً من القائد العام للقوات المسلحة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم  بالعودة إلى [H3] داخل الحدود العراقية، واتخاذ الحيطة والحذر خلال الانسحاب.
 وقد حقق الضباط الأحرار في الرتل  الانسحاب على وجه السرعة، و الوصول إلى [H3 ] في الساعة الخامسة من صباح يوم 15 تموز 1958، فيما وصلت الدبابات التابعة للرتل ظهر السادس عشر من تموز، وبذلك استطاع الضباط الأحرار الاثنان والعشرون من إحباط مساعي آمر الرتل، والملحق العسكري، والقيادة الأردنية باستخدام الرتل في محاولة إجهاض الثورة، وبذلك تحول ذلك الرتل من مصدر خطر على الثورة إلى داعم لها، وإسنادها وحماية حدود العراق مع الأردن من أي محاولة للتدخل من جانب القوات الأردنية، أو الدول  الأجنبية. (9)
 استطاعت قوى الثورة تدعيم مركزها وتحصينها ضد أي محاولة لإجهاضها من قبل القيادات الموالية للنظام الملكي، ومن قبل الملك حسين الذي أعلن أنه الوريث الشرعي للإتحاد العربي، مدعوماً من قبل الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين الذين سارعوا لإنزال قواتهما العسكرية في كل من بيروت وعمان  في محاولة للسيطرة على القوات العراقية المرابطة في الأردن، واستخدامها رأس رمح لإجهاض الثورة، لولا أن استطاع الضباط الأحرار السيطرة الكاملة على كامل القطعات العسكرية بوقت قياسي قصير جداً.
 وأخذت برقيات التأييد من القطعات العسكرية في كافة أنحاء العراق تتوالى على قيادة الثورة، وتمّ إبلاغها بسيطرة قوى الثورة الكاملة على كافة المدن وكافة مرافق البلاد دون إراقة الدماء، وهكذا تمّ حسم المعركة مع النظام الملكي الرجعي بأقل ما يمكن من الخسائر البشرية، حيث بلغ عدد القتلى حوالي الثلاثون فرداً من ضمنهم الأسرة المالكة، كما تم حسم الثورة في وقت قياسي قصير جداً أذهل الإمبرياليين، وأعوانهم داخل البلاد.

خامساًً: الثورة ورد الفعل العربي والدولي:
أصيبت القوى الإمبريالية ودول ميثاق بغداد بصدمة كبرى لم يكن يتوقعونها من قبل، بهذه السرعة التي استطاعت قوى الثورة حسم المعركة مع النظام الملكي، تلك الصدمة التي أفقدتهم توازنهم، وجعلتهم يسارعون إلى إنزال قواتهم العسكرية في الأردن ولبنان، حيث أنزلت بريطانيا قواتها في الأردن، فيما أنزلت الولايات المتحدة قواتها في لبنان، وحيث حشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية في محاولة الاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة.
وفي الوقت نفسه، أصدر حلف بغداد بياناً أستنكر فيه أحداث الثورة، واصفاً إياها بأنها [ تأثير هدام قادم من الخارج، وأن قادة الانقلاب يستلهمون أفكارهم من دول أجنبية].(10)
كما أصدرت الحكومة التركية بياناً حول الثورة جاء فيه:
[ إن المغامرين السياسيين في العراق  يرتئون من وراء الانقلاب القضاء على حلف بغداد الذي يعتبر مصدر السلام في الشرق الأوسط، وإن اختيار يوم اجتماع مجلس الحلف لتنفيذ الانقلاب هو خير دليل على ذلك].(11) ‍‍
وفي الوقت نفسه قابل الملحق العسكري الإسرائيلي في أنقرة [الباي ميشيل]  رئيس  أركان الجيش التركي يوم 15 تموز، وأجرى معه محادثات مستفيضة حول الوضع الجديد في العراق، وابلغه أن الولايات المتحدة وبريطانيا ستتكفلان بحماية نظام الحكم في الأردن ولبنان، وإن إسرائيل ستفصم الوحدة بين سوريا ومصر، وأن على تركيا أن تتعاون مع إيران لإعادة النظام الملكي إلى العراق. 
 وفي 18 تموز صرح وزير خارجية تركيا في مؤتمره الصحفي بأنقرة قائلاً :
[ إن رئيس الاتحاد الهاشمي هو  الملك حسين، وأن الحكومة الشرعية الآن هي حكومة الأردن].
 أما الملك حسين فقد طلب من الولايات المتحدة وبريطانيا العمل على إعادة العراق إلى وضعه السابق معلناً أنه الملك الشرعي للبلاد. (12)
هكذا إذاً كانت حمى التآمر للاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة تجري على قدم وساق من قبل الإمبرياليين الذين أرعبتهم أحداث الثورة.
 لكن رد الفعل العربي، ودول المعسكر الاشتراكي، وفي المقدمة منهم الاتحاد السوفيتي، كان سريعاً وجاداً في تحذير الإمبرياليين وحلف بغداد  من مغبة الأقدام على أي خطوة في اتجاه الاعتداء على العراق.
لقد وقف الشعب العربي في مشرقة ومغربه بجانب الشعب العراقي، وأعلن الرئيس عبد الناصر على الفور اعترافه بالجمهورية العراقية الوليدة، وحذر من أن أي اعتداء عليها سوف يعتبر اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة، وأنها ستقف إلى جانب العراق وتدافع عنه بكل ما تملك من وسائل  واضعاً كل إمكانيات الجمهورية العربية المتحدة على أُهبة الاستعداد للدفاع عن ثورة العراق.(13)
كما غادر الرئيس عبد الناصر بلغراد، حيث كان يقوم بزيارة رسمية ليوغوسلافيا، حال سماعه نبأ قيام الثورة  إلى موسكو، واجتمع على الفور برئيس الوزراء السوفيتي [ نيكيتا خرشوف] طالباً منه الوقوف إلى جانب الثورة في العراق، ومنع الإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين وحلفائهم في حلف بغداد من أية محاولة الاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة الوليدة، وقد طمأنه خرشوف إلى أن الاتحاد السوفيتي سيقف إلى جانب العراق، وسارع إلى الاعتراف بالحكومة التي شكلتها الثورة، بعد يوم واحد من قيامها.(14)
 كما أصدر بياناً في 16 تموز، وأتبعه ببيان ثانٍ في 18 منه، هاجم فيه إنزال الولايات المتحدة وبريطانيا قواتهما في لبنان والأردن، وحذر هاتين الدولتين من مغبة التدخل، والاعتداء على الجمهورية العراقية الوليدة.
 كما أرسل رئيس الوزراء السوفيتي [نكيتا خرشوف] في 19 تموز مذكرات إلي حكومات  الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا أكد فيها أن التدخل الإمبريالي المسلح في لبنان والأردن، والذي يشكل تهديداً خطيراً على العراق، وعلى السلم  والأمن الدوليين، قد يؤديان إلى نتائج غير متوقعة، وفي منتهى الخطورة، ويخلق سلسلة من ردود الفعل، قد يكون من المتعذر وقفها، وطالبت المذكرات بسحب القوات الأمريكية والبريطانية من لبنان والأردن، وعقد مؤتمر لبحث الأمر، وتسوية المشاكل في الشرق الأوسط .(15)
كما أتبع الاتحاد السوفيتي مذكراته هذه بتحذير جديد شديد اللهجة في 20 تموز 1958 حذر فيه حكومات الدول الغربية من مغبة الأقدام على أية محاولة للتدخل في العراق، كما نبه حكومات ألمانيا الغربية آنذاك، وإيطاليا وإسرائيل من مغبة السماح للقوات الأمريكية باستخدام أراضيها لنقل قواتها إلى المنطقة.
كما وجهت صحيفة البرافدا، لسان حال الحزب الشيوعي السوفيتي، تحذيراً آخر للولايات المتحدة، من المضي في مسعاها للعدوان على العراق قائلة:
 [ أن المتطوعين السوفيت سيكونون على أُهبة الاستعداد للتوجه إلى الشرق الأوسط إذا لم تتوقف عن محاولاتها للتدخل والعدوان على العراق].
 كما وجه الاتحاد السوفيتي تحذيرا شديداً إلى تركيا في 18 تموز 958 من مغبة العدوان على العراق، حيث راحت تركيا تحشد قواتها على الحدود العراقية، وأقرن الاتحاد السوفيتي أقواله وتحذيراته بالأفعال، فحشد قواته العسكرية على طول الحدود مع تركيا، وأجرى مناورات عسكرية واسعة  وحمّل الحكومة التركية مسؤولية أي اعتداء تقوم به ضد العراق.(16)
وهكذا أُسقط في يد الإمبرياليين، وأخذوا يحسبون للتحذيرات السوفيتية ألف حساب، واضطروا في نهاية المطاف لتبديل خططهم في العدوان المباشر على العراق بالقوة العسكرية، والعمل على قلب النظام الجديد من الداخل كما سنرى فيما بعد.
 وهكذا صمدت الجمهورية العراقية الوليدة، وأخذت ترسخ أقدامها يوماً بعد يوم، وتوالت اعترافات دول المعسكر الاشتراكي، ودول عدم الانحياز، وبقية الدول العربية.
 كما سارع مجلس السيادة بإرسال برقية للرئيس عبد الناصر، أعرب فيها عن شكر الجمهورية العراقية لموقفها من الثورة، وأعلن  اعتراف العراق بالجمهورية العربية المتحدة، حيث كان الحكام السابقون قد رفضوا الاعتراف بها.
وفي نهاية المطاف اضطرت الدول الغربية إلي الاعتراف بالجمهورية العراقية كأمر واقع، وخوفا على مصالحها النفطية، لكنها بقيت تتحين الفرص للإطاحة بالثورة.
كان العراق في تلك الأيام الحرجة من عمر الثورة، بأشد الحاجة للأسلحة بسبب التهديدات الأمريكية، والبريطانية والتركية، وظهر بعد قيام الثورة أن كل ما قيل عن تسليح الجيش العراقي من قبل حلف بغداد لم يكن سوى محض خيال، وكان كل هم الإمبرياليين هو حفظ الأمن الداخلي والتصدي لانتفاضات الشعب، فلم يكن هناك رادار، ولا أسلحة متطورة يستطيع العراق بواسطتها الدفاع عن نفسه، ولذلك فقد سارع العراق إلى طلب المساعدة من الشقيقة مصر، وبالفعل أرسلت الحكومة المصرية باخرة محملة بالأسلحة البريطانية الصنع نظراً لأن السلاح العراقي بريطاني المنشأ، كما تم إرسال كتيبة مدفعية مقاومة للطائرات، وسرب من طائرات [الميك ] من سوريا .(17)
كما أرست حكومة الثورة وفداً عالي المستوى  ضم كل من الوزراء [عبد السلام عارف]  و[محمد حديد ] و[صديق شنشل ] و[عبد الجبار الجومرد]  لمقابلة [عبد الناصر] في دمشق، وأجراء محادثات معه حول وسائل دعم الجمهورية العراقية الوليدة، وحول تطوير العلاقات الأخوية بين البلدين، والتنسيق الكامل بينهما، والتأكيد على ميثاق الجامعة العربية، والدفاع المشترك، والتكامل الاقتصادي.
التوثيق
(1) إذاعة وتلفزيون بغداد صبيحة 14 تموز ، ونشرته كافة الصحف الصادرة في بغداد
 (2) أسرار مقتل العائلة المالكة ـ فالح زكي ـ ص 93 .
 (3)تاريخ الوزارات العراقية في العهد الجمهوري ت نوري عبد الحميد ورفاقه ـ الجزء الأول ـ ص 23 .
 (4)  صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 54 .
 (5) موسوعة 14 تموز ـ العدد 7 ـ ص 166 .
 (6) قصة ثورة 14 تموز ـ صبيح علي غالب ـ ص 109 .
 (7) موسوعة 14 تموز ـ العدد 6 ـ ص380 .
 (8) أسرار ثورة 14 تموز ـ صبحي عبد الحميد ـ ص 85 .
 (9) ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 181 .
 (10) المصدر السابق ـ ص 211 .
 (11) نفس المصدر ـ ص 212 .
 (12) نفس المصدر السابق .
 (13)نفس المصدر ـ ص 207 .
 (14) عبد الناصر والعالم ـ محمد حسنين هيكل ـ ص 189
 (15) السياسة الخارجية السوفيتية بين عامي 1955 ـ  1965ـ حماد خيري
 (16) أحمد نوري ـ السياسة الخارجية التركية بعد الحرب العالمية الثانية ـ ص 262.
 (17) ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص208
 (18)إذاعة وتلفزيون بغداد ـ 14 تموز 1958 .
ملاحظة:للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف
على العنوان التالي:Alhamdany34@gmail.com

337
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الثامنة

حامد الحمداني                                                  29/10/2009
أولاً : الإعداد الثورة
إثر قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، قررت حكومة نوري السعيد، بإيعاز من سادة حلف بغداد، إرسال قوات عراقية إضافية إلى الأردن، حيثُ سبق وأن أرسلت رتل الهادي من قبل، بغية التهيئة والأعداد للعدوان على سوريا، وفك الوحدة، ومن ثم التقدم نحو لبنان لتقديم الدعم والإسناد لرئيس الجمهورية اللبنانية [كميل شمعون]،ولقمع الثورة التي أشتعل لهيبها آنذاك. (1)
وقع الخيار على اللواء التاسع عشر الذي يقوده الزعيم الركن [ عبد الكريم قاسم ]، واللواء العشرين الذي يقوده الزعيم الركن [احمد حقي ] وهو لا يرتبط بأي علاقة بتنظيم الضباط الأحرار.
 كان اللواء العشرين يضم ثلاثة أفواج، يقود الفوج الأول فيه العقيد الركن [عبد اللطيف الدراجي ]، فيما يقود الفوج الثالث  العقيد الركن [عبد السلام عارف]، أما الفوج الثاني فكان بقيادة العقيد الركن [يسين محمد رؤوف] وهو من غير المنتمين لحركة الضباط الأحرار.
صدرت الأوامر بتحرك القوات المذكورة في 3 تموز 1958 من جلولاء نحو الأردن، لكن التحرك أرجئ لمدة عشرة أيام بسبب بعض النواقص التي كانت تعيق حركتها، وتقرر أن تتحرك ليلة13/ 14 تموز 1958.
   وهكذا جاءت الفرصة المناسبة للثورة، لاسيما وأن عبد الإله ونوري السعيد اللذان كانا قد غادرا العراق  قد عادا إلى بغداد في  12 تموز، وكان من المقرر سفرهما مع الملك فيصل الثاني صباح  ذلك اليوم المقرر الثورة إلى تركيا لحضور اجتماع قمة حلف بغداد.(2)
 وعليه عقدت القيادة العليا لحركة الضباط الأحرار اجتماعاً لدراسة التحرك  وتم ّالاتفاق على أن يقوم اللواء العشرين بتنفيذ الثورة أثناء مروره في بغداد في طريقه إلى الأردن، فيما يقوم اللواء التاسع عشر بحماية مؤخرة اللواء العشرين من جهة، والتوجه نحو بعقوبة للسيطرة على مقر قيادة الفرقة الثالثة، واعتقال قائدها اللواء الركن [غازي الدغستاني ] أحد كبّار الضباط المعتمدين للنظام الملكي، وتشكل أكبر خطورة على الثورة.
 هكذا إذاً حلت الفرصة التاريخية التي طال انتظارها، وجرى على عجل التخطيط والتهيئة لمستلزمات السيطرة على بغداد، وبقية المدن الأخرى، وتعبئة القوى الثورية المنضوية تحت لواء اللجنة العليا للضباط الأحرار، وجرى الاتصال برتل الهادي في الأردن، في يوم 13تموز، قبل  يوم واحد من قيام الثورة، حيث قام الملازم [محمد حسن شلال ] بإبلاغ الرتل المذكور. 
كان عدد الضباط الأحرار في الرتل  22 ضابطاً بقيادة المقدم الركن [عبد الكريم فرحان] حيث بادر الضباط المذكورون إلى عقد اجتماع لوضع خطة السيطرة على الرتل، والخروج من الأردن بسلام، والعودة إلى بغداد دون علم آمر الرتل الزعيم الركن [هادي علي رضا ] لكي لا يُستخدم الرتل المذكور لإجهاض الثورة من جهة، وليكون قوة دعمٍ وإسناد للثورة من جهة أخرى. (3)
وهكذا جرى توزيع المهام وتهيأ الجميع للاستماع إلى دار الإذاعة، كما جرى الاتصال بقيادة اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني، وتمّ إبلاغهم بموعد الثورة من أجل التهيؤ لإسنادها من قبل جماهير الشعب حال انطلاقها.                                                                                 
 وبالفعل أصدر الحزب الشيوعي العراقي بياناً داخليا وزع بصورة محدودة على الكوادر العليا للحزب  في 12تموز 958  يشير إلى قرب وقوع أحداث هامة، ويعطي التوجيهات التالية:                                                   

الحزب الشيوعي العراقي         
  توجيه عام : (4)

 نظراً للظروف السياسية المتأزمة، الداخلية والعربية، ووجود احتمالات تطورها بين آونة وأخرى، وبغية ضمان وحدة النشاط السياسي لمنظماتنا الحزبية في الظروف الطارئة، والمعقدة نرى من الضروري في الوقت الحاضر أن تكون شعاراتنا الأساسية:
 الخروج من ميثاق بغداد، وإلغاء الاتفاقية مع بريطانيا والوقوف ضد [مبدأ أيزنهاور] إطلاق الحريات الديمقراطية لجماهير الشعب [حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية النشر والاجتماع ...الخ ]،وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين وإطلاق سراحهم، وإلغاء المراسيم والقوانين غير الدستورية التي تستهدف الحركة الوطنية، واتخاذ التدابير الفعالة لحماية ثروتنا الوطنية واقتصادنا  والعمل على حل المشاكل المعيشية لجماهير الشعب، وقيام حكومة تنتهج سياسة وطنية عربية مستقلة، تدعم نضال الشعب اللبناني وسائر الشعوب العربية، وتخدم السلم، وتحول {الاتحاد العربي} إلى اتحاد حقيقي بين الأردن والعراق ليضمن مصالح شعبنا، ويخدم النضال ضد الاستعمار والصهيونية، ومن أجل الوحدة العربية، وإقامة اتحاد فيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة. ونرى التأكيد على ما يلي :
1ـ ضرورة تجنب إبراز شعارات مبهمة أو متطرفة،أو تلك التي تمجد هذا الزعيم أو ذاك من قادة الحركة الوطنية على حساب طمس شعاراتنا الأساسية، والتقليل من شأن نضال الجماهير الشعبية، والجبهة الوطنية.
2ـ ضرورة إبداء اليقظة السياسية العالية تجاه مختلف المناورات والمؤامرات، وتجاه نشاط عملاء الاستعمار، والعمل بحزم وبأمانة تامة لسياسة الحزب، واعتبار أن واجبنا الأساسي في كل الظروف هو تعبئة أوسع الجماهير الشعبية، ولفها حول الشعارات الصائبة في اللحظة المعينة، وحول الشعارات الكبرى لحركتنا الوطنية الديمقراطية.   
                                            الحزب الشيوعي العراقي
          12 تموز 1958


كان إذاعة البيان الأول عبر دار الإذاعة بمثابة ساعة الصفر لتحرك قوى الثورة، وقيام الضباط الأحرار في رتل الهادي بالسيطرة على الرتل، وإعلان ارتباط الرتل بقيادة الثورة، وتلقي الأوامر منها، وفعلا تمّ إعداد كل شيء.
كما جرى تحديد الأهداف التي ينبغي التوجه إليها والسيطرة عليها على جانبي الكرخ والرصافة وهي:
1ـ دار الإذاعة، التي تتسم بأهمية خاصة، حيث ينبغي إذاعة البيان الأول للثورة، الذي يمثل ساعة الصفر لبقية القوى المشاركة في الثورة، ولدفع جماهير الشعب للنزول إلى الشوارع لدعم الثورة وإسنادها.
2 ـ السيطرة على قصر الرحاب قرب [ جسر الخر] حيث كان الملك فيصل وولي العهد عبد الإله متواجدين فيه في تلك الليلة استعداداً للسفر إلى تركيا صباح ذلك اليوم 14 تموز للمشاركة في اجتماع القمة لدول حلف بغداد.
3 ـ السيطرة على مديرية شرطة القوة السيارة، الجهاز القمعي الذي جرى إعداده لقمع أي تحرك شعبي ضد الحكومة، والذي كان يتميّز بالتدريب العالي، وقوة السلاح، وسرعة الحركة، فكان لابد من السيطرة عليه وشل حركته.
4 ـ السيطرة على معسكرات  الوشاش، وأبو غريب، والرشيد، والقاعدة الجوية فيه لضمان شل حركة العناصر الموالية للسلطة.
5 ـ السيطرة على شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية لضمان شل تحرك السلطة وقواتها المسلحة، وقطع اتصالاتها مع بقية القطعات العسكرية المتواجدة في أنحاء البلاد.
6 ـ السيطرة على مطار بغداد الدولي لضمان عدم هروب كبار رجال السلطة إلى الخارج.
7ـ السيطرة على قصر نوري السعيد واعتقاله، حيث يعتبر أخطر شخصية يمكن تهدد نجاح الثورة .
8ـ السيطرة على وزارتي الدفاع والداخلية، ومديرية الشرطة العامة ومديرية التحقيقات الجنائية [مديرية الأمن العامة ]، والبنك المركزي ومن ثم بقية الوزارات الأخرى.
9 ـ السيطرة على كافة النقاط الحساسة في بغداد كالطرق والجسور ومراكز الشرطة وغيرها من الأماكن الهامة. (5)

ثانياً : عبد الكريم قاسم قائد الثورة
ولد عبد الكريم فاسم في 21 كانون الأول 1914، من عائلة فقيرة تسكن محلة المهدية، وهو حي ٌفقير يقع في الجانب الأيسر من مدينة بغداد.
أبوه جاسم محمد البكر الزبيدي ـ جرى تغييره إلى قاسم ـ وأمه كيفية حسن اليعقوبي، وله شقيقان هما حامد قاسم، شقيقه الأكبر، ويعمل كاسباً في بيع الحبوب والأغنام، وشقيقه الأصغر لطيف قاسم، الذي كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم، أما والده فكان يعمل نجارا ، كما كان يردد عبد الكريم دائماً في خطبه، ويفخر بكونه أبن ذلك النجار الفقير.
انتقلت عائلته إلى بلدة الصويرة، وهي بلدة صغيرة في جنوب العراق، وكان عمره 6 سنوات، ولكن العائلة ما لبثت أن عادت إلى بغداد عام 1926، حيث أكمل عبد الكريم دراسته الإعدادية، وتخرج منها عام 1931  واختار بعد تخرجه أن يعمل معلماً لمساعدة عائلته، وتعيّن بالفعل في إحدى قرى الشامية، وهي بلدة صغيرة تقع في جنوب العراق، وقضى في التعليم سنة كاملة، غير أن مهنة التعليم لم ترضِ طموحه فقد كان وهو أبن العائلة الفقيرة يتطلع إلى طموح ٍبعيد المدى يحقق حلمه في إحداث تغييرٍ عميق في حياة الشعب العراقي، وفي تحرير العراق من ربقة الاستعمار من جهة، وفي معالجة مشكلة الفقر من جهة أخرى، وفكر عبد الكريم قاسم في ترك مهنة التعليم، والتحول نحو الجيش الذي كان يرى فيه أمل الشعب في إجراء التغيير الحقيقي والجذري المنشود، بعد أن عجزت انتفاضات الشعب المتتالية عن تحقيق هذا الهدف.
 كان لأبن خالته العقيد الطيار[محمد علي جواد] قائد القوة الجوية آنذاك دوراً في دخول عبد الكريم قاسم الكلية العسكرية عام 1932، حيث تخرج منها بتفوق في 15 نيسان من عام 1934 ضابطاً برتبة ملازم ثاني في الجيش، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة رئيس [ نقيب]  حيث دخل كلية الأركان في 24 كانون الثاني 1941، وتخرج منها بتفوق عام 1943.
وفي 4 تشرين الأول 1950 أُرسل عبد الكريم إلى لندن للمشاركة في دورة عسكرية للضباط الأركان أنهاها بتفوق، وعاد إلى العراق، وتدرج في رتبته العسكرية حتى بلغ رتبة زعيم ركن [عميد ركن] وكان آخر مركز شغله في المؤسسة العسكرية هو آمر اللواء التاسع عشر الذي كان له شرف قيادة ثورة 14 تموز عام 1958.
شارك عبد الكريم قاسم خلال خدمته العسكرية في حرب فلسطين آمراً لأحد الأفواج، وأبدى بطولة نادرة في معركة [ كفر قاسم ]، غير أنه عاد من تلك الحرب ناقماً على السلطة الحاكمة في بغداد، التي خذلت الجيش، ومنعته من تنفيذ مهامه، وتحقيق آمال الأمة العربية في الحفاظ على عروبة فلسطين، فقد قُيدت حركة الجيش، ومنع من القيام بمهامه بسبب التواطؤ المعروف بين بريطانيا والحاكمين بأمرهم في بغداد، فلم تكن حرب فلسطين سوى مسرحية نفذها الحكام العرب آنذاك، بإخراج أنكلو أمريكي، من أجل تحقيق وعد بلفور، وزير خارجية بريطانيا، الذي وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
ويتذكر الذين عاصروا تلك الأحداث وكنت واحداً منهم، فضيحة الأسلحة الفاسدة التي جهزت بها بريطانيا الجيش المصري، أيام الملك فاروق، والتي أستخدمها في تلك الحرب، مسببة وقوع خسائر جسيمة في صفوف الجيش المصري، وتدمير معنوياته وخذلانه، من أجل تحقيق أهداف بريطانيا والحركة الصهيونية في سلب قلب الأمة العربية، وصلة الوصل بين المشرق العربي ومغربه، وكان لاختيار فلسطين لإقامة هذا الكيان، الغيرشرعي أهداف بعيدة المدى للإمبريالية الأنكلو أمريكية، ظهرت جلية لكل ذي بصيرة، في تمزيق العالم العربي ومنعه من التوحد، وفي فرض السيطرة الكاملة على المنطقة العربية، والهيمنة على ثرواتها النفطية، وليجعلوا من دولة إسرائيل سيفاً مسلطاً على رقاب الأمة العربية، وحارساً قويا وأميناً للمصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط والخليج.
ولدت تلك الحرب وسلوك الحكام العرب لدى عبد الكريم قاسم سخطاً مشروعاً على النظام العراقي، وخيانته لمصالح الوطن، ومصالح الأمة العربية، وجعلت فكرة الثورة تختمر في تفكيره، فكرس جهده لتنفيذ هذه الفكرة حتى تحقق له ذلك صبيحة 14 تموز 1958.
كما أن الأحداث التي تلت حرب فلسطين في العراق، والتي كان على رأسها وثبة كانون المجيدة في نفس ذلك العام، ووثبة تشرين المجيدة عام 1952، وعقد حلف بغداد، وانتفاضة عام 1956، إبان العدوان الثلاثي على مصر، والتي  قمعها الحاكمون بالحديد والنار، جعلت الشعب العراقي وقواه الوطنية، والعناصر الوطنية الثورية في الجيش، وفي المقدمة منهم عبد الكريم قاسم، يفقدون أي أمل في إصلاح أوضاع البلاد سلمياً، ووجدوا أن العمل الثوري هو السبيل الوحيد لإزاحة  الفئة الحاكمة من الحكم، وأن السبيل لذلك لا يمكن أن يتم إلا بتدخل الجيش.
وهكذا جاءت ثورة الرابع عشر من تموز 1958، والتي قادها بنجاح [عبد الكريم قاسم] مدعوماً بكل فئات الشعب من قوميين وديمقراطيين وشيوعيين خرجوا جميعاً صبيحة ذلك اليوم لإسناد الثورة ودعمها، ومستعدين للتضحية والفداء من أجل نجاحها وديمومتها، ومن أجل تحقيق آمال وطموحات الشعب العراقي في الحياة الحرة الكريمة.(6)
واستطاعت حكومة الثورة التي شكلها عبد الكريم قاسم أن تحقق الكثير من الإنجازات في عامها الأول كان في مقدمتها قانون الإصلاح الزراعي، الذي كان بحد ذاته، ثورة اجتماعية كبرى حيث حررت الفلاحين الذين يمثلون 75% من الشعب العراقي من نير الإقطاعيين وخلقت علاقات إنتاجية جديدة، وألغت قانون العشائر المتخلف، حيث أصبح سكان الريف  شأنهم شأن سكان المدن جميعاً خاضعين للقانون المدني.
 ولأول مرة في تاريخ العراق، نصّ دستوره المؤقت الذي أصدرته حكومة الثورة، على أن العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، وفي ذلك خير تأكيد على حقوق الشعب الكردي القومية، وقد تم استقبال الزعيم الكردي [الملا مصطفى البارزاني] ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي استقبالاً رسمياُ وشعبياً كبيراً، وتمّ منح العائدين رواتب شهرية، وجرى إسكانهم في بيوت بنيت لهم حديثاً، وتمّ إسكان القائد الكردي مصطفى البارزاني في قصر نوري السعيد، وجرى تأمين كافة احتياجاته بما يليق به كزعيم كبير للشعب الكردي.
 وجاء قانون الأحوال المدنية الجديد ليحرر المرأة، ويجعلها على قدم المساواة مع الرجل،  فكان بحق ثورة اجتماعية أخرى، وفي المجال السياسي أقدمت حكومة عبد الكريم قاسم على إخراج العراق من حلف بغداد  والاتحاد الهاشمي، فكان ذلك نقلة نوعية كبرى في طريق التحرر من الهيمنة الإمبريالية، وعودة العراق إلى الصف العربي، وتقديمه لكافة المساعدات لحركة التحرر العربية، وخاصة للشعبين الفلسطيني والجزائري  واستطاعت حكومة عبد الكريم قاسم أن تقيم علاقات متوازنة مع جميع البلدان الأجنبية، ومنها دول المعسكر الاشتراكي بعد أن كانت حكومة نوري السعيد قد قطعتها فيما مضى.أما في المجال الاقتصادي فقد كان تشريع قانون رقم 80 لسنة 1961 أخطر ضربة وجهها عبد الكريم قاسم لشركات النفط، حيث تم ّبموجب القانون أستعاد 99,5% من الأراضي الداخلة ضمن امتياز شركات النفط، والحاوية على احتياطات نفطية هائلة، وإصدار قانون شركة النفط الوطنية، بغية استغلال مكامن النفط وطنياً. ولست هنا في مجال استعراض كافة منجزات حكومة الثورة، حيث سيكون لها مكان آخر في صفحات هذا الكتاب، ولكني أردت فقط استعراض بعض تلك الإنجازات التي تحققت على يد حكومة الثورة بقيادة عبد الكريم قاسم .
لقد كان من المؤمل للثورة أن يتجذر عمقها، بالسير إلى الأمام من أجل تحقيق ما يصبو إليه شعبنا، لكن الانشقاق الذي قاده عبد السلام عارف، الشخصية الثانية في قيادة الثورة والذي دعمه جانب كبير من القوى القومية والبعثيين، ومحاولة تلك القوى فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية بالقوة،عن طريق اللجوء إلى التآمر المسلح، أعاق تجذر الثورة وتطورها، فقد جرت ثلاث محاولات انقلابية والثورة ما تزال في عامها الأول، وأدى سلوك عبد السلام عارف إلى شق وحدة الشعب، وجبهة الاتحاد الوطني، وتحول ذلك التعاون والتآلف بين القوى الوطنية إلى حالة من الاحتراب العنيف.
استطاع عبد الكريم قاسم بدعم وإسناد من  الحزب الشيوعي أن يتجاوز كل المؤامرات والمخاطر التي كانت محدقة بالثورة، حيث سخر الحزب الشيوعي كافة إمكاناته لدعم الثورة وقيادتها دون قيد أو شرط، كما ورد في البرقية التي طيرها إلى الزعيم عبد الكريم قاسم، وإلى مجلس السيادة، وجاء فيها: (7)
مجلس السيادة للجمهورية العراقية
رئيس مجلس الوزراء السيد عبد الكريم قاسم

نهنئكم من صميم قلوبنا على خطواتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة لعهد طويل من المآسي والمحن التي قاسى منها شعبنا المجاهد النبيل على يد الاستعمار وأعوان الاستعمار.
 إننا نعبر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية وتطور عراقنا الحبيب، وتبؤ شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحررة الناهضة والحبة للسلام، وموكب الإنسانية العاملة من أجل تحررها من نير الاضطهاد والاستعمار.
 إن شعبنا العراقي بعربه وأكراده سيسجل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية، وإنه لعلى ثقة كبرى من قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة القوى التحررية العربية في جميع ديارها، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة ، ومن قوى الحرية والسلام في
جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي .
 إن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي تضع كافة قوى حزبنا إلى جانب مؤازرتكم، وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة.
                  سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
                                             14 تموز 1958
 كان عبد الكريم قاسم، شأنه شأن أي  إنسان آخر، له إيجابياته وسلبياته معاً، فليس هناك من استطاع الطعن في وطنيته وأمانته، وحرصه على ثروات البلاد، ومصالح الشعب، ولم يستطع انقلابيي 8 شباط 1963 أن يجدوا أي تهمة تمس أمانته ووطنيته.
لكن عبد الكريم قاسم كانت له أخطاؤه وسلبياته التي أوقعته في المكيدة التي نصبها له الإمبرياليون وعملائهم، وأوقع شعبه معه فيها.
لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقيمه لطبيعة الصراع بين قوى الثورة وقوى الردة، ولاسيما بعد دحر الطبقة الحاكمة، من كبار الملاكين والإقطاعيين الذين قضت الثورة على سلطانهم، وخاصة بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعي، فهذه القوى كانت قد أصبحت أكثر شراسة بعد إقصائها من الحكم  وأكثر استعداد للتعاون والتنسيق مع الإمبرياليين من أجل اغتيال الثورة وقيادتها.
لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في سياسة التسامح مع أعداء الثورة، وأخطأ في اعتماده على عناصر غير أمينة على مصالح الشعب والوطن، وأخطأ بسياسة [فوق الميول والاتجاهات] وسياسة [التوازن] بين القوى التي تحمي الثورة وتدافع عنها، وبين التي سعت منذُ البداية للتآمر عليها، وأخطأ أخيرا بسياسة [ عفا الله عما سلف ] ‍‍‍.
 لقد بلغت سياسة عبد الكريم إلى حد إعفاء كل الذين تآمروا عليه وحاولوا  ونفذوا محاولة القتل، ليدبروا انقلاب 8 شباط1963، وليقُتل على أيديهم فيما بعد.
 ومن جهة أخري سعى عبد الكريم قاسم عملاً بسياسة [التوازن] التي أتبعها إلى تحجيم  الحزب الشيوعي سنده الحقيقي، والأكثر اندفاعاً في حماية الثورة، وكذلك المنظمات الشعبية النقابات والاتحادات التي كانت قد جندت كل قواها لحماية الثورة  ودعمها، مما أدى في نهاية المطاف إلى عزلته عن جماهير الشعب ذات المصلحة الحقيقية في الثورة.
كما أنه أخطأ في تقديره لمكائد الإمبرياليين الذين أستفزهم إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، ولم يتعظ من أحداث إيران على عهد الدكتور مصدق والانقلاب الأمريكي الذي قاده الجنرال زاهدي عميل المخابرات الأمريكية  بعد إقدام مصدق على تأميم النفط الإيراني، حيث لم يتخذ الإجراءات الكفيلة لصيانة جبهة الاتحاد الوطني، وزجها في المعركة ضد الإمبريالية، فكان تحرك الإمبرياليين أسرع منه، واستطاعوا إسقاط حكومته. (8)
لم يكن عبد الكريم قاسم المخطئ الوحيد على الساحة السياسية للبلاد، بل أن سائر الأحزاب السياسية كان لها دور ونصيب في تلك الأخطاء سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر، وسوف أتحدث عن ذلك بالتفصيل في فصول قادمة.
 ورغم كل الأخطاء التي وقع فيها عبد الكريم قاسم  فأنه يبقى شامخاً، كقائدٍ وطنيٍ مخلص، معادي للاستعمار، نذر حياته في سبيل تحرير وطنه من نير الإمبريالية، وسعى إلى إسعاد شعبه والنهوض بالعراق في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية، محققاً العديد من الإنجازات رغم قصر عمر الثورة، ورغم الظروف التي أحاطت بها.

ثالثاً:عبد السلام الشخص الثاني في قيادة الثورة:
ليس هناك أدنى شك لدى كل القوى السياسية، وجماهير الشعب والتنظيمات الثورية في الجيش أن عبد السلام عارف كان الرجل الثاني في قيادة الثورة  وأنه قام بدور كبير في تنفيذ الثورة صبيحة الرابع عشر من تموز، حيث استطاع السيطرة على اللواء العشرين الذي كان آمراً للفوج الثالث فيه بالتعاون مع آمر الفوج الأول [العقيد عبد اللطيف الدراجي ].
 فقد تمكن عبد السلام عارف من اعتقال آمر الفوج الثاني، العقيد الركن [ياسين عبد الرؤوف] الذي رفض التعاون والاشتراك في الثورة، فيما جرى التحفظ على آمر اللواء العشرين الزعيم الركن [أحمد حقي]، وبذلك تسنى له قيادة اللواء، والاندفاع به نحو بغداد لتنفيذ الأهداف التي تمّ التخطيط لها من قبل مع الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، في حين توجه اللواء التاسع عشر بقيادة عبد الكريم قاسم نحو مقر الفرقة الثالثة في بعقوبة للسيطرة عليها، ومنع قائد الفرقة [غازي الداغستاني]، أحد دعائم النظام الملكي، القيام بأي تحرك ضد الثورة.
 واستطاع عبد السلام عارف تنفيذ المهام التي أُوكلت له بكل شجاعة حيث سيطر على دار الإذاعة، وأذاع البيان الأول للثورة الذي كان يمثل ساعة الصفر لتحرك كافة قوى الثورة في مختلف أنحاء القطر.
ولد عبد السلام عارف عام 1921، ويرجع أصل أُسرته إلى عشيرة الجميلات من بلدة [سميكة] التابعة آنذاك لمحافظة بغداد، وأنهى دراسته الثانوية في بغداد عام 1938، حيث دخل الكلية العسكرية وتخرج منها ضابطاً برتبة ملازم ثاني عام 1941، وتدرج في رتبته العسكرية حتى رتبة رئيس [ نقيب ]،حيث دخل كلية الأركان، واستمر بعد تخرجه بالتدرج في رتبته العسكرية حتى رتبة عقيد ركن، وكان آخر منصب عسكري شغله هو آمر الفوج الثالث في اللواء العشرين عندما بزغ فجر الثورة، وعُين بعد نجاحها نائباً لرئيس الوزراء، ونائبا للقائد العام  للقوات المسلحة، ووزيرا للداخلية.
 لكن عبد السلام عارف اتصف بالعصبية والتهور، وضعف مستواه الثقافي، وقد بدا ذلك واضحاً في تصرفاته وخطاباته في الأيام الأولى للثورة  كما أتصف بالصبيانية وضحالة التفكير، مما أوقعه في مطبات كبيرة سببت إحراجا لمرات عديدة  لوزير الخارجية السيد [عبد الجبار ألجومرد ] بسبب مهاجمته لبعض الملوك ورؤساء الدول، في وقت كان العراق أحوج ما يكون لكسب ود تلك الدول، واعترافها بالحكومة الثورية الجديدة. فلم تكن خطاباته فيها شيء من النضوج  والتعقل والحكمة كما كان خشناً  في تصرفاته حتى مع رفاقه في الثورة. (9)
 أما ما يخص أفكاره واتجاهاته فقد كان عبد السلام عارف  يرى في الرئيس جمال عبد الناصر مثله الأعلى، حيث كان يركز في كل خطاباته على شخصيته، وكان يدعو إلى إقامة وحدة فورية مع الجمهورية العربية المتحدة، وخاصة عندما قام بزيارة رسمية إلى دمشق على رأس وفد عراقي كبير ولقائه مع الرئيس عبد الناصر، حيث كانت تصريحاته تتوالى بهذا الاتجاه وكانت أحاديثه من السذاجة ما جعلت عبد الناصر يصاب بخيبة أمل فيه. (10)
وفي الوقت نفسه أثارت تصريحاته قلقاً شديداً لدى عبد الكريم قاسم  وحكومته، وخاصة عندما كان يزور القطعات العسكرية في مختلف المدن العراقية داعياً للوحدة، ومتجاهلا عبد  الكريم نفسه، مما سبب بوقوع  انشقاق كبير في حركة الضباط الأحرار، وجبهة الاتحاد الوطني، وقوات الجيش. (11)
قام عبد السلام عارف بإصدار صحيفة [صوت الجماهير] باسمه، ورأس تحريرها الدكتور سعدون حمادي، من كوادر حزب البعث، في حين أنه يتقلد عدة مناصب رسمية رفيعة، مما يتنافى وعمل وظيفته، وقد أثار تصرفه هذا مشكلة مع الحكومة، وأضطر بعدها إلى التخلي عن الصحيفة لحزب البعث، حيث أصبحت صحيفته الرسمية، وناطقة باسمه. (12)
 لكن الصحيفة كانت تعبر عن توجهاته وأهدافه، ودعواته للوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، وكان المسبب الرئيسي في شق وحدة الشعب، وجبهة الاتحاد الوطني واللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار منذ الأيام الأولى للثورة، حيث جرى استقطاب للقوى السياسية في البلاد، عبد السلام وحزب البعث والقوى القومية من جهة، وعبد الكريم قاسم والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والديمقراطيين المستقلين من جهة أخرى.
 وقد تعمق هذا الاستقطاب  وتحول إلى صراع سياسي مرير تمثل في المظاهرات، والمظاهرات المضادة التي اجتاحت شوارع بغداد والمدن الأخرى، وتخللها العنف والعنف المضاد بين الجانبين في وقت  كانت البلاد في أحوج ما تكون للتكاتف والتعاضد من أجل تثبيت الكيان الجديد، وإقامة النظام الديمقراطي المنشود من خلال سن دستور دائم للبلاد ، وانتخاب المجلس التأسيسي، والعمل على تحقيق آمال الشعب وطموحاته في إكمال تحرره السياسي والاقتصادي، وسأتعرض إلى ذلك بالتفصيل في فصول قادمة . (13)
التوثيق
(1)   أسرار ثورة 14 تموز ـ إسماعيل العارف ـ ص 169.
(2)   نفس المصدر السابق .
(3)   سلام عادل ـ الجزء الأول ـ ثمينة ناجي يوسف ونزار خال ـ ص 218 .
(4)   صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ ص 48 .
(5)   نفس المصدر السابق ـ ص38 .
(6)   الذاكرة التاريخية ـ صبيح علي غالب ـ 33 .
(7)   سلام عادل ـ الجزء الأول ـ ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد ـ ص 224 .
(8)   صحيفة الأهرام القاهرية في 27 أيلول ـ 1963 .
(9)   عبد السلام عارف ـ أحمد فوزي ـ ص 80 .
(10)   العراق الجمهوري ـ مجيد خدوري ـ ص 120 .
(11)   حقائق عن ثورة 14 تموز ـ محسن حسين الحبيب ـ ص 106 .
(12)   صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الجزء الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 84
(13)   أسرار ثورة 14 تموز ـ محي الدين عبد الحميد ـ ص 120 .

للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي:
Alhamdany34@gmail.com
Hamid-Alhamdany.com

338
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة السابعة

حامد الحمداني                                                      27/10/2009

حركة الضباط الأحرار،وجبهة الاتحاد الوطني
أولاً : نشوء حركة الضباط الأحرار
 ثانياً: تنظيمات حركة الضباط الأحرار
 ثالثاً : تشكيل اللجنة العليا لحركة للضباط الأحرار
 رابعاً :أهداف حركة الضباط الأحرار
خامساً : قيام جبهة الاتحاد الوطني في شباط 1957
سادساً: تحقيق اللقاء بين اللجنة العليا للضباط وجبهة الاتحاد الوطني


أولاً : نشوء حركة الضباط الأحرار:
كان لتمادي السلطة الحاكمة في العراق في سياستها المناقضة لمصالح الشعب والوطن، وانتهاكها للحقوق والحريات العامة، وقمع الصحافة، وتزوير الانتخابات النيابية، واتخاذ الأحكام العرفية وسيلة لقمع الاحتجاجات الشعبية على تلك السياسة اللا وطنية، والخنوع التام للسيطرة الإمبريالية وتآمر الحكام العرب، ومن بينهم حكام العراق على القضية الفلسطينية من أهم العوامل التي شجعت الضباط الوطنيين في مختلف صنوف الجيش على التفكير في تنظيم الخلايا الثورية في صفوف الجيش، والعمل على إسقاط النظام الملكي المرتبط كلياً بالمصالح الإمبريالية.
وجاءت ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952، والتي أطاحت بالنظام الملكي، أحد أعمدة التآمر على القضية الفلسطينية لتعطي دفعة أخرى أكثر قوة للعمل الجدي لإسقاط النظام العراقي، فكانت تلك السنة بداية تشكيل أول تنظيم عسكري جدي بهدف الأعداد للثورة، وكان على رأس ذلك التنظيم كلٌ من الرائد [رفعت الحاج سري ]، والعقيد المهندس [رجب عبد المجيد ] وقام الاثنان بمفاتحة العديد من الضباط، وسعت لضمهم للتنظيم المذكور، وبالفعل فقد تصاعد عدد الضباط من مختلف صنوف الجيش. (1)
لكن الحكومة اكتشفت أن هناك اجتماعاً لبعض الضباط في الكاظمية ضمّ الرائد رفعت الحاج سري، والعقيد الركن عبد الوهاب الأمين، والمقدم إسماعيل العارف، والمقدم صالح عبد المجيد السامرائي، فقامت الحكومة بإجراء تحقيق معهم، إلا أنها لم تستطع إثبات أي تهمة ضدهم، لكنها بادرت إلى تفريقهم وإبعادهم  إلى وحدات غير فعالة، وبذلك شتت السلطة ذلك التنظيم إلى حين.(2)
 غير أن وقوع الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956، ووقوف حكومة نوري السعيد موقف المتشفي من مصر وقيادتها، وتحديها لمشاعر الشعب العراقي والأمة العربية، ووقوفها بجانب الإمبريالية، جعل السخط يتصاعد على تلك السلطة، وتجددت المحاولات لتشكيل منظمات متعددة للضباط الأحرار كان أبرزها أربع تنظيمات  كونت فيما بعد ثلاث منها لجنة عليا سُميت {اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار}، فيما بقي التنظيم الرابع محتفظاً لنفسه بتنظيمه الخاص، ولكنهُ أبدى استعداده لمساندة أي حركة تقوم بها اللجنة العليا لإسقاط النظام  القائم.

ثانياً: تنظيمات حركة الضباط الأحرار:

1 ـ  تنظيم العقيد رفعت الحاج سري :
وقد ضم هذا التنظيم كل من: العقيد المهندس[ رجب عبد المجيد] و العقيد الركن [ ناجي طالب ] والعقيد الركن [ محسن حسين الحبيب] والعقيد الركن [ عبد الوهاب الأمين ] والعقيد المتقاعد [ طاهر يحيى] والمقدم [صالح عبد المجيد السامرائي] والمقدم الركن [ إسماعيل الجنابي] والمقدم الركن [ شاكر محمود شكري ] والرائد[ شكيب الفضلي ] والرائد الطيار  [محمد السبع ]، هذا بإلاضافة إلى عدد آخر من الضباط من مختلف الرتب الصغيرة. (3)
ويعتبر العقيد رفعت الحاج سري أول من كون الخلايا السرية في صفوف ضباط الجيش في عام 1952، بهدف القيام بانقلاب عسكري بالتعاون مع رفيقه العقيد المهندس رجب عبد المجيد، ويتصف الضابطان بميولها العروبية والتوجه الإسلامي، وهذا ما أكدته وصيته لزوجته قبل إعدامه على اثر مشاركته في محاولة العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابية الفاشلة في الموصل في 8 آذار 1959 بأن تربي الأولاد على الإيمان بالله، والقرآن الكريم، والنبي الأمين...الخ.
2ـ تنظيم الزعيم عبد الكريم قاسم :
وقد ضّم هذا التنظيم كل من [العقيد الركن عبد السلام عارف]، وأخيه العقيد [عبد الرحمن عارف] والزعيم الركن [ احمد صالح العبدي] والزعيم الركن [ ناظم الطبقجلي] والعقيد الركن [ عبد الوهاب الشواف]  و[العقيد فاضل عباس المهداوي] والزعيم [ فؤاد عارف ] والزعيم الركن [ عبد العزيز العقيلي ] والعقيد الركن [ خليل سعيد] وعدد آخر من مختلف الرتب الأدنى، وقد دُعي هذا التنظيم [تنظيم المنصورية] وكان معظم ضباطه من
اللواءين التاسع عشر والعشرين.(4)
3 ـ تنظيم العقيد الركن محي الدين عبد الحميد
وقد ضم هذا التنظيم كل من العقيد ناجي طالب، والعقيد الركن محسن حسين الحبيب، والمقدم الركن عبد الكريم فرحان، والقدم الركن صبيح علي غالب، والمقدم وصفي طاهر، والرائد الطيار محمد سبع، وغيرهم من الضباط ذوي الرتب الصغيرة.
4ـ التنظيم الشيوعي:
وقد ضمّ هذا التنظيم كل من: الزعيم الركن [إبراهيم حسين الجبوري] و[الرائد الركن فاضل البياتي ] والرائد [موسى إبراهيم ] والرائد [خزعل السعدي ] والرائد [كاظم الموسوي ] والرائد [خليل إبراهيم اللامي] والرائد [ كاظم عبد الكريم ] و[الملازم إحسان مهدي ] و[الملازم حسن الوائلي ] و[الملازم منعم جاسم ] و[الملازم أول المتقاعد عطشان الازيرجاوي ] عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ومسؤول الخط العسكري  وعدد آخر من صغار الضباط المنتسبين للحزب الشيوعي.(5)

ثالثاً : تشكيل اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار
في كانون الثاني 1956 جرى لقاء بين  تنظيم عبد الكريم قاسم وتنظيم رفعت الحاج سري، وتنظيم محي الدين عبد الحميد من أجل توحيد الجهود وتعزيز حركة الضباط الأحرار،  وبعد مناقشات مستفيضة حول أهداف التنظيمات وتوجهاتها، تم الاتفاق على دمج التنظيمات الثلاثة في تنظيمً واحداً دعي {اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار}.
 فقد تم اللقاء في منزل الرائد الطيار المتقاعد[ محمد السبع] حيث حضر قادة المجموعات الثلاث، وجرى انتخاب الزعيم الركن [عبد الكريم قاسم ] رئيسا للتنظيم، وجرى أداء القسم من قبل الجميع وهذا نصه:
{ أُقسم بالله العظيم، وبشرفي العسكري، أن أخدم وطني إلى جانب إخواني الضباط المشتركين لتحريره من المستعمرين وعملائهم، ومن الحكم الاستبدادي، الذي يعاني منه الشعب، وأعمل دون خوف أو تردد لمصلحة الشعب بناءاً على ما يقرره إخواني الضباط الأحرار، وأن أكتم أسرارهم، وأحميهم من أي أذى في جميع الظروف والأحوال}.
 وبعد ذلك جرى انتخاب أعضاء اللجنة العليا وكانت على الوجه التالي :
1ـ الزعيم الركن عبد الكريم قاسم.
2ـ الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد.
3ـ الزعيم الركن ناجي طالب.
4ـ العقيد المهندس رجب عبد المجيد.
5ـ العقيد الركن عبد الوهاب الأمين.
8 ـ العقيد الركن عبد السلام عارف.
9ـ العقيد الركن عبد الوهاب الشواف.
10ـ العقيد عبد الرحمن عارف .
11ـ المقدم المتقاعد مدحت الحجاج سري.
12ـ المقدم وصفي طاهر.
13 ـ المقدم الركن المتقاعد محمد السبع.
14 ـ الرائد الركن صبيح علي غالب.
15ـ العقيد الركن محسن حسين الحبيب.
وقد تمّ انتخاب عبد الكريم قاسم، وهوأكبرهم رتبة رئيسا للتنظيم، فيما انتخب محي الدين عبد الحميد، وناجي طالب نائبين للرئيس، وانتخب رجب عبد المجيد سكرتيراً. (6)
كما تمّ تشكيل لجنة للخطط، وأخرى للدعاية والتنظيم، وثالثة لجمع المعلومات، ورابعة للمالية، وتم الاتفاق على منع الكتابة بأي شكل من الأشكال حرصاً على سلامة التنظيم، ولم يتم وضع ميثاق مكتوب يتضمن أسس العمل، كما اتخذ قراراً بعدم جواز ضم أي ضابط جديد دون موافقة جميع أعضاء اللجنة العليا، وأن يكون التنظيم على شكل خلايا لا يتجاوز عدد كل خلية عن خمسة أعضاء، ولا يقل عن ثلاثة.
 كما أتفق على عدم إصدار أي نشرة باسم اللجنة حرصاً على سلامة التنظيم من الانكشاف أمام السلطة.
 كما جرى الاتفاق على أن الاتصال بالأحزاب السياسية الوطنية يجري من قبل عدد قليل من أعضاء اللجنة، مع عدم الارتباط بأي حزب سياسي، وتم الاتفاق كذلك على الاستفادة من حركة أي وحدة عسكرية تمّر في بغداد لتنفيذ الثورة .
 كما جرى الاتفاق على عدم الاتصال بأي جهة أجنبية حفاظاً على سرية الحركة، وجرى الاتفاق على أن يكون إذاعة البيان الأول للثورة من دار الإذاعة بمثابة ساعة الصفر لتحرك كافة تنظيمات حركة الضباط الأحرار، ليقوم كلٍ بدوره. (7)
بلغ عدد الضباط المنتمين للحركة 203 ضابطاً من مختلف الوحدات العسكرية، ومختلف الرتب من رتبة ملازم وحتى رتبة زعيم، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الضباط الذين تربطهم علاقات وثيقة بأعضاء التنظيم، والذين آثروا عدم الانضمام للتنظيم، لكنهم ابدوا استعدادهم لمساندة أي تحرك في حينه.
ومن الملاحظ أن أغلبية أعضاء التنظيم من الضباط تنتمي إلى الطبقة الوسطى، والبرجوازية الصغيرة، ما عدى الزعيم عبد الكريم قاسم الذي ينحدر من أسرة فقيرة، و خالد مكي الهاشمي الذي ينتمي إلى أسرة برجوازية.
 أما ما يخص التنظيم الشيوعي، فقد بقي خارج اللجنة العليا، ولكنه اتفق مع اللجنة العليا على أن يقوم بدعم فوري لتحرك اللجنة العليا، وتنفيذ كل الواجبات التي يتطلبها نجاح الثورة دون تحفظ. (8)
لقد كان حُسن التنظيم وسريته عاملان حاسمان في نجاح الثورة التي فاجأت ليس النظام العراقي فحسب، وإنما المخابرات البريطانية والأمريكية على حد سواء، ولم يعرف أحد عنها إلا عند إذاعة البيان الأول من دار الإذاعة في بغداد في الساعة السادسة والنصف من صبيحة الرابع عشر من تموز 1958.

رابعاً :أهداف حركة الضباط الأحرار:   
تباينت الآراء حول الأهداف التي خططت لها اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار، حيث لم يكن هناك أهداف مكتوبة أومحددة بسبب سرية الحركة وضرورة حماية التنظيم من وقوع أي وثيقة مكتوبة بأيدي السلطة وأجهزتها الأمنية، غير أن معظم الضباط الذين يشكلون اللجنة العليا اتفقت أرائهم على ما يلي :
1ـ إلغاء النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري، ولكن لم يحدد مصير الملك، و إنما جرى الاتفاق على اعتقال عبد الإله، ونوري السعيد وأزلامهم  وإحالتهم إلى المحاكمة، وإنزال العقاب الصارم بهم جراء الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب والوطن.
2ـ الخروج من  الاتحاد الهاشمي، الذي لم يكن يمثل سوى العائلة المالكة، ومصالح الإمبريالية في المنطقة.
3 ـ الخروج من منطقة الإسترليني، وتحرير العملة العراقية من سيطرة بريطانيا، والاعتماد على عدد من العملات لدعم العملة العراقية، بدلا من الإسترليني.
4 ـ نبذ سياسة الأحلاف، والخروج من حلف بغداد، وإتباع سياسة عدم الانحياز، والحياد الإيجابي، والعمل بمقررات [مؤتمر باندونك] وتصفية كافة القواعد العسكرية الأجنبية كقاعدتي الشعيبة والحبانية البريطانيتين، وإلغاء كافة الاتفاقيات العسكرية والسياسية المعقودة مع الولايات المتحدة.
5 ـ إلغاء الإقطاع وتشريع قانون الإصلاح الزراعي، وتحرير الفلاحين الذين يمثلون 75% من سكان العراق من ربقة الإقطاعيين، وإلغاء قانون العشائر، وإحداث تغيير واسع وعميق في المجتمع العراقي.
6ـ إقامة أفضل الروابط مع الدول العربية المتحررة، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية والثقافية، وصولا إلى تحقيق أفضل ارتباط مع الجمهورية العربية المتحدة.
7 ـ العمل على تحرير فلسطين بكل الوسائل والسبل المتاحة بالتعاون مع جميع  الدول العربية الأخرى، والعمل على إعادة اللاجئين إلى ديارهم .
8 ـ إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع البلدان، وخاصة بلدان المعسكر الاشتراكي على قدم المساواة والمنافع المتبادلة.
9ـ العمل على تأمين حقوق الشعب العراقي بثروته النفطية، ومن أجل رفع الإنتاج، وتأمين دخل اكبر لتنفيذ المشاريع الطموحة للثورة.
10 ـ العمل على النهوض بالبلاد من حالة التخلف والتأخرالذي لازمه في مختلف المجالات الاجتماعية، والثقافية، والصحية، ورفع مستوى معيشة الشعب. (9)

خامساً: قيام جبهة الاتحاد الوطني [ شباط 1957]: (10)
 أدركت القوى والأحزاب الوطنية استحالة تغيير الأوضاع في البلاد من دون تعاونها المشترك، وبموجب برنامج يتم الاتفاق بشأنه من قبل كافة الأطراف، ونتيجة للمساعي المبذولة في هذا السبيل من قبل سائر الأطراف فقد جرت لقاءات بين [الحزب الوطني الديمقراطي] و[حزب الاستقلال] و[الحزب الشيوعي] و[حزب البعث العربي الاشتراكي] والعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة.
 وتم خلال تلك اللقاءات دراسة مكثفة حول السبل والوسائل الكفيلة لتحقيق أهدافها وطموحاتها، وإنقاذ الشعب العراقي من تلك الزمرة التي امتهنت حقوقه وحرياته ومصالحه، وربطت البلاد بعجلة الإمبريالية.
 وقد أسفرت تلك الجهود عن تشكيل {جبهة الاتحاد الوطني} في شباط من عام 1957، وتم تشكيل لجنة عليا تضم ممثلين عن تلك الأحزاب باستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني.
حاول الحزب الشيوعي إشراك [الحزب الديمقراطي الكردستاني] في الجبهة، إلا أن تلك المحاولة لقيت المعارضة من قبل الحزبين القوميين، البعث والاستقلال، ولذلك فقد أكتفي الحزب الشيوعي بالتحالف الثنائي مع الحزب المذكور.
وفي 9 آذار 1957 صدر البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني، وقد استعرض البيان أسباب قيام الجبهة وأهدافها، وقد أجمعت الأحزاب المنضوية فيها على الخطوط والأهداف الرئيسية التي ستناضل من اجل تحقيقها والتي تتلخص فيما يأتي :
1 ـ إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي .
2 ـ الخروج من حلف بغداد، وأتباع سياسة الحياد الإيجابي .
3 ـ إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة .
4 ـ إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم ، وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين.
5 ـ تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة .
وفيما يلي نص البيان التأسيسي الذي أعلنته اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني :
البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني
 أيها الشعب العراقي الكريم :
 نظرة في الوضع الدولي العام :

 يتميز الوضع الدولي العام باشتداد الكفاح على النطاق الدولي بين الدول الاستعمارية من جهة وبين القوى الوطنية والتحررية من جهة أخرى،   باتخاذ الكفاح المذكور أشكالاً جديدة، بعد أن تغير ميزان القوى داخل الجبهة الاستعمارية، وبينها وبين القوى الوطنية التحررية، تغيراً حاسماً، بعد فشل العدوان الجنوني الغادر على الشقيقة مصر، وتصدع البناء الاستعماري تصدعاً خطيراً، وانكشاف زيف المواثيق والأحلاف الاستعمارية، والدور المستنكر الذي قامت به دول حلف بغداد، وخاصة [ تركيا ] و[ العراق ] في العدوان المذكور.
ومن البديهي أن يحاول الاستعمار، الذي يرى في نمو القومية العربية، ونشوء كتلة الدول العربية المتحررة، وتبلور الوعي القومي للشعوب العربية، أكبر خطر على مصالحه، وأعظم عائق في إحكام طوقه الاستعماري، وأكبر ثغرة في سلسلة مواثيقه وكتله، وأحلافه.
 ومن البديهي أن يحاول تجديد أشكاله، وتغيير أساليبه، والقيام بتوزيع جديد لأدوار أبطاله، ورفع شعارات جديدة تتلاءم والمواقف المستجدة المتغيرة. وبالرغم من عدم تبلور الموقف الاستعماري الجديد، وشدة التناقضات التي تنخر في جسمه، إلا أن الخطط الأولى لهذا الوضع الجديد بدأت تتضح في محاولات مفضوحة للقضاء على الوضع السياسي الوطني في الشقيقتين مصر وسوريا، بطريق الضغط الاقتصادي المتواصل، والمؤامرات المكشوفة، وتهديدات الدول المجاورة، الضالعة في ركاب الاستعمار، والاتهامات الرخيصة الكاذبة، وحملات التهويش والتضليل، وسياسة الدس، عن طريق الرشوة وشراء الذمم، وإفساد الضمائر، ومحاولة تحويل قوات الأمن الدولية إلى قوات احتلال دائمة، هذا فضلاً عن حماية إسرائيل، وإسناد سياستها العدوانية، وتوسعها الإقليمي، والعمل على فرض الصلح معها على العرب، والتلويح بتدويل الأراضي العربية لاستخدامها كقواعد ضد حركة التحرر القومية، واندفاع الاستعمار الأمريكي للحلول محل الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط، والاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، والاستمرار في إسناد ميثاق بغداد، ومحاولة جر الدول العربية المتحررة إليه، بالضغط والتهديد والإكراه، وتكوين اتحاد استعماري جديد في المغرب العربي، وخنق القومية العربية، بمنع مصادر الحياة والقوة عنها، بما في ذلك الموارد الاقتصادية والمالية، والأسلحة الدفاعية، وتدعيم المصالح النفطية في الشرق الأوسط باسم حرية التجارة والملاحة العلمية والنقل، والتآمر المكشوف على أمن الشعوب وسلامتها، ومصالحها باسم نظرية الفراغ السياسي المزعوم، وصيانة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وأخيراً، وليس آخراً تثبيت الأوضاع الفاسدة في الشرق الأوسط، ومنع أي تطوير ديمقراطي لها بكل الوسائل التي ينطوي عليها [مشروع إيزنهاور] الجديد .
 وبالرغم من هذه المؤامرات الاستعمارية التي استنفذت جميع أشكالها، من معاهدات غير متكافئة، إلى أحلاف عسكرية استعمارية، إلى تحالف مع [إسرائيل]  إلى عدوان مسلح على الشقيقة مصر، نقول على الرغم من هذه المؤامرات، فقد خرجت القومية العربية من هذه المعركة منتصرة، قوية ونامية، بعد أن صقلتها التجارب، وثبتت أركانها المحنة، إذ ردّت العدوان على مصر، وألغت معاهدة قناة السويس لسنة 1954، وأرغمت الدول الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا، وربيبتهما إسرائيل على الانسحاب، كما أنها فضحت الدولة المزعومة إسرائيل في المجالات الدولية، فبدا حق العرب واضحاً في فلسطين، وسما مركزهم مشفوعاً  بروح جديدة تدفعهم للنضال، وتشدهم للاتحاد.
 لكن الاستعمار لن يلقِ سلاحه بسهولة، لأنه ما زال يتثبت بالبقاء في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في العراق، تحت ستار حلف بغداد الاستعماري، مستعيناً   بأذنابه الذين ربطوا مصالحهم به. إن هذا الوضع الشاذ، والمرحلة الخطيرة التي تجتازها الأمة العربية في تاريخها، تفرض على العراقيين أن يقوموا بواجبهم في الكفاح من أجل التحرر والاستقلال، فاجتمع الوطنيون، وتدارسوا الأوضاع الداخلية والخارجية، وثبتوا الأهداف التي تعبر عن هذه المرحلة نقطة ابتداء، لتحقيق الحرية والاستقلال للشعب العراقي، والسير به في موكب الأمة العربية التحرري . إن هذه الأهداف الوطنية الكبرى التي أجمع عليها العاملون في الحركة الوطنية يمكن تلخيصها بما يأتي :
1ـ تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي :
إن هذا المطلب يشكل بالبداهة الخطوة الأولى لأية سياسة وطنية محتملة، فنوري السعيد هو العميل الأول للاستعمار البريطاني، والصفقات الاستعمارية الكبرى في تاريخ العراق الحديث، بل وفي الشرق الأوسط . شكل وزارته الحالية في صيف عام 1954، ليقوم بالدور الاستعماري المرسوم له، وعَقدَ حلف بغداد، وعمل على جرّ الدول العربية إليه، وعقد الصلح مع إسرائيل، والقضاء على القومية العربية المتحررة، وتحويل الشرق العربي إلى قلعة استعمارية كبرى، وبالرغم من جميع الوسائل الوحشية، والجرائم المنكرة والمجازر الفظيعة،التي ارتكبها نوري السعيد .
 وبالرغم من جميع المراسيم الكيفية، والأحكام العرفية، والمؤامرات على الدول الشقيقة، فقد أثبتت الحوادث الأخيرة فشل سياسة نوري السعيد فشلاً تاماً، فهو وإن كان قد حقق بعض أغراض الاستعمار في العراق، بتجديد المعاهدة، وشق الصف العربي، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في ضرب الحركة القومية العربية، كما فشل في جر أي بلد عربي إلى حلفه الاستعماري، فهو لم يستطع إذن تحقيق الأهداف الاستعمارية في هذه المنطقة الحساسة من العالم .
  أن نوري السعيد، بعد فشل العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، وانكشاف مؤامراته على سوريا، وقبل ذلك على الأردن، وافتضاح دور ميثاق بغداد للقضاء على حركة التحرر العربية، وانعزاله انعزالاً تاماً  في الحقلين الداخلي والدولي، سوف لن يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم الجديدة،للمحافظة على المصالح الاستعمارية في العراق، والشرق العربي، وسوف يواصل مؤامراته، وتهديداته، ومناوراته في محاولة يائسة للقضاء على استقلال الدول العربية المتحررة، والذي ما انفك يخلق لها المتاعب، ويثير المشاكل باستمرار، وسوف لا يتردد في القيام بدوره الجديد في المرحلة الجديدة للاستعمار العالمي، بعد تغير ميزان القوى داخل الجبهة الاستعمارية، وبنفس الوحشية والقسوة التي عرف بها في خدمة أسياده القدامى، وما المجلس النيابي الحالي، المكون أكثره من الاستغلاليين والانتهازيين، والإمعات، والذي عين أعضاءه بأفظع وسائل التزوير والتلفيق، إلا أداة طيعة لتنفيذ المشاريع الاستعمارية، يسخره نوري السعيد كيفما أراد في خدمة المستعمرين المغتصبين، على حساب الشعب العراقي، ومبدأ حق تمثيله، فالمجلس النيابي الحالي هو أبعد ما يكون إذن عن كونه جهازاً تشريعياً مستقلاً محترماً.
لهذه الأسباب جميعاً أصبحت تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي، المطلب الأول من مطالب الحركة الوطنية .

2 ـ الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع البلدان العربية المتحررة :
 إن الصراع بين القوى الاستعمارية وسياسة التكتل والأحلاف الأجنبية من جهة، وبين القوى الوطنية، ومبادئ [ باندونك ] من جهة أخرى، أنعكس في الشرق العربي في صراع عنيف متواصل مستمر، واتخذ أشكالاً وألواناً شتى بين الشعوب العربية،في نزعتها إلى التحرر والاستقلال، بين بعض الحكومات العربية الرجعية الضالعة في ركاب الاستعمار، والحريصة على تثبيت المصالح غير المشروعة للفئات الحاكمة، والمرتبطة بمصالح الاستعمار، ولعل أكبر حدث سياسي في تاريخ الأمة العربية الحديث، هو ظهور حكومات عربية استطاعت لأول مرة في تاريخنا المعاصر أن تفلت من طوق الاستعمار، وتتبع سياسة عربية مستقلة، تخدم مصالح شعوبها  وتسهم في التيار المتجه بقوة نحو استقلال جميع الأمم، وتحرر الإنسان من شبح الاستغلال والاستعباد، وقد كان لهذا الحدث السياسي الخطير وقع الصاعقة على الاستعمار العالمي، فأسرع لعقد ميثاق بغداد، وركز جهوده لجر الدول العربية لهذا الحلف .
ولقد قامت دول الميثاق المذكور، لتحقيق مهمتها العدوانية بكل الكبائر، وآثار هذه السياسة الإجرامية ماثلة لدينا في العراق، في حلّ الأحزاب السياسية، وتعطيل الصحافة الوطنية، وخنق الحركة الفكرية، والأزمة الاقتصادية الآخذة بخناق أكثرية أبناء الشعب، وفي هذه السجون والمعتقلات المملوءة بالوطنيين، وتلك الكليات والمعاهد الغاصة بالأرصاد والجواسيس، وخنق الشعب بالجاسوسية، وتبذير موارد البلاد عليها، لخدمة الدول الاستعمارية، وفي الثكنات والقلاع المحولة إلى وسائل عقاب تعذيب للشباب، وفي مجازر الحي والنجف، والموصل، وبغداد وغيرها، وفي إعدام الوطنيين، وفصل الأساتذة والطلاب والموظفين، ونفي السياسيين، ونزع الجنسية العراقية عنهم، وفي الأوضاع القائمة على الاستغلال والرشوة والفساد، وعلى النهب والسلب والتبذير والتبديد،والمحسوبية،والعنف والإكراه، وأخيراً في هذه المعاهدة الجديدة التي هُربت تهريباً تحت ستار حلف بغداد العدواني، لتجديد معاهدة 1930، لتمكين نفوذ الاستعمار ومصالحه في العراق .
على أن الاستعمار بالرغم من فشل ميثاقه في تأدية مهمته الأساسية، وخاصة بعد انكشاف دوره المفضوح في العدوان الثلاثي على مصر، فقد بادرت الولايات المتحدة وبريطانيا، وقادة الدول المنضوية تحت راية هذا الميثاق، يفكرون بتغذيته بدم جديد، والعمل على إسناده بوسائل جديدة ترد له بعض الحياة، ولذلك فإن خروج العراق من هذا الميثاق الذي كان وسيلة لتمكين الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط، وجعل العراق قاعدة لضرب الحركات الوطنية فيه، والذي فرق كلمة العرب، وهدم التعاون العربي، الذي كنا نأمل في أن يصل إلى درجة الاتحاد، والذي شل الجامعة العربية، وربط مصير العراق بالدول الاستعمارية، ومهد للنفوذ التركي البغيض كخطوة أولى لنفوذ أوسع وأكبر، نقول أن خروج العراق من هذا الميثاق هو الشرط الأول والأساسي لكسب العراق استقلاله السياسي، وانفكاكه من القيد الاستعماري، وخروجه من عزلته المصطنعة، والالتحاق بقافلة الدول العربية المتحررة، ومساهمته في تحرير الشعوب العربية، وعمله كقوة إيجابية من القوى العاملة على وحدة الأمة العربية .
3ـ مقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره،وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي :
إن هذا المطلب الأساسي المتعلق بموقف العراق من السياسة الدولية، هو امتداد ضروري وطبيعي للمطلب السابق الذي يتعلق بموقفه من السياسة القومية. وقد سبق أن المحنا في أول هذه الكلمة أن الاستعمار يتخذ بالضرورة أشكالاً مختلفة، وألواناً شتى، حسب تطور ميزان القوى الدولية .
إننا نشجب ميثاق بغداد، لأنه مظهر جوهري من مظاهر الاستعمار، ولكن الاستعمار أتخذ وسيتخذ حتماً مظاهر جديدة أخرى، اقتصادية وسياسية وعسكرية وفكرية، وواجب الحركة الوطنية أن تتابع حركة التطور والأساليب الاستعمارية بكل يقظة وحذر، وأن تكشف جوهرها وخطرها، وأن تطور هي الأخرى أساليب عملها وكفاحها حسب تطور ظروف المقاومة للاستعمار، بسائر ألوانه وأشكاله، وإدراك جوهره الحقيقي، وما يخفيه وراء شعاراته المضللة، واعتباره منظمة  عالمية عدوانية، رغم الخلافات المحتدمة بين أجزائه، وإتباع سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي، بتجنيب البلاد من الانغمار في تيار الحرب الباردة بين المعسكرات الدولية، وانتهاج سياسة مستقلة في الحقل الدولي مستوحاة من مصالح الأمة العربية، بعيدة عن مؤامرات الاستعمار، وإغراءاته وتهديداته، وحذراً من كتله ومواثيقه، مدركة لزيف مساعداته، وخبرائه، مستندة لمصالح الشعوب العربية التي لا تطمح لغير الاستقلال والحرية والرفاه والسلم والازدهار المادي والأدبي، في جو عالمي هادئ خالٍ من التوتر والعدوان .

4 ـ إطلاق الحريات الديمقراطية:
 إن مبدأ سيادة الشعب انتزعته الشعوب منذ قرون، وكسبت بتحقيقه فعلاً حقوقاً كثيرة، منها حق تمثيل الشعب لنفسه عن طريق الانتخاب الحر المباشر، والعمل لهذا الغرض في جو تكتنفه الحريات، وتعمه الديمقراطية المبنية على أساس حرية التنظيم الحزبي، وحرية التعبير عن الرأي والضمير، وعلى أساس المسؤولية الوزارية.
في مثل هذه الأجواء الديمقراطية فقط يمكن أن تتيح الشعوب لنفسها محيطاً تنموا فيه القابليات، وتتضاعف الثروات، ويخطو المجتمع إلى أمام في مدارج الرقي والمدنية. فالحريات الديمقراطية هي الإطار العام الذي لا يمكن للحياة العامة أن توجد، وتتحرك، وتنمو وتتطور وتتفاعل، وتتوالد بدونه.
 فالمراسيم الكيفية اللا دستورية، وإسقاط الجنسية عن أحرار العراق المطالبين بالحق والكرامة  وإلغاء الأحزاب، وتعطيل الصحف، وتزييف الانتخابات، ودكتاتورية الفرد، وكم أفواه الناس، وخنق الحريات، كلها وسائل سلكتها وزارة نوري السعيد، لتعيد العراق إلى عهد الطغيان والعبودية، إنها سموم تميت الديمقراطية، وتمتهن الكرامة، وتقضي على القومية. ولذلك فالقضاء على هذا الفساد السياسي، وإعادة الحكم الديمقراطي، بإطلاق الحريات الدستورية، هما الشرط الأول لبناء حياة سياسية صحيحة.
إن الحريات الديمقراطية تؤلف وحدة لا يمكن أن تتجزأ، فيجب أن تشمل حرية الاجتماع، وتأليف الأحزاب، والتنظيم النقابي، والجمعيات، وحرية الانتخاب، والحرية الفكرية بسائر ألوانها، والحريات الشخصية والمدنية، كما يجب أن تكون عامة شاملة، يتمتع بها جميع المواطنين دون تمييز.
إن ضمان هذه الحريات الدستورية، وإلغاء ما يتعارض معها من مراسيم شاذة، مطلب وطني أساسي لا غنى عنه للشعب .
5 ـ إلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة المدرسين والطلاب والموظفين والمستخدمين المفصولين لأسباب سياسية :
إن هذا المطلب الأخير، وإن كان نتيجة حتمية يمكن أن تدخل في نطاق المطلب السابق، إلا أن طبيعته الآنية المستعجلة، وكثرة عدد ضحايا الإرهاب السعيدي، والتعذيب والإرهاب الذي لازال يلاقيه الألوف من ضحايا الحركة الوطنية مع عائلاتهم وذويهم، يجعل المطالبة بتحقيق هذا المطلب الملح، مظهراً من مظاهر العمل على إزالة المظالم التي قامت بها وزارة نوري السعيد ضد الوطنيين .
أننا ندعو جميع أفراد الشعب العراقي الكريم، وجميع العاملين في الحركة الوطنية، إلى وحدة التكتل، والالتفاف حول مطالب الأمة الكبرى. ندعوهم إلى نبذ الخلافات، والانشقاقات بمختلف أشكالها من صفوف الحركة الوطنية، والكفاح المشترك من أجل تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي، والخروج من حلف بغداد، وتوحيد سياسة العراق الخارجية مع البلاد العربية المتحررة، ومقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره، وسلوك سياسة الحياد الإيجابي، وإطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية، وإلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين وإعادة المفصولين بسبب نشاطهم الوطني،والنصر لا محالة للشعب .
                                            بغداد في 9 آذار 1957
                                      اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني


سادساً: تحقيق اللقاء بين اللجنة العليا للضباط وجبهة الاتحاد الوطني:
بعد أن تمّ تشكيل اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار وقيادتها، رأت القيادة ضرورة الاتصال باللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني،والتي تضم الأحزاب السياسية الوطنية المعارضة من أجل التنسيق معها في أي تحرك لقلب نظام الحكم الملكي، فالإسناد الشعبي لأي حركة ثورية يلعب دوراً حاسماً في النجاح.
 كما أن الحزب الشيوعي كان له تنظيم واسع في الجيش كما أسلفنا يقوده الزعيم الركن حسين الجبوري، وبأشراف عضو اللجنة المركزية للحزب عطشان الأزيرجاوي، وكان هذا التنظيم قد أبدى كامل استعداده لإسناد أي تحرك لحركة الضباط الأحرار بكل قوة.(11)
كما كان لحزب البعث العربي الاشتراكي تنظيم آخر يضم عدد من صغار الضباط وعلى ذلك فقد بادرت اللجنة العليا للضباط الأحرار، عن طريق أمين السر [رجب عبد المجيد ]، بالاتصال بحزب الاستقلال، وحزب البعث  فيما بادر الزعيم عبد الكريم قاسم بالاتصال بالحزب الشيوعي عن طريق صديقه [رشيد مُطلك] حيث تم الاتصال بالمكتب السياسي للحزب.
كما بادر عبد الكريم قاسم للاتصال بالسيد كامل الجادرجي، زعيم الحزب الوطني الديمقراطي، حيث كان الزعيم يعتز به كقائد وطني  ومتأثراً بأفكار الأهالي، صحيفة الحزب.
لقد جرى التنسيق بين اللجنتين استعداد لليوم الموعود، كما جرى أيفاد [صديق شنشل] إلى القاهرة للالتقاء بالرئيس عبد الناص، والتباحث معه حول ما يمكن أن يقدمه من دعم وإسناد للثورة، وقد وعده عبد الناصر بتقديم كل دعم ممكن.(12)
كما تحدث الرئيس عبد الناصر مع السفير السوفيتي حول ما يمكن أن يقدمه الاتحاد السوفيتي من دعم لأي تحرك في العراق، وجاء الرد السوفيتي بالإيجاب مبدياً استعداده للوقوف إلى جانب العراق لمنع أي اعتداء عليه، في حالة قيام الثورة. (13)
وفي اجتماع اللجنة العليا، قبيل الثورة، قدم الزعيم ناجي طالب اقتراحا يقضي بإعلان الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة فور وقوع أي عدوان أو تدخل ضد الثورة، وتمّ قبول الاقتراح. (14)
وهكذا أصبحت الحركة الثورية ناضجة، وهي تنتظر اليوم المناسب لانطلاقها، وجاء قرار الحكومة بإرسال قوات عسكرية إلى الأردن تتألف من اللواء التاسع عشر بقيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، واللواء العشرين الذي كان كل من العقيد عبد السلام عارف، والعقيد عبد اللطيف الدراجي يقودان اثنين من أفواجه الثلاث للالتحاق برتل الهادي الموجود في الأردن من قبل، فكانت الفرصة الذهبية لتنفيذ الثورة، أثناء انتقالها من مقرها في جلولاء إلى الأردن مرورا ببغداد ليلة 13/14تموز 1958، فكانت ثورة الشعب والجيش معاً، واستطاعت إسقاط النظام الملكي خلال ساعات .

التوثيق

(1)   ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 131 .
(2)   العراق ـ الجزء الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 83 .
(3)   نفس المصدر السابق ـ ص 82 .
(4)   المصدر السابق ـ ص 94 .
(5)   نفس المصدر ـ ص 99 .
(6)   ثورة 14 تموز ـ ليث الزبيدي ـ ص 112 .
(7)   المصدر السابق ـ ص 122 .
(8)   المصدر السابق ـ ص 113 ـ 117 .
(9)   المصدر السابق ـ ص 148 ـ لقاء مع حسين جميل .
(10)   جبهة الاتحاد الوطني ـ عزيز الشيخ
(11)   صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الثاني ـ حامد الحمداني ـ ص 33
(12)   العراق الجزء الثالث ـ حنا بطاطو ـ ص 105 .
(13)   نفس المصدر السابق .
(14)   نفس المصدر .

339
إلى متى يستمر نزيف الشعب العراقي؟
حامد الحمداني                                            26/10/2009
إلى متى يستمر هذا الاستهتار بأرواح المواطنين الأبرياء؟
إلى متى يستمر المجرمون القتلة من أيتام صدام، وحلفائهم أعوان المجرم أبن لادن وأدون حكام إيران والسعودية يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها، ويعيثون في البلاد خراباً ودماراً، ويمثلون بأجساد المواطنين بهذه الوحشية السادية التي لم يعرف لها الشعب العراقي مثيلاً من قبل؟
إلى متى يستمر قادة العصابات الإجرامية في مجلس النواب وفي الحكومة، وفي مراكز الدولة الأمنية والعسكرية، ويودون عصاباتهم القذرة؟
إلى متى يستمر العراق ساحة صراع الدول الإقليمية المحيطة بالعراق، والذين لا يخفى دورهم في دعم قوى الظلام والفاشية في تنفيذ جرائهما البشعة بحق الشعب العراقي.
أي دولة وأي نظام شاد لنا الاحتلال؟
أي حكومة هذه التي تتولى حكم العراق؟
أي برلمان وأي دستور أقام لنا المحتلون؟ 
أي عملية سياسية هذه التي جمعت النقيض ونقيضه، وقد ضمت قادة العصابات الإجرامية في البرلمان والحكومة، وسائر أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية؟
بالأمس الأربعاء الدامي، واليوم الأحد الدامي وغداً الاثنين الدامي وبعد غد الثلاثاء الدامي،والحبل على الجرار، وستستمر الأحوال في تدهور مستمر والقادم أخطر كلما قربت الانتخابات، وستتعدى ذلك إلى ما بعد الانتخابات وتشكيل الحكومة العتيدة!!.
لم يعد أي أمل للشعب لا بهذه الحكومة، ولا بهذا البرلمان، ولا بهذا الدستور، ولا حل لأزمة العراق المستعصية سوى حكومة إنقاذ وطني بعيداً عن المحاصصة الطائفية، وبعيداً عن زج الدين في السياسة وحل البرلمان ووقف العمل بالدستور خلال فترة انتقالية، وتتولى حكومة الإنقاذ إعادة النظر الجذرية في الأجهزة الأمنية والجيش، وإبعاد كل العناصر المنتمية للأحزاب السياسية وميليشياتها، وسن قانون يجرم قيام أحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، وفصل الدين عن الدولة مرة وإلى الأبد.
أن حكومة الإنقاذ مطلوب منها استئصال شأفة الإرهاب والإرهابيين دون رحمة مهما كانت انتماءاتهم، وسحب السلاح من سائر الميليشيات فلا أحد يحمل السلاح سوى الدولة.
مطلوب من حكومة الإنقاذ كشف كل أوراق دول الجوار وتدخلاتها في الشأن العراقي بصراحة وشجاعة، فلا يمكن السكوت بعد الآن عن أي تدخل من أي دولة مجاورة ترسل لنا الإرهابيين القتلة، فمن يرسل أو يسمح بدخول الإرهابيين في العراق هم مشاركون فعليون في الإرهاب، وينبغي أن يعاملوا على هذا الأساس.
إن الشعب العراقي مدعوٌ ليرفع صوته عالياً ومزمجراً وهاتفاً:
 كفى إراقة دماء المواطنين الأبرياء.
 كفى متاجرة بأرواح أطفال وشاب العراق.
 كفى ترميل النساء وتيتيم الأطفال
 كفى تشريد الملايين من المواطنين
 كفى الفقر ، كفى الجوع ، كفى الأمراض ، كفى البطالة
 كفى صبراً أيها الشعب فالتهب من أجل حقوقك المغتصبة ، وحياتك المهددة ، وعيشك البائس، أنك لن تخسر سوى قيودك، ولكنك ستربح المستقبل. وليكن شعارك قول الجواهري الكبير:
تقحم لعنت أزيز الرصاص                      وجرب من الحظ ما يقسم

 
   

340
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة السادسة

حامد الحمداني                                                       24/10/2009
ممهدات ثورة 14 تموز
9ـ حرب فلسطين عام  1948 وتخاذل الحكام العرب:
في 14 أيار 1948 أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، ممهدة الطريق لإقامة دولة إسرائيل ، وقد قامت القوات البريطانية عند انسحابها بتسليم أسلحتها إلى المنظمات الصهيونية، التي بادرت على الفور إلى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في نفس اليوم  14أيار 1948.
وأعلنت الولايات المتحدة على الفور اعترافها بالدولة العبرية وتبعتها بريطانيا، ثم فرنسا والاتحاد السوفيتي، وبذلك وجهت الإمبريالية طعنة عميقة إلى قلب الأمة العربية لم تندمل جراحها إلى يومنا هذا.
سارعت الدولة العبرية، وبدعم من الإمبرياليين إلى شن حملة شنيعة لتهجير المواطنين الفلسطينيين من ديارهم، وألقت بما يزيد على مليون مواطن فلسطيني إلى خارج فلسطين ليعيشوا في المخيمات في الدول العربية المجاورة، انتظاراً لنصرة الحكام العرب !! وقامت المنظمات الصهيونية أثناء عملية التهجير بمجازر وحشية يندى لها جبين الإنسانية.
وأمام ضغط الشعوب العربية على حكامها، أقدم أولئك الحكام على إرسال قطعات من جيوشهم إلى فلسطين، لكن تلك العملية لم تكن سوى مسرحية أراد بها الإمبرياليون تثبيت الأمر الواقع في قيام دولة إسرائيل، ولم يكن الحكام العرب جادون في تحرير فلسطين إطلاقاً، فلا يعقل أن جيوش العديد من الدول العربية، وفي المقدمة منها الجيش المصري والعراقي والسوري، غير قادرة على مقارعة مجرد عصابات لمنظمات إرهابية وليدة،  رغم كل ما تملكه الدول العربية من قدرات عسكرية؟
لقد كانت الخيانة بادية في أجلى مظاهرها، وكان أبناء الشعب يرددون في العراق حكاية [ماكو أوامر]، أي لا يوجد أوامر، حيث وضعت الحكومة العراقية الجيش تحت قيادة الجنرال [كلوب باشا ] البريطاني قائد الجيش الأردني !!،وبإمرة الملك عبد الله ،والذي كان على اتصال وثيق ويومي مع قادة المنظمات الصهيونية، والذي عقد معهم صفقة ضم بموجبها القسم المتبقي من فلسطين إلى مملكته، مع إقامة علاقات أمنية وثيقة مع الدولة العبرية .
 وهكذا خذلت الحكومات العربية، ومنها حكومة العراق، جيوشها وشعوبها  وتخلت عن شعب فلسطين، وعاد الجيش العراقي والأسى يملأ قلوب الجنود والضباط الوطنيين بسبب تلك الخيانة، وكان من بين أولئك الضباط، الزعيم عبد الكريم قاسم ،الذي صمم على  إزاحة ذلك النظام المرتبط بعجلة الإمبريالية ، وقاد ثورة 14 تموز بنجاح.(14)

10 ـ وثبة تشرين المجيدة عام 1952 :
لم يكن في نية حكومة الصدر إجراء أي تغيير جذري في أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية، بل كان جلّ همها تنفيذ طلب البلاط الملكي بتهدئة الأحوال، بعد تلك الوثبة الكبرى، التي أوشكت على الإطاحة بالنظام الملكي، والعمل على تخدير الشعب بإجراءات ثانوية وفوقية، تمهيدا لعودة تلك الوجوه القديمة، التي هربت أمام غضبة الشعب.
فرغم أن الصدر حلّ مجلس النواب، وأصدر قانون الانتخاب المباشر، إلا أنه أجرى الانتخابات النيابية في  ظل الأحكام العرفية، وفي ظل المضايقات المختلفة على مرشحي الشعب، وتدخل البلاط في اختيار المرشحين، مما أفقد الانتخابات جديتها وصدقيتها.
 كما أن الأوضاع المعيشية للشعب استمرت في التدهور، دون أن تقدم الحكومة أي علاج لها، واستطاعت تلك الحكومة أن تمهد الأجواء لعودة نوري السعيد إلى قمة السلطة في 6 كانون الثاني 945  ليشن أشنع حملة على الحزب الشيوعي، الذي كان له أكبر دور في أحداث الوثبة، وأقدم على إعادة محاكمة قادته [ يوسف سلمان ـ فهد] و[حسين محمد الشبيبي ـ حازم] و[ زكي بسيم ـ صارم]، والذين سبق أن حكم عليهم بالسجن المؤبد، والحكم عليهم بالإعدام، وتنفيذ الحكم مباشرة في 14 و 15 شباط 1949، وعلى الرغم من الحملة العالمية لإنقاذ أرواحهم، وجرى إعدامهم في ساحات بغداد وتركت جثثهم معلقة على المشانق طول النهار بغية إرهاب الشعب، وكان ذلك قمة التحدي للشعب، والاستهتار بالقوانين والحقوق والحريات العامة .
 كما أعتقل نوري السعيد أكثر من 370 من كوادر وأعضاء الحزب، وأحالهم إلى المحاكم العرفية التي أصدرت بدورها بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، بعد أن مارست أجهزته القمعية أشنع أنواع التعذيب في أقبية دائرة التحقيقات الجنائية [الأمن العامة].
 كما أصدر نوري السعيد العديد من المراسيم غير الدستورية، والهادفة إلى كم أفواه الشعب وقواه السياسية، وقمع الحريات العامة .
وهكذا بدأ التراكم الكمي للتناقض بين الشعب وحكامه يتصاعد بوتائر سريعة في ظل حكومة نوري السعيد، والحكومة التي تلتها، وأخذت المسافات تتباعد بين الطرفين.
لقد حاولت الأحزاب الوطنية تنبيه البلاط إلى مخاطر السياسة التي  تسير عليها هذه الحكومة، وامتهانها لحقوق وحريات الشعب، فقد قدم قادة الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال، مذكرات عديدة للوصي تحذره من مغبة استمرار تلك الأوضاع على حالها، لكن الوصي أصر  على أن يصم آذانه عن سماع تلك النصائح، بل تمادى في غيه ورد على تلك المذكرات بانفعال شديد، وتطاول على السيد [طه الهاشمي] أحد رؤساء الوزارات السابقين في مؤتمر البلاط ، مما جعل الشعب يفقد أي أمل في إصلاح الأوضاع بشكل سلمي، وغدت الأحوال تكتنفها المخاطر، وتنبئ بحدوث انفجار جديد كان كل ما يتطلبه هو إشعال الشرارة.
وجاءت تلك الشرارة من كلية الصيدلة، بسبب تعديل قانون الكلية، فقد بادر الطلاب إلى الإضراب عن الدراسة، وتطور الإضراب إلى التظاهر، بعد أن تصدت الحكومة لإضرابهم، واستخدمت القوة لكسره، وتوسعت تلك التظاهرات بانضمام جماهير الشعب إليها ، وتحولت نحو مطالب شعبية ومعيشية ، واندفاع حكومة مصطفى للتصدي لتك التظاهرات واستخدام القوة، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين، مما زاد في اندفاع الشعب وتحديه للسلطة، وتوسع نطاق المظاهرات بحيث أصبحت قوات الشرطة عاجزة عن قمعها، رغم كل الوسائل التي استخدمتها. (15)
لقد أصبح الشعب سيد الشارع  دون منازع، وانهزمت قوات الشرطة لتسلم بجلودها من غضب الجماهير، وبات العرش مهدداً بالسقوط، مما أضطر الوصي إلى إنزال قوات الجيش إلى الشوارع، وسارعت حكومة العمري إلى تقديم استقالتها، وأسرع الوصي إلى استدعاء رئيس أركان الجيش الفريق [ نور الدين محمود ]، وكلفه بتأليف الوزارة الجديدة، وتم تأليفها على عجل، وكان باكورة أعماله حل الأحزاب السياسية، وإلغاء الصحف، وإعلان الأحكام العرفية،  في 23 تشرين الثاني 1952 . (16)
ورغم ذلك استمرت التظاهرات الشعبية في تحديها للحكومة، وجرى إطلاق النار على المتظاهرين، حيث استشهد 8 مواطنين، وجرح 84 آخرين، وبلغ عدد المعتقلين أكثر من 3000 مواطن، قُدموا جميعا للمحاكم العرفية التي أصدرت أحكاماً بإعدام أثنين منهم، وحكم على 858 آخرين بالسجن لمدد مختلفة، كما حُكم على 582 مواطناً بالغرامة ووحُكم على 294 مواطناً بالكفالة. (17)
وهكذا استطاعت السلطة إخماد وثبة تشرين المجيدة، لكنها لم تستطع إطفاء تلك الجذوة لدى أبناء الشعب، واستمر تراكم التناقض بين الشعب وحكامه من جديد، واستحالة حله بالوسائل السياسية، نظراً لإصرار السلطة على سياستها المعادية للشعب.
 فقد أقدمت حكومة جميل المدفعي على ارتكاب جريمة بشعة بحق المعتقلين الشيوعيين في سجني بغداد والكوت، وجرى إطلاق النار على السجناء العزل دون مبرر، مما أدى إلى سقوط 7 شهداء، وجرح 23 آخرين في سجن بغداد، و8 شهداء  و96 جريحا في سجن الكوت، وقد أثار ذلك العمل الإجرامي استياءً شديداً لدى أبناء الشعب، وزاده إصراراً على إزاحة السلطة الباغية عن الحكم .(18)
11 ـ بريطانيا والولايات المتحدة تفرضان حلف بغداد:
كان عقد[ حلف بغداد] قمة التصاعد في الأزمة بين الشعب والسلطة الحاكمة، وقد تمثل في عودة نوري السعيد إلى الحكم في 3 آب 1954 بناءً على توصية السفارة البريطانية لينفذ المخطط [البريطاني الأمريكي] الهادف إلى ربط العراق بحلف السنتو، الذي كان يضم تركيا  وإيران  والباكستان وبريطانيا، واشتراك الولايات المتحدة في جانبه العسكري.
جاء نوري السعيد ليمهد الأجواء لانضمام العراق للحلف الذي دعي فيما بعد [حلف بغداد]، وكان بديل  المعاهدة 1930 العراقية البريطانية، ولأجل تنفيذ ذلك المخطط شن السعيد حملة شعواء لم يسبق لها مثيل ضد الشعب وقواه السياسية الوطنية، مبتدءاً بحل البرلمان الذي لم يجتمع سوى مرة واحدة، لسماع خطاب العرش بسبب فوز 11 نائباً عن الجبهة الوطنية، من مجموع 135 عضواً، وأقدمه على حل الأحزاب السياسية ، وإلغاء امتيازات الصحف، ولجأ إلى حكم البلاد بموجب المراسيم الجائرة والمخالفة للدستور، حيث أصدر مجموعة من المراسيم غير الدستورية كان من بينها: (19)
1ـ مرسوم إسقاط الجنسية رقم 17 لسنة 1954عن المتهمين و المدانين باعتناق الشيوعية من قبل المجالس العرفية.
2ـ مرسوم رقم 18 لسنة 1954 القاضي بغلق النقابات والجمعيات والنوادي
3ـ مرسوم رقم 19  لسنة 1954 القاضي بحل الأحزاب السياسية .
4ـ مرسوم رقم 24 لسنة 1954 القاضي بإلغاء امتيازات الصحف .
5ـ مرسوم رقم 25 لسنة 1954 القاضي بمنع الاجتماعات العامة والتظاهرات .
كما أقدم نوري السعيد على قطع علاقات العراق بالاتحاد السوفيتي. وبعد أن تمّ له قمع حريات الشعب، وسلب حقوقهم وحرياتهم الديمقراطية، وحكم البلاد بالحديد والنار، أقدم على إجراء انتخابات جديدة  قاطعها الشعب وأحزابه الوطنية.
 وجاء بمجلس دعاه الشعب [مجلس التزكية ]، حيث فاز فيه 123 نائبا بالتزكية، دون منافس، بعد أن حال السعيد دون تمكن أحزاب المعارضة من الترشيح للانتخابات بالتهديد والقوة. واستحوذ حزب نوري السعيد على أغلبية المقاعد التي جرت عليها الانتخابات بالتزوير والإرهاب، والاعتقالات، وبذلك ضمن السعيد عدم دخول أي معارض إلى المجلس الجديد، وهيمن على المجلس بالكامل، ممهدا السبيل لعقد الحلف الذي   أُطُلق عليه أسم {ميثاق بغداد} والذي ضم تركيا وإيران وباكستان وبريطانيا، بالإضافة إلى اشتراك الولايات المتحدة بجانبه العسكري، رغم احتجاجات الأحزاب الوطنية وجماهير الشعب، والتي تصدى لها نوري السعيد بقواته القمعية، وتم ربط العراق بالمشاريع الإمبريالية. (20)

12ـ العدوان الثلاثي على مصر واندلاع انتفاضة 1956
حاول الإمبرياليون الضغط على مصر للدخول في المشاريع العدوانية كمشروع الدفاع عن الشرق الأوسط، وحلف بغداد، ومن أجل ذلك استخدم الإمبرياليون الضغط السياسي والاقتصادي، وكان من بين تلك الضغوط، سحب البنك الدولي لعرضه بتمويل بناء السد العالي، الذي يمثل مشروعا حيوياً لمصر، وجاء رد الفعل المصري سريعاً وحازما،ً فقد أعلن الرئيس عبد الناصر خلال الاحتفال بالذكرى الرابعة لثورة 23 يوليو، عن تأميم قناة السويس، وتحويل مواردها لبناء السد.
كما سارع الاتحاد السوفيتي إلى الإعلان عن استعداده  لبناء السد العالي على أن تسدد مصر  كلفة بنائه من موارد القناة .
 نزل قرار عبد الناصر بتأميم القناة كالصاعقة على رؤوس الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين الذين سارعوا  للأعداد  للعدوان على مصر بالتعاون مع إسرائيل.
وهكذا وقع العدوان على مصر في 12 تشرين الأول 1956، حيث اجتاحت القوات الإسرائيلية صحراء سيناء باتجاه القناة، فيما قامت الطائرات البريطانية والفرنسية بقصف مركّز على مدن القناة، وخاصة مدينة بور سعيد، ثم أُعقب ذلك بإنزال جوي وبحري على طول القناة.
أحدث ذلك العمل الوحشي العدواني هياجاً شديداً لدى الجماهير الشعبية في كافة أرجاء العالم العربي، وهبت معلنة تضامنها مع الشعب والجيش المصري.
وسارت المظاهرات الصاخبة المعادية لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل داعية لنصرة الشقيقة مصر، وكان الشعب العراقي في مقدمة الشعوب العربية التي هبت في تظاهراتها الواسعة استنكاراً للهجوم الإمبريالي.
  غير أن السلطة الحاكمة في بغداد بقيادة نوري السعيد، وقفت على الضد من مشاعر الشعب العراقي، ومشاعر الأخوة العربية تماماً، وكانت إذاعة بغداد تذيع الأغاني الممجوجة التي كانت تعبر عن التشفي بعبد الناصر، بل لقد أقدمت على دعم العدوان يحدوها الأمل بتمكن المعتدين من إسقاط حكم
عبد الناصر .
ولم تكتفِ السلطة الحاكمة بذلك، بل سارعت للتصدي للتظاهرات الشعبية المؤيدة لمصر، مستخدمة كل وسائل القمع ضدها، مما أدى إلى استشهاد العديد من المواطنين، وجرح أعداد أخرى، واعتقال الكثيرين.
 كما قدم نوري السعيد الدعم الكامل للمعتدين ، حيث كانت القواعد الجوية البريطانية في العراق مركزاً لانطلاق الطائرات المعتدية، وكانت مستشفيات العراق قد أعدت لاستقبال جرحى قوات المعتدين، فيما كان الحاكمون يجهزون المعتدين بالنفط لضمان استمرار ماكنتهم الحربية ضد مصر .
 مثل ذلك الموقف أكبر استفزاز لمشاعر الشعب وقواه الوطنية وأثار لديهم العزم والتصميم على تخليص العراق من هذه الزمرة المعادية لمصالح العراق و الأمة العربية، كما كان دافعاً محركاً للعناصر الوطنية في صفوف الجيش العراقي للتحرك بهذا الاتجاه، وتوسع نشاط هؤلاء الضباط الوطنيين  وتوسعت الخلايا التي شكلوها في صفوف الجيش، واستطاعوا تجميع تلك الخلايا تحت ظل اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار التي قادت بنجاح ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.

13 ـ تأثير قيام الوحدة بين مصر وسوريا: 
 تكثفت محاولات الإمبرياليين ومؤامراتهم لقلب النظام في سوريا ، بسبب موقفها من الأحلاف العدوانية، ولعب النظام العراقي، بزعامة عبد الإله ونوري السعيد، بالإضافة إلى حلف بغداد، دوراً كبيراً في تلك المؤامرات التي كان عبد الإله متحمساً لها، بغية ضمان عرش له وحاول الاتصال بالعديد من العناصر السورية، من سياسيين وعسكريين في محاولة للإطاحة بالحكومة، وإعلان الوحدة مع العراق كما أرسل العراق بعض القطعات العسكرية إلى الأردن استعدادا للتدخل لصالح الانقلابيين.
  أدرك الحاكمون في سوريا خطورة تصاعد المؤامرات الإمبريالية من جهة، وخوفهم تنامي النشاط الشيوعي في البلاد، من جهة أخرى، ووجدوا أن السبيل الوحيد لحماية حكمهم هو تحقيق الوحدة مع مصر بأسرع وقت ممكن، وكانت الجماهير العربية متلهفة لأي مشروع وحدوي يجمع شمل الأمة العربية دون التفكير بربط الوحدة بالديمقراطية مما أدى في النهاية على انتكاستها وانفراطها .
 وهكذا توجه وفد رسمي سوري برئاسة رئيس الجمهورية، شكري القوتلي إلى القاهرة، وضم الوفد العديد من كبار السياسيين والعسكريين، وأجرى الوفد مباحثات متواصلة مع الرئيس عبد الناصر، وأركان القيادة المصرية  وأسفرت تلك المباحثات عن الإعلان عن قيام الوحدة بين البلدين في 1شباط 1958 .
أحدثت الوحدة السورية المصرية صدمة كبرى للإمبرياليين وللحكومة العراقية التي كانت تسعى لضم سوريا للعراق، وأخذ الإمبرياليون يحسبون ألف حساب لهذه الوحدة التي شكلت خطراً على إسرائيل والنظام الهاشمي في العراق والأردن، وأشاروا على حكام بغداد وعمان أن يسرعوا بإعلان قيام الاتحاد الهاشمي بين البلدين كرد على الوحدة السورية المصرية، وحماية النظام الأردني من احتمال قيام انتفاضة شعبية .
 أما على الجانب الشعبي فقد اجتاح العالم العربي موجة فرح عارمة لقيام الوحدة، على الرغم من الطريقة المستعجلة في قيامها والتي أدت إلى انتكاستها وانفراطها فيما بعد بسبب ممارسة الهيمنة على سوريا من قبل حكام مصر، وأعتبر الشعب العربي هذه الوحدة لبنة أساسية لقيام الوحدة العربية الكبرى، وتشكل دافعاً قويا ًللنضال من أجل خلاص الشعوب العربية من الهيمنة الإمبريالية والأنظمة الموالية لها، وتحقيق حلم الوحدة العربية .
كان الشعب العراقي في مقدمة الشعوب العربية في دعمها للوحدة الوليدة وتثبيت كيانها، حيث رأى فيها السبيل لتحرر بقية البلدان العربية من الهيمنة الإمبريالية، كما كانت دافعاً له للسير في هذا الطريق، نحو إسقاط النظام الملكي المرتبط بعجلة الإمبريالية، واللحاق بحركة التحرر العربي والوحدة  ومن أجل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

14 ـ الثورة الشعبية بلبنان وسعي حكومة العراق لقمعها:
بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من الشعب اللبناني  وهيمنة فئة صغيرة من الطائفيين على مقاليد الحكم وارتباطهم بالمخططات الإمبريالية، وبسبب محاولة رئيس الجمهورية [كميل شمعون]  تعديل الدستور، والسعي للبقاء على كرسي الرئاسة وموقف السلطة العدائي من الوحدة السورية المصرية، ومن العدوان الثلاثي على مصر، كل ذلك دفع الشعب اللبناني للانتفاض على تلك السلطة، ومنع كميل شمعون من محاولة التمسك بها، فكانت ثورة عارمة أفقدت الحكومة اللبنانية توازنها، وجعلتها في مهب الريح على الرغم من كل المساعدات والدعم من قبل الإمبرياليين وحكام العراق، من سلاح ومعدات وعسكريين، وكان المد الشعبي كاسحاً بحيث تعذر على السلطة القائمة قمعه، مما دفع بالإمبرياليين وبحكومة نوري السعيد إلى التفكير بإرسال قوات عسكرية إلى الأردن وتجميعها هناك لغرض مهاجمة سوريا، وفسخ الوحدة مع مصر والزحف على لبنان لقمع الانتفاضة الشعبية فيها.
 واتخذت الحكومة العراقية قرارها، بدفع من الإمبرياليين، وأعدت العدة لإرسال القوات العراقية إلى الأردن تمهيداً لتنفيذ المؤامرة المذكورة.
 لكن نوري السعيد لم يكن يدري ما يخبئه القدر له وللنظام الملكي، فقد قُدّر للزعيم الركن [عبد الكريم قاسم ] آمر اللواء التاسع عشر، والعقيد [عبد السلام عارف ] والعقيد [عبد اللطيف الدراجي] آمري الفوجين الثاني والثالث من اللواء العشرين ، وهم من قادة اللجنة العليا للضباط الأحرار أن تتحرك قواتهم من جلولاء  ليلة 13/14 تموز 1958 نحو الأردن، فكانت الفرصة الكبرى لتوجيه الضربة القاضية للنظام الملكي وللإمبريالية، ولينهي ذلك النظام خلال الساعات الأولى من صبيحة الرابع عشر من تموز 1958.
هذه هي أهم العوامل التي مهدت لقيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولاشك أن هناك بعض العوامل المساعدة على قيام الثورة أذكر منها الانقلابات العسكرية المتتالية في سوريا ونجاحها، وقيام  ثورة 23 يوليو في مصر التي شجعت الضباط الوطنيين على التفكير بتكوين المنظمات الثورية داخل القوات المسلحة لغرض قلب النظام .
كما كان للحرب الباردة بين المعسكرين آنذاك دوراً في دفع الشعب العراقي وقواته المسلحة للتصميم على إسقاط النظام الملكي المرتبط بعجلة الإمبريالية، والذي جعل العراق مسرحا لنشاطاتها وخططها المعادية للمعسكر الاشتراكي آنذاك، واتخاذ العديد من القواعد الجوية العراقية كقاعدة الشعيبة والحبانية وغيرها مسرحاً لذلك النشاط، مما أخلّ بسيادة العراق واستقلاله، وبشكل خاص بعد قيام حلف بغداد، حيث أصبحت بغداد مركزاً لذلك الحلف، ومركزاً للنشاط التآمري على سوريا، وعلى حركة التحرر العربي التي كانت في حالة من النهوض الشامل والرغبة العارمة للتحرر من الهيمنة الإمبريالية، ولاسيما وأن حركة التحرر الوطني في العالم الثالث كانت تحقق النجاح تلو النجاح في صراعها مع الإمبرياليين، فكان ذلك النجاح مشجعاً للشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية، والفصائل الوطنية في القوات المسلحة للعمل على تحرير العراق من الهيمنة البريطانية. 
 لقد كان قيام جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، وقيام اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار في عام 1956 ، واللقاء الذي تم  بين التنظيمين، المدني والعسكري، والتنسيق التام بينهما العامل الحاسم في انتصار ثورة 14 تموز 1958 .

التوثيق
(14)نفس المصدر السابق ـ ص 324
(15)تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الثامن ـ ص 336 .
(16)نفس المصدر السابق .
(17)المصدر السابق ـ ص 340 .
(18)المصدر السابق ـ الجزء التاسع ـ ص 39 .
(19)صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الأول ـ حامد الحمداني ـ ص 411
(20)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 146 .

للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالكاتب على العنوان التالي:Alhamdany34@gmail.com
         www.Hamid-Alhamdany.com

341
الانتخابات القادمة وحلم الشعب بعراق ديمقراطي
متحرر و آمن

حامد الحمداني                                                        23/10/2009
الانتخابات المقرر أجراءها في 16 كانون الثاني القادم هي بلا أدنى شك تتسم بأهمية كبرى بالنسبة لمصير ومستقبل الشعب العراقي الذي ضاق ذرعاً من الأوضاع التي خلفتها الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لإسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين.
فالشعب العراقي الذي قاسى أهوال ثلاث عقود ونصف من حكم الطاغية صدام وحزبه الفاشي، وما مارسه ذلك النظام من قمع وحشي للحريات العامة وتصفية كافة الحقوق والحريات الديمقراطية، وزج العراق في حروب كارثية جاوزت ربع قرن من الزمان، والتي دفع الشعب خلالها ثمناً باهظاً جداً من دماء مئات الألوف من ابنائه، وتدمير بنية العراق التحتية، واستنفاذ كافة مدخراته، وإغراقه بمئات المليارات من الديون، وكأنما لم يكفِ الشعب العراقي كل تلك المعانات والآلام، فجاء الحصار الأمريكي  الإجرامي الذي دام 13 عشر عاماً، ليكمل المأساة، حيث أوصل أغلبية الشعب العراقي إلى حافة الجوع.
 كان حلم الشعب العراقي إن يشهد نهاية هذا النظام الذي أذاقه مر الحياة كي يستعيد حرياته المسلوبة، وحقه في الحياة الحرة الكريمة في ظل عراق ديمقراطي مستقل آمن.
لكن ذلك الحلم الذي راوده لسنين طويلة، والوعد الذي قطعه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأبن قبل الحرب بتحرير العراق، وتحقيق الديمقراطية وتأمين الحياة الكريمة التي تليق بالشعب العراقي، الذي يعاني شظف العيش في بلد من أغنى بلدان العالم، قد تلاشت منذ اليوم الأول لسقوط نظام صدام، حيث تحول التحرير إلى احتلال، وجرى استباحة العراق بكل ممتلكاته وآثاره التي لا تقدر بثمن، وحيث تركت قوات الاحتلال المجال واسعاً لعصابات الجريمة لتعيث في العراق خراباً ودماراً ونهباً وسلباً، ولا أخال أن أحداً اعتقد آنذاك أن الذي جرى كان خارج إرادة المحتلين، وبكل تأكيد كان كل ما جرى مخطط له سلفاً، ولو شاءت القوات الأمريكية لأعلنت منع التجول في البلاد وأمنت كافة مرافق الدولة ومؤسساتها بحماية قواتها العسكرية، لكنها تركت تلك المؤسسات، ومخازن الدولة والوزارات دون حماية لكي تعبث بها عصابات الجريمة، وينهبوا محتوياتها دون أي رد فعل أمريكي.
ولم ينته الحال عند هذا الحد بل أقام المحتلون حكماً طائفيا وعرقيا جلب للشعب العراق من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها، عندما أوصلوا البلاد إلى الحرب الطائفيه التي أزهقت أرواح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، وشردت أكثر من 4 ملايين عراقي في مختلف بقاع العالم وأكثر من مليونين من المهجرين داخل البلاد.
 وفي ظل تلك الظروف الصعبة والخطيرة جرت الانتخابات البرلمانية التي لم يكن الشعب العراقي مهيأ لها لتسلم مقدرات البلاد لأحزاب الإسلام السياسي الطائفي بشقيه الشيعي والسني، والتي تحالفت مع الأحزاب القومية الكردية، وجاءت الحكومة التي جرى تشكيلها على اساس المحاصصة بين تلك الأحزاب دون إعارة أية أهمية للكفاءة والأمانة والقدرة على إدارة شؤون وزاراتهم، مما أدى إلى إضاعة العراق تلك السنوات التي تلت الحرب، وخسارة عشرات بل مئات المليارات من دخل العراق دون أن يتلمس الشعب العراق أي تحسن في أحواله المعيشية بسبب الفساد المستشري في جهاز السلطة من القمة حتى القاعدة، وكذلك البرلمان الذي ضم في صفوفه كل عجيب وغريب!!.
وفي ظل هذه الظروف البالغة التعقيد يستعد الشعب العراقي اليوم لخوض الانتخابات الجديدة في السادس عشر من كانون الثاني 2010، أي بعد شهرين ونصف من الآن، وتتسم هذه الانتخابات بأهمية كبرى حيث يشهد الشارع السياسي العراقي استقطاب لقوى سياسية في قوائم انتخابية على أساس طائفي أو قومي يتنافى والمصلحة الوطنية التي تتطلب توحيد القوى الوطنية على أساس برنامج وطني ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات الديمقراطية لسائر  مكونات الشعب القومية والدينية .
إن القوى السياسية الديمقراطية والعلمانية واليسارية مدعوة في هذه المرحلة الخطيرة من حياة شعبنا أن تعي خطورة المرحلة، وتوحد صفوفها في جبهة عريضة، وتضع مصلحة الشعب في المقدمة من مصالحها الحزبية، وتتقدم بمشروع برنامج متفق عليه من قبل سائر الأطراف يركز على تحقيق أهداف شعبنا في عراق ديمقراطي متحرر يسوده الأمن والسلام، ويستعيد حريته واستقلاله، وتحقيق الجلاء الكامل لقوات الاحتلال، والشروع في إعادة بناء البنية التحتية المهدمة، من أجل تحقيق حياة كريمة تليق بالمواطن العراقي بعد تلك السنوات العجاف من حكم طاغية العصر صدام حسين وحزبه الفاشي الدموي، ومن العملية السياسية التي أقامها المحتلون على أساس المحاصصة الطائفية، والتي لم تجلب للشعب العراقي سوى الخراب والدمار.
إن قوى اليسار والديمقراطية والعلمانية لن تستطع أن تحقق ما تصبو إليه، وتلعب دوراً فاعلاً في تقرير مصائر الشعب والوطن إذا ما بقيت على انقسامها وتشرذمها، وإن عليها أن تتعلم الدرس من الانتخابات السابقة!
لقد كنا قد دعونا آنذاك إلى قيام جبهة عريضة تضم سائر القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية واللبرالية لخوض تلك الانتخابات على أساس برنامج سياسي علماني يهدف إلى قيام نظام حكم ديمقراطي متحرر يضمن الحقوق والحريات العامة للشعب بكل قومياته وأديانه وطوائفه.                           
 لكن المؤسف أن تلك القوى لم تكن في مستوى الأحداث، وأخذ بعضها الغرور، وظنت أنها قادرة على تحقيق نتائج باهرة في الانتخابات،  وفضلت دخول الانتخابات بصورة منفردة في الوقت الذي تكتلت فيه معظم أحزاب الإسلام السياسي في قائمة واحدة، واستطاعت استغلال اسم المرجعية، واستخدمت الدين والطائفة في دعايتها الانتخابية، واستغلت بشكل واسع الوضع الاجتماعي السائد، والمتسم بالجهل والتخلف، والذي كان نتاج نظام الفاشية وطغيان نظام صدام، فجاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال تلك القوى التي كنا نتوسم بها تحقيق أماني شعبنا في الديمقراطية، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة للشعب، واكتسحت الأحزاب الإسلامية أكثر من نصف مقاعد الجمعية الوطنية، في حين لم تحصل القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية ما كانت تحلم به ولم نتل سوى الفتات إن صح القول.                      .                     وفي الوقت الذي باتت  الانتخابات البرلمانية على الأبواب، بعد أقل من ثلاثة أشهر، فإننا لم نشهد لغاية هذا اليوم أية نتائج حاسمة من جانب القوى العلمانية واليسارية والليبرالية لمعالجة الخلل الذي أوصلها إلى تلك النتائج المحزنة في الانتخابات السابقة، والعمل على لملمة الصفوف، وتجميع كل القوى التي تناضل حقاً وصدقاً من أجل بناء عراق ديمقراطي متحرر في جبهة عريضة استعداداً لخوض الانتخابات القادمة، لكي تشكل في البرلمان الجديد قوة مؤثرة في تحديد مستقبل العراق .                                                               
 إن على هذه القوى أن تدرك مسؤوليتها تجاه مصير الشعب والوطن ، فلم يعد هناك متسع من الوقت للانتظار، وأن استمرار الوضع على ما هو عليه الآن لا يعني إلا تهميش القوى الديمقراطية، وإخراجها من الساحة التي ستخلو مرة أخرى لأحزاب الإسلام السياسي، لتمضي في تنفيذ أجندتها المرسومة سلفاً لإقامة دولة تتحكم فيها دكتاتورية دينية وطائفية لفترة زمنية قد تدوم عقوداً عديدة، مما يهدد في فقدان الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، ونشوب الصراعات العرقية والدينية  والطائفية وحتى الحرب الأهلية.             .           إن على القوى العلمانية أن تستثمر كل إمكانياتها في توجهها نحو أبناء شعبنا لإقناعه بأهمية التصويت للقوى الديمقراطية، وبشكل خاص التوجه نحو المرأة العراقية التي ستكون المستفيد الأكبر في قيام عراق ديمقراطي متحرر يحقق لها كل طموحاتها في الحرية والعدالة والمساواة .                                   
 كما أن على هذه القوى أن تتقدم بمرشحين مشهود لهم بالوطنية الصادقة، والتاريخ النضالي المشهود، والكفاءة التي تؤهلهم للقيام بهذه المهمة الخطيرة التي تتعلق بمستقبل البلاد، ومصير الشعب، لا كما جرى ذلك في الانتخابات السابقة حيث كانت الأسماء المرشحة في معظمها غير معروفة لدى أبناء شعبنا، وهذه مسألة مهمة جداً وحساسة لا يمكن تجاوزها في موضوع الدعاية الانتخابية وكسب الجماهير.                                                           
  إن شعبنا ينتظر أن يشهد ميلاد الجبهة الديمقراطية العريضة التي يمكن أن تتقدم إليه ببرنامج عمل مستقبلي قادر على معالجة الوضع الأمني المتدهور فيه، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، ووضع خطة علمية مدروسة بدقة لمعالجة مشكلة البطالة، وتوفير الخدمات العامة للمواطنين، وفي المقدمة منها الماء الصالح للشرب والكهرباء والصرف الصحي والخدمات الصحية، وتهيئة الظروف اللازمة للاستثمار في مختلف المشاريع الصناعية والزراعية، وبشكل خاص في المشاريع النفطية من أجل تأمين الموارد المالية اللازمة لإعادة بناء البنية التحية للاقتصاد العراقي المهدم، والنهوض به في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، وتأمين الحياة الحرة المرفهة لشعبنا بعد طول عناء.                                                         
 إن أي طريق آخر غير هذا الطريق لن يقودنا إلا إلى المزيد من الصراع وحتى الاحتراب بين سائر القوى الوطنية، مما يضعف بكل تأكيد قدرة هذه القوى على الصمود والتصدي ودحر قوى الردة الفاشية التي تحلم بعودة عقارب الساعة إلى الوراء، وعودة نظام المقابر الجماعية والسجون، وقمع الحريات كما كانت الحال خلال العقود الأربعة الأخيرة من حكم الطغيان البعثي الفاشي                                                                             .
أن حلم الشعب العراقي يتمثل بقيام حكم ديمقراطي علماني يحترم الأديان كافة وحق ممارسة الإنسان العراقي لشعائره الدينية بكل حرية شرط عدم التجاوز على حقوق وحريات الطوائف الدينية الأخرى، والحرص على ضمان حقوق القوميات من مكونات شعبنا، وبكل تأكيد تبقى الديمقراطية هي الحارس الأمين والضمانة الأكيدة لحقوق وحريات الشعب التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،  وتوطيد عرى الأخوة والتضامن بين مكونات شعبنا في سعيها لبناء عراق جديد، عراق الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، العراق الذي ناضل شعبنا من أجله عقوداً عديدة، وقدم من أجله التضحيات الجسام .                                                                                  .
وأخيراً أتوجه بندائي لكل القوى السياسية الوطنية داعياً إياها لتوحيد الصفوف بأسرع وقت ممكن، ووضع مصلحة الشعب فوق كل المصالح، والاتفاق على قواسم مشتركة  تلبي  طموحات شعبنا من جهة، وتعزز قدراتها في مواجهة قوى الإرهاب والفاشية والظلامية، وقدراتها على فرض إرادة الشعب على المحتلين في استعادة السيادة والاستقلال الناجزين، وتحقق حلم شعبنا الجميل بالعراق المتحرر الديمقراطي السعيد.                                                .                                                                     .


342
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الخامسة

حامد الحمداني                                                     22/19/2009
ممهدات الثورة
العوامل التي مهدت لثورة 14 تموز1958. 
1 ـ تصدى الشعب العراقي لمعاهدة 1930.
2 ـ الشعب يعلن الإضراب العام في العراق .
3 ـ اندلاع ثورة العشائر في الفرات الأوسط عام 1935.
4 ـ تأثيرانقلاب الفريق بكر صدقي .
5 ـ تأثير مقتل الملك غازي .
6 ـ إعادة احتلال العراق عام 1941.
7 ـ مذبحة كاورباغي ضد عمال شركة النفط في كركوك .
8 ـ وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948.
9 ـ حرب فلسطين عام  1948 وتخاذل الحكام العرب
10 ـ وثبة تشرين المجيدة عام 1952 .
11 ـ بريطانيا والولايات المتحدة تفرضان حلف بغداد .
12 ـ بريطانيا والولايات المتحدة تفرضان حلف بغداد.
13 ـ تأثير قيام الوحدة بين مصر وسوريا .
14ـ الثورة الشعبية بلبنان وسعي حكومة العراق لقمعها .

العوامل التي مهدت لثورة 14 تموز 1958
لم تكن ثورة 14 تموز حدثاً آنياً على الإطلاق، بل كانت في الحقيقة نتيجة تراكم كمي هائل من التناقضات بين الحاكمين والمحكومين عبر أربعة عقود من الزمن امتدت منذُ الاحتلال البريطاني للعراق، إبان الحرب العالمية الأولى وحتى قيام ثورة 14 تموز 1958.
لقد خاض شعب العراق خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة صراعاً مريراً ضد الاحتلال البريطاني  في بادئ الأمر، كما أسلفنا في الفصل الأول، وتجلى ذلك الصراع  في ذروته بثورة العشرين، عندما حمل الشعب العراقي السلاح بوجه المحتلين، وأمتد لهيب الثورة ليشمل العراق كله، من أقصاه إلى  أقصاه، وكلفت تلك الثورة المحتلين  خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات أثقلت كاهل الاقتصاد البريطاني المتعب أصلاً  بسبب التكاليف الباهظة للحرب العالمية الأولى، والتي كان لبريطانيا الدور الأساسي فيها.
وفي نهاية المطاف اضطرت بريطانيا إلى تغيير تكتيكاتها السياسية والعسكرية في العراق، ولجأت إلى تأليف حكومة محلية موالية لها وجاءت بالأمير فيصل ابن الحسين ملكاً على العراق، وجمعت حوله العديد من الضباط الشريفيين الذين خدموا في الجيش العثماني كان من أبرزهم  [نوري السعيد] و[جعفر العسكري] و[علي جودت الأيوبي]  و[ مولود مخلص ] و[ بكر صدقي ] و[ جميل المدفعي ] و [مولود مخلص] العديد من الضباط الآخرين .
كما جمعت بريطانيا العديد من شيوخ العشائر حول النظام الجديد وملّكتهم مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ومنحتهم سلطة واسعة على الفلاحين، وضمتهم إلى المجالس النيابية، ومجالس الأعيان، وبذلك خلقت بريطانيا طبقة حاكمة تعمل لخدمة مصالحها، وتخوض الصراع مع الشعب نيابة عنها، وكانت باكورة تلك الخدمات التي قدمتها الطبقة الحاكمة الجديدة للإمبريالية البريطانية إقرار معاهدة عام 1922 التي أعطت لبريطانيا الهيمنة الكاملة على مقدرات العراق العسكرية والسياسية والاقتصادية، وجعلت من العراق واحة بريطانية .
وهكذا انتقل الصراع المباشر بين الشعب العراقي والإمبريالية البريطانية إلى صراع مباشر مع السلطة الحاكمة السائرة بركابها، وخاض الشعب العراقي المعارك المتواصلة مع تلك السلطة، ودفع ثمناً باهظا من دماء أبنائه البررة، من أجل تحقيق طموحه في الحرية والاستقلال، ومن أجل حياة كريمة لأبنائه، وتوجيه موارد البلاد لتحقيق مستوى معيشي لائق بدل توجيهها لخدمة المخططات الإمبريالية، ولقد تجلت تلك المعارك، وذلك الصراع خلال أربعة عقود من الزمن في الأحداث التالية:

1 ـ تصدى الشعب العراقي لمعاهدة 1930:
بعد أن تقرر إدخال العراق عصبة الأمم ، وإنهاء الانتداب البريطاني على العراق، بات ملزماً للحكومة العراقية عقد معاهدة جديدة مع بريطانيا، وعليه فقد بادر نوري السعيد إلى بدء المفاوضات العراقية البريطانية في 31 آذار 1930، وقد ترأس الوفد البريطاني المندوب السامي السير  [هيمفريز]، وضم الوفد مساعده [الميجر يونك ] و[المستر ستاجر]، فيما كان الوفد العراقي برئاسة [الملك فيصل ]، وعضوية [نوري السعيد ] و [جعفر العسكري ] و[ رستم حيدر] وقد لعب الملك دوراً بارزاً في المفاوضات، وكانت الحكومة تصدر كل يوم بياناً مقتضباً حول مجرى المفاوضات، دون الدخول في التفاصيل، حتى جاء يوم 8 نيسان 1930 حين صدر بيان عن الحكومة يقول لقد تم الاتفاق بين المتفاوضين على ما يلي :
 أ ـ إن المعاهدة التي تجري المذاكرة حولها الآن ستدخل حيز التنفيذ عند
 دخول العراق في عصبة الأمم .
 ب ـ إن وضع العراق كما هو مصرح في المعاهدة سيكون وضع دولة مستقلة حرة.
 ج ـ عند دخول المعاهدة الجديدة حيز العمل ستنتهي حالاً جميع المعاهدات والاتفاقات الموجودة ما بين العراق وبريطانيا العظمى، والانتداب الذي تولاه  صاحب الجلالة البريطانية سينتهي بطبيعة الحال.
لقد لعب نوري السعيد دوراً أساسياً في عقد المعاهدة الجديدة بالنظر للثقة الكبيرة التي أولاها البريطانيون له، والاطمئنان إليه، وكذلك ثقة الملك فيصل.
كان الشعب العراقي يدرك أن المفاوضات لن تطول، وهذا ما كان، فقد أعلن بيان رسمي للحكومة  في 30 حزيران 1930 عن توقيع معاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا العظمى تنفذ حال قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وأن المعاهدة ستنشر في بغداد ولندن في وقت واحد يتفق عليه الطرفان.
بعد أن أتمت الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة  يستطيع من خلالها نوري السعيد تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط .
وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز.
 أحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة، منددة بنوري السعيد، وبالمعاهدة، وبالإمبريالية البريطانية.
 قد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية  على مقدرات العراق بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة وتقييد العراق بقيود جديدة .
وقد أدان  الكثير من السياسيين من الفئة الحاكمة نفسها هذه المعاهدة، وأعلنوا رفضهم لها، وكان في مقدمة هؤلاء كل من السادة[ جعفر أبو التمن] و[ كامل الجاد رجي ] و[رشيد عالي الكيلاني] و[ياسين الهاشمي ] و[ حكمت سليمان ] و [محمد رضا الشبيبي] وعبد العزيز القصاب ] و [حمدي الباجه جي ] و [يوسف غنيمة ]. (1)
لكن المؤسف أن كل أولئك الساسة، ما عدا الأستاذ كامل الجادرجي، قد تنكروا لأقوالهم، واشتركوا في الوزارات التالية، ونفذوا بنود المعاهدة وبلعوا تعليقاتهم حولها.
 لكن أكثر الشخصيات الوطنية عنفاً في مقاومة المعاهدة، كان القائد الوطني البارز[جعفر أبو التمن] زعيم الحزب الوطني، الذي بعث بمذكرة باسم الحزب إلى كل من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإيران وتركيا وإلى عصبة الأمم، في 1 تشرين الأول 1930، أدان فيها أسلوب تأليف حكومة نوري السعيد، والأساليب غير الدستورية التي أقدم عليها، بتأجيل جلسات المجلس النيابي ومن ثم حله، دون أن يمض عليه خمسة أشهر، وقيامه بتعطيل أكثر من 20 صحيفة سياسية، وإحالة عدد من المحررين الصحفيين إلى المحاكم، ومنع الحكومة للاجتماعات العامة، وكمّ أفواه الشعب، وعقد معاهدة جائرة يرفضها الشعب لأنها تصب في خدمة الأغراض الاستعمارية البريطانية، وإجراء انتخابات مزورة، لفرض المعاهدة التي رفضها الشعب وقواه الوطنية، وإن الحزب الوطني الذي أيدت سياسته أكثرية الشعب يعتبر هذه المعاهدة ملغاة وباطلة}.
كما أحتج عدد من الشخصيات السياسية الكردية على المعاهدة، وأبرقوا إلى سكرتارية عصبة الأمم عدة برقيات في 20 و26 تموز تستنكر عقد المعاهدة، وقال عدد من أعضاء اللجنة الدائمة للانتدابات في عصبة الأمم:
{ إن قبول العراق لهذه المعاهدة سيجعله بعد تحرره من الانتداب تحت الحماية البريطانية} .
كما أن [ المسيو بار] العضو الفرنسي في اللجنة المذكورة قال:
{ أنا شخصياً لا أحب أن أرى بلادي تدخل في مثل هذا التعهد الذي قبله العراق على نفسه}. (2)
وهكذا أثبت نوري السعيد أنه أكثر إنكليزية من الإنكليز، وانه رجل الإمبريالية البريطانية دون منازع، وهذا ما أهله لكي يكون العمود الفقري الذي تستند عليه السياسة البريطانية في العراق، ومكنته من أن يشكل 14 وزارة في الفترة الممتدة من منتصف حزيران 1930 وحتى سقوط النظام الملكي حين قامت ثورة 14 تموز 1958، وبذلك ضرب الرقم القياسي في تشكيل الوزارات في العالم اجمع.
وبعد أن حلت الحكومة مجلس النواب ، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن ] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك  أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو لا الشعب.
 وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول 1930 في جو مشحون بالإرهاب، فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية وكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه، وأساليبه القمعية لإجبار المنتخبين الثانويين على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات تنقلات واسعة بين عدد من الحكام الإداريين، وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة.
 لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى.
 وقبل أن يعرض نوري السعيد معاهدته المشؤومة على مجلس النواب لجأ إلى تأليف حزب سياسي له ضم العناصر التي رشحها في الانتخابات لتكون سنداً له في تصديق المعاهدة فكان [حزب العهد] .
وفي 4 تشرين الأول 1930 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بالموافقة على المعاهدة، وتم دعوة مجلس النواب إلى الاجتماع  في 16 تشرين الأول، واتخذ نوري السعيد احتياطات أمنية واسعة النطاق حول بناية المجلس.
وفي اليوم المقرر لمناقشة المعاهدة من قبل مجلس النواب، تقدم نوري السعيد إلى المجلس بالاقتراح التالي:
{ لما كانت نصوص المعاهدة مع بريطانيا المنعقدة في 30 حزيران 1930 قد نشرت للرأي العام  منذ مدة طويلة، وكانت انتخابات مجلس النواب قد جرت على أساس استفتاء الشعب فيها اقترح على المجلس الموقر أن يوافق على المذاكرة فيها بصورة مستعجلة } .
وقد تمت الموافقة على الاقتراح من قبل رئيس المجلس، و تم طرح المعاهدة، بعد نقاش للمعارضة دام 4 ساعات للتصويت عليها، وقد صوت إلى جانب المعاهدة 69 عضواً ضد 13، وتغيب 5 أعضاء عن الحضور، وسط هياج وصياح المعارضة المنددة بالمعاهدة.
لم يبق أي عائق أمام نوري السعيد لتصديق المعاهدة، فالملك فيصل كان يرأس الوفد المفاوض أثناء عقد المعاهدة، ومجلس الأعيان يعيّنه الملك، ويعمل بأمره.
أما المعارضة فقد أبرق أقطابها المعروفين  السادة جعفر أبو التمن، وناجي السويدي وياسين الهاشمي، إلى سكرتارية عصبة الأمم، يحتجون على بنود المعاهدة التي لا تضمن للعراق استقلالاً حقيقياً، وتفسح المجال لبريطانيا باستغلال البلاد حسب ما تقتضيه أغراضها الاستعمارية .

2 ـ الإضراب العام في العراق احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشية
نتيجة ً لتدهور الأوضاع المعشية للشعب، وإهمال الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم لمعالجة الوضع، وإمعانها في تحميل المواطنين أعباءً ضرائبية جديدة بين حين وآخر، وكان آخرها فرض الحكومة ضريبة البلديات على الرغم من الوضع المعيشي الصعب، في 5 تموز 1931، مما دفع الشعب على أثره إلى إعلان الإضراب العام في البلاد  احتجاجاً على القانون المذكور، وقد عم الإضراب  أنحاء العراق كافة، وتعطلت كافة المرافق الاقتصادية في البلاد، أقفلت كافة المحال التجارية والمطاعم والمخابز والصيدليات وأسواق الفواكه والخضر ووسائط النقل، وبذلك أصيبت البلاد بالشلل التام، وشكل الإضراب اكبر تحدي للحكومة، ولاسيما بعد أن قامت المظاهرات الصاخبة، وتصدي السلطة لها، ووقوع المصادمات العنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، واضطرار السلطة  بعد هزيمة الشرطة، إلى استدعاء الجيش لقمع المظاهرات الشعبية، وكسر الإضراب.
كما استنجدت الحكومة بالقوات البريطانية المتواجدة في ميناء البصرة وسفنها الحربية الراسية هناك لقمع الإضراب في المدينة. (3)

3 ـ اندلاع ثورة العشائر في الفرات الأوسط عام 1935:

بسبب تردي الأحوال المعيشية وتلكؤ  الحكومات المتعاقبة عن تنفيذ الإصلاحات التي كانت تعد بها، اندلعت ثورات العشائر ضد الحكومة وكانت  ثورة الرميثة، وثورة سوق الشيوخ على درجة كبيرة من السعة جعلت الحكومة  تلجأ إلى استخدام الجيش لإخمادها، حيث وقعت مصادمات عنيفة بين الثوار والجيش، ووقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وانتهى الصِدام بسيطرة الجيش على الأوضاع من جديد، أصدرت الحكومة على الفور مرسوم الإدارة العرفية في 14 أيار1935 واتبعته بمراسيم أخرى استهدفت إفراغ الدستور من الحقوق والحريات العامة التي نصَ عليها منها، مرسوم منع الدعايات المضرة، ومرسوم الطوارئ، ومرسوم مكافحة الأفكار الهدامة!، ومرسوم انضباط الموظفين، وغيرها من المراسيم الأخرى المخالفة للدستور، مما خلق استياءً شديداً لدى أبناء الشعب  من السياسات التي تتبعها السلطة الحاكمة.(4)

4 ـ تأثيرانقلاب الفريق بكر صدقي:
يعتبر انقلاب الفريق بكر صدقي فاتحة لوقوع الانقلابات في العراق، باستخدام الجيش وسيلة لإجراء التغييرات في السلطة، وبالفعل فقد سخر نوري السعيد قادة الجيش العقداء الأربعة  [صلاح الدين الصباغ ] و[ فهمي  سعيد ] و[ محمود سلمان ] و[كامل شبيب ] للقيام بانقلاب على حكومة جميل المدفعي وإسقاطها في 24 كانون الأول 1938، واضطر الملك غازي إلى تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة.
كما استطاع رشيد عالي الكيلاني استخدام قادة الجيش المذكورين في الانقلاب ضد حكومة طه الهاشمي في 1 أيار 1941. وهكذا فقد كان استخدام الجيش أمراً مشجعا لتشكيل تنظيمات ثورية داخله كما سنرى فيما بعد. (5)
وقع الإنقلاب العسكري الذي قاده  الفريق بكر صدقي في 29 تشرين الأول 1936 ، وأدى إلى إسقاط وزارة ياسين الهاشمي، وفرض حكومة جديدة على الملك غازي، برئاسة حكمت سليمان، وضمت تلك الوزارة أغلبية من الإصلاحيين، كان من بينهم القائد الوطني البارز [جعفر أبو التمن] و السيد [كامل الجادرجي] .
لقد أدى الانقلاب إلى مقتل [ جعفر العسكري ] وزير الدفاع وصهر نوري السعيد، وهروب السعيد وشلته إلى خارج العراق، بعد لجوئه إلى السفارة البريطانية التي قامت بدورها بتهريبهم . (6)
 لقي انقلاب بكر صدقي إسناداً ودعماً كبيرين من قبل الشعب وقواه الوطنية  بما فيها الحزب الشيوعي، لكن بكر صدقي الذي أراد أن يحكم البلاد من وراء الستار سرعان ما أصطدم مع رفاقه الإصلاحيين، وأدى ذلك إلى خروج الإصلاحيين من الوزارة، وإصابة الشعب وقواه الوطنية بخيبة أمل كبيرة بسبب التغير  الحاصل في توجهات بكر صدقي مما أدى إلى انعزال حركته عن الشعب، وسهل بالتالي عملية اغتياله في بهو القاعدة الجوية بالموصل حينما كان في طريقه على تركيا بدعوة من حكومتها في 9 آب 1937، وعودة نوري السعيد وأتباعه من جديد إلى الحكم من جديد، ليقوم بتصفية حساباته مع الانقلابيين ومن ساندهم، والتنكيل بالقوى السياسية الوطنية. (7)
5 ـ تأثير مقتل الملك غازي
أثار مقتل الملك غازي في ظروف غامضة حالة من الغليان والغضب الشديدين لدى أبناء الشعب الذي لم  يصدق البيان الذي أصدرته الحكومة عن كون الحدث جاء قضاءً وقدراً، وقد أشارت أصابع الاتهام إلى نوري السعيد وعبد الإله بتدبير مقتله، بتخطيط من قبل السفارة البريطانية آنذاك، وقد أدى مقتل الملك إلى عاصفة من المظاهرات الصاخبة المنددة ببريطانيا وصنائعها، وعلى رأسهم نوري السعيد وعبد الإله، ووقعت أحداث دامية في بغداد والموصل والسليمانية وغيرها من المدن العراقية، أدت إلى مقتل القنصل البريطاني في الموصل، وإعلان الأحكام العرفية وسوق العديد من المواطنين إلى المجالس العرفية. (8)

6 ـ إعادة احتلال العراق عام 1941
لم يكن رشيد عالي الكيلاني سوى أحد رجال النظام الملكي الذين اعتمد عليهم الملك فيصل الأول عندما أقدمت بريطانيا على تأسيس ما سمي بالحكم الوطني، فهو واحد من الطبقة الحاكمة التي تولت المناصب العليا في الدولة فكان وزيراً، ورئيساً للوزراء، ورئيساً للديوان الملكي، فهو أحد أركان السلطة الحاكمة آنذاك.
كان الكيلاني عاشقاً للسلطة، واستخدم نفوذه بين العشائر مراراً وتكراراً من أجل الوصول إلى الحكم، ولم تكن الحركة الانقلابية التي قادها الكيلاني بالتعاون مع قادة الجيش العقداء الأربعة كل من [ صلاح الدين الصباغ] و[محمود سلمان] و [فهمي سعيد] و[ كامل شبيب]  بدافع تحرير العراق من الهيمنة الأجنبية، وهو الذي سعى لإبدال الاستعمار البريطاني بالاستعمار الألماني، بل كان جُل همه الاستئثار بحكم العراق، ومن أجل تحقيق أهدافه تلك استغل الشعور الوطني لدى ضباط وجنود الجيش العراقي، والجماهير العراقية،  للتخلص من الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق.
وجاء رد الفعل البريطاني على توجهات الكيلاني سريعاً بإنزال القوات البريطانية في البصرة وزحفها نحو بغداد، وقد زُج الجيش العراقي في حرب غير متكافئة ضد القوات البريطانية حيث كان ضعيفاً، ويفتقد السلاح والعتاد تجاه القوات البريطانية التي كانت تمثل أقوى جيوش العالم آنذاك، ودفع الجيش العراقي ثمناً باهظا من أرواح جنوده وضباطه. (9)
 وهكذا تم إسقاط حكومة الكيلاني الذي هرب إلى ألمانيا، كما هرب قادة الجيش إلى إيران وتركيا، وتم إلقاء القبض عليهم من قبل القوات البريطانية وجرت محاكمتهم، والحكم بإعدامهم، وتنفيذ الحكم فيهم .
كما أقدمت بريطانيا على تسريح ثلاثة أرباع الجيش العراقي الذي كان تعداده44217 ضابطاً وجندياً ليصبح تعداده 12000 فقط . (10)
 خلق الاحتلال البريطاني الجديد، وتسريح ثلاثة أرباع الجيش استياءً شديداً لدى أبناء القوات المسلحة، ودفع ضباط الجيش إلى التفكير في الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لتحرير العراق من الهيمنة البريطانية من جهة، وكرد فعل على سياسة الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الإمبريالية من جهة أخرى، والتي خلقت استياءً عاماً لدى الشعب، وعززت من تصميمه على طرد المحتلين ، وخاصة بعد أن أعاد البريطانيون عبد الإله ونوري السعيد ورهطه إلى الحكم من جديد وقيامهم بحملة تنكيل واسعة بكل العناصر التي ساعدت وساندت وأيدت حركة الكيلاني، وزجت بهم في غياهب السجون، وإقدام الحكومة على إعدام العقداء الأربعة  صلاح الدين الصباغ، وحكمت شبيب  ومحمود سلمان وفهمي سعيد، بالإضافة إلى يونس السبعاوي وزير الاقتصاد في حكومة الكيلاني .(11)

7 ـ مذبحة كاورباغي ضد عمال شركة النفط في كركوك:
 وقعت المذبحة على أثر إضراب عمال شركة نفط كركوك في  عهد وزارة أرشد العمري، في 7 تموز1947، مطالبين بتحقيق عدد من المطالب المتعلقة بأمورهم المعشية، وتصدي قوات الشرطة للمضربين المتجمعين في حدائق كاورباغي، وإطلاق الرصاص عليهم دون أي مبرر، وقد  أدت إلى استشهاد 16عاملا، وجرح العشرات الآخرين واندلاع موجة عارمة من المظاهرات والاحتجاجات الشعبية ضد حكومة العمري، وامتداد تلك التظاهرات إلى بغداد.
لقد تبين من تقرير اللجنة التحقيقية التي أرسلتها وزارة العدل أن قوات الحكومة تعمدت إطلاق الرصاص على المضربين من الخلف، دون أي مبرر، فلم يكن في نية المضربين التصدي الشرطة، وإنما أرادوا تحقيق العديد من المطالب الخاصة بأوضاعهم المعيشية المتردية وتحسين وضعهم المعيشي، وهكذا جاءت هذه المجزرة الرهيبة لتضيف أسباباً جديدة لاشتداد التناقض بين الشعب وحاكميه.(12)

8 ـ وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948:
 جاءت الوثبة كرد فعل على محاولة حكومة [صالح جبر ـ نوري السعيد] فرض معاهدة بورتسموث ا لبريطانية على العراق، نظرا لقرب انتهاء أمد معاهدة 1930، واستباق  بريطانيا الأمر لإقرار المعاهدة الجديدة، تكريساً
ً لهيمنتها على العراق، واستننزاف ثرواته النفطية .
 وفي حقيقة الأمر، وإن كان السبب المباشر الذي أشعل شرارة الوثبة هو محاولة فرض المعاهدة، إلا أن تراكماً كمياً هائلا من السخط الشعبي العارم على السلطة، وموقف الحكومة والعرش من القضية الفلسطينية والانغمار في المخططات الإمبريالية التي استهدفت شعب فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل، كل ذلك جعل السخط الشعبي العارم على السلطة ينفجر بعنف شديد، حيث اجتاحت المظاهرات الشعبية مدن العراق كافة، وجرى التصدي لتلك المظاهرات من قبل الأجهزة القمعية للسلطة، وسُفكت دماء طاهرة للمئات من أبناء الشعب الذي صمم على مواصلة الكفاح مهما كانت التضحيات.
 واستطاع الشعب هزم قوات الحكومة، وإسقاط الوزارة، وإلغاء المعاهدة التي وقعها صالح جبر، ونوري السعيد بالأحرف الأولى في ميناء بورتسموث البريطاني، وهرب صالح جبر ونوري السعيد للنجاة بجلدهما من غضب الشعب العارم، واضطر الوصي عبد الإله بغية امتصاص الغضب الشعبي العارم إلى تكليف الشيخ محمد الصدر، رئيس مجلس الأعيان، وأحد قادة ثورة العشرين، بتأليف الوزارة الجديدة .

وفي محاولة لتهدئة الأوضاع، أقدم الصدر على إطلاق سراح المعتقلين وأعلن رفض الحكومة للمعاهدة، كما أعلن عن النية في إجراء تحقيق مع المسؤولين عن إطلاق النار على أبناء الشعب، وحل المجلس النيابي تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، وأعلن عن  احترام الحكومة للحريات الدستورية، وفسح المجال لممارسة الأحزاب السياسية لممارسة نشاطها، وإطلاق حرية الصحافة، والعمل على تأمين الحاجات الضرورية للشعب، والغذائية منها بشكل خاص.
لعب الحزب الشيوعي دوراً رئيسياً في تلك الوثبة الكبرى، إلى جانب الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال القومي، لكن حزب الاستقلال سرعان ما تخلى عن ساحة النضال، بعد أن وجد مدى تزايد تأثير الحزب الشيوعي في تلك الأحداث، وطلب من العناصر القومية الكف عن التظاهر والانسحاب، وأدى هذا الموقف إلى عدم تمكين الوثبة من تحقيق كامل أهدافها، وقد تبين فيما بعد أن هذه الحكومة إنما جاءت لتهدئة الأوضاع ، وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة، وعودة نوري السعيد وأركان حكمه من جديد. (13)


التوثيق

(1)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الثالث ـ ص 50 ز
(2)   المصدر السابق ـ ص 75 .
(3)   في غمرة النضال ـ سليمان الفياض ـ ص 178 .
(4)   مذكرات توفيق السويدي ـ ص 261 ز
(5)   فرسان العروبة ـ صلاح الدين الصباغ ـ ص 68 ـ 71.
(6)   مذكرات توفيق السويدي ـ ص 271 .
(7)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الرابع ـ ص 209 .
(8)   نفس المصدر السابق ـ الجزء الخامس ـ ص 78 .
(9)   مذكرات طه الهاشمي ـ ص 241 ز
(10)   الحرب العراقية البريطانية ـ محمود الدرة ـ ص 243 .
(11)   مذكرات توفيق السويدي ـ ص 394 .
(12)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء السابع ـ ص 116 .
(13)   صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ حامد الحمداني ـ الكتاب الأول ـ ص 316 .

للحصول على نسخة من هذا الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي:

ِAlhamdany34@gmail.com
www,Hamid-Alhamdany.com


343
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الرابعة

حامد الحمداني                                                      21/10/2009

المهمات التي أوكلها المندوب السامي لحكومة الملك فيصل

كان في مقدمة المهام الموكلة بهذه الحكومة هي التفاوض مع البريطانيين، لوضع معاهدة عراقية بريطانية، تستطيع بريطانيا من خلالها تأمين مصالحها في العراق، وربط مصائر العراق السياسية والاقتصادية، والعسكرية بالإرادة البريطانية.
 كان الشعب العراق يترقب ما سوف تسفر عنه تلك المفاوضات، ومصير الانتداب البريطاني الذي فرضته عصبة الأمم على البلاد  بناء على طلب بريطانيا نفسها.
وفي الوقت نفسه نظم الأهالي في معظم المدن العراقية، وبشكل خاص مدن الفرات الأوسط، عرائض تطالب الملك برفض الانتداب البريطاني،  وتطالب بإطلاق حرية الصحافة لكي تستطيع الأمة التعبير عن رأيها عبرها بكل صراحة.
لكن خطاب المستر تشرشل وزير المستعمرات البريطاني في مجلس العموم  في 23 أيار 1922، والذي أدعى فيه أن الشعب العراقي لم يعارض الانتداب البريطاني، أثار حماس أبناء الشعب وغيظهم، فخرجت جماهير الشعب الرافضة للانتداب في مظاهرات صاخبة يتقدمها عدد من الشخصيات الوطنية كان من بينها كل من الشيخ محمد الصدر، والشيخ مهدي الخالصي، وياسين الهاشمي، ومهدي البصير، والشيخ احمد الداؤد، وحمدي الباجه جى. (21)
توجهت المظاهرة إلى مقر الملك فيصل لتعبر عن سخطها واستنكارها لتصريحات تشرشل، وطلب قادة المظاهرة مقابلة الملك فيصل للتعبير له عن رفض الشعب العراقي للانتداب ومطالبته بالحرية والاستقلال الحقيقي.
وافق الملك على المقابلة شرط تفرق المظاهرة، وبالفعل تفرقت المظاهرة، وتمت مقابلة الملك، وعرضت عليه مطالب أبناء الشعب، ووعد الملك بأنه سوف لا يقدم على أي خطوة لا يرغب بها الشعب.
وبعد المقابلة طيرّ الزعماء الوطنيون برقيات إلى عصبة الأمم، والكونجرس الأمريكي، ومجلس العموم البريطاني، والصحف العالمية، معلنين فيها رفض الشعب العراقي للانتداب ومطالبته بالاستقلال الناجز،
والتحرر من ربقة الاستعمار الجديد.
أما أبناء الفرات الأوسط فقد طيرّوا برقية إلى الملك فيصل تطالب برفض الانتداب، وإسقاط أي وزارة تصدق على المعاهدة، وإطلاق حرية الصحافة وجاء  في البرقية ما يلي: (22)
جلالة الملك فيصل الأول، دامت سلطته:
نطلب من جلالتكم تنفيذ المواد التالية:
1ـ رفض الانتداب، ونطالب بريطانيا  بالاعتراف بإلغائه رسمياً.
2ـ إسقاط أية وزارة تصدق معاهدة غير مرضية بنظر الأمة، وتعيين وزارة وطنية تطمئن الأمة بأعمالها.
3 ـ إزالة أي سلطة أجنبية على الحكومة العراقية.
4 ـ إطلاق حرية الصحافة.
هذه هي رغائب الأمة، وبما أن الأحوال الحاضرة مخالفة لرغائبها بادرنا بعرضها على جلالتكم لتكون الأمة معذورة بنظركم والأمر لوليه، أدام الله شوكتكم. (23)
كما طيروا برقية أخرى إلى المندوب السامي البريطاني جاء فيها:
فخامة المعتمد السامي لحكومة بريطانيا العظمى المفخم :
نعرض لفخامتكم حسبما وعدت حكومة بريطانيا العراقيين بحكومة دستورية ديمقراطية يرأسها ملك عربي، وبذلك بايعت الأمة العراقية على اختلاف طبقاتها جلالة الملك فيصل ملكاً عليه، وقد أكد ذلك جلالة ملك بريطانيا في برقيته التاريخية بمناسبة تتويج الملك فيصل الأول.
إننا لا ننكر صداقة حكومة بريطانيا العظمى، صداقة خالية من المحاباة  وبما أن فخامتكم يمثل حكومة بريطانيا العظمى نود أن نوقفكم على رغائب الأمة التي لا يمكن التنازل عنها مهما كلف الأمر، وهذه المواد هي:
1ـ رفض الانتداب، ونطالب بريطانيا بالاعتراف بإلغائه رسمياً.
2ـ إسقاط أية وزارة تصدّق معاهدة غير مرضية بنظر الأمة، وتعيين وزارة وطنية تطمئن الأمة بأعمالها.
3ـ إزالة أي سلطة أجنبية على الحكومة العراقية.
4ـ إطلاق حرية الصحافة.
هذه هي رغائب الأمة، وبما أن الأحوال الحاضرة مخالفة لرغائبها بادرنا بعرضها على جلالتكم، لتكون الأمة معذورة بنظركم والأمر لوليه، أدام الله شوكتكم}. (24)
ضاق الملك فيصل ذرعاً بأساليب المعتمد السامي البريطاني، وما سببه من هيجان شعبي، أدى إلى استقالة الوزارة، فكتب إليه مذكرة أستعرض فيها خطورة الأوضاع، وطلب أحد أمرين، فإما أن يأخذ على عاتقه باسم بريطانيا مسؤولية البلاد، ويطبق سياستها بحزم وجد لتخليصها من الخطر المحدق، والخراب الذي يهددها، وإما أن يترك المسؤولية له، أي[الملك فيصل]، ويطلق يديه لتدبير الأمور على الخطة التي يرى بها إنقاذ البلاد وسلامتها. (25)
لكن المندوب السامي أتهم الملك بالمسؤولية في تردي الأوضاع، وكتب إلى وزير المستعمرات [ تشرشل] يقول فيها:
{إن المسؤولية الكبرى عن تدهور الوضع الحالي تقع على عاتق الملك نفسه، وأن الطريقة المثلى لمعالجة الموقف هو أن تقوم الحكومة العراقية بالتشاور معي حول  الخطوات التي تتخذها، وإذا ما أهملت استشارتي فأني مستعد للتشاور مع قائد القوات المسلحة لاتخاذ التدابير الضرورية لمعالجة الأمر}!!. (26)
أراد الملك فيصل أن يجري تغيراً حقيقياً في الحكومة بعد استقالة وزارة النقيب التي نالت استياء أبناء الشعب بسبب موالاتها المطلقة للمندوب السامي، إلا أن المندوب السامي طلب من الملك أن يكلف النقيب مرة أخرى بتأليف الوزارة الجديدة، وأن يكون أكثر أعضائها من الوزارة المستقيلة  المتعاطفين مع الحكومة البريطانية.
لم يكن الملك فيصل، وهو في بداية أيام حكمه قادراً على تحدي إرادة المندوب السامي، فاضطر إلى تكليف النقيب مرة أخرى  بتأليف الوزارة، وكانت المهمة الأولى لهذه الوزارة هي توقيع المعاهدة العراقية البريطانية، وقد مارس المندوب السامي ضغوطاً شديدة على الملك فيصل لإعادة تكليف رئيس الوزارة المستقيل [عبد الرحمن النقيب] بتأليف الوزارة من جديد، وطلب منه اختيار الوزراء الذين يوافقون مسبقاً على الخطة السياسية التي وضعتها الحكومة البريطانية .(27) 
كما طلب منه العمل على تصديق المعاهدة المنوي إبرامها بين الحكومتين البريطانية والعراقية، وإجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي  والمصادقة على القانون الأساسي [ الدستور]، وضمان التصديق على المعاهدة العراقية البريطانية [معاهدة 1920]، وقد تمت مصادقة مجلس الوزراء على المعاهدة في 13 تشرين الثاني 1922. (28)
  وما كادت الحكومة العراقية تنتهي من إقرار هذه المعاهدة في 13 تشرين الأول 1922 حتى استصدرت إرادة ملكية في 19 تشرين الأول 1922 تقضي بانتخاب مجلس تأسيسي لكي يقوم بإقرار المعاهدة المذكورة، وإقرار دستور دائم للبلاد [القانون الأساسي]،مستغلة الضربة التي وجهها المندوب
السامي للمعارضة العراقية.
لكن ذلك لم يمنع من قيام الاحتجاجات الواسعة من قبل أبناء الشعب ورجالاته الوطنيين ورجال الدين، حتى أن الأمام الخالصي أعلن أمام جموع حاشدة من المواطنين عن تخليه عن مبايعة الملك فيصل بسبب موقفه من المعاهدة.
كما أصدر علماء الدين في النجف والكاظمية فتاوى شرعية تحرم الاشتراك في الانتخابات المزمع إجراؤها لأجل إقرار المعاهدة.
كما حذا حذوهم رجال الدين السنة، وأصدروا الفتاوى بمقاطعة هذه الانتخابات.
 ونتيجة للمعارضة العارمة من قبل الشعب لبنود المعاهدة التي كبلت بها بريطانيا العراق بقيود ثقيلة جعلته عملياً خاضعاً لمشيئتها، اضطرت وزارة عبد الرحمن النقيب إلى الاستقالة في 16 تشرين الثاني، دون أن تحقق المهام الموكلة بها، وقد قبل الملك فيصل الاستقالة، وكلف السيد عبد المحسن السعدون بتأليف الوزارة الجديدة في 20 تشرين الثاني 1922.
كان على الحكومة السعدونية تنفيذ المهام الموكلة لها بانتخاب المجلس التأسيسي، وإقرار المعاهدة، وإقرار القانون الأساسي، وقانون الانتخاب، ومن أجل تنفيذ هذه المهام فقد كان على الحكومة أن تهيئ الأجواء التي تمكنها من تنفيذ هذه المهام بعد تلك الموجة العارمة التي اجتاحت العراق احتجاجاً على بنود المعاهدة التي وقعتها حكومة النقيب مع المندوب السامي البريطاني [ بيرسي كوكس]، وذلك عن طريق توجيه ضربة قاصمة للقادة الوطنيين المعارضين للمعاهدة، ولرجال الدين في النجف وكربلاء، الذين وقفوا بصلابة ضدها.
 فقد قبضت السلطات الحكومية على الشيخ  [مهدي الخالصي ] وولديه في 27 حزيران 1923 ونفتهم خارج العراق، كما نفت قريبيه الشيخين [علي تقي] و[سلمان الصفواني] وعطلت الحكومة عدد من الصحف المعارضة للمعاهدة، وقامت بحملة إرهاب للمواطنين لحملهم على المشاركة في الانتخابات المزمع أجراءها، والتي كان المندوب السامي يلح على إجرائها بأسرع وقت لغرض إقرار المعاهدة.
أثار عملية إبعاد الشيخ الخالصي وولديه وقريبيه موجة احتجاجات عارمة من قبل رجال الدين في النجف وكربلاء الذين هاجموا إجراءات الحكومة، وطالبوا بعودتهم إلى العراق.
 غير أن الحكومة بدلاً من أن تستجيب لمطالبهم واحتجاجاتهم أقدمت على إبعاد ما يزيد على 30 رجل دين أخر منهم إلى إيران، ووضعت تحت مراقبة الشرطة أكثر من 50 آخرين، وأشاعت جواً من الإرهاب في جميع
أنحاء البلاد.
أما الأحزاب السياسية فقد اختلفت في مواقفها من الانتخابات، حيث قرر  حزب[النهضة] الوقوف على الحياد، فيما انشق [ الحزب الوطني ] على نفسه، حيث دعا القسم الأول إلى الاشتراك في الانتخابات،  فيما دعا القسم الثاني إلى مقاطعتها.
أما [الحزب العراقي الحر] فقد قرر بادئ الأمر الاشتراك في الانتخابات  ثم عاد بعد ذلك وقرر المقاطعة في 19 آب، غير أن العديد من أعضائه رشحوا أنفسهم في الانتخابات كمستقلين، وفازوا في الانتخاب، وكان من بينهم [ فخري الجميل ] و[ مجيد الشاوي ] و[جميل الزهاوي] و[حسن غصيبة ] .
أما الحكومة فقد مضت في خطتها لإتمام عملية الانتخاب، على الرغم من المعارضة والمقاطعة الواسعة، وتمكنت من أن تنجز انتخاب [المنتخبين الثانويين] إلا أنها لم تستطع إكمال الشوط إلى النهاية بسبب موجة الغضب الشعبية العارمة ضد الأساليب التي اتبعتها الحكومة في انتخاب المنتخبين الثانويين من جهة، واتهام المندوب السامي البريطاني للحكومة بالتلكؤ  وعدم الإسراع في إنجاز الانتخابات، مما اضطر الحكومة إلى تقديم استقالتها إلى الملك.
 أثار تباطؤ عمل الوزارة السعدونية في إتمام إنجاز الانتخابات للمجلس التأسيسي، وإقرار المعاهدة العراقية البريطانية حفيظة المندوب السامي  وبدأت الضغوط على الملك فيصل تنهال لإقصاء الوزارة السعدونية، التي جرى اتهامها بالتسبب في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، واتخذ الملك فيصل ذلك ذريعة لتوجيه اللوم إلى الحكومة على تدهور الأوضاع المعيشية للشعب.
فهم السعدون ما يدبره المندوب السامي، فأسرع إلى تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 15 تشرين الثاني 1923، حيث قبلها الملك على الفور  وكلف السيد جعفر العسكري بتأليف وزارة جديدة، وتم تأليف الوزارة في 22 تشرين الثاني 1923، وقد وضعت أمامها تنفيذ المهام التالية:
1 ـ إكمال الانتخابات للمجلس التأسيسي .
2 ـ إقرار المعاهدة العراقية البريطانية .
3 ـ إقرار القانون الأساسي ( الدستور ) .
4 ـ إنهاء مسألة الحدود بين العراق وتركيا .
5 ـ إكمال الملاحق المتممة للمعاهدة العراقية البريطانية، والتي لا يزال البحث فيها مستمراً.
عينت الحكومة يوم 25 شباط 1924 موعداً لإكمال أجراء انتخاب المجلس
المجلس التأسيسي، وجرت الانتخابات في موعدها المقرر، واستطاعت الحكومة المجيء بمجلس يضمن الأكثرية لها، حيث جرت الانتخابات كما هو مخطط لها سلفاً، ورأت الحكومة أن لا يخلو المجلس من عدد من المعارضين لكي تستطيع القول أن الانتخابات قد جرت بجو من الحرية التامة، ولكن الحقيقة أن أسماء النواب الفائزين كانت قد أُعطيت للمنتخبين الثانويين قبل الانتخاب، فجاء المجلس بالشكل الذي أرادته الحكومة والمندوب السامي لإضفاء الشرعية على المجلس أمام الشعب، وأمام عصبة الأمم. وكانت حصة الحكومة في هذه الانتخابات 70 نائباً من مجموع 84 نائباً .
وفي 27 آذار صدرت الإرادة الملكية بدعوة أعضاء المجلس التأسيسي للاجتماع في قاعة [ سينما رويال] التي استأجرت لهذا الغرض، لعدم وجود بناية مخصصة للمجلس آنذاك، وجرى الافتتاح باحتفال كبير ضم أركان السياسة العراقيين والبريطانيين، وألقى الملك فيصل خطاب العرش، واعتبرت الحكومة ذلك اليوم عطلة رسمية، كما أصدرت عفواً عن عدد كبير من المساجين، وأطلقت سراح عدد أخر من الموقوفين.
ترأس الجلسة رئيس الوزراء جعفر العسكري  في بادئ الأمر، ثم جرى بعد ذلك انتخاب رئيس المجلس، حيث أنتخب عبد المحسن السعدون رئيساً له، بضغط من [المس بيل] .(29)
كما جرى انتخاب اللجان المختلفة، وديوان الرئاسة.
حدد الملك فيصل في خطاب العرش المهام الملقاة على عاتق المجلس التأسيسي والمتضمنة ما يلي :
1 ـ البت في المعاهدة العراقية البريطانية وإقرارها.
2 ـ مناقشة وإقرار القانون الأساسي.
3 ـ سن قانون الانتخاب لمجلس النواب.
وفي 2 نيسان 1924 قدم رئيس الوزراء [ جعفر العسكري ] المعاهدة العراقية البريطانية مع البروتوكول المرفق بها، والاتفاقيات المتفرعة عنها إلى المجلس التأسيسي طالباً منه إقرارها، وحاول رئيس الوزراء تبرير ضرورة إقرار المعاهدة بصورة مستعجلة  بحجة تمكين بريطانيا من إدخال العراق إلى عصبة الأمم، وتأمين الاستقلال الوطني، وحسم مسألة الحدود العراقية التركية، وقضية ولاية الموصل، التي سعت تركيا بكل جهودها لضمها إلى تركيا، واستخدمت بريطانيا هذه المشكلة وسيلة ضغط على الحكومة العراقية لقبول المعاهدة المفروضة على العراق، وهذا ما أعلن عنه بصراحة أمام المجلس السيد[ عبد المحسن السعدون ] رئيس المجلس، رداً على اعتراضات النواب الوطنيين حيث قال:{ أيها السادة: إن الانكليز
مصرون على ربط قضية الموصل بتوقيع المعاهدة، فإما إقرارالمعاهدة، وإما خسارة ولاية الموصل}. (30)
حاول رئيس الوزراء جعفر العسكري  تمرير المعاهدة بأسرع ما يمكن  بسبب إلحاح المندوب السامي البريطاني، لكن المعارضة طلبت توزيع لائحة المعاهدة على أعضاء المجلس لدراستها ومناقشتها، ولكي تعلن للشعب تفاصيلها، و جاء ذلك الاقتراح على لسان السيد[ ناجي السويدي] حيث جرى التصويت عليه، وقبل الاقتراح تم توزيع نسخ من المعاهدة، وطلب السيد ناجي السويدي تشكيل لجنة  لتدقيق المعاهدة على أن تضم عضواً عن كل لواء، وبالفعل تم تشكيل اللجنة التي تألفت من عدد من النواب، وباشرت اللجنة اجتماعاتها لمناقشة بنود المعاهدة، حيث عقدت 29 جلسة نهارية، و20 جلسة مسائية، درست خلالها بنود المعاهدة، والمراسلات والوثائق المتعلقة بها، ووضعت تقريرها الذي تألف من 65 صفحة.
في الوقت الذي كان المجلس التأسيسي يناقش بنود المعاهدة، كان الشارع العراقي في حالة من الغليان الشديد، وكان العلماء والمحامون والمثقفون والأساتذة والطلاب ينظمون الاجتماعات والمظاهرات المطالبة بتعديل بنود المعاهدة، بما يتفق وأماني الشعب في الحرية والاستقلال الحقيقي، وكان لتلك التظاهرات والاحتجاجات أثرها الكبير على العديد من أعضاء المجلس الذين غيروا رأيهم، وطالبوا بتعديل بنود المعاهدة، وقد سبب هذا الموقف قلقاً شديداً للملك فيصل، وللمندوب السامي البريطاني على حد سواء، وخاصة بعد إطلاق النار على أثنين من أعضاء المجلس المعروفين بولائهم للانكليز،وهما[عداي الجريان] و[سلمان البراك]، مما خلق جواً من الرعب والقلق، ودفع عدد من أعضاء المجلس إلى تقديم استقالتهم، فيما امتنع البعض الآخر عن حضور جلسات المجلس بحجج مختلفة.
لقد سرتْ إشاعات في بغداد تقول أن إطلاق النار كان مدبراً من الحكومة لاتخاذه مبرراً للتنكيل بالمعارضة وقمعها، واعتقال العناصر النشطة المعارضة للمعاهدة، وقيل أن الذي أطلق النار على عضوي المجلس هو أحد أزلام رئيس الوزراء جعفر العسكري، المدعو [شاكر القره غولي]، وبالتعاون مع شخص آخر يدعى[عبد الله سرية] .
ولم تكتفِ الحكومة بكل ذلك، بل لجأت إلى إغلاق صحف المعارضة [لشعب] و[الاستقلال ] و[ الناشئة ] بغية كمّ الأصوات الوطنية المطالبة بتعديل بنود المعاهدة بما يتفق ومصالح الشعب والوطن. لكن إصرار المعارضة الشعبية على مواصلة الكفاح ضد المعاهدة وضد سياسة الحكومة  وتصاعد الأزمة التي نشأت عن محاولة فرض المعاهدة التي كانت تنذر
بتطورات خطيرة أجبرت الحكومة على تقديم استقالتها.
إلا أن الملك فيصل والمندوب السامي ضغطا على جعفر العسكري لكي يبقى في الحكم لحين إقرار المعاهدة.
كان المندوب السامي يراقب عن كثب مناقشات المجلس التأسيسي لبنود المعاهدة، وخطب الموالين والمعارضين، كما كان يراقب ما تنشره الصحف المعارضة، وتملكه شعور بالغضب لإصرار عدد  كبير من أعضاء المجلس على تعديل بنود المعاهدة، وعلى تأخر إبرامها، فبعث إلى الملك فيصل بمذكرة خطيرة  تنم عن التهديد في 26 نيسان 1924، وجاء في المذكرة:
حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، دام ملكه:
كثيراً ما اقُترح في أثناء المباحثات بخصوص معاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق، والاتفاقيات المتفرعة، أن يُطلب من الحكومة البريطانية أن توافق على تعديلات في بعض الأمور التي يداخل المجلس شك بخصوصها.
 فلي الشرف أن أبلغ جلالتكم أن الحكومة البريطانية لا يسعها الموافقة على أي تعديلات، لا في المعاهدة ولا في البروتوكولات، ولا في الاتفاقيات، والأمر متروك للمجلس التأسيسي في أن يقبلها[ أي المعاهدة والبروتوكولات والاتفاقيات]  أو يرفضها برمتها، على نحو ما يراه الأفضل لمصلحة العراق.
إن السبب في قرار الحكومة البريطانية هذا هو أن إجراء التعديلات في المعاهدة والاتفاقيات بين توقيعها وإبرامها مخالف كل المخالفة للتعامل الدولي المقرر من أزمنة بعيدة في التاريخ، ويؤدي إلى جعل إتمام المعاهدات إتماماً نهائياً من المستحيلات تقريباً}. (31)
كانت مذكرة المندوب السامي هذه بمثابة إنذار للملك فيصل  بضرورة إقرار المعاهدة دون تغير أو تأخير.
 وفي 16 أيار 1924 بعث المندوب السامي بمذكرة أخرى للملك فيصل جاء فيها:
يا صاحب الجلالة :
 لقد قمت بإيقاف حكومة صاحب الجلالة البريطانية تمام الوقوف على ما قد بدا حديثاً في العراق من الآراء والرغبات فيما يتعلق بمعاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق، والاتفاقيات المتفرعة عنها، وقد فوضتني الآن حكومة صاحب الجلالة البريطانية بأن أبلغ جلالتكم رسمياً ما يلي:
{إن حكومة صاحب الجلالة البريطانية لا يسعها أن تقبل قبل الإبرام  أي تعديلات ما في المعاهدة والاتفاقيات التي سبق توقيعها بالنيابة عن الحكومتين، ولكن ستكون بعد الإبرام مستعدة لأن تبحث بروح الاعتدال، في كل ما قد يُرغب فيه من تعديلات في الاتفاقية المالية، هذا ولاشك في أن
جلالتكم ستتخذون الوسائل لنشر هذا الكتاب}. (32)
                        صديق جلالتكم
                                                                 هنري. دوبس

في الوقت الذي أشتد فيه ضغط المندوب السامي وحكومته على الملك فيصل والحكومة والمجلس التأسيسي من أجل الإسراع بإقرار المعاهدة العراقية البريطانية دون تأخير، ودون إجراء أي تعديل أو تغير عليها، صعد الشعب العراقي كفاحه ضد المعاهدة، وسير المظاهرات الصاخبة المطالبة بتعديل بنودها بما يحقق السيادة الحقيقية، والاستقلال التام للعراق.
 لقد أراد الشعب، وقواه السياسية الوطنية تقديم الدعم الأقصى للنواب الوطنيين في المجلس التأسيسي ليكون موقفهم قوياً أثناء مناقشة المعاهدة.
 ولما بلغ أسماع أبناء الشعب أن المعاهدة ستناقش يوم 29 أيار 1924، خرجت مظاهرة صاخبة تندد بالمعاهدة، وتطالب بتعديلها، وتوجهت المظاهرة إلى مقر المجلس التأسيسي، وأحاطت به، وكانت أصوات الغضب المنبعثة من حناجر المتظاهرين قد دخلت القاعة، مما اضطر رئيس المجلس [عبد المحسن السعدون] إلى الخروج والتحدث إلى قادة المظاهرة طالباً منهم التفرق والاعتماد على المندوبين، واعداً إياهم بعدم التفريط بحقوق الشعب، وحرية العراق واستقلاله.
لكن حديثه لم ينجح في إقناع المتظاهرين، وحاولت الشرطة تفريقهم بالقوة ولكنها فشلت في ذلك، ووقعت صِدامات عنيفة بينهم وبين المتظاهرين، مما دفع [ نوري السعيد] وزير الدفاع، إلى استدعاء قوات الجيش، حيث جرت مصادمات عنيفة بين عناصر الجيش والمتظاهرين بعد أن استخدم الجيش الرصاص لتفريق المظاهرة، ووقوع إصابات عديدة في صفوف المتظاهرين العزل من السلاح، واستطاع الجيش تفريق المظاهرة.
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان رسمي، في محاولة منها لتبرير استدعاء الجيش واستخدام السلاح ضد أبناء الشعب المطالب بحريته واستقلال وطنه.
 كما أصدر رئيس المجلس التأسيسي في 29 أيار 1924 بياناً تطمينياً إلى أبناء الشعب معلناً أن المجلس سوف لن يفرط بحقوق الشعب مهما كانت الأحوال، وطالباً من أبناء الشعب انتظار قرار المجلس بكل اطمئنان.
وعلى اثر تلك الأحداث الدامية  قرر المجلس تأجيل مناقشة المعاهدة إلى يوم السبت31 أيار، لكن عدد من المندوبين تغيبوا عن الحضور في ذلك اليوم، وكانت آثار الخوف والقلق بادية على وجوه الحاضرين منهم  حتى أنهم رفضوا الدخول إلى القاعة، مما اضطر رئيس المجلس إلى تأجيل الاجتماع إلى يوم 2 حزيران.
وفيما بدأ الحاضرون في مغادرة بناية المجلس  حضر المندوب السامي  [هنري دوبس] وبصحبته مستشار وزارة الداخلية المستر [كرونواليس]  واضطر أعضاء المجلس إلى العودة إلى القاعة ليستمعوا إلى المندوب السامي الذي  تحدث أمام الأعضاء الحاضرين بلهجة تنم عن التهديد قائلاً:
{ بلغني أن بعض النواب قدموا تقريراً يقولون فيه أن المجلس لا يقبل إبرام المعاهدة ما لم تعطي بريطانيا ضماناً بالتعديل على أساس تقرير اللجنة التي شكلها المجلس لدراسة بنود المعاهدة، وهذا يعني في حقيقة الأمر تعديل المعاهدة، وهذا ما تعتبره حكومتي رفضاً للمعاهدة، وعلى المجلس أن يلاحظ تأثير ذلك على سير المفاوضات مع تركيا حول ولاية الموصل، فقد أخذنا معلومات بأن السير[بيرسي كوكس] عند وصوله إلى الاستانة شاهد تسهيلات في المعاملة لإبقاء ولاية الموصل للعراق.
 ولكن عند ما بلغ الأتراك سير أعمال المجلس التأسيسي العراقي، وموقف النواب من المعاهدة تغيروا، وصاروا يطلبون ولاية الموصل، وإنهم يرفضون إحالة الأمر إلى مجلس عصبة الأمم. (33)
كانت كلمة المندوب السامي أمام الحاضرين من أعضاء المجلس التأسيسي بمثابة إنذار لهم، فإما إقرار المعاهدة، وإما سلخ ولاية الموصل من العراق  مستخدماً قضية الموصل ورقة ضغط كبرى لغرض إقرار المعاهدة.
وقبل أن يغادر القاعة طلب إقرار المعاهدة بشكلها الحالي واعداً أعضاء المجلس بأجراء مفاوضات لتعديل ما طالبت به اللجنة في تقريرها، شرط أن يكون ذلك بعد إقرار المعاهدة.
وفي 2 حزيران 1924 أجتمع المجلس التأسيسي من جديد، وحضر الاجتماع 63 عضواً من مجموع 100، وبدأ المجلس بمناقشة بنود المعاهدة وأثناء المناقشة حدثت مشادات عنيفة بين الأعضاء المؤيدين للحكومة والمعارضين لها، واسُتخدمت فيها أقسى العبارات.
 في تلك الساعات الحرجة، كان الملك فيصل يشعر نفسه واقعاً بين نارين، نار المندوب السامي البريطاني وضغطه المتواصل لإبرام المعاهدة، بما فيها من مس خطير بحقوق العراق ومستقبله، ونار المعارضة الشعبية العارمة والرافضة لتلك المعاهدة، وبقي في حيرة من أمره لا يدري ماذا يفعل، وكيف يرضي المندوب السامي، ويرضي الشعب العراقي في الوقت نفسه.
حاول الملك من خلال اللقاء الذي دعا إليه أعضاء المجلس التأسيسي  يوم 9 حزيران 1924 الوصول إلى حل ما لهذه الأزمة، حيث تحث الملك مع
أعضاء المجلس قائلاً :
{أنا لا أقول لكم أقبلوا المعاهدة أو ارفضوها، وإنما أقول لكم اعملوا ما ترونه الأنفع لمصلحة بلادكم، فان أردتم رفضها فلا تتركوا فيصلاً معلقاً بين السماء والأرض، بل أوجدوا لنا طريقاً غير المعاهدة، فلا تضيعوا ما في أيديكم من وسيلة للمحافظة على كيانكم، وتحينوا الفرصة لتحصلوا على ما هو أكثر مما في أيديكم}.
 وفي 10 حزيران 1924 عقد المجلس التأسيسي جلسته الثالثة والعشرين، وأعلن رئيس المجلس أن هناك اقتراحاً من عدد من أعضاء المجلس بتأجيل البت في المعاهدة إلى حين الانتهاء من مشكلة ولاية الموصل.
ثم طلب رئيس الوزراء [ جعفر العسكري ] الحديث وطلب من المجلس عدم تأجيل البت في المعاهدة بسبب أمور سياسية خارجية استوجبت ذلك، وكان رئيس الوزراء يشير بذلك إلى التهديدات البريطانية المتصاعدة للملك والحكومة لإقرار المعاهدة.
لكن المجلس صوت على تأجيل الجلسة إلى اليوم التالي، وقد أثار قرار التأجيل المندوب السامي الذي صمم على فرض المعاهدة فرضاً.
فقد تحدث المندوب السامي مع الملك فيصل بالهاتف، وأعلمه بأنه سوف يكون عنده عصر ذلك اليوم لأمر هام، فيما كان قد أعد مذكرة خطيرة يطلب فيها إصدار قانون بحل المجلس التأسيسي، وإصدار أمر باحتلال بناية المجلس.
وعند وصول المندوب السامي إلى البلاط عصر ذلك اليوم، وفي بداية لقائه مع الملك، سلمه نص المذكرة والتي جاء فيها :
 {لا تستطيع حكومة صاحب الجلالة البريطانية  في مثل هذه الظروف أن تسمح باستمرار الحالة الراهنة التي ينشأ عنها خطر عظيم يهدد سلامة العراق الداخلية والخارجية، فأن المذاكرات الأخيرة للمجلس التأسيسي التي جرت في هذا اليوم  لم تظهر أي اقتراب من الاتفاق، ولا أي أمل في اتخاذ المجلس قراراً صريحاً وسريعاً، لذا طُلب إليّ أن أوجه أنظار جلالتكم  كشرط لاستمرار تأييد حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن تصدروا فوراً بعد استشارة مجلس وزارتكم، وبواسطته، تعديلاً لقانون المجلس التأسيسي  يخولكم حق فض المجلس في أي وقت شئتم، خلال الأربعة أشهر من تاريخ افتتاح جلساته، وأن تأمروا بموجب هذا التعديل حل المجلس اعتباراً من الساعة الثانية عشرة من ليلة 10 / 11 حزيران. وأرى من واجبي أن اطلب من جلالتكم أن تبلغوا الأمر رسمياً، بواسطة رئيس وزرائكم، إلى رئيس المجلس التأسيسي قبل الساعة السابعة من صباح اليوم الحادي عشر من حزيران ، وأن تصدروا التعليمات بواسطة وزير الداخلية  لغلق بناية المجلس فورا، وإحاطتها وما يجاورها بقوة من الشرطة تكفي لتنفيذ هذا الأمر}. (34)
حاول الملك فيصل، بحضور رئيس الوزراء [جعفر العسكري] وزعيم المعارضة [ياسين الهاشمي] إيجاد حل لهذه الأزمة مع المندوب السامي  وجرى بحث مستفيض حول السبل الممكنة لذلك، وقد طلب المندوب السامي أن يدعى المجلس التأسيسي إلى عقد جلسة له فوق العادة، وقبل منتصف الليل من هذا اليوم، ويبرم المعاهدة، كحل أخير ونهائي، وإلا يجب أن يحل المجلس.
وعلى الفور أمر الملك باستدعاء رئيس المجلس إلى الحضور، وطلب إليه الملك والمندوب السامي أن يجمع أعضاء المجلس هذه الليلة ويقرّ المعاهدة دون تأخير.
خرج رئيس المجلس  وبصحبته رئيس الوزراء، واحد مرافقي الملك، وبقي المندوب السامي في البلاط ليواصل الضغط على الملك لإقرار المعاهدة قبل الساعة الثانية عشرة ليلاً ، وصار مدير الشرطة، يرافقه مرافق الملك، وعدد من أفراد الشرطة، يدورون على أعضاء المجلس، ويرغمونهم على حضور الجلسة لأجل إقرار المعاهدة في تلك الليلة، فقد ذكر الحاج ناجي أحد أعضاء المجلس، أن الشرطة انتزعته من سريره وحشرته في السيارة  وهو لا يعرف إن كانوا سيأخذونه إلى المشنقة أم  إلى السجن، فقد كان من معارضي المعاهدة. (35)
استطاع مدير الشرطة ورجاله جمع  68 نائباً في ليلة 10 / 11 حزيران 1924، قبل منتصف الليل، وأعلن رئيس المجلس [عبد المحسن السعدون] عن افتتاح الجلسة، حيث تحدث إلى الحاضرين من أعضائه قائلاً:
{كان مجلسكم العالي قد أجل جلسته إلى يوم الغد ( الأربعاء )، غير أن جلالة الملك أبلغني بأن فخامة المندوب السامي قد أبلغ جلالته بأنه لا يمكن تأجيل المذاكرات إلى الغد، لأنه يعد ذلك رفضاً للمعاهدة، وعليه فقد دعوتكم إلى الاجتماع، ومن وظيفتي أن أبلغكم ذلك}.
لم يكن أمام المجلس إلا إقرار المعاهدة في تلك الليلة، حيث جرى التصويت عليها على عجل، وتحت التهديد بحل المجلس، وقد وافق عليها 37 نائباً، وعارضها 24، وامتنع عن التصويت 8 أعضاء، وبذلك أقرت المعاهدة من قبل المجلس التأسيسي.
ُسرّ المندوب السامي لإقرار المعاهدة، وهرع إلى البلاط الملكي، حيث اجتمع إلى الملك فيصل، وأبلغه أن الحكومة البريطانية تعتبر تصويت المجلس على المعاهدة وذيولها، على النحو الذي تم يفي بالشروط المطلوبة في المادة 18 من المعاهدة، و التي تنص على أن المعاهدة لا تبرم من قِبل
الفريقين الساميين المتعاقدين إلا بعد قبولها من المجلس التأسيسي.
وبعد توقيع المعاهدة، وحصول الإمبرياليين البريطانيين على الامتيازات النفطية، صادقت عصبة الأمم في 16 كانون الأول 1925 على عائدية ولاية الموصل للعراق، وجعل حدود العراق وفقاً لما يسمى [ خط  بروكسل]، ودعت عصبة الأمم العراق إلى عقد معاهدة مع بريطانيا تضمن استمرار الانتداب على العراق لمدة 25 سنة.
 وبالفعل تم إقرار المعاهدة الجديدة في البرلمان في 18 كانون الثاني 1926، رغم معارضة النواب الوطنيين الذين طلبوا إحالتها إلى لجنة برلمانية لدراستها، ولكن دون جدوى، فقد أصر المندوب السامي البريطاني على التصديق على المعاهدة بوضعها الذي صاغته وزارة المستعمرات البريطانية دون تغيير، وهدد بحل المجلس التأسيسي في حالة رفضه التصديق عليها، كما جرى تهديد الملك فيصل كذلك.
أما تركيا فقد خضعت للضغط البريطاني، ووافقت على بقاء ولاية الموصل ضمن العراق، وذلك بموجب المعاهدة العراقية البريطانية التركية، المعقودة في 5 حزيران 1926، على أن تمنح الحكومة البريطانية تركيا نصف مليون ليرة بريطانية تعويضاً عن حصتها في البترول، بعد أن فشلت في إقناع بريطانيا بمنحها ولاية الموصل  لقاء منحها بريطانيا امتياز استخراج النفط واستثماره فيها.
لكن الحكومة البريطانية رفضت العرض التركي لأنها وجدت مصلحتها في إعادة الولاية إلى العراق، بعد أن ضمنت هيمنتها المطلقة على العراق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بموجب المعاهدة التي فرضتها على المجلس التأسيسي وعلى الملك فيصل الأول. (36)
وهكذا جرى إقرار المعاهدة التي قيدت العراق بقيود ثقيلة لا فكاك منها، وأصبحت بريطانيا بموجبها تملك السلطة الحقيقية في البلاد، وبات على الشعب العراقي أن يخوض النضال ضد الهيمنة البريطانية من جهة، وضد السلطة الحاكمة التي نصبتها من جهة أخرى، فكان الصراع بين الشعب وحاكميه يخبو تارة وينفجر تارة أخرى منذ ذلك التاريخ وحتى تكلل كفاحه بالنجاح في ثورة الرابع عشر من تموز 1958 عندما تلاحمت الجماهير الشعبية مع الطلائع الثورية في القوات المسلحة في صبيحة ذلك اليوم، والتي قادها بنجاح خاطف الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، وبذلك اسقط النظام الملكي المرتبط بالإمبريالية،  وتم إعلان النظام الجمهوري في العراق، وجرى تشكيل أول وزارة عراقية دون فرض أو تدخل من قبل بريطانيا وسفارتها في بغداد .



.التوثيق
 (21) نفس المصدر .
 (22) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الأول ـ ص 111 .
 (23) المصدر السابق  .
 (24) نفس المصدر .
 (25) نفس المصدر السابق ـ ص 131.
 (26) مذكرات المس بيل ـ ص 366 .
 (27) تاريخ الوزارات العراقي ـ الحسني ـ الجزء الأول ـ ص 214.
 (28) المصدر السابق ـ الجزء الأول ـ ص 218 .
 (29)نفس المصدر السابق.
 (30) المصدر السابق .
 (31) صحيفة العالم العربي ـ العدد 65 ـ 10 حزيران 1928 .
 (32) صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الأول ـ حامد الحمداني ـ ص 66 ز
 (33) تاريخ الوزارات العراقية ـ الحسني ـ الجزء الأول ـ ص 228 .
 (34) مذكرات المس بيل ـ ص 348 .
 (35) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ الحسني ـ ص 144 – 145 .
(36) نفس المصدر السابق.

344
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الثالثة

حامد الحمداني                                                      19/10/2009
رابعاًً ـ تصاعد الصراع مع المحتلين واندلاع ثورة العشرين
لم يكد يمضِ وقت طويل حتى تكشفت كامل الأهداف الاستعمارية لبريطانيا، وتصميمها على إدامة هيمنتها على العراق ، فقد أصدرت عصبة الأمم،التي كانت تهيمن عليها بريطانيا، صك الانتداب البريطاني على العراق  في 17 حزيران 1920 والذي جاء فيه :
{حيث أن حكومة جلالته قد تقررت وكالتها في خصوص العراق، فنتوقع جعل العراق مستقلاً  تضمن استقلاله جمعية عصبة الأمم، وتكليف الحكومة البريطانية بالمسؤولية في حفظ السلم الداخلي والأمن الخارجي، وبعد انقضاء الإدارة العسكرية سنعطي السلطة للسير [بيرسي كوكس ] لتنظيم مجلس شورى تحت رئاسة عربي }. (14)
 وهكذا كشف صك الانتداب الأهداف الحقيقية للسياسة البريطانية، وأثار صدوره موجة غضب عارمة لدى كافة فئات الشعب العراقي التواق للحرية والانعتاق من العبودية، وأخذت شرر ذلك الغضب تنذر بوقوع أحداث جسيمة.
كانت اجتماعات قادة التحرر الوطني في تلك الأيام تتوالى في المساجد والدواوين، في بغداد والحلة والنجف وكربلاء وغيرها من المدن العراقية، كما كانت الاتصالات مع رؤساء العشائر تجري على قدم وساق، وأجراس الثورة تدق، وأصواتها تتعالى شيئاً فشيئاً لتملأ أسماع العراقيين جميعاً .
وفي الوقت نفسه كان المحتلون البريطانيون يزدادون هستيرية وعنفاً في قمع نشاطات الوطنيين،  حيث منعوا [المواليد] التي كان يجتمع خلالها الناس، وتلقى الخطب الوطنية فيها.
 فقد أصدر القائد العام البريطاني في 12 آب 1920 قراراً بمنعها، وأنذر بإنزال أشد العقوبات بحق المخالفين، وأقرن القائد أمره بالأفعال  فأقدم على إعدام ستة من المناضلين الوطنيين لتحديهم ذلك القرار،  وقد عرف هؤلاء الشهداء بمواقفهم البطولية، وجرأتهم في تحدي الاحتلال البريطاني، وأدى إعدامهم إلى هياج الرأي العام العراقي، ودفعهم إلى التظاهر ضد الاحتلال الغاشم . (15)
 كما رفع المشاركون في التظاهر مذكرة للسلطات البريطانية تضمنت جملة من المطالب كان منها :
1 ـ تأليف مؤتمر يمثل الشعب العراقي، ليقرر شكل الإدارة الوطنية وعلاقاتها بالدول الأجنبية.
2 ـ إطلاق حرية الصحافة والمطبوعات  ليستطيع الشعب التعبير عن آماله وتطلعاته الوطني .
3 ـ رفع الحواجز البريدية والبرقية بين أنحاء البلاد، وبينها وبين الأقطار الأخرى.
كان الشعب العراقي في تلك الأيام ينتظر مَنْ يطلق الطلقة الأولى لتنبعث شرارة الثورة إلى شتى أنحاء العراق بعد أن أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال الشيخ  [شعلان أبو الجون] المعروف بعدائه للاحتلال، وسبب اعتقاله هيجاناً كبيراً في صفوف العشائر. (16)
 صمم أبناء العشائر على إطلاق سراح الشيخ شعلان، وتحدي قرار المحتلين باعتقاله، فانطلقت عشائر الرميثة تهاجم السجن الذي أودع الإنكليز فيه الشيخ شعلان، وتم تحريره من الاعتقال، وكانت هذه العملية إيذاناً ببدء اشتعال نار الثورة، وبدء المعارك بين الشعب العراقي والمحتلين.
 ففي مساء يوم 6 تموز 1920 توجهت قوة عسكرية بريطانية تضم 2000 ضابط وجندي بقيادة الكولونيل [دي مارفين ] نحو الرميثة، التي سيطرت عليها قوى الثورة  في محاولة لفك الحصار عن القوات البريطانية المتواجدة هناك، فكانت [معركة العارضيات ] التي يفتخر بها أبناء العشائر الثائرة والشعب العراقي كافة، حيث لم تستطع القوات البريطانية من الوصول إلى[ الرميثة] نظراً للمقاومة الباسلة التي واجهتها تلك القوات، حيث تم إيقافها على بعد 7 كيلومترات منها بعد معركة دامية دامت 17 ساعة متواصلة استبسل فيها أبناء الشعب، واضطر قائد الجيش البريطاني إلى التراجع والانسحاب نحو الديوانية.
لكن تلك القوات لم تستطع الوصول إلى الديوانية، حيث جوبهت بقطع الطريق عليها، وقلع السكة الحديدية التي كانت القوات البريطانية تستخدمها في الانسحاب وجوبهت بوابل من الرصاص من قبل العشائر الأخرى التي هبت لدعم الثورة في الرميثة، وهرب قائد الحملة البريطانية لينجو بنفسه تاركاً قواته تحت رحمة الثوار الذين استطاعوا قتل أعداد كبيرة منهم، وتم أسر من بقي منهم على قيد الحياة واستولى الثوار على جميع أسلحة القوة البريطانية، وقد بلغ عدد القتلى البريطانيين زهاء 260 فرداً.
ولما بلغ الأمر إلى قائد القوات البريطانية [ الميجر ديلي ] أمر بإعداد قوة أخرى قوامها 5000 ضابط وجندي مجهزين بكامل المعدات الحربية، واستعدت قوى الثورة للمعركة القادمة، وأخذت تنظم صفوفها،  وترتب استحكاماتها، وتحفر الخنادق في منطقة العارضية على بعد 7 كم من الرميثة استعداداً لمجابهة قوات الاحتلال الجديدة بقيادة [ الميجر كونتن كهام ]، حيث وصلت تلك القوات إلى [الحمزة] في 16 تموز 1920، تحت غطاء جوي من الطائرات الحربية، وقد أبدى الثوار مقاومة باسلة، منقطعة النظير، وانزلوا بقوات الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات .
وامتد لهيب الثورة إلى [ الرارنجية ] التي ضربت مثلاً رائعا في البطولة والفداء، وقامت قوات الثورة بمحاصرة مدينة الكوفة في أواخر شهر تموز 1920 من جميع أطرافها مشددون الضربات على القوات البريطانية المحاصرة فيها، والتي أصبح موقفها في غاية الصعوبة، وطلبت النجدة من القائد البريطاني في الحلة، الذي أسرع إلى إرسال قوات كبيرة لفك الحصار عن القوات المحاصرة في الكوفة.
 تقدمت القوات البريطانية باتجاه المدينة حتى وصلت إلى[ الرارنجية ]، التي تبعد 12 كم عن مدينة الحلة و8 كم عن [ الكفل ]، وعسكرت هناك .
واستعد الثوار لملاقاة القوات البريطانية في منطقة الكفل، وقسموا قواتهم إلى قسمين، قسم أخذ مواقعه على طرف شط الهندية الشرقي والقسم الثاني أخذ مواقعه على امتداد سكة القطار التي تربط الحلة بالكفل، وكانت قوات الثورة مدفوعة بإيمانها بعدالة قضيتها، وقد عقدت العزم على التصدي لقوات الاحتلال المدججة بشتى أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة، وهي لا تملك سوى الأسلحة الخفيفة من بنادق قديمة ومسدسات وفؤوس ومكاوير، ولكنها كانت تملك الأيمان بعدالة القضية التي تناضل من اجلها، والإصرار على التحرر من ربقة الاستعمار الجديد، فيما كان الجنود البريطانيون الذين أتعبتهم الحرب يحاربون من أجل ملئ جيوب الرأسماليين الإمبرياليين.
كانت ثلة من الجنود البريطانيين برشاشاتهم الثقيلة قد أخذت مواقعها واستحكاماتها عند قنطرة على  [قناة الرارنجية]، وعندما أزفت ساعة الهجوم انقضّتْ قوات الثورة على القوات البريطانية عند الجسر، وما هي إلا برهة حتى وقع الجسر في أيديهم، فيما التحمت قوات الثورة من الجهتين مع القوات البريطانية في معركة شرسة ومتلاحمة بحيث تعذر على قوات الاحتلال استخدام المدافع في القتال، وكانت المعركة تجري بالبنادق والسيوف والفؤوس والمكاوير، وكان الثوار يرددون الأهزوجة الشعبية المشهورة { الطوب أحسن، لو مكواري }، فقد تغلب المكوار على السلاح البريطاني، واندحرت قوات الاحتلال، وهرب قائد الحملة تاركاً جثث المئات من أفراد قواته في ارض المعركة.
وفي الوقت الذي كانت قوات العشائر في الجنوب تخوض المعارك ضد المحتلين كان رصاص الثوار في كردستان ينطلق بغزارة ضد المحتلين هناك، فقد هب ثوار كردستان بوجه المحتلين، ووقعت بين الطرفين معارك شرسة في [السليمانية وعقره وكفري].
وتمكنت قوات الثورة في [ كفري ] بقيادة [ إبراهيم خان ] في أواخر تشرين الأول 1920 من الاستيلاء على المدينة وتحريرها من سيطرة قوات الاحتلال، وقتل القائد البريطاني [ جاردن]، واستمر لهيب المعارك ضد المحتلين في المنطقة 23 يوماً قبل أن تتمكن القوات البريطانية التي وصلتها نجدات جديدة من الهند من إعادة احتلالها.
 لقد امتد لهيب الثورة إلى كل بقاع الوطن، وانغمر فيها عدد كبير من رجال الدين وشيوخ العشائر والمثقفين والعمال والفلاحين الشجعان الذين كانوا عماد الثورة، وكانت الثورة على الرغم من التأخر الذي سببه الاستعمار العثماني الطويل على درجة عالية من التنظيم والتخطيط والدقة، ويستدل على ذلك من التوجيهات التي كانت تصدرها قيادات الثورة إلى القوات المشاركة فيها والتي جاء فيها :
توجيهات :
1 ـ يجب على كافة الأفراد أن يفهموا بأن المقصود من هذه الثورة إنما هو طلب الاستقلال التام .
2 ـ يجب أن يهتف الجميع للاستقلال في كل ميادين القتال.
 3ـ يجب التمسك بالنظام، ومنع الاعتداء، فلا نهب ولا سلب، ولا ضغائن قديمة ولا أحقا .
4 ـ يجب تأمين الطرق، وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة.
5 ـ بذل الهمة لحفظ الرصاص، فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة.
6 ـ يجب الاعتناء بالأسرى ،ضباطاً وجنوداً، إنكليزاً كانوا أم هنوداً.
7ـ المحافظة على أعمدة الهاتف والأسلاك لضمان استمرار الاتصالات.
8 ـ الاهتمام بقطع السكة الحديدية ، ونسف الجسور لمنع قوات الاحتلال من استخدامها.
9ـ الحفاظ على كافة وسائل النقل التي تقع في أيدي قوات الثورة والاستفادة منها.
10ـ المحافظة على الأسلحة المصادرة من العدو، وإدامتها لغرض استخدامها ضده .
11ـ عند تحرير أي مدينة يجب الاهتمام بتشكيل إدارة وطنية لها والاهتمام بالأبنية الحكومية، وعدم هدمها أو إحراقها والمحافظة على الوثائق فيها.
12 ـ المحافظة على المستشفيات وأدواتها وأجهزتها والأدوية الموجودة فيها
13ـ الرفق بالجرحى وإسعافهم، والاهتمام بهم والعمل على إنقاذ حياتهم قدر الإمكان . (17)
هذه هي الوصايا التي عممتها قيادة الثورة على قواتها، وهي تمثل أرقى درجات التنظيم في إدارة شؤون الثورة، والحرص على سمعتها، والتحلي بالخلق السامي في معاملة الأسرى والجرحى، والاهتمام بمرافق البلاد من عبث العابثين، وهي تدل دلالة أكيدة على الشعور العالي بالمسؤولية.
بعد كل تلك الضربات القاسية التي وجهتها قوى الثورة لقوات الاحتلال البريطاني، وانتشار لهيب الثورة إلى كافة أنحاء العراق لجأ المحتلون إلى استقدام قوات كبيرة من خارج البلاد لمجابهة قوى الثورة الوطنية، وجلبوا مختلف الأسلحة والمعدات الثقيلة لغرض إخماد لهيب الثورة، وخاضت تلك القوات معارك شرسة دامت طيلة خمسة أشهر، ضد قوى الثورة التي كانت تفتقد السلاح الذي يمكن أن تحارب به قوات الاحتلال، واستخدم المحتلون أقسى درجات العنف وأشنعها ضد قوى الثورة، وضد أبناء الشعب، وأبدى الثوار صنوفاً من البطولة النادرة، رغم عدم تكافؤ أسلحة الطرفين، والإمكانيات المادية والعسكرية للمحتلين الإمبرياليين الذين كانوا يمثلون أقوى دولة استعمارية في العالم، واستطاع المحتلون في نهاية الأمر إجهاض الثورة، بعد أن دفعت قواتهم ثمناً باهظاً من أرواح جنودهم، ومن اقتصادهم الذي أنهكته الثورة  لدرجة أن أصوات الشعب البريطاني ارتفعت عالياً مطالبة الحكومة بسحب قواتها من العراق، وإنقاذ جنودها من لهيب المعارك مع الثوار، وامتدت صيحاتهم إلى مجلس العموم البريطاني نفسه، حيث طالب العديد من أعضاء المجلس بانسحاب القوات البريطانية من العراق، نظراً للتكاليف الباهضة التي دفعتها بريطانيا للإدامة سيطرتها على العراق، وتصاعد احتجاجات الشعب البريطاني على ارتفاع عدد القتلى من الجنود البريطانيين .
وغم أن ثورة العشرين لم تنجز كامل هدفها الرئيسي في تحقيق الاستقلال الناجز للعراق إلا أن تلك الثورة كان لها الدور الحاسم في إسراع المحتلين البريطانيين في تغيير سياستهم تجاه العراق، وصرف النظر عن حكمهم العسكري، بعد أن كلفتهم الثورة آلاف القتلى والجرحى، أثقلت كاهل خزانه الدولة البريطانية، المثقلة أصلاً بأعباء الحرب العالمية الأولى .
لذلك فقد وجد المحتلون الإمبرياليون أن خير سبيل إلى تجنب المزيد من الخسائر البشرية والمادية هو إقامة ما دعي بالحكم الوطني، وتأليف حكومة محلية، والإتيان بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق، مكتفين بالاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية، بعد تكبيل البلاد بقيود ثقيلة  بموجب معاهدة سنة 1920، التي تم بموجبها لهم الهيمنة الفعلية على مقدرات العراق السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، وسائر المجالات الأخرى.
أما لماذا لم تحقق الثورة هدفها الأساسي في الاستقلال الحقيقي والناجز فيمكن حصرها بما يلي :
1 ـ عدم تكافؤ القوى بين المحتلين والثوار، وخاصة في مجال الأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات، هذا بالإضافة إلى فقدان الخبرة العسكرية.
2 ـ ضعف مستوى الخبرات العسكرية للثوار، على الرغم ما قدموه من التضحيات، وصنوف البطولة التي يعتز بها كل عراقي، وكانت مثار إعجاب الجميع.
3 ـ استخدام المحتلين لسياسة التفرقة، وخلق الحزازات، والصِدام بين العشائر، واستمالة عدد من رؤساء العشائر الكبار إلى جانبهم، وإغرائهم بالإقطاعيات والمناصب والسلطة، كما استخدم المحتلون الخلافات الدينية والطائفية والعقائدية لتمزيق الوحدة الوطنية.
4 ـ ضعف القيادة السياسية، من حيث تنظيمها، وتركيبها الطبقي، وخاصة البرجوازية الوطنية الضعيفة جداً آنذاك اقتصادياً وسياسياً، مما حال دون أن تلعب دورها القيادي بشكل صحيح.
5 ـ عدم صلة الثورة بأي ارتباط أو دعم خارجي يساعدها على مقاومة المحتلين، فقد كان الثوار ينقصهم الكثير من الأسلحة والمعدات، والخبرات العسكرية والتدريب على استخدام الأسلحة المستولى عليها من العدو المحتل  في حين كان العدو على أتم الاستعداد ومن كل الوجوه.
6 ـ عدم وجود قيادة موحدة للثورة، وضعف التنسيق بين المناطق المختلفة  ويعتبر هذا العامل من العوامل الهامة التي أدت إلى إجهاض الثورة، وحالت دون تحقيق هدفها الرئيسي في الاستقلال الناجز .

خامسا ـ مؤتمر القاهرة يبحث مستقبل العراق:
بعد أن تسنى للمحتلين البريطانيين إعادة تثبيت سيطرتهم على العراق، وقمع ثورة العشرين، دعا المستر [ تشرشل ] وزير المستعمرات البريطاني الحكومة العراقية إلى حضور مؤتمر في القاهرة في 12 آذار 1921 لبحث المستقبل السياسي للعراق  ، وقد حضر وفد عن الحكومة العراقية التي شكلها المندوب السامي ، ووفد عن الحكومة البريطانية يضم المسؤولين الكبار في الإدارة البريطانية في  العراق ، والممثلون البريطانيون في بلدان الشرق الأوسط  لبحث مستقبل العراق ، وقد جرى في هذا المؤتمر بحث مستقبل العراق السياسي تحت ظل الانتداب البريطاني ، وكانت أهم المسائل التي جرى بحثها :
1 ـ اختيار شكل نظام الحكم في العراق ، وقد تم خلال البحث الاتفاق على جعل العراق دولة ملكية دستورية ، وترشيح الأمير فيصل ابن الحسين ليكون ملكاً على العراق.
2 ـ جرى بحث كيفية تخفيض النفقات البريطانية اللازمة لإدامة السيطرة البريطانية على العراق، حيث سببت ثورة العشرين خسائر مادية جسيمة لبريطانيا، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح والتي جاوزت 20 آلفاً من الجنود والضباط البريطانيين.
3 ـ جرى بحث موضوع تشكيل جيش عراقي قوامه 15 ألف جندي، وإناطة الأمن الداخلي به ، وتقرر أن تساهم الحكومة العراقية بنسبة 15% من ميزانية الجيش في بادئ الأمر ، على أن تزداد هذه النسبة مع نمو الجيش في المستقبل لتصل إلى 25% .
وقد صادق المؤتمر على جميع القرارات ، وكانت الحكومة البريطانية قد بدأت فعلاً بتأليف نواة لجيش عراقي في 6 كانون الثاني 1921، للقيام بمهمة حفظ الأمن الداخلي مؤلفاً من 24 فوجاً ، إلا أن ذلك الجيش بقي ضعيفاً ، وتعوزه الأسلحة الحديثة ، فقد كانت بريطانيا هي التي تقرر كمية ونوعية السلاح لهذا الجيش ، لضمان بقاء سيطرتها على البلاد .
 4 ـ جرى بحث وضع قوات الليفي البريطانية في العراق ، وتقرر زيادة عددها من  4000 إلى 7500 فرداً ، على أن تقوم الحكومة البريطانية بنفقاتها ، وجرى الاتفاق على مرابطة 6 أسراب من الطائرات الحربية في القواعد البريطانية بالعراق ، ثم تبادر الحكومة البريطانية بسحب قواتها تدريجياً من العراق .
لم يكد مؤتمر القاهرة ينهي أعماله حتى سارع [جعفر العسكري] وزير الدفاع، بطلب من المندوب السامي ، إلى توجيه رسالة إلى الأمير فيصل أبن الحسين في 25 أيار 1921 يدعوه للقدوم إلى العراق ، تنفيذاً لقرارات المؤتمر.
 وعلى الفور أبدى الأمير فيصل سروره واستعداده للسفر إلى العراق، والقيام بالمهام التي اختارتها له بريطانيا من أجلها، ملكاً على العراق .
كما أرسل الميجر [ مارشال ] رسالة أخرى للأمير فيصل ، يدعوه للتهيئ للسفر إلى العراق، وأبلغه أن الباخرة [ نورث بروك ] في طريقها إلى [جدة] وقد تم حجز المقاعد اللازمة له ولحاشيته ورفاقه.(19)
وفي 12 حزيران 1921 أستقل الأمير فيصل الباخرة البريطانية[ نورث بروك] في طريقه إلى البصرة وبصحبته عدد من زعماء ثورة العشرين يضم السادة : [محمد الصدر] و[يوسف السويد] و[علوان الياسري] ، و[محسن أبو طبيخ] ، [رايح العطية] .
 أما الحاشية الملكية المرافقة لفيصل فكانت تضم كل من السادة :
[رستم حيدر] و[أمين الكسباني ] و[تحسين قدري ] و[علي جودت الأيوبي]  و[إبراهيم كمال ] و[صبيح نجيب] و[مكي الشربتجي] و[المستر كورنواليس] البريطاني ، والذي أصبح مستشاراً للملك فيصل.
وفي 23 حزيران وصلت الباخرة التي تقل الأمير فيصل وحاشيته إلى ميناء البصرة، وكان في استقباله كل من وزير الدفاع جعفر العسكري، ومتصرف لواء البصرة أحمد الصانع، ومستشار وزارة الداخلية جون فلبي  حيث جرى للأمير استقبالا رسمياً هناك ثم تابع موكب الأمير فيصل سفره إلى بغداد بالقطار، حيث وصلها في 29 حزيران، وجرى له استقبال رسمي شارك فيه المسؤولون البريطانيون، وأعضاء الحكومة، وعدد من الشخصيات السياسية، ورؤساء العشائر.
 وفي 5 تموز نشر المندوب السامي بياناً رحب فيه بمقدم الأمير فيصل، ودعا العراقيين إلى تأييد تنصيبه ملكاً على البلاد.
وفي 11 تموز 1921 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بمبايعة الأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق بعد أن تليت رسالة المندوب السامي [بيرسي كوكس] المرقمة:س د /1631، والمؤرخة في 8 تموز 1921، واشترط قرار مجلس الوزراء أن تكون حكومة العراق ملكية دستورية نيابية ديمقراطية  مقيدة بالقانون، وتقرر تخويل وزارة الداخلية نشر هذا القرار على عموم الشعب العراقي .
وعلى أثر صدور قرار مجلس الوزراء بمبايعة الملك فيصل، أصدر وزير الداخلية أمراً إلى جميع متصرفي الألوية، يدعوهم إلى تسجيل أراء أبناء الشعب في هذه البيعة !!.
 كما أمر بتشكيل لجان تتنقل في كافة الألوية للإشراف على تسجيل أراء أبناء الشعب وكانت هذه اللجان قد رتبت الأمور في كل لواء تزوره  ليبدو وكأن الشعب يؤيد كل التأييد بيعة الملك الهاشمي، حيث يجري إلقاء خطابات معدة سلفاً تبين مآثر العائلة الهاشمية، ثم ينتهي الاجتماع بكلمة  [مؤيدون]!!.
ومع ذلك فأن المواطنين في لوائي كركوك والسليمانية رفضوا تأييد الملك فيصل، بينما اشترط المواطنين في لوائي الموصل وأربيل ضمان حقوق الأقليات في تأسيس الإدارات التي وُعدوا بها من قبل الحلفاء بموجب  [معاهدة سيفر] .
وفي 23 آب 1921 تم تتويج الملك فيصل  ملكاً على العراق ، وأقيمت حفلة التتويج في ساحة [ برج الساحة] ببغداد ، وحضر الحفلة ممثلو الألوية المشتركة في التصويت، وأقبل الأمير فيصل بصحبة المندوب السامي البريطاني [ بيرسي كوكس]، وجلس على المقعد المخصص له، وجلس على يمينه المندوب السامي ، وعلى يساره جلس القائد العام للقوات البريطانية في العراق، كما جلس وراءهم كل من رستم حيدر، وأمين الكسباني، وسكرتير مجلس الوزراء حسين فتيان،  ومستشار الملك فيصل، الكولونيل كورنواليس، وبعد  أن جلس الحاضرون، ناول المندوب السامي بلاغاً ليتلوه على جمهور الحاضرين  وجاء فيه:
{ لقد قرر مجلس الوزراء باتفاق الآراء، بناء على اقتراح رئيس الوزراء، في جلسته المنعقدة في اليوم الرابع من شهر ذي القعدة من سنة 1339 هجرية، والموافق 11 تموز 1921 ميلادية المناداة بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق، على أن تكون حكومة سموه دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، وبصفتي مندوباً لجلالة ملك بريطانيا، رأيت أن أقف على رضا الشعب العراقي البات  قبل موافقتي على ذلك القرار فأجري التصويت العام برغبة مني، وأسفرت نتيجة التصويت عن رغبة أكثر من 97 % من مجموع الناخبين على المناداة بسمو الأمير فيصل ملكاً على العراق، وعليه أعلن أن سمو الأمير فيصل  نجل الملك حسين، قد أنتخب ملكاً على العراق، وأن حكومة جلالة ملك بريطانيا قد اعترفت بجلالة الملك فيصل ملكاً على العراق، وليحيا الملك }. (20)
وبعد نهاية تلاوة بلاغ المندوب السامي البريطاني ، أطلقت المدفعية 21 طلقة احتفالاً بهذه المناسبة، ثم تلا ذلك خطاب التتويج الذي بدأه الملك بتقديم الشكر للشعب العراقي، الذي أولاه ثقته، وواعداً إياه على السهر على خدمته، وخدمة العراق، ثم تطرق إلى مآثر والده الملك حسين بن علي والعائلة الهاشمية، مستعرضاً ما قدمه للشعوب العربية من خدمات في سبيل الاستقلال والحرية ، ودوره في إشعال الثورة العربية ضد الاستعمار العثماني الذي دام أربعة قرون ‎من التخلف والعبودية، ثم أشار الملك فيصل إلى جهود بريطانيا من أجل استقلال البلاد العربية !!!، مؤكداً صداقته المتينة لحكومة صاحب الجلالة البريطانية. كما وعد الملك فيصل بالنهوض بالعراق في كافة المجالات ، والقضاء على التخلف، وبناء عراق جديد قائم على أساس العلوم الصحيحة  والأخلاق الشريفة والسير به قدماً نحو التقدم
والرقي .
كما وعد الملك بأن أول عمل سيقوم به هو انتخاب المجلس التأسيسي ، الذي سيقوم بوضع أول دستور للبلاد، على أسس ديمقراطية، ويصادق على المعاهدة العراقية البريطانية، التي ستحدد شكل العلاقة بين العراق وبريطانيا.
وفي الختام دعا الملك فيصل أبناء الشعب إلى الاتحاد والتعاضد والتبصر، وإلى العلم والعمل، داعياً الله أن يوفق الجميع لما فيه خير العراق والعراقيين.
التوثيق
(14)صفحات من تاريخ العراق الحديث ـ الكتاب الأول ـ حامد الحمداني ـ ص 31.
 (15) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص  .
 (16) نفس المصدر السابق
 (17) الثورة العراقية الكبرى ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص 211 .
 (18) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ الحسني ـ ص 62 .
  (19) نفس المصدر ـ الجزء الأول ـ ص 102.
 (20 ) نفس المصدر السابق  .


للحصول على نسخة من هذا الكتاب الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي
Alhamdany34@gmail.com


345
ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها
الحلقة الثانية
العراق من الاحتلال العثماني إلى الاحتلال البريطاني

حامد الحمداني                                                     16/10/2009
أولاً ـ الاحتلال العثماني للعراق
رزح العراق كما هو معروف تاريخيا تحت نير الاستعمار العثماني زهاء الأربعة قرون، و كانت الحقبة التي حكم فيها العثمانيون العراق من أسوأ الحقب في تاريخه، فقد كان عصر من التخلف قاتم الظلمة عانى خلاله الشعب العراقي صنوفاً من الاضطهاد البشع تجلى في سياسة التتريك، ومحاولة طمس اللغة العربية، وتجنيد شبابه في حروب استعمارية لا مصلحة للشعب العراقي فيها، واستغلال خيرات البلاد وثرواتها أبشع استغلال، مما أعاد العراق إلى القرون الوسطى بعد أن كان قبلة العالم في تطوره وتقدمه، في الوقت الذي كانت أوربا تغوص في ظلامها الدامس .
ومنذُ أسست الدولة العثمانية الجيش الانكشاري على يد السلطان [أُورخان ] الذي تولى السلطة عام 1326، وبعد أن قوي عود ذلك الجيش الذي جرى إشباع أفراده بالعقيدة الدينية البكداشية، بدأت الدولة تتطلع للتوسع بما دعي بالفتوحات الإسلامية، بدعوى نشر الدين الإسلامي، واستطاع جيشها الإنكشاري في 29 أيار 1453احتلال القسطنطينية التي كانت تعتبر أكبر مدن العالم في ذلك العصر، وكانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية لأكثر من ألف عام، وقد استباح الجيش الإنكشاري المدينة، وعمل تقتيلاً واغتصاباً ونهباً للممتلكات بأسلوب وحشي يندى له الجبين. (1)
وفي الوقت الذي كانت الدولة العثمانية منتشية بجيشها، وبالنصر الذي أحرزه في احتلال عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، كانت في بلاد فارس تنهض دولة تقودها حركة دينية صوفية هي [الدولة الصفوية] التي بدأت تظهر لها تطلعات توسعية هي الأخرى، وخاصة على عهد الشاه [إسماعيل] الذي تولى الحكم في بداية القرن السادس عشر الميلادي، وأخذ يوسع دولته حيث احتل قسماً كبيراً من بلاد القفقاس، ثم التفت نحو العراق حيث استطاع احتلال بغداد في عام 1508، واستباح جيشه المدينة، وعمل بالمواطنين من الطائفة السنية قتلاً ونهباً واغتصاباً، تماماً كما فعل الجيش العثماني عند احتلاله للبلاد، وهكذا كانت الجيوش الغازية تفعل في احتلالها للبلدان الأخرى. (2)
سبب احتلال الصفويين للعراق قلقاً كبيراً لسلاطين بني عثمان الذين وجدوا فيها دولة منافسة تهدد طموحاتهم في التوسع، وعائقاً إمام بناء امبراطوريتهم، وأصبح هاجسهم إيقاف المد الصفوي، وتحجيم طموحات ملوكهم في التوسع، والهيمنة على البلدان المجاورة.
ولم يكد يمضي أربعة أعوام على احتلال الصفويين للعراق حتى شن السلطان العثماني [ سليم] عام 1514 الحرب على الدولة الصفوية حيث  انتصر على جيش الشاه [ إسماعيل ] في معركة [جالدرن] بالقرب من مدينة تبريز، وعمل قتلاً بالأسرى الشيعة بصورة وحشية.
لكن السلطان سليم توفي في عام 1520، وتولى السلطنة ابنه السلطان  [سليمان] الذي توسعت الدولة العثمانية على عهده، حيث احتلت جيوشه  بلغراد وبودبست في قلب أوربا.
وبعد أن أحرزت الجيوش العثمانية انتصاراتها الواسعة في أوربا التفت السلطان[سليمان] نحو جارته الدولة الصفوية من جديد على عهد الشاه [طهماسب] الذي تولى الحكم على اثر وفات أبيه الشاه [ إسماعيل ] حيث اندفعت جيوشه عام 1534 نحو[ تبريز] واحتلها، ثم اندفعت تلك الجيوش نحو الشطر الغربي من إيران تلاحق الجيش الصفوي المهزوم حيث احتل مدينة [همدان]، ومنها توجهت الجيوش نحو بغداد ودخلها في اليوم الأخير من عام 1534 من دون مقاومة تذكر معلناً نفسه حامياً للطائفة السنية، وكانت الحامية الصفوية قد انسحبت منها قبل وصول طلائع الجيوش العثمانية. (3)
لكن الصفويون ما لبثوا أن استعانوا بالخبرات العسكرية للبريطانيين، وخاصة سلاح المدفعية الحديث العهد، وشنوا الحرب على الجيوش العثمانية على عهد الشاه [ عباس ]،واستطاعوا احتلال بغداد عام 1623 بعد حصار دام 3 أشهر حلت خلالها المجاعة في المدينة، وقيل أن الناس أكلوا أطفالهم من شدة الجوع.(4)
 لكن السلطان العثماني [ مراد الرابع] تولى قيادة جيوشه بنفسه، واستطاع احتلال بغداد من جديد عام 1637 بعد أن استطاع سحق الجيوش الصفوية،  حيث استسلم قائد الحامية الصفوية في بغداد، وقد اقترفت الجيوش العثمانية مذبحة كبرى ذهب ضحيتها قرابة 20 ألف جندي من الصفويين، وقرابة 30 ألفاً من المواطنين الشيعة.(5 )
وفي عام 1638، أي بعد سنة من إعادة احتلال العثمانيين لبغداد، تم عقد الصلح بين الدولتين الصفوية والعثمانية، وتم بموجبه احتفاظ الدولة العثمانية بالعراق.(6)
 لم يكن الشعب العراقي راضياً بالاستعمار العثماني رغم محاولة الحكام العثمانيون تغليف حكمهم بجلباب الدين الإسلامي، وكان يسعى جاهداً للإفلات من ذلك الطوق البشع، فقد ظهرت عدة حركات وطنية ترمي إلى التحرر من تسلط الاستعمار التركي، وإقامة حكم وطني متحرر، كما قامت العديد من الانتفاضات في معظم المدن والأرياف ضد الأتراك، وكان أشهرها ثورة بغداد في 13 حزيران 1831. (7)
كما قامت عدة انتفاضات في الريف العراقي بقيادة بعض شيوخ العشائر ذوي النزعة الوطنية التحررية، سواء في المناطق العربية أم الكردية، لكن الحكومة العثمانية كانت تلجأ إلى أقسى درجات العنف لقمع تلك الانتفاضات، وتنفذ موجات من الإعدامات بحق النشطين من الوطنيين.

ثانياً ـ الاحتلال البريطاني للعراق:

 وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أخذت الإمبراطورية العثمانية بالتفكك والانحلال، حتى دُعيت [بالرجل المريض ]، وأثار ضعف هذه الإمبراطورية  شهوة المستعمرين الأوربيين للحصول على موطئ قدم لهم في هذه البلاد الغنية بثرواتها إضافة إلى موقعها الاستراتيجي، عن طريق الشركات التجارية وشركات الملاحة، مستخدمين العديد من الجواسيس والعملاء، واستطاعوا عن طريق الرشاوى والهبات بسط نفوذهم على العديد من الولايات، وعلى السلاطين العثمانيين المتفسخين.
واشتد التنافس على النفوذ بين الإمبرياليين الإنكليز والألمان والفرنسيين بشكل خاص  للهيمنة على ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وكان للعراق نصيب في هذا التنافس الذي بلغ أشده عندما استطاعت ألمانيا الحصول على امتياز سكة حديد الشرق، والذي أثار قلق الحكومة البريطانية الشديد.
كان الصراع بين الإمبرياليين الجــدد لتقسيم نفـــوذهم، وسيطرتهم على العــالم يتصاعد شيئاً فشيئاً حتى بلغ ذروته في عام 1914،عندما لجأ الإمبرياليون إلي قعقعة السلاح فيما بينهم، فقامت الحرب العالمية الأولى، والتي اكتوى بلهيبها العالم أجمع، وكان أن دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية.
 كان الصراع بين المستعمرين رهيباً جداً دفع خلاله العالم الملايين من الضحايا على مائدة أطماع الإمبرياليين الذين حاولوا جرّ العرب لإعلان الثورة ضد الأتراك، واعدين إياهم بتحريرهم من هيمنة الاستعمار العثماني، ومنحهم حريتهم واستقلالهم، واستطاع الإنكليز النجاح في مسعاهم هذا، وجرّ جانب كبير من الزعماء العرب إلى جانبهم ، وكان على رأس أولئك [الملك الحسين بن علي] ملك الحجاز، الذي أعلن الثورة العربية ضد الأتراك إ ثر اتفاق [مكماهون] عام 1916، وقاتل إلى جانب بريطانيا اعتماداً على التعهد الذي قطعته له بضمان استقلال البلاد العربية، وتنصيبه ملكاً عليها بعد نهاية الحرب.
لكن الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين كانوا قد رتبوا أمورهم، وتقاسموا النفوذ والسيطرة على البلاد العربية فيما بينهم  بموجب معاهدة [ سايكس بيكو] السرية عام 1916، ومن ثم بموجب معاهدة [ سان ريموٍ] التي جرى الإعلان عنها في أوربا في 25 نيسان 1920، وكان العراق من نصيب المستعمرين البريطانيين الذين حاولوا بادئ الأمر حكم العراق بصورة مباشرة. (8)
لكن ثورة العشرين أجبرتهم أجبرتهم على تغيير أساليبهم العسكرية لحكم العراق تحت ظل الحكم الملكي الذي أقاموه.
 بدأ الاحتلال البريطاني للعراق في أواخر سنة 1914، بعد قيام الحرب العالمية الأولى، ودخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا.
 فقد هاجمت القوات البريطانية جنوب العراق، وتمكنت من احتلال [شبه جزيرة الفاو] دون مقاومة تذكر، وكانت حجة بريطانيا في حملتها على العراق آنذاك حماية نفط عبدان في إيران، وطريق الهند، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً، فقد أرادت بريطانيا فرض سيطرتها على العراق طمعاً في ثرواته .
وبعد أن تم للقوات البريطانية احتلال شبه جزيرة الفاو اندفعت نحو مدينة [البصرة] كبرى مدن العراق الجنوبية، حيث اشتبكت مع القوات التركية في منطقة الشعيبة، في أواسط شهر نيسان عام 1915، واستطاعت هذه القوات إلحاق الهزيمة بالجيش التركي، واحتلال البصرة.
 ثم واصلت تقدمها شمالاً باتجاهين،الاتجاه الأول نحو مدينة [الناصرية] الواقعة على نهر الفرات، والاتجاه الثاني نحو مدينتي [العمارة ] و[الكوت] على نهر دجلة، ومن ثم نحو العاصمة [ بغداد ].
   وفي الثلاثين من حزيران دخلت القوات البريطانية مدينة [ العمارة ] وانتزعتها من أيدي الأتراك، كما احتلت مدينة [الناصرية] في 25 تموز من العام نفسه، واحتلت مدينة [ الكوت] في 28 أيلول نفس العام .
 واستمرت القوات البريطانية بقيادة الجنرال [ طاوزند ] بالتقدم نحو[بغداد] وخاضت معركة طاحنة مع الأتراك قرب [المدائن]،الواقعة على مشارف بغداد.
 لكن القوات التركية استطاعت إلحاق الهزيمة المنكرة بالجيش البريطاني المهاجم الذي انسحب نحو [ الكوت ]، ولحقت به القوات التركية، واستطاعت فرض الحصار على المدينة، حيث استمر من 13 تشرين الثاني 1915 وحتى 29 نيسان 1916، واضطرت القوات البريطانية المحاصرة في المدينة أخيراً إلى الاستسلام دون قيد أو شرط  للقوات التركية التي دخلت المدينة، وقامت بأعمال انتقامية دموية لا مثيل لها ضد السكان، بتهمة التعاون مع القوات البريطانية.
 غير أن بريطانيا عادت وأرسلت قوات جديدة بقيادة الجنرال [ مود] الذي شرع بالتقدم نحو[ بغداد] ووصلت قواته إليها في كانون الأول 1916، واستطاعت إلحاق الهزيمة بالجيش التركي المدافع عنها، ودخلتها في 11 آذار1917.
حاول الجنرال مود خداع الشعب العراقي عند دخوله العاصمة العراقية حيث أصدربياناً موجهاً للشعب باسم سلطات الاحتلال البريطانية جاء فيه:
{ إنني مأمور بدعوتكم بواسطة أشرافكم، والمتقدمين فيكم سناً وممثليكم، إلى الاشتراك في إدارة مصالحكم، ولمعاضدة ممثلي بريطانيا السياسيين المرافقين للجيش، كي تناضلوا مع ذوي قرباكم شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، في تحقيق طموحاتكم القومية}.(9)
 لكن أهداف ومخططات الإمبرياليين البريطانيين، والفرنسيين سرعان ما   تكشّفت، عندما قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917، بقيادة   [فلاديمير لينين]، حيث فضح بنود اتفاقية [سايكس بيكو] المعقودة بين الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين وروسيا القيصرية حول اقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية فيما بينهم.
 وعلى أثر ذلك سارع قائد الحملة البريطانية الجنرال [ مود ] إلى إصدار بيان جديد للشعب العراقي، في محاولة لتطمينه، والتستر على النوايا الحقيقية  للإمبرياليين البريطانيين، وجاء في ذلك البيان ما يلي:
{إن الغاية التي ترمي إليها كل من بريطانيا وفرنسا في خوض غمار الحرب في الشرق من جراء أطماع ألمانيا هي تحرير الشعوب التي طالما رزحت تحت أعباء الاستعباد التركي  تحريراً نهائياً وتاما ، وتأسيس حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطاتها من رغبة نفس السكان الوطنيين ومحض اختيارهم }. (10)
استمرت القوات البريطانية بالتقدم شمالاً واحتلت مدينة [ خانقين ] في كانون الأول 1917، ثم احتلال مدينة [ كفري ] في نيسان 1918، ثم واصلت زحفها نحو مدينة [ كركوك ] حيث احتلتها في 30 تشرين الأول 1918، ثم واصلت زحفها نحو مدينة الموصل وانتزعتها من أيدي الأتراك في 8 تشرين الثاني 1918.
 وقامت الحكومة البريطانية بتعيين العقيد [ لجمان ] حاكما سياسياً على المنطقة، وامتدت سلطاته نحو أربيل، والسليمانية، ودهوك، وراوندوز، وبذلك أحكمت بريطانيا سيطرتها على كافة أرجاء العراق.
ولابد أن أشير إلى أن بريطانيا لاقت مصاعب جمة في سيطرتها على مدينة السليمانية، التي كانت تعتبر مركزاً لحركة التحرر الوطني الكردي، مما اضطرها إلى تعيين الشيخ [ محمود الحفيد ] حاكماً على المنطقة، في أواخر عام 1918، وعينت الميجر جنرال [ نوئيل ] مستشاراً له، وخصصت له راتباً شهرياً مقداره 15000 روبية هندية[ الروبية تساوي 75 فلساً عراقياً آنذاك]، وسمحوا له بتعيين عدد من الموظفين الأكراد لإدارة المنطقة.
 إلا أن الشيخ محمود الحفيد لم يكن راضياً على تلك الأوضاع، وأخذ يتحين الفرصة للثورة على المحتلين.
 استمرت بريطانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في حكم العراق، حكماً عسكرياً، وكان على رأس السلطة القائد العام للقوات البريطانية، يعاونه الحاكم الملكي العام السير[ بيرسي كوكس ] .
وكان من ضمن كادره الجاسوسة البريطانية المشهورة  [المس بيل ] حيث شغلت منصب السكرتيرة الشرقية.
 ثم نقل بيرسي كوكس فيما بعد إلى إيران وحل بعده  الكولونيل  [أرنولد ولسن ]، والذي عُرف بممارساته القمعية وأساليبه الوحشية التي أثارت المشاعر الوطنية ضد الإنكليز في مختلف مناطق العراق، وخاصة في منطقة الفرات الأوسط .
 فقد قام [أرنولد ولسن] بتنظيم استفتاء مزور حول رغبات الشعب في مستقبل البلاد مستخدماً كل أساليب التزوير والرشاوي والإغراء لكي يخرج الاستفتاء بنتيجة تؤيد بقاء الوجود البريطاني واستمراره.
ومن أجل إحكام سيطرتهم على البلاد أسس البريطانيون عدداً من الدوائر المدنية لتسيير أمور الشعب، ما عدا جهازي الشرطة والتعليم اللذين بقيا تحت إدارة ضابط سياسي بريطاني مسؤول أمام المفوض السامي، وكان يتلقى منه الأوامر بصورة مباشرة .
وجرى تقسيم العراق إلى وحدات إدارية كبيرة تسمى  [اللواء]،حالياً [المحافظة] وقسم اللواء إلى وحدات أصغر تسمى [القضاء]، ونصّب الإنكليز في كل وحدة إدارية ضابطا بريطانياً لشؤون الأمن الداخلي، ومنحوا الضباط السياسيين سلطات واسعة في الشؤون الإدارية والقضائية والمالية .
 كما باشر المحتلون بتشكيل قوات محلية مسلحة بإشراف ضباط بريطانيين  دُعيت  بقوات [ الشبانة، أو لليفي ] من أبناء العشائر التي كان شيوخها موالين لهم، ومن الآشوريين الذين اعتمدت عليهم بريطانيا كل الاعتماد، واستخدمتهم في حماية مصالحها في البلاد.
كما استخدمتهم في قمع الحركات الكردية مرات عديدة، مما سبب في خلق الأحقاد والكراهية بين القوميتين.

ثالثاً: المقاومة الوطنية للاحتلال البريطاني :
  أصيب الشعب العراقي بخيبة أمل مريرة، بعد أن تكشفت مخططات الإمبرياليين البريطانيين في الهيمنة على البلاد، حيث ما كاد يتخلص من الاستعمار التركي ليقع تحت نير الاستعمار البريطاني الجديد، الذي بدأ يركز أقدامه، ويجمع حوله عدد من الضباط السابقين في الجيش العثماني بالإضافة إلى عدد من كبار رؤساء العشائر الذين منحتهم قوات الاحتلال مقاطعات واسعة من الأراضي لتربط مصيرهم بالإمبريالية الجديدة، وتحمي مصالحها.
 لكن الشعب العراقي لم يكن راضياً على ما آلت  إليه الأمور، وبدأت طلائعه الثورية تعبئ الجماهير الشعبية، وتحثها على الكفاح ضد الاستعمار البريطاني الجديد، وتدعو إلى الاستقلال الوطني الناجز.
 ومما أثار وضاعف في عزم جماهير الشعب على مقاومة الاحتلال  النداء الذي وجهه قائد الثورة الاشتراكية في روسيا [ لينين ] إلى شعوب الشرق والذي جاء فيه فيما يخص العراق ما يلي:
{يا فلاحي ما بين النهرين، إن الإنكليز قد أعلنوا عن استقلال بلادكم !! إلا انه يوجد 80 ألفاً من جنود الاحتلال على أراضيكم، يعملون فيكم نهباً وسلباً وقتلاً ، ويستبيحون أعراضكم.}. (11)
 أخذ قادة حركة التحرر الوطني يرددون النداء باستمرار، معلنين معارضتهم للاحتلال البريطاني، ويشدون همم الشعب للنهوض والدفاع عن حريتهم واستقلال بلادهم، وأخذت بذور الثورة تنمو وتكبر يوماً بعد  يوم، وكانت الانتفاضات الشعبية تتوالى في النجف، وأبو صخير والحلة وكربلاء  والكوفة والسليمانية والعمادية في كردستان العراق، مشددين الضغط على قوات الاحتلال لإجبار بريطانيا على الوفاء بوعودها التي قطعتها على نفسها بمنح الحرية والاستقلال لسائر البلدان العربية، وكان على رأس حركة التحرر الوطني هذه المثقفين والتجار المستنيرين، ورجال الدين، وشيوخ العشائر الوطنيين.
كانت أخطر تلك الانتفاضات ثورة النجف في آذار 1918، حيث وقعت معارك عنيفة مع جيش الاحتلال  بعد حصار للمدينة دام 45 يوماً، وقد وقع الكثير من القتلى والجرحى في صفوف الطرفين، واستطاعت القوات البريطانية اقتحام المدينة، وقامت باعتقال أعداد كبيرة من المواطنين المشاركين في الثورة، وأعدمت قسماً منهم، وسجنت القسم الآخر، كما جرى نفي البعض الآخر إلى خارج البلاد.
 لكن الجولة مع الإمبرياليين الجدد لم تنتهِ، بل كانت خير محفز لقوى العشائر العراقية على المقاومة، والأعداد للجولة القادمة لا محالة.
  ففي السليمانية اندلعت ثورة الشيخ محمود الحفيد في عام 1919، بعد أن أدرك الحفيد أن الإنكليز ليسوا مهتمين بحقوق الشعب الكردي، وأنهم إنما أرادوا إسكاته عندما عينوه حاكماً اسمياً على السليمانية، فقد كانت السلطة الحقيقية بيد مستشاره البريطاني الميجر[ نوئيل]. (12)
 لقد دارت رحى المعارك الدامية بين قوات الاحتلال وقوات الليفي الآشورية من جهة، والشعب الكردي من جهة أخرى، وبسبب عدم تكافؤ القوى بين الطرفين استطاعت القوات البريطانية إخماد الثورة، وألقت القبض على الشيخ الحفيد بعد أصابته بجروح أثناء المعارك ونفته إلى الهند  ولكن إلى حين، حيث لم يهدأ الشعب الكردي على الضيم الذي أصابه، وأخذ يستعد للجولة القادمة. (13)
واستمر الغليان في نفوس العشائر العربية بعد أن وجدت أن المستعمرين الجدد في نيتهم الاستمرار في وضع العراق تحت الهيمنة البريطانية، وبدأت عوامل الثورة تنضج في رحم المجتمع العراقي التواق إلى الاستقلال والحرية لتفاجئ المحتلين البريطانيين بثورة عام 1920 التي دخلت التاريخ كأول ثورة ضد الاحتلال البريطاني الجديد، ورغم أنها لم تحقق كامل أهدافها لكنها مثلت الخطوة الأولى في هذا السبيل .
التوثيق
  (1) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ الجزء الأول ـ الدكتور علي الوردي ـ ص 41 .
 (2) المصدر السابق ـ ص 43 .
 (3) سليمان القانوني ـ هارولد لا نب ـ ترجمة شكري محمود نديم ـ بغداد 1961 .
 (4) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ الدكتور علي الوردي ـ ص 69 .
 (5) أربعة قرون من تاريخ العراق ـ  هيسلي لونكرك ـ ترجمة جعفر خياط ـ ص 74 .
 (6) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ الدكتور علي الوردي ـ 89 .
 (7) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص 161 .
 (8) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ الجزء الخامس ـ علي الوردي ـ ص 100 .
 (9) الثورة العراقية الكبرى ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص 18 .
 (10) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق ـ الجزء الخامس ـ علي الوردي ـ ص 41 .
 (11).الثورة العراقية الكبرى ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص 75
 (12) حقائق تاريخية عن القضية البارزانية ـ محمد البريفكاني ـ ص 21 .
 (13) مأساة بارزان ـ معروف جاويك ـ ص 156 .

ملاحظة : للحصول على نسخة من هذا الكتاب الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي:
  Alhamdany34@gmail.com




346
حامد الحمداني  

ثورة 14 تموز

في

نهوضها ، وانتكاستها ، واغتيالها


* الكتاب : ثورة 14 تموز .
* الكاتب : حامد الحمداني .
* دار النشر : فيشون ميديا ـ السويد .
* سنة الطبع : 2006 م .
* رقم الإيداع الدولي :  91 - 631- 9162 - 8



حقوق الطبع محفوظة للمؤلف



Boken: 14 Tamuz revolution
Författaren © Hamid Suliman
Tryck: Visionmedia Kronoberg HB
Växjö-Sweden 2006
ISBN: 91-631-9187-3







محتويات الكتاب
محتويات الكتاب .........................................................................  3
المقدمة......................................................... ...........................  7          
الفصل الأول:العراق من الاحتلال العثماني للاحتلال البريطاني...............  10
  أولاً ـ الاحتلال العثماني للعراق.......................................................  11
  ثانياً ـ الاحتلال البريطاني للعراق.....................................................  13            
 ً ثالثاً ـ المقاومة الوطنية للاحتلال البريطاني.........................................  17
 رابعاً ـ  تصاعد الصراع مع المحتلين واندلاع ثورة العشرين..........................  19
 خامساً ـ مؤتمر القاهرة يبحث مستقبل العراق......................................  26
 توثيق الفصل الأول ....................................................................... 44
الفصل الثاني: ممهدات ثورة 14 تموز . ........................................... 45  
 أولاً ـ ممهدات الثورة...................................................................... 46  
العوامل التي مهدت لثورة 14 تموز1958............................................... 46
1 ـ تصدى الشعب العراقي لمعاهدة 1930........................................... 47
2 ـ الشعب يعلن الإضراب العام في العراق .......................................... 51
3 ـ اندلاع ثورة العشائر في الفرات الأوسط عام 1935...............................51
4 ـ تأثيرانقلاب الفريق بكر صدقي .......................................................52
5 ـ تأثير مقتل الملك غازي .............................................................. 53
6 ـ إعادة احتلال العراق عام 1941.................................................... 53
7 ـ مذبحة كاورباغي ضد عمال شركة النفط في كركوك .......................... 54
8 ـ وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948..............................................55
9 ـ حرب فلسطين عام  1948 وتخاذل الحكام العرب.................................56
10 ـ وثبة تشرين المجيدة عام 1952 ................................................. 57
11 ـ بريطانيا والولايات المتحدة تفرضان حلف بغداد....................................59
12 ـ انتفاضة عام 56 أبان العدوان الثلاثي على مصر..................................61  
13 ـ تأثير قيام الوحدة بين مصر وسوريا ................................................. 62
14ـ الثورة الشعبية بلبنان وسعي حكومة العراق لقمعها ............................ 63
توثيق الفصل الثاني......................................................................... 66
الفصل الثالث : نشوء حركة الضباط الأحرار .............................................. 67
 أولاً ـ نشوء حركة الضباط الأحرار.......................................................... 68
 ثانياً ـ تنظيمات حركة الضباط الأحرار...................................................... 69
 ثالثاً  ـ أهداف حركة الضباط الأحرار....................................................... 72
 رابعاًً ـ قيام جبهة الاتحاد الوطني..........................................................73    
 خامساـ تحقيق اللقاء بين حركة الضباط  وجبهة الاتحاد الوطني.................... 80
توثيق الفصل الثالث ........................................................................ 82
الفصل الرابع : الإعداد للثورة .............................................................. 83
 أولاً ـ الإعداد للثورة ........................................................................ 84
 ثانياً ـ عبد الكريم قاسم قائد الثورة ...................................................... 87
 ثالثاً ـ عبد السلام عارف الشخص الثاني في قيادة الثورة ........................... 93
توثيق الفصل الرابع .......................................................................... 95
الفصل الخامس : فجر الثورة ............................................................... 96
 أولاً : ساعة الصفر................................ ......................................... 97  
 ثانياً : البيان الأول للثورة ................................................................... 97
 ثالثاً: مهاجمة قصر الرحاب ،ومقتل العائلة المالكة ..................................... 98
 رابعاً: الثورة تواصل تثبيت أقدامها ........................................................ 102
 خامساً: الثورة ورد الفعل العربي والدولي .............................................. 105
 سادساً: البيانات والمراسيم الصادرة في اليوم الأول للثورة .......................... 108
 سابعاً : صدور الدستور المؤقت ........................................................... 111
 ثامناً : حكومة الثورة تواصل تدعيم كيانها.................................................117
تاسعاً: صدور قانون الإصلاح الزراعي ..................................................... 119
عاشراً:صدور قانون الأحوال المدنية ....................................................... 122
أحد عشر:إجراءات الحكومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية......................123
توثيق الفصل الخامس ...................................................................... 131
الفصل السادس: الإنشقاق ...............................................................132                
أولاً ـ انشقاق القوى القومية والبعثية بقيادة عبد السلام عارف........................133
 ثانياً ـ الوحدة الفورية والاتحاد الفدرالي ، وموقف السلطة............................. 135
ثالثاً ـ عبد السلام عارف يحاول اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم..................... 138
رابعاً ـ اعتقال عبد السلام وإحالته إلى المحاكمة والحكم بإعدامه................... 142
خامساً ـ مؤامرة رشيد عالي الكيلاني .................................................. 143
سادساً ـ انقلاب العقيد عبد الوهاب الشواف الفاشل بالموصل.......................148
توثيق الفصل السادس..................................................................... 162
الفصل السابع : أحداث كركوك............................................................ 163        
أولاً ـ التركيب السكاني في كركوك ، ودوره في الإحداث............................. 164
ثانياً ـ احتفالات الذكرى الأولى للثورة ، ووقوع الأحداث.................................165  
ثالثاً ـ نتائج أحداث كركوك وانعكاساتها...................................................167
رابعاً ـ قاسم يهاجم الحزب الشيوعي ويتوعد بمعاقبة المسؤولين ................. 168
خامساً ـ ما هو رد فعل الحزب الشيوعي على خطاب قاسم...................... 171
توثيق الفصل السابع ..................................................................... 172
الفصل الثامن : موجة الاغتيالات في الموصل......................................... 173  
الهجوم الرجعي في الموصل ودور السلطة في إذكائه.............................. 174
 من كان يحكم الموصل ؟ ............................................................... 176
حملة الاغتيالات في الموصل .......................................................... 180
 نتائج الاغتيالات ، والحملة الرجعية في الموصل.................................... 186  
 ما هو موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات؟.............................. 187
توثيق الفصل الثامن .................................................................... 190
الفصل التاسع : الحزب الشيوعي والسلطة......................................... 191      
أولاًـ العلاقات بين الحزب الشيوعي والسلطة........................................ 192
ثانياً ـ الحزب الشيوعي يطلب إشراكه في السلطة................................. 196
 ثالثاً ـ مسيرة الأول من أيار وانعكاساتها............................................. 202
ثالثاً ـ عبد الكريم قاسم يوجه ضربا ته للحزب الشيوعي .......................... 204
رابعاً ـ محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم .............................................. 207    
خامساً ـ عبد الكريم قاسم يحاول تجميد نشاط الحزب الشيوعي.................208
سادساًـ انشقاق الحزب الوطني الديمقراطي وحديد يؤلف حزباً.................. 214    
سابعاً ـ الحزب الشيوعي يكوين جبهة وطنية ديمقراطية جديدة.................. 215  
ثامناً ـ تدهور العلاقة بين الأكراد والسلطة واللجوء إلى السلاح.................. 222  
توثيق الفصل التاسع .................................................................... 226
الفصل العاشر: انقلاب 8 شباط 1963 الفاشي ....................................227  
أولاً ـ الظروف التي ساعدت ، ومهدت للانقلاب..................................... 228        
 ثانياً ـ من أعد ، وساهم في الانقلاب ؟............................................. 235  
ثالثاً ـ تنفيذ الانقلاب في 8 شباط 1963............................................ 237      
رابعاً ـالحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويدعو إلى مقاومتهم..................242      
خامساً ـ قاسم يحاول توجيه خطاب للشعب والقوات المسلحة.................. 243
سادساً ـ موقف قطعات الجيش من الانقلاب....................................... 246
سابعاً ـ استسلام عبد الكريم قاسم................................................. 247
 ثامناً ـ مهزلة محاكمة عبد الكريم قاسم وإعدامه.................................. 249
توثيق الفصل العاشر ................................................................... 252  
صور لعبد الكريم قاسم ورفاقه ....................................................... 253  





المقدمة

تناول العديد من الكتاب ثورة 14 تموز 1958 منذ قيامها وحتى يومنا هذا ، واختلفت الكتب التي ظهرت منذ ذلك التاريخ عن بعضها البعض تبعاً لتوجهات كتابها ، فمنهم من تناول الثورة وقائدها بالتسفيه والتجريح  وخاصة تلك الكتب التي ظهرت بعد انقلاب 8 شباط 1963الرجعي الفاشي المرتبط بالإمبريالية ، وكان واضحاً أن أولئك الكتاب كانوا إما من العناصر البعثية أو القومية التي شاركت في الانقلاب المذكور، أو من وعاظ السلاطين الساعين للكسب المادي أو الوظيفي ، وجرى على أيديهم تزييف الحقائق عن تلك الثورة الوطنية التي حققت الكثير والكثير من المكاسب للشعب والوطن مما سأتعرض لها في فصول هذا الكتاب .
وتناولت مجموعة أخرى من الضباط المشاركين في الثورة ، بعد اغتيالها على أيدي البعثيين والقوميين المدعومين من قبل الإمبريالية، وحاول معظمهم ادعاء أدوار وبطولات لنفسهم ، كما حاول البعض الآخر من الضباط الإساءة لزعيم الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم ، مما أفقد تلك الكتب المصداقية والأمانة في كتابة التاريخ، ونقل الوقائع كما هي دون تغيير أو تزييف .
غير أن هناك العديد من الكتاب المنصفين الأمناء الذين تناولوا تلك الثورة الوطنية وسجلوا للتاريخ أحداثها ومنجزاتها بأمانة على الرغم من أن بعضهم لم يكن قد عاصر الثورة وعاش أحداثها.
ولقد آليت على نفسي أن أتناول تلك الثورة في هذا الكتاب بكل أمانة وتجرد لكي أضيف إلى جهود أولئك الكتاب المنصفين الأمناء ، ولاسيما وأني قد عايشتها منذ قيامها يوماً بيوم وساعة بساعة ، حيث كنت أمارس العمل السياسي ضمن صفوف الحركة الوطنية آنذاك .
لقد كانت ثورة الرابع عشر من تموز ثورة وطنية خالصة ، كان في مقدمة أهدافها تحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية ، والتخلص من قيود حلف بغداد ، واستعادة ثروات البلاد النفطية من شركات النفط الاحتكارية ، واستغلالها وطنياً ، والسعي للنهوض بالاقتصاد العراقي الضعيف ، وتخليصه من التبعية البريطانية والأمريكية، من أجل تحقيق حياة كريمة للشعب العراقي . ورغم المؤامرات التي حيكت ضد الثورة منذ أيامها الأولى ، والتي سأتناولها بالتفصيل في فصول هذا الكتاب ، وعلى الرغم من الصراعات الخطيرة التي ميزت العلاقات بين الأحزاب السياسية ، وتركت آثاراً مدمرة على الوضع السياسي في البلاد ، ورغم قصر عمر الثورة الذي لم يتجاوز الأربعة أعوام ، فقد قدمت من الإنجازات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والخدمات العامة والسكن  الشئ الكثير، ويعتبر قانون الإصلاح الزراعي ثورة اجتماعية حقيقية حررت 70% من أبناء شعبنا الفلاحين من نير الإقطاع والعبودية ، كما كان قانون الأحول الشخصية رقم 188 لسنة 1959 ثورة اجتماعية أخرى لتحرير المرأة العراقية التي تمثل نصف المجتمع من عبودية الرجل ، مما سأتناوله في هذا الكتاب بالتفصيل .
لكن المؤسف أن تتعرض تلك الثورة للانتكاسة التي  يتحمل وزها بكل تأكيد الأحزاب السياسية وصراعاتها من جهة ، والمؤامرات العديدة التي واجهتها من جهة أخرى ، وأخطاء الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم الذي كان يمتلك كامل السلطة من جهة ثالثة هي التي أدت في نهاية المطاف إلى نجاح انقلابيي 8 شباط في اغتيالها .
لكن الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم رغم ذلك قد دخل التاريخ كقائد وطني لا شائبة في وطنيته ، أميناً على ثروات العراق ، نظيف اليد ، لم يسعَ لتحقيق أي كسب مادي أو غير مادي لنفسه أو لعائلته ، أقول هذا بحقه على الرغم من تعرضي للاعتقال والتعذيب على عهده ، على أيدي أولئك الضباط الذين ائتمنهم وبوأهم أعلى المناصب العسكرية والمدنية فأساءوا للثورة وقائدها إساءة كبرى، وكان ذلك يقع ضمن المخطط الرجعي لعزل عبد الكريم قاسم عن الشعب وقواه الوطنية التي تعرضت للاضطهاد والسجون ، وبالتالي لكي يسهل عليهم اغتيال الثورة على أيديهم التي تلطخت بدماء كل الوطنيين الشرفاء ، وفي مقدمتهم الشهيد عبد الكريم قاسم نفسه ، ورفاقه المخلصين للثورة ، والمضحين من اجلها ، وسأتعرض لكل تلك الأحداث والأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب السياسية ، والأخطاء التي ارتكبها الزعيم عبد الكريم قاسم بكل أمانة وتجرد لكي تدخل في سجل التاريخ ، تلك الأخطاء التي أدت في نهاية المطاف إلى تلك النهاية الدموية البشعة على أيدي انقلابيي 8 شباط أعداء الشعب العراقي ، وأعداء الحرية والديمقراطية ، الذين اغتالوا الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار،  والآلاف من الوطنيين الأبطال الذين تصدوا للانقلابيين بصدورهم دفاعاً عن الثورة ومنجزاتها وعن حرية واستقلال العراق .
وأخيراً لا بد أن أشير إلى أمر هام جداً وهو أن وحدة القوى الوطنية في إطار اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار من جهة ، وجبهة الاتحاد الوطني التي ضمت الأحزاب الوطنية من جهة أخرى ، وتلاقيها وتنسيقها مع اللجنة العليا للضباط الأحرار كانت العامل الحاسم في نجاح الثورة ، وفي تحقيق منجزاتها .
وعلى العكس من ذلك كان احتراب القوى السياسية الوطنية ، ومحاولات العديد من الضباط المشاركين في الثورة التآمر من أجل سرقتها حباً بالسلطة والزعامة هي التي أدت في النهاية إلى اغتيال الثورة ، وإغراق العراق بالدماء ، وامتلاء السجون بالوطنيين الأحرار، ومجئ حزب البعث إلى السلطة ، وما نتج عن استعادتهم السلطة عام 1968  ، بعد أن أُسقط حكمهم على يد شريكهم في الانقلاب عبد السلام عارف ، وما حل بالعراق وشعبه منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا من الويلات والمآسي والحروب المدمرة والحصار الظالم ،  وما سببه من جوع وفقر وحرمان للشعب العراقي ، وانهيار البنية الاجتماعية والاقتصادية ، كل ذلك كان نتاجاً لاغتيال ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة وقائدها الوطني المخلص الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار .                                                        
                                                                      المؤلف
ًًًًwww.hamid-Alhamdany.com


347
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة 17/ 17 [الأخيرة]

حامد الحمداني                                                       13/8/2009

عملية ثعلب الصحراء:
في تمام الساعة السادسة مساءاً من يوم الأربعاء المصادف 16 كانون الأول  1998أعلن [بيل كلينتون] أنه قد أمر تنفيذ ضربات جوية قوية ومتواصلة على العراق، وأنها مصممة على تجريد صدام من إمكان تطوير وإطلاق أسلحة الدمار الشامل، وتجريده من إمكان تهديد جيرانه، وفي ذات الوقت أرسل رسالة قوية إلى صدام محذراً إياه بأن أي عمل متهور يقدم عليه سيدفع ثمنا له غالياً.
وهكذا بدأ القصف الهمجي على بغداد، والمدن العراقية الأخرى، وعلى كافة المرافق الاقتصادية والبنية التحية للعراق المنهكة أصلا جراء حرب الخليج الثانية، وجراء الحصار المجرم المفروض على العراق، وانتهت بذلك الآمال التي كانت معقودة على إجراء تقويم شامل لملف نزع أسلحة الدمار الشامل المخطط إجراؤه من مجلس الأمن، والذي كان سيتيح للعراق معالجة الأمور العالقة مع لجنة الأونسكوم والوكالة، وحسمها مرة واحدة إلى الأبد.
 وهكذا غدا موقف النظام العراقي شماعة جاهزة تعلق عليها أميركا جميع نياتها المعلنة والخفية ضد العراق ونظامه، كما أصبح في ذات الوقت شماعة يعلق عليها النظام العراقي جميع مشاكل الشعب العراقي المتراكمة، فإن اشتكى العراقيون من الجوع والحرمان قال له  نظام صدام إنه الحصار الجائر، وعدوانية لجان التفتيش، وإن اشتكى العراقيون من حرمانهم من أبسط متطلبات العصر الحديث، ومن فقدان الأجهزة الحديثة والخدمات، أجاب أركان النظام أن كل ذلك سيتحسن حال رفع الحصار، ولكن لا أحد يستطيع إن يعطي الجواب متى وكيف سيتم رفع الحصار.
أما صدام فقد تحول بعد عملية ثعلب الصحراء إلى حاكم شديد التشكيك بكل إجراءات الأونسكوم والوكالة الدولية، وترسخت لديه القناعة بأن مفتشي هاتين المنظمتين ليسوا أكثر من جواسيس للإدارة الأميركية والحكومة البريطانية، وأن الحكومتين لن يتوصلا إلى قناعة بتنفيذ العراق لجميع متطلبات قرارات مجلس الأمن، مما يعني عدم رفع الحصار بقرار من المجلس، ثم اقتنع بالرأي القائل بعدم وجود جدوى من استمرار عمليات التفتيش.
 وهكذا بدأ صدام يصرح علناً بأن أميركا وبريطانيا سوف لن يسمحا باستصدار قرار من مجلس الأمن برفع الحصار عن العراق بموجب الفقرة 22 من قرار المجلس 687 (لسنة 1991)، وتبنى صدام مبدأ عدم انتظار رفع الحصار بقرار من مجلس الأمن، مدعيا بأنه سيتآكل بصبر العراقيين وعزيمتهم.
 أما كيف سيتآكل الحصار فعلمه في الغيب، ولم يظهر صدام أي برنامج واضح لإسناد استنتاجه، وكل ما تفتقت عبقريته عنه هو وضع إتاوة بنسبة 10% على جميع عقود التوريد إلى العراق بموجب برنامج مذكرة التفاهم [النفط مقابل الغذاء والدواء] على أن يدفع المبلغ نقداً وقبل وصول البضاعة المستوردة.
 كما فرض رسوم بمقدار 15 سنتا أميركيا على كل برميل من النفط العراقي الذي يتم تصديره بموجب مذكرة التفاهم، مما يعني حصول الخزينة المركزية للدولة على سيولة نقدية تصل إلى ثلاثمائة ألف دولار أميركي يومياً من مبيعات النفط فقط.
 وفي الوقت ذاته جرى تحميل المواطن العراقي ما يمكنه حمله من ضنك الحياة والجوع والفقر والأمراض، وفقدان القدرة الشرائية بسبب انهيار العملة وخراب معظم المشاريع الخدمية من الماء الصالح للشرب والكهرباء والصرف الصحي، والرعاية الصحية، والخدمات التعليمية التي وصلت إلى الحضيض.
أما صدام فقد سعى إلى استمالة دعم الحكومات العربية بدءً بسورية التي أمر بتزويدها بالنفط وبمشتقاته، ومنتجات عراقية أخرى، خارج نطاق مذكرة التفاهم وبأسعار مخفضة، وجرت محاولات لعقد اتفاقات تجارية مع عدد من الدول العربية بما في ذلك مصر، والأردن، وسورية، وتونس، والجزائر،ودولة الإمارات العربية المتحدة، ولبنان، واليمن، وتضمنت الاتفاقات إزالة الضرائب والتعريفات الجمركية على تجارة كافة البضائع المنتجة في كل من بلدي الاتفاق.
غير أن هذه الاتفاقات كانت لمصلحة تلك الدول نظراً لأن القاعدة الصناعية في العراق كانت قد وصلت إلى أدنى مستوياتها، حيث هبطت إلى نحو 30% مما كانت عليه قبل حرب 1991، مما لا يتيح للعراق تصدير بضائعه إلى تلك الدول.
 أما مجلس الأمن فلم يأبه بامتناع العراق عن التعامل مع الأونسكوم ومع الوكالة الدولية، فقد أصدر رئيس المجلس مذكرة قال فيها: {مع التأكيد على أهمية الالتزام بكل قرارات المجلس ذات الصلة، سيستمر المجلس مناقشة كل الخيارات التي تقود إلى تنفيذ القرارات. وقد قرر المجلس أن من المفيد تشكيل ثلاث لجان استشارية منفصلة تناقش الأمور، وتقدم توصياتها إلى المجلس في موعد أقصاه 15 نيسان 1991. كما قرر المجلس أن يتولى سفير البرازيل [سيلسو أموريم] رئاسة اللجان الثلاث على أن تعتني اللجنة الاستشارية الأولى بمسألة نزع أسلحة الدمار الشامل، ونشاط الرقابة والتحقق المستديم، وأن تهتم اللجنة الاستشارية الثانية بالمسائل الإنسانية، وتعتني اللجنة الثالثة بموضوع أسرى الحرب ومسألة الممتلكات الكويتية.
 وقرر المجلس أن تضم اللجنة الاستشارية الأولى خبراء من لجنة الأونسكوم، ومن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن منتسبي سكرتارية الأمم المتحدة، وخبراء آخرين من ذوي العلاقة، على أن تقدم توصيات إلى مجلس الأمن عن كيفية إعادة تأسيس نظام محكم لنزع السلاح، وللرقابة المستديمة في العراق، مع إتاحة الفرصة للعراق للاشتراك في هذه اللجان الثلاث}.
 وقدم السفير أموريم توصيات اللجنة الأولى المؤلفة من 20 عضواً إلى مجلس الأمن في 27 مارس 1999، غير أن النظام العراقي لم يعر أي اهتمام لتوصيات السفير أموريم، فقد كان صدام قد قرر تجاهل أي إجراء فيما يخص قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية بعد أن دمرت لجان التفتيش كل شئ، ولم يعد العراق يمتلك أي من تلك الأسلحة.
أما ما يخص البرنامج النووي العراقي فقد أشارت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في التقرير الموحد عن فعاليات نظام الرقابة والتحقق المستديم للفترة من تشرين الأول 1998 وإلى نيسان 1999 إلى عدم وجود أي دليل لامتلاك العراق أسلحة نووية أو أي مقادير ذات شأن من المواد النووية التي يمكن استخدامها لتصنيع سلاح نووي، كما لم يحتفظ العراق بأي إمكانات واقعية للتمكن من إنتاج مواد نووية. 
  ولعدم وجود مفتشي الوكالة في العراق للفترة منذ 16/12/1998 ولغاية تشرين الثاني 2002 لم تتمكن الوكالة من تنفيذ التفويض الصادر إليها بشأن العراق بحسب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة غير أنها استمرت بإرسال تقارير نصف سنوية إلى مجلس الأمن لتذكره بأن التزامات الوكالة تجاه العراق لا تزال قائمة.
 وفي 17/12/1999 أصدر مجلس الأمن القرار 1284 الذي ألغى بموجبه لجنة الأونسكوم، وأوجد بديلاً لها لجنة الأمم المتحدة للرقابة والتحقق والتفتيش، والتي عرفت اختصاراً بلجنة [الأُنموفيك]، وتم تعيين السيد [هانز بليكس] المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية مديراً تنفيذياً لهذه اللجنة الجديدة بعد إن استقال بتلر من منصب المدير التنفيذي للجنة الأونسكوم السابقة منذ حزيران 1999.
 تولى هانز بليكس تكوين لجنة الأُنموفيك بموجب ما ورد في قرار مجلس الأمن 1284. لكن العراق رفض العمل بهذا القرار رفضاً قاطعاً، ورفض التعاون مع تنظيمات مجلس الأمن بشأن مسألة نزع أسلحة الدمار الشامل، وأعلن بأنه قد أوفى بكامل التزاماته تجاه هذه المسألة، وقد حان الوقت لكي ينفذ مجلس الأمن التزاماته تجاه العراق، ويقرر رفع الحصار عن العراق بموجب الفِقرة 22 من قرار مجلس الأمن 687 لسنة 1991.
وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول2001، والتي أدت إلى تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك، والهجوم على البنتاكون بطائرات مُختطفة من قبل مجرمين من تنظيم القاعدة لكي يتخذها الرئيس الأمريكي بوش ذريعة لغزو العراق، وإسقاط نظام صدام، وقد شجعه على ذلك الحرب الخاطفة في أفغانستان التي أسقطت نظام طالبان.
 ففي شهر أيلول من عام 2002 وبعد عام على أحداث سبتمبر التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت بوادر الاستعدادات الأمريكية لضرب العراق، حيث طالب الرئيس بوش قادة العالم خلال جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يواجهوا الخطر الجسيم للنظام العراقي، وكان بوش يبدو عليه وهو يخاطب قادة العالم، الحزم والعزم لغزو العراق موجهاً تهديداً صريحاً للمترددين من قادة الدول لكي يشاركوا إلى جانب الولايات المتحدة، وإلا فالولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا ستتصرفان بمفردهما!!. وفي الشهر نفسه نشر رئيس الوزراء البريطاني [توني بلير] ملفا عن قدرات العراق العسكرية، وفي نوفمبر تشرين ثاني 2002 عاد مفتشو الأسلحة التابعين للأمم المتحدة إلى العراق بموجب قرار جديد للأمم المتحدة يهدد العراق بتحمل العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن انتهاك بنود القرار. وفي آذار 2003 أصدر رئيس لجنة التفتيش الدولية في العراق[هانز بليكس] تقريرا بأن العراق زاد من تعاونه مع المفتشين، ويقول إن المفتشين بحاجة إلى مزيد من الوقت للتأكد من إذعان العراق.
 لكن سفير بريطانيا في الأمم المتحدة صرح في 17 مارس/ آذار 2003 بان السبل الدبلوماسية مع العراق قد انتهت، وتم إجلاء مفتشي الأمم المتحدة من العراق، ومنح الرئيس بوش صدام حسين مهلة 48 ساعة لمغادرة العراق وإلا مواجهة الحرب.
 وفي الوقت نفسه كانت عملية نقل القوات الأمريكية والبريطانية يجري على قدم وساق إلى الكويت والسعودية استعداداً لعملية الغزو، فقد كان قرار الغزو قد اتخذ من قبل جورج بوش وتوني بلير في لقائهما بواشنطن.
لكن صدام حسين رفض الخروج من العراق على الرغم الدعوات التي وجهها العديد من الحكام العرب لتفادي الحرب، وإنقاذ العراق من ويلاتها المدمرة، وعلى الرغم من دعوة الشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة آنذاك لصدام بالخروج، واستعداده لاستقباله وأفراد عائلته، وفي حمايته.
 لكن صدام آثر مرة أخرى أن يكرر القرار الخاطئ الذي اتخذه بعد غزو الكويت برفض سحب قواته، وخاض حربا مع أكثر من 30 دولة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وكان معلوماً منذ البداية أن مصير تلك الحرب بكل تأكيد هزيمة العراق.
حرب الخليج الثالثة وسقوط نظام صدام حسين:
 في السابع عشر من آذار 2003 قامت الطائرات والصواريخ الأمريكية والبريطانية بقصف بغداد ومختلف المدن العراقية،وأعلن الرئيس الأمريكي بوش انطلاقة الحرب التي قادتها الولايات المتحدة للإطاحة بنظام صدام                                                              كان القصف على أشده حيث تم استخدام أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية الأمريكية لكي توقع أشد الخراب والدمار بالبلاد، وبالمرافق الاقتصادية والخدمية فيها، ولم يكن بمقدور نظام صدام الصمود بالنظر لعدم تكافؤ القوى، وفقدان جيشه الحماية الجوية القادرة على التصدي لتلك الهجمات، ولا يملك الوسائل الحديثة للدفاع الجوي، مما جعل الحرب محسومة سلف، لكن صدام حسين أصر على التصدي لقوات الغزو الأنكلو-أمريكية ولسان حاله يقول:عليَّ وعلى الشعب العراقي، وليأتي من بعدي الطوفان!!.
 وبعد أن استمرت الحرب الجوية لبضعة أيام شنت الجيوش الأمريكية والبريطانية هجومها البري الذي انتهى بهزيمة نظام صدام في التاسع من نيسان 2003، أي بعد عشرين يوماً من بداية الحرب، حيث اختفى الجيش العراقي على حين غرة، وتدفقت القوات الأمريكية والبريطانية على المدن العراقية، وفي المقدمة بغداد، وهرب الدكتاتور صدام وأعوانه مخلفين وراءهم وطناً محتلاً، ودماراً هائلا طال جميع مرافق البلاد الاقتصادية والخدمية، وانتشرت الفوضى أرجاء البلاد، وانتهى المطاف بصدام متخفيا في حفرة بائسة، حيث القي القبض عليه فيها، وقدم للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الخاصة عن قضية تعتبر ثانوية جداً إذا قيست بالجرائم الكبرى التي اقترفها بحق العراق وشعبه.
 فلم تكن الإدارة الأمريكية راغبة في كشف إسرار العلاقة التي جمعتها بنظام صدام، وبوجه خاص أسرار الحرب التي خاضها صدام ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، وتجهيز النظام بأسرار وأجهزة إنتاج أسلحة الدمار الشامل التي استخدمها صدام ضد القوات الإيرانية، ومن ثم ضد أبناء شعبه في الشمال والجنوب. وهكذا حكمت المحكمة على صدام بالإعدام، وتم تنفذ الحكم فيه في الثلاثين من كانون الأول 2006، وبذلك أسدل الستار عن تلك المرحلة المظلمة من تاريخ نظام صدام في العراق.
لكن آمال الشعب العراقي بالحرية والديمقراطية التي وعدته بها الولايات المتحدة قد خابت، وهذا ما كان متوقعاً بكل تأكيد، فقد حلت الجيش العراقي، والأجهزة الأمنية بأسلوب يتسم بالتهور، وحولت جانباً كبيراً من عناصره إلى عناصر إرهابية بدأت تمارس نشاطها الإجرامي إلى جانب أنصار نظام صدام المدحور، وحلفاء صدام من عناصر القاعدة التي بدأت تتدفق على العراق عبر الأراضي السورية والإيرانية والسعودية، لتحول العراق من جديد إلى جحيم لا يطاق، حيث شهد الشعب العراقي تفجير السيارات المفخخة، والعبوات والأحزمة الناسفة لعناصر القاعدة، وباتت تحصد أرواح المواطنين الأبرياء بالجملة كل يوم، وتدمر الممتلكات العامة والخاصة، وتستنزف ثروات البلاد.                                 .                                                                                     ومما زاد في الطين بله إقدام الولايات المتحدة على إقامة نظام حكم طائفي في البلاد، فقد شكل الحاكم المدني الأمريكي [بريمر] مجلس الحكم على أساس طائفي، وجاء بقادة الأحزاب الدينية الطائفية إلى سدة الحكم، وهذا ما مهد السبيل أمام قوى الإسلام السياسي إلى الهيمنة على مقدرات العراق بعد الانتخابات التي جرت في ظل ظروف غير مواتية، ولم يكن فيها الشعب العراقي مهيئاً لها، بعد أن خرج لتوه من تلك المرحلة المظلمة من تاريخ العراق التي دامت أربعين عاما، مارس خلالها نظام صدام أشد أساليب القمع ضد القوى الديمقراطية، فكانت النتيجة هيمنة قوى الإسلام السياسي على مجلس النواب، وجرى سن دستور طائفي للعراق أشعل نيران الحرب الطائفية التي قادت البلاد نحو مرحلة ظلامية جديدة أشد قسوة، حيث بات الصراع الطائفي الذي تقوده المليشيات التابعة لهذه الأحزاب الطائفية يحصد أرواح المئات من المواطنين الأبرياء كل يوم، وبأساليب بشعة لم يشهد لها تاريخ الشعب العراقي مثيلاً من قبل، حيث جرى التعذيب والقتل وقطع الرؤوس، ورمي الجثث في المزابل، وعلى قارعة الطرق طعاماً للكلاب السائبة، مما تسبب في هجرة الملايين من أبناء الشعب داخل العراق وخارجه، هرباً من طغيان المليشيات الإرهابية التي باتت هي التي تحكم العراق في واقع الحال، والتي أخذت تمارس العزل السكاني على أساس طائفي، وتجبر المواطنين على ترك مساكنهم وأملاكهم تحت التهديد بالقتل الذي طال الكوادر العلمية العراقية من العلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين الذين هجر معظمهم العراق، وهم ثروته الكبرى، وامتدت أيادي العصابات الإرهابية إلى خطف الأطفال وابتزاز أهاليهم، مما حول العراق من جديد إلى جحيم لا يطاق، وقد تناولت بالتفصيل، في كتابي {حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق} الذي صدر عام 2008 مرحلة ما بعد نظام صدام حسين، وما جرته تلك الحرب التي قادتها الولايات المتحدة بالتعاون مع بريطانيا على الشعب العراقي من ويلات ومصائب ومحن جاءت على كل آمال الشعب في الحياة الحرة الكريمة، في ظل سيادة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ووقوع العراق تحت الاحتلال الأمريكي الذي ما يزال جاثماً على صدور العراقيين حتى يومنا هذا. ويستطيع القراء الكرام الاطلاع على الكتاب المذكور كاملاً على صفحات موقعي على الانترنيت، وعلى العنوان التالي:
www.Hamid-Alhamdany.com
Alhamdany34@gmail.com

انتهى الكتاب

348
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة 15/ 17

حامد الحمداني                                                       9/8/9 200
نتائج الحرب على الجانب العراقي:

1 ـ استمرار الحصار على العراق واشتداد معانات الشعب:
 استمرت لعبة القط والفأر بين الولايات المتحدة ونظام صدام، حول تنفيذ جميع قرارات مجلس الأمن الدولي فيما يخص تدمير كافة أسلحة الدمار الشامل العراقية.
 فنظام صدام ادعي بأنه قد نفذ كافة قرارات مجلس الأمن، وجرى تدمير كافة أسلحة الدمار الشامل، والولايات المتحدة إدعت أن النظام العراقي لازال يخفي الكثير منها، والكثير من المعلومات المتعلقة بالتسلح، وخاصة برنامجه النووي والبيولوجي والكيماوي.
 وتبعاً لهذه المواقف من قبل الولايات المتحدة ونظام صدام استمر الحصار المفروض على الشعب العراقي، دون صدام وزمرته المهيمنة على مقدرات العراق منذُ 2 آب 1990 وحتى سقوط النظام عام 2003، وتفاقمت الأوضاع المعيشية والصحية للشعب إلى الحد الذي بات فيه أكثر من 4 ملايين عراقي يهددهم شبح الموت جوعاً، استناداً إلى  تقارير  بعثة منظمة الأغذية الدولية التابعة للأمم المتحدة.(1)
كما أشارت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 4600 طفل عراقي، دون الخامسة من العمر يموتون كل شهر، بسبب فقدان الغذاء والدواء، وانعدام الخدمات الصحية المناسبة، هذا بالإضافة إلى ما سببه سوء التغذية من تأثير كبير على نمو أطفال العراق العقلي والجسماني. (2)
 ومما زاد في الطين بله توقف معظم مشاريع الصرف الصحي، ومشاريع تصفية مياه الشرب بسبب فقدان قطع الغيار، واضطرار السكان في الكثير من المدن والقرى إلى استخدام المياه الملوثة، غير الصالحة للشرب، مما سبب في انتشار الكثير من الأمراض كالإسهال، والتيفوئيد، والكوليرا وغيرها من الأمراض الأخرى.
ورغم أن قرار مجلس الأمن المرقم 706، الصادر في 15 آب 1991، والقرار رقم 712، الصادر في 19 أيلول 1991، قد سمحا للنظام العراقي ببيع ما قيمته 1600 مليون دولار من النفط، ثم زيدت إلى ملياري دولار كل ستة أشهر،  بموجب القرار 986، الصادر في 10 نيسان 1995، لغرض شراء المواد الغذائية والأدوية، وتوزيعها على المواطنين، تحت إشراف الأمم المتحدة، إلا أن نظام صدام رفض تنفيذ تلك القرارات بحجة الانتقاص من سيادة العراق، وهو الذي تنازل عن السيادة العراقية للأمريكيين في خيمة صفوان، تاركا الشعب العراقي يعاني الجوع والأمراض، وتحت رحمة التجار الجشعين من أزلام النظام الذين يتلاعبون بقوته فيرفعون الأسعار كل يوم، بل كل ساعة، وتحت رحمة التضخم الذي أدى إلى انهيار العملة العراقية، وفقدانها لقيمتها، بعد إقدام النظام على طبع كميات هائلة من العملة الورقية من دون غطاء، حيث أصبحت لا قيمة لها، حتى هبطت قيمة الدينار العراقي 10000 مرة عن قيمته الأصلية، فقد وصل سعر الدولار الواحد في عام 1996 3000 دينار، بعد أن كانت قيمته قبل الحرب العراقية الإيرانية تساوي ثلاثة دولارات وثلث.
وهكذا انهارت القدرة الشرائية للمواطن العراقي، وأصبح دخله لا يساوي شيئاً، ولا يمكن تأمين أبسط الحاجيات الغذائية والصحية، واضطر المواطنون إلى بيع أثاثهم وحاجياتهم، وكل ما يتوفر لديهم، ليسدوا رمق أولادهم وعائلاتهم.
 كما اضطر ما يقارب الثلاثة ملايين مواطن عراقي إلى مغادرة الوطن، ومن بينهم أعداد كبيرة من الكوادر العلمية العراقية التي كان العراق بأمس الحاجة إليهم، واختاروا العيش في المنافي هرباً من بطش نظام صدام الفاشي، ومن الظروف المعيشية القاسية التي لا يمكن وصفها.
ورغم أن الولايات المتحدة استطاعت أن تجبر النظام العراقي على تنفيذ جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، والتي تهم مصالحها، لكنها سكتت عن تنفيذ هذه القرارات، والقرار رقم 688 والمتعلق بالقمع الذي يمارسه  صدام حسين ضد الشعب العراقي، واستهانته بحقوق الإنسان، والذي بقي حبراً على الورق.
واستمر الحصار يطحن بالشعب العراقي دون أن ينفذ نظام صدام القرارات المتعلقة ببيع النفط لتأمين الغذاء والدواء، مكتفياً بما يقدمه للمواطنين بموجب البطاقة التموينية، من المواد الغذائية التي لا يمكن أن تفي بحاجة العائلة العراقية لمدة أسبوعين من الشهر، ولا يمكن أن تؤمن السعرات الحرارية اللازمة للإنسان، ولا حاجته من الفيتامينات الضرورية لصحته، ناهيك عن فقدان الأدوية والخدمات الصحية الضرورية.
 ولما بلغ الوضع المعيشي للشعب العراقي درجة الانفجار، اضطر نظام صدام بقبول تنفيذ القرار 1986، والمعروف بالنفط مقابل الغذاء والدواء، في أواسط عام 1996، بعد رفض دام خمس سنوات، ذاق خلالها الشعب العراقي مرارة الجوع والإذلال، والحرمان، وفتك الأمراض.
 ورغم كل تلك المعانات القاسية، حاولت الولايات المتحدة تعطيل تنفيذ القرار مرات عديدة، متذرعة بمختلف الذرائع، مما أدى إلى حالة من الاستياء لدى شعوب العالم، والكثير من الحكومات التي طالبت بسرعة تنفيذ القرار، واستمرت المماطلة في تنفيذ القرار حتى شهر آذار من عام 1997، رغم أن المبالغ التي سيتم بها شراء الأغذية والأدوية، بعد استقطاع ما يزيد على ثلث ثمن مبيعات النفط لغرض التعويضات، ومصاريف تدمير أسلحة الدمار الشامل، ورواتب خبراء الأمم المتحدة، فأن ما يبقى من ثمن النفط المباع لا يمكن أن يسد حاجة الشعب من الغذاء والدواء، حتى لو التزم النظام العراقي بالتوزيع العادل للأغذية والأدوية بموجب القرار المذكور، لكنه يمكن أن يخفف بعض الشيء من جسامة المأساة التي كان يحيا بظلها الشعب العراقي المسلوب الإرادة.

2 ـ  تفاقم أزمة النظام العراقي:

رغم بقاء واستمرار النظام العراقي، وبقاء صدام حسين على رأس النظام بعد هزيمة ما سمي بأم المعارك!!، حرب الخليج الثانية، والتي استحالت إلى أم المهالك، كما يسميها الشعب العراقي، فأن أزمة نظام صدام أخذت تتفاقم يوماً بعد يوم.
 فالحصار الذي فرضه مجلس الأمن على العراق قد استمر 13 عاماً، والبنية التحتية للاقتصاد العراقي مدمرة، والديون الهائلة تثقل كاهل البلاد، إضافة للانهيار الاجتماعي الخطير الذي أحدثه الحصار الاقتصادي.
واستمر نظام صدام يعيش عزلة دولية خانقة، فقد كان النظام مرفوض عراقياً، وعربياً، وإقليميا، ودولياً، بسبب سياسة صدام الرعناء، وحروبه المدمرة، وسياسة القمع التي استمر يمارسها ضد الشعب حتى سقوطه، وقمعه لكافة الحقوق والحريات العامة، وتنكيله البشع بكل القوى السياسية، وحرمان البلاد من الصحافة، والبرلمان الحقيقي المنتخب من قبل الشعب بحرية ونزاهة، ومن الدستور الدائم، وسيادة القانون.
لقد غدت التصفية الجسدية للمعارضين هي سمة النظام، ولم تقتصر هذه السياسة على القوى والأحزاب الوطنية المعارضة، بل امتدت إلى قيادة حزبه، حيث أقدم صدام على تصفية معظم قيادات حزبه بأسلوب وحشي، وجاء بعناصر بدلها، لا تعرف غير الخنوع الذليل لسلطانه.
ورغم كل ما فعله صدام للحفاظ على نظامه، فأن التمزق والنخر قد وصل إلى أعلى حلقات النظام، إلى عائلة صدام نفسها، ولعل هروب حسين كامل،  الشخص الثاني بعد صدام في سلم السلطة، وزوج ابنته رغد، والذي شغل اخطر المناصب في الدولة، وكذلك شقيقه صدام كامل، مسؤول حماية صدام الشخصي، وزوج ابنته رنا، وبمعيتهم عدد من الضباط في جهاز الأمن الخاص إلى الأردن، في 8 آب، 1995 لهي خير دليل على عمق الأزمة التي ظل يعاني منها نظام صدام حتى النهاية.
كما إن إقدام صدام على قتل حسين كامل، وشقيقيه، ووالده، بذلك الأسلوب البشع، بعد عودته إلى العراق، إثر إصدار ما يسمى بمجلس قيادة الثورة قراراً بالعفو عنهما، لهو الدليل القاطع على عمق الأزمة التي كان يعاني منها النظام، وعلى بشاعته التي لا حدود لها، حيث وصلت جرائم صدام إلى قتل والدي أحفاده، فكيف هي تلك الجرائم التي أرتكبها ضد القوى المعارضة لحكمه؟
لم تسلم من بطش صدام جميع الحلقات المحيطة به، والمسخرة لحمايته، فقد نكل بعشائر الجبور، وعشائر الدليم، وحتى جانب كبير من التكارتة، والذين كانوا يمثلون العمود الفقري لجهاز أمنه الخاص،  والمسؤول عن حمايته، وحماية النظام  حيث أقدم على اعتقال وتعذيب عدد كبير من الضباط، من هذه العشائر، بتهمة التآمر على نظام حكمه، مما أدي إلى انتفاضة عشائر الدليم ضد حكمه، والتي قمعها صدام بوحشية، مستخدماً كافة الأسلحة المتاحة، وسقط في مدينة الرمادي أكثر من 150 مواطناً قتلى خلال المعركة.كما أعقب ذلك تمرد الكتيبة المدرعة العاشرة في أبو غريب، بقيادة العميد [تركي إسماعيل الدليمي]، إثر مقتل العميد الركن الطيار [محمد مظلوم الدليمي] تحت التعذيب في أقبية الأمن الخاص لنظام صدام.
  لكن صدام استطاع القضاء على التمرد بعد معركة دامية استمرت عدة ساعات، واستخدمت فيها الدبابات، والمدرعات، وسقط الكثير من القتلى والجرحى. ورغم أن نظام صدام حاول بكل جهوده التعتيم على ذلك التمرد، إلا أن أصوات الانفجارات كانت تسمع من قبل المواطنين، وسرعان ما انتشرت أخبار التمرد إلى الصحافة العالمية.(3)
 حاول صدام حسين أن يضفي على حكمه صفة الشرعية، بعد تلك الهزات العنيفة، فلجأ إلى إجراء استفتاء على رئاسته، من دون أن يكون هناك أي منافس!!، وأجبر المواطنين على الإدلاء بصوتهم،  مهدداً كل من يمتنع عن التصويت له بسحب بطاقته التموينية، وحرمان عائلته من المواد الغذائية، وهكذا أصبح استفتاء صدام مثار السخرية في العالم اجمع.
لقد كان الشعب العراقي على قناعة بأن نظام صدام الفاشي لا يمكن أن يدوم، فقد كانت انتفاضة الشعب العراقي في آذار 1991 هي التصويت الحقيقي المعبر عن كره الشعب لذلك النظام، وتصميمه على التخلص منه مهما طال الزمن.
المعارضة العراقية ونظام صدام

القاعدة عادة، وكما هو معروف، أن المصائب توحد المجتمع، وتدفع قواه السياسية  للتعاون والتكاتف من أجل درء الأخطار، والمصائب التي تداهم البلاد، وتصبح هذه الأخطار والمصائب عاملاً حاسماً في تناسي الضغائن والأحقاد والخلافات مهما كانت، وتدفعهم للعمل المشترك للوقوف أمام الأخطار التي تهدد الجميع.
لكن ما يؤسف له أشد الأسف، أن فصائل العارضة العراقية قد قلبت المعادلة رأساً على عقب، فرغم شدة المصائب، وعمق المأساة التي حلت بالعراق وشعبه، والتي لم يشهد العراق لها مثيلاً من قبل، ورغم ادعاء كل فصائل العارضة هذه بأنها تنادي بإسقاط نظام الدكتاتور صدام، وتدعي الأيمان بالديمقراطية، والتعددية، واحترامها لحق الشعب العراقي في الحرية، وحقه في أختار ممثليه، عن طريق الانتخاب الحر والنزيه.
إن كل هذه التوجهات، إن صح الادعاء، كانت تصلح أن تكون الأساس، والقاعدة التي يمكن أن تلتف حولها هذه الفصائل، وتعمل من أجل تحقيقها بجهد مشترك، لا يستثني أي فصيل مهما صغر شأنه،  فلا يمكن أن تتحقق هذه الأهداف بدون وحدة جميع هذه القوى.
لكن الذي جرى هو أن هذه الفصائل ظلت  تعاني من الصراعات الحادة وحتى الدموية، وكل فصيل اتخذ لنفسه اتجاها مناقضاً للأطراف الأخرى، ويمكننا تصنيفها بموجب اجندتها بالتالي: 
1ـ أحزاب كانت تعول في إجراء التغيير على العامل الخارجي، الدولي منه والإقليمي، وارتبطت تبعاَ لذلك بهذه الدولة أو تلك، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، على أمل إجراء التغيير المنشود.
 لكن هذه الدول لا يهمها سوى مصالحها في الدرجة الأولى، وبوجه خاص الولايات المتحدة التي لها مصالحها التي لا تعلوها أي مصلحة أخرى، وهي لا تفكر في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في العراق، وكانت ترى في بقاء نظام صدام ضعيفاً تجاهها، ومنفذاً لكل ما تطلبه منه، وفي الوقت نفسه قادراً على قمع شعبه، هو خير ما يحقق أهدافها في منطقة الخليج، ولا يهمها مصلحة الشعب العراقي ولا معاناته مهما عظمت.

 2ـ أحزاب دخلت في صراع مسلح دامي فيما بينها، منذُ 17 آب 1994، وجاء على الأخضر واليابس، كما يقول المثل، في منطقة كردستان العراقية، وأعني به الحزب الديمقراطي الكردستاني [حدك] والاتحاد الوطني الكردستاني [أوك] على الضد من  مصالح المواطنين الأكراد بصورة خاصة، والشعب العراقي بصورة عامة، ومنزلين أفدح المصائب بالشعب الكردي.
 وقد دفعتهم هذه الحرب العبثية إلى التحالف مع الإيرانيين والأتراك والأمريكان، ومن ثم أنتهي المطاف  إلى طلب المساعدة من نظام صدام الذي اجتاح مدينة أربيل في 31 آب 1996، وبذلك أضعف، وشتت قوى المعارضة العراقية، وجهودها لإزاحة النظام، ولاسيما وأن لقوى الحزبين دور كبير جداً في الصراع مع نظام صدام.
وفي الوقت نفسه تصاعدت الدعوات بقيام كيان مستقل في كردستان، لكن تلك الدعوات لاقت الرفض والمقاومة من جانب إيران وتركيا، نظراً لتخوف هاتين الدولتين من تحرك المواطنين الأكراد في بلديهما للمطالبة بحقوقهم القومية أسوة بأكراد العراق، والذين يتجاوز تعدادهم أكثر من عشرين مليون نسمة، ولاسيما وأنهم يخوضون صراعاً مريراً مع حكومتي البلدين من أجل تلك الحقوق. (4)

3ـ أحزاب تحمل توجهاً دينياً متعصباً، وتضم هذه المجموعة الأحزاب الإسلامية التي ترفض التعامل مع الفكر العلماني، والقوى السياسية العلمانية والديمقراطية، بل وتدخل في صراع معها على صفحات الصحف والنشرات التي يصدرها، وتحاول فرض نفسها الممثل الوحيد للشعب العراقي، على الرغم من أن التيار العلماني والديمقراطي له جذور عميقة في صفوف الشعب ولعب ولا يزال يلعب دوراً كبيراً في النضال ضد الدكتاتورية.
 ولنا ما جرى في لقاء دمشق لأحزاب المعارضة العراقية في الثالث من نيسان 1996، خير دليل، عندما أصرت القوى الإسلامية على رفض اشتراك الحزب الشيوعي، مهددة بالانسحاب من المؤتمر، مما اضطر سكرتير الحزب الشيوعي السيد حميد مجيد على مغادرة قاعة الاجتماع.
وبطبيعة الحال إن هذا الموقف من جانب التيار الإسلامي ليس فقط لم يخدم قضية الشعب العراقي وتحرره، بل أطال في عمرالدكتاتورية، وهذا الموقف يتنافى وصدقيه التوجه الذي ادعته هذه الأحزاب حول الديمقراطية والتعددية، والحريات العامة، وخيارات الشعب.(5)
4ـ أحزاب تدعو للتفاوض مع نظام الدكتاتور صدام، بدعوى أن المعارضة الوطنية غير قادرة على إسقاط النظام، وأن لا سبيل أمامها إلا التفاهم مع النظام، متناسين التجارب السابقة مع هذا النظام، وغدره بكل من تحالف معهم، وتلك الإحداث، والشواهد لا تزال ماثلة أمام كل من له عينان تبصران، وأذن تسمع، ولا تحتاج منا الإعادة. (6)
5ـ أحزاب تضم التيار الديمقراطي الذي يدعوا إلى الاعتماد على الشعب، وعلى تكاتف وتعاضد كل القوى السياسية الوطنية، صغيرة كانت أم كبيرة، من أجل تحقيق التغيير المنشود، ولنا من تجارب الجبهة الوطنية التي ضمت جميع الأحزاب الوطنية، من قوميين وديمقراطيين وشيوعيين ومستقلين عام 1957، والتي مهدت السبيل لثورة الرابع عشر من تموز 1958، خير مثال وشاهد.
لكن هذا التيار كان بحاجة إلى أن يبذل جهوداً كبيرة من أجل تجميع كل القوى الديمقراطية، ورص صفوفها، والتقدم بخطاب سياسي متكامل، لكي يثبت للقوى الأخرى أنه لازال يمثل جانباً كبيراً من جماهير الشعب العراقي التي تنشد الديمقراطية حقاً.
 إن هذا التمزق والتناحر في صفوف الحركة الوطنية لم يخدم سوى نظام صدام، وأطال في عمره، وأطال من أمد وعمق  المأساة التي كان يعاني منها الشعب العراقي المنكوب، وإن تلك القوى التي كانت ترفض التعاون والعمل المشترك للخلاص من نظام صـدام تتحمل مسـؤولية تاريـخية كبرى في استمرار بقاء نظام صدام.
لقد كان السبيل للخلاص من النظام الدكتاتوري البغيض، هو طريق الوحدة الوطنية، والتعاضد  والتعاون المشترك، وتغليب مصلحة الشعب والوطن على المصالح الحزبية الضيقة، والحفاظ على وحدة العراق أرضا وشعباً، والأيمان الصادق بالديمقراطية والتعددية، والتداول السلمي السلطة، عن طريق الورقة الانتخابية، وإفساح المجال للشعب العراقي ليختار بكل حرية ممثليه، فالشعب هو وحده الذي يجب أن  يملك حق الاختيار.

نتائج الحرب على الجانب العربي:

1 ـ  تفكك وانهيار التضامن العربي:

لا شك أن أحد أهم النتائج التي أفرزها غزو نظام صدام للكويت، وحرب الخليج الثانية، هي تمزق الصف العربي بصورة لم يسبق لها مثيل، واضمحلال دور الجامعة العربية في جمع الدول العربية حول بعض القواسم المشتركة، وهيمنة الولايات المتحدة على سياسات وتوجهات معظم الدول العربية، وحتى على قرارات الجامعة العربية، ومؤتمرات القمة العربية.
 لقد بلغ العداء لدى بعض حكام  دول الخليج لكل ما هو عربي، أنها باتت تقدم أيديها لمصافحة غلاة العنصريين الصهاينة من قادة الليكود الإسرائيلي أمثال نتنياهو، وباراك، وديفيد ليفي، وشارون،  وتأبى أن تصافح اليد
العربية، وتلك هي قمة المأساة في العلاقات العربية.
لقد نسي أو تناسى حكام الخليج أن الحاكمين لا يمكن أن يكونوا الممثل أو البديل عن الشعوب العربية، فصدام حسين لا يمثل الشعب العراقي، ولا يعبر عن توجهاته، وهم يعرفون حق المعرفة أن الشعب العراقي كان مغلوباً على أمره، وانه يرزح تحت نير أعتا نظام دكتاتوري عرفه العراق، وانه شعب مسلوب الإرادة منذُ أن سطا حزب البعث على الحكم في انقلاب عسكري عام 1968.
لقد تفرقت الدول العربية، وأصاب الجامعة العربية الوهن والضعف الخطيرين، بحيث لم تعد قادرة على القيام بأي دور يخدم القضايا العربية، واشتدت نتيجة ذلك الهجمة الإمبريالية والصهيونية على العالم العربي لتهدم فيه، من أجل إحكام هيمنتها على ثرواته واقتصاده.
لقد اثبت وقائع التاريخ، القريبة منها والبعيدة، أن تحقيق آمال وتطلعات الشعب العربي في التقدم والرفاه، وضمان السيادة والاستقلال، ودرء الإخطار الإمبريالية الهادفة إلى سرقة ثروات البلاد العربية، والهيمنة على المنطقة، وفرض احترام الآخرين للإرادة العربية، يكمن في وحدة العرب جميعاً، والعمل الجاد والمتواصل لكل ما من شأنه أن يحقق أقصى ما يمكن من التعاون والتنسيق في سائر المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وفي المقدمة من ذلك إنشاء السوق العربية المشتركة، والتكامل الاقتصادي الحقيقي، والوحدة النقدية، وغيرها من الأمور الأخرى، وصولاً إلى الوحدة العربية الديمقراطية، حلم العرب جميعاً.
 إن من المؤسف أن نجد اليوم العرب جميعاً على هذه الحال من التمزق والتنافر، والسيف الأمريكي والإسرائيلي مسلطان على رقابهم، في وقت نرى فيه قيام وحدة أوربية بين دول مختلفة، لا يجمعها ما يجمع العرب من جوامع اللغة والدين والتاريخ والعادات والتقاليد المشتركة، بالإضافة إلى الأرض المشتركة.

2 ـ مؤتمر مدريد،وتهافت الحكام العرب للتطبيع مع إسرائيل

 كان أعظم هدف حققته الولايات المتحدة بعد حرب الخليج الثانية ضد العراق هو دفع الحكام العرب إلى مؤتمر مدريد، من أجل فرض الصلح مع إسرائيل، بعد أن رفض العرب أي مفاوضات، أو صلح معها منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، وبذلك حققت الولايات المتحدة ذلك الحلم الذي راودها لعقود من السنين، وجاءت بالحكام العرب إلى مؤتمر مدريد، وهم في أسوأ حالات الضعف والتمزق، وفرضت عليهم الدخول في المفاوضات بصورة منفردة، لكي تمكن إسرائيل من الاستفراد بهذه الدول، وفرض شروطها، ولتحقق أقصى ما يمكن من المكاسب على حساب الحق العربي في أرضه المسلوبة نتيجة الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على الدول العربية عام 1967.
ومما زاد في عمق المأساة تهافت العديد من الحكام العرب للصلح مع إسرائيل، دون مراعاة لعملية التنسيق فيما بينها، كما وجدنا أن دول الخليج والمغرب العربي تهرول نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، حتى قبل أن تسفر المفاوضات بين الفلسطينيين وسوريا ولبنان عن الوصول إلى السلام العادل، على أساس الأرض مقابل السلام، كما جاء به مؤتمر مدريد، مما أضعف الموقف التفاوضي العربي، وزاد من تعنت إسرائيل.

 إن الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات مع الفلسطينيين، وانقطاع المفاوضات بين سوريا ولبنان وإسرائيل، هو نتاج لتهافت الأنظمة العربية، والقادة الفلسطينيين على التفاوض المنفرد مع إسرائيل، متخلين عن التنسيق مع سوريا ولبنان، فقد تسببوا في إضعاف موقفهم وموقف سوريا ولبنان التفاوضي، وجعلوا اليمين الإسرائيلي يتمسك بالجولان، والقدس، والمستوطنات، ومعظم الضفة الغربية، ويقسم مدينة الخليل العربية، والتي يسكنها 130 ألف عربي من أجل 400 مستوطن صهيوني تمّ زرعهم في المدينة.

 هذا هو السلام الذي تريده  إسرائيل، إنها تريد السلام والأرض معاً، بالإضافة لسعيها المحموم للهيمنة الاقتصادية على العالم العربي، وهي تعمل على فرض سلامها بالقوة، مسنودة بالدعم غير محدود الذي تقدمه لها الولايات المتحدة، الوسيط النزيه وراعي السلام كما تدعي!!.

لقد أخذت الولايات المتحدة وإسرائيل تمارسان أقصى أساليب الضغط والتهديد على سوريا ولبنان لدفعهما على الرضوخ، والتنازل عن الحق العربي في الأرض والمياه، عن طريق العدوان على لبنان، كما حدث في الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف عام 1982، واجتياح جنوب لبنان عام 1993، وعناقيد الغضب الإسرائيلية عام 1996، والهجوم على لبنان عام 2006، وأخيراً الهجوم على غزة عام 2008 وما أحدثته من تدمير لا مثيل له، وضحايا جاوز تعدادهم 1500 شهيد وآلاف الجرحى والمعوقين، بالإضافة إلى فرض الحصار الجائر على القطاع براً وبحراً وجواً، وتحويل القطاع إلى سجن جماعي رهيب
نتائج الحرب على الجانب الدولي:

كان أحد ابرز النتائج التي تمخضت عنها حرب الخليج الثانية، بروز الولايات المتحدة كأقوى دولة مهيمنة على العالم أجمع، بعد أن أنهار المعسكر الاشتراكي، وبدأ الاتحاد السوفيتي بالتفكك، وتوارى عن المسرح الدولي، تاركاً الولايات المتحدة تهيمن على مصائر الشعوب، وغدا مجلس الأمن رهن إشارتها، تفرض وتصدر القرارات كما تشاء، وكما تتطلبها مصالحها وطموحاتها في الهيمنة على العالم، دون أن تجرأ الشعوب الضعيفة على الاعتراض، فلم يعد هناك ذلك الند الذي كان يقف بالمرصاد بوجهها، وأعني به الاتحاد السوفيتي.
لقد اختل التوازن الدولي بعد هيمنة القطبية الأحادية، وكان نتيجة ذلك أن تضررت جميع الشعوب أكبر الضرر، وخاصة شعوب العالم الثالث، وغدت تحت رحمة الإمبريالية الأمريكية واخطبوطها الاقتصادي الذي هيمن على العالم، وأخذ  يمتص بشراهة لا حدود لها  ثرواتها، ويزيدها فقراً على فقر، من أجل أن تمتلئ جيوب أصحاب الشركات الاحتكارية الكبرى.
 إن كل ما قيل ويقال عن قيام نظام عالمي جديد لا يعدو أن يكون محض هراء، فالنظام الذي تقيمه الولايات المتحدة اليوم ما هو إلا عودة للنظام الإمبريالي القديم بأبشع صوره وأشكاله، نظام الهيمنة الاقتصادية الشاملة على العالم، مدعوماً بالقوة العسكرية الأمريكية، وأسلحتها الفتاكة، والتي أصبحت لها الحرية المطلقة للحركة في أي بقعة من بقاع العالم، دون أن تلقى الردع من أي جهة كانت.
إن ما فعلته الإمبريالية الأمريكية بالعراق خير شاهد ودليل على وحشيه النظام العالمي الذي نشهده اليوم، إنه عدوان صارخ على شعب يرزح تحت نير دكتاتورية صدام البغيضة، ولا يملك مصيره بيده، بعد أن سلبه نظام صدام كل حقوقه وحرياته.
 وجاءت الولايات المتحدة بجيوشها، وبحجة تحرير الكويت كذباً وزوراً، لتنزل به من الويلات والمآسي ما يعجز القلم عن وصفه، وبقي السيف الأمريكي مسلطاً على رقاب الشعب العراقي منذ علم 1990 وحتى اليوم، حيث استمرت حرب التجويع التي تعد أشنع أنواع الحروب وأقساها على الشعب العراقي منذ ذلك التاريخ، حيث  كان الشعب العراقي يفتقد الغذاء والدواء، وحيث الموت البطيئ لأبنائه، وبصورة خاصة الأطفال منهم وكبار السن، دون  أن يتحرك ضمير هذا العالم الجديد في مظهره، والقديم في جوهره، واستمر الحال في العراق حتى التاسع من نيسان 2003 عندما أسقطت جيوش الولايات المتحدة وبريطانيا نظام صدام واحتلت العراق، وما زال الاحتلال جاثماً على صدور العراقيين حتى اليوم. 
إن أحادية القطبية في العالم لا يمكن أن تدوم مهما طال الزمن بالولايات المتحدة ذلك أن هذا الوضع يتنافى ومنطق التاريخ.
 أن أقطاباً جديدة يتبلور ظهورها، وهي قادمة لا محالة للبروز بشكل فاعل لتلعب دورها في تقرير مصير ومستقبل العالم، فهناك الوحدة الأوربية تتكامل وتقوى ويشتد عودها، وهي تشعر بالغبن الذي لحق بها بسبب استئثار الولايات المتحدة بكل شيء، وهناك المارد الآسيوي العملاق بزعامة الصين، صاحبة أعظم نسبة نمو اقتصادي في العالم باعتراف كل الخبراء الاقتصاديين في الغرب، وهناك المارد الياباني بقوته الاقتصادية، وأخيراً مستقبل دول الاتحاد السوفيتي السابق، وعلى رأسها روسيا، التي تملك من الأسلحة النووية ما يمكنها من فعل كل شيء.(9)
 إن شعوب الاتحاد السوفيتي تشعر بالمرارة على والإهانة التي لحقت بها جراء سقوط الاتحاد السوفيتي، وهي عاقدة العزم على إعادة مجدها السابق على أسس جديدة من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وهي قادرة بلا شك على تحقيق ذلك.                               


349
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة 14/ 17

حامد الحمداني                                                        7/8/2009

أولاً:أجراء انتخابات برلمانية،وتأليف حكومة كردية:

رداً على فشل المفاوضات مع نظام صدام، وإقدامه على سحب الإدارة المدنية، قررت القيادة الكردية إجراء انتخابات عامة في المنطقة الكردية في عام 1992 وانتخاب مجلس للنواب، وتأليف حكومة تقوم بإدارة
شؤون المنطقة.
 لكن الذي جرى هو اقتسام السلطة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، في حين كان من المؤمل أن تشارك في السلطة جميع الأحزاب الكردية، لكي تعطي هذه التجربة حقاً نموذجاً صادقاً للديمقراطية التي يصبو إليها الشعب الكردي بوجه خاص، والشعب العراقي بوجه عام.
غير أن الحزبين المذكورين آثرا الاستئثار بالسلطة لوحدهما، متجاهلين بقية الأحزاب السياسية المشاركة المشاركة في جبهة العمل الوطني!!.
وهكذا فقد ظهرت حقيقة النوايا والتطلعات لقيادة الحزبين الكرديين الكبيرين في تجاهل الديمقراطية التي  تشدقوا بها لسنوات بل لعقود عديدة، وتنكرهم لسائر القوى الوطنية الأخرى، ولم يقف الحال بهم عند هذا الحد بل بدأت بوادر الصراع بين الحزبين، وكل حزب يخطط للاستئثار بالسلطة لوحده.
 بعد إقامة البرلمان وتأليف الحكومة، بدأت القيادة الكردية، المتمثلة بالحزبين المذكورين بتطوير تطلعاتها، وشعاراتها الخاصة بالحكم الذاتي إلى الفدرالية، حيث دعت القيادة إلى ذلك، في مؤتمر صلاح الدين، وقد شجعهم على ذلك تبني مؤتمر فيينا للمعارضة العراقية ما سمي بحق تقرير المصير للشعب الكردي في إطار الوحدة العراقية، مما أثار حفيظة الأحزاب القومية العربية، وجميع دول الجوار، وخاصة سوريا وإيران وتركيا التي اعتبرتها خطوة نحو الانفصال، وإقامة دولة كردية.
 كانت تخشى أن يحفز الأكراد في تلك الدول التي تضم الجانب الأكبر من الشعب الكردي، والذي يعاني من الحرمان التام لحقوقه القومية في إيران وتركيا، للمطالبة بحقوقهم القومية أسوة بما جرى في العراق.
أما الولايات المتحدة فقد أرادت بهذه الخطوة أن تشكل عامل ضغط شديد على نظام صدام، من أجل تنفيذ كل ما تطلبه الولايات المتحدة منه.
ثانياً:حرب حزبي البارزاني والطالباني تشتعل في كردستان

على الرغم من سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، والإتحاد الوطني الكردستاني (أوك) على السلطة في كردستان بعد الانتفاضة، وتقاسمهم مقاعد البرلمان، ومجلس الوزراء، إلا أن التنافس والصراع بين الحزبين كان يتفاعل كل يوم، حيث سعى كل منهما  للهيمنة على السلطة المطلقة في كردستان، مما  تسبب في تصاعد الخلافات بين الحزبين، واستمرت العلاقات بينهما بالتوتر، والخلافات بالتصاعد حتى وصلت إلى مرحلة الصراع المسلح بينهما. (1)

 فقد اندلع القتال بين مقاتلي الحزبين في أواخر شهر آذار من عام 1994، واستخدم الطرفان كل ما تيسر لهما من الأسلحة في قتالهما الشرس بينهما، والذي دفع ثمنه الشعب الكردي المنكوب، حيث قتل الألوف من أبنائه، ودمرت المدن والقرى، واتت الحرب بين الحزبين على البقية الباقية من الاقتصاد المدمر أصلاً، بسبب الحروب التي استمرت بينهم وبين النظام طوال عشرات السنين. (2)

ورغم جميع المحاولات التي بذلتها الأحزاب الوطنية المنضوية تحت لواء الجبهة الكردية لوقف القتال بين بيشمركة الحزبين المتصارعين على السلطة والثروة، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، واستمرت المعارك بين الطرفين، رغم أنها تخللتها الهدنة لفترات من الزمن بعد جهود مضنية بذلتها العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية للجمع بين القيادتين، وحل المسائل المختلف عليها سلمياً، وبما يحقق الأمن والسلام للشعب الكردي الذي عانى الأمرين من تلك الحرب.
وهكذا ضاعت أحلام الشعب الكردي في العيش في سلام وهدوء، بعد تخلصهم من سلطة نظام صدام، ووجد نفسه في ظل ذلك الصراع، وفي ظل الحصار الدولي، وحصار صدام على منطقة كردستان، في وضع مأساوي ليس له مثيل، يعاني الجوع، وتفتك فيه الأمراض، وتتساقط فوق الرؤوس قنابل المتحاربين كل يوم منزلة الخراب والدمار والموت.
لقد كان المؤمل أن تكون تجربة الحكم الذاتي في المنطقة الكردية، وتجمع قوى المعارضة الوطنية فيها حافزاً، ومنطلقاً لتحرر العراق من سلطة الدكتاتور صدام، لكن قتال الحزبين أضاع كل شيء.
ففي 12 تشرين الأول 1996 اندلعت جولة جديدة من الحرب أشد وحشية، وفتكاً بالأرواح، وتدميراً للممتلكات من مسلسل القتال الكردي - الكردي بين الحزبين، وشملت ساحة الصراع والحرب مدن السليمانية وكوسنجق، وجمجمال، وبلدات أخرى، واستخدم الطرفان كل الأسلحة المتاحة، منزلين أفدح الخسائر بالأرواح والممتلكات، ليس بين صفوف المتقاتلين وحسب، بل بين صفوف المدنيين المسالمين.
 لقد كانت الذرائع والتبريرات التي ادعى  بها الطرفين لاستمرار القتال مرفوضة من الشعب الكردي ولا يمكن قبولها، وهي كانت في واقع الأمر تخفي وراءها أهداف حزبية ضيقة ترمي إلى الانفراد بالسلطة والثروة، وإن قيادة الحزبين يتحملان المسؤولية الكاملة عن كل تلك المآسي التي حلت بالشعب الكردي، وبمسؤولية تدمير الجهد الوطني لأحزاب المعارضة الهادف إلى تخليص الشعب العراقي من حكم صدام.

ثالثاًً: قوات الطالباني تحتل أربيل، وتزيح سلطة البارزاني

وصلت ذروة الصراع بين حزبي البارزاني، والطالباني في أوائل عام 1995، عندما اقتحمت قوات بيشمركة الطالباني مدينة أربيل، عاصمة منطقة كردستان العراق، وسيطرت عليها، وأزاحت قوات البيشمركة التابعة للبارزاني.
 وبذلك فرض جلال الطالباني هيمنته على مؤسسات السلطة التنفيذية، وعطل المجلس التشريعي، وجرى خلال اقتحام المدينة، والسيطرة عليها بعد معارك عنيفة بين الطرفين، وقوع خسائر جسيمة في صفوف المتحاربين، والسكان المدنيين على حد سواء، وجرت حملة تصفيات للخصوم السياسيين، وأدى ذلك إلى زرع الحقد والبغضاء، والعداء بين إفراد المجتمع الكردي.
وحاول قادة الأحزاب الوطنية المتواجدين على الساحة الكردستانية التوسط بين قيادة الحزبين لإيجاد مخرج للازمة التي تمخضت عن استيلاء قوات الطالباني على أربيل، حيث قدمت مشروعاً يقضي بإعلان الهدنة بين الطرفين المتحاربين، وبجعل مدينة أربيل منزوعة السلاح، وعودة المجلس التشريعي، ومجلس الوزراء إلى ممارسة مهامهم، والتوقف النهائي عن الملاحقة والاعتقال، وطرد العوائل، ومصادرة ممتلكات المواطنين ومنازلهم.
 وبالفعل استطاعت الوساطة تحقيق هدنة بين الطرفين في 7 نيسان 1995 واستمرت حتى الأول من حزيران، ولكن دون تحقيق أي تقدم في المفاوضات بين الجانبين لحل  الأزمة، وبناء على المساعي التي بذلتها القوى الوطنية، فقد جرى تمديد الهدنة حتى 15 تموز 1995.
 وفي 5 تموز 1995 أجتاح الجيش التركي شمال العراق، في المنطقة الوسطى من الحدود المشتركة بين البلدين باتجاه منطقة[الميسوري] في قضاء[ميركه سور] وقُدرت القوات التركية الغازية بلواءين مدرعين، تسندها الطائرات المقاتلة والمروحيات والمدفعية، بالإضافة إلى القوات المظلية، وادعت الحكومة التركية إنها تطارد المتمردين من أعضاء حزب العمال الكردستاني.
 لكن القوات التركية استهدفت المناطق المأهولة بالسكان الأكراد، وقصفت بصورة عشوائية سبع قرى هي شيفي، وميروز، وسبندار، وبندرو، ودزو، وبازيان، مما أسفر عن تشرد أهالي المنطقة بعد تكبدهم خسائر كبيرة في الممتلكات، ووقوع عدد من الضحايا والجرحى.(3)
أدى الاجتياح التركي لكردستان إلى تعقيد الأزمة، وإلى تفاقم أوضاع  المواطنين الأكراد المعشية، وزاد من عمق المأساة التي سببها الصراع بين الحزبين (حدك) و(أوك).

رابعاً:البارزاني يستعين بصدام لاستعادة أربيل

في العاشر من آب 1996، دعا رئيس وزراء تركيا، نجم الدين أربكان، الذي كان في زيارة رسمية لإيران، إلى عقد قمة تركية عراقية إيرانية، لحل أزمة كردستان العراق، وأكد على أن تركيا ستستضيف اللقاء، وأنها ستدعو سوريا لحضوره، وقد لاقى الاقتراح التركي استحسان الحكومة الإيرانية وتأييدها.
غير أنه لم يمضي سوى أسبوع على اللقاء، حتى أنفجر القتال من جديد في كردستان في 17 آب 1996، وشملت المعارك مناطق [باليسان] و[وهيران] و [حرير] و[صلاوة] و[جومان] و[حاج عمران]، ورافق القتال قصف مدفعي إيراني لمنطقة [ راوندوز].
وبعد يومين من بدء القتال، بدأ نظام صدام بتحشيد قوات كبيرة من الحرس الجمهوري في مناطق كركوك والسليمانية، والموصل، وأصدر النظام قراراً بتعيين [علي حسن المجيد] الملقب بعلي كيماوي، محافظاً لكركوك، كما أصدرت قيادة الجيش أمراً إلى القطعات العسكرية المرابطة على خطوط التماس بأن تكون على أهبة الاستعداد، وأن تشدد سيطرتها على كافة المسالك، وإطلاق النار على كل من يتحرك في تلك المناطق.
ورغم أن تحشدات القوات العراقية كانت مكشوفة، فأن الولايات المتحدة لم تحرك ساكناً، ولم توجه أي تحذير للنظام العراقي من مغبة الإقدام على أي خطوة عدوانية في كردستان، ولاسيما وأن هذه المنطقة قد وُضعت تحت
الحماية الأمريكية منذُ انتفاضة آذار 1991.
وفي الساعة الرابعة من فجر يوم 31 آب اندفعت قوات صدام نحو مدينة[أربيل] وحاصرتها من اتجاهي الموصل وكركوك، وبعد أن مهدت لهجومها على المدينة بقصف مدفعي وصاروخي استمر 4 ساعات، وبرر النظام العراقي اقتحامه لأربيل بأنه تلبية لدعوة من السيد مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني
وفي الوقت نفسه أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البارزاني أن قواته بدأت بمهاجمة أربيل، وأن قواته تقاتل في ضواحي المدينة.
وفي اليوم التالي الأول من أيلول دخلت مجموعات كبيرة من الدبابات العراقية وأحكمت سيطرتها على المدينة، أسفرت المعارك عن وقوع خسائر جسيمة في صفوف المقاتلين الأكراد والسكان المدنيين، وقد مارست أجهزة أمن صدام التي رافقت القوات العسكرية، حملة مداهمات للبيوت، ومقرات الأحزاب السياسية المعارضة، وقامت باعتقال المعارضين للنظام وفق قوائم كانت قد أعدت سلفاً، وجرت حملة تصفية جسدية لعدد كبير من المعارضين للنظام العراقي، ونهبت وأحرقت مقرات الأحزاب المعارضة،
أما الولايات المتحدة فلم تتعرض لقوات نظام صدام التي اقتحمت أربيل.
لكنها أطلقت 27 صاروخاً على مواقع عسكرية في جنوب العراق ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍في الأول أيلول، ثم أعقبتها بإطلاق 17 صاروخاُ آخر على المنطقة نفسها في الثالث من أيلول، وقرر الرئيس الأمريكي [كلنتون] تمديد منطقة الحضر الجوي في جنوب العراق إلى خط العرض 33، وكأن أربيل واقعة في جنوب العراق !!.
إن كل متتبع للأوضاع السياسية آنذاك كان يدرك أن صدام حسين لم يكن قادراً على الأقدام على خطوة كهذه، وفي مثل تلك الظروف التي كان يمر بها النظام، دون تخطيط الولايات المتحدة ومباركتها،  وكانت للولايات المتحدة حساباتها في ذلك، وأن أهداف عديدة كانت قد حققتها من وراء هذه العملية ومنها:
1ـ تأمين مرور النفط عبر الأنبوب التركي، بعد توقيع مذكرة التفاهم بين النظام العراقي والأمم المتحدة، حول تنفيذ قرار النفط مقابل الغذاء والدواء، والذي أشترط استخدام هذا الأنبوب لنقل معظم النفط العراقي، ومعروف أن الطلباني على علاقة جيدة مع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعاً مع الحكومة التركية، والذي كان قد قام بنسف أنبوب النفط المذكور فيما مضى مرات عديدة، ويأتي ذلك لمصلحة تركيا التي تضررت كثيراً جراء الحصار المفروض على العراق، حيث كانت تجني المليارات
من الدولارات من عوائد مرور النفط العراقي عبر أراضيها سنوياً.
‍‍‍‍‍‍‍
2 ـ أشعار أعضاء مجلس الأمن بأن العراق لازال قادراً على تهديد الأمن والسلم الدوليين، وان استمرار الحصار المفروض عليه مازال يتسم بأهمية كبرى لضمان الأمن والسلم الدوليين.

3ـ تفتيت المعارضة العراقية، وإفشال أي محاولة لتغير النظام العراقي لا تأتي من تحت المعطف الأمريكي.

4ـ أشعار دول الخليج أن صدام حسين مازال قوياً، وانه يشكل تهديداً للخليج، من أجل بقاء القوات الأمريكية في المنطقة، وابتزاز دول الخليج، وحثها على شراء الأسلحة.



350
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة 13 / 17

حامد الحمداني                                                         5/8/2009

انفصال المنطقة الشمالية عن العراق
بعد المجازر التي اقترفها نظام صدام الفاشي خلال وبعد قمع الانتفاضة الشعبية، حيث قتل ما يزيد على 300 ألف مواطن على أيدي قوات الحرس الجمهوري، والأجهزة الأمنية للنظام، وتشرد أكثر من مليون كردي تاركين مدنهم وقراهم في شمال الوطن، ومئات الألوف من المواطنين العرب في جنوب ووسط العراق من هرباً من بطش النظام، وآلته الحربية.
 ومن باب الإحراج أمام الرأي العام العالمي لما جرى في العراق من استخدام نظام صدام أقسى درجات العنف ضد أبناء الشعب، وعمليات القتل الوحشية، وامتلاء السجون السجون، والتعذيب الوحشي حتى الموت لكل من تشك السلطة البعثية في مشاركته في الانتفاضة الشعبية ضد نظام الطاغية صدام، قدمت الولايات المتحدة مشروع قرار إلى مجلس الأمن، والذي جرت المصادقة عليه تحت رقم 688 في 5 نيسان 1991، والمتعلق بحقوق بصيانة الإنسان في العراق، وما تتعرض له المواطنون العراقيون على أيدي طغمة صدام الفاشية.
لكن الولايات المتحدة لم تكن جادة في سعيها لتأمين الحقوق المشروعة للشعب العراقي في الحرية والديمقراطية والسلام، وهي التي سمحت لقوات صدام باستخدام كل أنواع الأسلحة لقمع الانتفاضة الشعبية، فهي لا يهمها انتهاك نظام صدام لحقوق الإنسان، بل كل همها في كيف تحافظ على مصالحها في منطقة الخليج، وضمان تدفق النفط دون مخاطر.
ولذلك وجدنا أن  القرار المذكور، على خلاف كل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ضد العراق تحت البند السابع، والذي له قوة إلزامية للتنفيذ، لم يصدر هذا القرار بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولذلك فلم تكن له صفة إلزامية تجبر النظام على تنفيذه، وبقي حبراً على ورق، وقد وجدت من الضروري أن يطلع القارئ الكريم على القرار:

قرار مجلس الأمن بفرض الحماية على المنطقة الكردية
 قرار رقم 688 ـ في 5 نيسان 1991 :
مجلس الأمن :

مشيراً إلى الفقرة السابعة من المادة الثالثة من ميثاق الأمم المتحدة، واضعاً نصب عينيه، واجباته ومسؤولياته المنصوص عليها في الميثاق، وبقلق شديد، بسبب عمليات القمع التي تستهدف لها السكان المدنيون في أنحاء كثيرة من العراق، وقد شمل في الآونة الأخيرة المناطق الكردية المأهولة، الأمر الذي أدى إلى اندفاع جموع غفيرة من اللاجئين نحو الحدود الدولية وعبورهم، مما نجم عنه غارات عبر الحدود قد تهدد السلام والأمن الدوليين في المنطقة.
وبإحساس عظيم منه بالأسي لما يعانيه الإنسان هناك من أهوال، وبعد تأمل بالتقريرين الذين رفعهما ممثلا تركيا وفرنسا لدى الأمم المتحدة في 3، و4  نيسان 1991، برقم 22435 / س، ورقم 22445 / س، وكذلك التقريران اللذان رفعهما الممثل الدائم لجمهورية إيران الإسلامية إلى الأمم المتحدة بتاريخ 3 ، و4 نيسان 1991، وقد سجلتا برقم 22436 / س، و22447 / س. معيداً تأكيده بالتزام الدول الأعضاء كافة بأمنها وسلامتها، واستقلالها السياسي، واضعا نصب عينيه تقرير السكرتير العام المرقم 22366 / س، والمؤرخ في 30 آذار 1991 يقرر:
1ـ يدين مجلس الأمن عمليات القمع التي يعانيها السكان المدنيون العراقيون في أنحاء كثيرة من البلاد، وقد شمل في الأيام الأخيرة المناطق الكردية المأهولة، وإن ذلك يؤدي إلى تهديد الأمن والسلام الدوليين في المنطقة.
2ـ  يطلب بأن يقوم العراق على الفور، كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن الدوليين في المنطقة، بوقف هذا القمع، ويعرب عن الأمل في السياق نفسه في إقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الإنسان، والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين.
3 ـ يصر على أن يسمح  العراق بوصول المنظمات الإنسانية  الدولية على
الفور إلى جميع من يحتاجون المساعدة في جميع أنحاء العراق، ويوفرجميع التسهيلات اللازمة لعملياتها.
4ـ يطلب إلى الأمين العام أن يواصل بذل جهوده الإنسانية في العراق، وان يقدم على الفور، وإذا اقتضى الأمر على أساس أيفاد بعثة أخرى إلى المنطقة، تقريراً عن محنة السكان المدنيين العراقيين، وخاصة السكان الأكراد، الذين يعانون من جميع أشكال القمع الذي تمارسه السلطة العراقية.
5ـ يطلب كذلك إلى الأمين العام أن يستخدم جميع الموارد الموجودة تحت تصرفه  بما فيها موارد وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة، للقيام على نحو
 عاجل بتلبية الاحتياجات الملحة للاجئين، وللسكان العراقيين المشردين.
6ـ يناشد جميع الدول الأعضاء، وجميع المنظمات الإنسانية أن تسهم في جهود الإغاثة الإنسانية.
 7ـ يطالب العراق بأن يتعاون مع الأمين العام من أجل تحقيق هذه الغايات.                                                                             8 ـ يقرر إبقاء المسالة قيد النظر.  (1)                                          
نظرة في قرار مجلس الأمن رقم 688:
 بقراءة متأنية لبنود هذا القرار، نجد انه قد ركز في أغلبه على المنطقة الشمالية من العراق ذات الأغلبية الكردية،  بينما مرّ مرور الكرام على معانات المناطق الجنوبية والوسطى من العراق، من أساليب القمع الوحشية التي تعرض لها السكان، أبان الانتفاضة وبعدها، وخاصة الشيعة منهم .
 ولم تحاول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين فرض تنفيذ هذا القرار كما فرضوا على النظام العراقي تنفيذ القرارات السابقة المتعلقة بمصالحهم في المنطقة، فمصلحة الشعب العراقي ليست في قائمة مصالحهم واهتماماتهم، ولذلك فقد بقيت بنود هذا القرار حبراً على ورق، شأنها شأن القرارات التي أصدرها مجلس الأمن لسنوات عديدة ضد إسرائيل، ولم تنفذ منها شيئاً.
وبقي الشعب العراقي يعيش حياة بائسة في ظل الحصار الأمريكي على العراق، يفتقد الغذاء والدواء، جراء الحصار الجائر، وجراء انهيار العملة العراقية، وفقدانها للقوة الشرائية حيث تراجعت قيمته الحقيقية 10000 مرة، فبعد أن كان الدينار يعادل 3،3 دولار بات الدولار الواحد يعادل 3000 دينار، وفي الوقت الذي كان الشعب العراقي يعاني مرارة الجوع كان الدكتاتور صدام حسين  يرفض القبول بقرار مجلس الأمن المتعلق بيع النفط العراقي مقابل الغذاء والدواء، واستمر في رفضه خمس سنوات أوصلت الشعب العراق إلى المجاعة دون أن تتخذ الولايات المتحدة، ولا مجلس الأمن، أية إجراءات لإجبار صدام على إطعام الشعب العراقي الجائع، و إن كل الذي فعلته الولايات المتحدة هو إصدار القرارين التاليين:
القرار الأول:
 يحدد الأول المنطقة الواقعة شمال الخط 32 من شمال العراق، منطقة آمنة، تحميها الطائرات الأمريكية والبريطانية المرابطة في تركيا، والمسماة  [كومفورت بروفايد] ومنعت الجيش العراقي من دخولها، وبذلك تسنى للمواطنين الأكراد الانفصال عن الجسد العراقي تحت الحماية الأمريكية والبريطانية.
 لقد اتصف رد صدام حسين على ذلك الإجراء بالغباء، وكان أشد ضرراً على وحدة العراق أرضاً وشعبا، فقد أقدم على سحب الموظفين والأجهزة الإدارية، وأساتذة الجامعة من المنطقة، وقطع الطاقة الكهربائية عن محافظة دهوك، وفرض على المنطقة حصاراً داخلياً، مما عزز نزعة الانفصال لدى القيادات الكردية والمواطنين الأكراد.
  فقد جاء رد الفعل الكردي على إجراءات صدام بإجراءات تصب في خانة الانفصال التام، حيث تم إجراء انتخابات برلمانية في المنطقة الكردية، كما جرى تشكيل حكومة كردية.
 القرار الثاني:
كان القرار الثاني يتعلق بسكان الجنوب الشيعة، فقد تضمن منع طائرات سلاح الجو العراقي ـ عدا الطائرات المروحيةـ  من الطيران فوق المنطقة الممتدة جنوب الخط 38، ولاشك أن هذا القرار يخدم مصالح الولايات المتحدة من حيث الأساس، ولم يغير شيئاً من حملات القمع ضد الشعب العراقي في الجنوب.
 فصدام لا يحتاج لعملياته القمعية في الجنوب إلى الطائرات الحربية، فلديه ما يكفيه من قوات الحرس الجمهوري، ومن الأسلحة الثقيلة، ما يستطيع فيه قمع الشعب في هذه المنطقة من العراق، والحقيقة إن الولايات المتحدة استهدفت من هذا القرار إبعاد الطائرات العراقية عن منطقة الخليج، وطمأنة حكام الكويت.
وفي واقع الحال فإن الولايات المتحدة هي التي سمحت لصدام بقمع الانتفاضة الشعبية، وسهلت لقوات الحرس الجمهوري العبور، وسمحت له باستخدام كافة الأسلحة المتوفرة لديه لقمع وتصفية الانتفاضة، والإبقاء على نظام صدام في السلطة، والحيلولة دون وقوع العراق فريسة بيد النظام الإيراني وذراعهم في العراق، والمتمثل بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وذراعها العسكري منظمة بدر الممولة والمسلحة والمدربة إيرانيا.

الطالباني والبارزاني يفاوضان نظام صدام
بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 688، في 5 نيسان 1991، وقرار الولايات المتحدة بإقامة منطقة حماية للأكراد في المنطقة الواقعة شمال خط العرض 38، ورضوخ نظام صدام للقرار، وبعد المعانات الشديدة  للشعب الكردي من آثار الحصار العراقي على المنطقة، ظهرت دعوات بين صفوف القيادات الكردية تدعو للتفاوض مع النظام على أساس بيان 11 آذار 1970، ولاسيما بعد أن عجزت الانتفاضة عن تحقيق ما كان يصبو
إليه الأكراد.
ورأى النظام العراقي أن يستغل هذه الدعوات في محاولة منه لإعادة سيطرته على المنطقة، فأرسل إشارات إلى القيادات الكردية، عن طريق برزان التكريتي ـ أخو صدام غير الشقيق ـ أعرب لهم فيها عن استعداد الحكومة للتفاوض مع القيادات الكردية.
وجاء الرد من القيادات الكردية على دعوة برزان التكريتي سريعاً، بالموافقة على أجراء المفاوضات، دون الرجوع إلى ما كان يدعى بلجنة العمل الوطني المشترك للمعارضة العراقية!!، وتحفظ بعض القوى المنضوية تحت لواء جبهة الأحزاب الكردستانية.(2)
ففي 12نيسان 1991 توجه وفد كردي من الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، على مستوى أعضاء اللجنة المركزية إلى بغداد، وأجرى الوفد مباحثات مطولة حول مستقبل المنطقة الكردية، ومسألة تطبيق الحكم الذاتي الحقيقي.
 اعتبر ذلك الاجتماع تمهيداً لاجتماع جديد وتقرر أن يكون الوفد على أعلى مستوى لبحث كافة الأمور المتعلقة بتطبيق اتفاقية 11 آذار 1975، وطلبت حكومة صدام حضور كل من السيد مسعود البارزاني، والسيد جلال الطالباني إلى بغداد.(3)
وبعد أسبوع توجه إلى بغداد وفد برئاسة جلال الطالباني، الذي التقى بصدام حسين، وطلب صدام من القيادات الكردية أن تقدم مشروعا مفصلاً، وكاملاً، ودقيقاً يتضمن مطالبها.
وعاد جلال الطالباني إلى أربيل، وتم عقد اجتماع لكافة القيادات الكردية لتدارس نتائج اللقاء الذي تم بين صدام حسين وجلال الطالباني، ووضع مشروع جديد حول إقامة حكم ذاتي حقيقي للمنطقة الكردية، لتقديمه لنظام صدام، وتضمن المشروع البنود التالية: (4)
1ـ  يتم تطبيق الحكم الذاتي الذي نص عليه اتفاق 11 آذار 1970، مع ضم محافظة كركوك لمنطقة الحكم الذاتي.
2 ـ  إطلاق سراح السجناء السياسيين في جميع السجون العراقية كافة.
3ـ  تسهيل عودة جميع اللاجئين الأكراد، بالتعاون مع الأمم المتحدة، ومنظمات غوث اللاجئين.
4ـ  اعتماد التعددية السياسية والديمقراطية في العراق، وأجراء انتخابات حرة ونزيهة لانتخاب مجلس تأسيسي، ووضع دستور دائم للبلاد.
5ـ  ينبغي أن يتم ضمان الاتفاق بواسطة أطراف دولية عبرالأمم المتحدة ويمكن أن تشمل هذه الضمانات مشاركة طرف ثالث في تلك المفاوضات، وتوجه بعد ذلك وفد كردي عالي المستوى ضم كل من:

1 ـ جلال الطالباني ـ زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني.
2ـ سامي عبد الرحمن ـ سكرتير عام حزب الشعب الديمقراطي.
3 ـ رسول مامند ـ سكرتير عام الحزب الاشتراكي.
4ـ  نتشيرفان البارزاني ـ نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني.
5 ـ عمر فتاح ـ قائد الجناح العسكري للحزب الديمقراطي الكردستاني.
6ـ فاضل مصطفى ـ عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي.
7ـ عمر عثمان ـ عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي.  
8ـ فريدون عبد القادرـ عضو المكتب السياسي للاتحاد الوطني.
أما الوفد العراقي فقد تالف من كل من:
1 ـ صدام حسين ـ وقد شارك في اجتماع يومي 21، 22 نيسان.
2 ـ عزت إبراهيم الدوري ـ نائب رئيس مجلس قيادة الثورة.
3 ـ طه ياسين رمضان ـ نائب رئيس الجمهورية.
4 ـ سعدون حمادي ـ رئيس الوزراء.
5 ـ حسين كامل حسن المجيد ـ وزير الدفاع.
6 ـ علي حسن المجيد ـ وزير الداخلية.

وقد جرت المباحثات بين الوفدين حول المشروع المقدم من الطرف الكردي، مساء يوم 21 نيسان بحضور صدام حسين  الذي تحدث في الاجتماع عن أهمية الروابط الوثيقة بين القوميتين العربية والكردية، واعترف صدام بأنه أخطأ في سياسته تجاه الأكراد، وأعلن عن التزامه بإجراء انتخابات عامة، والمحافظة على التعددية السياسية، وحرية الصحافة، لكنه رفض القبول بمطالب القيادات الكردية حول ضم محافظة كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي، والبند الخامس المتعلق بالضمانات الدولية.
عاد الوفد الكردي بعد نهاية المحادثات إلى أربيل للتشاور، ثم عاد بعد أيام إلى بغداد مرة أخرى لمناقشة المسائل المختلف عليها مع حكومة صدام.                                                                                                                                                    
 ولكن المحادثات لم تصل إلى أي نتيجة، وباءت تلك المحاولات بالفشل، وعاد الوفد الكردي إلى أربيل، وقد بدا واضحاً أن هناك العديد من نقاط الخلاف بين الطرفين وكان أبرزها:
1ـ رفض نظام  صدام أن تشمل الضمانات المطلوبة من الجانب الكردي مشاركة طرف ثالث في المفاوضات لحل الخلاف حول تحديد مناطق الحكم الذاتي، كما رفض النظام رفضاً قاطعاً ضم محافظة كركوك إلى منطقة الحكم الذاتي.
2ـ إصر نظام صدام على عودة أجهزة الأمن والاستخبارات إلى منطقة الحكم الذاتي، ومعاودة نشاطها من جديد، وقد رفض الجانب الكردي ذلك.
3ـ أصر نظام صدام على عدم السماح بالنشاط السياسي في صفوف الجيش لغير حزب البعث، وقد قدم الجانب الكردي اقتراحاً بأبعاد الجيش عن الحزبية، إلا أن صدام رفض الاقتراح كذلك.
4ـ استمرار الخلاف حول مسألة الديمقراطية والحريات العامة، فقد طالب
الوفد الكردي بإطلاق حرية الأحزاب السياسية، وحرية الصحافة، وأجراء انتخابات حرة ونزيه لانتخاب مجلس تأسيسي يقوم بوضع دستور دائم للبلاد، وتشكيل محكمة دستورية عليا، وإشاعة الديمقراطية في البلاد. (5)
وكان النظام العراقي يراوغ حول هذا الموضوع، ويحاول إقامة مؤسسات صورية خاضعة لأشرافه ونفوذه، ولم يكن جاداً في تحقيق الديمقراطية في البلاد.
وإثر فشل المحادثات بين الطرفين، بدأ النظام بممارسة الضغوط على المنطقة الكردية من جديد ، حيث فرض حصاراً اقتصادياً عليها، وسحب الإدارة المدنية والموظفين، وقطع الرواتب عن الموظفين والعمال الأكراد، وقطع الطاقة الكهربائية عن محافظة دهوك، وقطع جميع الاتصالات مع منطقة كردستان.
لقد كان واضحاً منذُ البداية أن المفاوضات لا يمكن أن تنجح بين نظام  أوغل في جرائمه بحق الشعب العراقي، عرباً وأكراداً وسائر القوميات الأخرى على حد سواء، وبين سلطة قيادات قومية كردية وجدت نفسها على حين غرة مستقلة عن سلطة حكومة صدام حسين، تحت الحماية الأمريكية والبريطانية.
وكان واضحاً بأنه حتى لو تم  توصل نظام صدام مع الوفد الكردي إلى أي اتفاق، فلن يكون إلا اتفاقاً مرحلياً اضطرته ظروفه الصعبة إلى قبوله، وعندما تتحسن ظروفه يسارع للتنصل من الاتفاق، ويبدأ بالتنكيل من جديد بالشعب الكردي، فنظام من هذا النوع لا يمكن أن يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
القيادات الكردية تعود إلى لجنة العمل الوطني!
بعد أن فشلت المحادثات مع نظام صدام عادت القيادات الكردية إلى أحياء التعاون المشترك مع لجنة العمل الوطني للمعارضة العراقية، حيث وجه السيد مسعود البارزاني والسيد جلال الطالباني رسالة إلى قيادة لجنة العمل الوطني المشترك داعياً إياهم إلى عقد مؤتمر وطني في مصيف شقلاوة  بكردستان، لغرض مناقشة كل جوانب القضية العراقية، بما في ذلك المفاوضات التي أجرتها القيادة الكردية مع النظام، وسبل أعادة اللحمة بين أطراف لجنة العمل الوطني، والعمل المشترك. وقد أكدت قيادة أحزاب الجبهة الكردية أنها بصدد أجراء مناقشة نقدية، بعد أن وصلت المفاوضات مع نظام صدام حسين إلى طريق مسدود، والإجراءات التي اتخذها النظامضد الشعب بعربه وأكراده وسائر أطيافه الأخرى. (6)
كما اعترفت القيادة الكردية بأن المفاوضات قد أضرّت ليس فقط بالقضية الكردية، بل بقضية الشعب العراقي بكل مكوناته، حيث أصيبت الوحدة الوطنية بالتصدع جراء انفراد القيادات الكردية دون الرجوع إلى ما كان يسمى بـ [جبهة العمل الوطني] التي ضمت أحزاب المعارضة العراقية مؤكدين العودة إلى الطريق الصحيح في التعامل مع النظام العراقي، وادعت القيادات الكردية أن صدام قد تعمد خداع القيادة الكردية، وانه غير جاد في مفاوضاته معها!!.
 تلقت الأمانة العامة للجنة العمل الوطني المشترك رسالة البارزاني، والطالباني على مضض،  ووعدت بدراستها والرد عليها، وأكدت أيمانها بضرورة مواصلة العمل المشترك لكل فصائل المعارضة العراقية، وعدم السماح للخلافات التي ظهرت أثناء المفاوضات التي جرت بين القيادات الكردية ونظام صدام أن تؤثر على مستقبل التحالف الوطني، وجهوده من أجل قيام نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد.(7)
 وتقرر أن تعقد الأمانة العامة للجنة العمل المشترك اجتماعاً طارئاً لمناقشة الموقف الحالي، ووضع التزام محدد لكافة فصائل المعارضة، تتعهد بالعمل به، حرصاً على وحدة الصف الوطني، ومن أجل قهر الدكتاتورية، وإقامة البديل الديمقراطي التعددي، الضمانة  الأكيدة لحقوق الشعب العراقي بكل مكوناته العرقية.

انسحاب القوات الأمريكية والحليفة من العراق
بعد أن أستتب الأمر لنظام صدام، وتم قمع الانتفاضة الشعبية بتلك الصورة الوحشية، بدأ صدام يركز جهوده لترميم نظامه، وتثبيت حكمه، وإعادة تنظيم جيشه، بعد كل الذي حدث إبان الانتفاضة، وانضمام أعداد كبيرة من الجنود والضباط إلى صفوف الانتفاضة، حيث جرى تصفية كل العناصر المشكوك في ولائها للنظام .
كانت القوات الأمريكية تراقب بحذر واهتمام، عودة الأمور إلى حالها قبل قيام الانتفاضة، وبعد أن تأكد لها إمساك صدام حسين بزمام الأمر من جديد، بادرت في 7 أيار 1991 إلى الانسحاب من الأراضي العراقية التي احتلتها في جنوب العراق  تاركة لصدام قوة عسكرية كبيرة من حرسه الجمهوري، معززين بمختلف أنواع الأسلحة، لكي يستطيع الحفاظ على نظامه أمام الإخطار المحدقة به، سواء من جانب الشعب العراقي، أو من جانب إيران التي خاض صدام حسين ضدها حرباً دامية استمرت 8 سنوات، وخلفت وراءها ما خلفت من العداء والكراهية.
 فالولايات المتحدة تخشى أن يصبح العراق لقمة سائغة في حلوق حكام طهران، كما خشيت من قبل أن تصبح إيران لقمة سائغة في حلق صدام إبان حرب الخليج الأولى، لكي لا يصبح النفط العراقي أو الإيراني تحت سيطرة أحد النظامين، بما يملكان من إنتاج هائل، حيث تمثل إيران ثاني دولة منتجة في منطقة الخليج، ويأتي العراق في المرتبة الثالثة، هذا بالإضافة إلى ما يملكه البلدان من خزين احتياطي هائل في أعماق الأرض.
 إن كل ما قاله الجنرال الأمريكي [شواردزكوف] حول تحطيم الجيش العراقي تماماً، وقدر ما تبقى من ذلك الجيش بأنه لا يعدو أن يكون أكثر من فرقتين أو ثلاث كان غير صحيح، فقد تبين بعد نهاية الحرب أن ما يزيد على 20 فرقة، أغلبها من قوات الحرس الجمهوري الموالية لنظام صدام قد خرجت سالمة، وقيل آنذاك أن الولايات المتحدة أرادت إبقاء هذه القوات العسكرية لصدام، لكي تشعر حكام الخليج بأن نظام صدام لا يزال يشكل تهديداً لتلك الأنظمة، لكي تبقى الذريعة للولايات المتحدة لبقاء قواتها وأساطيلها الحربية في المنطقة لأمد طويل، ولكي تضغط على هذه الدول لشراء الأسلحة والمعدات الحربية، وتستنزف مواردها الاقتصادية في التسلح.
 كان حكام السعودية وبقية دول الخليج غير راضين على الصورة التي انتهت بها الحرب، وبقاء صدام حسين ونظامه كسيف مسلط على رقابهم، حتى أن ولي العهد الكويتي، ورئيس الوزراء قال لوزير الدفاع الأمريكي ديك تشيني: {إنكم قد قطعتم ذيل الأفعي، ولكن الأفعى لن تموت بقطع ذيلها، وإنما بقطع رأسها}.
 وهكذا بقي نظام صدام كابوساً يؤرق نوم حكام الكويت، فهم لا يمكن أن يشعروا بالراحة مع وجود صدام على رأس النظام في العراق، إلا أن ما تريده الولايات المتحدة ليس بالضبط ما يريده حكام الكويت، فمصلحة الولايات المتحدة فوق كل اعتبار.

تحول منطقة كردستان ساحة للصراع الإقليمي
أصبحت منطقة كردستان بعد هزيمة نظام صدام في حرب الخليج الثانية، وإعلان الولايات المتحدة ما دعته [كومفورت بروفايد] لحماية الأكراد من بطش الحرس الجمهوري لصدام مسرحاً للصراع  الإقليمي، ومما ساعد في تصاعد ذلك الصراع اتخاذ المنطقة مسرحاً لنشاط الحزب الديمقراطيالكردستاني الإيراني، وحزب العمال الكردستاني في جنوب تركيا.
 كما ساعد في ذلك التناحر المسلح بين الحزبين القوميين الذين تقاسما السلطة في المنطقة،[حدك] و[ أوك]، وتحالف أوك مع إيران، و تحالف حدك مع تركيا.
وهكذا وجدنا تركيا تدفع بقواتها العسكرية إلى شمال العراق مرات عديدة، بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردي أو لمساعدة حزب البارزاني [حدك]، وتارة أخرى تدفع إيران بقواتها داخل الأراضي العراقية، بحجة ملاحقة الثوار الأكراد، في إيران، أو لمساعدة حزب الطالباني [ أوك]، مستغلين تكبيل العراق بقيود الحصار الذي فرضه مجلس الأمن منذُ أقدم صدام حسين على غزو الكويت، والهزيمة الكبرى التي لحقت بالعراق في حرب الخليج الثانية.
 ولاشك أن الشعب الكردي كان هو الضحية، كلما حدث اجتياح تركي، أو إيراني، حيث تتعرض القرى الآمنة للقصف المدفعي، وقصف الطائرات، وحيث يقع العديد من الضحايا في صفوف المدنيين، وحيث تتعرض أموالهم وممتلكاتهم للنهب، والتدمير.
ولاشك أن تركيا كانت ولا تزال لها أطماع قديمة في ولاية الموصل، والتي تشمل كامل ولاية الموصل التي تضم [ الموصل وكركوك وأربيل والسليمانية ودهوك]، حيث سعت جهدها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى للاستحواذ عليها، وساومت بريطانيا الحكومة العراقية، وخيرتها بين فقدان ولاية الموصل أو التوقيع على امتياز النفط، واضطرت الحكومة العراقية على الرضوخ  للمطالب البريطانية من أجل الحفاظ  على ولاية الموصل.
لقد أسفر الرئيس التركي الراحل [توركت أوزال] عن أطماع تركيا هذه عندما صرح في تموز عام 1995 قائلاً:{ إن ولاية الموصل هي ولاية تركية}.أما وزيرة الخارجية التركية آنذاك فقد صرحت أن تركيا تعتزم إنشاء منطقة حزام أمني داخل الأراضي العراقية، على غرار الحزام الأمني الإسرائيلي في جنوب لبنان.
ومن الجدير بالذكر أن نظام صدام كان قد عقد اتفاقاً مع الحكومة التركية في الثمانينات، يسمح بموجبه للقوات التركية بالتوغل في الأراضي العراقية بحجة مطاردة المتمردين الأكراد، وهكذا استمرت القوات التركية باجتياح الأراضي العراقية كلما شاءت، دون أي احترام لسيادة واستقلال العراق، بفضل سياسة نظام صدام.

ملاحظة: التوثيق في نهاية الكتاب لكل الحلقات
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com







351
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة الثانية عشرة

حامد الحمداني                                                         3/8/2009

الهجوم البري الخاطف [ حرب الـ 100 ساعة]

وفي24 شباط بدأت القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها هجومها البري على القوات العراقية  تحت وابل من قذائف المدفعية والدبابات، لم يعرف العالم لها مثيلاً من قبل، منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت الطائرات الحربية تركز هجماتها على القوات العراقية التي خرجت من مكامنها واستحكاماتها، لتصب عليهم حمما من القنابل الفتاكة، هي أحدث ما أنتجته مصانع الولايات المتحدة الحربية.
كان صدام حسين، قبل نشوب الحرب البرية قد وضع في حساباته أن الولايات المتحدة ستهاجم على جبهتين، الجبهة الأولى تنطلق من الأراضي السعودية حيث جرى تجميع القوات الأمريكية والحليفة هناك ، والجبهة الثانية من البحر، حيث تقوم قوات المارينز بإنزال بحري على شواطئ الكويت، وبالفعل قامت القوات الأمريكية بمحاولة تضليلية، لتشعر القوات العراقية بأنها تنوي القيام بإنزال على شواطئ الكويت، وكان النظام العراقي قد ركز الكثير من قواته وأسلحته على طول تلك الشواطئ، لكن تلك المحاولة لم تكن سوى خدعة، وإشغال للقوات العراقية، وعزلها عن الميدان الحقيقي للمعركة.
 فقد كانت خطة الولايات المتحدة وحليفاتها بريطانيا وفرنسا هو مهاجمة العمق العراقي من داخل الأراضي السعودية، والقيام بحركة التفافية لتطويق القوات العراقية في الكويت وجنوب العراق، والإجهاز عليها.
وبالفعل بدأت قوات التحالف بالتقدم نحو الحدود العراقية، مستخدمة أحدث طراز من الدبابات التي لم تستخدم من قبل، وهي من طراز A 1  و M 1 ، والتي يبلغ مدى نيرانها أبعد من أحدث الدبابات التي يملكها العراق، وهي من طراز T72، وهكذا كان بوسع الدبابات الأمريكية إصابة أهدافها بسهولة، دون أن تصيبها القذائف العراقية، واستطاعت تلك القوات من التقدم داخل جنوب العراق.
وهكذا اضطر صدام  إلى أصدار أمرٍ لقواته بالانسحاب من الكويت، والعودة نحو الأراضي العراقية، وانتهزت القوات الأمريكية والحليفة هذا القرار لترسل طائراتها، كي تصب حممها على تلك القوات المنسحبة، منزلة بها أقصى ما تستطيعه من الخسائر البشرية، وتدمير المعدات الحربية.
لقد كانت تلك العملية جريمة نكراء بحق الجيش العراقي المنسحب، دون أي مبرر فقد امتلأت الصحراء بجثث الجنود العراقيين، وكانت الآليات العسكرية تسير على تلك الجثث، في الطريق المؤدي إلى البصرة، في جنوب العراق، حيث كانت الطائرات المغيرة تلاحق الجنود المنسحبين بنيرانها الكثيفة، دون وازع أخلاقي.
 إن هذا العمل إن دل على شئ فإنما يدل على همجية الحضارة التي تدعيها الولايات المتحدة، واستهانتها بكل القوانين والأعراف الدولية والأخلاقية، فهي لا تتوانى عن أي عمل مهما كان، إذا كان ذلك العمل يخدم مصالحها الإمبريالية، حتى ولو اقتضى ذلك إبادة الشعوب، فالمهم أن تبقى مصالحها سالمة، وتمتلئ جيوب كبار أصحاب الشركات الرأسمالية بما تنهبه من ثروات الشعوب.

هزيمة نظام صدام، وتوقف الحرب

لم تدم الحرب البرية سوى 100 ساعة فقط، ليفاجئ الرئيس الأمريكي بوش العالم  يوم 28 شباط1991 بقراره وقف العمليات الحربية، بعد أن وافق صدام حسين على القبول بكل الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة عليه، مهما كانت تلك الشروط الأمريكية، فالمهم بالنسبة لصدام هو بقاء نظامه، وبقاءه على رأس النظام الذي أوصل العراق وشعبه إلى هذه الكارثة المخيفة والمرعبة.
وتقرر على الفور أن يعقد الجنرال شواردزكوف وكبار قادته العسكريين، مع كبار الضباط لعراقيين الذين أنتدبهم صدام برئاسة [الفريق سلطان هاشم]، ومعهم توجيهات من صدام بأن لا يرفضوا أي طلب للجنرال شواردزكوف، وليعلنوا استعداد العراق لتنفيذ كل ما تطلبه الولايات المتحدة من العراق.
 أما  شروط بوش لوقف الحرب فقد كانت التالية:
1 ـ تدمير جميع أسلحة الدمار الشامل العراقية من صواريخ بعيدة المدى والأسلحة الكيماوية والبيولوجية، والمفاعل النووي.
2ـ قيام النظام العراقي بتقليص عدد قواته العسكرية، ومنع تسلحه من جديد.
3ـ قيام فرق التفتيش التي سيعينها مجلس الأمن لغرض إجراء تفتيش دقيق وشامل عن كل الأسلحة العراقية ذات الدمـار الشامل، وتدمير كـل المنشآت، وكافة المصانع العسكرية الخاصة بها.
 4ـ تسليم كل الوثائق المتعلقة ببرامج التسلح العراقي منذُ عام 1980وحتى هذا التاريخ.
 5 ـ عدم وضع العراقيل أمام فرق التفتيش للوصول إلى أي بقعة من البلاد
للتأكد من تدمير كل الأسلحة المطلوب تدميرها، ومصانعها ومخازنها.
6ـ وضع نظام للمراقبة المستمرة، عن طريق نصب كامرات حساسة ودقيقة في كافة المصانع الحربية للتأكد من أن النظام العراقي لا يخالف الشروط التي تم بموجبها وقف إطلاق النار.
7ـ إقرار النظام العراقي بدفع تعويضات الحرب، والتي تبلغ أرقاماً خيالية.
8 ـ استمرار الحصار الاقتصادي على العراق، واستمرار تجويع الشعب العراقي إلى أن يتم تنفيذ كافة قرارات مجلس الأمن الدولي. (3)
كان استمرار الحصار، في واقع الأمر، يعني استمرار الحرب ضد الشعب العراقي، وليس ضد نظام صدام، وبأبشع صورها وإشكالها، فحرب التجويع بلا أدنى شك هي أسوأ أشكال الحروب التي عرفتها البشرية وأكثرها وحشية، حيث يفتقد الشعب العراقي الغذاء والدواء منذُ أن تم فرض الحصار في 2 آب 1990 واستمر ذلك الحصار حتى سقوط النظام في التاسع من نيسان عام 2003 على أيدي الجيوش الأمريكية والبريطانية.
 فقد كان مجلس الأمن يجدد الحصار كل شهرين، بحجة عدم تنفيذ النظام العراقي لشروط وقف إطلاق النار، ولم يكُن الشعب العراقي المنكوب بحكامه وبالولايات المتحدة  يدري متى تقرر الولايات المتحدة أن العراق قد نفذ تلك الشروط لترفع عنه الحصار.

لقد خلق ذلك الحصار المجرم وضعاً مأساوياً في العراق لا يمكن تصوره، ومهما حاول المتتبعون لتلك الأوضاع الكتابة عنها، فأن أقلامهم تعجز عن وصف تلك المأساة.
لقد انهارت العملة العراقية حتى وصلت قيمة الدولار الواحد إلى 3000دينار، بعد أن كانت قيمته أقل من ثلث الدينار الواحد، وتدهورت القوة الشرائية للمواطنين من الطبقات المتوسطة والفقيرة إلى ما يقارب الصفر، بل لقد زالت الطبقة الوسطى من الوجود، وتحولت إلى طبقة فقيرة معدمة.
 وحتى الطبقة الغنية، فقد نالت نصيبها من تدهور الوضع الاقتصادي، فلقد أصاب الحصار بناره كل أبناء الشعب العراقي  ما عدا فئة من أزلام صدام ومريديه الذين اثروا على حساب جوع وشقاء الشعب العراقي، حيث يتاجرون بقوته، ويرفعون الأسعار كل يوم، بل كل ساعة، دون وازع أخلاقي.
إن ما يزيد على 4500 طفل عراقي كان يموت كل شهر، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، وفي واقع الحال فإن هذا الرقم هو أقل بكثير من الرقم الحقيقي، جراء فقدان الغذاء والدواء.
 فقد أشار تقريرمنظمة الأغذية الدولية والزراعة الدولية التابع للأمم المتحدة إلى أن أكثر من مليون مواطن عراقي ماتوا جراء الحصار منذ عام 1990وحتى عام 1995، ومن بينهم 567 ألف طفل دون الخمس سنوات، وأن  أكثر من 4 ملايين عراقي معرضين للموت جوعاً إذا ما استمر الحصار.(4)
أما منظمة الصحة العالمية فقد ذكرت في تقريرها الصادر في آذار 1996 أن معدل الوفيات بين الأطفال قد ارتفع إلى أربعة أضعاف .(5)
لقد وصفت منظمة [ أصوات في البرية الأمريكية]في رسالة ساخرة بعثت بها إلى الرئيس بوش لدى زيارتها لمستشفيات الأطفال في العراق تقول فيها التالي: { لقد اكتشفنا أن أسلحة الدمار الشامل موجودة هنا في مستشفيات العراق حيث يموت مئات الأطفال كل يوم بسبب الحصار. (6)
ولا بد من العودة لحديث الرئيس الأمريكي [ ودرو ويلسن] في وصفه للحصار حيث قال{الحصار هو الدواء الساكت القاتل}(7)
ورغم كل ما قيل، وما كتب، ورغم كل التقارير الرسمية وغير الرسمية عن الوضع المأساوي للشعب العراقي، فإن الضمير الأمريكي بوجه خاص، والغربي بوجه عام لم تهزه كل تلك التقارير، فشعب العراق لا يعنيهم أبداً، والمهم هو تأمين مصالحهم الإمبريالية في منطقة الخليج، حتى ولو مات الشعب العراقي جوعا، أو مرضاً.
إن كل ادعاءات الرئيس الأمريكي بوش في خطاباته، من أن مشكلة الولايات المتحدة هي مع نظام صدام، وأن ليس لها مشاكل مع الشعب العراقي، وانه لا يكن للشعب العراقي العداء، لم يكن سوى محض افتراء ونفاق، ومحاولة خدع الرأي العام العالمي.
 فقد اثبت الأيام، بعد انتهاء الحرب، أن صدام حسين قد نجا من العقاب، واستمر نظامه المسلط على رقاب الشعب، بل ودعمته الولايات المتحدة عندما قام الشعب العراقي بانتفاضته ضد النظام في 1 آذار 1991، بعد توقف الحرب مباشرة، ومكنته من سحب قواته المحاصرة جنوب العراق لضرب وقمع الانتفاضة، مستخدماً كل ما لديه من أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة الكيماوية والصواريخ والدبابات والمدفعية.
فلم يكن في نية الولايات المتحدة إسقاط نظام صدام، بل أرادت إذلال الشعب العراقي وتجويعه، وإفراغ العراق من كوادره العلمية التي أخذت تهرب بالآلاف من جحيم العراق، حيث يقدر عدد الذين هجروا العراق، وانتشروا في بقاع الدنيا أكثر من ثلاثة ملايين عراقي.
لقد أدى صدام حسين الدور الموكول له، وتنازل عن سيادة العراق واستقلاله، وأباح للإمبرياليين كل إسرار البلاد، وترك رجال مخابراتهم يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها، وترك أبناء الشعب العراقي فريسة للجوع والمرض، فالمهم أن يبقى نظامه، ويبقى هو على رأس النظام.
الانتفاضة الشعبية ضد نظام صدام:

لم تكن انتفاضة الأول من آذار 1991 ضد نظام صدام وليدة ساعتها أبداً، بل كانت تلك الانتفاضة نتاج تراكمات هائلة لمعاناة الشعب العراقي من الحكم الدكتاتوري الذي مارس منذُ مجيئه إلى الحكم عام 1968 أبشع أساليب التنكيل والاضطهاد، ومصادرة حقوق وحريات الشعب، حيث لم يمضِِ يوم واحد دون أن يلطخ صدام حسين وجلاديه أيديهم بدماء الوطنيين من أبناء الشعب، لكي يقمع أية معارضة للنظام الحاكم، ولسياسته المعادية لمصالح الوطن.
ولم تسلم أية قوة سياسية من بطشه، بدءاً بالشيوعيين والديمقراطيين، وانتهاءً بالقوميين والإسلاميين، بل لقد جاوز صدام حسين كل ذلك ويبطش بمعظم قيادات حزبه كذلك.
لقد سنّ صدام القوانين الجائرة، التي تبيح له إعدام كل من انتمى إلى أي حزب سياسي، دون حزبه، لكي يخلو له الجو لفرض دكتاتوريته على الجميع، ولكي يصبح حر اليدين في اتخاذ كل القرارات الخطيرة التي تتعلق بمصير الشعب والوطن، فكان أن أقدم على شن الحرب ضد الجارة إيران، بالنيابة عن الولايات المتحدة، وبتخطيط منها، ودفع خلالها الشعب العراقي دماء غزيرة لمئات الألوف من خيرة شبابه، هذا بالإضافة إلى تدمير اقتصاد البلاد، واستنزاف ثرواتها، وإغراقها بالديون.
وما كاد الشعب العراقي يجر أنفاسه، ليعود إلى الحياة الطبيعية، حتى فاجأه صدام حسين بجريمة أخرى، بإقدامه على غزو الكويت، والتنكيل البشع بأبنائها، ونهب كل ما امتدت إليه يد النظام من أموال وممتلكات الدولة الكويتية، وأبناء الشعب الكويتي على حد سواء.
ووجدت الولايات المتحدة ضالتها المنشودة في إقدام صدام على غزو الكويت، لتنزل قواتها، وطائراتها الحربية في السعودية، ولتملأ الخليج بأساطيلها الحربية، بالتعاون مع حلفائها الغربيين، بغية توجيه ضربة قاصمة للعراق، مستخدمة كل الوسائل العسكرية المتاحة لها، ومن أحدث ما أنتجته مصانعها من تكنولوجيا الأسلحة، لتنزل أقصى ما يمكن من الدمار بالبنية الاقتصادية والعسكرية للعراق، وإلحاق أبلغ الأذى بالشعب العراقي، وفرض الحصار الاقتصادي عليه لتجويعه وإذلاله، وإفراغ العراق من كوادره وعلمائه، والعودة به خمسون عاماً نحو الوراء.
ثم أوقفت الولايات المتحدة الحرب في 28 شباط 1991، بعد أن أبدا صدام حسين كامل استعداده لتنفيذ كل ما تطلبه الولايات المتحدة، لقاء بقاء نظامه، وبقاءه هو على رأس النظام .
لقد ورط صدام جيشه وشعبه ووطنه في حرب كانت نتائجها محسومة سلفاً لصالح الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، أصرّ على البقاء في الكويت، وبدا الأمر وكأن صدام يريد حقاً إنزال الكارثة بشعبه ووطنه، فلم يشك اثنان في عدم قدرة صدام على الصمود بوجه أعتا وأقوى الدول الإمبريالية، بما تملكه من أفتك أنواع الأسلحة، وأشدها تدميراً.
وهكذا وقعت الواقعة، وحلت الكارثة التي توقعها الجميع، ودفع الشعب من جديد ثمناً باهظاً من دماء مئات الألوف من شبابه، وإنزال أقصى ما يمكن من الدمار بالبنية الاقتصادية، والعسكرية للعراق، وجرى إذلال جيشه وشعبه.
لقد أوقدت تلك النتائج المفجعة للحرب نار الحقد والغضب العارم على نظام صدام  لدى الجنود المنسحبين من الكويت، تحت وابل القذائف التي كانت ترسلها الطائرات الأمريكية والحليفة على رؤوسهم، لإنزال أقصى ما يمكن من الخسائر البشرية بين صفوفهم.
 لقد كان ذلك الغضب العارم لدى الجنود ينذر بالانفجار ليطيح بالنظام ورأسه صدام، الذي سبب تلك الكارثة، وأستمر على الرغم من ذلك يتشبث بالبقاء في السلطة، وهو الذي يتحمل كل نتائجها.
ومما زاد في خيبة أمل الجنود العائدين من الحرب، أن قوات التحالف لم تتعرض للنظام ورأسه صدام، ولا كان في حساباتها إسقاطه، فكان لابد وأن يتحرك الشعب في ظل تلك الظروف التي أنضجت الانتفاضة، ليسقط هذا النظام الذي سبب كل المآسي والويلات للعراق والعراقيين، ولجيران العراق كذلك.

ثانياً: انطلاق الانتفاضة الشعبية ضد نظام صدام

في اليوم الأول من آذار 1991، وبينما كانت القوات العراقية تنسحب من الكويت، بحالة  من الفوضى الشديدة، وقد تملكها الحنق على سياسة نظام صدام الذي أوصلها إلى تلك الحالة، توقف رتل من الدبابات والمدرعات المنسحبة في وسط مدينة البصرة، واستدارت إحدى الدبابات، ووجهت فوهة مدفعها نحو جدارية ضخمة للدكتاتور صدام حسين، وأطلقت قذائفها عليها، وراحت تلك الجدارية تهوى متناثرة على الأرض، وأنكسر بعدها حاجز الخوف من جلاد العراق ونظامه، وتفجر بركان الغضب لدى أبناء الشعب، والجنود المنسحبين، والتحمت جموعهم ببعضها، وراحت تندفع في مظاهرات ضخمة لم تشهد لها البصرة من قبل، ضد حكم الطاغية.
 ولم تمضِ سوى ساعات حتى سيطرت الجماهير المنتفضة على المدينة، وتم اعتقال محافظها، وجرى إطلاق سراح كافة السجناء من ضحايا النظام، ورغم كل المحاولات التي قام بها النظام، وحرسه الجمهوري لاستعادة المدينة، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، وأخذ لهيب المعركة يمتد كالنار في الهشيم، إلى كافة أرجاء العراق من أقصاه إلى أقصاه.
ففي 3 آذار، تم تحرير محافظة العمارة من قبضة النظام بعد معركة عنيفة استمرت لمدة ساعتين، وانتهت باستسلام قوات النظام، وأخذ لهيب الانتفاضة يتصاعد بشكل متسارع، ليمتد إلى مدن الكوت، والناصرية، وكربلاء، والنجف.
وعلى أثر هذا الامتداد، دخلت من جنوب إيران، القوات الموالية لزعيم المعارضة الإسلامية [محمد باقر الحكيم] المعروفة بفرقة [بدر]، المجهزة والمدربة والممولة من قبل نظام طهران، كما شوهدت مجموعات من حرس الثورة الإسلامية، بعصاباتهم  يدخلون معها، وقد مثل ذلك تطوراً خطيراً للغاية على مصير الانتفاضة، وتبدلاً حاسماً في موقف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين منها.
 فقد حاولت الحركة الإسلامية المدعومة إيرانياً السيطرة على الانتفاضة والاستئثار بها، مما جعلها تبدووكأنها ثورة إسلامية، على غرار الثورة الإسلامية في إيران.
ومما ساعد على هذا التطور الخطير في مسيرة الانتفاضة، هو فقدان القيادة السياسية لأحزاب المعارضة جميعاً، فقد كانت معظم كوادر أحزاب المعارضة قد هجرت الوطن بسبب إرهاب نظام صدام، ولم تستطع تلك الأحزاب أن تقدم شيئاً عملياً مهماً للانتفاضة، سوى عقدها لمؤتمر بيروت.
وفي 5 آذار، قامت لجنة العمل المشترك بنشاطات سياسية لدعم الانتفاضة تجلت في إرسال الرسائل إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة [ديكويار]، وإلى حكومات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وإلى حكومات الجوار سوريا وإيران وتركيا والسعودية والكويت، وإلى جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، داعية إياهم جميعاً إلى الوقوف إلى جانب الشعب العراقي، ومساندته من أجل الخلاص من نظام حكم الطاغية
صدام حسين الفاشي.
 كما ناشدتهم تقديم العون الضروري، من المواد الغذائية والطبية، وأكدت تلك الرسائل على أن هذه الانتفاضة، هي انتفاضة الشعب كله، بكل فئاته وقومياته، وأحزابه السياسية الوطنية، وأنها تستهدف الحرية، وتطبيق حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية للشعب العراقي كافة.

وفي المنطقة الشمالية من العراق، سيطرت قوات الانتفاضة على مدينتي أربيل وكركوك ومناطق واسعة من كردستان العراق، واستولت على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات، ووقع في الأسر وحدات كبيرة من قوات الجيش.
وفي يوم الأربعاء 13 آذار أعلنت القيادة السياسية للجبهة الكردستانية سيطرتها التامة على كافة منطقة كردستان العراق، وأعلنت حل المجلسين، التشريعي والتنفيذي، الذين أقامهما النظام، وتشكيل إدارة مؤقتة، لحين إجراء انتخابات عامة في كردستان.
وهكذا استطاعت قوات الانتفاضة فرض سيطرتها على المناطق الجنوبية، ومنطقة الفرات الأوسط، ومنطقة شمال العراق بكاملها خلال أسبوعين، وبدا نظام صدام في تلك الأيام قاب قوسين أو أدنى من السقوط.

 لكن سيطرة القوى الإسلامية على الانتفاضة، والاستئثار بها، ورفعها للشعارات الطائفية والمتطرفة، وتدخل الحرس الثوري الإيراني، وعدم وجود قيادة ميدانية حكيمة تمثل القوى السياسية الوطنية المؤتلفة، بموجب ميثاق دمشق، وضرورة رفع الشعارات الصحيحة التي تؤكد على الوحدة الوطنية، وإقامة نظام ديمقراطي تعددي، كل هذه الأمور جعلت الولايات المتحدة، وبضغط من السعودية ودول الخليج التي انتابها القلق من خطورة سيطرة القوى الإسلامية الموالية لإيران على الحكم في العراق، تقرر الوقوف إلى جانب نظام صدام، وتمكينه من استعادة سيطرته على البلاد من جديد.
وهكذا فتحت قوات التحالف، التي كانت تطوق قوات الحرس الجمهوري في جنوب الناصرية، الطريق إمام لقوات الحرس الجمهوري للعبور، بل لقد أقامت لها الجسور العسكرية لكي تستطيع التقدم نحو المناطق التي سيطرت عليها قوات الانتفاضة، وبذلك بدأت مرحلة الانحسار للانتفاضة في 17 آذار 1991. (1)


ثالثاً:الهجوم المعاكس لنظام صدام وقمع الانتفاضة

بدأ انحسار قوة الانتفاضة بعد منتصف شهر آذار، حيث سمحت الولايات المتحدة وحليفاتها لقوات الحرس الجمهوري بالعبور، كما سمحت لنظام صدام باستخدام الطائرات المروحية، وحتى الطائرات الحربية ذات الأجنحة الثابتة، وصواريخ ارض ـ ارض، وسائر الأسلحة الأخرى لقمع الانتفاضة، ووقفت قوات التحالف تراقب قوات النظام وهي توجه كل أسلحتها نحو الشعب العراقي الذي أنتفض على حكم الطاغية، وابتلعت الولايات المتحدة كل دعواتها بإسقاط نظام صدام، لا بل ساعدته، ومكنته من شن هجومه على قوى الانتفاضة، وعلى ضرب المدن  بكل ما توفر له من الأسلحة، فليس مهماً للولايات المتحدة مصير العراق وشعبه، بل كل ما يهمها هو المحافظة على مصالحها النفطية في الخليج.
وفي الوقت الذي كان المواطنون في مدن الجنوب يتصدون لهجمات قوات صدام، وطائراتها ودباباتها، أوقفت القيادات الكردية زحفها نحو صلاح الدين، وقد مكّن ذلك الموقف قوات صدام من تركيز جهدها العسكري على الفرات الأوسط والمنطقة الجنوبية للقضاء على قوات الانتفاضة، لتعود بعد ذلك وتتفرغ  للمنطقة الشمالية، وتنكل بالشعب الكردي أشنع تنكيل، وتسببت جرائم نظام صدام بهجرة أكثر من مليون مواطن كردي نحو الحدود التركية هرباً من بطش قواته.
ففي يوم الاثنين 18 آذار، قامت قوات النظام  بهجوم واسع على مدينة كركوك، بعد قصف مركز بالمدفعية والدبابات، واستطاعت القوات المهاجمة بعد قتال عنيف  من السيطرة على مقر المحافظة، ومقر الفيلق الأول، والمطار، ومناطق آبار النفط.
وفي اليوم نفسه قصفت قوات النظام  مدن خانقين، وجلولاء، وطوز خورماتو، وكلار، والمجمع السكني [صمود] بصواريخ أرض ـ ارض، منذُ الساعة السادسة صباحاً، مستخدماً 4 قواعد للصواريخ في السعدية، مما أوقع أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى بين السكان المدنيين، ثم أعقب القصف هجوماً على طوز خورماتو  من خمسة محاور هي طريق كركوك، وطريق تكريت، وطريق بلان، وطريق ينجول، وطريق سلمان بيك، مستخدمة الدبابات والطائرات السمتية والمدفعية الثقيلة، والقنابل الفسفورية والنابالم، مما تسبب في وقوع خسائر جسيمة في صفوف المدنيين والعسكريين على حد سواء.
 وفي 19 آذار كان القتال يدور حول مدينة كربلاء المقدسة، حيث هاجمتها قوات صدام على محورين، محور المسيب، ومحور الرزازة، وحيث أحرزت القوات المهاجمة، المتفوقة في المعدات والأسلحة الثقيلة، تقدماً باتجاه المدينة وحاصرتها، وجرى قصفها بشكل مركز، بمختلف الأسلحة الثقيلة.
كما شن نظام صدام هجوماً آخر على مدينتي النجف والكوفة بعد أن تمكن من جلب قوات كبيرة من الحرس الجمهوري بأسلحتها الثقيل .
وقام صدام حسين بتعين حكام عسكريين في مناطق الانتفاضة، من بين كبار الضباط الذين كان لهم دور إجرامي كبير في الحرب العراقية الإيرانية، فقد عين [ماهر عبد الرشيد] حاكماً عسكرياً على قاطع الناصرية، و[طالع الدوري] ـ حاكماً عسكرياً على قاطع البصرة، و[هشام صباح الفخري] حاكماً عسكرياً على قاطع العمارة، و[طالب السعدون] حاكماً عسكرياً على قاطع الكوت، و[علي حسن المجيد] حاكماً عسكرياً على منطقة كردستان.
كانت المعارك الشرسة يدور رحاها بين قوات صدام وقوات الانتفاضة في داخل مدن كربلاء والنجف والديوانية والسماوة، واستبسلت قوات الانتفاضة المدافعة عن المدن المذكورة، رغم التفوق الكبير لقوات الحرس الجمهوري في الأسلحة والمعدات والخبرة العسكرية، وقد ذهب ضحية تلك المعارك في مدينة النجف وحدها أكثر من 15 ألف مواطن، وتم اعتقال المرجع الأعلى للطائفة الشيعية السيد [أبو القاسم الخوئي] وجرى نقله إلى بغداد.
وفي الوقت نفسه كانت المعارك الشرسة تجري داخل مدينة البصرة بمختلف أنواع الأسلحة، مما أوقع الخسائر الجسيمة في صفوف المدنيين.
وفي 21 آذار، اقتحمت قوات الحرس الجمهوري  مدينة الناصرية، رغم بسالة قوات الانتفاضة في الدفاع عنها، بسبب تفوق القوات المهاجمة في الأسلحة والمعدات.
كما استطاعت قوات الحرس الجمهوري دخول مدينة كربلاء، واستعادت السيطرة عليها، بعد أسبوعين من المعارك الدامية أبدى فيها أبطال الانتفاضة شجاعة نادرة.
وفي 27 آذار، كانت قوات صدام قد استعادت مناطق واسعة من الجنوب، وخاصة مراكز مدن البصرة، والعمارة، والناصرية.
وعلى أثر تلك النجاحات التي حققتها قوات صدام عقد محمد باقر الحكيم مؤتمراً صحفياً في طهران، أعترف فيه بانحسار الانتفاضة في المناطق الجنوبية والوسطى من العراق، واتهم قوات صدام بتدمير المدن المقدسة، وقتل الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ بأساليب وحشية يندى لها جبين الإنسانية. وهكذا تمكنت السلطة من إعادة سيطرتها على مناطق الجنوب، والفرات الأوسط ، وبدأت بدفع  قواتها نحو منطقة كردستان.
ففي 28 آذار، بدأت تلك القوات هجوماً واسع النطاق على مدينة كركوك، واستخدم النظام  في هجومه على المدينة  6 فرق عسكرية مجهزة بكل الأسلحة الثقيلة، من الدبابات والمدفعية والصواريخ، وبإسناد الطائرات الحربية والسمتيات، وقد أدى القصف الشديد إلى وقوع الخسائر الجسيمة في صفوف المدنيين، وخاصة النساء والأطفال، واستطاعت قوات الحرس الجمهوري  بعد معارك شرسة من دخول المدينة.
كما استطاعت السيطرة على[طوز خورماتو] و[داقوق] وعدد كبير من القرى المحيطة بكركوك، حيث قامت قوات صدام بتدمير جميع القرى المحيطة بمدينة كركوك، واضطر أكثر من 100 ألف من السكان إلى التوجه إلى أربيل والسليمانية  هرباً من بطش قوات صدام، فيما وقع أعداد كبيرة منهم بأيدي تلك القوات، وجرى تصفيتهم جسدياً بصورة جماعية.

رابعاً:القيادات الكردية تستنجد بالرئيس الأمريكي بوش

في 29 آذار، قامت قوات صدام بقصف مدينة [جمجمال] بالقنابل الفسفورية والنابالم، موقعة الخسائر الجسيمة في صفوف سكانها، ثم قامت قوات الحرس الجمهوري بمهاجمتها واحتلالها، والتقدم نحو مدينتي السليمانية وأربيل، مستخدمة كل ما تملكه من أنواع الأسلحة والمعدات الثقيلة والطائرات، مما أدى إلى حدوث هجرة جماعية كبرى للشعب الكردي نحو الحدود التركية والإيرانية، هرباً من بطش قوات صدام وأسلحتها الكيماوية التي كان قد أستخدمها في حلبجة من قبل.
كان وضع الأكراد مأساوياً بكل معنى الكلمة، نيران قوات النظام من  جهة، وقسوة المناخ، والبرد الشديد، والثلوج من جهة أخرى، مما سبب في وفاة عداد كبير من النازحين.
ومما زاد في الطين بله، إقدام الحكومة التركية على إغلاق حدودها بوجه النازحين، مما جعلهم عرضة للتصفية من قبل الطائرات العراقية التي كانت تلاحقهم، وقوات الحرس الجمهوري الزاحفة.
بعد هذا التطور الخطير في المنطقة الشمالية، وجه الزعيمان الكرديان [مسعود البارزاني] رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، و[جلال الطالباني] رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، نداءً إلى الرئيس الأمريكي بوش طالبين منه حماية الشعب الكردي من هجوم قوات صدام.
وسارعت الولايات المتحدة، و حليفتها بريطانيا إلى فرض الحماية على المنطقة الكردية الواقعة شمال خط العرض 32، فيما سمي بعملية {بروفايد كومفورت} ومنعت القوات العراقية من تجاوز هذا الخط، كما منعت الطائرات من التحليق فوق هذه المنطقة، وبذلك أخذ النازحون الأكراد يعودون إلى مناطق سكناهم، تحت حماية الطائرات الأمريكية.
وهكذا أسقط في يد صدام حسين، واضطر للرضوخ للأمر وسحب قواته من المنطقة، كما أقدم على سحب أجهزته الأمنية والإدارية، والمدرسين وأساتذة الجامعة من كردستان، وقطع الطاقة الكهربائية عن مدينة دهوك.
وهكذا انفصلت منطقة كردستان عن الجسد العراقي شعباً ووطننا منذ آذار عام 1991، وأصبحت تحت حماية الولايات المتحدة وبريطانيا، ولم يعد لنظام صدام أي ارتباط بالمنطقة، وجرى تنظيم إدارة جديدة في فيها من قبل قيادة الحزبيين الكرديين،[الاتحاد الوطني الكردستاني] و[الحزب الديمقراطي الكردستاني] الذين تقاسما السلطة فيها مناصفة.
 كما جرت فيما بعد انتخاب المجلس التشريعي، وتشكيل مجلس للوزراء، بمعزل عن سلطة نظام صدام في بغداد.
أما في الفرات الوسط، وجنوب العراق، فقد تمّ قمع الانتفاضة بقوة السلاح، تحت سمع وبصر القوات الأمريكية والحليفة، بل وبدعم منها، وأجرى النظام  الذي استطاع قمع الانتفاضة والبقاء في السلطة، حملة تصفية وحشية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل، لكل من تشك سلطة صدام بمشاركته في الانتفاضة، وقدر عدد الضحايا بما يزيد على 300 ألف مواطن، هذا بالإضافة إلى تدمير المدن والقرى بأسلوب إجرامي بشع.
لقد خذلت الولايات المتحدة الشعب العراقي، وبان زيف ادعاء الرئيس الأمريكي بوش في أن يشهد سقوط صدام حسين ونظامه، فقد وجد بوش أن بقاء صدام على رأس نظام ضعيف ومحتوى يحقق للولايات المتحدة مصالحها، فيما وجد أن سيطرة القوى الإسلامية الموالية لإيران يمثل أكبر الأخطار على مصالحهم في الخليج، ويهدد الأنظمة القائمة في هذه المنطقة الهامة، التي تحتوي على أكبر مصادر الطاقة في العالم . (2)

خامساً: الصراعات تدب بين صفوف المعارضة

لم يكد نظام صدام يقمع الانتفاضة، وينكل بكل من شارك فيها، حتى خفت صوت قيادات المعارضة، ودبت الخلافات فيما بينهم، وانفرط عقدهم، وتطورت الأمور إلى حد المهاترات بين تلك القوى، على صفحات الصحف التي يصدرونها، وهكذا تلاشت الآمال التي كانت معقودة على لجنة العمل الوطني للمعارضة، وقيام  جبهة وطنية عريضة تقود نضال الشعب لإسقاط نظام صدام. وعاد الجهاز القمعي للسلطة يمارس أبشع الأساليب وحشية للانتقام من كل من يشك بأنه قد شارك، أو ساند، أو أيد الانتفاضة، فكانت حملات الإعدامات تجري كل يوم لمئات المواطنين، تحت سمع وبصر القوات الأمريكية والحليفة، ودون أن تبدي أي حراك على جرائم حكومة صدام.     
لقد أخطأت القوى السياسية المعارضة عندما علقت أمالها على إمكانية دعم الولايات المتحدة لانتفاضة الشعب العراقي لإسقاط نظام صدام ، ذلك أن للولايات المتحدة حساباتها الخاصة التي تصب في خانة مصالحها قبل كل شيء، فلقد وجدت الولايات المتحدة أن بقاء صدام على رأس النظام، واستمراره في حكم البلاد، هو خير من يستطيع تنفيذ كل ما تطلبه، وما تضعه من شروط،  وقد سمحت له بالاحتفاظ بجانب كبير من قوات حرسه الجمهوري، ليستطيع استخدامه في تثبيت حكمه، وقمع انتفاضة الشعب.
كما أرادت الولايات المتحدة بقاء صدام على رأس السلطة في العراق، لكي يبقى بعبعاً تهدد به دول الخليج لكي تكون لها ذريعة لبقاء قواتها وأساطيلها في المنطقة، ولتدفع حكام تلك الدول لشراء الأسلحة، خوفاً من تهديد النظام العراقي، وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الولايات المتحدة دائمة التفكير بإيران، وما تشكله من تهديد على مصالحها في الخليج، ولذلك فقد وجدت في بقاء نظام صدام كعامل توازن مع إيران في هذه المنطقة الهامة للمصالح الأمريكية أمر ضروري، فالولايات المتحدة لا تعير أي أهمية لمصالح الشعب العراقي ومصيره، وجلّ همها حماية مصالحها النفطية في الخليج.
 لقد كان على قوى المعارضة العراقية أن تركز جهودها على الشعب العراقي، وعلى الوطنيين من أبناء الجيش لأحداث التغير في هيكلية النظام، دون إهمال الجانب الدولي والإقليمي، الذي له دوره بالتأكيد، ولكن يبقى الشعب العراقي هو العامل الحاسم والرئيسي لأحداث التغير المنشود.





352
حكام الكويت
بين التشبث بالماضي والتطلع نحو المستقبل!

حامد الحمداني                                                        2/8/2009

تمر هذا اليوم، الثاني من آب/ أغسطس1990، الذكرى التاسعة عشرة لغزو نظام صدام حسين للكويت، تلك الجريمة البشعة التي اقترفها صدام بحق بلد عربي شقيق، والتي كانت السبب المباشر للكوارث التي حلت بالعراق منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، حربان من أقسى أنواع الحروب مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وحلفائهم العرب!!، لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وحرب تجويع فيما دُعي بالحصار الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على الشعب العراقي دون صدام وزمرته، والذي استمر ثلاثة عشر عاماً هو في كل المقاييس من أشنع أنواع الحروب وأقساها.
 ففي حين دمرت الحروب البنية التحية بكل مقوماتها الصناعية والزراعية والخدمية والصحية والتعليمية، لكن الحصار كان قد دمر البنية الاجتماعية للشعب العراقي، حيث انهارت الطبقة الوسطى ووصلت هي والطبقة العاملة والكسبة نحو الحضيض، بسبب الجوع والحرمان وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية والخدمية، وتدهور القوة الشرائية للدينار بحيث لم يعد يسد رمق العيش للعوائل العراقية، مما أثر تأثيراً خطيراً على القيم والسلوك والعادات والتقاليد العراقية النبيلة التي أخذت بالتلاشي لتحل قيم وسلوكيات وعادات هي على النقيض مما كانت، وهذا هو أخطر ما يواجه المجتمع العراقي اليوم ، فإصلاح البنية الاجتماعية أمر صعب للغاية ، ويتطلب فترة زمنية طويلة جداً لكي تُمحي هذه القيم والعادات والسلوكيات، وتحل محلها قيم وسلوكيات وعادات إنسانية، تلك التي عرفناها من قبل.
وهكذا فإن أوضاع العراق الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية والخدمية تتطلب إمكانيات مادية كبيرة، وجهود جبارة ، وسلطة وطنية وديمقراطية نظيفة وحريصة وقادرة على القيام بهذه المهمة الصعبة لإخراج الشعب العراقي من هذا المأزق الحرج الذي يعيشه اليوم.
وبرغم هذه الظروف القاسية التي يمر بها الشعب العراقي نجد اليوم على الجانب الكويتي هذا الموقف الذي يقفه حكام الكويت من العراق المتشبثين بالماضي بكل ما فيه من أحقاد وكراهية تجاه الشعب العراقي، وكأنما الشعب العراقي هو صدام، وصدام هو الشعب، وهم كانوا على دراية أن الشعب العراق كان مغلوباً على أمره في ظل ذلك النظام الدكتاتوري المستبد،
 وتراهم يوغلون في مواقفهم العدائية تجاه العراق ويسعون إلى ابتزازه، وامتصاص ثرواته منذ عام 1990 وحتى هذا اليوم ، ويوغلون في عدائهم أكثر فأكثر فيطالبون ببقاء العراق تحت البند السابع رهينة بيد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، ويسعون لتعطيل عجلة إعادة بناء البنية العراقية المدمرة، فكأنما هذه السنوات التسعة عشر العجاف لم تشفي غليلهم وحقدهم على العراق والعراقيين.
هل كان صدام ونظامه الفاشي هو المجرم الوحيد في كل ما جرى خلال هذه الأعوام التسعة عشر؟
وللإجابة على هذا السوآل استطيع القول بكل ثقة أن إدارة بوش الأب وبوش الأبن وحكام الكويت شركاء في كل ما جرى دون أدنى شك.
لقد كان بالإمكان حل جميع الخلافات بين القطرين الشقيقين لولا تدخل الإدارة الأمريكية لدى الجانب الكويتي، والطلب من حكام الكويت بعدم إبداء أي مرونة أو تساهل مع نظام صدام حسين، ورفض الاستجابة لآي مطالب للعراقيين، ورفض الالتزام بحصص الإنتاج للنفط الذي قررته الأوبك لكي يوصلوا نظام صدام المتهور إلى مرحلة اللا عودة كي يهاجم الكويت.
و في الوقت نفسه كانت الإدارة الأمريكية قد نصبت لصدام ذلك الفخ القاتل، واعدت العدة لشن الحرب على العراق وتدمير اسلحة العراق التقليدية، وذات الدمار الشامل، بل لقد امتدت الخطط الأمريكية لكي تشمل الحملة تدمير كل المرافق الحيوية في العراق، وتعيد العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، كما قال بوش في رسالته لصدام قبيل نشوب الحرب بيومين.
لقد تواطأ حكام الكويت مع الامبريالية الأمريكية لتدمير العراق، وتجويع شعبه، وتخريب بنيته التحية بكل صنوفها، وفي المقدمة منها البنية الاجتماعية، وعليه فهم يتحملون مع الولايات المتحدة مسؤولية كل ما حل في العراق من مصائب وويلات، وضحايا جاوزت المليونين من أفراد الجيش العراقي، ومن المدنيين، وبوجه خاص جراء الحصار حيث ذكر تقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة الصادر في عام 1995 أن الحصار المفروض على العراق قد أدى إلى وفات أكثر من مليون بينهم 567 الفاً من الأطفال دون سن الخامسة، فكم بلغ عدد الوفيات منذ عام 1995 وحتى اليوم؟
أنه يشكل بلا أدنى شك كارثة وطنية كبرى جاوزت كل الكوارث السابقة وتركت للعراق 4 ملايين من الأيتام وأكثر من مليونين من الأرامل ومثلهم من المعوقين، وأكثر من أربعة ملايين من المشردين، وجرى نهب كل كنوز وثروات العراق بعد أن استباح الاحتلال الأمريكي العراق بيد اللصوص والمجرمين والقتلة الذين اتوا على كل شئ وعلى وجه الخصوص آثار العراق التي لا يمكن أن تقدر بثمن.
وبعد كل الذي حل بالعراق من ويلات ومصائب وآلام لم يشفَ غليل حكام الكويت، بل ما زالوا يطلبون المزيد، بدلاً من أن يضعوا ما جرى وراء ظهورهم، ويفكروا بما أصاب العراقيين على أيديهم وأيدي حلفائهم الأمريكيين، ولاسيما بعد زوال نظام صدام الذي أذاق الشعب العراقي المزيد من المصائب والويلات خلال ثلاثة عقود ونصف قاتمة السواد.
إن على حكام الكويت أن يفكروا بعمق، وينظروا بعيداً لا بين سيقانهم ، ويعيدوا النظر في مجمل سياستهم تجاه الشعب العراقي، ويتطلعوا نحو المستقبل بقلوب صافية تجاه أشقائهم العراقيين في وقت المحنة هذه، فهي فرصتهم الوحيدة والأخيرة لقيام علاقات أخوية بين الشعبين والبلدين، وعدم إضاعة هذه الفرصة التي ربما لن تكرر،  وإن الاستمرار على مواقفهم العدائية تجاه العراق ستجر البلدين إلى مالا يحمد عقباه، وليكن في علم حكام الكويت أن العراق سينهض لا محالة عاجلاً أم آجلا، وأن العراق باقٍ لن يزول، وأن أمريكا سترحل عن المنطقة عاجلاً أم آجلاً ، ولا قوة تحمي الكويت سوى علاقة الأخوة والمحبة والتعاون ونسيان الماضي بكل آلامه والتطلع نحو المستقبل المشرق للجميع. أنها فرصتكم الثمينة والوحيدة فلا تضيعوها. والعاقل من يتعض.     

353
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة  الحادية عشرة

 حامد الحمداني                                                       1 / 8/2009


أولاً:العالم يحبس أنفاسه، والعراقيون يهربون من المدن
بعد فشل اللقاء الذي تم بين طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف،أدرك الشعب العراقي أن الحرب أصبحت أمراً لا مفر منه.
كان القلق قد فعل فعله لدرجة أفقد الناس صوابها، فلقد أحس الجميع أن هذه الحرب لن تكون مثل غيرها من الحروب، كالحرب العراقية الإيرانية مثلاً، فالأمر هنا مختلف تماماً،  ذلك أن العراق لا يواجه جيش دولة واحدة، بل جيوش 28 دولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الجيوش، وعلى رأسها جيوش الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، بما تملك من أحدث أنواع الأسلحة، والتكنولوجيا الحربية التي لا يمكن بأية حال من الأحوال مقارنتها بما يمتلك العراق، هذا البلد الصغير من بلدان العالم الثالث.
ولم يكن أحداً يشك بأن مسار الحرب هو بالتأكيد لصالح الولايات المتحدة وحلفائها،  وأن مصير الحرب قد تقرر قبل نشوبها، وأن كارثة كبرى ستحل بالعراق وشعبه.
و مما أشاع القلق، بل والهلع في نفوس أبناء الشعب، وخوفهم من أن يلجأ صدام حسين إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، والبيولوجية في الحرب، لتردّ عليه الولايات المتحدة بالسلاح الذري والكيماوي، وكل الأسلحة الفتاكة الأخرى التي في ترسانتها، ولاسيما وأن صدام سبق أن استخدم السلاح الكيماوي ضد القوت الإيرانية في حرب الخليج الأولى، وضد أبناء الشعب الكردي في شمال العراق عام 1988، في حملة الأنفال السيئة الصيت، فما الذي يمنعه من استخدام أسلحته الكيماوية والبيولوجية ضد قوات الولايات المتحدة وحلفائها، وخاصة إذا ما شعر أن وجوده قد أصبح في مهب الريح؟
ولذلك فقد سارع سكان بغداد وغيرها من المدن إلى مغادرتها هرباً من احتمالات الضربات النووية والكيماوية، وليبحثوا لهم عن مكان آمن.
 لقد كان منظر سكان بغداد، وهم ينزحون منها يثير الأسى والحزن في كل قلب، فلم يكن للشعب حيلة في ذلك، فهو شعب مسلوب الإرادة، وقد تسلطت على الحكم عصابة مجرمة، بالعنف والقوة، ونكلت به وبقواه الوطنية أبشع تنكيل، منذُ أن سطتْ على الحكم بانقلاب 17 تموزعام 1968، بوحي وتخطيط أمريكي، واشتدت حملات التنكيل الفاشية بعد أن سطا صدام حسين على الحكم، وقام بانقلابه على سيده [أحمد حسن البكر]، ليمتد تنكيله حتى بقادة حزبه، ناهيك عن الأحزاب الوطنية المعارضة لحكمه، لكي يفرض من نفسه أعتا دكتاتور عرفه العراق، وجعل من نفسه القائد العام للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبة عسكرية في العالم، وشن على الجارة إيران حرب مجرمة لا ناقة ولا جمل للشعب العراقي فيها، كما يقول المثل العربي المشهور، بالنيابة عن الولايات المتحدة، حيث دامت 8 سنوات دفع خلالها مئات الألوف من خيرة الشباب العراقي إلى محرقة الموت، دفاعاً عن مصالح الإمبريالية الأمريكية في الخليج.
ولم تكد تنتهي الحرب عام 1988، ويتنفس الشعب العراقي الصعداء، حتى بدأ صدام حسين يخطط لمغامرة جديدة، فكانت غزو الكويت، وظن صدام أن الولايات المتحدة ستسكت على مغامرته تلك، مكافئة له على حربه ضد إيران، فكانت حساباته خاطئة جداً.
 فالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لاتهمهم العلاقات مع صدام، بل إن ما يهمهم هو تأمين مصالحهم النفطية في الخليج، والحيلولة دون ظهور أية قوة تحاول الهيمنة على نفط الخليج، فكان لابد من تجريد العراق من أسباب القوة، وتصفية أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها، بعد أن انتهت الحرب مع إيران، وأدى صدام المهمة.
 وهكذا نصبت الولايات المتحدة الفخ لصدام، وسهلت له غزو الكويت، ولم تحاول أن تنهره عن الإقدام على فعلته، رغم أن أقمارها التجسسية، ومخابراتها العسكرية كانت تراقب عن كثب كل تحركات قوات صدام قبل الغزو، وتنتظرها بفارغ الصبر ساعة بساعة.
وها هو العراق يواجه ذلك اليوم جيوش الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبكل ما تملكه من أسلحة فتاكة، إضافة إلى اشتراك قوات عربية، مصرية، سعودية وسورية، مغربية، ومن كافة دول الخليج، فلم يجد أبناء الشعب أمامهم سوى هجر بغداد، والمدن الأخرى لعلهم ينجون من الموت، وكانوا يعدون الدقائق انتظاراً لوقوع الكارثة التي لم يشك أحد بوقوعها الوشيك.

ثانياً:45 يوماً من القصف الجوي لكافة مرافق البلاد

في الساعة الثالثة من فجر يوم الجمعة المصادف السابع عشر من كانون الثاني 1991، انطلقت أكثر من 2000 طائرة حربية نحو 700 هدف، كانت القيادة الأمريكية  قد حُددته سلفاً، كما انطلقت الصواريخ البعيدة المدى من السفن الحربية المتواجدة في الخليج العربي وخليج العقبة، والبحر الأحمر.
 ففي أعالي البحر الأحمر كانت هناك حاملات الطائرات [ساراتوجا] و[كندي] و[تيدور روزفلت] و[أمريكا] وعلى ظهرها مئات الطائرات  القادرة  على الوصول إلى أي نقطة في العراق، هذا بالإضافة إلى الصواريخ البعيدة المدى من نوع كروز، الموجهة تلفزيونياً،التي كانت على متنها، والقادرة على المناورة لإصابة أهدافها بدقة.
وكانت القواعد الجوية الأمريكية في [حفر الباطن] و[الظهران] و[الرياض] في السعودية، والقواعد الجوية في البحرين، وقاعدة [انجرلك] في تركيا، وقاعدة [ديغو كارسيا] في المحيط الهادئ، حيث تقف على أهبة الاستعداد طائرات بـ 52  القاذفة الضخمة، والمعدة للغارات البعيدة المدى، والقادرة على حمل كميات ضخمة من القنابل الفتاكة.
وفي الخليج كانت الولايات المتحدة قد عبأت كل ما أمكنها من القطعات البحرية، وحاملات الطائرات المجهزة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا الحربية بالإضافة إلى القاعدة الكبرى للإمبريالية، وأعني بها إسرائيل، رغم التعتيم الشديد على النشاط الإسرائيلي في تلك الحرب، بسبب ما يمكن أن تسببه من حساسية وهياج لدى الشعوب العربية، مما قد يثير متاعب جمة للجهود الحربية الأمريكية.
غير أن الذي لا شك فيه أنه كان لإسرائيل دور فعّال تلعبه فيها، وخاصة القصف الجوي، كما أن قواعدها الجوية كانت منطلقاً للطائرات الأمريكية للهجوم على العراق.
راحت الطائرات الحربية الأمريكية والحليفة، وصواريخهم البعيدة المدى، تدك أهدافها المحددة سلفاً، بادئين بالقواعد الجوية، وأنظمة الدفاع الجوي، وقواعد الرادار، وقواعد إطلاق الصواريخ، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ومصانع هيئة التصنيع العسكري، والمنشآت النفطية والمصافي، والطرق والجسور، ومخازن المؤن، ومعامل الأدوية، وشبكات الصرف الصحي،  والمفاعل النووي، وما يقرب من 12 مصنعاً للصناعات الكيماوية والبتر وكيماوية.
ثم توسع القصف ليشمل كافة المنشآت الصناعية المدنية، بما فيها مصانع حليب الأطفال، والنسيج، والسكر، ومصانع الأجهزة المنزلية، كشركة الصناعات الخفيفة، وخلاصة القول كان القصف قد شمل كل القواعد الأساسية للاقتصاد العراقي دون استثناء، ولم تسلم بقعة واحدة من بقاع العراق، من بطش الطائرات والصواريخ الأمريكية والحليفة، بل حتى الملاجئ المعدة للمواطنين،  فقد بدا واضحاً أن الحرب قد أعدت لا لتحرير الكويت،  بل لتدمير العراق تدميراً شاملاً، كما أشار بيكر في لقائه مع طارق عزيز في جنيف.
 أما تحرير الكويت فكانت لا تتعدى كونها تحصيل حاصل.
  وفي الوقت نفسه كانت طائراتهم تتسابق لشن الهجمات الوحشية والهمجية على القوات العراقية في الكويت، وجنوب العراق دون هوادة، ودون توقف، منزلة خسائر فادحة بالجنود والمعدات، بعد أن تم إخراج القوة الجوية العراقية من ساحة المعركة، أصبحت القوات العراقية تحت رحمة نيران الطائرات الأمريكية والحليفة.
 فقد استطاعت الهجمات الجوية المكثفة، والمتتالية، من تحطيم أنظمة الدفاع الجوي، وقواعد الرادار، وأنظمة الاتصالات، لدرجة أصبح من المستحيل أن تحلق أي طائرة عراقية في الجو دون أن تكون معرضة للإسقاط .
 وهكذا أصبحت أجواء العراق، ومناطق تجمع القوات العراقية مكشوفة تماماً، وهدفاً سهلاً للطائرات المغيرة، واضطر النظام العراقي إلى إخفاء ما أمكن من طائراته وصواريخه بين الدور السكنية، والشوارع ليقيها خطر الدمار في قواعدها الجوية، واضطرت أكثر من 144 طائرة إلى الهروب إلى إيران، والهبوط في مطاراتها، وقد سيطرت عليها إيران فيما بعد، ورفضت إعادتها للعراق، معتبرة إياها جزء من التعويضات عن تلك الحرب التي أشعلها صدام  ضدها.
لقد وقع النظام العراقي الذي يقوده صدام ، والذي جعل من نفسه قائداً عسكرياً، ومخططاً ميدانياً، وهو الذي لم يخدم حتى الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش، بأخطاء جسيمة في كامل حساباته، فلقد استهان بقدرات الولايات المتحدة وحلفائها، العسكرية والتكنولوجية، واعتقد أن هذه الحرب ستكون كسابقتها حرب الخليج الأولى، كما اعتقد أن الحرب البرية ستبدأ في نفس الوقت التي تهاجم به الطائرات الحربية والصواريخ الأهداف المحددة لها، ولم يدرْ في خلده أن الحرب الجوية ستستمر 45 يوماً متواصلاً، قبل أن يبدأ الهجوم البري.
كما أن إنذار الولايات المتحدة لصدام، وتحذيره من مغبة استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، سيؤدي بالولايات المتحدة إلى الرد الفوري والسريع، وبالأسلحة غير التقليدية [النووية]، وبذلك  فقد صدام القدرة على استخدام هذا السلاح، الذي طبل وزمر له في كل خطاباته، وهو يهدد ويتوعد به، وظهر أنه لا يستطيع استخدامه إلا ضد شعبه في شمال وجنوب العراق، وهو لو فكر في استخدام هذا السلاح لكانت الكارثة التي ستحل بالعراق وشعبه ما لا يمكن أن يتصورها العقل.
لقد أخطأ صدام كذلك حين أعتقد أن الهجوم البري سيكون من السعودية والخليج نحو الكويت مباشرة، غير أن الذي حدث أن القوات الأمريكية والحليفة قامت بهجوم التفافي من الأراضي السعودية نحو جنوب العراق، بغية تطويق القوات العراقية، وقطع طرق مواصلاتها، ومنع أي إمدادات عنها، وخاصة المياه والغذاء وبالفعل تمكنت القوات المهاجمة من الوصول حتى مدينة الناصرية، وحاصرت القوات العراقية بالجنوب، ودمرت الجسور، وقطعت كل طرق المواصلات.
استمرت القوات الجوية والصاروخية تهاجم المرافق الاقتصادية في العراق، المدنية منها والعسكرية طوال 43 يوماً، بمعدل أكثر من 1000 غارة جوية يومياً  عدا الصواريخ التي كانت تطلقها السفن الحربية الراسية في الخليج والبحر الأحمر.
 لقد كانت حرباً جوية رهيبة بكل المقاييس، لم يشهد لها العالم من قبل، وخصوصاً وأنها حرب يقودها هذا التجمع الإمبريالي الكبير، وبكل ما يملك من وسائل القوة، ضد بلد صغير من بلدان العالم الثالث، أبتلى بدكتاتور أهوج، لا يفهم غير لغة الحروب، والدماء والقتل ضد أبناء شعبه، مما جعل الشعب غير قادر على الاعتراض على خططه الهوجاء، التي ساقت البلاد إلى حرب مستمرة لسنوات طويلة.
لقد وقع الشعب العراقي المنكوب بين فكي كماشة، صدام ونظامه الفاشي من جهة، والإمبريالية الحاقدة على العراق، والمصممة على تدمير بنيته الاقتصادية، وإفقاره وتجويعه حتى الموت، حفاظاً على مصالحها في الخليج من جهة أخرى.
 فالنفط بالنسبة للولايات المتحدة يستحق إبادة شعب بكامله دون وازع من ضمير، في عصر أصبحت فيه سيدة العالم دون منازع، ومستعدة لإنزال أشد الكوارث على رؤوس كل من يهدد، أو يحاول أن يهدد مصالحهم في الخليج.
لم يسلم أي هدف من غاراتهم الوحشية مهما كان صغيراً، ووصل بهم الأمر أن أقدموا على قصف ملجأ العامرية في بغداد، وإحراق  حوالي 1000 مواطن، من النساء والأطفال والشيوخ، الذين لجئوا إليه هرباً من غاراتهم الوحشية الرهيبة، فكانت كارثة، وجريمة  إنسانية كبرى، ستظل وصمة عار تلاحق أولئك القتلة الذين طالما تبجحوا بالدفاع عن حقوق الإنسان وحقه في الحياة، وتمسكهم باتفاقيات جنيف فيما يخص حماية المدنيين أثناء الحرب، ونراها في ذلك اليوم وهي تدوس بجزم قواتها العسكرية كل تلك القوانين والأعراف الدولية، وتحيل أجساد أولئك المواطنين أشلاء متفحمة.
 إن كل ما قيل، ويقال عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان، ما هي إلا محض هراء، وإن من يملك القوة في عالم اليوم، لا تثنيه تلك القوانين والقرارات، والاتفاقات الدولية عن فعل ما يروق له، فالقوة، والمصالح الاقتصادية، ونهب الشعوب، هي فوق كل القوانين، وكل المعاهدات الدولية.
في تلك الأيام الرهيبة، كنت أحد المواطنين العراقيين الذين سلموا مصيرهم، ومصير عوائلهم للأقدار، حيث كانت الغارات الجوية تتوالى على بغداد دون انقطاع، وكانت صفارات الإنذار ما تبرح تعلن نهاية غارة جوية، حتى تبادر إلى التحذير من غارة أخرى.
لقد ضاع الحساب، ولم نعد نميّز بين نهاية غارة، وبداية غارة جديدة، واضعين أيدينا على قلوبنا، لا ندري متى ينزل صاروخ علينا، أو تلقي طائرة علينا قنابلها، وخصوصاً بعد أن قُصف ملجأ العامرية، وأُحرق كل من فيه، وبعد أن قصفت الطائرات سوق الخضار في مدينة الفلوجة، ومُزقت أجساد المئات من المواطنين الأبرياء بشكل رهيب، و كان الوضع مأساوياً بشكل فوق ما يتصوره العقل، حتى لكأن القيامة قد قامت في تلك الساعة.
كان أشد ما يرهب الإنسان هو حلول الليل بظلامه الدامس، حيث قُطعت القوة الكهربائية منذ الساعات الأولى من الهجوم الجوي، وبدأ الناس يفتشون عن المصابيح النفطية التي كان الناس يستعملونها قبل أكثر من ثمانين عاماً، وحتى تلك المصابيح تحتاج إلى النفط الذي أصبح من العسير الحصول عليه، كما كان البرد قد شهر سيفه هو الأخر في تلك الأوقات من السنة، حيث بقي الناس دون تدفئة، هذا بالإضافة إلى فقدان الماء والغذاء.
 ومما زاد في الطين بله، تلف المواد الغذائية المخزونة لدى المواطنين في الثلاجات والمجمدات التي توقفت عن العمل، بعد تدمير محطات توليد الطاقة الكهربائية، فقد دمر القصف الجوي محطات الطاقة الكهربائية، سواء المائية منها أو التي تعمل بالغاز، بصورة جزئية أو كلية، ولم تنجُ من القصف سوى محطة النجيبة، التي تنتج 200 ميكاواط.
 أما المحطات التي جرى تدميرها فهي:
   1ـ محطة الناصرية                 2 ـ محطة خزان سد سامراء
   3ـ محطة سد الموصل              4 ـ محطة سد دوكان   
  5 ـ محطة خزان سد حديثة        6 ـ محطة التاجي الغازية
  7 ـ محطة النجف                    8 ـ محطة الموصل الغازية     
  9 ـ محطة خور الزبير             10 ـ محطة صلاح الدين
 11 ـ محطة بغداد الجديدة           12 ـ محطة الدورة
 13 ـ محطة بيجي                    14 ـ محطة الدبس         
 15  ـ محطة الحارثة
واستمرت الهجمات الجوية على المدن العراقية، وكافة المرافق الاقتصادية لمدة 45 يوماً، ألقت خلالها الطائرات ما يزيد على 130 ألف طن من القنابل والمتفجرات، من أحدث وأفتك ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية.
لقد أرادت الولايات المتحدة أن ترهب العالم أجمع، بما تملكه من الأسلحة الفتاكة التي جربت على رؤوس أبناء الشعب العراقي لأول مرة، لكي تقول للعالم أنها أصبحت سيدة العالم أجمع دون منازع،  وأن لا أحد يستطيع الوقوف بوجهها، أو يعارض سياستها في الهيمنة على مصائر الشعوب من قبل أية دولة أخرى صغيرها وكبيرها.
 كما أرادت الولايات المتحدة بشكل خاص إرهاب الشعب العراقي، وإحداث أبعد التأثيرات النفسية فيه، وإفهام النظام العراقي أن من يحاول التحدي، أو التعرض للمصالح الإمبريالية في الخليج  سوف يتعرض إلى كارثة لا أحد يعرف أبعادها.
لقد تعرضت خطط الولايات المتحدة في إحداث الدمار الشامل في العراق إلى انتقادات شديدة في جميع أنحاء العالم، واستقبلتها الشعوب قاطبة بشعور من الاستهجان والغضب، ووصل ذلك الغضب والاستهجان إلى شعب الولايات المتحدة نفسها، حيث وجهت الانتقادات لاستمرار القصف الجوي طيلة 45 يوماً، في حين كان  القصف قد حقق أهدافه خلال الأيام الثلاثة الأولى من بداية الحرب، وقد رد زير الدفاع الأمريكي ديك تشيني بكل وقاحة على تلك الانتقادات، في مؤتمره الصحفي الذي عقده في 11 نيسان 991  قائلاً:
{ لا ينبغي أن يراود أحدنا الشك في أننا فعلنا ما كان لابد لنا أن نفعله!!. لقد كنا نريد أن ُنحدث أكبر قدر من التأثير على المجتمع العراقي، وكنا نتمنى لو لم نفعل ذلك !!، ولكن إذا كان علينا أن نحقق أهدافنا بأقل ما يمكن من الخسائر في الأرواح الأمريكية، فلا أظن أنه كان أمامنا خيار آخر!!، ولو كنا قد اكتفينا بالحد الأدنى من استعمال القوة الجوية لكان عدد العائدين من أفراد قواتنا العسكرية أحياء أقل من  العدد الذي عاد إلينا بالفعل}.(1)
أي كذبة مارسها ديك تشيني في تبريره لما حدث، وأية وقاحة مارسها فهل كان ضرب ملجأ العامرية، وإحراق 1000 مواطن مدني، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ، عملا من الأعمال العسكرية حقاً!!؟

أما قائد عاصفة الصحراء، مجرم الحرب الجنرال شواردزكوف الذي لا يقل عن مجرمي الحرب من جنرالات النازية فقد كان  أكثر منه وقاحة واستهتاراً، حيث قال في حديث صحفي في 13 آذار 1991 ما يلي:
{ إن أهداف الضرب الجوي للعراق جرى توسيعه، وهذا صحيح، ولكن التدمير لم يلحق بالأبرياء!!، فالشعب العراقي ليس كله بريئاً لسببين، السبب الأول أن كثيراً من أفراده تحمسوا لغزو الكويت!!، والسبب الثاني إن الشعب العراقي قابل بحكم صدام حسين!!}.(2)
ولقد كذب [شواردزكوف] في كلا السببين، وتجنى على الشعب العراقي، وعلى الحقيقية، فما كان الشعب العراقي يوماً راضياً عن حكم الدكتاتور الأرعن، ونظامه الفاشي، وحروبه المجرمة، وظل  يعاني طيلة حكمه أبشع أنواع البطش والإرهاب والاضطهاد.
لقد تمادى هذا الجنرال الفاشي في وقاحته، لدرجة أن دعا إلى ما أسماه الحاجة إلى تحديد معنى جديد للمدنيين الأبرياء!!. وبعد كل هذا يحق لنا أن نسأل:
 أليس هذا الجنرال صورة لمجرمي الحرب النازيين أبان الحرب العالمية الثانية، والذي يجب أن يعاقب على جرائمه بحق الشعب العراقي، والتي يفاخر بها علناً؟
أليس من العدالة أن يقف جورج بوش وديك شيني وكولن باول وولتفز واضرابها من صقور البيت الأبيض المسؤولين عن تلك الحرب الظالمة كمجرمي حرب، وينبغي أن يحاسبوا على الجريمة التي اقترفوها بحق الشعب العراقي المظلوم؟

ثالثاً: الطائرات تركز هجماتها على القطعات العسكرية:

بعد أن استطاعت الطائرات المغيرة، والصواريخ، تدمير القواعد الجوية العراقية، وقواعد إطلاق الصواريخ، وقواعد الرادار وطرق الموصلات، وقطعت الاتصالات، وأخرجت القوة الجوية من ميدان المعركة، أخذت تركز هجماتها على القطعات العسكرية المحتشدة في الكويت، وجنوب العراق.
 كان النظام العراقي قد حشد ما يزيد على 50 فرقة عسكرية، من مختلف الأصناف، معززة بما يزيد على 4000 دبابة، و3000 مدفع ثقيل، وما يزيد على 10000مدفع مضاد للطائرات، أقامها حول مواقع قواته، بالإضافة إلى 400 قاعدة لإطلاق الصواريخ، وما يزيد على 700 طائرة من مختلف الأنواع.
 كما أنشأت القوات العراقية نظاماً دفاعياً، وحواجز يمكن أن تتحول إلى جحيم من النيران، لكن القوات العراقية تبقى عاجزة عن مجابهة قوة عسكرية جبارة كالتي تملكها الولايات المتحدة وحليفاتها، وبما تملكه من مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، والتي استخدمت لأول مرة.
كانت القذائف تنهال على القوات العراقية من الجو دون توقف، بعد أن سيطرت الطائرات الأمريكية والحليفة معها على جو المعركة بشكل مطلق، مستهدفة كل الاستحكامات العسكرية، وملاجئ الجنود. التي طمرتها القوات الأمريكية فوق رؤوسهم.
تقطعت السبل بالقوات العراقية بعد أن قُطعت المواصلات، نتيجة قصف كل الطرق والجسور التي تربطها بالعراق، وبذلك انقطعت كل الإمدادات الغذائية والمياه، وأصبح الجيش كله في موقف صعب للغاية.
لقد كانت خطة الولايات المتحدة تقتضي بعدم الالتحام بالجيش العراقي عند بدء الحرب، لتفادي وقوع خسائر بشرية في صفوف قواتها، وقوات حليفاتها، اعتمدت على السلاح الجوي لإنزال أكبر الخسائر الممكنة بالجيش العراقي وإنهاكه، وإضعاف معنوياته إلى أبعد حد ممكن، ولتدمير كل ما أمكن تدميره من معداته، لكي يصبح الهجوم البري قادراً على إلحاق الهزيمة بالقوات العراقية بأقل ما يمكن من الخسائر، وبأقصر مدة.
وخلال تلك الضربات الجوية التي دامت قرابة الشهر والنصف، لم تخسر القوات الأمريكية والحليفة سوى 32 طائرة فقط، فقد كانت السيادة الجوية لها دون منازع، وكانت عمليات القصف بالصواريخ تجري من ارتفاعات عالية، لا تستطيع الدفاعات الجوية العراقية وصولها، بالإضافة إلى تدمير أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات في الأيام الأولى من الحرب، مما جعل الطائرات المغيرة في مأمن من أي تهديد أو خطر الإصابة.
كانت أعصاب صدام حسين وكبار قادته العسكريين تكاد تنهار في تلك الساعات الحرجة، فقد كانوا يتوقعون التحام القوات البرية ببعضها في أول أيام المعركة، مما يفقد القوات الأمريكية والحليفة إمكانية استخدام السلاح الجوي ضد القوات العراقية، أو على الأقل يمكن أن يحد من تأثيرها.
لكن الحرب الجوية وحدها استمرت لأسابيع، وأضطر صدام حسين إلى 
الايعاز لبعض قاطعاته العسكرية للهجوم على مدينة [الخرجي]افي لسعودية في محاولة لرفع معنويات جنوده التي أنهكها القصف الجوي لأسابيع من جهة، ولكي يجبر القوات الأمريكية والقوات الحليفة على الاشتباك بالجيش العراقي من جهة أخرى.
وتقدمت بالفعل القوات العراقية، تحت وابل من القنابل والصواريخ، نحو مدينة الخرجي واحتلتها، وبادرت القوات الأمريكية والحليفة إلى القيام بهجوم معاكس مستخدمة شتى أنواع الأسلحة المتطورة، واستطاعت إخراج القوات العراقية من الخرجي، منزلة فيها خسائر فادحة في الأفراد والمعدات.
لم يكن الهجوم على الخرجي سوى عملية انتحارية قام بها نظام صدام، غير مبالٍ بأرواح جنوده الذين ساقهم إلى حرب لا يرغبون فيها، ولا يؤمنون بها، ولا قادرين عليها.
إن الجيش العراقي، والحقيقة تقال، جيش شجاع بكل معنى الكلمة، والجندي العراقي على كامل الاستعداد للدفاع عن وطنه مهما غلت التضحيات، إلا أن صدام حسين ساقه إلى حرب عدوانية غير مبررة، ولا مصلحة للعراق فيها، مع الجارة إيران، استمرت ثمان سنوات، ولم يكد الجيش يجر أنفاسه بعد تلك الحرب المجنونة، حتى أقدم على اجتياح الكويت، وضمها للعراق بالقوة، متحدياً الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين نصبوا له هذا الفخ القاتل، ليتخذوا من الغزو ذريعة تمكنهم من تدمير العراق، وجيشه أبشع تدمير.
لقد أقدم صدام حسين على فعلته هذه دون أن يحسب أي حساب لاختلال مراكز القوة في العالم، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية تفكك الاتحاد السوفيتي، ودون أن يحسب حساباً للمعطيات الدولية الجديدة، وبروز الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم، تستطيع فرض إرادتها على كل من يحاول تهديد مصالحها بقوة السلاح، وبشكل خاص في منطقة الخليج التي يخرج منها نصف بترول العالم، وتحتوي على أكبر احتياطيات النفط في العالم أجمع.
حاول صدام  إدخال الجماهير العربية في الحرب كطرف رئيسي في الصراع، عندما أقدم على ضرب إسرائيل بصواريخه بعيدة المدى، لكي يجر إسرائيل إلى حرب مكشوفة، وليحول الحرب من حرب عراقية إلى حرب عربية.
 فقد وجه صدام حسين 39 صاروخاً من طراز[سكود] إلى إسرائيل، غير أنه فشل في خططه هذه،  فقد استطاعت الولايات المتحدة أن تمنع إسرائيل من الانجرار إلى الحرب بصورة مكشوفة، لكي لا يؤدي ذلك إلى الهيجان لدى الرأي العام العربي، ويحرج الحكام العرب الذين شاركوا الولايات المتحدة في العدوان على العراق، وقد يتحول الهيجان إلى ما هو أبعد من ذلك، وربما يؤدي إلى قلب تلك الأنظمة التي شاركت في الحرب ضد العراق. ورغم أن الجماهير العربية، والحقيقة تقال، كانت قلوبها مشدودة إلى جانب العراق، إلا إنها لم تستطع أن تفعل شيئاً، بعد أن أخذتها المفاجئة، والاستعدادات التي أتخذها الحكام العرب لقمع أي تحرك ممكن في مهده، خوفاً من تطوره، وأصيبت الجماهير العربية باليأس، وهي تراقب سير الحرب الجوية، عبر شاشات التلفزة لأول مرة في التاريخ، لحظة بلحظة، وترى الطائرات المغيرة وهي ترسل من أعالي الجو صواريخها الموجهة بأشعة الليزر، إضافة إلى الصواريخ التي تطلقها السفن الحربية المتواجدة في الخليج العربي، وخليج العقبة، وشواطئ إسرائيل، والموجهة الكترونية
 إلكترونياً، لتصيب أهدافها بدقة متناهية.

354
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي المدمر
الحلقة 10 / 17

حامد الحمداني                                                     30 / 7/2009


رسالة الرئيس الأمريكي بوش لصدام:
 السيد الرئيس :

{إننا نقف اليوم على حافة حرب بين العراق وبقية العالم، وهذه الحرب بدأت بقيامكم بغزو الكويت، وهي حرب يمكن أن تنتهي فقط بانسحاب عراقي كامل، وغير مشروط، وفق قرار مجلس الأمن رقم 678.
 وإنني اكتب لك الآن مباشرة، لأني حريص على أن لا تضيع هذه الفرصة، لتجنيب شعب العراق مصائب معينة، وأكتب لك مباشرة أيضاً لأنني سمعت من البعض أنك لست على علم بمدى عزلة العراق عن العالم نتيجة لما وقع، وأنا لست في مركز يسمح لي بأن أحكم ما إذا كان هذا الانطباع صحيحاً أم لا.

 وقد وجدت أن خير ما استطيع عمله هو أن أحاول بواسطة هذا الخطاب، أن اعزز ما سوف يقوله وزير الخارجية بيكر إلى وزير خارجيتكم، وحتى أزيل أي اثر للشك أو الالتباس، قد يكون في فكركم، فيما يتعلق بموقفنا، وما نحن مستعدون لعمله.

أن المجتمع الدولي متحد في طلبه إلى العراق أن يخرج من كل الكويت بلا شروط، ودون أي تأخير، وهذه ببساطة، ليست سياسة الولايات المتحدة وحدها، وإنما هي موقف المجتمع الدولي، كما يعبر عنه ما لا يقل عن 12 قراراً صادراً عن مجلس الأمن.

إننا نفضل الوصول إلى نتيجة سلمية!!، ولكن أي شيء أقل من التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن رقم 678 هو أمر غير مقبول بالنسبة لنا، ولن تكون هناك مكافئة للعدوان، ولن تكون هناك مفاوضات، لان المبادئ ليست قابلة للمساومة.
وعلى كل حال فإن العراق إذا قام بالتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن، يستطيع أن ينظم إلى المجتمع الدولي، وفي المدى القريب، فإن البنيان العسكري العراقي يستطيع أن يهرب من التدمير.
ولكن إذا لم تقم بالانسحاب من الكويت، انسحاباً كاملاً غير مشروط، فإنك سوف تخسر ما هو أكثر من الكويت. إن ما هو مطروح الآن ليس مستقبل الكويت، فالكويت سوف يتم تحريرها، وحكومتها سوف تعود إليها، ولكن المطروح هو مستقبل العراق، وهو خيار يتوقف عليك.

إن الولايات المتحدة  لن تنفصل عن شركائها في التحالف، فهناك 12 قراراً لمجلس الأمن، و28 دولة بقواتها العسكرية لضمان تنفيذ هذه القرارات، وأكثر من 100 دولة التزمت بتنفيذ العقوبات، وهذا كله كافٍ ليؤكد لك أن القضية ليست العراق ضد الولايات المتحدة، ولكنه العراق ضد العالم.

 إن معظم الدول العربية والإسلامية تقف ضدك، وهي جميعها مستعدة لتعزيز ما أقول، والعراق لا يستطيع، ولن يستطيع أن يبقى في الكويت، أو يحصل على ثمن لقاء خروجه منها،  وقد يغريك أن تجد راحة في اختلاف الآراء الذي تراه في الديمقراطية الأمريكية، ونصيحتي لك أن تقاوم هذا الإغراء. إن اختلاف الآراء لا ينبغي خلطه بالانقسام، ولا ينبغي لك، كما فعل آخرون غيرك، أن تقلل من أهمية الإرادة الأمريكية.

إن العراق بدأ يشعر بآثار العقوبات التي قررتها الأمم المتحدة، وإذا جاءت الحرب بعد العقوبات، فستكون تلك مأساة لك ولشعبك، ودعني أنبهك إلى أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع أي استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، أو أي تدمير للمنشآت البترولية في الكويت. وفوق ذلك فإنك سوف تعتبر مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن أي عمل إرهابي يوجه إلى أي دولة عضو في التحالف.
وفي هذه الحالة سوف يطلب الشعب الأمريكي أقوى رد ممكن عليك، ولسوف تدفع أنت وبلادك ثمناً فضيعاً إذا أقدمت على عمل من هذا النوع.
 إنني لا اكتب لك هذا الخطاب لكي أهددك، إنما اكتبه لمجرد إخطارك، ولست أفعل ذلك لسعادة، فالشعب الأمريكي ليست له معركة مع شعب العراق!!.
السيد الرئيس: إن قرار مجلس الأمن رقم 678، يحدد فرصة لاختبار حسن النوايا، تنتهي يوم 15 كانون الثاني حتى تنتهي هذه الأزمة دون عنف، واستغلال هذه الفرصة للهدف الذي أتيحت من أجله، لتجنب العنف، هو خيار في يدك وحدك، وإني لآمل أن تزن خياراتك، وأن تنتقي منها بعقل لأن كثيراً سوف يتوقف على ذلك}.(3)
                                                                  جورج بوش
 وبعد ذلك تحدث طارق عزيز، موجهاً كلامه إلى بيكر قائلا:
{ لقد ظننت أننا جئنا هنا لنتحادث، وليس لنتخانق}.
ورد بيكر قائلاً:
 {نعم جئنا لنتحادث، ولكن على أساس}، ثم سأل بيكر طارق عزيز عما إذا كان يريد هو أن يتحدث أولاً، فأجابه طارق عزيز بأنه يريد أن يسمع منه كل شيء.
وتحدث بيكر قائلاً: {إننا جئنا هنا ليس للتفاوض، وإنما جئنا لنحث العراق، كمحاولة أخيرة للانسحاب من الكويت، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، وإن أمامكم مهلة أقصاها يوم 15 كانون الثاني [أي بعد 6 أيام فقط]، وهي بالتأكيد مدة قصيرة، ولكن هذا ليس ذنبنا بل ذنبكم انتم، فقد منحكم مجلس الأمن 45 يوماً، ولم تحاولوا تنفيذ تلك القرارات!
 واقترحنا أن تقوم بزيارة واشنطن، وتلتقي بالرئيس بوش، وأن أقوم أنا بزيارة بغداد، والتقي بالرئيس صدام حسين، وخيرتكم في موعد زيارتي خلال 18 يوما،ً إلا أن رئيسكم أعتذر عن مقابلتي بحجة انشغاله وارتباطاته بمواعيد مسبقة، في حين كان رئيسكم يقابل شخصيات من السياسيين السابقين [كادوارد هيث] و[ولي برانت] و[ناكاسوني] وحتى الملاكم العالمي السابق [محمد على كلاي].

 ومع احترامي لأولئك الساسة، إلا إنني أقول إنهم ليسوا في مراكز المسؤولية، في حين كنت أمثل بلدي، الولايات المتحدة  الطرف الرئيسي في الأزمة، وفي فترة من أخطر الفترات التي يمكن أن تقرر مصير السلم أو الحرب، وهو تصرف لا يمكن قبوله.

 ثم وجه بيكر إنذاره للعراق من أن انتهاء المدة الممنوحة للعراق دون أن ينسحب من الكويت سيجعل قوات التحالف مطلقة اليد لطرد قواته من الكويت، وعليكم أن تعرفوا أنكم أمام تحالف عسكري قوي يضم 28 دولة، بما فيها عدد من الدول العربية، ذات التأثير الكبير في العالم العربي، كمصر، والسعودية، وسوريا والمغرب.

وبدأ بيكر يتحدث عن قوة التحالف الدولي ضد العراق، وما يملكه من أسلحة ومعدات، قائلاً: { إن 6 حاملات طائرات، وعلى ظهرها مئات الطائرات، في منطقة الخليج والبحر الأحمر، مع مجموعة كبيرة من القطع البحرية الأخرى المجهزة بصواريخ وتوماهوك، هذا بالإضافة إلى أن العراق محاط بمجموعة من القواعد التي تتمركز فيها أكثر من 2000 طائرة، وليس المهم عدد الطائرات، وإنما المهم نوع التكنولوجيا التي سوف تستعملها قيادة التحالف في تنفيذ ما أوكل لها}.
 ثم تحدث بيكر عن القوات العسكرية البرية للدول الحليفة، والتي جاوزت 350 ألفاً  وعن نوعية سلاحها، وقوة نيرانها، والتي لم يسبق استعمالها من قبل في أية حرب، ثم أنتقل بيكر بعد ذلك إلى النقطة الحساسة في الحديث قائلاً:
{إننا ندرك أن لديكم مخزوناً من الأسلحة الكيماوية، ونحن ننصحكم، وكما نصح الرئيس بوش في رسالته، أن لا تحاولوا استخدام هذه الأسلحة، في أي مرحلة من مراحل الحرب، وإذا ما أقدمتم على ذلك، فسيكون رد الولايات المتحدة حازماً وقوياً، وبالأسلحة غير التقليدية}. وكان بذلك يشير إلى استعداد الولايات المتحدة لاستخدام الأسلحة الذرية والكيماوية ضد العراق.(4)
لقد أسهب بيكر في الحديث عما تملكه قوات التحالف من أسلحة ومعدات متطورة للغاية، ومستعرضاً ما سوف تؤدي الحرب بالعراق من خراب ودمار لم يعرف له مثيلً من قبل، مهددا بإعادة العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية. وعندما انتهى بيكر من حديثه، التفت إلى طارق عزيز قائلاً: {الآن استطيع أن اسمع ما عندك}.

في تلك اللحظة كانت الأنظار متجهة إلى طارق عزيز، سواء من قبل أعضاء الوفد الأمريكي أو الوفد العراقي، ليسمعوا ماذا سيقول طارق عزيز، بعد كل الذي سمعه من بيكر، وتحدث عزيز قائلاً:
 {إن الصورة التي رسمتها الآن لقوات التحالف ليست جديدة علينا، وليست مفاجئة لنا، فنحن نعرفها من قبل، ونفهم ما تعنيه}.

ثم راح طارق عزيز يذكر بيكر بالدور الذي قام به العراق، لما أسماه بحماية أمن الخليج، ودفع ثمن عمله ذاك ثمناً باهظا، سواء في الأرواح أو الأموال، بالإضافة إلى ما سببته تلك الحرب ضد إيران، من تدهور الاقتصاد العراقي، ثم انتقل إلى جذور الأزمة الكويتية، قائلا:
{ أن العراق بذل جهوداً كبيرة لتجاوز الأزمة مع الحكومة الكويتية، إلا أن حكام الكويت أصروا على موقفهم، مدفوعين بموقف الولايات المتحدة التي حاولت سد كل باب للتفاهم}.
ورد بيكر على عزيز قائلاً: { إن صدام حسين قد خدع الرئيس مبارك عندما قال له بأنه سوف لن يستعمل القوة ضد الكويت، ولكنه فاجأ الجميع بالهجوم، واحتلال الكويت}.
حاول طارق عزيز أن يوضح لبيكر أن صدام لم يقل هذا الكلام بالضبط لمبارك، وإنما قال له، سوف لن يلجأ إلى القوة إلا بعد لقاء مؤتمر جدة، وما سيسفر عنه من نتائج.

ثم أنتقل بيكر إلى تهديدات صدام حسين لحرق نصف إسرائيل، ورد عليه عزيز بأن الحديث الذي نقل عن الرئيس صدام حسين مبتور، فقد قال صدام في خطابه إثر تهديد إسرائيل بضرب العراق بالقنابل النووية بأنه سوف يحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج، إذا ما اعتدت على العراق بالسلاح النووي.

 ورغم أن لقاء بيكر مع عزيز أستغرق 3 جلسات، خلال ذلك اليوم، إلا أن ما تحدث عنه بيكر خلال 45 دقيقة في بدء الاجتماع، كان هو جوهر اللقاء، فكل ما أراده بيكر، وسيده بوش، هو تحذير صدام حسين من استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ضد القوات الأمريكية والحليفة، مهددا العراق باستخدام الأسلحة النووية. أما أي حديث عن حل للأزمة، فقد فات أوانه، فقد اتخذت الولايات المتحدة قرارها بضرب العراق منذُ بداية الأزمة.
وفي نهاية الجلسة الثالثة، أُعلن عن أن بيكر وعزيز سوف يعقدان مؤتمراً صحفياً في الساعة السابعة حسب توقيت جنيف، بقاعة المؤتمرات بالفندق الذي جرى فيه اللقاء، وفي الموعد المحدد، تحدث بيكر أولاً قائلاً:

{ لقد تحادثت مع طارق عزيز حول ضرورة تطبيق العراق لقرارات مجلس الأمن، وأبلغته أن تنفيذ القرارات غير قابل للتفاوض، وإني لأسف أن أقول لكم أيها السيدات والسادة، إنني لم اسمع اليوم شيئاً يدل على مرونة في موقف العراق، ولا على استعداده للامتثال لقرارات مجلس الأمن، وقد قمت في نهاية اللقاء بالاتصال بالرئيس بوش، أبلغته بكل ما دار في اللقاء}.

 وبعد أن أجاب بيكر على أسئلة الصحفيين، تحدث طارق عزيز فقال:
{ لقد جئنا إلى هذا الاجتماع بقلب وعقل مفتوحين، وبنية صادقة، وكنت أتمنى أن يقع هذا الاتصال المباشر بين العراق والولايات المتحدة في مرحلة مبكرة من الأزمة، فأن كل الفرص التي كانت متاحة قد أهدرت، فرصة بعد فرصة، حتى التقينا هنا في هذه اللحظات الأخيرة، وإني أود أن أشير إلى أن الولايات المتحدة تصرفت منذ اللحظة الأولى في الأزمة، بطريقة لا تدع مجالاً للشك في نواياها الحقيقية.
 لقد حدثناهم طويلاً عن قضايانا العادلة، وكان ردهم أنهم يشكون فينا، وقلنا لهم لماذا لا تجربوا؟ لكنهم لم يكن لديهم الاستعداد}.

ثم انتقل طارق عزيز إلى رسالة بوش وما حوته من تهديد ووعيد، بقوله:
{إذا ما قررت الولايات المتحدة الاعتداء على العراق، فإن العراق لا يستغرب ذلك، فنحن نسمع التهديدات كل يوم، وقد قلت للوزير بيكر بأننا سندافع عن بلادنا بكل قوة، وإن الشعب العراقي شعب شجاع، وأن الأمة العربية لن تقبل إخضاع شعبها في العراق، وكسر إرادته، لأن إرادته جزء من إرادتها}.
وبعد نهاية الحديث، وجه إليه أحد الصحفيين سؤالاً عما إذا كان العراق ينوي مهاجمة إسرائيل إذا قامت الحرب؟
 وكان جواب عزيز [نعم] .
وهكذا  انتهى اللقاء إلى لا شئ، وبدأ العد العكسي لقيام الحرب التي أصبحت لا مفر منها، فصدام ركب رأسه، واقترف خطأً تلو الخطأ، لا بل جريمة تلو الجريمة حتى تراكمت أخطائه وجرائمه، وأوصلت الأزمة إلى هذا الحد الذي باتت فيه الحرب أمراً محتماً.

أما الجانب الأمريكي فقد نصب الفخ لصدام، ليغزو الكويت، لكي تجد الولايات المتحدة المبرر المطلوب لتوجيه الضربة الكبرى للعراق، وعملت بكل الوسائل والسبل لسد الطريق للحل السلمي للأزمة، من أجل إكمال السيناريو الذي أعده بوش للعراق وشعبه، حفاظاً على المصالح الإمبريالية في الخليج من أي تهديد من جانب العراق مستقبلاً، وليكون درساً لكل من تسول له نفسه تهديد المصالح الغربية في هذه المنطقة الهامة من العالم، التي تنتج أكثر من نصف الإنتاج العالمي من النفط، وتحتوي على أعظم احتياطيات النفط في العالم اجمع.

أما مصير رسالة بوش لصدام حسين، فقد رفض طارق عزيز استلامها، كما رفض بيكر استعادتها، وتُركت الرسالة على طاولة المباحثات،عندما غادر الوفدان القاعة، وأُودعت في خزانة فندق الكونتنانتل.
غادر بيكر جنيف متوجهاً إلى السعودية، ليبلغ الملك فهد بقرار شن الحرب، إلا أنه لم يبلغه بساعة الصفر، لكنه أخبر الملك بأنه سوف يسمع من الأمير بندر، سفير السعودية في واشنطن، موعد ساعة الصفر، بكلمة السر[تصلكم الأشياء التي طلبتموها الليلة].
ومن ناحية أخرى عاد طارق عزيز إلى بغداد، وبصحبته برزان التكريتي، أخو صدام غير الشقيق، حيث قابلا صدام حسين فور وصولهما، وقدم طارق عزيز له تقريراً عما دار في الاجتماع.
وهكذا سارت خطى الحرب إلى غير رجعة، وأصدر الكونجرس الأمريكي قراراً يخول الرئيس بوش استخدام القوة ضد العراق، وصوت لصالح القرار 52 عضواً ضد 47 في مجلس الشيوخ، و250 ضد 30 في مجلس النواب، وبذلك أصبح بوش طليق اليدين، لشن الحرب على العراق.

بوش يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة مقابلة صدام

في 12 كانون الثاني، دعا بوش السكرتير العام للأمم المتحدة [خافير بيرز ديكويلار] إلى لقائه في كامب ديفيد، على العشاء، وقد اعتذر ديكويار عن تلبية الدعوة بادئ الأمر، حيث أنه كان على وشك أن يغادر إلى أوربا، إلا أن بوش ألحّ عليه لحضور العشاء، وبعدها يكون في حل من أمره.

وتوجه ديكويار إلى كامب ديفيد، وتناول العشاء مع بوش، وخلال الحديث الذي دار بين بوش وديكويار، طلب  بوش من ديكويار التوجه إلى بغداد، والالتقاء بصدام حسين.
حاول ديكويار الاعتذار عن هذه المهمة، قائلاً: {إن الوقت قد فات، ولم يعد هناك متسع لفعل أي شيء}.
 وفي حقيقة الأمر، لم يرضَ ديكويار حشر أسمه في الأزمة، بعد أن أخذت الولايات المتحدة زمام الأمور كلها بيدها، وأحس أن ذلك قد يسبب إساءة إلى سمعته، إضافة إلى أن صدام حسين، الذي أصابه اليأس من موقف الولايات المتحدة في لقاء جنيف، لم يعد يعر أية أهمية لأي جهود جديدة، سواء من قبل الأمين العام، أو من قبل أي دولة أخرى.

لكن بوش ألحّ على ديكويار أن يسافر إلى بغداد، ولو لعدة ساعات، وأمام ضغط بوش، تراجع ديكويار عن موقفه، ووافق على السفر إلى بغداد.
 وبالفعل أرسلت سكرتارية الأمم المتحدة رسالة مستعجلة إلى بغداد، تطلب تحديد موعد للأمين العام ديكويار لمقابلة صدام حسين، وجاء الرد بالموافقة، وتوجه ديكويار إلى بغداد في 13 كانون الثاني 1991، والتقى مساء ذلك اليوم بصدام حسين. وفي بداية الحديث مع صدام، تحدث ديكويار قائلاً: { في البداية أريد أن أؤكد لكم أنني لا احمل رسائل من أحد، ولا أعتبر نفسي مبعوثاً لأي شخص. أنا هنا رجل يمثل نفسه، وقد تتذكرون أنني قابلتكم قبل ذلك مرتين، أثناء الحرب مع إيران، وتتذكرون أنني كنت دائماً أحاول أن أقترب من المشاكل، على أساس غير متحيز، وأنا أقابلكم اليوم بنفس الروح، على أنني أريدكم أن تعلموا أنني يجب أن أكون في أوربا غداً، فلدي واجب هناك}.

ثم واصل ديكويار حديثه ليدخل في صميم الموضوع قائلاً:
{ إن العراق عضو في الأمم المتحدة، وهذه المنظمة تعمل على أساس قرارات تصدرها، ومن سوء الحظ أن تاريخ الأمم المتحدة يظهر أمامنا أن هناك قرارات لمجلس الأمن لا تنفذ، ولكن إن هناك قرارات لابد من تنفيذها، وأتصور شعوركم تجاه هذا الوضع، وكصديق لبلادكم، فإن قرارات مجلس الأمن بشأن أزمة الخليج هي من تلك القرارات التي يجب أن تنفذ، ولا نأخذ منها بالمثل السيئ لقرارات لم تنفذ، وأنا أريد إن أساعد لتجنب مواجهة تؤدي بهذه الأزمة إلى الحرب، وأنا لست ساذجاً لأتصور أننا نستطيع أن نحل هذه المشكلة الليلة، وكل ما أريده هو أن تعطني شيئاً أستطيع أن أبني عليه موقفاً يزيـل التوتر، وأن أحـرم دعـاة الحرب من فرصة يضنونها مؤاتية، وهذا هو كلما عندي}. (5)

وكان رد صدام حسين على ديكويار التالي:
{ صحيح أن الرأس هو الذي ينظم كل شيء، وسوف أفضي لك بسر، لقد أردتك أن تجئ إلى بغداد، ولا تجئ في نفس الوقت، فأنت السكرتير العام للأمم المتحدة، ونحن أعضاء في هذه العائلة، ونحن بالطبع نريد أن نراك، ونرى الأمم المتحدة تؤدي دورها. لكنني كنت قلقاً من مجيئك في هذه الظروف التي نسمع فيها قعقعة السلاح، فعندما لا تحمل من عندنا ما يرضيهم، فإنهم قد يستعملون مجيئك ذريعة للحرب}.
وأضاف صدام قائلاً:
{إن العراق قدم مبادرات كثيرة لحل الأزمة، وكان على استعداد لقبول مبادرات كثيرة، ولكن الرئيس بوش كان يرفض كل واحدة منها بعد ساعة من صدورها، وإن القرارات التي أصدرها مجلس الأمن  هي في الحقيقة قرارات أمريكية، وليست قرارات الأمم المتحدة. إننا اليوم في العصر الأمريكي، والولايات المتحدة تحصل على ما تريد هي، وليس على ما يريد مجلس الأمن}.
 ثم انتقل صدام إلى الحديث عن مسألة الانسحاب من الكويت قائلاً:
{ إننا لا نستطيع أن نقول كلمة الانسحاب في هذه اللحظة، بينما الجيوش الأمريكية تواجهنا، والحرب قد تقع في ظرف ساعات. وإذا قلت شيئاً عن انسحاب عراقي، دون أن يكون في مقابله شيئاً عن انسحاب أمريكي، فإن كل ما أكون قد حققته في هذه الساعة هو أن أعطي الأمريكيين فرصة لخلق بلبلة نفسية تمكنهم من الانتصار علينا!!}.

 وكان رد ديكويار، بعد أن أنهى صدام حديثه أن قال جملته المشهورة:
 {إنني أشعر أن السيف قد خرج من غمده، وهو مُشهرْ فوق العالم، وليس على رأسي فقط}.
 وفي اليوم التالي 14 كانون الثاني، غادر ديكويار بغداد عائداً إلى أوربا، ولم يكن قد بقي على الموعد المحدد لانسحاب العراق من الكويت سوى يوم واحد فقط.

وهنا يتبادر لنا السؤال التالي:
هل كانت زيارة ديكويار التي كلفه بها بوش لبغداد تهدف حقاً لمنع الحرب؟
وأستطيع القول بكل تأكيد كلا، ذلك أن كل الذي أراده بوش هو إشعار العالم أن المشكلة ليست بين الولايات المتحدة والعراق، بل بين العراق والأمم المتحدة، وأن الأمم المتحدة قد بذلت جهودها، حتى أخر يوم من الفترة التي منحها مجلس الأمن للعراق للانسحاب من الكويت، ولكن العراق أصرّ على موقفه.
بدأ العالم يحصي الساعات، بل والدقائق، وهي تمر مثل كابوس هائل على العالم، ومرّ اليوم الأخير دون حدوث أي تغيير على أوضاع الأزمة، وبذلك أصبح العالم يترقب ساعة الانفجار.
 واتصل الأمير بندر بن سلطان، سفير السعودية في واشنطن، بالملك فهد في اليوم التالي 16 كانون الثاني 1991، وابلغه بكلمة السر[ساعة الصفر لبدء حرب الخليج الثانية].
وفي نفس اليوم، اتصل جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكية، بوزير خارجية الاتحاد السوفيتي، الكسندر بسمرلنك، وابلغه بساعة الصفر.
 وعلى الفور دعا غورباتشوف القيادة السوفيتية إلى  اجتماع عاجل في الكرملين لبحث الوضع، وما يمكن تحدث من مستجدات.
وعاد وزير الخارجية السوفيتي في نهاية الاجتماع إلى الاتصال بوزير خارجية الولايات المتحدة بيكر، لينقل له طلب الرئيس غورباتشوف بتأجيل العملية لمدة يوم واحد فقط، لكن بيكر رد عليه قائلاً:
{لقد فات الأوان، وإن العمليات قد بدأت فعلاً}.
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com




355
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي المدمر
الحلقة 9 / 17

حامد الحمداني                                                         28/7/2009
مجلس الأمن يصدر قرار الحرب رقم  678
 في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1990، انتقلت الأزمة مرة أخرى إلى مجلس الأمن، بعد تحرك مكثف لوزير الخارجية الأمريكية [جيمس بيكر] لإقناع أعضاء مجلس الأمن بإصدار قرار يخول الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين استخدام كل الوسائل الضرورية، بما فيها القوة العسكرية، لتنفيذ قرار المجلس رقم 660 القاضي بإخراج القوات العراقية من الكويت.
لقد استطاع بيكر أن يقنع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ومن بينهم الاتحاد السوفيتي، بالموافقة على مشروع القرار رقم 678  في 29 تشرين الثاني 1990  وضمنت الولايات المتحدة امتناع الصين عن التصويت، ولم يعترض على مشروع القرار سوى اليمن وكوبا، وهذا نص القرار:

قرار رقم 678 ـ 29 تشرين الأول1990
إن مجلس الأمن :

إذ يشير إلى ، ويعيد تأكيد قراراته 660 ، 661 ، 662 ،664 ، 665، 666، 667 669 ، 670 ، 674 ، 6777 ، لعام 1990 .
وإذ يلاحظ ، رغم كل ما تبذله الأمم المتحدة من جهود، أن العراق يرفض الوفاء بالتزامه بتنفيذ القرار 660، والقرارات اللاحقة، ذات الصلة المشار إليها أعلاه، مستخفاً بمجلس الأمن، استخفافاً صارخاً.
وإذ يضع في اعتباره واجباته ومسؤولياته المقررة بموجب ميثاق الأمم المتحدة، تجاه صيانة السلم والأمن الدوليين وحفظهما.
وتصميماً منه على تامين الامتثال التام لقراراته.
وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من الميثاق:
1 ـ يطالب أن يمتثل العراق امتثالاً تاماً للقرار 660 (1990 )، وجميع القرارات اللاحقة، ذات الصلة، ويقرر في الوقت الذي يتمسك بقراراته، أن يمنح العراق فرصة أخيرة، كلفتة تنم عن حسن النية للقيام بذلك.
2 ـ يأذن للدول الأعضاء المتعاونة مع حكومة الكويت، ما لم ينفذ العراق في 15 كانون الثاني 1991، أو قبله، القرارات السالفة الذكر، تنفيذاً كاملاً كما هو منصوص عليه في الفقرة أعلاه ، وتنفيذ القرار 660 (1990 )، جميع القرارات اللاحقة، ذات الصلة، وإعادة السلم والأمن الدوليين في المنطقة.
3 ـ يطلب من جميع الدول أن تقدم الدعم المناسب للإجراءات التي تتخذ، عملاً بالفقرة 2 من هذا القرار.
4 ـ يطلب من الدول المعنية أن توالي إبلاغ مجلس الأمن تباعاً بالتقدم المحرز فيما يتخذ من إجراءات  عملاً بالفقرتين 2 ، 3 ، من هذا القرار.
5 ـ يقرر أن يبقي المسألة قيد النظر. (1)   
انتشى الرئيس الأمريكي بوش فرحاً لصدور هذا القرار، الذي يخوله باستخدام القوة العسكرية، فقد أصبحت يده طليقة للمضي بالمخطط المرسوم لضرب العراق. وجدير بالذكر أن جميع القرارات التي صدرت كانت بموجب الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

إن قرار مجلس الأمن هذا في حقيقة الأمر، لا يمثل الشرعية الدولية، ويخالف مخالفة صريحة ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على مسؤولية قوات الأمم المتحدة في صيانة السلام والأمن الدوليين، وتحت راية الأمم المتحدة. غير أن الولايات المتحدة جعلت من نفسها فوق الميثاق، وخولت نفسها، بالتعاون مع حلفائها الغربيين، صلاحية استخدام قواتهم المسلحة، ليس فقط لتحرير الكويت  بل لتدمير العراق، مدفوعين بحماية مصالحهم الإمبريالية في الخليج.

ولابد أن أشير هنا إلى تصريح الأمين العام للأمم المتحدة [خافير بيرز ديكويلار] بعد انتهاء الحرب ضد العراق، والذي عّبر فيه عن رأيه بكل صراحة حول الأزمة حيث قال:
{هناك جانب آخر من الأزمة أود أن أشير إليه، هو أن تنفيذ قرارات مجلس الأمن بالقوة لم يجرِ تنفيذه بالضبط كما أوردته المادة 42، وما تلاها في الفصل السابع من الميثاق، وبدلاً من ذلك فإن المجلس خول استعمال القوة لبعض الدول، والتحالف الذي نشأ بينها، وفي الظروف التي كانت قائمة، وبحساب التكاليف التي كانت مطلوبة، فإن مثل هذا الوضع لم يكن ممكناً تجنبه، وعلى أي حال فإن عمليات الخليج تدعونا إلى التفكير في إجراءات جماعية يتحتم إتباعها في المسائل المتعلقة باستعمال القوة لحفظ الأمن في المستقبل، بطريقة تتفق مع الحقيقة. أن استعمال القوة محصور بمجلس الأمن بمقتضى أحكام الفصل السابع من الميثاق}.(2)
أن هذا التصريح يبين لنا أن الأمين العام للأمم المتحدة قد أعتبر تخويل مجلس الأمن للولايات المتحدة وحلفائها باستخدام القوة ضد العراق أمر غير قانوني، ويشكل تحدياً صريحاً لميثاق الأمم المتحدة، وأنه كان ينبغي أن يكون أي استخدام للقوة، من قبل قوات الأمم المتحدة، وتحت رايتها.

جاء قرار مجلس الأمن رقم 678 ، بمثابة صدمة كبرى للنظام العراقي، فقد صدر القرار بموافقة حليفه الاتحاد السوفيتي، وامتناع الصين عن التصويت، فلو أعترض هذان البلدان، أو أحدهما لكان قد سقط مشروع القرار، ولم يكن النظام العراقي يتصور أن يذهب الاتحاد السوفيتي إلى هذا الحد، وكان هذا التصور من قبل النظام، يدل على جهله بتطور الأوضاع الدولية، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وبشكل خاص الأوضاع في الاتحاد السوفيتي، وبداية تفككه، وانحسار سلطانه كأحد القوتين العظميين، بل وتحوله إلى تابع لسياسة الولايات المتحدة، التي أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، والتي تتحكم في مصائر الشعوب.

حاول صدام حسين الاعتراض لدى محكمة العدل الدولية، على قرار مجلس الأمن والطعن في شرعيته، إلا أن محاولته ذهبت أدراج الرياح، وتأكد النظام العراقي أن الولايات المتحدة ماضية في تنفيذ مخططاتها تجاه العراق، مهما كانت المعوقات، فالقوة قد أصبحت فوق القانون، بعد أن هيمنت الولايات المتحدة على مجلس الأمن، وأصبح المخرج الوحيد للنظام العراقي هو تنفيذ القرار 660، القاضي بالانسحاب من الكويت قبل الخامس عشر من كانون الثاني 1991، وهي المدة التي منحها القرار للعراق لكي ينسحب من الكويت، وقدرها 45 يوماً، وإلا واجه حرباً لا يمكنه الخروج منها سالماً.

اقتراح الرئيس الأمريكي بوش

في الثلاثين من تشرين الثاني، وبعد يوم من صدور قرار مجلس الأمن رقم 678، أقترح الرئيس الأمريكي بوش بأن يقوم طارق عزيز بزيارة للولايات المتحدة والالتقاء به، على أن يقوم وزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر بزيارة بغداد ولقاء صدام حسين، مدعياً أن الهدف من هذا اللقاء هو [المشي ميلا إضافياً من أجل السلام]!!.
 لكن بوش لم يكن صادقاً في دعواه إطلاقاً، وهو الذي رفض أي محاولة، ومن أي جانب للتوسط بين العراق والولايات المتحدة، من أجل إيجاد حل للأزمة، قائلاً: {إن خيار الحرب قد أصبح أمراً لابد منه}.
وهنا يتبادر السوآل التالي:
 لماذا إذاً عرض بوش اقتراحه هذا؟

إن كل ما أراده بوش هو محاولة خدع الرأي العام العالمي بصورة عامة، والأمريكي والعربي بصورة خاصة، والظهور بمظهر الحريص على السلام، واستنفاذ كل الوسائل لتجنب الحرب!!، غير أن بوش فشل في ذلك، وأخذت نواياه تظهر شيئاً فشيئاً، وتبين أنه عازم ليس على طرد القوات العراقية من الكويت، وإنما يسعى لهدف أبعد، يقضي بتدمير العراق عسكرياً واقتصادياً، وتصفية أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق، وإنهاء أي دور مؤثر له في منطقة الخليج بشكل خاص، والشرق الأوسط بشكل عام .

كما أراد بوش احتكار التصرف إزاء الأزمة، وعدم فسح المجال أمام الدول الأخرى، وبشكل خاص بعض الدول العربية، لمحاولة السعي من جديد، خلال فترة الـ 45 يوماً، الممنوحة للعراق لسحب قواته من الكويت، وإقناع العراق بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 660، والنفاذ بجلده من حرب مدمرة، لا أحد يستطيع تقدير نتائجها. وفي كل الأحوال فإن بوش كان عازما على ضرب العراق، وإن قراره لا رجعة فيه.

أحدث اقتراح بوش ردود فعل مختلفة لدى الدول العربية، ومنها العراق، ولدى بعض الدول الأخرى، فقد رأت دول الخليج، وبشكل خاص حكام الكويت  أن هذه المبادرة هي بادرة تراجع للولايات المتحدة ربما كانت بسبب تأثيرات داخلية من جانب الشعب الأمريكي، بينما رأت بعض الدول العربية الأخرى أنها يمكن أن تكون بادرة خير لحل الأزمة  وتفادي الحرب!!، وإمكانية إقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت قبل نهاية المدة الممنوحة للعراق.

وبالفعل توجه الملك حسين إلى بغداد، وتبعه ياسر عرفات، ثم نائب رئيس جمهورية اليمن، والتقى الجميع مع صدام حسين يوم 4 كانون الأول، طالبين منه استغلال المبادرة، وسحب قواته من الكويت، وتجنب الحرب.
وبعد اللقاء أجتمع مجلس قيادة الثورة، برئاسة صدام حسين، وأصدر بعد الاجتماع بياناً في 5 كانون الأول يعلن فيه الاستجابة للمبادرة الأمريكية، وأصدر صدام بعد ذلك قراراً بالسماح للرهائن الغربيين بمغادرة العراق خلال أسبوعين، لكي يقضوا عيد الميلاد مع ذويهم، وذلك كبادرة حسن نية من النظام العراقي، بل لقد زاد النظام على ذلك، بأن تخلى عن مطالبته بربط قضية الانسحاب من الكويت بحل قضايا الشرق الأوسط، كما جاء في
حديث صدام حسين مع القادة العرب الذين زاروا بغداد،عندما قال:{إن ربط القضيتين هو ربط سياسي، وليس ربطاً بتواريخ الأيام}!. 

إلا أن الآمال التي عُقدت على مبادرة بوش سرعان ما تبخرت، وبدأت الأخبار تتسرب إلى النظام العراقي عن حقيقة أهداف المبادرة، والتطمينات التي قدمها بوش لحكام السعودية والكويت، من أن الولايات المتحدة لا زالت مصممه على تنفيذ خططها تجاه العراق.

وزاد في فضح موقف الولايات المتحدة، الخطاب الذي ألقاه [هنري كيسنجر] أمام لجنه القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، والذي جاء فيه:
{لنقم بأية مبادرة نريد القيام بها، ولنعطِ أنفسنا حرية الحركة كما نشاء، ولكننا يجب أن نكون واثقين من أن حل الأزمة يجب أن يحقق نزع وسائل القوة العراقية التي تلقي بظلها على جيرانه في المنطقة، وبدون هذا التغير الضروري في موازين القوى، فإن أي حل نتصوره للأزمة سوف يكون مجرد تأجيل لها}. 

وهكذا أدرك النظام العراقي أنه أمام حرب لا مفر منها مهما فعل، معتبراً إياها قدر العراقيين الذي لا مرد له!!.
 وهكذا تبدد التفاؤل بحل الأزمة، ليعود التشاؤم من جديد ينيخ بكواهل العراقيين المبتلين بطغيان صدام، ورئيس الولايات المتحدة بوش، والذين كانوا يرقبون بقلق بالغ ما سوف يؤول إليه مصيرهم، ومصير العراق.

وجاء تصريح بوش يوم 21 كانون الأول، كضربة قاضية لكل أمل في حل الأزمة عندما أعلن صراحة قائلاً:
{أن انسحاب القوات العراقية من الكويت ليس كافياً لحل الأزمة، وإنما يتحتم نزع قوة العراق العسكرية، وإزالة مصانعه الحربية وقواعد صواريخه، وكافة منشآته النووية، وكذلك يتعين على العراق أن يدفع تعويضات كاملة عن كل الأضرار التي لحقت بجميع الأطراف في المنطقة}.
أما رد فعل بوش على إطلاق سراح الرهائن، والسماح لهم بمغادرة العراق، فقد قلل من أهميتها قائلاً: {مع ترحيبي بإطلاق سراح الرهائن، فإن الإفراج عنهم لم يفعل شيئاً، وإنما صحح جريمة أرتكبها النظام العراقي حين أحتجزهم، في المقام الأول، وإن الإفراج عن الرهائن قد أزاح عن
 ضميري عبئاً معنوياً كبيراً}!!.
ولاشك أن بوش كان يعني في كلامه أنه أصبح، بعد إطلاق سراح الرهائن قادراً على توجيه الضربة للعراق، دون أي عائق يمكن أن يسبب له انتقاد، إذا ما أصيب الرهائن في الحرب، لو بقوا في العراق. وبعد كل هذه التطورات التي حدثت، أصبح موضوع لقاء طارق عزيز مع بوش، ولقاء بيكر مع صدام أمر لا طائل من ورائه، وبدا صدام وكأنه غير راغب في اللقاء، ولا يعلق عليه أي أمل في حل الأزمة.

كان المقرر أن يتم لقاء طارق عزيز بالرئيس بوش في واشنطن، ثم يليه لقاء بيكر بصدام في بغداد. لكن صدام أعتذر عن لقاء بيكر في وقت مبكر، بحجة انشغاله وارتباطاته، وطلب أن يكون اللقاء يوم 13 كانون الثاني، أي قبل نهاية المدة الممنوحة للعراق بيومين،  فيما أرادت الولايات المتحدة أن يكون اللقاء يوم 3 كانون الثاني.

وعادت الولايات المتحدة وغيرت موقفها من اللقاءين، واقترح الرئيس بوش أن يتم لقاء بين طارق عزيز وجيمس بيكر في جنيف، وتقرر الموافقة على اللقاء، وحدد له يوم 9 كانون الثاني 1991.

كانت الولايات المتحدة في تلك الأيام تبذل قصارى جهدها في تجميع كل المعلومات الممكنة، عن جميع المراكز العسكرية والمدنية الحساسة في العراق، من مصانع عسكرية، وقواعد إطلاق الصواريخ، وقواعد الرادار، ومراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومعامل البترو- كيماوية، ومصافي النفط، وجميع المنشآت النفطية، وطرق المواصلات والجسور، وجميع المصانع المدنية، ومحطات الطاقة الكهربائية، المفاعل النووي العراقي.
 وخلاصة القول كل القواعد الأساسية للاقتصاد العراقي. ولعبت الشركات الغربية واليابانية دوراً كبيراً في تقديم تلك المعلومات، حيث كانت قد قامت فيما مضى ببناء معظم تلك المنشآت، ولديها كل الخرائط المتعلقة بها، وكانت القوات الأمريكية والحليفة تعد العدة لتوجيه الضربة القاصمة لهذه الأهداف، وتدميرها تدميراً كاملاً.

الموقف الفرنسي من الأزمة:
 لقد اثبت الوقائع أن فرنسا التي ارتبطت بأوثق العلاقات مع النظام العراقي إبان حربه مع إيران، قد خدعت النظام في سعيها لمنع وقوع الحرب، والقيام بدور فاعل في حل الأزمة، وتبين أن فرنسا تشارك بشكل فعال في تنفيذ الخطط الأمريكية المعدة للعدوان على العراق، وأدى موقف الرئيس [ميتران] إلى استقالة وزير الدفاع الفرنسي [جان بيير شيفيمان] في 29 كانون الثاني 1991، بعد أن وجد أن الجيش الفرنسي قد تعدى الخطط المتفق عليها لتحرير الكويت، وتحول إلى الحرب ضد العراق، وأعلن بعد استقالته أن الحرب كان بالإمكان تجنبها.

ولكن الرئيس الأمريكي بوش كان قد عقد العزم منذ اليوم الأول لوقوع الأزمة على اللجوء إلى القوة العسكرية، لتوجيه ضربة قاصمة للعراق.
وقيل آنذاك أن الرئيس الفرنسي ميتران كان قد بعث بالأميرال [جاك لاكساند] إلى الولايات المتحدة، ليبلغ الرئيس بوش بأنه يستطيع الاعتماد على فرنسا، كما يعتمد على بريطانيا بالضبط.

وقد برر ميتران موقفه هذا فيما بعد، بأن  المصالح الفرنسية هي التي فرضت عليه سلوك هذا الطريق، وقديماً قال السير[ونستن تشر شل] رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية قولته المشهورة: {ليس هناك صداقات دائمة، بل هناك فقط مصالح دائمة}.

بيكر يسلم طارق عزيز رسالة التهديد لصدام من بوش

أخذت الأيام تمر، منذُ صدور قرار مجلس الأمن رقم 678، دون أن يحدث أي تطور باتجاه انفراج الأزمة، بل على العكس كانت الولايات المتحدة وحلفائها يضعون اللمسات الأخيرة على مخططاتهم بضرب العراق، فيما بدا النظام العراقي وكأنه قد سلم قدره للظروف، وبقي على إصراره في التشبث بالبقاء في الكويت، معللاً ذلك بأن الولايات المتحدة وحلفائها سيضربون العراق سواء أمر بانسحاب الجيش العراقي من الكويت أم لم ينسحب.
لقد أضاف صدام حسين بموقفه هذا خطأ جديداً إلى أخطائه السابقة، فحتى في حالة إصرار الولايات المتحدة على ضرب العراق، فأن خروج القوات العراقية من الكويت كان سيسبب أكبر إحراج للولايات المتحدة إذا ما أقدمت على ضرب العراق، ويمكن أن يؤدي إلى فورة كبرى، وهيجاناً على امتداد الوطن العربي الكبير، وانقساماً في صفوف الدول العربية التي سارت في ركاب الولايات المتحدة، من أجل تحرير الكويت.
كما أن الرأي العام العالمي كان سيقف ضد تصرف الولايات المتحدة، بعد أن زال مبرر الحرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان سحب القوات العراقية من مناطق تجمعها في الكويت سيجعلها في مواقع أكثر أماناً فيما لو تعرضت للهجوم. ولو أقدمت الولايات المتحدة على ضرب القوات العراقية، وهي تنسحب من الكويت، خلال المدة التي منحها مجلس الأمن للعراق، والبالغة 45 يوماً فإن ذلك سيعني لدى الرأي العام العالمي أن الولايات المتحدة قد خالفت قرار مجلس الأمن الدولي، واعتدت على العراق دون مبرر طالما هو في حالة انسحاب من الكويت.

إن إصرار صدام حسين على المضي في مواقفه الرعناء لم يكن يعني سوى الانتحار المحتم بالنسبة للجيش العراقي، وللشعب العراقي، وهذا ما كانت تريده الولايات المتحدة بالضبط، وإن صدام نفسه يتحمل  مسؤولية كل ما سوف يحدث بعد نهاية المدة الممنوحة للعراق.

لم يبقَ أمام النظام العراقي إلا الانتظار لما سيسفر عنه لقاء جيمس بيكر وطارق عزيز في جنيف، وربما علق صدام بعض الآمال على ذلك اللقاء المنتظر، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى عكس ذلك تماماً.
كان بوش ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الفترة التي منحها مجلس الأمن للنظام العراقي للانسحاب من الكويت دون قيد أو شرط  ولسان حاله يقول، ليت صدام حسين يركب رأسه ويصر على البقاء في الكويت، لكي ينفذ المخطط المرسوم لضرب العراق.

وجاء الموعد المنتظر، يوم التاسع من كانون الثاني 1991، حيث وصل وزير الخارجية الأمريكية، جيمس بيكر، ووزير خارجية العراق، طارق عزيز، إلى جنيف، وجرى اللقاء بينهما في إحدى قاعات فندق [الكونتنانتل] في جو من الترقب والقلق عمّ العالم العربي بشكل خاص، والعالم بشكل عام.
لقد وضع الشعب العراقي، ومعه الشعوب العربية، قلوبهم على أيديهم في تلك اللحظات الحاسمة، منتظرين ما ستسفر عنه نتائج اللقاء، وماذا سيحل بالعراق، إذا ما فشل الاجتماع، وبقيت الأوضاع على حالها، انتهت المدة الممنوحة للعراق للانسحاب من الكويت.

جلس الوفدان العراقي والأمريكي وجهاً إلى وجه إلى مائدة الاجتماع، بعد أن أجرى الوفدان مصافحة بعضهما البعض، وكانت الابتسامة الصفراء تبدو على وجه وزير خارجية الولايات المتحدة بيكرالذي أسرع إلى فتح حقيبته، وأخرج منها مظروفاً، وسلمه إلى طارق عزيز، قائلا له:
{ إن هذه الرسالة كلفني الرئيس بوش أن أسلمك إياها، لتسلمها بدورك إلى رئيسك صدام حسين}.
 تناول طارق عزيز الرسالة ووضعها جانباً، غير أن بيكر طلب منه أن يقرأ الرسالة، وقد أجابه عزيز إن الرسالة موجهة إلى الرئيس صدام حسين، وليس من حقي أن افتحها، وأقراها.
 لكن بيكر رد على عزيزعلى الفور قائلاً:
{ إن ما سوف نتحدث عنه هنا يتعلق بما ورد في هذه الرسالة، ولابد لك أن تقرأها أولاً لنستطيع التحدث فيما بعد}.
تناول طارق عزيز الرسالة مرة أخرى وفتحها، وبدأ يقرأ ما ورد فيها، ولم يكد يفرغ من قراءتها، حتى دفعها إلى بيكر مرة أخرى قائلاً له:
{إنني لا أستطيع أن انقل مثل هذه الرسالة إلى رئيسي، لأنها كتبت بصيغة لا يليق التخاطب بها بين الرؤساء، وهي لا تحتوي سوى عبارات التهديد والوعيد للعراق وقيادته}.

حامد الحمداني
ِwww.Hamid-Alhamdany.com

356
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة 8 / 17

حامد الحمداني                                                      26/7/2009

الموقف العربي الرسمي من الأزمة
 بدءاً أقول، رغم أن أحداً ممن يحمل عقلاً سليماً، وفكراً ناضجاً، لا يمكنه أن يقرّ النظام العراقي على فعلته بغزو الكويت، ولا يقبل أن تحكم العلاقات العربية قعقعة السلاح، ويشجب العدوان على أي بلد كان، فكيف إذا كان البلد شقيقا؟
إلا انه رغم كل ما جرى، ورغم كل الجرائم التي أقترفها نظام صدام، يتبادر لنا السوآل التالي:

هل خدم الموقف العربي الرسمي مصالح الأمة العربية؟
وللإجابة على هذا السؤال، بروح من الدقة والعقلانية، أستطيع القول أن ذلك الموقف، وبشكل خاص  موقف مصر وسوريا والمغرب، وكذلك السعودية، ودول الخليج، ليس فقط لم يخدم قضية العرب المصيرية، بل على العكس من ذلك قد أدى إلى انهيار لم يشهد له العالم العربي من قبل، أدى إلى تهديم كل ما بنته الأمة العربية، عبر نضالها الطويل من أجل التحرر من ربقة الإمبريالية، وهيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأضاع جهود عشرات السنين، التي بذلتها الشعوب العربية، وغدت حركة التحرر العربي التي قادها جمال عبد الناصر، ورفدها الزعيم عبد الكريم قاسم، قائد ثورة الرابع عشر من تموز في العراق عام 1958، وانتصار ثورة الشعب الجزائري على المستعمرين الفرنسيين.
  لقد كان الأجدى بتلك الدول، السعي لحل الأزمة ببذل الجهود العربية المكثفة والجماعية، وعدم فسح المجال أمام الولايات المتحدة لتوجيه ضربتها لا للعراق فحسب، بل لمجمل حركة التحرر العربي، ولكن الحكومات العربية المذكورة آثرت السير في ركاب الولايات المتحدة، ودعمت مخططاتها، والتقت بذلك مع صدام حسين في إحداث ذلك الانهيار الذي لم يرَ العرب له مثيلا من قبل.
إن ما نراه اليوم من نتائج تلك المواقف الخاطئة، من تفكك التضامن العربي، والصراع، والعداء بين الدول العربية، وتهالك الحكومات العربية على الارتماء في الحضن الأمريكي والصهيوني، وعقد معاهدات الصلح مع إسرائيل، من دون أن تحقق هدفاً جوهريا للأمة العربية، وقيام العديد من الدول العربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، في وقت لا تزال تحتل مساحات واسعة من الأراضي السورية واللبنانية والفلسطينية، وتماطل حتى في تطبيق الاتفاقات التي وقعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية.

إن كل هذا هو نتاج مباشر لجريمة نظام صدام في غزوه للكويت، ونتاج المواقف الخاطئة، والمتخاذلة للأنظمة العربية. لقد وصل الأمر لدى بعض حكام الخليج أن يمدوا أيديهم لتصافح قادة إسرائيل، والتعاون معهم، بدلاً من أشقائهم العرب، وأصبح معظمهم ينظر لشعب العراق نظرة عداء وكره شديدين، حتى لكأنما صدام هو الشعب العراقي، والشعب العراقي هو صدام!!، ودون أن يعيروا أي اهتمام لما يعانيه الشعب العراقي على أيدي صدام وزمرته المتحكمة برقابه.

 إن هذا الموقف موقف، اللا مبالاة لما كان يعانيه شعب العراق على يد جلاده، وعلى يد الإمبريالية الأمريكية على حد سواء، قد خلق فجوة كبيرة في علاقات الأخوة التي كانت تربط العرب ببعضهم، وسوف يأتي اليوم الذي تدرك فيه الأنظمة العربية مدى عمق الجريمة التي ارتكبت بحق العراق وشعبه، وبحق المصلحة العربية العليا.

إن نظام صدام حسين كان سيزول لا محالة، مهما طال به الزمن، ولكن شعب العراق باقٍ لن يزول، وهو بلا شك سيتذكر دائماً وأبداً، المآسي والجوع و فتك الأمراض والحرمان بأبنائه، وستبقى تلك الصورة المرعبة في ذاكرته، وسوف تتناقل الأجيال القصص والحكايات حول تلك المآسي،  كما يتحدث شيوخنا عن جرائم الأتراك إبان الحرب العالمية الأولى، والمجاعة التي سببوها للعراقيين، وسوف يبقى شعب العراق يتذكر مواقف الحكام العرب الذين وقفوا بجانب العدوان على العراق وشعبه، وضغطوا على شعوبهم بكل الوسائل والسبل لمنعها من التعبير عن رأيها في تلك الحرب المجرمة، ولا شك أن هناك بوناً شاسعاً بين الشعوب العربية وحاكميها.

نظام صدام في حيرة

أصبح النظام العراقي واقعاً في حيرة لا يعرف كيف يخرج منها، فهو في الوقت الذي كان يراقب عملية الحشد العسكري الغربي بقيادة الولايات المتحدة تتسارع يوماً بعد يوم، ولهجة التحدي الصارمة للرئيس الأمريكي بوش وهو يعلن تصميمه ليس على طرد القوات العراقية من الكويت فحسب، بل ونزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتقليص قواته العسكرية، وهذا ما أعلنه بوش، ولكن ما كان قد أخفاه كان أعظم، فلقد صمم وخطط لتدمير البنية التحتية للاقتصاد العراقي، وإعادته إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية، كما صرح وزير خارجيته بيكر.

لقد جعل الموقف الصارم للولايات المتحدة النظام العراقي يصعّد من تحديه، وإصراره على موقفه، وكان خوف صدام حسين من أن يقدم العراق على تقديم تنازلات يمكن أن تؤثر على الموقف العام له، ويثبط همة القوات المسلحة، دون أن يحصل في المقابل على أي شئ.
 كما كان خوف صدام من نوايا الولايات المتحدة تجاه العراق حتى لو أقدم على سحب قواته من الكويت، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى أن بوش قد ذهب بعيداً في خططه لضرب العراق مهما كانت الظروف، ومهما فعل النظام العراقي، لأنه قد وجد فرصته التي ربما لا يستطيع الحصول عليها مرة أخرى، لإزاحة خطر النظام العراقي عن الخليج كما يدعي.

لقد حاول صدام حسين، عن طريق الاتحاد السوفيتي، ووسطاء آخرون في الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة فيما إذا أقدم على الانسحاب من الكويت، بأن لا يتعرض العراق وجيشه إلى الهجوم، وحرص صدام على أن لا يتحدث عن الانسحاب بصورة علنية، بل ويعلن إصراره على ضم الكويت، وهذا ما أراده بوش بالضبط.

 لقد أراد بوش أن يفهم العالم أن لا مفر من استخدام القوات العسكرية ضد العراق، ولذلك فقد أعتبر صدام حسين أي حديث عن ضرورة الانسحاب عمل خياني يرمي إلى إضعاف معنويات الجيش، وأصدر صدام تعميماً إلى كافة أعضاء حزبه ومؤيديه بالامتناع عن الحديث عن الانسحاب. (4)

 وهكذا كتم نظام صدام أفواه الشعب العراقي، ومنعه من إبداء رأيه في أهم مسألة تتعلق بوجوده ومستقبله، فقد كان الشعب العراقي مدركاً تمام الإدراك عمق الكارثة التي ستحل به  بسبب إصرار صدام على سياسته المتهورة، لكنه لم يكن يملك  حولاً ولا قوة، وسيف النظام مسلط على رقابه، وهو ينتظر اللحظة التي يسوقه فيها الجلاد إلى المجزرة.
ورغم وجود عدد من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة لحكمه، إلا أن أساليب القمع الوحشية، وحملات الاعتقالات والتعذيب، والإعدامات بالجملة، جعلت معظم قيادات الأحزاب المعارضة تختار المنفى مجالاً لعملها السياسي، تاركة جماهير الشعب العراقي دون قيادة فعالة، قادرة على تعبئتها والسير بها نحو إسقاط النظام، هذا بالإضافة إلى عمق التناقضات في توجهات الأحزاب المعارضة، وكل ما استطاعت عمله هو عقد ميثاق دمشق، وإصدار عدد من القرارات التي لم تستطع أن تفعل شيئاً ، وباتت مجرد ورقة تذروها الرياح.

المبعوث السوفيتي بريماكوف يقابل صدام:

في الوقت الذي كانت حرارة الأزمة تتصاعد، والحشود العسكرية تتوالى على السعودية، ظهرت في صفوف القادة العسكريين السوفيت اعتراضات شديدة على سياسة وزير الخارجية [شيفرناتزا]، تلك السياسة التي أصبحت متطابقة مع السياسة الأمريكية، وسببت قلقاً لهم، مما  دفع الرئيس [غورباتشوف]، بعد أن شعر أن العراق قد أعطى السوفيت إشارة حول إمكانية الانسحاب من الكويت إذا ما حصل على ضمانات بعدم تعرضه للعدوان الأمريكي، أن يرسل مبعوثاً خاصاً له إلى بغداد.

جرى اختيار[بريماكوف] العضو المرشح للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي لهذه المهمة، وكان اختياره لهذه الشخصية بسبب العلاقة الوثيقة التي تربطه به من جهة، وعلاقات  بريماكوف وصلاته القديمة بصدام حسين، وطارق عزيز، حيث كان بريماكوف يقوم بزيارات متكررة للعراق عندما كان مندوباً لصحيفة البرافدا في الشرق الأوسط.

وصل بريماكوف إلى بغداد يوم 5 تشرين الأول، حيث عقد مساء ذلك اليوم اجتماعاً مع صدام حسين، وتباحث معه حول سبل الخروج من الأزمة، وأبلغ بريماكوف صدام حسين، وجهة نظر غورباتشوف، والتي تتلخص بكون الموقف قد بات خطيراً، وإن إصراره على مواقفه سوف يزيد من خطورة الوضع، وإن عليه أن يبادر بأسرع وقت ممكن إلى الانسحاب من الكويت.
كان صدام حسين يبدو عليه التردد والحيرة لكي يعلن عن رغبته بالانسحاب حيث رد على بريماكوف قائلاً: { إنك تطلب مني أن أعلن الانسحاب، وكأن هذه الكلمة السحرية التي يمكن أن تحل كل المشاكل دفعة واحدة، وأنا لن أقول هذه الكلمة ببساطة، وحتى لو انسحبنا من الكويت فإن ذلك لن يكون كافياً لجعل الولايات المتحدة تشعر بالرضا، وانتم ليست لديكم الضمانات التي يمكن أن تقدموها لنا ضد أي هجوم أمريكي}. (5)
لكن صدام عاد وابلغ بريماكوف عن قبوله بالانسحاب إذا ما حصل على الضمانات اللازمة بعدم الاعتداء على العراق، وعدم المساس بالنظام القائم.
إلا أن بريماكوف أجابه بأن طلب الضمانات سينظر فيها الرئيس الأمريكي بوش، كشرط للانسحاب، وهو الذي أصر على أن يسحب العراق قواته من الكويت دون قيد أو شرط، ويشاركه في إصراره الكونجرس الأمريكي، وكذلك كافة الحلفاء الغربيين.

وهكذا لم يستطع بريماكوف من زيارته لبغداد أن يحقق أي تقدم باتجاه حل الأزمة، فقد كان الغرب بزعامة الولايات المتحدة مصراً على ضرب العراق، و كان صدام حسين يخالجه نفس الشعور بأن الولايات المتحدة عازمة على تحطيم القدرات العسكرية والاقتصادية للعراق، وربما استغلت انسحاب الجيش من الكويت لتوجه له الطعنات في ظهره.

وقبل انتهاء الزيارة انتقل بريماكوف إلى الحديث مع صدام حسين حول مسالة الخبراء السوفيت في العراق والبالغ عددهم [7830 خبيراً]، وضرورة السماح لهم بمغادرة العراق، وقد وافق صدام على مغادرة 1500 خبير كل شهر.
وبعد انتهاء الزيارة، غادر بريماكوف العراق، ليقوم بزيارة الولايات المتحدة،  ويقابل الرئيس بوش، ويطلعه على ما دار في المباحثات التي أجراها مع صدام حسين.

 إلا أن الرئيس بوش لم يعر أي أهمية لتلك المباحثات، وكان جلّ اهتمامه ينصب حول معرفة شخصية صدام حسين وتصرفاته، ولم يزد على ذلك شيئاً، وكان في حقيقة الأمر لا يريد أن ينسحب صدام حسين من الكويت، فلا يستطيع عندئذٍ تنفيذ السيناريو الذي أعده لتدمير العراق.

وعندما ألح عليه بريماكوف ليسمع رأيه في سبل حل الأزمة، أجابه بوش بأنه سوف يلتقي بمستشاريه، ويتباحث معهم، وكان يريد بذلك التهرب من إعطاء أي جواب لبريماكوف، وعاد بريماكوف بخفي حنين، كما يقول المثل، ولم يحصل على أي نتيجة من زيارته لواشنطن. (6)

 وفي طريق عودته إلى موسكو، توقف بريماكوف في لندن والتقى رئيسة الوزراء  ماركريت تاتشر لإجراء مباحثات معها حول الأزمة، لكنه وجد تاتشر أكثر بأساً وصرامة وإصراراً على تدمير العراق من بوش، فقد ردت بعنف على بريماكوف قائلة له:
{ نحن لا نريد لأي طرف أن يتدخل الآن لعرقلة أهدفنا، وليس هناك خيار آخر غير الحرب}.
وعندما حاول بريماكوف أن يشرح لها رأيه في حل الأزمة، أجابته مقاطعة إياه قائلة: {لا، لا أريد أن اسمع شيئاً}.(7)

غادر بريماكوف لندن عائداً إلى بلاده، حيث قدم تقريراً للرئيس غورباتشوف عن  نتائج مباحثاته في كل من بغداد، وواشنطن، ولندن.
واستمرت دقات  طبول الحرب بالتصاعد في الغرب، وأخذت الحرب تقترب شيئاً فشيئاً، ورأى غورباتشوف أن يبعث بريماكوف إلى بغداد مرة أخرى للالتقاء بصدام، وحثه على الانسحاب بأسرع ما يمكن، وبالفعل وصل بريماكوف إلى بغداد في أواخر تشرين الأول، والتقى بصدام حسين، ونقل له وجهة نظر الرئيس غورباتشوف بضرورة أن يعلن العراق انسحابه من الكويت، قائلاً له:
{إن الأيام تمر في غير صالح العراق، وكل  يوم يمر تتغلب كفة المتشددين في الغرب، الذين يلحون على توجيه الضربة للعراق}.
ولكن صدام حسين أصّر على موقفه بالحصول على ضمانات بعدم الاعتداء، وبتزامن الانسحاب مع انسحاب القوات الأمريكية والحليفة، ورفع الحصار عن العراق، والحصول على منفذ على الخليج.

غادر بريماكوف بغداد متوجهاً إلى باريس لمقابلة الرئيس غورباتشوف، الذي كان في زيارة رسمية لفرنسا، وليطلعه على نتائج رحلته إلى بغداد، وقام غورباتشوف بدوره بإطلاع الرئيس الفرنسي [فرانسوا ميتران] على تطورات الأزمة، ومحاولات بريماكوف نزع فتيل الحرب، وقد أكد ميتران  أن انسحاب القوات العراقية من الكويت دون قيد أو شرط، هو السبيل لتفادي الحرب. 

صدام ومسألة الرهائن:
ركزت الدول الغربية الكثير من اهتمامها لمسألة الرهائن، الذين أحتجزهم نظام صدام، وهدد بتوزيعهم على كافة المراكز العسكرية والاقتصادية، كدروع بشرية ضد أي هجوم محتمل من قبل القوات الأمريكية والحليفة. وقد سارع مجلس الأمن بإصدار القرار 664 في 1990 والذي دعا النظام العراقي إلى السماح للرهائن بمغادرة العراق، وحمله مسؤولية الحفاظ على حياتهم، لكن صدام أصر على احتجازهم مدعياً بأنهم ضيوف على حكومة
 العراق!!.
وإزاء هذا الموقف المتعنت من صدام حسين، باشرت الدول الغربية بإرسال العديد من الشخصيات السياسية، غير الرسمية إلى العراق، لمقابلة صدام حسين والتباحث معه حول مصير الرهائن.
 وكان من أبرز الشخصيات التي زارت العراق والتقت بصدام كل من[كورت فالدهايم] رئيس جمهورية النمسا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة، و[ولي برانت] المستشار السابق لألمانيا الغربية، وزعيم الحزب الاشتراكي فيها، و[إدوارد هيث] رئيس وزراء بريطانيا السابق و[ناكاسوني] رئيس وزراء اليابان السابق، وغيرهم من الشخصيات التي لعبت دوراً هاماً، يوماً ما في السياسة الدولية.
وفي حقيقة الأمر، كان مجيء هؤلاء الزعماء إلى بغداد يرمي إلى تحقيق هدفين في آن واحد:
 الهدف الأول:

السعي لإطلاق سراح الرهائن الغربيين، والسماح لهم بمغادرة العراق، قبل أن تقع الواقعة، وتنشب الحرب، وهم يدركون أن الحرب واقعة لا محالة، وبالفعل استطاع هؤلاء أخذ أعداد كبيرة من الرهائن معهم، عند مغادرتهم العراق، بعد الزيارة.
الهدف الثاني:
 كان يرمي إلى التعرف عن كثب عما يدور في ذهن صدام حسين،  ولتكوين فكرة دقيقة عن شخصيته، وقد بذلت تلك الشخصيات جهوداً كبيرة في محاولة لإقناع صدام بالسماح للرهائن بمغادرة العراق، محذرين من أن وجود هؤلاء لن يمنع الحرب، فأمام المصالح الاقتصادية الغربية في منطقة الخليج، يهون كل شيء.

كانت تلك الشخصيات تستغل وجودها في العراق ولقائها بصدام حسين لتثير معه مسألة الغزو العراقي للكويت، وخطورة الوضع بالنسبة للعراق  مؤكدين على ضرورة انسحاب القوات العراقية من الكويت فوراً لنزع فتيل الحرب.
 لكن صدام لم يكن مطمئناً إلى كل النصائح التي قُدمت له، وكان إحساسه أن الحرب ستقع سواء انسحب من الكويت أم لم ينسحب، وأراد صدام أن يخفف من غلواء الغرب حول مشكلة الرهائن، فأخذ يطلق سراح أعداد منهم عند كل زيارة للشخصيات السياسية العالمية، ويسمح لهم بمغادرة العراق بمعيتهم.
 وفي نهاية المطاف قرر صدام حسين في 17 تشرين الثاني أن ينهي مسألة الرهائن لعلها تساهم في تهدئة الموقف، فأصدر قراراً بالسماح بمغادرة الرهائن جميعاً قبل حلول عيد الميلاد، وبذلك أسدل الستار على هذه المشكلة.
 لكن بوش وحلفائه الغربيين قابلوا خطوة صدام بكل برود، ولم تؤثر تلك الخطوة على تصميمهم على توجيه الضربة القاصمة للعراق.

الغرب يكمل استعداداته الحربية

في الشهرين الأخيرين من عام 1990، أخذت الاستعدادات الغربية للحرب تتكامل،  فقد بلغ مجموع القوات التي تم حشدها في السعودية حوالي 350 ألفاً من الجنود والضباط، وما يزيد على 1000 طائرة حربية بالإضافة إلى ألوف الدبابات والمدفعية والصواريخ، وأعداد كبيرة من القطع البحرية، وحاملات الطائرات التي أخذت مواقعها في الخليج العربي، وخليج العقبة، وسواحل إسرائيل، وهي تحمل الصواريخ البعيدة المدى، والموجهة إلكترونياً، والقادرة على ضرب أي منطقة من العراق، بانتظار ساعة الصفر لبدء الحرب.

أما صدام حسين فقد أستمر في حشد قواته في الكويت، حتى بلغت 450 ألف ضابط وجندي، تساندها ما يزيد على 4000 دبابة و 3000 قطعة مدفعية، و800 طائرة حربية، إضافة إلى قواعد إطلاق الصواريخ البعيدة المدى.

 غير أن التكافؤ بين القوتين كان بعيد المنال، نظراً لما يمتلكه الغرب من التكنولوجيا الحربية المتطورة، هذا بالإضافة إلى عدم قناعة الجندي العراقي بتلك الحرب التي ساقه إليها صدام حسين دون مبرر، ولم يمض سوى سنتين على انتهاء حربه الكارثية ضد إيران والتي دامت 8 سنوات، ودفع ما يزيد على النصف مليون من الجنود والضباط حياتهم في تلك الحرب التي خاضها صدام نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية.
كان تحشيد هذه الأعداد الضخمة من الجيوش من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، يتطلب أموالاً كثيرة جداً، ليس في وسع الولايات المتحدة تحملها لوحدها، ولذلك فقد ضغطت على دول الخليج بان تدفع نصيبها من التمويل.
وسارعت السعودية والكويت، وبقية دول الخليج بسحب مدخراتها، وتقديمها إلى الولايات المتحدة.
 كما ضغطت الولايات المتحدة على اليابان، وألمانيا الغربية لتقدم نصيبها من تكاليف الحرب، واستطاعت أن تجمع ما يقارب 90 بليون دولار، دفعت منها ألمانيا 10 بلايين، واليابان 10 بلايين دولار أخرى، ودفعت السعودية والكويت وبقية دول الخليج الباقي، وبلغت حصة الولايات المتحدة من هذا المبلغ 54 بليون دولار، في حين بلغت تكاليف حربها 31 بليون دولار، أي أنها حققت ربحاً قدرة 23 بليون دولار!.

 أما بريطانيا فقد حصلت على 6 بلايين دولار، في حين بلغت تكاليفها الحربية 3 بلايين دولار، أي إنها حققت ربحاً قدرة 3 بلايين دولار!.
كما حصلت تركيا على 3 بلايين دولار!.
 أما إسرائيل فقد حصلت على6,5 بليون دولار، مع تسهيلات بقيمة 10 بلايين دولار لغرض إنشاء المساكن للمهاجرين اليهود إليها !.(8)

وهكذا استطاعت الولايات المتحدة الحصول ليس على تكاليف الحرب فحسب، بل حققت ربحاً صافياً مقدار 23 بليون دولار، لقاء حماية المصالح الغربية واليابانية في منطقة الخليج.
 وفي أواخر شهر تشرين الثاني من عام 1990  كانت الاستعدادات الحربية الأمريكية قد اكتملت، وتم إعداد الخطة التي سينفذها الجنرال [شوارتزكوف] التي أطلقت عليها الولايات المتحدة [عاصفة الصحراء]، والتي ارتكزت على المراحل التالية (9)
المرحلة الأولى:
قيام السلاح الجوي بهجوم شامل على مراكز قيادات الجيش، وقواعد الصواريخ، والدفاعات الجوية، ومحطات الرادارات، والاتصالات، والمطارات الحربية، وطرق المواصلات، والجسور ومصانع الأسلحة بأنواعها، ومحطات الكهرباء، وبدالات الهاتف، والاتصالات السلكية واللاسلكية ومصافي النفط وكافة المنشآت النفطية وجميع المصانع المدنية.
المرحلة الثانية:
هجوم جوي شامل على القوات البرية العراقية المتواجدة في الكويت، وجنوب  العراق، لإنهاكها، وتحطيم معنوياتها، ذلك عن طريق القصف المركز والمستمر بأحدث ما توصلت له تكنولوجيا المصانع الحربية الأمريكية، وقطع الإمدادات الغذائية والمياه عنها، وقطع صلاتها بمقر القيادة العامة.
المرحلة الثالثة:
الهجوم البري الشامل لسحق الفرق العسكرية العراقية، وتدميرها، مع استمرار القصف الجوي لكافة المرافق الاقتصادية في كافة أنحاء العراق، والتأثير على معنويات الشعب العراقي وإرهابه.
لقد كانت الخطة تعتمد على قوة السلاح الجوي في مرحلتي الحرب الأولى والثانية، وتجنب الالتحام بالقوات العراقية في البداية، لكي لا تقع خسائر كبيرة في صفوف قواتهم، وجعلت الهجوم البري، مرحلة متأخرة، لحين استكمال القصف الجوي لكافة الأهداف المحددة في المرحلتين الأولى والثانية، وكانت القوات الأمريكية والقوات الحليفة وأسلحتها من الضخامة والقوة أن بدت وكأن الغرب يعد لحرب عالمية ثالثة، وليس حرباً ضد بلد صغير من بلدان العالم الثالث!. (10)

 لقد وقف الرئيس الأمريكي جورج بوش يخطب في الكونجرس الأمريكي قبيل بدء القوات لأمريكية والقوات الحليفة للحرب ضد العراق قائلاً:
{ إنني احتفظ بالحق في الانتقال إلى مرحلة الهجوم العسكري لتحقيق الأهداف الأمريكية في الخليج}.
 وهذا هو واقع الحال، فلو لم يوجد النفط في منطقة الخليج  لما جاءت الولايات المتحدة وحلفائها بجنودهم إلى المنطقة، ولما أصدرت هذا العدد الكبير من القرارات ضد العراق.

لقد اعتدت إسرائيل عام 1967 على البلدان العربية، واحتلت الضفة الغربية من فلسطين، وصحراء سيناء في مصر، وهضبة الجولان السورية، وأجزاء من غور الأردن، كما اعتدت على لبنان عام 1980، واحتلت العاصمة بيروت، وهي اليوم لا تزال تحتل أجزاء من جنوب لبنان، والجولان.
 لكن الولايات المتحدة لم تكتفِ بالسكوت عن العدوان، بل دعمت وساندت إسرائيل في عدوانها، ولم تحرك ساكناً على انتهاك كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، منذُ قيامها عام 1948 وحتى اليوم، دون أن تلقى العقاب من مجلس الأمن، والمجتمع الدولي، فقرارات مجلس الأمن لا تنطبق على إسرائيل، بل على العرب وحدهم!!.
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com.








357
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي المدمر
حامد الحمداني                                                       24/7/2009

ماذا فعل نظام صدام في الكويت؟
في الوقت الذي كانت الأزمة بين النظام العراقي والغرب تتصاعد، وحمى الاستعدادات الحربية تشتد  كان النظام العراقي يسابق الزمن لتشديد قبضته على الكويت، وكبح جماح أي مقاومة لاحتلاله  بأقسى الإجراءات، وأكثرها وحشية.
لقد عّين صدام حسين ابن عمه [علي حسن المجيد] حاكماً عاماً للكويت، وهو المعروف بوحشيته غير المتناهية، والذي لقبه الشعب العراقي بـ [علي كيماوي] حيث ارتبطت باسمه جريمة استخدام القنابل الكيماوية ضد الجنود الإيرانيين، وضد المواطنين الأكراد، عند ما عينه الدكتاتور صدام حسين قائداً لحملة الأنفال السيئة الصيت ضد الشعب الكردي عام  1988، والتي ذهب ضحيتها عشرات من الألوف من مواطن الأكراد، وأباد أكثر من 5000 مواطن كردي بالسلاح الكيماوي في حلبجة خلال بضعة دقائق.

لقد مارس صدام ونظامه أبشع الأساليب عدوانية ضد الشعب الكويتي، كما مارس بشكل منظم عملية سرقة كل ما وقعت عليه يده، سواء ما كان يعود منها للدولة، أو للمواطنين الكويتيين، حيث كان نقل المسروقات يجري على قدم وساق بسيارات النقل الضخمة، العسكرية منها والمدنية، إلى العراق كغنائم، مثل ما كانت تفعل القبائل في القرون الغابرة عندما يغزو بعضها بعضاً.
وهكذا لم يترك نظام صدام شيئاً في الكويت إلا وسطى عليه، بدءاً من الخزينة المركزية، في البنك المركزي الكويتي، من ذهب وعملات نادرة، ومروراً بكل المعدات والأجهزة المستخدمة في الدوائر والمؤسسات الكويتية، والمستشفيات والبنوك، وانتهاءً بالمحلات التجارية الخاصة، والسيارات، ومساكن المواطنين.

فلم يكن صحيحاً ما ادعاه صدام عن عودة الفرع إلى الأصل، بل كان عملية سطو مسلح مع سبق الإصرار، وجاء على كل شيء، كما تأتي موجات الجراد على المزارع فتتركها جرداء قاحلة خلال ساعات، وقد خلقت أفعال نظام صدام وزمرته شعوراً من العداء الشديد لدى الشعب الكويتي تجاه العراق يصعب محوه لسنوات طوال.
وفي الخامس عشر من آب، أعلن نظام صدام ضم الكويت إلى العراق رسمياً واتخذ العديد من الإجراءات لمحو كل ما يشير إلى الكويت ككيان ودولة.
 فقد أقدم على إلغاء هوية الأحوال المدنية الكويتية، وإبدالها بهوية الأحوال المدنية العراقية، وأبدل أرقام السيارات الكويتية بالعراقية، وأعلن النظام العراقي أن الدينار الكويتي مساوياً للدينار العراقي، وجرى استخدامه في التعامل في الكويت، وأصر على تحدي العالم كله، والذي لم يعترف بإجراءاته ووقف ضدها، دون أن يبالي بما سوف تسببه مواقفه تلك من مآسي وويلات للشعب العراقي فيما بعد. (1)

لقد ظن صدام أن بإمكانه أن يربح الحرب إذا ما نشبت، كما نجح في حربه مع إيران، وبلغ معه الغرور مداه، بحيث جعله يتبجح بقوته أمام عدسات التلفزيون قائلاً:
{ليس لدي أدنى شك، ولو واحد في المليون بأننا سنربح الحرب إذا نشبت}، وفاته أن نجاحه في حربه ضد إيران ما كان  ليتحقق لو لم تكن حرب أمريكية، خاضها صدام حسين نيابة عنها.

الدور الإسرائيلي في الأزمة:

كانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية ـ الموساد ـ تراقب عن كثب، خلال سني حرب الخليج الأولى  جهود النظام العراقي في تطوير آلته الحربية، وحصوله على مختلف أنواع الأسلحة التي كانت تنهال عليه من الشرق والغرب على حد سواء. وسرعان ما تحولت حالة  الترقب لدى إسرائيل إلى حالة من القلق، بعد أن استطاع العراق أن ينشئ المصانع الحربية، ويطور الصواريخ التي حصل عليها من مصادر متعددة، ويزيد من مداها، لتصل إلى عمق إسرائيل، هذا بالإضافة إلى تصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، وسعيه الحثيث لتصنيع القنبلة النووية.

ورغم أن إسرائيل استغلت انشغال النظام العراقي بحربه ضد إيران، وأقدمت على ضرب مفاعله النووي عام 1981، إلا أن العراق استطاع أن يحتفظ بما يزيد على 13 كغم من اليورانيوم المنقى، والذي يكفي لصنع قنبلة نووية، وبذل النظام العراقي جهوداً كبيرة لإعادة بناء مفاعله النووي، وكان بعد حرب الخليج الأولى على وشك أن يستطيع إكمال برنامجه لإنتاج القنبلة النووية. (2)
وهكذا فقد بدأت إسرائيل بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية تشن حملة واسعة النطاق على العراق على لسان المسؤولين فيها، وعِبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الصهيونية العالمية في مختلف أرجاء العالم، وعلى امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وهدد قادة إسرائيل بشن حرب وقائية ضده، لتدمير قواعد صواريخه، ومصانع أسلحته، ومفاعله النووي.

ورد صدام حسين على التهديدات الإسرائيلية قائلاً، عِبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، بأنه إذا ما تعرض العراق للهجوم من جانب إسرائيل، فسوف يرد عليها بالكيماوي المزدوج، ويحرق نصفها.(3)
وهكذا تصاعدت لهجة التهديد والتهديد المضاد بين الطرفين، ووصل الأمر إلى درجة التوقع بحدوث أمر ما بين العراق وإسرائيل.
 لكن صدام حسين استدار على حين غرة، من توجهه نحو إسرائيل، والتهديدات المتبادلة بين الطرفين، إلى مهاجمة الكويت، ويغزوها في 2 آب 1990، ويثير الرأي العام العالمي ضد العراق.
وتنفست إسرائيل الصعداء، فقد وقع صدام حسين في الفخ الذي نصبته له الولايات المتحدة، ولن يستطيع الخروج منه، وبدأ الغرب، بزعامة الولايات المتحدة بتحشيد القوات العسكرية في السعودية استعداداً لتوجيه الضربة القاضية للعراق.
كان صدام في تلك الأيام يحاول كسب الرأي العام العربي، ويعوّل عليه في دعمه للضغط على الحكومات العربية لكي تقف إلى جانبه، عن طريق التهديد بضرب إسرائيل بصواريخه، وسلاح الكيماوي المزدوج الذي كان يفاخر به.
 وأرادت إسرائيل أن تسبق العراق، وتوجه ضربة واسعة لقواعد الصواريخ والمنشآت النووية، إلا أن الولايات المتحدة استطاعت أن تضغط على حكومة شامير اليمينية المتطرفة لتمسك أعصابها، ولكي لا تسبب أية تحركات إسرائيلية، رد فعل عربي، والشعبي منه بوجه خاص، مما يضيّع الفرصة على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين للسير بالمخطط المرسوم لضرب العراق.
وسارعت الولايات المتحدة إلى نقل مجموعات كبيرة من صواريخ [باتريوت] المضادة للصواريخ إلى إسرائيل، وتم الاتفاق بين الطرفين، الأمريكي والإسرائيلي على أن تشارك إسرائيل في المجهود الحربي الغربي من وراء الستار، لكي لا تتحول الحرب المقرر شنها على العراق، إلى حرب عربية إسرائيلية بانجرار إسرائيل إلى حرب مكشوفة مع العراق، ولاسيما وأن الولايات المتحدة استطاعت أن تجر مصر وسوريا والمغرب، بالإضافة إلى دول الخليج، إلى المشاركة في تأمين الغطاء العربي للحرب ضد العراق!!، بحجة تحرير الكويت، ولتدمير كافة المقومات الاقتصادية والعسكرية للعراق، كما خططت له الولايات المتحدة. وانصاعت إسرائيل لرغبة الولايات المتحدة، ولم تبدِ رد فعل ضد العراق، حتى عندما أطلق صدام حسين عليها عدد من الصواريخ بعيدة المدى، وهي المعروفة بالرد السريع والعنيف على أي هجوم عليها مهما صغر شأنه، وسارعت الولايات المتحدة بتعويضها بمليار دولار عن كل صاروخ سقط فوق إسرائيل، مدفوعاً من خزائن السعودية وبلدان الخليج. (4)

 موقف الاتحاد السوفيتي من الأزمة:

 في تلك الظروف التي وقع فيها الغزو العراقي للكويت، كان المعسكر الاشتراكي قد تهاوى، وبدأت عوامل التفكك والانهيار بادية للعيان في الاتحاد السوفيتي، وأصبح انهياره أمراً محتماً، وانكفأ من المسرح الدولي كقوة عظمى، وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، تلعب الدور الرئيسي في تقرير مصائر الشعوب، دون معارضة تذكر من جانب الاتحاد السوفيتي، بل على العكس  بدا الاتحاد السوفيتي منساقاً إلى تأييد الخطوات الأمريكية حيال الأزمة العراقية.

وقبل يوم من قيام العراق بغزو الكويت، كان وزير الخارجية الأمريكية [جيمس بيكر] في زيارة رسمية للاتحاد السوفيتي، حيث أجرى مباحثات مع وزير الخارجية السوفيتية [إدوارد شيفرنادزا] في فيلادوفسك، حول مختلف القضايا الدولية، ثم غادر بيكر في اليوم التالي أي إلى منغوليا في زيارة رسمية، ولم يكد بيكر يمضي سوى ساعات في منغوليا حتى أُبلغ بوقوع الغزو العراقي على الكويت.
سارع بيكر إلى الاتصال مجدداً بوزير الخارجية السوفيتي شفرناتزا، طالباً منه اللقاء من جديد، لبحث موضوع الغزو العراقي، وانعكاساته على الوضع الدولي.
واستجاب شفرناتزا لطلب بيكر، الذي قطع زيارته على الفور، وتوجه إلى موسكو  حيث عقد مع الوزير السوفيتي اجتماعاً مطولاً معه حال وصوله، وناقشا معاً مسألة الغزو العراقي للكويت، وموقف الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة منه، وقد أتسم جو اللقاء بين الوزيرين بالتفاهم، حيث أكد الطرفان في بيان مشترك، استنكارهما للغزو، ودعيا العراق إلى سحب قواته من الكويت فوراً، ودون شروط  وظهر بيكر وشيفرناتزا بعد نهاية الاجتماع بأنهما قد اتفقا على كل شيء، وبدا الاتحاد السوفيتي في مواقفه وكأنه قد فقد إرادته، وأصبح تابعاً للولايات المتحدة، وقد تجلى ذلك بجلاء عندما أجتمع مجلس الأمن في نفس اليوم 2 آب 1990 وأصدر قراره الأول رقم 660 ضد العراق، والذي طالب العراق بالانسحاب الفوري من الكويت دون قيد أو شرط، فقد وقّع المندوب السوفيتي على مشروع القرار دون تردد.
ولابد أن أشير هنا إلى أن العراق الذي يرتبط مع الاتحاد السوفيتي بمعاهدة صداقة وتعاون، وعلاقات إستراتيجية، لم يحاول إبلاغ الاتحاد السوفيتي بعزمه على غزو الكويت واحتلاله، في حين أن بنود المعاهدة كانت تقتضي التشاور بين البلدين، مما اغضب الاتحاد السوفيتي.

لقد أخطأ صدام حسين عندما ظن أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يقف إلى جانبه ويدعمه، بموجب المعاهدة المعقودة بين البلدين، ولم يضع في حسبانه أن الظروف قد تغيرت، وتغير معها الاتحاد السوفيتي، وفقد قوة تأثيره في السياسة الدولية، وقد تجلى ذلك في تصريح للرئيس السوفيتي [غورباتشوف]،لأحد القادة العرب حيث قال:
 {إن غزو العراق للكويت مخالف لكل المواثيق والأعراف الدولية}، وهو بطبيعة الحال لا يلام على ذلك.
 لكن غورباتشوف أردف قائلا: {إن الأمريكيين قالوا لنا بان لهم مصالح حيوية في بترول الشرق الأوسط، وأنهم سيحاربون من أجل حمايتها مهما حدث، ونحن نتفهم وجهة نظرهم}. (5)

هكذا بدا موقف الرئيس السوفيتي من عزم الولايات المتحدة على الحرب دفاعاً عن مصالحها النفطية، وقد عّبر الرئيس الأمريكي بوش عن عظيم امتنانه وسعادته لموقف الاتحاد السوفيتي الجديد.
وفي 9 أيلول 1990،التقى الرئيسان [بوش] و[غرباتشوف] في هلسنكي بفلندا، في مؤتمر للقمة ضمهما، وكان بوش قد عقد العزم قبل هذا اللقاء على استخدام القوات المسلحة لضرب العراق، وإجباره على سحب قواته العسكرية من الكويت، وخلال اللقاء تحدث بوش عن تصميم الولايات المتحدة على استخدام القوة ضد العراق، وزاد على ذلك بأن طلب من غورباتشوف المساهمة بقوات عسكرية معه في الجهد العسكري الغربي، إلا  أن غورباتشوف أعتذر عن المشاركة مدعياً بأنه قد وعد الشعب السوفيتي بأن لا يرسل جيشه للقتال خارج الاتحاد السوفيتي، بعد تورطه في أفغانستان، وكان واضحاً من رده بأنه لا يعارض الخطط الأمريكية فيما يخص أزمة الخليج، وقد ظهر الرئيسان بعد اللقاء في مؤتمرهما الصحفي وعلامات الرضا والارتياح عما دار في الاجتماع بادية على وجهيهما.
لقد تجلى التجاذب السوفيتي الأمريكي في أجلى مظاهره عندما كان بيكر وشيفرناتزا مجتمعان لبحث مشروع القرار رقم 678  الذي قدمته الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن حول تفويض المجلس للولايات المتحدة وحلفائها باستخدام القوات العسكرية لطرد القوات العراقية من الكويت.

فلم يكن هناك أي خلاف جوهري بين الطرفين حول مشروع القرار، وكل  ما حدث هم خلاف بسيط حول صيغة القرار، فقد أرتئ [شيفرناتزا]عدم ضرورة استخدام عبارة [استخدام القوات العسكرية] والاستعاضة عنها بعبارة [باستخدام كل الوسائل الضرورية] بدلاً منها، مؤكداً للجانب الأمريكي أن العبارة الجديدة تشمل كل شيء، ومن ضمنها استخدام القوة العسكرية، وأضاف شفرناتزا قائلاً: {أنا وأنت ندرك ذلك تماماً}.

لقد أراد شفرناتزا التلاعب بالألفاظ والعبارات، ولم  يشأ أن يلزم نفسه بصراحة باستخدام القوة، قد كان قلقاً من تطورات الأوضاع الداخلية في الاتحاد السوفيتي، حيث كانت الدلائل تشير إلى قرب وقوع انقلاب عسكري في البلاد يطيح بزمرة غورباتشوف ـ شفرناتزا، مما  قد يعرضه لمحاسبة قاسية على موقفه من استخدام القوة العسكرية، استعاض عنها بعبارة مطاطية، يمكن  تفسيرها كما يشاء الجانب الأمريكي.

الانقلاب العسكري الفاشل في الاتحاد السوفيتي وتأثيره على الأزمة:

في يوم 25 آب 1990، وقع بالفعل انقلاب عسكري في الاتحاد السوفيتي، عندما كان غورباتشوف في منتجعه على البحر الأسود، حيث  تم وضعه تحت الإقامة الجبرية، محاطاً بالحرس، إلا أن الانقلاب سرعان ما تهاوى وفشل، بعد يومين من وقوعه.
 وبرز[بوريس يلتسين] المطرود من عضوية المكتب السياسي، واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في عهد الرئيس [برجنيف] وبدا يلعب دوراً كبيراً في تصفية أجهزة الجيش، والأمن، والدولة، والتخلص من كل العناصر التي كانت تدين بالولاء للحزب الشيوعي.
 وهكذا غدا الاتحاد السوفيتي وكأنه قد أصبح تابعاً يدور في فلك الولايات المتحدة، وباشرت السلطة الجديدة في الاتحاد السوفيتي عملية هدم كبرى لكل المنجزات التي حققها الشعب السوفيتي خلال 70 عاماً، وقدم من أجلها التضحيات الجسام، وحولته إلى شعب يرثى لحاله، إثر تحويل اقتصاده الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الرأسمالي على يد حكومة يلتسين، ولم يعد الاتحاد السوفيتي ذلك الند الذي كان يقف بالمرصاد لكل المخططات الإمبريالية الرامية إلى استعباد الشعوب، ونهب ثرواتها، بل لقد سكتت حكومة الاتحاد السوفيتي الجديدة، حتى عن الكلام والاعتراض على تصرفات الولايات المتحدة، وتحكمها برقاب الشعوب.

لقد تجلت مواقف الاتحاد السوفيتي  بكل وضوح، عند ما التقى طارق عزيز، وزير الخارجية العراقية  بالرئيس غورباتشوف، في 5 أيلول 1990، فقد تحدث غورباتشوف مع طارق عزيز حول الأزمة قائلاً:
{ إن غزو العراق للكويت يتناقض مع تفكيرنا الجديد، وعلى النظام العراقي أن يُقرَّ بأن للأمريكان مصالح حيوية في الشرق الأوسط، وإننا من جانبنا نعترف بهذه المصالح، ونعرف أن الولايات المتحدة على استعداد لاستخدام القوة العسكرية إذا تعرضت هذه المصالح للتهديد، ونحن في الاتحاد السوفيتي لا نستطيع أن نفعل شيئاً في هذا وأنتم في العراق لابدّ أن تجروا حساباتكم لمواقفكم على هذا الأساس}.(6)

وقد رد عليه طارق عزيز قائلاً:{لقد كنا نتصور أنكم سوف تقفون معنا معنوياً على الأقل، للحيلولة  دون وقوع الحرب}.
وكان جواب غورباتشوف:
 {إن ما قمتم به عمل من أعمال العدوان، ونحن  لا نستطيع أن نساعدكم لا مادياً ولا معنوياً}.(7)
وهكذا اسقط في يد النظام العراقي، وبدا كورقة من أوراق الخريف، تذروها الرياح حيث يقف أمام أعتا الدول الإمبريالية، وأقواها عسكرياً، من دون أن يجد له أي عضيد يقف إلى جانبه، بل لقد استطاعت الولايات المتحدة جر معظم الدول العربية إلى جانبها، والمساهمة في الجهد العسكري ضده، وكان الشعب العراقي في حيرة من أمره، فيما يمكن أن تجره مغامرة صدام حسين الطائشة من خراب ودمار، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً أمام فاشية النظام وقهره، مسلماً مصيره للأقدار.

رابعا: مجلس الأمن يواصل إصدار القراراته المجحفة بحق العراق

 في الفترة ما بين 13 أيلول، و29 تشرين الثاني أصدر مجلس الأمن 7 قرارات بحق العراق استهدفت تشديد الضغط، وإحكام الحصار على العراق، حيث صدرت القرارات 666 في 13 أيلول، و667 في 16 أيلول، و669 في 24 أيلول، و 670  في 25 أيلول، و674 في 29 تشرين الأول، و677 في 28 تشرين الأول و 678 في 29 تشرين الأول من عام 1990، وفيما يلي أهم ما جاء بهذه القرارات:
قرار رقم 666 ـ 13 أيلول 1990: (3)
  إن مجلس الأمن :

إذ يشير إلى قراره 661 في 1990 الذي تنطبق الفقرتان 3ج ، و4 منه على المواد الغذائية المستثناة، وبإدراك للظروف التي قد تستجد لتجعل من الضروري إرسال المواد الغذائية اللازمة للمدنيين في العراق والكويت، متوخياً التخفيف عن البؤس البشري، وبما أن اللجنة المشكلة بموجب الفقرة السادسة من ذلك القرار قد تلقت عدة رسائل من عدة دول أعضاء، وإذ يؤكد أن مجلس الأمن هو الذي يحدد وحده، أو من خلال اللجنة، ما إذا كان قد نشأت ظروف إنسانية، وإذ يساوره القلق البالغ لعدم وفاء العراق بالتزاماته المحددة بموجب قرار مجلس الأمن رقم  في1990 فيما يتعلق بسلامة رعايا الدول الثالثة ورفاتهم، وإذ يؤكد من جديد أن العراق يتحمل المسؤولية الكاملة في هذا الشأن، بموجب القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة، حيثما أنطبق ذلك. وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يقرر:

تُبقي اللجنة الحالة فيما يتعلق بالمواد الغذائية في العراق والكويت قيد الاستعراض مستمرة، حتى يتسنى أن يحدد على النحو اللازم لأغراض الفقرة ج3 ، والفقرة 4 من القرار 661، ما إذا كانت ظروف إنسانية قد نشأت.                 
يتوقع من العراق أن يفي بالتزاماته بموجب قرار مجلس الأمن رقم 664 (1990 ) فيما يتعلق برعايا الدول الثالثة، ويؤكد من جديد أن العراق يبقى مسؤولاً مسؤولية كاملة عن سلامتهم ورفاههم، وفقاً للقانون الدولي بما فيه اتفاقية جنيف الرابعة، حيثما تنطبق ذلك.     
                                     .                                                                                            يطلب من الأمين العام، لأغراض الفقرتين 1، 2 أن يلتمس بصفة عاجلة ومستمرة، معلومات من وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة، وغيرها من الوكالات الإنسانية المناسبة، وجميع المصادر الأخرى، عن مدى توفر الأغذية في العراق والكويت، وأن ينقل هذه المعلومات بصفة منتظمة إلى اللجنة.                       
4 ـ ويطلب كذلك أن يولي اهتمام خاص عند التماس مثل هذه المعلومات وتقديمها للفئات التي يمكن أن تتعرض للمعانات بوجه خاص، مثل الأطفال دون سن الخامسة عشر، والحوامل، والوالدات، والمرضى والمسنين.                                   
5 ـ يقرر أن تقوم اللجنة إذا رأت، بعد تلقي التقارير من الأمين العام، أنه قد نشأت ظروف توجد فيها حاجة ماسة لإمداد العراق والكويت بالمواد الغذائية لتخفيف المعانات البشرية، بإبلاغ المجلس فوراً بقرارها المتعلق بكيفية تلبية هذه الحاجة.
يشير على اللجنة أن تضع في اعتبارها، عند صياغة قراراتها، أنه ينبغي أن يتم توفير المواد الغذائية من خلال الأمم المتحدة، بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أو غيرها من الوكالات الإنسانية، وأن يتم توزيع  المواد الغذائية بمعرفتها، أو تحت إشرافها، لضمان وصولها إلى المستفيدين المستهدفين.
7 ـ يطلب من الأمين العام استخدام مساعيه الحميدة من أجل إيصال المواد الغذائية إلى العراق والكويت وتوزيعها وفقاً لأحكام هذا القرار، وغيره من القرارات الأخرى ذات الصلة.                                                                           
8 ـ يشير إلى أن القرار 661 (1990)، لا ينطبق على الإمدادات المرسلة على وجه التحديد للأغراض الطبية، ولكنه يوصي في هذا الصدد بتصدير الإمدادات الطبية أو تحت الإشراف الدقيق لحكومة الدولة المصدرة، أو بواسطة الوكالات الإنسانية المناسبة.
 والجدير بالذكر أن هذا القرار بقي حبراً على ورق، واستمرت معانات الشعب العراقي بسبب فقدان الغذاء والدواء، فلم يكن ما يهم الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين تأمين الحاجيات المادية الضرورية لشعب العراق، بل على العكس، كان في مقدمة أهدافهم تدمير البنية الاقتصادية والاجتماعية للعراق، وإذلال شعبه.
 قرار رقم 667 ـ 16 أيلول 1990
وقد أدان هذا القرار انتهاك النظام العراقي للمقار الدبلوماسية في الكويت، واختطاف الموظفين الدبلوماسيين والرعايا الأجانب المتواجدين قي تلك المقار، وحمل النظام العراقي مسؤولية ذلك العمل، وطالب بالإفراج عنهم، وتأمين سلامتهم.
كما طالب القرار بأن يمتثل العراق بصورة فورية وتامة لالتزاماته الدولية، بموجب قرارات مجلس الأمن 660، 662، 664، واتفاقية فيّنا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، والقانون الدولي.
قرار رقم 669 ـ 24 أيلول 1990
 وقد تضمن القرار الطلب إلى اللجنة المنشأة بموجب القرار 661 في 1990 بشأن الحالة بين العراق والكويت بمهمة دراسة طلبات المساعدة المقدمة في إطار أحكام المادة 50 من ميثاق الأمم المتحدة، والتقدم بتوصيات إلى رئيس مجلس الأمن لاتخاذ الإجراء الملائم بشأنها.
قرار رقم 670 ـ 25 أيلول 1990
وتضمن هذا القرار فرض حصار جوي محكم على العراق، ومنع كافة الطائرات من الإقلاع من المطارات العراقية، أو الهبوط فيها، وفرض على جميع الدول عدم السماح لأي طائرة عراقية بالطيران في أجوائها، أو الهبوط في مطاراتها، ما لم تأذن اللجنة المكلفة من قبل مجلس الأمن بقيام الرحلة.
كما طلب القرار تشديد الحصار البحري على العراق والكويت، ألزمت جميع الدول باحتجاز أي سفينة عراقية تدخل موانئ تلك الدول.
كما أدان هذا القرار العراق لاستمراره باحتلال الكويت، وسوء معاملة القوات العراقية للشعب الكويتي، وطالب النظام العراقي الالتزام باتفاقية جنيف الرابعة، والكف عن الانتهاكات التي يرتكبها ضد الشعب الكويتي.

قرار رقم 670 ـ 25 أيلول 1990
 وقد طالب هذا القرار جميع الدول بالالتزام الكامل بالقرار 661، ولاسيما الفقرات 3 ،4 ،5 منه،  وأكد القرار على تشديد الحصار الجوي والبحري على العراق والكويت، واحتجاز أي طائرة أو سفينة مسجلة في العراق، وعدم السماح بإقلاع أي طائرة إلى العراق أو الكويت ما لم يكن مرخص لها من قبل اللجنة الخاصة التابعة لمجلس الأمن.
قرار رقم 674 ـ 29 تشرين الأول 1990
 وتضمن هذا القرار إدانة النظام العراقي لاستمراره باحتجاز الرهائن، وطالب بالسماح لهم بمغادرة العراق فوراً، وأتهم النظام بخرق ميثاق الأمم المتحدة.
وطالب جميع الدول أن تجمع كل ما في حوزتها من معلومات بشأن حالات الخرق الخطير من جانب حكومة العراق، وتقديمها إلى مجلس الأمن.
كما طالب القرار حكومة العراق بأن تكفل فوراً، توفر الأغذية والمياه والخدمات اللازمة لحماية ورفاه الرعايا الكويتيين، ورعايا الدول الأخرى.
وأدان القرار إقدام النظام العراقي على إعدام السجلات المدنية لسكان الكويت، والقيام بشكل غير مشروع بتدمير الممتلكات العامة والخاصة في الكويت أو الاستيلاء عليها، وحمل النظام العراقي المسؤولية عن كافة الخسائر والأضرار التي تصيب الممتلكات العامة والخاصة في الكويت، بموجب القانون الدولي.
وطلب القرار إلى جميع الدول بتقديم المعلومات ذات الصلة المتعلقة بمطالبتها، ومطالبات رعاياها وشركاتها في العراق بجبر الضرر، أو التعويض المالي، بغية وضع ما قد يتقرر من ترتيبات، وفقاً للقانون الدولي.
قرار رقم 677 ـ 28 تشرين الثاني 1990
 وقد تضمن هذا القرار إدانة النظام العراقي لمحاولاته تغيير التكوين الديموغرافي لسكان الكويت، وإعدام السجلات المدنية التي تحتفظ بها الحكومة الكويتية، وكلف مجلس الأمن الأمين العام للأمم المتحدة بأن يودع نسخة من سجل سكان الكويت التي كانت قد صادقت عليها الحكومة الكويتية لغاية1 آب 1990 لدى مجلس الأمن.

حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com

358
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي
الحلقة السادسة

حامد الحمداني                                                      22/7/2009

نظام صدام في مأزق
لم يقدر نظام صدام حسين الأمور تقديراً صائباً، أوقع نفسه بالفخ، وجره تعنته إلى نقطة اللا عودة.
 فقد استهان صدام بالتطورات التي حدثت على المستوى العالمي، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية تفكك الاتحاد السوفيتي، وظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، دون منازع.
وقد أخذ صدام الغرور من تعداد جيشه وأسلحته، التقليدية منها وأسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، وصواريخه بعيدة المدى، إضافة إلى سعيه الحثيث لامتلاك القنبلة النووية.
وقد ظن صدام نفسه قادر على منازلة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين لهم مصالح كبرى في الخليج تجعلهم على استعداد لعمل كل شيء من أجل الحفاظ عليها، حتى لو أدت إلى حرب ذرية، ووصل الأمر بصدام أن يقف أمام عدسات التلفزيون، يستهزئ بقوة الولايات المتحدة، وتكنولوجيتها العسكرية قائلاً:
{إن طائرة الشبح التي يهددوننا بها لا تخيفنا، وإن بإمكان راعي الغنم أن يسقطها ببندقية البرنو!، أضاف صدام قائلاً:  إنني واثق كل الثقة بأننا سننتصر إذا ما قامت الحرب، وإننا سوف نهزم الجيوش الأمريكية وجيوش حلفائها، ونعيد جنودهم إلى بلادهم بالأكفان!}.(1)
بهذه العقلية كان يفكر صدام، وقد جعل من نفسه القائد الضرورة الذي لم تنجب الأمة العربية قائداً مثله من قبل. وقد بلغ به الغرور حداً جعله يفاجئ حتى اقرب أصدقاء العراق، في غزوه الكويت.
 فقد كان من المفروض أن يجري مشاورات مع الاتحاد السوفيتي، الذي تربطه به معاهدة صداقة وتعاون إستراتيجي حول خططه لغزو الكويت، ويقف على حقيقة موقفه من مغامرته تلك، فلا ُيعقل أن ُيقدم بلد صغير كالعراق على تحدي الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، دون أن يكون له سند كالاتحاد السوفيتي.
 وهكذا فوجئ صدام بأن الاتحاد السوفيتي يقف ضد مغامرته، ولا يؤيده فيها، بل يطالبه بالانسحاب الفوري من الكويت، ويؤيد كل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ضد العراق.
 وبدلاً من أن يعيد صدام حساباته، ويتدارك الأمور قبل فوات الأوان، فإننا نجده يصعّد الأزمة أكثر فأكثر.
 فقد أعلن عن مطالب جديدة، بربط مسألة احتلال الكويت بمشاكل الشرق الأوسط، طالباً انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وذهب إلى أبعد من ذلك فطالب بتوزيع الثروة النفطية على الدول العربية الفقيرة. (2)
 كانت تلك كلمة حق  أراد بها باطل، فلو كان صدام يهتم بمصالح الشعوب العربية إلى هذا الحد، فقد كان الأولى به أن يهتم بمصالح شعبه أولاً وقبل كل شيء.
 لكنه بدلاً من أن ينهض بمستوى معيشة شعبه،  زجه في حرب دموية لا مبرر لها، ولا مصلحة له فيها مع الجارة إيران، دامت 8 سنوات، وأغرق العراق وشعبه بالدماء، وجاءت الحرب على الأخضر واليابس، كما يقول المثل.
 وخرج العراق منها وهو مثقل بالديون، وقد فقد كل مدخراته، وأصيب اقتصاده بالانهيار التام، وبدلاً من أن يحاول صدام إصلاح أوضاع العراق الاقتصادية، عن طريق نبذ الحروب، وسياسة التسلح، وتبديد ثروات البلاد، فإنه لجأ إلى غزو الكويت، وأوقع العراق بمأزق جديد، يفوق بمئات المرات، المأزق الإيراني، ولم يحسب أي حساب لما يمكن أن تؤدي مغامرته هذه بالعراق من مآسي وويلات.
لقد كان التساؤل على أفواه الجميع:
كيف جرأ صدام حسين على تحدي الولايات المتحدة؟
هل كان هناك أدنى شك بان صدام يقود العراق إلى معركة خاسرة؟
لقد كان المواطنون العراقيون في تلك الأيام يتساءلون عن سر موقف صدام، وكان يدور في ذهنهم احتمالين:
الاحتمال الأول: ربما يكون قد أصاب صدام مَسّ من الجنون، جعله يقنع نفسه بقدرته على دحر الجيوش الأمريكية وحلفائهاالغربيين.
الاحتمال الثاني: أن صدام كانت لديه القناعة بأن الولايات المتحدة، التي سهلت له الأمر للإقدام على مغامرته، حين التقى بسفيرتها [أيريل كلاسبي] أعطته الضوء الأخضر لاحتلال الكويت، تعويضاً لخسائره في حربه مع إيران، نيابة عنها، وأن ما تفعله من استعدادات حربية ما هو إلا زوبعة في فنجان لا تلبث أن تضمحل وتزول، وليست فخاً نصبته له الولايات المتحدة لتوقع العراق فيه، من أجل توجيه الضربة القاضية له، وتحطيم قدراته العسكرية والاقتصادية وتعيد العراق إلى الوراء عشرات السنين.
 وعندما أدرك صدام، في نهاية الأمر أن التحشيدات الأمريكية والحليفة
 في السعودية لا يمكن أن تكون لمجرد التهديد، أو لذر الرماد في العيون، والسكوت عن احتلال الكويت، حاول أن يقدم التطمينات للولايات المتحدة لعله يثنيها عن القيام بالهجوم على العراق.
 فقد تعهد للقائم بالأعمال الأمريكي في بغداد بأن العراق لا ينوي مطلقاً التعرض للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، وبشكل خاص مصالحها النفطية، وأنه ليس له أطماع في السعودية، ولا أي بلد خليجي، وأن احتلال الكويت يتعلق بمسألة تاريخية تؤكد أن الكويت تاريخياً جزء من العراق، وكان قضاءً تابعاً لولاية البصرة
 كما أعرب صدام حسين للقائم بالأعمال الأمريكي عن استعداده لإقامة علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، ورجاه أن ينقل كل ما دار في اللقاء، وعلى وجه الخصوص ما تحدث عنه شخصيا، إلى الرئيس بوش بصورة مباشرة، وقد وعده القائم بالأعمال بأن يفعل ذلك.
ومن جانبه، طالبه القائم بالأعمال بأن يسمح للرعايا الغربيين بمغادرة العراق، حيث سبق لصدام أن أحتجزهم في العراق كرهائن، ليمنع كما أعتقد، الولايات المتحدة وحلفائها من ضرب العراق.
لكن صدام أبلغه انه يعتبرهم ضيوف على العراق !!، وأن لا خطر عليهم، إلا إذا كانت النية مبيته لضرب العراق، وانتهى الاجتماع بعد ذلك بين الطرفين، على أمل أن يلقى جواباً من بوش.(3)
 وانتظر صدام حسين أي إشارة من الجانب الأمريكي، لكنه كان يحاول عبثاً، فقد كانت التحركات الأمريكية تجري بأسرع ما يكون لإكمال التحشد استعداداً للهجوم على العراق.
 ولم يكن الرئيس بوش على استعداد لفتح أي قناة اتصال مع صدام حسين وإجراء أي نقاش معه، حتى ولو قرر العراق الانسحاب حقاً، فقد كانت الخطة قد تقرر تنفيذها مهما كانت الظروف، لكي تنهي الولايات المتحدة التهديد العراقي لمصالحها في الخليج لسنين طويلة.
لقد حاول صدام في آخر المطاف، وبعد أن أدرك أن الحرب باتت وشيكة، أن يوصل إشارات للولايات المتحدة عن نيته للتراجع، ونقل إلى ياسر عرفات أفكاراً جديدة لكي يوصلها بدوره، عن طريق وسيط آخر مقرب من مراكز السلطة في الولايات المتحدة، وكانت تلك الأفكار تتضمن ما يلي:
1 ـ موافقة العراق على الانسحاب من الكويت.
2 ـ موافقة العراق على عودة أسرة الصباح إلى الحكم من جديد.
3 ـ تواجد عراقي في جزيرة بوبيان، وعودة منطقة الرميلة الجنوبية للسيادة العراقية.
4 ـ تنازل الكويت عن الديون المستحقة على العراق.
5 ـ دخول قوات عربية بصورة مؤقتة إلى الكويت، لحين عودة أسرة الصباح إلى الحكم، وترتيب الأوضاع الأمنية في البلاد.(4)

 لكن محاولات نظام صدام كلها ذهبت أدراج الرياح، ولم يعد له متسع من الوقت لأي مناورة للانسحاب من الكويت، وحفظ ماء الوجه، فقد كان الأمر بالنسبة للولايات المتحدة قد انتهى، أن صدام قد دخل المصيدة، ولا يمكن أن تطلقه من جديد.
لقد كان هَمْ الولايات المتحدة تأمين الحشد الكافي، بأسرع وقت ممكن، لضمان عدم تعرض السعودية لخطر هجوم عراقي، ولذلك فلم تتحدث في بادئ الأمر عن التصدي للعراق، بل ادعت بأنها جاءت بقواتها لحماية السعودية ودول الخليج الأخرى.
 وعندما أصبح لديها من القوة ما تستطيع حماية السعودية، كشفت عن خططها، وأعلنت عن توجهاتها الحقيقية بأنها لن ترضَ فقط بسحب العراق لقواته من الكويت، أو طردها بالقوة، بل زادت على ذلك بأنها تريد نزع أسلحة العراق ذات الدمار الشامل.(5)
 وفي حقيقة الأمر، وكما أثبتته الأحداث فيما بعد أنها كانت ترمي إلى أبعد من ذلك بكثير إنها كانت قد صممت على تحطيم البنية الاقتصادية للعراق، تحطيماً شاملاً، وإعادة العراق إلى ما قبل الثورة الصناعية، كما قال وزير الخارجية الأمريكية [جيمس بيكر] وزير خارجية لطارق عزيز في لقاء [جنيف] قبيل نشوب الحرب بأيام.
استمرت الولايات المتحدة وحلفائها بتحشيد القوات العسكرية، وكان النظام العراقي يرد على ذلك التحشيد، بتحشيد المزيد من قواته حتى جاوزت النصف مليون عسكري، معززين بآلاف الدبابات والمدفعية والصواريخ، وكان الشعب العراقي يضع يده على قلبه، وهو في أقصى حالات القلق لما يمكن أن يحل به، وبالوطن، نتيجة تهور وغرور الدكتاتور الأهوج.
لقد تم إحكام طوق الحصار على العراق، وقُطعت السبل أمام نفطه، وتوقفت أنابيب النفط عن الجريان، أخذت السفن الحربية الأمريكية والحليفة تجوب مياه الخليج، وتوقفت السفن المتوجهة إلى العراق، والقادمة من موانئه، وجرى تفتشها، ومصادرة حمولتها.
 كان النظام العراقي يعتقد بأن ليس بإمكان الولايات المتحدة منع العراق من بيع نفطه ونفط الكويت، لما يمكن أن يسببه المنع من نقص في الأسواق العالمية، ويؤدي بالتالي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وبالفعل فقد ارتفعت الأسعار من 13 دولار إلى ما يقرب 40 دولاراً، لكن الولايات المتحدة سارعت للتدخل، وطرحت من خزينها الاستراتيجي في الأسواق العالمية
كميات كبيرة من النفط.
كما أوعزت إلى أصدقائها من الدول المنتجة للنفط، وعلى رأسها السعودية ودول الخليج، إلى رفع معدلات الإنتاج، وعدم التقيد بحصص الإنتاج، وبدأ الإنتاج يتصاعد لدى معظم دول الأوبك التي كانت تواقة لزيادة إنتاجها متجاوزة حصص الإنتاج التي كانت قد أقرتها منظمة الأوبك، وهكذا عادت الأسعار إلى الهبوط من جديد.
وفي الوقت الذي حُوصر النفط العراقي والكويتي، وتوقفت موارد العراق النفطية، كانت الأرصدة العراقية في المصارف الأجنبية قد جُمدت، مما أوقع النظام العراقي في حيرة كبرى، لا يعرف كيف يخرج منها، وكل ما فعله هو لجوئه إلى التصعيد مرة أخرى، حيث أعلن النظام أن الرعايا الأجانب سوف يحجزون في كافة المرافق الاقتصادية والعسكرية كرهائن لمنع أي هجوم تشنه الطائرات الأمريكية والحليفة، مما أثار غضب واستنكار عالمي واسع على زج المدنيين في مخاطر الحرب.

وعلى الفور بادرت الولايات المتحدة إلى تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن تحت رقم 664، في 18 آب 1990، والذي اقره المجلس، وقد عبر القرار عن قلق المجتمع الدولي من حجز الرعايا الأجانب، وطالب العراق بأن يؤمن مغادرتهم العراق على الفور، وحمل العراق مسؤولية أي ضرر يمس سلامتهم وصحتهم . وكان النظام العراقي قد أخلى كافة فنادق الدرجة الأولى في بغداد وحجز الرعايا الأجانب فيها. وفيما يلي نص القرار 664:
 قرار رقم 664
 إن مجلس الأمن :
إذ يشير إلى غزو العراق للكويت وإعلان ضمه إليه، وإلى القرارات 660، 661، 662، وإذ يشعر بالقلق البالغ بالنسبة لسلامة ورفاه رعايا بلدان ثالثة في العراق والكويت، وإذ يشير إلى التزامات العراق في هذا الشأن، طبقاً للقانون الدولي. وإذ يرحب بالجهود التي يبذلها الأمين العام من أجل إجراء مشاورات عاجلة مع حكومة العراق بعد أن أعرب أعضاء المجلس في 17 آب 1990، عن انشغالهم وقلقهم .
وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يقرر:
1ـ يطلب أن يسمح العراق بخروج رعايا البلدان الثالثة من الكويت والعراق على الفور، وأن يسهل هذا الخروج، ويسمح للموظفين القنصليين بأن يقابلوا على الفور وباستمرار أولئك الرعايا.
 2ـ يطلب أيضاً أن لا يتخذ العراق أي إجراء يكون من شانه تعريض سلامة، أو أمن، أو صحة أولئك الرعايا.
3ـ يؤكد من جديد ما قرره في القرار 662 في 1990، من أن قيام العراق بضم الكويت باطل ولاغٍ، ويطلب لذلك أن تلغى حكومة العراق أوامرها بإغلاق البعثات الدبلوماسية، والقنصلية في الكويت، وبسحب الحصانة من تلك البعثات وأن تمتنع عن القيام بأي عمل من هذه الأعمال
 في المستقبل.
4ـ يطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة أن يقدم إلى مجلس الأمن في اقرب وقت ممكن، تقريراً عن مدى الالتزام بهذا القرار. (6)

الملك حسين يقابل الرئيس الأمريكي بوش:

حاول الملك حسين أن يبذل جهداً من جديد، لعله يستطيع منع الكارثة، وقرر أن يزور بغداد، ويلتقي بصدام حسين، وبالفعل توجه إلى بغداد في 12 آب، والتقى بصدام، وأجرى معه تقيماً دقيقاً للموقف الخطير، وحتمية الصدام، وما يمكن أن يجره على العراق بصورة خاصة والعالم العربي بصورة عامة.
 لم يُذع أي شيء عن نتائج اللقاء، وعاد الملك حسين إلى عمان في اليوم التالي، واتصل بالرئيس بوش هاتفياً طالباً مقابلته، وجرت الموافقة على اللقاء خلال ثلاثة أيام، وغادر الملك حسين إلى واشنطن، وبصحبته السفير الأمريكي في عمان، وبعد ساعات من وصوله التقى الرئيس بوش في مقره الصيفي، وحاول الملك حسين على ما يبدو التوسط بين صدام والرئيس بوش، وربما كان يحمل معه تنازلات من صدام.
 إلا أن الرد من بوش جاء سريعاً وحازماً  بأن لا وساطة، ولا مفاوضات مع صدام حسين بأية حال من الأحوال، وكان ما قاله بوش للملك حسين الأتي:
{أرجو أن تسمعني جيداً، البترول بالنسبة لنا أكثر من ضرورة، وهو أسلوب حياة  وأنا لن اسمح لهذا الرجل، يقصد صدام، أن يسيطر على ثلث إنتاج نفط الخليج اليوم، وعلى ثلثي احتياطيات البترول غداً. لن اسمح لنفسي أن اترك دكتاتوراً يضع يده على شريان حياتنا}.
ثم سكت بوش برهة ليعود مرة أخرى ويقول للملك:
{ إنني ترددت كثيراً  قبل أن أوافق على مقابلتك، فأنت كنت في بغداد قبل 24 ساعة من اتصالك التلفوني بي، وكان ترددي في تحديد الموعد لك هو خشيتي من أن تظهر زيارتك وكأن بيني وبين ذاك الرجل  [يقصد صدام حسين] أية وساطة وأنا لا أريد ذلك، ولا الكونجرس، ولا  الرأي العام الأمريكي يسمحان به}. (19)
ورد الملك حسين على الرئيس بوش قائلاً:
{أن الرئيس صدام حسين مستعد للانسحاب من الكويت}.
 ورد عليه بوش قائلاً:
{إن صدام يريد الانسحاب بموجب شروط، ونحن لا نقبل بأي شروط، يجب عليه أن ينسحب من الكويت بدون قيد أو شرط، وتعود أسرة الصباح إلى الحكم، ثم نرى بعد ذلك ما يلزم عمله!!}.(7)
كان واضحا ًأن عبارة [ ما يلزم عمله] تعني في القاموس الأمريكي نزع أسلحة العراق، وتقليص جيشه، وتدمير أسلحة الدمار الشامل، ومنشأته الذرية والكيماوية والبيولوجية والصاروخية.
ولم يكتفِ الرئيس بوش بكل ذلك، بل زاد عليه محذراً الأردن من عدم الالتزام بقرارات الأمم المتحدة فيما يخص إحكام الحصار المفروض على العراق، وهدد بان السفن الحربية الأمريكية والحليفة سوف تقوم بهذه المهمة.
وهكذا فشلت مساعي الملك حسين، وعاد إلى بلاده صفر اليدين، وفي طريق عودته إلى بلاده، مّر الملك حسين بلندن، والتقى رئيسة وزراء بريطانيا  ماركريت تاتشر، وكان بوده أن يناقش معها الأزمة، إلا انه فوجئ بتاتشر تلقي عليه محاضرة صارمة عن وقوفه الخاطئ بجانب صدام حسين، وتحذره من مغبة الاستمرار على هذا النهج.(8)
 وغادر الملك حسين إلى باريس، والتقى الرئيس الفرنسي [ميتران] وتحادث معه حول الأزمة، إلا أن حديثه لم يحقق أي شيء.
ولم يكد الملك حسين يصل عمان، حتى بادرت الولايات المتحدة إلى تقديم مشروع قرار جديد إلى مجلس الأمن برقم 665 في 25 آب، يقضي بفرض حصار بحري على العراق والطلب من جميع الدول التعاون في هذا المجال، وهذا نص القرار:
مجلس الأمن : قرار رقم 665 (12)
إذ يشير إلى قراراته 660 ، 661 ، 662 ن 654 ، لعام 1990، وإذ يطالب بتنفيذها الفوري والتام، وقد قرر أن يفرض الجزاءات الاقتصادية بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وذلك في قراره 661 في 1990، وتصميماً منه على إنهاء احتلال العراق للكويت، وهو ما يعرض للخطر وجود دولة من الدول الأعضاء، وعلى استعادة السلطة الشرعية للكويت، وسيادتها وسلامتها الإقليمية، مما يتطلبه التنفيذ العاجل للقرارات السالفة الذكر.
وإذ يشجب ما تعرض له الأبرياء من خسائر في الأرواح، بسبب الغزو العراقي للكويت، وتصميمه على منع المزيد من هذه الخسائر، وإذ يثير جزعه الشديد استمرار العراق في رفضه الامتثال للقرارات 660 ، 661 ، 662 ، 664 ، لعام 1990، وخصوصاً تصرفات الحكومة العراقية التي تستخدم السفن الرافعة للعلم العراقي لتصدير النفط ، يقرر:
يطلب من الدول الأعضاء التي تتعاون مع حكومة الكويت، والتي تنشر قوات بحرية في المنطقة، أن تتخذ من التدابير ما يتناسب مع الظروف المحددة، وحسب الضرورة في إطار مجلس الأمن، لإيقاف جميع عمليات الشحن البحري القادمة والخارجة، بغية تفتيش حمولتها ووجهتها، والتحقق منها، ولضمان التنفيذ الصارم للأحكام المتعلقة بهذا الشحن، والتي ينص عليها القرار 661 في 1990.
يدعو الدول الأعضاء، بناء على ذلك إلى التعاون حسب اللزوم لضمان الامتثال لأحكام القرار 661 ، مع استخدام التدابير السياسية والدبلوماسية إلى أقصى حد ممكن، وفقاً للفقرة 1 أعلاه.
يرجو جميع الدول أن تقدم من المساعدة ما قد يلزم الدول المشار إليها في الفقرة 1 من هذا القرار، وفقاً للميثاق.
4 ـ يرجو أيضاً الدول المعنية أن تنسق أعمالها الرامية لتنفيذ فقرات هذا القرار الواردة أعلاه، على أن تستخدم بالشكل المناسب آليات لجنة الأركان العسكرية، تقدم بعد التشاور مع الأمين العام، التقارير إلى مجلس الأمن، ولجنته المنشأة بموجب القرار 661، بهدف تيسير رصد تنفيذ ذلك القرار.
5 ـ يقرر أن يبقي هذه المسألة قيد نظره النشط .

حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com







359
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي المدمر
الحلقة الخامسة

حامد الحمداني                                                       21/7/2009

مجلس الأمن في خدمة المخططات الأمريكية ضد العراق


 بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وبداية مرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي،   وتلاشي تأثيره الدولي حيث كان يقف نداً لمخططات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في مجلس الأمن، وعلى الساحة الدولية في ظل سيادة القطبين الدوليين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، باتت الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم أجمع، واستطاعت فرض هيمنتها المطلقة على مجلس الأمن الدولي.
وهكذا سارعت الولايات المتحدة  إلى دعوة مجلس الأمن إلى اجتماع عاجل، في 2 آب 1990، ليقرر إعطاءها الغطاء الذي تحتاجه لتوجيه الضربة القاضية للعراق، وتصفية قدراته العسكرية، وتدمير بنيته الاقتصادية، واستطاعت استصدار عشرات القرارات الصارمة ضد العراق، دون أن تلقى معارضة تذكر من سائر أعضاء مجلس الأمن، وكان أقصى ما استطاعت الدول التي كانت ترتبط بعلاقات وثيقة مع نظام صدام في مجلس الأمن هو الامتناع عن التصويت، كما فعلت الصين، أو الغياب عن حضور الجلسة، كما فعل مندوب اليمن.
كانت بادرة تلك القرارات القاسية ضد العراق  هو القرار رقم 660، الذي صادق عليه ممثلي 14 دولة، وغابت اليمن عن حضور الجلسة، وهذا هو نص القرار:
 قرار رقم 660
إن مجلس الأمن
إذ يثير جزعه غزو القوات العسكرية العراقية للكويت في 2 آب / أغسطس 1990 وإذ يقرر أنه يوجد خرق للسلم والأمن الدوليين فيما يتعلق بالغزو العراقي للكويت وإذ يتصرف بموجب المادتين 39، و40 من ميثاق الأمم المتحدة يقرر:
1ـ يدين الغزو العراقي للكويت.
2ـ يطالب بأن يسحب العراق جميع قواته فوراً ودون قيد أو شرط إلى المواقع التي كانت تتواجد فيها في 1 آب 1990.
3ـ يدعو العراق والكويت إلى البدء فوراً في مفاوضات مكثفة لحل
خلافاتهما، ويؤيد جميع الجهود المبذولة في هذا الصدد، وبوجه خاص جهود جامعة الدول العربية.
4ـ يقرر أن يجتمع ثانية حسب الاقتضاء للنظر في خطوات الأخرى لضمان الامتثال لهذا القرار. (1)

وفي حقيقة الأمر فأن هذا القرار لم يكن سوى تغطية للقرار الذي اتخذته الولايات المتحدة لضرب العراق، فقد سبق للرئيس بوش أن أبلغ الرئيس المصري حسني مبارك، عندما دعا إلى عقد مؤتمر للقمة العربية لبحث الغزو العراقي للكويت، وسبل معالجة الأزمة الناشئة عنه، إلى أن وقت القمم قد فات، وأنه قد أتخذ قراره بالتدخل العسكري.
وفي نفس ذلك اليوم كان بوش مجتمعاً مع رئيسة وزراء بريطانيا [ماركريت تاتشر] التي كانت في زيارة رسمية للولايات المتحدة، وقد أبدت تاتشر حماساً منقطع النظير في استخدام القوة العسكرية ضد العراق، وشدت من عزم بوش، وأعلنت أن بريطانيا تضع يدها بيد الولايات المتحدة في هذا السبيل.(2)

ثانيا:الملك حسين يحاول إنقاذ نظام صدام من ورطته

 في الثالث من آب وصل الملك حسين، ملك الأردن، إلى بغداد، في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، والتقى على الفور بصدام حسين، وبدأ الملك حسين يتحدث عن تطورات الأزمة، وخطورة الموقف، موضحاً لصدام بأنه يعرف الغرب جيداً، إنهم عازمون على التدخل العسكري، لكن صدام ردّ عليه قائلاً:
{إن الغرب لا يستطيع إدخال الرعب في قلبه}.
وحاول الملك حسين أن يثني صدام عن مواقفه، مؤكداً له حتمية التدخل الغربي، وما سوف يجر من ويلات ومآسي ومخاطر جسيمة، ليس على العراق فحسب وإنما على مصير الأمة العربية جمعاء، ورجاه الانسحاب من الكويت  قبل فوات الأوان.
 كان صدام حسين في حالة من الارتباك والتردد، بعد صدور قرار مجلس الأمن، وحسب قول الملك حسين، أن صدام كان قد وعده بالانسحاب خلال أسابيع، وأنه قد ردّ عليه قائلا ً:
{أن أمامه ساعات، وليس أسابيع}.
 وأخيراً أبلغ صدام الملك حسين بأنه سيعرض اقتراحاته على مجلس قيادة الثورة، وأبدى موافقته على عقد القمة المقترحة، لكنه أعتذر عن حضورها شخصياً، وابلغ الملك حسين بأنه سيوفد عنه النائب الأول لرئيس الوزراء طه ياسين رمضان، لكنه اشترط عدم حضور أميرالكويت المؤتمر. (3)
غادر الملك حسين بغداد، وبينما كان في طريق العودة اتصل به صدام حسين، وهو في الطائرة، وابلغه موافقة مجلس قيادة الثورة على حضور القمة، شرط أن لا يصدر وزراء الخارجية العرب قراراً ضد العراق.
سارع الملك حسين إلى الاتصال بوزير خارجيته الموجود في القاهرة، وطلب إليه إبلاغ وزراء الخارجية العرب بما تم الاتفاق عليه مع الرئيس صدام حسين.
غير أن مصر سارعت، قبل أن يجتمع وزراء الخارجية العرب، إلى إصدار بيان، بضغط أمريكي، يدين الغزو العراقي للكويت، ويطلب من العراق سحب قواته منها  وقد أدى ذلك إلى انقسام كبير في صفوف وزراء الخارجية العرب.
أسرع الملك حسين إلى الاتصال بالملك فهد ليبلغه أن صدام وافق على عقد القمة المقترحة في جدة يوم 4 آب، كما وافق من حيث المبدأ على الانسحاب من الكويت.
كان الملك فهد في حالة نفسية متوترة، وأبلغ الملك حسين أن لا فائدة من أي مؤتمر، وإنه يخشى من أن يكون هناك خدعة جديدة من صدام.
 لقد بدا واضحاً أن الضغط الأمريكي على مصر، والسعودية، وحكام الخليج قد أفلح في إفشال أي محاولة لنزع فتيل الحرب التي أعدت لها الولايات المتحدة عن سابق تصميم .
وفي اليوم التالي، بادر الملك فهد إلى الاتصال بالملك حسين، وأبلغه أن الصور التي ترسلها الأقمار الصناعية الأمريكية تظهر تقدم الدبابات والمدرعات العراقية باتجاه الحدود السعودية.
أوقعت تلك الأخبار الملك حسين في حيرة، وأبلغ الملك فهد بأنه سيتصل بصدام فوراً، ويستفسر منه عن الأمر.
 وبالفعل اتصل الملك حسين بصدام، وسأله عما سمعه من الملك فهد، إلا أن صدام أنكر ذلك، واخبر الملك حسين أن القوات العراقية على بعد 30 كم من الحدود السعودية.
 ثم عاد الملك حسين وسأل صدام عن موعد سحب القوات العراقية، فأجابه صدام بأن القوات العراقية قد باشرت فعلاً بالانسحاب، وقد عاد لواء عراقي إلى داخل الحدود العراقية، وأن سحب القوات يتطلب وقتاً.
 لكن صدام حسين لم يكن صادقاً في كلامه عن الانسحاب إطلاقاً، وكان يرمي إلى إنشاء حكومة وهمية في الكويت ليس لها في الواقع أي وجود، بغية كسب الوقت، وإعلان ضم الكويت للعراق.
 عاد الملك حسين إلى الاتصال بالملك فهد، وابلغه عما دار بينه وبين صدام في المكالمة الهاتفية، وقد بدا الملك فهد غير مرتاح لكل ذلك، وغير مصدق لأي كلام يصدر من صدام، وطلب من الملك حسين أن يحضر بنفسه إلى جدة للتحدث مع الملك بالتفصيل عن واقع الأمور، إلا أن الملك فهد أعتذر عن استقباله، لانشغاله في أمور هامة وكثيرة، وأبلغ الملك فهد بأنه سيرسل الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية إلى عمان لبحث الموضوع.
 وعاد الديوان الملكي السعودي وأتصل بالديوان الملكي الأردني، وأبلغه بأن الأمير سعود سوف لن يتمكن من السفر إلى الأردن، بسبب حضوره اجتماعات وزراء الخارجية العرب في القاهرة، وأن الملك فهد سيوفد إلى عمان وزير التعليم عبد العزيز الخويطر، كمبعوث خاص له.
واستقبل الملك حسين الوزير السعودي في عمان، وشرح له ما دار بينه وبين صدام حسين، وتحدث عن خطورة الموقف، وضرورة معالجة الأزمة عربياً، قبل أن تستفحل الأمور، وتؤدي إلى كارثة لا أحد يعرف مداها.
 كما أبدي الملك حسين تخوفه من أن تقدم السعودية على غلق أنبوب النفط العراقي المار عبر السعودية، ويؤدي إلى تعقد الأمور، ويدفعها نحو الصدام، وقد رد عليه الوزير السعودي أن ذلك مجرد إشاعات لا أساس لها من الصحة!!.
وعلى الجانب الأمريكي، كان الرئيس بوش قد جمع كبار جنرالاته المكلفين بتنفيذ خطة التدخل السريع [ 1002ـ 90 ]، بالإضافة إلى مستشاره للأمن القومي [برنت سكوكرفت‎] في الرابع من آب، ليضع اللمسات الأخيرة على خطط الولايات المتحدة بأسرع ما يمكن، ذلك أنه كان يشعر بالقلق لتحركات الملك حسين التي خشي أن تؤثر على الملك فهد، وتجعله يرضى بالحلول الوسط مع بغداد، مما يفشل المخطط الأمريكي لضرب العراق، وخاصة وأن الملك فهد لم يقرر بعد  حتى تلك الساعة الموافقة على نزول القوات الأمريكية والحليفة في السعودية، خوفاً من رد فعل صدام حسين فيما إذا اتخذ القرار بالموافقة.
 وخلال المناقشات اقترح جون سنونو على الرئيس بوش أن تشارك قوات عربية وإسلامية في التحشد، لتكّون غطاء للقوات الأمريكية والحليفة، واستهوت الفكرة الرئيس بوش، وقال على الفور إنه سوف يوفر الغطاء المطلوب بأسرع وقت، وطلب من وزير دفاعه [ديك تشيني] السفر إلى السعودية، وطلب منه أن يصطحب معه الجنرال [شوارتزكوف] قائد قوات التدخل السريع، للالتقاء بالملك فهد، وترتيب الأمور معه، وتم الاتصال بالملك، الذي أبدى استعداده لاستقبال تشيني والوفد المرافق له.
 وفي الوقت نفسه أتصل بوش بالملك الحسن الثاني، والرئيس المصري
 حسني مبارك، والرئيس السوري حافظ الأسد، وتباحث معهم حول موضوع المشاركة في الحشد العسكري ضد العراق.
أما ديك تشيني، والجنرال شوارتزكوف، فقد غادرا إلى السعودية على عجل للقاء الملك فهد، حيث وصلا جدة يوم 6 آب، يصحبهما نائب مدير وكالة المخابرات المركزية [روبرت جبتس].
 لكن الرئيس الأمريكي بوش الذي لم يكن راضياً بكل التحركات التي يجريها القادة العرب لإنقاذ نظام صدام، مضى في تنفيذ مخططه، بعد أن وقع صدام في الفخ.
 وتقدم بمشروع قرار جديد إلى مجلس الأمن الدولي، يقضي بفرض عقوبات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية شاملة وقاسية على العراق  لم يسبق أن اصدر مجلس الأمن  مثلها من قبل في كل تاريخ الأمم المتحدة، وفيما يلي نص القرار:
 قرار رقم 661 ـ 6 آب 1990
 أن مجلس الأمن :

إذ يعيد تأكيد قراره  رقم 660 ، المؤرخ في 2 آب 1990، وإذ يساوره القلق إزاء عدم تنفيذ ذلك القرار، لأن غزو العراق للكويت لا يزال مستمراً، ويسبب المزيد من الخسائر في الأرواح، ومن الدمار المادي، وتصميماً منه على إنهاء غزو العراق للكويت، واحتلاله لها، وعلى إعادة سيادة واستقلال الكويت، وسلامتها الإقليمية. وإذ يلاحظ أن حكومة الكويت الشرعية قد أعربت عن استعدادها للامتثال للقرار 660، وإذ يضع في اعتباره المسؤوليات الموكلة إليه بموجب ميثاق الأمم المتحدة  للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
وإذ يؤكد الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس، فردياً وجماعياً، رداً على الهجوم المسلح الذي قام به العراق ضد الكويت، وفقاً للمادة 51 من الميثاق. وإذ يتصرف وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
يقرر أن العراق لم يمتثل للفقرة 2 من القرار 660، في 1990، واغتصب سلطة الحكومة الشرعية في الكويت.
يقرر نتيجة لذلك، اتخاذ التدابير التالية لضمان امتثال العراق للفقرة 2  من القرار 660، وإعادة السلطة إلى الحكومة الشرعية في الكويت.
3 ـ يقرر أن تمنع جميع الدول مما يلي:
(أ) ـ استيراد أي من السلع والمنتجات التي يكون مصدرها العراق أو الكويت، وتكون مصدرة منها بعد تاريخ هذا القرار إلى أقاليمها.
(ب) ـ أية أنشطة يقوم بها رعاياها، أو تتم في أقاليمها، ويكون من شأنها تعزيز، أو يقصد بها تعزيز التصدير، أو الشحن العابر لأية سلع أو منتجات من العراق، أو الكويت، وأية تعاملات يقوم بها رعاياها، أو السفن التي ترفع علمها، أو تتم في أقاليمها بشأن أية سلع أو منتجات يكون مصدرها العراق أو الكويت، وتكون مصدرة منها بعد تاريخ هذا القرار، بما في ذلك على وجه الخصوص أي تحويل للأموال إلى العراق أو الكويت لأغراض القيام بهذه الأنشطة أو التعاملات.
( ج) ـ أية عمليات بيع أو توريد يقوم بها رعاياها، أو تتم من أقاليمها، أو باستخدام السفن التي ترفع علمها، لأية سلع أو منتجات، بما في ذلك الأسلحة أو أية معدات عسكرية أخرى، سواء كان منشأها في أقاليمها أو لم يكن، ولا تشمل الإمدادات المخصصة بالتحديد الأغراض الطبية، والمواد الغذائية، في ظروف إنسانية، إلى أي شخص أو هيئة في العراق أو الكويت، أو إلى أي شخص أو هيئة لأغراض عمليات تجارية يضطلع بها العراق أو الكويت، أو منهما، وأية أنشطة يقوم بها رعاياها، أو تتم في أقاليمها، ويكون من شأنها تعزيز عمليات بيع أو توريد هذه السلع أو المنتجات.
يقرر أن تمتنع جميع الدول عن توفير أية أموال، أو مواد مالية أو اقتصادية أخرى للحكومة العراقية، أو لأية مشاريع تجارية أو صناعية أو لأية مشاريع للمرافق العامة للعراق أو الكويت، وأن تمنع رعاياها، أو أي أشخاص داخل أقاليمها، من إخراج أي أموال، أو موارد من أقاليمها، أو القيام بأي طريقة أخرى بتوفير الأموال والموارد لتلك الحكومة، أو لأي من مشاريعها، ومن تحويل أي أموال أخرى إلى أشخاص أو هيئات داخل العراق أو الكويت، فيما عدا المدفوعات المخصصة بالتحديد للأغراض الطبية، أو الإنسانية، والمواد الغذائية المقدمة في
 الظروف الإنسانية.
يطلب إلى جميع الدول، بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الأمم المتحدة، أن تعمل بدقة، وفقاً لأحكام هذا القرار، بغض النظر عن أي عقد تم إبرامه، أو ترخيص تم منحه قبل تاريخ هذا القرار.
5ـ يقرر وفقاً للمادة 28 من النظام الداخلي المؤقت لمجلس الأمن، تشكيل لجنة تابعة لمجلس الأمن، تضم جميع أعضائه، كي تضطلع بالمهام التالية، وتقدم إلى المجلس التقارير المتصلة بعملها مشفوعة بملاحظاتها، وتوصياتها:
( ا) ـ أن تنظر في التقارير التي سيقدمها الأمين العام، عن التقدم المحرز في تنفيذ هذا القرار.
(ب)ـ أن يطلب من جميع الدول، المزيد من المعلومات المتصلة بالاجراءات التي اتخذها فيما يتعلق بالتنفيذ الفعال للأحكام المنصوص
 عليها في هذا القرار.
7 ـ يطلب إلى جميع الدول أن تتعاون تعاوناً تاماً مع اللجنة، فيما يتعلق بقيامها بمهمتها بما في ذلك توفير المعلومات التي قد تطلبها اللجنة تنفيذاً لهذا القرار.
يطلب من الأمين العام تزويد اللجنة بكافة المساعدات اللازمة، واتخاذ الترتيبات اللازمة في الأمانة لهذا الغرض.
9 ـ يقرر، أنه بغض النظر عن الفقرات من 4 إلى 8 أعلاه، لا يوجد في هذا القرار ما يمنع من تقديم المساعدات للحكومة الشرعية للكويت، ويطلب إلى جميع الدول ما يلي:
( أ ) ـ اتخاذ تدابير مناسبة لحماية الأصول التي تملكها حكومة الكويت الشرعية ووكالتها.
(ب) ـ عدم الاعتراف بأي نظام تقيمه سلطة الاحتلال.
10 ـ يطلب إلى الأمين العام أن يقدم إلى المجلس تقارير عن التقدم المحرز في تنفيذ هذا القرار على أن يقدم التقرير الأول خلال 30 يوماً.
11 ـ يقرر أن يبقى هذا البند في جدول أعماله، وأن يواصل بذل الجهود كي يتم إنهاء الغزو الذي قام به العراق في وقت مبكر. (4)

وهكذا أتمت الولايات المتحدة فرض أشد حصار عرفته الأمم المتحدة في تاريخها ضد العراق، وأصبح العراق عاجزاً عن بيع نفطه، وجمدت أمواله في الخارج، وأصبح عاجزاً عن تأمين الحاجات المادية والمعيشية للشعب.
 ولم يدرْ في خلد أحد، أن الحصار المفروض سوف يدوم ثلاثة عشر سنة، قاسية، وبحجج مختلفة، ليس ضد صدام ونظامه الدكتاتوري، ولكن ضد الشعب العراقي المغلوب على أمره.
 وفي الوقت الذي صدر فيه هذا القرار، أستقبل الملك فهد، وكبار رجالات الدولة السعوديين الوفد الأمريكي برئاسة وزير الدفاع [ديك تشيني]، وتحدث الملك فهد عن علاقاته القديمة بالرئيس بوش، أكد أنه معجب بمواهبه، وصدقه ‍‍‍‍‍!!.
 ثم تلاه في الحديث ديك شيني، مستعرضاً موقف الولايات المتحدة المؤيدة والمساندة للسعودية في كل الأحوال والظروف، وأبلغ الملك فهد قائلاً:
{أن الرئيس بوش يضمن تماماً الوفاء بكل مستلزمات الأمن في المنطقة، وأنه يعتبر صدام حسين يمثل أكبر خطر على المنطقة، ولابدّ من التصدي له، وهذا ما تريده الولايات المتحدة، ولقد أجرى الرئيس بوش اتصالات واسعة مع الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا والصين، من أجل حشد التأييد للإجراءات الأمريكية، وأضاف إن الرئيس بوش مصمم على الدفاع عن السعودية ضد أي هجوم محتمل من العراق، وأنه سيسعى إلى خنق العراق اقتصادياً،عن طريق الحصار الاقتصادي، الذي فرضه مجلس الأمن، بموجب قراره رقم 661}. (5)
وبعد نقاشات مطولة، أعلن الملك فهد عن موافقته على استقبال القوات الأمريكية، والحليفة على الأراضي السعودية.
 وفي ختام اللقاء أعلن وزير الدفاع تشيني أنه سيغادر إلى بلاده، تاركاً فريق عمل في السعودية ليرتب الأمور لاستقبال القوات الأمريكية والحليفة، وقد طلب منه الملك أن يتم حشد القوات بكل هدوء، ودون ضجيج لئلا يقدم صدام حسين على العدوان على السعودية، قبل اكتمال الحشد.
وقبل أن يغادر تشيني جدة، أجرى اتصالاً هاتفياً مع بوش، ورئيس أركان الجيش الأمريكي، كولن باول، وأبلغهما بموافقة الملك فهد بنزول القوات الأمريكية والحليفة في السعودية، طالباً المباشرة في الحشد.
وبالفعل صدرت الأوامر بالتحرك، وبدأت طلائع القوات الأمريكية تصل إلى السعودية، حيث وصلت الفرقة 82، المحمولة جواً، يوم 8 آب، كما هبطت 48 طائرة حربية طراز (F15) في قاعدة الظهران الجوية الضخمة. (6)
وفي طريق عودته، التقي وزير الدفاع الأمريكي تشيني بالرئيس المصري حسني مبارك في القاهرة، وتباحث معه حول مساهمة مصر في الحشد العسكري، وحول تقديم التسهيلات العسكرية لعبور حاملات الطائرات الأمريكية، المسيرة نووياً، لقناة السويس، ثم غادر تشيني إلى المغرب، والتقى بالملك الحسن الثاني، حيث تباحث معه حول مساهمة المغرب بالحشد العسكري ضد العراق.
 وفي صباح 8 آب، وقف الرئيس بوش يوجه خطابه عبر شاشات التلفزة الأمريكية والعالمية، ويتحدث عن العدوان العراقي على الكويت، وعن تصميمه على دحره، ومما جاء في خطابه قوله:
 {إننا نطلب انسحاباً كاملاً وفورياً غير مشروط، لكل القوات العراقية الموجودة في الكويت، وإن قواتنا ذهبت إلى السعودية في مهمة دفاعية‍، ونأمل أن لا تبقي القوات في منطقة الخليج طويلاً ‍‍‍‍، وإن هذه القوات مكلفة بالدفاع عن نفسها، وعن المملكة العربية السعودية، وعن كل أصدقائنا في الخليج}.‍‍‍‍‍‍(7)
وعلى الجانب العربي من الأزمة، راح الرئيس المصري مبارك يبذل محاولاته لإقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، وأتصل بسفير العراق في القاهرة نبيل نجم التكريتي، وحمله رسالة إلى صدام، ووضع تحت تصرفه طائرة خاصة تنقله إلى بغداد، ليعود بجواب من صدام في اليوم التالي إلى الإسكندرية، وعاد السفير ومعه نائب رئيس مجلس قيادة الثورة [عزت الدوري].
 وخلال اللقاء الذي تم بين مبارك، وعزت الدوري في الإسكندرية، أصر الأخير على أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، وأنه لا مجال للمفاوضات حول الانسحاب، وفي تلك الأثناء صدر بيان عراقي يعلن ضم الكويت إلى العراق رسمياً. (8)
 وعلى اثر صدور قرار نظام صدام بضم الكويت للعراق رسمياً، سارع مجلس الأمن إلى إصدار قرار جديد ضد العراق تحت رقم 662 بتاريخ آب 1990، وهذا نصه:
قرار رقم 662- في 9 آب/أغسطس 1990
 : مجلس الأمن:

إذ يشير إلى قراريه 660 في 1990، و661 في 1990
وإذ يثير بالغ جزعه إعلان العراق اندماجه التام والأبدي مع الكويت.
وإذ يطالب، مرة أخرى بان يسحب العراق فوراً، وبدون قيد أو شرط، جميع قواته إلى المواقع التي كانت تتواجد فيها في 1 آب 1990. وقد صمم على إنهاء احتلال حكام العراق للكويت، واستعادة سيادتها، واستقلالها وسلامتها الإقليمية، وقد صمم أيضاً على استعادة سلطة الحكومة الشرعية للكويت يقرر:
1 ـ إن ضم العراق للكويت، بأي شكل من الأشكال، وبأية ذريعة كانت، ليست له أ ي صلاحية قانونية، ويعتبر لاغياً وباطلاً.
2 ـ يطلب إلى جميع الدول والمنظمات الدولية، والوكالات المتخصصة، عدم الاعتراف بذلك الضم، والامتناع عن اتخاذ أي إجراء، أو الإقدام على أية معاملات قد تفسر على أنها اعتراف غير مباشر بالضم.
يطالب كذلك بأن يلغي العراق إجراءاته التي أدعى بها ضم الكويت.
4 ـ يقرر أن يبقى هذا البند في جدول أعماله، وأن يواصل جهوده لوضع حد مبكر للاحتلال. (9)

 وفي نفس اليوم التقى حسني مبارك خطاباً موجهاً للأمة العربية، تحدث فيه عن المخاطر الجسيمة لغزو الكويت قائلاً:‍
{ أن الصورة تبدو سوداء قاتمة ومخيفة، وما لم نتدارك الموقف فوراً، فان الحرب حتمية، أضاف بأن هذه الحرب إن وقعت فسوف تكون مفزعة، ومدمرة، أردف قائلاً: أن لا أحد يعرف مخاطر الحرب كما يعرفها هو، وانه يستطيع أن يقول أن الحرب ستكون شيئاً رهيباً فضيعاً، واختتم حديثه بالآية الكريمة، ألا قد بلغت، اللهم فاشهد}.(10)
وكان ديك تشيني قد أطلع مبارك على خطة التدخل (1002ـ 90 )، وهاله مما سمع منه.
 وفي خلال حديثه، وجه مبارك عبر موجات الأثير، دعوة للقادة العرب لعقد قمة عربية عاجلة في القاهرة، لتدارس سبل حل الأزمة.
 بدأ الملوك، والرؤساء العرب يتوافدون إلى القاهرة، بعد ساعات من خطاب مبارك، وكان أول الواصلين  العقيد القذافي.
 لكن صدام حسين لم يحضر، بل أرسل عنه طه ياسين رمضان، نائب رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى طارق عزيز، كما أن الملك الحسن الثاني أناب عنه رئيس وزرائه.
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com

360
القوى الديمقراطية والعلمانية 
مدعوة لتعلم الدرس من الانتخابات السابقة!

حامد الحمداني                                                        20/7/2009

على الرغم من تمتع القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية بمستوى عالٍ نسبياً من الثقافة والوعي السياسي والاجتماعي، فقد منيت هذه القوى  بخسارة كبرى في الانتخابات السابقة لأسباب وعوامل عديدة يأتي في مقدمتها التشتت، والأنانية، وحب الذات، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، حيث شهدنا أعداد كبيرة من القوائم المشاركة في تلك الانتخابات تحت شعار الديمقراطية .

 و كنا قد دعونا إلى قيام جبهة عريضة تضم سائر هذه القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية والليبرالية، الحزبية منها والمستقلة، لخوض تلك الانتخابات على أساس برنامج سياسي علماني يهدف إلى قيام نظام حكم ديمقراطي متحرر، يضمن الحقوق والحريات العامة للشعب بكل قومياته وأديانه وطوائفه، بما في ذلك تحقيق حل عادل للقضية الكردية على أساس الفيدرالية المحصنة بالديمقراطية والتي تحافظ على وحدة العراق شعباً ووطناً.

لكن المؤسف أن تلك القوى لم تكن في مستوى الأحداث، وأخذ بعضها الغرور، وظنت أنها قادرة على تحقيق نتائج باهرة في الانتخابات، وفضلت دخول الانتخابات بصورة منفردة في الوقت الذي تكتلت فيه معظم أحزاب الإسلام السياسي في قائمة واحدة، واستطاعت استغلال اسم المرجعية، واسم السيد علي السيستاني، واستغلت بشكل نشط الوضع الاجتماعي السائد والمتسم بالجهل والتخلف الذي كان نتاج نظام الفاشية والطغيان الصدامي.

 فقد جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال تلك القوى التي كنا نتوسم بها تحقيق أماني شعبنا في الديمقراطية، وتحقيق الحياة الحرة الكريمة للشعب، واكتسحت الأحزاب الإسلامية أكثر من نصف أعضاء الجمعية الوطنية، في حين لم تحصل القوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية ما كانت تحلم به ولم نتل سوى الفتات إن صح القول.

 وهكذا باتت القوى الإسلامية مهيمنة على لجنة إعداد الدستور الذي جاء من صلب قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقاليه الذي وضعه الحاكم الأمريكي بول بريمر مع العديد من الإضافات الطائفية والقومية التي فرضتها الأحزاب الدينية، والأحزاب القومية الكردية التي فضلت التحالف معها، مما يتعارض والتوجه الديمقراطي المنشود، وقد خرجت منه المرأة العراقية التي تمثل أكثر من نصف المجتمع العراقي الخاسر الأكبر بهذا الدستور، حيث أصبحت حقوق المرأة في الحرية والمساواة مع الرجل في خبر كان، وتم تجاوز قانون الأحوال المدنية الذي سنته حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم، وعادوا بالمرأة القهقرة إلى الشريعة التي جاء بها الإسلام قبل 1400 عام .
واليوم ، وفي ظل ظروف أمنية لا بأس بها نسبيا، وفي ظل هذا التفتت الذي تشهده أحزاب قوى الإسلام الطائفي، وهي اليوم تبذل أقصى جهودها لاستعادة ائتلافهم الممزق، وانكشاف الدور البائس الذي مارسته هذه الأحزاب خلال الفترة السابقة، والهبوط الشديد للدعم الذي تلقته في الانتخابات السابقة، وعزوف المواطنين عن تجديد ثقتهم بهذه الأحزاب وقياداتها التي استأثرت بالسلطة والثروة دون أن تقدم أي شئ لشعبها، كما أظهرت نتائج انتخابات مجالس المحافظات، فإن على القوى العلمانية واليسارية والليبرالية أن تتعلم من دروس الانتخابات السابقة، وإن تدرك أن أمامها فرصة لا تعوض لقلب موازين القوى في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد خمسة أشهر إذا ما اتخذت قرارها، وبصورة عاجلة، لإقامة جبهة عريضة لهذه القوى ولسائر المستقلين الذين ينشدون قيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي في البلاد.

لكننا، في الوقت الذي باتت  الانتخابات البرلمانية على الأبواب، لم نشهد لغاية هذا اليوم مع الأسف أي تحرك من جانب القوى العلمانية واليسارية والليبرالية لمعالجة الخلل الذي أوصلها إلى تلك النتائج المحزنة في الانتخابات السابقة، والعمل على لملمة الصفوف، وتجميع كل القوى التي تناضل حقاً وصدقاً من أجل عراق ديمقراطي متحرر، في جبهة عريضة استعداداً لخوض الانتخابات القادمة، لكي تشكل في البرلمان الجديد قوة مؤثرة في تحديد مستقبل العراق.
إن على هذه القوى أن تدرك مسؤوليتها تجاه مصير الشعب والوطن، فلم يعد هناك متسع من الوقت للانتظار، وأن استمرار الوضع على ما هو عليه الآن لا يعني إلا تهميش القوى العلمانية والديمقراطية، وإخراجها من الساحة التي ستخلو مرة أخرى لأحزاب الإسلام السياسي، لتمضي في تنفيذ أجندتها المرسومة سلفاً، ولإقامة دولة تتحكم فيها دكتاتورية دينية وطائفية لفترة زمنية قد تدوم عقوداً عديدة، مما يهدد في فقدان الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، ونشوب الصراعات العرقية، والدينية، والطائفية، وحتى الحرب الأهلية.
إن هذه القوى مدعوة إلى المبادرة بأسرع وقت ممكن للدعوة لعقد مؤتمر يضم سائر هذه القوى بالإضافة على الشخصيات الوطنية المستقلة لتدارس أفضل الوسائل والسبل لاستنهاض همة الجماهير الشعبية الواسعة للتوجه للانتخابات القادمة مع الاتفاق على برنامج وطني سياسي واجتماعي واقتصادي واضح المعالم ، مع الاستعداد الكامل والثابت للالتزام به.

وعلى هذه القوى أن تستثمر كل إمكانياتها في توجهها نحو أبناء شعبنا لإقناعه بأهمية التصويت للقوى الديمقراطية، وبشكل خاص التوجه نحو المرأة العراقية التي ستكون المستفيد الأكبر في قيام عراق ديمقراطي متحرر يحقق لها كل طموحاتها في الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة.

كما أن على هذه القوى أن تتقدم بمرشحين مشهود لهم بالوطنية الصادقة، والتاريخ النضالي المشهود، والكفاءة التي تؤهلهم للقيام بهذه المهمة الخطيرة التي تتعلق بمستقبل البلاد ومصير الشعب، لا كما جرى ذلك في الانتخابات السابقة حيث كانت الأسماء المرشحة في معظمها غير معروفة لدى أبناء شعبنا، وهذه مسألة مهمة جداً وحساسة، ولا يمكن تجاوزها في موضوع الدعاية الانتخابية وكسب الجماهير.
 
إن شعبنا ينتظر أن يشهد ميلاد الجبهة الديمقراطية العريضة التي يمكن أن تتقدم إليه ببرنامج عمل مستقبلي قادر على معالجة الوضع الأمني القلق فيه، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، ووضع خطة علمية مدروسة بدقة لمعالجة مشكلة البطالة المستفحلة، وتوفير الخدمات العامة للشعب، وتهيئة الظروف اللازمة لجلب الاستثمارات العربية والأجنبية في مختلف المشاريع الصناعية والزراعية، وبشكل خاص في المشاريع النفطية من أجل تأمين الموارد المالية اللازمة لإعادة بناء البنية التحية للاقتصاد العراقي المهدم، والنهوض بالعراق في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، وتأمين الحياة الحرة المرفهة للشعب بعد طول عناء .





361
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي المدمر

 الحلقة الرابعة
حامد الحمداني    16/7/2009

أولاً: فشل مؤتمر جدة وتصاعد دقات طبول الحرب
في خضم تصاعد الأزمة بين الطرفين، وفي ظل الحشود العسكرية العراقية، وتهديدات صدام حسين، وصل إلى جدة كل من الشيخ سعد العبد الله الصباح، ولي العهد الكويتي، وعزت إبراهيم الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي، في 31 تموز 1990، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن اللقاء الذي سيتم بين الطرفين هو لقاء الساعات الأخيرة، قبل وقوع الانفجار، فقد وصل المسؤولان، العراقي والكويتي، ولدى كل منهما تعليمات قيادته، بعدم إظهار أية مرونة، أو تنازل، أو تراجع عن المواقف المعلنة، الكويت مدفوعة ومدعومة بقرار وجهد أمريكي بتحدي حاكم العراق، ورفض جميع مطالبه، لكي تدفعه الولايات المتحدة نحو الإقدام على مغامرته ضد الكويت، ولأجل إكمال بقية السيناريو الذي خططت له، لتوجيه الضربة القاضية للعراق.
والتقى الشيخ سعد وعزت الدوري في نفس اليوم الذي وصلا فيه بعد استراحة قصيرة، وكان من المقرر أن يكون اجتماعهما برعاية الملك فهد، غير أن الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة عليه حال دون ذلك، فقد عملت الولايات المتحدة بكل جهدها على إفشال ذلك اللقاء  قبل أن يبدأ، وطلبت من الملك فهد عدم التدخل بين الطرفين.
وهكذا بدأ الاجتماع بمفردهما، حيث جرى نقاش حول مختلف جوانب الأزمة بين البلدين حتى ظهر ذلك اليوم، وقرر الطرفان تأجيل الاجتماع إلى ما بعد العشاء، حيث كانا مدعوين على مائدة الملك فهد.
وعلى مائدة العشاء، سأل الملك فهد عن سير المحادثات، وتمنى لهما الوصول إلى نتائج طيبة تنهي الأزمة، دون أن يتدخل في تفاصيل ما دار في الاجتماع.
عاد الطرفان بعد العشاء إلى الاجتماع مرة أخرى لمواصلة البحث حول القضايا المختلف عليها، دون أن تظهر أي علامة على اقتراب الطرفين من أي اتفاق. فالطرف الكويتي، عملاً بتوجيهات الأمير، رفض تقديم أي تنازل للعراق، والوفد العراقي أصر على جميع مطالبه، عملاً بتوجيهات صدام حسين، الذي كان قد هيأ كل شيء لغزو الكويت حال فشل مؤتمر جدة.
أنهى الطرفان محادثاتهما ليلاً، من دون أن يتوصلا إلى أي اتفاق حول أي من القضايا التي تم بحثها، وتقرر عقد لقاء آخر في بغداد، كما هو متفق عليه من قبل.
وعاد عزت الدوري  في اليوم التالي، الأول من آب إلى بغداد، حيث أجتمع  بصدام حسين حال وصوله، وقدم له تقريراً عن كل ما دار في مؤتمر جدة بين الطرفين.
في تلك الساعات الحرجة، كانت القوات العراقية قد صدرت لها الأوامر أن تكون على أهبة الاستعداد للتحرك، عند وصول الإشارة إليها.
لم يكن معروفاً إن كان صدام حسين ينوي احتلال الكويت كلها، أم أنه ينوي احتلال جزيرتي بوربا، وروبيان، وحقل الرميلة الجنوبي المتنازع عليه.
 لكن صدام حسين كان قد أتخذ قراره بغزو الكويت واحتلالها بصورة كاملة، فقد كان في تصوره أنه باحتلاله الكامل للكويت يحقق جملة أهداف في أن واحد، والتي تتلخص بالأتي:

1ـ أن احتلال الكويت سيجعل للعـراق إطلالة واسعة على رأس الخليج، مما  يمكنه من تصدير نفطه بمرونة واسعة.
2ـ أن العراق سيضيف إنتاج الكويت البالغ مليون وثلاثمائة ألف برميل يومياً إلى حصته البالغة ثلاثة ملايين ونصف برميل يومياً، وبذلك يصبح العراق ثاني دولة منتجة للنفط في الخليج، ويستحوذ على ثلث الإنتاج.
3 ـ الاستيلاء على احتياطات الكويت المالية التي تقدر ما بين 150 إلى 200 مليار دولار.
4 ـ التخلص من الديون الكويتية، البالغة 30 مليار دولار.
5- إن احتلال كامل الأراضي الكويتية، واعتقال أو تصفية العائلة الحاكمة، يمكن أن يمنع إنزال قوات أمريكية فيها، وإمكانية طلب مساعدة الولايات المتحدة، من قبل العائلة الحاكمة.
هذه هي الأهداف والأفكار التي كانت  تدور في مخيلة صدام  حسين وهو يعد العدة لغزو الكويت، دون أن يحسب حساباً دقيقاً للنتائج المترتبة على مغامرته، في ظل التطورات الحاصلة في العالم، بعد تفكك المعسكر الاشتراكي، وبداية انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم، وتسلمها قيادة العالم دون منازع، وأنها لا يمكن أن تسمح لصدام حسين أن يستحوذ على ثلث نفط الخليج.
لقد أكد الرئيس الأمريكي السابق [جيمي كارتر] ذلك، أمام الكونجرس في 23 كانون الثاني 1980، من خلال ما سمي [بمبدأ كارتر]، والذي ورد فيه ما نصه: { إن أي محاولة من جانب أي قوى، للحصول على مركز سيطرة في منطقة الخليج، سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيها القوة العسكرية}. (1)
 أما الرئيس[رونالد ريكان] الذي تولى الرئاسة بعد كارتر، فقد وقف يخطب بانفعال أمام الكونجرس في 29 أيار1989 موجهاً كلامه للشعب الأمريكي قائلاً: 
{إنني أود أن أتحدث إليكم اليوم عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة  وشعبها، وهي مصالح تتعرض للخطر في منطقة الخليج.
 إن الولايات المتحدة، وهي القوة الأساسية في العالم، وكذلك الدول المتحالفة معها، قد أدركت مدى ضعفهم، عندما يصبح اقتصادهم، وشعوبهم رهينة للأنظمة المنتجة والمصدرة للنفط في الشرق الأوسط، وإن الأزمة التي عانينا منها إبان حرب تشرين 1973 قد تتكرر مرة أخرى لو تمكنت أي دولة من فرض هيمنتها على الدول العربية الصديقة في الخليج، وإنني مصمم على أن الاقتصاد الأمريكي لن يصبح مرة أخرى رهينة لتلك الأوضاع، ولن نعود لأيام الصفوف الطويلة، المنتظرة للوقود، ولا للتضخم، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والإهانة الدولية، وسجلوا جيداً هذه النقطة}.(2)
أما الرئيس [جورج بوش] فقد سارع إلى إنشاء قوة للتدخل السريع، تتمركز في الولايات المتحدة، ولكنها تبقى على أهبة الاستعداد للانتقال جواً وبحراً إلى أي منطقة في العالم في حالة حدوث أي طارئ، وزاد بوش في اندفاعه للتخطيط لدفع العراق، وتوريطه في مغامرة الكويت، لتوجيه الضربة القاضية إليه، وتحطيم قدراته العسكرية، والاقتصادية، وتصفية أسلحة الدمار الشامل، التي امتلكها خلال حربه مع إيران.
وفي تلك الساعات الحرجة من اليوم الأخير من شهر تموز، واليوم الأول من شهر آب، كانت الولايات المتحدة، وأجهزة مخابراتها العسكرية، وأقمارها التجسسية، تراقب عن كثب أدق تفاصيل التحركات العراقية، ودرجة استعداداتها، وكانت تقارير المخابرات المركزية تشير بوضوح لا لبس فيه إلى أن الخطط والتحركات العراقية تستهدف احتلال الكويت، احتلالاً كاملاً.
كما أشارت أخر صور الأقمار التجسسية الأمريكية إلى أن الدبابات العراقية قد تقدمت إلى أقرب منطقة من الحدود بأعداد كبيرة، حيث كانت قد رصدت المسافات بين كل دبابة وأخرى ما بين 50 ـ 75 متراً، على طول الحدود، وكانت تقف وراءها المدفعية، والمدرعات، وكانت وضعية القوات العراقية تشير إلى أن قرار الهجوم قد أتخذ، وكذلك ساعة الصفر.
 ورغم كل ذلك، لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً، ولم ترسل أي تحذير لحاكم العراق، بل على العكس من ذلك، كانت تنتظر بفارغ الصبر إقدامه على تنفيذ مغامرته ضد الكويت، وكل ما فعلته هو ترتيب الأوضاع داخل الكويت، لحماية العائلة الحاكمة.
فقد أبلغ مسؤول المخابرات الأمريكية مدير الأمن العام الكويتي في 31 تموز بما يلي:
{ نحن لا نريد أن نثير القلق في نفس أحد  بدون داعٍ، ولكننا نعتقد أن خطة الطوارئ الموضوعة سابقاً بشأن سلامة الأمير، والعائلة الحاكمة، يجب أن توضع موضع التنفيذ من باب الاحتياط}. (3)
وعاد مسؤول المخابرات الأمريكي بعد ساعتين، فأبلغ مدير الأمن العام الكويتي بأن على الأمير أن لا يتواجد في المدينة هذه الليلة، وعليه أن يخرج بأسرع ما يمكن، إلى أحد بيوته القريبة من الحدود السعودية. (3)
 وفي مساء يوم الأول من آب، طلب المسؤول المخابراتي الأمريكي من جميع أفراد العائلة الحاكمة مغادرة مدينه الكويت، وبدء سريان خطة الطوارئ المعدة سلفاً، وعليه جرى تحرك أفراد العائلة الحاكمة نحو منطقة الخرجي السعودية، بطريقة لا تلفت النظر وكان يبدو على ملامحهم الذهول الشديد.(4)

ثانياً: صدام يصدر الأمر بغزو الكويت

في الساعات الأولى من فجر الثاني من آب 1990، بدأت جحافل القوات العراقية بالتحرك نحو مدينة الكويت، فيما حلقت الطائرات العراقية فوق المدينة، وأنزلت القوات المظلية في مطارها واحتلته، و بدأت الانفجارات يُسمع دويها في مختلف أنحاء المدينة، وركزت الطائرات العراقية هجماتها على المراكز الحساسة فيها، ولم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى استطاعت القوات العراقية من الوصول إلى العاصمة، وإحكام سيطرتها عليها، دون مقاومة تذكر من الجيش الكويتي.
 إلا أن العائلة الحاكمة كانت قد غادرت الكويت إلى منطقة الخرجي السعودية قبل وصول القوات العراقية إليها، تطبيقاً لخطة الطوارئ التي وضعتها المخابرات المركزية الأمريكية، وسارع أمير الكويت إلى طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية لطرد القوات العراقية من الكويت، وإعادة الشرعية للبلاد.
أما النظام العراقي فقد سارع في صباح ذلك اليوم إلى الإعلان عن وقوع انقلاب عسكري في الكويت!! من قبل عدد من الضباط الشبان، على عائلة الصباح الحاكمة، وأعلن العراق، عن طريق الإذاعة والتلفزيون، أن قادة الانقلاب قد طلبوا المساعدة من العراق لمنع أي تدخل أجنبي، وقد تم تلبية الطلب، وإرسال قوات عراقية إلى الكويت، وأن هذه القوات سوف تبقى أسبوعاً أو بضعة أسابيع، ريثما يستقر الوضع،  ثم تنسحب من الكويت.
كما أعلنت حكومة العراق عن طريق الإذاعة والتلفزيون غلق الأجواء العراقية أمام الطيران المدني، وإغلاق الحدود، ومنع السفر إلى خارج العراق، تحسباً لكل طارئ. (5)
وفي حقيقة الأمر كان ادعاء حكام العراق على درجة كبيرة من السخف والغباء، فالقوات العراقية كانت قد جرى حشدها على الحدود منذُ مدة، وكانت تهديدات نظام صدام تتوالى كل يوم، وإن كل ما قيل عن وقوع انقلاب هو محض هراء، ولا وجود لمثل أولئك الضباط الانقلابيين، ولم تنطلِ تلك الأكاذيب على أحد، لا في العراق، ولا في الكويت، ولا في أي مكان من العالم.
لم يصدر أي رد فعل من جانب السعودية ودول الخليج في الأيام الأولى من الغزو، فقد أصابهم الذهول، وتملكهم الخوف من أن يقدم صدام حسين على مواصلة غزوه لمنطقة الخليج بأسرها، وكانت أنظارهم في تلك الساعات العصيبة متجهة صوب الولايات المتحدة، منتظرين بتلهف وقلق رد الفعل الأمريكي على الغزو.
حاول الملك فهد الاتصال بصدام حسين عن طريق الهاتف، إلا انه أُبلغ من قبل مستشاره [احمد حسين] بان صدام غير موجود، وانه سوف يبلغه بان الملك فهد قد طلبه على الهاتف.
وعاد الملك فهد واتصل بالملك الأردني حسين، الذي أرتبط بعلاقات وثيقة بصدام حسين، أيقضه من نومه، وبدأ يحكي له بما سمع عن اجتياح القوات العراقية للكويت، وطلب منه الاتصال بصدام  والاستفسار منه عما حدث.
 وبالفعل اتصل الملك حسين ببغداد، ولكن صدام لم يكن على الخط، بل كان وزير الخارجية طارق عزيز، وسأله الملك عن الذي جرى، فكان جواب طارق عزيز، بأنه مع الأسف لم يكن هناك طريقاً آخر!!، ووعد طارق عزيز الملك حسين بأن الرئيس صدام حسين سوف يتصل به، ويشرح له تفاصيل ما جرى. أما الرئيس  المصري حسني مبارك، فقد أوقظ من نومه في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، بناء على إلحاح السفير الكويتي، وأٌبلغ بأن القوات العراقية قد دخلت قصر الأمير، واستولت على جميع المراكز الحساسة في العاصمة الكويتية، وجميع الوزارات.
تملكت الدهشة والقلق الرئيس المصري مبارك، وحاول الاتصال بصدام حسين، لكنه لم يكن في مقره، بل في مقر قيادة العمليات العسكرية.
 ثالثاً: الفخ الأمريكي يوقع بصدام:

أما على الطرف الأمريكي فلم يكن الغزو مفاجئاً لهم، بل كان الأمريكيون ينتظرون وقوعه بفارغ الصبر. كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصراً حسب توقيت واشنطن عندما بدأ الجيش العراقي اجتياحه للكويت، وكان الرئيس بوش يتابع عن طريق الصور التي تنقلها الأقمار الصناعية كل تحركات القوات العراقية  ساعة بساعة، كما سارع إلى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي الأمريكي، وكبار مستشاريه السياسيين والعسكريين، وضم الاجتماع كل من:
1ـ  الجنرال سكوكورفت، مستشاره للأمن القومي.
2 ـ ديك تشيني ـ وزير الدفاع.
3 ـ جون سنونوـ رئيس هيئة مستشاري البت الأبيض.
4 ـ الجنرال دافيد كيرما ـ نائب سنونو.
5ـ ـ الجنرال بول وولفتزـ مدير التقديرات الإستراتيجية في وزارة الدفاع.
6 ـ رويرت كميت ـ مساعد وزير الخارجية، بالنظر لغياب الوزير في زيارة رسمية لموسكو.
7ـ وليم وبستر ـ مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
8 ـ رتشارد كير ـ نائب رئيس وكالة المخابرات المركزية.
9ـ بويدن جراي ـ المستشار القانوني للرئيس بوش، وأجرى المجتمعون.                                   برئاسة بوش في القصر الأبيض تقيماً للوضع في منطقة الخليج،  والخطوات التي ستتخذها الولايات المتحدة ضد العراق، وصدر في ختام الاجتماع بياناً يتضمن القرارات التالية:
1ـ إن الرئيس بوش يدين بشدة الغزو العراقي للكويت، ويطالب بسحب القوات العراقية، وبدون قيد أو شرط، ولا يقبل بديلاً عن ذلك بشيء.
2 ـ تقرر إرسال قوة من الطيران الحربي إلى السعودية فوراً،وتضم 25
طائرة من طراز F15.
3ـ  تقرر تجميد كل الأموال العراقية، والكويتية في كافة البنوك.

4ـ  تقرر إنشاء لجنة طوارئ دائمة لمتابعة الأزمة تضم كل من  كميت، وكيرما، و ولفوتتز، وكير، وكولن باول، رئيس أركان الجيش الأمريكي

5ـ  إنشاء لجنة طوارئ تعمل تحت رئاسة مستشار الأمن القومي ـ برنت سكوكرفت.
وفي ختام الاجتماع طلب الرئيس بوش استدعاء الجنرال ـ شوارتزكوف  قائد قوات التدخل السريع إلى واشنطن لينضم إلى الاجتماع في صباح اليوم التالي، في مكتب الرئيس بوش، مع جلب خطط العملية المعدة للتدخل السريع {1002ـ 90 } في منطقة الخليج . (6)

رابعاً: سوريا تدعو لعقد قمة عربية لبحث الغزو
 
 فور اجتياح القوات العراقية للكويت في 2 آب 1990، دعت الحكومة السورية إلى عقد مؤتمر قمة عربي عاجل لبحث الغزو العراقي، ودعت وزراء الخارجية العرب، الذين كانوا في القاهرة لحضور مؤتمر القمة الإسلامي، إلى عقد اجتماع عاجل للإعداد لمؤتمر القمة، لمعالجة الأزمة.
وبالفعل وجه الأمين العام لجامعة الدول العربية [الشاذلى القليبي] لوزراء الخارجية العرب، لعقد اجتماع في فندق [سمير أميس]، حيث يتواجد فيه معظم وزراء الخارجية العرب، وتم عقد الاجتماع في تمام الساعة العاشرة صباحاً، بغياب وزير الخارجية العراقي الذي ناب عنه سفير العراق في القاهرة، وجرى بحث الأزمة، والسبيل للخروج منها، وقد وجه وزراء الخارجية العرب استفساراتهم إلى ممثل العراق، لكن المندوب العراقي أجابهم بأنه غير مخول أساساً لحضور الاجتماع، وأن وفداً على مستوى عالٍ سوف يحضر إلى القاهرة، برئاسة نائب رئيس الوزراء [سعدون حمادي] ولذلك فقد تأجل الاجتماع حتى الساعة السابعة مساءً، حيث وصل سعدون حمادي والوفد المرافق له، وتم عقد الاجتماع مباشرة، ووقف سعدون حمادي يتحدث أمام المجتمعين عن حقوق العراق في الكويت، وعن تصرفات حكامه بخصوص عدم الالتزام بحصص الإنتاج، وسرقة نفط العراق من حقل الرميلة الجنوبي، وزحف الحدود الكويتية إبان الحرب مع إيران.
وفي الوقت الذي كان سعدون حمادي يتحدث أمام وزراء الخارجية العرب، وصل عزت الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة إلى جدة، بناء على اتفاق جرى بين الملك فهد وصدام حسين، إثر مكالمة هاتفية جرت صباح
يوم الثاني من آب، ليشرح للملك فهد  الدوافع التي أدت إلى إقدام العراق على غزو الكويت من جهة، وليطمئن الملك بأن العراق لا يضمر للسعودية شراً.
 وقد أوضح عزت الدوري للملك أن الكويت هي جزء لا يتجزأ من العراق، وقد تمت إعادة الفرع إلى الأصل، مما أثار استياء الملك فهد الذي أجابه قائلاً: {إذا كان الأمر كذلك فما الفائدة من الحديث إذا؟}.
وفي نفس اليوم اتصل الملك فهد بالسفير السعودي في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، طالباً منه الاتصال بالحكومة الأمريكية، وحثها على الوقوف بحزم تجاه العراق، وعاد الأمير إلى الاتصال بالملك فهد مبلغا إياه بأنه سمع من مصدر في البيت الأبيض بان قوة مدرعة عراقية تتجه نحو الحدود السعودية، وأن الحكومة الكويتية قد تقدمت بطلب للحكومة الأمريكية للعمل على إخراج القوات العراقية من الكويت.
 وسأل الملك فهد إن كان ينوي تقديم طلب مماثل للولايات المتحدة، ومن المعتقد أن الحكومة الأمريكية قد سربت خبر تقدم مدرعات عراقية نحو الحدود السعودية، عن طريق السفير بندر، لكي ترعب الملك، وتجعله يوافق على نزول القوات الأمريكية، والقوات الحليفة في الأراضي السعودية.
وقد أبلغ الأمير بندر الملك فهد أن اجتماعاً هاماً سوف يعقد هذا اليوم برئاسة الرئيس بوش، في مكتبه بالقصر الأبيض، لدراسة الخيارات المتاحة للولايات المتحدة للتصرف إزاء الغزو العراقي للكويت، و كان الملك فهد في تلك الساعات الرهيبة في أقصى حالات القلق، وكان تفكيره يدور حول الظروف المحيطة بالغزو، وفي ذهنه عدد من الأسئلة المقلقة ينتظر الإجابة عليها وهي:
1ـ هل كان أعضاء مجلس التعاون العربي على علم بالغزو؟
2 ـ هل أجرى صدام حسين مشاورات معهم قبل الغزو؟
3ـ هل سيكتفي صدام باحتلال الكويت، أم سيحاول غزو السعودية؟
4 ـ كيف سيكون رد الفعل الأمريكي تجاه الغزو؟
5ـ ما هو موقف الدول العربية تجاه الغزو؟
6 ـ هل بإمكانها إقناع العراق بالانسحاب من الكويت؟

 خامساً: ماذا دار في القصر الأبيض الأمريكي؟

كان الرئيس الأمريكي بوش على موعد مع مجلس الأمن القومي الأمريكي، في غرفة العمليات الخاصة المحصنه ضد التصنت، وكان هناك في انتظاره [ديك  تشيني] وزير الدفاع، و[جيمس واكنز] وزير الطاقة، و[روبرت كميت] مساعد وزير الخارجية، و[كولن باول]، رئيس أركان الجيش، و[نورمان شوارتزكوف]، قائد قوات التدخل السريع، و[ريتشارد دارمان] وزير الخزانة، [ووليم وببستر]، مدير وكالة المخابرات المركزية، والجنرال [ برنت سكوكروفت] مستشاره للأمن القومي. كانت الأفكار التي تدور في ذهن بوش، والتي طرحها على الحاضرين تتلخص بما يلي:
1 ـ أن الولايات المتحدة يجب أن تلعب الدور الرئيسي في الأزمة.
2 ـ أن لا تفاوض، ولا أنصاف الحلول مع النظام العراقي.
3 ـ أن تسعى الولايات المتحدة لتعبئة الرأي العام الدولي ضد العراق.
وبعد أن فرغ الرئيس جورج بوش من حديثه مع الحاضرين، تحدث وزير الطاقة عن آثار عملية الغزو على سوق النفط، والمخاطر الناجمة عنه، ثم تلاه وزير الخزانة، الذي أقترح فرض الحصارالاقتصادي الشامل على العراق. (7)
 ثم جاء دور العسكريين، وهو بيت القصيد في ذلك الاجتماع، حيث أقترح كولن باول توجيه ضربة جوية فعالة وحاسمة للعراق، وتطبيق خطة التدخل السريع والمسماة [1002 ـ 90] وضرورة تحشيد الولايات المتحدة، وحلفائها قوة كبيرة قادرة على  دحر القوات العراقية، وتدمير آلته الحربية، والبنى التحتية للاقتصاد العراقي.
كما جرى النقاش حول ضرورة الحصول على موافقة السعودية على الحشد العسكري الأمريكي على أراضيها، وانتهى النقاش بالمقررات التالية:
1 ـ الاتصال بالملك فهد، والحصول على موافقته على حشد القوات في السعودية.
2 ـ العمل على إغلاق أنابيب النفط العراقي المارة عبر السعودية، ووعبر تركيا.
3ـ الطلب من السعودية، ودول الخليج تقديم الأموال اللازمة لهذا الحشد، وتكاليف الحرب.
ثم تحدث وزير الدفاع [ديك تشيني] عن الخطة المعدة للتدخل السريع،  [1002ـ90] موضحاً مراحل تنفيذ هذه الخطة، والتي تتلخص بما يلي:
1 ـ المرحلة الأولى:
وتقضي بالعمل بأسرع وقت على ردع القوات العراقية من محاولة غزو السعودية، وذلك بإرسال فرقة مدرعة، وعدد من حاملات الطائرات المزودة بصواريخ كروز، وتوماهوك، مع عشرة أسراب من الطائرات الحربية، وبالإمكان تأمين ذلك خلال شهر.
2 ـالمرحلة الثانية:
 وتقضي بإكمال التحشيد في السعودية، لكي يكون للولايات المتحدة وحلفائها  قوة ضاربة، لا تقل عن 250 ألف عسكري مجهزين بأحدث الأسلحة والمعدات، قبل المباشرة في تحرير الكويت.
3 ـ المرحلة الثالثة:
 توجيه ضربات جوية لكافة المرافق الحيوية للعراق، بدء من المطارات العسكرية، والاتصالات، والرادارات، ومراكز تجمع القوات العراقية، وآلياته العسكرية، وانتهاءً بكل المرافق الحيوية، ومنشاته الاقتصادية، وطرق مواصلاته، وجسوره.
4 ـ المرحلة الرابعة:
 الهجوم العسكري البري لتمزيق القوات العسكرية العراقية، وإخراجها من الكويت، عن طريق القيام بالتفاف خلف القوات العراقية، من الأراضي السعودية، والدخول نحو الأراضي العراقية، لقطع الاتصال مع القوات العراقية في الكويت.(8)

أسرع الرئيس بوش، بعد الانتهاء من الاجتماع، إلى طلب الملك فهد على الهاتف، لأخذ موافقته على نزول القوات الأمريكية والحليفة في السعودية.
كان الملك فهد متردداً في جوابه، وقد تملكه الخوف من ردة فعل صدام حسين، وما يمكن أن يسبب نزول قوات أجنبية في الأراضي السعودية من مشاكل خطيرة مع العالم الإسلامي، وقد عرض عليه الرئيس بوش أن تكون القوات الأمريكية والحليفة بغطاء عربي، وذلك بدعوة الدول العربية للمساهمة بقواتها في الحشد، بحجة تحرير الكويت.
وفي تلك الأثناء كانت المحاولات تجري على قدم وساق، من قبل الملك حسين، والرئيس المصري حسني مبارك، المجتمعان في الإسكندرية، لعقد مؤتمر القمة العربية، والعمل على إقناع العراق بالانسحاب من الكويت، وحل المشاكل العالقة بين البلدين بالطرق السلمية.
لكن الرئيس الأمريكي بوش، سارع للاتصال بالرئيس  المصري حسني مبارك وأبلغه أن الخيار الوحيد لإخراج العراق من الكويت، هو الخيار العسكري، وأن وقت القمم قد فات، أضاف بوش أن غزو الكويت عمل عدواني لا يمكن قبوله من قبل الولايات المتحدة، ونعتبره تهديد مباشراً لأمن الولايات المتحدة.
وأضاف الرئيس بوش قائلاً:
{ أن الكونجرس، والرأي العام الأمريكي، ووسائل الإعلام يطالبوننا بالتصرف عسكرياً، وليس بقرارات الإدانة، وقد أعلنا موقفنا من العدوان رسمياً، ونحن ثابتون على موقفنا من صدام حسين الذي تحدى الولايات المتحدة، ونحن بدورنا قبلنا التحدي، وأن الولايات المتحدة سوف تتصرف وحدها، بصرف النظر عن قبول أو رفض غيرها التنسيق معها}.
كما اتصل الرئيس بوش بالملك حسين، وأبلغه بقرار الولايات المتحدة، بالتدخل العسكري، وكان بوش يفتعل أقصى حالات الغضب، وقد حاول الملك حسين تهدئته، وطلب منه إعطاء فرصة للجهد العربي، ولو لمدة 48 ساعة، لكن بوش كان مصراً على دفع الأمور نحو المواجهة بكل تأكيد.
لقد وقع صدام في الفخ الذي نصبته له إدارة بوش في الكويت، وحلت الفرصة الذهبية لتدمير القوة العسكرية للعراق، وتهديم بنيته الاقتصادية، تدميراً شاملاً.
وفي لقاء الملك حسين والرئيس مبارك في الإسكندرية، سأل الملك حسين الرئيس مبارك إن كان قد استطاع التحدث مع صدام حسين، فكان جواب مبارك أنه لا يود التحدث معه لأنه خدعه حين قال له إنه لن يهاجم الكويت، مما سبب له إحراجاً كبيراً وصل إلى حد الاتهام بخدع حكام الكويت.
وفي النهاية أقترح الملك حسين على الرئيس مبارك أن يتوجه بنفسه إلى بغداد، ويتحادث مع صدام حسين، بينما كان رأي مبارك عقد قمة مصغرة في جدة، شرط موافقة صدام حسين على الانسحاب، وعودة الشرعية.
 وفي المساء اتصل مبارك بصدام حسين، وابلغه أنه اتفق والملك حسين، على عقد قمة مصغرة في جدة، وأن الملك حسين سيتوجه إلى بغداد ليشرح لكم أهداف  وشروط هذه القمة.
 لكن مبارك عاد وأبلغ الملك حسين، بعد المكالمة، بان الحكومة المصرية سوف تصدر بياناً تطالب فيه العراق بالانسحاب من الكويت، وعودة الشرعية، وقد رجاه الملك حسين تأجيل ذلك إلى ما بعد القمة المنوي عقدها في جدة، لئلا تؤدي إلى مضاعفات تفشل المساعي المبذولة لحل الأزمة، وكان من الواضح أن الرئيس مبارك لا يستطيع مخالفة رأي الولايات المتحدة، التي كانت تملي على حلفائها الحكام العرب ما تريد.

حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com

362
الشعب العراقي ومتطلبات الانتخابات القادمة


حامد الحمداني   18/7/2009
خمسة أشهر تفصل الشعب العراقي عن الانتخابات القادمة، وبكل تأكيد تتسم نتائجها بأهمية بالغة تتعلق بمصير العراق، فإما الاستمرار على هذا النهج الذي تدار به العملية السياسية البائسة، واستمرار المحاصصات الطائفية والعرقية، يجري اختيار أعضائه من ذات الأحزاب الطائفية والعرقية، ولا صلة لهم بالشعب وهمومه المعيشية، والعيش بسلام وأمان، وتأمين حياة كريمة له من خلال معالجة مشكلة البطالة المستعصية، والاهتمام الجدي بالخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء الذي لا حياة بدونه، ومعالجة الغلاء المستفحل والتضخم المتصاعد يوماً بعد يوم، حتى وصلت طبقة البيض على سبيل المثال بـ 6000 آلاف دينار، في حين أن دخل المواطن العراقي لا يكاد يسد ابسط حاجاته المادية، وهو يعيش في بلد من أغنى بلاد العالم هذه الحياة الصعبة والقاسية في حين تنعم بحياة مرفهة وخيالية زمر من الذين جاء بهم الاحتلال إلى سدة الحكم، والبرلمان، والمراكز العليا في الدولة، من دون التمتع بالكفاءة والأمانة التي تؤهلهم لشغل هذه المناصب والمراكز والوظائف، والذين هم في وادٍ والشعب المسحوق في وادٍ آخر.

 إن جهاز دولة  يغطيه الفساد من قمة الرأس حتى أخمص القدم، والفاسدون على درجات، فاسدون كبار يتحدثون بالمليارات، وفاسدون متوسطون يتحدثون بالملايين، وفاسدون صفار اتخذوا من الرشوة سبيلاً للنهب الحلال من أفواه التعساء البائسين من أبناء الشعب، فلا تكاد أبسط معاملة لموطن في دائرة حكومية تمشي دون رشوة يضطر المواطن لاقتطاعها من أفواه أطفاله الجوعى لينجز إعماله ومصالحه.

وفوق كل هذا وذاك تعود العبوات الناسفة والسيارات المفخخة في طول البلاد وعرضها من جديد لتضرب يميناً وشمالا بالمواطنين، وهم سائرون نحو أعمالهم أو مدارسهم وجامعاتهم، أو ذاهبون للتسوق، ليصبحوا طعاماً لهؤلاء القتلة المجرمين الذين يجلس قادتهم في البرلمان العراقي العتيد وحكومة المحاصصة الطائفية، والأجهزة الأمنية المخترقة بميليشيات القتل على الاسم والهوية.
وثالثة الأثافي التهديدات التي يطلق قادة الأحزاب القومية الكردية صباح مساء محذرين إما الاستحواذ على كركوك والموصل وديالى والكوت، وإما الحرب القومية القادمة لا محالة، وكل المعطيات على الساحة السياسية في البلاد تشير إلى أنها واقعة لا محالة، وإنها تنتظر التوقيت المناسب، والاستعدادات الحربية تجري على قدم وساق.
أي محنة تعيشها أيها الشعب العراقي المهضوم الحقوق؟
أي حياة بائسة يسودها القلق الدائم مما تخبئه لك الأيام القادمة؟
ما هو السبيل للخروج من هذا النفق المظلم؟
إن الأمر بيدك أيها الشعب، والفرصة مؤاتية، وعليك أن لا تضيعها كما ضيعت الفرص السابقة في الانتخابات الأولى والثانية، والتي جاءتك بهذا الدستور المعلول، والطغيان الطائفي والقومي المجنون، حيث لا هم لهم سوى امتلاك السلطة والثروة، وليذهب الشعب إلى الجحيم.
ينبغي لك أيها الشعب المظلوم أن تستعد من هذه الساعة للانتخابات القادمة من خلال نضال متواصل دون هوادة،  والضغط على السلطة القائمة لتحقيق المطالب التالية التي لا غنى عنها لقلب المعادلة، والإتيان ببرلمان يعبر أصدق تعبير عن أهداف وحاجات منتخبيه، وانبثاق حكومة تنكوقراط ديمقراطية حقيقية نظيفة، بعيداً عن المحاصصة الطائفية والعرقية اللعينة، تنصرف نحو إصلاح جذري للعملية السياسية الفاسدة، والعودة نحو النظام الرئاسي، واختيار رئيس الجمهورية من قبل الشعب في انتخابات مباشرة، مع تحديد دقيق لصلاحياته بما يمنع قيام دكتاتورية جديدة،  وإصلاح جذري للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وتنظيفها من العناصر الميلشياتية التابعة للأحزاب السياسية، واستئصال كافة الميليشيات الحزبية، وجمع كل الأسلحة منها تحت سيطرة الدولة، وإعادة الأمن والسلام الحقيقي والدائم في البلاد، والتفرغ لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والخدمية في البلاد بشكل جدي، والنهوض بالبنية الصناعية والزراعية المدمرة.
وليكن في علمك أيها الشعب العراقي النبيل إن عملية الإصلاح هذه لن تتم إلا من خلال تحقيق الشروط التالية:

أولاً: ينبغي النضال من أجل سن قانون جديد للأحزاب السياسية يحرّم تأسيس الأحزاب على أساس ديني أو قومي أو طائفي، وفصل الدين عن الدولة، وهذا شرط أساسي لقيام حياة حزبية ديمقراطية.
فما دامت الحياة الحزبية قائمة على أساس ديني أو طائفي أو عرقي فلن يستقر الوضع الأمني في البلاد، ولن يتمتع أبناء الشعب بالحريات العامة والشخصية، وبالديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ثانياً: ينبغي النضال من أجل سن قانون الانتخاب على أساس القائمة المفتوحة، وإن يتم الترشح للبرلمان من قبل أبناء المنطقة نفسها، ليكون النائب على صلة وثيقة بناخبيه، تجعله ينصرف بصدق نحو خدمة أبناء الشعب الذين انتخبوه، وحاسبته باستمرار، لا كما جرى في الانتخابات السابقة حيث التصويت للكتل الحزبية التي جاءت إلى البرلمان بعناصر لا تستحق أبداً الموقع الخطير الذي يهم مصلحة الشعب بالدرجة الأولى.
كما ينبغي إشراف الحكومة المركزية على تمويل الأحزاب السياسية، ومنع أي تمويل خارجي، وغلق كل حزب يثبت تلقيه تمويلاً خارجياً.

ثالثاً: ينبغي التأكيد على المرشحين الذين يجرى انتخابهم العمل على تحقيق المطالب التالية:
1ـ الالتزام بإجراء تعديلات جذرية على الدستور الحالي تضمن الحفاظ على وحدة البلاد أرضا وشعباً، وإزالة أية إشارة وردت في الدستور للطائفية والعرقية ، والتأكيد على الديمقراطية، وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي شرعته الأمم المتحدة منذ عام 1948، ووضعها في صلب الدستور المعدل، والتأكيد على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والعدالة الاجتماعية.

2ـ  ينبغي تأجيل قانون المحافظات الذي جرى سنه بموجب الدستور البريمري في الوقت الحاضر، حيث الظروف الحالية للعراق لا تساعد على قيام هذا المستوى العالي من النتظيم، الذي يتطلب نضوجاً عالياً لدى الشعب العراقي، والذي جاء بنتائج عكسية تهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي العراقي وتهديد وحدة البلاد.

3ـ  إن العراق في المرحلة الحالية بحاجة ماسة إلى حكومة مركزية قوية تضم عناصر متخصصة كل في مجال عمله واختصاصه، لتتولى إعادة اللحمة للمجتمع العراقي،  وتعيد بناء البنية التحية المهدمة، وتحافظ على أمن العراق الداخلي والخارجي، وتحقق السيادة والاستقلال، والتحرر من ربقة الاحتلال، مع إقامة العلاقات الطبيعية مع الولايات المتحدة وسائر بلدان العالم على أساس احترام سيادة واستقلال العراق ووحدة أراضيه.
 
4ـ  ينبغي النضال من أجل سن قانون {من أين لك هذا} ومحاسبة المسؤولين في النظام السابق والنظام الحالي على حد سواء، وتقديم الذين اثروا على حساب الشعب للمحاكم المختصة،  لينالوا العقاب الذي يستحقونه بموجب القانون، واستعادة كل ما حصلوا عليه بطريقة غير شرعية ومنعهم
 من إشغال أية وظيفة عامة في الدولة لمدة لا تقل عن عشر سنوات.
كما يجب أن ينص القانون على تقديم كل موظف من درجة معاون مدير عام وحتى رئيس الجمهورية جرداً بممتلكاته، وأفراد عائلته، قبل توليه العمل الوظيفي أو السلطة وبعد انتهاء عمله للتأكد من عدم استغلاله لوظيفته للإثراء غير المشروع.
رابعاً: ينبغي توحيد كافة القوات المسلحة بجيش واحد، وتحت سلطة الحكومة المركزية، فلا يجوز أن يكون في البلاد جيشين، وهي سابقة خطيرة لا وجود لها في أي بلد اتخذ من الفيدرالية نظاماً للحكم، ومن حق الشعب الكردي أن يتمتع بالحكم الذاتي بكامل حقوقه القومية شرط احترام وحدة العراق أرضا وشعبا، والكف عن تأجيج الشعور العنصر الشوفيني الذي لن يقود الشعب العراقي بعربه وأكراده وسائر مكوناته الأخرى إلا إلى الحروب والخراب والدمار.
خامساً: الثروات الطبيعية كافة دون استثناء ينبغي أن تكون تحت سلطة الحكومة المركزية التي ينبغي أن توزع المشاريع الصناعية والزراعية والعمرانية والخدمية على قدم المساواة بين سائر المحافظات مع مراعاة المحافظات الأكثر تخلفاً للنهوض بها إلى مستوى المحافظات الأخرى.
سادساً: العلاقات الخارجية ينبغي أن تكون من صميم واجبات الحكومة المركزية، ولا يحق لأية جهة إقامة علاقات سياسية خارجية إلا من خلال الحكومة المركزية.
هذا هو الطريق الذي يمكن أن يخرج العراق من محنته الحالية، ويحقق للشعب العراقي طموحاته المشروعة بحياة حرة وديمقراطية، في ظل الأمن والسلام والطمأنينة، والتعايش الأخوي بين مكونات الشعب بكل أطيافه، ولن تتحقق هذه الآمال إلا بتصاعد الوعي الشعبي، وزجه في النضال من تحقيقها، وتتحمل كل القوى والعناصر الوطنية والديمقراطية والعلمانية مسؤولية نشر الوعي بين صفوف الشعب، وحثه على فهم حقيقة الوضع المأساوي السائد، وضرورة تغييره من أجل تحقيق طموحاته المشروعة. 

363
حذار: من المقامرة بمصير العراق
حامد الحمداني                                                       16/7/2009
يبدو إن القيادات القومية الكردية مصرة على السير على حافة الهاوية، إنهم يقامرون بمصير العراق شعباً ووطناً، غير عابئين بكل التحذيرات التي أطلقها ما زال يطلقها كل الحريصين على وحدة العراق أرضا وشعباً، وتعزيز روابط الأخوة التي تجمع أبناء الشعب العراقي بكل مكوناته العرقية والدينية والطائفية من أجل إرساء دعائم السلام والأمان في ربوع الوطن، والتفرغ لإعادة بناء البنية التحتية العراقية المهدمة، ومعالجة مشكلة البطالة المستشرية، ومكافحة الفقر والأمراض الفتاكة التي تنخر بالمجتمع العراقي، وتأمين الخدمات العامة من ماء صالح للشرب وكهرباء، وصرف صحي والنهوض بمستوى الخدمات الصحية والتعليمية.
أنهم يدفعون الأمور نحو الصراع المسلح بينهم وبين العرب والتركمان في سعيهم المحموم للسيطرة على محافظة كركوك، والجانب الأكبر من محافظة الموصل، ومحافظة ديالى، وحتى محافظة الكوت، فيما يسمى بالمناطق المتنازع عليها!!، تلك التي سطرها  الحاكم الأمريكي السيئ الصيت بول بريمر في دستوره العتيد!، والتي جرى تثبيتها في الدستور الحالي بعد أن قاطع جانب كبير من الشعب العراقي  تلك الانتخابات التي جاءت ببرلمان بأغلبية التحالف الكردي بزعامة الطالباني والبارزاني مع قائمة الائتلاف الشيعية بزعامة عبد العزيز الحكيم، والتي مكنت قوى الإسلام الطائفي الشيعية، وقوى التعصب القومي الكردية من الاستئثار بأغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية التي أخذت على عاتقها صياغة دستور العراق الحالي، والذي جاء في جوهره مواد الدستور الذي وضعه الحاكم الأمريكي بول بريمر، وأتاح البرلمان ذاك الفرصة أمام القوى القومية الكردية والقوى الطائفية الشيعية لتضمين الدستور مواد وفقرات باتت أشبه ببراميل بارود تنتظر من يشعل فيها الفتيل لتندلع من جديد حرباً قومية بعد تلك الحرب الطائفية التي اجتاحت العراق على أثر جريمة تفجير مرقد الإمامين العسكري في سامراء.
وجاء الدستور الذي وضعته حكومة البارزاني والطالباني لدولة كرستان ليزيد في الطين بله، ويصاعد من المخاطر التي باتت محدقة بالعراق بشكل جدي غير مسبوق، حيث بدأنا نسمع أصوات طبول الحرب على لسان القيادات الكردية التي تخرج علينا كل يوم بتهديد جديد.
إن القيادات الكردية تقامر بمصير العراق وشعبه، وهي بهذا السلوك تلعب بالنار التي إذا ما اشتعلت فلن يستطيع أحدا من إطفائها، وستكون كارثة على الجميع ، فلا يظنن أحداً بأنه سيكون بمنأى من نيرانها، وعند ذلك سيندم أشد الندم من أشعلها، أو من كان السبب في إشعالها. 
إن القيادات الكردية تقع في خطأ جسيم إذا تصورت أنها ستنجح في مشروعها بتمزيق العراق إلى أشلاء، لتقيم على تلك الأشلاء دولتهم الكردية،  فالعراق واحد لا يقبل القسمة، وإن كان تمرير الدستور الذي يتمسك به البارزاني اليوم قد جرى بسبب الجهل الذي يعم المجتمع العراقي، وبسبب مقاطعة جانب كبير من أبناء الشعب للانتخابات الأولى، ومن دون أن يقرأ أغلبية المصوتين محتويات الدستور، ويدرك معانيها، فقد بات الشعب العراق يدرك اليوم أن تقسيم العراق، وتحويله إلى دويلات لن يمر أبداً، وسيذود عن وحدته واستقلاله بكل الوسائل والسبل، ومهما غلت التضحيات في سبيل الوطن.
أن على القيادات الكردية أن تعي هذه الحقيقة لكي لا تورط نفسها، وتورط الشعب العراقي قاطبة بحرب قومية كارثية لن يربح منها مشعلوها أبداً وسيكون النصر حليف من يدافع عن وحدة الشعب والوطن.
إننا نكن  للشعب الكردي كل المحبة والاحترام، ولقد وقف الشعب العراقي بكل قواه الوطنية إلى جانبه في نضاله من أجل الحقوق القومية، ومن أجل العدالة الاجتماعية، ومن أجل الحرية، أسوة بشقيقه الشعب العربي في العراق، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات.
 لكنكم أشعلتم في نفوس أبناء شعبكم روح التعصب القومي والشوفينية اللعينة بدل أن نتشروا روح المحبة والأخوة بين أبناء الشعب عرباً وأكراداً وتركمان وآشوريين، مسلمين ومسيحيين وصابئة وأيزيدية، وقد جنيتهم من سلوك هذا السبيل بعث التعصب القومي لدى الجانب العربي، وخسرتم أصدقاء الشعب الكردي من المثقفين الذين ناضلوا طوال عدة عقود جنباً إلى جنب مع أخوتهم الكرد، وتلك حقيقة ينبغي أن يدركها الجميع، فكل فعل يقابله رد فعل مساوِِ له في المقدار ومعاكس في الاتجاه.
 إن أخشى ما يخشاه، كل الحريصين على صيانة الوحدة الوطنية، وصيانة استقلال العراق إن يفلت زمام الوضع، وينطلق الصراع القومي الذي يهدد به البارزاني، وعند ذلك ستقع الطامة الكبرى، وستتحول الحرب الأهلية لا سمح الله إلى حرب إقليمية، وستكونوا عندها أول الخاسرين، وستضحون بكل ما تحقق للشعب الكردي الشقيق منذ أن تم فرض الحماية الجوية الأمريكية البريطانية على المنطقة الشمالية من العراق عام 1991 وحتى اليوم.
إن التمسك بمواد وفقرات جرى فرضها بذلك الأسلوب المعروف أمر خطير يهدد الوحدة الوطنية، ولا بد من أعادة النظر بهذا الدستور بما يحقق الوحدة الوطنية، والتآخي القومي والديني والطائفي بين سائر مكونات الشعب، ولا بد من إعادة النظر الجذرية بمواده التي تحمل بذور الفتنة والصراع والحرب الأهلية، وسيتحمل كل من يصر على مواصلة السير في هذا الاتجاه مسؤولية إشعال الحرب الأهلية، وسيدفع الشعب العراقي بكل مكوناته الثمن باهظاً، وبوجه خاص من يبادر بإشعال الفتيل.
 إن على القيادات الكردية أن تعيد النظر في مواقفها التقسيمية، وتعيد النظر في دستورها الذي لا يشك أحداً في انه دستور لدولة منفصلة عن العراق ستعلن سواء كان اليوم أو غداً أو بعد غد، فهو لا يخدم مصلحة الشعب الكردي، بل يعرضه إلى مخاطر جسيمة.
إن على الجميع العمل على إعادة اللحمة بين سائر مكونات شعبنا، ونبذ التعصب القومي والديني والطائفي، وتعزيز الوحدة الوطنية، وزج قوانا الموحدة في النضال من أجل استعادة حرية واستقلال العراق، وجلاء القوات المحتلة، التي هي سبب كل هذا البلاء الذي حل بالشعب والوطن، فالعراق هو وطن الجميع، وهو يتسع لنا جميعا أخوة متحابين، وثرواته الوفرة ملك الجميع، ونحن قادرون على تحقيق حياة كريمة ومرفهة لسائر العراقيين دون تمييز إذا ما توفرت لنا النيات الطيبة والصادقة، وإذا ما توفرت لنا حكومة وحدة وطنية حقيقية، بعيدة عن المحاصصة الطائفية ، وبعيدة عن التعصب القومي والديني والطائفي، تقوم بسن قانون جديد للانتخابات، وسن قانون الأحزاب والجمعيات يمنع بموجبه تأليف الأحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، ويؤكد على احترام الديمقراطية والحريات العامة،  لكي يكون لنا برلمان يُنتخبُ بكل حرية وشفافيه، بعيداً عن التأثيرات الطائفية والقومية، وسن دستور علماني يرعى ويصون الحقوق والحريات العامة والخاصة، ويحقق العدالة الاجتماعية للجميع دون استثناء.   
       


364
كتاب في حلقات

صدام والفخ الأمريكي المدمر

الحلقة الثانية

حامد الحمداني                                                       15/7/2009

النظام العراقي يدعو لعقد قمة عربية في بغداد:
في خضم تصاعد الأزمة بين العراق والولايات المتحدة وإسرائيل، وتصاعد لهجة التهديدات من كلا الطرفين، جرت الدعوة من قبل النظام العراقي وبتأييد بعض الدول العربية، لعقد مؤتمر للقمة العربية في بغداد لدراسة الأوضاع العربية، والتهديدات الإسرائيلية بضرب العراق، وتدهور العلاقات العراقية الأمريكية، وقد تمت الموافقة على عقد المؤتمر، وحُدد له يوم 28 أيار 1990.
سبق عقد المؤتمر اجتماع وزراء الخارجية العرب لإعداد جدول مباحثات القمة، وفي أثناء الاجتماع حدثت خلافات حادة بين وزير الخارجية العراقية من جهة، ووزيري خارجية مصر، والسعودية من جهة أخرى، حينما قدم العراق مشروع قرار يدين الولايات المتحدة، ويتهمها بتهديد العراق، ودعمها لإسرائيل.
فقد أعترض الوزيران على ذكر الولايات المتحدة، ولم يتوصل المجتمعون إلى صيغة قرار بشأن الموضوع، وتقرر عرض الموضوع على الملوك والرؤساء للبت فيه.
وانعقد المؤتمر في موعده المقرر في بغداد، وكان جو المؤتمر كئيباً جداً، حيث بدأ صدام حسين خطابه الافتتاحي بمهاجمة الولايات المتحدة، مما سبب إحراجاً، وقلقاً كبيراً لدى العديد من الملوك والرؤساء العرب، كمصر، والسعودية، وحكام الخليج  الذين يحرصون على عدم إغضاب الولايات المتحدة. ومما جاء في خطاب صدام حسين قوله:
{ إن الأمة العربية كلها مستهدفة، والعراق أول المستهدفين، فهو الآن في مواجهة مؤامرة أمريكية  عسكرية، واقتصادية، وحصار تكنولوجي، وإعلامي، ويتحتم على الأمة العربية أن تتصرف على اعتبار أنها كلها حالة واحدة، لأن الأعداء يعاملونه كحالة واحدة، حتى وإن استعملوا البعض منا أحياناً ضد البعض الآخر.
نحن جميعاً على فوهة بركان، ولا يتصور أحد أن بمقدوره أن يجري بسرعة ليبتعد عن مركز الانفجار، أو مجرى الحمم }.
شعر الملوك والرؤساء العرب بضيق شديد، وتمنى معظمهم لو أنهم لم يحضروا المؤتمر، وأخذوا يعدون الدقائق لانتهائه، والعودة إلى بلادهم، فقد كان صدام حسين يتحدث إليهم والشرر تتطاير من عيونه.
وعندما طُرح مشروع قرار بدعم منظمة التحرير الفلسطينية بمبلغ 150 مليون دولار، سادت القاعة فترة من الصمت، وقد كان عدم الرضا بادياً على المجتمعين، ولما طرح الأردن طلبه بتجديد الدعم الذي كان قد أقره مؤتمر القمة السابق عام 1979، أبدى ملوك وأمراء الخليج رأيهم في أن يكون قرار المساعدات للأردن على أساس الاتصالات الثنائية، وكان ذلك يشير بوضوح إلى رغبة حكام الخليج للتهرب من أي التزام.
 وكان أن ثار صدام مرة أخرى، موجهاً عتاباً مراً لهم على تقصيرهم في تقديم العون للدول الشقيقة، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وأشتعل جو المؤتمر، وأحس الحاضرون أن كابوساً قد سقط فوق رؤوسهم، وأرادوا إنهاء المؤتمر، ومغادرة بغداد.
 وفي النهاية وقع المجتمعون على مقررات المؤتمر  في 30 أيار، دون اعتراض، فقد كانت تصرفات صدام حسين قد أثارت المخاوف في نفوسهم، وكان أكثر من أغاظ صدام هو أمير الكويت، فقد شكا صدام للملك فهد من تصرفات حكومة الكويت تجاه العراق قائلاً:
{ إن الكويتيين يضاربون على الدينار العراقي لخفض سعره، ويخربون أسعار النفط، بتجاوزهم حصص الإنتاج  مما يضر كثيراً جداً بمصالح العراق الاقتصادية}.
وفي محاولة لحل الخلافات بين العراق والكويت، أقترح الملك فهد عقد قمة مصغرة تضم العراق، والكويت، والسعودية، والإمارات للعمل على التوصل لحل حاسم وعادل لقضية الحصص والأسعار.
وعند مغادرة أمير الكويت، الشيخ جابر الصباح، وكان برفقته إلى المطار صدام حسين، جرى بين الاثنين حديث عن العلاقات الكويتية العراقية، ومسألة الديون البالغة 30 مليار دولار، حيث طالبه صدام حسين بالتنازل عنها.
 كان رد الأمير أن الكويت لم تطالبكم بالديون، إلا أن صدام حسين رد عليه طالباً منه التنازل عن الديون بصورة رسمية:
 حاول الأمير التخلص من إلحاح صدام قائلاً له:
 {إن تنازل الكويت بصورة رسمية سوف يجعل الآخرين يطالبوننا بنفس الشيء، هذا بالإضافة إلى أن التنازل الرسمي عن ديوننا، سيجعل ديونكم أقل لدى صندوق النقد الدولي، ويجعل الدائنين يطالبونكم بديونهم}. وكان واضحاً أن الكويت لا تريد التنازل عن ديونها للعراق.
صدام حسين يحول سهامه نحو الكويت:

في خضم الأحداث، والتهديدات المتقابلة بين العراق من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، وتوجه أنظار العالم أجمع إلى ما يمكن أن تتمخض عنه تلك التهديدات، غيّر العراق على حين غرة  اتجاه هجومه نحو الكويت، فقد أعلن في 3 أيار 1990 أن الكويت تقوم بدور كبير في تخريب أسعار النفط، حتى وصل سعر البرميل إلى أدنى مستوى له منذُ عام 1972، وبلغ 11 دولار، وإن هذا العمل يضر بمصالح العراق، الذي خرج من حرب دامت 8 سنوات، دفاعاً عن البوابة الشرقية للوطن العربي!!، وحماية أمن الخليج!!، وقد سببت الحرب للعراق أزمة اقتصادية حادة، وذكّر حكام الكويت بأن هبوط دولار واحد من أسعار النفط يسبب للعراق خسارة تتجاوز المليار دولار، وإن العراق لا يمكنه السكوت على هذه الحال.
وفي شهر تموز من عام1990، عاد صدام حسين مرة أخرى إلى علاقته مع الكويت، ومسألة التزام حكومتها بحصص الإنتاج المقررة من قبل منظمة الأوبك، والمحافظة على مستوى الأسعار، التي أخذت تنحدر شهراً بعد شهر، ولم تخفي الحكومة الكويتية، وحكومة الإمارات العربية المتحدة أنهما قد زادا من إنتاجهما تجاوزاً على الحصص المقررة، مما أثار غضب العراق.
لقد بدا من تصرفات الكويت والإمارات أن هناك أمراً يدبر في الخفاء، لا من قبل هاتين الدولتين، وإنما من جهة كبرى، وهي بالتأكيد الولايات المتحدة، التي رأت في التضييق على العراق اقتصاديا، خير سبيل لكسر شوكته، فليس من المعقول أن تتحدى دويلتان صغيرتان كالكويت والإمارات العراق المزهو بنصره على إيران، والذي يملك أقوى وأكبر جيش في الشرق الأوسط إذا لم يكن وراءهما الولايات المتحدة.
لقد وصل الأمر بوزير النفط الكويتي [على خليفة الصباح] أن تحدى العراق علناً، في مؤتمر الأوبك قائلاً بان الكويت لا تنوي الالتزام بحصتها المقررة من الإنتاج، وهي مليون وسبعة وثلاثين ألف برميل يومياً، وتصر على إنتاج مليون وثلاثمائة وخمسون ألف  برميل، وكان وزير النفط الكويتي يتحدث في المؤتمر، وكأنه رئيس دولة عظمى، تملي شروطها على الآخرين، ولاشك أن الكويت ما كانت لتجرأ على هذا التصرف لولا تحريض، ودعم الولايات المتحدة.
وحاول الوزير الكويتي أن يجعل الخلاف ليس مع العراق وحده، وإنما مع السعودية كذلك للتمويه، لأنها طالبت بالالتزام بحصص الإنتاج قائلاً:
 {إن الكويت والسعودية على طريق التصادم المحقق بسبب حصص الإنتاج، فنحن لا ننوي التراجع عن موقفنا}!!.
لكن كلام علي الخليفة الصباح في حقيقة الأمر لم يكن موجهاً للسعودية، وإنما بكل تأكيد موجهاً للعراق، وأنه بهذا الخلط أراد أن يُشعر العراق وكأن خلافات الكويت ليست مع العراق فحسب، وإنما مع السعودية أيضاً!!.
 كاد صدام ، في تلك الأيام، أن يفقد صبره من تصرفات حكام الكويت،
فقد سبب انهيار أسعار النفط خسارة كبيرة قُدرت بـ 7 بليون دولار، في وقت هو أحوج ما يكون لهذا المبلغ الكبير، بعد حربه مع إيران.
وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة الكويت تزيد من إنتاجها النفطي، فأنها كانت تجني الأرباح الطائلة من استثماراتها في الخارج، وتعوض فرق أسعار النفط، حيث أن نصف دخل الكويت يأتي من تلك الاستثمارات.
وهكذا أخذت الأزمة بين العراق والكويت تتصاعد حدتها يوماً بعد يوم، وكانت الولايات المتحدة تدفع حكام الكويت على عدم الاستجابة لأي من مطالب العراق، لكي تعمق الأزمة، وتوصلها إلى مرحلة الانفجار، وتدفع صدام حسين إلى عمل متهور ضد الكويت، لكي تتخذه  ذريعة لتوجيه ضربة قاضية للعراق، ولتدمر ترسانته الحربية، وبنيته الاقتصادية، وتعود به إلى الوراء عشرات السنين.

صدام يوقع معاهدة عدم اعتداء مع السعودية:

نتيجة للتوتر الشديد الذي أصاب العلاقات العراقية الكويتية، بسبب عدم التزام الكويت بحصص الإنتاج، وتدهور أسعار النفط في الأسواق العالمية، ورفض حكومة الكويت التنازل رسمياً عن ديونها على العراق.
 فقد اختمرت في عقل صدام حسين فكرة غزو الكويت، وضمها للعراق.
كان على صدام حسين أن يهيئ الظروف للغزو، وليطمئن السعودية، وبقية دول الخليج بأنه لا يضمر لهم أي عدوان، وعلى ذلك قرر صدام أن يقوم بزيارة رسمية إلى السعودية، بدعوى التباحث مع الملك فهد حول موضوع الالتزام بحصص الإنتاج، والعمل على رفع أسعار النفط إلى ما كانت عليه سابقاً، ثم لينتقل إلى الهدف الحقيقي من زيارته، ليعرض على الملك فهد عقد معاهدة عدم اعتداء بين العراق والسعودية، ولكي يفهمه أنه لا يضمر شراً للسعودية.
فوجئ الملك فهد باقتراح صدام حسين، وسأله إن كانت المعاهدة ضرورية، فكان جواب صدام أن أطراف عديدة تحاول تخريب العلاقة بين البلدين، وخاصة بعد أن خرج العراق من حربه مع إيران منتصراً.
كان جواب الملك فهد بأنه وأن كان يرى أن علاقة الدم هي أقوى من أية معاهدة، فإنه على استعداد لعقد المعاهدة المقترحة.
كان صدام حسين في تلك الأيام يخطط لمهاجمة الكويت، أراد أن يستغل المعاهدة المقترحة مع السعودية لكي يضمن حيادها، وذلك لأن الكويت عضو في مجلس التعاون الخليجي، وبينها وبين دول المجلس معاهدة للدفاع المشترك، والسعودية أكبر دول المجلس، ولذلك أراد أن يطمئنها بأنه ليس له أي أطماع في أراضيها، كما أراد صدام حسين أن يطمئن الولايات المتحدة بصورة خاصة والغرب بوجه عام بأنه لا ينوي الاعتداء على السعودية، التي تتسم بأهمية خاصة جداً بالنسبة لهم  باعتبارها أكبر مصدر للنفط في منطقة الخليج .

تصاعد التوتر بين العراق والكويت:

 بدأت العلاقات بين العراق والكويت تأخذ مجرى خطيراً، فالكويت تصّر على سياستها النفطية، وزيادة إنتاجها، متخطية حصتها المقررة بموجب قرارات الأوبك والعراق يطالبها بالالتزام، والعمل على رفع الأسعار، وكانت الولايات المتحدة تعمل في الخفاء على إذكاء الصراع بين البلدين، وإيصاله نحو الذروة، لدفع صدام حسين إلى المخاطرة باجتياح الكويت.
وفي تلك الأيام انعقد مؤتمر الأوبك مرة أخرى لبحث الوضع المتأزم بين العراق والكويت، ومناقشة مسألة الأسعار، وضرورة الالتزام بحصص الإنتاج لكل دولة.
ومرة أخرى أصر الوفد الكويتي على تجاوز حصته من الإنتاج، بدفع من الولايات المتحدة، مما دفع صدام حسين إلى إرسال رسالة إلى أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح، يطالبه فيها باتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها الحفاظ على مستوى معقول لأسعار النفط، والتقيد بحصص الإنتاج  لكن الرسالة لم تغّير مواقف الحكومة الكويتية، والتي هي إرادة الولايات المتحدة بالطبع، مما أدى إلى تصاعد التوتر بين الطرفين.
حاولت كل من السعودية والأردن التوسط بين الطرفين، لكن المحاولة لم تثمر، بل على العكس من ذلك ظهرت أشياء جديدة أخرى على سطح الأحداث.
 فقد أخذ صدام حسين يتحدث عن حمايته لأمن الخليج  بحربه مع إيران طيلة 8 سنوات!!، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء مئات الألوف من أبنائه، وردت الكويت على دعاوى العراق  بأنها قد ساعدت العراق، حيث قدمت له بعد أسابيع من بداية الحرب قرضاً بمبلغ 5 بلايين دولار، وأنها كانت تصدر لحساب العراق 125 ألف برميل من النفط يومياً للإيفاء بالتزامات العراق المالية المتعاقد عليها مع الدول الأخرى لغرض التسلح.
أما صدام حسين فقد رد على حكام الكويت قائلاً:                         .                    { إن الأموال هي أرخص تكاليف الحرب، وإن القرض هو دين علينا أن نرده، وأن العراق خسر مئات البلابين، ومئات الألوف من أرواح أبنائه دفاعاً عن الخليج}!!.
وردت حكومة الكويت بأنها هي أيضاً تعرضت لنيران الحرب، حيث جرى قصف منشآتها النفطية، وناقلاتها، واضطرت لشراء الحماية من الدول الكبرى لناقلاتها.
 وجاء الرد العراقي متهماً الكويت بأنها لم توافق على إعطائه تسهيلات في جزيرتي[ بوربا، وبوبيان]، وأن الكويت لو فعلت ذلك لاستطاع العراق تحرير الفاو منذ زمن طويل.
 وردت حكومة الكويت بأنها لو أعطت تلك التسهيلات للعراق، لتمسك بها، ورفض الخروج منها.
 ولم يكد صدام حسين يسمع الجواب حتى بادر إلى القول بأن الجزيرتين عراقيتان، وسارع حكام الكويت إلى الرد بأن النظام العراقي بدأ يكشف عن أطماعه في الكويت.
 وهكذا تصاعدت لهجة حكام البلدين إلى درجة تنذر بعواقب وخيمة، فقد اتهم العراق حكام الكويت باستغلال انشغال العراق في الحرب، للزحف داخل الأراضي العراقية، وتغير الحدود، وسرقة نفط حقل الرميلة الجنوبي، وأن الكويت باعت نفطاً من هذا الحقل ما مقداره[ 2000 مليون دولار] دون وجه حق.
 وردت حكومة الكويت بأن العراق يرفض تثبيت الحدود بين البلدين، وأن له أطماع في الكويت، وأن ادعاء حكام العراق عن زحف مزعوم للحدود الكويتية تجاه العراق، وسرقة نفط حقل الرميلة الجنوبي لا أساس له من الصحة.
 وفي واقع الحال كان العراق يتهرب دائماً من مسألة تثبيت الحدود بين البلدين بشتى الوسائل والأعذار، مدعياً بأن العراق منشغل في حربه مع إيران، وأن الوقت غير مناسب للبحث في هذا الموضوع.
وعندما انتهت الحرب، وعاد السلام إلى المنطقة، أرادت حكومة الكويت فتح باب الحدود من جديد، وتوجه ولي العهد الكويتي [ سعد العبد الله الصباح ] إلى بغداد، في 6 شباط 1989 لتقديم التهنئة للحكومة العراقية على انتهاء الحرب، ولفتح ملف الحدود.
وفي يوم وصوله، نشرت صحيفة القادسية  الناطقة بلسان وزارة الدفاع
 مقالاً حول مسألة الحدود، قبل أن يطرحها الشيخ سعد، وكانت المقالة أشبه بعاصفة إعلامية، فقد أتهم المقال حكومة الكويت بقضم أراضٍ عراقية، وأعاد إلى الأذهان أن جزيرتي بوربا وبوبيان عراقيتان.
 أثار الشيخ سعد، في أول لقاء له مع السيد عدنان خير الله نائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، موضوع الحملة الصحفية، التي قيل آنذاك أن صدام حسين نفسه، هو الذي أملى المقال على الصحيفة، وأشار الشيخ سعد بأنه فكر في قطع الزيارة، والعودة إلى الكويت، وكان رد الوزير العراقي، أن قطع الزيارة ليس في صالح العلاقات العراقية الكويتية.
رضخ الشيخ سعد للواقع، وعقد لقاءات مع طارق عزيز، وزير الخارجية، وعزت الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، وجرى خلال اللقاءات نقاش حول الحدود، ثم حان وقت لقاء الشيخ سعد بصدام حسين، وتحدث صدام مع الشيخ سعد، وكأنه لا يعرف شيئاً عن الموضوع، وطلب من الشيخ سعد أن يلتقي مرة أخرى بطارق عزيز، ويبحث معه الأمر، وأبلغه بأنه مخول بكل شيء، ثم التفت صدام إلى طارق عزيز قائلاً له:
{لابد وأن تحلوا هذا الموضوع، شكلوا لجنة على أعلى مستوى، ودعونا ننتهي منه}.
أقترح طارق عزيز أن تكون اللجنة بمستوى الجانب الكويتي، أي أحد نواب رئيس مجلس قيادة الثورة، بالإضافة إلى وزيرا خارجية البلدين.
وفي نهاية أيلول 1989، قام أمير الكويت بزيارة رسمية إلى بغداد، غير أنه لم يجر التطرق خلال الزيارة إلى مسألة الحدود، إلا أن أحد الوزراء المرافقين للأمير سأل رئيس الوزراء سعدون حمادي عن إمكانية عقد معاهدة عدم اعتداء بين البلدين، على غرار المعاهدة العراقية السعودية، وقد أجابه سعدون حمادي بأن الوقت غير مناسب، قبل الانتهاء من مسألة تثبيت الحدود بين البلدين.
وهكذا عاد أمير الكويت إلى بلاده دون أن يحقق شيئاً، وبعد شهرين من تلك الزيارة اشتدت الخلافات بين البلدين حول موضوع الالتزام بحصص الإنتاج وسقفه، وحول مسألة الأسعار، واتهم صدام حسين كل من الكويت والإمارات العربية بتخريب اقتصاد العراق.
وفي كانون الثاني 1990، توجه سعدون حمادي إلى الكويت، وأجرى مباحثات مع وزير الخارجية صباح الأحمد الصباح، وطلب من الحكومة الكويتية قرضاً بمقدار [10 بلايين دولار]، وقد أجابه الشيخ صباح بأن الحكومة سوف تدرس الموضوع  وترد على العراق فيما بعد.
وبعد شهر تقريباً من تلك الزيارة قام الشيخ صباح الأحمد بزيارة إلى بغداد، وأجرى لقاءات مع المسؤولين العراقيين، ولمح خلال الاجتماع إلى الديون الكويتية على العراق، وأبلغهم أن الكويت لا تستطيع أن تقرض العراق أكثر من 500 مليون دولار]، تضاف إلى الديون السابقة، مما أثار غضب صدام حسين، وجعله يصمم على غزو الكويت.
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com









365
كتاب في حلقات
صدام والفخ الأمريكي المدمر
الحلقة الأولى

حامد الحمداني                                                       15/7/2009

القوة العسكرية للعراق بعد الحرب العراقية الإيرانية


خرج العراق من حربه مع إيران، بعد ثمان سنوات من الدماء والخراب، وهو يملك جيشاً جراراً هو في واقع الحال أكبر جيش في الشرق الأوسط، ويمتلك ترسانة حربية ضخمة من شتى أنواع الأسلحة، التقليدية منها، وأسلحة الدمار الشامل الصاروخية، والكيميائية، والبيولوجية، والجرثومية، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الدبابات، والمدفعية، والطائرات، وكميات كبيرة من العتاد، والقنابل التي جرى حشوها بالغازات السامة، كغاز السارين، والخردل، هذا بالإضافة إلى أن العراق كان قد قطع شوطاً طويلاً في بناء مفاعله النووي لغرض الحصول على السلاح الذري.
 لقد كانت الأسلحة تنهال على العراق خلال سنوات الحرب من دول الشرق والغرب دون قيود، وكان النظام العراقي قد سخّر كل إمكانيات البلاد الاقتصادية، وموارده النفطية، من أجل التسلح، كما ساهمت السعودية دول الخليج مساهمة كبرى في دعم العراق اقتصادياً، لضمان تدفق السلاح إليه، بسبب خوفهم من المد الإسلامي الإيراني من جهة، وبضغط من الولايات المتحدة من جهة أخرى.
لقد قُدّرَ ما كان يملكه العراق من الطائرات عند نهاية الحرب، بما لا يقل عن 500 طائرة من مختلف الأنواع، ومن الدبابات 5000 دبابة، بالإضافة إلى 3500 مدفع من مختلف العيارات، وأعداد كبيرة من الصواريخ المختلفة المديات، والتي تتراوح ما بين 150ـ 1250 كم، وكميات كبيرة من القنابل الكيميائية، والبيولوجية والجرثومية، هذا بالإضافة إلى القوة البحرية.
كانت هيئة التصنيع العسكري التي كان يشرف عليها [حسين كامل] صهر صدام حسين، تعمل ليلاً ونهاراً من أجل توسيع المصانع الحربية، وتخزين كميات هائلة من إنتاجها، وكان تحت تصرف حسين كامل 72% من موارد العراق النفطية، المسخرة للتسلح.  لقد وسع النظام العراقي الجيش خلال سنوات الحرب، حتى تجاوز الرقم المليوني جندي وضابط، وإذا ما أضفنا إليه الجيش الشعبي، الذي أجبر نظام صدام جميع البالغين، وحتى سن الستين، على المشاركة بهذا الجيش خلال الحرب، فإن عدد قواته المسلحة لا يمكن حصرها.
 لقد خلقت تلك الحرب من صدام حسين اعتا دكتاتور عرفته البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جعل من نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ومنح نفسه أعلى رتبه عسكرية في الجيش، وهي[ رتبه مهيب ركن]،علماً أنه لم يسبق له أن خدم في الجيش [الخدمة الإلزامية]، فقد كان شريراً فاراً من وجه العدالة لقيامه بأعمال إجرامية، كان منها اشتراكه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء، وقائد ثورة الرابع عشر من تموز.  
ركز الدكتاتور جهوده لإخضاع الجيش وضباطه، بإقدامه على إعدام أعداد كبيرة من الضباط، حتى بمجرد الشك في ولائهم له، وخلق أجهزة أمنية واسعة ومتعددة داخل صفوف الجيش وخارجه، لتقدم له التقارير عن كل حركات الناس وسكناتهم،  وحماية نظامه الدكتاتوري الفاشي  بشتى وسائل البطش والإرهاب والتعذيب والقتل والسجون.
ولم يكتفِ الدكتاتور بكل ذلك، بل أقدم على تصفية معظم قيادات حزبه، وخلق قيادات هزيلة بدلاً منهم، تأتمر بأوامره، ولا تتجرأ على معارضته.
 وهكذا أصبح الحزب أداة طيعة في يده، وغدا ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، والقيادة القطرية لحزب البعث، والمجلس الوطني، ومجلس الوزراء، مجرد موظفين عنده، ينفذون أوامره لا غير، والويل كل الويل لمن يشك في ولائه له، وصار صدام حسين يتخذ وحده كل القرارات مهما كانت خطيرة، دون أن يجرأ أحد من أعضاء وزارته، أو قيادة حزبه، أو مجلس ثورته، على مجرد مناقشته، حتى ولو كان القرار يهدد مستقبل العراق وشعبه.

الوضع الاقتصادي للعراق بعد الحرب

خرج العراق من حربه مع إيران، بوضع اقتصادي لا يحسد عليه، فقد أستنفذ نظام صدام كل احتياطيات البلاد من العملة النادرة، والذهب، البالغة [36 مليار دولار]، وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، والتي تتجاوز 25 مليار دولار سنوياً.
 وفوق كل ذلك خرج العراق بديون كبيرة جداً للكويت، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة وفرنسا، والاتحاد السوفيتي السابق، والبرازيل، وألمانيا واليابان والصين والعديد من الدول الأخرى، وقد جاوزت الديون [90 ملياراً من الدولارات]، وصار العراق ملزماً بدفع فوائد باهظة لقسم من ديونه بلغت حدود 30 % ، مما جعل تلك الفوائد تتجاوز 7مليارات دولار سنوياً.
 هذا بالإضافة إلى ما تطالب به إيران من تعويضات الحرب، بعد أن أقرت لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بأن العراق هو المعتدي في تلك الحرب، وتطالب إيران مبلغ [160 مليار دولار] كتعويضات حرب.
لقد أثقلت الديون كاهل الاقتصاد العراقي، وتوقفت معظم مشاريع التنمية، هذا بالإضافة إلى ما يتطلبه تعمير ما خربته الحرب من أموال وجهود، فقد جاء في تقرير أمريكي عن وضع العراق الاقتصادي ما يلي:
{إن الوضع الاقتصادي في العراق لا يبشر بخير، دخله وصل إلى 25 مليار دولار، في عام1988، ولكن صورة الاقتصاد العراقي خلال السبعينيات قد تلاشت، وحل محلها وضع اقتصادي مظلم، وخراب واسع في أنحاء البلاد، وفي ظل الحكومة الحاضرة، وسياستها الاقتصادية، فإن الاقتصاد يتحول من سيئ إلى أسوأ، وإن ذلك يمهد لسياسة عراقية متهورة، في محاولة للخروج من المأزق الاقتصادي الذي يمر به}.
لقد أصبح العراق بعد حربه مع إيران يملك القوة، ولكنه في الوقت نفسه يعاني من اقتصاد متدهور، وديون تثقل كاهله، وجواره بلدان عربية ضعيفة عسكرياً، ولكنها غنية جداً، تغري ثرواتها أصحاب القوة، وخاصة بالنسبة إلى بلد مثل العراق، الذي يحكمه نظام دكتاتوري يقوده رجل كصدام حسين، هذا الرجل الذي أصابه غرور لا حدّ له، بعد أن أنتصر في حربه ضد إيران،  وأصبح لديه جيش جرار، وترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل، والأسلحة التقليدية،  ومصانع حربية متطورة، ولكنه يفتقد إلى المال لسداد ديونه، وتعمير ما خربته الحرب، هذا بالإضافة إلى ما يتطلبه لإدامة جيشه، ومواصلة تسلحه، ناهيك عن إعادة بناء ما خربته الحرب،  ومشاريع التنمية التي تحتاجها البلاد، والتي توقفت خلال سنوات الحرب.
ولاشك أن هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، التي خلقها النظام العراقي نتيجة تهوره، واندفاعه لتنفيذ المخططات الإمبريالية، بشنه الحرب ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، والتي ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر على أبعد الاحتمالات، وأراد لها مخططوها أن تدوم سنوات طوال، وبقوا يغذونها باستمرار، تارة يقدمون المساعدات للعراق، وتارة أخرى لإيران.
ولابد أن أشير هنا إلى أن العراق، الذي خاض ثمان سنوات من الحرب، لم يجابه خلالها نقصاً في السلع الغذائية، وغيرها من السلع الأخرى، فقد كانت الأسواق تُملأ كل يوم بكل ما يحتاجه البلد، حيث أغرقت الولايات المتحدة
 وحلفائها الأسواق بالمواد الغذائية، والألبسة، والأجهزة المنزلية كافة.
 فقد كان على مشعلي الحرب أن يخففوا ما استطاعوا من التذمر الشعبي من تلك الحرب المجرمة، التي حصدت أرواح نصف مليون من خيرة شباب العراق، ورملت مئات الألوف من النساء، ويتّمت مئات الألوف من الأطفال، وأصابت بالعوق الدائمي ما يقارب المليون، ومزقت قلوب الآباء والأمهات، حيث يندر أن تجد عائلة عراقية لم تفقد عزيزاً لها في تلك الحرب الكارثية، بل لقد قرأت شخصياً لافته عزاء  لإحدى العوائل تشير إلى استشهاد الابن السابع والأخير، وكل ذلك من أجل أن تستمر الحرب، لكي يعبئ كبار الرأسماليين جيوبهم ببلايين الدولارات، على حساب بؤس الشعبين العراقي والإيراني وعذاباتهم، ودماء أبنائهم.

 الولايات المتحدة وإسرائيل والموقف من العراق:


أصبح العراق، بعد نهاية الحرب مع إيران، بما يمتلكه من قوة، وسلاح، مصدر خطر على الخليج، وخاصة وأن أزمته الاقتصادية قد أصبحت من العمق ما يهدد بوقوع انفجار جديد في المنطقة، ولاسيما وأن العراق يحكمه نظام دكتاتوري متهور يقوده صدام حسين.
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل يراقبان عن كثب تسلح العراق، وخاصة في مجال الصواريخ البعيدة المدى، والأسلحة الكيماوية، والبيولوجية، والجرثومية، ومحاولات نظامه المتسارعة لتطوير قدراته النووية، بغية الوصول إلى إنتاج السلاح النووي، كل هذا أثار حفيظة الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبدأت الشكوك تتصاعد حول مستقبل القوة العراقية، ثم سرعان ما تحولت الشكوك إلى حقيقة واقعة، على الرغم من محاولات صدام المحمومة لتحسين صورته أمام الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي أواخر عام 1989، توجه [طارق عزيز] نائب رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، إلى الولايات المتحدة، حيث قابل الرئيس [جورج بوش]، ووزير خارجيته [جيمس بيكر]، وأجرى الطرفان حواراً مطولاً وصريحاً حول العلاقات العراقية الأمريكية، حيث أصدر بعدها الرئيس بوش توجيهاً داخلياً إلى إدارته، يطلب منها أن تحرص على تنمية علاقات طبيعية مع العراق قائلاً: إن ذلك قد يساعد في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. (1)
ثم عاد الرئيس بوش في 16 كانون الثاني 1990، فأصدر أمراً رئاسياً جاء فيه:
{ إن زيادة حجم التجارة مع العراق يمكن أن يكون مفيداً للمصالح الأمريكية}.(2)
وبالفعل، حصلت [شركة  بكتيل]على عقود في العراق تصل قيمتها إلى [1200 مليون] دولار، وفي نفس الوقت أقدم العراق على وقف دعمه لميشيل عون في لبنان، واتخذ موقفاً مرناً من الصراع العربي الإسرائيلي، حيث أعلن دكتاتور العراق أن دول المواجهة مع إسرائيل حرة في الحركة للوصول إلى تسوية سلمية للنزاع العربي الإسرائيلي.
إلا أن تلك العلاقة لم تدم طويلا، إذ ما لبثت وسائل الإعلام الأمريكية التي تهيمن عليها الصهيونية العالمية، أن بدأت في الشهور الأولى من عام 1990 بشن هجومها على صدام حسين، متهمة إياه بالعمل على تهديد الأمن والسلام في الشرق الأوسط، والسعي لامتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل.
ورغم محاولات الملك حسين ملك الأردن، والرئيس المصري حسني مبارك لتلطيف جو العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، فإن تلك المحاولات لم تستطع تبديد شكوك الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبالنظر لما تمتلكه إسرائيل من تأثير كبير على السياسة الأمريكية، وعلى وسائل الإعلام الأمريكي والعالمي.
 فقد لعبت إسرائيل دوراً كبيراً في تخريب العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، وبدأت الصحافة الأمريكية، والغربية عموماً، تشن حرباً كلامية على النظام العراقي
 وتصاعدت حرب الكلمات إلى حرب أعصاب، ثم إلي الكراهية، لتسير بعد ذلك إلى الحرب الحقيقية، والدماء.
ففي 11 شباط 1990 قام [جون كيللي]، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، بزيارة إلى بغداد، وأجرى مباحثات مع صدام حسين حول العلاقات العراقية الأمريكية، وقد أثار صدام خلال المباحثات قضية الحملة الإعلامية التي تشنها الصحافة الأمريكية ضد نظامه.
 وحاول جون كيللي التخفيف من آثار تلك الحملة، مدعياً أن الصحافة تمثل وجهة نظرها، وهي حرة في الكتابة والتعبير، وهي ليست بالضرورة تعبر عن السياسة الرسمية للولايات المتحدة.(3)
وفي 15 شباط، صدر تقرير عن لجنه حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يتهم النظام العراقي بالقيام بممارسات منافية لحقوق الإنسان، من تعذيب، وقتل، وإعدامات، وقامت إذاعة صوت أمريكا بإذاعة التقرير، ثم أعقبته بتعليق يمثل وجهة النظر الرسمية للحكومة الأمريكية،
 وقد أحتوى التعليق على هجوم شديد على تصرفات الحكومة العراقية.
وفي 19 شباط، ألقت السلطات الأمريكية القبض على أحد عملاء النظام العراقي، بتهمة تدبير محاولة اغتيال معارض عراقي لاجئ في الولايات المتحدة، وقامت الحكومة الأمريكية على الأثر بطرد أحد أعضاء السفارة العراقية في واشنطن، وردت الحكومة العراقية على الإجراء الأمريكي، بطرد أحد أعضاء السفارة الأمريكية في بغداد.
وفي 20 شباط 1990، أعلنت إسرائيل أنها اكتشفت وجود وحدات عسكرية عراقية في الأردن، وعلى الأثر قامت الطائرات الأمريكية بطلعات استكشافية فوق الأردن، أعلنت بعدها الولايات المتحدة عن اكتشاف 6 قواعد إطلاق صواريخ عراقية قرب قاعدة ( H2 ) الجوية الأردنية، وقامت إسرائيل إثر ذلك بتكثيف حملاتها على العراق، واتخذ الكونجرس الأمريكي قراراً بوقف بيع القمح الأمريكي للعراق.(4)
وفي 21 شباط 1990 نشرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريراً عن حقوق الإنسان في العراق  يتألف من 12 صفحة، وصفت فيه حكام العراق بكونهم أسوأ مُنتهك لحقوق الإنسان، وممارسة التعذيب، والقتل دون محاكمة، أو إجراء محاكمات سريعة لا تتيح للإنسان الدفاع عن نفسه.

 لقد بدا وكأن الولايات المتحدة قد اكتشفت لتوها جرائم نظام صدام، التي مارسها  بحق الشعب العراقي منذُ تسلطه على الحكم في البلاد عام 1968، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، وسكتت عن حملة الأنفال الفاشية، وقتل سكان مدينة حلبجة عن بكرة أبيهم بالسلاح الكيماوي، فلم تكن كل تلك الجرائم تحرك ضمير حكام الولايات المتحدة، طالما لا تؤثر على المصالح الأمريكية، والإسرائيلية.
وفي 9 آذار تصاعدت الحملات ضد النظام العراقي، على أثر إقدام النظام على اعتقال الصحفي البريطاني [فازاد بازوفت] مراسل صحيفة الابزورفر البريطانية  بتهمة التجسس، حيث اتهمته بالقيام بزيارات لمنطقة عسكرية تضم مجمعاً لإنتاج الصواريخ، وأحالته إلى[محكمة الثورة] التي أصدرت عليه حكماً بالإعدام.
 ورغم جميع المحاولات التي قامت بها بريطانيا، وحلفائها الغربيين لإنقاذ حياته، فقد أقدم حكام بغداد على تنفيذ حكم الإعدام به في 15 آذار، وأدى ذلك الإجراء إلى تصاعد الحملات على النظام العراقي في الصحف الغربية، ووصفت صحيفة [الابزورفر] صدام حسين بأنه جزار بغداد، وكأن صدام حسين لم يصبح جزاراً إلا بعد أن أقدم على إعدام الصحفي بازوفت!!. (5)
وفي 18 آذار، أعلنت الحكومة البريطانية أنها عثرت على شحنات من أجهزة المتسعات التي تستخدم في التفجيرات النووية كانت في طريقها إلى العراق، وتمت مصادرتها. (6)
وفي نفس اليوم، وقف صدام حسين في اجتماع عام، أمام عدسات التلفزيون، وبيده مجموعة من المتسعات، وهو يتحدث باستهزاء قائلاً:
 {هذه هي المتسعات التي يتحدث عنها الإنكليز؟ لقد صنعها أبنائنا النشامى في هيئة التصنيع العسكري}. (7)
وفي 27 آذار 1990 التقي صدام حسين  بملك السعودية [ فهد ] في حفر الباطن بالسعودية، وشكا له من الولايات المتحدة، وأبلغه بأن الولايات المتحدة تضمر الشرّ للعراق، وقد أجابه الملك فهد بأنه لا يعتقد ذلك، وأن الرئيس بوش رجل طيب!!، ثم انتقل صدام في شكواه للملك فهد إلى حكام الكويت، قائلاً:
{إن حكام الكويت قد رفعوا إنتاجهم النفطي عن الحصة المقررة في مؤتمر الأوبك، وأن هذا الإجراء قد أضر كثيراً، ليس بالعراق فحسب، بل وبالسعودية أيضاً، فقد أدى إلى انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهذا ما أدى إلى انخفاض دخل العراق بشكل كبير، ذلك أن انخفاض بمقدار دولار واحد لبرميل النفط  يعني خسارة العراق لمبلغ بليون دولار سنويا]، وقد وعد الملك فهد بالاتصال بأمير الكويت، والتباحث معه حول الموضوع}. (8)
 كانت هذه الشكوى مؤشراً واضحاً على نوايا الحاكم بأمره في بغداد. وفي الوقت نفسه وجه صدام حسين تحذيراً شديداً إلى الدول التي تتجاوز حصص الإنتاج، وطالب برفع سعر البرميل الواحد من النفط إلى مستوى 25 دولار، وعدم السماح بهبوطه إلى ما تحت 18 دولار. وكان موقف الحكومة السعودية مع الحفاظ على حصص الإنتاج، وأقدمت الحكومة على إعفاء وزير النفط [أحمد زكي يماني] من منصبه، بالنظر لمساعيه الكبيرة، والمكشوفة، في خدمة المصالح الأمريكية والغربية.
 وفي 29 آذار من نفس العام، أعلنت بريطانيا أنها عثرت على قطعة من مواسير المدفع العملاق، الذي كان العراق يسعى لتصنيعه في طريقها إلى العراق، وجرت مصادرتها. (9)
 وكانت المخابرات الإسرائيلية قد قامت قبل أسبوع من هذا التاريخ  22 آذار باغتيال العالم الدكتور [جيرالد بول] الخبير في صنع المدفع العملاق، في أحد فنادق العاصمة البلجيكية [بر وكسل].
وفي 30 آذار 1990أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أن إسرائيل لابد أن توجه ضربة وقائية للعراق، في أي وقت تشعر فيه بأنه قد أصبح خطر عليها. ثم أعقبه رئيس الوزراء [ شامير] بالقول بأن إسرائيل ستوجه ضربة للعراق إذا أحست انه في طريقه لإنتاج قنبلة نووية. (10)
في الأول من نيسان رد صدام حسين على التهديدات الإسرائيلية قائلاً:
 {إن العراق سوف يرد على إسرائيل، إذا ما تجرأت على استخدام السلاح النووي ضد العراق، ويحرق نصف إسرائيل بالكيماوي المزدوج}. (11)
وفي 3 نيسان 1990، أطلقت إسرائيل قمرأً تجسسياً، وأطلقت عليه أسم [الأفق]، وكان الهدف من إطلاقه مراقبة ما يدور في الجانب العراقي.
وفي 14 نيسان وقف رئيس وزراء إسرائيل شامير يهدد ويعلن بأن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحرية العمل لتدمير قواعد الصواريخ العراقية.
وفي 19 نيسان، رد صدام حسين في مقابلة له مع وفد عربي من اتحاد نقابات العمال قائلاً:{إن أي هجوم من قبل إسرائيل على العراق سيواجه بحرب شاملة، لن تتوقف إلا بتحرير كامل الأرض العربية}.(12)
 وفي 19 نيسان، أعلن الرئيس الفرنسي [متران] أن فرنسا تؤيد جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وأن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن  سوف يجتمعون في تموز القادم لبحث الموضوع.
وفي 21 نيسان، أعلن العراق أن طائرة استطلاع أمريكية، وطائرات الأواكس، قد حلقت في سماء العراق. (13)
 وهكذا بدأت الحرب الكلامية، وتصاعدت بين النظام العراقي من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، حتى بدا وكأن الحرب على وشك الوقوع في الشرق الأوسط، بين العراق وإسرائيل، وكان صدام حسين ينتهز كل فرصة للتحدث عن قوته، وسطوته، وأسلحته، واستعداداته الحربية، ويهدد بضرب إسرائيل بالكيماوي المزدوج، ويتفاخر باستطاعة هيئة التصنيع العسكر إنتاج المتسعات، في الوقت الذي كان نظامه يعاني من أزمة ‎اقتصادية حادة لا يعرف كيف يخرج منها.


366
المجد لثورة الرابع عشر من تموز
في ذكراها الحادية والخمسين

حامد الحمداني                                                14 تموز 2009


لم تكن ثورة 14 تموز 1958 المجيدة حدثاً آنياً على الإطلاق، بل كانت في الحقيقة نتيجة تراكم كمي هائل من التناقضات بين الحاكمين والمحكومين عبر أربعة عقود من الزمن، امتدت منذُ الاحتلال البريطاني للعراق إبان الحرب العالمية الأولى حتى قيام الثورة.
لقد خاض الشعب العراقي خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة صراعاً مريراً ضد الاحتلال البريطاني  في بادئ الأمر، وتجلى ذلك الصراع في ذروته في [ ثورة عام 1920 ]،عندما حمل الشعب العراقي السلاح بوجه المحتلين، وأمتد لهيب الثورة ليشمل العراق كله، من أقصاه إلى  أقصاه، وقد كلفت تلك الثورة المحتلين خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، وأثقلت كاهل الاقتصاد البريطاني المتعب أصلاً، بسبب التكاليف الباهظة للحرب العالمية الأولى، والتي كان لبريطانيا الدور الأساسي فيها.
وفي نهاية المطاف اضطرت بريطانيا إلى تغيير تكتيكاتها السياسية والعسكرية في العراق، ولجأت إلى تأليف حكومة محلية موالية لها، وجاءت بالأمير فيصل ابن الحسين ملكاً على العراق، وجمعت حوله العديد من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني، كان منهم نوري السعيد،  وجعفر العسكري، وياسين الهاشمي، وطه الهاشمي، وعلي جودت الأيوبي، ومولود مخلص، وبكر صدقي، والعديد من الضباط الآخرين.
كما جمعت بريطانيا العديد من شيوخ العشائر حول النظام الجديد، وملّكتهم مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ومنحتهم سلطة واسعة على الفلاحين، وضمتهم إلى المجالس النيابية، ومجالس الأعيان، وبذلك خلقت بريطانيا طبقة حاكمة تعمل لخدمة مصالحها، وتخوض الصراع مع الشعب نيابة عنها، وكانت باكورة تلك الخدمات التي قدمتها الطبقة الحاكمة الجديدة للإمبريالية البريطانية إقرار معاهدة عام 1922، والتي أعطت لبريطانيا الهيمنة الكاملة على مقدرات العراق العسكرية والسياسية والاقتصادية، وجعلت من العراق واحة بريطانية.
وهكذا انتقل الصراع المباشر بين الشعب العراقي والإمبريالية البريطانية إلى صراع مباشر مع السلطة الحاكمة السائرة بركاب الإمبريالية، وأضطر الشعب العراقي خوض معارك التحرر المتواصلة على جبهتين، ضد المحتلين من جهة وضد تلك السلطة التي نصبوها، ودفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة من أجل تحقيق طموحه في الحرية والاستقلال، ومن أجل حياة كريمة لأبنائه، وتوجيه موارد البلاد لتحقيق مستوى معيشي لائق بدل توجيهها لخدمة المخططات والمصالح الإمبريالية.
لقد تجلت تلك المعارك، وذلك الصراع خلال أربعة عقود من الزمن في الأحداث التالية:
1 ـ معركة الشعب ضد إقرار معاهدة عام 1922:
 التي قيدت العراق بقيود ثقيلة أعطت بموجبها لبريطانيا هيمنة مطلقة على مقدرات العراق، وقد فرضها المندوب السامي البريطاني على المجلس التأسيسي مهدداً إياه بالحل إذا لم يصادق عليها، وقد تصدى الشعب العراقي للمعاهدة بمظاهرات صاخبة، أنزلت الحكومة على أثرها قوات الجيش والشرطة إلى الشوارع، وقمعتها بالقوة المفرطة، ودفع الشعب العراقي تضحيات كبيرة في أول صراع يخوضه ضد الحكم الملكي، وضد الهيمنة البريطانية.
2ـ التصدي لمعاهدة 1930:
 التي عقدها نوري السعيد والتي كرست الهيمنة البريطانية على العراق من جديد.
لقد مهدت السلطة بزعامة نوري السعيد والبلاط الملكي، السبيل لإبرام المعاهدة، فاتخذت قراراً بحل المجلس النيابي، أتبعته بإجراءات قمعية لا دستورية، حيث عطلت أكثر من عشرين صحيفة، وأحالت العديد من الصحفيين إلى المحاكم، ومنعت الاجتماعات، والتجمعات، والمظاهرات، وكممت أفواه الشعب، وقامت بأجراء انتخابات مزورة، أسفرت عن برلمان خاضع كلياً لإرادة السلطة، والمندوب السامي البريطاني، واستطاع نوري السعيد إبرام المعاهدة المذكورة على الرغم من رفض الشعب وقواه الوطنية لها، مما عمق التناقض بين الشعب وحاكميه، وتم قمع مظاهرات الشعب بالحديد والنار.
3 ـ الاحتلال البريطاني الثاني للعراق عام 1941:
 على أثر قيام حركة رشيد عالي الكيلاني، فقد خاض الشعب العراقي جنباً إلى جنب مع الجيش العراقي معارك الحرية ضد الاحتلال، ودفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه الشهداء البررة، لكن القوات البريطانية، بما تملكه من أسلحة ومعدات، وجيش مدرب، تمكنت من فرض سيطرتها على العراق عسكرياً من جديد.
4 ـ وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948: احتجاجاً على قيام حكومة صالح جبر ـ نوري السعيد بتوقيع[ معاهدة بورتسموث] بعد أن أوشكت معاهدة عام 1930 على الانتهاء، واحتجاجاً على الموقف الخياني للحكومة من القضية الفلسطينية، وقيام دولة إسرائيل، وطرد السكان العرب من فلسطين، والذين لا يزالون إلى يومنا هذا لاجئين في العديد من البلدان العربية والأجنبية، وقد استطاعت تلك الوثبة إسقاط حكومة صالح جبر ـ نوري السعيد.
5ـ وثبة تشرين المجيدة عام 1952:
 بسبب تردي الأوضاع المعيشية للشعب، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وانتهاك الحقوق والحريات العامة للشعب، وانتهاك الدستور وتعطيله، وإعلان الأحكام العرفية، وتعطيل البرلمان، وقد أوشكت تلك الوثبة الشعبية على إسقاط النظام الملكي آنذاك لولا إقدام الوصي على العرش عبد الإله إلى إنزال الجيش إلى الشوارع، وقمع الوثبة بالقوة العسكرية.
6 ـ فرض حلف بغداد:
وقد ضم هذا الحلف كل من العراق، وتركيا، وإيران، وباكستان، وبريطانيا بالإضافة إلى ارتباط الولايات المتحدة باتفاقات ثنائية أمنية وعسكرية مع هذا الحلف، مما جعلها تهيمن هيمنة مطلقة على الحلف الذي كان موجهاً ضد الاتحاد السوفيتي آنذاك على الضد من مصالح الشعب.
 لقد مهدت حكومة نوري السعيد التوقيع على الحلف بشن حملة شعواء ضد الشعب وقواه السياسية الوطنية، وتصفيته لسائر الحقوق والحريات العامة، وغلق الأحزاب السياسية والصحف، وتعطيل الدستور، وحل البرلمان الذي جرى انتخابه للتو، بعد افتتاحه، وإلقاء خطاب العرش مباشرة بسبب فوز11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع 121 نائباً، وأجرى نوري السعيد انتخابات جديدة لبرلمان دعي بـ [ برلمان التزكية ] حيث تم منع أي معارض للترشيح في تلك الانتخابات، وفاز مرشحوا الحكومة بالتزكية دون منافس.

7ـ انتفاضة الشعب عام 1956:
 على أثر  العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على مصر بسبب تأميم عبد الناصر لقناة السويس، ودعم حكومة نوري السعيد للعدوان، وقد تصدت حكومة  السعيد لتلك الانتفاضة بأقصى درجات العنف الذي مارسته قوات القمع للسلطة، وفي ظل الأحكام العرفية، والمحاكم العسكرية، والسجون التي امتلأت بالوطنيين.
8 ـ قيام جبهة الاتحاد الوطني:
وقد ضمت الجبهة الأحزاب الوطنية المعارضة كل من [الحزب الوطني الديمقراطي] و[حزب الاستقلال] و[الحزب الشيوعي] و [ حزب البعث ] والتحالف الثنائي بين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني بعد رفض الأحزاب القومية انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني
 للجبهة بسبب فكرهم القومي الشوفيني.

 9 ـ قيام تشكيلات عسكرية معارضة داخل الجيش:

 كان أهمها تنظيمات عبد الكريم قاسم، ومحي الدين عبد الحميد، ورفعت الحاج سري، وتنظيم الحزب الشيوعي، وقد توحدت هذه التنظيمات فيما بعد  تحت اسم[اللجنة العليا لحركة الضباط الأحرار]عدا تنظيم الحزب الشيوعي الذي أعلن أنه سيساند أي تحرك عسكري لحركة الضباط الأحرار دون تردد، بسبب ظروف تنظيمية خاصة بالحزب، وقد قام بالفعل بدور بارز في تنفيذ وإسناد الثورة.
وقد تم التلاقي بين جبهة الاتحاد الوطني واللجنة العليا للضباط الأحرار، وتم الاتفاق على التنسيق بين الجانبين السياسي والعسكري لتعبئة الجماهير الشعبية  لهذه الأحزاب لتمارس دورها لإسناد أي تحرك للجيش ضد النظام الملكي .
وبالفعل قامت الجماهير الشعبية بدورها المرسوم خير قيام، وقدمت إسناداً فورياً لثورة الرابع عشر من تموز 1958، التي استطاعت بفضل ذلك الإسناد تحقيق النصر الخاطف خلال ساعات معدودة، وتم إسقاط النظام الملكي المرتبط بعجلة الإمبرياليين، وإقامة الجمهورية العراقية.
وتشكلت في العراق، ولأول مرة، حكومة وطنية بإرادة وطنية خالصة، على الضد من إرادة الإمبرياليين، بقيادة الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، واستطاعت حكومة الثورة أن تقدم إنجازات كبيرة وهامة لا يمكن نكرانها محدثة ثورة اجتماعية حقيقية في حياة الشعب من خلال تصفية النظام الإقطاعي، وتحرير الفلاحين الذين يمثلون 75% من أبناء الشعب من عبودية الاقطاعيين، ويمكننا إيجاز أهم الإنجازات لثورة 14 تموز من دون التوسع فيها في هذه العجالة، بالتالي:

1 ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي:

الذي جرى بموجبه تصفية الإقطاع وتحرير الفلاحين وتوزيع الأراضي عليهم، وعلى الرغم من الثغرات التي حواها القانون، والتي استفاد منها الإقطاعيون، لكنه في كل الأحول كان يمثل ثورة اجتماعية غيرت طبيعة المجتمع العراقي .

2 ـ إصدار قانون الأحوال المدنية:
 الذي مثل ثورة  اجتماعية حقيقية لتحرير المرأة العراقية المهضومة الحقوق الاجتماعية والسياسة، وتحررها الاقتصادي، وهي التي تمثل نصف المجتمع العراقي، وأنصافها، والتأكيد على حقوقها المشروعة التي سلبها منها المجتمع الذكوري فيما يخص حقها في اختيار شريك حياتها، وحقها  في طلب الطلاق، ومنع تعدد الزوجات، إلا في حالات خاصة، كعدم القدرة على الإنجاب، أو المرض الذي لا شفاء منه، وبشرط الحصول على موافقة من محكمة الأحوال الشخصية، ومساواتها مع الذكور في الإرث، وتحقيق العدالة الاجتماعية في كافة مجالات الحياة الأخرى.
وقد كان لهذا القانون رد فعل خطير من قبل المرجعيات الدينية، وبوجه خاص مرجعية محسن الحكيم الذي لعب دوراً خطيراً في التأمر على ثورة 14 تموز، ودعم انقلابيي 8 شباط الفاشي، وشن حرب لا هوادة فيها على الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية، التي وقفت إلى جانب القانون المذكور، ودعمها لقيادة عبد الكريم قاسم، وحماية ثورة الرابع عشر من تموز، وصيانة انجازاتها.

3 ـ الخروج من حلف بغداد الذي ربط العراق بالمخططات العدوانية:
 حيث تم تحرير العراق من القيود التي فرضها الامبرياليون، واتخاذ سياسة وطنية مستقلة، وبناء علاقات متكافئة مع سائر بلدان العالم على قدم المساواة، والمنافع المتبادلة، واحترام سيادة واستقلال العراق، وفي المقدمة الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي،الذي كان قد قاطعه النظام الملكي خدمة لمصالح الامبرياليين.

4 ـ الخروج من منطقة الإسترليني:
 حيث كان الدينار العراقي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالباون البريطاني ينخفض كلما انخفض الباون، وهذا ما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية، مما تسبب في حدوث التضخم النقدي، وارتفاع الأسعار، وحدوث أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة عانى منها الشعب العراقي أشد المعانات.
 وبذلك تحرر العراق من الهيمنة النقدية البريطانية، وتمكن من تنويع مصادره من العملات النادرة، واستلام موارده النفطية على أساس سلة من العملات الأجنبية من بينها الدولار الأمريكي، وعملات أخرى.

5 ـ معركة النفط مع الشركات الاحتكارية وصدور القانون رقم 80:
وقد تم بموجب هذا القانون سحب 99،5 %من المناطق العراقية الحاوية على خزين كبير من الثروة النفطية، بعد أن عجزت حكومة الثورة عن إقناع تلك الشركات باستثمار تلك المناطق بالنظر لحاجة العراق للتنمية الاقتصادية، مما دفع الزعيم عبد الكريم قاسم إلى إصدار القانون المذكور وسحب تلك المناطق من الشركات الاحتكارية، والإعلان عن تأسيس شركة النفط الوطنية.
لقد وجه القانون ضربة كبرى للمصالح الاحتكارية الغربية، مما أثار حنق وحقد شركات النفط  على الثورة وقيادتها، وجعلها تصمم على اغتيال ثورة 14 تموز، وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم، وهذا ما تم بالفعل على أيدي عملاء الإمبريالية في حزب البعث، وحلفائه القوميين الآخرين في انقلابهم المشؤوم في الثامن من  شباط 1963، حيث جرى اغتيال الثورة وقادتها، وقادة الحركة الوطنية والديمقراطية الأماجد، كان من بينهم قادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي، وفي المقدمة منهم سكرتير الحزب الشهيد سلام عادل، وصحبه الأبرار، بأسلوب التعذيب البشع الذي يندى له جبين الإنسانية.
6 ـ توقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي :
 لغرض استكمال تحررالعراق السياسي بالتحرر الاقتصادي، وبناء البنية التحية للبلاد من خلال قيام الصناعة الوطنية، والمشاريع الحيوية التي يحتاجها العراق، وتحرير التجارة من هيمنة الإمبرياليين وشروطهم المجحفة، وقد استطاع العراق  الحصول على قرض من الاتحاد السوفيتي بمبلغ 55 مليون دينار بفائدة بسيطة لا تتجاوز2،5 % ، لتغطية نفقات التصاميم والمسوح، والبحوث، وكذلك المكائن والآلات والمعدات، والاستفادة منها خلال 7 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية.
وبموجب الاتفاقية تعهد الاتحاد السوفيتي بتقديم كافة المساعدات الفنية والخبراء، والاستشارات، ونصب المشاريع، وتنفيذها، وتدريب العراقيين للعمل عليها،  وقد شملت تلك المشاريع  الفولاذ والأسمدة، والكبريت والأدوية، ومعامل إنتاج المكائن والآلات الزراعية، ومعمل اللوازم والعدد الكهربائية، ومعمل المصابيح الكهربائية، ومحطة إذاعة، مع أربع مرسلات ومعمل للزجاج، ومعامل للمنسوجات القطنية، والصوفية، والتريكو، ومعمل للتعليب، وبناء سايلوات كونكريتية للحبوب، ومساعدات فنية لتأسيس خمس مزارع حكومية، ومشاريع الري، وبزل الأراضي، وتأسيس أربعة محطات لتأجير التراكتورات، هذا بالإضافة إلى القيام بأعمال المسح الجيولوجي، وتصليح الأجهزة الجيولوجية، كما نصت الاتفاقية على بناء خط سكة حديد جديد، بين بغداد والبصرة.
لقد اعتُبرت تلك الاتفاقية خطوة جريئة من جانب حكومة الثورة لبناء القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي، وتحريره من التبعية للدول الإمبريالية.
كما استطاعت حكومة الثورة أن تعقد مع الاتحاد السوفيتي اتفاقية أخرى
لتسليح الجيش العراقي، والحصول على الأسلحة المتطورة التي حرمه منها الإمبرياليون، وبأسعار تقل كثيراً جداً عن الأسلحة الغربية.

7 ـ إنجازات حكومة الثورة في الحقل الاجتماعي:
كان على حكومة الثورة أن تقوم بالعديد من الإجراءات ذات البعد الاجتماعي، المتعلقة بحياة الشعب المعيشية وكان أهمها:
1 ـ تخفيف الضرائب غير المباشرة عن أبناء الشعب.
2 ـ تخفيض إيجار المساكن، والمحلات التجارية.
3 ـ زيادة رواتب الموظفين والعمال، ووضع رقابة على الأسعار.
4ـ توزيع مئات الألوف من قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود والموظفين والعمال، لغرض بناء دور لهم عليها، وتقديم كل المساعدات الممكنة، والقروض بشروط بسيطة لإنجاز بنائها.
5ـ إلغاء حزام الفقر حول بغداد من الصرائف وبيوت الطين، التي أقامها مئات  الألوف من الفلاحين الهاربين من جور الإقطاع والعبودية والاستغلال، وقيام الحكومة ببناء مدينتي الثورة  والشعلة، وتوسيع مدينة الحرية، وتوزيع آلاف المساكن على هؤلاء المعدمين والبؤساء.
6 ـ فتح معاهد الأيتام والأطفال المشردين، والأحداث الجانحين، والاهتمام بتربيتهم، ونشأتهم نشأة صالحة.
7ـ  تقليص ساعات العمل وجعلها 8 ساعات، بعد أن كان العمال يعملون من شروق الشمس وحتى غروبها.
8 ـ  تشجيع استثمار رأس المال الوطني في المشاريع الصناعية بدلاً من الاستثمار العقاري والمضاربة العقارية.
9ـ تطبيق قانون الضمان الاجتماعي للعمال الذي صدر عام 1956 ولم ينفذ حتى قيام الثورة. 
10ـ  فتح مجال الاستيراد والتصدير لكل فئات البرجوازية الوطنية، بعد أن كانت حكراً على كبار الرأسماليين المرتبطين بالنظام السابق.
11 ـ  حماية الصناعات الوطنية أمام المنافسة الأجنبية.
12 ـ  وضع حد لتهرب كبار الرأسماليين من دفع الضرائب.
13 ـ رفع معدلات التصدير للحبوب والجلود والتمور وغيرها.
14 ـ سن قانون ضريبي جديد، وشمول الإنتاج الزراعي بالضريبة، حيث كان الإقطاعيون لا يدفعون الضرائب عن الإنتاج.
15 ـ إلغاء تكبيل السجناء بالحديد، وتخفيض عقوباتهم إلى خمس المدة.
16ـ سن قانون مكافحة البغاء، وإنشاء مراكز إصلاح إجبارية لكافة المومسات، من أجل إصلاحهن، وتوجيههن نحو حياة جديدة، ذات بعد إنساني، وتأمين مصدر دخل لهن.
17ـ توسيع وتطوير كافة الخدمات الصحية والتعليمية، وبناء الطرق والجسور، والمشاريع الصناعية قدر توفر الإمكانات المادية اللازمة لذلك.
18ـ تأسيس جامعة بغداد، وتوسيع القبول فيها، من أجل تخريج الكوادر التي يحتاجها الوطن في عملية البناء والتطور والنمو في كافة المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والصحية، وغيرها من المجالات الأخرى.
هذه هي أهم الانجازات التي حققتها ثورة 14 تموز بقيادة الشهيد عبد الكريم قاسم خلال عمرها القصير، والذي تخللته صراعات عنيفة بين القوى السياسية، وتآمر مكشوف ومتكرر من قبل القوى البعثية والقومية، وتحالفها مع القوى الإمبريالية، حتى تم لها النجاح في اغتيال الثورة وقائدها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء الأبرار في انقلاب الثامن من شباط 1963 ، وإغراق البلاد بالدماء.
المجد لثورة الرابع عشر من تموز وقائد الشهيد عبد الكريم قاسم وصحبه الأبرار.
المجد لشهداء الحركة الوطنية الذين ذادوا عن الثورة ومنجزاتها، وتصدوا لقوى الظلام والفاشية صبيحة الثامن من شباط المشؤوم عام 1963.واستشهدوا في ساحة المعركة، وفي أقبية التعذيب في قصر النهاية،
ومقر هيئة تحقيق عمار علوش وناظم كزار وخالد طبرة وزمرتمهم الشريرة وفي سجن رقم واحد على أيدي زمرة التعذيب والقتل المتوحشة. 

ملاحظة : للإطلاع على المزيد من المعلومات عن ثورة 14 تموز، راجع كتابنا  {ثورة 14 تموز في نهوضها، وانتكاستها، واغتيالها} على موقعنا على الإنترنيت على العنوان التالي:www.Hamid-Alhamdany.com



367
صدام والحرب العراقية الإيرانية
الحلقة الخامسة والأخيرة

حامد الحمداني                                                       11/7/2009

أولاً: استمرار الحرب وإيران تستكمل تحرير أراضيها
اشتدت الحرب ضراوة ما بين الأعوام  1983 ـ 1986، حيث أخذت إيران زمام المبادرة من العراقيين، واستطاعت بعد إكمال تحرير إقليم خوزستان أن تركز جهدها الحربي نحو القاطع الأوسط من ساحة الحرب، حيث شنت هجوماً واسعا على القوات العراقية مسددة له ضربات متواصلة، استطاعت من خلالها تحرير مدن[ قصر شيرين] و [ سربيل زهاب ] و[ الشوش ]، وتمكنت من طرد القوات العراقية من كافة الأراضي الإيرانية، ومنزلة بها خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات، وتم أسر الآلاف من جنوده وضباطه، والاستيلاء على معدات وأسلحة ودبابات بأعداد كبيرة، هذا بالإضافة إلى آلاف القتلى الذين تركوا في ساحات المعارك، ولم يكن بالإمكان نقلهم جميعاً إلى داخل الحدود العراقية، ومع ذلك فقد كانت سيارات النقل كل يوم تنقل أعداد كبيرة من ضحايا تلك الحرب المجرمة، وكان الشعب العراقي يتحرق ألماً وغضباً على نظام صدام الذي ورط العراق بتلك الحرب، وقمع أي معارضة لها بأقسى وسائل العنف، فقد كان مصير كل من ينتقد الحرب الموت الزؤام.
لقد حاول صدام امتصاص غضب الشعب واستياءه من الحرب وكثرة الضحايا برشوة ذويهم، وذلك بتقديم سيارة ومبلغ  من المال، أو قطعة أرض أو شقة  أو دار، وكان حكام دول الخليج، وفي المقدمة منهم حكام السعودية، يدفعون الأموال الطائلة لتمكن صدام حسين من دفع تلك الرشاوى، ولشراء الأسلحة والمعدات للجيش العراقي، بعد أن أستنفذ دكتاتور العراق كامل احتياطيات البلاد من العملات النادرة البالغة 36 ملياراً من الدولارات والذهب، واستنفذ كل موارد العراق النفطية  والبالغة 25 مليار دولار سنوياً ،هذا بالإضافة إلى إغراق العراق بالديون، والتي جاوزت حدود أل 90 مليار دولار.
لقد كان من الممكن أن يكون العراق اليوم في مصاف الدول المتقدمة في تطوره، ومستوى معيشة شعبه نظراً لما يتمتع به العراق من ثروات نفطية ومعدنية وأراضي زراعية خصبة، ومياه وفيرة، ولكن الدكتاتور آثر أن يسوق الشعب العراقي نحو الجوع والفقر، والوطن نحو الدمار والخراب.
ثانيا:الجيش الإيراني يحتل شبه جزيرة الفاو، وجزر مجنون

اشتدت المعارك بين الجيشين العراقي والإيراني، وبدت إيران في وضع يمكنها من شن الهجمات  البشرية المتتالية تارة على القاطع الجنوبي نحو البصرة، وتارة أخرى نحو القاطع الأوسط ، حول مدن مندلي وبدرة وجصان، وتارة ثالثة نحو القاطع الشمالي من العراق.

أما هجماته في القاطعين الأوسط والجنوبي فقد كان حكام العراق قد حشدوا قوات كبيرة مجهزة بشتى أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي أستخدمها صدام حسين لدحر الهجمات الإيرانية موقعاً خسائر جسيمة في صفوف القوات الإيرانية والعراقية، حيث سقط عشرات الألوف من جنود وضباط الطرفين في تلك المعارك الشرسة والتي تقشعر من هولها الأبدان، ولم يفلح الإيرانيون في الاحتفاظ بأي تقدم داخل الأراضي العراقية حتى نهاية عام 1985 .
لكن الوضع أصبح خطيراً بالنسبة للعراق عام 1986،عندما استطاعت القوات الإيرانية الاندفاع نحو شبه جزيرة الفاو واحتلالها بأكملها بعد معارك دموية شرسة، ودفع فيها الشعب العراقي ما يزيد على 50 ألف من أرواح أبنائه في محاولة من صدام حسين لاستعادتها من أيدي  الإيرانيين، وكان الإيرانيون يستهدفون من احتلالها قطع الاتصال بين العراق ودول الخليج التي كان العراق يحصل على الأسلحة والمعدات عن طريقها، إضافة إلى محاولة إيران منع العراق من تصدير نفطه عن طريق الخليج، وحرمانه من موارده النفطية اللازمة لإدامة ماكينته الحربية، وقد أضطر العراق إلى مد أنبوبين لنقل النفط إلى الأسواق الخارجية الأول عبر الأراضي التركية، والثاني عبر الأراضي السعودية بعد أن أصبح نفطه مطوقاً، وسيطرت البحرية الإيرانية على مداخل الخليج.
 أستمر الإيرانيون في تكثيف هجماتهم على القوات العراقية بعد احتلالهم شبه جزيرة الفاو، وركزوا على منطقة [ جزر مجنون ] الغنية جداً بالنفط واستطاعوا احتلالها بعد معارك عنيفة.

ثالثاً:النظام العراقي يسعى للتسلح بأسلحة الدمار الشامل


كاد نظام صدام يفقد صوابه بعد أن تطورت الأوضاع على جبهات القتال لغير صالح العراق، وبدأ يعبئ كل موارد البلاد لخدمة المجهود الحربي، كما أخذ يطلب المساعدة من دول الخليج، ومن السعودية بشكل خاص، وشعر حكام الخليج أن الخطر قد بدأ يتقدم نحو المنطقة، فسارعوا إلى تقديم كل أنواع الدعم والمساعدة المالية، وحصل العراق في تلك الفترة على 12 مليار دولار، وكان عدد من الدول العربية كمصر والسعودية والكويت تقوم بشراء الأسلحة لحساب العراق.
غير أن حكام العراق وجدوا أخيراً أن السعي لإنشاء مصانع الأسلحة ذات الدمار الشامل يمكن أن تكون أداة فعالة لدفع الخطر عن البلاد، وتم إنشاء هيئة التصنيع العسكري، وبدأ العراق بإنتاج الأسلحة الكيماوية، مستفيدين من خبرة العلماء المصريين، وبعض العلماء الأجانب الذين سبق وعملوا في برامج الأسلحة الكيماوية في عهد عبد الناصر، وأوقفها السادات من بعده، ثم بدأ العراق في إنتاج وتطوير الصواريخ من طراز [سكود] ، وطوروا مداها لكي تصل إلى أبعد المدن الإيرانية.
 وكان الإيرانيون قد حصلوا على عدد من تلك الصواريخ، وضربوا بها العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى، حيث كانت تلك الصواريخ تطلق نحو العراق كل بضعة أيام أو أسابيع لتصيب الأهداف المدنية، وتفتك بالأبرياء.
 فقد أصاب أحد تلك الصواريخ مدرسة ابتدائية في بغداد، وقتل العديد من الأطفال وجرح أعداد أخرى، وكان الشعب العراقي ينتابه القلق الشديد كل يوم، من هذا السلاح الخطير، حيث لا أحد يعلم متى وأين سيقع الصاروخ، وكم سيقتل من الآمنين.
وتمكن العراق من الحصول على أعداد كبيرة من تلك الصواريخ، وبدأ في تطويرها، وزيادة مداها، وبدأ حكام العراق يطلقونها على العاصمة  الإيرانية والمدن الأخرى بكثافة حتى جاوز عدد الصواريخ التي أطلقوها على المدن الإيرانية أكثر من [1000 صاروخ ]،منزلين الخراب والدمار بها، والخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، وأخذت الحرب تزداد خطورة وأذى للسكان المدنيين.
كما تمكن العراق من إنتاج كميات كبيرة من الأسلحة الكيماوية، واستخدمها في صد هجمات القوات الإيرانية منزلاً بها الخسائر الجسيمة في الأرواح، كما راح حكام العراق يعبئون صواريخ سكود بالغازات السامة كغاز[الخردل] و[السارين] السامين، ثم بدءوا يتطلعون إلى تطوير ترسانتهم الحربية في مجال الأسلحة البيولوجية والجرثومية، وتمكنوا من انتاجها وتعبئة القنابل بها.
أحدث برنامج التسلح العراقي هذا قلقاً كبيراً لدى إسرائيل التي كانت تتابع باهتمام بالغ تطوير برامج التسلح العراقي، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلية [الموساد] بحملة ضد العلماء الذين ساهموا في تطوير البرامج، وضد الشركات الغربية التي جهزت العراق بالأجهزة، والمعدات اللازمة لتطويرها وخاصة الشركات الألمانية والفرنسية والأمريكية والبلجيكية والسويسرية التي جاوز عددها  300 شركة.
كما قام الموساد باغتيال العالم المصري والأمريكي الجنسية [ يحيى المشد] الذي عمل في تطوير الأسلحة العراقية ذات الدمار الشامل، كما أغتال العالم البلجيكي  الدكتور [ جيرالد بول ] في بروكسل، حيث كان هذا العالم يعمل لإنتاج المدفع العملاق للعراق، وقام جهاز المخابرات الإسرائيلي أيضاً بنسف توربينات المفاعل النووي [ أوزيراك ] في ميناء [ مرسيليا ] الفرنسي حيث كان معداً لنقله إلى العراق.
غير أن العراق واصل نشاطه في بناء مفاعل جديد بإشراف العالم النووي العراقي [جعفر ضياء جعفر] الذي استطاع أن يحقق نجاحاً بارزاً في هذا المجال، وكان كل ذلك يجري تحت سمع وبصر الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، ومساعدتهم من أجل إبقاء نار الحرب مشتعلة بين العراق وإيران. 

رابعا: حرب الناقلات وتأثيرها على إمدادات النفط 

عمل الطرفان المتحاربان على منع كل طرف للطرف الآخر من تصدير نفطه، بالنظر إلى اعتماد كلا البلدين على واردات النفط لتمويل الحرب، ولكون اقتصاد البلدين يعتمد اعتماداً كلياً على تلك الواردات، ولذلك وجدنا قوات البلدين تقوم بقصف المنشآت النفطية لكل منهما، واستمر القصف طيلة الحرب.
كما قامت القوات الإيرانية بلغم رأس الخليج لمنع الناقلات من الوصول إلى ميناء البكر النفطي، مما اضطر العراق كما أسلفنا إلى مد أنابيب لنقل النفط عبر الأراضي التركية والسعودية، فيما كانت سوريا قد أوقفت مرور النفط العراقي في الخط المار عبر أراضيها إلى ميناء بانياس، وميناء طرابلس اللبناني منذُ نشوب الحرب.
 كما قامت الكويت ببيع النفط لحساب العراق ونقله على ناقلاتها، مما دفع إيران إلى مهاجمة الناقلات الخليجية، حيث أصيب أكثر من 160 ناقلة منها 48 ناقلة كويتية، واضطرت الكويت إلى شراء الحماية لناقلاتها من الولايات المتحدة، وقامت برفع العلم الأمريكي عليها لمنع إيران من مهاجمتها. كما قامت حكومة الكويت بتأجير 11 ناقلة سوفيتية لضمان عدم الاعتداء عليها، وحاولت شراء الحماية من الصين كذلك.
 لكن الولايات المتحدة عارضت ذلك خوفاً على مصالحها من التغلغل الصيني في الخليج.
أما حكام العراق فقد سعوا أيضاً إلى منع إيران من تصدير نفطها، وقامت طائرات من طراز[سوخوي 23] وطائرات من طراز [ميراج] الفرنسية التي استأجرها العراق، والمحملة بصواريخ [أكزوزسيت] والتي استطاع بواسطتها من الوصول إلى ابعد نقطة في الخليج لملاحقة الناقلات التي تنقل النفط الإيراني، وتدمير المرافئ التي تستخدمها إيران لتصدير النفط .

وهكذا اشتعلت حرب الناقلات بين البلدين المتحاربين، أصبحت عملية نقل النفط خطيرة وصعبة، ورفعت شركات التأمين رسومها على الناقلات إلى مستوى عالٍ جداً، مما سبب في رفع أسعار النفط في الأسواق العالمية.

 وفي تلك الأيام قامت طائرة عراقية بضرب طراد أمريكي في 18 أيار 1987 ، حيث اعتقد الطيار أنه طراد إيراني، وأدى قصفه إلى مقتل 28 فرداً من القوات الأمريكية، واعترفت الحكومة العراقية بقصف الطراد، وقدمت اعتذاراً للحكومة الأمريكية، وتم دفع تعويضات لأسر العسكريين القتلى بمقدار 800 ألف دولار لكل قتيل، ولم يصدر أي رد فعل أمريكي ضد العراق، فقد كانت العلاقات بينهما على خير ما يرام.

استمرت حرب الناقلات، بل وتصاعدت في السنوات الأخيرة من الحرب حيث أصبحت تمثل خطراً حقيقياً على تدفق النفط الذي من أجله أٌشعلت نيران الحرب، وأصبح الخليج مملوءاً بالألغام، وأصبح استمرار الحرب يعطي نتائج عكسية، مما دفع الولايات المتحدة وحلفائها إلى التحرك لإنهائها بعد تلك السنين الطويلة من الدماء والدموع والخراب والدمار الذي عم البلدين، لتمتلئ جيوب الإمبرياليين.
 وكان إنهاءها يتطلب دعماً كبيراً للعراق لأخذ المبادرة وقلب موازين القوى لصالح العراق، وطرد القوات الإيرانية من الأراضي العراقية، وتوجيه الضربات الموجعة لإيران لتركيعها وإجبارها على القبول بوقف الحرب.
وجاء ذلك الدعم بمختلف السبل، من تقديم المعلومات العسكرية  إلى تقديم شتى أنواع الأسلحة، وتقديم الخبرات، ومشاركة ضباط مصريين كبار، بالإضافة إلى القوات المصرية والأردنية واليمانية، وغيرها من السبل والوسائل، وبدأ العراق يعد العدة لشن الهجوم تلو الهجوم لطرد القوات الإيرانية من أراضيه.
خامساً:معارك العام الأخير للحرب


1 ـ معركة تحرير الفاو:
في عام 1988، العام الأخير للحرب تحول ميزان القوى مرة أخرى لصالح العراق  وبدأ النظام العراقي يعد العدة لتحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني، وكان في مقدمة أهدافه تحرير الفاو التي مضى على احتلالها 21 شهراً.
حشد النظام العراقي قوات كبيرة من الحرس الجمهوري، ومعدات لا حصر لها كان من بينها 2000 مدفع، ومئات الدبابات والمدرعات، وبدأ الهجوم يوم 17 نيسان 988، واستطاعت القوات العراقية تحقيق انتصار ساحق على القوات الإيرانية بعد أن حولت المنطقة إلى كتلة من لهيب ودفع العراق حياة خمسين ألفاً من أبنائه ثمناً لتحرير الفاو.

2 ـ تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة
 كان الهدف الثاني للنظام العراقي هو تحرير المناطق المحيطة بمدينة البصرة وإبعاد القوات الإيرانية عن المدينة التي كانت طيلة الحرب هدفاً لقصف المدفعية الإيرانية، والهجمات المتتالية عليها بغية احتلالها، ولذلك فقد ركز النظام العراقي جهد قواته على تلك المنطقة، وخاض مع القوات الإيرانية معارك شرسة دامت ثلاثة أسابيع، وتمكنت القوات العراقية بعدها من تحرير كافة المناطق المحيطة بالبصرة بعد أن قدم التضحيات الجسام.

3 ـ تحرير منطقة جزر مجنون
بعد أن فرغت القوات العراقية من تحرير الفاو كان أمامها الهدف الثالث الذي لا يقل أهمية عن الهدفين الأولين [جزر مجنون] التي تعتبر من أغنى المناطق التي تحتوي على احتياطيات نفطية هائلة، وقد تمكنت القوات العراقية بعد معارك عنيفة من تحريرها من أيدي الإيرانيين، وإلحاق الهزيمة بالجيش الإيراني بعد أن دفع الجيش العراقي ثمنا باهظا من أرواح جنوده.
4 ـ تحرير المناطق الحدودية الممتدة من البصرة إلى مندلي 
بعد معارك تحرير جزر مجنون انتقلت القوات العراقية إلى ملاحقة القوات الإيرانية التي كانت قد احتلت فيما مضى مناطق على طول الحدود الممتدة بين البصرة في الجنوب، ومندلي في القاطع الأوسط ، واستمرت في توجيه الضربات للقوات الإيرانية، مستخدمة مختلف الأسلحة التقليدية، وأسلحة الدمار الشامل، حتى  أخذت معنويات القوات الإيرانية بالتراجع يوماً بعد يوم، واستطاعت القوات العراقية طردها من تلك المناطق، ودفعها إلى داخل الحدود الإيرانية.

5 ـ اختراق الحدود الإيرانية من جديد

لم تكتفِ القوات العراقية من إزاحة القوات الإيرانية من الأراضي العراقية وإنما طورت هجماتها، وأخذت تلاحق القوات الإيرانية إلى داخل الحدود.
 فقد استمر تقدم القوات العراقية في العمق الإيراني من جديد حتى وصل إلى مسافة 60 كم في بضع المناطق، مما جعل القوات الإيرانية في موقف صعب للغاية، وتنفس النظام العراقي الصعداء، واستمر في ضغطه على القوات الإيرانية، حيث استهدف صدام حسين من ذلك إجبار القيادة الإيرانية  على القبول بوقف الحرب التي عجزت كل الوساطات التي قامت بها العديد من الدول والشخصيات العالمية المعروفة بإقناع حكام إيران بوقفها.

سادساً:النظام العراقي يهاجم مدينة حلبجة الأسلحة الكيماوية

في ليلة 13 آذار 1988، بادرت القوات الإيرانية بالهجوم على مدينة حلبجة الواقعة في القسم الشمالي الشرقي من العراق، في سهل شهر زور، بمساعدة قوات البيشمركة العائدة للحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان النظام الإيراني يرمي من هجومه على المدينة التعويض عن هزائمه أمام القوات العراقية في القاطعين الجنوبي والأوسط، ولرفع معنويات جنوده المنهارة بعد تلك الهزائم.
بدأت القوات المهاجمة بقصف المدينة بالمدفعية لمدة ثلاثة أيام،ثم أعقبتها بالهجوم البري الذي دام يومين حيث استطاع الإيرانيون من احتلال المدينة في 15 آذار، وتقهقرت القوات العراقية التي كانت متواجدة هناك تاركة أسلحتها ومعداتها في ارض المعركة، وبدأ الإيرانيون يتحدثون عِبر وسائل إعلامهم عن انتصارات حققوها في منطقة حلبجة، وبدأ المصورون يصورون القوات الإيرانية وهي تحتل المدينة.
أدرك الأهالي أن الأخطار تحدق بهم، وأن نظام صدام سوف لن يدع القوات الإيرانية تحتل المدينة، وكان أكثر ما يقلقهم هو إمكانية تعرضهم للضرب بالأسلحة الكيماوية، ولذلك فقد حاولوا مغادرة المدينة وإخلائها، لكن الإيرانيين منعوهم من ذلك.
لم تمكث القوات الإيرانية في المدينة، حيث بدأت تنسحب منها تاركة الأهالي  وقوات البيشمركة فيها، فقد توقعوا أن يشن نظام صدام الهجوم عليها بالأسلحة الكيماوية.
 وفي صباح يوم 16 آذار حلقت 8 طائرات حربية عراقية فوق المدينة وبدأت بالقصف العشوائي مركزة على منطقتي [السراي] و[ كاني قولكه ]
وبعد الظهر جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بكل أحيائها، وكانت تستهدف كسر زجاج النوافذ للدور تمهيداً لقصفها بالسلاح الكيماوي، لكي تنفذ الغازات السامة في كل مكان، ولكي تقتل  أكبر عدد من المواطنين.
وفي الساعة الثالثة والربع من عصر ذلك اليوم جاءت موجة أخرى من الطائرات لتقصف المدينة بالسلاح الكيماوي، مركزة القصف على أحياء [بير محمد ] و[جوله كان ] و[ كاني قولكه ] [والسراي ] ثم تلتها موجة أخرى من الطائرات بعد ساعة لتقصف المدينة من جديد مركزة القصف على كل أنحاء المدينة.
 وتحدث أحد الناجين من تلك المجزرة البشرية، التي ذهب ضحيتها أكثر من 5000 مواطن كردي أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ حيث قال: {في البداية سمعنا صوت انفجارات مدوية، تلاها بعد خمس دقائق انتشار ما يشبه الضباب الذي راح يقترب من الأرض شيئاً فشيئاً، وبدأت العيون تدمع وشعرنا بحرقة شديدة، وكانت الرائحة أشبه برائحة البارود، وتسرب الدخان الأبيض إلى كل المنازل، والمخابئ، وبدأ الناس يشعرون بالاختناق، وتدافعت جموعهم للخروج نحو الخارج لتشم الهواء، وكان الناس يصرخون كالمجانين ويضعون أيديهم على عيونهم وأنوفهم ثم يسقطون على الأرض، ويأتون بحركات متشنجة ، ويتقيئون ويبصقون دماً، وأصيبت عيونهم بالعمى، وكانت أنوفهم وأفواههم تنزف دماً، وقد ازرقت بشرتهم، ثم بدؤوا يفارقون الحياة، وكنت أرى الجثث في الشوارع والطرقات وفي كل مكان، وكان البعض منهم لا يزال ينازع الحياة، وقد شوهتهم الحروق، وبدت المدينة أشبه بمقبرة انتزعت الجثث فيها من قبورها، وتناثرت على الأرض، وقد استطاع البعض تصوير تلك المشاهد المرعبة التي تصف جرائم نظام صدام خير وصف }.

سابعا:العراق يكثف حرب الصواريخ لتركيع إيران،ونهاية الحرب


أخذ حكام العراق بعد أن تسنى لهم دفع القوات الإيرانية إلى عمق أراضيهم يضغطون على حكام إيران من أجل القبول بوقف الحرب وذلك عن طريق تكثيف حرب الصواريخ لإحداث حالة من الانهيار النفسي لدى الشعب الإيراني، فقد كانت الصواريخ تنهال على طهران والمدن الإيرانية الأخرى بشكل متواصل، محدثة خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات، وخلقت
حالة من الهلع لدى الشعب الإيراني.
وفي ظل تلك الظروف صدر قرار مجلس الأمن رقم 579 ، والذي دعا إلى وقف القتال بين الطرفين، وانسحاب القوات العسكرية إلى داخل حدودها الوطنية، ووجد حكام إيران أنهم قد أصبحوا عاجزين عن مواصلة الحرب، واضطر الزعيم الديني [آية الله الخميني] إلى إصدار أوامره بوقف الحرب في 18 تموز 1988 ، والقبول بقرار مجلس الأمن على مضض، حيث
 أعلن الخميني قائلاً:
{أنه يشعر وهو يصدر أمره بوقف الحرب بأنه يشرب السم }.
وهكذا توقفت الحرب بين العراق وإيران بعد مجازر رهيبة استمرت طيلة ثمان سنوات وذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان من كلا البلدين، إضافة إلى ملايين المعوقين والأرامل واليتامى، وتدمير اقتصاد البلدين، وتخريب مرافقهما الاقتصادية، وكان الأخطر من كل ذلك هو التأثير النفسي الذي تركته تلك الحرب المجرمة على أبناء الشعبين المغلوبين على أمرهما، والتي لم يجنيا منها سوى الدماء والدموع.

ملاحظة : للمزيد من الاطلاع على تاريخ هذه المرحلة مراجعة كتابنا الموسوم [ سنوات الجحيم ]على موقعنا على الإنترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.com
ِAlhamdany34@gmail.com




368
صدام والحرب العراقية الإيرانية
الحلقة الرابعة
حامد الحمداني                                                       10/7/2009
بعد أن أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بادر على الفور في وضع المهمة التي كلفته ادارة الرئيس الأمريكي رونالد ريكان بالاستعداد لمهاجمة إيران ، وباشر النظام بنصب الصواريخ المضادة للطائرات في كل المناطق الحساسة من العاصمة والمدن الأخرى، وجرى نصب المقاومات الأرضية في معظم العمارات العالية استعداداً لوقوع غارات جوية.كما باشر نظام صدام في بناء الملاجئ في مختلف مناطق بغداد، وكلف شركات عالمية في بنائها.
كما بدأ النظام حملة مجرمة لتهجير مئات الألوف من الأكراد الفيليين بدعوى كونهم مواطنين إيرانيين، وتم سلب كافة أموالهم وأملاكهم ووثائقهم  بل لقد اقترف جريمة أكبر بسلب صبيانهم وشبابهم، وجرى تصفيتهم بأساليب وحشية يندى لها جبين الإنسانية، حيث استخدمهم في تجاربه لإنتاج الأسلحة الكيماوية، واكتشفت رفاتهم في القبور الجماعية التي تم اكتشافها بعد سقوط النظام. وهكذا هيأ صدام حسين الظروف لمهاجمة إيران.

أولاً:بداية الحرب وتوغل القوات العراقية في العمق الإيراني:

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، قامت على حين غرة 154 طائرة حربية عراقية بهجوم جوي كاسح على مطارات إيران، وكافة المراكز الحيوية فيها. ثم أعقبتها 100 طائرة أخرى في ضربة ثانية لإكمال ضرب المطارات والطائرات الحربية الإيرانية، وكانت الطائرات تغير موجة إثر موجة، وفي الوقت نفسه زحفت الدبابات والمدرعات العراقية نحو الحدود الإيرانية على جبهتين:
1 ـ الجبهة الأولى في المنطقة الوسطى من الحدود  باتجاه [قصر شيرين]، نظراً لقرب هذه المنطقة من قلب العراق لإبعاد أي خطر محتمل لتقدم القوات الإيرانية نحو محافظة ديالى و بغداد، وقد استطاعت القوات العراقية الغازية احتلال [قصر شيرين].
2 ـ الجبهة الثانية في الجنوب نحو منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، وذات الأهمية الإستراتيجية الكبرى حيث تطل على أعلى الخليج.
وفي خلال بضعة أسابيع من الهجوم المتواصل استطاعت القوات العراقية التي كانت قد استعدت للحرب من السيطرة على منطقة [خوزستان] بكاملها، واحتلت مدينة [خرم شهر] وقامت بالتفاف حول مدينة [عبدان] النفطية وطوقتها.
ومن الجانب الإيراني قامت الطائرات الإيرانية بالرد على الهجمات العراقية، وقصفت العاصمة بغداد وعدد من المدن الأخرى، إلا أن تأثير القوة الجوية الإيرانية لم يكن على درجة من الفعالية، وخصوصاً وأن النظام العراقي كان قد تهيأ للحرب قبل نشوبها، حيث تم نصب المضادات أرض جو فوق أسطح العمارات في كل أنحاء العاصمة والمدن الأخرى، وتم كذلك نصب العديد من بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات حول بغداد.
 وهكذا فقد فقدت إيران أعدادا كبيرة من طائراتها خلال هجومها المعاكس على العراق، كما أن القوة الجوية الإيرانية كانت قد فقدت الكثير من كوادرها العسكرية المدربة بعد قيام الثورة، مما اضعف قدرات سلاحها الجوي، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبح للسلاح الجوي العراقي السيطرة المطلقة في سماء البلدين. وفي الوقت الذي كانت إيران محاصرة من قبل الغرب فيما يخص تجهيزها بالأسلحة، كانت الأسلحة تنهال على العراق من كل جانب، كما أوعزت الولايات المتحدة إلى الرئيس المصري  أنور السادات ببيع جميع الأسلحة المصرية من صنع سوفيتي إلى العراق، وتم فتح قناة الاتصال بين البلدين عن طريق سلطنة عمان، حيث كانت العلاقات بين البلدين مقطوعة منذُ أن ذهب السادات إلى إسرائيل، وقام السادات بالدور الموكول له، وأخذت الأسلحة المصرية تُنقل إلى العراق عن طريق الأردن والسعودية خلال عام 1981، كما بدأت خطوط الإنتاج في المصانع الحربية المصرية تنتج وتصدر للعراق المعدات والذخيرة والمدافع عيار 122 ملم طيلة سنوات الحرب.
لقد كانت تلك العملية فرصة كبيرة للولايات المتحدة لإنعاش سوق السلاح الأمريكي، حيث سعت لأن تتخلص مصر من السلاح السوفيتي وتستعيض عنه بالسلاح الأمريكي، حيث بلغ قيمة ما باعه أنورالسادات من سلاح للعراق يتجاوز ألف مليون دولار خلال عام واحد، وكانت أسعار الأسلحة المباعة تتجاوز أحياناً أسعارها الحقيقية، وكان صدام حسين مرغماً على قبولها.
أما الاتحاد السوفيتي فقد بدأ بتوريد الأسلحة إلى العراق بعد توقف لفترة من الزمن، وبدأت الأسلحة تنهال عليه عام 1981 حيث وصل إلى العراق 400 دبابة طراز T55  و250 دبابة طرازT 72)).
كما تم عقد صفقة أخرى تناولت طائرات[ميك] و[ سوخوي] و[ توبوليف] بالإضافة إلى الصواريخ.
كما عقد حكام العراق صفقة أخرى مع البرازيل بمليارات الدولارات لشراء الدبابات والمدرعات وأسلحة أخرى، وجرى ذلك العقد بضمانة سعودية، واستمرت العلاقات التسليحية بين العراق والبرازيل حتى نهاية الحرب عام 1988.
 وهكذا استمر تفوق الجيش العراقي خلال العام 1981 حيث تمكن من احتلال مناطق واسعة من القاطع الأوسط منها [سربيل زهاب] و[الشوش] و[قصر شيرين] وغيرها من المناطق الأخرى.                             .                                                 كما تقدمت القوات العراقية في القاطع الجنوبي في العمق الإيراني عابرة نهر الطاهري، وكان ذلك الاندفاع أكبر خطأ أرتكبه الجيش العراقي بأمر من صدام حسين!!، حيث أصبح في وضع يمكن القوات الإيرانية من الالتفاف حوله وتطويقه، رغم معارضة القادة العسكريين لتلك الخطوة الانتحارية التي دفع الجيش العراقي لها ثمناً باهظاً من أرواح جنوده، ومن الأسلحة والمعدات التي تركها الجيش بعد عملية التطويق الإيرانية، والهجوم المعاكس الذي شنه الجيش الإيراني في تموز من عام 1982، والذي استطاع من خلاله إلحاق هزيمة منكرة بالجيش العراقي، واستطاع تحرير أراضيه ومدنه في منطقة خوزستان، وطرد القوات العراقية خارج الحدود.
ثانياً : إيران تبحث عن السلاح:
أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مختلف مصادر السلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بنظام الشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية، واحتجاز أعضائها كرهائن.
وتمكنت تلك العناصر عن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل عن طريق أثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وهما [أودولف سكويمر]و[يلكوف نامرودي]،بالاشتراك مع تاجر الأسلحة السعودي [عدنان خاشقجي] الذي قام بدور الوسيط؟          .                                                                                               وجدت إسرائيل ضالتها في تقديم الأسلحة إلى إيران، حيث كانت تعتبر العراق يشكل خطراً عليها، وإن إضعافه، وإنهاك جيشه في حربه مع إيران يحقق أهداف إسرائيل.
ولم يكن تصرفها هذا بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة ورضاها                                                                                                                                                                                         إن لم تكن هي المخططة لتلك الصفقات بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب أطول مدة ممكنة فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين.             
وفي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية، وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران.
 وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم.
إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى  تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها، وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى أخطر منها وهي ما سمي بفضيحة [إيران ـ كونترا]على عهد الرئيس الأمريكي [ رونالد ريكان] الذي أضطر إلى تشكيل لجنة تحقيقية برئاسة السناتور [ جون تاور ] وعضوية السناتور [ أدموند موسكي ] ومستشار للأمن القومي [برنت سكوكروفت] ، وذلك في 26 شباط 19987.
 وقد تبين من ذلك التحقيق أن مجلس الأمن القومي الأمريكي كان قد عقد اجتماعاً عام 1983 برئاسة ريكان نفسه لبحث السياسة الأمريكية تجاه إيران، وموضوع الحرب العراقية الإيرانية، وقد وجد مجلس الأمن القومي الأمريكي أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وأن تقديم السلاح لإيران يحقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:
الهدف الأول: يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.
الهدف الثاني: يستهدف تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي.
 وقد قام الكولونيل [ أولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس الذي كان قد أصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى ثوار الكونترا في نيكاراغوا، حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة ضد الحكم اليساري في البلاد في تلك البلاد، والذي جاء عن طريق صناديق الانتخابات.                        .                   وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران بالإضافة
 إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.
وقد أشار تقرير اللجنة الرئاسية كذلك، إلى أن اجتماعاً كان قد جرى عقده بين الرئيس[ريكان] ومستشاره للأمن القومي [مكفرن] عندما كان ريكان راقداً في المستشفى لإجراء عملية جراحية  لإزالة ورم سرطاني في أمعائه، وقد طلب مستشاره الموافقة على فتح خط اتصال مع إيران حيث أجابه الرئيس ريكان على الفور: [أذهب وافتحه].
وبدأ الاتصال المباشر مع إيران حيث سافر [أولفر نورث] بنفسه إلى إيران في زيارة سرية لم يعلن عنها، وبدأت الأسلحة الأمريكية تنهال على إيران، لا حباً بإيران ونظامها الإسلامي، ولا حرصاً على الشعوب الإيرانية، وإنما لجعل تلك الحرب المجرمة تستمر أطول مدة ممكنة.
ولم يقتصر تدفق الأسلحة لإيران، على إسرائيل والولايات المتحدة فقط، وإنما تعدتها إلى جهات أخرى عديدة، ولعب تجار الأسلحة الدوليون دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.

ثالثاً: إسرائيل تضرب المفاعل النووي العراقي
  انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي نظام صدام لبناء برنامجه النووي حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل عبر جواسيسها تتتبّع التقدم العراقي في هذا المجال باستمرار.
وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد، وانغمار العراق في تلك الحرب، مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك.                 
 وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل، مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل، إلا أن العراق استطاع إنقاذ ما مقداره [12,3 كغم] من اليورانيوم المخصب بنسبة 93%  وهي كمية كافية لصنع قنبلة نووية. 
لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية بعد أن غرقوا في خضم تلك الحرب المجنونة، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، ولم يدر في خلدهم أن تلك الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق صدام حسين شعبه بالدماء، ويعم بلاده الخراب والدمار، وينهار اقتصاد العراق.

رابعاً:إيران تستعيد قدراتها وتشن الهجوم المعاكس
في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لطرد القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في الحرب.
لقد بدأت أعداد كبيرة من الإيرانيين بالتطوع في قوات الحرس الثوري مدفوعين بدعاوى دينية استشهادية!، وتدفق الآلاف المؤلفة منهم إلى جبهات القتال، وقد عصبوا رؤوسهم بالعصابة الخضراء، ولبس قسم منهم الأكفان وهم يتقدمون الصفوف.
وفي تلك الأيام من أواسط عام 1982، شنت القوات الإيرانية هجوماً واسعاً على القوات العراقية التي عبرت نهر الطاهري متوغلة في العمق الإيراني، واستطاع الجيش الإيراني مدعوما بالحرس الثوري من تطويق القوات العراقية، وخاض ضدها معارك شرسة ذهب ضحيتها الآلاف من خيرة أبناء الشعب العراقي الذين ساقهم الدكتاتور صدام حسين إلى ساحات القتال، وانتهت تلك المعارك باستسلام بقية القوات العراقية بكامل أسلحتها للقوات الإيرانية.
 واستمر اندفاع القوات الإيرانية عبر نهر الطاهري، وأخذت تطارد بقايا القوات العراقية التي كانت قد احتلت مدينة [خرم شهر]  وطوقت مدينة عبدان النفطية المشهورة، واشتدت المعارك بين الطرفين، واستطاعت القوات الإيرانية في النهاية من طرد القوات العراقية من منطقة [خوزستان]  في تموز من عام 1982، بعد أن فقد الجيش العراقي أعداداً كبيرة من جنوده، وتم أسر أكثر من عشرين ألف ضابط وجندي من القوات العراقية، وغرق أعداد كبيرة أخرى في مياه شط العرب عند محاولتهم الهرب من جحيم المعارك سباحة لعبور شط العرب، وكانت جثثهم تطفوا فوق مياه الشط.
أحدث الهجوم الإيراني هزة كبرى للنظام العراقي وآماله، وأحلامه في السيطرة على منطقة خوزستان الغنية بالبترول، وكان حكام العراق قد ساوموا حكام إيران عليها بموجب شروط المنتصر في الحرب، إلا أن حكام إيران رفضوا شروط العراق، وأصروا على مواصلة الحرب، وطرد القوات العراقية بالقوة من أراضيهم.
وبعد ذلك الهجوم الذي أنتهي بهزيمة العراق في منطقة خوزستان حاول النظام العراقي التوصل مع حكام إيران إلى وقف الحرب، وإجراء مفاوضات بين الطرفين بعد أن وجد نفسه في ورطة لا يدري كيف يخرج منها.
وكانت حجة نظام صدام قيام القوات الإسرائيلية في صيف ذلك العام  1982 باجتياح لبنان واحتلالها للعاصمة بيروت، وفرضها زعيم القوات الكتائبية [ بشير الجميل] رئيساً للبلاد، تحت تهديد الدبابات التي أحاطت بالبرلمان اللبناني لكي يتسنى للعراق تقديم الدعم للشعب اللبناني حسب ادعائه، مبدياً استعداده للانسحاب من جميع الأراضي الإيرانية المحتلة.
 إلا أن حكام إيران وعلى رأسهم [الإمام الخميني] رفضوا العرض العراقي وأصروا على مواصلة الحرب، وطلبوا من حكام العراق السماح للقوات الإيرانية المرور عبر الأراضي العراقية للتوجه إلى لبنان، لتقديم الدعم للشعب اللبناني، وقد رفض صدام حسين الطلب الإيراني كذلك.
 وحاول حكام العراق بكل الوسائل والسبل وقف الحرب، ووسطوا العديد من الدول والمنظمات كمنظمة الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، فقد كان الإمبرياليون يسعون بكل الوسائل والسبل إلى استمرار الحرب، وإفشال أي محاولة للتوسط في النزاع، فقد قتل وزير خارجية الجزائر عندما كان في طريقه إلى إيران، في محاولة للتوسط بين الطرفين المتحاربين، حيث أُسقطت طائرته، ولف الحادث الصمت المطبق، وبقي سراً من الأسرار.
 كما اغتيل رئيس وزراء السويد [ أولف بالمه ] الذي بذل جهوداً كبيرة من أجل وقف القتال، في أحد شوارع العاصمة السويدية، وبقي مقتله سراً من الأسرار كذلك،  وقيل أن توسطه بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال كان أحد أهم أسباب اغتياله، هذا بالإضافة إلى موقفه النبيل من قضايا التسلح النووي، والحرب الفيتنامية التي عارضها بشدة.
 لقد كان إصرار حكام إيران على استمرار الحرب من أعظم الأخطاء التي وقعوا فيها، بل أستطيع تسميتها بالجريمة الكبرى التي لا يمكن تبريرها،  وتبرير موقفهم ذاك بأي حال من الأحوال، فقد أدى استمرار الحرب حتى الأشهر الأخيرة من عام 1988 إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من أبناء الشعبين العراقي والإيراني وبُددت ثروات البلدين، وانهار اقتصادهما، وتراكمت عليهما الديون، وأُجبر حكام إيران على شراء الأسلحة من عدويهما إسرائيل وأمريكا، كما كانت شعاراتهم تقول ولا أحد يعتقد أن الإمام الخميني وحكام إيران لم يكونوا عارفين أن تلك الحرب كانت حرب أمريكية تولى تنفيذها صدام حسين، وتصب في خانة الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية في المنطقة، وكان خير دليل على ذلك قيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد الطرفين بالأسلحة، والمعدات وقطع الغيار، والمعلومات التي كانت تنقلها الأقمار الصناعية التجسسية الأمريكية لكلا الطرفين من أجل إطالة أمد الحرب.
 وعليه فقد كان الإصرار على استمرار الحرب جريمة كبرى بحق الشعبين والبلدين الجارين بصرف النظر عن طبيعة النظام العراقي وقيادته الفاشية  والمتمثلة بصدام حسين وزمرته، والتي كانت تدفع أبناء الشعب العراقي إلى ساحات الموت دفعاً، وحيث كانت فرق الإعدام تلاحق الهاربين من الحرب، أو المتراجعين أمام ضغط القوات الإيرانية في ساحات القتال.
لقد كان أحرى بالنظام الإيراني، وبالإمام الخميني وهو المؤمن بما جاء في القران الكريم من آيات تحض على السلام، إيقاف القتال وحقن الدماء، والعمل بقوله تعالى:
{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله }
 وقوله تعالى في آية أخرى :
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين}
و في آية ثالثة قوله تعالى:
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهم }.
 تلك هي آيات من القرآن الكريم التي تحث على السلام،  وحل المشاكل بالحسنى والعدل، وربما يحاجج النظام الإيراني بأن صدام حسين لا يمكن أن يعتبر مؤمناً، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه هذه الآيات الكريمة هذه، وهنا أعود فأقول أن الذين كانوا يقاتلون في تلك الحرب ليسو صدام حسين وزمرته وإنما الناس الأبرياء من أبناء الشعب والذين ساقهم صدام للحرب عنوة، فهل يُعتبر الشعب العراقي كله في نظر حكام إيران غير مؤمنين؟
ومن جهة أخرى كان النظام الإيراني قد أدرك أن الإمبرياليين يساعدون الطرفين، ويمدونهم بالسلاح والمعلومات العسكرية، أفلا يكون هذا خير دليل على أن تلك الحرب هي حرب أمريكية استهدفت البلدين والشعبين والجيشين من أجل حماية مصالح الإمبرياليين في الخليج، وضمان تدفق النفط إليهم دون تهديد أو مخاطر، وبالسعر الذي يحددونه هم ؟
 ثم ألا يعني استمرار تلك الحرب خدمة كبرى للإمبرياليين، وكارثة مفجعة لشعبي البلدين وللعلاقات التاريخية وحسن الجوار بينهما ؟
 لقد أعترف صدام حسين عام 1990 بعد إقدامه على غزو الكويت في رسالة إلى الرئيس الإيراني [هاشمي رفسنجاني ] أن تلك الحرب كان وراءها قوى أجنبية، حيث ورد في نص الرسالة العبارة التالية:
{إن هناك قوى كانت لها يد في الفتنة}.   
  ولكن صدام حسين لم يقل الحقيقة كاملة، وبشكل دقيق، لأن الحقيقة تقول أن صدام حسين أشعل الحرب بأمر أو تحريض أمريكي، وظن صدام أن بإمكانه تحقيق طموحاته في التوسع والسيطرة، ولعب دور شرطي الخليج بعد أن كانت إيران على عهد الشاه تقوم بهذا الدور، ويصبح للعراق منفذاً على الخليج.
لقد أراد صدام حسين أن يزاوج مصالح الإمبريالية بأطماعه التوسعية، ولكن حسابات البيدر كانت غير حسابات الحقل، كما يقول المثل، ودفع العراق ثمناً غالياً من دماء أبنائه، وبدد صدام حسين ثروات البلاد، واغرق العراق بالديون، ودمر اقتصاده، ودمر البنية الاجتماعية للشعب العراقي، وكان المستفيد من تلك الحرب الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم، وليذهب إلى الجحيم شعبا البلدين المظلومين من قبل حكامهما، ومن قبل الإمبرياليين الذين هم أساس البلاء.
 ربما فكر الإمام الخميني بأن استمرار الحرب يمكن أن يحقق له أهدافاً في العراق، كقيام ثورة [شيعية] تسقط نظام صدام، لكن هذا الحلم كان غير ممكن التحقيق لسبب بسيط وهو أن الإمبريالية لا يمكن أن تسمح بقيام نظام ثانٍ في العراق على غرار النظام الإيراني، ولا حتى تسمح بأن يسيطر صدام حسين على إيران ليشكل ذلك أكبر خطر على مصالحهم في المنطقة، وتسمح لأحد المنتصرين الجلوس على نصف نفط الخليج.
وهذا ما أكده إعلان الرئيس الأمريكي [ جيمي كارتر]  في خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في 23 كانون الثاني من عام 1980 والذي دُعي بمبدأ كارتر، و جاء فيه ما يلي:
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة الأمريكية كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية}.
هذه هي حقائق الوضع في منطقة الخليج، والتي تجاهلها حكام البلدين، ليغرقوا بلديهما وشعبيهما في ويلات أطول حرب شهدها القرن العشرين.

ملاحظة : للمزيد من الاطلاع على تاريخ هذه المرحلة مراجعة كتابنا الموسوم [ سنوات الجحيم ]على موقعنا على الإنترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.com
ِAlhamdany34@gmail.com

369
صدام يتصدر مزوري التاريخ

الانقلاب الصدامي ضد البكر
الحلقة الثالثة

حامد الحمداني                                              8/7/2009

منذُ أن قام صدام حسين بدوره المعروف في الانقلاب الذي دبره ضد شريك البعثيين في انقلاب 17 تموز 968 [عبد الرزاق النايف] بدأ نجمه يتصاعد حيث أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، وبدأ يمارس السلطة كما لو أنه الرئيس الفعلي للبلاد، رغم وجود الرئيس أحمد حسن البكر على قمة السلطة، وأخذ دوره في حكم البلاد يكبر ويتوسع يوماً بعد يوم، وخاصة سيطرته على الحزب والأجهزة الأمنية، والمكتب العسكري. وبدا وكأن صدام يخطط لاستلام القيادة من البكر بحجة كبر سنه ومرضه.
وعندما حلت الذكرى الحادية عشر لانقلاب 17 تموز 1979، فوجئ الشعب العراقي بإعلان استقالة الرئيس البكر في 16 تموز 1979، وتولي صدام حسين قيادة الحزب والدولة، حيث أعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، وقائداً عاماً للقوات المسلحة.
 أما كيف ولماذا تم هذا الانتقال للسلطة من البكر إلى صدام حسين فقد اختلفت أراء المؤرخين والباحثين، إلا أن المتتبع لتطورات الأوضاع السياسية في البلاد، وما أعقبتها من أحداث خطيرة، يستطيع أن يتوصل إلى بعض الخيوط التي حيك بها الانقلاب،ومن كان وراءه!.
أن هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن ذلك الانقلاب كان قد جرى الإعداد له في دوائر المخابرات المركزية الأمريكية، وأن الانقلاب كان يهدف بالأساس إلى جملة أهداف تصب كلها في خدمة المصالح الأمريكية، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
 1ـ ضرورة إفشال أي تقارب بين سوريا والعراق، ومنع قيام أي شكل من أشكال الوحدة بينهما، وتخريب الجهود التي بُذلت في أواخر أيام حكم البكر لتحقيق وتطبيق ميثاق العمل القومي، والذي تم عقده بين سوريا والعراق، حيث أثار ذلك الحدث قلقاً كبيراً لدى الدوائر الأمريكية والإسرائيلية، تحسبا لما يشكله هذا الحدث من خطورة على أمن إسرائيل، فكان لا بد من إفشال المشروع الوحدوي قبل ولادته.

2 ـ احتواء الثورة الإسلامية في إيران، ولاسيما وأن قادة النظام الإيراني الجديد بدأوا يتطلعون إلى تصدير ونشر مفاهيم الثورة الإسلامية في الدول المجاورة، مما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً خطيراً لمصالحها في منطقة الخليج، ووجدت أن خير سبيل إلى منع ذلك هو إشعال الحرب بين العراق وإيران، وأشغال البلدين في حرب سعت الولايات المتحدة إلى جعلها تمتد أطول فترة ممكنة، كما سنرى فيما بعد.

3ـ مكافحة النشاط الشيوعي والإسلامي في البلاد على حد سواء، والتصدي للتطلعات الإيرانية الهادفة إلى نشر أفكار الثورة الإسلامية في المنطقة.

وقد وجدت الإدارة الأمريكية أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين الذي كانت له تطلعات لأن يصبح شرطي الخليج، بعد سقوط نظام الشاه في إيران، وتزعم العالم العربي، فقد طغت هذه المهمة على تفكيره، ووجد في الدور الذي أوكل له خير سبيلٍ إلى تحقيق طموحاته.

كيف جرى تدبير الانقلاب؟
لم يكن الانقلاب الصدامي ضد البكر بمعزل عن المخططات الأمريكية، حيث انتاب القلق الدوائر الحاكمة في واشنطن وتل أبيب من توصل أحمد حسن البكر وحافظ الأسد إلى ميثاق للوحدة بين العراق وسوريا.
وعلى أثر ذلك التقارب بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق، أوفدت الإدارة الأمريكية مساعد وزير الخارجية الأمريكي إلى بغداد، حيث أجرى محادثات مطولة مع الرئيس احمد حسن البكر.
وطال الاجتماع أكثر من ساعتين خرج بعدها الموفد الأمريكي من الاجتماع متجهم الوجه وقد بدا عليه عدم الارتياح.
 ثم أنتقل إلى مكتب صدام حسين، وأجرى معه محادثات أخرى، استمرت زهاء 40 دقيقة خرج بعدها وعلائم السرور بادية على وجهه، وقد علته ابتسامة عريضة.
 لقد بقي ما دار في الاجتماعين سراً من الأسرار، إلا أن بعض المعلومات كانت قد تسربت حول النقاش الذي دار بين مساعد وزير الخارجية الأمريكية من جهة أحمد حسن البكر، ومن ثم مع صدام حسين كانت قد دارت حول نقطتين أساسيتين:

النقطة الأولى: حول تطور العلاقات بين العراق وسوريا، وتأثير هذه العلاقات على مجمل الأوضاع في المنطقة، وبشكل خاص على أمن  إسرائيل.
 النقطة الثانية: حول الأوضاع في إيران بعد سقوط نظام الشاه، واستلام التيار الديني بزعامة [الخميني] السلطة، والأخطار التي يمثلها النظام الجديد على الأوضاع في منطقة الخليج، وضرورة التصدي لتلك الأخطار.
وأشارت المعلومات إلى  أن الموفد الأمريكي سعى لتحريض حكام العراق على القيام بعمل ما ضد النظام الجديد في إيران، بما في ذلك التدخل العسكري المسلح، وقيل أيضاً بأن الرئيس البكر لم يقتنع بفكرة الموفد الأمريكي، وخاصة وأن البكر رجل عسكري يدرك تمام الإدراك ما تعنيه الحرب من ويلات ومآسي، وتدمير لاقتصاد البلاد، ولذلك فقد خرج الموفد الأمريكي من مكتب البكر وقد بدا على وجهه عدم والارتياح،على عكس اللقاء مع صدام حسين، والذي خرج بعد لقائه من المقابلة مسروراً.
وأفادت المعلومات أن صدام حسين قد أبدى كل الاستعداد للقيام بهذا الدور المتمثل بتخريب العلاقات مع سوريا من جهة، وشن الحرب ضد إيران من جهة أخرى، إذا ما دعمته الولايات المتحدة لانتزاع السلطة من أحمد حسن البكر.                                                                           
ولم تمضِ غير فترة زمنية قصيرة حتى جرى إجبار الرئيس البكر بقوة السلاح، من قبل صدام حسين وأعوانه،على تقديم استقالته من كافة مناصبه، وإعلان تولي صدام حسين كامل السلطات في البلاد، متخطياً الحزب وقيادته، ومجلس قيادة الثورة المفروض قيامهما بانتخاب رئيس للبلاد في حالة خلو منصب الرئاسة.
 أحكم صدام حسين سلطته المطلقة على مقدرات العراق، بعد تصفية كل المعارضين لحكمه، ابتداءً من أعضاء قيادة حزبه الذين صفاهم جسدياً بأسلوب بشع، وانتهاءً بكل القوى السياسية الأخرى المتواجدة على الساحة السياسية العراقية.
 لقد أخذت أجهزته القمعية تمارس أبشع الأعمال الإرهابية بحق العناصر الوطنية، من ِشيوعيين، وإسلاميين، وقوميين، وديمقراطيين، وملأ السجون بأعداد كبيرة منهم،  ومارس أقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحقهم، وقضى العديد منهم تحت التعذيب.
لقد كانت ماكنة الموت الصدامية تطحن كل يوم بالمئات من أبناء الشعب لكي يقمع أي معارضة لحكمه، وحتى يصبح مطلق اليدين في اتخاذ أخطر القرارات التي تتحكم بمصير الشعب والوطن، ولكي يعدّ العدة، ويهيئ الظروف المناسبة لتنفيذ الدور الذي أوكلته له الإمبريالية الأمريكية، في العدوان على إيران.

ثالثا:العلاقات العراقية السورية
 رغم أن العراق وسوريا يحكمهما حزب البعث ،إلا أن العلاقات بين الحزبين والبلدين اتسمت دائماً بالخلافات والتوتر الذي وصل إلى درجة العداء والقطيعة لسنين طويلة، وتطور العداء بين الحزبين إلى حد القيام بأعمال تخريبية، وتدبير التفجيرات، ودعم ميشيل عون عسكرياً وتسليحا في حربه ضد القوات السورية في لبنان وغيرها من الأعمال التي أدت إلى القطيعة التامة بين البلدين.
ولاشك أن لأمريكا وإسرائيل دور أساسي في إذكاء العداء والصراع بين البلدين الشقيقين، ذلك لأن أي تقارب بينهما ربما يؤدي إلى قيام وحدة سياسية تقلب موازين القوة بين سوريا وإسرائيل، نظراً لما يمتلكه العراق من موارد نفطية هائلة  وقوة عسكرية كبيرة، بالإضافة إلى ما يشكله العراق من امتداد إستراتيجي لسوريا في صراعها مع إسرائيل، وهذا ما تعارضه الولايات المتحدة وإسرائيل أشد المعارضة.
وفي أواخر عام 1978، وأوائل عام 1979، جرت محاولة للتقارب بين البلدين، تحت ضغط جانب من أعضاء القيادة في كلا الحزبين السوري والعراقي.
 وقد أدى ذلك التقارب إلى تشكيل لجان مشتركة، سياسية واقتصادية وعسكرية ،على أثر توقيع ميثاق للعمل القومي المشترك الذي وقعه الطرفان في تشرين الأول عام 1978، وقد أستهدف الميثاق بالأساس إنهاء القطيعة بين الحزبين، والبلدين الشقيقين، وإقامة وحدة عسكرية تكون الخطوة الأولى نحو إقامة الوحدة السياسية بين البلدين.
 كان وضع سوريا في تلك الأيام قد أصبح صعباً، بعد أن خرجت مصر من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي، وعقد السادات اتفاقية [ كامب ديفيد] مع إسرائيل مما جعل القادة السوريين يقرون بأهمية إقامة تلك الوحدة للوقوف أمام الخطر الإسرائيلي.
وبالفعل فقد تم عقد عدد من الاتفاقات بين البلدين، وأعيد فتح الحدود بينهما، وجرى السماح بحرية السفر للمواطنين، كما أعيد فتح خط أنابيب النفط [التابلاين] لنقل النفط إلى بانياس في سوريا الذي كان قد توقف منذُ نيسان 1976.
وفي 16 حزيران 1979 تم عقد اجتماع بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي أحمد حسن البكر في بغداد، ودامت المحادثات بين الرئيسين ثلاثة أيام، وأعلنا في نهايتها أن البلدين سيؤلفان دولة واحدة برئيس واحد، وحكومة واحدة وحزب واحد، وأعلنا تشكيل قيادة سياسية مشتركة تحل محل اللجنة السياسية العليا التي جرى تشكيلها بموجب اتفاق تشرين الأول 978 ، والتي ضمت 7 أعضاء من كل بلد، يترأسها رئيسا البلدين، وتجتمع كل ثلاثة أشهر لتنسيق السياسات الخارجية والاقتصادية والعسكرية.

تدهور العلاقات العراقية السورية

لم يمضِ سوى شهر واحد على الاتفاق الذي عقده البكر والأسد حتى أزيح البكر عن السلطة بقوة السلاح، وتولى صدام حسين قيادة الحزب والدولة في العراق، وبدا بعد إقصاء البكر، أن هزة عنيفة قد ألمت بالعلاقة بين قيادة  البلدين والحزبين، وبدأت الغيوم السوداء تغطي سماء تلك العلاقة.
 ففي 28 كانون الأول 1979، جرى لقاء قمة بين الأسد وصدام في دمشق دام يومين، وقد ظهر بعد اللقاء أن الخلافات بين القيادتين كانت من العمق بحيث لم تستطع دفع عملية الوحدة إلى الأمام، بل على العكس تلاشت الآمال بقيامها.
وهكذا بدأت العلاقة بالفتور بين البلدين من جديد، واتهمت سوريا القيادة العراقية بوضع العراقيل أمام تنفيذ ما أتُفق عليه في لقاء القمة بين الأسد والبكر.
 أدى هذا التدهور الجديد في العلاقة بين الحزبين إلى وقوع انقسام داخل القيادة القطرية في العراق، فقسم وقف إلى جانب الاتفاق المبرم بين الأسد والبكر، وقسم وقف إلى جانب صدام حسين، فما كان من صدام إلا أن أتهم الذين أيدوا الاتفاق بالاشتراك بمؤامرة مع سوريا على العراق، وجرى اعتقالهم وتعذيبهم حتى الموت، ثم أعلن صدام حسين عبر الإذاعة والتلفزيون أن هذه المجموعة قد تآمرت على العراق، وأحيلت إلى محكمة حزبية برئاسة نعيم حداد عضو القيادة القطرية، حيث قررت الحكم عليهم جميعا بالإعدام، لكنهم كانوا قد قتلوا تحت التعذيب عندما أعلن راديو وتلفزيون بغداد تنفيذ الأحكام بحقهم.
غير أن ادعاء صدام وزمرته بأن هذه المجموعة قد تآمرت على النظام كان محض كذب وافتراء، والحقيقة أنها أرادت تحقيق الوحدة أولاً، والتخلص من دكتاتورية صدام حسين ثانياً، بعد أن أغتصب السلطة من البكر بقوة السلاح.
وهكذا ذهبت الآمال بتحقيق الوحدة أدراج الرياح، وتدهورت العلاقة بين البلدين من جديد، وفرض صدام حسين سلطته المطلقة على قيادة الحزب والدولة دون منازع، وأصبح العراق ملجأ لكل المناوئين للحكم في سوريا ابتداءً من [أمين الحافظ] و [ميشيل عفلق ] وانتهاءً بالإخوان المسلمين الذين لجئوا إلى العراق بأعداد كبيرة، بعد فشل حركتهم في مدينة حماه عام 1982 .
ولم يقتصر تدهور العلاقات بين البلدين على القطيعة، والحملات الإعلامية، بل تعداها إلى الصراع العنيف بين الطرفين على الساحة اللبنانية، حيث أدخلت سوريا عدد من قطعاتها العسكرية في لبنان ضمن قوات الردع العربية لمحاولة وقف الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975،غير أن القوات المشتركة العربية انسحبت من لبنان فيما بعد تاركة القوات السورية لوحدها هناك.
 وانتهز صدام حسين الفرصة ليرسل إلى القوى المعادية لسوريا بزعامة ميشيل عون الذي سلمه الرئيس اللبناني أمين الجميل رئاسة الوزارة، السلاح والعتاد والعسكريين لمقاتلة الشعب اللبناني والقوات السورية والفلسطينية، وأصبح لبنان مسرحاً للصراع بين البلدين، واستمر الحال في لبنان حتى سقوط حكومة [ميشيل عون] حليف صدام ضد سوريا، وانتهاء الحرب الأهلية، وانعقاد مؤتمر الطائف للأطراف اللبنانية المتصارعة لحل الخلافات بينهم، وإعادة الأمن والسلام إلى ربوع لبنان الذي مزقته تلك الحرب التي دامت خمسة عشر عاماً.
 وهكذا حقق صدام حسين للإمبريالية الأمريكية ما كانت تصبو إليه، حيث عادت العلاقات بين سوريا والعراق إلى نقطة الصفر من جديد، وتحقق الهدف الأول الذي رسمته له، وبدأت تتفرغ للهدف الثاني الهام، هدف التصدي للنظام الإيراني الجديد،  وخلق المبررات لصدام لشن الحرب على إيران في الثاني والعشرين من أيلول عام 1980، تلك الحرب التي كانت لها نتائج وخيمة على مستقبل العراق وشعبه، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، وكانت سبباً مباشراً لأقدام صدام حسين على غزو الكويت، وبالتالي قيام حرب الخليج الثانية، التي جلبت على العراق وشعبه من ويلات لم يسبق لها مثيل، ثم تلتها حرب الخليج الثالثة التي انتهت بإسقاط نظام صدام في التاسع من نيسان 2003، والاحتلال الأمريكي للعراق، وما حل بالعراق من خراب ودمار، وحرب طائفية مزقت النسيج الاجتماعي العراقي.
البعثيون والعلاقات العراقية الإيرانية
 اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر، والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي ] حيث قام النظام الصدامي في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية، المتعلقة باقتسام مياه شط العرب، بموجب [خط التالوك] الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين، أحدهما للعراق والآخر لإيران، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود، واستمرت زمناً طويلاً، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي، واضطر النظام العراقي إلى التراجع، ووسط الرئيس الجزائري [هواري بو مدين ] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين.
 وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية، وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975، وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، وتم وقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع صدام إنهاءها، وإعادة بسط سيطرته على منطقة كردستان من جديد.
وفي عام 1979 في أواخر عهد البكر وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية.
 أتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدت أيامه معدودة.
كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول  ديني يقوده الخميني من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري يقوده التيار اليساري، ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ.
 لكن التيار الشيوعي كان يقلقها بالغ القلق، نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولاً، ولكونها ثاني بلد منتج للنفط في المنطقة ثانياً، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً. وبناء على ذلك فإن مجيء قوى اليسار إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج في نظرهم، وهذا يشكل تهديداً للمصالح الأمريكية النفطية، ولذلك فقد اختارت الولايات المتحدة [أهون المرين] بالنسبة لها طبعاً، وهو القبول بالتيار الديني  خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس لتسلم زمام الأمور، بعد هروب الشاه من البلاد. وهكذا تمكن التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.
 إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، بعد أن أقدم النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز السافاك الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.
وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الحرس الثوري الإيراني واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد، وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران، قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه واحتوائه.
وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحد.
 فالعراق وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما  تطلعات خارج حدودهما، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين، وجعل الحرب تمتد لأطول مدة ممكنة، بحيث لا يخرج أحد منهما منتصراً، ويصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما، وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.
 وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجرمة، وأوعزت لصدام حسين  بمهاجمة إيران، والاستيلاء على منطقة خوزستان[ عربستان ] الغنية بالنفط،، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط  يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية .   
لم يدرِْ بخلد صدام حسين ما تخبئه له الأيام  ولا كم ستدوم تلك الحرب؟
وكم ستكلف الشعب العراقي من الدماء والدموع، ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة، التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.
لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وعلى رأسهم الرئيس [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين حيث صرح الرئيس ريكان حول تلك الحرب قائلاً:
{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة}.
 وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق  الشعبين والبلدين معاً، طالما أعتبر البلدان، بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب بالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.
أما هنري كيسنجر الصهيوني المعروف، ومنظّر السياسة الأمريكية فقد صرح قائلاً :{ إن هذه هي أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج أحد منها منتصراً، وإنما يخرج الطرفان منها مهزومين}.
وطبيعي أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً، ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات  والماسي والدموع للشعبين بما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.
لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم، وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون وصور الأقمار الصناعية تلك المجازر التي بلغت أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في معركة تحرير الفاو وحدها 50 ألف ضحية من الجانب العراقي باعتراف صدام نفسه.
 لقد كانت مصالحهم الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب، ولو أن تلك الحرب وقعت في أوربا، أو أمريكا، أو بين العرب وإسرائيل لسارع الإمبرياليون إلى وقفها فوراً، وبذلوا الجهود الكبيرة من أجل ذلك.
أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن صدام حسين قد حارب نيابة عنهم، ولمصلحتهم بكل تأكيد، وأن لا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها، وإن الشعب الإيراني شعب جار تربطه بنا علاقات تاريخية عميقة، تمتد جذورها لقرون عديدة، على الرغم من طبيعة النظام الإيراني، حيث سيطر رجال الدين على مقاليد الحكم في البلاد.
 كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة، واحتلاله مناطق شاسعة من الأراضي الإيرانية دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني.
لكن ذلك التقدم لم يدم طويلاً، وتمكن الجيش الإيراني من طرد القوات العراقية الغازية من إقليم خوزستان شّر طردة في عام 1982، مكبداً القوات العراقية خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، بالإضافة إلى  الأسرى الذين تجاوز عددهم عشرين ألفاً، وعاد صدام حسين يناشد القيادة الإيرانية وقف الحرب بين البلدين.
لكن القيادة الإيرانية بزعامة الخميني رفضت رفضاً قاطعا وقف الحرب مصرة على احتلال العراق من خلال دعواها بأن الحرب ستستمر حتى إسقاط نظام صدام حسين. على الرغم من كل الجهود التي بذلتها أطراف دولية وشخصيات سياسية بارزة، ولنا عودة إلى تلك الحرب، وتفاصيل مجرياتها، في الحلقة القادمة .

ملاحظة : للمزيد من الاطلاع على تاريخ هذه المرحلة مراجعة كتابنا الموسوم [ سنوات الجحيم ]على موقعنا على الإنترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.com
ِAlhamdany34@gmail.com


370
صدام يتصدر مزوري التاريخ
هكذا جرى انقلاب 17 تموز 1968
الحلقة الثانية

حامد الحمداني                                                         7/7/2009

أولاً: موقف الشعب العراقي من انقلاب 17  تموز 1968:
قابل الشعب العراقي انقلاب 17  تموز بالقلق البالغ وعدم الارتياح، بسبب التاريخ الدموي للبعثيين، عندما جاءوا إلى الحكم إثر انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، واغرقوا البلاد بالدماء، واستباحوا حرمات المنازل، وزجوا بمئات الألوف من الوطنيين في غياهب السجون، ومارسوا أبشع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي ضدهم، وفصلوا عشرات الألوف من أعمالهم، ووظائفهم، ومدارسهم، وكلياتهم، وصفوا كل مكاسب ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة.
وفي الوقت نفسه شعر البعثيون بالضعف، بسبب ابتعاد جماهير الشعب عنهم، ودفعهم خوفهم من فقدان السلطة إلى اللجوء إلى الأساليب الوحشية والعنيفة لإخافة القوى العسكرية والسياسية، ومنعها من القيام بأي تحرك ضد سلطتهم، وقد توجوا عملهم ذلك بحملة إعدامات وحشية لعدد من المواطنين، بتهمة التجسس للأجنبي!!، وتعليقهم بصورة وحشية في ساحة التحرير، فقد أعدم البعثيون 29 ضابطاً وضابط صف رمياً بالرصاص، بالإضافة إلى 12 مدنياً أُعدموا شنقاً.
كما أقدم البعثيون على إعدام 77 ضابطاً، في 7 شباط 1969، بتهمة الاشتراك في محاولة انقلابية مزعومة بقيادة الزعيم الركن عبد الغني الراوي، شريكهم في جريمة انقلاب 8 شباط 1963، والذي تمكن من الأفلات والهرب إلى إيران.
لقد جرت حملة الإعدامات تلك، بعد محاكمات صورية سريعة، من قبل طه ياسين رمضان،الملقب بالجزراوي، ولقبه الشعب العراقي بالجزار، وبمعيته عدد من أعضاء القيادة القطرية للحزب، وجميعهم لا يحملون أية صفة قانونية، وخلال دقائق معدودة كانت المحاكمات تجري وتصدر أحكامها، وتنفذ الإعدامات بالضباط المتهمين بالمحاولة الانقلابية المزعومة، وقد ظهر بعد ذلك أن العديد من أولئك المعدومين ثبت عدم تورطهم بأية محاولة انقلابية، وتم إرسال رسائل اعتذار إلى ذويهم !!.
وبصرف النظر عن صحة أو كذب وقوع تلك المحاولة، فقد كان هدف البعثيين إفهام القوى السياسية والعسكرية أن حزب البعث سوف يضرب بيدٍ من حديد كل من يفكر بالتصدي لحكمه، أو معارضته.
ثانياًً:صدام حسين الشخصية الثانية في السلطة البعثية:

عُرف صدام لدي الشعب العراقي لأول مرة عند اشتراكه في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1959، وكان لا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، حيث فشلت المحاولة، وهرب صدام  ومعه عدد من زمرة الاغتيال إلى سوريا، ثم أنتقل منها إلى القاهرة، بضيافة الحكومة المصرية، وبقي هناك حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963،  حيث عاد إلى العراق ليساهم مع زمر القتلة في عمليات التعذيب والقتل الوحشية ضد الشيوعيين، وسائر الوطنيين الديمقراطيين.
وخلال فترة بقائه في القاهرة تلقفته السفارة الأمريكية لتجنيده لمصلحة المخابرات الأمريكية، فقد ذكر وزير الدفاع السوري [مصطفى طلاس] في مقابلة صحفية مع صحيفة الشرق الأوسط، بأن الرئيس عبد الناصر قد أخبره عند مقابلته له في القاهرة لتعزيته باستشهاد الفريق رئيس أركان الجيش المصري [عبد المنعم رياض] خلال حرب الاستنزاف عام 1969، أن صدام حسين هو رجل أمريكا الأول في المنطقة، وإنه كان دائم التردد على السفارة الأمريكية بالقاهر، وأن المخابرات المصرية قد صورت ورصدت كل تحركاته واتصالاته بالسفارة الأمريكية!!.
ولد صدام حسين في 28 نيسان 1937، من أب غير معروف عنه شيئاً، حيث أن صدام كان قد عاش في كنف خاله الضابط المتقاعد خير الله طلفاح مسلط.
 كان صدام حسين يظهر ميولاً عدوانية منذُ بداية نشأته، وعندما صار صبياً أقترف أول جرائمه بقتله أحد أقربائه الشهيد الحاج سعدون، مسؤول الحزب الشيوعي في تكريت، كما حاول قتل أحد مدرسيه حيث أطلق عليه الرصاص وطرد على أثر ذلك من المدرسة.
أنخرط صدام حسين في صفوف حزب البعث بعد ثورة 14 تموز1958، ولعب دوراً بارزاً في أعمال الاعتداء والإجرام الذي مارسه الحزب ضد العناصر الوطنية، وقد حكمت عليه محكمة الشعب بالإعدام لاشتراكه في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.
وعندما عاد حزب البعث إلى الحكم بعد انقلاب 17 ـ 30 تموز ليمارس أعمال التعذيب والقتل في قصر النهاية ضد العناصر الوطنية من الشيوعيين والقاسميين، وبدأ نجمه بالصعود بعد تنفيذ الانقلاب الثاني على كتلة عبد الرزاق النايف - إبراهيم عبد الرحمن الداوؤد، شركائهم في انقلاب 17 تموز، بعد ثلاثة عشر يوماً، حيث لعب صدام الدور الرئيسي في اعتقال وتسفير النايف، حيث جرى تعينه نائباً لمجلس قيادة الثورة
الذي جرى تشكيله فور إزاحة النايف والداؤد.
وبدأ صدام يعزز مركزه في النظام البعثي الجديد حتى تسنى له الانقلاب على سيده أحمد حسن البكر عام 1979، وأعلن نفسه رئيساً للجمهورية، وقائداً عاماً للقوات المسلحة، ومنح نفسه رتبة [مهيب ركن]، وهي أعلى رتبة عسكرية في الجيش، رغم كونه لم يسبق أن أدى حتى الخدمة العسكرية في حياته، وأصبح هو القائد، والمخطط لحروبه العدوانية ضد إيران، والكويت، وحرب الخليج الثانية، وحرب الخليج الثالثة التي انتهت بسقوط حكمه الكريه، دافعاً بمئات الألوف من الشباب العراقي إلى محارق الموت، وجالباً للشعب العراقي من الويلات والماسي ما يعجز القلم عن وصفها.

ثالثاً: الصراع داخل قيادة حزب البعث:

لم تكد تمضِ غير مدة قصيرة على حكم حزب البعث حتى طغى الصراع داخل قيادة الحزب على سطح الأحداث، فقد سعى صدام حسين منذُ الأيام الأولى لانقلاب 30 تموز 968 إلى تعزيز سلطته على سائر قيادي الحزب بمختلف الأساليب، سواء بتدبير حوادث السيارات، أو الاغتيال، أو السجن، أو الإعفاء من المناصب.
ففي 15 تشرين الأول 1970 صدر مرسوم جمهوري بإعفاء حردان التكريتي من منصبه كقائد عام للقوات المسلحة، وانتهى فيما بعد بالقتل غيلة في الكويت.
وفي 28 أيلول 1971 صدر مرسوم جمهوري بإعفاء صالح مهدي عماش من منصب نائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، وانتهى فيما بعد إلى القتل بالسم.
 وفي نفس العام جرى طرد وزير الخارجية، وعضو القيادة القطرية  وعضو مجلس قيادة الثورة عبد الكريم الشيخلي، وانتهى به المطاف إلى القتل غيلة في أحد شوارع بغداد.
كما قُتل الدكتور ناصر الحاني ،عرّاب انقلاب 17 تموز، وصلة الوصل بين كتلة النايف وحزب البعث من جهة والمخابرات الأمريكية مدبرة الانقلاب من جهة أخرى، في محاولة لطمس أسرار الانقلاب وارتباطه بالمخابرات الأمريكية، وجرى تقطيع جثته ووضعت في كيس والقي الكيس  تحت أحد جسور بغداد. وبدأ صدام حسين الذي كان مسؤولاً عن جهاز حنين، الخاص بتنفيذ الاغتيالات، بتنفيذ سلسلة واسعة من الاغتيالات شملت قادة بارزين في حزب البعث من المدنيين والعسكريين كان من بينهم
كل من:
1 ـ اللواء الركن إبراهيم فيصل الأنصاريـ معاون رئيس أركان الجيش.
2 ـ أحمد العزاوي ـ عضو القيادتين القطرية والقومية ـ فُجرت سيارته.
3 ـ اللواء بشير الطالب ـ المنسق مع الأمريكيين لانقلاب 17 تموز.
4 ـ تركي سعيد عبد الباقي ـ قيادي بعثي قتل في السجن عام 1982.
5 ـ جاسم مخلص التكريتي ـ شقيق مولود مخلص قتل في التسعينات.
6ـ جعفر العيد ـ عضو القيادة القطرية ـ قتل مسموماً بالثاليوم.
7 ـ العميد جابر حسن حداد ـ أحد المساهمين في انقلاب 8 شباط ـ اعدم.
8 ـ حامد الدليمي ـ عضو المكتب العسكري ـ قتل في السجن.
9 ـ اللواء الركن حامد الورد ـ أعدم في نيسان 1989.
10 ـ حسن محمد رضا الذهب ـ عضو القيادة القطرية ـ قتل في السجن
11ـ العميد حميد التكريتي ـ سكرتير البكر ـ قتل عام 79 قبيل الانقلاب على البكر.
12ـ فؤاد الركابي ـ  أمين سر القيادة القطرية في الخمسينات قتل في السجن
13 ـ الدكتور راجي التكريتي قتل بصورة بشعة بتهمة التآمر على صدام.
14 ـ رشيد مصلح ـ الحاكم العسكري ـ اعدم بتهمة العمالة للمخابرات الأمريكية.
15 ـ العميد رياض القدو ـ  قائد فرقة قتل في السجن بصورة بشعة.
16ـ الدكتور رياض حسين ـ وزير الصحة ـ قائد بعثي ـ قتل على يد صدام
17 ـ العميد طارق حمد العبد الله ـ مدير مكتب البكر، ووزير الصناعة قتل في بيته وادعى نظام صدام أنه انتحر.
18 ـ طاهر يحيى ـ رئيس وزراء ـ سجن وعذب في قصر النهاية وتوفي بعد خروجه من السجن بأيام .
19ـ اللواء الركن صلاح عبود التكريتي ـ قتل بحادث سيارة مدبر.
20 ـ اللواء الركن سعدون غيدان ـ أحد أعمدة انقلاب 17 تموز قتل مسموماً
21 ـ شفيق الكمالي ـ عضو القيادتين القطرية والقومية قتل مع ابنه.
22ـ شاذل طاقة ـ وزير الخارجية ـ مات مسموماً بالثاليوم.
23 ـ عبد الكريم هاني ـ وزير بعثي بعد انقلاب 8 شباط قتله النظام عام 93 بتهمة التآمر على نظام صدام.
24ـ عبد الرحمن البزاز ـ رئيس وزراء سابق ـ سجن وعذب في قصر النهاية وتوفي بعد إطلاق سراحه بأيام.
25 ـ العميد الركن مصطفى نصرت عضو مجلس قيادة الثورة وعضو المكتب العسكري، والذي قاد  الهجوم على وزارة الدفاع في انقلاب 8 شباط،  قتل وهُدم بيته، وادعى النظام أن القتل كان لأسباب أخلاقية.
25 ـ اللواء الركن عدنان خير الله طفاح ـ وزير الدفاع ـ قتل في حادث طائرة سمتية مدبر من قبل صدام شخصياً .
26 ـ اللواء الركن عبد العزيز العقيلي ـ وزير دفاع ـ قتل تحت التعذيب.
27ـ مرتضى الحديثي ـ وزير الخارجيةـ وعضو القيادة القطرية ـ قتل تحت التعذيب الشديد لفترة طويلة وسلمت جثته لزوجته وكان وزنه 30 كيلو غرام .
28ـ عبد الخالق السامرائي عضو القيادتين القطرية والقومية، ومنظر الحزب، حُكم عليه بالسجن لمدة طويلة ، ثم جرى إعدامه دون محاكمة بتهمة المشاركة في مؤامرة على نظام صدام.
ويطول الحديث عن المئات من الذين قتلوا على يد نظام صدام، إما بالإعدام ، أو بحوادث السيارات، أو بالسجن والتعذيب، أو بالتسميم بالثاليوم، وكل ذلك جرى لكي لا يدع صدام أي منافس له لخلافة البكر.
ولم ينته مسلسل التنكيل والقتل الذي مارسه صدام حسين مع رفاق حزبه أبداً، وما هذه سوى أمثلة قليلة من تلك الجرائم التي توّجها صدام حين قام بالانقلاب على سيده وولي نعمته البكر بقتله اثنان وعشرين من قادة الحزب بأبشع أساليب التعذيب، ومن ثم تصفية البكر نفسه الذي مات مسموماً كما اعترف بذلك صهر صدام حسين كامل.
كان واضحاً أن حردان التكريتي وصالح مهدي عماش يمثلان عقبة كأداء أمام صدام حسين من أجل بسط سيطرته على الحزب والدولة، وبإزاحتهما تم له ما أراد، وأصبح الحاكم الفعلي للعراق في الوقت الذي كان فيه أحمد حسن البكر على قمة الحكم، حيث كان المشرف على كافة الأجهزة الأمنية، والمخابراتية، والتي  استخدمها في إزاحة، وتصفية كل من أعتقد أنه عقبة أمام طموحه بالوصول إلى قمة السلطة.

رابعاً: محاولة ناظم كزار الانقلابية:
ناظم كزار الجلاد الذي عينه الانقلابيون يوم 30 تموز1968 مديراً للأمن العام كان معروفٌ جيداً لدى أبناء الشعب العراقي جميعاً يكونه جزار البعث أيام حكم الحزب بعد انقلاب 8 شباط 1963، حيث كان يترأس الهيئة التحقيقية التي ضمت عمار علوش وخالد طبرة وعباس الخفاجي وآخرون، والتي اتخذت من بناية محكمة الشعب مقراً لها، ومارست أبشع أساليب التعذيب والقتل بحق الشيوعيين وسائر الوطنيين، وصارت جرائمهم تتردد على كل لسان.
وبعد انقلاب البعثيين على شريكهم النايف في 30 تموز 1968 جرى تعينه مديراً للأمن العام بالنظر لما عرف عنه من الجرائم بعه انقلاب 8 شباط.
 كان لناظم كزار طموح لا حدود له، وكان هدفه الوصول إلى قمة السلطة، وقد وجد الفرصة سانحة له بعد توليه لرئاسة جهاز الأمن لكي ينتزع السلطة من الثنائي البكر وصدام.
 لعب صدام دوراً في دفع ناظم كزار إلى المغامرة من خلال خطة خبيثة لضرب عصفورين بحجر واحدة، فإذا نجحت الخطة تولى هو الرئاسة، وإن فشلت تخلص من ناظم كزار الرجل القوي في الجهاز الأمني.
 وهكذا جرى تدبير الخطة لاغتيال البكر مع مجموعة من البعثيين في 30 حزيران 1973 إثناء استقبال البكر في المطار بعد عودته من بلغاريا، واستطاع كزار استدراج وزير الدفاع [حماد شهاب] ووزير الداخلية [سعدون غيدان] واعتقالهما.
لكن الحركة الانقلابية لم تكن معدة بالشكل الذي يمكنها من النجاح، وسرعان ما تهاوت وفشلت، وحاول ناظم كزار الهرب إلى إيران، بعد أن اخذ الوزيرين كرهائن.
 إلا أن قوات الحكومة لحقته، مما دفعه الموقف الصعب الذي وجد نفسه فيه، إلى قتل حماد شهاب، وإصابة سعدون غيدان بجروح بالغة، قبل أن يلقى القبض عليه، وعلى العديد من أعوانه، وإعادتهم إلى بغداد، حيث جري تعذيبهم بصورة بشعة، تماماً كما كان كزار يفعل مع الشيوعيين، وتم قتلهم جميعا تحت التعذيب في 8 تموز 973.
 كما جرى إعدام أحد أعوانه المدعو [ محمد فاضل] الذي كان يشغل منصب رئيس المكتب العسكري للحزب في اليوم التالي المصادف 9 تموز 1973.
 أستغل صدام حسين تلك المحاولة للتخلص من أقوى القيادات الحزبية، منظّر الحزب، وانضج القيادات فيه [عبد الخالق السامرائي] بدعوى كاذبة بعلاقته بمحاولة ناظم كزار،  حيث حكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً، وأودع سجن أبو غريب، ثم أعدمه صدام حسين بعد قيامه بانقلابه ضد البكر، واستلامه السلطة بتهمة اشتراكه في مؤامرة لقلب حكمه رغم كونه يقبع في السجن منذُ عدة أعوام، فقد كان صدام يخشاه وهو في السجن، بالنظر لمنزلته بين رفاق حزبه.

عاشراً: صدام حسين ينشئ الجيش الشعبي
كان شعور حزب البعث بالضعف، وعدم تجاوب الشعب مع سياسته،لا بل كرهه لهذا الحزب، الذي أذاق الشعب المرارة يوم انقلاب 8 شباط الأسود، وبعد انقلاب 30 تموز 968 . كان خوف البعثيين من أن يقوم الجيش بمحاولة الإطاحة بحكمهم.
 ولذلك فقد تفتق ذهن صدام حسين في إنشاء جيش حزبي أطلق عليه اسم [الجيش الشعبي]، بدلاً من الحرس القومي السيئ الصيت.
مارس البعثيون مختلف وسائل الضغط والإكراه لإجبار المواطنين على الانخراط في صفوف الحزب أولاً، ومن ثم في صفوف الجيش الشعبي، حتى أصبح واجباً على كل حزبي الانخراط فيه، وسعوا إلى تسليحه وإعطائه الصلاحيات الواسعة لملاحقة الوطنيين، وتقديم التقارير الحزبية عن أي نشاط مشكوك فيه ضد السلطة.
كما قام البعثيون بإدخال أعداد كبيرة من عناصرهم في دورات قصيرة لتخريجهم ضباطاً خلال ستة أشهر، في محاولة للسيطرة علي الجيش.
لقد دفع البعثيون المواطنين قسراً للانضمام لحزبهم، وتعرض الذين رفضوا الانتماء إلى ضغوط هائلة، وتهديدات، واتهامات باطلة، فقد كان البعثيون يوجهون تهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي، أو حزب الدعوة الإسلامية، لكل من يرفض الانتماء لحزبهم، ومعلوم أن السلطة البعثية كانت قد أصدرت قانوناً يحكم بالإعدام على من ينتمي إلى حزب غير مجاز.
 وهكذا فقد انضوى تحت جناح حزب البعث أعداد كبيرة من المواطنين خوفاً ورعباً من أساليب البعث القمعية والوحشية، كما أنضوي أعداد كثيرة من الناس حباً في نيل المكاسب والوظائف، وجني الأرباح والمغانم.
كما سيطر حزب البعث على كافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية وأجبروا أعضاءها على الانتماء لحزبهم، وأصدروا قانوناً يحكم بالإعدام على كل عضو في الحزب انتمى إلى حزب آخر، وكان قد أنسحب من حزب البعث.
كما بدءوا بتغير المناهج والكتب المدرسية، مستهدفين غسل أدمغة الطلاب بشعارات البعث الكاذبة، والبعيدة كل البعد عن الحقيقة، ووجهوا وسائل الإعلام، من إذاعة وتلفزيون وصحافة، والكتب التي تمجد حزب البعث وشعاراته في الوحدة والحرية والاشتراكية!!، والتي عمل الحزب على الضد منها تماماً طيلة سنوات حكمه.

خامساً:النظام البعثي يحاول التقرب من الشعب وقواه السياسية
شعر نظام البعث أن سياسته الإرهابية تجاه جماهير الشعب، وإجبارها بمختلف أساليب الضغط والإكراه للانتماء لحزب البعث جعلها تزداد نفوراً منهم، وتتمنى أن تشهد ساعة الخلاص من حكمهم  الفاشي، ولذلك فقد حاول حزبهم التخفيف من هذا الشعور، وتبييض صفحتهم السوداء في عيون الشعب،عن طريق القيام بعدد من الإجراءات التي يمكن أن تُكسبهم شيئاً من السمعة، والتعاطف معهم، وكانت أهم تلك الإجراءات:

1ـ محاولة حل المشكلة الكردية التي كانت تقلقهم كثيراً، وتستنزف الكثير موارد البلاد، إضافة إلى الخسائر البشرية الجسيمة، ولذلك فقد سارعوا إلى إصدار بيان 21 آذار المعروف، وأعلنوا اعترافهم بحقوق الشعب الكردي!.

 2ـ حاول النظام كسب الفلاح العراقي إلى جانبه، حيث قام ببعض الإجراءات التي تؤثر على وضعه الاقتصادي والاجتماعي، فقد أصدر قرارا منع بموجبه طرد الفلاحين من أرضهم لأي سبب كان، كما ألغى النظام حق اختيار الإقطاعي للأرض، والغوا مبدأ التعويض للإقطاعي عن الأراضي المصادرة بموجب قانون الإصلاح الزراعي.
 كما خفض الحد الأقصى لمساحة الأرض التي يحق للإقطاعي الاحتفاظ بها إلى 2000  دونم كحد أعلى، وادخل التأمين الصحي في الريف، وربط عدداً كبيراً من القرى بشبكة القوة الكهربائية، كما جرى استصلاح حوالي 4 ملايين دونم من الأراضي الزراعية، وخفض أسعار الآلات الزراعية والأسمدة، وأنشأ الأسواق الشعبية للفواكه والخضروات دون وساطة.
 كان هدف النظام من كل هذه الإجراءات جر الفلاح العراقي إلى صفوف حزب البعث، حيث كان الفلاحون يدينون بالولاء لثورة 14 تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، الذي أصدر قانون الإصلاح الزراعي بعد قيام الثورة عام 1958، وحررهم من نير الإقطاع.    
                    
3 ـ وفي المجال القومي، أخذ النظام يزايد على القضية الفلسطينية، معلناً رفضه للقرار رقم 242، الصادر من مجلس الأمن الدولي عام  1967، كما أعلن رفضه لمشروع [ روجرز] لوقف حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل عام 1970، واخذ يتهجم على الرئيس عبد الناصر،عبر الإذاعة والتلفزيون، والصحافة، لقبوله بالمشروع، وإعطائه فرصة للحل السلمي، في الوقت الذي كان الرئيس عبد الناصر يعمل بأقصى جهده على تقوية الجيش المصري، وتهيئته للمعركة الفاصلة مع العدو إسرائيل، إذا لم تنسحب من جميع الأراضي العربية المحتلة في حرب حزيران 1967.
                                                          
 4 ـ حاول النظام كسب جماهير الشعب، من خلال مسألة النفط، والعلاقات مع الشركات النفطية، ومسألة استغلال حقل الرميلة الشمالي وطنياً.
 ففي نيسان 1972، بدأ العراق بالإنتاج في الحقل المذكور، بمساعدة الاتحاد السوفيتي، مما أثار حنق الشركات النفطية الاحتكارية العاملة في العراق، والتي قررت معاقبة العراق، ولجأت إلى تخفيض الإنتاج في حقول كركوك من 57 مليون طن سنوياً إلى 30 مليون، وقد أدى ذلك الإجراء إلى انخفاض كبير في مداخيل العراق من واردات النفط، وكان له بالغ التأثير على الوضع الاقتصادي للبلاد.
حاول النظام إقناع شركات النفط بالرجوع عن قرار خفض الإنتاج دون جدوى، مما دفع حكومة البعث، بعد مفاوضات طويلة مع شركات النفط الاحتكارية، إلى الإقدام على تأميم شركة نفط العراق في1 حزيران 1972، وأدى هذا القرار إلى تصاعد حمى الصراع، وإعلان مقاطعة النفط العراقي، مسببين للعراق أزمة اقتصادية خانقة عكست آثارها على حياة جماهير الشعب، حيث أقدمت حكومة البعث على اقتطاع 10 % من دخول الموظفين، وسائر العاملين في قطاعات الدولة تحتسب كدين لهم على الحكومة، كما قامت الحكومة بالعديد من الإجراءات التقشفية، واستمر الحال على هذا الوضع حتى آذار 1973 حيث توصلت الحكومة وشركات النفط إلى نوع من التسوية، وبقى النفط تحت سيطرة العراق.
أثار اتفاق التسوية مع شركات النفط، مع بقاء النفط تحت سيطرة العراق، موجة عارمة من الفرح لدى القيادة البعثية، حيث أظهرتها الأحداث وكأنها قد نازلت شركات النفط الاحتكارية، والدول التي تدعمها، وانتصرت عليها، وحققت حلم الشعب العراقي في استغلال نفطه وطنياً، وادعى البعثيون لنفسهم صفات الوطنية، واستطاعوا بالفعل جر أوساط عريضة من الشعب إلى جانبهم، لا بل استطاعوا خداع الحزب الشيوعي، وجره للتعاون معهم، ومن ثم التحالف في إطار ما سمي آنذاك بـ {الجبهة  الوطنية، والقومية التقدمية}.
لكن البعثيين لم يكونوا مؤمنين حقاً  بالجبهة ولا بالتعاون، وأثبتت الأحداث أن خطوتهم تلك كانت تكتيكية، كي يتمكن الحزب من تثبيت أركان حكمه من جهة،  وكشف تنظيمات الحزب الشيوعي وقياداته وكوادره من جهة أخرى، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له،على غرار الضربة التي وجهوها له بعد انقلاب 8 شباط 1963، وهذا ما جرى فعلاً ما بين عامي 1978 ـ 1979.  

ملاحظة : للمزيد من الاطلاع على تاريخ هذه المرحلة مراجعة كتابنا الموسوم
[ سنوات الجحيم ]على موقعنا على الإنترنيت التالي:

www.Hamid-Alhamdany.com
ِAlhamdany34@gmail.com


371
بعد اطلاعي على الحلقات التي نشرتها صحيفة الشرق الأوسط عن التحقيقات التي أجرتها المخابرات الأمريكية مع صدام حسين بعد اعتقاله والتي ظهر بها صدام متصدراً لمزيفي التاريخ، والذي لم يقل الحقيقة في كل ما ذكر، وجد من الضروري أن أقدم للقراء هذه الحقائق عن انقلاب 17 تموز 1988، ومن يقف وراء الانقلاب ، وكيف جرى تنفيذه إنصافا للتاريخ

                                                                  حامد الحمداني


صدام يتصدر مزيفي التاريخ

هكذا جرى تدبير انقلاب 17 تموز 1968
الحلقة الأولى

حامد الحمداني                                                      5/7/2009

 
أولاً:الإمبريالية تُعد للانقلاب على نظام عبد الرحمن عارف:
لماذا أعد الانقلاب؟
اتسم الوضع السياسي في العراق على عهد عبد الرحمن عارف بالضعف الشديد، وكان الصراع على السلطة على أشده، الضباط الناصريون من جهة، والنشاط الشيوعي من جهة أخرى، وقد سبب هذا الوضع الخطر لنظام عبد الرحمن عارف قلقاً شديداً للإمبرياليين الأمريكيين والبريطانيين، وجعلتهم يستبقون الأحداث، ويدبرون انقلابهم ضد حكومة عبد الرحمن عارف، وكان في مقدمة تلك الأسباب  ما يلي:

1- ضعف سلطة عبد الرحمن عارف، وتنامي النشاط الشيوعي من جديد، وظهور اتجاهات لدى الحزب، ولدى القيادة المركزية، للسعي لقلب الحكم بالقوة، واستلام السلطة، مما أثار قلق الإمبرياليين الذين وضعوا في الحسبان إمكانية إسقاط ذلك النظام الهش الذي يفتقر لأي سند شعبي، وتتآكله الصراعات بين الضباط المهيمنين على السلطة، وانشغالهم في السعي للحصول على المكاسب والمغانم، مما جعل الحكم في فوضى عارمة يمكن أن تُسّهل عملية الانقضاض عليه، وتوجيه الضربة القاضية له.
كما أن محاولات القوى الناصرية تحقيق الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، كانت تسبب للإمبرياليين المزيد من القلق، لأن الوحدة تشكل أكبر خطر على الوجود الإمبريالي في المنطقة، وعلى إسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبرياليين  وسيفهم المسلط على رقاب العرب.   
                                               
2 - قرار حكومة طاهر يحيى، في 6 آب 967 ، باستعادة حقل الرميلة  الشمالي من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، ومعروف أن هذا الحقل غني جداً بالنفط، مما أثار حنق شركات النفط الاحتكارية التي اعتبرته تحدياً جدياً لمصالحها الإمبريالية.       
                                                           
3 - عقد اتفاقية نفطية مع الاتحاد السوفيتي، بتاريخ 24 كانون الأول 1967، تعهد الاتحاد السوفيتي بموجبها بتقديم كل المساعدات التقنية وتجهيزات الحفر لحقل الرميلة الشمالي، واستخراج النفط، وتسويقه لحساب شركة النفط الوطنية، وقد اعتبرت الإمبريالية هذا الأمر تغلغلاً سوفيتياً في هذه المنطقة الهامة التي تحتوي على نصف الخزين من الاحتياطات النفطية في العالم، واتخذت قرارها بالتصدي لهذا التغلغل المزعوم.

4 ـ إقدام حكومة عارف على عقد اتفاقية نفطية جديدة مع شركة إيراب الفرنسية للتنقيب والحفر واستخراج النفط في منطقة تزيد مساحتها على 11000 كم مربع تقع في وسط وجنوب العراق، وذلك بمعزل عن الاحتكارات النفطية البريطانية والأمريكية، حيث اعتبر ذلك تجاوزاً على مصالحهما النفطية في المنطقة.
5 - رفض حكومة عارف منح شركة [ بان أميركان] الأمريكية امتيازاً لاستخراج الكبريت في العراق، حيث اكتشفت كميات كبيرة منه على نطاق تجاري مما أثار نقمة الحكومة الأمريكية.
كل هذه العوامل جعلت الإمبريالية تقرر قلب النظام عبد الرحمن عارف الهش، والإتيان بحكومة جربتها يوم دبرت انقلاب 8 شباط 1963، تلك التي أعلنت الحرب الشعواء على الشيوعيين وكل الوطنيين، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز، وقائدها عبد الكريم قاسم، وصفت كل منجزات الثورة التي دفع الشعب العراقي من أجلها دماء غزيرة.

ثانياً: كيف أُعدّ الانقلاب؟ وَمنْ قاده؟

جرت عملية الإعداد للانقلاب من قبل الدوائر الإمبريالية في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، حيث سعت تلك الدوائر لتعاون العناصر الموالية لكلا الجانبين.  فهناك البعثيون على الجانب الأمريكي، وعبد الرزاق النايف، وإبراهيم عبد الرحمن الداؤد وزمرتهما على الجانب البريطاني.
كان النايف يشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، فيما كان الداؤد يشغل منصب آمر الحرس الجمهوري.
سارع الإمبرياليون، عن طريق عميليهما الدكتور [ ناصر الحاني] سفير العراق في بيروت، و[بشير الطالب] الملحق العسكري في السفارة المذكورة، والذي سبق أن شغل قيادة الحرس الجمهوري في عهد عبد السلام عارف، حيث تمت الاتصالات بالانقلابيين، وتجنيدهم من خلال السعودية، وقد قام النايف والداؤد بالاتصال بسعدون غيدان، آمر كتيبة الدبابات المكلفة بحماية القصر الجمهوري، والملحقة بالحرس الجمهوري، واستطاعا جره إلى جانبهما.
وبعد أن تم للإمبرياليين تأمين اشتراك القادة الثلاثة في الانقلاب، طلبوا من النايف الاتصال بالبعثيين، ودعوتهم للمشاركة في الانقلاب. وجد البعثيون فرصتهم الذهبية للعودة إلى الحكم من جديد، وأعلنوا على الفور استعدادهم
للمشاركة في الانقلاب، فقد ورد ذلك على لسان عبد الرحمن عارف، في حديث له في اسطنبول، في 18 شباط 1970، حيث قال:
{ إن النايف لم يكن إلا أداة حركها إغراء المال، وإن شركات النفط العاملة في العراق، والقوى التي تقف وراءها، كانت قد سعت منذُ منحت حكومته عقداً لشركة [إيراب] الفرنسية، وعقد اتفاقية التفاهم والمساعدة الفنية مع الاتحاد السوفيتي لاستثمار حقل الرميلة الشمالي الذي تم سحبه من شركة نفط العراق، وإلحاقه بشركة النفط الوطنية، وكذلك حجب الحكومة امتياز الكبريت عن شركة [ بان أميركان] الأمريكية، سعت إلى البحث عن عملاء يعملون على تدمير حكمه، ووجدوا في النهاية أن عبد الرزاق النايف، هو الرجل الذي يحتاجون إليه، واشتروه من خلال السعودية بواسطة الوسيطين الدكتور ناصر الحاني، و بشير الطالب، وأكد عبد الرحمن عارف أنه يقول هذا عن معرفة أكيدة، وليس مجرد شكوك}.
أما عبد الرزاق النايف فقد أكد دوره في ذلك المخطط، بعد أن قام البعثيون بانقلابهم ضده،  بعد  مرور 13 يوماً من تنفيذ انقلاب 17تموز 1968، ونفيه إلى خارج العراق، حيث عقد مؤتمراً صحفياً فضح فيه دوره، ودور شركائه البعثيين في الانقلاب، وعلاقاتهم بالإمبريالية، حيث قال:
{ أنا لا أنكر علاقتي  بالأمريكيين، لكنهم هم الذين فرضوا عليَّ التعاون مع البعثيين}، وكان عرّاب الانقلاب الدكتور ناصر الحاني، الذي أصبح وزيراً للخارجية عند وقوع الانقلاب، وقد سارع البعثيون إلى اغتياله في أحد شوارع بغداد، ثم اتبعوه باغتيال النايف بعده في لندن، محاولين بعملهم هذا حجب نور الشمس بواسطة الغربال!!.

ثالثاً: كيف نفذ انقلاب 17 تموز 1968    

سارع عبد الرزاق النايف إلى إعداد خطة تنفيذ الانقلاب بالاشتراك مع إبراهيم عبد الرحمن الداؤد، وسعدون غيدان، واحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان عبد الغفار التكريتي، وأنور عبد القادر الحديثي، حيث جرى الاتفاق فيما بينهم على تفاصيل خطة الانقلاب، معتمدين على كتيبة الدبابات التي كانت في القصر تحت إمرة سعدون غيدان، وجرى الاتفاق على أن يأخذ  سعدون غيدان كل من أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي بسيارته الخاصة إلى داخل القصر الجمهوري، ليقوموا جميعاً بالسيطرة على كتيبه الدبابات فجر يوم 17 تموز 1968، فيما يقوم عبد الرزاق النايف بالسيطرة على وزارة الدفاع، وأنيطت مهمة السيطرة على دار الإذاعة إلى إبراهيم الداؤد.
وفي فجر ذلك اليوم قام سعدون غيدان بإدخال الضباط المذكورين ـ وهم يمثلون حزب البعث ـ بسيارته الخاصة، وتم لهم على الفور السيطرة على كتيبة الدبابات المذكورة، وأحاطوا بها القصر، وقاموا بإطلاق 5 إطلاقات من مدافع الدبابات كخطوة تحذيرية لعبد الرحمن عارف، الذي استيقظ من نومه مذعوراً، وحالما وجد القصر مطوقاً بالدبابات، أعلن استسلامه على الفور، وطلب تسفيره إلى خارج العراق.
وفي الوقت نفسه تحرك عبد الرزاق النايف نحو وزارة الدفاع، بمساعدة عدد من الضباط الموالين له، وسيطر على الوزارة دون عناء، فيما توجه الداؤد إلى دار الإذاعة بعدد من الدبابات، وسرية من الحرس الجمهوري، وسيطر عليها دون قتال، وقام بإذاعة البيان الأول للانقلاب في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم 17 تموز 1968.
حاول الإنقلابيون في بيانهم هذا التغطية على الأهداف الحقيقية للانقلاب، وجرى ذلك تحت شعار حل القضية الكردية، وإحلال السلام في كردستان، وإقامة الديمقراطية في البلاد، وإتاحة الفرص المتساوية للمواطنين، وانتصار حكم القانون، والتأييد الحازم للقضية الفلسطينية، داعين إلى تحديد مسؤولية الهزيمة في حرب حزيران، ولم ينسَ البيان التهجم على الحكم السابق، واتهامه بشتى التهم، من رجعية وعمالة وغيرها.
وخلال الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم تم للانقلابيين السيطرة على البلاد، وانتهى كل شيء، وجرى اعتقال رجالات نظام عارف، وعلى رأسهم رئيس الوزراء [طاهر يحيى]، وجرى على الفور تسفير رئيس الجمهورية، عبد الرحمن عارف، بطائرة عسكرية إلى لندن، حيث كانت زوجته تعالج هناك، ثم انتقل بعد ذلك إلى تركيا، واتخذها مقراً لإقامته لسنين عديدة.
 ولكونه لا يشكل خطراً على النظام، فقد وافق البعثيون على طلبه بالعودة إلى العراق، بعد سنين عديدة ليعيش حياته كمواطن عادي.
أما الشعب العراقي فقد أستقبل الانقلاب ببالغ القلق والاكتئاب، فالوجوه هي نفسها التي أغرقت البلاد بالدماء، إثر انقلاب 8 شباط عام  1963.


رابعاً:الإنقلابيون يتقاسمون المناصب:

 ما أن أستتب الأمر للانقلابيين حتى سارعوا إلى توزيع المناصب الهامة في البلاد، فأعلنوا عن تعيين أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية، فيما أصبح عبد الرزاق النايف رئيساً للوزراء، كما عُيين إبراهيم الداؤد وزيراً للدفاع، وجاءت وزارة النايف على الوجه التالي:
 1 – عبد الرزاق النايف ـ رئيساً للوزراء.
2 – إبراهيم عبد الرحمن الداؤد ـ وزيراً للدفاع.
3 – ناصر الحاني ـ وزيراً للخارجية.
4 – صالح مهدي عماش ـ وزيراً للداخلية. 
5 – عزت مصطفى ـ وزيراً للصحة.
6- مهدي حنتوش ـ وزيراً للنفط.
7 –جاسم العزاوي ـ وزيراً للوحدة.
8 – إحسان شيرزاد ـ وزيراً للأشغال.
9 – صائب مولود مخلص ـ وزيراً للمواصلات.
10 –ذياب العلكاوي ـ وزيراً للشباب.
11- صالح كبه ـ وزيراً للمالية. 
12-محمد يعقوب السعيدي ـ وزيراً للتخطيط.
13 – طه الحاج ألياس ـ وزيراً للإرشاد.
14ـ عبد المجيد الدجيلي ـ وزير الإصلاح الزراعي.
15 ـ خالد مكي الهاشمي ـ وزيراً للصناعة.
16 ـ محمود شيت خطاب ـ وزيراً للبلديات.
17 ـ عبد الله النقشبندي ـ وزيراً للاقتصاد.
18ـ عبد الكريم زيدان ـ وزيراً للأوقاف.
19 ـ أحمد عبد الستار الجواري ـ وزيراً للتربية.
20 ـ أنور الحديثي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
21 ـ محسن القز ويني ـ وزيراً للزراعة.
22 ـ رشيد الرفاعي ـ وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية.
23 ـ محسن ديزئي ـ وزيراً بلا وزارة.
24 ـ كاظم معله ـ وزيراً بلا وزارة.
25 ـ ناجي خلف ـ وزيراً بلا وزارة.
وبموجب هذه التشكيلة، أصبح للبعثيين ثمانية مقاعد وزارية، فيما شغل الأكراد ثلاثة مقاعد، والإخوان المسلمون مقعدين، وشغل بقية المقاعد، وعددها اثنا عشر مقعداً عناصر من مختلف الاتجاهات القومية والرجعية.
ومن خلال هذا التوزيع للمناصب الوزارية يتبين لنا أن الانقلاب لم يكن بقيادة البعثيين بل بقيادة عبد الرزاق النايف وإبراهيم عبد الرحمن الداود، وليس كما ادعى  صدام بأن البعثيين هم من قاموا بالانقلاب.

أما المراكز العسكرية الحساسة فقد جرى توزيعها على الوجه التالي:
1 ـ سعدون غيدان ـ قائداً للحرس الجمهوري، وقد كسبه البعثيون إلى جانبهم.
2 ـ حردان التكريتي ـ رئيساً للأركان، وقائداً للقوة الجوية.( بعثي)
3 ـ حماد شهاب ـ قائداً للواء المدرع العاشر، وهو أقرب، واخطر وحدة عسكرية على بغداد، وهو من العناصر البعثية أيضاً.
بدأ البعثيون منذُ الساعات الأولى للانقلاب يعملون بأقصى جهدهم لتثبيت مواقعهم في صفوف الجيش، واستغل حردان التكريتي فرصة سفر الداؤد إلى الأردن، لتفقد القوات العراقية هناك، بكونه رئيساً للأركان، بإجراء مناقلات لعدد كبير من الضباط الموالين لحزب البعث، تمهيداً لمخططهم الهادف إلى إزاحة كتلة النايف، واحتكار الحكم لحزب البعث وحدة.

خامساً:الصراع بين جناحي البعث والنايف:

منذُ اليوم الأول للانقلاب، بدت بوادر الخلافات بين كتلتي البعث والنايف، فلم كن أحدهما مرتاحاً لوجود الآخر في السلطة، إلا أن الظروف التي تحدثنا عنها سابقاً، وإرادة الإمبرياليين، هي التي جمعتهم في هذه التركيبة غير المتجانسة.
كانت صحيفة البعث [الجمهورية]، وصحيفة النايف [الثورة] على طرفي نقيض، وبلغ ذلك التناقض حداً أضطر فيه وزير الإرشاد إلى إصدار قراره، في 24 تموز بدمج الصحيفتين، بناء على أمر النايف، وطرد المحررين البعثيين من الصحيفة، كما قرر النايف إبعاد البعثيين من دار الإذاعة، ومنعهم من الدخول إليها، واستغل البعثيون قرارات النايف الاقتصادية، والتي صبت كلها بشكل سافر في خانة
الإمبريالية الأمريكية، واتخذوها سلاحاً ضده.
لقد كانت باكورة توجهات النايف تلك قد تضمنت ما يلي:
1 ـ إلغاء عقد شركة [إيراب] الفرنسية للنفط، والتي كانت قد عقدته حكومة عبد الرحمن عارف قبل وقوع الانقلاب.
2 ـ إلغاء قرار إعادة حقل الرميلة الشمالي إلى شركة النفط الوطنية.
3 ـ إلغاء شركة النفط الوطنية العراقية.
4 ـ محاولة منح شركة [ بان أميركان] امتياز استغلال الكبريت.

حزب البعث يحسم الصراع، ويستولي على كامل السلطة:

منذُ اليوم الأول لانقلاب 17 تموز 1968، كان حزب البعث قد أتخذ قراره بإزاحة كتلة النايف، واستلام السلطة كاملة، وقد أشرنا إلى أن الحزب كان قد أستقطب كل من [حماد شهاب] قائد اللواء المدرع العاشر، المكلف بحماية بغداد، و[سعدون غيدان] الذي أصبح قائداً للحرس الجمهوري بعد نجاح الانقلاب، هذا بالإضافة إلى تولي حردان التكريتي منصب رئاسة الأركان، وقيادة القوة الجوية، وتولي صالح مهدي عماش وزارة الداخلية، وفي المقدمة من كل ذلك تولي [احمد حسن البكر] رئاسة الجمهورية، ولذلك فقد كان الجو مهيئاً لحزب البعث لكي يضرب ضربته  ويزيح كتلة النايف من طريقه.
وجاء سفر[إبراهيم الداؤد] وزير الدفاع إلى الأردن، لتفقد القوات العراقية المتواجدة في الأردن، فرصة لا تضيع للانفراد بالنايف، حيث قرر حزب البعث توجيه ضربته الخاطفة له في 30 تموز، ولما يمضي على الانقلاب سوى 13 يوماً، فقد تحرك اللواء العاشر المدرع بقيادة اللواء حماد شهاب نحو بغداد، واحتل المرافق والنقاط الرئيسة فيها، وتمكن [صدام حسين]، وبمعيته مجموعة من الضباط من اعتقال النايف، وتسفيره على متن طائرة عسكرية إلى خارج العراق، وجرى حل مجلس الوزراء وتأليف وزارة بعثية جديدة، كما تم تأليف مجلس دعوه [مجلس قيادة الثورة]، ومنحوه صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة، وجاء تأليفه على الوجه التالي:
1 ـ أحمد حسن البكر ـ رئيساً للمجلس.
2ـ صدام حسين التكريتي ـ نائباً للرئيس.
3 ـ سعدون غيدان ـ عضواً.
4 ـ عزت الدوري ـ عضواً.
 5 ـ طه ياسين رمضان ـ عضوا.ً
6 ـ عزت مصطفى ـ عضواً.
ثم أضاف البعثيون إليه أعضاء جدد في 9 تشرين الأول من نفس العام، ليصبح عدد هم 14 عضواً، أما الأعضاء المضافان فهم كل من:
1ـ حردان التكريتي ـ عضواً.
2ـ صالح مهدي عماش ـ عضواً.
3ـ حماد شهاب ـ عضواً.
4ـ عبد الكريم الشيخلي ـ عضواً.
5ـ عبد الله سلوم السامرائي ـ عضواً.
6 ـ شفيق الكمالي ـ عضواً.
7 ـ عبد الخالق السامرائي ـ عضواً.
8 ـ مرتضى الحديثي ـ عضواً.
 ويتضح من تشكيلة المجلس، ومجلس الوزراء، والقيادة القطرية للحزب، أن العنصر السني كانت له الأغلبية المطلقة [ويمثل 84,9%]، فيما تراجع العنصر الشيعي إلى [5.7 %]، وكانت أغلبية القيادات من محافظتي تكريت، والرمادي السنيتين.


372
الصراع الجاري في إيران
 ثورة مخملية أم بداية ثورة دامية؟

حامد الحمداني                                                       18/6/2009

منذ إن انتخب محمود أحمدي نجاد رئيساً للبلاد قبل أربع سنوات، بدأ النظام الإيراني يولي اهتماما شديداً نحو التسلح، ومحاولة امتلاك ناصية السلاح النووي، مدفوعاً بتطلعات بعيدة المدى تستهدف الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة، والخليج بصورة خاصة، مسخراً معظم موارد الدولة في هذا الاتجاه على حساب المتطلبات المهمة التي تتعلق بحياة الشعب الإيراني المادية والمعيشية، وتأمين الخدمات الضرورية للمواطنين، ومعالجة الفقر والبطالة، والتصدي  للتضخم وارتفاع الأسعار التي أرهقت جيوب المواطنين.

إن هذا التوجه لحكومة نجاد قد خلق لإيران مصاعب جمة، سياسية واجتماعية، وأمنية، أقلقت أبناء الشعب الإيراني التواق لحياة آمنة، ونظام ديمقراطي يحترم الحقوق والحريات العامة، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، ولاسيما الجيل الناهض من الإيرانيين الذين أصبحوا أكثر وعياً، واشد اندفاعا، وهم تواقون للخلاص من هيمنة رجال الدين الذين حكموا البلاد منذ عام 1978، والذين يتحكمون في حياة المواطنين وحرياتهم الشخصية، ويستنفذون ثروات البلاد على السلاح، ويتجاهلون المصاعب المعيشية للشعب الإيراني، ولا شك أن  لثورة المعلومات التي جاء بها الانترنيت أثره الكبير في نشر الوعي لدى الشباب، وتصميمهم على  على تحقيق طموحاتهم في حياة أفضل.

إن حكومة إيران تواجه اليوم ضغوطاً عالميةً متصاعدا تستهدف الحيلولة دون امتلاكها السلاح النووي، وتتصاعد العقوبات التي فُرضت عليها لعدم التزامها بقرارات الأمم المتحدة فيما يخص منع انتشار الأسلحة النووية.
كما تتصاعد لهجة التهديدات الأمريكية والإسرائيلية من جهة، والتهديدات المضادة من جانب حكومة نجاد من جهة أخرى بالحرب مما يجعل الشعب الإيراني يعيش حالة من الرعب والقلق الدائم لما يمكن أن تؤول إليه الأحوال إذا ما وقعت الحرب، أو حتى وقع خطأ أوحى بوقوع هجوم، مما يمكن أن تنطلق الصواريخ والصواريخ المضادة، وما يمكن أن تسببه من خراب ودمار وضحايا لا يمكن تحديدها.
إن هذا الوضع الخطير الذي يواجهه الشعب الإيراني هو الذي دفعه إلى المطالبة بالتغيير، ومن أجل ذلك خاض الحملة الانتخابية معبئاً جماهير الشعب الرافضة لحكومة احمدي نجاد، ودولة ولاية الفقيه، والصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها السيد خامنئي، والوقوف إلى جانب مرشح المعارضة السيد مير حسين موسوي، وكانت كل التقديرات تشير إلى شعبية موسوي الواسعة، والثقة التامة في فوزه بمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات التي جرت مؤخراً، حتى أن السيد مير حسين موسوي أعلن أثناء فرز الأصوات تفوقه على أحمدي نجاد.

لكن المفاجئة جاءت على عكس ذلك، حيث أُعلن عن فوز نجاد بنسبة جاوزت 63% على منافسه مير حسين موسوي الذي قالت مفوضية الانتخابات انه فاز بنسبة 33% من أصوات الناخبين.

ولم تكد هذه النتائج تُعلن حتى هبت الجماهير الإيرانية وطلاب الجامعات، والعمال والكسبة وحتى جانب من رجال الدين،  وعلى رأسهم الرئيس السابق محمد خاتمي في مظاهرات صاخبة ضمت مئات الألوف من المواطنين المستنكرين للتزوير الحاصل في الانتخابات وفرز الأصوات، وما لبثت المظاهرات هذه تتوسع وتمتد لتشمل سائر المثقفين والمثقفات مطالبين بإلغاء الانتخابات المزورة، ومعلنين فوز السيد مير حسين موسوي، وأخذت تتصاعد هتافات المتظاهرين بسقوط حكومة نجاد ، ومطالبين بالحرية والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية والسلام؟

لقد أقلقت هذه المظاهرات النظام الإيراني بصورة جدية، وبدأ النظام يحسب لها ألف حساب، ولجأت إلى منع الصحفيين، وكافة وسائل الأعلام المرئية والمسموعة، من نقل صور تلك المظاهرات، وطردت العديد منها، لكن المتظاهرين استطاعوا بث الكثير من الصور عن طريق كامرات الهواتف النقالة، وعن طريق الانترنيت ليطلع عليها العالم أجمع، وأدت تلك الصور إلى حملة استنكار عالمية على المستويين الشعبي والرسمي .

 لقد أظهرت الصور التي استطاعت بعض وسائل الإعلام بثها تلك الجموع التي قدرت بمئات الألوف من المواطنين أن هناك في طهران ثورة مخملية قد نشبت تستهدف ليس فقط إبطال انتخاب نجاد، بل وأحداث تغيير حقيقي وجوهري في البلاد، وقد تصدت قوات الأمن للمتظاهرين مستخدمة الغازات المسيلة للدموع، والهراوات، لكن المتظاهرين تحدوا قوى الأمن، وخاضوا اشتباكات واسعة معهم أدت إلى سقوط 7 قتلى، وعدد كبير من الجرحى بعد أن استخدمت قوات الأمن الرصاص لتفريق المتظاهرين، واستمرت المظاهرات بشكل يومي دون توقف، والجماهير تعلن إصرارها على تحقيق مطالبها المشروعة، واستمرت قوات الأمن في التصدي للجماهير، مما ينذر بتصاعد الأزمة، وتحول الثورة المخملية إلى ثورة دموية لا أحد يستطيع تحديد نتائجها، وكل الدلائل تشير إلى أن الشعب الإيراني عازم على مواصلة النضال، وعدم التراجع مهما كبرت التضحيات، وهي مصمصة على تحقيق تغيير حقيقي في البلاد يخرجها من هذه الأزمة، ويحقق حلم الشعب الإيراني في إقامة نظام حكم ديمقراطي تسوده قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة والسلام.  


373
بعد انجاز الانتخابات اللبنانية بسلام، لبنان إلى أين؟
حامد الحمداني                                                       10/6/2009

مرت بسلام الانتخابات النيابية اللبنانية يوم السابع من حزيران بسلام بعد تلك الحملة الانتخابية التي اتسمت بالصراع السياسي العنيف بين جبهة قوى 14 آذار بزعامة السيد سعد الحريري التي ضمت كتلة المستقبل بالتحالف مع حزب الكتائب اللبنانية بزعامة السيد أمين الجميل، وحزب القوات اللبنانية، بزعامة السيد سمير جعجع والحزب الاشتراكي التقدمي بزعامة السيد وليد جنبلاط بالإضافة إلى العديد من الشخصيات المستقلة، وبين جبهة 8 آذار بقيادة السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله، بالتحالف مع حركة أمل بزعامة السيد نبيه بري، وحركة الإصلاح والتغيير بزعامة الجنرال ميشيل عون، وتيار المردة بزعامة السيد سليمان فرنجية.
فقد كان الصراع على أشده بين التيارين المتباعدين في توجهاتهما ونظرتهما حول مستقبل لبنان، ولاسيما وأن حزب الله الذي يمتلك ميليشيا ذات تسليح يتجاوز إلى حد كبير تسليح الجيش اللبناني، وأن هذا السلاح الذي كان يُدعى بسلاح المقاومة ضد إسرائيل قد جرى استخدمه في السابع من أيار 2008 في الداخل اللبناني ضد الخصم المتمثل بقوى 14 آذار حيث جرى احتلال بيروت من قبل ميليشيا الحزب ، وكادت الأمور أن تأخذ لبنان إلى الحرب الأهلية الكارثية لولا الجهود العربية والدولية والوطنية التي انتهت بمؤتمر الدوحة المعروف.
كان أمل جبهة قوى 8 آذار في تحقيق الغالبية في الانتخابات، وتشكيل الحكومة الجديدة، وبطبيعة الحال كان فوزها يعني إجراء تغيرات كبيرة في توجهات الدولة اللبنانية ونظامها القائم على أساس اتفاقية الطائف التي انتهت 15 عاماً من الحرب الأهلية المدمرة، والتي تتالت تصريحات من جانب زعماء هذه الجبهة بإجراء تعديلات على تلك الاتفاقية، وعلى الدستور اللبناني.
وفي المقابل كانت جبهة قوى 14 آذار ينتابها القلق الشديد مما يمكن أن تسفر عنه الانتخابات، ولاسيما وأنها كانت قد اٌستهدفت كما ذكرنا من قبل ميليشيا حزب الله التي احتلت بيروت والجبل في 7 أيار 2008، وبوجه خاض كان القلق ينتاب المسيحيين على مستقبلهم في ظل حكومة يقودها حزب الله الشيعي المرتبط بإيران وسوريا، وما يمكن أن يجر حزب الله البلاد إلى حرب جديدة مع إسرائيل، ولاسيما وأن التهديدات الإسرائيلية والتهديدات الإيرانية المقابلة بشن الحرب والاحتمال الكبير بمشاركة حزب الله في أية حرب تندلع بين الطرفين، مما يمكن أن يقود لبنان إلى كارثة غير مسبوقة.
ولذلك حشدت جبهة قوى 14 آذار كل ما تستطيع من إمكاناتها للحيلولة دون فوز جبهة 8 آذار في هذه المعركة الانتخابية التي اتسمت  بأهمية بالغة، وشراسة منقطعة النضير من قبل الطرفين، وكان معظم المحللين السياسيين اللبنانيين والعرب قد توقعوا أن يكون الفارق بين الجبهتين في المعركة الانتخابية ضئيل جداً لا يتعدى مقعداً واحداً أو مقعدين.
وكان زعيم جبهة قوى 14 آذار السيد سعد الحريري قد أعلن أنه سيقبل نتائج الانتخابات أي كان الفائز فيها، لكن جبهته لن تشترك في حكومة تشكلها جبهة 8 آذار، في حين صرح السيد حسن نصر الله وبعض قادة الحزب أن لبنان لا يمكن أن يقوده طرف واحد، وأنهم لا بد أن يكون لهم ثلث معطل في أية حكومة في حالة فوز قائمة 14 آذار.
واليوم وقد انتهت الانتخابات بسلام، وجاءت نتائجها مفاجئة للجميع حيث فازت فيها جبهة قوى 14 آذار بفارق 14 مقعداً [ 71 مقعداً لقوى 14آذار مقابل 57 مقعداً لقوى 8 آذار]. وتدور على السنة الجميع تساؤلات عديدة عن مستقبل الوضع السياسي في لبنان:
•   كيف ستشكل جبهة قوى 14 آذار الحكومة الجديدة ، هل بمفردها أم بالاشتراك مع جبهة 8 آذار؟
•   ما هي الشروط التي ستحدد طبيعة المشاركة من قبل الطرفين، وهل سيصر قادة قوى 8 آذار على ما يسمى بالثلث المعطل؟
•   هل يمكن أن تقبل جبهة 14 آذار بالثلث المعطل والذي سيعيد بدوره نظام الحكم في لبنان إلى تلك الدوامة التي استمرت طيلة السنتين الماضيتين، والتي تميزت بتعطيل مؤسسات الدولة، وعمل مجلس الوزراء، والبرلمان الذي تم إغلاقه من قبل قوى 8 آذار، والاعتصام في ساحات وشوراع بيروت، في محاولة لإسقاط حكومة السيد فوأد السينورا؟
•   هل يقبل حزب الله بنزع سلاحه، وتسليمه إلى الحكومة الشرعية ؟
•   هل سيبقى قرار السلم والحرب بيد زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله؟
•   هل ستقبل حكومة جبهة قوى 14 آذار ببقاء جيش موازي لجيش الدولة الرسمي، وبسلاح يتجاوز سلاحه كماً ونوعاً؟
•   ماذا سيكون موقف مجلس الأمن من استمرار تمسك حزب الله بسلاحه خلافاً لقراره بنزعه، وتحوله إلى حزب سياسي كبقية الأحزاب السياسية اللبنانية؟
•   ماذا سيكون رد فعل حكومة جبهة قوى 14 آذار أذا ما أصر حزب الله على مواقفه، ورفض نزع سلاحه.
•   هل يمكن أن يستمر السلم الأهلي في لبنان إذا ما بقيت الأحوال المشحونة بالمخاطر على حالها ؟
أسئلة كثيرة، ومشاكل معقدة، ومخاطر جسيمة من تحول الصراع السياسي القائم حاليا إلى محاولة فرض إرادة قوى 8 آذار شروطها بالقوة، مما يحول دون تمكن الحكومة الجديدة من القيام بمهامها، ويعرض أمن وسلامة الشعب اللبناني لمخاطر كبيرة بات يتحسس بتكرارها.
إن مسؤولية الولايات المتحدة بوجه خاص، والمجتمع الدولي بوجه عام، تتطلب العمل على تحقيق حل جذري لمشكلة الشرق الأوسط دون إبطاء، وهذا الحل يتلخص بإجبار إسرائيل على الانسحاب من الضفة الغربية والجولان السورية، ومزارع شبعا بصورة كاملة، بما فيها القدس العربية، وإيجاد حل دائم ونهائي للاجئين الفلسطينيين في الشتات، من خلال إسكان جانب منهم في المستعمرات الإسرائيلية المشيدة في الضفة الغربية، وبقية انحاء الضفة الغربية، وتعويض من لا يود العودة تعويضاً عادلا، وإيجاد ملجأ آمن ودائمي لهم يؤمن لهم وللأجيال القادمة من أبنائهم عيشة محترمة في ظل وطن يرعاهم كمواطنين دائمين دون تمييز، وكف حكام إسرائيل عن المماطلة في إقامة الدولة الفلسطينية على كامل الضفة الغربية وغزة حتى حدود الرابع من حزيران عام 1967، مع ضمان الأمن السلام في الدولة الفلسطينية الوليدة من قبل قوات دولية مؤقتة تساعد قوات الأمن الفلسطينية، وتسحب الذريعة لمماطلة حكومة إسرائيل بحجة الخوف من مخاطر الإرهاب كما تدعي، وإزالة جدار الفصل العنصري، وإقامة العلاقات الطبيعية مع الفلسطينيين، ومع سوريا ولبنان قائمة على أساس احترام سيادة واستقلال جيرانها، ونبذ العدوان والتسلط واغتصاب الأرض بحجج واهية لا تنطلي على أحد .
إن تحقيق هذا الحل سيسقط كل حجج حزب الله ويجبره على نزع سلاحه سلميا، وتحوله إلى حزب سياسي شانه شان الأحزاب اللبنانية الأخرى، فلا يمكن أن تقبل أية دولة بوجود حزب سياسي مسلح بأسلحة تفوق سلاح جيشها الوطني، ويبقى سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب .   
       

374
ينبغي أن يكف حكام الكويت عن ابتزاز العراق وإيذائه!
حامد الحمداني                                                         8/6/2009
على الرغم من الظروف الصعبة التي يجتازها العراق منذ الغزو الأمريكي الذي انتهى بإسقاط  نظام صدام عام 2003، والدمار والخراب الذي حل بالبلاد جراء تلك الحرب، وجراء الصراع الدامي الذي عم البلاد، والحرب الأهلية الطائفية التي تلت الحرب، والتي حصدت أرواح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، والكوارث الاجتماعية والاقتصادية التي حلت بالبلاد فما يزال حكام الكويت يستقطعون من أفواه العراقيين مئات الملايين من الدولارات سنويا كتعويضات عن غزو النظام الصدامي للكويت عام 1990.
وعلى الرغم من الحملة التي قادتها الإدارة الأمريكية لإسقاط الديون العراقية التي تقدر بمئات المليارات، والتي استطاعت إقناع مختلف دول العالم التي لها ديون على نظام صدام المنهار بالتنازل عن تلك الديون بما لا يقل عن 80% من أصلها، وعلى الرغم من محاولات المندوب الأمريكي جيمس بيكر إقناع حكام الكويت بإلغاء ديونها على العراق فإنهم قد أصروا على رفض الطلب، وهم تارة يدعون أن الأمر يتعلق بالبرلمان الذي يرفض التنازل عن تلك الديون، وتارة يدعون أن هذه الديون تعود للشعب الكويتي الذي لا يقبل التنازل عنها.
و قد حاول رئيس الوزراء نوري المالكي أثناء زيارته الأخيرة للكويت ثني حكام الكويت عن موقفهم إزاء ديون نظام صدام المنهار، لكنه فشل هو الآخر في ذلك.
إن هذا الموقف المجافي لعلاقات الأخوة وحسن الجوار من جانب حكام الكويت تجاه العراق لا يعبر إلا عن سياسة قصر النظر التي لا يمكن أن تخدم الكويت على المدى البعيد، وهم اليوم يستغلون حالة الضعف التي يمر بها العراق في محاولة منهم لاستنزاف ثروته.
لقد بلغ الأمر بحكام الكويت أن يطلبوا من مجلس الأمن الدولي رفض طلب العراق بإخراجه من البند السابع ليبقى فاقداً لحريته واستقلاله، والتصرف بثرواته، وإعادة بناء البنية التحية المدمرة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدماتية، مطالبين الحكومة العراقية بتسديد الديون المستحقة على نظام صدام البائد، متعللين بأن هناك تراكم في خزينة الدولة العراقية من واردات النفط، وإن الكويت تطالب العراقي بدفع الفوائد على الديون كذلك.

إن حكام الكويت بحاجة إلى أن ينظروا بعيداً في سياستهم تجاه العراق، لا أن ينظروا بين أقدامهم!!، وأن يفكروا جيداً بمستقبل العلاقة بين البلدين الجارين، ولا أقول الشقيقين، فلم تعد كما يبدو، لعلاقات الأخوة مكاناً في قاموسهم، ولو رجعنا للتاريخ القريب، وأمعنا النظر في تفاصيل ما جرى بين البلدين قبل وبعد حرب الخليج الثانية [ حرب تحرير الكويت]لوجدنا أن حكام الكويت يتحملون جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وحلفائها ونظام صدام حسين مسؤولية غزو الكويت، وحرب الخليج الثانية، بقيادة الولايات المتحدة و32 دولة أخرى، والتي انتهت بخراب ودمار العراق وتدمير قواته المسلحة، ومقتل أكثر من 300 ألف من جنوده وضباطه في تلك المجزرة الوحشية البشعة التي ارتكبتها الطائرات الأمريكية ضد القوات العراقية المنسحبة من الكويت على الطريق بين الكويت والبصرة، ووقوع الانتفاضة الشعبية في الأول من آذار 1991 كرد فعل على جرائم نظام صدام، والتي قمعها النظام الصدامي بصورة وحشية بالغة، حيث ذهب ضحيتها مئات الألوف من المواطنين، والقبور الجماعية المكتشفة خير دليل على عظم الجريمة والوحشية التي نفذت فيها.
إن الكويت كان بإمكانها أن تحل الخلافات بينها وبين النظام العراقي بما يجنب الشعبين العراقي والكويت ويلات الحرب ومآسيها، وما سببته من خراب ودمار، ولاشك أن أرواح مئات الألوف من المواطنين الذين قضوا في تلك الحرب هي أثمن من كنوز الدنيا.
لكن حكام الكويت آثروا السير بركاب الولايات المتحدة، والمشاركة في المؤامرة على العراق، تلك المؤامرة التي دبرتها الولايات المتحدة لتدمير أسلحة العراق، وإضعاف جيشه بعد أن خرج النظام الصدامي من تلك الحرب التي خاضها ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة نفسها وبأمر منها، فلم يكن للشعب العراقي ناقة ولا جمل في تلك الحرب الكارثية التي حصدت أرواح أكثر من نصف مليون من الشباب العراقي وتركت مليون معوق ومئات الألوف من الأرامل واليتامى، وبات العراق يمتلك جيشاً جراراً واقتصاد منهار، وكان حديث السفيرة الأمريكية كلاسبي مع الدكتاتور صدام بأن الولايات المتحدة لا تتدخل في الخلافات بينكم وبين الكويت، وتستطيعون حل خلافاتكم بالطريقة التي ترونها مناسبة ، وظن الدكتاتور أن كلام كلاسبي بمثابة الكارت الأخضر لغزو الكويت والتعويض عن خسائر العراق في تلك الحرب الكارثية، في حين تبين أن الولايات المتحدة قد نصبت الفخ لصدام لدخول الكويت لتدمير جيشه وبلاده وإعادة العراق للوراء مئات السنين، ومن أجل ذلك جرى التنسيق مع حكام الكويت للوقوف موقف الرافض لأي تنازل في مؤتمر جدة لكي يركب صدام رأسه ويرتكب الحماقة بغزو الكويت.
أن الولايات المتحدة هي التي أوعزت لعميلها صدام بمهاجمة إيران، ومدته بمختلف الأسلحة والخبرات لبناء المصانع الحربية، وإنتاج أسلحة الدمار الشامل، وسعت جهدها لإطالة أمد الحرب عن طريق مساعدة الطرفين المتحاربين العراق وإيران كي تستمر الحرب أطول مدة ممكنة ، وهذا ما اعترف به الدكتور [هنري كيسنجر] وزير الخارجية الأمريكية الأسبق في مذكراته حيث يقول عن تلك الحرب:{إنها أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج منها أحد منتصرا}.
واستمرت الولايات المتحدة بدعم النظام الصدامي والنظام الإيراني 8 سنوات لكي تدمر القوة العسكرية للبلدين، وتدمر اقتصادهما وتخرب بنيتهما التحية، وكانت الكويت قد قدمت تلك الديون للعراق بأمر من الولايات المتحدة، كما هو الحال ببقية دول الخليج، لكي لا ينهار العراق في تلك الحرب، وهي في عامها الثاني عندما اندحرت القوات العراقية في معركة نهر الطاهري، فكان لا بد  من دعم العراق لكي تستمر الحرب، وفي الوقت نفسه تحول دون تحقيق أي من الطرفين النصر.
 ولم تطلب الولايات المتحدة من مجلس الأمن إصدار قرار بوقفها إلا بعد ثمان سنوات من حرب دامية مفجعة، ولم تسعَ الولايات المتحدة لوقف تلك الحرب المجنونة إلى أن تحولت إلى حرب الناقلات النفطية في الخليج، وأصبح شريان النفط الضروري للعجلة الاقتصادية الغربية معرضاً لأخطار كبيرة .
إن حكام الكويت كان بإمكانهم أن يتجنبوا الغزو كي لا يدفع الشعب الكويتي الثمن الذي دفعه جراء الاحتلال، وكي لا يدفع الشعب العراقي ذلك الثمن الكبير جراء الحرب، وخصوصاً بعد أن تم فرض الحصار الاقتصادي الجائر عليه دون حكامه، والذي أوصل الأحوال المعيشية للشعب إلى الحضيض، حيث عم الفقر والجوع أغلبية الشعب العراقي، وانهارت العملة العراقية حتى وصل سعر الدولار 3000 دينار بعد أن كانت قيمته أقل من ثلث الدينار، وهكذا تسببت الحرب، والحصار الاقتصادي الظالم إلى انهيار البنية التحية للمجتمع العراقي والتي ما يزال العراق يعاني منها أشد المعانات حتى يومنا هذا، والتي  يتطلب أصلاحها جهود أجيال عديدة. إن الكويت تتحمل مسؤولية الكارثة التي حلت بالعراق بكل تأكيد جنبا إلى جنب مع صدام والرئيس بوش الأب، وبدلا من أن تسعى لإصلاح العلاقة مع الشعب العراقي فإنها ما تزال تصر على السير في نفس الطريق، طريق معاداة العراق، وانتزاع مناطق نفطية واسعة في جنوب البلاد وانتزاع نصف الميناء العراقي العميق الذي كان يدعى بميناء البكر دون وجه حق بل استقواء بالمحتل الأمريكي دون النظر بعيداً لما ستسببه هذه السياسة الخرقاء تجاه العراق، وتجاه العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين!
إن على حكام الكويت أن يدركوا أن الوجود الأمريكي في المنطقة لا يمكن أن يبقى على الدوام، وأن العراق وشعبه باقيان إلى الأبد، والعراق إن كان اليوم ضعيفاً انهكته الحروب، والاحتلال الأمريكي البغيض، والأعمال الإرهابية المجرمة، فلا بد أن يتعافى، وينهض من جديد بلداً قوياً عظيماً بما يمتلكه من موارد كبيرة وثروات هائلة، وقدرات بشرية كبيرة وكفاءات عالية.
نعم سينهض العراق من كبوته، ويعيد الشعب بناء ما خربته الحروب، وسيعود قوياً عزيزاً يهابه الأعداء، وسوف لن ينسَ الشعب كل من قدم له المساعدة ووقف إلى جانبه، وفي الوقت نفسه سوف لن ينسَ من كان سببا في البلاء الرهيب الذي وقع عليه، وما يزال يصر على السير في نفس الطريق الخاطئ، فهل يعود حكام الكويت عن إصرارهم بإيذاء العراق، ويكفروا عن أخطاء سياستهم تجاه شعب العراق قبل فوات الأوان والوصول بالعلاقات بين البلدين إلى طريق اللا عودة؟


375
من ذاكرة التاريخ
العلاقة بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم
الحلقة الرابعة والأخيرة
حامد الحمداني                                                         2/6/2009
بعد كل الإجراءات التي أقدم عليها عبد الكريم قاسم بضرب الحزب الشيوعي، وانتزاع كافة المنظمات والاتحادات النقابية والطلابية، وتسليمها للقوى الرجعية ، وبعد أن أزاح كل القيادة العسكرية والأمنية التي كان يشك بعلاقتها بالحزب، وبعد أن ازاح كل رؤوساء الدوائر ذوي الفكر التقدمي ، وأعاد تلك العناصر المعادية التي كانت في مراكزها قبل الثورة، وبعد أن امتلأت السجون بالمناضلين الذين ذادوا عن الثورة وحموها من كيد أعدائها، بات نظام عبد الكريم قاسم معزولاً عن الجماهير، وبات استمرر بقائه في الحكم في مهب الريح الصفراء التي أخذت تقترب شيئاً فشيئا بعد أن هيأ لها قاسم الظروف المواتية للانقضاض على الثورة واغتيالها في انقلاب عسكري دموي خططت له الدوائر الامبريالية، ونفذته العناصر الموتورة من البعثيين والقوميين والقوى الرجعية الأخرى. 
 ولاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ، بعد صراع مرير مع تلك الشركات، والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة   ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام تلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتهم عليها.
ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية، هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن ، والأمريكية في لبنان ، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق. 
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية، وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة ،قبل الإقدام على أي خطوة متهورة.
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل،غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة لإسقاط الثورة من الداخل مجندين حزب البعث،وطائفة من القوى القومية لتنفيذ أهدافهم الشريرة.
أختار الانقلابيون الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 963 ، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، فيوم الجمعة يوم عطلة  ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب كما أن قيام الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر،
ورغم أن  الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 963  وزع بصورة علنية، وعلى نطاق واسع، محذراً من خطورة الوضع ومما جاء فيه :
{ هناك معلومات متوفرة تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد ، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين، والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، وووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع، وفعال في صفوف الجيش } .(3)
 إلا أن عبد الكريم قاسم  لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد، معتقداً  أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.
كان الأولى بعبد الكريم قاسم استنفار كل الأجهزة ، والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث، وأفراد الحرس القومي، الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح!!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الأوقاتي] .
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار، وأردوه قتيلاً في الحال، وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية، وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي ، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة، وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة .
وفي نفس الوقت قام منذر الو نداوي، بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل، لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة وبعد أن تم لهم ذلك  بادروا إلى قصف وزارة الدفاع .
وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد، فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون،  بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.
 لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع، على الرغم من تحذير الزعيم الركن الشهيد[ طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد القريبين جداً من بغداد.
 لكن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة، وقصفها بالطائرات والمدفعية، قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.
ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له!! ولكن خاب ظنه، بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة، واستبدلهم بعناصر انتهازية، لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له، وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه، سواء بقي عبد الكريم قاسم، أم نجح الانقلابيون.
لقد أنتحر عبد الكريم قاسم، ونحر معه الشعب العراقي وكل آماله، وأحلامه التي ضحى من أجلها عقوداً عديدة مقدماً التضحيات الجسام.
كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع، والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين.
لقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة منادين ـ{ باسم العامل والفلاح ، يا كريم أعطينا سلاح}، كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يرد عليهم :{ إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسوف نقضي عليهم في الحال}.
 وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب، وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين، ولكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب، ولا عبد الكريم قاسم.
ثم يضيف رفيقي قائلاً : في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات، تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة  حيث وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور، وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم .
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات.
 لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع، خلال عشرة دقائق لاغير، وكانت مجزرة رهيبة لا  يمكن تصورها، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها.
 ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة  موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والمتآمرين.
وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين، والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب،  وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم، ومُورس التعذيب الشنيع بالبعض الأخر.

الحزب الشيوعي يتصدى للانقلابيين ويصدر بياناً يدعو إلى مقاومتهم :
منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان :
{إلى السلاح! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية .
أيها المواطنون، يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال، والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين:
 لقد دق جرس الخطر ...استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم، إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية  بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس، فإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع .
يا جماهير شعبنا المناضل الفخور! إلى الشوارع،  اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية، وكل مؤسسة، وكل حي وقرية، وسيُلحق الشعب، بقيادة قواه الديمقراطية، الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة، كما فعل بمؤامرات الكيلاني، والشواف وآخرين.
 إننا نطالب بالسلاح}. ودعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك الإجراء لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات، ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع الانقلابيين من تنفيذ جريمتهم، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة. فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره، وخاصة في صفوف الجيش؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش، على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه.
ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل أمانة وإخلاص، ووقفوا بجانب عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه، رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من عمر الثورة.
 لقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب، وقدموا التضحيات الجسام، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين.
كان كل ما يعوز جماهير الشعب هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين في أول ساعات الانقلاب، إلا أن نداءاتهم ذهبت أدراج الرياح.
ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً، ودفع حياته، ومستقبل الشعب ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.
وفي الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب والقوات المسلحة يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [ كاسيت ]، تحت أصوات الانفجارات والقصف ، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد [سعيد الدوري]، الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب.
لقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً ، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع، ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم، لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع.
ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، وخاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف من أبناء الشعب.
أما [الحرس القومي ] الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع  وهاجموا مراكز الشرطة  واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم .
واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة  والشاكرية والكاظمية، وباب الشيخ، وعقد الأكراد والحرية والشعلة، لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم، واصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على نصف مليون مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكرياً من مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من الشهداء[سلام عادل]السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب، واستشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من:جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس  وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي المعروف بـ [أبو سعيد]، وعزيز الشيخ ومتي الشيخ، ومحمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف وطالب عبد الجبار، بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب الوحشي رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم .
بعد كل الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم منذُ عام 1959 وحتى وقوع انقلاب 8 شباط ، والمتمثلة في إبعاد أغلب العناصر الوطنية المخلصة، والكفوءة من المراكز العسكرية، واستبدالها بعناصر انتهازية، وأخرى حاقدة وموتورة، تتربص بالثورة، وقيادتها، لم يكن متوقعاً أن تحدث المعجزة، ويجري التصدي للانقلابيين، وكل ما حدث أن عدداً من بقايا العناصر الشيوعية في الجيش، من صغار الضباط، وضباط الصف، والجنود، حاولت مقاومة الانقلابيين بما استطاعوا، ولكن دون جدوى، فلم يكن هناك أدنى توازن للقوى، بعد أن سيطرت قوى الرجعية على الجيش.
ففي بعقوبة تصدى عدد من الضباط، وضباط الصف والجنود للانقلاب، إلا أنهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً دون محاكمة.
وفي معسكر التاجي، القريب من بغداد، حيث توجد هناك محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، غير متكافئ.وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار، وضباط الصف والجنود.
كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف، والجنود في منطقة فايدة، شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية، الذي كان يغطي، ويخفي كل تحركات الانقلابيين، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم،  ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري في البلاد.
ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، اصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية، ولا الأمنية ساكنا، وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام مجيد عبد الجليل، ومدير الاستخبارات العسكرية محسن الرفيعي مع الانقلابيين.
أما احمد صالح العبدي، رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما اصدر أمراً يوم 5 شباط، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة، وبقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين. ولم يمس الانقلابيين العبدي بسوء.
كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي، المعروف بعدائه للثورة، وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني ، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه.
استسلام عبد الكريم قاسم ورفاقه للانقلابيين وإعدامهم:
أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر]، المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم [عبد الكريم الجدة ]، أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب، القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام، وكان بصحبته كل من الزعيم [فاضل عباس المهداوي]، رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن [طه الشيخ أحمد ]، مدير الحركات العسكرية، [وقاسم الجنابي] السكرتير الصحفي لعبد الكريم،والملازم [كنعان حداد] مرافق قاسم .
ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف، طالباً منه باسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه، ورعايته له، بالسماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له ، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام.
وفي صباح اليوم التالي، 9 شباط ، خرج [ يونس الطائي ] صاحب صحيفة الثورة، المعروف بعدائه للشيوعية، والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [ الثورة]، خرج للقاء الانقلابيين، وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة، حيث قام بدور الوسيط !! بين عبد الكريم قاسم، والانقلابيين، لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته، وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد وكان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، وكان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي، وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة  أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى دار الإذاعة، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية ولم يمسه أحد بسوء عند دخوله مبنى الإذاعة.
 إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء، فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه، وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ، أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن والدجال [يونس الطائي]، الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه، وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة.
وحال دخول عبد الكريم قاسم دار الإذاعة، أنبري له عبد السلام عارف وعلي صالح السعدي  بالشتائم المخجلة، التي لا تصدر إلا من أولاد الشوارع فقد توجه السعدي إليه قائلاً :
[ لقد كانت عندنا حركة قبل أسبوعين، وأريد أن اعرف مَنْ أفشى لك بهذه الحركة، وهل هو موجود بيننا؟] وكانت تلك الحادثة قد أدت إلى اعتقال السعدي .
 وقد أجابه عبد الكريم قاسم [ غير موجود هنا بشرفي] لكن السعدي رد عليه بانفعال قائلاً [ومن أين لك بالشرف]، وهنا رد عليه عبد الكريم قاسم قائلاً :[إن لي شرفاً أعتز به ].
وهنا دخل معه في النقاش عبد السلام عارف حول مَنْ وضع البيان الأول للثورة، وكان كل همه أن ينتزع من عبد الكريم قاسم اعترافاً بأنه ـ أي عبد السلام ـ هو الذي وضع البيان الأول للثورة، إلا أن عبد الكريم قاسم أصر على أنه هو الذي وضع البيان بنفسه، وكانت تلك الأحاديث هي كل ما جرى في دار الإذاعة،وقد طلب عبد الكريم قاسم أن يوفروا له محاكمة عادلة ونزيهة وعلنية، تنقل عبر الإذاعة والتلفزيون ليطلع عليها الشعب، إلا أن طلبه رُفض، فقد كان الانقلابيون على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي قطعات من الجيش  من التحرك ضدهم .
قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه، وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم، 9شباط 963، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم عبد الغني الراوي، والرئيس منعم حميد، والرئيس عبد الحق، فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم رافضين وضع عصابة على أعينهم، وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي، وسارع الانقلابيون إلى عرض جثته، وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات في محاولة لأضعاف روح المقاومة لدى جماهير الشعب والحيلولة دون تحرك أية قطعات عسكرية ضد الانقلاب.
لقد حكم الانقلابيون البعثيون وحلفائهم القوميين مدة تسعة أشهر، كان إنجازهم الوحيد خلالها  هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء والمشانق، والسجون والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم، بعد انقلاب شباط، بعد أن قاد انقلاب 18 تشرين ضد حكم شركائه البعثيين، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم، وأفعالهم المشينة، مشفوعاً بتلك الصور البشعة لجرائمهم  بحق الشيوعيين والديمقراطيين والقاسميين سماه  [المحرفون].
ملاحظة: للإطلاع على مزيد من المعلومات حول تلك الأحداث بالتفصيل راجعوا كتابنا { ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها} على موقعنا على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.com





376
من ذاكرة التاريخ
العلاقة بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم
الحلقة الثالثة 3/4
حامد الحمداني                                                        1/6/2009


أولاً:انشقاق الحزب الوطني الديمقراطي ودور الحزب الشيوعي
تفاقمت الخلافات بين أقطاب الجناحين، اليميني واليساري داخل الحزب الوطني الديمقراطي بسبب المواقف التي وقفها جناح محمد حديد من مسألة تجميد نشاط الحزب بناء على طلب عبد الكريم قاسم، أثناء غياب رئيس الحزب الأستاذ كامل الجادرجي عن العراق، مما دفع الجناح اليساري في الحزب إلى إعلان عدم اعترافه بقرار التجميد، معلناً عزمه على مواصلة نشاط الحزب، وتحدي قرار القيادة اليمينية للحزب، وكان على رأس هذا الجناح كل من السادة:
1 ـ عبد الله البستاني       2 ـ عبد المجيد الونداوي     3 ـ علي عبد القادر
4 ـ نايف الحسن           5 ـ حسان عبد الله مظفر      6 ـ ناجي يوسف
7 ـ علي جليل الورد       8 ـ حسين أحمد العاملي      9 ـ سليم حسني
10 ـ عادل الياسري 

تصاعدت الأزمة بين الجناحين عندما عاد الجادرجي إلى بغداد، ووجه انتقاداً شديداً لقرار التجميد، ولمحمد حديد، نائب رئيس الحزب، طالباً منه ومن زميله هديب الحاج حمود الاستقالة من الوزارة بعد إقدام عبد الكريم قاسم على تنفيذ حكم الإعدام بالضباط المشاركين في محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل، ولعدم امتثال الوزيرين  لطلبه سارع الجادرجي  إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب، ومن عضويته كذلك.
كان لقرار الجادرجي بالاستقالة أثره الكبير على تفاقم الأزمة بين الجناحين داخل الحزب، وخصوصا بعد فشل المساعي التي بذلها الجناح اليساري لعودة الجادرجي لقيادة الحزب، وتباعدت مواقف الجناحين عن بعضهما، نظراً لما يكنه قادة الجناح اليساري للحزب من احترام وتقدير لشخص الجادرجي، واعتزازاً بقيادته التاريخية للحزب.
وبسبب تفاقم الأزمة داخل الحزب، أقدم جناح محمد حديد على تأسيس حزب جديد باسم [الحزب الوطني التقدمي]، وتقدم بطلب إجازة الحزب في 29 حزيران 1960، وضمت هيئته المؤسسة كل من السادة :
1ـ  محمد حديد               2 ـ خدوري خدوري      3 ـ محمد السعدون
4 ـ نائل سمحيري           5 ـ عراك الزكم            6 ـ سلمان العزاوي
7 ـ عباس حسن جمعة      8 ـ رجب علي الصفار     9 ـ د.جعفر الحسني
10 ـ د. رضا حلاوي      11 ـ عبد الأمير الدروي     12 ـ عباس جودي
13 ـ حميد كاظم الياسري  14 ـ عبد الرزاق محمد 
وقد تمت إجازة الحزب دون أي تأخير، واستمرت قيادة الحزب في دعم سياسة عبد الكريم قاسم، وخاصة فيما يتعلق بمواقفه من الحزب الشيوعي.
ومن الملاحظ أن أغلبية قيادة الحزب جاءت من بين العناصر البرجوازية، ومن الملاكين، ورجال الصناعة، الذين كانوا يشعرون بالقلق الشديد من تنامي قوة الحزب الشيوعي.

ثانياً: الحزب الشيوعي يحاول تكوين جبهة وطنية ديمقراطية جديدة 
نتيجة للشرخ الكبير، الذي حدث في صفوف جبهة الاتحاد الوطني، خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، وانسحاب الأحزاب القومية منها ومن الحكومة، لم يبقَ في الجبهة سوى الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، وحتى العلاقة بين هذين الحزبين أخذت بالتردي يوماً بعد يوم بعد اتساع المد الشيوعي وسيطرته على الشارع العراقي، وهيمنة الحزب الشيوعي على كافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والعمالية، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وتلك كانت أحد الأخطاء الكبرى التي وقع فيها الحزب الشيوعي،  والتي سببت ابتعاد الحزب الوطني الديمقراطي، وبشكل خاص جناحه اليميني عنه، وسعيه الحثيث لكبح جماح الشيوعية، وتحريض عبد الكريم قاسم على الوقوف بوجه الحركة الشيوعية حرصاً على مصالحه الطبقية.
كان على الحزب الشيوعي، الذي حرصت قيادته على اعتبار تلك المرحلة هي مرحلة الوطنية الديمقراطية، عدم استفزاز البرجوازية الوطنية، واستبعادها عن النشاطات الديمقراطية، والاستئثار بكافة المنظمات الجماهيرية، والنقابات المهنية والاتحادات العمالية، والفلاحية.
أخذت العلاقات بين الحزبين بالتردي، كما أسلفنا يوماً بعد يوم حتى وصلت إلى طريق اللا عودة ، عندما حدث الانشقاق في صفوف الحزب الوطني الديمقراطي، ومن ثم استقالة رئيسه الأستاذ كامل الجادرجي، ومن ثم استقالة الجناح اليميني بزعامة محمد حديد من الحزب، وتأليفهم [الحزب الوطني التقدمي].
لقد لعب الحزب الشيوعي دوراً في ذلك الانشقاق عندما دفع، وشجع العناصر اليسارية في الحزب الوطني الديمقراطي، إثر قرار الجناح اليميني تجميد نشاط الحزب، إلى تشكيل قيادة جديدة للحزب،  ومواصلة النشاط السياسي.
 وهكذا أقدم عدد من الشخصيات السياسية المحسوبة على الجناح اليساري على إصدار بيان يستنكر فيه إقدام محمد حديد وكتله على قرار تجميد نشاط الحزب، بتحريض من الحزب الشيوعي .
فقد أصدر الحزب الشيوعي بياناً في 22 مايس 1959 بعنوان [ حول إيقاف نشاط الحزب الوطني الديمقراطي]، شجب فيه قرار التجميد، داعياً العناصر اليسارية في الحزب إلى مواصلة النشاط السياسي.
وعلى أثر ذلك أصدرت الكتلة اليسارية في الحزب، والتي ضمت كل من السادة :
1 ـ عبد الله البستاني      2 ـ عبد المجيد الونداوي      3 ـ علي عبد القادر
4 ـ نايف الحسن           5 ـ حسان عبد الله مظفر      6 ـ ناجي يوسف
7ـ علي جليل الوردي     8 ـ  حسين أحمد العاملي      9 ـ سليم حسني
10 ـ عادل الياسري
بياناً في 22مايس 959 ، حول رفض قرار التجميد، ومما جاء في البيان:
{ ونحن إذ نعلن مخالفتنا لقرار التجميد فإننا ندعو أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي المؤمنين بأداء واجبهم الحزبي في هذه الظروف إلى الاستمرار في النشاط الحزبي، كما نعتبر أن الذين أصدروا قرار وقف نشاط الحزب ومن يؤيدهم من أعضاء الحزب  إنما قرروا ذلك بالنسبة لأنفسهم فقط }.
لقد كانت تلك الخطوة من جانب الحزب الشيوعي، والجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي خطوة انفعالية بلا شك عمقت من الشرخ بين الحزبين من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى، فقد كان واضحا أن قاسم قد قرر أن يقف بوجه الحزب الشيوعي مهما فعل، أضافه إلى دفع العلاقة بين الحزبين إلى مرحلة اللا عودة.

لكن الحزب الشيوعي ذهب إلى أبعد من ذلك عندما دعا الجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي، والجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى إقامة [ جبهة وطنية ديمقراطية جديدة ]، وتوصل معهما إلى مشروع ميثاق جديد للجبهة المذكورة، في 28 حزيران 1959، وتضمن الميثاق الجديد البنود التالية:
1ـ صيانة الجمهورية، والحفاظ على خط سيرها، باتجاه الديمقراطية، وتطهير كافة مؤسسات الدولة، والقوات المسلحة من العناصر المعادية للثورة، وإحلال العناصر المخلصة والكفوءة محلها.
2ـ التضامن مع كافة البلاد العربية المتحررة في كفاحها ضد الاستعمار والصهيونية.
3 ـ السير على سياسة الحياد الإيجابي، ومقاومة الإمبريالية.
4 ـ تعزيز الأخوة العربية الكردية، والسعي من أجل الوحدة الوطنية.
5ـ اعتماد مبدأ الديمقراطية الموجهة، وإشاعة الحريات الديمقراطية، وحرية التنظيم الحزبي  والنقابي، وحرية الصحافة، لكل القوى التي تدافع عن الجمهورية، ومكاسب ثورة 14 تموز المجيدة.

 وقد وقع على ميثاق الجبهة عن الحزب الشيوعي كل من السادة :
1 ـ عامر عبد الله       2 ـ عبد القادر إسماعيل      3 ـ زكي خيري
4 ـ عزيز الحاج       5 ـ بهاء الدين نوري         6 ـ كريم أحمد
 7 ـ محمد حسين أبو العيس
فيما وقعها عن الجناح اليساري للحزب الوطني الديمقراطي كل من السادة :
   1 ـ المحامي ناجي يوسف                   2  ـ  صلاح خالص     
   3 ـ المحامي أحمد الجلبي                    4 ـ  عبد المجيد الونداوي     
   5 ـ علي جليل الوردي                       6  ـ نايف الحسن                           
   6 ـ حسين أحمد العادلي
أما الجناح اليساري للحزب الديمقراطي الكردستاني فقد وقع عنه كل من السادة :
1 ـ حمزة عبد الله           2 ـ خسرو توفيق     3 ـ عزيز صالح الحيدري
4 ـ نوري شاويس           5 ـ نزار أحمد        6 ـ شمس الدين المفتي
7 ـ صبغة الله المزيوري

سارع الموقعون على ميثاق الجبهة الجديدة إلى إرسال مذكرة إلى عبد الكريم قاسم تشرح فيها الأوضاع السائدة في البلاد، والمخاطر التي تجابه الثورة ومكاسبها، وأهمية الوحدة الوطنية في الكفاح ضد الاستعمار والرجعية، وتعلن فيها عن إقامة الجبهة، وأهدافها، وفيما يلي نص المذكرة:

نص مذكرة الجبهة الوطنية الديمقراطية للزعيم عبد الكريم قاسم:
سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم المحترم :

منذُ أنْ وطأ الاستعمار بلادنا، وطوال سنوات الكفاح المريرة، في العهد المباد، كان العمل من أجل وحدة الصف الوطني، هدف الشعب الأسمى، وسلاحه التعبوي الحاسم لتحقيق انتصاراته، وبالعكس كانت الفرقة، أحد الأسباب الرئيسية للانتكاسات، وفي غمرة الكفاح الوطني، في ظروف مده وجزره، ومن خلال تجارب النجاحات والإخفاقات، انبثقت فكرة الجبهة الوطنية الموحدة وتبلورت، وغدت ستار الشعب الحقيقي.  وكان لابدّ للقوى والأحزاب والعناصر الوطنية أن تستجيب لإرادة الشعب في الوحدة، فتضافرت جهودها، واتحدت صفوفها، وأدركت كل واحدة منها بتجربتها، وتجربة الحركة الوطنية عموماً، وبالاستناد إلى تقدير موضوعي، أن أية قوة بمفردها، وبدون مساندة الشعب، لن يكون بمستطاعها تحقيق مهمة الانتصار على الاستعمار وأعوانه.
 وبفضل تضامن الجيش والقوى السياسية، وبفضل جهودهما المشتركة، بصرف النظر عن تباين الأساليب، وتفاوت الطاقات العملية، وبفضل مساندة الشعب الحازمة، كُتب الانتصار الساحق والسريع لثورة 14 تموز الظافرة عام 1958.
إن هذه الحقيقة لم تفقد أهميتها وصحتها بعد الانتصار، وبعد تحقيق أهداف الشعب في ضرب النظام الملكي الاستعماري الإقطاعي، وفي إقامة نظام حكم جمهوري وطني متحرر، فلم يكن بإمكان أي قوة بمفردها أن تصون الثورة وجمهورية الرابع عشر من تموز، فقد آزر الشعب جيشه الباسل، وحكومته الوطنية، ووقف الجيش مع الشعب، واستندت الحكومة على الشعب وقواه الوطنية المناضلة المخلصة، وظل المخلصون لإرادة الشعب ومبادئ الثورة، وانتم على رأسهم متمسكين في كل الظروف والأوقات العصيبة التي مرت بجمهوريتنا بشعار [وحدة الصفوف] هذا الشعار الذي التزمت به ودافعت عنه الغالبية الساحقة من القوى الوطنية، ولم تشذ عنه سوى العناصر والجماعات التي تضافرت جهودها مع جهود الطامعين، والقوى المعادية للجمهورية، من الاستعماريين، والإقطاعيين. ولولا وعي الشعب ويقظته ويقظة القوى الوطنية لكان بمستطاع تلكم الزمر المعادية والمفرقة شق وحدة الشعب وتلاحم صفوفه، والتسبب في جلب الكوارث الحقيقية على البلاد.
بيد أن الشعب فوت الفرص على الأعداء والطامعين ومفرقي الصفوف، وبقي صامداً موحداً تحت زعامتكم، وقد أصبح ذلك ممكناً بفضل وحدة الجيش والشعب بقيادتكم الحكيمة الحازمة، هذه الوحدة التي كانت العامل الأساس الذي مكن البلاد من تخطي المؤامرات والهزات التي تعرضت لها والقضاء عليها بتفوق باهر، وسرعة فائقة.
وكما أن الشعب وقواه الوطنية، وقيادة البلاد، أدركت أهمية الوحدة الوطنية  وضرورتها التي لا غنى عنها، فقد أدرك الاستعمار وأعوانه الطامعون كذلك، عظم وخطر وحدة الصف على مشاريعهم، ومؤامراتهم، ومآربهم الهادفة إلى نسف كيان الجمهورية، وضرب زعامتكم.
لقد ركز الاستعمار خلال الأشهر الأخيرة بوجه خاص كل جهوده من أجل بث الشكوك والريبة داخل القوى الوطنية بغية الإخلال بوحدتها، وتأليب بعضها ضد البعض الآخر، لفتح الثغرات،والنفوذ منها، جرياً على سياسة [فرق تسد]، وتعلمون سيادتكم أن الاستعمار لا ينهج لتحقيق أغراضه سُبلاً مكشوفة يمكن تمييزها بسهولة ويسر، بل يعمد، وهو العدو المسلح بتجربة واسعة في هذا المضمار، إلى استخدام أعقد الخطط ، وأكثر السبل الماكرة، وغير المباشرة، والملتوية والخبيثة.
ولئن كان الاستعمار أخفق في نسف استقلال البلاد، وقلب الحكم الجمهوري الديمقراطي، والإطاحة بزعامتكم، فإن هدفه هذا لم يتغير، ولن يتغير، حيث لا يمكن للاستعمار أن يتخلى عن مساعيه، ودسائسه، في سبيل إرجاع نيره المهشم، واستعادة نفوذه المنهار، حتى لو أدى ذلك إلى إغراق الوطن في بحر من الدماء الزكية.
إن مما يأسف له كل مخلص، حدوث بعض الأمور والملابسات والمواقف التي صدرت من هذا وذاك من الأطراف الوطنية، والتي أدت إلى تقوية أمل المستعمرين، وانتعاش مقاصدهم اللئيمة ضد بلدنا الحبيب، وكان من نتائج ذلك مع الأسف، هذه البلبلة الواضحة التي سرت في صفوف الشعب، وقواه الوطنية، وخلخلت الصف الوطني .
إننا حينما نشير إلى هذا الوضع المؤسف، فنحن لا نتطير منه بحال من الأحوال، ولسنا مساقين بنظرة التشاؤم، وإنما نستند إلى وقائع ملموسة، اطلع عليها الرأي العام، وتحسستها أوسع الجماهير، والعناصر الوطنية المخلصة، وفعلت فعلها السلبي في سريان القلق المشروع في الأوساط الشعبية، والجماهير محقة كل الحق في استنتاجاتها وشعورها، خاصة وأن الشعب تعلم من خلال تجربته، وتجارب الأمم الأخرى، أن الاستهانة بالأعداء المتربصين، سواء كانوا داخليين أم خارجيين، هي داء وبيل، أصابت عدواه حركات وطنية كثيرة، وأدت بها إلى الانتكاس والخذلان.

 ومما لا ريب فيه أن المخلصين كافة لا يوجد بينهم من يرغب، أو يقبل مثل هذا المصير لثورتنا المباركة المظفرة، التي هي كما أكدتم سيادتكم دائماً للشعب إنها حصيلة دماء غزيرة وعزيزة، وجهود وآلام بذلتها الملايين من أبناء الشعب خلال سنوات طويلة من الكفاح، والعذاب المتواصل، وقد آن للشعب المكافح الصابر عقوداً من السنين، بل دهوراً، أن يحصد الثمار، ويتمتع بحريته الكاملة، وحقوقه الديمقراطية العادلة، وخيرات بلاده الوفيرة  وهذا ما يناضل من أجله كل المخلصين، كما سبق لسيادتكم أن صرحتم به دائماً.
 إن الواقع للوضع المؤسف هذا الذي أشرنا إليه قبل قليل قد أثار، ولم يكن بالإمكان أن لا يثير، أقصى درجات اليقظة لدى الشعب، وحفز وعيه على الاستعانة بتجاربه، وتجارب الأمم الأخرى التاريخية، فبرز على الألسن، كما تغلغل في القلوب أكثر من أي وقت مضى شعار وحدة [الصف الوطني] وتقويته، والدفاع عنه وعن الجمهورية، و مكاسب ثورة الشعب وجيشه المقدام .
وما كان لهذه الرغبة النبيلة الواعية لدى جماهير الشعب إلا أن تنعكس على مختلف قواه الوطنية التي يقف على رأسها ويرعاها سيادتكم .
ونحن كجزء من هذه القوى الوطنية حملنا شعورنا بالمسؤولية، إزاء هذا الوضع الراهن، وإزاء مهمة الحفاظ على مكاسب الشعب، وعلى تضافر الجهود، ودفعنا إلى التقارب بين بعضنا، لدراسة المعالم المميزة للظرف الذي يكتنف الجمهورية، وتحديد واجباتها فيها.
ولقد توصلنا بنتيجة دراستنا للعوامل التي أدت إلى الإخلال بوحدة الصف الوطني والإساءة إليه، وتحري الحلول الممكنة، والعملية التي تساعدنا على بعثها مجدداً، وعلى أفضل وجه، وتوصلنا إلى مواصلة نشاطنا في [ جبهة الاتحاد الوطني ]، واتخاذ جميع الخطوات المقتضية لإعادة حيويتها، وتحويلها إلى واقع ملموس  وجهاز وطني فعّال، قادر على تعبئة، وتوحيد صفوف الشعب.
 وبناء عليه، فقد تم الاتفاق فيما بيننا  على إقرار[ ميثاق إنشائي ]  نبلور ونصوغ فيه وجهة نظرنا المشتركة في المسائل الكبرى التي نصت عليها بنود الميثاق، والتي تواجه البلاد في الظرف الراهن، سواء ما يتعلق منها بصيانة الجمهورية، أو بتخطيط وبناء مستقبل البلاد، وهذا الميثاق الوطني هو عهد مقدس بين القوى المنضوية، أو التي ستنضوي في المستقبل تحت لواء جبهة الاتحاد الوطني، والتي ستمارس نشاطها المشترك تحت قيادتكم الحكيمة.
وما من شك أن ما جاء في هذا الميثاق قد يحتمل الإضافة، أو التعديل، متى ما أرادت  الأطراف المشتركة فيه، أو متى ما ارتأت القوى الوطنية ضرورتها.
وباعتقادنا أن خطوتنا هذه من أجل وحدة الصفوف ستكون ذات أهمية كبرى، وأكثر جدوى، في خدمة الجمهورية، كلما ضمت جبهة الاتحاد الوطني قوى شعبية أخرى، وإمكانيات جديدة.
 إننا إذ نتقدم إليكم بصورة من ميثاقنا الوطني الذي تم اتفاق كلمتنا عليه، برغم الاختلاف في اتجاهاتنا، وميولنا السياسية، نحن القوى المؤتلفة في جبهة الاتحاد الوطني، لنا وطيد الأمل بأننا سنجد من لدن سيادتكم كل التشجيع،والرعاية، وتقبلوا فائق احترامنا.
                                                        بغداد 28 حزيران 1959

ثالثاً ـ عبد الكريم قاسم يتجاهل المذكرة ويواصل سياسته تجاه الحزب الشيوعي:
إن عبد الكريم قاسم، الذي كان قد عقد العزم على ضرب الحزب الشيوعي  والحد من نشاطه، والسير في طريق الحكم الفردي، والاستئثار بالسلطة، تجاهل تلك المذكرة، وتجاهل الجبهة، بل  وأوغل أكثر فأكثر في سياسته الهادفة إلى تجريد الحزب الشيوعي من كل أسباب قوته، وجماهيريته، وتوجيه الضربات المتلاحقة له، ولم تفد الحزب تلك العبارات التي أطرى بها على قاسم، وسياسته الحكيمة!! في زحزحته عن مواقفه تجاه الحزب  بل جعلته يندفع أكثر فأكثر في هذا السبيل، مصمماً على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه السياسي، استناداً لقانون الأحزاب والجمعيات الذي أصدره في 1 كانون الثاني 1960.
أما محمد حديد ورفاقه في الحزب الوطني التقدمي فقد رفضوا الانضواء تحت راية تلك الجبهة، معللين ذلك بأن الحزب الشيوعي قد عمل من وراء ظهر الأحزاب، وأن تلك الجبهة هي من صنع الشيوعيين، ورفضوا أي نوع من التعاون مع الحزب الشيوعي، ومع الجبهة المعلنة.
وهكذا فإن هذه الجبهة لم تستطع أن تؤدي مهامها، وتحقق أهدافها، نظراً لتعقد الظروف السياسية، وتدهور العلاقات بين أطراف القوى الوطنية من جهة، ومواقف عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، إضافة للشرخ الذي أصاب الحزب الوطني الديمقراطي، وانعزال القوى القومية، وتنكبها لمسيرة الثورة، ولجوئها إلى التآمر المسلح  والمكشوف لإسقاطها، والإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.


377
من ذاكرة التاريخ
العلاقة بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم
الحلقة الأولى
حامد الحمداني                                                         30/5/2009

الحزب الشيوعي يعلن إسناده للثورة وسلطة عبد الكريم قاسم دون قيد أو شرط
من المعلوم أن الحزب الشيوعي لم يشترك في حكومة الثورة التي شُكلت صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، رغم ثقله السياسي الكبير، ورغم مساهمته الفعالة في نجاح الثورة، وإسنادها منذ اللحظة الأولى واستمرت حتى النهاية على الرغم من انقلاب الزعيم قاسم على الحزب.
لم يطلب الحزب الشيوعي آنذاك إشراكه في السلطة بسبب الظروف الدولية الخطيرة التي كانت تحيط بالثورة، فالقوات البريطانية نزلت في الأردن، والقوات الأمريكية نزلت في لبنان فور وقوع الثورة،  والقوات التركية والإيرانية تمّ حشدها على الحدود الشمالية والشرقية، وكان واضحاً أن الإمبرياليين وعملائهم في تركيا وإيران قد صُدموا بقيام الثورة التي هدمت أحد أهم أركان حلف بغداد، وأضاعت أحلامهم في ضم بقية الدول العربية إلى ذلك الحلف، وخاصة سوريا.
ولم يكن الحزب الشيوعي، ولا السلطة الثورية الجديدة يريدان مزيداً من الاستفزاز للإمبرياليين آنذاك، لكي لا يصورا ثورة 14 تموز على أنها ثورة شيوعية قامت في بلد كالعراق له أهمية قصوى في حساباتهم الإستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
 فالعراق بلد نفطي أولاً، ويقع على رأس الخليج ثانياً، ومعلوم أن الخليج يتسم بأهمية كبرى، بكونه أكبر مورد للنفط في العالم، لذلك كله، سكت الحزب الشيوعي عن المطالبة في إشراكه في السلطة، أسوةً ببقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، ولم يكتف بسكوته هذا، بل بادر منذُ الساعات الأولى لانبثاق الثورة إلى إرسال برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم يبلغه بوضع كافة إمكانيات الحزب في خدمة الثورة وحمايتها دون قيدٍ أو شرط.
لقد أدركت قيادة الحزب الشيوعي تماماً أن المهمة الأولى بالنسبة للحزب هي صيانة الثورة، وحمايتها من تدخل الإمبرياليين، وشل نشاط الرجعيين الرامي إلى إجهاضها، وإعادت العراق الجامح إلى سيطرتهم من جديد، ولذلك سارعت القيادة إلى إرسال البرقية التالية للزعيم عبد الكريم قاسم:
{سيادة رئيس مجلس الوزراء عبد الكريم قاسم المحترم :
نهنئكم من صميم قلوبنا على خطوتكم المباركة التي وضعت نهاية حاسمة
 لعهد طويل من المآسي والمحن التي قاسى منها شعبنا المجاهد والنبيل
على يد الاستعمار وأعوانه.
إننا نعبر عن تفاؤلنا بأن هذه الخطوة الحاسمة ستكون فاتحة عهد جديد، عهد حرية وتطور عراقنا الحبيب، وتبوء شعبنا البطل مركزه في الموكب الظافر، موكب العروبة المتحررة  الناهضة، المحبة للسلام، ومواكبة الإنسانية العاملة من أجل تحررها الأبدي من الاضطهاد، والاستعمار.
إن شعبنا العراقي، بعربه وأكراده، سيسجل لكم بفخر جرأتكم وتفانيكم من أجل تحقيق أهدافه الوطنية الكبرى، وهو يحمي ويصون بدمائه الغالية جمهوريته الوطنية الفتية، وإنه لعلى ثقة كبرى من أن قدرته على القيام بهذا الواجب المقدس، ومن مساندة قوى التحرر العربية في جميع ديارها، وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة، ومن قوى الحرية والسلم في جميع أنحاء العالم وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي.
إن اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي تضع قوى الحزب لمؤازرتكم، وللدفاع عن جمهوريتنا البطلة.
                        سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
                                                 14 تموز 1958

لم يكتفِ الحزب الشيوعي ببرقيته المرسلة إلى عبد الكريم قاسم صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، بل أتبعها بمذكرة إيضاحية حول السياسة التي يرى أهمية الأخذ بها لقيادة مسيرة الثورة، وهي مذكرة تعبر عن سياسة الحزب تجاه الأحداث الجارية، والمستقبلية للثورة.
ركزت المذكرة على ضرورة انتهاج سياسة وطنية واضحة، وذلك عن طريق الإعلان الرسمي لانسحاب العراق الفوري من حلف بغداد، وإلغاء كافة الاتفاقات المعقودة مع بريطانيا، والولايات المتحدة، والتي تخل بسيادة العراق واستقلاله، وتتعارض مع سياسة الحياد الإيجابي، والتعاون مع جميع الدول على قدم المساواة، من أجل مصلحة الشعب والوطن.
كما دعت المذكرة إلى إعلان الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، وإلى تبادل التمثيل الدبلوماسي مع البلدان الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وقيام علاقات اقتصادية، وثقافية وغيرها، مما يعزز موقف العراق، ويحمي مصالحه.
كما دعت المذكرة إلى فرض رقابة حازمة على مؤسسات شركات النفط، والبنوك، وكافة المؤسسات الاقتصادية الكبرى ذات العلاقة الكبيرة بحياة الشعب، وحماية اقتصاد البلاد من مؤامرات الإمبريالية وعملائها في الداخل، والهادفة إلى تخريب الاقتصاد الوطني، ومنعه بشتى الوسائل والسبل من التطور والنمو لخدمة طموحات الشعب والثورة.
كما دعت المذكرة إلى انتهاج سياسة وطنية أساسها الثقة بالشعب، وإطلاق الحريات الديمقراطية، والسماح للشعب بممارسة حقوقه السياسية، بتأليف الأحزاب، والجمعيات، والمنظمات الجماهيرية، وحرية الصحافة، والعمل على إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين، بأسرع وقت ممكن، وتكوين فصائل المقاومة الشعبية وتسليحها لتكون درعاً واقياً للثورة، جنباً إلى جنب مع جيشنا المقدام، وتطهير جهاز الدولة، والأمن، والشرطة، من العناصر الفاسدة، والمعادية للثورة.
كما دعا الحزب الشيوعي إلى الاهتمام بالأعلام، ووضعه في أيدي أمينة على مصالح الشعب والوطن، نظراً للدور الهام الذي يلعبه الإعلام في الدفاع عن مصالح الشعب وحماية الثورة، وفضح ألاعيب المستعمرين، وأذنابهم في الداخل.
لقد كانت العلاقات بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم على ما يرام، فقد التفّ الحزب حول قيادته، وسانده منذُ اللحظات الأولى للثورة، ووقف ضد كل المحاولات التآمرية التي جرت ضد قيادته، وضد مسيرة الثورة، وخاصة عندما قاد عبد السلام عارف في أوائل أيام الثورة ذلك الانشقاق بين الفصائل الوطنية محاولاً فرض الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، ودعم الأحزاب القومية له في تلك المحاولات التي انتهت بالتآمر المسلح.
لقد وقف الحزب الشيوعي موقفاً حازماً من أولئك الذين حاولوا قلب السلطة  وسيّر المظاهرات المؤيدة لقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والتي ضمت الآلاف المؤلفة من جماهير الشعب التي كانت تهتف بالشعار الذي رفعه الحزب، والذي يدعو إلى إقامة الاتحاد الفدرالي مع العربية المتحدة، ونبذ شعار أسلوب الإلحاق القسري الذي رفعته القوى القومية وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان عبد الكريم قاسم بحاجة ماسة لدعم الحزب ومساندته آنذاك في صراعه مع القوى القومية والبعثية، فقد أصدر الحزب بياناً إلى الشعب العراقي حول الاتحاد الفيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة وهذا نصه:
بيان الحزب الشيوعي حول الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة :
{ إن الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية الأخرى، وأوساط وطنية مختلفة، وجماهير شعبية غفيرة قد أبدت رأيها، حتى الآن، باعتبار الاتحاد الفدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة، واليمن، هي خير خطوة يعمل من أجلها العراق في كفاحه القومي نحو الوحدة العربية الشاملة. إن الحزب الشيوعي العراقي،والقوى الوطنية الديمقراطية لم ترفع شعار الاتحاد الفدرالي اعتباطاً، ولا هي مدفوعة بعواطفها فحسب، بل أن الدراسة الموضوعية والذاتية النزيهة لواقع شعبنا، وواقع أُمتنا، والشعور بالمسؤولية التاريخية إزاء القضية القومية العربية، مستقبل تطورها الوطني الديمقراطي،هما العاملان الأساسيان اللذان أوصلاهما إلى رفع هذا الشعار.
أن الجمهورية العراقية الفتية تحمل معها الآن آمال جماهير شعبنا، بعربه وأكراده، وبمختلف طبقاته الاجتماعية، وتعطشها إلى الحريات الديمقراطية التي حرمها منها الاستعمار طوال عشرات السنين، بغية تمكين سيطرته عليها، ومنعها من تنظيم نفسها، والإفصاح عن إرادتها للدفاع عن حقوقها العادلة. وهي عندما تسمع بالانضمام للجمهورية العربية المتحدة، تقلق أشد القلق على مصير حقوقها الديمقراطية، بسبب انعدام حرية التنظيم الحزبي، والاجتماعي، وحرية إبداء الرأي في الجمهورية العربية المتحدة.
ولا يهون عليها أن تستسلم لمستقبل لا يضمن لها حرية النشاط الوطني، السياسي والاجتماعي والفكري، والكفاح الاقتصادي في  الدفاع عن حقوقها المعيشية. كما أن الشعب الكردي، الذي امتزجت دماء أبنائه الشجعان، بدماء أبناء الشعب العربي الميامين في الكفاح ضد عهود الظلم والطغيان، هو الأخر قلق على مصير حقوقه القومية، كشعب ينشد لنفسه بحق أسباب التقدم والرفاه.
كما أكد البيان على أن اختلاف التطور الاقتصادي بين العراق والعربية المتحدة، والتأخر الناجم عن عهود التخلف، والسيطرة الإمبريالية، يتطلب استثمار ثروات البلاد لتطوير الاقتصاد، والرأسمال الوطني، ولتأمين الحاجات المادية الملحة لسائر جماهير الشعب.
وإن إلحاق العراق بالعربية المتحدة، بالأسلوب الذي نادت به الأحزاب القومية سوف يلحق الضرر الكبير بمصالح الشعب العراقي، وسوف لا يوفر الفرص الكافية للازدهار والتطور، ولا شروطاً عادلة للتعاون الاقتصادي، نظراً لاختلاف درجات تطور كل منها. (2)

الحزب الشيوعي يطلب إشراكه في السلطة :
في الخامس من تشرين الثاني 1958، رفع الحزب الشيوعي إلى عبد الكريم قاسم مذكرة هامة دعاه فيها إلى الاعتماد على الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، مذكراً إياه بإشراك كافة أحزاب جبهة الاتحاد الوطني في السلطة باستثناء الحزب الشيوعي.
 وفي حين كانت الأحزاب القومية لا تنسجم مع اتجاه ومسيرة الثورة، ومحاولاتهم المتكررة لإلحاق العراق بالجمهورية العربية المتحدة ، وكان الحزب الشيوعي يقف جنبا إلى جنب مع السلطة الوطنية، مسخراً كل قواه
من أجل دعم مسيرة الثورة، وتحقيق أهدافها.
 وفي حين كانت رائحة التآمر تبدو واضحة على الثورة وقيادتها، ذاد الحزب الشيوعي عن السلطة، وحمى الجمهورية من كيد المتآمرين عليها، وقدم التضحيات الكبيرة في هذا السبيل، وعلى ذلك فإن من حق الحزب الشيوعي أن يعامل على قدم المساواة مع بقية الأحزاب السياسية على الأقل وفيما يلي نص المذكرة :
1ـ مذكرة الحزب الشيوعي لعبد الكريم قاسم :(3)
سيادة الزعيم عبد الكريم قاسم المحترم:

نعتقد أيها الأخ أن تجربة الحكم خلال الأشهر القلائل التي انقضت منذُ بدء الثورة قد أوصلتكم إلى حقائق واضحة نرجو أن تسمحوا لنا في التحدث معكم بشأنها:
إن اصطفاؤكم للحكم بعض العناصر الحزبية، ولاسيما بعض قادة الحزب الوطني الديمقراطي، هو بلا شك عمل سديد، وقد برهنت التجربة على سداده، حيث قام وزيرا الحزب الوطني الديمقراطي بواجباتهما بكفاءة، وإخلاص كما نظن. وكان اختياركم لبعض العناصر المستقلة، في بدء الثورة أمراً ربما وجدتم أن الظروف كانت تستلزمه وقتئذٍٍ. لكن سير الثورة الحثيث، بقيادتكم الواعية والنشطة، قد خلق للحكم مهمات جديدة وخطيرة، عاصرتها بعض الصعوبات الجدية، المنبعثة أساساً من نشوء تناقض بين تركيب السلطة، وبين القوى الشعبية الحقيقية التي تمثلها هذه السلطة.
ومن المعلوم أيها الأخ، أن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب، هي من الفلاحين والعمال، والجماهير الكادحة، وثمة تاريخ طويل من الجهاد يشهد بأن ليس في العراق حزب من الأحزاب يستطيع أن يمثل أماني وأهداف هذه الجماهير كما يمثلها حزبنا أولاً، وسائر الأحزاب، والقوى الديمقراطية ثانياً .
إن تاريخنا حافل بالحقائق، يشهد بأن هذه الجماهير قد أولت حزبنا، وسائر القوى الديمقراطية ثقتها التامة، ومنحتها حق التعبير عن مصالحها، هذا بالإضافة إلى فئات واسعة من المثقفين ترى في كفاح حزبنا تحقيقاً لأمانيها في التحرر والازدهار.
ومما لا ريب فيه أن متابعة السير في إبعاد الممثلين الحقيقيين لهذه الجماهير عن السلطة السياسية سيوجد حالة من التناقض يستعصي حلها، وسينشأ من ذلك صعوبات حقيقية في إدارة شؤون السلطة، كما أتضح من تجربة الأشهر الأخيرة.
لقد كان اعتمادكم في تكوين السلطة على بعض العناصر البعيدة في أفكارها عن مشاعر الشعب، والتي لا تملك تجربة جهادية، تمكنها من التعرف على حقائق الوضع الشعبي، قد أوجد للحكم بعض الصعوبات التي لا تخفى عليكم، وأقام في طريق الثورة بعض العراقيل.
كما أن إدخالكم في السلطة بعض العناصر المشبوهة، أو الضعيفة القدرة على تفهم حقيقة الثورة، ومجاراة سيرها الحثيث، قد خلق للحكم، ولكم شخصياً، صعوبات وأعباء، نعتقد أنكم قد عانيتم منها الكثير.
 ونتيجة لذلك كله، اضطررتم إلى توزيع الجهد، بدلاً من تركيزه، واضطررتم لأن تعملوا بيد واحدة، وتحجزوا الخطر باليد الأخرى، اضطررتم لأن تناموا بعين واحدة، وتتركوا الأخرى ساهرة مترقبة.
نحن نعرف ـ كما يعرف أبناء الشعب ـ أنكم أصبحتم مضطرين، بسبب هذا الوضع غير الطبيعي في تركيب السلطة، أن تكرسوا قسطاً كبيراً من جهودكم، ومن وقتكم، لرقابة المساعي المريبة، ولشل الأيدي العابثة.
كما حمّلتم أنفسكم مهمة أخذ الأعباء عن بعض المسؤولين، الذين تعوزهم الجدارة، والنية الخالصة، وكذلك عن بعض الأجهزة التي لم تبرهن على نزاهة قصدها في تثبيت كيان الجمهورية، ومسايرة سياستها الديمقراطية.
لقد أصبح واضحاً أنكم أخذتم بأيديكم جملة من المسؤوليات والمهام التفصيلية، حرصاً منكم على تحقيق أهداف الثورة، وضمان سيرها المظفر ومما لاشك فيه أن هذه المسؤوليات والمهام، لو كانت بأيدي أمينة وقديرة، لما اضطررتم إلى ذلك، ولتيسّر لكم وقتٌ فسيح تستطيعون فيه التفكير  والمساهمة بقسط أوفر في رسم السياسة العليا للبلاد، والتركيز على المسائل الكبرى فقط.
إننا نعلم أن رئيس الوزراء يأخذ على عاتقه الآن قسطاً كبيراً من المهام، الكثيرة والثقيلة، وإنه لهذا السبب، يحمل نفسه فوق طاقتها، ونحن على يقين  بأن ذلك ليس في مصلحة الجمهورية أبداً، لأن شؤون الحكم ينبغي أن توزع على أيدٍي مخلصة وأمينة، لكي يستطيع قائد الدولة أن ينصرف إلى مسائل السياسة العليا.
إن تفسيرنا لهذا الوضع المرهق هو، كما بينا، وضع غير طبيعي في تركيب السلطة. إن في العراق وضع خاص وفريد، ونحن لا نضيف إلى الحقيقة جديداً، عندما نذكر أن القوى الديمقراطية في البلاد، هي القوى الساحقة الكفوءة، والدرع الحقيقي لوقاية مكاسب الثورة والحكم الوطني. تلك هي الحقيقة التي برهنتها حقائق السنوات العصيبة، قبل الثورة، وكشفت عنها وقائع ما بعد الثورة.
وليس اعتباطاً أن تمنح الجماهير الشعبية ثقتها المطلقة للحركة الوطنية الديمقراطية، وتتبنى شعاراتها وأهدافها، وتذود عن سياستها.
 إن الجماهير الساحقة من الشعب تجنح  بقوة لا مثيل لها صوب الحركة الديمقراطية، وهي تفعل ذلك عن وعي أصيل، وإدراك واقعي سليم.
لقد تعرفت الجماهير، من تجاربها المريرة أن القوى الديمقراطية إنما تمثل عن إخلاص وجدارة، أعز أمانيها ومطامحها، وإنها تضم في صفوفها صفوة من أبناء البلاد النجباء البواسل، الذين لم يتلوثوا بأدران الخيانة، ولم يهادنوا المستعمر، أو استسلموا لطغيانه، ولم يطمحوا إلى أكثر من تحقيق الخير للبلاد.
تعلمون أيها الأخ  أن القوى الديمقراطية كانت ولا تزال وستظل إلى النهاية الأساس للحكم الوطني الشعبي الأصيل، والصخرة العنيدة ، التي تتحطم عليها مؤامرات المستعمرين، ومكائد أعداء الثورة.
ولقد رأى الجميع بأم أعينهم، أن الذين تنكبوا عن الحقيقة وراحوا يناطحون الصخرة لم يجنوا من وراء طيشهم  غير تهشيم رؤوسهم، وارتدادهم إلى أعقابهم خاسرين، ذلك هو واقع العراق أيها الأخ.
ولذلك يصبح واضحاً أن قضية الحكم لا يمكن أن تحل إلا بالاستناد إلى هذا الواقع، وإن أي حل آخر لا يمكن أن ينتهي إلا إلى نتيجة واحدة، إلى أن تأخذوا على عاتقكم أعباء تفيض عن قابلية الإنسان، وفي هذه الحالة ستجدون أنفسكم في حالة من الإرهاق المستمر، تعملون بيدٍ، وتضربون باليد الأخرى، وتنامون بعينٍ، وتحرسون بالعين الأخرى.
إن الحل الوحيد، الحل الطبيعي المنسجم مع واقع الحال في العراق، هو الحل الذي يتوجه إلى إعادة النظر في تشكيلات السلطة، على أساس الاستناد إلى مبدأ التعاون بين قيادة الحكم العليا من جهة، وبين الجبهة الشعبية، المكونة من الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والقوى الديمقراطية الجديدة في الجيش، والأوساط الديمقراطية الأخرى، والعناصر القومية النظيفة.
تلك هي الحقيقة الكفوءة المخلصة، التي تمثل عن جدارة وحق، أهداف ومصالح الغالبية الساحقة من الشعب. وإن الحكم الذي يستند إلى هذه القاعدة الشعبية الواسعة والمتينة، هو الحكم الديمقراطي الصحيح، والسلطة التي تتكون على هذا الأساس، هي السلطة القوية التي تتمتع بالنفوذ والبأس، والقادرة فعلاً على قيادة الثورة نحو أهدافها، والصمود بوجه أحداث الزمن. ثمة من له مصلحة في تجنيب سياسة البلاد عن السير في هذا الطريق القويم  إنهم يهدفون إلى تعميق التناقض في طبيعة الحكم، وإرباك مسيرة الثورة، وبالتالي إضعاف السلطة، وحفر هوة بينها وبين الجماهير الواسعة من الشعب. إن هؤلاء الذين يضربون على وتر[الخطر الشيوعي]، إنما هم أناس يرددون شعارات الاستعمار، وينفذون خططه، ومؤامراته على كيان جمهوريتنا البطلة. إنهم يسيرون على سِنة الاستعمار في التخريب والدس، على ذات الطريق التي سار عليها نوري السعيد، وإضرابه من الطغاة، في كل زمان ومكان.
إنهم، مثلاً، يهوشون ويفترون ويدسون على حزبنا المنشورات والشعارات  والسياسات، ويزعمون أننا إذ نضع إمكانياتنا وطاقاتنا في خدمة أهداف الثورة، وحراسة الحكم الوطني من الأخطار، إنما نسعى إلى هدف خفي، ألا وهو اغتصاب السلطة، وفرض النظام الشيوعي في البلاد!!.
إن المرء لا يحتاج إلا إلى قليل من حسن النية، لكي يتبين أهدافنا الحقيقية في دعم الحكم الوطني، تلك هي الأهداف التي ليس من أخلاقنا أن نكتمها على أحد .
إن الشيوعيين أُناس لا يتقنون صناعات السياسة، وهم إذ ينبرون للدفاع عن حياض الثورة، ويدعمون قيادة عبد الكريم قاسم، وسياسته، إنما هم يفعلون ذلك عن إيمان، بأن في عملهم هذا خدمة كبرى لمصالح شعبنا، ولذلك فهم رغم كل هذه الضوضاء التي تثار حولهم، واثقون بأنفسهم  ثقة لا تتزعزع ، وسيتابعون موقفهم هذا إلى نهاية الطريق، وبمزيد من الإصرار، ونكران الذات.
وثمة آخرون يدعون إلى [الاعتدال]، لكنهم رغم نياتهم الحسنة، يلتقون مع الفريق الأول في نتيجة واحدة، هي وضع السلطة في موضع صعب لا يأتلف مع واقع العراق، وهو بالتالي يساهم في عزل السلطة عن الجماهير الشعبية الواسعة، ويضعف كفاءتها القيادية.
إن هؤلاء مثلاً، يصرون على إبعاد الشيوعيين والتقدميين والعناصر الديمقراطية الكفوءة عن الحكم، وذريعتهم في ذلك هو تحاشي استفزاز المستعمرين.
إن الإنسان السوي لا يحتاج إلى أعمال الفكر لكي يدرك بوضوح أن المستعمرين قد استفزوا، وروعوا وانتهى الأمر منذُ صبيحة 14 تموز.
 لقد استفزوا منذُ أن دُكت هياكل نظامهم الاستعماري، وأبيد عملائهم صبيحة 14 تموز. وإن عدوهم اللدود الذي أستفزهم هو عبد الكريم قاسم وصحبه، وليس الشيوعيين وحدهم، ولذلك عملوا، وسوف يعملون كل ما في وسعهم لتحطيم النظام الذي قام على أنقاض نظامهم البائد، ومصالحهم الزائلة، وإن كانوا لم يستطيعوا حتى الآن أن يبلغوا هدفهم، فليس ذلك إلا لأن يدٍ قديرة ماحقة ستلطمهم، ولأن الشعب العراقي وجيشه يقفان حارسان قويان على مصائر الوطن.
إن تجربة سوريا، ومصر، وإندونيسيا، وإيران، والأردن، وكل بلد أنتزع حريته من بين مخالب الوحش الاستعماري، تدل دلالة قاطعة على أن المستعمرين لا يرتضون بأقل من عودة نظام عبوديتهم القديم، بقيادة صنائعهم وأذنابهم، كما تدل هذه التجارب على أن المراضاة، والمصانعة لا تجدي مع  المستعمرين.
إن ثورة العراق الظافرة قد جاءت ضربة موجعة وهائلة للمستعمرين وأعوانهم، ولذلك فسيظل العراق هدفاً لمؤامراتهم، وعدوانهم، سواء أتجه الحكم نحو إشراك التقدميين في الحكم، أو سار في طريق المراضاة، والمصانعة.
تلك هي مسألة فوق الجدل، وفوق كل ريب. إن تهويشات عملاء الاستعمار في الداخل ضد الخطر الشيوعي المزعوم، وسعيهم المحموم لإبعاد التقدميين، والشيوعيين، والديمقراطيين، والعناصر النظيفة والكفوءة عن المساهمة في أجهزة السلطة، ليس إلا تنفيذاً أميناً لخطط الاستعمار الرامية إلى إضعاف السلطة تمهيداً لضربها، وإسقاطها.
إن دعاة " الاعتدال " و" تحاشي استفزاز العدو" ، رغم نياتهم الحسنة، هم على خطأ بّين، وسيظلون ينقبون عبثاً، ودونما طائل، عن عناصر معتدلة، لا حزبية، غير مشهورة بأفكارها التقدمية، كفوءة، ومخلصة، ونزيهة!!.
إن مثل هذه العناصر الفريدة موجودة فعلاً، لكنها غير موجودة إلا في أوساط الحركة الديمقراطية، وأوساط الشيوعيين، والحزب الوطني الديمقراطي، والجيش، والديمقراطيين المستقلين، والقوميين الحقيقيين النظيفين.
هذا هو الطريق الوحيد، والصحيح، والمؤتلف مع حقيقة الواقع، إن هذا هو الحل الجدي والصائب لمسألة الحكم، وإن الأخذ بهذا الواقع هو الذي سيرسي قواعد الحكم على أسس ديمقراطية وطيدة، ويهيئ لقيادة البلاد جهازاً كفواً، فعالاً ومخلصاً، يأخذ على عاتقة نصيبه من مهام قيادة الحكم، ويوفر لزعيم البلاد معالجة مسائل السياسة العليا للبلاد.
إننا أيها الأخ الكريم، إذ نضع أمامكم هذه الحقائق، نرجو أن تكونوا على يقين أننا لا نفكر قط بأنفسنا، ولا نجني أي مكاسب حزبية، وإنما نفكر أولاً وقبل كل شيء بمصلحة البلاد، بنجاح الثورة، بترصين الحكم الوطني، والسير معكم نحو الظفر النهائي، هذا وتفضلوا بقبول خالص اعتزازنا، واحترامنا.
                                المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي
                                           15 تشرين الثاني 1958
لقد كان لهذه المذكرة دوي كبير في الأوساط السياسية و للسلطة العليا على حد سواء، فالقوى القومية فسرته بأنه خطة الحزب الشيوعي في التمهيد للوثوب إلى السلطة، أما الحزب الوطني الديمقراطي، ممثل البرجوازية الوطنية في السلطة، فقد أبدى تخوفاً من تنامي قوة الحزب الشيوعي، وتأثير ذلك على مستقبل الحكم في البلاد، أما الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد كانت الريبة والشكوك تخالجه من تنامي قوة الحزب الشيوعي من جهة، وحبه الشديد للاستئثار بالسلطة لوحدة من جهة أخرى، ولذلك فقد تجاهل مذكرة الحزب، ولم يرد عليها، وكان على الحزب الشيوعي أن يعي ذلك منذُ ذلك الوقت.
وجاءت مسيرة الأول من أيارـ  عيد العمال العالمي ـ في بغداد، والتي نظمها الحزب الشيوعي، طارحاً من خلالها شعار[ إشراك الحزب الشيوعي في السلطة] بيد الجماهير، وضخامة تلك المسيرة، التي ضمت أكثر من مليون من أعضاء، ومؤيدي، وجماهير الحزب، من العمال والفلاحين ، والمدرسين والطلاب والأطباء والمحامين والمثقفين ، كصاعقة نزلت على الرؤوس جميعاً، وأدخلت الرعب فعلاً في قلب عبد الكريم قاسم  والقيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، المتمثلة بكتلة [ محمد حديد وحسين جميل ] ورفاقهم، فقد شعروا أن الأرض قد زلزلت تحت أقدامهم وهم يسمعون هتاف الجماهير الصاخبة مطالبين إشراك الحزب الشيوعي في الحكم ، وبدا أن الشعب كله يقف وراء الحزب، ونزل الجنود، والضباط المؤيدين والمناصرين للحزب إلى الميدان أيضاً، وشعر المراقبون في ذلك اليوم أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من الوثوب إلى الحكم .
وفي 13 تموز، وتحت ضغط الحزب الشيوعي، أجرى عبد الكريم قاسم تعديلاً وزارياً، أدخل بموجبه الدكتورة [نزيهة الدليمي]، عضوة اللجنة المركزية للحزب في الوزارة، وعينها وزيرة للبلديات، كما عين كل من المحامي [عوني يوسف] ـ ماركسي ـ وزيراً للأشغال والإسكان،  والدكتور [ فيصل السامر ] ـ يساري ـ وزيراً للإرشاد ، والدكتور[ عبد اللطيف الشواف]، وزيراً للتجارة.
 لكن إجراء  قاسم لم يكن سوى خطة تكتيكية، ولفترة محدودة من الزمن، ريثما يحين الوقت المناسب لتوجيه ضربته للحزب الشيوعي.
أما الإمبريالية، فقد راعها أن ترى تلك المسيرة تملأ شوارع بغداد، وسائر المدن الأخرى، تهتف للحزب الشيوعي، وتطالب بإشراكه في الحكم، و أصابها دوّار شديد، وباشرت أجهزته على الفور تحبك الدسائس، عن طريق عملائها وأزلامها، لتشويه سمعة الحزب الشيوعي، وإدخال الخوف  والرعب في نفوس قيادة الحكم، والبرجوازية الوطنية، ودفعها إلى مرحلة العداء للحزب الشيوعي، والعمل على تصفية نفوذه، تمهيداً لعزل السلطة وإضعافها، وبالتالي إسقاطها فيما بعد.
وحقيقة القول، كان للحزب الشيوعي كل الحق في الاشتراك في تسيير دفة الحكم، والمشاركة في السلطة، شأنه شأن بقية أحزاب جبهة الاتحاد الوطني على أقل تقدير، إن لم يكن له دور مميز في جهاز السلطة، نظراً للجهود التي بذلها الحزب من أجل حماية الثورة، والدفاع عنها، وصيانتها من كل محاولات التآمر، ووقوف الحزب إلى جانب قيادة الثورة، وزعيم البلاد عبد الكريم قاسم، مسخراً كل قواه، دون قيد أو شرط.
إذاً ليس في ذلك من حيث المبدأ خطأ في مطالبة الحزب الشيوعي إشراكه في السلطة، غير أن الأسلوب الذي تم فيه طلب إشراكه في السلطة، ونزول ذلك الطلب إلى جماهير الشعب، من أجل الضغط على عبد الكريم قاسم، أعطى نتائج عكسية لما كان يهدف إليه الحزب من تلك المسيرة.
لقد أخطأ الحزب في أسلوب معالجة مسألة إشراكه في السلطة، ثم عاد وأخطأ مرة أخرى عندما تراجع، واستمر في تراجعه أمام ضغط عبد الكريم قاسم، وضرباته المتلاحقة، مستغلاً أحداث الموصل وكركوك، وكان بإمكانه وهو في أوج قوته أن لا يسمح لقاسم أن يوغل في مواقفه العدائية تجاه الحزب.(5)
أن لجوء قاسم إلى سياسة العداء للحزب الشيوعي لم يكن هناك ما يبررها إطلاقاً، فلم يكن في سياسة الحزب وتفكيره إطلاقاً الوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك لكان من السهل جداً له استلام السلطة عام 1959، عند ما كان الحزب في أوج قوته، سواء بين صفوف جماهير الشعب أو في صفوف القوات المسلحة، لكن الحزب لم يقرر هذا الاتجاه مطلقاً بل كان جُلّ همه حماية مسيرة الثورة ودفعها إلى الأمام، من أجل تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب للشعب، وكان وفياً لعبد الكريم قاسم، وهو الذي منحه صفة [الزعيم الأوحد]، ووقف إلى جانبه حتى النهاية.
 وفي المقابل وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما سلك سبيل العداء للحزب الشيوعي، وعمل على استمالة القوى القومية، محاولاً إرضائها دون جدوى، فقد كانت تلك القوى قد حزمت أمرها على تصفية الثورة، وتصفيته هو بالذات.
 لقد استفادت تلك القوى فائدة كبرى من مواقف قاسم العدائية تجاه الحزب الشيوعي، التي أدت إلى انعزاله عن الشعب، وعن القوى التي وقفت بكل أمانة، وإخلاص إلى جانبه، وكانت محاولة عبد السلام عارف الانقلابية، ومؤامرة رشيد عالي الكيلاني، ومحاولة حزب البعث اغتيال قاسم نفسه، في رأس القرية، ومحاولة العقيد الشواف الانقلابية الفاشلة، أكبر برهان على صواب مواقف الحزب الشيوعي من تلك العناصر التي سلكت طريق التآمر منذُ الأيام الأولى للثورة.
وفي الوقت نفسه أثبتت تلك الوقائع خطأ الطريق الذي سلكه عبد الكريم قاسم، وإجراءاته المعادية للحزب الشيوعي، والتي مهدت السبيل لانقلابيي 8 شباط، لاغتيال الثورة، واغتياله، وإلحاق أفدح الأضرار بالشعب العراقي التي استمرت إلى يومنا هذا.






من ذاكرة التاريخ
العلاقة بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم
الحلقة الثانية  

حامد الحمداني                                                      31/5/2009

عبد الكريم قاسم يوجه ضرباته للحزب الشيوعي:
بدأ عبد الكريم قاسم، بعد أن أرعبته مسيرة الأول من أيار يخطط لكبح جماح الحركة الشيوعية في العراق، وجاءت أحداث الموصل وكركوك لتعطي له المبرر لبدء حملته الشعواء ضد الحزب عبر خطاباته المتلاحقة  والتي كان يهدف منها إلى تشويه سمعة الشيوعيين، متهماً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو وجنكيز خان!!، اللذان دمرا بغداد ، وسفكا دماء مئات الألوف من أبنائها، ليتخذ من ذلك الحجة لتقليم أظافر الحزب الشيوعي  وتجريده من أسباب قوته، وإنزال الضربات المتلاحقة به، ومن أجل تحقيق هذا الهدف اتخذ العديد من الإجراءات التي كان أهمها ما يلي:

أولاً ـ حل المقاومة الشعبية :
كان أول ما فكر به عبد الكريم قاسم لتحجيم الحزب الشيوعي، هو تجريده من أقوى سلاح يمتلكه، المتمثل بهيمنته على قوات المقاومة الشعبية، فقد بدا واضحاً، وبشكل خاص، بعد وقوع انقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل، أن المقاومة الشعبية فرضت سيطرتها على الشارع العراقي، وفي كافة المدن العراقية، وكان واضحاً أيضاً أن الهيمنة الحقيقية على تلك القوات كانت بيد الشيوعيين وأصدقائهم، وعلى ذلك أقدم عبد الكريم قاسم على الخطوة الأولى المتمثلة في سحب السلاح من قوات المقاومة الشعبية.
وبعد إن تم تجريد المقاومة من سلاحها، أصبح من اليسير على قاسم أن يصدر قرار حلها، وهذا ما تم بالفعل، وخلال فترة وجيزة.

رضخ الحزب الشيوعي للقرار، فقد كان الحزب قد اتخذ سياسة التراجع، حرصاً منه ـ كما كان يظن ـ على العلاقة مع عبد الكريم قاسم، لكن تلك السياسة لم تجلب ِللحزب نفعاً، فبقدر ما كان الحزب يتراجع، بقدر ما كان عبد الكريم قاسم يندفع في إجراءاته ضده.
لكن الخسارة الحقيقية الكبرى الناجمة عن إجراءات قاسم كانت ليس للحزب الشيوعي وحده، وإنما للثورة، ولقاسم نفسه، الذي دفع حياته ثمناً لتلك الأخطاء، فلو لم يلجأ قاسم إلى حل المقاومة الشعبية، ومحاربة الحزب الشيوعي، لما استطاع انقلابيي 8 شباط  تنفيذ جريمتهم بحق الشعب، والوطن عام 1963.
ثانياً ـ تصفية قيادات المنظمات،والاتحادات،والنقابات الوطنية:

كانت خطوة عبد الكريم قاسم التالية، بعد حل المقاومة الشعبية، تتمثل بسحب كافة المنظمات الجماهيرية، واتحاد النقابات، واتحاد الجمعيات الفلاحية، واتحاد الطلبة، وكافة النقابات المهنية، كنقابة المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وسائر المنظمات الأخرى، من أيدي الشيوعيين، لكي يجرد الحزب الشيوعي من جماهيريته في تلك المنظمات والاتحادات والنقابات ذات التأثير الكبير على سير الأحداث.
لم يكن عبد الكريم قاسم، ولا البرجوازية الوطنية، المتمثلة بالحزب الوطني الديمقراطي، بقادرين على استقطاب تلك المنظمات والاتحادات، والنقابات  والسيطرة عليها، فكانت النتيجة أنْ وقعت جميعها تحت سيطرة أعداء الثورة، والمتربصين بعبد الكريم قاسم نفسه، وبالحزب الشيوعي، سند الثورة العنيد والقوي.
 لقد فسح عبد الكريم قاسم المجال واسعاً أمام تلك القوى الشريرة، من بعثيين ومدعي القومية من الرجعيين وأذناب الاستعمار، لكي يسيطروا سيطرة كاملة على تلك المنظمات والاتحادات والنقابات، بأسلوب من العنف والجريمة لم تعرف له البلاد مثيلاً من قبل.
كانت العصابات البعثية، والقومية، وقد لفّت حولها كل العناصر الرجعية، تترصد لكل من يبغي الوصول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب قيادات تلك المنظمات والاتحادات والنقابات بأسلحتها النارية، وسكاكينها، وعصيها، وحجارتها، لدرجة أصبح معها من المتعذر حتى للمرشحين الديمقراطيين والشيوعيين الوصول إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بأصواتهم، أفليست هذه هي الديمقراطية التي أرادها عبد الكريم قاسم؟
أن قاسم، شاء أم أبى، قد وضع السلاح بأيدي أعداء الثورة والشعب، لكي يتم نحر الجميع يوم الثامن من شباط 1963.

ثالثاً ـ تصفية القيادات الوطنية في الجيش،والجهازين الإداري،والأمني:
كانت الخطوة الثالثة لعبد الكريم قاسم تتمثل في تصفية نفوذ الحزب الشيوعي في الجيش، وفي الجهازين الإداري والأمني، فقد قام عبد الكريم قاسم بحملة واسعة جرى خلالها إحالة أعداد كبيرة من العناصر الشيوعية، أو العناصر المؤيدة للحزب الشيوعي إلى التقاعد، وأحلّ محلهم عناصر إما أنها انتهازية، أو معادية للثورة في صفوف الجيش، وجهازي الشرطة والأمن، والجهاز الإداري، كما أبعد أعداد كثيرة أخرى من المناصرين للحزب الشيوعي إلى وحدات غير فعالة، كدوائر التجنيد  والميرة، أو جرى تجميدهم في إمرة الإدارة، أو تم نقلهم إلى وظائف مدنية ثانوية، بالإضافة إلى اعتقال أعداد أخرى منهم .
ولم يكتفِ قاسم بكل ذلك، بل التفت إلى الكليات، والمدارس، ليزيح كل العناصر الشيوعية، ومناصريهم من مراكزهم الإدارية، وليعيد تسليمها إلى تلك العناصر الحاقدة على الثورة، والتي وقفت منذ اللحظة الأولى ضدها، وكانت أداة طيعة بيد السلطة السعيدية السابقة.
 وهكذا مهد قاسم السبيل للرجعية، والقوى المعادية للثورة لاغتيالها، واغتيال آمال الشعب العراقي وأحلامه التي ناضل طويلاً من أجلها، وكان باكورة نتائج السياسة التي سار عليها عبد الكريم قاسم وقوع محاولة اغتياله هو بالذات، ومحاولة اغتصاب السلطة  في 7 تشرين الأول 1959، على أيدي زمر البعثيين في شارع الرشيد.
رابعا : محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم واغتصاب السلطة:
في 7 تشرين الأول 1959 ، جاء أول الغيث من القوى المعادية للثورة وقيادتها، ففي ذلك اليوم جرت محاولة خطيرة لاغتيال عبد الكريم قاسم، في رأس القرية، بشارع الرشيد، وهو  في طريقه إلى بيته في العلوية  دون حماية، حيث كان يرافقه مرافقه الخاص [ قاسم الجنابي]  بالإضافة إلى سائقه فقط.
قام بتدبير المحاولة حزب البعث، بالتعاون مع جانب من القوميين المتعاطفين معه، لكن من المؤسف أن تكون للجمهورية العربية المتحدة وعبد الناصر اليد الطولى فيها .
فقد ذكر[علي صالح السعدي ] أمين سر حزب البعث، في [ نضال البعث] في الصفحة 17، أن فؤاد الركابي الذي كان أمين سر الحزب آنذاك، قد تلقى بواسطة [ خالد علي الصالح ] و[ أياد سعيد ثابت ] مبلغ [ 7000 جنيه مصري] من الملحق العسكري المصري العقيد [عبد المجيد فريد ] لتسهيل عملية تصفية عبد الكريم قاسم جسديا.
أصيب عبد الكريم قاسم بعدة رصاصات، في كتفه وصدره، وقتل سائقه، وجرح مرافقه [قاسم الجنابي ]، وتم نقل عبد الكريم قاسم إلى مستشفى السلام على الفور، حيث اُجريت له عمليات جراحية لاستخراج الرصاصات من جسمه، ومكث في المستشفى فترة من الزمن.
وفي أثناء تبادل إطلاق النار بين المهاجمين من جهة، وعبد الكريم قاسم ومرافقه من جهة أخرى، قتل أحد المهاجمين البعثيين المدعو[عبد الوهاب الغريري] واستطاع المحققون من التوصل إلى كل المدبرين، والمساهمين، والمنفذين لتلك المحاولة، التي تبين من سير التحقيقات إنها لم تكن تستهدف
 ليس فقط حياة عبد الكريم قاسم وحده بل كان هناك مخطط انقلابي واسع
للاستيلاء على السلطة، وإغراق البلاد بالدماء.
الحزب الشيوعي يذود عن سلطة عبد الكريم قاسم:
كان سرعة تحرك الحزب الشيوعي، والقوى الديمقراطية الأخرى، وجماهير الشعب الغفيرة، ونجاة عبد الكريم قاسم من الموت بتلك المحاولة  المجرمة قد حال دون تنفيذ بقية المؤامرة التي تبين اشتراك عدد من كبار الضباط فيها، ومن جملتهم رئيس مجلس السيادة [ نجيب الربيعي] الذي توجه إلى وزارة الدفاع، مقر عبد الكريم قاسم، وقد لبس بزته العسكرية، وهو محال على التقاعد منذُ بداية الثورة، لكن سيطرة العناصر الوطنية على الوزارة أسقط في يده، واستطاعت السلطة إلقاء القبض على ما يقارب 75 فرداً من المتآمرين، فيما هرب عدد آخر منهم إلى سوريا، وكان من بينهم  [صدام حسين ] أحد المشاركين الفعليين في تنفيذ محاولة الاغتيال.
لقد كان دور الحزب الشيوعي في إفشال مخططات القوى الرجعية، وأسيادهم الإمبرياليين مشهوداً، لقد وقف إلى جانب عبد الكريم قاسم، يذود عن سلطته، على الرغم من كل ما أصابه منه، ولم يفكر الحزب في استغلال الفرصة والوثوب إلى السلطة، وهو لو أراد ذلك  في ذلك اليوم لفعل ونجح بكل يسرٍ وسهولة، فقد كان كل شيء تحت سيطرته في ذلك اليوم .
لكن الحزب الشيوعي بقي مخلصاً لعبد الكريم قاسم، معتبراً إياه قائداً وطنياً معادي الاستعمار أولاً، ومعتبراً ما أصابه منه لم يكن سوى مجرد أخطاء ثانياً، ومعتقداً أن الظروف المستجدة سوف تؤكد له خطأ سياسته ومواقفه من الحزب ثالثاً.
 إلا أن عبد الكريم قاسم الذي خرج من المستشفى بعد شفائه، عاد من جديد إلى نفس سياسته السابقة تجاه الحزب الشيوعي، ساعياً إلى إضعافه  وتحجيمه، دون الاتعاظ بالتجربة الخطيرة التي مرً بها لتوه، بل على العكس من ذلك لم يمض ِوقت طويل حتى أصدر عبد الكريم قاسم قراراً بالعفو عن المجرمين الذين أدانتهم محكمة الشعب، قائلاً قولته المعروفة {عفا الله عما سلف} لكن عفوه ذاك كان مخصصاً لأولئك المجرمين الذين أرادوا قتله، وأعداء الشعب والثورة، ومستثنياً كل الوطنيين المخلصين، الذين زج بهم في السجون، بل وأكثر من ذلك صادق في الوقت نفسه على إعدام العضو في الحزب الشيوعي [ منذر أبو العيس ] وحدد يوم تنفيذ الإعدام ‎في صباح اليوم التالي إلا أن المظاهرة الجماهيرية الكبرى التي أحاطت بوزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم، أجبرته على إيقاف التنفيذ، وبقي الشهيد أبو العيس في السجن حتى وقوع انقلاب 8 شباط 63، حيث نفذ الانقلابيون حكم الإعدام فيه.
خامساً:عبد الكريم قاسم يحاول تجميد نشاط الحزب الشيوعي:  
في محاولة من عبد الكريم قاسم لاحتواء الحزب الشيوعي ، توجه بطلب إلى الأحزاب السياسية لتجميد نشاطها بحجة أن العراق يمرّ بفترة انتقال، متناسياً أن الأحزاب السياسية المنضوية تحت راية جبهة الاتحاد الوطني كان لها الدور الكبير في التهيئة والإعداد لثورة 14تموز، وتقديم الدعم الكامل والسريع لها حال انبثاقها، مما أدى إلى شل قوى النظام السابق ومنعه من القيام بأي تحرك ضد الثورة .
كان هناك في الحقيقة حزبان يعملان بصورة علنية بعد انسحاب القوى القومية والبعثية من السلطة، ولجوئها إلى العمل السري، وهذان الحزبان هما الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، وكان قصد عبد الكريم قاسم من طلبه ذاك حرمان الحزب الشيوعي من نشاطه العلني، بعد أن جرده من سلطانه على المنظمات المهنية والنقابات والاتحادات العمالية والفلاحية والطلبة.
سارعت القيادة اليمينية في الحزب الوطني الديمقراطي، وقد سرها ذلك الطلب، منتهزة فرصة وجود زعيم الحزب، الوطني البارز [ كامل الجادرجي ] خارج العراق ، في رحلة للاستشفاء في موسكو، معلنة قرارها بإيقاف نشاط الحزب تلبية لدعوة عبد الكريم قاسم مستهدفة من ذلك إحراج الحزب الشيوعي، ودق إسفين جديد بينه وبين عبد الكريم قاسم.
 لكن الحزب الشيوعي تجاهل الطلب هذه المرة، وشن حملة واسعة، في جملة من المقالات التي طلعت بها صحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] على ذلك الطلب، وعلى الجناح اليميني في الحزب الوطني الديمقراطي، لقراره بتجميد نشاط الحزب، وأستمر الحزب الشيوعي على نشاطه، رافضاً أي تجميد.
أما الأستاذ [ كامل الجادرجي ] زعيم الحزب فقد وجه نقداً شديداً للقيادة اليمينية للحزب عند عودته إلى بغداد، على قرارها بتجميد نشاط الحزب، وأدى ذلك الموقف إلى حدوث تصدع كبير في قيادة الحزب، وخاصة بعد ما طلب الأستاذ الجادرجي من عضوي الحزب في الوزارة [ محمد حديد] و[هديب الحاج حمود ] الاستقالة من الوزارة، ورفض الوزيران طلب زعيم الحزب الجادرجي، مما دفع الأستاذ الجادرجي إلى تقديم استقالته من رئاسة الحزب وعضويته، واحتجاب صحيفة الحزب[ صدى الأهالي] مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد(6)
خامساً: عبد الكريم قاسم يرفض إجازة الحزب الشيوعي :
نتيجة لعدم التزام الحزب الشيوعي بالطلب الذي دعا إليه عبد الكريم قاسم ، بتجميد نشاط الأحزاب السياسية، محاولة منه منع الحزب الشيوعي من ممارسة نشاطه السياسي، أقدم على إصدار قانون الأحزاب والجمعيات في 1 كانون الثاني 1960، في محاولة منه لحرمان الحزب الشيوعي من إجازة ممارسة النشاط السياسي بصورة قانونية.  
وعلى أثر صدور القانون تقدم الحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، بطلباتهم لإجازة أحزابهم، إلا أن الحزب الشيوعي فوجئ باعتراض وزارة الداخلية على ميثاق الحزب طالبة إجراء تغير وحذف لعدد  من العبارات الواردة في الميثاق، في حين وافقت على إجازة الحزبين الآخرين فوراً.
ومع ذلك فقد أعاد الحزب صياغة ميثاقه من جديد، وأجرى التغيرات التي طلبتها وزارة الداخلية، إلا أن الحزب فوجئ مرة أخرى بحكومة عبد الكريم قاسم تجيز حزباً مسخاً بزعامة [ داؤد الصايغ] يحمل أسم الحزب الشيوعي العراقي، وضمت هيئته المؤسسة عددا من الشخصيات غير المعروفة لدى الشعب العراقي، وهم :
1 ـ داؤد الصائغ        2 ـ إبراهيم عبد الحسين       3 ـ جميل العلوي      
 4 ـ زكية ناصر        5 ـ كاظم الشاوي               6 ـ سالمة جاسم              
7 ـ عجاج خلف        8 ـ عبد محسن                  9 ـ كاظم محمد    
 10 ـ جاسم محمد      11 ـ سليم شاهين
غير أن ستة من هؤلاء ما لبثوا أن استقالوا من الحزب، بعد أن أدركوا أن في الأمر مؤامرة على الحزب الشيوعي  لمنع نشاطه.
أوقع انسحابهم من الهيئة المؤسسة داؤد الصايغ والسلطة في حيرة، وأسرعت السلطة في اختيار بديل عنهم  من العناصر النكرة، التي لا يعرف أحدُ عنهم  أي تاريخ نضالي، وقيل أن عدد منهم من رجال الأمن، في حين جمع الحزب الشيوعي أكثر من 360 ألف توقيع من رفاقه ومؤيديه.
لقد كان عبد الكريم قاسم قد صمم على عدم منح الحزب الشيوعي الإجازة، لكي يصبح الحزب بموجب القانون غير شرعي، وبالتالي خارجاً على القانون، وليتخذ من ذلك ذريعة لضربه، ومطاردة رفاقه، ولم يدرك قاسم أنه بعمله هذا، إنما يوجه السهام إلى صدره، وصدر الثورة.
وهكذا فقد تم رفض طلب إجازة الحزب مجدداً، ولكن هذه المرة بحجة أن هناك حزب شيوعي مجاز بهذا الاسم.
ومع ذلك تدارست قيادة الحزب الوضع، واتخذت قراراً بتقديم طلب جديد باسم [ اتحاد الشعب] ومع ذلك رفضت وزارة الداخلية الطلب من جديد، ويحاول الحزب الاعتراض لدى محكمة التمييز ـ حسب نص القانون ـ حيث وجد  أن لا فائدة من ذلك، فقد عقد عبد الكريم قاسم العزم على حرمان الحزب من ممارسة نشاطه بصورة قانونية، وبالتالي ملاحقة رفاقه من
قبل الأجهزة الأمنية  .
سادساً ـ السلطة ترفض إجازة الحزب الجمهوري :
لم يكتفِ عبد الكريم قاسم وحكومته برفض إجازة الحزب الشيوعي، بل تعدى ذلك إلى رفض إجازة الحزب الجمهوري، الذي كان قد تقدم بطلب تأسيسه في 12 شباط 1960، نخبة من الشخصيات السياسية المشهود لها بالوطنية، وهم السادة :
1ـ عبد الفتاح إبراهيم                   13 ـ الشاعر مهدي الجواهري
2 ـ أحمد جعفر الأوقاتي                 14 ـ الدكتور صديق الأتروشي    
 3 ـ الدكتور عبود زلزلة                15 ـ المهندس عبد الرزاق مطر            
 4 ـ الدكتور طه باقر                    16 ـ عبد الحميد الحكاك        
 5  ـ  صالح الشالجي                    17 ـ  الدكتور عبد القادر الطلباني  
6 ـ رفيق حلمي                           18 ـ الدكتور عبد الصمد نعمان
 7 ـ جلال شريف                        19 ـ الدكتور عبد الأمير الصفار
 8 ـ حسن ا

378
من ذاكرة التاريخ:
الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، ما له وما عليه
حامد الحمداني                                                          28/5/2009


عندما قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم كان في مقدمة القوى التي التفت حول الثورة وقيادتها واحتضنتها وذادت عنها من تآمر القوى البعثية والقومية والعناصر الرجعية المرتبطة بالإمبريالية هي الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان ذلك الموقف لهذه الأحزاب أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية، وضمان الحقوق والحريات العامة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات، وحرية الصحافة، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته، وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان .
لكن الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار، من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية، والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل .
فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس؟
ومن كان السبب فيما جرى ؟
وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف ؟
في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه.
لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني وكان في مقدمة تلك الإنجازات :
1 ـ الخروج من حلف بغداد، وتحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية.
2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير العملة العراقية.
3ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين الذين يشكلون 70% من نفوس العراق، وإنقاذهم من طغيان الإقطاع، وكان القانون يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى.
4 ـ إصدار القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق النفطية من شركات النفط .
5 ـ إصدار قانون تشكيل شركة النفط الوطنية كي تقوم باستثمار المناطق النفطية المسحوبة من شركات النفط وطنياً .
6 ـ السماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية وإطلاق حرية الصحافة، وحرية تشكيل المنظمات والنقابات منذ انبثاق الثورة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم مسألة تأليف الأحزاب السياسية.

7 ـ إزالة حزام الفقر حول بغداد، وتشييد مدينة الثورة ومدينة الشعلة لإسكان مئات الألوف من الفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين، وسكنوا تلك الصرائف حول بغداد، والتي لا تتوفر فيها أي من الشروط التي تليق بالإنسان .
8  ـ أقامة علاقات اقتصادية وسياسية وفي كافة المجالات الأخرى مع سائر دول العالم على أساس المنافع المشتركة والاحترام المتبادل لسيادة واستقلال العراق .
9 ـ أقامة جملة من المشاريع الصناعية التي كان يفتقدها العراق في مختلف الفروع، وامتصاص البطالة التي كانت مستشرية، وعمل جاهداً على رفع مستوى معيشة الشعب.
 10 ـ توزيع مئات الألوف من الأراضي السكنية على المواطنين من ذوي الدخل المحدود، وتقديم القروض لهم لبناء المساكن فيها، ونشر التعليم في مختلف مناطق العراق من خلال أقامة ألوف المدارس في القرى والأرياف التي كانت محرومة منها.
ولا أريد أن أطيل في تعداد إنجازات الثورة، لكنني أستطيع أن أقول أن الزمان لو طال  بعمر الثورة وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم لحقق الكثير والكثير من الإنجازات التي كان يمكن أن تجعل من العراق أرقى بلد في المنطقة .
فالزعيم كما يتفق الجميع، وحتى أعدائه لم يحقق أي مصلحة لنفسه أو لعائلته، لم يبني له قصراً، ولا حتى داراً متواضعاً، ولم يتخذ له ديواناً ضخماً، ولم يتملك شيئا، ولم يتنقل بمواكب ضخمة من الحراسة والحماية، فقد كان محبوباً من قبل الشعب، كما كان حريصاً على أموال الشعب، وكان إنساناً بسيطاً ومتواضعاً كأي مواطن آخر، ولقد قُدر لي أن أزوره في مقره بوزارة الدفاع ضمن وفد لنقابة المعلمين في أواخر شهر شباط عام ،1959 واطلعنا على مقره البسيط، وغرفة نومه المتواضعة جداً.
عبد الكريم قاسم لم يكن شوفينياً، بل على العكس من ذلك كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة، وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة ، وضم العديد منهم في حكومته.

إذا الطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الأربع الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني  وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية يمثل تناقضاً أساسياً .
كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، والأحزاب الديمقراطية الثلاث[الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، الحزب الديمقراطي الكردستاني،] أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، والمتمثلة بالولايات المتحدة وبريطانيا بالإضافة إلى حكومة عبد الناصر، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة، والمتمثلة بالثورة، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.
لماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟

إنصافاً للحقيقة أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء كانوا مسؤولين عما حدث  واليوم وبعد مضي 46 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بشعبنا العراقي بعربه وكورده وسائر مكوناته الأخرى نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد .
لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من جانب هذه القوى، وليس من جانب القوى التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً .
 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً ، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً ، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي ، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبنينا .

 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لتدارس وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع ، مع تحمل المسؤولية عن ذلك، إذ من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله !!.

ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني، واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف، ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة، والتي يمكن أن نلخصها بالتالي :
أخطاء الزعيم عبد الكريم قاسم:

1 ـ  لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف ، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً ، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل مسؤوليته الكاملة.
2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]، وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها، والتي سأتناولها فيما بعد بحيث أصبحت لدى الزعيم القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم .
لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح، حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963 .

3 ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع المسألة الكردية، وضرورة اللجوء للحل السلمي وتجنب الحرب والاستماع إلى نصيحة الحزب الشيوعي في هذا الصدد، وفي المقابل أخطأت القيادة الكردية في دعم حركة التمرد التي قادها الاقطاعيان [ رشيد لولان] و[ عباس مامند ] وحمل السلاح بوجه السلطة الوطنية، وقد قاد الحزب الشيوعي حملة واسعة النطاق شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار [ السلم في كردستان والديمقراطية للعراق ]، وقد جوبهت تلك الحركة من قبل السلطة بالعنف والاعتقالات والسجون .
وعلى الرغم من أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لم يكن يحمل أفكاراً شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للملا مصطفى البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، يؤكد هذا الموقف لدى الزعيم، فقد انزلقت القيادة القومية الكردية نحو التعاون مع تلك القوى القومية التي نفذت انقلاب شباط 963، والتي كانت غارقة في شوفينيتها وكراهيتها للشعب الكردي، والتي خدعت القيادة الكردية بوعود شفهية كاذبة، ولم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية بعد نجاح انقلابها سوى أقل من أربعة أشهر، منزلة الخراب والدمار بالمنطقة الكردية بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية .
4 ـ لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة، الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية، سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية. ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم، وبعث نشاطهم من جديد ، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية.
 لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب .

5 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي أنتزع بموجبه 99,5 % من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة  والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط، حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
لقد كان على عبد الكريم قاسم أن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه، لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 1963.

6 ـ لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع قيادة الحركة الكردية،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963.
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية، إحدى أكبر مدن كردستان، أتابع مجريات تلك الحرب، وأتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل الوطنيون بعضهم بعضاً، على الرغم من قيام الحزب الشيوعي بحملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، وأدى موقفه هذا لتعرض رفاقه إلى حملة اعتقالات ومحاكمات للعديد منهم حيث حكم عليهم بالسجن لسنوات، ولقد كان لي شرف المشاركة في تلك الحملة وتعرضت نتيجة ذلك  للاعتقال من قبل قوات الجيش في السليمانية، وتعرضت لتعذيب وحشي على أيدي أولئك الضباط الشوفينيين المجرمين بقيادة جلاد الشعب الكردي الزعيم[ صديق مصطفى ] وآمر الانضباط العسكري المجرم [ رشيد علوان المهداوي ] اللذين كان لهما دوراً فاعلاً في انقلاب 8 شباط 1963 .
 وهكذا أصبح النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها، وبذلك يتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح .

7ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية على السلطة ، وحماية المتآمرين . ومما يؤكد هذا، الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام  [مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام علي صالح السعدي، أمين سر حزب البعث، بالبصق في وجهه ،فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له :
{ لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب } .
 وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم .
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم ،رئيس الجهاز[محسن الرفيعي ] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
كما أن موقف رئيس أركان الجيش، والحاكم العسكري العام  [أحمد صالح العبدي] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها .

8 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم :

كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد، والتي استغرقت 4 سنوات، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم  وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام ، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب.
ولم يكن هناك ما يخيف الزعيم عبد الكريم قاسم على موقعه كقائد لثورة 14 تموز حيث كان يتمتع بشعبية كبرى لم يتمتع بمثلها أي زعيم عراقي أو عربي من قبل، وكنت على يقين أن الزعيم عبد الكريم قاسم  لو شاء أن يشكل له حزباً سياسياً آنذاك، ويشارك في الانتخابات فإن حزبه كان سيفوز على جميع الأحزاب، ولست أنا من يقول ذلك فقط، بل أن الحزب الشيوعي الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البلاد أعترف في أدبياته ونشراته الداخلية في رده على  الأفكار والدعوات التي ظهرت في صفوف الحزب داعية  إلى استلام السلطة أن هذه الشعبية التي نشهدها في الشارع العراقي هي شعبية الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يمجده الشعب.
 لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات]!!و[سياسة عفا الله عما سلف] وأطلق سراح المتآمرين المحكومين بالإعدام والذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس ] ، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها،  وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم، وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة .
إن تلك الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه، وأوصلت حزب البعث الفاشي إلى السلطة، وتولي الدكتاتور الأرعن صدام حسين السلطة، وما جره حكمه الإرهابي وحروبه الدموية الكارثية تستدعي من سائر القوى الوطنية كافة هذا اليوم أن تتعلم الدرس البليغ من تلك الأحداث، لكي لا تقع في تلك الأخطاء وتدخل في صراعات فيما بينها، وعليها أن توحد جهودها في جبهة وطنية عريضة، وتتفق فيما بينها على الخطوط العريضة لبناء عراق ديمقراطي فيدرالي تعددي، وتشريع دستور علماني يحترم الدين الإسلامي وسائر الأديان الأخرى، ويصون الحقوق والحريات العامة للشعب بكافة مضامينها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية، ويصون التآخي القومي والديني والطائفي في البلاد، وهذا هو السبيل الوحيد للخروج بالعراق من هذا المأزق الواقع فيه نتيجة الأعمال الإرهابية التي تمارسها نفس تلك القوى التي أسقطت حكومة عبد الكريم قاسم، واغتالت ثورة الرابع عشر من تموز، وأغرقت العراق بالدماء، وجرت على شعبنا كل الويلات والمآسي التي عشناها طيلة 40 عاماً قاتمة السواد.
المجد والخلود لقائد ثورة 14 تموز الشهيد عبد الكريم قاسم ولسائر شهداء الحركة الوطنية الأبرار
والخزي والعار والاحتقار للفاشيين القتلة المجرمين.

379
من ذاكرة التاريخ
                       دماء في الموصل!
حامد الحمداني              القسم الثاني 2/2                 27/5/2009
مَنْ نفذ الاغتيالات في الموصل؟              
 إن أسماء منفذي الاغتيالات ليست بخافية على أبناء الموصل، فأصابع الاتهام تشير، وتؤكد على شخصية القتلة واحداً واحدا، فقد بلغ بهم الأمر حد التفاخر أمام الناس، والحديث عن ضحاياهم دون خوف من عقاب، ولماذا الخوف ما دامت السلطة هي التي تساندهم، وتمدهم بالعون، لينفذوا مخططاً واسعاً، أعد له سلفاً يرمي إلي ضرب الحزب الشيوعي، وتجريده من جماهيره ومؤيديه.
 لقد أزداد عدد المنفذين يوماَ بعد يوم، وتحول الاغتيال ليشمل ليس فقط الشيوعيين وأصدقائهم، بل لقد تعداه إلى أناس ليس لهم علاقة بالسياسة، وكان دافعهم على هذا العمل الإجرامي هو التنافس على الأعمال التجارية أو المحلات، أو المعامل، و الوظائف، وتصاعدت جرائم الاغتيالات حتى أصبحت إجرة قتل الإنسان [ 50 دينار ]،وهذه أسماء بعض أولئك القتلة التي كان يتداولها الموصليون على ألسنتهم كل يوم :
أسماء منفذي الاغتيالات :
 
1ـ زغلول كشمولة                        2 ـ شوكت نوري الأرمني            3  ـ يعقوب كوشان 4                         ـ محمد سعيد  السراج               6 ـ صبار الدليمي6                          ـ طارق عبد كرموش ..
 7 ـ نجم فتحي                              8 ـ موفق محمود .
 9 ـ فهد الشكرة                             10 ـ هادي أبن الطويلة .
 11 ـ عادل ذنون الجواري               12 ـ حازم بري .
 13 ـ عارف السماك                       14 ـ أحمد جني .
15 ـ نجم البارودي                         16 ـ طارق قباني .
 17 ـ طارق نانيك                          18 ـ محمود ، أبن البطل .
 19  ـ قاسم ، أبن العربية                 20 ـ عدنان صحراوية
 21 ـ طارق شهاب البني .                22 ـ فوزي شهاب البني .
 23 ـ جبل العاني .                         24 ـ فاضل مسير .
 25 ـ موفق ، أبن عم فاضل .            26 ـ مجيد ـ مجهول أسم أبيه .
 27 ـ جنة  ـ  مجهول اسم أبيه            28 ـ نيازي ذنون .
هذه القائمة بالطبع لا تشمل كل المنفذين للاغتيالات، فهناك العديد من الأسماء التي بقيت طي الكتمان لان أصحابها أرادوا ذلك، لكن الأسماء المذكورة كانت معروفة تماماً لدى أبناء الموصل، حيث كان أصحابها يتباهون بجرائمهم بصورة علنية دون خوف من رادع، أو عقاب ولماذا الخوف مادامت السلطة تحميهم وتدعمهم ؟

 لقد اغتيل المئات من أبناء الموصل البررة، ولم يلقى القبض على أي من القتلة، ولو شاءت السلطة كشف تلك الجرائم لكانت توصلت إلى جميع الخيوط التي تقودها إليهم، وكل المخططين والممولين لتلك الجرائم.

 لقد ذهبت دماء الضحايا تلك هدراً حتى يومنا هذا، ولم يُفتح فيها أي تحقيق وطواها النسيان، لكنها ستبقى تسأل عن مَنْ سفكها، ومن ساعد وشجع، وخطط، ومول تلك الحملة المجرمة بحق المواطنين الأبرياء. ولابد أن يأتي اليوم الذي تُكشف فيه الحقيقة، وخاصة فيما يتعلق بموقف السلطة العليا في بغداد، وجهازها الأمني و الإداري في الموصل، ودور كل واحد منهم في تلك الاغتيالات.
 لكن الذي أستطيع قوله بكل تأكيد، هو أنه لا يمكن تبرئة السلطة العليا من مسؤوليتها في تلك الأحداث، وعلى رأسها عبد الكريم قاسم بالذات، فالسلطة مهما تكن ضعيفة، وعاجزة، وهي ليست كذلك بكل تأكيد، قادرة على إيقاف  تلك الجرائم واعتقال المسؤولين عنها، وإنزال العقاب الصارم بهم إن هي شاءت. 
 وليست متوفرة عندي، وأنا أعيش في الغربة، بعيداً عن وطني، قائمة كاملة بأسماء ضحايا الاغتيالات تلك، لكنني ما زلت أحتفظ بأسماء العديد من أولئك الضحايا.
أسماء بعض الشهداء ،ضحايا جرائم الاغتيالات :
  1  ـ كامل قزانجي  ـ محامي وسياسي بارز.
  2  ـ غنية محمد لطيف ـ طالبة مدرسة ـ شقيقة زوجتي.
  3  ـ العقيد عبد الله الشاوي ـ أمر فوج الهندسة.
  4 ـ فيصل الجبوري  ـ مدير متوسطة الكفاح .
  5 ـ زهير رشيد الدباغ  ـ مدرس .
  6 ـ شاكر محمود  ـ معلم .
  7 ـ قوزي قزازي ـ تاجر كبير السن لا علاقة له بالسياسة.
  8 ـ حازم قوزي قزازي ـ تاجر ( قتل مع أبيه ) .
  9 ـ نافع برايا و عائلته ـ قتلت العائلة بواسطة قنبلة موقوتة، وضعت بسيارتهم.
 10 ـ ياسين شخيتم ـ قصاب ، ونصير سلم.
 11 ـ عبد الإله ياسين شخيتم ـ طالب إعدادي  ( قتل مع أبيه).
 12 ـ متي يعقوب ـ صاحب محل تجاري.
 13 ـ إبراهيم محمد سلطان ـ تاجر أغنام.
 14 ـ حميد فتحي الحاج أحمد ـ قصاب.
 15 ـ كمال القصاب ـ قصاب ـ عضو اللجنة المحلية للحزب الشيوعي
 16 ـ موسى السلق ـ محاسب بلدية الموصل.
 17 ـ سالم محمود ـ معلم.
 18 ـ متي يعقوب يوسف ـ موظف.
 19 ـ فيصل محمد توفيق ـ مدرس.
 20 ـ عبد الله ليون ـ محامي.
 21 ـ زكر عبد النور ـ صيدلي .
 22 ـ أحمد ميرخان ـ ( نقل إلى المستشفى جريحاً، واغتيل هناك في اليوم التالي في المستشفى ).
 23 ـ عثمان جهور  ـ كاسب ، كردي .
 24 ـ محمد زاخولي ـ كاسب ، كردي .
 25 ـ سركيس الأرمني ـ صاحب كراج .
 26 ـ يقضان إبراهيم وصفي ـ مهندس .
 27 ـ حنا داؤد  ـ سائق سيارة .
 28 ـ عصمت عبد الله ـ موظف .
29 ـ هاني متي يعقوب ـ سائق المطرانية .
 30 ـ زكي عزيز توتونجي  ـ  [ بائع تبغ وسكائر]
 31 ـ بدري عزيز توتونجي ـ توتونجي .
 32 ـ نجاح ….. ـ طالب جامعي ، قتله المجرم جبل العاني، أحد أفراد العصابة.
 33 ـ أركان مناع الحنكاوي ـ كاسب .
 34 ـ طارق نجم حاوة ـ عامل .
 35 ـ طارق محمد ـ طالب إعدادي .
 36 ـ طارق إبراهيم الدباغ ـ تاجر مواد صحية .
 37 ـ سالم محمد ـ كاسب .
 38 ـ حمزة الرحو  ـ قصاب .
 39 ـ وعد الله ـ أبن أخت عمر محمد الياس ــ طالب
 40 ـ شريف البقال ـ صاحب محل تجاري .
 41 ـ طه الخضارجي ـ بائع فواكه ، وخضراوات .
 42 ـ هاشم الحلة ـ طالب .
 43 ـ حاتم الحلة ــ طالب .
 44 ـ ذنون نجيب العمر ـ تاجر .
 45 ـ محمد أبو ذنون ـ قصاب .
 46 ـ عبيد الججو ـ تاجر .
 47 ـ خليل الججو ـ تاجر .
 48 ـ زكي نجم المعمار ـ معلم .
 49 ـ أحمد نجم الدين ـ موظف في بلدية الموصل.
 50 ـ أحمد البامرني ـ تاجر.
 51 ـ أحمد مال الله ـ موظف .
 52 ـ سعد الله البامرني ـ موظف.
 53 ـ وديع عودة ـ تاجر .
 54 ـ طارق يحيى . ق ـ طالب إعدادي .
 55 ـ ثامر عثمان ـ ضابط في الجيش .
 56 ـ جورج .... ـ سائق.
 57 ـ أحمد حسن ـ موظف في البلدية .
58 ـ باسل عمر الياس ـ طالب .
 59 ـ شاكر محمد.
 60 ـ فريد السحار.
61 ـ واصف رشيد ميرزا.
 هذا بعض ما أتذكره من أسماء أولئك الشهداء، ضحايا تلك المجزرة التي عاشتها مدينة الموصل خلال ثلاث سنوات، وهي بالتأكيد لا تمثل سوى جانب قليل من الضحايا من أبناء الموصل البررة .
لم يكتفِ انقلابيوا شباط بتلك الاغتيالات التي ذهب ضحيتها المئات من الوطنيين الشرفاء، بل صبوا جام غضبهم على السجناء الذين اعتقلهم عبد الكريم قاسم وأحالهم على المجالس العرفية التي حكمت عليهم بأحكام ثقيلة، حيث سارعوا إلى إعادة محاكمتهم بصورة صورية والحكم عليهم بالإعدام وتم نقلهم إلى الموصل حيث جرى تنفيذ أحكام الموت بحقهم في شوارع الموصل ، وهذه أسماء الشهداء
1 ـ شاكر محمود اللهيبي      2 ـ محمود تمي          3 ـ يحيى مراد
4 ـ هاني مجيد                 5 ـ بطرس شنكو          6 ـ سالم داود
7 ـ إبراهيم محمود الأسود    8 ـ ميخائيل ججو        9 ـ كوركيس داود
10ـ عزيز أبو بكر            11 ـ حنا قديشة           12 ـ إبراهيم داود
13 ـ غازي خليل              14 ـ إبراهيم داود        15 ـ متي اسطيفان
16 ـ أحمد علي سلطان      17 ـ خضر شمو          18 ـ عمر بابكر
19 ـ ميكائيل حسن          20 ـ إسماعيل محمد     21 ـ يوسف إبراهيم
22 ـ محمد شيت صالح     23 ـ رمضان أحمد       24 ـ عز الدين رفيق
25ـ سيدو يوسف الحامد   26 ـ عصمت بيرزوني  27 ـ صالح أحمد يحيى
28 ـ جاسم محمد أحمد     29 ـ أنور درويش        30 ـ شمعون ملك يكو
31ـ عبد محمود يونس     32 ـ خيري نشات        33ـ طاهر العباسي
34 ـ عبد الرحمن زاويتي 35 ـ عيسى ملا صالح   36 ـ طارق الجماس
 37 ـ ساطع إسماعيل

نتائج الاغتيالات،والحملة الرجعية في الموصل
 بعد كل الذي جرى في الموصل على أيدي تلك الزمرة المجرمة، نستطيع أن نوجز نتائج حملة الاغتيالات، والحملة الرجعية، بالأمور التالية:
 1ـ إلحاق الأذى والأضرار الجسيمة بالعوائل الوطنية، وإجبارها على الهجرة من المدينة، وقد هجر المدينة بالفعل أكثر من 30 ألف عائلة إلى بغداد والمدن الأخرى، طلباً للأمان تاركين مساكنهم، ومصالحهم، ووظائفهم، ودراسات أبنائهم، بعد أن أدركوا أنه ليس في نية السلطة إيقاف حملة الاغتيالات، واعتقال منفذيها.
2ـ  شل و تدمير الحركة  الاقتصادية في المدينة، نتيجة للهجرة الجماعية، وعمليات القتل الوحشية التي كانت تجري أمام الناس، وفي وضح النهار، وانهيار الأوضاع المعيشية لأبناء الموصل، وخاصة العوائل المهاجرة.
3 ـ تجريد عبد الكريم قاسم من كل دعم شعبي، وعزله عن تلك الجماهير الواسعة التي كانت تمثل سند الثورة الحقيقي.
 لقد كانت الرجعية، ومن ورائها الإمبريالية، وشركات النفط، ترمي إلى هدف بعيد، هدف يتمثل في إسقاط الثورة، وتصفية قائدها عبد الكريم قاسم نفسه، و تصفية كل منجزاتها، التي دفع الشعب العراقي من أجلها التضحيات الجسام من دماء أبنائه.
 لقد كفرت جماهير الشعب بالثورة، وتمنت عدم حدوثها، وأخذت تترحم على نوري السعيد!!، و العهد الملكي السابق، وانكفأت بعيداً عن السياسة، وتخلت عن تأييد قاسم وحكومته، وفقدت كل ثقة بها، وهذا ما كانت تهدف إليه الرجعية في الأساس لغرض إسقاط حكومة عبد الكريم قاسم فيما بعد .

 ولم يدر في خلد قاسم أن رأسه كان في مقدمة المطلوبين، وأن الثورة  ومنجزاتها هدفاً أساسياً لها، وما تلك الاغتيالات إلا وسيلة لإضعاف قاسم نفسه، وعزله عن الشعب، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، وبالثورة ومنجزاتها، حيث تم لهم ما أرادوا، وخططوا هم وأسيادهم الإمبرياليين لتدبير انقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم.
وبهذه المناسبة تعود بي الذاكرة إلي المقال الذي كتبه الشهيد [عبد الجبار وهبي ـ أبو سعيد ] في صحيفة الحزب الشيوعي ـ اتحاد الشعب ـ في حقل ، كلمة اليوم، بعنوان [سارق الأكفان] وكان المقال موجه بالتأكيد لعبد الكريم قاسم بالذات، أراد فيه أن ينبهه إلى ما ألت إليه أوضاع البلاد، والاستياء الشديد لدى غالبية الشعب العراقي عامة، وأهالي الموصل بوجه خاص.

 كان ملخص المقال أن أحد السرّاق كان يترصد المقابر، وينبش القبور، ويأخذ الكفن ليبيعه، ويترك الجثة في العراء.
 أخذ الناس يلعنون السارق على فعله، واستمرت اللعنات عليه حتى بعد وفاته، مما حزّّ في نفس ولده الذي فكر في طريقة يجعل بها الناس يكفون عن لعنة أبيه.
 عاد الولد إلى فعلة أبيه، لكنه لم يكتفي بنبش القبور، وسرقة الأكفان، وإنما أخذ يمثل بالجثة، وينثر أشلائها.
 أحدثت فعلة الولد صدمة كبيرة لدى  جميع الناس، جعلتهم يترحمون على سارق الأكفان السابق، الذي كان يكتفي بسرقة الكفن، دون تقطيع الجثة ونثر أشلائها، وهكذا خلّص الولد أبيه من اللعنات.
أراد الشهيد أبو سعيد أن يقول لعبد الكريم قاسم أن الشعب قد صار يترحم على عهد نوري السعيد، ويكفر بالثورة، ويتمنى عدم حدوثها، نتيجة لما آلت إليه أوضاع البلاد من تدهور، ومآسي لم يسبق لها مثيل.

موقف الحزب الشيوعي من حملة الاغتيالات ؟

لم يكن موقف الحزب الشيوعي من الاغتيالات في مستوى الأحداث، حيث اتخذ منها موقفا سلبياً، لا يتناسب وخطورتها، مكتفياً ببعض المقالات التي كانت تنشرها صحيفة الحزب [ اتحاد الشعب ] وبعض البيانات التي كانت تطالب السلطة العمل على وقفها !! دون أن تدرك قيادة الحزب أن للسلطة يداً طويلة فيها، بهدف تجريد الحزب من جماهيره وإضعافه، تمهيداً لإنزال الضربة القاضية به، بعد أن أرعبتها مسيرة الأول من أيار عام 1959، التي لم يسبق لها مثيل، في ضخامتها، وجموع المتظاهرين جميعاً تهتف مطالبة بإشراك الحزب الشيوعي في الحكم:
[ عاش الزعيم عبد الكريمِ ، حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ ].
 وفي واقع الأمر فإن تلك المسيرة، وذلك الشعار، أعطى عكس النتائج التي توخاها الحزب منهما، وجعل عبد الكريم قاسم يرتجف رعباً، وهلعاً من قوة الحزب وجماهيريته، وصارت لديه القناعة المطلقة بأن الحزب الشيوعي  سوف يقفز إلي السلطة ويبعده عنها، رغم أن هذه الأفكار لم تكن تدور في مخيلة الحزب إطلاقاً وقت ذاك ، ولعبت البرجوازية الوطنية، المتمثلة بكتلة وزير المالية [ محمد حديد ] نائب رئيس الحزب الوطني الديمقراطي ، دوراً كبيراً في إثارة شكوك عبد الكريم قاسم بنوايا الشيوعيين، كما اشتدت الحملة الإمبريالية الهستيرية، التي كانت تصوّر أن الشيوعيين قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى لاستلام السلطة في العراق، حيث صرح رئيس جهاز المخابرات الأمريكية آنذاك [ ألن دلس] قائلاً: { أن اخطر ما يواجه عالمنا اليوم هو الوضع في العراق}.
 ما كان للحزب الشيوعي أن يلجأ إلى الشارع  ليستعرض قوته أمام عبد الكريم قاسم ويرعبه، ليس إلا، من أجل المشاركة في السلطة، رغم أحقيته بذلك أسوة ببقية الأحزاب التي أشركها قاسم بالسلطة، في حين كان بإمكانه انتزاع السلطة بكل سهولة ويسر لو هو شاء ذلك، ولم تكن هناك قوة في ذلك الوقت قادرة على الوقوف بوجهه.
 لكن الحزب الشيوعي استفز عبد الكريم قاسم واستفز البرجوازية الوطنية، واستفز الامبريالية، ثم عاد وانكمش، وبدأ بالتراجع يوماً بعد يوم، مما أعطى الفرصة لعبد الكريم قاسم وللبرجوازية المتمثلة بالجناح اليميني للحزب الوطني الديمقراطي بقيادة [محمد حديد] ورفاقه للهجوم المعاكس ضد الحزب، من أجل تقليم أظافره، وتجريده من جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له. لقد كان على قيادة الحزب إما أن تقرر استلام السلطة ، وهي القادرة على ذلك بدون أدنى شك، لكن الخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حول أمن الخليج، حالت دون إقدام الحزب الشيوعي على استلام السلطة، أو أن تسلك طريقاً آخر هادئ، لا يستفز عبد الكريم قاسم، وذلك عن طريق اللقاءات والحوار، والمذكرات التي لا تثير أية حساسية، وأن تركز جهدها على المطالبة بإجراء انتخاب المجلس التشريعي، وسن دستور دائم للبلاد، وانتقال السلطة بطريقة دستورية إلى من يضع الشعب ثقته فيه، أو تشكيل حكومة ائتلاف وطني، تضم مختلف الأحزاب الوطنية، وليكن عبد الكريم قاسم رئيساَ للجمهورية، إذا أختاره الشعب.
 لقد أتخذ عبد الكريم قاسم موقفه من الحزب الشيوعي القاضي بتحجيمه، وعزله عن جماهيره، تمهيداً لتوجيه الضربات المتتالية له، والتخلص من نفوذه.
 أما قيادة الحزب فكانت بعد كل الذي جرى ويجري ما تزال عند حسن ظنها بقاسم، آملة أن يعود عن الطريق الذي أتخذه ضد الحزب، وهكذا بدأ قاسم حملته الشرسة ضد الحزب، لتجريده من جماهيريته، وإبعاده عن قيادة جميع المنظمات الجماهيرية، والجمعيات، والنقابات، واتحادي العمال والفلاحين، وانتهى المطاف إلى حجب إجازة الحزب، وصنع له بديلا ًمسخاً  لا جماهيرية له، لدرجة أنه فشل في إيجاد عدد كافٍ لهيأته المؤسسة  لثلاث مرات متتالية، في الوقت الذي جمع الحزب 360 ألف توقيع من رفاقه، ومؤيديه.
 لقد أصبحت قيادة الحزب في وادٍ، وقاعدته ومناصريه في وادٍ آخر، حين وجدت قواعد الحزب أن لا أمل في موقف السلطة، واستمرار تمادي العصابات الإجرامية، وتنامي عدد حوادث القتل يوما بعد يوم في كافة أنحاء العراق، بصورة عامة، وفي الموصل بوجه خاص، حتى وصل الرقم اليومي لعدد الضحايا أكثر من خمسة عشر شهيداً.
 لقد ألحت قواعد الحزب، بعد أن أدركت أن لا أمل في السلطة، بالرد على تلك الاغتيالات، ليس حباً بالعمل الإرهابي، ولا رغبة فيه، وإنما لوقف الإرهاب، والدفاع عن النفس، وكان بإمكان الحزب لو أراد آنذاك لأنزل الضربة القاضية بالمجرمين ومموليهم،  وكل الواقفين وراءهم .
 إلا أن الحزب رفض رفضاً قاطعاً هذا الاتجاه  متهماً المنادين به بالفوضويين!! وبمرض الطفولة اليساري، وغيرها من التهم التي ثبت بطلانها فيما بعد، والتي كلفت الحزب، وكلفت الشعب ثمناً باهظاً.
 إن من حق كل إنسان أن يحمي نفسه، ويدافع عنها، إذا ما وجد أن السلطة لا تقدم له الحماية، في أسوأ الأحوال، إذا لم تكن السلطة شريكاً في الجريمة
 لكن الحزب كان يخشى أن يؤدي اللجوء للدفاع عن النفس إلى إغضاب
عبد الكريم قاسم،  وخاصة أن أحداث كركوك مازالت ماثلة أمامه والتي استغلها قاسم أبشع استغلال، بمهاجمة الشيوعيين، واتهامهم بالفوضوية  واصفاً إياهم بكونهم أسوأ من هولاكو أوجنكيز خان !!؟.
 لكن الحقيقة أن مواقف قاسم تلك في الدفاع عن القتلى في كركوك كانت ستاراً، وذريعة لضرب الحزب، وتحجيمه، وكانت أحداث كركوك تمثل جانباً من ذلك الصراع التاريخي بين الأكراد والتركمان وجرى تحميل أوزارها للحزب الشيوعي.
 لقد كان على قيادة الحزب أن تدرس بإمعان مسيرة الأحداث، وتتوقع كل شيء، وكان عليها أن لا تستفز عبد الكريم قاسم، ثم تتخذ التراجع طريقاً لها وتتلقى الضربات المتتالية بعد ذلك، في حين كان الحزب في أوج قوته وكان بإمكانه أن يقف بحزم ضد كل ما يخطط له، ويعمل على وقف تلك المخططات، وأخذ زمام المبادرة من الأعداء.

ملاحظة : ورد خطأ طباعي حول مهرجان الشبيبة والطلاب في بولندة عام 1965، والصحيح 1955 لذا اقتضى التنويه.





380
من ذاكرة التاريخ
دماء في الموصل!
القسم الأول 1/2
 
حامد الحمداني                                                  26/5/2009
الهجوم الرجعي في الموصل عام 1959ودور السلطة في إذكائه:
لم تكد تفشل محاولة الشواف الانقلابية، وتسيطر قوات الجيش الوطنية وجماهير الشعب على المدينة، حتى توارت القوى الرجعية خوفاً ورعباً، وخلال أيام قلائل عاد الهدوء والنظام إلى المدينة، وشعر أبناء الموصل لأول مرة بالثورة تدخل مدينتهم، بصورة حقيقية  فلم يكن قد حدث حتى وقوع محاولة الشواف الانقلابية، أي تغيير جوهري على أوضاع الموصل،  وبقيت العوائل الرجعية المرتبطة مصالحها بالنظام السابق تحكم الموصل من خلال الأجهزة الإدارية، وهي وإن كانت قد ركنت إلى الانكفاء بعد الثورة، لكنها عاودت نشاطها ضد الثورة بعد وقت قصير مستغلة بقاء الجهاز الإداري الذي لم يطرأ عليه أي تغير، والذي كانت تحتل فيه جميع المراكز الحساسة، وبشكل خاص  جهاز الأمن الذي أنشأه ورعاه النظام الملكي.
 وعلى أثر حدوث التصدع في جبهة الاتحاد الوطني، وإبعاد عبد السلام عارف عن مسؤولياته في قيادة الثورة، عاودت تلك القوى نشاطها التآمري  مرتدية رداء القومية العربية، وتحت راية الرئيس عبد الناصر، التي  كانت حتى الأمس القريب من أشد أعدائه، ووضعت نفسها تحت تصرف العقيد الشواف الطامح إلى السلطة، والمتآمر على الثورة وقيادتها.
غير أن انكفاء الرجعية بعد فشل حركة الشواف لم يدم طويلاً بسبب سياسة عبد الكريم قاسم، الذي قلب ظهر المجن لتلك القوى التي حمت الثورة بسواعدها، ودافعت عنها، وقدمت التضحيات الجسام من أجل صيانتها، والحفاظ على مكتسباتها، وكان عبد الكريم قاسم قد استقبل وفد الموصل بعد إخماد مؤامرة الشواف وخاطبهم قائلاً بالحرف الواحد:{ بارك الله فيكم وكثر الله من أمثالكم من المخلصين لهاذ البلد}.
لكن عبد الكريم قاسم بادرة بعد بضعة أشهر باعتقال أولئك الذين تصدوا لانقلاب الشواف، مضحين بدمائهم من أجل حماية الثورة ودفاعاً عن قيادته هو بالذات، وأحالهم إلى المجالس العرفية التي كان يرأسها العقيد الموتور  [شمس الدين عبد الله] والعقيد الموتور [ شاكر مدحت السعود] وهما نفس الذين حاكموا الوطنيين بعد انقلاب 8 شباط الفاشي، وحرض قاسم الأهالي على التقدم بالشهادة ضدهم، عبر مكبرات الصوت المنصوبة على السيارات العسكرية، والتي كانت تطوف شوارع الموصل، وتم الحكم على معظمهم بأحكام قاسية وصلت حتى الإعدام .
 ومن جهة أخرى، أقدم عبد الكريم قاسم على إلغاء المقاومة الشعبية، حرس الثورة الأمين، وأجرى تغييرات واسعة في أجهزة الدولة، أبعد بموجبها كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة للثورة، وأعاد جميع الذين أُبعدوا إثر فشل حركة الشواف الانقلابية، إلى مراكزهم السابقة.
وهكذا عاودت الرجعية المتمثلة بعوائل كشمولة، والعاني، و المفتي، والعمري، وغيرها من العوائل الأخرى، نشاطها المحموم، مستغلة مواقف عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، الذين كان لهم الدور الأساسي في إخماد تمرد الشواف.
 بادرت تلك العوائل تتلمس أفضل السبل للتخلص من العناصر الشيوعية، والديمقراطية المؤيدة للثورة، وقد وجدت ضالتها في عمليات الاغتيال البشعة التي ذهب ضحيتها ما يربو على 800 شهيد من أبناء الموصل البررة، وأجبرت تلك الحملة الإجرامية أكثر من 30 ألف عائلة على الهجرة الاضطرارية من المدينة إلى بغداد وبقية المدن الأخرى، مضحية بأملاكها وأعمالها، ووظائفها من أجل النجاة من تلك الحملة المجرمة.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر السلطة ورضاها، سواء كان ذلك على مستوى السلطة في الموصل، أم السلطة العليا المتمثلة بعبد الكريم قاسم نفسه، حيث لم تتخذ السلطة أي إجراء، أو تجرِ أي تحقيقٍ ضد عصابات القتلة، ومموليهم، والمحرضين على تلك الاغتيالات، بل قيل آنذاك أن قاسم نفسه قد أعطى لهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيالات، وإن كل الدلائل تشير إلى موافقة السلطة العليا، ومباركتها لتلك الحملة، فلا يعقل أن تكون السلطة  مهما كانت، ضعيفة عاجزة وإلى هذا الحد، عن إيقاف تلك الحملة الشريرة، وإلقاء القبض على منفذيها ومموليها المعروفين لدى كل أبناء الموصل، وسوف أورد فيما بعد قائمة بأسماء أولئك القتلة، الذين بقوا مطلقي السراح، يتجولون بأسلحتهم دون خوف من عقاب، متربصين بالأبرياء، ليسددوا رصاصاتهم الجبانة إليهم  في وضح النهار.
إما أجهزة الأمن فقد كانت تكتفي بإلقاء القبض على جثث الضحايا، وحتى الذين لم يفارقوا الحياة، وأصيبوا بجراح فكانوا يلاقون نفس المصير في المستشفى، حيث لم ينج أي جريح منهم أُودع المستشفى الذي كان يديره آنذاك الدكتور[ عبد الوهاب حديد ]، وهو من أبناء عمومة [محمد حديد ] وزير المالية الذي لم ينجح في الانتخابات أيام العهد الملكي إلا على أكتاف الشيوعيين! ولابد لنا أن نلقي نظرة على أوضاع السلطة في الموصل في تلك الفترة التي امتدت منذُ  حركة العقيد الشواف، وحتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963  لنتعرف على من كان لهم دور البارز في تلك الأحداث ؟
من كان يحكم الموصل ؟
1 ـ مدير الشرطة ـ إسماعيل عباوي: من مواليد الموصل، ومن عائلة رجعية معروفة، انتمى إلى الجيش العراقي كضابط، وكان مرافقا لبكر صدقي، رئيس أركان الجيش، الذي قام بانقلاب عسكري عام 1936 ضد حكومة [ ياسين الهاشمي ]. قام إسماعيل عباوي باغتيال [جعفر العسكري] وزير الدفاع في حكومة الهاشمي، كما أشترك في محاولة اغتيال[ضياء يونس] سكرتير مجلس النواب، ومحاولة اغتيال السيد [مولود مخلص] الذي شغل لمرات عديدة منصب وزير الدفاع،ورئيس مجلس النواب.
 أُخرج إسماعيل عباوي من الجيش، بعد اغتيال بكر صدقي، وأعتقل عام 1939  بتهمة تدبير مؤامرة لقتل عدد من السياسيين، وحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالإعدام، وجرى بعد ذلك تخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، وأُطلق سراحه عند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وخرج من السجن ليجعل من نفسه بطلاً قومياً.
وقبل أحداث حركة الشواف بأيام، أعاده عبد الكريم قاسم إلى الجيش من جديد برتبة مقدم، وعينه مديراً لشرطة الموصل لكنه لم يستطع استلام مهام منصبه إلا بعد فشل الانقلاب، وبقي مديراً للشرطة فيها، ليشرف على تنفيذ المذبحة الكبرى فيها خلال ثلاث سنوات متوالية، دون أن يلقي القبض على واحد من القتلة، بل أكتفي بالقبض على جثث الضحايا، وسُجلت كل جرائم الاغتيالات والتي جاوزت 800 ضحية باسم مجهول!!.
2 ـ متصرف اللواء ( المحافظ) ـ عبد اللطيف الدراجي :
متصرف الموصل، العقيد الركن عبد اللطيف الدراجي، من مواليد 1923، ومن الضباط الأحرار الذين شاركوا في تنفيذ الثورة، في الرابع عشر من تموز 958 ،  حيث كان آمر الفوج الأول، في اللواء العشرين، وزميل عبد السلام عارف، لذي كان آمر الفوج الثالث  في نفس اللواء.
عين الدراجي آمراً للواء العشرين بعد نجاح الثورة، وبسبب علاقته الحميمة بعبد السلام عارف، جرى نقله إلى آمريه الكلية العسكرية، إثر إعفاء عبد السلام عارف من مناصبه،  كإجراء احترازي من قبل عبد الكريم قاسم، ثم جرى بعد ذلك اتهامه بالاشتراك في المحاولة الانقلابية التي كان من المقرر تنفيذها في 4  تشرين الأول 1958 بالاشتراك مع عبد السلام عارف، وجرى اعتقاله لفترة وجيزة، ثم أُحيل على التقاعد، وعُين متصرفاً للواء الكوت، ثم نقل بعد ذلك إلى متصرفاً للواء الموصل فيما بعد. ولاشك أن الدراجي أخذ يكن العداء لعبد الكريم قاسم بعد إعفائه من منصبه العسكري، وعمل جهده على  إضعاف وعزل  عبد الكريم قاسم عن الشعب، وذلك عن طريق حملة اغتيالات الشيوعيين وأصدقائهم، وتبين فيما بعد أنه كان من المشاركين في انقلاب 8  شباط 1963 ضد عبد الكريم قاسم، وقد عينه عبد السلام عارف، بعد انقلابه على البعثتين، وزيراً للداخلية.
لعب الدراجي دورا كبيراً في حملة الاغتيالات المجرمة في الموصل، شأنه شان رفيقه إسماعيل عباوي، ولم يبدر منه أي إجراء لوقفها، والقبض على المجرمين، وإحالتهم إلى القضاء، على الرغم من أن أسماء أولئك المجرمين كانت تتردد على كل لسان.
3 ـ مدير الأمن ـ  حسين العاني :
حسين العاني، كما هو معروف، من عائلة إقطاعية رجعية عريقة، كان لها باع كبير في العهد الملكي ، كما كان لها دور كبير في دعم محاولة الشواف الانقلابية، وتم اعتقال العديد من أفراد تلك العائلة، مما جعل حقدها على الشيوعيين كبيراً، ورغبتها في الانتقام أكبر، وكان وجود حسين العاني، على رأس جهاز الأمن، الذي رباه النظام الملكي وأسياده الإمبرياليون على العداء للشيوعية خير عون لعصابات الاغتيالات في تنفيذ جرائمها، والتستر عليها، وحمايتها.
كان جهاز الأمن يفتش في الطرقات كل شخص معروف بميوله اليسارية بحثًا عن السلاح  لحماية أنفسهم من غدر القتلة، في حين ترك القتلة المجرمين يحملون أسلحتهم علناً، دون خوف أو وازع، ولم يحاول هذا الجهاز القبض على أي من القتلة، رغم شيوع أسمائهم، وتداولها بين الناس جميعاً.
ولابد أن أُشير هنا لحادث جرى لي شخصياً، لكي أعطي الدليل، وبكل أمانة وصدق، على دور ذلك الجهاز في جرائم الاغتيالات، فقد وصلتني رسالة   موقعة من قبل [شباب الطليعة العربية لمحلتي الدواسة والنبي شيت] وكانت الرسالة مليئة بالكلمات البذيئة، وتهديد بالقتل القريب، حيث جاء في الرسالة :[ لقد جاء دورك، وقد حفرنا لك قبراً، وسوف لن يمر وقت طويل، إلا ونكون قد دفناك فيه] أخذت الرسالة، مع عريضة شكوى، وتوجهت إلى متصرف اللواء، ومدير الشرطة،  ومديرية الأمن، وكنت أنتظر أن يجري جهاز الأمن تحقيقاً مع مرسلي الرسالة، لكن الجهاز الأمني أرسل بطلبي، دون أصحاب الرسالة!، توجهت إلى مديرية الأمن، ودخلت على مدير الأمن، وكان إلى جانبه ضابط الأمن المدعو [ فاضل]،وهو الذي كان قد اعتقلني عام 1965 إثر عودتي من مهرجان الشبيبة والطلاب في بولندا، بادرني المدير السوآل قائلاً :
{ لماذا أرسل لك هؤلاء رسالة تهديد بالقتل؟}  قلت: لماذا لا تسأل الذين أرسلوا الرسالة؟ قال: يبدو أنك شيوعي، أليس كذلك؟ قلت: وهل تبيحون قتل الشيوعيين في الشوارع، كما يجري الآن؟ قال: إذاً أنت شيوعي.  وفي تلك اللحظة التفت إليّ ضابط الأمن فاضل  قائلاً: لماذا تركضون وراء الروس الذين يفتقدون لقمة الخبز وبناتهم [عاهرات!]؟  ثم بدأت الاستفزازات تنهال عليّ من قبل الضابطين، وعندها أدركت أن لا فائدة من طلب الحماية من جهاز باتت وظيفته حماية القتلة، ويدعمهم بكل الوسائل، وقررت الانسحاب من التحقيق، وسحب الدعوى، والعودة إلى البيت، وأنا مدرك كل الإدراك أن حياتي في خطر أكيد.
 ولم تمضِ سوى أيام حتى جرى تطويق بيتي من قبل تلك العصابة بغية قتلي، واضطررت إلى المكوث في البيت بضعة أيام، حتى سنحت إلى الفرصة بمساعدة أحد الجيران، الذي تكفل لي بشراء بطاقة طائرة إلى بغداد واستطاع نقلي إلي المطار سراً بسيارته، حيث غادرت الموصل إلى بغداد هذا مثال أنقله للقارئ عن موقف جهاز الأمن، والشرطة، ومتصرف اللواء من تلك الاغتيالات بكل أمانة.
وهذا مثال آخر جرى لأحد أقرب أصدقائي، الشهيد الأستاذ [ فيصل الجبوري] مدير ثانوية الكفاح بالموصل، الذي  أُطلق عليه النار من قبل أحد أفراد عصابة التنفيذ، المدعو [ عايد طه عنتورة ]، في 10 أيار 1960، ولم يفارق الحياة، وتم نقله إلى المستشفى، وكان يصيح: [قتلني عايد طه عنتورة]. ولم يُتخذ أي إجراء ضد الجاني إطلاقاً، أما فيصل الجبوري فقد فارق الحياة في المستشفى، في اليوم التالي.
 وهذا مثال آخر، حيث أطلق الرصاص على الشهيد [ حميد القصاب ] في محله الكائن بمحلة المكاوي، وشاهد الشهيد بأم عينه، الجاني وأخذ يصيح بأعلى صوته وهو يصعد سيارة الإسعاف برجليه ودون مساعدة: قتلني [محمد حسين السراج ]، وتم نقله إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة في اليوم التالي، أما الجاني فلم يُستدعى للتحقيق ولم تُتخذ أية إجراءات قانونية ضده.
وأذكر أيضاً أحد أصدقائي الشهيد [ أحمد مال الله]، الذي أُطلق عليه الرصاص أيضاً، وأُصيب بجروح، لكن أهله نقلوه، على الفور إلى بغداد، حيث عُولج هناك في إحدى المستشفيات، وتماثل للشفاء، لكن يد الغدر لاحقته بعد مدة، واغتالته في أحد شوارع بغداد وكان وحيداً لأبويه.
 أما الشهيد المدرس [ زهير رشيد الدباغ ] وهو ابن خالي وصديق عمري فقد دخل عليه أحد طلابه في متوسطة الحدباء المدعو [عادل ذنون الجواري] إلى داخل الصف، وهو يدرس التلاميذ، ليطلق عليه وابلاً من الرصاص من رشاشة كان يحملها أمام 45 طالباً، دون أن يمسه أذى، أو يجري معه أي تحقيق، أما زهير فقد أستشهد في الحال.
 ليست هذه سوى أمثلة قليلة من مئات غيرها جرت للمواطنين الأبرياء، وذهبت دماؤهم هدراً على يد تلك العصابات المجرمة، ولم يفتح فيها جميعاً أي تحقيق إلى يومنا هذا.
  4 ـ آمر موقع الموصل ـ العقيد حسن عبود :
 العقيد حسن عبود ، أمر اللواء الخامس، وأمر موقع الموصل، والضابط الذي قاد القوات العسكرية لقمع تمرد الشواف، وكانت له مواقف مشهودة في حبه لوطنه، ودفاعه عن ثورة 14 تموز، ولكن مع قرار عبد الكريم قاسم تقليم أظافر الشيوعيين، وتحجيم حزبهم،  وبالنظر للعلاقة التي تربطه بالشيوعيين، فقد أقدم قاسم على تجريده من كافة صلاحياته الإجرائية، فيما يخص حماية الأمن والنظام، وأناط ذلك كله بجهاز الأمن السعيدي، وشرطته التي يقودها إسماعيل عباوي، وبإشراف متصرف اللواء العقيد المتقاعد عبد اللطيف الدراجي.
 كما أصدر قاسم أمراً بنقل كل الضباط الذين أظهروا تعاطفاً مع الشيوعيين والذين كان لهم الدور الأكبر في قمع انقلاب الشواف، إلى وحدات عسكرية غير فعّالة، وفق منهج ُ تم إعداده في مديرية الاستخبارات العسكرية، ومديرية الإدارة في وزارة الدفاع وبإشراف قاسم نفسه، وهكذا أفرغ قاسم قوات الجيش في الموصل من كل العناصر الوطنية المخلصة، وجمد عملياً سلطات العقيد حسن عبود  ثم أنتهي حسن عبود إلى الاعتقال، وأخيراً إلى التقاعد.
حملة الاغتيالات في الموصل :
 1ـ منْ مول، ونظم الاغتيالات:

 بعد كل الذي جرى الحديث عنه، حول أوضاع الموصل، وطبيعة السلطة فيها، ومواقف السلطة العليا أستطيع القول أن تلك الاغتيالات لم تجرِ بمعزل عن السلطة العليا وموافقتها، بل وحتى مباركتها، وتقديم كل العون، والمساندة للقائمين على تنظيمها، وتمويلها.
 لقد كان على رأس تلك العصابة يخطط ويمول لعمليات الاغتيالات عدد من العوائل الرجعية  والإقطاعية المعروفة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
  1  ــ عائلة كشمولة      2ــ عائلة الأغوات     3 ــ عائلة كرموش .
  4 ــ  عائلة الإرحيم5      ــ عائلة العاني       6 ــ عائلة نوري الأرمني
  7 ــ عائلة المفتي.     
 كانت اجتماعات تلك العوائل تجري في منطقة [ حاوي الكنيسة ] بالقرب من ضواحي الموصل، حيث تمتلك عائلة العاني داراً هناك، بعيداً عن أعين الناس، وكانت تُعد هناك قوائم بأسماء المرشحين للقتل، وتحدد العناصر المنفذة للاغتيالات، كما كانت التبرعات تجبى من العناصر الرجعية الغنية التي تضررت مصالحها بقيام ثورة 14 تموز.
 ولم تفد كل الاحتجاجات، وكل المقابلات لقاسم، وكل المقالات التي نشرتها الصحف مطالبة بوقفها، ومعاقبة القائمين بها، والمحرضين عليها، والمخططين لها، لكن كل تلك  الأصوات ذهبت أدراج الرياح، واستمر مسلسل القتل حتى وقوع انقلاب الثامن من شباط  عام 1963.

انتهى القسم الأول
 ويتبعه القسم الثاني والأخير

381
هل سيشهد العراق حرباً أهلية جديدة؟
حامد الحمداني                                                       25/5/2009

يسود المواطن العراقي حالة من القلق الشديد بسبب تصاعد موجة التفجيرات للسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والعبوات المزروعة في الشوارع والطرق، وعمليات القتل والاختطاف، هذه العمليات الإجرامية التي عانى منها الشعب العراقي خلال السنوات السابقة التي أعقبت سقوط نظام صدام واحتلال العراق، من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها.
كما أن العلاقات القائمة حالياً بين حكومة المركز وحكومة إقليم كردستان العراق يسودها التوتر وانعدام الثقة، جراء الخطوات التي اتخذتها حكومة الإقليم، والمتعلقة بتواجد قوات البيشمركة في العديد من المناطق التي أطلقت عليها القيادة الكردية بالمناطق المتنازع عليها في محافظات الموصل وكركوك وديالى وميسان، وقد أوشكت الوصول إلى حالة الاصطدام مع قوات الجيش، وما زالت الخلافات تتعمق بين الحكومة المركزية وحكومة الإقليم، ولاسيما بعد أن عقدت حكومة الإقليم اتفاقيات مع العديد من شركات النفط الأجنبية لاستخراج واستثمار النفط من دون موافقة الحكومة المركزية، وخلافاً للدستور، وزاد من تلك الشكوك وعدم الثقة لدى الحكومة المركزية الأخبار التي أكدت على شراء حكومة الإقليم للأسلحة في مخالفة ثانية للدستور الذي ينص على شراء السلاح من قبل الحكومة المركزية دون غيرها.
وجاءت تهديدات رئيس الإقليم مسعود البار زاني بأن الحرب الأهلية ستندلع من هنا في كردستان إذا لم تعد إلينا كركوك، وتبعتها تصريحات نجرفان بارزاني رئيس وزراء الإقليم تارة بالتهديد بالقوة وتارة أخرى بالانفصال لتزيد في عمق الخلافات بين حكومة المركز وحكومة الإقليم، وبات الإقليم دولة مستقلة بكل مقومات الدولة ولم يبق سوى الإعلان الرسمي للانفصال عندما يتهيأ الوقت المناسب لإعلانها.

وفي المحافظات الجنوبية تتصاعد عمليات تهريب الأسلحة من إيران من قبل ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية استعدادا لرحيل القوات الأمريكية من داخل المدن، وانسحاب أغلبية القوات من العراق خلال العام القادم، وقد استطاعت القوات العراقية والأمريكية تتبع هذه الميليشيات والاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة الإيرانية الحديثة الصنع، مما يهدد بعودة العنف الذي ساد الشارع العراقي خلال السنوات الماضية، والذي أدى إلى إزهاق أرواح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء وتهجير الملايين من بيوتهم ومدنهم هرباً من عصابات القتل.
ومن حق الحكومة المركزية أن ينتابها شعور بالقلق والريبة إزاء سياسة التسلح السري التي تتبعها القيادة الكردية من خلال عقد صفقات أسلحة مع دول أجنبية، وبالأخص بعض الدول الأوربية الشرقية، وعن طريق تجار الأسلحة الدوليين، ولاسيما بعد الخبر الذي نشرته قبل عدة أشهر صحيفة                                                                             
[ واشنطن بوسط ] الأمريكية والذي تضمن معلومات استمدتها من ثلاثة مسؤولين أمريكيين كشفوا لها أن القادة الكرد قد تسلموا في أيلول الماضي شحنات سلاح تم استيرادها من بلغاريا، وأن تلك الصفقة قد تمت خارج ضوابط شراء السلاح التي تتولاها حصريا الحكومة العراقية، ومن دون علمها بالأمر، والذي أثار قلق المسؤولين الأمريكيين لحجم كميات السلاح ولتوقيت شحنها، وللأوضاع السياسية القلقة التي يمر بها العراق، والتي تتسم في جانب منها بحساسية لدى الحكومة العراقية تجاه سياسات القيادة الكردية التي تجري بعيدا عن سلطة الحكومة المركزية، وأحكام الدستور الذي يضبط العلاقة بين الإقليم والمركز.                                      .                                                                                                                                 
وأضافت الصحيفة نقلا عن المسؤولين الأمريكيين الثلاثة أن ثلاث طائرات عسكرية من طراز C-130 وصلت إلى مدينة السليمانية في شهر أيلول سبتمبر الماضي وعلى متنها حمولات  من الأسلحة التي تم استيرادها من بلغاريا، وقد أحيط وصول شحنات الأسلحة بالسرية التامة، وتكتم المسؤولون الأكراد عليها.                                                    .                                                                       
وتضيف الصحيفة قائلة أن القادة الكرد رفضوا الإجابة الصريحة على الأسئلة التي وجهتها لهم الصحيفة بشأن هذه الشحنات، إلا أنهم أرسلوا بيانا أوضحوا فيه أن حكومة إقليم كردستان ما زالت في صدارة الحرب على الإرهاب في العراق!، ومع تواصل هذا التهديد ليس هنالك في الدستور ما يمنع من حصولها على تجهيزات دفاعية!!                                   .                                                 
وقد ردت وزارة الدفاع العراقية، المسؤولة حصرياً عن تسليح الجيش العراقي، قائلةً أن القيادة الكردية تدعي انتماء قوات البيشمركة للجيش العراقي لكنهم يعملون بالسر لبناء جيش منفصل، وتسليحه بعيدا عن سلطة وزارة الدفاع، وهو سلوك انفصالي واضح، من هذا يمكن فهم لماذا يصر                                                                                                               
القادة الكرد على عدم إخضاع البيشمركة لسلطة وزارة الدفاع، وفي نفس الوقت يطالبون بميزانية لميليشاتهم من ميزانية العراق.
كما يمكن فهم لماذا احتج الأكراد على مشروع شراء الطائرات القتالية التي أعلنت عنها وزارة الدفاع العراقية، وتساءل المراقبون لماذا يتسلح الأكراد بالسر، ويشترون السلاح من ميزانية الدولة العراقية، وفي نفس الوقت يحتجون، ويرفضون قيام وزارة الدفاع العراقية بتعزيز قدرات الجيش القتالية؟
 كما أن وزير الداخلية العراقي جواد البولاني، كان قد رد عبر صحيفة [واشنطن بوسط] أن مثل هذه الصفقة تشكل خرقا للدستور، و للقانون العراقي، لان وزارتي الداخلية والدفاع لهما الحق حصريا في استيراد الأسلحة.                                                                                .                                                                                                                           
و تقترن مخاوف المسؤولين العراقيين من التسلح الكردي الذي يجري بسرية مع شكوك بأن حصة الأكراد من ميزانية الدولة والتي تبلغ 17% من الميزانية ينفق جزء كبير منها على شراء السلاح بدلا من أنفاقها على التنمية والخدمات في منطقة كردستان.
 كما تشير الشكوك أيضا إلى أن سياسة القيادة الكردية المتشددة، والتي تتسم بالتهديدات بين حين وآخر فيما يخص مدينة كركوك الغنية بالنفطِ، وما يسمى بالمناطق المتنازع عليها في الموصل وديالى والتي يطمحون بالسيطرة عليها، وقد يكون هذا التوسع الكردي في التسلح له علاقة بهذا الطموح، ولا أخال أن التسلح الكردي يستهدف محاربة جيرانها تركيا أو إيران.                                                                                 .                                                                             
ورغم أن صحيفة الواشنطن بوسط قالت أن المسؤولين الأمريكيين أظهروا عدم علمهم بصفقات السلاح التي يقوم بها الأكراد مع جهات خارجية، غير أن المراقبين يعتقدون أن هذا النفي الأمريكي هو لدرء الحرج الذي يسببه سكوتهم على القيادة الكردية.
كما أنهم تستروا على استيلاء قوات البيشمركة على أسلحة الفيالق العراقية الثلاث التي كانت تحيط بالمنطقة الكردية، والتي ألقت سلاحها بعد احتلال القوات الأمريكية للعاصمة بغداد، والتي ضمت كميات ضخمة من الأسلحة الثقيلة بينها مئات الدبابات والمدفعية وحتى الطائرات السمتية، وأكداس هائلة من الأسلحة الخفيفة.
وليست المخاطر التي  تهدد الاستقرار الهش في العراق تأتي من الجانب الكردي فقط ، بل أن هناك مخاطر حقيقية من اندلاع الصراع المسلح من جديد بين أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية، بالإضافة إلى عناصر حزب البعث والقاعدة التي بدأت تنشط من جديد ، والكل ينتظر إكمال الانسحاب الأمريكي من العراق لملئ الفراغ الذي يحلمون به، ولاسيما بعد انتخاب [باراك أُوباما] رئيساً للولايات المتحدة ، وعزمه على تنفيذ وعوده الانتخابية بسحب القوات الأمريكية من العراق، وما زال الرئيس الأمريكي اوباما يتحدث عن الانسحاب، مع إبقاء قوة عسكرية أمريكية صغيرة قد لا
يتجاوز عددها 35 ألف ضابط وجندي.
كما صرح الجنرال [ريموند اوديرنو] القائد الأمريكي الأعلى في العراق، انه يرغب في مكوث حوالي 30 ـ 35 ألف جندي في العراق لغاية 2014 ـ2015.                                                            .
 ويخشى الكثير من الخبراء أن يتفاقم توجه العراقيين نحو العنف مع انسحاب القوات الأمريكية. ففي أيلول 2008 تنبأ جون ماكرري، وهو محلل مخضرم في وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية بأن الإجراءات التي تفرضها الحكومة الأمريكية، على الطوائف العراقية ينبغي أن تقلقنا لأكثر من سبب:
أولا: لأنها تنتج ما يشبه السلام، لكنه ليس سلاما.
ثانيا: إن أحد الطوائف في مثل هذا الوضع لا بد أن يحاول الخروج على هذه الإجراءات، لان المشاركة في النفوذ تصلح دائما كمقدمة للعنف، حسب رأيه.                                                               .                                                             
إن الكثير من المطلعين على الوضع في العراق يتوقعون حربا أهلية على نطاق واسع في السنوات المقبلة، ويقول أحد القادة العسكريين الأمريكيين لم يشأ ذكر اسمه:
{لا اعتقد أن حرب العراق الأهلية قد وقعت بعد، وهناك آخرون يعتقدون أن العراق ينزلق باتجاه استيلاء عسكري على مقاليد الأمور}.                                                                                               

ويشير [ديفيد كيلكولين]، الخبير في مكافحة الإرهاب إلى أن الشروط التقليدية للانقلاب العسكري تنمو في العراق. فهناك نخبة سياسية معزولة عن الشعب تعيش داخل المنطقة الخضراء، في حين ينتشر الجيش العراقي خارج جدران تلك المنطقة، ويزداد قوة واقترابا من الشعب عن طريق التعامل معهم، ومحاولة معالجة همومهم.                                    .                                   
يضاف إلى ذلك أن تبني الأمريكيين للمتمردين السابقين في قوات الصحوة قد افرز مراكز قوى داخلية جديدة لا وجه لها، ويقول الكولونيل [مايكل غالوسيس]، قائد الشرطة العسكرية في بغداد، لقد أبرمنا الكثير من الصفقات مع أشخاص غامضين، والأمر مفيد لحد الآن، لكن هل سيستمر؟ هذا ما اشك فيه، ويضيف الكولونيل قائلاً:                                 .                                                                                 
إن احد أولئك الأشخاص الغامضين هو مقتدى الصدر، وقد أساءت الحكومة الأمريكية تقدير هذا الرجل عند الدخول إلى العراق، ثم في عام 2004 عندما تصدى لمواجهة القوة الأمريكية العظمى.                 .                           
ولم يكتف الصدر بالبقاء حيا بعد تلك المواجهات، وإنما خرج منها أكثر قوة، وإذا ظل الصدر على قيد الحياة فإن من المرجح أن يحصل على المزيد من القوة.                                                       .
ولأسباب تتعلق بالوطنية، يمكن للصدر أن يكون حليفا للأمريكيين إذا أمكن اجتذابه إلى الساحة السياسية، لان آل الصدر هم الأعداء التاريخيون لإيران بين شيعة العراق، لكن هناك من يعتقد أن الصدر متوار عن الأنظار بانتظار مغادرة الأمريكيين كي يستأنف دوره القتالي.
هناك مشكلة أخرى تتعلق بإيران التي يبدو أنها الرابح الأكبر في الحرب في العراق، وربما في المنطقة بكاملها.
 يقول [جيفري وايت] المتخصص في شؤون الشرق الأوسط الأمنية في وكالة الاستخبارات الدفاعية أن نفوذ إيران سيستمر ويتعزز، فالإيرانيون لديهم الكثير من العلاقات مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعية، ووسائل التأثير في العراق، وحدودهم مع العراق ذات أهمية إستراتيجية، كما أن دورهم في الاقتصاد العراقي قد تنامى وتوسع منذ سقوط نظام صدام .                                                                                                         

لكن الكثير من الخبراء العسكريين الأمريكيين الذين خدموا في العراق يعتقدون أن الخطر الأكبر على التطلعات الأمريكية بشأن ذلك البلد لا يأتي من الإيرانيين وحدهم، وإنما من العراقيين أنفسهم.
فالجيش العراقي يتطور، لكنه مؤسسة مخترقة من عناصر ميليشيات الأحزاب السياسية، حيث يعتقد الميجور [مات وايتني] الذي عمل مستشارا للجنرالات العراقيين عام 2006 بأن القادة العسكريين العراقيين سوف ينكصون على أعقابهم إلى تلك الممارسات الوحشية التي كانت سائدة في الماضي، ويضيف الميجور وايتني:
 لقد علمهم صدام حسين كيف يقمعون سكان المدن، وقد قمنا نحن الأمريكيين بتعزيز ذلك الدرس خلال سنوات تواجدنا هناك، وهم مستعدون لقتل الكثير من الناس لفرض الاستقرار في البلاد.                          .
لكن الجنرال اوديرنو لم يوافقه على هذا الرأي، وهو  يعتقد أن القادة العراقيين قد تغيروا وتحسنوا، وأنهم لن يرجعوا إلى أساليب صدام حسين بشكل أوتوماتيكي.                                                           .                                                                   
وأضاف يقول اعتقد أن ذلك كان صحيحا قبل عامين، لكنه اليوم ليس كذلك، ومع ذلك فان ثمة مشاكل ما تزال قائمة، ولهذا السبب أعتقد أن الوجود الأمريكي سيكون مطلوبا لبعض الوقت.                        .
وتتعارض نظرة اوديرنو المتفائلة مع آراء القادة العراقيين أنفسهم، حيث يقول الميجور [تشاد كويل] الذي عمل مستشارا لوحدة عسكرية عراقية في بغداد عندما تقترب منهم فإنهم سيصارحونك بأنهم يعتقدون أن فكرة الديمقراطية وممثلي الشعب فكرة مثيرة للسخرية.                        .                                                         
أخيرا علينا أن نواجه السؤال المهم الذي طرحه بترايوس أثناء الغزو حين قال على أي وجه سينتهي هذا الأمر؟                             .
ويجيب الجنرال [تشارلي ميلر] الذي وضع المسودة الأولى لخطة عمل بترايوس حيث يقول:{لا اعتقد انه سينتهي، وسيكون هناك نوع من الوجود الأمريكي وبعض العلاقة مع العراقيين على مدى عقود مقبلة}                           
كما إن هناك إجماع صامت بين العديد من الأمريكيين الذين خدموا في العراق على أن الجنود الأمريكيين سوف يظلون منخرطين في أعمال قتالية هناك إلى عام 2015 على الأقل.                                  .                                       
فقد صرح السفير الأمريكي [رايان كروكر] في العام الماضي قائلاً:{إن ما سيحمله العالم عنا من أفكار، وما سنفكر به نحن بشأن أنفسنا، سوف يتقرر بما سيقع من الآن فصاعدا، وليس بما وقع لحد الآن، وبكلمة أخرى،                           
 فإن الأحداث التي ستتعلق بذاكرة العالم حول الحرب في العراق هي تلك التي لم تحدث بعد!!}. فهل ستندلع الحرب الأهلية في البلاد من جديد؟
هذا ما ستجيب عليه الشهور القادمة، حيث ينتظر العراق الاستحقاقات الانتخابية التي ستجري في 30 كانون الثاني القادم والتي ستسفر بكل تأكيد عن تغير كبير في رأي الناخب العراقي، ورغبته الجامحة في التخلص من الميليشيات المسلحة، وفرض سيادة القانون، وإعادة الأمن السلام في البلاد، والتفرغ لإعادة بناء البنية التحية المخربة للبلاد.
 كما أن معركة إعادة النظر في الدستور المختلف عليه، وإعادة النظر في العملية السياسية القائمة حالياُ على أساس المحاصصة الطائفية، وما يسمى خطأً بالديمقراطية التوافقية، والتي انتقدها رئيس الوزراء السيد نوري المالكي مطالبا بالعودة عنها، واعتماد النظام الرئاسي، وانتخاب الرئيس بصورة مباشرة من قبل الشعب، والعودة إلى حكومة الأغلبية البرلمانية التي ستفرزها الانتخابات القادمة، والتي تعارضها بصورة خاصة الأحزاب الكردية والأحزاب الدينية السنية، مما يجعل الأوضاع حبلى بوقوع أحداث خطيرة في البلاد.                                       .                                                                                                                                                                                                                                                 



382
محمود المشهداني قاتل، ويتهم الآخرين بالقتل
حامد الحمداني                                             20/5/2009
 
يوم الأحد الماضي، السابع عشر من أيار، بينما كنت ألقي نظرة سريعة على القنوات الفضائية العراقية، استوقفني برنامج نقاش في ندوة ضمت محمود المشهداني والنائب عن الحزب الإسلامي علاء مكي والنائب نديم الجابري، وكان محمود المشهداني يتحدث بأسلوب يتسم بالحدة عن أسباب فشل أحزاب الإسلام السياسي في انتخابات مجالس المحافظات، وعزوف المواطنين عن التصويت لهذه الأحزاب، وقد اعترف المشهداني علناً على شاشة البغدادية التي شهدها الملايين من  العراقيين والعرب في أنحاء العالم العربي بأن أحزاب الإسلام السياسي قد مارست على نطاق واسع عمليات القتل للمواطنين العراقيين على الاسم والهوية، وأن تلك الممارسات هي التي جعلت المواطن العراقي ينصرف عن دعم هذه الأحزاب، ويبتعد عنها، وقد دار بين محمود المشهداني والنائب علاء مكي نقاشاً حاداً، فقد تحدث محمود المشهداني موجهاً كلامه لعلاء مكي قائلاً بالحرف الواحد :
{من قتل الناس الأبرياء في الشوارع والطرق ؟ هل قتلهم الشيوعيون؟؟ 
أم نحن الذين قتلناهم ؟ نعم انأ وأنت وأصحاب العمائم من قتل الناس، و كرر المشهداني هذه العبارات عدة مرات}.

ثم عاد المشهداني مخاطباً علاء مكي قائلاً:
{َمَنْ الذي أوصلني إلى رئاسة البرلمان وأصلك أنت إلى عضوية البرلمان؟
أليس المسلحون هم الذين وأوصلونا إلى هذه المناصب؟ أنني أتحداك أن تستقيل من الحزب، وترشح نفسك فلن تجد اثنان يصوتون لك، مرددا مرات عديدة انك بعثي}.

وطبيعي المقصود بالمسلحين هم ميليشيات الحزب الإسلامي والبعثيين وجماعة القاعدة الذين كان يمارسون عمليات القتل والتفجيرات أسوة بميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية التي مارست نفس الأعمال الإجرامية طيلة تلك السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق.

ويبدو أن المشهداني قد جرى تعنيفه من قبل قيادة حزبه لتبرئه الشيوعيين من أعمال القتل، والاعتراف العلني بممارسة القتل من قبل أحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي في السنوات 2004 ـ 2007، فعاد في اليوم التالي، الثامن عشر من أيار ليوجه للشيوعيين تهمة القتل بعد انتصار ثورة الرابع عشر من تموز1958 في الموصل قبل نصف قرن من الزمان، ومن ثم ليضع القتلة البعثيين الذين اذاقوا الشعب العراقي من الويلات والمصائب ما يعجز عن وصفها القلم خلال 35 عاماً من حكمهم البغيض، من خلال تصفيه كل القوى السياسية في البلاد، وتصفية كل حقوق وحريات الشعب، وزج البلاد في حروب إجرامية كارثية ذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين الأبرياء، وتدمير البلاد واستنفاذ كل مدخراتها، وإغراق العراق بالديون، ومن خلال قمع الانتفاضة الشعبية ضد نظام الديكتاتور صدام حسين، ولم يسلم من بطش هذا الدكتاتور حتى قادة حزبه الذين جرى تصفيتهم ليخلو له الطريق لحكم البلاد دكتاتوراً أوحداً يمتلك البلاد والعباد وكل ثروات العراق، فقد تساءل المشهداني بكل وقاحة قائلاً:
{ لماذا نسمح بعودة الشيوعيين ونمنع البعثيين؟}
هكذا بكل بساطة يزور المشهداني التاريخ، ويحاول تمرير كذبه على عقول العراقيين البسطاء، ويبرئ البعثيين من تلك الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، والتي طالت الملايين من العراقيين.   
وما دام محمود المشهداني الذي أتت به سخرية الأقدار، وعصابات القتل والإجرام باعتراف صريح منه على شاشة البغدادية إلى رئاسة مجلس النواب، فلا بأس من أن افتح معه ومع كل السائرين في هذا الركب من مدعي الإسلام الذين ما زالوا يرددون هذه الاسطوانة المجروخة البائسة، الحساب عن أحداث الموصل، وإذا كانت لمحمود المشهداني الجرأة والقابلية فليرد على ما أقول، فلقد عايشت تلك الأحداث بكل تفاصيلها يوماً بيوم، ولم ينقلها لي أحد، وبودي أن اسأل المشهداني وزمرته:

أولا: من الذي تآمر على ثورة 14 تموز وحمل السلاح ضدها ؟ الشيوعيون أم البعثيون ودعاة القومية المزيفة، وقد لفوا حولهم كل القوى الرجعية والاقطاعية، وساروا وراء الضابط الأهوج الشواف، آمر اللواء الثالث بالموصل الذي استمات من أجل السلطة، ليعلن التمرد العسكري المسلح، والذي دعا قبل ليلة الانقلاب الفاشل قيادات الحزب الشيوعي للتداول في الوضع الأمني في الموصل، وقد لبى من لبى منهم الدعوة واعتقله الشواف تلك الليلة المشؤومة، واختفى من اختفى منهم ممن أدركوا نوايا الشواف الشريرة، وقد جرى قتل المحامي والمناضل الشيوعي البارز [ كامل قزانجي]، والعقيد أمر فوج الهندسة [ عبد الله الشاوي] الذي أبى السير في ركاب الشواف، ورفض دعم الانقلاب، والعديد من المواطنين الابرياء،هذا بالإضافة إلى قتل أكثر من 120 جندي من المعارضين للانقلاب حصدتهم رشاشات الانقلابيين التي نصبوها فوق منارة جامع باب الجديد!!
وقامت اذاعة صوت العرب وإذاعة دمشق بترديد بيان الشواف الانقلابي، وخطابات عبد الناصر التي هاجم فيها عبد الكريم قاسم والشيوعيين، ودعم الانقلابيين بالسلاح، وقدم لهم الإذاعة منصوبة على سيارة نقل كبيرة قادمة
من سوريا التي كانت ضمن الجمهورية العربية المتحدة.

ثانياً:ماذا كان المشهداني يتوقع أن يحصل خلال وبعد فشل الانقلاب ؟ أليس هناك قانون الفعل ورد الفعل سيكون سيد الموقف، وكيف يمكن أن يقمع الانقلاب دون سفك الدماء ؟
ومع ذلك فعدد الذين قتلوا من العناصر الانقلابية لم يتجاوز ال37 فرداً،عدا الضباط ال17 الذين نفذوا الانقلاب، وحكمت عليهم المحكمة العسكرية العليا الخاصة بالإعدام بعد أن أدانهم بالاشتراك في المؤامرة الانقلابية، وجرى تنفيذ الحكم بهم، وهذا الرقم ثبته المجلس العرفي العسكري الذي أقامه انقلابيوا 8 شباط المشؤوم في جلساته، وأيده العقيد إدريس كشموله في الاحتفالية التي أقاموها في الموصل بعد انقلاب شباط في ذكرى انقلاب الشواف. وقد ذكرت عدد وأسماء القتلى في كتابي صفحات من تاريخ العراق الحديث، وأتحدى المشهداني أن يضيف على هذا الرقم .
وفي تلك الأيام كانت اذاعة صوت الجاسوس أحمد سعيد ينعق بأن 20 ألف من القوميين والبعثيين قد قتلهم الشيوعيون في الموصل!!. 
ومع ذلك فقد حوكم المتهمون بالاشتراك في عمليات القتل من قبل المجلس العرفي العسكري في عهد عبد الكريم قاسم، وتراوحت الأحكام بين السجن المؤبد والسجن لمدة 10 سنوات، وبعد وقوع انقلاب 8 شباط جرى إعادة محاكمتهم من جديد خلافاً للقانون، وبعد ممارسة أشنع ألوان التعذيب حيث قضى البعض منهم تحت التعذيب، ونصبت المشانق في شوارع الموصل للآخرين بعد شهادات الزور التي قُدمت ضدهم.
ومع ذلك لم يشفي غليلهم هذا الانتقام، فقد بادر البعثيون والقوميون بشن حملة اغتيالات وحشية امتدت من عام 1959 وحتى الانقلاب المشؤوم في 8 شباط 1963، وقد استشهد في شوارع الموصل أكثر من 800 مواطن من الشيوعيين والديمقراطيين المستقلين، وجرى تهجير أكثر من 30 ألف عائلة من المدينة توزعوا على مدن العراق، وكانت عائلتي إحداهم،  دون أن تتخذ حكومة عبد الكريم قاسم أي إجراء ضد القتلة المعروفين لكل أبناء الموصل شخصياً، حيث كانوا يتفاخرون علناً بقتل فلان وفلان كل يوم مدعومين من الأجهزة الأمنية التي كانت تلقي القبض على جثث الضحايا، وتترك القتلة في أمان، ولا شك أن تلك الحملة المجرمة كانت بموافقة عبد الكريم قاسم شخصيا مع الأسف، واستهدفت تقليم أظافر الحزب الشيوعي، وهذا الموضوع يطول الحديث عنه، ولا بأس من تخصيص بحث آخر عنه فيما بعد.
وبعد كل هذا يصرح المشهداني هذا التصريح البائس وهو الذي اعترف قبل يوم بأنه وعصابات حزبه قتلة، وبصورة علنية، وعلى مرأى ومسمع  ملايين المشاهدين لقناة البغدادية، فهو القاتل الذي يستحق المحاكمة والعقاب على جرائم القتل التي اعترف بها، والتي جاوزت أرقامها مئات الألوف من المواطنين العراقيين الأبرياء، في صراعهم على السلطة والثروة، مستخدمين الدين وسيلة بشعة في تبرير جرائمهم التي يندى لها جبين الإنسانية.


383
السبيل للخروج بالعراق من المأزق الحالي
وبناء دولة القانون والديمقراطية
حامد الحمداني                                                        19/5/2009

تجتاز العملية السياسية الجارية اليوم مرحلة بالغة الخطورة، حيث تمر العلاقات بين القوى السياسية التي جاء بها الاحتلال إلى قمة السلطة بمأزق حرج بسبب الصراع الجاري على السلطة والثروة، واستخدام الدين من قبل أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني من جهة والأحزاب القومية الكردية الشوفينية التي استخدمت جرائم نظام صدام حسين خلال حملة الأنفال لتؤجج المشاعر القومية الشوفينية لدى المواطنين الأكراد بغية تحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى ترمي إلى تمزيق الوطن العراقي، وخلق كيانات انفصالية باسم الفيدرالية البائسة التي باتت أهدافها مكشوفة لأبناء الشعب العراقي جميعا كونها تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي، وفصل المنطقة الشمالية من الوطن عن الجسد العراقي، بل لقد ذهب قادة الحركة القومية الشوفينية الكردية بعيداً جداً في تطلعاتهم لقضم المزيد من الأراضي العراقية وضمها لدولتهم العتيدة بعد أن استطاعوا تضمين دستور بريمر السيئ الصيت فيما يسمى بالمناطق المتنازع عليها في الموصل وكركوك وديالى والكوت، متذرعين بالدستور الذي جرى وضعه من قبل السادة مسعود البارزاني وجلال الطالباني وعبد العزيز الحكيم الذين استأثروا بالسلطة بدعم مباشر من المحتلين الأمريكيين وحاكمهم المعين على العراق بول بريمر.

وهكذا بدأ الصراع بين القوى السياسية يتصاعد من جديد بين الأطراف التي تحرص على وحدة العراق أرضاً وشعباً، وبين الأطراف الأخرى المتمسكة [بالعروة الوثقى] التي تتمثل بالدستور، والتي تسعى لتفتيت العراق باسم الفيدرالية.

لقد باتت الفيدرالية كلمة منبوذة من الأغلبية المطلقة للشعب العراقي بعد أن تكشفت الأطماع الواسعة لقادة الحزبين القوميين الكرديين من جهة، وأطماع أعوان نظام ملالي طهران الذين كانوا يطمحون في خلق كيان طائفي في الجنوب، ومن أجل هذه الأهداف المعادية لمصالح الشعب والوطن كان توقيع ميثاق التحالف السيئ الصيت بين قيادة الائتلاف الشيعي بقيادة الحكيم والتحالف الكردي بقيادة البارزاني والطالباني قبل الانتخابات الأولى لتمزيق واقتسام العراق.
أن إصلاح العملية السياسية الجارية في العراق  باتت ضرورة ملحة للوصول بالعراق إلى بر الأمان، والحفاظ على وحدته أرضاً وشعبا، والتوجه نحو إعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية، وبناء جيش عراقي قوي قادر على صيانة وحدة واستقلال البلاد.

لقد أدرك السيد رئيس الوزراء نوري المالكي خطورة هذا المأزق الحالي للعملية السياسية، دعيا عبر خطاباته المتعددة ولقاءاته إلى إصلاحها، كما دعا إلى إعادة كتابة الدستور كخطوة أولى، ومفتاحاً لإصلاحها، داعياً إلى قيام دولة القانون، واتخذ من هذا التوجه شعاراً لخوض انتخابات مجالس المحافظات التي أثبتت نتائجها التوجه الجديد للشعب العراقي بنبذ الأحزاب الدينية المسيسة للدين، والأحزاب الكردية القومية الشوفينية التي كانت تتغنى بالديمقراطية فإذا بها تلتقي بقوى الإسلام السياسي الموغلة في رجعيتها وطائفيتها، والتي أوصلت العراق إلى الحرب الأهلية الطائفية التي أدت إلى الكارثة التي كلفت الشعب العراقي مئات الألوف من الضحايا، وتهجير الملايين من المواطنين داخل الوطن وخارجه هرباً تاركين مساكنهم وأملاكهم وأعمالهم ووظائفهم من القتل!!   

لقد جاء توجه السيد المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا تماماً مع مطالبة غالبية الشعب العراقي، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل إقامة الفيدراليات المشبوهة ومنحها الصلاحيات الواسعة التي تجاوزت صلاحيات الحكومة المركزية.
كما أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة البارزاني والطالباني، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات وآخذ المزيد منها.

إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً قد باتت مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال الصاعدة، وهي تقتضي بادئ ذي بدء إعادة كتابة الدستور من جديد، وسن دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه طائفي أو عرقي شوفيني، ويؤكد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.
كما ينبغي أن يمنح الدستور المنتظر إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية فقط، على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض ويسعى لتحقيقها، وإن أي إجراء يتعلق بوحدة العراق ينبغي أن يخضع لعملية استفتاء للشعب العراقي كافة، وليس لسكان محافظة ما، أو عدد من المحافظات، ليقول كلمته فيه.

إن إعادة كتابة الدستور ينبغي أن لا تكون نهاية المطاف، بل ينبغي أن يشكل ذلك المدخل لقرارات وإجراءات هامة ينبغي أن  تتبع عملية كتابة الدستور، ويأتي في مقدمتها :
1 ـ سن قانون الأحزاب والجمعيات الذي ينبغي أن يؤكد على رفض  قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي أو قومي عنصري شوفيني يثير النعرات القومية والنزاعات المؤدية للصراعات المسلحة التي جلبت على البلاد الكوارث الإنسانية الرهيبة منذ تأسيس الحكم الوطني في البلاد عام 1921 وحتى يومنا هذا.

إن قيام حياة حزبية ديمقراطية هي السبيل الوحيد والقويم لصيانة حقوق وحريات المواطنين بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، حيث ينال كل ذي حق حقه دون تمييز، وحيث تؤدي إلى تمتين عرى الأخوة والمحبة بين أبناء الشعب الواحد ونبذ الكراهية الدينية والقومية والطائفية التي جربها الشعب العراقي خلال السنوات الماضية حيث قاسى بسببها من الويلات والمصائب ما تقشعر لها الأبدان.

2 ـ تصفية نظام المحاصصة الطائفية والقومية الذي شاده الحاكم الأمريكي السيئ الصيت بول بريمر، وإلغاء مجلس الرئاسة، وإجراء انتخاب الرئيس بصورة مباشرة من قبل الشعب العراقي، وليكن من ينتخبه الشعب عربياً كان أم كردياً، أم آشوريا، مسلماً أم مسيحياً أم صابئياً، فالمهم هو أن ينتخبه الشعب بكل حرية وشفافية، مع تحديد صلاحيات الرئيس بكل دقة ووضوح منعاً لأي تأويلات.

3ـ مكافحة الفساد المالي والإداري من خلال سن قانون [من أين لك هذا؟].
وفرض تقديم جرد بممتلكات كل شخص يتولى منصب مدير عام فما فوق قبل التعيين، وبعد الاستقالة أو الإقالة أو التقاعد، ومحاسبة كل من أثرى من أموال الشعب العراقي محاسبة عسيرة ليكون عبرة لغيره ممن يفكر في استخدام منصبه وسيلة للكسب غير المشروع، وإشراك المواطن العراقي في حملة وطنية واسعة لمكافحة الرشوة المستشرية في سائر دوائر الدولة، والتي باتت حالة مرضية خطيرة ينبغي استئصالها.

4 ـ الإسراع في عملية إعادة بناء الصناعة الوطنية المخربة، وتقديم الدعم لها، ورفدها بالمكائن والأجهزة الحديثة كي تستطيع سد حاجة السوق العراقي من مختلف المنتجات، وتحجيم الاستيراد للمنتجات المنافسة قدر الإمكان، وتشجيع الاستثمار في المجال الصناعي في البلاد من قبل القطاعين العام والخاص، ودعوة شركات الاستثمار الأجنبية للمساهمة الفعالة في هذا المجال من أجل النهوض بالصناعة الوطنية.

5 ـ وضع خطة زراعية عاجلة، وتهيئة كافة المستلزمات المادية والأجهزة  والأسمدة ومكافحة الحشرات، وإصلاح وتحديث مشاريع الري المعطلة  من أجل إنعاش القطاع الزراعي وصولا إلى الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية، وتحجيم الاستيراد للمواد الغذائية من الخارج.

6 ـ العمل الجدي لإعادة بناء البنية الاجتماعية العراقية بعد الشرخ الكبير الذي أصابها على أيدي قوى الإسلام السياسي الطائفي التي أوصلت المجتمع العراقي إلى الحرب الأهلية الكارثية التي حصدت أرواح عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، والعمل على تأمين حياة كريمة للمواطنين خالية من العوز والفقر والبطالة، والاهتمام بتربية الأجيال الصاعدة، وتأمين كافة مستلزمات العملية التربوية، وبما يتفق والمفاهيم التربوية الديمقراطية، ومنع تدخل قوى الإسلام السياسي في العملية التربوية.
إن حكومة السيد نوري المالكي مدعوة للإلتزام بتحقيق هذه الأهداف والعمل على تحقيقها بأسرع وقت ممكن، ولاسيما وأن الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة باتت قريبة، وستكون الخطوات والإجراءات التالية لحكومة المالكي هي المحك عندما يقرر الشعب العراقي لمن سيعطي صوته في الانتخابات القادمة.

384
من أجل إصلاح جذري لجامعة الدول العربية
يؤهلها لقيادة العالم العربي في القرن الحادي والعشرين
حامد الحمداني                                                        5/5/2009
يعيش  العالم العربي اليوم مرحلة خطيرة في تاريخه حيث يعاني حالة من التمزق والتناقضات والخلافات العميقة بين الأنظمة العربية، وإقامة المحاور المصارعة فيما بينها، والتي سمحت لبعض دول الجوار التدخل في الشؤون العربية سواء عن طريق تحالف بعض الأنظمة العربية مع هذا البلد أو ذلك كما هو الحال في التحالف السوري الإيراني، أو على الضد من إرادة البعض الآخر كما هو الحال التدخل السافر لنظام ملالي طهران في العراق ولبنان وقطاع غزة، والتدخل التركي في شمال العراق، إضافة للتدخل السوري والسعودي في العراق من خلال دعم ومساندة العناصر الإرهابية التي تمارس أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي منذ سقوط نظام الطاغية صدام حسين وحتى يومنا هذا.   
في ظل عصر العولمة والشركات المتعددة الجنسيات، وإزالة الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال، وقيام التكتلات الاقتصادية والاقتصادية للدول الأوربية، يجد العالم العربي نفسه في حالة من الضعف والتبعية للدول الأخرى وهو يمتلك الإمكانيات الهائلة المادية والبشرية ما يؤهله ليكون دولة عظمى ينظر لها باحترام، وتخطب ودها دول العالم أجمع ، وتسعى لإقامة أوثق العلاقات السياسة والاقتصادية والثقافية معها على قدم المساواة والاحترام المتبادل للسيادة والاستقلال.

لقد كان حلم الشعوب العربية باستقلال البلاد العربية التي ظلت تحت نير الاستعمار العثماني لأربعة قرون، وإقامة وحدة عربية، وظل هذا الحلم يراود أبناء الأمة العربية التي عانت أشد المعانات من ذلك الحكم البغيض.
لكن العرب صُدموا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عندما نكث المستعمرون الجدد، البريطانيون والفرنسيون بالوعود التي قطعوها لهم، وتبين فيما بعد أنهم قد قرروا اقتسام البلاد العربية فيما بينهم بموجب معاهدة [ سيكس بيكو ]، وهكذا وجد العرب أنفسهم مرة أخرى تحت نير استعمار عالمي جديد.
لكن عزم الشعب العربي على تحقيق الاستقلال ، وإقامة الوحدة العربية الديمقراطية لم يفتر، وبقيت الجماهير العربية تناضل من أجل تحقيق هذا الهدف، وخاضت ضد المحتلـين الجدد معارك قاسية ومتواصلة، وقدمت الآلاف من الضحايا في سبيل التحرر والانعتاق من نير الاستعمار الجديد، وجمع الشمل العربي.
وعندما قامت حكومات محلية في العراق وسوريا ومصر وشرق الأردن واليمن والسعودية تحت مظلة المستعمرين البريطانيين والفرنسيين  ظلت الجماهير العربية تضغط على حكامها من أجل قيام الوحدة العربية بعيداً عن الهيمنة البريطانية والفرنسية، ونتيجة للمد الوطني الذي اجتاح العالم العربي أوعز الإمبرياليون إلى الحكام في تلك البلدان لإجراء  لقاءات فيما بينهم للبحث في موضوع إقامة شكل زائف من العلاقات بين بلدانهم بغية امتصاص ذلك المد الهادر، والهادف إلى التحرر الحقيقي من الهيمنة الإمبريالية، وإقامة وحدة حقيقية تلبي مطامح الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد كان أخشى ما يخشاه الإمبرياليون إقامة دولة عربية قوية تتمتع بثروات هائلة، وأرض زراعية شاسعة وخصبة، ومياه وفيرة، وطاقات بشرية كبيرة وخلاقة، فكان مشروع إقامة الجامعة العربية التي لا تعدو عن كونها جامعة للحكام العرب في الحدود الدنيا، وكثيراً ما تدب الخلافات بين هؤلاء الحكام، وتقطع العلاقات، وتغلق الحدود، وتشن الحملات الإعلامية على بعضهم البعض. 
وبناء على رغبة الامبرياليين عقد الحكام العرب مؤتمراً لهم في القاهرة، في 22 أيار 1945، وتقرر في ذلك المؤتمر إقامة الجامعة العربية القائمة إلى يومنا هذا دون أن يطرأ على ميثاقها أي تطوير.
لم تستطع الجامعة العربية تحقيق حلم الشعوب العربية في الوحدة الحقيقية، فقد كان تأثير تلك الهيمنة البريطانية والفرنسية على الحكام العرب يشكل أكبر عائق لتحقيق الوحدة، أو على الأقل تحقيق أوثق الارتباطات فيما بينها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية.
لكن الأيام التالية أثبت أن الجامعة العربية، بالشكل الذي رسمه لها المستعمرون البريطانيون والفرنسيون لن تحقـق طموحات الأمة العربية، بل على العكس من ذلك انتقلت إليها الصراعات العربية، وأخذت سلطتها تضعف شيـئاً فشيئا حتى أصبحت قريبـة من التلاشي ، ولم يبقَ لها سوى دور ثانوي في القضايا العربية.
فالدول التي تضمها الجامعة العربية لا يجمعها جامع حقيقي بسبب الأنظمة السائدة في معظمها، والتي هي في جوهرها أنظمة استبدادية لا تعترف بالديمقراطية، ولا بحقوق المواطن العربي، سواء كانت هذه الأنظمة ملكية أم جمهورية، بل لقد تجاوزت الأنظمة الجمهورية الأنظمة الملكية في استبدادها، واستئثارها في الحكم، وإعداد الأبناء لتولي الحكم بعد الآباء حتى لكأنما قد ورثوا بلدانهم، واستعبدوا شعوبهم، وسلبوهم كامل حقوقهم الديمقراطية.
ومن أجل البقاء في السلطة والتشبث بها ضحوا ولازالوا يضحون بمصالح الشعوب العربية لكي يبقى العالم العربي متشرذماً ضعيفاً في عصر العولمة والتكتلات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم، فها هي الدول الأوربية التي لا يجمعها لغة مشتركة، ولا تاريخ مشترك، ولا عادات وتقاليد مشتركة تتوحد بمحض إرادتها مشكّلة الاتحاد الأوربي الذي كون ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة، في حين يجمع الشعوب العربية التاريخ المشترك واللغة المشتركة والعادات والتقاليد المشتركة، لكنها تمزقها الخلافات والصراعات، وتعاني شعوبها الجوع والحرمان والإذلال.
وإذا ما قام نظام وطني متحرر من الهيمنة الإمبريالية انبرت الأنظمة الدكتاتورية في حملة عدائية لهذا النظام بغية إفشال تجربته في إقامة الحكم الديمقراطي الذي يحقق الحياة الحرة الكريمة للشعب كما جرى للعراق على أثر قيام ثورة 14 تموز 1958 عندما انبرى الرئيس عبد الناصر، مع شديد الأسف،  في حملة عدائية ضد حكومة عبد الكريم قاسم، والتآمر على الثورة، وتقديم الدعم المتواصل للعناصر القومية و البعثية حتى تم لهم اغتيال الثورة في انقلاب 8 شباط الفاشي 1963، واضعين أيديهم بأيدي الإمبرياليين، ومقترفين مجزرة كبرى ضد القوى الديمقراطية في العراق، واستمر الشعب العراقي تحت نير حكم  البعث قرابة الأربعة عقود من الزمن ذاق خلالها من الويلات والمصائب ما يعجز القلم عن وصفها، وما المقابر الجماعية التي اكتشفت بعد سقوط النظام  في طول البلاد وعرضها إلا شاهداً على هول الجريمة التي اقترفها نظام البعث الفاشي ضد شعب العراق، ناهيك عن حروبه الكارثية التي استمرت خلال العقدين الأخيرين، والتي ذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين الشباب الأبرياء، وما نتج عن تلك الحروب من انهيار البنية الاقتصادية و الاجتماعية والصحية في للبلاد.
إن الشعوب العربية في واقع الحال قد فقدت ثقتها في هذه الجامعة بوضعها الحالي، ولا بد والحالة هذه أن يتدارك الجميع إصلاح الأمر، وبناء جامعة عربية جديدة تعمل بصدق وتفانٍ من أجل جمع الشعوب العربية تحت مضلة الديمقراطية والحرية الحقيقية، وبناء اقتصاد عربي متكامل، وعملة عربية واحدة، وتعاون وثيق في كافة المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية كخطوة أولى نحو إقامة علاقات أوثق على غرار الاتحاد الأوربي، وهذا لن يتم إلا عبر قيام أنظمة ديمقراطية في العالم العربي تحترم إرادة شعوبها، وتتفانى في خدمته،لا كما تفعل اليوم، حيث قد سخرت شعوبها لخدمتها، وسلبتهم كل حقوقهم وحرياتهم، واستأثرت بخيرات البلاد على حساب بؤس ومعانات شعوبها.

385
بمناسبة الثامن من آذار عيد المرأة العالمي
ماذا حقق الاحتلال الأمريكي للمرأة العراقية؟

حامد الحمداني                                                             8/3/2009
يصادف هذا اليوم ،الثامن من آذار، العيد السنوي للمرأة ، ويجري الاحتفال بهذه المناسبة في ظل ظروف صعبة تمر بها المرأة العراقية منذ انهيار نظام صدام، وانتهاء الحقبة الفاشية التي انتهكت حقوق وحريات المرأة بشكل فض، وعادت بها القهقرة إلى ما قبل الثلاثينات من القرن الماضي، وجرى تهميش دورها في المجتمع وهي التي تمثل نصفه.

لقد أراد لها النظام الفاشي أن تقبع في البيت، والحيلولة دون مشاركتها في شؤون البلاد مما سبب أكبر إعاقة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد  فلا يمكن أن نتصور كيف تتطور أمة إذا كان نصفها في المطبخ؟

لقد أرادوها أن تكون تحت سلطة الرجل قابعة في بيتها تنجب الأطفال وتقوم بشؤون البيت وخدمة العائلة والحيلولة دون تحررها الاقتصادي المفضي بكل تأكيد إلى تحررها الاجتماعي من سيطرة الرجل والمجتمع الرجولي المتخلف، والتحكم فيها من خلال عدم فسح المجال لها للمشاركة في العمل خارج بيتها في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والصحية والاجتماعية جنباً إلى جنب أسوة بأخيها الرجل.

لقد تعرضت حقوق وحريات المرأة العراقية خلال العقود الأربعة الأخيرة من حكم الطغيان والدكتاتورية إلى انتكاسة خطيرة، وفقدت خلالها  معظم المكاسب التي حققتها بكفاحها، وبمساندة ودعم الفئة المثقفة الواعية والمؤمنة بالقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات،  ومن العراقيين الذين خاضوا إلى جانبها صراعاً مريرا مع قوى الظلام والجهل التي كانت تنظر إليها وكأنها سلعة للرجل يتحكم فيها كما يشاء، وحيث كانت تحرم من الذهاب إلى المدرسة ونيل قسطها من الثقافة التي تؤهلها للمشاركة مع الرجل في كافة الأعمال والتي تقودها حتماً إلى التحرر الاقتصادي من هيمنة الرجل لتقيم علاقة جديدة بينها وبين زوجها قائمة على الاحترام المتبادل والمساواة في الحقوق والواجبات.
لقد كانت لحروب صدام الكارثية، والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على الشعب العراقي، والذي استمر 13 عاماً تأثير سلبي خطير على المجتمع العراقي وبشكل خاص المرأة .
لقد أوصلت تلك الظروف الاقتصادية البالغة الصعوبة المجتمع العراقي إلى حالة من اليأس بعد أن عمّ الفقر والجوع والإذلال في طول البلاد وعرضها،  وانهارت الطبقة المتوسطة المتنورة إلى دون مستوى الفقر، وانهارت العملة العراقية بشكل رهيب فلم تعد تلبي أبسط الحاجات المعيشية، واضطرت المرأة العاملة إلى ترك عملها بعد أن أصبح راتبها لا يفي حتى أجور النقل من بيتها إلى عملها، فلم يبقً أمامها غير الجلوس في البيت والتوجه  إلى الله لإنقاذ المجتمع العراقي من تلك الحالة المعيشية الكارثية !.

 وعادت المرأة إلى أيام الثلاثينات من القرن الماضي، وبات عليها وعلى الفئة المثقفة الواعية والمؤمنة بحقوق وحريات المرأة اليوم خوض الكفاح من جديد لتحرر المرأة ومساواتها بالرجل في كل الحقوق والواجبات .

أن واجبنا اليوم كمثقفين أن نقف إلى جانب المرأة بحزم، ونسخر أقلامنا وكل طاقاتنا لتحقيق هذا الهدف المنشود ولتخرج المرأة العراقية من القمقم الذي صنعته الفاشية لها لتنطلق في رحاب العمل المفضي إلى تحررها، وأني لأستذكر تلك الأيام الخوالي يوم قاد النضال من أجل تحرر المرأة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي نخبة من المثقفين والأدباء والشعراء وفي المقدمة القوى والأحزاب السياسية التقدمية، والشخصيات الوطنية العلمانية المتنورة من الأدباء والكتاب والفنانين والشعراء، وكان في المقدمة ممن حملوا راية تحرر المرأة آنذاك مجموعة الحلقات الماركسية التي قادها حسين الرحال، وجماعة الأهالي، وحزب التحرر الوطني، والحزب الشيوعي، وخاصة من خلال رابطة الدفاع عن حقوق المرأة ونشاطها الدؤوب، والحزب الوطني الديمقراطي وفي المقدمة من تلك الشخصيات القادة الوطنيون البارزون جعفر أبو التمن، وكامل الجاد رجي  بالإضافة إلى شعرائنا الكبار محمد مهدي الجواهري وجميل صدقي الزهاوي ومعروف عبد الغني الرصافي، وكوكبة من المثقفين المؤمنين بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل وإنقاذها من عبودية المجتمع الذكوري بكل ما يعنيه من انتهاك لحقوقها وحريتها وإنسانيتها.

واستطاعت تلك الجهود، والكفاح المتواصل الذي خاضته المرأة مدعومة بهذه الكوكبة المتنورة أن تحقق طفرة كبيرة في هذا المجال، وبات ذهاب الفتيات إلى المدرسة أمر اعتيادي شأنها شأن الفتيان، وانتزعت البرقع الأسود الذي يسمونه العباءة، والحجاب الذي فرضه عليها المجتمع الرجولي، والذي يمثل بحق رمزاً لعبودية المرأة، وليس رمزاً للعفاف، واستطاعت المرأة العراقية مواصلة الدراسة الجامعية، وتخرج منها أعداد غفيرة من المعلمات والطبيبات والمهندسات والحقوقيات، واستطعن أن يشغلن وظائف في أجهزة الدولة بكل كفاءة وجدارة .

لكن حقوق وحرية المرأة العراقية أصيبت بنكسة كبرى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وتولي أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني زمام السلطة، وسيطرة ميليشيات هذه الأحزاب على الشارع العراقي، والتي مارست أبشع عمليات القتل والخطف والترهيب ضد المرأة بالجملة، وتعدت جرائم هذه الميليشيات المرأة المسلمة لتشمل المسيحية والصابئية والأيزيدية، وثم فرض الحجاب عليهن جميعا من جديد، وفرض على المرأة المكوث في البيت خوفاً للتعرض للقتل والاغتصاب والذبح كما تذبح الشاة!!، وكل هذا العمل الشنيع جاء باسم الدين والشريعة التي عفا عليها الزمن.
واتخذ مجلس الحكم الذي سيطرت عليه أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والأحزاب القومية الكردية قراره البائس بإلغاء قانون الأحوال المدنية الذي شرعته حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم، وإصدار قانون جديد أعاد حقوق المرأة إلى نقطة البداية  لولا تدخل الحاكم الأمريكي بريمر، وبعد الاحتجاجات التي شهدها الشارع العراقي، والحملة التي قام بها المثقفون العراقيون عبر وسائل الأعلام، حيث قام بإلقاء القرار المذكور.

ومع ذلك جاء الدستور العراقي الذي وضعته نفس قيادات تلك الأحزاب لينتقص من حقوق وحريات المرأة من خلال التأكيد على الشريعة البالية، وتجاهل تضمين الدستور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي شرعته الأمم المتحدة، والذي أكد على حقوق المرأة، وتحررها من سلطة الرجل التعسفية.

ورغم أن دستور بريمر كان قد منح المرأة حصة ثابتة في الانتخابات بنسبة 25% ، وتم تأكيد تلك النسبة في الدستور الحالي، إلا أن هذا لا يكفي لتأمين حقوق وحرية المرأة، وقد ثبت بالملموس في الانتخابات النيابية التي جرت والتي هيمن عليها أحزاب الإسلام السياسي والحزبين القوميين الكرديين أن وجود هذا العدد من النساء في البرلمان لم يكن له سوى دور ضئيل، ولن يستطع هذا العدد من النائبات تحقيق أي انجاز في مجال حقوق وحريات المرأة، بل كن في أغلب الأحول أدوات رهن إشارة قياداتهم الحزبية قابعين في البرلمان بعباءاتهم السوداء.
إن حقوق وحرية المرأة  لن يتحقق إلا عبر تحررها الاقتصادي والاجتماعي ، ومساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات وعلى قدم المساواة، وهذا الأمر لن يتحقق في ظل سيادة الأحزاب الدينية التي تعيش خارج العصر، وتعتبر المرأة سلعة يتصرف بها الرجل كملكية خاصة واجبها إنجاب وتربية الأطفال  والخدمة المنزلية، وإشباع رغبات الرجل الجنسية.

ومن المؤسف أن القوى العلمانية والديمقراطية قد باتت مهمشة في ظل الديمقراطية التي جاءنا بها المحتلون، والتي أوصلت العراق إلى الكارثة ، وكان أكبر ضحاياها المرأة التي عادت حقوقها وحرياتها القهقرة عشرات السنين، وبات عليها أن تنفض عنها رمز العبودية، وتأخذ الأمر بيدها وتناضل من جديد لتحقيق حلمها في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتصدي لعبودية الرجل، وتحقيق المساواة، وليكن معلوماً أن الحقوق والحريات تؤخذ عبر النضال، ولا تعطى منة من أحد. 

ليكن الثامن من آذار عيد المرأة العالمي محفزاً للمرأة العراقية للنضال، وتحدي القيود التي فرضها عليها المجتمع الرجولي، ولتعيد أمجادها يوم كانت في مقدمة الوثبات الشعبية أعوام 1948، و1952، و1956، وعام 1958، عام ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة حيث كان لها الدور الصِدامي الشجاع والرائد في خوض النضال من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
بورك عيدك أيتها المرأة خالقة الأجيال، والنصر والظفر لكفاحك من أجل تحقيق ما تصبين إليه.




386
من أجل دمقرطة وتحديث النظام التربوي
في العالم العربي

 
حامد الحمداني                                               28/2/2009
       
   المدرسة كما هو معروف هي تلك البيئة الصناعية التي أوجدها التطور الاجتماعي لكي تكمل الدور الذي مارسته الأسرة في تربية وإعداد أبنائها، ومدهم بالخبرات اللازمة لدخولهم معترك الحياة فيما بعد، فهي لذلك تعتبر الحلقة الوسطى والمهمة التي يمر بها الأطفال  خلال مراحل نموهم ونضوجهم لكي يكونوا جاهزين للقيام بمسؤولياتهم في المجتمع مستعينين بما اكتسبوه من المهارات المختلفة والضرورية لتكيفهم السليم مع البيئة الاجتماعية الكبرى، ذلك لأن المدرسة ليست سوى مجتمع مصغر، ومنزه، وخالي من جميع الشوائب التي تتعلق بالمجتمع الكبير ،لكي يتمرن فيها الأطفال على الحياة الفضلى، وعلى التعاون الاجتماعي ، والإخلاص للجماعة وللوطن .
ولقد أصاب المفكر والمربي الكبير [ جون ديوي ] كبد الحقيقة عندما عرّف المدرسة بأنها [ الحياة] أو أنها [ النمو ] أو أنها [ التوجيه الاجتماعي ] ورأى أن عملية التربية والتعليم ليست أعداد للمستقبل، بل إنها عملية الحياة نفسها، ودعا المربين إلى الاهتمام بثلاثة أمور هامة لتربية النشء حددها بما يلي:
1 ـ تعاون البيت والمدرسة على التربية والتوجيه .
2 ـ التوفيق بين أعمال الطفل الاجتماعية وبين أعمال المدرسة .
3 ـ وجوب إحكام الرابطة بين المدرسة والأعمال الإنتاجية في البيئة .
 
ولقد أكد [ديوي] وجوب دراسة الطفل وميوله ورغباته، وضرورة جعلها أساساً في التعليم، كما أكد على التوجيه غير المباشر وغير الشخصي عن طريق الوسط الاجتماعي، وشدد على أهمية التفكير والتحليل ، وفهم معنى الأشياء في حياة الطفل، وإتاحة الفرصة للأطفال لكي يجمعوا الحقائق ويرتبوها، ويستنبطون منها النتائج، ثم يمحصونها ويعرضونها على محك الاختبار حتى تنجلي وتظهر حقيقتها.
فالطفل لا يستطيع أن يكتسب عادات اجتماعية بغير الاشتغال في الأعمال الاجتماعية، والتربية في حقيقة الأمر هي عملية تكوين النزعات الأساسية الفكرية والعاطفية .
لقد قلب التطور الكبير لمفاهيم التربية والتعليم في عصرنا الحالي المفاهيم التي كانت سائدة فيما مضى رأساً على عقب، وبما يشبه الثورة في المفاهيم التربوية فبعد أن كانت المدرسة القديمة لا تهتم إلا بالدراسة النظرية، وحشو أدمغة التلاميذ بما تتضمنه المناهج والكتب الدراسية لكي يؤدوا الامتحانات بها، والتي لا تلبث أن تتبخر من ذاكرتهم، أصبحت التربية الحديثة ترتكز على اعتبار الطفل هو  الذي تدور حول محوره نظم التعليم، وأصبح النظام في المدرسة يمثل الحياة الاجتماعية  والتي تتطلب الاشتغال في الأعمال الاجتماعية،  في الإنسان تلقاء الطبيعة، و تلقاء أخيه الإنسان .
ولقد صار لزاماً على المدرسة أن تشبع حاجة التلاميذ للأمن، وتعطيهم الفرصة لفهم أسرار العالم المادي، والعالم الاجتماعي، وتهيئة فرصة التعبير الحر عن نزعاتهم المختلفة، التي تمكنهم من كسب المهارات العقلية، واللغوية،والاجتماعية.
ولكي تؤدي المدرسة مهامها التربوية على وجه صحيح كان لابد من  ربطها بالمجتمع، وهو ما أخذت به المدرسة الحديثة، حيث أصبحت جزءً لا يتجزأ منه، لا تختلف عنه في شيء سوى كونها مجتمع مصغر و مشذب خالي من الشوائب التي نجدها في المجتمع الكبير، وأصبح النظر إلى دور المدرسة في المجتمع هو النظر إلى الثقافة بمعناها الواسع، أي بآدابها وعلومها وفنونها وعاداتها وتقاليدها ،ونواحيها المادية والتكنيكية، وقد تطلّبَ ذلك إعادة بناء المدرسة بحيث تلعب  دورين أساسيين في خدمة المجتمع الذي تنشأ فيه وهما:
1 ـ نقل التراث بعد تخليصه من الشوائب .
2 ـ إضافة ما ينبغي إضافته لكي يحافظ المجتمع على حياته، أي بمعنى آخر تجديد المجتمع وتغييره وتطويره بشكل مستمر بما يحقق الخير والسعادة لبني الإنسان.
ولكي تستطيع المدرسة في العالم العربي القيام بواجبها تجاه أجيالنا الصاعدة فإنها بحاجة ماسة وعاجلة إلى ثورة تربوية ديمقراطية ، تتناول كافة المجالات المتعلقة بالعملية التربوية، طلاباً وإدارة ومعلمين ومناهج تربوية وإشراف تربوي، وهذا يتطلب إعادة النظر بإدارات المدارس وإزاحة العناصر الخاملة والمتخلفة عن روح العصر، وتلك التي كان همها الوحيد غسل أدمغة التلاميذ والتمجيد بالرئيس لدكتاتور، وإعادة النظر في المناهج الدراسية، وأخص منها بالذكر المناهج الاجتماعية، وكتب المطالعة العربية، وحذف كل ما يشير إلى الفكر الفاشي الشمولي، والتأكيد على مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في المناهج الجديدة، والتأكيد على بث روح المحبة والتسامح داخل المجتمع، وتقبل الرأي الآخر، ورفض العدوانية والتعصب بكل أشكاله وصوره، وبشكل خاص التعصب الديني والطائفي والقومي .
أما ما يخص المعلمين الذين يمثلون شريحة كبيرة في المجتمع، وذات التأثير البالغ في العملية التربوية، فإن من الضروري القيام بحملة تثقيفية على شكل دورات صيفية تتناول ديمقرطة التربية، وتخليصها من الفكر الفاشي ، وتطهير هذا الجهاز الخطير من العناصر التي تمارس دوراً مخابراتياً وتجسسياً على الطلاب وزملائهم المعلمين ، وتسبب لهم السجن والتعذيب والقتل على أيدي جلاوزة الأنظمة الدكتاتورية ، فمثل هؤلاء لا يستحقون البقاء في سلك التعليم بل ويشكلون خطراً جسيماً على العملية التربوية.
 

 

387
حساب الربح والخسارة في حرب غزة
حامد الحمداني                                                                 13/2/2009

انقسمت آراء المتتبعين لحرب غزة بين إسرائيل وحماس إلى معسكرين، المعسكر الأول صور تلك الحرب انتصاراً لحماس، فيما صور المعسكر الثاني أن إسرائيل هي التي انتصرت في تلك الحرب، ولكل من الجانبين تحليلاته وتبريراته التي تدعم وجهة نظره.
لكن واقع الأمر يشير كما اعتقد إلى أن كلا الجانبين قد خرجا من تلك الحرب خاسرين، كون تلك الحرب لم تحقق الأهداف التي من أجلها أشعلت، فلا إسرائيل استطاعت أن تسقط حكم حماس على الرغم من القصف الجوي الإسرائيلي الوحشي
الإجرامي،  ولا استطاعت حماس تحقيق نصر حقيقي على إسرائيل على الرغم من مئات الصورايخ التي قصفت بها العديد من المدن الإسرائيلية، ولا استطاعت أن تنزل خسائر كبيرة بالقوات الإسرائيلية الغازية.
 ما هي إذاً مبررات الحرب لدي الطرفين ؟
 ومن المسؤول عن اندلاعها؟
وما هي النتائج التي أفرزتها الحرب على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؟
وللإجابة على هذه الأسئلة استطيع القول:
1 ـ على الجانب الفلسطيني كانت الصورايخ التي أطلقتها حركتي حماس والجهاد بدافع الضغط على حكام إسرائيل لرفع الحصار المفروض على قطاع غزة براً وبحراً وجوا، وفتح جميع المعابر لانتقال السلع والمواد الغذائية والإنشائية الضرورية، وتخفيف المعانات القاسية عن الشعب الفلسطيني الذي يعيش معظمه تحت خط الفقر، هذه الصواريخ لم تسبب سوى خسائر مادية وبشرية طفيفة للجانب الإسرائيلي، في حين استغلتها حكومة إسرائيل العنصرية لشن تلك الحرب الإجرامية غير المتكافئة ضد الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، مما تسبب في مقتل أكثر من 1300 مواطن فلسطيني بينهم المئات من الأطفال والنساء والشيوخ، وإصابة أكثر من 5000 آخرين بعضهم جراحهم بليغة، هذا بالإضافة إلى تهديم آلاف من المنازل وتشريد سكانها، ناهيكم عن التأثير الخطير لذلك الهجوم الجوي الوحشي الذي استمر أكثر من 20 يوماً على أطفال غزة بسبب تلك الأيام المرعبة، وما زالت لغاية اليوم جميع المعابر مغلقة، وما زال شعب غزة يعاني الأمرين من الحصار، ومن فقدان مساكنهم المدمرة، والفقر والجوع والأمراض التي تفتك بالمواطنين الذين باتوا في سجن كبير محاصر براً وبحراً وجواً.

لكن الأمر الأخطر لنتائج هذه الحرب هو انتصار أحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية التي جرت هذا الأسبوع، والذي سيعقد بكل تأكيد المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيلين الجارية منذ سنوات حول إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل، وربما عادت المفاوضات إلى نقطة الصفر من جديد.
ما كان لحركة حماس أن تقدم على تنفيذ انقلابها في غزة أولا، وما كان لها أن تتخذ لها من إيران عمقاً استراتيجيا بدلا من عالمها العربي، هذا التوجه الذي أثار حفيظة حكام إسرائيل وشكوكهم في نوايا حماس، ولاسيما التنسيق الجاري مع حزب الله في لبنان، وتكديس السلاح القادم من إيران مما اشعر حكام إسرائيل بأن كماشة إيرانية طرفاها حزب الله في الشمال وحماس والجهاد في الجنوب تشكل خطراً على إسرائيل، وهو السبب الرئيسي في اعتقادي في لجوء حكام إسرائيل إلى غلق المعابر التي كانت مفتوحة قبل الانقلاب الذي قادته حماس ضد السلطة الفلسطينية، وبالتالي لجوء حماس إلى إلغاء التهدئة بين الجانبين، وإطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، والذي اتخذه حكام إسرائيل ذريعة لشن الحرب على غزة، وفي نيتهم إسقاط حكم حماس الذي لم يتحقق على ارض الواقع.

 فالقص الجوي لا يمكن أن يسقط نظاما مهما كانت بشاعته ووحشيته، بل يتطلب إسقاط نظام حماس احتلال غزة من جديد، وهذا ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه على الرغم من تغلل قواتها المدرعة في غزة، فقد كان حكام إسرائيل يدركون أن حرب العصابات التي خاضتها حماس يمكن أن تكلفهم خسائر بشرية في صفوف جنودهم لا يستطيعون تحملها، وأمام الاستنكار العالمي الواسع شعوباً وحكومات للجرائم الوحشية التي اقترفها الجيش الإسرائيلي، اضطرت إسرائيل أخيراً إلى وقف قصفها الجوي على غزة، وسحب قواتها المدرعة تجر أذيال الخيبة لعدم تمكنها من إسقاط نظام حماس.

2 ـ أما على الجانب الإسرائيلي فإن حكام إسرائيل كما أسلفنا رغم شدة الهجمة الوحشية بالطائرات والمدفعية والدبابات، فقد فشلت في تحقيق النصر على حماس في تلك الحرب التي كلفتها غاليا جداً في المعدات والعتاد إضافة إلى مقتل العشرات من جنودها وجرح المئات منهم .

لكن الخسارة الكبرى التي لحقت بإسرائيل كانت في ذلك الغضب الدولي العارم والاستنكار للوحشية الإسرائيلية ليس في العالم العربي فحسب بل في العالم أجمع، وقد وصل الأمر حتى إلى اقرب حلفاء إسرائيل الأوربيين وبلدان أمريكا اللاتينية والدول الآسيوية والأفريقية كافة، وفي مقدمتهم تركيا حليفتهم الاستراتيجية.

لقد بلغت سمعة دولة إسرائيل الحضيض في العالم أجمع كدولة عنصرية استيطانية اغتصبت وطناً للفلسطينيين وشردتهم في مختلف البلدان العربية والأجنبية، في حين استقدمت اليهود من شتى بقاع العالم لدولتهم اللاشرعية في الأساس.
لقد جاءت الانتخابات الإسرائيلية باليمين المتطرف إلى الحكم، وهذه النتيجة بالتأكيد ليس في صالح حماس ولا في صالح السلطة الفلسطينية التي يقودها محمود عباس، لكنه في المقابل لن تكون في صالح إسرائيل كذلك، لقد صوت الإسرائيليون للأحزاب اليمينية المتطرفة بسبب صورايخ حماس التي لم تنفعها شيئا، وبسبب ارتباطاتها بإيران وحزب الله في لبنان الذي اقلق الإسرائيليين أشد القلق، ورغم كل المجازر والبشاعة التي ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية في غزة إلا أن إجراءاتها تلك لم ترضِ المجتمع الإسرائيلي، المتجه صوب اليمين، والذي يطالب بإسقاط حكومة حماس، وتحقيق الأمن للمدن الإسرائيلية.

 لكني اعتقد أن وجود حكومة يمين متطرف في إسرائيل لن يحمي سكانها طالما بقي الاحتلال، وطالما تماطل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا فرق بين يمينها ويسارها فهم في واقع الحال كلهم حكومات يمينية بنسب متفاوتة، وغير جادة في الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية المستعصية، و ستكون الحكومة اليمينية المتطرفة بزعامة نتنياهو مشروع حروب جديدة قادمة يمكن أن يمتد لهيبها إذا ما اندلعت لتشمل منطقة الشرق الأوسط برمتها، وعند ذلك سيندم الإسرائيليون على ما فعلوا.

كما أن الإدارة الأمريكية ستكون محرجة أمام شعوب العالم إذا ما فشلت في كبح جماح صقور اليمين المتطرف، وفشلت في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران 1967، وستتصاعد المخاطر المحدقة بإسرائيل من حرب الصواريخ إذا ما نشبت حرب جديدة في الشرق الأوسط مما لا تستطيع إسرائيل بعمقها الضيق تحمله، فهل يتورط اليمين الإسرائيلي المتطرف بحرب جديدة ستعود بالكوارث على الجميع إن وقعت؟ أم أن الإدارة الأمريكية ستمارس الضغط  الشديد على حكام إسرائيل للوصول إلى حل يرضي الجانب الفلسطيني، والولايات المتحدة قادرة بلا شك إن هي أرادت ذلك، فما دولة إسرائيل سوى قاعدة حربية متقدمة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وسيفها المسلط على رقاب العرب.

إن على قادة حماس أن يدركوا أن إزالة دولة إسرائيل قد فات أوانها، وقد كان بالإمكان الحيلولة دون قيامها عام 1948، لكن المواقف الخيانية للحكام العرب المرتبطين بوشائج محكمة بالامبريالية الأمريكية والبريطانية آنذاك، هي التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل، فلم تكن الحرب العربية ضد المنظمات الصهيونية عام 1948 سوى مسرحية أخرجتها الامبريالية الأنكلو أمريكية ونفذها الحكام العرب .
لق باتت إسرائيل دولة عسكرية مسلحة بأحدث ما انتجته المصانع الأمريكية والغربية، وأضافت لها السلاح النووي ليكون منقذها في الحالات الحرجة ، وسوف لا تتورع إسرائيل إذا ما وجدت أن كيانها يجابه خطرا حقيقياً عن استخدام سلاحها النووي ليكون عليها وعلى أعدائها.
أن على قيادة حماس أن تبعد نفسها عن التأثيرات الدولية وخصوصاً من جانب إبران وتعيد النظر في حساباتها، وتعود عن انقلابها ضد السلطة، وتجنح للمصالحة معها بكل جدية وصدقية، وإعادة النظر في تركيبة منظمة التحرير الفلسطينية بما يحقق وحدة الفصائل الفلسطينية كافة كي تدخل في مفاوضات جادة مع الجانب الإسرائيلي بصف موحد، مدعومة من قبل الدول العربية والعديد من دول العالم وشعوبها للوصول إلى اقامة دولة فلسطينية موحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة على اسس ديمقراطية، مع انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران 1967، بما في ذلك كافة المستعمرات، وتحقيق حل عادل لقضية اللاجئين في الشتات، وإن سلوك أي طريق آخر لا يعني سوى المزيد من الحروب والدماء والخراب والدمار والويلات والمصائب للشعب الفلسطيني، فقد كفاه ما عاني منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين ابان الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا.

388
كتاب مفتوح للسيد رئيس الوزراء نوري المالكي
حامد الحمداني                                                        10/2/2009

سيادة رئيس الوزراء المحترم
تحية طيبة
لقد مرَّ على الشعب العراقي منذ الغزو الأمريكي للعراق، وإسقاط نظام الطاغية صدام حسين، خمس سنوات قاسية جدا لم يشهد لها من قبل مارست خلالها عصابات البعث، وحلفائها أنصار القاعدة، وميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية منها والسنية، أخطر الجرائم الوحشية التي أزهقت أرواح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، وشردت 4 ملايين من بيوتهم ومدنهم للنجاة بأرواحهم من عمليات الذبح والتمثيل بالجثث والحرق، وكل ذلك جرى باسم الدين والطائفة حيث جرت عمليات الذبح والقتل على الاسم والهوية.
لم يكن هناك صراع ديني أو طائفي في المجتمع العراقي من قبل، وكان المواطنون بكل أطيافهم وأديانهم وطوائفهم وقومياتهم يعيشون أخوة متحابين جنباً إلى جنب، وامتزجت دماء الجميع من خلال المصاهرة بين العوائل، فكان غريباً جداً أن يشهد الشعب العراقي تلك الحرب الأهلية الطائفية المجنونة تعصف بالجميع.

لقد بات الشعب العراقي بعد كل الذي جرى على قناعة بأن قوى الإسلام السياسي قد استغلت الدين بشكل بشع لتحقيق أجندتها السياسية المتمثلة بالاستئثار بالسلطة والثروة، وأصبح على يقين أن الأحزاب الدينية لا تصلح لقيادة العراق، وأن لا بد من قيام دولة ذات نظام علماني يسوده القانون والحرية والعدالة الاجتماعية.

لقد بذلتم جهداً صادقاً في كبح جماح الميليشيات والعصابات الإجرامية التي استشرى نشاطها في طول البلاد وعرضها، واستطعتم إعادة الأمن السلام في البلاد بنسبة 80% تقريبا، حيث ما يزال نشاط قوى الإرهاب في العديد من المناطق ، وخاصة في الموصل وديالى مما يتطلب المزيد من الجهد للقضاء المبرم على كل من يمارس العمل الإرهابي في البلاد.

لقد اثبتت انتخابات مجالس المحافظات أن الشعب العراقي قد ضاق ذرعاً بحكم أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والسنية، وأنه يطمح في قيام نظام حكم ديمقراطي علماني يحفظ للعراق وحدته واستعادة حريته واستقلاله ، ويؤمن الحياة الكريمة لأبنائه، ومن أجل هذا صوت الشعب لقائمتكم التي حملت اسم [ دولة القانون] ولم تحمل اسم حزب الدعوة الإسلامية، ولا شك أن تصريحاتكم المتكررة حول الدولة العلمانية الديمقراطية قد أعطت الأمل لدى الشعب في إجراء انعطاف تاريخي كبير يضع العراق على سكة السلام والحرية والديمقراطية.
إن هذه الانتخابات ليست سوى بروفة للانتخابات القادمة بعد 11 شهراً الانتخاب برلمان جديد سيقرر مصير العراق في المرحلة القادمة، وهذا يتطلب منكم أن تستفيدوا من كل يوم يمر لترسيخ التوجه نحو الهدف المنشود باقامة دولة القانون، وهذا يتطلب أن تكسبوا ثقة المواطن العراقي من خلال الإجراءات على أرض الواقع، ومن هذه الإجراءات:

1 ـ تشريع قانون الأحزاب السياسية والذي ينبغي أن يؤكد على قيام حياة حزبية ديمقراطية، والحيلولة دون قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، منعاً لقيام صراع طائفي أو عرقي بين أطياف الشعب العراقي، وليكن الدين بعيداً عن السياسة كي تبقى له قدسيته واحترامه.

2 ـ إعادة كتابة الدستور على أن تتولى ذلك عناصر مختصة بالقانون الدستوري، ومشهود لها بالكفاءة، والوطنية الصادقة والحرص على وحدة العراق أرضاً وشعبا، لسن دستور جديد للبلاد يفصل الدين عن الدولة ، ويكرس حقوق الإنسان التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948، والذي يكفل لجميع مكونات الشعب العراقي كامل الحقوق والحريات المتساوية دون تمييز بسبب القومية أو الدين أوالطائفة أو الجنس، والتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.

3 ـ ترسيخ مبدأ الفيدرالية في منطقة كردستان العراق فقط، بسبب الوضع الخاص للشعب الكردي، بما يحفظ وحدة العراق أرضا وشعباً، مع الحرص على عدم التجاوز على صلاحيات الحكومة المركزية في الشؤون الدفاعية والأمنية والخارجية والثروة الوطنية التي هي ملك الشعب العراقي جميعاً ، والحرص على التوزيع العادل للمشاريع التنموية في مختلف محافظات العراق.

4 ـ ينبغي الحرص على منع طغيان صلاحيات المحافظات على صلاحيات الحكومة المركزية، وأن تحدد صلاحيات المحافظات على الأمور الإدارية المحلية بما يسهل عمل الحكومة وإدارة شؤون المحافظة بعيداً عن الروتين الذي يؤخر عملها.

4 ـ معالجة مشكلة البطالة المستشرية بأسرع ما يمكن من خلال توجيه إمكانيات الدولة المالية لإعادة ترميم المشاريع الصناعية المتوقفة ، وبناء مشاريع صناعية جديدة، وتنشيط الزراعة بغية خلق فرص عمل واسعة لامتصاص البطالة التي تعتبر المورّد الحقيقي للإرهاب والإرهابيين، وعدم تبذير موارد العراق المالية في بناء مشاريع غير انتاجية في الوقت الحاضر.

5 ـ أنشاء ديوان الرقابة المالية، والحرص على تمتعه بالرقابة الصارمة على الشؤون المالية، وأوجه الصرف، وسلامة ودقة الحسابات في مختلف دوائر الدولة، وتأمين الحماية اللازمة لمنتسبيها كي تمكنهم من القيام بعملهم على الوجه الأكمل، ومحاسبة المتلاعبين والمقصرين والمرتشين والمخالفين للقانون، والذين اثروا على حساب الشعب طيلة السنوات السابقة، وإحالتهم إلى المحاكم المختصة لينالوا عقابهم الصارم، وتغريمهم بإعادة تلك الأموال المسروقة، وهذا يتطلب إصدار قانون [ من أين لك هذا؟] والتحقق من ثروات كل الذين تولوا الوظائف العامة ونهبوا ثروات البلاد، والعمل على استعادتها كاملة غير منقوصة.

6 ـ الحرص على تنظيف الجيش العراقي وقوات الشرطة والأجهزة الأمنية من العناصر المنتمية للأحزاب السياسية، كي يبقَ الولاء للعراق وحده وليس للأحزاب السياسية، كما ينبغي العمل بأسرع وقت ممكن على تسليح الجيش بالأسلحة الثقيلة، وبالطائرات الحربية، الكفيلة بحماية أمن العراق واستقلاله وحرمة أراضيه، بالإضافة إلى تأمين السلام والأمن والحرية للمواطنين، والضرب بيد من حديد على كل من يحاول الاعتداء على حقوق وحريات المواطنين.

7 ـ العمل على استعادة المرأة لحقوقها المسلوبة وحريتها المهانة على أيدي عصابات الميليشيات الإجرامية، ومنع فرض الحجاب عليها، واحترام إنسانيتها ومساواتها مع الرجل، ومساهمتها الفعالة في العمل المنتج، ووضع قانون جديد للأحوال المدنية يحد من تجاوز الرجل على المرأة، وحريتها في طلب الطلاق، وحرية السفر، وتمتعها بكافة الحقوق التي نصت عليها شرعة الأمم المتحدة.


السيد رئيس الوزراء المحترم:
أن فوز قائمتكم في انتخاب مجالس المحافطات يعتبر خطوة في أول الطريق الطويل، لكنه ينبغي أن يكون الحافز لكم لتعميق توجهكم نحو بناء الدولة العلمانية، دولة القانون والحرية والديمقراطية، وستكون الأشهر الإحدى عشر القادمة هي المحك لنيل ثقة الشعب بسياستكم وتوجهاتكم استعداداً لخوض الانتخابات النيابية التي ستقرر مصير العراق لمرحلة طويلة قادمة، فإما عراق ديمقراطي علماني يسوده القانون والنظام والعدالة الاجتماعية، وتأمين الخدمات العامة للشعب من ماء صالح للشرب، وكهرباء، وخدمات صحية وتعليمية، وتأمين اجتماعي تؤمن حياة كريمة للشعب ، وإما عودة إلى حكم ميليشيات الأحزاب الدينية الطائفية ، وعودة الصراع الطائفي والعرقي، والقتل والتهجير وتخريب الممتلكات العامة والخاصة ، وخراب العراق.
أنكم يا سيادة رئيس الوزراء بحكم مركزكم القيادي تتحملون مسؤولية كبرى تجاه شعبكم الذي ينتظر منكم أن تحققوا طموحاته في الأمن والسلام والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، متمنيا لكم من صميم القلب تحقيق أماني الشعب الذي صبر طويلاً، ودفع ثمناً غاليا من أرواح أبنائه .   

389
في الذكرى السادسة والأربعين لانقلاب 8 شباط الفاشي

هكذا نجح انقلاب 8 شباط الفاشي في العراق
حامد الحمداني                                                                        8/2/2009

أولاً:الظروف التي ساعدت ،ومهدت للانقلاب:
في ظل الظروف التي سادت العراق منذُ عام 1959 ، حيث بدأت الانتكاسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية الوطنية من جهة، وبين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم ، من جهة أخرى،  تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية، و عبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة،  وسعيه الحثيث إلى تحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة، والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين الذين تآمروا على الثورة { سياسة عفا الله عما سلف} التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدد كبير من الضباط الذين سبق وأن أحيلوا على التقاعد بعد انقلاب العقيد الشواف الفاشل في الموصل، إلى مراكز حساسة في الجيش.

وفي الوقت نفسه، أقدم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها  ومسيرتها، وأحالهم إلى المحاكم العرفية العسكرية الأولى والثانية التي كان يرأسها كل من [ العقيد شمس الدين عبد الله ] والعقيد [ شاكر مدحت السعود ] المعروفين بعدائهما للشيوعيين وسائر القوى الديمقراطية، حيث  أصدرا بحقهم أحكاماً قاسية بالسجن لمدد طويلة .

 كما أقدم على تسريح عدد كبير من الضباط، والقادة العسكريين، ومجاميع كبيرة من الضباط الاحتياط ، وكذلك ضباط الصف المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها .
كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، بهدف إضعاف الحزب الشيوعي، وهذه أهم الإجراءات الخاطئة التي اتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال والتي كان لها الأثرالحاسم في وقوع ، ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام 1963:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.
لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية، حتى أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب.
وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء عديدة  ما كان لها أن تحدث، واستغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها، وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء، لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين، بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة  فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط،  لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال الثورة، واغتياله هو بالذات وإغراق العراق بالدماء.

لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي  وليس من جانب القوى الرجعية، وعملاء الإمبريالية.
إن الحزب الشيوعي لم يفكر يوماً ما في الغدر بعبد الكريم قاسم، أو المساس بقيادته، بل بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته، وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما يملك، وحتى الحجارة لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف : {باسم العامل والفلاح، يا كريم أعطينا سلاح}، ولكن دون جدوى، حتى أحاط الانقلابيون وزارة الدفاع بدباباتهم، وجرى قصفها بالطائرات والمدافع حتى انهارت مقاومة عبد الكريم قاسم، واستسلامه فيما بعد.

إن استسلام عبد الكريم قاسم للانقلابيين كان خطأ آخر وقع فيه ، فقد أعتقد أن هناك أملاً في أن يعفُ عنه الانقلابيون، ويسفرونه إلى الخارج أو ربما حُوكم محاكمة قانونية عادلة  أو سجن لفترة من الزمن، ولم يدر في خلده أن حقدهم عليه وعلى ثورة 14 تموز المجيدة جعلتهم يصممون على تصفيته، وتصفية كافة أعوانه، وكل الوطنيين المخلصين لشعبهم ووطنهم، ولثورة تموز المجيدة.

 كنت أتمنى أن يستشهد عبد الكريم قاسم وهو يدافع عن الثورة وعن نفسه، كما فعل من بعده الشهيد  [سلفادور اليندي ]، رئيس جمهورية شيلي عام 1972، حينما أقدمت الإمبريالية الأمريكية على تدبير الانقلاب الفاشي فيها، ولا يقع بأيدي الانقلابيين الذين تطاولوا عليه بأبشع  وأخس العبارات  قبل تنفيذ الإعدام به وبرفاقه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان حداد.

2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدد كبير من الضباط المخلصين للثورة، ولقيادته، فقد أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم مرسوماً جمهورياً في 29 حزيران 1959 يقضي بإحالة  قائد الفرقة الثانية في كركوك الزعيم الركن  [داوود الجنابي ] وخمسة من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959.
 كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [ هاشم عبد الجبار ] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين يوم جرت محاولة اغتياله  في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم  [صديق مصطفى ]، المعروف بعدائه للقوى التقدمية، ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963  عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب،  وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد، الذين جرى دفنهم بقبور جماعية.

كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي ] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين، كان من بينهم الرئيس [حسون الزهيري ] والرئيس [كاظم عبد الكريم] ، والمقدم [خزعل السعدي ]،الذين كان لهم الدور الرئيسي في كشف مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، وأودعهم في إمرة الإدارة بوزارة الدفاع لكي يقعوا صيداً ثميناً لدى انقلابيي 8شباط 1963 حيث جرى تصفيتهم تحت التعذيب الوحشي .
 وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب، حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر عبد الكريم قاسم .
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية ، وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق ] الذي أعاده للجيش، بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة، ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك ، وتعيين المقدم الطيار حردان عبد الغفار التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة ولسائر القوى التقدمية وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة  19 من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وقد جرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي ] الذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب، وكان أحد قتلة الزعيم عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة.
7 ـ أحال العقيد [حسن عبود ] آمر اللواء الخامس، وآمر موقع الموصل على التقاعد في 21 شباط 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية ، وتعين الزعيم الركن [سيد حميد سيد حسين ] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب العراق، كما أحال عدد كبير من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد .
9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم  1700 ضابط من الخدمة في الجيش بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها.
10 ـ إعفاء المقدم الركن [ سليم الفخري ] المدير العام للإذاعة والتلفزيون، وتسليمها
لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها، وقد وصفت صحيفة [ صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد أصبحت وكراً للمتآمرين ولانتهازيين  والرجعيين، بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها . (6)
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب واتخذوها مقراً لقيادة الانقلاب.

كان لذلك الحال تأثيراً كبيراً على معنويات الجيش والشعب، عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإثباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي  9 شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة  واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير غير المذاع، لما نجح الانقلاب.
11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد.
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية، كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية،  ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين  وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته،  وجميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم  في 11 حزيران 962،  في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين، والديمقراطيين رهائن في السجون، وتولى الانقلابيون فيما بعد جريمة قتل أعداد كبيرة منهم .
 لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين، واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يردهم عن التآمر.
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية.
 ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون، وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين، واستغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.

15 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط  من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,9% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة الشركات، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط  حرصاً على مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.

16ـ  قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و[عباس مامند]، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة  وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان وعباس مامند المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
ففي الفترة بين 20 ـ 23 تموز أجتمع السفير الأمريكي في طهران [ هولمز] بالشيوخ المتمردين،  وتم إرسال [ علي حسين أغا المنكوري ] على رأس عصابة مسلحة بالأسلحة الأمريكية، وبإشراف خبراء أمريكان، ليفرض سيطرته على ناحية [تاودست ]  كما أعترف الأسرى من المتمردين بأنهم يحصلون على العون والأسلحة من الولايات المتحدة، وبريطانيا عن طريق إيران .
وفي بداية عام 963 ، عندما كانت الحرب تدور في كردستان، كنت آنذاك في مدينة السليمانية إحدى أكبر مدن كردستان ، أتابع مجريات تلك الحرب، واتحسر على ما آلت إليه الأمور في بلادي، حيث يقتل العراقيون بعضهم بعضاً .
ومن المؤسف أيضاً أن ينجر الحزب الشيوعي، بسبب من الضغوط التي مارسها قاسم ضده، إلى الحركة الكردية، بعد أن وقف منذُ البداية مطالباً بالسلم في كردستان، والديمقراطية للعراق، تاركاً النظام منعزلاً وجهاً لوجه أمام مؤامرات الإمبريالية وعملائها. كما يتحمل قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح .

17 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق الذي لم يجر عليه أي تغيير سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الذي أنشأته  ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك لم يكن يدين بالولاء  للثورة، ولا لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان لها دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية، والحركات التآمرية عن السلطة، وحماية المتآمرين ومما يؤكد هذا الحديث الذي جرى مع مدير الأمن العام [ مجيد عبد الجليل ] الذي جيء به إلى دار الإذاعة، التي اتخذها الانقلابيون مقراً لهم، وقام علي صالح السعدي أمين سر حزب البعث  بالبصق في وجهه  فما كان من مدير الأمن العام إلا أن قال له : { لماذا تبصق في وجهي ؟ فلولاي لما نجح الانقلاب}، وهذا خير دليل على عدم أمانة ذلك الجهاز الذي أعتمد عليه عبد الكريم قاسم
 
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن، والذي  أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[ محسن الرفيعي ] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
 كما أن موقف رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام [ أحمد صالح العبدي ] المتخاذل دل على مساومة الانقلابيين، والسكوت عن تحركاتهم، فلم ينل منهم أذى، وأطلق سراحه بعد أيام قلائل، فيما جرى إعدام كل المخلصين لثورة تموز وقيادتها.

18 ـ قيام الطلاب البعثيين والقوميين بإضراب عام  ساندهم فيه أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستخدمين كل الوسائل والسبل، بما فيها العنف، لمنع الطلاب من مواصلة الدراسة، ولم يكن موقف السلطة من الإضراب يتناسب وخطورته، فقد اتخذت السلطة جانب اللين مع المضربين  ولم تحاول كبح جماحهم، وكسر الإضراب ، وكان ذلك الإضراب بداية العد التنازلي لتنفيذ الانقلاب .
ولابد أن أشير هنا إلى الدور الذي لعبته سفارة العربية المتحدة في دعم الإضراب ، وطبع المنشورات، وقد اضطرت الحكومة العراقية إلى طرد أحد الملحقين في السفارة في 24كانون الثاني 1963.
ثانيا: مَنْ أعدّ وساهم في الانقلاب ؟
لاشك في أن الدور الأول في الإعداد للانقلاب كان لشركات النفط، بعد أن أقدم عبد الكريم قاسم على إصدار قانون رقم 80 لسنة 961 ، بعد صراع مرير مع تلك الشركات  والتهديدات التي وجهتها إلى حكومة الثورة ، ذلك لأن النفط بالنسبة للدول الإمبريالية أمر لا يفوقه أهمية، أي أمر آخر، ولذلك نجد أن جَلّ اهتمام هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هو الاستحواذ على منابع النفط، وإحكام سيطرتهم عليها.
 ولما جاءت ثورة الرابع عشر من تموز، واتخذت لها خطاً مستقلاً بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية هالهم الأمر، وصمموا منذُ اللحظات الأولى على إجهاض الثورة، والقضاء عليها، وبالفعل نزلت القوات البريطانية في الأردن، والأمريكية في لبنان، وحشدت تركيا قواتها العسكرية على الحدود العراقية من أجل العدوان على العراق. 
إلا أن موقف الاتحاد السوفيتي المساند للحكومة الثورية الجديدة، وتحذيره للإمبرياليين من مغبة العدوان على العراق، وحشد قواته على الحدود التركية، وتحذيرها من أي محاولة للتدخل والعدوان، كل تلك الإجراءات أسقطت في يد الإمبريالية، وجعلتهم يفكرون ألف مرة  قبل الإقدام على أي خطوة متهورة .
وهكذا جاءت الريح كما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل، غير أن الإمبرياليين لم يتركوا مسألة إسقاط الثورة أبداً، بل بادروا إلى تغير خططهم بما يتلاءم والظروف الجديدة، محاولين إنهاء الثورة من الداخل مجندين حزب البعث، وطائفة من القوى القومية لتنفيذ أهدافهم الشريرة، فلقد ذكر [ علي صالح السعدي ] أمين سر حزب البعث في مؤتمر صحفي عقده بعد وقوع انقلاب عبد السلام عارف ضد حكم البعث قائلاً [ لقد جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي].
كما ذكر الملك حسين، ملك الأردن في مقابلة أجراها معه [ محمد حسنين هيكل ] رئيس تحرير صحيفة الأهرام في فندق [ كريون] في باريس حيث قال الملك:
{تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 957 ، أسمح لي أن أقول لك أن ما جرى في العراق في 8 شباط 963 قد حضي بدعم الاستخبارات الأمريكية، ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني اعرف الحقيقة .
لقد عقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهم تلك الاجتماعات  في الكويت، وأزيدك علماً أن محطة إذاعة سرية كانت قد نصبتها  الاستخبارات الأمريكية في الكويت، وكانت تبث إلى العراق، وتزود يوم 8 شباط ، رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم }.
كما أن أحد أعضاء قيادة حزب البعث عام 963 ، طلب عدم ذكر أسمه  قد ذكر لمؤلف كتاب العراق الكاتب [ حنا بطاطو ] أن السفارة اليوغسلافية في بيروت حذرت بعض القادة البعثيين من أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الأمريكية. وهذا ما فيه الكفاية عن الدور الذي لعبته الإمبريالية في الإعداد للانقلاب.

لقد حكم الانقلابيون البعثيون مدة تسعة أشهر كان إنجازهم الوحيد خلالها  هو شن الحرب الهوجاء على الشيوعيين والديمقراطيين، وكانت تلك الأشهر بحق أشهر الدماء  والمشانق، والسجون والتعذيب، وكل الأعمال الدنيئة، التي يندى لها جبين الإنسانية، حتى وصل الأمر بعبد السلام عارف، شريكهم في الانقلاب، ورئيس جمهوريتهم، بعد انقلاب شباط، أن أصدر كتاباً ضخماً عن جرائمهم وأفعالهم المشينة سماه [المنحرفون] .


390
من أجل إعادة كامل حقوق الأكراد الفيليين وتعويضهم
 وإنزال العقاب الصارم بقتلة أبنائهم


حامد الحمداني                                                      25/1/2009


غداً ستباشر المحكمة الجنائية العليا محاكمة 16 من المسؤولين في النظام السابق عن جريمة وحشية كبرى تتعلق بتصفية أبناء الأكراد الفيليين الذين أقدم نظام البعث على تسفيرهم إلى إيران ظلماً وزوراً بحجة التبعية الإيرانية بعد أن سلب منهم جنسيتهم العراقية، وكافة أوراقهم الثبوتية  وأملاكهم وأموالهم في تجاوز خطير على الدستور الذي كتبه الدكتاتور الجلاد صدام بنفسه، والذي نص على أن حق الملكية مصان لجميع المواطنين، ولا يجوز نزع الملكية إلا بقانون، وللمصلحة الوطنية، ويتم التعويض العادل عن الأملاك المنزوعة. لكن صدام لم يحترم طيلة مدة حكمه الدستور والقانون، بل كان الدستور والقانون ألعوبة بيديه، والويل لمن يحاول الاعتراض عليه.

 لكن الجريمة الكبرى التي اقترفها ذلك النظام كانت في إقدامه على  حجز فلذات أكبادهم ممن هم في سن الصبا والشباب [ مابين 13- 28 عاما] ليقوم بتصفيتهم بوحشية من دون أن يقترفوا أية جريمة، حيث أجرى عليهم تجارب أسلحته الكيماوية والجرثومية التي قضى فيها أولئك الشباب والصبيان الذين تجاوز عددهم 11 ألفاً، والذين ضمتهم القبور الجماعية التي تم اكتشافها بعد سقوط الطاغية ونظامه البشع.

لقد كان أمل أهلهم وذويهم طيلة السنوات التي امتدت منذ تسفيرهم في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وحتى سقوط النظام عام 2003 أن يعودوا إلى وطنهم، ويلتقوا بأبنائهم المحجوزين في سجون النظام، لكن الفاجعة الكبرى التي أصابتهم كانت عدم العثور على أبناءهم، ثم تبين فيما بعد أن ما تبقى من أبنائهم ليس سوى هياكل عظمية وبقايا ملابس ممزقة في القبور الجماعية التي جرى كشفها تباعا، والتي ضمت رفات مئات الألوف من المواطنين الأبرياء من ضحايا النظام البعثي الفاشي خلال 35 عاماً من حكمهم الدموي البشع.

غدا سيقف القتلة المجرمون في قفص الاتهام ليجيبوا عن التهم المسندة لهم عن دورهم في عمليات تصفية أولئك الصبيان والشبان الأبرياء الذين لم يقترفوا أية جريمة سوى كونهم أبناء المسفرين ظلماً وعدواناً، وعن جريمة تسفير أهلهم وذويهم خلافاً للقانون وسلبهم لملاكهم وأموالهم، ورميهم على الحدود الإيرانية المزروعة بالألغام التي ذهب ضحيتها الكثير من المسفرين الأبرياء. ومن الغريب أن تنكر حكومة البعث حق المواطنة منهم، وتسلبهم جنسيتهم العراقية، وفي الوقت نفسه رفضت الحكومة الإيرانية اعتبارهم إيرانيين وعاملتهم معاملة قاسية، ورفضت منحهم أية وثيقة، وحتى حق العمل لتدبير حياتهم المعيشية.

إن الحيف الذي لحق بالأخوة الأكراد الفيليين الذين يمثلون شريحة واسعة من المجتمع العراقي، على أيدي النظام البعث الفاشي يمثل بلا أدنى شك جريمة جماعية كبرى ضد الإنسانية، ليست فقط حسب المقاييس التي أقرتها الأمم المتحدة، والمثبتة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، بل ويمثل عدوانا صارخاً على حقوق الإنسان بموجب كل الشرائع والأديان السماوية، والقيم والأعراف الإنسانية، فالأخوة الكرد الفيليين قد تعرضوا إلى أبشع جريمة اقترفها النظام بتجريدهم من جنسيتهم العراقية وحق المواطنة دون أي سند قانوني، وهم الذين ولدوا وترعروا في هذا الوطن، ولم يرتضوا عنه بديلا ، وقد خدموا هذا الوطن بكل أخلاص، وكان لهم قصب السبق في النضال في صفوف الحركة الوطنية من أجل تحرره واستقلاله .

لقد عاش الأخوة الأكراد الفيليين في إيران فقراء معدمين بعد أن فقدوا كل شئ ، بل لقد وجدوا أنفسهم محاربين من النظام الإيراني الذي لم يعترف لهم بحق المواطنة، ولم يسمح لهم بالعمل أو التملك، وعاشوا حياة بائسة في المخيمات لسنين عديدة يتملكهم اليأس، وتنهش فيهم الكآبة والأمراض والأحزان على فراق أبنائهم المحتجزين لدى الطاغية الذي قتلهم جميعاً دون رحمة، ودون أي جريمة اقترفوها، وهي تدخل ضمن جريمة الإبادة الجماعية للإنسانية والتي يعاقب عليها القانون الدولي .   

لقد انتظر الأخوة الفيليين من النظام الجديد الذي أُقيم على أنقاض نظام صدام أن يعوضهم عما فقدوه من أملاك وأموال اغتصبها النظام المقبور، ويعيد إليهم حقوق المواطنة، ووثائقهم الثبوتية المسلوبة، ويعوضهم عن فقد ابنائهم البررة، وطال الانتظار لغاية هذا التاريخ دون أن يتلمسوا أي إجراء حقيقي من قبل الحكومات التي تعاقبت على السلطة، وهم يعانون اشد المعانات من الظروف الصعبة التي يعيشون في ظلها.
إن إنصاف هذه الشريحة الواسعة من المواطنين العراقيين، وإعادة كامل حقوقهم المغتصبة ليس منة من أحد، بل هو حق وواجب، وعلى الحكومة الحاضرة أن تتولى الأمر بجدية، وتعيد الحق لأصحابه دون تلكؤ أو تأخير  وهذا يتطلب اتخاذ الإجراءات العاجلة التالية:

1ـ تعديل قانون الجنسية العراقية، وإلغاء أي تمييز بين المواطنين العراقيين الذي كان معمولاً في السابق، فالعراقيون ينبغي أن يكونوا سواسية أمام القانون، وإعادة حقوق المواطنة لهذه الشريحة المظلومة بكل ما تعنيه تلك الحقوق .

2ـ إعادة الممتلكات المنقولة وغير المنقولة التي سلبها منهم النظام البائد دون وجه حق، وعلى وجه السرعة، وتأمين الحياة الكريمة لهم، وإنقاذهم من الظروف الصعبة التي يعيشون في ظلها.

3 ـ إنزال العقاب الصارم  بزمرة صدام الذين ساهموا في جريمة قتل أبنائهم دون أي سند قانوني، ودون أي جريمة اقترفوها، ولاسيما وأن معظمهم كانوا من الصبيان، والحكم بتعويض عادل لهم عن هذه الجرائم الوحشية البشعة، وإجبارهم على دفع التعويضات المناسبة من أموالهم.

إن إعادة الحق إلى نصابه، وإنصاف هذه الشريحة المهضومة الحقوق، ورفع الحيف الذي أصابهم على أيدي تلك الزمرة الشريرة ينبغي أن يتم بأسرع وقت ممكن، فالقضية إنسانية قبل كل شئ، ولا تتقبل التأجيل والتأخير.
 

391
من أجل انتخاب رئيس للبرلمان
 بعيداً عن المحاصصة الطائفية البغيضة

حامد الحمداني                                                     17/1/2009

ما زالت قوى الإسلام السياسي بشقيها الشيعي والسني متمسكة بالمحاصصة الطائفية في تقاسم المراكز القيادية في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية على الرغم من الفشل الذريع الذي منيت به العملية السياسية التي شادها الحاكم الأمريكي السيئ الصيت بول بريمر، والتي جاءت بعناصر إلى كافة أجهزة السلطة غير جديرة بالمراكز التي تبوأتها، وفاقدة للكفاءة المطلوبة، في وقت كان العراق بأشد الحاجة لتولي شخصيات أكاديمية تمتلك الكفاءة اللازمة والنزاهة والوطنية العراقية الصادقة، لتقوم بالمهام الكبيرة الملقاة على عاتقها في إعادة بناء العراق الجديد بعد الخراب الذي حل بالبلاد جراء الحروب التي خاضها نظام الدكتاتور صدام وحزبه الفاشي طيلة ثلاثة عقود عجاف شهدت أبشع صنوف القتل والدمار والخراب لبنية العراق التحتية في مختلف المجالات  الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية.

 ثم جاء الغزو الأمريكي للعراق ليدمر كل ما تبقى من بنية العراق التحية، ويلغي كل مؤسساته العسكرية والمدنية، ويفتح الباب واسعاً أمام عصابات الجريمة لنهب وتخريب وتدمير كل ما تقع عليه أيديهم الآثمة.

لقد ابتدعت الإدارة الأمريكية للعراق ما دعته بالعملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية التي انحصرت في بادئ الأمر على الطائفة الشيعية ممثلة بأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، والتحالف الكردي المتمثل بقيادة حزبي الطالباني والبارزاني، واستبعاد الطائفة السنية، والتي سرعان ما حملت السلاح بدعوى مقاومة الاحتلال!، لكنها في واقع الأمر خاضت الصراع من أجل السلطة التي فقدتها بعد سقوط نظام صدام، وتدهور الوضع الأمني في البلاد بشكل خطير جراء السيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة التي حصدت أرواح الألوف من المواطنين الأبرياء، ودمرت الممتلكات العامة والخاصة، وحولت حياة المواطنين العراقيين إلى جحيم، ولاسيما بعد تفجير مرقد الإمامين في سامراء، تلك الجريمة التي أشعلت شرارة الحرب الطائفية المدمرة في البلاد.

عند ذلك أدركت الإدارة الأمريكية أن لا مناص من دعوة قوى الإسلام السياسي السني للمشاركة في الحكم بعد أن أعيتها الحيلة لإعادة الأمن السلام في البلاد، وهكذا كرست الإدارة الأمريكية نظام المحاصصة الطائفية في كل أجهزة الدولة بدءً من رئاسة الجمهورية وحتى أدنى الوظائف العامة في البلاد، وباتت أجهزة الدولة تدار من قبل عناصر مختارة من قبل أحزابها، ولا تمتلك الكفاءة والخبرة ولا حتى الولاء للعراق في أحيان كثيرة ، وأصبح الانتماء إلى هذه الأحزاب هو الوسيلة الوحيدة للحصول على الوظيفة دون الاهتمام بالشهادة والكفاءة والوطنية الصادقة.

ورغم كل ذلك فإن الصراع بين القوى السياسية الطائفية والعرقية لم يهدأ، وانتقل الصراع بين قادة هذه الأحزاب داخل البرلمان وسائر أجهزة الدولة، فيما استمر الصراع في الشارع من قبل منتسبي ومناصري هذه الأحزاب، وكل حزب يرمي إلى فرض أجندته على الآخرين.

لقد كان اختيار محمود المشهداني رئيساً للبرلمان نموذجاً صارخاً لهذا النظام الطائفي الرجعي المتخلف، والذي يفتقد للكفاءة والخبرة، وحتى لأسلوب التعامل باحترام مع أعضاء البرلمان، وكثيراً ما تحدث معهم بكلمات سوقية بذيئة لا تليق بمركز كبير وحساس كرئيس البرلمان الذي هو نداً لرئيس الجمهورية، مما حول البرلمان إلى ساحة للصراع وحتى العراك  كما أنه كان عاجزاً عن تأمين النصاب في جلسات البرلمان بسبب التسيب في إدارته مما أدى إلى تكرار تغيّب العديد من الأعضاء عن حضور الجلسات دون مبرر قانوني، ودون حساب، مما شل عمل البرلمان.

وأخيراً ضاق أعضاء البرلمان ذرعاً برئيسه المشهداني، وتصاعدت الدعوات لإقالته بعد المعارك التي شهدها البرلمان في الأيام الأخيرة، وجرى جمع التواقيع من أعضاء البرلمان لطرح إقالة المشهداني، مما اضطره إلى المساومة مع البرلمان، حيث أصر على أن يتقاعد لقاء راتب تقاعدي قدره 40 ألف دولار شهريا!!

 وتقاعد المشهداني وغادر البرلمان دون أن يتمكن النواب من انتخاب رئيس جديد، حيث يصر الحزب الإسلامي على أن يكون الرئيس الجديد من حصته، على الرغم من تفكك جبهة التوافق المنتمي إليها الحزب، وما زال السيد طارق الهاشمي متمسكاً بمشروع المحاصصة الطائفيه الذي ثبت فشله في إدارة البلاد.

لقد تقدم عدد من أعضاء البرلمان بترشيح أنفسهم لرئاسة البرلمان ومن بينهم شخصيتان معروفتان وهما كل من مهدي الحافظ وميسون الدملوجي، فيما يصر قادة الحزب الإسلامي على ترشيح عضو الحزب أياد السامرائي بدعوى المحاصصة الطائفية البائسة.

إننا ندعو أعضاء البرلمان إلى كسر نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وانتخاب أحد الشخصيتين المذكورتين لرئاسة البرلمان، وأجراء الانتخاب بأسلوب التصويت السري، ولتكن هذه البادرة  الخطوة الأولى نحو كسر ورفض هذا الأسلوب اللا ديمقراطي بالنسبة لكافة المراكز في الدولة مستقبلا، ورفض التوزيع الطائفي والعراقي لرئاسة الجمهورية وهيئة الرئاسة، وتعديل الدستور، وإلغاء منصبي هيئة الرئاسة، وانتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب مباشرة بكل حرية وشفافية، والعمل الجاد من أجل أقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد، يحافظ على حقوق وحريات كافة مكونات الشعب دون تمييز.



392
الفيدراليون ورئيس الوزراء المالكي والدستور العتيد!
حامد الحمداني                                                    23/12/2008
باقتراب موعد إجراء الانتخابات المحلية في المحافظات بدأت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية نشاطاً محموماً في محافظة البصرة، التي يسيطر على السلطة فيها حزب الفضيلة منذ الانتخابات الأولى، في الدعوة لإقامة فيدرالية جديدة في المحافظة، وقد ركب هذه الموجه النائب عن البصرة  السيد وائل عبد اللطيف في دعوته لقيام فيدرالية البصرة، ومباشرته لحملة جمع التواقيع لمشروعه الهادف لتمزيق العراق.
وفي الوقت نفسه صعد حزب الحكيم دعواته بإقامة فيدرالية الجنوب والفرات الأوسط، التي تضم  تسعة محافظات، رداً على مشروع حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لفيدرالية البصرة.
هكذا بكل بساطة تعد القوى الطائفية مشاريعها الهادفة لتفتيت العراق، ولعابها يسيل للثروة النفطية التي تزخر بها مناطق جنوب العراق، في الوقت الذي استطاعت فيه الأحزاب القومية الكردية بدعم ومساندة الحاكم الأمريكي السيئ الصيت [ بول بريمر] الذي مهد لهم السبيل بقانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية، والذي صادق عليه مجلس الحكم الذي اختار أعضائه  بريمر نفسه، والذي تمتعت فيه قيادات أحزاب الحكيم والبارزاني والطالباني بالأغلبية المطلقة فيه، ثم جرى تشريع الدستور من قبل نفس هذه القيادات التي فازت بأغلبية المقاعد في البرلمان الذي حرى انتخابه عام 2004 ، بعد مقاطعة الطائفة السنية للانتخابات،  لتمهد لهذه القيادات الطريق لتشريع الدستور الذي جاء مطابقاً لدستور بريمر المؤقت مع إضافات طائفيه لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وكان مشروع الفيدرالية الذي أوجده الحاكم الأمريكي بريمر في صلب الدستور الذي تم إقراره فيما بعد من قبل هذه الأحزاب التي هيمنت على البرلمان والحكومة معا.
لقد كان مشروع الفيدرالية الذي أقرته المعارضة العراقية في مؤتمراتها قبل الغزو الأمريكي للعراق يتعلق فقط بحل المشكلة الكردية المزمنة لكي يتمتع الشعب الكردي بالحكم الذاتي ضمن إطار الدولة العراقية، ولم يتم إقرار أي مشروع لتقسيم العراق إلى دويلات طائفيه.
 لكن شهية قيادات أحزاب الإسلام السياسية الشيعية للسلطة والثروة بعد إسقاط نظام صدام الديكتاتوري باتت تطغي على الساحة السياسية، ولعب قادة هذه الأحزاب الطائفية بالتعاون والتعاضد مع الأحزاب القومية الكردية دوراً فاعلا في تضمين الدستور العراقي نصاً يدعو إلى تحويل العراق إلى اتحاد فيدرالي ، وتضمنت مواد الدستور صلاحيات واسعة للفيدرالية بحيث تجاوزت في كثير من الأحيان صلاحيات المركز.
 وبدأت الخلافات بين فيدرالية كردستان والحكومة الاتحادية تظهر في العلن على وجه متصاعد بحيث باتت الفيدرالية في كردستان دولة داخل دولة، دولة تتمتع بكل مقومات ومتطلبات الدولة، لها دستورها وحكومتها وبرلمانها وجيشها وعلمها وحدود محدودة تضم محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وأخرى مختلف عليها!!، كما ورد في نص الدستور البريمري العتيد تطالب القيادة الكردية المتمثلة بالرئيس الطالباني ورئيس الإقليم البارزاني، وتضم محافظة كركوك الغنية بالنفط ، وما يزيد على نصف محافظتي الموصل وديالى نزولا نحو الجنوب إلى بدرة وجصان!!.
كما تتمتع دولة كردستان بتمثيل سياسي في مختلف البلدان الغربية منها والشرقية، وهكذا لم يبقً لدولة كردستان إلا الإعلان الرسمي لقيامها بانتظار الظروف الدولية والإقليمية المناسبة.
واستمرت الخلافات بين الحكومة العراقية وقادة دولة كردستان تطفوا على سطح الأحداث، وتصاعدت لهجة قادة كردستان في ردها على حكومة نوري المالكي، ورد المالكي على تلك التصريحات في مؤتمراته الصحفية، وبدأت الاحتكاكات بين الجيش العراقي وميليشيات البيشمركة في كركوك وخانقين وجلولاء، وتتالت تهديدات البارزاني العلنية التي بثتها قناة الحرة بانطلاق الحرب الأهلية الحقيقية كما سماها البارزاني إذا لم تعد كركوك وبقية المناطق المختلف عليها إلى دولته العتيدة.
لقد أدرك المخلصون الحريصون على وحدة العراق أرضاً وشعبا ما انطوى عليه الدستور من مواد ذات أبعاد خطيرة على مستقبل العراق ووحدته أرضاً وشعبا، وحذروا أخطار الدعوات التي بدأت تتصاعد في الجنوب والتي تصدرها عبد العزيز الحكيم ، ثم تلتها دعوة حزب الفضيلة والنائب وائل عبد اللطيف لإقامة كيانات جديدة على غرار فيدرالية كردستان تستهدف تمزيق العراق كدولة وإنهائها، والاستئثار بالسلطة والثروة ، فمحافظة البصرة هي ثغر العراق الوحيد ، ويختنق العراق بدونها بكل تأكيد ، هذا بالإضافة إلى كونها غنية جداً بالنفط .
عند ذلك أدرك رئيس الوزراء السيد نوري المالكي مؤخرا خطورة ما انطوى عليه الدستور بعد أن لمس من خلال التطبيق مدى عمق التناقض والخلافات بين فيدرالية كردستان والمركز، ومحاولة تهميش دور الدولة المركزية، وتحدي قرارات وزير النفط فيما يخص العقود النفطية التي وقعتها حكومة كردستان مع العديد من شركات النفط ، وحول دور البيشمركة ووجوب كونها جزء من القوات العراقية المسلحة، وتتلقى أوامرها من رئيس الوزراء المالكي، في حين ترفض هذه الميليشيا هذا الالتزام، ولا تتلقى أوامرها إلا من حكومة البارزاني.
فقد أعلن السيد رئيس الوزراء نوري المالكي في حديث له أمام مؤتمر الكفاءات والنخب المثقفة المنعقد في بغداد قائلا:
 إن هناك ضرورة لإعادة كتابة الدستور الذي كتب على عجل من جديد حيث إن المخاوف لم تكن موضوعية، وقد وضعنا قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل، ولابد من إعادة كتابة الدستور بطريقة موضوعية، تمنح الحكومة المركزية الصلاحيات التي تمكنها من القيام بمهامها، وليست للحكومات المحلية.
 وأضاف المالكي في المؤتمر:
{ إن الدستور كان قد كتب قبل ثلاث سنوات في أجواء كانت فيها مخاوف من عودة الدكتاتورية من جديد بعد إزاحة نظام صدام لكننا ذهبنا بعيدا في تكريس المخاوف وتكريس التطلعات، وأستطيع القول أن تلك المخاوف لم تكن موضوعية، جعلتنا نضع قيودا ثقيلة كي لا يعود الماضي، ولكنها كتفت الحاضر وكتفت المستقبل.
وركز المالكي على عملية إعادة النظر بالدستور العراقي حيث تقوم حاليا لجنة برلمانية بإعادة النظر بالدستور الذي شرع نهاية العام 2004 قائلاً:
لقد أصبحنا بحاجة إلى مراجعة الدستور بعد أن تمكنا من تأسيس الدولة وحمايتها من الانهيار، وأصبح علينا أن نتجه اليوم إلى بنائها وفق أسس وطنية دستورية واضحة تحدد فيها الملامح والصلاحيات.
وأضاف علينا أن نضع ما يضمن لنا ألا تكون اللامركزية هي الدكتاتورية مرة أخرى حيث باتت الفيدرالية هي التي تصادر الدولة اليوم.
وطالب المالكي بضرورة وجود صورة واضحة للنظام السياسي يعطي الصلاحيات للحكومة المركزية بالشكل الذي يحول دون وجود حكومات حقيقية متناحرة فيما بينها.
وقال يجب بناء دولة اتحادية قوية حكومتها لها مسؤولية كاملة في الأمن والسياسة الخارجية، وان تكون الصلاحيات أفضل للحكومة الاتحادية، وما عداها ينص عليه الدستور من صلاحيات الأقاليم والمحافظات، وما لا ينص عليه فيعود إلى الحكومة المركزية.
 وطالب المالكي بتوزيع الصلاحيات الأخرى بطريقة تضمن عدم ولادة مركزية حديدية سواء للمركز آو للأقليم والمحافظات. وقال أن وجود فيدراليات وحكومات محلية دون وجود حكومة قوية قادرة على حماية السيادة والأمن أمر غير ممكن، وهو اتجاه غير صحيح.
ودعا المالكي أن تناط مسؤولية الأمن للحكومة المركزية قائلاً أنا أتحدث في ذلك عن تجربة لو لم تتصد الدولة المركزية للأمن لفلتت الأمور.
وقد جاء توجه المالكي نحو تعديل الدستور متوافقا الآن مع مطالبة الطائفة  السنية، التي اعتبرت التحالف الشيعي الكردي وراء كتابته، من أجل تقوية الفدراليات على حساب الحكومة المركزية.
لقد أدرك وتلمس السيد المالكي محاولات التسلق على صلاحيات الحكومة المركزية من جانب حكومة كردستان، وتعكزها على الدستور في سلب تلك الصلاحيات وآخذ المزيد منه .
 وتعتبر عملية تحديد الصلاحيات بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم التي يتوقع تشكيلها جراء الانتخابات المحلية التي يؤمل إجراؤها في نهاية كانون الثاني القادم إحدى نقاط الخلاف الكبيرة بين العديد من الكتل السياسية حيث تطالب الكتل السياسية بمنح الحكومات المحلية الكثير من الصلاحيات على حساب الحكومة المركزية، وهو ما حذر منه المالكي.

إن الحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً هي مهمة وطنية ومسؤولية كبرى أمام الأجيال القادمة، وهي تقتضي إعادة كتابة الدستور من جديد ،
دستور علماني لا أثر فيه لأي توجه طائفي أو عرقي يؤكد على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة واحترام حقوق وحريات كافة القوميات والطوائف والأديان على قدم المساواة.
كما ينبغي أن ينص الدستور على كون الفيدرالية تخص المنطقة الكردية فقط مع تعديل العديد من المواد التي جعلت سلطة إقليم كردستان فوق سلطة الدولة المركزية.
كما ينبغي منح إدارة المحافظات صلاحيات الإدارة المحلية فقط على أن ترتبط بالمركز حفاظاً على تماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وعلى وحدة الوطن من كل محاولات التقسيم والتفتيت التي يبشر بها البعض.
 

393
المجتمع العراقي تحت وطأة الاحتلال
والواقع البائس للمرأة

حامد الحمداني                                                            14/12/2008
لم يكن يدور في خلد الشعب العراقي الذي كان تواقاً للخلاص من حكم البعث والطاغية صدام وما جره على العراق من كوارث تقشعر من هولها الأبدان جراء حروبه الكارثية التي أزهقت أرواح أكثر من مليون مواطن من شباب العراق، وجراء قمعه للحريات العامة، والتنكيل بكل القوى السياسية، وفرض الانتماء لحزب البعث، حزباً أوحداً، بوسائل قسرية أو إغراءات، وتسببه في فرض الحصار الجائر من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ذلك الحصار الذي امتد ثلاثة عشر عاماً عجافا، والذي يعتبر أشنع أنواع الحروب قسوة ووحشية، انه يمثل حرب التجويع والفقر والأمراض، وتدمير البنية الاجتماعية للشعب العراقي، ليجد الشعب نفسه أمام ظروف أشد قسوة وأعظم أذى.

لقد بات المجتمع العراقي تحت هيمنة المحتلين وسلطة الأحزاب الدينية وميليشياتها التي باتت تسيطر على كل صغيرة وكبيرة، وتتدخل في حياة المواطنين ونمط حياتهم ومأكلهم وملبسهم، وقد كان نصيب المرأة العراقية التي تشكل نصف المجتمع العراقي تحمل العبء الأثقل الذي وقع على الشعب العراقي، فقد سلبت منها حريتها وإعادتها إلى عصر الحريم، وتم فرض الحجاب عليها، بل لقد وصل الاضطهاد بحقها إلى القتل، وكل ذلك جرى باسم الدين والشريعة.
وبسبب الوضع الأمني المتدهور الذي حل بعد اسقاط نظام صدام، واندلاع النشاط الإرهابي في مختلف المدن العراقي، وعلى أوسع نطاق، فقد تعرضت المرأة العراقية إلى الخطف والقتل أو الابتزاز على أيدي العصابات الإرهابية المختلفة لقاء طلب الفدية، وفي كثير من الأحيان تتعرض للاغتصاب والقتل على الرغم من استلام الفدية.
ونتيجة للحرب الأهلية التي حلت بالبلاد، فقد أزهقت أرواح مئات الألوف من المواطنين، واتساع عدد الأرامل في البلاد حتى تجاوز المليون امرأة ناهيك عن ملايين الأطفال الأيتام، وبات على المرأة أن تتحمل مسؤولية تربيتهم، وتدبير معيشتهم، وكافة شؤون الحياة الأخرى، في ظل الأوضاع الكارثية التي حلت بالبلاد حيث البطالة والجوع والفقر وانتشار الأمراض، وضعف الخدمات الصحية والاجتماعية، فقد تدنت مستوى حياة الأسرة العراقية في كافة مجالات الحياة إلى الحضيض، وهذا ما أكدته وزارة الصحة العراقية في تقريرها الموسع، والذي ضم النتائج التفصيلية لمسح صحة الأسرة العراقية على مدى العامين السابقين، والذي نفذته بالتعاون مع الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط وبدعم من قبل منظمة الصحة العالمية.

لقد تضمن المسح الذي يعد الأول من نوعه في العراق مؤشرات ومعلومات وبيانات مهمة عن معدلات وفيات البالغين وأسبابها، ووفيات الأمهات ونسبها، كما وفر المسح بيانات عن صحة المرأة والأسرة والعنف الأسري.

 وكشف التقرير أن 10 % من النساء يترأسن أسرهن، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 14% في إقليم كردستان، وتتضاعف نسبة الإناث اللائي لم يحصلن على التعليم مرة واحدة قياسا إلى نسبة الذكور، فالإناث يشكلن 27% في حين تبلغ نسبة الذكور 15%. 

 كما ركز المسح كثيرا على واقع حال المرأة العراقية فيما يخص التعليم والعمل والحالة الاجتماعية والصحة والحمل والولادة،  ففيما يتعلق بالتعليم هناك 17% من النساء من اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 ـ 49 سنة لم يحصلن على التعليم أبدا، وهناك 22% من النساء لا يمكنهن القراءة مطلقا، فيما بلغت نسبة النساء اللائي ليس لديهن عمل 87%.           
                                       
ويرتبط التعليم بنحو وثيق الصلة بالحالة الزوجية، إذ تزداد نسبة النساء العازبات مع ازدياد مستوى التعليم، وتقل نسبة النساء الأرامل كلما ارتفع مستوى التعليم من 6% لغير المتعلمات الى 1% للنساء الحاصلات على التعليم الجامعي.                     
                                                                .
وترتبط نسبة الزواج في الأعمار المختلفة بصورة كبيرة بمراحل التعليم، فالمتعلمات يتزوجن في سن متأخرة، وقد لا يتزوجن، وهناك 12% من النساء لديهن ضرة، وزواج المرأة لأكثر من مرة يكون أعلى بين النساء الأقل تعليما وتصبح الحالة أكثر شيوعا بين الأعمار الكبيرة.   
  ولأول مرة في العراق وفر مسح صحة الأسرة مؤشرات خطيرة عن العنف المنزلي ضد المرأة بعد أن ازداد الاهتمام العالمي في السنوات الأخيرة بهذه القضية، وكيفية إيقاف ظاهرة العنف الذي تتعرض له المرأة من قبل المجتمع. ويشمل العنف الأسري والإساءة الجسدية والنفسية من قبل الزوج، والعنف أثناء الحمل.     

فقد أظهرت النتائج أن 83% من النساء قد تعرضن لشكل واحد من أشكال سيطرة الزوج، وأعلى النسب المسجلة في هذا المجال هي الغيرة والغضب، وبدا واضحا أن النساء الأصغر سنا هن أكثر عرضة لسيطرة الزوج، فهناك 74 % من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين [15 ـ 24] سنة عليهن طلب الإذن قبل الذهاب الى المؤسسات الصحية، كما أن لتعليم المرأة أثرا كبيرا في تحكم الزوج، فهناك 33% من النساء يتعرضن للعنف النفسي مثل التقليل من شأنهن وإهانتهن. وسجلت أقل نسبة للعنف النفسي في إقليم كردستان، إذ بلغت 18% مقارنة بـ 36% في الجنوب والوسط، وهناك 21% من النساء المتزوجات قد تعرضن للعنف الجسدي.

إن ظاهرة العنف ضد المرأة لا تتحدد في بلد أو مجتمع أو ثقافة معينة، بل هي تشمل كافة بلدان العالم بما في ذلك المتقدمة، كما أنه لا يقتصر على فئات نسائية معينة داخل المجتمع، وهذا يعود إلى هيمنة المجتمع الذكوري وسيطرة الرجل على المرأة مدعومة بقوانين الأحوال الشخصية لتلك الدول على الرغم من تفاوت الحال بين المجتمعات الغربية والشرقية، ورغم أن معظم المجتمعات تحظر هذا العنف إلا انه في واقع الأمر يتم التستر عليه أو التغاضي عنه ضمنيا في أكثر الأحيان.       

فالنساء العراقيات يتعرضن لشتى أنواع العنف بشكل يومي بسبب الأوضاع السياسية وارتفاع وتيرة العنف العام، ومن المعروف انه كلما ازدادت الصراعات في الدولة فانه يزداد معها العنف الأسري ضد المرأة، ويأتي ذلك نتيجة لما يتعرض له الرجل يوميا من صنوف من الإرهاب النفسي، والقلق الشديد من التفجيرات والعبوات الناسفة التي يجري تفجيرها في الشوارع والطرق، والتي يذهب ضحيتها المواطنون الأبرياء وهم في طريقهم إلى عملهم أو مدارسهم وكلياتهم، مما يجعلهم دائمي التوتر والقلق والانفعال الذي يؤثر بالغ التأثير على  تصرفات الإنسان ولهذا الوضع نتائجه السلبية التي تنعكس على تصرفاته اليومية فيعاد إنتاج العنف الذي تتعرض له المرأة والأطفال  في البيت، ومن جانب آخر  فلا  وجود لنصوص قانونية تحمي المرأة من الضرب                                                                                   والتجاوز في المحيط الأسري، حيث أخذ عدد النساء اللاتي يتعرضن.                                               
للضرب والهجر في تزايد مستمر، وارتفعت حالات الطلاق بنسبة تتراوح ما بين 50 الى 60 % من الزيجات أي ما يقارب أكثر من 5 ملايين امرأة مطلقة.
ولا شك أن التشدد الديني يساهم بشكل كبير في ازدياد نسبة العنف، خصوصا انه أصبح ظاهرة منتشرة بشكل كبير في المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 ليكون بالتالي عائقا كبيرا أمام تحرك المرأة، وتقييد حريتها، خصوصا فيما يتعلق بمسألة الحجاب الذي أصبح إجباريا وليس اختياريا.                                                                                     .
كما أن ظاهرة اختطاف النساء أصبحت من أكبر القضايا التي تبث الرعب في الأسرة، وغالبا ما يكون الخطف على أيدي عصابات بهدف الفدية لمعرفة الخاطفين أن أهل الضحية لن يترددوا بدفع الفدية مهما كلف الثمن، وفي بعض الأحيان يكون الدافع للخطف سياسياً، وفي احيان كثيرة لا يتم الإبلاغ عن النساء المختطفات من قبل ذويهم في مراكز الشرطة، واعتماد أهلهم  على أنفسهم من أجل إنقاذ المخطوفات بدواعي ما يسمى بقضية الشرف، لكن مصادر الشرطة تشير إلى أن عدد المخطوفات المسجلات لغاية عام 2007 قد بلغ ثلاثة آلاف امرأة.

لقد تحدثت السيدة ياكين ارتورك مقرر الأمم المتحدة الخاص بقضايا العنف ضد النساء قائلة: أن المرأة العراقية ما زالت ضحية أعمال عنف تقوم بها جهات عديدة في العراق، كالميليشيات المسلحة، والمتمردين، وعناصر القوى الأمنية، بالإضافة إلى التطرف الديني والاجتماعي، وأشارت ارتورك في بيان بمناسبة                                                                                   
اليوم العالمي لإلغاء العنف ضد النساء، إلى إن الاضطراب الأمني، وتدهور الوضع الاقتصادي، والتزمت الاجتماعي عوامل تؤثر في حياة النساء العراقيات، لافتة إلى أن بعضهن يقعن عرضة للاغتصاب وعمليات الاتجار بالجنس، وكذلك للاستخدام المفرط للقوة من قبل قوات الأمن العراقية والمتعددة الجنسيات، خصوصا خلال مداهمات المنازل بحثا عن مطلوبين.                                                                 
وأعربت إرتورك عن القلق بشأن ارتفاع عدد حوادث قتل النساء لأسباب تتعلق بالشرف، والحصانة التي تمنحها السلطات والقوانين لمرتكبي هذا النوع من الجرائم، مشيرة إلى أن جرائم الشرف من أكثر الحوادث المؤدية إلى موت النساء تحديدا في المناطق الشمالية من العراق.

 كما تشيع أيضا عمليات استئصال الأعضاء الجنسية من الإناث أو ما يعرف بـ [ختان النساء]، ونقلت وكالة الإنباء الفرنسية عن منظمةWADI
 الألمانية غير الحكومة تأكيدها بعد استطلاع أجرته في ثلاث قرى كردية، أن ثلاثة آلاف من أصل ما يقرب من ستة آلاف فتاة قد تعرضن للختان هناك.

وهكذا تبقى المرأة العراقية تتحمل العبء الأكبر والظلم الأفظع بالإضافة إلى مسؤوليات العائلة والأطفال من دون أن تلقى الحماية اللازمة والعناية، والضمان الاجتماعي الذي يقيها وأطفالها الفقر والحاجة، ويصون كرامتها، في ظل هذه الظروف الشاذة في العراق سواء كان ذلك في عهد حكم طاغية العراق صدام وحملته الإيمانية المزيفة، وممارسة قطع رؤوس النساء، والتي تصاعدت أكثر فأكثر بعد الاحتلال وتولي الأحزاب الدينية السلطة، وممارسة ميليشياتها المسلحة والمتخلفة شتى أنواع الاضطهاد النفسي والجسدي الذي وصل إلى حد القتل، مما تتحمل الإدارة الأمريكية وجيوشها المحتلة للعراق المسؤولية المباشرة عما اصاب المرأة من ظلم وطغيان الأحزاب الدينية وميليشياتها المتوحشة التي استهدفت إعادة المرأة إلى عصر الحريم.
إن إحزاحة الاحزاب الدينية عن السلطة، وفصل الدين عن الدولة، وقيام نظام حكم ديمقراطي، وسن دستور علماني متضمناً نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية حقوق المرأة الصادرة عن الأمم المتحدة هي أهم الخطوات التي يمكن في ظلها أن تستعيد المرأة حقوقها المغتصبة وحريتها المهانة، وأن تحررها الاقتصادي عامل حاسم آخر في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، ورفعة شأنها، وهذا يتطلب نضالا شاقاً ومتواصلا بلا هوادة ليس من جانب المرأة وحدها، بل بمشاركة فعّالة من جانب كل القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية، وفي المقدمة منهم كل حملة الأقلام النظيفة والمتنورة في حملة واسعة النطاق لإحداث انعطافة حقيقية كبرى في مسيرة المجتمع العراقي نحو التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.




394
من أجل تفعيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

حامد الحمداني                                                     11/12/2008

في العاشر من كانون الأول من هذا العام 2008، يكون قد مرَّ ستون عاماً على صدور {الإعلان العالمي لحقوق الإنسان } هذه الوثيقة التي تعتبر من أهم الوثائق التي أصدرتها الأمم المتحدة منذ تأسيسها عام 1945 وحتى يومنا هذا، والتي تتعلق بحياة البشرية، وحق كل إنسان يعيش على كوكبنا في الحياة الحرة الكريمة، وفي جو من الحرية التامة والعدل والسلام، وعلى قدم المساواة بين بني البشر، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو القومية أو العقيدة، وأن  يتمتع الإنسان بحرية الفكر والعقيدة، متحررا من الخوف والفزع.
وعلى الرغم من أن معظم دول العالم قد وقعت على هذا الإعلان وتعهدت بالالتزام به إلا أن الواقع يؤكد لنا أن هذا الالتزام في معظم البلدان الموقعة عليه بقي حبراً على ورق ليس إلا، واستمرت هذه الدول تمارس ضد مواطنيها أشنع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، وكذلك القتل دون محاكمة أو تصدر وتنفذ أحكام الإعدام من قبل محاكم صورية، لا تتوفر فيها ابسط متطلبات العدالة، حيث يحرم المواطن من حرية اختيار محامٍ له، وحتى حريته في الدفاع عن نفسه، كما تقوم العديد من الحكومات بمجازر جماعية ضد شعوبها مستخدمة كل الأساليب الفاشية، وليس بعيداً عن أذهاننا وبصائرنا تلك المجازر التي ارتكبها الحكام الطغاة ضد شعوبهم، ففي العراق قتل عشرات الألوف من العراقيين، من ضحايا الفكر والضمير، ومن السياسيين الوطنيين على أيدي انقلابي شباط 1963، أما ضحايا الحكم الصدامي منذ عام 1968 فلا  يمكن إحصائها، ولايمكن وصف بشاعتها.
 
ولا يمكن أن ننسى جريمة النظام الصدامي بطرد مئات الألوف من الأكراد الفيليين الى أيران يحجة التبعية لإيران وسلب أملاكهم وأموالهم، واحتجاز ما يزيد على تسعة آلاف من أبنائهم، وجرى تصفيتهم دون وازع من أخلاق أو ضمير، ودون ذنب ارتكبوه.

ومثلما لطخ النظام العراقي أياديه بدماء الشعب الكردي ، فقد شن حملة إبادة ضد الشيعة من سكان جنوب ووسط العراق أبان قمعه للانتفاضة الشعبية عام 1991 ذهب ضحيتها عشرات الألوف من المواطنين، دعك عن تصفيته كل القوى السياسية المعارضة لحكمه، ودعك عن حروبه الإجرامية ضد إيران وضد الشعب الكويتي الشقيق، وحربه التي خاضها ضد سوريا في لبنان أبان الحرب الأهلية، إن جرائم النظام العراقي يندى لها جبين الإنسانية
وفي إندونيسيا قتل ما يقرب من مليوني مواطن خلال وبعد انقلاب الدكتاتور سوهارتو حسبما ذكرته وثائق المخابرات المركزية الأمريكية، والتي سبق وبثتها قناة  MBC الفضائية في وقت سابق.

وفي شيلي قُتل عشرات الألوف من الشيليين على أيدي الانقلابيين بزعامة الدكتاتور بينوشيت،عام 1973. وكذا الحال ما جرى في إيران عندما قام الجنرال زاهدي بانقلابه في إيران ضد حكومة الدكتور مصدق عام 1954 ويطول الحديث عن مثل تلك المجازر في الانقلابات العسكرية التي وقعت في أمريكا اللاتينية وما اقترفته من جرائم بحق شعوبها، والتي لا يمكن حصرها، وكل تلك الانقلابات جرت بتدبير وتخطيط المخابرات المركزية الأمريكية.
ومارست ولا تزال تمارس إسرائيل أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا، وتعتدي على جيرانها العرب، وتحتل أراضيهم في الجولان ولبنان، والضفة الغربية من فلسطين، ولا تعترف بكل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتتحدث بمنطق القوة  متحدية الرأي العام العربي والعالمي، وتستخدم شتى انواع الأسلحة الفتاكة لقمع الشعب الفلسطيني المكافح من أجل حريته واستقلال وطنه.
 
إننا لو تابعنا انتهاكات حقوق الإنسان في سائر بلدان العالم لهال لنا الأمر لأن معظم الأنظمة تمارس باستمرار الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان من أجل الحفاظ على سلطانها. كما أن الولايات المتحدة، أقوى دولة في العالم، قد مارست وما تزال تمارس تمارس كل أنواع الانتهاكات ضد شعوب العالم المستضعفة.

 أليس الحصار الجائر الذي تم فرضه على شعب العراق منذ عام 1990 وحتى سقوط نظام صدام على أيدي قواتها العسكرية يمثل أبشع انتهاك لحقوق الإنسان؟
أليست هي حرب إبادة مارستها الولايات المتحدة وأصرت على استمرارها 13 عاماً بحجة معاقبة النظام العراقي؟
 لقد ذهب ضحية تلك الجريمة التيجرى تنفيذها باسم الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن أكثر من مليون ونصف المليون عراقي جراء ذلك الحصار الغاشم الذي لم يعرف له العالم من قبل. 
إن [ الشرعية الدولية ] عاقبت الشعب العراقي وحده مدة ثلاثة عشر عاماً دون أن يمس النظام الدكتاتوري الحاكم أي ضرر، حيث لم يعانِ من الجوع و الفقر والمرض رجال النظام وعوائلهم ومريديهم ، فقد كانوا يملكون كل شيء .
إن عالمنا اليوم بحاجة ماسة لأن يرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة قبل ستين عاماً قانوناً دولياً تلتزم كل دول العالم بتطبيقه دون استثناء، وأن يكون شرطاً أساسياً لعضوية الدول في الأمم المتحدة والانخراط في المجتمع الدولي، والعمل على تفعيل لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ومنحها الصلاحيات اللازمة لكي تتابع تطبيق تلك الحقوق التي اقرها الإعلان وحصر الانتهاكات مهما كانت، ومحاسبة الحكومات عليها، وتفعيل وتوسيع نشاط المحكمة الدولية لجرائم الحرب لكي تلاحق كل من تسول له نفسه من الحكام وأجهزتهم القمعية الذين يمارسون ابشع أنواع التعذيب والقتل ضد أبناء شعوبهم كما يجري اليوم في دارفور بالسودان، وإنزال العقاب الصارم بهم، ولاشك أن التزام الدول الكبرى، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة التي اصبحت القطب الأوحد في عالمنا اليوم والتي تلعب دوراً رئيسيا في إدارة شؤون العالم، بتطبيق حقوق الإنسان بشكل دقيق سوف يجعل من العسير على حكومات الدول الأخرى أن تمارس الانتهاكات دون أن تخشى العقاب.                                                 
                                                                   

395
من يتحمل مسؤولية انتشار الإرهاب
على المستوى العالمي؟

حامد الحمداني                                                     3/12/2008

تجابه البشرية في عصرنا الحاضر واحداً من أخطر الأمراض الخبيثة التي تصيب المجتمع الإنساني، ذلكم هو الإرهاب الوحشي البشع بشتى صوره وأشكاله ودوافعه، والذي استشرى في المجتمعات البشرية، حيث تحول إلى عمل جماعي منظم [عصابات الجريمة المنظمة]، وحيث تمارس هذه المنظمات الإرهابية أساليب حديثة ومبتكرة لتنفيذ جرائمها الوحشية، مستعينة بالتطور التكنولوجي من جهة، وثورة الاتصالات التي أحدثها الانترنيت من جهة أخرى، وتنوع مصادر التمويل، بما فيها المخدرات، من جهة ثالثة، لتنفيذ جرائمها بحق المجتمع الإنساني، مما حول هذا الداء إلى معضلة عالمية خطيرة تتطلب معالجتها واستئصال شأفتها جهداً دولياً تتولاه الأمم المتحدة، وتشارك فيه كل دول العالم لدراسة وبحث الأسباب التي أدت إلى انتشار وتوسع ظاهرة الإرهاب من جهة، والوقوف على العوامل والدوافع التي تشجع هذا السلوك، والوسائل الكفيلة بمعالجة هذه المعضلة.

ولكي تجري معالجة هذا الداء الخطير ينبغي تحديد العوامل التي تشجع على الإرهاب وانتشار عصابات الجريمة المنظمة في مختلف بقاع العالم. وتحديد أنواع الإرهاب ودوافع من يمارسها، وتحديد الوسائل الكفيلة للتصدي للإرهاب واستئصاله من المجتمع.

وعلى عالم الأغنياء أن يدركوا إن الإرهاب لا يمكن معالجته بوسائل العنف وحدها، وقبل استنفاذ كافة الوسائل الأخرى، ويأتي في مقدمتها العامل الاقتصادي، والتخلف الذي يسود قطاعاً واسعاً من المجتمع الإنساني، وتأثير المدارس الدينية، ورجال الدين، والأحزاب الدينية على عقول الناس البسطاء الواقعين تحت تأثير الجهل والفقر والبطالة والجوع والتشرد، واستغلالهم، واستغلال الدين لتحقيق أهداف وأجندات ومصالح سياسية.

إن معالجة حقيقية على مستوى العالم لمشكلة الفقر والبطالة والجوع والحرمان هي أول وأهم الخطوات التي يجب اتخاذها لمكافحة الإرهاب ذلك لأن العامل الاقتصادي هو العامل الحاسم في خلق البيئة الحاضنة والمولدة للإرهاب، وعندما يشعر الإنسان بالغبن و يقارن بين الحياة التي يحياها مع حياة الأغنياء والمترفين يجعله يفكر في أية وسيلة تحقق له حياة أفضل حتى ولو كان ذلك عن طريق الإرهاب، ولقد دعونا الدول الغنية المهيمنة على الاقتصاد العالمي أن تفكر جدياً في معالجة مشكلة الفقر والبطالة المتفاقمة، والتي يئن تحت وطأتها مئات الملايين من بني البشر، وتقليص البون الشاسع بين مستوى حياة شعوب دول الشمال والجنوب إذا كانت تفكر جدياً في مكافحة الإرهاب.
إن الفقر والجوع يدفع الإنسان إلى استخدام كل الوسائل والسبل للحصول على لقمة العيش، ومن حقه وحق عائلته العيش بطبيعة الحال، وعندما يعيش الإنسان حياة كريمة آمنة هو عائلته فلا يمكن أن يفكر في الإرهاب.
كما أن على المجتمع الدولي أن يعالج مشكلة التخلف والتي ترتبط كل الارتباط بمشكلة الفقر، فالإنسان الذي لا يستطيع تأمين الطعام لعائلته لا يمكنه التفكير في التعليم والثقافة، ويرسل أبنائه وبناته إلى المدارس والجامعات، وإن الاستمرار على هذه الحال من الجهل والتخلف يجعل منه صيداً ثميناً لقيادات قوى الإرهاب الديني والسياسي، واستخدامهم لتنفيذ أجندتهم السياسية.
إن ما نشهده اليوم في المجتمع الإسلامي من تنامي الإرهاب خطير جداً، فمعظم جرائم الإرهاب في العالم تنطلق اليوم من هذا المجتمع، ولنا مما جرى ويجري في العراق وأفغانستان والهند والباكستان واندونيسيا والجزائر وفلسطين والمغرب ومصر والسعودية واليمن والأردن وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، بل لقد وصلت تلك الجرائم إلى اسبانيا وبريطانيا وفرنسا بل وحتى عقر دار الولايات المتحدة الدولة العظمى في العالم عندما وقعت أحداث أيلول الإجرامية.
إن الإرهاب الفكري والسياسي يلعبان دوراً خطيراً في إعداد العناصر الإرهابية التي تمارس العنف لتحقيق أهداف سياسية أو مادية أو دينية أو طائفية أو قومية، ويمارس من قبل الحكومات بصورة رسمية، ويجري ذلك بصورة واسعة في بلدان العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتسعى هذه الحكومات التي غالباً ما تكون قد وصلت إلى الحكم بطريقة غير ديمقراطية، أو عن طريق الانقلابات العسكرية، والتي تسعى للتشبث بالحكم بكل الوسائل والسبل، فنراها قد سيطرت على وسائل الإعلام المختلفة من راديو تلفزيون وصحافة ومطبوعات، وتسخرها جميعاً لتثبيت حكمها غير الشرعي، وتحاول خنق أنفاس شعوبها، وحرمانها من حقها في التعبير عن رأي أبنائها، وحقها في ممارسة حرياتها العامة التي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان [الإعلان العالمي لحقوق الإنسان]، وتلاعبها بالدستور وتفريغه من كافة الحقوق السياسية والاجتماعية، وحرمانها من الاتصال بالعالم الخارجي، والإطلاع على منجزات العالم المتقدم في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وخير مثال يمكن أن نقدمه لذلك هو نظام صدام الذي سخر موارد البلاد وكافة وسائل الإعلام والمؤسسات التربوية، بالإضافة إلى أجهزته القمعية الواسعة والمختلفة لتثبيت حكمه الفاشي الذي استمر ثلاث عقود ونصف استباح خلاها الشعب بأساليب وحشية بشعة تركت لنا القبور الجماعية التي جاوزت المكتشفة منها أكثر من 300 مقبرة تضم رفات مئات الألوف من المواطنين الأبرياء الذين رفضوا سلطة الدكتاتور وحزبه الفاشي هو خير دليل على إرهاب الدولة.
كما سخر موارد البلاد لتشكيل جيش عرمرم وزجه في حروب عبثية استمرت طيلة سنوات حكمه البغيض، وجلبت على الشعب العراقي الخراب والدمار، ومئات ألوف الضحايا، ومثلها من الأرامل والأيتام، وأدت إلى انهيار بنيته الاقتصادية والاجتماعية، وأغرق العراق بالديون بمئات المليارات من الدولارات ، وفي الوقت الذي كان الدكتاتور صدام وزمرته يعيشون حياة البذخ والرفاهية المفرطة، كان شعب العراقي يئن تحت وطأة الحصار الظالم  والجوع والفقر والأمراض وذل الحياة التي لم يشهد لها مثيلاً من قبل، في حين يمتلك العراق ثروات ضخمة تؤهله لتحقيق أرفع مستوى معيشي في العالم لو تسنى له حكومة رشيدة وأمينة وديمقراطية منتخبة من الشعب، وترعى حقوقه وحرياته العامة.
وما جرى في العراق بعد إسقاط نظام صدام على أيدي أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني بمشاركة عناصر حزب البعث المنحل وحلفائه من عناصر منظمة القاعدة الإرهابية كان أشد قسوة وفضاعة، حيث تم شحن الناس البسطاء والمتخلفين من كلا الطائفتين الشيعية والسنية لقتل بعضهم بعضاً باسم الدين والطائفة والشريعة!!، وحيث جرى قتل مئات الآلاف من المواطنين الأبرياء، وتم تهجير 4 ملايين آخرين من بيوتهم تاركين ممتلكاتهم نهباً لهذه العناصر الجاهلة والمدفوعة من قبل الأحزاب السياسية الدينية المتشبثة بالسلطة والثروة. 
 كما أن الإرهاب الذي يمارس من قبل المدارس الدينية والحسينيات والجوامع التي يشرف عليها عناصر من رجال الدين السلفية والشيعية المتخلفة التي تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايات سياسية بأساليب قسرية، وتمارس هذه المدارس نشر الفكر التكفيري والعنفي، وتفسر الدين بالطريقة التي تحقق لها أهدافها وغاياتها الشريرة، وتستخدمه لغسل أدمغة الناس البسطاء، وحثهم على القيام بأعمال إرهابية من قتل وتخريب وخطف واغتصاب وتكفير المواطنين الذين يعارضون هذا التوجه، وتتدخل في كل صغير وكبيرة في حياة المواطنين الخاصة حتى وصلت لحد تطليق الزوجة من زوجها غصباً عنها، كما جرى مع الدكتور الباحث حامد أبو زيد، وتحاول فرض القيود في أسلوب حياتهم ومظهرهم وملبسهم وغير ذلك من الأمور بحجة مخالفة الشريعة!.
كما يجرى ممارسة الإرهاب في العديد من الدول، وإن ما شهدناه في أفغانستان على يد حكومة طالبان وممارساتها العدوانية والمتخلفة والبشعة بحق الشعب الأفغاني الذي أعادته نحو التخلف مئات السنين، وليس ذلك بخافٍ على كل متتبع لأوضاع الشعب الأفغاني على عهد حكومة طالبان الرجعية المتخلفة، وكما جرى في الجزائر التي جرى فيها ذبح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء بأسلوب وحشي يندى له جبين الإنسانية، وشوهت وجه الإسلام الحقيقي أمام شعوب العالم أجمع.
كما نشهد اليوم أوضاع الشعب الإيراني البائسة منذ أن تولت حكومة يقودها رجال الدين السلطة في إيران عام  1978وحتى يومنا هذا، حيث تتحكم بحياة المواطنين، وتفرض عليهم نمط الحياة التي تقررها الحكومة في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وحرمان الشعب من كافة حقوقه وحرياته، وتسعى لغسل أدمغة الأجيال الصاعدة وحشوه بالفكر المتخلف، وتسخير موارد الدولة على التسلح، ودعم الحركات والمنظمات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، وفي العراق بوجه خاص، والعديد من المناطق الأخرى في حين يرزح الشعب الإيراني تحت وطأة الفقر والحرمان القاسيين، في الوقت الذي تتمتع فيه الطبقة الحاكمة بكل مباهج الحياة .
إن على العالم الغني أن يدرك أن لا حل لمعضلة الإرهاب مهما استخدم من الوسائل القمعية، وعليه أن يعيد النظر في حساباته من أجل تأمين الأمن والسلام في العالم أجمع، وهذا الأمر يتطلب العمل الجدي لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة بدل صرف الأموال الهائلة على التسلح والحروب العدوانية، فحرب العراق وأفغانستان وحدهما كلفت العالم مئات المليارات من الدولارات التي كانت كفيلة بمعالجة مشكلة الفقر والبطالة والأمراض التي تفتك بالإنسانية.
كما أن على المنظمة الدولية التي تتولى مسؤولية الأمن والسلام في العالم أن تبادر وعلى الفور بحث حكومات الدول الإسلامية على إعادة النظر الجذرية في مناهج الدراسة، والسيطرة على تأثير المدارس الدينية، وإغلاق المدارس التي  تمارس شحن المواطنين البسطاء بالكراهية والعداء للأديان والطوائف الأخرى، وضرورة فصل الدين عن الدولة، وقيام أنظمة ديمقراطية علمانية تؤمن حقاً وصدقاً بالحرية والعدالة الاجتماعية، والالتزام الحرفي الكامل بشريعة حقوق الإنسان، وإدخالها في صلب دساتير الدول، واعتبارها مادة أساسية في كافة المدارس، من أجل خلق جيل جديد متشبع بالفكر الديمقراطي، وحب الإنسان لأخيه الإنسان مهما اختلفت أديانهم وقومياتهم وطوائفهم في عالم تسوده الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
كما أن عليها أن تكف عن دعم أنظمة الدول التي تمارس إرهاب الدولة، وتسمح للمدارس الدينية ورجال الدين القائمين عليها بنشر الفكر ألظلامي المتخلف، وشحن المواطنين البسطاء بروح الكراهية والعداء للآخرين ، وحثهم على القيام بإعمال إرهابية باسم الشريعة والتكفير، للحفاظ على مصالحها في تلك الدول، وحثها على إجراء تغيير شامل في بنيتها قائم على ساس قيام النظم الديمقراطية العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، وتحديث دساتيرها وقوانينها بما يتلاءم مع التطور الديمقراطي في العالم أجمع. وليكن التزام الدول بشريعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة شرطاً ضرورياً لعضوية المنظمة الدولية، وفرض عقوبات مادية وليست عسكرية على الدول التي لا تلزم بها حتى تذعن لشروط العضوية في المجتمع الدولي.

396
واقع الديمقراطية في العالم العربي
حامد الحمداني                                                           16/11/2008

لم يشهد العالم العربي منذ تحرره من الاستعمار العثماني الذي دام أربعة قرون من العبودية والتخلف في مختلف مجالات الحياة، أي تحول جدي نحو قيام المجتمع الديمقراطي الذي وعد به المستعمرون الجدد البريطانيون والفرنسيون العرب عندما أعلنوا أنهم جاءوا محررين، وتبين بعد ذلك أنهم قد تقاسموا العالم العربي فيما بينهما بموجب معاهدة [ساسكس بيكو] التي فضح بنودها زعيم ثورة أكتوبر الروسية فلاديمير لنين.
وهكذا أصيب العالم العربي التواق للتحرر من الهيمنة الأجنبية بخيبة أمل شديدة من المحتلين الجدد الذي تمسكوا باحتلال العالم العربي بقوة الحديد والنار، واستأثروا بثروات البلاد تاركين الشعوب العربية في حالة من البؤس والفقر والجهل والتخلف  الشديد.
وعلى الرغم من نهوض حركات التحرر في معظم البلدان العربية، والنضال من أجل طرد المستعمرين الجدد، وتحقيق السيادة والاستقلال لأوطانهم، إلا أن تلك الحركات لم تتخذ طابعاً ديمقراطياً، بل اتخذت طابعاً قوميا صرفا، مستفزة الشعور القومي الطاغي لشعوبهم التواقة للتحرر من الاستعمار.
وهكذا نشأت في البلدان العربية التي استطاعت التحرر من ربقة الاستعمار أنظمة قومية سرعان ما تجاهلت طموحات شعوبهم في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والنهوض بالبلاد من حالة التخلف ومعالجة البطالة والأمية والفقر والأمراض التي تفتك بالمواطنين وبوجه خاص بالأطفال بسبب فقدان الخدمات الصحية والتعليمية.
لقد تربع على قمة السلطة في الوطن العربي طبقة سياسية حاكمة منها أقامت النظام  الملكي ومنها الجمهوري، وبدأت تفكر في الوسائل التي تحمي حكمها واستمرار دوامه، وهكذا تحول الصراع من صراع مع المستعمرين إلى صراع مع السلطات الوطنية الحاكمة التي تخلت عن تحقيق الطموحات الشعبية، فكانت الصراعات بين المحكومين والحاكمين تخبو تارة لتندلع تارة أخرى متخذة من العنف وسيلة لتحقيق آمالها وأحلامها في العيش الكريم، وفي ظلال الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وما زالت الشعوب العربية حتى يومنا هذا تكافح من أجل تحقيق أحلامها بعالم عربي ديمقراطي لا مكان فيه للعوز والجوع والفقر والبطالة، واحترام حقوق الإنسان، وتحرر المرأة التي وقع عليها الظلم الأكبر بسبب سيادة المجتمع الذكوري، و النظرة المتخلفة للمرأة، وامتهان حقوقها وحريتها، وعدم مساواتها بالرجل.         
إذا في واقع الأمر اليوم ليس هناك ديمقراطية بالمعنى الحقيقي في العالم العربي، بل فيها أنظمة ديكتاتورية منها السافرة ومنها المقنعة ببرقع الديمقراطية كي تظهر أمام شعوبها بمظهر الديمقراطية!
إن ابسط مستلزمات الديمقراطية يتطلب تأمين الحريات الديمقراطية، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة، والالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصاً وروحا، وسيادة القانون ، والمساواة بين الرجل والمرأة من جهة، وبين سائر مكونات المجتمع بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، وإجراء الانتخابات بمواعيدها المقررة بالدستور، وبصورة شفافة خالية من أي تزوير، والتداول السلمي للسلطة.
إن ما يؤسف له أن كل هذه المستلزمات غير متوفرة في العالم العربي، فهناك استئثار حقيقي بالسلطة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وقمع للصحافة والأحزاب، فهناك من استأثر بالسلطة من الحكام العرب لسنوات طويلة جاوزت لدى البعض منهم 40 عاماً، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تستمر مثل هذه الأنظمة في الحكم دون قمع الحريات، ومصادرة حقوق الشعب.
إن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي منوط بنضال الشعوب العربية، لكن هذا النضال يتوقف على درجة نضوج المجتمعات العربية، فالمجتمع العربي بشكل عام يعاني من تخلف شديد، ومن أمية واسعة النطاق، ومن فقر مدقع وبطالة مستشرية، وأمراض فتاكة.
إن عملية بناء مجتمع ديمقراطي لا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها ، فهي ليست رداء نلبسه لنصبح ديمقراطيين، أنها تربية تبدأ من الطفولة في ظل نظام تربوي قائم على احترام أطفالنا والامتناع عن  ممارسة القمع ضدهم سواء في البيت أو المدرسة،  وإفساح المجال أمامهم  لبناء شخصيتهم، والتعبير عما يجول في عقولهم دون خوف من عقاب، وعدم توجيه الإهانات أو الصفات غير اللائقة التي تحط من نفسيتهم فتخلق منهم أجيالا تتسم بالخوف والجبن والاستكانة.
كما يتطلب إعادة النظر في كافة المناهج التربوية بصورة جذرية ووضع مناهج ديمقراطية جديدة بعيدة عن تدخلات رجال الدين وتأثيراتهم، تحترم الأطفال، وتلبي حاجاتهم التربوية، وتعمل بشكل جدي على بناء شخصياتهم، فهم اليوم أطفالنا الصغار، وغداً رجال المستقبل، فإذا نشأوا في ظروف ديمقراطية فسيكونوا بكل تأكيد هم من يحمل مشعل الحرية والديمقراطية في العالم العربي.
إن العراق يمر اليوم في فترة مخاض عسير، وأن مسألة بناء مجتمع ديمقراطي في البلاد يلاقي مصاعب جمة، منها فيما يتعلق بسلوك النظام الدكتاتوري الفاشي الذي دام زهاء الأربعة عقود من القمع والاستهانة بحقوق الإنسان، وقمع الحقوق الديمقراطية للشعب، بالإضافة إلى الحروب الكارثية التي خاضها النظام،  والحصار الأمريكي الظالم الذي دام 13 عاما، والذي أفقر الشعب، وحطم بنيته الاجتماعية ومحى تلك العادات والقيم والسلوكيات الرائعة لتحل مكانها قيم وسلوكيات وعادات هي النقيض منها، وانهارت البنية الاقتصادية وهبطت العملة العراقية إلى الحضيض، وتضاءلت القدرة الشرائية للمواطنين، وانتشر الفقر والجوع والإمراض، وانتشار الأمية والجهل والخرافات.
وجاء الاحتلال الأمريكي ليكمل ما فعله نظام صدام بالمجتمع العراقي، بل نقله إلى وضع أسوأ بكثير، حيث أقام نظاماً قائماً على أساس المحاصة الطائفية، وسلم الحكم للأحزاب الدينية الطائفية التي أوصلته إلى الحرب الأهلية، وزادت المجتمع العراقي تخلفاً وتقهقرا.
 إن الأحزاب الدينية لا يمكن أن تبني نظاماً ديمقراطية لأنها بالأساس لا تؤمن  بالديمقراطية إلا فقط لغرض الوصول إلى السلطة. وسيمضي وقت طويل، وسيخوض الشعب العراقي نضالا متواصلا، ويقدم التضحيات الجسام  لكي يخرج من المحنة التي يعيش في ظلها اليوم، وينطلق في رحاب الديمقراطية. 


397
الانتخابات المقبلة والمسؤولية التاريخية
لقوى اليسار والديمقراطية والعلمانية
حامد الحمداني                                        11/11/2008
بعد أن تم  مصادقة البرلمان العراقي على قانون الانتخابات ، وصدور قرار المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بتحديد يوم 31 كانون الثاني موعداً لأجراء الانتخابات، بدأت الكتل السياسية نشاطها المكثف استعدادا لخوض الانتخابات  التي تتسم بأهمية كبرى ليس فقط بالنسبة لمستقبل العملية السياسية في العراق فحسب، بل على مستقبل العراق كدولة موحدة.

فكما هو معروف كانت الظروف التي جرت فيها الانتخابات السابقة غير طبيعية بالمرة، فالميليشيات الطائفية المختلفة بشقيها الشيعي والسني من جهة، وفلول نظام صدام وحلفائه عناصر منظمة القاعدة، وعناصر الجيش والقوى الأمنية التي أقدم بول بريمر على حلها والتي وجدت نفسها على حين غرة عناصر عاطلة عن العمل، ولا مورد ا تعيل بها عوائلها، وهي التي يقدر حجمها بمئات الألوف من الضباط والجنود وقوات الشرطة والأجهزة الأمنية، مضافاً إليها أفراد عوائلها حيث يصبح هذا الرقم يتجاوز الملايين، دفعتها إجراءات بريمر الطائشة إلى حمل السلاح ودخلت في صراع دامي مع القوات المحتلة في بادئ الأمر ، ثم سرعان ما تحولت إلى صراع طائفي بين ميليشيات الطائفتين الشيعية والسنية، وتحولت المعارك فيما بينهم إلى حرب أهلية دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من حياة أبنائه الأبرياء بلغت أرقاما خيالية جاوزت 650 ألفا، ناهيكم عن الخراب والدمار الذي أصاب البنية التحية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدماتية والممتلكات العامة والخاصة ، وحولت حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق، وفرضت على أبناء الشعب الاعتكاف في بيوتهم والحرمان من ممارسة حقهم في المشاركة بالانتخابات تلك بسبب التهديدات والاختطاف والقتل على الاسم والهوية.

وهكذا جاءت نتائج الانتخابات تلك باستحواذ الأحزاب الطائفية على أغلبية المقاعد سواء في الانتخابات البرلمانية أو الانتخابات المحلية، كما أن الانتخابات في منطقة كردستان العراقية كانت النتائج معروفة فيها سلفاً بالنسبة للحزبين الكبيرين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني المهيمنين على السلطة في المنطقة منذُ انتفاضة عام 1991، وفرض الحماية الأمريكية البريطانية عليها.

أما قوى اليسار والديمقراطية والعلمانية فمن المؤسف جداً أنها لم تكن تشكل ثقلاً كبيراً في تلك الانتخابات لعوامل عديدة يأتي في مقدمتها طغيان الأحزاب الدينية الطائفية والقومية بما تمتلكه من ميليشيات مسلحة، واستغلال بشع للدين، واتخاذ اسم المرجعية كأحد أهم وسائل الدعاية والسيطرة على الجماهير البسيطة غير الواعية من جهة، وتحالفها العريض لاقتسام السلطة من جهة أخرى، وتشرذم القوى الديمقراطية والعلمانية واليسارية، وعدم استطاعتها خلق تحالف عريض يضم جماهير هذه القوى، جعلها تخرج بالفتات من تلك الانتخابات من دون أن يكون لها أي دور مؤثر في العملية السياسية.

واليوم ، وفي ظل ظروف أمنية لا بأس بها نسبيا، وفي ظل هذا التفتت الذي نشهد لأحزاب قوى الإسلام الطائفي من جهة ، وانكشاف الدور البائس الذي مارسته هذه الأحزاب خلال الفترة السابقة، والهبوط الشديد للدعم الذي تلقته في الانتخابات السابقة وعزوف المواطنين عن تجديد ثقتهم بهذه الأحزاب وقياداتها التي استأثرت بالسلطة والثروة دون أن تقدم أي شئ لشعبها، فإن أمام القوى العلمانية والديمقراطية واليسارية فرصة لا تعوض لقلب موازين القوى سواء في الانتخابات المحلية أو في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد عام إذا ما اتخذت قرارها وبصورة عاجلة لإقامة جبهة عريضة لهذه القوى ولسائر المستقلين الذين ينشدون قيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي في البلاد، وإعادة النظر الجذرية في الدستور، وفصل الدين عن الدولة، وتكريس سيادة القانون، وحل كافة الميليشيات دون استثناء، وإبعاد عناصر الميليشيات الحزبية عن الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية لتكون في خدمة العراق وشعبه وليست في خدمة قيادات أحزابها السياسية.

أن المعطيات من الاستفتاءات الجارية في البلاد تعطي مؤشراً إيجابياً لصالح التوجه الديمقراطي العلماني في عموم البلاد، فقد أجرت أحدى منظمات المجتمع المدني على سبيل المثال استفتاءً شمل المناطق الفقيرة حول رأي المواطن في الانتخابات ولمن سيعطي صوته، وكانت النتيجة كما يلي:
1 ـ 26 % قالت أنها ستصوت للمستقلين.
2 ـ 23 % ستصوت للكتل الديمقراطية.
3 ـ 22 % ستصوت للأحزاب الدينية.
4 ـ 7 % ستصوت للعشائر.
5 ـ 22 % لم توضح رأيها.
وبالنظر لهذه النتائج، بصرف النظر عن دقتها، لكنها تشير إلى انخفاض التأييد للأحزاب الدينية التي أصابت المواطن العراقي بخيبة أمل كبيرة خلال السنوات الماضية المليئة بالدماء والدموع والآلام، وتنامي الدعم للتوجه العلماني والديمقراطي واليساري، مما يستوجب من هذه القوى أن تسارع إلى تكثيف جهودها لتشكيل الجبهة العريضة المنتظرة، والتي لا غنى عنها إذا ما أرادت هذه القوى أحداث انعطافة جدية حاسمة لمستقبل العملية السياسية، ومستقبل العراق ككيان حر ديمقراطي مستقل ، يتسع لكل القوميات والطوائف الدينية على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، وبناء المجتمع المدني الحقيقي، وسيادة القانون على الجميع دون استثناء، وذلك من خلال تقديم مشروع برنامج وطني قابل للتحقيق والالتزام بتنفيذه ، وخدمة الجماهير لكسب ثقتها.
إن على القوى العلمانية الاستفادة من الانقسامات الحاصلة لقوى الإسلام السياسي التي فككت الائتلاف الذي خاض الانتخابات السابقة. فقد انقسمت أحزاب الائتلاف الشيعي الحاكم إلى تحالفين رئيسيين بسبب الخلافات بين حزب الدعوة والمجلس الأعلى فلم يعد موحدا كما كان، بل اصبح فريقين متنافسين حيث يتزعم الفريق الأول رئيس الوزراء السيد نوري المالكي زعيم [حزب الدعوة] الحاكم، ويضم تجمع المستقلين الذي يتزعمه وزير النفط حسين الشهرستاني المقرب من المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، وكتلة [التضامن] بزعامة النائب قاسم داوود، وكتلة [الانتفاضة الشعبانية]، وحركة [الإخاء الكردي الفيلي] و[الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق] والذي أطلق عليه أسم [ائتلاف دولة القانون] .
أما الفريق الثاني فيتزعمه [المجلس الأعلى] بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم، باسم [قائمة شهيد المحراب].  ويضم تجمع شهيد المحراب، و منظمة بدر، و التجمع المستقل الذي يتزعمه نائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي، وحركة حزب الله بزعامة كريم  المحمداوي.
هذا بالإضافة إلى خروج التيار الصدري من التحالف منذُ مدة
طويلة، وحدوث صراع بين الأطراف وصل إلى حد الصراع المسلح، واستخدام الجيش مدعوماً بالقوات الأمريكية لحسم ذلك الصراع لصالح الحكومة التي يرأسها السيد المالكي. 
إن القوى العلمانية تتحمل مسؤولية كبرى في هذا الوقت بالذات لكي تحدث انعطافة حقيقية في هيكلية السلطة بالبلاد لصالح الجماهير التي أرهقها الوضع الشاذ المتردي، والأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة، وتبذل أقصى جهودها لكي تلم صفوفها، وتعبئ جماهيرها، وتطرح برنامجها السياسي والاجتماعي والاقتصادية والصحي والخدمي الذي ينبغي أن تتفق عليه ويلتزم الجميع بتنفيذه، فالجماهير لا تكسب بالأقوال بل بالأفعال.

398
ماذا ينتظر العالم من انتخاب أوباما
 رئيسا للولايات المتحدة؟

حامد الحمداني                                                    8/11/2008

لم يترقب العالم الانتخابات الأمريكية خلال العقود الماضية كما ترقب هذه الانتخابات التي أوصلت الرجل الأسود أوباما إلى سدة الرئاسة في الدولة الكبرى الولايات المتحدة، ولم يشهد الشعب الأمريكي اهتماماً ومشاركة في التصويت كما جرى في هذه الانتخابات التي جرت في الرابع من تشرين الثاني الجاري، كما لم يشهد الشعب الأمريكي تنافساً على الترشيح للرئاسة كما جرى بين أوباما وهيلاري كلنتون ليقف وجهاً إلى وجه أمام المرشح الجمهوري جون ماكين الذي عُرف بتوجهاته اليمينية المتطرفه، وخصوصا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وفي المقدمة ما يتعلق بالعلاقات الروسية الأمريكية والصينية الأمريكية، وما يتعلق بالتواجد العسكري الأمريكي في العراق، والحرب الدائرة في أفغانستان.
لقد تميزت فترة الثمان سنوات لرئاسة الرئيس بوش بكونها سنوات ثقيلة وصعبة، وذات نتائج كارثية ليس فقط للشعب الأمريكي، بل للعالم أجمع حيث اندفع الليبراليون الجدد من صقور الحزب الجمهوري في سياساتهم العسكرية والاقتصادية الرعناء التي اوصلتهم الحرب المتواصلة في أفغانستان والعراق منذُ الهجوم الإجرامي على مركز التجارة العالمية في نيويورك والبنتاغون في واشنطن عام 2001  دون أن يصلوا إلى ضوء في نهاية هذا النفق المظلم، والتي كلفت دافعي الضرائب الأمريكيين مئات المليارات من الدولارات، ناهيكم عن ألوف الجنود الذين سقطوا وما زالوا يسقطون قتلى في المعارك، وأضعاف ذلك من الجرحى والمعوقين، وكل ذلك جرى باسم مكافحة الإرهاب الذي كانوا هم من خلقوا ركائزه ودعموه بشتى الوسائل والسبل من أجل تنفيذ أجندتهم في الهيمنة على العالم.
إن طالبان وما يسمى بالمجاهدين في أفغانستان، ونظام صدام كان من صنع أيدهم، كما هو الحال مع المجاهدين في البوسنة والشيشان وكوسوفو ونيكاراغوا وغيرها من بلدان أمريكا اللاتينية كلها صناعة أمريكية بامتياز
كما أن السياسة الاقتصادية التي أفرزتها العولمة والشركات المتعددة الجنسيات، ورفع الحواجز أمام انتقال رؤوس الأموال في مختلف بلدان العالم ، وفتح الباب واسعاً أمام هذه الشركات لتمارس نشاطاتها الاقتصادية دون رقابة قد أوصلت الولايات المتحدة إلى هذا الانهيار الاقتصادي الخطير، والذي سرعان ما انتقل إلى جميع بلدان العالم ليتهاوى اقتصادها كما تهاوت قطع الدومينو، ليدخل العالم في أزمة اقتصادية لم يشهد مثلها منذ ازمة عام 1929، والتي تهدد الاقتصاد العالمي بالركود لسنوات طويلة  هذا ما أفرزته العولمة التي بشر بها صقور الحزب الجمهوري من الليبراليين الجدد والتي انعسكت على الشعب الأمريكي وسائر شعوب العالم بكارثة اقتصادية وإفلاس الشركات والبنوك وشيوع البطالة وازدياد الفقر، وانتشار الإرهاب.
وفي ظل هذه الظروف جرت الانتخابات الأمريكية لاختيار الرئيس الجديد ومجلس النواب وثلث مجلس الشيوخ، وجاءت نتائج الانتخابات كما توقعها المتتبعون فوزا كاسحاً للحزب الديمقراطي ومرشحه للرئاسة باراك أوباما وهيمنة الحزب الديمقراطي على الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وإلحاق الهزيمة النكراء بالحزب الجمهوري ومرشحه للرئاسة جون ماكين، حيث حصل الرئيس المنتخب أوباما على 349 صوتاً في المجلس الانتخابي مقابل 162 صوتاً لجون ماكين ، وحصل الحزب الديمقراطية على 240 مقعداً في مجلس النواب و56 مقعداً في مجلس الشيوخ مقابل 167 مقعداً للجمهوريين في مجلس النواب و40 مقعداً في مجلس الشيوخ ، وهكذا بات الديمقراطيون بقيادة أوباما يسيطرون على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبات الطريق مفتوحاً لباراك أوباما لأجراء التغيرات التي وعد بها الناخبين على المستويين الداخلي والخارجي.
ولا شك أن العالم أجمع تلقى هذا الفوز بسرور بالغ، وأمل في أن يجرى تغير حقيقي في السياسة الخارجية الأمريكية، والتصدي للمشاكل والمعضلات التي تجابه العالم بوسائل سياسية بعيداً عن الحروب والتهديد، واحترام المنظمة الدولية والقانون الدولي اللذان تجاهلهما الرئيس بوش، بل وتحداهما وشن الحرب على العراق، والسعي لبناء العلاقات السلمية والتعاون والاحترام مع دول العالم ، وفي المقدمة منها روسيا والصين والاتحاد الأوربي من أجل التصدي للأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة ومساعدة الشعوب على تجاوز هذه المحنة بأقل ما يمكن من الخسائر، والتصدي لمشكلة البطالة التي عمت العالم أجمع، وما يمكن أن تسببه من مخاطر وكوارث اجتماعية كبيرة.
لقد أفلح الشعب الأمريكي باختيار أوباما على مكين الذي كان سيدفع العالم إلى المزيد من المجابهة مع روسيا والصين والانغمار في الحرب الباردة وما بعد ها .
فقد شاهد العالم وسمع ما دار بين الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي [فلاديمير بوتين]، وممثل الولايات المتحدة [جون ماكين] في مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية في 11 شباط 2007 حيث وجه  بوتين أثناء خطابه في المؤتمر اتهامه للولايات المتحدة قائلاً:
{أن الولايات المتحدة تنشئ، أو تحاول إنشاء، عالم وحيد القطبية}.
 ثم عاد وفسر بوتين ما تعنيه هذه التسمية قائلاً :{ماذا يعني عالم وحيد القطبية؟  بصرف النظر عن محاولاتنا لتجميل تلك العبارة فإنها تعني العالم الذي يرتكزعلى وجود قوة واحدة تتحكم فيه، وتعني أيضا عالم له سيد واحد فقط، وإن هذه التركيبة أدت إلى كارثة، مضيفاً أن الولايات المتحدة قد تحدت حدودها الوطنية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، بل وفرضت نفسها على الدول الأخرى، فالحروب الأهلية والإقليمية لم تتوقف، كما أن عدد الناس الذين يقتلون بسببها في ازدياد متصاعد. إننا لا نرى أي نوع من التعقل في استخدام القوة، بل نرى استخداما مستديما ومفرطا للقوة، وأضاف أن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراع آخر دون تحقيق أي حل شامل لأي منهم }.                                                                                         
وبحضور وزير الدفاع الأمريكي الحالي [روبرت جيت] وعدد من نواب الكونجرس، دعا بوتين أمامهم إلى إعادة هيكلة نظام الأمن الدولي القائم حالياً بأكمله.
وقد رد السناتور الجمهوري الأمريكي [ جون ماكين ] المرشح الرئاسي الخاسرعن الحزب الجمهوري بعنف على خطاب الرئيس بوتين قائلاً:
{إن عالم اليوم ليس وحيد القطبية، وأن روسيا الاستبداديةّّ هي التي تحتاج إلى تغيير في سلوكها، وأضاف قائلاً إن على موسكو أن تفهم أنها لا تستطيع أن تتمتع بمشاركة حقيقية مع الغرب طالما أن أفعالها في الداخل وفي الخارج تتعارض بشكل أساسي مع لب قيم الديمقراطيات إليورو- أطلسية، وادعى جون ماكين أن عالم اليوم هو بالفعل عالم متعدد الأقطاب، ولا يوجد مكان للمواجهات العديمة الجدوى، لذا أتمنى أن يفهم الزعماء الروس هذه الحقيقة}!.
وبعد هذه المواجهة الكلامية بين بوتين وماكين تحدث بعض المشاركين في المؤتمر عن قيام حرب باردة جديدة، لكن البعض  الآخر قللوا من أهمية ما حدث، وقالوا إن خطاب بوتين يعد أحد الحركات التي دأبت روسيا على اتخاذها بصفة دورية للتعبير عن سخطها من تلاشي دورها الكبير الذي كانت تلعبه في الخريطة السياسية للعالم.
 وهكذا فإن الوضع الحالي للعلاقة الأمريكية الروسية  يسبب للإدارة الأمريكية أشد القلق، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت ولا تزال تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن الشؤون العالمية، بل ولتطويقها، ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها، حيث سعت إلى ضم دول أوربا الشرقية التي كانت تعرف بالمعسكر الاشتراكي، بل لقد تجاوزت ذلك إلى العمل على ضم الدول التي استقلت عن روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مثل استونيا وليتوانيا ولاتفيا والمساعي جارية لضم أوكرانيا وجورجيا، وجمهوريات أسيا الوسطى مما أوصل العلاقات الأمريكية والأوربية مع روسيا إلى حالة من التوتر الشديد، مما ينذر بنشوب حرب باردة لا يحمد عقباها.
كما أن ماكين كان قد أعرب في تصريحاته حول العراق عن رغبته في بقاء القوات العسكرية الأمريكية في العراق لأمد غير محدود كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية من أجل تنفيذ أجندة صقور الحزب الجمهوري في تطويق روسيا من جهة، وترتيب الأوضاع فيما دعته بالمخطط الأمريكي للشرق الأوسط الجديد من جهة أخرى.
إن انتخاب الرئيس أوباما يضع أمامه المهمات التالية:
أولا: في السياسة الدولية :
1ـ أعادة النظر في العلاقات المتوترة مع روسيا والصين على أساس الاحترام المتبادل وإقامة الشراكة في تحقيق السلم والأمن الدوليين بعيداً عن الإقصاء والتهميش، والاعتراف بدوريهما في السياسة الدولية باعتبارهما قطبين عالميين لهما دورهما الهام والفاعل في السياسة الدولية، واحترام دور منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن في حل المنازعات الدولية من خلال إصلاح هذه المنظمة التي مضى على تأسيسها من قِبل المنتصرين في الحرب العالمية الثانية 62 عاماً دون تغيير أو تطوير، والتعاون المشترك من أجل خير وسعادة البشرية والعيش بسلام واطمئنان.
2 ـ العمل المشترك في التصدي للأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم أجمع، والخروج من هذه المحنة بأقل الخسائر الممكنة، ومعالجة مشكلة البطالة والفقر والتصدي للإرهاب على مستوى العالم ليس فقط بوسائل القوة والسلاح بل بتأمين حياة كريمة للإنسان خالية من الجوع والفقر والعوز والبطالة.
3 ـ العمل على معالجة الأزمة العراقية الراهنة من خلال معالجة الأخطاء التي وقعت فيها إدارة بوش بتنصيبها بول بريمر حاكماً على العراق، ذلك الحاكم الذي تصرف برعونة منقطعة النظير بحله الجيش والأجهزة الأمنية   وتأسيس ما سمي بمجلس الحكم على أسس طائفية وعنصرية، والتي سببت الكارثة التي حلت بالعراق وقادته للحرب الأهلية، وحولت البلاد إلى ساحة للصراع والموت والخراب والدمار مع المنظمات والميليشيات الإرهابية، وتلاشت وعود بوش قبيل نشوب الحرب بإقامة نظام ديمقراطي في البلاد فكانت النتيجة قيام نظام حكم ديني طائفي وعنصري شوفيني عاد بالعراق القهقرى عشرات السنين إلى الوراء.
إن الوضع في العراق يتطلب إعادة النظر في مجمل العملية السياسية بما يضمن قيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي في البلاد وحل كافة الميليشيات وتنظيف الجيش والأجهزة الأمنية من عناصر ميليشيات الأحزاب السياسية كافة، وتسليح الجيش بالأسلة الثقيلة والطائرات الحربية لكي يستطيع حماية حدود العراق، ومنع تدخل دول الجوار في شؤونه، وتأمين الأمن والسلام في عموم البلاد قبل سحب القوت الأمريكية.
إن سحب القوات الأمريكية في ظل الظروف الخطيرة الراهنة من دون إحلال قوات للأمم المحتدة،  ومن دون تأمين هذه الشروط سيحول العراق بكل تأكيد إلى ساحة للصراع الدموي من جديد حيث تتحفز إيران وحليفتها سوريا من جهة والقوى البعثية وحلفائها من عناصر القاعدة من جهة أخرى للسيطرة على الحكم في البلاد، وسيتحول العراق إلى قاعدة للإرهاب العالمي.
4 ـ السعي الجدي والحقيقي لحل القضية الفلسطينية التي تعتبر لب الصراع في الشرق الأوسط على أساس قرارات الشرعية الدولية بإقامة دولة فلسطينية في كامل أراضي الضفة الغربية وغزة، وعاصمتها القدس  وسحب كافة المستوطنين من الضفة، وسحب القوات الأسرائلية من هضبة الجولان ، وإقامة علاقات حسن الجوار، ونبذ الحروب والاستيلاء على أراضي الغير. 
ثانياً ـ في السياسة الداخلية
1 ـ العمل الجدي والسريع للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية الراهنة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تأثرت اشد التأثير، والسعي الحثيث لمعالجة أسباب الأزمة، وإعادة النظر في أسس السياسات المالية والاقتصادية، وضرورة أشراف الدولة، وعدم ترك الحبل على الغارب للبنوك والشركات التي أطلقت لها العولمة العنان للتصرف كما تشاء فكان هذا الانهيار المالي الخطير الذي ضرب الولايات المتحدة، وسرعات ما امتد إلى دول العالم أجمع كما تمتد النار في الهشيم.
2 ـ الاهتمام الجدي بمشاكل المجتمع الأمريكي وفي المقدمة منها مسألة التأمين الصحي، والتأمين ضد البطالة، ومعالجة مشكلة البطالة التي خلفتها الأزمة الاقتصادية الراهنة، والحرص على تحقيق مجتمع أكثر عدالة، من خلال تخفيف الضرائب عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة ، وتحقيق دخول لها تمكنها من تأمين حاجاتها المادية والعيش الكريم.
3 ـ الاهتمام الجدي بمسألة البيئة، ومكافحة التلوث بالتعاون مع المجتمع الدولي ومن خلال تطبيق اتفاقية أكيتو.
أن الإدارة الجديدة التي ستتولى الحكم في 20 كانون الثاني 2009 برئاسة الرئيس المنتخب باراك أوباما ستكون بلا شك أمام جملة هامة وكبيرة من المشاكل والمعضلات التي خلفتها إدارة بوش، وستكون على المحك أمام الشعب الأمريكي وشعوب العالم أجمع، فالشعوب هي التي ستحكم في نهاية المطاف إن كان الرئيس المنتخب أوباما سيفي بوعوده التي قطعها على نفسه من أجل التغيير، فقد ضاقت الشعوب ومنها الشعب الأمريكي بسياسة بوش وصقور الحزب الجمهوري الذين أوصلوا العالم إلى هذه الحال اليوم
لكن السيد أوباما بطبيعة الحال سوف لن يكون مطلق اليدين في تنفيذ ما يرتأيه من تغيير، فهو بطبيعة الحال يتحرك بحدود الممكن، فالسياسة الأمريكية لا يقررها الرئيس وحده بل تتولاه مؤسسة واسعة من الخبراء في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، لكنه بالتأكيد يستطيع أن يؤثر في القرارات إلى حد

399
الأزمة الاقتصادية الراهنة ذات أبعاد خطيرة
على مستقبل الرأسمالية
حامد الحمداني                                         22/10/2008

حاول الرئيس الأمريكي بوش تصوير ما جرى من انهيار النظام المصرفي بالولايات المتحدة بكونه أزمة عابرة أو كبوة مؤقتة بالنسبة للنظام العالمي الجديد، والذي قام على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وتداعي المعسكر الاشتراكي عام 1991.
 ونشط منظروا الرأسمالية، وفي مقدمتهم فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ المعروفة بالتبشير بفشل الاشتراكية، ودور الدولة في الإشراف على النشاط الاقتصادي في بلدانهم، والتمجيد بالنظام الرأسمالي، واقتصاد السوق، والحرية  الاقتصادية، ورفع الحواجز بين البلدان، وحرية انتقال رأس المال، وتشابكه من خلال الشركات المتعددة الجنسيات، ومنع الدولة من التدخل في الدورة الاقتصادية لبلدانهم مدعين أن التاريخ قد أثبت فشل الاشتراكية كنظرية، والاقتصاد الموجه من قبل الدولة بدليل سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي بعد سبعة عقود من قيام النظام الاشتراكي فيها، حيث انهار على حين غرة ذلك الإنهيار الذي هز العالم أكثر مما هزه عند انتصار ثورة أكتوبر عام 1917بأضعاف وأضعاف.
لقد مثل انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي صدمة كبرى ليس فقط لشعوب هذه البلدان وحدها ، بل صدمة  وكارثة كبرى للعالم وللبشرية كلها، فقد كانت الآمال معقودة لدى البشرية على خلق نظام عالمي جديد لا يكتفي بإدارة الاقتصاد العالمي فقط، كما هو الحال في النظام الرأسمالي القائم على أساس الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتكديس الثروة لدى فئة قليلة من الرأسماليين كل هدفها ينحصر في تكديس أقصى ما يمكن من الثروة بأقصر مدة زمنية، متجاهلين االمتطلبات ألأخرى للمجتمع البشري فيما يخص العدالة الاجتماعية، وحقوق وحريات الشعوب، ومكافحة البطالة والأمراض التي تفتك بملايين البشر، وتأمين ظروف حياة كريمة للإنسان تؤمن له ولعائلته حاجاتهم المادية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية.
لقد أشار معهد الأبحاث التابع للأمم المتحدة في بداية العقد الأخير من القرن الماضي إلى أن 20% من سكان العالم يعاني من سوء التغذية، ومعظمهم في قارتي أسيا وأفريقيا ، كما يشير إلى 33% من السكان العرب هم في عداد الفقراء، وأشار إلى أن توقعاته بحلول عام 2000سيتصاعد الفقر في أسيا وأفريقيا إلى 52%.
وأشار إلى أن مليار إنسان يعانون من الجوع ، ومليار آخر يعانون من الأمية، و3 مليار يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب وللخدمات الطبية ، ومن بينهم 300 مليون طفل محرومون من الدراسة الابتدائية، و189 مليون طفل يعانون من سوء التغذية ، ونسبة الأمية بين نساء الجنوب 30%.
كما أن نسبة الوفيات بين الأطفال في بلدان الجنوب تصل إلى 10 أمثالها في بلدان الشمال بسبب الفقر وسوء التغذية حيث يبلغ عدد الجياع في بلدان الجنوب 1700 مليون إنسان.
وفي المقابل تسيطر مجموعة من الشركات الرأسمالية الكبرى على 70% من الإنتاج الصناعي العالمي، وعلى 40% من التجارة العالمية، وعلى33 % من الأصول الإنتاجية في العالم ، وتهيمن على القطاعات المالية والمصرفية ، ومرافق الاتصالات والنقل، والتكنولوجيا، والمعلومات، وأجهزة التسويق ، وحركة رأس المال، وأسعار الصرف والفائدة، وتوريد السلاح.
وقد بلغ مبيعات الدول السبعة الكبرى 5،5تلريون دولار عام 1992، وبلغت أرباحها في الاستثمارات 70% من قيمة الأصول ، ومن بين هذه الشركات 600 شركة من بلدان صناعية متقدمة بينها الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا.
وهكذا يتبين لنا أن هناك عالمان في ظل الرأسمالية، عالم يضم أقلية من الناس تمتلك الجانب الأعظم من الثروة، وعالم يضم الأغلبية الساحقة من البشر الذين يعانون شضف العيش والجوع والبطالة والجهل والأمراض وفقدان الخدامات العامة.
إن نظاماً يعمل ضمن هذا التوجه، ويضاعف البون الشاسع بين حياة الأقلية المترفة والأغلبية الجائعة عاماً بعد عام لا يمكن له الاستمرار، وهو يخلق البيئة المناسبة للصراع الطبقي من أجل أحداث تغيير جوهري لمستقبل البشرية يحدث طفرة نوعية في في حياة الإنسان بمختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية.
إن التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي قد استمرت أكثر من سبعة عقود، على الرغم من الأخطاء التي حدثت في تطبيق تلك التجربة والتي لا يتسع المجال للدخول فيها الآن، وسأفرد لها بحثاً آخر فيما بعد، وقد استطاعت خلال تلك العقود السبعة أن تحول بلدان الاتحاد السوفيتي المتأخرة جداً والتي  تفتقد القاعدة الصناعية التي كان يتمتع بها العالم الرأسمالي إلى بلد متطور في مختلف المجالات، واستطاع النظام أن يحقق للمواطن الكثير من حاجاته المادية كالسكن بأجور رمزية، وضمان العمل، والرعاية الصحية المجانية، والغذاء، والتعليم المجاني، والقضاء التام على الأمية، وكل ذلك تحقق على الرغم من حروب التدخل التي وقعت منذ قيام ثورة أكتوبر 1917 واستمرت حتى عام 1922 ، وعلى الرغم من تعرض الاتحاد السوفيتي للحصار الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي من جانب العالم الرأسمالي، وعلى الرغم كذلك من تعرض الاتحاد السوفيتي للهجوم الهتلري الوحشي عام 1941 حيث استطاعت جحافل النازية اجتياح مناطق شاسعة من الأراضي السوفيتية حتى وصلت قوات هتلر إلى أبواب موسكو، وجرى تدمير المدن السوفيتية، وتدمير معظم المنشآت الصناعية والزراعية والخدمية أبان الحرب التي انتهت في ربيع عام 1945، واستطاع الجيش الأحمر دحر القوات الألمانية وتحرير وطنه، والتقدم غرباً لتحرير أوربا الشرقية من نير الاحتلال الألماني، وأكمل زحفه نحو ألمانيا حيث احتل عاصمها برلين وأسقط النظام النازي البشع في ألمانيا، وخلص البشرية من شروه.
 أما العالم الجديد الذي أقامه الغرب بزعامة الولايات المتحدة بعد   انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، والذي أطلق عليه عصر العولمة، واقتصاد السوق، وفتح الأسواق العالمية أمام رؤوس الأموال الغربية، والشركات المتعددة الجنسيات، وكان الفرح يغمر قلوب أصحاب الشركات الكبرى بانتصار الرأسمالية وسقوط التجربة الاشتراكية، فإن تلك الفرحة الغامرة لم تدم سوى 17 عاماً ليتفاجأ العالم أجمع بانهيار النظام المصرفي على حين غرة في الولايات المتحدة القطب الأوحد في العالم بقوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وبسرعة خاطفة أخذ النظام المصرفي في العالم يتهاوى كقطع الدومينو المصفوفة إلى بعضها البعض بضربة واحدة ، وبدأت  الانهيارات الواسعة في البورصات العالمية وإفلاس الكثير من المصارف والشركات التي لم يعرف لها العالم مثيلاً إلا أبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، بل هي كما يبدو اشد واخطر منها بكثير، بالنظر للتوسع الهائل لشبكة رأس المال العالمي من خلال الشركات المتعدد الجنسيات التي أدت إلى   امتداد الانهيارات إلى مختلف بلدان العالم شماله وجنوبه في لمح البصر، تاركة الشعوب تقف مشدوهة إلى ما ينتظرها في مستقبل الأيام من كوارث اقتصادية ومعيشية.
وعلى الرغم من الإجراءات التي اتخذتها البلدان السبعة الكبرى بضخ مئات المليارات من الدولارات في البنوك من أجل وقف الانهيارات وإعلان الإفلاس، فإن الصورة التي يجري رسمها
من قبل كبار رجال الاقتصاد تبدو قاتمة، وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى التصريح قائلاً : {أننا بحاجة إلى وضع أسس جديدة لنظامنا الرأسمالي}.
وكان ساركوزي يشير إلى ضرورة عدم ترك الحبل على الغارب لتصرف الشركات المصرفية الكبرى، وضرورة إشراف الدولة على حركة رأس المال، وهذا يعني العودة إلى القطاع العام والقطاع المشترك لمعالجة الخاطر الجسيمة التي تعرض لها النظام الرأسمالي خلال أيام معدودة، وقد سارعت دول الاتحاد الأوربي لعقد اجتماع عاجل لبحث الأزمة الخطيرة ومحاولة وضع الحلول لتجاوزها، وقد اتخذت قرارها بتكليف ساركوزي لعرض وجهة نظرها إزاء الأزمة مع الرئيس الأمريكي بوش على وجه السرعة، غير أن الاجتماع الذي تم بين ساركوزي وبوش لم يأتي بنتيجة سوى القرار بعقد اجتماع بأسرع وقت ممكن للدول السبعة الصناعية الكبرى مع دعوة العديد من دول العالم للمشاركة في المؤتمر لعلهم يخرجون منه بحلول تخرج النظام الرأسمالي من محنته الحالية.
 لكن الرياح تجري بما لا تشته السفن كما يبدو، والأزمة تأخذ في خناق الجميع، وتنذر بكساد اقتصادي عالمي كبير، وما يمكن أن يجلبه للبشرية من بطالة وفقر وجوع  ومصائب وويلات لا حصر لها. إن الرأسمالية تبقى عاجزة عن إيجاد حل للمشاكل التي تجابه البشرية، ولا بد من تصاعد التناقض بين العالمين واشتداد الصراع الطبقي حتى يتم التغيير الكيفي للنظام القائم إلى نظام أكثر عدالة يتيح للبشرية حياةً تليق بالإنسان.
 
         


400
الأوضاع الخطيرة في الموصل تتطلب إجراءات
جذرية عاجلة
حامد الحمداني                                                      15/10/2008


الأوضاع في محافظة الموصل خطيرة جداً، والخطورة هذه ليست وليدة اليوم، أو قبل أيام أو بضعة أشهر كما يتصور البعض، بل هي قد بدأت منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وسقوط نظام الطاغية صدام حسين، ودخول قوات البيشمركة الكردية في المدينة، واندلاع النشاط الإرهابي لقوى القاعدة القادمة من وراء الحدود، وحلفائها الصداميين الذين أفاقوا من الصدمة التي أصابتهم جراء احتلال القوات الأمريكية للعراق، ونهاية نظام البعث الفاشي الذي جثم على صدور العراقيين  خلال 35 عاماً كالحة السواد.

وبدأ الصراع الرهيب في هذه المحافظة الكبيرة ذات الموقع الاستراتيجي
الهام بالنسبة للعراق، فهي ثاني مدن العراق أولاً، وهي صلة الوصل بين العراق ودول أوربا بالإضافة إلى سوريا وتركيا وإيران، كما أن الموصل تتمتع بثروة نفطية هائلة ومختلف الثروات المعدنية الأخرى، ومناطق زراعية شاسعة ومياه وفيرة.

وبسبب إهمال الحكومات التي تتالت على السلطة بعد الاحتلال، وإهمال قوات الاحتلال معالجة الأوضاع التي أخذت بالتدهور يوماً بعد يوم حتى باتت مسرحاً لنشاط هذه العصابات والميليشيات الإجرامية، وانفلات الوضع الأمني، وأصبحت هذه العصابات والميليشيات هي سيدة الموقف في المحافظة دون منازع، وبات المواطنون الموصليون يعيشون في جو إرهابي لا يحتمل، ولم يعد المواطن يأتمن على حياته ولا بيته، فالتفجيرات والاغتيالات والاختطاف والقتل وابتزاز المواطنين يتصاعد يوماً بعد يوم ، وباتت أجهزة الشرطة والجيش كلها مخترقة من قبل تلك العصابات والميليشيات، والتي أخذت تعيث في المحافظة فساداً وإجراماً، وقد نال الأخوة المسيحيون والتركمان في تلعفر، والأيزيدية في سنجار جانباً كبيرة من الجرائم التي ارتكبتها هذه العناصر وذهب ضحيتها الألوف من المواطنين الأبرياء.وأصبحت الحياة في المحافظة جحيماً لا يطاق.

وعلى الرغم من إرسال الحكومة هذا العام قواتها العسكرية لمعالجة الوضع المتدهور في الموصل، فإن إجراءاتها اصطدمت بمعوقات تتعلق بالتوازنات في قمة السلطة حيث يتقاسم التحالف الكردي والائتلاف الشيعي هذه السلطة، وحيث يتقاسم التحالف الكردي السلطة في الموصل، ويرفض تشكيل قوات الصحوة من العشائر العربية، وحيث قوات البيشمركة تمارس نشاطها في المحافظة وكأنها جزء من منطقة كردستان. كما أن الفرقة الثانية المتواجدة في المحافظة مخترقة من قبل الميليشيات الكردية.

إن القيادة الكردية قد ركزت جهدها منذ سقوط نظام صدام، ودخول قوات البيشمركة المحافظة، ومدينة الموصل على وجه الخصوص، للسيطرة على مناطق واسعة من المحافظة بذريعة ما تسميه بالمناطق المتنازع عليها!!
والتي تشمل سهل الموصل الواسع ومنطقة سنجار وتلعفر وضمها إلى ما يدعى بفدرالية كردستان مستغلة الدعم الأمريكي وقوات الاحتلال من جهة،  وضعف الحكومة التي تتنازعها الخلافات بين تياراتها المختلفة، وقد بلغ الأمر أن سيطرت قوات البيشمركة على مناطق [الحمدانية] و[بعشيقة] و[برطلة] و[بحزاني] و[القوش] و[ الشيخان ] و[الرشيدية] وحتى[ الجانب الأيسر من مدينة الموصل] مدعية أنها جزء من كردستان،  وهي مناطق تسكنها أغلبية مسيحية وعربية، وتمارس البيشمركة ضغوطات شديدة على سكان هذه المناطق لإخضاعهم لدولة كردستان العتيدة.
 وليست الحملة التي تعرض لها المسيحيون في الموصل أخيراً والتي أدت إلى تهجير أكثر من 1000 عائلة مسيحية، واغتيال 11 مواطناً مسيحياً وحرق العديد من البيوت بعد التهديدات التي تلقوها بمغادرة المدينة بمعزل عن خطط القيادة الكردية بتكريد سهل الموصل، كما أن ما جرى من جرائم ضد المواطنين في سنجار وتلعفر يرتبط تماماً بالمشروع الكبير الذي تسعى لتحقيقه القيادة الكردية مستغلة الوضع الهش للسلطة العراقية لتحقيق أقصى ما تستطيع من المكاسب على الأرض حتى وصل بها الأمر إلى السيطرة على المناطق النفطية في محافظة الموصل.

لقد بلغ التدهور في أوضاع الموصل درجة قصوى، وبات على الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها وتسارع إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإيقاف هذا التمدد الكردي في محافظة الموصل من خلال إعادة سلطة الدولة، وتحقيق الأمن والنظام العام في المحافظة من خلال الإجراءات التالية :
1ـ إعلان حالة الطوارئ في محافظة الموصل، وحل السلطة القائمة فيها ، وتشكيل سلطة مؤقته من أبناء الموصل الحريصين على عروبتها وعلى وحدة العراق، ريثما تجري الانتخابات الجديدة في كانون الثاني 2009 .

2ـ أجراء تنقلات لقوات الجيش المتواجدة في الموصل والتي تضم جانبا كبيراً من قوات البيشمركة، والاستعاضة بقوات من مناطق أخرى.

3ـ الأمر بسحب كافة قوات البيشمركة من محافظة الموصل إلى حدود المنطقة التي كانت فيها قبل الغزو الأمريكي للعراق [حدود دهوك].

4 ـ إعادة النظر بقوات الشرطة الحالية وإخراج كافة أفراد ميليشيات الأحزاب الكردية، وتشكيل قوات شرطة جديدة من أبناء الموصل.

5 ـ المسارعة بتشكيل قوات الصحوة من العشائر العربية في المحافظة كي تتولى إلى جانب قوات الجيش ملاحقة قوى الإرهاب من عناصر القاعدة والقوى الصدامية، وقد أثبتت قوات الصحوة قدرتها على ملاحقة عناصر القاعدة وكل القوى الإرهابية  الأخرى وسحقها.

6 ـ تأمين الحماية اللازمة لأبناء الطائفة المسيحية ودور العبادة التابعة لها بشكل فاعل والعمل الجدي والسريع لعودة العوائل المهجرة إلى مساكنها،
والكشف بجدية عن من يقف وراء جرائم تهديد وقتل وتهجير المسيحيين، وحرق دورهم مهما كانت انتماءاتهم وتقديمهم للعدالة لينالوا العقاب الذي يستحقونه.

7 ـ تأمين الحماية الكافية للمواطنين والأيزيديين في سنجار والتركمان في تلعفر، وإبعاد قوات البيشمركة عن هذه المناطق، وتشكيل قوات شرطة من نفس أهالي المنطقة تتولى حماية الأمن والنظام فيها.

8ـ التحقيق الجاد لكشف من يقف وراء جرائم الزنجيلي في الموصل وتلعفر وسنجار التي ذهب ضحيتها أكثر من 1000 مواطن برئ، وعرض نتائج التحقيق على الرأي العام العراقي، وتقديم من نفذ تلك الجرائم، ومن يقف وراءهم للعدالة لينالوا جزاءهم العادل.

إن الحكومة العراقية الحالية مدعوة وعلى وجه السرعة بتولي زمام الأمر في محافظة الموصل، والمحافظة على عروبتها وعراقيتها، ومنع أية محاولة لسلخ أي جزء منها بحجة ما تدعيه القيادة الكردية بالمناطق المتنازع عليها، البارحة في خانقين وجلولاء واليوم في الموصل وغداً في كركوك وبعد غد في بدرة وجصان، وقد تصل طموحات القيادة الكردية إلى بغداد التي يسكنها أكثر من مليون مواطن كردي وربما حتى ميناء الفاو باسم الفيدرالية التي خرجت عن كل مضامينها وأهدافها، والتي باتت تثير الشكوك لدى الشعب العراقي من أطماع القيادة الكردية، وعلى القيادة الكردية أن تدرك أن من يسعى للاستحواذ على كل شيء، مستغلا الظروف العراقية الصعبة، سيخسر في النهاية كل شيء.

إن هذه الطموحات التي لا حدود لها للقيادة الكردية لن تقود الشعب العراقي إلا إلى الحرب الأهلية والخراب والدمار، وهي بكل تأكيد لن تخدم الكرد والعرب وسائر القوميات الأخرى ، بل ستقودهم إلى المجهول، وإلى الكوارث والمصائب التي لا حدود لها.
إن على الشعب الكردي الشقيق أن يدرك أن حاضنته الحقيقية هو العراق وشعب العراق، وأن الحفاظ على روابط الأخوة بين العرب والكرد وسائر القوميات الأخرى المتآخية، وتمتين عراها، والنهوض بالعراق هو السبيل لتحقيق حياة كريمة مرفهة للجميع، وأن ثروات العراق إذا ما تولتها أيادٍ أمينة لحكومة مخلصة لقادرة على تأمين أرقى مستوى معيشة لكل المواطنين بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم في ظل عراق ديمقراطي موحد وحر مستقل.
   


401
ينبغي وضع حد للجرائم التي يتعرض لها المسيحيون
في الموصل
حامد الحمداني                                            11/10/2008
 
الأخوات والأخوة المواطنون المسيحيون في الموصل، هذه الطائفة الطيبة والمسالمة والمعتزة بعراقيتها العريقة، ووطنيتها الصادقة تتعرض اليوم من جديد لعمليات القتل والتهديد والتهجير الوحشية البشعة تحت سمع وبصر السلطة الحاكمة في الموصل، وتحت سمع وبصر قوات الجيش والشرطة وجهاز الأمن.
ما أشبه اليوم بالبارحة عندما تعرض أبناء الموصل الوطنيين الشرفاء ما بين عامي 1959 وعام 1963 لعمليات القتل والتهجير الواسعة النطاق على أيدي عصابات الجريمة من العناصر البعثية والرجعية حيث اغتيل في شوارع الموصل ما يزيد على 800 مواطن، واضطرت أكثر من 30 ألف عائلة على الهجرة القسرية من المدينة إلى بغداد ومختلف المدن العراقية الأخرى تحت التهديد بالقتل، وكانت عائلتي من بينهم، وقد نال المسيحيون من تلك الحملة المجرمة الحصة الكبرى جراء مواقفهم الوطنية وإيمانهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد استشهد عدد كبير منهم في شوارع الموصل تحت سمع وبصر الحكومة والأجهزة الأمنية دون أن يتم إلقاء القبض على القتلة المعروفين بصورة شخصية آنذاك لدى المجتمع الموصلي .
ولا تزال ذاكرتي تحمل أسماء العديد من الأخوة المسيحيين الذين استشهدوا آنذاك كان منهم كل من الشهداء المحامي كامل قزانجي، والرجل الطاعن في السن التاجر قوزي قزازي وولده الشاب حازم قزازي، ونافع برايا وأفراد عائلته الذين وضع المجرمون قنبلة بسيارتهم ، ومتي يعقوب والمحامي عبد الله ليون، والصيدلي زكر عبد النور، وسركيس الأرمني ، وحنا داؤد ، وزكي عزيز توتونجي، وبدري عزيز توتونجي، وطارق نجم حاوة ، المعلم زكي نجم المعمار ومحاسب البلدية موسى السلق ، والتاجر وديع عودة ، وفريد السحار وجورج سائق الكنيسة ، وغيرهم مما لا تسعفني الذاكرة تعداد أسمائهم، واضطرت ألوف العوائل المسيحية ترك مساكنهم وأعمالهم ووظائفهم ومدارس بناتهم وأبنائهم والهجرة إلى بغداد ومختلف المدن العراقية، وخصوصا مدن كردستان، للنجاة بحياتهم .
واليوم تكرر القوى الظلامية والرجعية وحلفائهم الصداميون هذه الأساليب الإجرامية البشعة ضد من تبقى من عوائل الأخوة المسيحيين النجباء، فقد جرى اغتيال أعداد كبيرة منهم منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وحتى اليوم وطالت تلك الاغتيالات رموزهم الدينية ، وجرى تفجير كنائسهم ، وكل هذه الجرائم يجري تنفيذها باسم الإسلام، فأي تشويه للإسلام يجري على أيدي هؤلاء القتلة المجرمين .
لقد تواردت اخبار الموصل عن تهجير أكثر من 150 عائلة مسيحية في الأونة الأخيرة بعد أن تلقت رسائل تهديد بمغادرة المدينة وإلا فالقتل بانتظارهم ، وقد انتقلت هذه العوائل إلى بعض القرى والنواحي المسيحية  القريبة من الموصل من بينها القوش والحمدانية وتلكيف وبعشيقة وبحزاني وبرطلة وباطنايا وهم وأطفالهم في حالة يرثى لها .
إن الحكومة العراقية والسلطة في مدينة الموصل تتحمل المسؤولية الكاملة عن حفظ أرواح وممتلكات هذه الطائفة من المواطنين الطييبين المتعلقين بمدينتهم، والذين هم تاريخياً سكان مدينة الموصل الأصليين منذ القدم، والسلطة التي تعجز عن حماية مواطنيها، وعلى وجه الخصوص الأقليات المسيحية والصابئية والأيزيدية فعليها أن تستقيل وتترك الأمر لسلطة قادرة على التعامل مع هذه القوى الإرهابية بأقصى الشدة لقطع دابرهم ودابر من يقف وراءهم دون رحمة حتى يعود الأمن السلام في مدينة أم الربيعين زهرة العراق الأبدية ، هذه المدينة التي عاش فيها المسلمون والمسيحيون والأيزيديون وسائر القوميات الأخرى تسود بينهم المحبة والتآخي كعائلة واحدة على مر الزمن.
أن أبناء الطائفة المسيحية في الموصل بانتظار الإجراءات الفورية للقبض على المجرمين الذين يلقون رسائل التهديد لعوائلهم بترك المدينة، والضرب بيد من حديد لهذه العصابات المجرمة دون رحمة كي يطمئن أبناء الموصل على حياتهم وممتلكاتهم ويمارسوا حياتهم الطبيعية دون خوف أو قلق ، وأنا لمنتظرون


402
حرب أكتوبر 973 العربية الإسرائيلية في ذكراها
الخامسة والثلاثين

حامد الحمداني                                                    2008/10/6

أولا: وفاة عبد الناصر وتولي السادات الحكم :
في الثامن والعشرين من أيلول 1970 أعلن راديو القاهرة نبأ وفات عبد الناصر، وقيل أن الوفاة كانت بسبب نوبة قلبية حادة  داهمته، ولا تزال الشكوك تدور حول حقيقة تلك الأزمة القلبية حتى اليوم.
وابتهجت إسرائيل ومن ورائها الإمبريالية لمغادرة عبد الناصر الساحة، بعد سنوات من الصراع خاضتها ضد الأمة العربية منذُ تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، والنهوض الثوري في العالم العربي الذي أحدثته حركة التحرر العربي التي قادها عبد الناصر، رغم كل الأخطاء التي وقع فيها، والتي لو لم تقع لكان الحال قد تغير كثيراً بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، والصراع العربي مع الإمبريالية، وبشكل خاص موقف عبد الناصر من قائد ثورة 14 تموز الزعيم[عبد الكريم قاسم]،فقد كانت الظروف تقتضي ، بل تحتم تعاون مصر والعراق بقيادة ناصر وقاسم ، من أجل دفع حركة التحرر العربي إلى الأمام، بدلاً من الصراع، والأحقاد التي وصلت حد التآمر على الكيان العراقي، وتأييد انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ، وما جره على العراق وشعبه من ويلات ومآسي لا توصف، والضرر البليغ الذي لحق بكفاح العالم العربي للتحرر من هيمنة الإمبريالية، وتبين فيما بعد أن عبد الناصر كان ضحية خداع البعثيين، وشريكهم عبد السلام عارف، ورغبته الجامحة لقيادة العالم العربي .
أحدثت وفاة عبد الناصر فراغاً كبير في مصر والعالم العربي على حد سواء، في ظل ظروف بالغة الخطورة من مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية الإعداد للحرب التي كان  عبد الناصر يدرك أن لا مفر منها بسبب التعنت والاستفزاز الإسرائيلي الوقح. ولذلك فقد كان من الأهمية بمكان ملئ الفراغ الذي أحدثه وفاة عبد الناصر المفاجئة بأسرع ما يمكن والسير قدما ًفي عملية التهيئة لحرب التحرير.
كان أنور السادات ،وقتذاك، يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، وبموجب الدستور يتولى نائب الرئيس الحكم، في حالة شغور منصب الرئاسة لحين  انتخاب رئيس جديد للبلاد من قبل مجلس الأمة، وبترشيح من الاتحاد الاشتراكي.
وقبل إجراء الانتخاب كان هناك بالإضافة إلى السادات منافساً آخر ،هو  [حسين الشافعي ] ،أحد قادة ثورة 23 يوليو 1952، ذو الاتجاه الإسلامي، هذا بالإضافة إلى كتلة [ علي صبري ] الناصرية الممسكة بجميع المراكز العليا في الدولة من مجلس الوزراء، ومجلس الأمة، والاتحاد الاشتراكي، وكان بمقدور هذه الكتلة أن تتحكم في منْ يخلف عبد الناصر، لكن سوء تقديرهم لأنور السادات، واعتقادهم أنه شخص ضعيف يسهل السيطرة عليه دفعهم إلى تأييد ترشيحه للرئاسة، وهكذا كان، وتم انتخاب أنور السادات رئيساً للجمهورية، وهو لم يكد يصدق نفسه، فقد كان يعرف مركزه تماما،ً ويعرف مركز مجموعة [ علي صبري ]، وكانت تلك غلطة الناصريين الكبرى التي دفعوا ثمنها غالياً، ودفعت الأمة العربية تبعاً لذلك مستقبلها الذي وضعه السادات رهينة بأيدي الإمبرياليين الأمريكيين لسنين طويلة.
أما أنور السادات فقد وضع نصب عينيه مسألة التخلص من الكتلة الناصرية بزعامة علي صبري، وبقية رفاق عبد الناصر، والاستحواذ على السلطة كاملة وحدة بعيداً عن أي تأثير، أو نفوذ لما كان يسميه بـ [ مراكز القوة ].
 ولم تمضِ مدة طويلة حتى تمكن السادات، بدعم من قائد الحرس الجمهوري وعدد من كبار الضباط الموالين له من توجيه ضربته لمجموعة علي صبري وإزاحتها عن السلطة، بل وزجها في السجون،ليصبح بعد ذلك الحاكم المطلق للبلاد، ويصفي كل آثار الناصرية .
بعد أن تسنى للسادات تصفية القوى الناصرية، وكتلة علي صبري، أقدم على أخطر عملية تخص أمن مصر وشعبها، وتخص قضية الحرب التي أوقف عبد الناصر حياته لأجلها، فقد قرر السادات  في تموز 1972، ودون سابق إنذار إخراج الخبراء السوفيت من مصر،الذين كان لهم الدور الكبير في حماية مصر من قصف الطائرات الإسرائيلية، ولهم الدور الأكبر في تدريب وإعداد الجيش المصري ليوم المعركة التي كان الشعب ينتظرها بفارغ الصبر ليثأر لكرامته التي امتهنت يوم 5 حزيران 967.
شكل القرار صدمة كبرى للشعب المصري، وللحكومة السوفيتية، بعد كل الذي فعلوه من أجل مصر والعالم العربي، وتساءل الناس كيف يستطيع السادات محاربة إسرائيل المدعومة كل الدعم أمريكياً وقد جرد نفسه وبلده من سنده القوي الاتحاد السوفيتي ؟
ثانياً: حرب 6 تشرين الأول 1973:
لم يكن بمقدور السادات أن يتخلى عن الهدف الذي كان يصبو إليه الشعب المصري  وقواته المسلحة، إلا وهو تحرير الأراضي العربية المحتلة، ورد الكرامة العربية التي أهانتها إسرائيل في حرب حزيران 967 ، كما أن الجيش المصري كان قد وصل إلى أهبة الاستعداد لتنفيذ الإرادة الوطنية، إذ لابدّ من قيام الحرب،أو تقويض عرش السادات.
وهكذا اتخذ السادات قرار الحرب، ولكنه لم يكن يرمي إلى نفس الهدف الذي كان يهدف إليه عبد الناصر، بل كان يرمي إلى غايتين محددتين هما:

1 ـ  التخلص من ضغط الجيش الذي كان ينتظر المعركة بفارغ الصبر والضغط الشعبي العارم، والتواق للنصر على إسرائيل،ورد كرامته المهانة.
 
2 ـ تحريك حالة اللا سلم واللا حرب، وإيجاد الذريعة للتفاوض مع إسرائيل،  وعقد معاهدة سلام معها.
هكذا إذاً قرر السادات أن يخوض الحرب، وجري الاتصال مع الرئيس السوري حافظ الأسد، واتفق معه على التنسيق بين الجيشين لكي يجعلا الجيش الإسرائيلي يحارب على جبهتين في آن واحد، مما يجعل مهمة الجيش الإسرائيلي عسيرة. كما جرى الاتفاق على ساعة الصفر، وهي الساعة الثانية بعد الظهر يوم الجمعة المصادف 6 تشرين الأول 1973.
اندلاع الحرب:
في تمام الساعة الثانية بعد ظهر يوم الجمعة المصادف 6 تشرين الأول 973 ،انطلقت 200 طائرة حربية مصرية نحو أهدافها شرق قناة السويس وبدأت بقصف الأهداف الإسرائيلية على طول القناة، وعلى كافة مطارات العدو في سيناء وتجمع دباباته ومدرعاته.
وبعد عشرة دقائق انطلقت فوهات 2000 مدفع تصلي بحممها القوات الإسرائيلية شرق القناة، في حين كانت قوات مظلية قد قامت بالإنزال وراء خطوط العدو وقرب المضايق، كما بدأ 600 مدفع  ذات المدى القصير، بضرب خط بارليف والقوات المتواجدة عليه.
وفي الساعة الثانية والثلث ، أنزلت القوات المصرية 800 قارب مطاطي يحمل كل واحد منها 8 أفراد، تحت وابل من غطاء ناري، وبعد أن تمكن الكوماندوس من الضفادع البشرية من تعطيل أنابيب قاذفات اللهب التي أعدتها إسرائيل من قبل لتغطية القناة باللهب، ومنع أي محاولة للجيش المصري للعبور إلى الضفة الشرقية.
 وهكذا تمكنت القوات المصرية من العبور، حيث استطاع 800 ضابط و13500 جندي من الوصول إلى الضفة الشرقية، واحتلال عدد من رؤوس الجسور. وقامت على الأثر قوات من الهندسة بفتح 60 ثغرة في خط بارليف، عن طريق ضخ شديد للماء من أنابيب أُعدت سلفاً، وجرى نصب مضخات قوية لضخ الماء، حيث تمكنت من إزاحة [ 90000] متر مكعب من التراب من خط بارليف.
وفي الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر ذلك اليوم العظيم كان (1500) ضابط  و [22000]جندي قد عبروا القناة .
وفي الساعة الخامسة والنصف، طلب السادات السفير السوفيتي للتحدث معه وأبلغه بنشوب الحرب، وفي تلك اللحظة بلغ عدد القوات المصرية شرق القناة  [2000] ضابط ،و[ 30000]جندي .(1)
وعند الساعة العاشرة والنصف ليلاً كانت القوات المصرية قد نصبت 8 جسور ضخمة، و4 جسور خفيفة، و31 معدية، لنقل القوات المدرعة والجنود إلى الضفة الشرقية للقناة، وعند حلول منتصف الليل كانت 5 فرق عسكرية كاملة من المدرعات والمشاة قد عبرت القناة، وحاصرت مواقع العدو، حيث جرى استسلام أكثر من نصفها. (2)
أما على الجبهة السورية، فقد انطلقت الطائرات، والمدفعية، والدبابات السورية نحو أهدافها في هضبة الجولان، وتخطت التحصينات الإسرائيلية متقدمة نحو مدينة القنيطرة عاصمة الجولان.
 لقد تحققت معجزة العبور نحو الضفة الشرقية للقناة بوقت قياسي، وبخسائر لا تصدق، فقد كان عدد الشهداء المصريين 64 جنديا، والجرحى 420 وإعطاب 17 دبابة، و26 مدرعة، وهذا العدد اقل بكثير جداً مما كان قد وضع في حسابات القيادة العسكرية .
وفي اليوم التالي 7 أكتوبر، كان الجيش المصري قد وسع مناطق سيطرته شرق القناة حتى بلغت بعمق من بين 7ـ 9 كم . وفي هذا اليوم أتصل الرئيس السوفيتي برجنيف بالسادات  مهنئاً إياه على العبور، وأبلغه استعداد السوفيت لتقديم كل دعم ومساعدة يطلبها الجيش المصري.
لم تكن تمضي سوى 20 ساعة على بدء الهجوم، وكان الجيش المصري بكامل قوته ومعنوياته العالية، واندفاعه الشديد حتى بادر السادات بالاتصال بوزير الخارجية الأمريكية [هنري كيسنجر] عن طريق القناة السرية عبر المخابرات الأمريكية، حيث أرسل مستشاره حافظ إسماعيل رسالة إلى كيسنجر يعلمه بما يلي:
 1 ـ إن هدف مصر هو تحقيق السلام مع إسرائيل.
 2ـ إن مصر لا تنوي تعميق الهجوم، وتوسيع المواجهة.
 3 ـ إن مصر تطالب إسرائيل إعلان قبولها مبدأ الانسحاب من الأرضي المحتلة.
4 ـ إن مصر توافق على حرية الملاحة في مضايق تيران.
وهكذا فاحت رائحة الخيانة منذُ بداية الحرب، حيث وجه السادات خنجره إلى ظهر الجيش المصري، وسلاح إسرائيل فوق رؤوس الجيش السوري، فقد تلقف [ هنري كيسنجر ] رسالة السادات بفرح غامر، وحولها إلى إسرائيل لكي تركز جهدها العسكري نحو الجبهة السورية، بسبب خطورتها وقربها من العمق الإسرائيلي.
 بدأت القوات السورية تتلقى الضربات الإسرائيلية المركزة، حيث دارت المعارك الشرسة بين الجيشين السوري والإسرائيلي، وخسرت سوريا في معركة واحدة دامت بضع ساعات ما بين 400 ـ 600 دبابة، في حين أوقف السادات هجومه بحجة الوقفة التعبوية!!، على الرغم من اتصال السوفيت به وإعلامه أن أقمارهم التجسسية قد اكتشفت أن إسرائيل قد سحبت معظم مدرعاتها من منطقة الممرات، ولم يبقَ لها سوى لواءين مدرعين فقط ، وأن بإمكان الجيش المصري القضاء عليها بكل سهولة، وبوقت قصير، طالبين منه بإلحاح تطوير الهجوم والاستيلاء على الممرات ذات المواقع الإستراتيجي الهامة جداً بالنسبة للدفاعات المصرية التي يصعب على العدو اجتيازها، وفي نفس الوقت تضطر إسرائيل إلى سحب قسم من  مدرعاتها في مواجهة الجيش السوري .

لقد قدم اللواء [ حسن البدري ] ـ رئيس مركز القيادة رقم 10 ـ في اليوم الثاني لنشوب الحرب [7 تشرين الأول ] تقريراً للسادات طالباً فيه تطوير الهجوم والاندفاع نحو المضايق بأسرع وقت واحتلالها، لإبعاد أي خطر محتمل عن الجيش المصري، وأشار في تقريره أن الوقت الذي يضيع هو بكل تأكيد في صالح الجيش الإسرائيلي.
 إلا أن السادات أغمض عينيه وصم أذنيه مرة أخرى، ولم يأمر بتطوير الهجوم إلا يوم 14 تشرين الأول، مانحاً إسرائيل الفرصة لتدمير الجيش السوري، وإعادة تحشيد قواتها المدرعة بمواجهة الجيش المصري، وإضاعة فرصة تاريخية في إمكانية دحر الجيش الإسرائيلي.
 وبضغط من ضباط أركان جيشه، أقدم السادات على الهجوم في 14 تشرين الأول، وكانت إسرائيل قد أكملت تحشيد قواتها المدرعة، بعد تحييد الجبهة السورية، واستعدت كامل الاستعداد للهجوم المصري، حيث وقعت معركة كبرى خسر فيها الجانب المصري ما يزيد على 240 دبابة حتى الظهر، وفشل الهجوم، واستغل الإسرائيليون ذلك الفشل بالتقدم وتطوير هجومهم المضاد حتى تمكنوا من خرق الجبهة المصرية ما بين الجيشين الثاني والثالث، والتقدم نحو قناة السويس في منطقة [ الدفرسوار]، وتمكنت قواتهم من السيطرة على رأس جسر لها على القناة، ونصب الجسور فوقها، والعبور بدباباتهم يوم 15 تشرين الأول نحو الضفة الغربية للقناة، حيث عبرت ما يزيد على 800 دبابة إسرائيلية، وطوقت الجيش الثالث المصري ومنعت وصول الإمدادات الغذائية والمياه عنه، وعرضته لمخاطر جسيمة، وأعلنت رئيسة وزراء إسرائيل [ كولدا مائير] أن قواتها تحارب الآن غرب قناة السويس، وأنها وصلت إلى الكيلو 101 عن القاهرة.
كما أعلن وزير الحرب الإسرائيلي [ موشي دايان] أن قواته الآن في طريقها إلى دمشق.
  وفي 16  تشرين الأول خطب السادات في مجلس الأمة، مقدماً مشروعاً للسلام مع إسرائيل، وكان يبدو متهالكاً على كسب ود الولايات المتحدة التي وضعت كل ثقلها لدعم القوات الإسرائيلية بالسلاح، ومشجعة إياها على مواصلة الهجوم المضاد.
وفي 17 تشرين الأول قررت الدول العربية المنتجة للنفط تخفيض إنتاجها بنسبة 5% فوراً، وإضافة 5% كل شهر حتى تنسحب إسرائيل، وقرر الملك فيصل ملك السعودية تخفيض إنتاج النفط بنسبة 10 % فوراً كوسيلة ضغط على الولايات المتحدة لتضغط بدورها على إسرائيل للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وأدى ذلك الإجراء إلى حدوث ارتفاع حاد في أسعار النفط العالمية، مما أثار غيض الولايات المتحدة حيث اعتبرت هذا القرار يشكل تهديداً خطيراً للمصالح الأمريكية، مما لا يمكن السكوت عليه، وقد دفع الملك فيصل حياته فيما بعد، بسبب ذلك القرار.

وفي ظل  تلك الظروف البالغة الصعوبة بالنسبة للجيش السوري، حيث بدأ موقفه يضعف شيئاً فشيئاً أمام القوات الإسرائيلية،على الرغم من إسراع الاتحاد السوفيتي إلى تعويض خسائره من الأسلحة الثقيلة والمعدات، فقد أبدى استعداده إلى إرسال 3 فرق مدرعة محمولة جواً إلى سوريا، إذا ما أقدمت إسرائيل على مهاجمة دمشق .

ثالثاً : حكام العراق والحرب
لم يُبلّغ حكام العراق بقرار الحرب، فقد كانت العلاقات العراقية المصرية  والعراقية السورية على أسوأ حال، فعلى الجانب العراقي السوري كان الصراع بين جناحي البعث في البلدين قائماً ومستمراً، والعلاقات مقطوعة، كما أن العلاقات على الجانب المصري كانت قد وصلت إلى أسوأ حال بسبب تهجم حكام العراق على مصر وعبد الناصر بسبب موقفه من مشروع روجرز، عبر الإذاعة والتلفزيون والصحافة، ولذلك فقد فوجئ العراق بوقوع الحرب، عند ما أعلنت وكالات الأنباء قيامها، وكان العراق آنذاك في شبه حرب استنزاف مع إيران، بعد إقدام حكامه على إلغاء معاهدة عام 1937 مع إيران حول اقتسام مياه شط العرب. كما أن أوضاع الحرب في كردستان العراق قد أخذت جانباً كبيراً من الجيش العراقي، ومع ذلك أرسل العراق عدداً من أسراب طائراته الحربية إلى مصر، حيث شاركت منذُ اليوم الأول من الحرب فوق قناة السويس واستشهد عدد من الطيارين العراقيين في المعركة.
 كما سارع العراق إلى الاتصال بالاتحاد السوفيتي طالباً منه الضغط على إيران لكي لا تستغل سحب قطعات من  القوات العراقية وإرسالها إلى سوريا، وبالفعل وجه الاتحاد السوفيتي تحذيراً إلى إيران من مغبة استغلال الظروف والاعتداء على العراق، وحرك السوفيت بعض قطعاتهم الحربية نحو الحدود الإيرانية. وهكذا تسنى لحكام العراق إرسال المزيد من القوات العراقية إلى سوريا، ولعبت تلك القوات دوراً مشهوداً في إيقاف زحف المدرعات الإسرائيلية نحو دمشق، وأمنت لها الحماية، بعد أن تعرضت لخطر كبير.
غير أن الذي حدث بعد ذلك هو أن السادات أعلن قبوله وقف إطلاق النار من جانب واحد ودون استشارة سوريا، وحتى دون إعلام الرئيس حافظ الأسد بقراره المفاجئ، متخطياً قرار التنسيق بين الجبهتين الذي قامت على أساسه الحرب، مما جعل سوريا بموقف صعب للغاية، إذ لم يعد بإمكانها الاستمرار بالحرب لوحدها لعدم وجود توازن للقوى بينها وبين إسرائيل مما أضطر الرئيس الأسد إلى القبول بوقف إطلاق النار مرغماً، فقد كان الاستمرار في الحرب بعد خروج مصر منها لا يعني لسوريا سوى الانتحار لا غير.
بادر حكام العراق حال موافقة سوريا على وقف إطلاق النار إلى شن الهجوم على القرار متهمين القيادة السورية بالتخاذل، وقرروا على الفور سحب قواتهم العسكرية وأعادتها إلى العراق، معرضين سوريا لخطر جدي حيث كان وقف إطلاق النار هشاً، وغير مأمون، ويشكل خطراً كبيراً على سوريا، ولاسيما وأن إسرائيل لم تلتزم بقرار وقف إطلاق النار مع مصر، واستمرت قواتها بالتقدم، واحتلال المزيد من الأراضي غرب القناة بهدف تطويق الجيش الثالث المصري في سيناء.
كانت القوت الإسرائيلية تتجاهل وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، وتتوسع للوصول إلى أبعد مسافة ممكنة حتى تمكنت من تطويق مدينة السويس، وبذلك أصبح الجيش الثالث المصري مطوقاً ، وبلغت القوات الإسرائيلية على بعد 100 كيلومتر من القاهرة ، ولم يكن أمام دبابات العدو الإسرائيلي البالغة 800 دبابة سوى 72 دبابة مصرية تدافع عن القاهرة. سارع الاتحاد السوفيتي إلى إرسال ما يزيد على 280 دبابة إلى مصر على عجل، وخلال 48 ساعة عن طريق ميناء الإسكندرية، لتمكين الجيش المصري من الوقوف أمام زحف القوات الإسرائيلية.
كما أن الرئيس اليوغسلافي [جوزيف بروس تيتو]قدم لمصر هدية تتضمن لواء مدرع كامل فوراً، كما قدمت الحكومة الجزائرية لواء مدرع كامل فوراً كذلك، وهكذا أصبح لدى مصر غرب القناة حوالي 800 دبابة تقف بوجه الدبابات الإسرائيلية لحماية القاهرة.
كان موقف الاتحاد السوفيتي الحازم الذي وصل إلى درجة استعداه لإرسال قواته العسكرية إلى مصر وسوريا لردع الهجوم الإسرائيلي، واضطرار الولايات المتحدة إلى الإيعاز لقادة إسرائيل للتوقف عن خرق قرار وقف إطلاق النار، واحتلال المزيد من الأراضي العربية.
موقف الأردن من الحرب:
لم يدخل الأردن الحرب رغم كل الضغوطات التي مارسها الشعب الأردني على حكامه بالوقوف إلى جانب سوريا، ولاسيما أن الجبهة الأردنية طويلة وتمس خاصرة إسرائيل، وقد طلب الاتحاد السوفيتي من الملك حسين الدخول في الحرب إلى جانب سوريا لتخفيف الضغط عنها، وتوجيه ضرباته إلى خاصرة إسرائيل ، إلا أن الملك حسين تجاهل الطلب السوفيتي، وعلى الضد من ذلك طلب هنري كيسنجر من الملك حسين عدم التدخل في الحرب مهدداً الأردن بالاحتلال إذا ما أقدم على ذلك.، ولذلك آثر الملك حسين عدم الدخول في الحرب، والتريث انتظاراً للنتائج التي تسفر عنها الحرب .
صدور القرار 338 لوقف الحرب:
في 22تشرين الأول 1973 صدر قرار مجلس الأمن 338 القاضي بوقف القتال، وإجراء مفاوضات بين الطرفين ، وتم ذلك بعد إجراء المشاورات بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ، حيث وصل كيسنجر إلى موسكو، وتباحث مع القادة السوفيت ، وتم الاتفاق على القرار المذكور .
إلا أن إسرائيل أخذت تخرق القرار، وتحاول التوسع واحتلال المزيد من الأراضي حتى تمكنت من تطويق الجيش المصري الثالث، ومدينة السويس، مما أثار غضب الاتحاد السوفيتي حيث سارع برجنيف بالاتصال بالرئيس الأمريكي نيكسون طالباً منه على الفور وخلال ساعتين إيقاف العمليات الحربية الإسرائيلية ، والعودة إلى خطوط 22 تشرين الأول مهدداً بالتدخل العسكري، واضطرت الولايات المتحدة على الموافقة على قرار جديد لمجلس الأمن رقم 339 يطلب من إسرائيل العودة إلى خطوط وقف
إطلاق النار في 22 تشرين الأول.
ثالثاً: الاتحاد السوفيتي يوجه إنذاراً للولايات المتحدة:
 استمرت إسرائيل في عملياتها الحربية وتوسعها مما اضطر برجنيف إلى إرسال إنذار شديد اللهجة إلى الولايات المتحدة يقول فيه:
{ إن استمرار العدوان الإسرائيلي سوف يسفر عن عواقب وخيمة إذا لم يتوقف على الفور، ونظراً لأن إسرائيل لم تلتزم بقرارات مجلس الأمن ، ونظراً كما يبدو أن الولايات المتحدة ينقصها الرغبة في التعاون بفرض تطبيقه، فإن الاتحاد السوفيتي يقرر نفسه منفرداً اتخاذ الخطوات الضرورية العاجلة لتأكيد احترام وقف إطلاق النار، فلا يمكن لإسرائيل أن تفلت من مسؤولية انتهاكها}.
وعلى الفور أمر برجنيف ثلاث فرق محمولة جواً بالتهيؤ للطوارئ، وتحرك الأسطول السوفيتي في البحر المتوسط.
وفي 25 تشرين الأول تقدم السادات بطلب إرسال قوات سوفيتية أمريكية مشتركة لغرض تثبيت وقف إطلاق النار وعودة القوات الإسرائيلية إلى مواقعها السابقة في 22 تشرين الأول، وقد أيد السوفيت الطلب لكن الولايات المتحدة رفضته، وفي نفس الوقت أخذت القطعات البحرية السوفيتية تتحرك بسرعة نحو البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، ووضعت القوات  السوفيتية في ألمانيا الديمقراطية في حالة الإنذار.
واكتشفت المخابرات الأمريكية تحرك 22 طائرة نقل أنطونوف تحمل كل منها 200 جندياً بكامل أسلحتهم وقد وصلت بوادبست في طريقها إلى مصر.
تصاعد الأزمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي:
رداً على التحركات السوفيتية أعلنت الولايات المتحدة حالة التأهب في القوات المسلحة الأمريكية للدرجة الثالثة،  ووضعت القوات الاستراتيجية في حالة الإنذار، وأخطرت الفرقة 82 المحمولة جواً والمتواجدة في ألمانيا الغربية بالاستعداد للحركة، وتم توجيه حاملة الطائرات [ روزفلت]من إيطاليا، وحاملة الطائرات أندرس في جزيرة كريت، وحاملة الطائرات جون كندي في المحيط الأطلسي بالتوجه نحو البحر الأبيض المتوسط، وقد أعلن كيسنجر قائلا: {إن أخبارنا سوف تصل السوفيت قبل وصول ردنا عليهم}، وكان هذا لا يعني سوى تحدي الولايات المتحدة للاتحاد السوفيتي، وهكذا بلغ التوتر أقصى درجاته بين المعسكرين الشرقي والغربي مهدداً في أية لحظة بنشوب حرب لا أحد يعرف مداها ، ولاسيما وأن الطرفين يمتلكان ترسانة جبارة من الأسلحة النووية باستطاعتها تدمير الكرة الأرضية .

السادات يلتقي حافظ الأسد في الكويت:
في السادس من كانون الأول جرى لقاء بين السادات وحافظ الأسد بحضور أمير الكويت ، وقد جرى عتاب شديد من قبل الأسد على قرار السادت ألإنفرادي بوقف القتال وعدم استشارة سوريا، وعدم الالتزام بالتنسيق والتفاهم الذي تم قبل الحرب، وعلى تقديم السادات لمشروعه للسلام مع إسرائيل في 16 تشرين الأول، وبالنظر للظروف الخطيرة التي كانت تمر بها سوريا، فقد تم الاتفاق بين الرئيسين السوري والمصري على فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما.
وعند عودة السادات إلى مصر ماراً بالسعودية، التقى بالملك فيصل ملك السعودية محاولاً إقناعه باستقبال وزير الخارجية الأمريكية كيسنجر، لكن الملك رفض ذلك بسبب موقفه بجانب إسرائيل، وكان حقد كيسنجر يغلي في صدره، وأضمر الانتقام من الملك فيصل عقاباً له على تخفيض إنتاج النفط حيث تم تدبير خطة لاغتياله فيما بعد .
كيسنجر في القاهرة
في 6 كانون الأول وصل هنري كيسنجر إلى القاهرة وبصحبته وفد كبير في طريقه إلى الصين، وقد اختلى مع السادات منفرداً يوم 7 كانون الأول لمدة 3 ساعات تم خلالها ترتيب الأمور معه، وجرى الاتفاق على إقامة علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة ، وتنسيقاً كاملاً معها في الشرق الأوسط وأفريقيا ، وجرى الاتفاق على قيام الولايات المتحدة بحماية نظام السادات وحمايته الشخصية.
كما جرى الاتفاق على خمس نقاط فيما يخص الحرب بين مصر وإسرائيل طرحها كيسنجر على السادات، وقد تبين فيما بعد أن هذه النقاط كانت من وضع رئيسة الوزراء الإسرائيلية [كولدا مايئير] كما ورد في مذكرات كيسنجر نفسه، وقد طلب السادات من كيسنجر أن تكون المقترحات الخمس باسم مصر وليس باسم إسرائيل أو أمريكا لكي لا يحرج أمام الشعب المصري والشعوب العربية ، كما طلب منه عدم التحدث عن موافقة مصر على عبور السفن المتوجهة إلى إسرائيل من مضيق باب المندب الذي كانت قد أغلقته مصر عند بداية الحرب.



403
العلة في الدستور
حامد الحمداني                                                   23/9/2008

الخلافات التي نشبت بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، والتي بدأت تتصاعد في الآونة الأخيرة حتى وصلت إلى التهديد باستعمال القوة لتحقيق أجندة دولة البارزاني في أبشع محاولة لاستغلال الوضع الأمني والسياسي غير المستقر في البلاد، متخذين من الدستور الذي جرى تشريعه من قبل كتلة البارزاني والطالباني من جهة وكتلة عبد العزيز الحكيم وحزب الدعوة من جهة أخرى، وبمقاطعة جانب كبير من أبناء الشعب العراقي المتمثل بالمحافظات السنية، حيث كانت قوى الإرهاب البعثية وحلفائها عناصر القاعدة تهدد كل من يشترك أو يصوت في الانتخابات الأولى، والتي مكنت قوى الإسلام الطائفي الشيعية، وقوى التعصب القومي الكردية من الاستئثار بأغلبية المقاعد في الجمعية الوطنية التي أخذت على عاتقها صياغة دستور العراق الحالي، والذي جاء في جوهره مواد الدستور الذي وضعه الحاكم الأمريكي السيئ الصيت بول بريمر، وأتاح البرلمان ذاك الفرصة أمام القوى القومية الكردية والقوى الطائفية الشيعية بزعامة عبد العزيز الحكيم لتضمين الدستور مواد وفقرات باتت أشبه ببراميل بارود تنتظر من يشعل فيها الفتيل لتندلع من جديد حرباً قومية بعد تلك الحرب الطائفية التي اجتاحت العراق على أثر جريمة تفجير مرقد الإمامين العسكري في سامراء.
ويبدو أن المصائب والويلات التي سببها الاحتلال الأمريكي للعراق جراء استشراء جرائم الميليشيات المتعددة التي ظهرت إلى العلن، وهي مجهزة بمختلف الأسلحة الحديثة، لتعيث في البلاد قتلاً وخراباً وتدميراً، ما كان الشعب العراقي يدور في خلده أن يشهد مثل هذه الجرائم المرعبة في وحشيتها وساديتها، والتي ذهب ضحيتها أكثر من 650 ألف مواطن عراقي برئ، وأدت تلك الجرائم إلى تشريد وتهجير ونزوح أكثر من 4 ملايين مواطن تاركين مساكنهم بكل محتوياتها هرباً من القتل على أيدي تلك العصابات المجرمة.
ويبدو أن السيد البارزاني لم يكن يرى في تلك الحرب الطائفية المجرمة سوى مجرد (لعب عيال) ليهدد من على قناة الحرة الأمريكية بأن الحرب الأهلية الحقيقية ستندلع من هنا [ يقصد كردستان العراق] إذا لم تعد محافظة كركوك إلى دولته العتيدة المسلحة بأسلحة الفيالق الثلاث التي استسلمت في حرب أمريكا عام 2003 .
ولم تقف شهية السيد البارزاني عند حدود كركوك لتمتد نحو نصف الموصل حيث تسيطر قوات البيشمركة على مناطق الجانب الشرقي لنهر دجلة بكل أقضيتها ونواحيها وقراها، ومن ثم لتتمدد نحو محافظة ديالى، وتستمر جنوباً حتى بدرة وجصان،بدواعي المناطق المختلف عليها!! الواردة في دستور بريمر، مستقوياً بقوات بيشمركته، وأسلحة العراق المسروقة، وبدعم الأسياد الأمريكان، مستغلاً ضعف الدولة والصراعات الجارية بين اطرافها من أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني على السلطة والثروة، معتقداً أن هذا الوضع الشاذ يمثل الفرصة الذهبية لتأسيس دولته العتيدة.
لكن السيد البارزاني يقع في خطأ جسيم إذا تصور أنه سينجح في مشروعه بتمزيق العراق إلى أشلاء ليقيم على تلك الأشلاء دولته الكردية  فالعراق واحد لا يقبل القسمة، وإن كان تمرير الدستور الذي يتمسك فيه البارزاني اليوم قد جرى بسبب الجهل الذي يعم المجتمع العراقي، وبسبب مقاطعة جانب كبير من ابناء الشعب للانتخابات الأولى من دون أن يقرأ أغلبية المصوتين محتويات الدستور، ويدرك معانيها، فقد بات الشعب العراق يدرك اليوم أن تقسيم العراق وتحويله إلى دويلات لن يمر أبداً وسيذود عن وحدته واستقلاله بكل الوسائل والسبل، ومهما غلت التضحيات في سبيل الوطن.
أن على القيادة الكردية أن تعي هذه الحقيقة لكي لا تورط نفسها، وتورط الشعب العراقي قاطبة بحرب قومية كارثية لن يربح منها مشعلوها أبداً وسيكون النصر حليف من يدافع عن وحدة الشعب والوطن.
إن الشعب الكردي شعبٌ شقيق نكن له كل المحبة والاحترام، ولقد وقف الشعب العراقي بكل قواه الوطنية إلى جانبه في نضاله من أجل الحقوق القومية، ومن أجل العدالة الاجتماعية، ومن أجل الحرية، أسوة بشقيقه الشعب العربي في العراق، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات، لكنكم أشعلتم في نفوس أبناء شعبكم روح التعصب القومي والشوفينية اللعينة بدل أن نتشروا روح المحبة والأخوة بين أبناء الشعب عرباً وأكراداً وتركمان وآشوريين، مسلمين ومسيحيين وصابئة وأيزيدية، فماذا جنيتهم من سلوك هذا السبيل سوى بعث التعصب القومي لدى الجانب العربي، وخسرتم أصدقاء الشعب الكردي من المثقفين الذين ناضلوا طوال عدة عقود جنباً إلى جنب مع أخوتهم الكرد، وتلك حقيقة ينبغي أن يدركها الجميع، فكل فعل يقابله رد فعل مساوِِ له في المقدار ويعاكسه في الاتجاه، وإن أخشى ما أخشاها، ويخشاه كل الحريصين على صيانة الوحدة الوطنية، وصيانة استقلال العراق إن يفلت زمام الوضع، وينطلق الصراع القومي الذي يهدد به البارزاني، وعند ذلك ستقع الطامة الكبرى، وستكونوا أول الخاسرين، وستضحون بكل ما تحقق للشعب الكردي الشقيق منذ أن تم فرض الحماية الجوية الأمريكية البريطانية على منطقة كردستان العراق عام 1991 وحتى اليوم.
إن التمسك بمواد وفقرات جرى فرضها بذلك الأسلوب المعروف أمر خطير يهدد الوحدة الوطنية، ولا بد من أعادة النظر بهذا الدستور بما يحقق الوحدة الوطنية، والتآخي القومي والديني والطائفي بين سائر مكونات الشعب، فالعلة بهذا الدستور، ولا بد من إعادة النظر الجذرية بمواده التي تحمل بذور الفتنة والصراع والحرب الأهلية، وسيتحمل كل من يصر على مواصلة السير في هذا الاتجاه مسؤولية إشعال الحرب الأهلية، وسيدفع الشعب العراقي بكل مكوناته الثمن باهظاً ، وبوجه خاص من يبادر بإشعال الفتيل. فالنعمل جميعاً من أجل إعادة اللحمة بين سائر مكونات شعبنا، ونبذ التعصب القومي والديني والطائفي، ولنعزز الوحدة الوطنية، ونزج قوانا الموحدة في النضال من أجل استعادة حرية واستقلال العراق، وجلاء القوات المحتلة، وإعادة بنائه من جديد، فالعراق يتسع لنا جميعا أخوة متحابين، وثرواته من الوفرة ما يجعلها قادرة على إسعاد الجميع دون تمييز إذا ما توفر له حكومة وحدة وطنية حقيقية، وبرلمان ينتخب بكل حرية وشفافيه بعيداً عن التأثيرات الطائفية والقومية، ودستور علماني يرعى ويصون الحقوق والحريات العامة والخاصة، ويحقق العدالة الاجتماعية للجميع.   
       

404
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الأخيرة 16/16


حامد الحمداني                                                      18/9/2008

أولاًً:الأحزاب الوطنية تقرر تشكيل جبهة الاتحاد الوطني:
أدركت القوى والأحزاب الوطنية استحالة تغيير الأوضاع في البلاد من دون تعاونها المشترك، وبموجب برنامج يتم الاتفاق بشأنه من قبل كافة الأطراف.
ونتيجة للمساعي المبذولة في هذا السبيل جرت لقاءات بين قادة الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة، وتم خلال تلك اللقاءات دراسة مكثفة حول السبل والوسائل الكفيلة لتحقيق أهداف الشعب وطموحاته، وإنقاذه من تلك الزمرة التي اغتصبت حقوقه وحرياته، وربطت البلاد بعجلة الإمبريالية.
 أسفرت تلك الجهود عن تشكيل {جبهة الاتحاد الوطني } في شباط من عام 1957، وتم تشكيل لجنة عليا تضم ممثلين عن تلك الأحزاب. (31)
حاول الحزب الشيوعي إشراك الحزب الديمقراطي الكردستاني في الجبهة، إلا أن تلك المحاولة لقيت المعارضة من قبل الحزبين القوميين البعث والاستقلال، ولذلك فقد اكتفي الحزب الشيوعي بالتحالف الثنائي مع الحزب المذكور. وفي 9 آذار 1957، صدر البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني، وقد استعرض البيان أسباب قيام الجبهة، وأهدافها، وقد أجمعت الأحزاب المنضوية فيها على الخطوط والأهداف الرئيسية التي ستناضل من اجل تحقيقها، والتي تم تحديدها بالبنود التالية:
1 ـ إسقاط حكومة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي.
2 ـ الخروج من حلف بغداد، وأتباع سياسة الحياد الإيجابي.
3 ـ إطلاق الحريات الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإلغاء كل ما يتعارض معها من مراسيم وتشريعات شاذة.
4 ـ إلغاء مرسوم الإدارة العرفية، وحل المجالس العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وإعادة المفصولين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم، وإلغاء مرسوم إسقاط الجنسية عن المواطنين.
5 ـ تعزيز الروابط مع البلدان العربية المتحررة.
وفيما يلي نص البيان التأسيسي الذي أعلنته اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني:
سابعاًً : نص البيان التأسيسي لجبهة الاتحاد الوطني:
أيها الشعب العراقي الكريم:

نظرة في الوضع الدولي العام : يتميز الوضع الدولي العام باشتداد الكفاح على النطاق الدولي بين الدول الاستعمارية من جهة وبين القوى الوطنية والتحررية من جهة أخرى، باتخاذ الكفاح المذكور أشكالاً جديدة بعد أن تغير ميزان القوى داخل الجبهة الاستعمارية، وبينها وبين القوى الوطنية التحررية، تغيراً حاسماً، بعد فشل العدوان الجنوني الغادر على الشقيقة مصر، وتصدع البناء الاستعماري تصدعاً خطيراً، وانكشاف زيف المواثيق والأحلاف الاستعمارية، والدور المستنكر الذي قامت به دول حلف بغداد، وخاصة [ تركيا ] و[ العراق ] في العدوان المذكور. ومن البديهي أن يحاول الاستعمار، الذي يرى في نمو القومية العربية، ونشوء كتلة الدول العربية المتحررة، وتبلور الوعي القومي للشعوب العربية،أكبر خطر على مصالحه، وأعظم عائق في إحكام طوقه الاستعماري، وأكبر ثغرة في سلسلة مواثيقه وكتله، وأحلافه.
ومن البديهي أن يحاول تجديد أشكاله، وتغيير أساليبه، والقيام بتوزيع جديد لأدوار أبطاله، ورفع شعارات جديدة تتلاءم والمواقف المستجدة المتغيرة.
وبالرغم من عدم تبلور الموقف الاستعماري الجديد، وشدة التناقضات التي تنخر في جسمه، إلا أن الخطط الأولى لهذا الوضع الجديد بدأت تتضح في محاولات مفضوحة للقضاء على الوضع السياسي الوطني في الشقيقتين مصر وسوريا،بطريق الضغط الاقتصادي المتواصل، والمؤامرات المكشوفة، وتهديدات الدول المجاورة، الضالعة في ركاب الاستعمار، والاتهامات الرخيصة الكاذبة، وحملات التهويش والتضليل، وسياسة الدس،عن طريق الرشوة وشراء الذمم، وإفساد الضمائر، ومحاولة تحويل قوات الأمن الدولية إلى قوات احتلال دائمة. هذا فضلاً عن حماية إسرائيل، وإسناد سياستها العدوانية، وتوسعها الإقليمي، والعمل على فرض الصلح معها على العرب، والتلويح بتدويل الأراضي العربية لاستخدامها كقواعد ضد حركة التحرر القومية، واندفاع الاستعمار الأمريكي للحلول محل الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط ، والاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، والاستمرار في إسناد ميثاق بغداد، ومحاولة جر الدول العربية المتحررة إليه بالضغط والتهديد والإكراه، وتكوين اتحاد استعماري جديد في المغرب العربي، وخنق القومية العربية بمنع مصادر الحياة والقوة عنها، بما في ذلك الموارد الاقتصادية والمالية، والأسلحة الدفاعية، وتدعيم المصالح النفطية في الشرق الأوسط باسم حرية التجارة والملاحة العلمية والنقل، والتآمر المكشوف على أمن الشعوب وسلامتها، ومصالحها باسم نظرية الفراغ السياسي المزعوم، وصيانة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وأخيرا ًوليس آخراً تثبيت الأوضاع الفاسدة في الشرق الأوسط ومنع أي تطور ديمقراطي لها بكل الوسائل التي ينطوي عليها [مشروع ايزنهاور] الجديد.
 ولكن بالرغم من هذه المؤامرات الاستعمارية التي استنفذت جميع أشكالها، من معاهدات غير متكافئة، إلى أحلاف عسكرية استعمارية، إلى تحالف مع [ إسرائيل ] عدوة العرب، إلى عدوان مسلح على الشقيقة مصر، نقول على الرغم من هذه المؤامرات، فقد خرجت القومية العربية من هذه المعركة منتصرة، قوية ونامية، بعد أن صقلتها التجارب، وثبتت أركانها المحنة، إذ ردّت العدوان على مصر، وألغت معاهدة قناة السويس لسنة 1954، وأرغمت الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا، وربيبتهما إسرائيل على الانسحاب، كما أنها فضحت الدولة المزعومة إسرائيل في المجالات الدولية. فبدا حق العرب واضحاً في فلسطين وسما مركزهم مشفوعاً بروح جديدة تدفعهم للنضال، وتشدهم للاتحاد.
لكن الاستعمار لن يلقِ سلاحه بسهولة، لأنه ما زال يتثبت بالبقاء في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما في العراق، تحت ستار حلف بغداد الاستعماري، مستعيناً بأذنابه الذين ربطوا مصالحهم به. إن هذا الوضع الشاذ، والمرحلة الخطيرة التي تجتازها الأمة العربية في تاريخها، تفرض على العراقيين أن يقوموا بواجبهم في الكفاح من أجل التحرر والاستقلال، فاجتمع الوطنيون، وتدارسوا الأوضاع الداخلية والخارجية، وثبتوا الأهداف التي تعبر عن هذه المرحلة نقطة ابتداء، لتحقيق الحرية والاستقلال للشعب العراقي، والسير به في موكب الأمة العربية التحرري . إن هذه الأهداف الوطنية الكبرى التي أجمع عليها العاملون في الحركة الوطنية يمكن تلخيصها بما يأتي :
1ـ تنحية وزارة نوري السعيد،وحل المجلس النيابي :
إن هذا المطلب يشكل بالبداهة الخطوة الأولى لأية سياسة وطنية محتملة، فنوري السعيد هو العميل الأول للاستعمار البريطاني، وكل الصفقات الاستعمارية الكبرى في تاريخ العراق الحديث، بل وفي الشرق الأوسط،
 شكل وزارته الحالية في صيف عام 1954 ليقوم بالدور الاستعماري المرسوم له، وعَقدَ حلف بغداد، وعمل على جرّ الدول العربية إليه، وعقد الصلح مع إسرائيل، والقضاء على القومية العربية المتحررة، وتحويل الشرق العربي إلى قلعة استعمارية كبرى، وبالرغم من جميع الوسائل الوحشية والجرائم المنكرة والمجازر الفظيعة التي ارتكبها نوري السعيد.
 وبالرغم من جميع المراسيم الكيفية، والأحكام العرفية، والمؤامرات على الدول الشقيقة، فقد أثبتت الحوادث الأخيرة فشل سياسة نوري السعيد فشلاً تاماً، فهو وإن كان قد حقق بعض أغراض الاستعمار في العراق، بتجديد المعاهدة، وشق الصف العربي، إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في ضرب الحركة القومية العربية، كما فشل في جر أي بلد عربي إلى حلفه الاستعماري، فهو لم يستطع إذن تحقيق الأهداف الاستعمارية في هذه المنطقة الحساسة من العالم .
  أن نوري السعيد، بعد فشل العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، وانكشاف مؤامراته على سوريا، وقبل ذلك على الأردن، وافتضاح دور ميثاق بغداد للقضاء على حركة التحرر العربية، وانعزاله انعزالاً تاماً في الحقلين الداخلي والدولي، سوف لن يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم الجديدة للمحافظة على المصالح الاستعمارية في العراق، والشرق العربي، وسوف يواصل مؤامراته، وتهديداته، ومناوراته في محاولة يائسة للقضاء على استقلال الدول العربية المتحررة، والذي ما انفك يخلق لها المتاعب، ويثير المشاكل باستمرار، وسوف لا يتردد عن القيام بدوره الجديد في المرحلة الجديدة للاستعمار العالمي، بعد تغير ميزان القوى داخل الجبهة الاستعمارية، وبنفس الوحشية والقسوة التي عرف بها في خدمة أسياده القدامى، وما المجلس النيابي الحالي المكون أكثره من الاستغلاليين والانتهازيين، والإمعات، والذي عين أعضاءه بأفظع وسائل التزوير والتلفيق، إلا أداة طيعة لتنفيذ المشاريع الاستعمارية، يسخره نوري السعيد كيفما أراد في خدمة المستعمرين المغتصبين، على حساب الشعب العراقي، ومبدأ حق تمثيله، فالمجلس النيابي الحالي هو أبعد ما يكون إذن عن كونه جهازاً تشريعياً مستقلاً محترماً.
لهذه الأسباب جميعاً أصبحت تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي المطلب الأول من مطالب الحركة الوطنية.

2 ـ الخروج من حلف بغداد، وتوحيد سياسة العراق مع البلدان العربية المتحررة : إن الصراع بين القوى الاستعمارية وسياسة التكتل والأحلاف الأجنبية من جهة، وبين القوى الوطنية، ومبادئ [ باندونك ] من جهة أخرى، أنعكس في الشرق العربي في صراع عنيف متواصل مستمر، واتخذ أشكالاً وألواناً شتى بين الشعوب العربية في نزعتها إلى التحرر والاستقلال بين بعض الحكومات العربية الرجعية الضالعة في ركاب الاستعمار، والحريصة على تثبيت المصالح غير المشروعة للفئات الحاكمة، والمرتبطة بمصالح الاستعمار، ولعل أكبر حدث سياسي في تاريخ الأمة العربية الحديث هو ظهور حكومات عربية استطاعت لأول مرة في تاريخنا المعاصر أن تفلت من طوق الاستعمار، وتتبع سياسة عربية مستقلة تخدم مصالح شعوبها، وتسهم في التيار المتجه بقوة نحو استقلال جميع الأمم، وتحرر الإنسان من شبح الاستغلال والاستعباد، وقد كان لهذا الحدث السياسي الخطير وقع الصاعقة على الاستعمار العالمي، فأسرع لعقد ميثاق بغداد، وركز جهوده لجر الدول العربية لهذا الحلف. ولقد قامت دول الميثاق المذكور لتحقيق مهمتها العدوانية بكل الكبائر، وآثار هذه السياسة الإجرامية ماثلة لدينا في العراق في حلّ الأحزاب السياسية، وتعطيل الصحافة الوطنية، وخنق الحركة الفكرية، والأزمة الاقتصادية الآخذة بخناق أكثرية أبناء الشعب، وفي هذه السجون والمعتقلات المملوءة بالوطنيين، وتلك الكليات والمعاهد الغاصة بالأرصاد والجواسيس، وخنق الشعب بالجاسوسية، وتبذير موارد البلاد عليها، لخدمة الدول الاستعمارية، وفي الثكنات والقلاع المحولة إلى وسائل عقاب تعذيب للشباب، وفي مجازر الحي والنجف، والموصل، وبغداد وغيرها، وفي إعدام الوطنيين، وفصل الأساتذة والطلاب والموظفين، ونفي السياسيين، ونزع الجنسية العراقية عنهم، وفي الأوضاع القائمة على الاستغلال والرشوة والفساد، وعلى النهب والسلب والتبذير والتبديد، والمحسوبية، والعنف والإكراه، وأخيراً في هذه المعاهدة الجديدة التي هُربت تهريباً تحت ستار حلف بغداد العدواني، لتجديد معاهدة 1930، ولتمكين نفوذ الاستعمار ومصالحه في العراق.
على أن الاستعمار بالرغم من فشل ميثاقه في تأدية مهمته الأساسية، وخاصة بعد انكشاف دوره المفضوح في العدوان الثلاثي على مصر، فقد بادرت الولايات المتحدة وبريطانيا وقادة الدول المنضوية تحت راية هذا الميثاق يفكرون بتغذيته بدم جديد، والعمل على إسناده بوسائل جديدة ترد له بعض الحياة، ولذلك فإن خروج العراق من هذا الميثاق الذي كان وسيلة لتمكين الاستعمار البريطاني في الشرق الأوسط، وجعل العراق قاعدة لضرب الحركات الوطنية فيه، والذي فرق كلمة العرب، وهدم التعاون العربي، الذي كنا نأمل في أن يصل إلى درجة الاتحاد، والذي شل الجامعة العربية، وربط مصير العراق بالدول الاستعمارية، ومهد للنفوذ التركي البغيض كخطوة أولى لنفوذ أوسع وأكبر، نقول أن خروج العراق من هذا الميثاق هو الشرط الأول والأساسي لكسب العراق استقلاله السياسي، وانفكاكه من القيد الاستعماري، وخروجه من عزلته المصطنعة، والالتحاق بقافلة الدول العربية المتحررة،  ومساهمته في تحرير الشعوب العربية وعمله كقوة إيجابية من القوى العاملة على وحدة الأمة العربية .

3 - مقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره،وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي :
إن هذا المطلب الأساسي المتعلق بموقف العراق من السياسة الدولية هو امتداد ضروري وطبيعي للمطلب السابق الذي يتعلق بموقفه من السياسة القومية.
 وقد سبق أن المحنا في أول هذه الكلمة أن الاستعمار يتخذ بالضرورة أشكالاً مختلفة، وألواناً شتى، حسب تطور ميزان القوى الدولية.
إننا نشجب ميثاق بغداد، لأنه مظهر جوهري من مظاهر الاستعمار، ولكن الاستعمار أتخذ وسيتخذ حتماً مظاهر جديدة أخرى اقتصادية وسياسية وعسكرية وفكرية، وواجب الحركة الوطنية أن تتابع حركة التطور والأساليب الاستعمارية بكل يقظة وحذر، وأن تكشف جوهرها وخطرها، وأن تطور هي الأخرى أساليب عملها وكفاحها حسب تطور ظروف المقاومة للاستعمار، بسائر ألوانه وأشكاله، وإدراك جوهره الحقيقي، وما يخفيه وراء شعاراته المضللة، واعتباره منظمة  عالمية عدوانية، رغم الخلافات المحتدمة بين أجزائه، وإتباع سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي، بتجنيب البلاد من الانغمار في تيار الحرب الباردة بين المعسكرات الدولية، وانتهاج سياسة مستقلة في الحقل الدولي مستوحاة من مصالح الأمة العربية، بعيدة عن مؤامرات الاستعمار، وإغراءاته، وتهديداته، وحذراً من كتله ومواثيقه، مدركة لزيف مساعداته، وخبرائه، مستندة لمصالح الشعوب العربية التي لا تطمح لغير الاستقلال والحرية، والرفاه والسلم والازدهار المادي والأدبي في جو عالمي هادئ خالٍ من التوتر والعدوان .

4 ـ إطلاق الحريات الديمقراطية:
إن مبدأ سيادة الشعب انتزعته الشعوب منذ قرون، وكسبت بتحقيقه فعلاً حقوقاً كثيرة، منها حق تمثيل الشعب لنفسه عن طريق الانتخاب الحر المباشر، والعمل لهذا الغرض في جو تكتنفه الحريات، وتعمه الديمقراطية المبنية على أساس حرية التنظيم الحزبي، وحرية التعبير والرأي والضمير، وعلى أساس المسؤولية الوزارية.
في مثل هذه الأجواء الديمقراطية فقط يمكن أن تتيح الشعوب لنفسها محيطاً تنموا فيه القابليات، وتتضاعف الثروات، ويخطو المجتمع إلى أمام في مدارج الرقي والمدنية،  فالحريات الديمقراطية هي الإطار العام الذي لا يمكن للحياة العامة أن توجد وتتحرك وتنمو وتتطور وتتفاعل، وتتوالد بدونه. فالمراسيم الكيفية غير الدستورية، وإسقاط الجنسية عن أحرار العراق المطالبين بالحق والكرامة وإلغاء الأحزاب، وتعطيل الصحف، وتزييف الانتخابات ودكتاتورية الفرد، وكم أفواه الناس، وخنق الحريات، كلها وسائل سلكتها وزارة نوري السعيد لتعيد العراق إلى عهد الطغيان والعبودية، إنها سموم تميت الديمقراطية، وتمتهن الكرامة، وتقضي على القومية. ولذلك فالقضاء على هذا الفساد السياسي، وإعادة الحكم الديمقراطي، بإطلاق الحريات الدستورية، هما الشرط الأول لبناء حياة سياسية صحيحة.
 إن الحريات الديمقراطية تؤلف وحدة لا يمكن أن تتجزأ، فيجب أن تشمل حرية الاجتماع، وتأليف الأحزاب، والتنظيم النقابي، والجمعيات، وحرية الانتخاب، والحرية الفكرية بسائر ألوانها، والحريات الشخصية والمدنية .... الخ. كما يجب أن تكون عامة شاملة يتمتع بها جميع المواطنين دون تمييز. إن ضمان هذه الحريات الدستورية، وإلغاء ما يتعارض معها من مراسيم شاذة مطلب وطني أساسي للشعب.
5 ـ إلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين والموقوفين، والسياسيين، وإعادة المدرسين والطلاب والموظفين والمستخدمين المفصولين لأسباب سياسية:
إن هذا المطلب الأخير،وإن كان نتيجة حتمية يمكن أن تدخل في نطاق المطلب السابق، إلا أن طبيعته الآنية المستعجلة، وكثرة عدد ضحايا الإرهاب السعيدي، والتعذيب والإرهاب الذي لازال يلاقيه الألوف من ضحايا الحركة الوطنية مع عائلاتهم وذويهم، يجعل المطالبة بتحقيق هذا المطلب الملح، مظهراً من مظاهر العمل على إزالة المظالم التي قامت بها وزارة نوري السعيد ضد الوطنيين.

أننا ندعو جميع أفراد الشعب العراقي الكريم، وجميع العاملين في الحركة الوطنية إلى وحدة التكتل، والالتفاف حول مطالب الأمة الكبرى . ندعوهم إلى نبذ الخلافات، والانشقاقات بمختلف أشكالها من صفوف الحركة الوطنية، والكفاح المشترك من أجل تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي، والخروج من حلف بغداد، وتوحيد سياسة العراق الخارجية مع البلاد العربية المتحررة، ومقاومة التدخل الاستعماري بشتى أشكاله ومصادره، وسلوك سياسة الحياد الإيجابي وإطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية، وإلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين، وإعادة المفصولين بسبب نشاطهم الوطني، والنصر لا محالة للشعب .                       
                                                 بغداد في 9 آذار 1957
                                            اللجنة العليا لجبهة الاتحاد الوطني


ثامناً: رد فعل السلطة الحاكمة على بيان جبهة الاتحاد الوطني
أحس البلاط، ومن ورائه بريطانيا،أن الشعب العراقي لم يعد يحتمل استمرار حكومة نوري السعيد، وأن البلاد قد أصبحت في حالة من الغليان الشديد تنذر بمخاطر جسيمة على بقاء واستمرار النظام الملكي، ولاسيما بعد اليأس الذي أصاب الشعب العراقي، وأحزابه الوطنية التي سد عليها نوري السعيد كل السبل لممارسة العمل السياسي في أجواء ديمقراطية، وامتهانه الدستور، وتعليق البرلمان وإصدار المراسيم الجائرة، واستمرار الأحكام العرفية لسنوات طويلة من عمر النظام الملكي، مما دفع الأحزاب الوطنية إلى التلاقي، والبحث في سبل العمل المشترك ضد طغيان نوري السعيد وعبد الإله، ومن ثم إعلان تشكيل جبهة الاتحاد الوطني، ولجوئها إلى العمل السري، بعد إلغاء الأحزاب السياسية من قبل حكومة السعيد.
كما أدركت بريطانيا أن العراق قد أصبح معزولاً تماماً عن العالم العربي بعد عقده ميثاق بغداد، وانغمار حكومة السعيد في التآمر على سوريا ومصر، وموقفها المشين من العدوان الثلاثي عليها، وجدت أن من الضروري إبعاد نوري السعيد مؤقتاً عن السلطة،من أجل امتصاص الغضب الشعبي، ومحاولة فك العزلة عن العراق، فأشارت إلى السعيد بتقديم استقالة حكومته، وتشكيل حكومة جديدة تعمل على امتصاص الغضب الشعبي العارم، وتم ذلك بالفعل في 8 حزيران 1957، وقبلت الاستقالة، وكلف الملك السيد علي جودت الأيوبي في 20 حزيران بتشكيل الوزارة .
لكن النظام لم يستطع خداع الشعب، ولا أحزابه الوطنية بعد كل التجارب المريرة التي مرّوا بها مع الزمرة المتسلطة على حكم البلاد، ولاسيما بعد كل الانتفاضات التي خاضها الشعب ضد السلطة حيث كانت تحاول خداع الشعب بتأليف حكومة تهدئة تتولى امتصاص الغضب الشعبي، وتهيئ الأجواء من لعودة نوري السعيد وزمرته إلى الحكم من جديد.   

ثانيا:اشتداد التآمر على سوريا يدفعها لإقامة الوحدة مع مصر

نتيجة لتصاعدت وتائر التآمر على سوريا من قبل حكومة بغداد، بالاشتراك مع حلف بغداد، أدرك قادة سوريا أن الإمبرياليين قد عقدوا العزم على إسقاط النظام الديمقراطي فيها، وضمها لمخططاتهم، ولذلك فقد تداعى رئيس الجمهورية [شكري القوتلي ] ورئيس الوزراء، والوزراء، وقادة الجيش، والقادة السياسيين لدراسة الموقف، والأخطار الجسيمة المحدقة بسوريا، وكان قرارهم الحاسم العمل على قيام وحدة فورية مع مصر، وبأسرع ما يمكن.
وعلى أثر ذلك القرار لقادة سوريا، توجه على الفور وفد سوري إلى مصر برئاسة الرئيس شكري القوتلي، وعضوية رئيس الوزراء، وقادة الجيش، وعدد من السياسيين، وأجرى الوفد مباحثات شاملة حول خطورة الوضع في سوريا، ومؤامرات الإمبرياليين، طارحين على القيادة المصرية إقامة الوحدة الاندماجية بين البلدين بأسرع ما يمكن . (1)
كان ذلك الطلب مصدر سرور كبير للرئيس عبد الناصر، الذي كان يحلم بأن يوحد العرب في دولة قوية، قادرة على الصمود بوجه المخططات الإمبريالية.
 ولم تكد تمضِ سوى أيام قلائل حتى جرى الاتفاق على كل شيء، وتم الإعلان عن قيام وحدة اندماجية كاملة بين سوريا ومصر في 4 شباط 1958، والتي أصبحت تعرف باسم{الجمهورية العربية المتحدة }، وبايع الرئيس شكري القوتلي الرئيس جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية الوليدة، وجرى تأليف وزارة الوحدة التي ضمت وزراء من كلا البلدين، كما جرى تأليف حكومتي الإقليمين.
وبدأ العمل بنشاط لتوحيد المؤسسات المدنية والعسكرية، وأصبح البلدان بالفعل بلداً واحداً، رغم عدم وجود حدود مشتركة بين البلدين.
لقد جرت نتيجة قيام الوحدة بصورة مستعجلة انعكاسات سلبية خطيرة أثرت على مستقبل تلك الوحدة، وحملت بذور فشلها. إن الوحدة هي حلم كل عربي محب لأمته، لكن الوحدة تلك كانت قد أهملت أهم جانب في حياة المجتمعين السوري والمصري التواقين للحريات الديمقراطية التي كانت مهملة في مصر، والتي صفيت في سوريا بعد قيام الوحدة، وهذا ما حدا بالقوى الديمقراطية في سوريا، وبشكل خاص الحزب الشيوعي السوري الذي كان يتمتع بنفوذ سياسي كبير بين الجماهير السورية، بانتقاد أسلوب الوحدة، والمطالبة بضمان قيام حريات ديمقراطية حقيقية، ومؤسسات دستورية لا غنى عنها، وقد أدى هذا الموقف إلى قيام السلطة بحملة مطاردة للشيوعيين والتنكيل بهم، مما أضر ضرراً بليغاً بشعبية الرئيس عبد الناصر.
 ولو لم يتبع عبد الناصر ذلك الطريق، وخلق نظاماً ديمقراطياً حقيقياً لما سقطت تلك التجربة الوطنية، ولكان العراق الذي تحرر بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 قد ألتحق بركابها بكل تأكيد، ولكانت الوحدة العربية قد قطعت شوطاً كبيراً في تحقيق حلم الأمة العربية.
ولكن المؤسف إن عبد الناصر أتخذ طريقاً آخر، طريق قمع الحريات السياسية للشعب دون أي مبرر، وشن على الحزب الشيوعي في سوريا ومصر حملة شعواء، مما دفع بالصراع بين عبد الناصر والشيوعيين أكثر فأكثر، وتطور ذلك الصراع فيما بعد ليشمل كل القوى السياسية في سوريا، بما فيها القوى التي ساهمت مساهمة فعالة في قيام الوحدة، وأدى بالتالي إلى فشل الوحدة، بعد أربعة أعوام على قيامها.
ولا شك في أن القوى الإمبريالية كان لها دور كبير في إفشال ذلك الحلم الجميل، من خلال السموم التي كانت تبثها حول الوحدة والتباكي على الديمقراطية، لا حباً بالشعب السوري، ولا إيماناً بالديمقراطية، وإنما أرادت فسخ هذه الوحدة بكل الوسائل والسبل، وحركت عملائها للعمل على تخريب الوحدة، مستفيدة من الأخطاء التي رافقت قيامها، نظراً لكونها كانت تشكل أكبر خطر على المصالح الإمبريالية في الشرق العربي.
وبالرغم من كل ذلك فقد حالت الوحدة دون وقوع العدوان على سوريا وابتلاعها، وضمها للمخططات الإمبريالية، وضاع حلم عبد الإله بعرش على سوريا، بل وجعل النظامين العراقي والأردني يرتعبان مما يمكن أن تخبئه لهما الأيام بعد ذلك المد الثوري العربي الوحدوي الذي تصاعد ليشمل العالم العربي أجمع، كما أن الوحدة جعلت الإمبرياليين يضربون أخماساً بأسداس، كما يقول المثل، فليس أكثر ما يهدد مصالحهم في المنطقة من قيام وحدة عربية صحيحة وصادقة، وعلى أسس قويمة.
لقد أقلقت الوحدة المعلنة الإمبرياليين كثيراً، ولذلك فقد صممت على إجهاضها بكل الوسائل والسبل، ومنع قيام أي وحدة حقيقية تحقق أماني الأمة العربية. لقد كانت الوحدة تشكل خطراً على أحلام إسرائيل التوسعية، بل كانت تشكل تطويقاً لها، وخطراً على وجودها وبقائها، ولذلك كان هم الولايات المتحدة وحلفائها العمل على إفشالها، وفصم عراها.
 إن فشل تجربة الوحدة يقع على عاتق القيادة المصرية في جانب كبير منه، حيث أن قمع الحريات الديمقراطية التي ضحى من أجلها الشعب السوري كثيراً، قد أساء للوحدة، وجعل القوى السياسية، والشعب السوري يتخلون عنها، ويعملون على فصمها .
غير أننا يجب أن لا ننسى الجهود التي بذلتها الإمبريالية لتشويه صورة الوحدة، وإبراز كل سلبياتها، دون إيجابياتها، والعمل على هدمها بكل الوسائل المتاحة.
ولابد أن أشير هنا إلى موقف الشعب العراقي بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 الخالدة من الوحدة، ففي الأيام الأولى للثورة، رفع القوميون، والبعثيون شعار الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، دون الالتفات إلى تلك السلبيات التي رافقت الوحدة السورية المصرية، والتي قامت بصورة مستعجلة، وفي الوقت نفسه رفع الشيوعيون والديمقراطيون شعار الاتحاد الفدرالي، تجنباً للأخطاء التي وقعت بها الوحدة، بالنظر لاختلاف الظروف السياسية، والاقتصادية، ووجود قوميات متعددة في العراق . سببت تلك المواقف في قيام صراع سياسي عميق شق وحدة الشعب وقيادة الثورة معاً، وكان ذلك الصراع سبباً لأكبر انتكاسة عرفها شعب العراق في تاريخه الحديث.

ثانياً:العراق يرد بإقامة الاتحاد الهاشمي بوحي من بريطانيا:

لم تكد سوريا ومصر يعلنان قيام الوحدة بينهما، حتى بدأ النظامان الهاشميان في بغداد وعمان يفقدان صوابهما، فقد كان وضع النظامين قلقاً جداً، والحركة الثورية في كلا البلدين على أشدها، وبشكل خاص في العراق، الذي خاض شعبه خلال فترة زمنية قصيرة ثلاث معارك مع النظام، وكاد يسقطه.
 لقد خاض الشعب معارك وثبة كانون المجيدة عام 1948، ومعارك وثبة تشرين المجيدة عام 1952، وانتفاضة عام 1956، أبان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة، فقيام الوحدة بين سوريا ومصر، وتدفق المد الثوري العربي التحرري من المشرق إلى المغرب، حشر النظامين الهاشميين في زاوية حرجة، لا يعرفان كيفية الخروج منها.
 لقد رفض النظامان الاعتراف بالوحدة، وتجنب السفيران العراقي والأردني تقديم أوراق اعتمادهما لكي لا يكون الاعتراف قانونياً، وتوجه النظامان إلى الولايات المتحدة وبريطانيا يطلبان الدعم والمشورة معاً. ولاشك أن الإمبرياليين كانوا يشعرون فعلاً بقلق كبير عما يمكن أن تؤول إليه الأمور بعد الوحدة، وإمكانية امتدادها ، ولذلك عقدوا العزم على تطويقها، وإفشالها،والقضاء عليها. (2)
كانت الخطوة الأولى في هذا السبيل هي حماية النظامين الهاشميين في العراق والأردن، ولذلك أشارت بريطانيا إلى ضرورة قيام اتحاد هاشمي بين البلدين لحماية النظام الأردني الضعيف نسبيا ،عن طريق استدعاء قوات عراقية لترابط في الأردن تحسباً لكل طارئ.
لقد أقترح وزير الخارجية البريطاني [ سلوين لويد ] خلال الاجتماع الوزاري لحلف بغداد المنعقد في اسطنبول ما يلي : (3)
1 ـ قيام اتحاد بين العراق والأردن والسعودية، ليكون أحسن رد على الوحدة المصرية السورية.
2 ـ تشجيع المقاومة السورية، وبث الدعايات لهدم الوحدة، والقيام بعمل عسكري لهدم هذه الوحدة إذا اقتضى الأمر. فقد سارع الملك حسين إلى إيفاد وزير بلاطه [ سليمان طوقان ] إلى بغداد، بناء على اقتراح سلوين لويد، وحمله رسالة إلى الملك فيصل وعبد الإله يدعوهما مع بعض وزرائهما إلى عمان للنظر في موضوع الاتحاد.
وفي 11 شباط 1958 طار الملك فيصل، وبصحبته وزراء الخارجية والمالية والعدلية السادة برهان الدين باش أعيان ونديم الباجه جي، وعبد الرسول الخالصي، ثم لحق بهم توفيق السويدي، ورئيس أركان الجيش رفيق عارف، ورئيس الديوان الملكي عبد الله بكر، وبقي الوصي في بغداد في بادئ الأمر لينوب عن الملك، إلا أنه غادر بعد ذلك إلى الأردن ملتحقاً بالركب، في 13 شباط 1958.
و جرت في عمان اجتماعات مطولة بين الطرفين انتهت إلى التوصل إلى قيام {الاتحاد العربي }!! بين القطرين اعتقاداً منهما أن هذا الاتحاد سيكون خير ضامن للعرشين الهاشميين في العراق والأردن، لكنه لا يعدو أن يكون في الحقيقة سوى رداً على الوحدة السورية المصرية، بإيعاز بريطاني ـ أمريكي. (4)
الإعلان عن قيام الاتحاد العربي :
في 14 شباط 1958 صدر بيان مشترك أذيع من محطتي إذاعة بغداد وعمان يعلن عن قيام ما دعوه بالاتحاد العربي، وهذا هو نصه :
بلاغ مشترك :
تلبية لدعوة حضرة صاحب الجلالة الملك حسين بن طلال، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، حضر إلى عمان يوم الثلاثاء المصادف 11 شباط 1958 حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل الثاني ملك العراق المعظم، وحضر أيضاً يوم الخميس الموافق 13 شباط حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله، ولي العهد المعظم .
وقد عُقدت اجتماعات عدة كانت تظللها ذكرى الثورة العربية الكبرى، وأهدافها، خلال هذه المدة برئاسة جلالتهما، وحضور سموه الملكي، وحضرها عن الجانب العراقي كل من أصحاب الفخامة والمعالي السادة  [توفيق السويدي]عضو مجلس الأعيان، و[برهان الدين باش أعيان] وزير الخارجية، [ونديم الباجه جي] وزير المالية، و[عبد الرسول الخالصي] وزير العدل، و[عبد الله بكر] رئيس الديوان الملكي، و[بهاء الدين نوري] سفير العراق في عمان، والفريق الركن[رفيق عارف] رئيس أركان الجيش.
 وعن الجانب الأردني كل من أصحاب الفخامة والمعالي، والعطوفة السادة [إبراهيم هاشم ]،رئيس الوزراء،و[سمير الرفاعي ]،نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، و[سليمان طوقان ]، وزير البلاط، و[خلوصي خيري ]، وزير الاقتصاد الوطني،و[ أحمد طراونة ]،وزير التربية والتعليم والعدلية،و[بهجت التلهوني] رئيس الديوان الملكي الأردني، و[عاكف الفائز] وزير الدفاع والزراعة،  و[فرحان شبيلات]،سفير الأردن في بغداد و[الفريق حابس المجالي ]،رئيس أركان الجيش الأردني، واللواء [صادق الشرع ]، ومعاون رئيس أركان الجيش .
وكانت نتيجة المباحثات التي جرت في تلك الاجتماعات حول الاتحاد بين المملكتين العراقية والأردنية أن تم التوصل بين الطرفين إلى عقد اتفاق لقيام [ الاتحاد العربي ] بين الدولتين الذي أعلن اليوم.
صدر في يوم الجمعة 24 رجب 1377 الموافق 14 شباط 1958، في قصر بسمان العامر بعمان. 
ثالثاً : نص اتفاق الاتحاد العربي : (6)المقدمة:
لما كانت الثورة العربية الكبرى التي قادها جلالة المنقذ الأعظم [الحسين بن علي] إيذاناً ببزوغ فجر جديد للأمة العربية تمثلت بالتضحية والفداء في سبيل تحرير الوطن العربي الكبير، وتوحيد شعوبه وأقطاره، لاستعادة مكانة العرب بين أمم العالم، والمساهمة في تقدم الحضارة الإنسانية، ولما كانت تلك الثورة المباركة قد انبثقت عن إرادة العرب في الحرية والوحدة، مستندة في ذلك إلى ماضيها المجيد، وإيمانها بنفسها، وبرسالتها القومية الخالدة، ولما كانت رسالة الثورة العربية التي قضى باعثها في سبيلها، قد انتقلت إلى الأبناء والأحفاد، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، لتبقى المشعل الذي يهدي الأمة العربية في سيرها نحو أمانيها المنشودة في الوحدة الشاملة المستكملة لجميع أسباب الحرية والسيادة والعزة، لاستعادة الأمجاد، والمحافظة على التراث والمقدسات، والتطلع إلى مستقبل مشرق في ظلال هذه الوحدة المباركة، فقد قررت الدولتان الهاشميتان إنشاء اتحاد بينما يقوم على هذه الأهداف السامية، وتحقيقاً لهذه الغايات والأماني القومية، تم الاتفاق بين الطرفين على ما يلي :
1ـ ينشأ اتحاد عربي بين المملكة العراقية والمملكة الأردنية الهاشمية باسم [الاتحاد العربي] اعتباراً من يوم الجمعة 24 رجب 1377هجرية والموافق ليوم 14 شباط  1958 ميلادية، ويكون هذا الاتحاد مفتوحاً للدول العربية الأخرى التي ترغب للانضمام إليه.
2ـ تحتفظ كل من الدولتين بشخصيتها الدولية المستقلة، وسيادتها على أراضيها، ونظام الحكم القائم فيها.
3ـ تكون المعاهدات، والمواثيق، والاتفاقات الدولية التي سبق أن ارتبطت بها كل من الدولتين قيل قيام الاتحاد بينهما مرعية بالنسبة للدولة التي عقدتها، وغير ملزمة للدولة الأخرى.
أما المعاهدات والمواثيق والاتفاقات الدولية التي ستعقد بعد قيام الاتحاد، والتي تدخل ضمن موضوعات الاتحاد من اختصاص وسلطة حكومة الاتحاد.
 4ـ اعتباراً من تاريخ الإعلان الرسمي لقيام الاتحاد، تنفذ إجراءات الوحدة الكاملة بين دولتي الاتحاد في الأمور التالية :
أ ـ وحدة السياسة الخارجية والتمثيل السياسي .
ب ـ وحدة الجيش العراقي والجيش الأردني .
ج ـ إزالة الحواجز الجمركية بين الدولتين، وتوحيد القوانين الجمركية.
د ـ توحيد مناهج التعليم.
5ـ يتفق الطرفان بأسرع وقت على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوحيد النقد، وتنسيق السياسة المالية والاقتصادية بين الدولتين.
6ـ عندما تقتضي الظروف، ومصلحة الاتحاد، توحيد أي أمر من الأمور الأخرى، غير الواردة في المادة الرابعة، تتخذ الإجراءات اللازمة بموجب دستور الاتحاد، لإدخال ذلك الأمر ضمن اختصاص وسلطات حكومة الاتحاد.
7ـ يكون علم الثورة العربية علم الاتحاد، وعلماً لكل من الدولتين.
8ـ أـ تتولى شؤون الاتحاد حكومة اتحادية تتألف من مجلس تشريعي، و
 سلطة تنفيذية.
  ب ـ ينتخب كل من مجلس النواب العراقي والأردني، أعضاء المجلس التشريعي من بين أعضائهما بعدد متساوي من الدولتين.
 ج ـ يعين أعضاء السلطة التنفيذية وفق أحكام دستور الاتحاد، لتولي الأمور التي تدخل ضمن اختصاص حكومة الاتحاد.
9 ـ يكون ملك العراق رئيساً لحكومة الاتحاد، وفي حالة غيابه، لأي سبب كان، يكون ملك الأردن رئيساً لحكومة الاتحاد، ويحتفظ كل من الملكين بسلطاته الدستورية في مملكته، وعند انضمام دولة أخرى إلى الاتحاد، يعاد النظر في وضع رئاسة الاتحاد حسب مقتضيات الأمور.
10 ـ يكون مقر حكومة الاتحاد بصورة دورية في بغداد لمدة ستة أشهر، وفي عمان لمدة ستة أشهر أخرى.
11ـ أـ تضع حكومة الاتحاد دستوراً للاتحاد، وفق الأسس المبينة في هذا
الاتفاق، ويعدل دستور كل من الدولتين إلى المدى والحدود التي تقتضيها أحكام دستور الاتحاد .
 ت ـ تتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لإقامة حكومة الاتحاد، ووضع دستور الاتحاد في مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر من تاريخ توقيع هذا الاتفاق.
12ـ يبرم هذا الاتفاق وفق الأصول الدستورية لكل من الدولتين.
صدر عن قصر بسمان العامر في عمان، في يوم الجمعة 24 رجب 1377 هجرية، المصادف ليوم 14 شباط 1958 ميلادية.

لقد كان واضحاً أن هذا الاتحاد الذي أقيم على عجل ـ بعد عشرة أيام من قيام الوحدة بين سوريا ومصر ـ لم يكن في الحقيقة سوى رداً على هذه الوحدة التي هزت أركان النظامين الهاشميين، مما حدا ببريطانيا والولايات المتحدة إلى حثّ الملك حسين، والملك فيصل الثاني على الإسراع بإقامة هذا الاتحاد، خوفاً من المد الثورة الوحدوي الذي اجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وهدد بشكل جدي بقاء واستمرار هذين النظامين المرتبطين بالإمبريالية أمام ذلك المد الجارف . كما جرت محاولات لجر المملكة العربية السعودية لهذا الاتحاد، إلا أن الحكام السعوديون الذين كانوا لا يشعرون بالارتياح للهاشميين، ولاسيما بعد أن أنتزع عبد العزيز آل سعود الحكم منهم في الحجاز ونجد، منعهم من الإقدام على اتخاذ على هذه الخطوة. (7)
ولاشك أن للصراع البريطاني ـ الأمريكي على نفط العرب كان له دور في ذلك، فالولايات المتحدة وإن كانت لها مصالح مشتركة مع بريطانيا، إلا أنها كانت ترمي إلى إزاحة السيطرة البريطانية المطلقة على منطقة الخليج، وهذا ما جرى فعلاً، حيث استطاعت الولايات المتحدة أزاحتها شيئاً فشيئاً عن المنطقة، ليصبح لها حصة الأسد في نفط الخليج .
ولابد أن أشير هنا إلى أن قيام الاتحاد بين المملكتين قد قوبل بكل برود، وعدم اهتمام ليس من قبل الشعبين العراقي والأردني فحسب، بل من سائر الشعوب العربية، على عكس ما جرى حين قيام الوحدة بين سوريا ومصر، حيث اجتاحت العالم العربي موجة عارمة من الأفراح بقيامها لأن الشعوب العربية كانت مدركة أن تلك الوحدة كانت موجهة ضد المؤامرات الإمبريالية على العرب، في حين كان واضحاً تماماً أن الاتحاد الهاشمي، هو اتحاد ملوك، لا اتحاد شعوب، اتحاد اقتضته مصالح الإمبرياليين وربيبتهم إسرائيل، لكي يقف سداً بوجه المد الثوري الوحدوي العربي  التواق للتحرر من السيطرة الإمبريالية. (8)
ورغم كل ما خططه الإمبرياليون، فقد كان المد الثوري الجارف أقوى منهم ومن مخططاتهم، ولم يستطع ذلك الاتحاد الصمود سوى خمسة أشهر فقط، فقد انهار النظام الملكي في العراق خلال ساعات، أمام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة، وسقط ذلك الاتحاد المسخ، واضطر الإمبرياليون إلى إنزال قواتهم العسكرية في الأردن ولبنان، لحماية تلك الأنظمة التي صنعوها في هذين البلدين، ولمحاولة الاعتداء على العراق، وإجهاض الثورة.
لكن أحلامهم باءت بالفشل، بعد الدعم الحاسم من قبل الشعب العراقي، والجمهورية العربية المتحدة، والاتحاد السوفيتي، وسائر الشعوب العربية للثورة، واضطر الإمبرياليون إلى تبديل خططهم، وتكتيكاتهم، ومحاولة التآمر الخفي،بالتعاون مع عملائهم، ورجالهم ، ومرتزقتهم لإسقاط النظام الجديد في العراق، واغتيال الثورة بعد بضعة أعوام .

رابعاً: تصاعد التوتر في المنطقة، وعودة نوري السعيد للحكم
بالنظر للتطورات التي حصلت في المنطقة، بعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر، وما سببته تلك الوحدة من قلق بالغ، ليس للنظامين العراقي والأردني فحسب، بل للإمبريالية ومشاريعها ومخططاتها في المنطقة، ولإسرائيل،لذلك وجد الإمبرياليون البريطانيون والأمريكيون أن خير من يستطيع تولي الأمور في العراق في ذلك الوقت هو نوري السعيد ـ رجل الإمبريالية الأول في المنطقةـ وهكذا جرى الإيعاز إلى عبد الوهاب مرجان لتقديم استقالة حكومته بذريعة ضرورة حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة، وإجراء تعديلات على الدستور العراقي، اقتضاها قيام الاتحاد الهاشمي.
لكن الحقيقة هي  أن رئيس الوزراء [ عبد الوهاب مرجان ] رفض خطط عبد الإله ونوري السعيد بإرسال الجيش العراقي للاعتداء على سوريا، وقلب نظام الحكم فيها، مما أثار غضب عبد الإله ونوري السعيد اللذان ظنا أن الظروف مؤتية للعدوان على سوريا، وتحقيق  حلم عبد الإله بعرش على سوريا، وأن موقف مرجان يحبط طموح عبد الإله فأوعز إلي  مرجان بتقديم استقالة حكومته. (9)
وهكذا تقدم عبد الوهاب مرجان باستقالة حكومته إلى الملك فيصل في 2 آذار 1958، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الرابعة عشرة له منذ تأسيس النظام الملكي، وجاءت الوزارة على الوجه التالي : (10)
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، و وزيراً للدفاع.
2 ـ فاضل الجمالي ـ وزيراً للخارجية .
3 ـ سعيد قزاز ـ وزيراً للداخلية .
4 ـ جميل عبد الوهاب ـ وزيراً للعدلية .
5 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد .
6 ـ عبد الكريم الازري ـ وزيراً للمالية .
7 ـ سامي فتاح ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
8 ـ محمد مشحن الحردان ـ وزيراً للزراعة .
9 ـ عبد الحميد كاظم ـ وزيراً للمعارف .
10 ـ عبد الأمير علاوي ـ وزيراً للصحة .
11 ـ صالح صائب الجبوري ـ وزيراً للمواصلات والأشغال .
12 ـ رشدي الجلبي ـ وزيراً للأعمار .
14 ـ برهان الدين باش أعيان ـ وزيراً بلا وزارة .
15 ـ محمود بابان ـ وزيراً بلا وزارة .
16 ـ رابح العطية ـ وزيراً بلا وزارة .
وقد أعلن نوري السعيد فور تأليفه للوزارة أن هذه الوزارة تألفت في ظروف خاصة ومعلومة يجتازها العراق على وجه خاص، والبلاد العربية بوجه عام، وأن مهمتها ستكون العمل على دعم الاتحاد الهاشمي، وتقويته بجميع الوسائل الممكنة، وتثبيت الاستقرار في البلاد، والأمر المؤكد أن نوري السعيد قد عاد إلى الحكم من جديد بسبب قيام الوحدة بين سوريا ومصر، وما شكلته من مخاطر على النظام في العراق والأردن ولبنان وإسرائيل، وجاء السعيد يحدوه الأمل في تقويض تلك الوحدة وفصم عراها، حتى لو تطلب الأمر التدخل العسكري ضد سوريا، بدعم وإسناد من أسياده الإمبرياليين.
ويقول [ ارسكين تشايدلرز] في كتابه [ الحقيقة عن العالم العربي ] :
{توصل نوري السعيد ،الذي كان على توافق تام مع كميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية،إلى قراره الذي قُدر له أن يولد ميتاً، وهو الدخول إلى سوريا بقوة عسكرية عن طريق الأردن للقضاء على الوحدة السورية المصرية، والعمل على سحق الثورة في لبنان ضد نظام كميل شمعون. (11)
لقد أكد رئيس الوزراء السيد عبد الوهاب مرجان أهداف وخطط نوري السعيد تلك للسيد عبد الرزاق الحسني حيث قال : (12)
{ لما رجع نوري السعيد من اجتماع ميثاق بغداد الذي عقد في أنقرة، أجتمع بي وبولي العهد عبد الإله، ورئيس الديوان الملكي عبد الله بكر، وقال: {إن سوريا مقبلة على ثورات، وإن الواجب على العراق إسناد سوريا، وإن أدى الأمر إلى تدخل الجيش العراقي، فأجبته أني لا أرى من المصلحة زج جيش العراق في أحداث سوريا الداخلية، وإن أية حكومة عراقية توعز إلى جيشها بالذهاب إلى سوريا سينقلب عليها}. فاستغرب نوري السعيد هذه المفاجأة وسألني قائلاً :
{من جاءك بهذا الخبر؟ فقلت له إنه مدير الأمن العام [ بهجت العطية] فأنكر السعيد صحة ذلك، وكان المطلوب أصلاً إرسال جيش عراقي الى الأردن للوقوف على حدود سوريا والتدخل عند تأزم الساعة}. 
استقبل الشعب العراقي وزارة السعيد بوجوم وقلق شديدين، فقد عوده السعيد عند ما ألف جميع وزاراته الثلاث عشرة السابقة أنه جاء لينفذ مهام خطيرة أوكلها له أسياده البريطانيون،  وأنه مقدم على المزيد من الانتهاكات لحقوق وحريات الشعب، وتشديد الخناق عليه.
وكما أسلفنا عند استعراضنا للفترات التي حكم فيها نوري السعيد أنه لا يتوانى عن استخدام أشد الأساليب القمعية ضد الشعب وقواه الوطنية من أجل تنفيذ ما أوكل له من مهام.
ولذلك فقد بادر 41 شخصية سياسية من رؤساء وزراء، ووزراء سابقين، ونواب وقادة الأحزاب الوطنية، وكبار المحامين ورجال القانون، وأساتذة الكليات، بتقديم مذكرة إلى نوري السعيد تحذره فيها من مغبة السير على نفس الطريق الذي سار عليه، وما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج . (13)
إلا أن نوري السعيد منع  نشر نص المذكرة في الصحف العراقية، وحاول تجاهلها، مما اضطر مقدمي المذكرة إلى نشرها في صحيفة الشعب المصرية في عددها الصادر في 4 نيسان 1958، وكان لها دوي هائل بين جماهير الشعب العراقي، وفيما يلي نص المذكرة: (14)
{فخامة رئيس الوزراء المحترم :
عدتم إلى الحكم في ظروف يقف خلالها العراق في مفترق الطرق، ويتوقف على سلوك الطريق القويم منها مصير الأجيال المقبلة، وقد اخترتم من قبلْ سياسة معينة، أدت إلى تحويل وجهة العراق من الأمة العربية إلى الارتباط بحلف بغداد، والاتفاق الخاص مع بريطانيا.
 وفي سبيل تمشية تلك السياسة عُطلت جميع حقوق الشعب الدستورية، وأصبح من المتعذر في هذا الجو الخانق الذي يسود العراق أن يعلن أبناء الشعب وجهة نظرهم وهم آمنون من الأذى.
 لذلك رأينا نحن الموقعون أدناه أن نصارحكم بالحقائق التالية أملاً في أن نحمل الحكومة على سلوك الطريق الوحيد الذي يتفق مع مصلحة الشعب، ومطالبه الوطنية، وأمانيه القومية.
 إن العراق يا صاحب الفخامة لا يمكن أن ينفصل عن الأمة العربية، فهو جزء لا يتجزأ منها، وقد رأيتم تجاوب الأمة العربية معه في استنكار حلف بغداد، كما رأيتم استحالة مدّ الحلف المذكور إلى أي بلد عربي آخر،  فلا بدّ أولاً من الخروج من هذا الحلف، وتحريره من الاتفاق الخاص مع بريطانيا ليشعر العراق أنه أصبح مستقلاً من التبعية الأجنبية التي كانت وستضل مصدراً لجميع متاعبه الداخلية ومشاكله مع سائر الدول العر

405
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة 15 /16


حامد الحمداني                                             21/9/2008

نوري السعيد يعيد تأليف وزارته الثالثة عشر
إجراءات الحكومة السعيد ورد فعل الشعب الأحزاب الوطنية
أولاً: مهمات وزارة نوري السعيد :

كانت وزارة نوري السعيد الثالثة عشر في واقع الأمر امتداداً لوزارته السابقة، والتي تميزت بأحداث خطيرة مست حاضر ومستقبل البلاد عندما أقدم السعيد على حل مجلس النواب، وأجرى انتخابات جديدة لم يسبق لها مثيل من قبل، حيث جاء [ببرلمان التزكية] بعد أن منع أي معارض لسياسته من الترشيح أو الوصول إلى البرلمان، وفاز 116 نائباً بالتزكية [ دون منافس] وفاز بالمقاعد الباقية أعوانه ورجالات البلاط .
وقد مهد لذلك بإصداره المراسيم الجائرة التي مرَّ ذكرها في الفصل السابق والتي انتزعت كل ما تبقى من حقوق الشعب التي نص عليها الدستور، وأفرغه من أي مضمون ديمقراطي، وكانت كل تلك الإجراءات من أجل توقيع [ميثاق بغداد]، وربط العراق بعجلة الإمبريالية وزجه في الحرب الباردة.
ونتيجة لإجراءات نوري السعيد تلك التهبت الأجواء من جديد، وتصاعد الغضب الشعبي العارم، وتأزم الوضع السياسي، وبات ينذر بانفجار موجة جديدة من العنف، وما يمكن أن يسببه الانفجار من مخاطر على مستقبل النظام القائم، ولذلك فقد كان لا بدَّ من وجود حكومة قوية قادرة على مجابهة التحديات المنتظرة، ولاسيما وأن الوزارة الجديدة كان أمامها مهمات خطيرة ينبغي تنفيذها، وكان أبرزها:
 1 ــ التصدي لإضراب الموصل وقمعه بالقوة .
 2 ــ مواصلة التآمر على سوريا لقلب نظامها وإلحاقها بالعراق .
 3 ــ دعم نظام كميل شمعون، والتصدي للثورة الشعبية في لبنان.
 4 ــ التصدي لحركة التحرر العربي المناهضة لحف بغداد.
وعليه فقد أشارت السفارة البريطانية على الملك فيصل الثاني بتكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة من جديد، بالنظر لثقل هذه المهام من جهة، ولكون الأجواء الداخلية والخارجية كانت مشحونة بالمخاطر والأحداث الجسام من جهة أخرى.
 وهكذا جرى تكليفه بتأليف  وزارته الجديدة هي الوزارة الثالثة عشر، وضمت معظم أعضاء الوزارة السابقة،ما عدا خروج  كل من [موسى الشابندر] و[شاكر الوادي] و[محمد علي محمود] و[محمد حسن سلمان] من الوزارة، في حين دخلها كل من [برهان الدين باش أعيان] و[عبد الرسول الخالصي] و[عبد الجبار التكرلي] و[منير القاضي ].(1)
ثانياً: إضراب الموصل،والسعيد يرد بمرسوم الطوارئ:
في غمرة تلك الظروف البالغة التعقيد التي كانت تجتازها البلاد،بسبب السياسة الرعناء للحكومة، أقدمت حكومة السعيد على رفع رسوم الذبح إلى الضعف[ من 30 إلى 60 فلساً ] لرأس الغنم الواحد، ونتيجة لهذا القرار أعلن القصابون في الموصل الإضراب عن الذبح في الأول من  أيلول احتجاجاً على القرار، حيث أغلقت الحوانيت، واختفى اللحم من الأسواق.
وما لبث الإضراب أن تصاعد ليشمل الخبازين، والخياطين، والصاغة وغيرهم من المهنيين، مما أقلق الحكومة، ودفعها إلى إصدار مرسوم الطوارئ رقم 1 لسنة 1956، والذي خول الحكومة صلاحية اعتقال المواطنين، وإحالتهم إلى المحاكم، وقد تجاوز عدد المعتقلين بموجب المرسوم 200 شخص، حيث تم إبعادهم إلى سجن [نقرة السلمان] الصحراوي في البادية الجنوبية، وكان من بين المعتقلين العديد من النواب السابقين، والمحامين،والقصابين، وتجار الأغنام ، حيث اتهمتهم الحكومة بكونهم من حملة [المبادئ الهدامة]. (2)
 استمر الإضراب أكثر من أسبوع، لكن الحكومة قمعته بالقوة، مطبقة مرسوم الطوارئ المذكور الذي جاء أشد وطأة من مرسوم الإدارة العرفية، ولكي يطلع القارئ الكريم على ما جاء به هذا المرسوم ارتأيت تدوينه :
مرسوم الطوارئ :(3)
نحن فيصل الثاني ملك العراق
بعد الإطلاع على الفقرة الثالثة من المادة 26 المعدلة من القانون الأساسي، وبناء على ما عرضه وزير الداخلية، ووافق عليه مجلس الوزراء، أمرنا بوضع المرسوم التالي:
المادة الأولى: يطبق هذا المرسوم كلما تُعلن حالة الطوارئ، وفقاً للفقرة الثانية من المادة 120 من القانون الأساسي، وذلك في المناطق المعينة في الإعلان، وينتهي تطبيقه من تاريخ انتهاء حالة الطوارئ، بإرادة ملكية،على أن انتهاء تطبيقه لا يؤثر في الأحكام والأوامر والقرارات التي صدرت من السلطات المختصة بموجبه.                                                      .                                                                    المادة الثانية : لرئيس الوزراء، بناء على قرار يصدره مجلس الوزراء أن يستعمل السلطات التالية وأن يصدر لهذا الغرض البيانات والإعلانات           
والأوامر، والقرارات اللازمة:
1 ـ مراقبة الرسائل البريدية، والبرقية، والتلفونية، أو منعها، أو تقييدها.
2ـ مراقبة الصحف والمجلات والنشرات حتى لو كانت لسان حزب والكتب، وجميع المطبوعات الأخرى، أو تقييد نشرها، وتعطيل الصحف والمجلات والنشرات التي تثير الرأي العام، أو تدعو إلى الثورة، أو لنشر ما يخالف مبادئ وأسس نظام الحكم الديمقراطي في العراق، أو إثارة، أو توليد البغضاء بين السكان، وغلق أي مطبعة، وضبط الكتب وسائر المطبوعات، والنشرات، والصور، والرموز التي من شأنها تهييج الخواطر، أو إثارة الفتن، والإخلال بالأمن العام، سواء كانت معدة للنشر
 أو للبيع، أو للتوزيع، أو العرض على الأنظار، أم لم تكن.
3ـ منع أي اجتماع يخشى منه الإخلال بالسلام والأمن والسكينة، وتفريقه بالقوة عند المقاومة، وغلق أي حزب، أو جمعية،أو نقابة، أو نادٍ، وتسحب إجازته بصورة دائمة أو مؤقتة، عندما يسلك مسلكاً يدل على مقاومته الأوامر القانونية، أو إحداثه شغباً بين السكان، أو يخشى منه الإخلال بالأمن والسكينة العامة.
4ـ سحب الرخص بحيازة السلاح وحمله، والأمر بتسليم الأسلحة على اختلاف أنواعها، والعتاد، والمواد المفرقعة والآلات، والوسائط الصالحة لصنعها، وضبط المخازن المودعة فيها تلك الأشياء وغلقها.
5ـ تعيين إجراءات تتخذ في استعمال جوازات السفر، والأمور الأخرى المتعلقة بالدخول إلى العراق، والخروج منه.
6ـ منع الاحتكار، وعند الحاجة تحديد الأسعار، واعتبار المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار مخلين بالأمن العام، وسوقهم إلى المحاكم المختصة.
7 ـ اعتقال الأشخاص الذين يُشك في سلوكهم أنهم يخلون بالأمن العام،  مهما كانت صفاتهم، أو وظائفهم، وبحجزهم في أماكن يتم تعينها.
المادة الثالثة: لمجلس الوزراء أن يخول، بناء على اقتراح رئيس الوزراء، ببيان ينشر في الجريدة الرسمية، استعمال السلطات المخولة لرئيس الوزراء والمصرحة في المادة [2] كلاً أو قسماً، لأحد الوزراء.
المادة الرابعة:
 1ـ يعاقب كل من يخالف قراراً، أو أمراً، أو بياناً، أو إعلاناً صادراً بموجب المادتين 2، و3، وتطبيق العقوبات المقررة في المادة الرابعة والمادة السادسة من هذا المرسوم.
2ـ إذا كانت الجريمة يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على 3 سنوات، بموجب قانون آخر، فيجوز تطبيق ذلك القانون في المحكمة المختصة.
المادة الخامسة: يعين مجلس الوزراء بإرادة ملكية تنشر في الجريدة الرسمية حكام جزاء من الصنف الأول من بين الحكام ، وغيرهم من الأشخاص العسكريين والمدنيين، للنظر في الجرائم المرتكبة ضد الأوامر، والإعلانات الصادرة بموجب المادتين  2 و 3، وتطبيق  العقوبات المقررة في المادة الرابعة، ولتطبيق المادة السادسة من هذا المرسوم .
المادة السادسة:
 للمحاكم أن تطلب تعهداً بحسن السلوك، وحفظ الأمن والسلام لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، بكفالة شخصية، أو نقدية لا يتجاوز مقدارها 5000 دينار، من الشخص الذي يخشى منه ارتكاب فعل أو إذاعة أمر يؤدي إلى الإخلال بسلامة الدولة، وإقلاق الراحة والسكينة العامة، أو توليد أو إثارة شعور البغضاء بين طبقات السكان، من الشخص الذي حرض على ذلك، وله أن يأمر بوضع الشخص تحت مراقبة الشرطة لمدة لا تتجاوز مدة التعهد.
2ـ أن يفتش الأشخاص أو المنازل أو المباني أو وسائط النقل على اختلاف
أنواعها، لاكتشاف الأمور المبينة في المادة الثانية، وضبط ما يعثر عليه لدى الأشخاص، أو في المحلات المذكورة من الأشياء الممنوعة، أو والوسائط الصالحة لصنعها.
3ـ لا يشترط في ورقة التكليف بالحضور التي يصدرها الحاكم إلى الشخص المذكور في الفقرة الأولى من هذه المادة أن تكون منظمة بالصورة المبينة في المادة 79 من أصول المحاكمات الجزائي.
المادة السابعة:
1 ـ المحكمة الخاصة المبينة في المادة الثامنة تمييزاً في الأحكام والقرارات الصادرة من حكام الجزاء وفقاً للمواد السابقة، ويكون قرارها قطعياً.
2 ـ يقدم استدعاء التمييز خلال 45 يوماً من تاريخ صدور الحكم.
المادة الثامنة:
1ـ تؤسس في المنطقة، أو المناطق التي يطبق فيها هذا المرسوم محكمة،أو محاكم خاصة لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكابهم جرائم ضد النظام، أو سلامة الدولة الخارجية والداخلية، أو سلامة مواصلاتها، وموانئها، أو أموالها، وسائر أملاكها، أو بجريمة من الجرائم المنصوص عليها في قانون ذيل قانون العقوبات البغدادي رقم 51 لسنة 1938، وقانون تعديله رقم 11 لسنة 1948، ومرسوم تعديله رقم 16 لسنة 1954، وسائر الجرائم التي تخل بالأمن العام.
المادة التاسعة:
1ـ تتألف المحكمة الخاصة من خمسة حكام يعينون بقرار من مجلس الوزراء، وإرادة ملكية،على أن يكون من بينهم حاكمان من الصنف الأول من حكام المحاكم المدنية يرشحهما وزير العدل، ويعين الآخرون من العسكريين والمدنيين الذين يرتئي مجلس الوزراء أنهم أهل لذلك، ويعين مجلس الوزراء من بين الخمسة رئيساً للمحكمة، ونائباً للرئيس.
2 ـ يجوز تعين حكام إضافيين من الأصناف المذكورة في الفقرة السابقة بقرار من مجلس الوزراء، وإرادة ملكية، ليحلوا محل من يتغيب من صنفهم من حكام المحكمة.
3 ـ يجوز أن تشكل المحكمة الخاصة من ثلاث حكام فقط، إذا كانت الجريمة مما يعاقب عليها بغير الإعدام، وغير الأشغال الشاقة المؤبدة على أن يكون من بين حكام المحكمة مدني واحد على الأقل، وان يكون من ضمنهم الرئيس ونائبه.
المادة العاشرة:
 تؤلف محكمة التمييز الخاصة برئاسة أحد حكام محكمة التمييز، وعضوية حاكمين منها، أو من كبار الحكام، وأثنين من كبار الضباط، أو الموظفين المدنيين على أن يكونا أعلى رتبة من الضباط أو الموظفين المدنيين، أعضاء المحكمة الخاصة.
2ـ تميز الأحكام الصادرة من المحكمة الخاصة لدى محكمة التمييز الخاصة خلال عشرة أيام من تاريخ صدور القرار.
المادة الحادية عشرة : يعين وزير العدل مدعين عامين، وحكام تحقيق للمحكمة الخاصة، وعند عدم تعيينه ذلك فتجري المحاكمة والبت فيها وفق الأصول المطبقة في المحاكمات أمام المحكمة الكبرى، بما في ذلك
 طلبات الادعاء الشخصي.
المادة الثانية عشرة :
1ـ ترسل المحكمة الخاصة الأحكام الصادرة بالإعدام إلى محكمة التمييز الخاصة فور صدورها للنظر فيها.
2ـ لا تنفذ أحكام الإعدام التي تصدرها محكمة التمييز الخاصة إلا بعد تصديق الملك.
المادة الثالثة عشرة :
1ـ يعتبر الشخص المعتقل بموجب الفقرة 7 من المادة الثانية من هذا المرسوم موقوفاً قانوناً.
2ـ تحكم المحاكم الخاصة في الجرائم المنصوص عليها في المواد 5، 7، 8، 11 من الباب الثاني عشر، وفي المادتين 80، و82 من قانون العقوبات البغدادي بالإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو بالحبس مدة لا تتجاوز 15 سنة.
3ـ تعدل المادة 3 من الباب الثاني عشر من قانون العقوبات البغدادي، بإضافة عبارة  والطرق،أو المواصلات الأخرى، وسدود الري الكبرى]  بعد عبارة [ السكك الحديدية والجسور] .
المادة الرابعة عشرة :
يشمل هذا المرسوم الأشخاص الذين يكونون خارج المنطقة المعلنة فيها حالة الطوارئ، إذا ظهر للمحكمة أنهم اشتركوا في الجرائم المرتكبة في تلك المنطقة.
المادة الخامسة عشرة: يجوز أن يقصر شمول هذا المرسوم على بعض الجرائم المنصوص عليها في المادة الثامنة منه، بقرار من مجلس الوزراء.
المادة السادسة عشرة: ينفذ هذا المرسوم من تاريخ صدور الإرادة الملكية بتنفيذه.
المادة السابعة عشرة: على وزراء الدولة تنفيذ هذا المرسوم كتب في بغداد في اليوم الثاني من شهر صفر سنة 1376 هجرية، المصادف لليوم الثامن من شهر أيلول 1956 ميلادية.
                             
      مجلس الوزراء                                      الملك فيصل الثاني
                                         
وهكذا أفرغ نوري السعيد الدستور من سائر حقوق وحريات الشعب التي نص عليها، وغدا الشعب رهينة إجراءاته القمعية، ومحاكمه الجائرة التي بدأت بإرسال مئات المواطنين إلى السجون والمعتقلات، والنفي إلى مناطق نائية بعيداً عن أهليهم وذويهم، إمعاناً في التنكيل بالشعب وحركته الوطنية، وقد ظن السعيد أن بإجراءاته تلك قادر على إخماد الروح الوطنية لدى أبناء الشعب، ولكن خاب ظنه، وانقلب السحر على الساحر وانهار ذلك البنيان الذي ظنه السعيد قوياً عندما صرح قبيل ثورة 14 تموز بأيام قلائل قائلاً [ دار السيد مأمونة] !!،لقد عجّل السعيد بإجراءاته القمعية تلك في قيام الثورة، ونهاية النظام الملكي صبيحة ذلك اليوم.
   
ثالثاً : دعم العدوان على مصر وقمع انتفاضة الشعب:
كان موقف الشعب العراقي، وحكومة نوري السعيد من العدوان الثلاثي على مصر،على أثر إقدام عبد الناصر على تأميم قناة السويس،على طرفي نقيض، فلقد اتسم موقف حكومة السعيد بالتشفي من مصر وعبد الناصر بشكل علني وصريح، وراحت الإذاعة العراقية تحاول صرف أنظار الشعب عن العدوان الذي دعته ب [التطورات والملابسات السياسية].
كما راحت الإذاعة تبث الأغاني الممجوجة، التي كان التشفي ينبعث منها  مما أثار سخط واستنكار و تقزز الشعب منها، ومن الحكومة المتواطئة مع الإمبريالية، والتي سخرت مطاراتها للطائرات البريطانية ومستشفياتها لجرحى المعتدين،وضخت النفط إلى ميناء حيفا في إسرائيل لتجهيز طائرات وجيوش المعتدين بالوقود.(4)
يقول السيد [ ناجي شوكت] أحد رؤساء الوزارات السابقين في مذكراته عن موقف حكومة السعيد من العدوان ما يلي:
{ كانت إذاعة بغداد تذيع تسجيلات خليعة، وإن نسيت لا أنسى مدى عمري ذلك المذيع الوقح الذي كانت آثار الشماتة والاستهزاء بكل القيم الإنسانية تنطلق من فمه المسعور، في الوقت الذي كان الشعب العراقي برمته يغلي كالبركان، ويطلب الوقوف إلى جانب مصر، ومساعدتها في محنتها}. (5)
أما نوري السعيد الذي كان في لندن حينما أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، فقد اجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني [انطوني إيدن] حاثاً إياه على ضرب مصر، وبرهنت الحوادث على أن نوري السعيد كان على علم مسبق بقرار الهجوم على مصر. (6)
وعاد إلى بغداد مسرعاً، ليقوم بدوره المرسوم في دعم العدوان، ولإحكام سيطرة الحكومة على الغليان الشعبي الذي اجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه.
وما كاد العدوان الثلاثي يبدأ على مصر الشقيقة حتى سارع عبد الإله إلى عقد اجتماع لمجلس الوزراء في البلاط  لبحث الوضع في مصر، واعتقدت السلطة الحاكمة في بغداد أن النظام في مصر على وشك الزوال،  وكان المجتمعون يتطلعون إلى الأخبار ساعة بعد ساعة،منتظرين استسلام مصر، وقد أتخذ مجلس الوزراء قراراً بإعلان الأحكام العرفية في 1 تشرين الثاني، وتشكيل أربعة محاكم عسكرية.
في محاولة منه لمنع الشعب من التحرك ضد النظام العميل للإمبريالية بسبب مواقفه الخيانة من القضايا العربية، وفي مقدمتها العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة. (7)
كما أجرى نوري السعيد اتصالاً مع الحكومة الأردنية، وتقرر على أثرها إرسال قوات عراقية إلى الأردن،في 14، و15 تشرين الثاني وكان واضحاً أن الغرض من إرسال القوات كان لتهديد سوريا التي وقفت إلى جانب مصر، وقطعت مرور النفط عبر أراضيها، وقامت بنسف المضخات، ولم يكن قصد الحكومة إسرائيل، كما ادعت، فقد أجرى نوري السعيد اتصالات سريعة مع حكومتي واشنطن ولندن لإفهام إسرائيل بأن العراق ليست له نية بالتحرش، أو الاعتداء على حدودها، وقد سُرت الولايات المتحدة وبريطانيا لهذه المبادرة، كما ُسرت إسرائيل واطمأنت. وفي الوقت الذي كان الجيش المصري يتصدى للمعتدين بكل قوة وبسالة، كان نوري السعيد يضخ النفط إلى إسرائيل،عبر أنبوب حيفا، كما كانت الطائرات البريطانية المعتدية تقلع من قاعدتي الشعيبة والحبانية لتضرب أهدافها في بور سعيد والسويس، وفي الوقت الذي قطعت سوريا والسعودية علاقاتهما مع بريطانيا وفرنسا احتجاجاً على العدوان الغاشم على مصر فإن نوري السعيد رفض أن يفعل ذلك مدعياً أن القرار سيكون كارثة على العراق. (8) ‍‍‍‍‍
هكذا استفز النظام العراقي مشاعر الشعب العراقي، وداس على كل القيم العربية، ليثبت ولائه وخنوعه التام للإمبريالية، مما دفع الشعب العراقي للانتفاضة ضد النظام رغم كل الاحتياطات التي اتخذها، وفي المقدمة إعلان الأحكام العرفية، وتشكيل المحاكم العسكرية لإخافة المواطنين ومنعهم من التحرك.
وقد أبرق السيد [ كامل الجادرجي ] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان موجوداً في مصر لمتابعة تنفيذ قرارات المؤتمر الشعبي العربي حينما وقع العدوان، إلى رئيسي مجلس الأعيان في 14 تشرين الثاني 1956 البرقية التالية :
{ إن لجنة الاتصال للمؤتمر الشعبي العربي تستنهض ضمائركم لتبادروا بإنزال العقوبة بحق المتآمرين الذين ارتكبوا الجناية العظمى بالسماح للبترول العربي في العراق أن يتدفق إلى حيفا، لتستخدمه إسرائيل والإنكليز والفرنسيين للقضاء على الأمة العربية.
إن التاريخ سيسجل موقفكم، وإن الأمة العربية وأجمعها تنتظر ما سوف تتخذونه ضد هذه المؤامرة الاستعمارية المنكرة وعلى المتآمرين من أعوان الاستعمار، وفقكم الله سبحانه وتعالى لما فيه رضاه، ومصلحة الأمة العربية}. (9)
وقد استخدمت تلك البرقية دليل إدانة ضد الأستاذ الجادرجي فيما بعد، وقد رد رئيس مجلس الأعيان على البرقية ببرقية جوابية يستنكر فيها ما جاء في برقية الجادرجي، ويدافع عن حكومة نوري السعيد.(10)
وقدم 61 أستاذاً جامعياً مذكرة مسهبة إلى الملك استنكروا فيها سياسة حكومة نوري السعيد المعادية لمصالح الأمة العربية، وسياسة القمع الذي مارسها ضد الطلاب والأساتذة، وجماهير الشعب، وانتهاكه لحرمة المدارس والكليات، وطالبوا باحترام الحرم الجامعي، وضمان حرية الفكر، وإطلاق سراح الطلاب المعتقلين، وإجراء تحقيق عادل في تجاوزات الحكومة، وغيرها من المطالب الأخرى. (11)
كما قدم 35 شخصية سياسية ودينية ووطنية مذكرة مسهبة إلى الملك في 20 تشرين الثاني استنكروا موقف الحكومة، شرحوا فيها تأمر وخيانة نوري السعيد، وطعنه للأمة العربية في الصميم، ودعت الملك إلى معالجة الأمر قبل فوات الأوان. (12)
كما قدم نقيب المحامين [ سعد عمر] مذكرة احتجاج أخرى في 29 تشرين الثاني إلى رئيس الوزراء، بسبب قيام الحكومة باعتقال العديد من المحامين، واستنكر تلك الإجراءات غير القانونية، وطالب بإطلاق سراح المعتقلين على الفور.
لكنّ النظام أصرّ على السير في ركاب الإمبريالية، وتحدي مشاعر الشعب، التي انفجرت بركاناً انتشرت حممه في طول البلاد وعرضه، واندفعت جماهير الشعب،غير هيابة من حكومة العمالة، وجهازها القمعي، ومجالسها العرفية ومراسيمها الموغلة في العدوان على الدستور، وحقوق وحريات المواطنين، وعمت المظاهرات جميع المدن العراقية، ووقعت الاشتباكات العنيفة بين الجماهير وقوات الحكومة القمعية.
ففي بغداد أندفع أساتذة وطلاب الكليات والمعاهد العالية، والمدارس الذين هزهم العدوان الثلاثي الغاشم على الشقيقة مصر، والموقف الخياني لحكومة نوري السعيد من العدوان، يومي 3، و 4 تشرين الثاني في مظاهرات عارمة متحدين الأحكام العرفية، وقوات القمع السعيدية حيث وقع صدام عنيف بين الطرفين أسفر عن استشهاد طالبين وفتاة صغيرة، ووقوع عدد كبير من الجرحى، وتم اعتقال أعداد أخرى من الطلبة.
لكن المظاهرات الطلابية استمرت دون توقف حتى بلغت أوجها يوم 21 تشرين الثاني  1956، حيث أعلن طلاب المدارس والكليات الإضراب العام عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرة ضخمة، اصطدمت مع قوات القمع السعيدية، وقد أبدا الطلاب بسالة منقطعة النظير في تصديهم لقوات القمع، وأوقعوا فيها [ 58 إصابة ] كان منهم مدير الشرطة، و3 ضباط شرطة، ومفوضان، و54 شرطياً، كما وقعت إصابات كثيرة في صفوف المتظاهرين من الطلاب، والأهالي الذين انضموا إلى المظاهرة. (13)
وعلى أثـر ذلك أعلنت الحكومة إغلاق كافة الكليات والمعاهد العالية والمدارس الثانوية والمتوسطة، واعتقلت [378 طالباً ] من الإعدادية المركزية وثانـوية الكرخ، وتم طـرد 37  طالباً من مدارسهم. (14)
وفي الوقت نفسه أصدر وزير المعارف [ خليل كنه ] أمراً وزارياً بإلغاء تسجيل كافة طلاب المدارس، وإعادة تسجيلهم من جديد، بعد حصولهم على كتاب موافقة من مديرية التحقيقات الجنائية[الأمن العامة]، ومنع قبول أي طالب في الكليات والمعاهد والمدارس، إذا لم يحصلوا على موافقة الجهات الأمنية. لكن تلك القرارات لم تثنِ الطلاب عن التظاهر،بل على العكس أدى تصدي قوات الأمن لهم إلى انتشار المظاهرات في معظم المدن العراقية واشتباك المتظاهرين مع قوات القمع السعيدية حيث وقعت معارك دامية بين الشعب وقوات الحكومة القمعية. وكان أشد تلك المعارك المعركة التي خاضتها جماهير مدينة [الحي ] والتي استفزتها مواقف حكومة السعيد الخيانية، والجرائم التي اقترفتها قوات الحكومة القمعية في النجف الاشرف، فانتفضت هذه المدينة الباسلة التي كان سكانها يشكون من ظلم الإقطاع واستغلالهم البشع، وتفجرت تلك التراكمات ثورة عارمة ضد الطغيان السعيدي، وقامت المظاهرات الصاخبة التي تصدت لها قوات الشرطة القمعية.
لكن جماهير الحي استطاعت هزم تلك القوات في 18 تشرين الثاني بعد معارك دامية سقط خلالها العديد من الشهداء و الجرح.
وفي اليوم التالي جاءت السلطة بحوالي 1500 فرد من قوات الشرطة السيارة إلى المدينة، حيث دارت معارك عنيفة بين الطرفين، وقامت قوات الشرطة بانتهاك حرمة البيوت وبأسلوب وحشي حيث أخذت تقلع أبواب البيوت بالقوة، وتجري التحري فيها، وتلقي القبض على كل من تشك باشتراكه في المظاهرات، مما دفع سكان المدينة إلى إعلان الإضراب العام، حيث أغلقت جميع المدارس والمحلات أبوابها احتجاجاً على أساليب بطش حكومة السعيد، وسيق العديد من أبناء الحي على المجالس العرفية التي أخذت تصدر الأحكام الجائرة بحقهم، وكان من جملة تلك الأحكام حكم الإعدام الصادر بحق الشهيدين [علي الشيخ حمود] و [مهدي الدباس ] فيما حكم على الكثيرين بمدد مختلفة تراوح بين السجن المؤبد والسجن لبضعة سنوات.
 وقد حاول لفيف من السياسيين إنقاذ حياة الشهيدين حمود والدباس، حيث قابل السيد [حكمت سليمان ] أحد رؤساء الوزارات السابقين، والشيخ [محمد رضا الشبيبي ] من الوزراء السابقين، الملك فيصل الثاني، والتمساه عدم الموافقة على تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقهما، ووعدهما الملك خيراً، لكن الذي جرى أن الشهيد مهدي الدباس تعرض في سجنه، بعد الحكم عليه بالإعدام لتعذيب وحشي شديد على أيدي الأجهزة الأمنية توفي على أثرها تحت التعذيب،وقامت الحكومة على الأثر بنقل الشهيد الدباس مع الشهيد علي الشيخ حمود إلى الساحة العامة في الحي، حيث تم نصب مشنقتين لهما،على الرغم من أن الدباس كان قد فارق الحياة داخل السجن، ومع ذلك علق جسده على حبل المشنقة لتوهم السلطة المجرمة أبناء الحي بأنه قد تم تنفيذ حكم الإعدام به وبرفيقه، لكي لا تنكشف الجريمة.
 ورغم كل ما فعلته السلطة الحاكمة، ورغم كل إجراءاتها القمعية، فإن ذلك لم يجدها نفعاً، بل على العكس أنتشر لهيب الانتفاضة في مدن الكوفة والديوانية والشامية والحلة وكربلاء والناصرية والنجف والبصرة والعمارة والكوت والموصل وأربيل وكركوك والسليمانية وعانه بالإضافة إلى بغداد.
 ورغم أن السلطة الحاكمة زجت بكل قوات الشرطة، وقوات الجيش للحيلولة دون قيام المظاهرات، ورغم زجها بالآلاف من المواطنين رهن الاعتقال، وتقديمهم إلى المجالس العرفية، وإصدار الأحكام الجائرة بحقهم، إلا أن المظاهرات والاحتجاجات تصاعدت ضد السلطة الحاكمة وكانت أشد المعارك قد وقعت في مدينة النجف  الأشرف مدينة البطولات الوطنية، فقد التهبت الأوضاع فيها عندما انطلقت مظاهرة طلابية من مدرسي [ الخور نق ] و[ السدير]، حيث تصدت لها قوات الشرطة المدججة بالسلاح والمزودة بالسيارات المسلحة بالرشاشات وبدأت بإطلاق النار على المتظاهرين، حيث أصيب [ 42 طالباً ] بجراح وكانت جراح 11 منهم خطيرة، واستشهد الطالب [عبد الحسين] حفيد العلامة المعروف [ سيد فهمي الحمامي ]، كما استشهد طالب آخر من مدرسة السدير، وأخر من الأهالي، مما أدى إلى حالة من الهياج بين المواطنين الذين أعلنوا الإضراب العام، حيث أغلقت الحوانيت، والمحال التجارية، والمطاعم والمخابز، والصيدليات احتجاجاً على الأعمال الإجرامية للسلطة، كما أضرب رجال الدين عن أداء واجباتهم الدينية، فلم يخرجوا لصلات الجماعة. (15)
وإزاء تطور الأحداث، وتصاعد موجة المظاهرات، أقدمت الحكومة على سحب شرطة المدينة، واستبدلتهم بإعداد غفيرة من الشرطة جاءت بهم من مناطق أخرى، من أطراف الموصل، خوفا من تهاون شرطة النجف في قمع المتظاهرين، ومع ذلك فلم تستطع السلطة السيطرة على المدينة، مما دفع بالحكومة إلى إنزال قوات الجيش إلى الشوارع ،واحتلال المدينة.
لكن الإضراب استمر أسبوعاً كاملاً وسط تحدي الشعب لقوات القمع، وواصلت التظاهر والتصدي لقوات القمع التي سارعت إلى إطلاق النار على المتظاهرين الذين لجئوا إلى مرقد الأمام علي عليه السلام، ولاحقتهم قوى الأمن مواصلة إطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى استشهاد أثنين من المتظاهرين هما الشهيدين [ عبد الأمير ناصر] و[أموري علي ] ، ووقوع العديد من الجرحى.
أدى الهجوم الوحشي على مرقد الإمام علي إلى تصاعد موجة المظاهرات والاحتجاجات، حيث خرجت المدينة عن بكرة أبيها تحاول انتزاع جثث الشهداء من المستشفى، فيما أصرت الحكومة على عدم تسليمهم .
أدت الأحداث الدامية في النجف إلى قيام موجة من الاحتجاجات الموجهة من قبل كبار رجال الدين إلى الملك فيصل، حيث احتج كل من الشيخ  [عبد الكريم الجزائري ] والسيد[ حسين الحمامي ] والشيخ [ محمد كاظم الشيخ راضي ] والسيد [ محسن الحكيم ] والسيد [ محمد صالح بحر العلوم ] إضافة إلى عدد من المحامين منهم [ موسى صبار ] و [ احمد الجبوري ] في برقيات بعثوا بها إلى الملك فيصل ونددوا فيها بإجراءات الحكومة، وطالبوا بإنزال أشد العقوبات بالمسببين باستشهاد أبناء النجف وجرح العديد منهم. (16)
أحدثت مصادمات النجف إلى رد فعل عنيف في بغداد، حيث أعلن المواطنون الإضراب العام، وأغلقت كافة المحال التجارية، والمطاعم والمخابز والصيدليات، وقامت الحكومة على الأثر بإصدار بيان في 28 تشرين الثاني هددت المواطنين بإنزال اشد العقاب بهم إذا ما استمروا في إضرابهم.
أدرك البلاط الملكي أن الأمور أخذت تسير من سيئ إلى أسوأ، واستمرت الأحوال الأمنية بالتدهور مما كان يهدد العرش بالذات، وعليه فقد دعا عبد الإله والملك فيصل رؤساء الوزارات السابقين بالإضافة إلى نوري السعيد، ورئيسي مجلسي النواب والأعيان، والوزراء، وبعض الساسة، لتداول في التطورات الخطيرة التي تشهدها البلاد، وُطرح خلال المداولات موضوع استقالة حكومة نوري السعيد، وفسح المجال أمام العرش لتأليف وزارة جديدة تستطيع تهدئة الأمور، وتنقذ الموقف، وقد اتهم أحد الحاضرين نوري السعيد بأنه قد شجع [ أنطوني إيدن ] عند وجوده في لندن على شن العدوان على مصر بدلاً من أن يحذره من مغبة القيام بمثل هذا العدوان. (17)
غير أن نوري السعيد أصرّ على موقفه وتحديه للشعب ومشاعره الوطنية، وحذر الملك وعبد الإله من خطورة التراجع أمام تحدي الشعب مدعياً أن هذا الموقف قد يؤدي بالعرش، وهكذا انتهى الاجتماع دون اتخاذ أي قرار حول الوضع، لكن عبد الإله أجرى مشاورات أخرى بعد الاجتماع مع عدد من السياسيين كان من بينهم [ جميل المدفعي ] و [علي جودت الأيوبي ] بغية تأليف وزارة جديدة، وقد اقترح المدفعي إبعاد نوري السعيد عن الحكومة، وإشراك [حسين جميل ] و[ مهدي كبه] في الوزارة القائمة، أو تشكيل وزارة جديدة.
 ثم استدعى الوصي[عبد الإله] بعد ذلك كل من السيد[ كامل الجادرجي]  و [حكمت سليمان ] و[ محمد رضا الشبيبي]، وطلب رأيهم في سبل حل الأزمة، وإعادة الهدوء إلى البلاد، وقد أجمع الجميع على ضرورة إقالة حكومة نوري السعيد، وتشكيل حكومة جديدة، وحذر حكمت سليمان عبد الإله من مغبة استمرار الأوضاع على ما هي عليها. (18)
لكن نوري السعيد، وبدعم من السفارة البريطانية، تمادى في غيه، وأصدر أمراً باعتقال قادة الأحزاب السياسية الوطنية، وكبار الشخصيات المعارضة، فقد تم اعتقال السادة كامل الجادرجي، وحسين جميل وصديق شنشل، وفائق السامرائي، وعبد الرحمن البزاز، وجابر عمر بالإضافة إلى العديد من رجال الدين، وأحالهم إلى المجلس العرفي العسكري في 16 كانون الأول، حيث صدرت الأحكام في 19 منه بحقهم، وصبت الحكومة جام غضبها على الأستاذ الجادرجي، حيث حكم عليه بالسجن الشديد لمدة ثلاث سنوات، بعد أن اتخذت الحكومة برقيته التي أرسلها إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان كدليل اتهام، وتم إيداعه السجن. كما حكمت المحكمة على صديق شنشل، وفائق السامرائي بالمراقبة لمدة سنة، وعلى حسين جميل، وسامي باش عالم بكفالة شخص ضامن بمبلغ 5000 دينار لمدة سنة، وتم نقل شنشل إلى الإقامة الجبرية في [ قلعه دزه ]، وفائق السامرائي إلى[ حلبجة ] في السليمانية، وتم إبعاد عميد كلية الحقوق[عبد الرحمن البزاز] و[ جابر عمر ] و[محمد البصام ] و[فيصل الوائلي ]،و[ حسن الدجيلي] الأساتذة في كلية الحقوق إلى[ بنجوين ]. كما أبعد رجال الدين إلى قرية [ شثاثة ] في كربلاء، وجرى فصل أكثر من 10 آلاف طالب من كلياتهم ومدارسهم والعشرات من أساتذة الكليات بقرار جماعي.(19) 
وهكذا استطاع النظام قمع الانتفاضة الجماهيرية الكبرى بالحديد والنار، مستخدماً كل ما توفر لديه من الوسائل القمعية، وزج بالجيش ليقمع الانتفاضة، بعد أن هزمت قوات الشرطة القمعية أمام غضبة الجماهير، وعزمها على التصدي للنظام الخائن والعميل للإمبريالية، وهذا ما أرادته بريطانيا عندما أسست الجيش العراقي عام 1921، فقد أرادته لحماية السلطة الحاكمة المؤتمرة بأوامرها، وليس لأي هدف آخر.
لكن بذور الثورة كانت تنمو في أحشاء هذا الجيش الذي هو جزء من الشعب مهما عملت السلطة الحاكمة لإحكام سيطرتها عليه، وتوجيهه نحو معاداة الشعب وقواه الوطنية الساعية للتحرر من ربقة الاستعمار البريطاني، ولتحقيق الحياة الكريمة للشعب الذي عانى من البؤس والعبودية، ولم تمضٍ سوى سنتان على الانتفاضة الشعبية هذه حتى فوجئ النظام الملكي  بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958.

رابعا: مواصلة التآمر على سوريا:
استغلت الإمبريالية البريطانية والأمريكية الظروف التي سادت سوريا على أثر موجة الانقلابات اكبر استغلال، نظراً لأهمية موقع سوريا الجغرافي بالنسبة لضمان أمن دولة إسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبريالية في قلب العالم العربي، فقد كان قيام نظام حكم وطني حقيقي في سوريا يشكل خطراً على إسرائيل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإزاحة النفوذ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط والاستئثار بها لوحدها، نظراً لما تشكله هذه المنطقة من أهمية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، حيث يوجد اكبر خزان للنفط في العالم فيما كانت الإمبريالية البريطانية تسعى جاهدة لإحكام سيطرتها على المنطقة، فقد سعت إلى قلب الحكومة السورية، وإقامة مشروع [الهلال الخصيب] بزعامة العرش الهاشمي، وتحت هيمنتها، وقد لعب نوري السعيد دوراً كبيراً في تنفيذ المخطط البريطاني.  لكن الإمبريالية الأمريكية كانت أسرع في تحركها، حيث دبرت انقلاب [حسني الزعيم ] رئيس الأركان السوري في 30 آذار 1949، واستطاع حسني الزعيم السيطرة على الأوضاع في سوريا دون أن يلقى انقلابه أية مقاومة تذكر، مستغلاً عواطف الجماهير السورية الناقمة على الحكومة السابقة بسبب دورها في نكبة فلسطين، وطبيعي أن يستغل حسني الزعيم تلك النكبة ليظهر نفسه بمظهر الوطني الحريص على قضية فلسطين، لكن الحقيقة لا يعدو أن يكون انقلاباً أمريكياً، حيث يقول الكاتب الأمريكي [كوبلاند] في كتابه [ لعبة الأمم ] ما يلي :
{ وكان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر[ ميد ] بإنشاء علاقات منتظمة مع[ حسني الزعيم]،الذي كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش السوري، ومن خلال هذه الصداقة أوحى الميجر ميد لحسني الزعيم بفكرة الانقلاب العسكري، حيث اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كل خطته، وتثبيت كافة التفصيلات المعقدة }. (20)
وقد أفتضح أمر الانقلاب الأمريكي عندما نشر وزير الخارجية في حكومة حسني الزعيم [ الأمير عادل أرسلان ] مقالاً في صحيفة الحياة اللبنانية في 26 أب 1949 فضح فيه اتصالات حسني الزعيم مع حكام   إسرائيل، ولقاءاته مع [موشي شاريت] وزير الخارجية الإسرائيلي في القنيطرة بهدف إجراء الصلح مع إسرائيل، لكن الزمن لم يسعفه في مسعاه بعد أن تم إسقاط حكمه ومقتله.
أحدث انقلاب حسني الزعيم قلقاً عميقاً لدى الدوائر البريطانية والعرش الهاشمي في العراق، فأسرع نوري السعيد إلى دمشق يستكشف طبيعة الانقلاب، واختلى السعيد بحسني الزعيم، ونصحه بالعودة إلى واجباته العسكرية، وترك الأمور السياسية، وكان نوري السعيد أثناء زيارته لدمشق يلبس بزة عسكرية برتبة كبيرة في محاولة للتأثير عليه. (21)                                                                                             
 لكن بريطانيا لم تستسلم لما حدث في سوريا، ونشطت أجهزة مخابراتها في العمل لتدبير انقلاب عسكري معاكس. ونجحت الجهود البريطانية بإحداث انقلاب جديد بقيادة اللواء[سامي الحناوي] في 14 آب 1949، وقبل أن يمض على انقلاب حسني الزعيم ستة أشهر، وكان واضحا أن الانقلاب الجديد كان بإخراج بريطاني.
وقد تم لسامي الحناوي السيطرة على البلاد، وجرى إعدام حسني الزعيم، ورئيس وزرائه[محسن البرازي] بعد محاكمة لم تدم سوى ساعتين، مما أثار غضب الإمبرياليين الأمريكيين. (22)
لم يخفِ العرش الهاشمي، ونوري السعيد فرحهما وسرورهما لنجاح انقلاب[سامي الحناوي]،وسارع سامي الحناوي إلى بغداد، وبصحبته الملحق العسكري العراقي [ عبد المطلب الأمين ]، واجتمع مع نوري السعيد وعبد الإله، ثم عاد في نفس اليوم إلى دمشق.
 ولم تلبث حكومة بغداد أن أرسلت رئيس الديوان الملكي [احمد مختار بابان ] إلى دمشق لمناقشة موضوع إقامة اتحاد بين العراق وسوريا،  لكن المشروع لم يكتب له النجاح، فقد أفلح الأمريكيون في إحداث انقلاب جديد في سوريا بقيادة العقيد [أديب الشيشكلي] في 19 كانون الأول، بالتعاون مع[فوزي سلو] و[ أكرم الحوراني ]، وتم اعتقال سامي الحناوي.
 لكن أديب الشيشكلي لم يستلم الحكم بصورة رسمية، بل حكم من وراء الستار، وأعاد الحكم المدني للواجهة حتى تشرين الثاني من عام 1951، حيث قام بانقلابه الثاني، وأقال الحكومة المدنية، وأعلن نفسه دكتاتوراً للبلاد. وبقي الشيشكلي في الحكم حتى شباط 1954،عندما أسقطه انقلاب جديد بقيادة [فيصل الأناسي] بمساعدة[غسان جديد]،حيث تحرك الجيش تدعمه الأحزاب السياسية التي ضاقت الأمرين على أيدي الدكتاتور الشيشكلي، وفرض الانقلابيون على أديب الشيشكلي وحكومته الاستقالة، وتم إعادة النظام البرلماني إلى سوريا من جديد،لكن مسلسل الانقلابات في سوريا لم ينته، وتعرضت سوريا من جديد لمحاولات نوري السعيد التآمر عليها ومحاولة ضمها إلى العراق، أو تنصيب [عبد الإله] ملكاً عليها. (23)
فلم يكد الشعب السوري يتخلص من النظام الدكتاتوري العسكري، وقيام المؤسسات الديمقراطية، وإطلاق الحريات العامة، حتى بدأ الضغط الإمبريالي يتصاعد على سوريا، وخاصة بعد أن أقدمت الحكومة السورية على شراء الأسلحة من دول المعسكر الاشتراكي، بعد أن يأست من إمكانية الحصول عليها من الدول الغربية، في الوقت الذي كانت تلك الدول تغدق شتى أنواع الأسلحة، وأحدثها على إسرائيل، عدوة العرب، مما شكل خطورة كبرى على مستقبل سوريا، ودفعها للبحث عن مصادر أخرى للسلاح للدفاع عن نفسها ضد التهديدات الإسرائيلية، وحلف بغداد.
لقد طار صواب الإمبرياليين للتوجه الجديد لمصر وسوريا نحو الشرق، واعتبرت ذلك العمل تغلغلاً سوفيتياً في منطقة الشرق الأوسط، وتهديداً للمصالح الغربية، وبدأت اللقاءات والاجتماعات للدول السائرة بركاب الإمبريالية في المنطقة من أعضاء حلف بغداد تتوالى مع بعض أقطاب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للتصدي للتوجهات السورية، ومحاولة الاعتداء عليها  بحجة وجود الخطر الشيوعي، واحتمالات سيطرة الشيوعيين على الحكم في سوريا.
فقد سارعت الولايات المتحدة إلى إرسال مساعد نائب وزير الخارجية الأمريكي [ لوي هندسن ] إلى اسطنبول حيث التقى بالملك[ فيصل الثاني] وولي عهده [ عبد الإله ] و[ نوري السعيد ] و[ أحمد مختار بابان ] ورئيس أركان الجيش [ وفيق عارف ]. كما حضر عن الجانب التركي رئيس الجمهورية [جلال بايار]، ورئيس الوزراء [عدنان مندرس ] ووزير الخارجية [ فؤاد كبرلو ]، وجرى نقاش مطول حول الوضع في سوريا، وضرورة التصدي للخطر الشيوعي المزعوم، وجاء في محضر الاجتماع المذكور كما ذكر الدكتور فاضل الجمالي ما يلي :
{ قال هندسن: إن أمريكا راغبة لإعطاء الفرصة لعمل يقوم به العراق والأردن، وبإسناد من قبل تركيا، لقد تكلمت مع الرئيس[ايزنهاور] ووزير الخارجية [ جون فوستر دلس]، وهما يعتبران الموقف خطيراً جداً، والولايات المتحدة مستعدة لإسناد أي مداخلة من العراق والأردن، واتخاذ كل الوسائل لمنع مداخلة الاتحاد السوفيتي ومصر، وراغبة بإعادة حرمتها في المنطقة، وستسند الموقف في الأمم المتحدة }.(24)
أما وزير الدفاع العراقي أحمد مختار بابان، فقد أعترف أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة أن عبد الإله كان متحمساً للتدخل في سوريا عسكريا ، وأضاف احمد مختار بابان يقول:
 [ عند عودتي إلى بغداد بصحبة عبد الإله، ورفيق عارف، رئيس أركان الجيش، استدعاني عبد الإله في اليوم التالي، وتحدث معي عن الأوضاع في سوريا قائلأ:{ أن الوضع قد أصبح في غاية الخطورة، وان هناك أربعة حلول لمعالجة الوضع وهي بالتحديد ما يلي :
1ـ تنحية بعض الأشخاص عن السلطة في سوريا .
2 ـ إيجاد ثورة داخلية فيه للقضاء على أولئك الأشخاص.
 3 ـ إيقاد ثورة بواسطة العشائر على الحدود.
 4 ـ تدخل عسكري،بعد التمهيد له}. (25)
وقد ذكر أحمد مختار بابان أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة بأن [علي ممتاز الدفتري] وزير المالية، ووزير الخارجية بالوكالة، قد أجتمع في لندن في أيلول 1957 مع عدد من المسؤولين البريطانيين بالإضافة إلى نوري السعيد، وفهم منهم أن الوضع قد أصبح خطيراً في سوريا، وأن الولايات المتحدة على وشك أن تتخذ قرارات خطيرة في الشرق الأوسط. وفي يوم 10 أيلول 1957 زارني السفير الأمريكي في ديوان وزارة الخارجية بحضور[ أمين المميز] واستعرض الوضع في سوريا، وبين أن الحكومة الأمريكية تعتقد أن الوضع في سوريا خطير ويدعو للقلق، وتقتضي المصلحة عملاً سريعاً. وفي 13 أيلول 1957 طلب السفير الأمريكي مقابلتي بالتلفون فوراً، قائلاً إنه تلقى معلومات من حكومته تشير إلى ما يلي: (26)
1ـ إن الوضع في سوريا قد تردى كثيراً، بسبب تغلغل الشيوعيين هناك.
2 ـ إذا وقع أي عدوان من سوريا على أي بلد عربي، وطلبت حكومة ذلك البلد مساعدة ما فإن الحكومة الأمريكية تعاونها بالمال والسلاح.
3ـ إذا تصدت سوريا لقطع أنابيب النفط على أراضيها فإن الحكومة الأمريكية ستساعد العراق بصورة مؤقتة.
4ـ الأسطول السادس الأمريكي في البحر المتوسط على أتم الاستعداد
للمساعدة.
5ـ إذا وقع تعدي من سوريا بمساعدة السوفيت، فالحكومة الأمريكية تعاون بالمال والسلاح.
6ـ إذا جرت محاولة للقيام بأي عمل داخل سوريا فإن أمريكا تساعد أيضاً.
7ـإن هذه الإجراءات لإعادة الحالة الطبيعية لسوريا وليس للمس باستقلالها، وأراضيها.
8 ـ الأتراك يشعرون أيضاً بتردي الحالة. 
9 ـ لقد جرى الاتصال بإسرائيل، وطلب منها عدم التدخل منعاً للإحراج.
10 ـ إن هذه المعلومات قد أُبلغت للأتراك والبريطانيين] .
ولم تكتفِ الولايات المتحدة بالعمل من وراء الستار لقلب الأوضاع في سوريا، بل كانت تتحدث على المكشوف، فقد أصدر وزير الخارجية  [جون فوستر دلس ] البيان التالي :
بتاريخ 7 أيلول 1957،جرى اجتماع بين [ لوي هندرسن ] و[وليم رونتري] وبيني وبين الرئيس [ ايزنهاور]، وعرض المستر[ هندرسن] عرضاً وافياً، وتبادل وجهات النظر حول المباحثات التي أجراها في الشرق الأوسط مع موظفين كبار المسؤولين من تركيا والعراق والأردن ولبنان، وقد بين هندرسن بأنه وجد في الشرق الأوسط اهتماماً بالغاً لازدياد التسلط لسوفيتي الواضح في سوريا، وتكدس أسلحة الكتلة الشيوعية فيها، ذلك التكدس الذي لا تبرره أي مقتضيات دفاعية صرفة، وهناك وضع خاص بسبب حوادث الحدود التي تألفت حديثاً في الدول العربية المجاورة لسوريا.
لقد أولى الرئيس [ايزنهاور] تقرير هندرسن، وكذلك التقارير الواردة لوزارة الخارجية الأمريكية من سفراء الولايات المتحدة في المنطقة تمعناً دقيقاً، وقد قدر الرئيس ايزنهاور الوضع على ضوء ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينكر على سوريا حق استخدام القوة، إلا لغرض الدفاع عن النفس.
 وقد استعاد الرئيس برسالته الموجهة إلى مجلس الكونجرس بتاريخ 5 كانون الثاني 1957، والتي يطلب فيها تخويله الصلاحية لمساعدة شعوب المنطقة للذود عن استقلالها]. (27)
يستفاد من كل ما سبق، أن الولايات المتحدة وحلفائها الإمبرياليين كانوا قد عقدوا العزم على إسقاط النظام الديمقراطي في سوريا، وإخضاعها لمشيئتهم بكل الوسائل والسبل، وقد استهوت هذه الأفكار ولي العهد العراقي عبد الإله، الذي كان يطمح بعرش له على سوريا، ولذلك نراه كان أكثر اندفاعاً في محاولة الاعتداء على سوريا.
لقد أثبت المحاكمات التي جرت لرجال الحكم الملكي انخراط نوري السعيد وعبد الإله في عملية التآمر على سوريا، والأسلحة التي تم نقلها إلى القوى المتعاونة معهم، والمبالغ الكبيرة التي كانت ترسل للسياسيين المعارضين للنظام الديمقراطي في سوريا، والعديد من رؤساء العشائر عن طريق الملحق العسكري في لبنان، حيث كانت لبنان مركز تجمع المعارضين في سوريا.
لقد اعترف اللواء الركن [ غازي الدغستاني ] معاون رئيس أركان الجيش في شهادته أمام محكمة الشعب بأنه قد حضر مؤتمراً في البلاط الملكي حضره كل من [ فيصل الثاني] و[ عبد الإله ] و[ نوري السعيد ] ورئيس أركان الجيش [ رفيق عارف] و[ أحمد مختار بابان ] و[ برهان الدين باش أعيان ] و[ عبد الله بكر] رئيس الديوان الملكي، وقد تقرر في المؤتمر تخصص الأموال المطلوب إيصالها إلى المعارضة السورية عن طريق الملحق العسكري في لبنان.
أما ما يخص السلاح فكان قد طلب المعارضون السوريون ما يزيد على عشرين ألف قطعة سلاح، ولما تعذر تأمين ذلك من أسلحة الجيش، فقد قرر[ نوري السعيد ] شراء كمية من الأسلحة من إيطاليا، وقد تمت الصفقة بالفعل عن ط

406
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة 14/ 16

حامد الحمداني                                                      15/9/2008
أولاً:الأحزاب الوطنية تشكل جبهة وطنية لخوض الانتخابات:
رداً على سياسة السلطة الحاكمة المتجاهلة لإرادة الشعب، دعت الأحزاب والقوى السياسية، والمنظمات الديمقراطية والنقابات، إلى لقاء يهدف إلى تشكيل جبهة موحدة لخوض الانتخابات.
وبالفعل تم اللقاء الذي حضره ممثلون عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وحركة أنصار السلام، ومنظمات الطلاب والشباب، والنقابات العمالية، والمهنية،كنقابة المحامين، والأطباء، وممثلي الفلاحين، وتدارس الجميع موضوع إقامة جبهة وطنية لخوض الانتخابات العامة، وقد تم التوقيع على الميثاق في 12 أيار 1954، وكان لهذا الميثاق وقع الصاعقة على الفئة الحاكمة، فقد تضمن الميثاق البنود التالية :
1ـ إطلاق الحريات الديمقراطية، كحرية الرأي والنشر، والاجتماع، والتظاهر، والإضراب، وتأليف الجمعيات، وحق التنظيم السياسية والنقابي.
2ـ الدفاع عن حرية الانتخابات.
3ـ إلغاء معاهدة 1930، والقواعد العسكرية، وجلاء الجيوش الأجنبية، ورفض جميع المحالفات العسكرية الاستعمارية، بما فيها الحلف التركي الباكستاني، وأي نوع من أنواع الدفاع المشترك.
4ـ رفض المساعدات العسكرية الأمريكية التي يراد بها تقييد سيادة العراق، وربطه بالمحالفات العسكرية الاستعمارية [ النقطة الرابعة ].
5ـ العمل على إلغاء امتيازات الشركات الأجنبية الاحتكارية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإنهاء دور الإقطاع، وحل المشاكل الاقتصادية القائمة، ومشكلة البطالة ،وغلاء المعيشة، ورفع مستوى معيشة الشعب بوجه عام، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها.
6ـ العمل على إزالة الآثار الأليمة التي خلفتها كارثة الفيضان، وذلك بإسكان المشردين من ضحايا الكارثة، وتعويض المتضررين، وتأليف لجنة نزيهة محايدة لتحديد مسؤولية المقصرين ، واتخاذ كل ما يلزم لدرء
 لدرء أخطار الفيضان في المستقبل.
7ـ التضامن مع الشعوب العربية، واستقلال البلاد العربية، وتحرير فلسطين
8 ـ العمل على إبعاد العراق والبلاد العربية عن ويلات الحرب. 
وقد وقع على الميثاق كل من السادة:
1ـ ممثل الحزب الوطني الديمقراطي
 2 ـ ممثل حزب الاستقلال
3 ـ ممثل الفلاحين ـ  نايف الحسن     
 4 ـ ممثل العمال ـ كليبان صالح
5 ـ ممثل الشباب ـ صفاء الحافظ     
 6 ـ ممثل الأطباء ـ د.احمد الجلبي 
7 ـ ممثل المحامين ـ عبد الستار ناجي     
 8 ـ ممثل الطلاب ـ مهدي عبد الكريم
 وطبيعي أن الخمسة الأخيرين كانوا يمثلون الحزب الشيوعي، بسبب الحظر المفروض على الحزب، وملاحقة أعضائه، ومؤيديه، فقد جرى الاتفاق على تمثيل الحزب الشيوعي بهذه الطريقة. (1)
أحدث إعلان ميثاق الجبهة الوطنية في 12 أيار 1954 زلزالاً كبيراً لدى السلطة الحاكمة، التي أقلقها أشد القلق اللقاء بين الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال،والحزب الشيوعي، بهذا الشكل العلني الواسع الذي ينم عن التحدي، وأخذت السلطة الحاكمة تبذل قصارى جهدها للحيلولة دون نجاح مرشحي الجبهة الوطنية في الانتخابات بكل الوسائل والسبل، من إرهاب وتزوير ورشاوى وغيرها.
وفي المقابل نشطت الجبهة الوطنية في تعبئة الجماهير الشعبية لخوض المعركة الانتخابية، وتحدي إجراءات السلطة مهما كلف الأمر.
وبذلت القوى المؤيدة للبلاط، و بضمنها حزبا نوري السعيد، وصالح جبر،الاتحاد الدستوري، وحزب الأمة الاشتراكي، وشيوخ الإقطاع الموالين للبلاط ، مكونين جبهة واحدة، رغم التنافس بين البلاط وكتلة نوري السعيد، والذي بدا واضحاً عند تأليف وزارة أرشد العمري التي لم يدخلها أحد من حزب نوري السعيد، لكي يضمن عبد الإله أغلبية موالية له في الانتخابات.
تم تحديد يوم الأربعاء المصادف 9 حزيران للانتخاب، وكان النشاط من الطرفين يجري على قدم وساق، ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي جرت فيه الانتخابات، والأيام التي سبقتها، حيث كانت القوى الوطنية تعمل كخلية نحل في أعداد وتعبئة الجماهير للمشاركة في الانتخاب، والتصويت لمرشحي الجبهة الوطنية في الموصل، وكان لي شرف المساهمة النشطة بتلك الحملة الانتخابية، وعملنا المستحيل من أجل فوز كافة مرشحي الجبهة الوطنية، وإفشال مرشحي الحكومة والبلاط، رغم كل المحاولات التي بذلتها الإدارة والأجهزة الأمنية للتلاعب في الانتخابات حينا، وفي التهديد وإخافة الناس البسطاء حيناً آخر.
 لقد كان ذاك اليوم عيداً وطنياً كبيراً لدى أبناء الشعب في الموصل، فقد فاز مرشحي الجبهة الوطنية بالمقاعد الأربعة المخصصة لمدينة الموصل، وخرجت الجماهير الشعبية في اليوم التالي لتوديع النواب المنتخبين في طريقهم إلى بغداد لحضور الجلسة الأولى للمجلس النيابي، وقابلتنا الشرطة بالهراوات، وأخذت تلاحق جماهير الشعب، وتم اعتقال أعداد منهم.
لكن الانتخابات في بقية المناطق كانت بعيدة كل البعد عن التمثيل الحقيقي لإرادة الشعب، بسبب هيمنة الإقطاعيين الواسعة، وبسبب تدخلات السلطة، وخاصة في بغداد والمدن الرئيسة، فكانت النتيجة فوز 11 نائباً من الجبهة الوطنية من مجموع عدد النواب البالغ 135نائباً، فيما فاز من أعوان الوصي 51 نائباً، وفاز من حزب صالح جبر 21 نائباً، وفاز 38 إقطاعياً بالتزكية، دون منافس. (2)
وقد رفعت الجبهة الوطنية مذكرة إلى الحكومة، وموجهة بالذات إلى وزير الداخلية  في 1 حزيران 1954، تحتج فيها على الانتهاكات الصارخة، والتدخلات غير المشروعة في تلك الانتخابات، وحرمان مرشحي الجبهة الوطنية من حق الدعاية الانتخابية، وعقد الاجتماعات الانتخابية مع جماهير الشعب، ومنع الاجتماعات العامة، وإشاعة الإرهاب بين الناس، واعتقال مؤيدي الجبهة الوطنية، وزجهم في السجون بشكل سافر أمام أعين الجماهير الشعبية لإرعابهم، ومنعهم من التصويت لمرشحي الجبهة الوطنية، كما جرى إبعاد مرشحي الجبهة الوطنية في الحلة والكوت عن مناطقهم الانتخابية مخفورين، حيث تم نقلهم بالسيارات المسلحة.
كما جرت مذبحة في مدينة الحي عندما حاول أبناء الشعب تقديم المرشح المنافس للإقطاعي الكبير [عبد الله الياسين ]، حيث قام رجاله البالغ عددهم أكثر من 100 مسلح بالاعتداء عل  أبناء الشعب، وقد ذهب ضحية الاعتداء المسلح أحد المواطنين، وجرح 15 آخرين. (3)
 أثارت المذبحة هيجاناً شديداً لدى الجماهير الشعبية، وهبت المظاهرات المنددة بالإقطاع والحكومة، وقد شارك في المظاهرات سائر أبناء الحي نساءً ورجالاً، وقد تصدت لهم قوات الشرطة بكل وسائل القمع، حيث وقع المزيد من الجرحى، ألقت الشرطة القبض على 74 مواطناً أحيل 52  فرداً منهم إلى المحاكمة، وحكم على المناضل الشيوعي [ علي الشيخ حسين ] بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم به، وعلى الباقين بالسجن لمدد مختلفة. بهذا الأسلوب أجرت السلطة الحاكمة الانتخابات لتضمن فوز مرشحي النظام.
ومع أن عدد الفائزين من مرشحي الجبهة الوطنية كان 11 نائباً فقط، فقد أقلق ذلك العدد السلطة كثيراً، وهالها أن ترى نخبة مثقفة واعية على مقاعد البرلمان تقف بالمرصاد للمخططات الإمبريالية التي يراد بها ربط العراق بالأحلاف العدوانية، وبدأت السلطة تفكر بالتخلص من هذا البرلمان منذ أن أعلنت نتائج الانتخابات.
لم يعقد المجلس الجديد سوى جلسة واحدة في يوم الاثنين 26 تموز 1954، فقد صدرت الإرادة الملكية بتعطيله حتى تم حله على يد حكومة نوري السعيد، التي خلفت حكومة العمري بعد الانتخابات، وصدرت الإرادة الملكية بحله في 3 آب 1954، لكي يجري نوري السعيد انتخابات جديدة يحول فيها دون وصول أي معارض إلى البرلمان، فكان مجلس التزكية المعروف، والذي سنتحدث عنه فيما بعد.

ثانياً: نوري السعيد يعود إلى الحكم ليصفي الحركة الوطنية
أثار قيام الجبهة الوطنية ونجاحها في إيصال 11 نائباً إلى البرلمان، على الرغم من التدخلات السافرة للحكومة لصالح مرشحيها، والضغوط التي مارستها ضد مرشحي الجبهة الوطنية، أثارت قلق السفارة البريطانية في وقت كانت تعد العدة لإدخال العراق في حلف جديد أطلق عليه فيما بعد[حلف بغداد] ضم تركيا والباكستان والولايات المتحدة وبريطانيا، وبمناسبة الانتهاء من إجراء الانتخابات الجديدة قدمت حكومة [أرشد العمري] استقالتها حسب ما ينص عليه الدستور، وتم قبول الاستقالة في 3 آب، وخلال المدة الممتدة ما بين 17 تموز و 3 آب نشطت السفارة البريطانية في مسعاها لتكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة الجديدة، وطلبت من عبد الإله شخصياً السفر إلى لندن على أول طائرة، ومصالحة نوري السعيد وإقناعه بالعودة إلى بغداد، وتكليفه بتشكيل الوزارة، نظراً لأن المهام التي تنتظرها الحكومة الجديدة كبيرة جداً، بعد أن أوشكت معاهدة 1930 على نهاية مدتها، وليس هناك غير نوري السعيد قادرٌ على تحدي إرادة الشعب، وأداء هذه المهمة. (4)
و بالفعل نفذ عبد الإله إرادة الحكومة البريطانية وسفارتها في بغداد، وسافر إلى لندن لمصالحة نوري السعيد، وإقناعه بالعودة إلى بغداد وتأليف الوزارة الجديدة، وأعطاه الحرية الكاملة في اختيار أعضاء وزارته. (5)
أما نوري السعيد فقد اشترط على عبد الإله تلبية الشروط التالية لقبول هذه المهمة وهي: (6)
1 ـ حل المجلس النيابي المنتخب، وإجراء انتخابات جديدة.
2ـ حل جميع الأحزاب السياسية، والمنظمات، والجمعيات، والنقابات والنوادي.
3 ـ إلغاء جميع امتيازات الصحف، ومنح امتيازات جديدة لعدد محدود من المناصرين للسلطة.
4ـ شن حرب لا هوادة فيها على القوى الوطنية، وعلى الحريات الديمقراطية.
و كان لنوري السعيد ما أراد مادام ذلك يتفق وإرادة الإنكليز، وعاد إلى بغداد ليؤلف أسوأ وزارة في تاريخ العراق منذ قيام الحكم الملكي، كما سنرى فيما بعد، وتم تأليفها في 3 آب 1954، وجاءت على الشكل التالي:
1 ـ نوري السعيد رئيساً للوزراء، و وزيراً للدفاع.
2 ـ سعيد قزاز ـ وزيراً للداخلية.
3ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية.
 4ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
5 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للعدلية.
6 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للمالية.
7ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للزراعة.
8 ـ عبد المجيد محمود ـ وزيراً للأعمار.
9 ـ نديم الباجه جي ـ وزيراً للاقتصاد.
10 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للصحة.
11 ـ خليل كنه ـ وزيراً للمعارف.
12 ـ صالح صائب الجبوري ـ وزيراً للمواصلات والأشغال .
13 ـ علي الشرقي ـ وزيراً بلا وزارة .
14 ـ أحمد مختار بابان ـ وزيراً بلا وزارة .
15 ـ برهان الدين باش أعيان ـ وزيراً بلا وزارة
16 ـ رشدي الجلبي ـ وزيراً بلا وزارة .

ثالثاً:السعيد يبدأ هجومه ويصفي كل مظاهر الديمقراطية:
لم يكد نوري السعيد يفرغ من تأليف وزارته الحادية عشرة حتى باشر بأعنف هجوم مضاد على القوى والأحزاب الوطنية، وفي جعبته تصفية أي مظهر من مظاهر الديمقراطية، وكبح جماح تلك القوى بأقسى الوسائل والإجراءات، فكان باكورة هجومه حل مجلس النواب، حيث استحصل الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإبعاد أي عنصر معارض من المجلس عن طريق إجراء انتخابات مزيفه لم يعرف لها العراق مثيلاً حيث دُعي المجلس الذي جاء به نوري السعيد [ مجلس التزكية ] نظراً لفوز 121 نائباً بالتزكيةـ  أي دون منافس ـ من مجموع 135 نائباً، وحتى النواب الآخرون فكانوا من أعوان السعيد كذلك. (7)
لقد منع نوري السعيد أي عنصر معارض من ترشيح نفسه، واضطرت الأحزاب الوطنية إلى مقاطعة الانتخابات التي جرت في 12 أيلول 1954، في ظل إرهاب وحشي لم يشهد له الشعب مثيلاً. وقد أدى سلوك الحكومة السعيدية هذا إلى وقوع المظاهرات الدامية، وسقوط العديد من الشهداء والجرحى في مناطق عدة، وخاصة في السليمانية، حيث تصدت قوات الشرطة للمظاهرات الشعبية مستخدمة السلاح، وتعاملت مع أبناء الشعب بأبشع أسلوب.
لقد شهد العراق أسوا الانتخابات في تاريخه الحديث، والذي ُيعدّ وصمة عار في جبين السلطة الحاكمة التي لم تتحمل وجود 11 من النواب المعارضين في المجلس، فأقدمت على حله لتمهد السبيل لتصفية الحقوق والحريات الديمقراطية، وتنفيذ المخطط الإمبريالي الهادف لربط العراق بالأحلاف العدوانية.
رابعاً: السعيد يحل البرلمان، ويصدر مجموعة من المراسيم
بعد أن تم لنوري السعيد حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات مجلس التزكية، بعد أن حرم القوى والأحزاب الوطنية من الترشيح لتلك الانتخابات، تابع هجومه لتصفية ما تبقى من مظاهر الديمقراطية بإصدار المراسيم التي مسخت الدستور، ومحت آخر ما تبقى من حقوق وحريات الشعب. وفيما يلي بعض تلك المراسيم: (8)
1 ـ مرسوم رقم 16 لسنة 1954:
وقد تضمن هذا المرسوم إضافة الفقرة التالية إلى قانون العقوبات البغدادي رقم 51 لسنة 1938، وتنص الإضافة على ما يلي :{ سواء كان ذلك بصورة مباشرة، أو بواسطة هيئات، أو منظمات تهدف إلى خدمة أغراض المذهب المذكور، تحت ستار أي اسم كان، كأنصار السلام، والشبيبة الديمقراطية، وما شاكل ذلك}.
وكانت المادة التي ألحقت بها هذه الفقرة قد نصت على ما يلي :{كل من حبّذ، أو روّج أيا من المذاهب الاشتراكية البلشفيةـ الشيوعيةـ والفوضوية والإباحية !!، وما يماثلها، التي ترمي إلى تغير نظام الحكم، والمبادئ والأوضاع السياسية للهيئة الاجتماعية المضمونة بالقانون الأساسي جرماً يستحق عقوبة الحبس لمدة  7 سنوات، أو الحبس المؤبد أو الإعدام، إذا كان التحبيذ بين القوات المسلحة}.
وبذلك أصبح الانتماء لحركة أنصار السلام، والشبيبة الديمقراطية جريمة تستحق عقوبة السجن ما بين الحبس لمدة 7 سنوات والإعدام !! .
2 ـ مرسوم رقم 17 لسنة 1954 بإسقاط الجنسية العراقية:
وقد نص هذا المرسوم على ما يلي:                                     .                                                   
  المادة الأولى: لمجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير الداخلية، إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي المحكوم وفق قانون ذيل قانون العقوبات
البغدادي رقم 51 لسنة 1938.
 المادة الثانية : لوزير الداخلية اعتقال الشخص المسقطة عنه الجنسية العراقية فور صدور قرار مجلس الوزراء بذلك، والاحتفاظ به إلى أن يتم إبعاده عن العراق.
 وكان من بين الشخصيات الوطنية التي أسقطت عنها الجنسية العراقية بموجب هذا المرسوم السادة كل من:
1  ـ  المحامي عزيز شريف         2 ـ  المحامي كامل قزانجي
 3 ـ الدكتور صفاء الحافظ           4  ـ المحامي توفيق منير
 5  ـ المحامي عدنان الراوي        6 ـ الشاعر كاظم السماوي
3 ـ مرسوم رقم 18 لسنة 1954، الخاص بغلق النقابات:
المادة الأولى:

 لمجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير الداخلية، أن يقرر غلق أي نقابة مؤسسة وفق قانونها الخاص، بصورة دائمة أو مؤقتة، عندما تسلك النقابة مسلكاً يمس الأمن العام، أو النظام العام، ويسبب إقلاق الراحة، مما يدل على خروجها عن الأسس والمبادئ التي أسست من أجلها.
المادة الثانية :
 عند غلق النقابة وفق المادة الأولى تنقل السلطات والواجبات المودعة إلى اللجان المذكورة في ذلك القانون، إلى الوزير المختص، أو من ينوب عنه.
وقد جاء في الأسباب الموجبة للمرسوم ما يلي :
ثبت أن بعض النقابات قد خرجت على أهدافها، واستغلت كيانها القانوني للترويج لمذاهب ينص القانون على تجريم من يحبذوها، أو يروجها، خدمة لأغراض وأهداف لا تمت بصلة إلى مصلحة النقابة !!، حتى أن بعض هذه النقابات قد استغلت كيانها القانوني لإقلاق الراحة العامة والإخلال بالأمن والنظام العام !!.
وهكذا أصبح مصير النقابات العمالية وغيرها من النقابات المهنية معلقاً بإرادة وزير الداخلية الذي أمر بحل كافة النقابات التي سبق أن جرى تأليفها، وقامت الحكومة بتأليف عدد من النقابات المزيفة، ونصبت العديد من رجالها، ومن وكلاء جهاز الأمن على رأسها.

4 ـ مرسوم رقم 19 لسنة 1954 بحل الأحزاب السياسية والجمعيات والنوادي: وبموجب هذا المرسوم ألغت وزارة الداخلية كافة الأحزاب السياسية، والجمعيات، والنوادي، ودور التمثيل[المسارح] في العراق، وأصدر وزير الداخلية بياناً أوضح فيه ما يلي:
{ لقد أصبحت الجمعيات والنوادي المبينة أدناه [قائمة تضم 465 جمعية ونادي ومسرح ملغاة] من تاريخ نفاذ المرسوم في 22 أيلول ، وذلك بحكم المادة 25 منه، ولذلك فإنه في حالة ما إذا رغب القائمون بشؤون تلك الجمعيات والنوادي سابقاً الاستمرار في تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها، عليهم تقديم طلبات جديدة إلى وزارة الداخلية إذا كان يراد تأسيس هذه الجمعيات والنوادي في بغداد، وإلى المتصرف المختص إن كان يراد تأسيسها خارجه.
ب ـ يشمل ما جاء في الفقرة الأولى من هذا البيان أية جمعية، أو نادٍ لم يرد ذكرها ضمن الجمعيات والنوادي المبينة أدناه، وهو مجاز من وزارة الداخلية، وكان يمارس أعماله حتى صدور المرسوم المشار إليه.
ج ـ تقدم الطلبات أنفاً إلى مأمور التسجيل في ديوان وزارة الداخلية لقاء وصل}. وجاء في الأسباب الموجبة لهذا المرسوم :
[ أصبحت الجمعيات وسيلة فعالة في توجيه الشعب، وأداة ذات حدين تعمل في البناء أو في الهدم، وقد أخذت بعض الجمعيات تجاهر بالدعوة إلى مذاهب ومبادئ يعاقب عليها القانون، كما أن بعضها أخذ يدعو إلى استغلال طرق الشغب، وإشاعة الفوضى خدمة لأغراض مؤسسات أجنبية !!، مع علمه بأن هذه الدعوة تتعارض ونظامه الذي أعلنه، وأجيز بمقتضاه.
كما أن بعضها استغل الامتيازات التي منحها القانون لها، ولصحافتها فأخذ يحرض الناس في الصحف التي تنطق بلسانه على الشغب!!، والقيام بأعمال ثورية لقلب نظام الحكم، وإن بعضها قد طغت عليها الأنانية الفردية، فجعلت مصلحة الحزب فوق مصلحة البلاد].
بهذه العقلية كان نوري السعيد يريد إدارة دفة الحكم في البلاد، سالباً كل الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور، ومسخ الأحزاب، والنقابات، والصحافة، وسخرها لخدمة النظام والإمبريالية.

5 ـ مرسوم رقم 24 لسنة 1954  بإلغاء امتيازات الصحف :
وبموجب المادة 41 من هذا لمرسوم، قررت وزارة الداخلية  في 12 كانون الأول 1954  إلغاء امتيازات الصحف والمجلات المنوحة بموجب قانون المطبوعات رقم 57 لسنة 1933،على أن يتقدم أصحابها بطلبات جديدة للحصول على امتيازات جديدة، ولم تمنح الحكومة سوى 7 امتيازات لصحف تسبح بحمد البلاط والحكومة، وهذا هو نص المادة 41 من المرسوم المذكور:
 [ تلغى إجازات الصحف، والمجلات كافة، الممنوحة بموجب قانون المطبوعات رقم 57 لسنة 1933، وتعديله رقم 33 لسنة 1934، بعد مضي 30 يوماً اعتباراً من تاريخ نفاذ المرسوم، ويشمل الإلغاء إجازات الصحف والمجلات المعطلة، والمتوقفة عن النشر لأي سبب كان] .
وجاء في الأسباب الموجبة لهذا المرسوم ما يلي :
[ رأت الوزارة ـ استكمالاً لسياستها ـ أن قانون المطبوعات الصادر سنة 1933 يحتوي على نواقص كثيرة وخطيرة، كانت مصدراً لإشاعة الفوضى، وبث التفرقة بين أبناء الشعب !!، والتمول من مصادر سرية، بقصد ترويج مبادئ حرمها القانون، أو يستخدم الصحافة كأداة للكسب عن طريق التهديد !! والتشهير، فأصدرت مرسوم المطبوعات رقم 24 لسنة 1954، الذي اشترطت أحكامه أن تتوفر لدى صاحب المطبوع بعض الشروط اللازمة لكي يكون أهلاً لأداء رسالة الصحافة ] !!.

6 ـ مرسوم رقم 25 لسنة 1954 الخاص بالاجتماعات العامة
وبموجب هذا المرسوم أعطي الحق لوزير الداخلية بمنع أي تجمع،أو اجتماع ،أو مظاهرة، كما أعطى له الحق بتفريق المظاهرات بالقوة، إذا عرضت الأمن العام والنظام للإخلال، وإذا كان المتظاهرون، أو قسم منهم يهتفون هتافات ضد نظام الحكم لغرض إثارة الجمهور ضد الأمن والنظام، أو يحملون لافتات من هذا النوع!!.

خامساً:رد فعل الأحزاب الوطنية على مراسيم نوري السعيد: 
أحدثت المراسيم التي أصدرتها حكومة نوري السعيد ردة فعل عنيفة لدى سائر الأحزاب السياسية الوطنية، والمنظمات المهنية والنقابية، وسائر الجماهير الشعبية التي استنكرت هذه السياسة الرعناء للحكومة، والهادفة إلى تجريد الشعب من كل الوسائل التي يدافع بواسطتها عن حقوقه، وحرياته العامة،وانهالت برقيات الاحتجاج والعرائض التي تستنكر هذه الإجراءات التي جردت الدستور من سائر نصوصه الخاصة بحقوق وحريات الشعب.
كما أصدر الحزب الوطني الديمقراطي البيان التالي الموجه للشعب حول مخاطر تلك المراسيم الجائرة التي فرّغت الدستور من محتواه.
بيان إلى الشعب العراقي الكريم:
بالرغم من تحذيرنا للحكومة من فظاعة العمل الذي نوه عنه رئيس الوزراء السيد نوري السعيد عند مجيئه إلى الحكم، من الأقدام على إسقاط الجنسية العراقية عن الشيوعيين، فقد صدر يوم أمس مرسوماً بهذا الأمر، مع مرسومين آخرين، أحدهما يمنح وزير الداخلية حق حل النقابات المهنية المشكلة وفق قانون خاص، والأخر يوسع حكم ذيل قانون العقوبات رقم 51 لسنة 1938، بحيث تشمل عقوبة تحبيذ المبادئ الشيوعية، بعض الجماعات التي لا يمكن أن يشملها مفهوم الشيوعية، أو يمكن أن تنضوي تحت ظلها
بأي شكل من الأشكال.
إن حزبنا الوطني الديمقراطي، الذي يؤمن بالديمقراطية، ويقوم نهجه على العمل على تطبيقها، وضمان الحريات السياسية جميعاً، يرى أن خير طريق للإصلاح والتقدم هو أن يفسح المجال لكل عقيدة، أو رأي أو حركة سياسية بالعمل، سواء كانت متفقة معنا في الرأي أو مخالفة لنا لأننا نرى أن التجارب على مدى التاريخ قد اثبت أن تضارب الآراء ومناقشتها هما الطريق الصحيح لدحر الآراء التي لا تتفق معها، وأنه لا يمكن أن يثبت النظام ما لم يقم على قناعة وإيمان بالمبادئ التي يقوم عليها. لذلك فنحن نرى أن هذه المراسيم الرجعية التي أصدرتها الحكومة الحاضرة تعتبر أفظع مما قامت به أية حكومة، ليس في العراق فحسب بل وفي العالم اجمع، لا لأنها تخالف المبادئ الديمقراطية، وتخرق الدستور، بل لأنها ضربت عرض الحائط بأحد الحقوق الطبيعية المقدسة للإنسان، وهو حق المواطنة، لأنها تضمن التوسع في اضطهاد الرأي والحرية السياسية، بتعاريف غامضة مما يفسح مجالاً أوسع لاضطهاد كل نشاط سياسي. وقد رأينا كيف أن المجالس العرفية العسكرية، وبعض المحاكم والسلطات الحكومية كانت قد اعتبرت المتهم شيوعياً، ليس من يثبت عليه اعتناقه لهذا المذهب فقط، بل أن كثيراً من الذين لم يكن لهم من ذنب سوى اشتراكهم ببعض الحركات أو المظاهرات، أو الذين يملكون بعض الكتب والنشرات التي لم يكن بعضها حتى ليتصل بالشيوعية، وعلى ذلك يمكننا أن نتصور الخطر الجسيم الذي يهدد حرية الرأي بإضافة مجال أوسع في التوسع بالتفسير والتعريف في تطبيق أحكام هي في الأصل مخالفة للمبادئ الديمقراطية، والحريات العامة. إن حق كل شخص في جنسية البلد الذي ولد فيه من أب من ذلك البلد حق طبيعي لم يكتسب بقانون، وإنما هو حق ولد معه، ولا يحق لأي قوة في العالم أن تنتزع حقه في هذه الجنسية، وعلى هذا الرأي أجمع الحقوقيون في العالم أجمع. وإذا كان بين الحقوقيين من يجيز استرجاع الجنسية من شخص اكتسبها هو نفسه عن طريق التجنس، فليس في العالم حقوقي واحد يجيز أن تسلب الجنسية من شخص اكتسبها بالولادة. وإلى جانب ذلك فإن هذا المرسوم يخالف القانون الأساسي العراقي الذي يمنع بصورة مطلقة نفي العراقيين إلى الخارج، ويخالف الإعلان الدولي لحقوق الإنسان الذي وقع عليه العراق، ومن السخرية أن يسعى العراق للاشتراك في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وهو يصدر مثل هذه التشريعات البعيدة عن كل مفهوم إنساني، والمخالفة لكل مبدأ قانوني، مما يجعل العراق موضع استنكار العالم أجمع بإصداره هذا التشريع. إن الحكومة العراقية قد بزّت أكثر حكومات العالم رجعية في هذه الإجراءات التي جعلت الوضع السياسي في العراق أضيق خناقاً على حرية الرأي، والعمل السياسي مما هو عليه في أي قطر آخر. إن الحوادث القريبة والبعيدة قد برهنت على أن الاضطهاد، وخنق الحريات، والتمادي في سن القوانين الرجعية، كل ذلك لا يجدِ نفعاً في حماية الأوضاع البالية التي تسبب التذمر والشكوى، بل على العكس، فهو يؤدي إلى فرض الدكتاتورية بكل ما يرافقها من مظالم شنيعة، وأعمال فضيعة، لابد وأن توقظ في النهاية ضمير الأمة، فتعمل على إزالتها. إن الحزب الوطني الديمقراطي يطالب بإلغاء هذه المراسيم، وإحلال وضع يبعث الطمأنينة لدى الناس، ويهيئ جواً صالحاً، بعيداً عن التحدي والاستفزاز، للعمل على تحقيق الإصلاحات الكثيرة الني تحتاجها البلاد تلك الإصلاحات التي لا يمكن أن تكون حقيقية ونافعة إلا إذا تحققت في وضع تسوده الحريات، ويطمأن الناس فيه على حقوقهم
حرياتهم ، و يأمنون على نفوسهم من اضطهاد الرأي والعقيدة. (9)
بغداد في 1 أيلول 1954                   
                                                       كامل الجاد رجي                               
                                             رئيس الحزب الوطني الديمقراطي
كما قدم السيد [كامل الجادرجي ] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي،
و[محمد مهدي كبه] زعيم حزب الاستقلال مذكرتان بهذا المعنى إلى الملك.  ورداً على البيان الذي أصدره الأستاذ الجادرجي، أقدمت حكومة نوري السعيد على حل الحزب الوطني الديمقراطي، وسحب إجازته متهمة إياه في بيان أذاعه مدير التوجيه والإذاعة العام [حسن الطالباني] بالتضليل والتمويه، وإحداث الشغب والبلبلة في صفوف الشعب!!، والإخلال بالأمن والنظام، وتشويه نظام الحكم، وبث الفوضى والاضطراب في البلاد !!، و إقلاق الراحة العامة، وإلى غيرها من المعزوفات التي مجها الشعب، والتي كان يرددها نوري السعيد ضد كل القوى الخيرة الهادفة لخدمة المواطن العراقي، وخدمة الأمة العربية، ومحاربة الإمبريالية، والتسلط والدكتاتورية.
و قد احتج الحزب على قرار الحكومة بحله وسحب إجازته، في 4 أيلول 1954، وتحدى السلطة الحاكمة، معلناً أن قرار حلّ الحزب غير شرعي ومخالف للقانون، وأحكام القانون الأساسي، وطالب بإلغاء القرار. (10)

سادساً: السعيد يقطع علاقات العراق بالإتحاد السوفيتي:
زيادة في إيغال نوري السعيد في العداء للشيوعية، وإرضاءً لأسياده الإمبرياليين، أقدم على قطع علاقات العراق بالاتحاد السوفيتي في الأول كانون من الثاني 1955، متهماً السفارة السوفيتية في بغداد بأنها قد أصبحت وكراً للنشاط الشيوعي في العراق، وبذلك عزل البلاد عن دول المعسكر الاشتراكي، قاطعاً جميع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية معها، وليجعل من علاقات العراق أحادية الجانب، ومرتبطة كلياً بعجلة الإمبريالية، فقد صدر بيان رسمي بتوقيع مدير التوجيه والإذاعة العام في 3 كانون الثاني 1955 جاء فيه:
{استدعى وكيل وزارة الخارجية القائم بالأعمال السوفيتي وابلغه قرار الحكومة العراقية بتعطيل التمثيل الدبلوماسي بين العراق والاتحاد السوفيتي في الوقت الحاضر}.(11)
سابعا: نوري السعيد يفرض على العراق حلف بغداد
لم يأتِ نوري السعيد إلى الحكم، ويؤلف وزارته الثانية عشرة في 3 آب 1954 ، إلا من أجل ربط العراق بالأحلاف الإمبريالية، ممهداً السبيل إلى ذلك بحملته المسعورة ضد كل مظاهر الديمقراطية، عن طريق إصدار مراسيمه سيئة الصيت، والتي أراد بها أن يستبق الأحداث، بقمع أية معارضة من جانب الشعب وقواه الوطنية ضد الأحلاف الإمبريالية، معلناً الحرب على الأحزاب والجمعيات والنقابات الوطنية والصحافة، وحتى النوادي الاجتماعية.
لقد مارست الإمبريالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ضغوطاً شديدة على البلدان العربية بغية جرها إلى مشروعات الدفاع الأنكلو أمريكية عن الشرق الأوسط بغية عزل الاتحاد السوفيتي ، وإبعاده عن المنطقة
 ذات الأهمية القوى نظراً لما تحويه من أكبر خزين هائل للنفط في العالم.
وعليه فقد سعت الولايات المتحدة إلى التغلغل في بلدان المنطقة عن طريق إغرائها بمشاريعها ومساعداتها الاقتصادية التي وعدت حكامها بها وكان منها: (12)
1ـ قروض بنك الإنشاء والتعمير.
2 ـ البنك الدولي وصندوق البنك الدولي .
3 ـ مشروعات النقطة الرابعة .
4 ـ مشروع فولبرايت .
كان هدف الولايات المتحدة،عبر هذه المشاريع ، الهيمنة على هذه البلدان سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وخاصة بعد أن أحست بتعمق الوعي الوطني لدى شعوب هذه المنطقة، وتنامي كفاحها من أجل تحقيق الحرية والاستقلال الحقيقيين، وقلقها على مستقبل المنطقة الشديدة الحساسية في العالم أجمع.
ورغم أن بريطانيا كانت تتمتع بنفوذ كبير في هذه البلدان، بحكم احتلالها إبان الحرب العالمية الأولى، إلا أنها لم تستطع الوقوف أمام مطامح الولايات المتحدة في انتزاع جانب كبير من نفوذها بحكم تبعيتها للولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في العالم، واضطرت بريطانيا إلى التنازل عن هيمنتها المطلقة على المنطقة للولايات المتحدة حفاظاً على علاقاتها بها من جهة، وعلى بقايا هيبتها من جهة أخرى.
ففي 14 تشرين الأول 1951 أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بياناً دعت فيه الدول العربية إلى الاشتراك في منظمة للدفاع عن الشرق الأوسط، وأن تضع هذه البلدان قواعدها العسكرية، وموانئها وطرق مواصلاتها تحت تصرف القائد العام للمنطقة.
ثم أعقبته ببيان ثاني في 10 تشرين الثاني 1951 لممارسة الضغط على الدول العربية من أجل الالتحاق بالمشاريع الأمريكية قائلة:
 { إن الدفاع عن الشرق الأوسط يمثل أمراً حيوياً للعالم الحر}. (13)
لكن تلك الضغوط قوبلت من قبل الشعوب العربية بمقاومة عنيفة، وكذلك من بعض الحكومات العربية.
 فلم تثمر جهود الولايات المتحدة في جر مصرـ أكبر الدول العربيةـ بقيادة عبد الناصرـ وكذلك سوريا، وحتى السعودية إلى ذلك المشروع.
لقد وقف عبد الناصر ضد محاولاتها لجر بقية الدول العربية إلى أحلافها الإمبريالية عدا العراق، الذي كانت بريطانيا تهيمن عليه هيمنة مطلقة، وجاءت بنوري السعيد، رجل المهمات الصعبة، والذي تعتمد عليه كل الاعتماد، إلى الحكم من جديد لينفذ المشروع الإمبريالي القاضي بربط العراق بالمشاريع الإمبريالية.
وبعد أن صفى نوري السعيد جميع مظاهر الديمقراطية، وأغلق الأحزاب السياسية، والصحف الوطنية، والنقابات، والجمعيات، وحل البرلمان وأجرى الانتخابات التي عرفت بانتخابات مجلس التزكية، حيث منع أي معارض لسياسته من الترشيح في تلك لانتخابات، وبذلك ضمن البرلمان الذي يصادق على تلك المشاريع دون أي معارضة.
وتفتق ذهن الإمبرياليين عن أسلوب جديد لجر المنطقة لأحلافها يعتمد على الاتفاقات الثنائية فكان باكورة خططهم إقامة حلف بين باكستان وتركيا في نيسان عام 1954.
وهكذا بدأ نوري السعيد بتنفيذ المخطط الإمبريالي، مبتدئاً بالتوقيع على [ميثاق التعاون مع تركيا] في 24 شباط 1955، ثم ما لبثت بريطانيا أن وقعت على انضمامها إلى الميثاق المذكور في  نيسان 1955، وبذلك ضمنت لنفسها بديلاً لمعاهدة 1930، ومعاهدة بورتسموث التي قبرها الشعب العراقي بوثبته المجيدة في كانون الثاني 1948. فقد حصلت بريطانيا بموجب اللاحق السرية للحلف على امتيازات أكبر بكثير من معاهدة 1930، وضمنت لنفسها عن طريق الحلف الهيمنة المطلقة على مقدرات العراق .
ولم يجرأ نوري السعيد على عرض الملاحق السرية على البرلمان، وحتى على جانب كبير من أعضاء وزارته، وبقيت سراً حتى تم كشفها من قبل بريطانيا عندما سمحت بعد سنين طويلة على نشر تلك الوثائق التي تضمنت تلك الملاحق السرية، وبادر السيد عبد الرزاق الحسني إلى نشرها في الطبعة الحديثة لتاريخ الوزارات العراقية، في الجزء التاسع منه. (14) 
وفي 23 أيلول انضمت الباكستان إلى الحلف، ثم تلاها انضمام إيران في 3 تشرين الثاني 1955. وألح  نوري السعيد على الولايات المتحدة للدخول في الحلف بصورة رسمية، لكن الولايات المتحدة آثرت أن تقود الحلف من وراء الستار عن طريق انضمامها إلى العديد من لجان الحلف حيث انضمت إلى جناحه العسكري، وإلى لجانه الأمنية، والاقتصادية المنبثقة عن الميثاق، وتم تبديل أسم الميثاق إلى [ميثاق حلف بغداد] وأصبحت بغداد مقراً للحلف، ووكراً للمؤامرات الإمبريالية على البلدان العربية، وخاصة سوريا، حيث جرت محاولات عديدة لإسقاط النظام فيها وضمها للحلف، وقد أثر الميثاق تأثيراً سلبياً كبيراً على حركة التحرر العربي الصاعدة، وأدى إلى الانقسام والاستقطاب في العالم العربي. (15)
وفي الوقت نفسه شكل الحلف ضمانة كبرى لإسرائيل، فقد جاء في تصريح لوكيل وزارة الخارجية الأمريكية ما يلي :
 [ إن حلف بغداد ينطوي على ضمانة لإسرائيل، وإن سياستنا تقوم على خلق جهاز دفاعي عسكري في منطقة الشرق الأوسط تكون فيه إسرائيل جنباً إلى جنب مع البلدان العربية] .
وحاول نوري السعيد بأقصى جهده ضم الأردن إلى الحلف، مقدماً للملك حسين الكثير من الإغراءات والمساعدات المادية، كما قدمت بريطانيا من جهتها المزيد من الإغراءات والمساعدات للملك حسين إذا ما قرر الانضمام للحلف، وقد وافق الملك حسين على الانضمام للحلف، وأرسل وفداً إلى بغداد للتداول في شروط الانضمام .
 لكن الوفد الأردني ما كاد يعود إلى عمان في 8 كانون الأول 1955 حتى جوبه بمظاهرات صاخبة عمت أرجاء البلاد، اضطرت على أثرها حكومة السيد [ سعيد المفتي ] إلى تقديم استقالتها للملك حسين، الذي سارع إلى تأليف وزارة جديدة برئاسة السيد  [هزاع المجالي ] الذي سارع إلى الطلب من الموفد البريطاني الجنرال [تمبلر] بمغادرة البلاد بغية تهدئة الأوضاع. لكن المظاهرات أخذت بالاتساع ، واتخذت أشكالاً عنيفة، وتعرضت العديد من ممتلكات الدولة إلى التخريب، وحرق العديد من الدوائر، واضطر الملك حسين بغية امتصاص الغضب الشعبي، إلى إنهاء خدمات [ كلوب باشا ] قائد الجيش الأردني، والطلب منه مغادرة البلاد، وتعيين قائد أردني للجيش مكانه. (16)
 وكانت المعارضة الشديدة لمصر وسوريا والسعودية لحلف بغداد عاملاً حاسماً في تخلي الملك حسين عن الانضمام للحلف، فقد تعهدت هذه البلدان إلى تعويض الأردن عن كافة المساعدات العراقية والبريطانية والأمريكية التي وعد بها، مما دفع نوري السعيد إلى الطلب من الولايات المتحدة الامتناع عن دفع ثمن مشترياتها من النفط السعودي عقاباً لها لتعهدها بمساعدة الأردن، وأعلن بكل صراحة قائلاً :
{ لو قبلت الولايات المتحدة اقتراحي هذا لانهارت مقاومة مصر وسوريا والسعودية ولبنان والأردن، ولتمكنا من إيجاد تسوية عربية إسرائيلية}.(17)   
شن الرئيس عبد الناصر، الذي كان يتزعم حركة التحرر العربي آنذاك، حملة متواصلة على حكومة نوري السعيد، وحلف بغداد، والإمبريالية، ولعبت إذاعة [صوت العرب ] دوراً كبيراً في الدعاية ضد نوري السعيد والمشاريع التي يروج لها في المنطقة.
واضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي في 6 أيار 1955 ندد فيه بالموقف المصري، وبصوت العرب، ودعا الحكومة المصرية إلى التراجع هم موقفها تجاه الحكومة العراقية، ومحذراً إياها في الوقت نفسه باتخاذ ما يراه مناسباً للرد على هذا الموقف. (18)
أدى ذلك الصراع إلى القطيعة بين العراق والدول العربية المتحررة، والتي استمرت حتى سقوط النظام الملكي في ثورة الرابع عشر من تموز  1958.
   توثيق الحلقة الرابعة عشر
     (1) صحيفة صوت الأهالي ـ العدد 187ـ في 16 مايس 1954 .
(2)   تقرير مدير مجلس النواب لسنة 1954 ـ ص 2 .
(3)   صحيفة لواء الاستقلال ـ العدد 1892 ـ في 2 حزيران 1954 .
(4)   ماذا جرى في الشرق الأوسط ـ ص 1954 ـ النشاشيبي .
(5)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 133 ـ الحسني .
(6)   نفس المصدر السابق ـ ص 134 ت136 .
(7)   الوقائع العراقية ـ في 3 آب 1954 .
(8)   مجموعة الأنظمة والقوانين لسنة 1954 ـ ص 168 .
(9)   نفس المصدر السابق .
(10)صحيفة صوت الأهالي ـ العدد262 ـ في 18 آب 1954 .
(11)صحيفة الزمان ـ العدد 5126 ـ في 3 أيلول 1954 .
(12)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 209 ـ الحسني
(13)نفس المصدر السابق .
(14)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء التاسع ـ ص 239 ـ الحسني .
(15)الخليج العربي ـ  ص93 ـ جان جاك بيرسي ـ
(16)ظهور وسقوط إيدن ـ ص244 ـ أنطوني نثنك .
(17)مذكرات أنطوني إيدن ـ الجزء الثاني ـ ص 134 .
(18) تاريخ الوزارات العراقية  ـ الجزء التاسع ـ ص 224 ـ الحسني.

ملاحظة : للحصول على نسخة من الكتاب يرجى الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي:
Alhamdany34@gmail.com

407
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة 13 /16


حامد الحمداني                                             12/9/2008

تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد
أولاً ـ مذكرات الأحزاب الوطنية المرفوعة للوصي:

تدهورت الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، بسبب سوء سياسات الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم، ولجوئها إلى انتهاك حقوق وحريات الشعب التي نص عليها الدستور، والاستهتار بمصالح الوطن، ووصول تلك الأحوال إلى مرحلة أصبح السكوت عنها أمراً مستحيلاً.
 ونتيجة لتلك الأوضاع أصيبت الأحزاب السياسية الوطنية باليأس من تلك الحكومات وسياساتها الخطرة، فلم تجد بداً من مخاطبة الوصي [عبد الإله] مباشرة، حيث رفعت إليه المذكرات شرحت فيها بإسهاب أحوال البلاد، وما وصلت إليه من تردي ينذر بتطورات خطيرة إذا لم يتم معالجتها بسرعة.
لقد جاءت المذكرات التي بعث بها حزب الاستقلال، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الجبهة الشعبية، متشابهة في مضمونها من حيث شرحها لظروف البلاد المتردية، وانتشار الفساد، وسلب الحريات العامة وانتهاك الدستور، وتزييف الانتخابات، وغيرها من الأمور الأخرى.
 كما جاءت بمطالب متشابهة أيضا، ولذلك فسوف اكتفي بمذكرة الحزب الوطني الديمقراطي التي رفعها السيد[ كامل الجاد رجي] إلى الوصي عبد الإله، والتي اتسمت بالصراحة والجرأة في عرض التدهور الحاصل في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد وفيما يلي نصها :
صاحب السمو الملكي الأمير عبد الإله: يا صاحب السمو
 ليست الغاية من تقديم هذه المذكرة إلى سموكم هي مجرد شكوى من الأوضاع السيئة القائمة في العراق واستنكارها، إذ طالما سمعنا أن سموكم يبدي شكواه أيضاً في مختلف المناسبات، ولذلك نتقدم بمطالب نأمل أن يساعد تحقيقها إلى حد كبير في إنقاذ البلاد من الوضع الخطير الذي وصلت إليه .
ونحن عندما نخاطبكم بصورة مباشرة بها الشأن، لم يغب عن بالنا أن القانون الأساسي العراقي، على ما فيه من مآخذ، قد اعتبر رئيس الدولة، أو من يقوم مقامه، غير مسؤول، وأنه حمل الوزارة جميع مسؤوليات الحكم في الدولة، وأنه فرق بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن عدم التقيد بالقانون المشار إليه في ناحية حقوق الملك، وواجباته في الحدود المعينة لها كان سبباً مهماً لخرق سائر مواده من قبل السلطة التنفيذية، وجعله معطلاً من حيث الواقع، ولذلك لا يسعنا والحالة هذه أن نتجاهل واقع الحال الذي جعل سموكم مسؤولاً عن هذا الوضع الشاذ.
ونستطيع أن نؤكد أن التردي في الحالة بدأ يأخذ شكلاً واضحاً منذُ أن تم إخضاع البلاد للسلطات الإنكليزية عقب حركة 1941، إذ رافق الاحتلال البريطاني الثاني دور إرهابي رُكز فيه النفوذ البريطاني والحكم العرفي،والإدارة البوليسية، وظهرت فيه الروح الانتقامية بأجلى مظاهرها، سواء في الاعتقالات الإدارية، أو المحاكمات التي جرت على يد السلطات العسكرية العراقية.
وقد تحمل الشعب العراقي طيلة مدة الحرب ما عانته البلاد من عبث الإدارة العسكرية البريطانية، وتدخلاتها السافرة بشؤونها، وتوجيهها جميع موارد البلاد وإنتاجها لمصلحة المجهود الحربي البريطاني، كما عانى من نتائج التضخم النقدي ما لم يعانيه بلد آخر، فكانت أكثرية الشعب لا تسد رمقها بسبب الغلاء الفاحش، بينما تُرك الحبل على الغارب لفئة من الاستغلاليين والاحتكاريين، ورجال الحكم المستسلمين والموالين للسلطات البريطانية، والمدافعين عن ذلك الوضع السيئ لتثرى ثراءً فاحشاً على حساب تجويع الأكثرية الساحقة من الشعب.
 لقد عانى الشعب كل هذه المصاعب، وضحى بحرياته العامة والخاصة وتحمل الجوع والذل، وصبر على مضض، على أمل أن يحيا في أعوام ما بعد الحرب حياة سعيدة، تستعيد فيها البلاد استقلالها، وتضمن حرية أفرادها، ويوفر لها قوتها، وتختار الأكثرية فيها الطريقة التي توافقها في الحكم، والهيئة التي تدير شؤونها إدارة وطنية ديمقراطية منبثقة عن مجالس نيابية منتخبة بمحض إرادتها.
ولكن الذي يؤسف له أن الوضع استمر على ما كان عليه بعد انتهاء الحرب، على الرغم من ازدياد الوعي الشعبي، بل أخذت تنمو بذور الفساد بمقياس واسع، فكوفحت الأحزاب الناشئة وصحافتها أشد المكافحة واُتخذ من القضاء وسيلة لمحاربتها ومحاربة صحافتها، وفقد القضاء استقلاله وصيانته بنتيجة مداخلات السلطة التنفيذية المستمرة في أعماله، وأخذ أسلوب الحكم يتحول إلى نظام بوليسي أكثر فأكثر، يهدر الحريات العامة والخاصة، وخلق جو إرهابي أرادت به الفئة الحاكمة القضاء على كل مقاومة شعبية، وسارت الفئة الحاكمة على نفس أسلوبها القديم في الانتخابات العامة بالرغم من أنها تظاهرت بالإصلاح في هذا الشأن بسن قانون جديد للانتخابات، وقد شهدت انتخابات عامي 1947 و 1948 مداخلات سافرة من غير تحفظ، فقد حدث أن استُدعي المتصرفون إلى العاصمة لمقابلة رئيس الديوان الملكي، والمسؤولين من الوزراء، وعادوا
إلى أماكن عملهم بعد أن زُودوا بتعليمات مشددة لتعيين النواب.
 وقد نُفذت تلك التعليمات، فكان من الطبيعي أن تضيع مسؤولية الوزارات أمام تلك المجالس المزيفة، غير المنبثقة عن إرادة الأمة فتركزت السلطة، من دون اعتبار لمبدأ فصل السلطات، بيد الحكومة التي راحت تطلق لنفسها العنان في القيام بما تريد به من أعمال مخالفة للقانون الأساسي، والقوانين والأنظمة، ومخلة بالأسلوب الديمقراطي كل الإخلال، فأصبحت المجالس النيابية هي الخاضعة للسلطة التنفيذية وأصبحت الوزارات تعلق بقاءها في الحكم على إرادة البلاط ومشيئته، فاستسلمت له كل الاستسلام، وأصبح والحالة هذه مرجعاً حقيقياً في كل صغيرة وكبيرة، حتى تعين الموظفين، وإحالتهم على التقاعد، وما شابه ذلك من الأمور التي يجب أن تكون بعيدة عن هذه المداخلات.
ونحن إذ نوجه هذه المذكرة إلى سموكم لا نود أن يُفهم أننا نطالب بأن يتدخل سموكم في شؤون الدولة خلافاً للدستور، وإنما الذي نبغيه هو وضع حد لهذه المداخلات، وذلك لصيانة الدستور، وإزالة آثار تلك المداخلات.
ونعتقد بأن الإصلاح الذي نطالب به لتغير الأوضاع السيئة القائمة التي بلغت حداً لا يطاق من الفساد، يجب أن يبدأ بتعديل القانون الأساسي الحالي الذي جرى تعديله في ظروف شاذة، يوم كانت البلاد من أقصاها إلى أقصاها محتلة بالجيوش البريطانية، وخاضعة للأحكام العرفية، والسجون والمعتقلات ملئ بالمواطنين لأسباب كيفية، وذلك على وجه الخصوص يضمن في نصوصه سيادة الشعب ضماناً تاما ًبحيث لا يدع أي مجال للانتقاص منها،عن طريق التأويل أو التفسير، ويقف بكل سلطة من سلطات الدولة عند الحد الذي يجب أن تقف عنده، وفق مبادئ حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، كما جاء في البيعة التاريخية التي أقرها مجلس الوزراء العراقي بتاريخ 11 تموز 1921،وأعلنها للناس،على أن يشمل التعديل المطلوب النص الذي كان قد ادخل على القانون الأساسي عام 1942، والذي يقضي بمنح حقوقاً أكثر من ذي قبل،كحق إقالة الوزارة ، وجعل قرارات مجلس الوزراء مرهونة بموافقته عليها، وما إلى ذلك من أمور منافية كل المنافاة للأسلوب الديمقراطي، وأن يتضمن التعديل منع رئيس الدولة، وكل ذي سلطة عامة في الدولة منعاً باتاً من كل عمل مالي أو اقتصادي يمكن أن يؤدي إلى استغلال النفوذ. وفي اعتقادنا أن التعديل المطلوب يجب أن يكون تمهيداً لإعادة الحياة النيابية على أسس سليمة، وفي مقدمتها الأخذ بمبدأ الانتخاب المباشر عن طريق تعديل قانون الانتخاب الحالي على هذا الأساس، هذا القانون الذي ليس له في الأقطار الديمقراطية ما يماثله من حيث رجعيته، والذي أضيفت إليه أواخر عهد السيد نوري السعيد الأخيرة قيود جديدة على حرية الناخبين، مما يتطلب تبديله لتأمين حق المواطنين في الانتخاب المباشر، وإجراء الانتخابات المقبلة على أساس إحصاء رسمي،على أن يُلغى منه كل قيد يعرقل وصول أي مواطن إلى المجلس مهما تكن حالته الاجتماعية أو المالية،  وان تقوم بإجراء الانتخابات، بعد رفع تلك القيود من هذا القانون، وجعله ملائماً للأسس الديمقراطية، وزارة يطمئن إليها الشعب كل الاطمئنان، لتكون الوزارات التي تتولى الحكم بعد ذلك وزارات منبثقة من مجلس نيابي حقيقي يمثل إرادة الشعب أصدق تمثيل، وبذلك يمكن أن تكون الوزارات مسؤولة أمامه فقط ، فتتولى السير بالبلاد نحو عهد جديد من الحكم الديمقراطي الصحيح ليستعيد الشعب طمأنينته المفقودة، وتتوفر لديه الثقة بأسلوب الحكم الذي ينشده.
وبعد فإن الشعب يا صاحب السمو بحاجة إلى إزالة القوانين الرجعية التي حرمت عليه ممارسة حريته، وجعلته يعيش في ظل نظام بوليسي يحصي عليه حركاته وأنفاسه، ويأخذ أبناءه بالشبهات، ويزج بهم في المعتقلات والسجون لمجرد رأي أبدوه، وإن البلاد بحاجة ماسة إلى قوانين عامة تشمل جميع أبناء الشعب، فكما تكون الجرائم موحدة بين المدن والمناطق الريفية، يجب أن يكون العقاب كذلك واحداً .
كما أن البلاد بحاجة ماسة إلى تشريع يضمن استقلال القضاء الذي أصبح في وضع لا يستطيع معه المحافظة على كيانه وحرمته واستقلاله، وإلى مجلس دولة تُعطى له جميع الصلاحيات كاملة غير منقوصة لحماية حقوق المواطنين من عبث السلطة الإجرائية، وتصرفاتها الكيفية، إلى جانب إطلاق الحريات السياسية، ومنح العمال وغيرهم من أصحاب المهن حرية تأليف النقابات، بحيث لا تستطيع السلطات الإدارية والبوليسية عرقلة أعمال هذه النقابات، والقضاء عليها بحجج واهية، وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين الذين هم في الواقع ضحايا المجالس العرفية العسكرية، أو المحاكمات غير الأصولية، وإلغاء جميع النصوص التي تتنافى ومبادئ الحكم الديمقراطي، حيثما وجدت في القوانين، واستبعاد فكرة تعديل قانون العقوبات الذي تلوّح به السلطات كسيف مسلط على كل حرية من حريات الرأي، والعمل السياسي، وتطهير جهاز الدولة من المرتشين والفاسدين، والضرب على أيدي المستغلين والمحتكرين، وذلك بتشريع خاص، بحيث لا يفلت من العقاب كل مجرم سابق أو لاحق.
والشعب العراقي الذي ضاق ذرعاً بحالته الاقتصادية السيئة، من حيث تفشي الفقر والبطالة، وقلة الأجور، يريدها إصلاحاً جذرياً لهذه الحالة بإلغاء الإقطاع، وإزالة كل قانون أو نظام من شأنه تثبيته، وتحديد الملكية الزراعية بحد أعلى ، وتوزيع الأراضي المتملكة على الزراع الحقيقيين، وزيادة حصة الفلاح من الحاصل، وتخفيف عبء الضريبة عن المكلفين غير القادرين على دفعها، وفرض ضريبة تصاعدية على أصحاب الدخل الكبير، زراعياً كان أو غير زراعي، وتقليص الضرائب غير المباشرة على المستهلكين، وتحرير الاقتصاد الوطني من الاستغلال والسيطرة الأجنبية، وتأميم المشاريع التي تتصل بالخدمات العامة والقضاء على الاحتكار الأجنبي في العراق، وتشجيع استثمار رأس المال الوطني في الصناعة الحديثة، والمشاريع الاقتصادية، ومنع استغلال النفوذ الفردي على حساب الصالح العام .
 والشعب العراقي الذي يريد جلاء كل قوة أجنبية عن بلاده، يريد التحرر من معاهدة 1930 الجائرة التي قيدت له استقلاله وسيادته الوطنية، وهو كذلك يرفض كل نوع من أنواع الدفاع المشترك، لأنه يرى في هذا المشروع الاستعماري الخطر كل الخطر على كيانه وسلامته.
والشعب العراقي الذي ينشد السلام، يريد أن يعلن حياده تجاه التكتلات الدولية التي لا منفعة له في التورط فيها،لأن كل ارتباط للعراق بالدول الإمبريالية لا يعود إليه بغير الكوارث الجسيمة، ويعرض حياة أبنائه للهلاك،ومرافقه للخراب والدمار.
ولنا الشرف يا صاحب السمو أن نكون قد عرضنا في هذه المذكرة خلاصة ما يشكو منه الشعب العراقي، وعبّرنا عن ما يرغب فيه من حلول لمشاكله، وما يتوق إلى تحقيقه من آمال، وتفضلوا يا صاحب السمو بقبول خاص احترامنا. (1)
بغداد في 8 صفر  1372 هجرية المصادف لليوم 28 تشرين الأول 1952
                                                          كامل الجادرجي
وهكذا جاءت المذكرة تعبيراً صادقاً ودقيقاً عن أوضاع الشعب العراقي ومعاناته، ووضعت اليد على الداء، وحددت له الدواء، من دون أي مجاملة لرئيس الدولة أو الحكومة، واستقبلها الشعب بالتأييد الحازم والفعال، فقد كانت قد عبرت حقاً وصدقاً عن ضميره وأحاسيسه، وآماله في الحياة الحرة الكريمة في ظل الاستقلال الحقيقي، وبعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.
وبدلاً من أن يقوم الوصي عبد الإله بدراسة المذكرة المرفوعة له، والعمل على الاستجابة لمطالب الشعب التي تضمنتها المذكرات، ومعالجة شكاوى الشعب، استدعى على الفور السيدان [ نوري السعيد] و[مصطفى العمري ] وتباحث معهما في الرد الذي جاء سريعاً وانفعالياً دافع فيه عن نفسه، وعن حكوماته وسياساتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وجاء ذلك الرد الذي بعث به رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] ، بناء على توجيهات الوصي إلى قادة الأحزاب الوطنية الثلاث،في 28 تشرين الأول 1952، والذي تميز بالانفعال.
لقد حاول الوصي تبرئة نفسه من التدخلات اللا دستورية التي مارسها منذُ توليه الوصاية على العرش في انتخابات المجالس النيابية، وسياسات الوزارات المتعاقبة على الحكم، وتعديله للدستور بحيث خول نفسه حق إقالة الوزارة، والتدخل في كل صغيرة وكبيرة، إضافة إلى ارتمائه في أحضان المستعمرين البريطانيين، والرضوخ لمشيئة السفارة البريطانية في تشكيل الوزارات وتحديد سياساتها. (2)
لكن الوصي كان يشعر بقلق شديد من أسلوب المذكرات التي رفعتها الأحزاب السياسية، والتي كانت تنم عن وجود استياء شعبي عام في البلاد وكان قلق الوصي عبد الإله ناشئاَ أيضاً من خوفه من وقوع انقلاب عسكري في البلاد، كما حدث في سوريا ومصر، ولذلك فقد سارع إلى حل مجلس النواب في 27 تشرين الأول 1952، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، من دون أن يلتفت إلى المطالب الشعبية، ومطالب الأحزاب السياسية المتمثلة بتعديل قانون الانتخاب وجعله  مباشراً ـ أي على درجة واحدة ـ منعاً للتزوير و شراء ذمم المنتخبين الثانويين . (3)

ثانياً: الأحزاب السياسية تقاطع الانتخابات :
لم تقتنع أحزاب المعارضة الوطنية بالخطوة التي أقدم عليها الوصي لحله البرلمان تمهيدً لإجراء انتخابات جديدة، طالما أنها سوف تجرى بنفس الأسلوب السابق، وبموجب القانون المعمول به، ورأت أن لا فائدة ترجى من اشتراكها في الانتخابات التي بات معروفاً سلفاً من الذي سيفوز فيها من رجال السلطة والسفارة البريطانية، وأعلنت أنها سوف تقاطع الانتخابات. (4)
وجاء قرار الأحزاب الوطنية المعارضة ليزيد من قلق السلطة والبلاط في اندلاع وثبة شعبية جديدة لا أحد يعرف مداها إن هي حدثت، ولذلك فقد تراجعت الحكومة عن موقفها، وسارعت إلى إصدار بيان رسمي 16 تشرين الثاني 1952إلى الشعب، تعلن فيه أنها في صدد تشكيل لجنة من كبار القانونيين، وبمشاركة الأحزاب السياسية، لتعديل قانون الانتخاب وجعله [انتخاباً مباشراً ]،وأنها سوف تقدم مشروع القانون إلى مجلس الأمة الذي سيجري انتخابه، وأن الحكومة سوف تقف على الحياد في تلك الانتخابات !!. كما أعلنت الحكومة في بيانها أنها تدرك ضرورة أجراء الإصلاحات في البلاد، وقامت الحكومة بإبلاغ الأحزاب السياسية بخطتها،
ودعت ممثليها للمشاركة في اللجنة المزمع تأليفها لتعديل قانون الانتخاب.
لكن الأحزاب الوطنية لم تنطلِ عليها أحابيل الحكومة لتمرير الانتخابات والمجيء بمجلس للنواب كما تريد، وعليه رفضت دعوة الحكومة وطالبتها بإصدار مرسوم بتعديل قانون الانتخاب قبل إجراؤها، إن هي جادة في مواقفها.
وبسبب تأزم الوضع من جديد طلب رئيس الوزراء[مصطفى العمري] من الوصي عبد الإله أن يلتقي بقادة الأحزاب والشخصيات السياسية في البلاد للتداول في سبل الخروج من الأزمة. (5)
مانع الوصي في بادئ الأمر، لكنه عاد وتراجع عن موقفه بعد أن أوضح له رئيس الوزراء خطورة الوضع  داخل البلاد ، وما جرى ويجري من أحداث في إيران وسوريا ومصر.
وهكذا بادر الوصي في 28 تشرين الأول إلى دعوة قادة الأحزاب السادة  [كامل الجادرجي ] و[محمد مهدي كبة] و[طه الهاشمي ] و[نوري السعيد] و[صالح جبر] وشملت الدعوة إضافة إلى رئيس الوزراء [مصطفى العمري] كل من السادة [جميل المدفعي ] و[علي جودت الأيوبي ] و[محمد الصدر] و[توفيق السويدي ] و[أرشد العمري ] و[حكمت سليمان ]. (6)
بدأ الوصي حديثه مع الحاضرين منزهاً نفسه من أي استغلال لمركزه على قمة السلطة، مدعياً العفة والنزاهة، والحرص على العراق وشعبه!،  مذكراً بأمجاد الملك حسين بن علي. ثم طلب بعد الانتهاء من كلمته أن يسمع أراء الحاضرين في الاجتماع، وخاصة قادة الأحزاب السياسية. 
 لكن السيد [طه الهاشمي] أجابه بالنيابة عن [كامل الجادرجي] و[محمد مهدي كبه] على الفور أنهم قد قدموا كل ما عندهم في المذكرات التي رفعوها لسموه، وأنهم يودون سماع جواب سموه عليها. (7)
كما تحدث علي جودت الأيوبي حول الأوضاع المتدهورة  في البلاد ومطالب الأحزاب السياسية الوطنية، وتطور الحديث إلى سجال بين الزمرة الحاكمة وقادة الأحزاب المعارضة.
أثارت صراحة السيد طه الهاشمي الوصي عبد الإله، وجعلته يفقد سيطرته على أعصابه، حيث تطاول على طه الهاشمي، واتهمه مرات عديدة [بالكذب ]!! .
 انفعل الهاشمي من تصرف الوصي، وهمّ بالخروج من الاجتماع، لكن الوصي صرخ في وجهه قائلاً[ اجلس] ورد عليه الهاشمي قائلاً [أني شريف،إني شريف] ثم غادر قاعة الاجتماع، وأعقبه الأستاذ كامل الجادرجي وغادر الاجتماع احتجاجاً على إهانة الوصي لطه الهاشمي وتضامناً معه، وانتهى مؤتمر البلاط إلى الفشل الذريع، وغادر الجميع بعد ذلك قاعة الاجتماع .(8)
حاول رئيس الوزراء أن يهدئ الأجواء التي باتت تهدد بالانفجار، واتصل بالسيدين طه الهاشمي، وكامل الجادرجي، واعتذر لهم بالنيابة عن الحكومة، وأبدى أسفه إلى ما آل إليه مؤتمر البلاط.
 كما قام كل من رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] و رئيس التشريفات [تحسين قدري] بزيارة السيد طه الهاشمي في داره ليهونا عليه ألم الإهانة من قبل الوصي. (9)
 أما رؤساء الأحزاب السياسية الوطنية فقد وقفوا إلى جانب السيد طه الهاشمي، أبدوا استعدادهم لعمل كل ما من شانه أن يرد الإهانة الصادرة من الوصي عبد الإله بحقه. (10)

 ونتيجة لفشل مؤتمر البلاط ، وتصاعد الأزمة بين الوصي والأحزاب الوطنية، قدم وزير المالية السيد [موسى الشابندر] استقالته من الحكومة متنصلاً من المسؤولية. كما أبدى كل من الوزراء [جمال بابان ] و[نديم الباجه جي ] و[عبد الله الدملوجي] قلقهم من تطور الأوضاع، ورغبتهم في التفاهم مع المعارضة، مهددين بالاستقالة إذا لم تلبِ الحكومة طلبهم، مما جعل الوزارة مهددة بالسقوط .
لكن السفير البريطاني سارع للاتصال برئيس الوزراء العمري، حيث أرسل إليه مستشار وزارة الداخلية، طالباً منه الاستمرار في الحكم مهما جرى، وعدم التفكير بالاستقالة. (11)
وفي كانون الأول 1952، جرى اجتماع في دار السيد [جميل المدفعي] حضره كل من السادة [نوري السعيد ] و[علي جودت الأيوبي ] و[محمد الصدر] و[توفيق السويدي ] و[مصطفى العمري ]، وجرى البحث في الأوضاع السياسية في البلاد، وتطورات الأزمة، وقد أبدى توفيق السويدي رأيه في قطع المفاوضات مع الأحزاب وحلها، وأجراء الانتخابات النيابية بموجب القانون المعمول به .
 وقد أيده في رأيه [علي جودت الأيوبي] و[نوري السعيد] الذي دعا إلى توجيه الضربة للشيوعيين !!، وعدم الرضوخ للمعارضة.
 أما الشيخ محمد الصدر فقد طلب السعي لإقناع المعارضة أولاً، فإن رفضت فالحل في [ حل الأحزاب ] وإجراء الانتخابات. (12)
وهكذا تصاعدت الأزمة بين السلطة والمعارضة، وأصبح الانفجار الجديد متوقعاً في كل لحظة، بعد أن رفضت السلطة مطالب المعارضة وكانت الأوضاع الملتهبة تنتظر حادثاً، مهما كان بسيطاً ليشعل فتيل الانتفاضة.


ثالثاً: تدهور الأوضاع، واندلاع وثبة تشرين عام 1952:
 
كانت الجماهير الشعبية تعيش حالة من الغليان الشديد والغضب العارم من سلوك الحاكمين، وتجاهلهم لإرادة الشعب، وتنتظر الشرارة التي تفجر الانتفاضة.
وجاء قرار عمادة كلية الصيدلة والكيمياء القاضي باعتبار الطالب المعيد لدرس ما معيداً لكافة الدروس، مما أثار غضب الطلاب الذين سارعوا إلى إعلان الإضراب عن الدراسة في 16 تشرين الأول 1952.
أدركت الحكومة خطورة تطور الإضراب واندلاع المظاهرات وتوسعها فأسرعت إلى الإعلان أن القرار لا يشمل الصف المنتهي هذا العام. (13)
لكن الطلاب واصلوا إضرابهم مطالبين بإلغاء القرار، ونتيجة الاستمرار الإضراب اضطرت وزارة الصحة إلى إصدار قرار جديد يقضي بإلغاء قرار العمادة، لكن الطلاب فوجئوا في اليوم التالي بوقوع اعتداء من قبل مجهولين داخل الحرم الجامعي على الطلاب الذين كانوا من النشطين خلال الإضراب، مما أدى إلى قيام المظاهرات الطلابية، وإعلان كافة طلاب الكليات الإضراب عن الدراسة، ثم تبعهم طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة وأعلنوا إضرابهم عن الدراسة في 22 تشرين الثاني، تضامناً مع طلاب كلية الصيدلة.
بدأت موجة المظاهرات تأخذ منحاً جديدا ًبعد أن أخذت الجماهير الشعبية تنظم إلى الطلاب المتظاهرين وتطورت إلى مظاهرات سياسية تطالب بتحقيق المطالب التي تضمنتها مذكرات الأحزاب الوطنية إلى الوصي، وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبسرعة تحولت الاحتجاجات على الأوضاع إلى مظاهرات تهتف بسقوط عبد الإله والحكومة وإخراج الإمبرياليين البريطانيين والأمريكيين من البلاد. (14)
كان انطلاق المظاهرات الشعبية من [محلة الفضل]،حيث تصدت لها قوات الشرطة مستخدمة الأسلحة النارية ضد المتظاهرين الذين واجهوهم بالعصي والحجارة وبعض المسدسات، حيث وقعت معارك شرسة بين الطرفين استبسل فيها أبناء الشعب مبدين بطولة خارقة، واستشهد نتيجة الصدام أحد المتظاهرين وجرح 14 آخرين، فيما أصيب  38 شرطيا بجراح. ونتيجة لتدهور الوضع سارع مصطفى العمري إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي عبد الإله. (15)
 لكن المظاهرات والاحتجاجات تصاعدت، وجرى المزيد من الصِدام مع قوات الشرطة حيث أصيب 25 متظاهراً بجراح كان أغلبهم من العمال والكادحين مما ألهب الموقف، واندفع المتظاهرون الشيوعيون والديمقراطيون ورابطة الشباب القومي بالاستيلاء على مركز شرطة [قنبر علي ] و[ مركز شرطة باب الشيخ ]، وتم الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة العائدة للشرطة، كما جرى إحراق [مكتب الاستعلامات الأمريكي ] قرب سوق الصفافير، وقد وقع جراء الصِدام مع الشرطة 12 شهيداً من العمال والكادحين، وكان رد فعل الجماهير الغاضبة على استشهاد هذا العدد الكبير من المواطنين أن أقدموا على حرق أحد أفراد الشرطة. وفي المساء كانت السيطرة قد خرجت من أيدي الشرطة، وعمت المظاهرات كل مكان. (16)
أصبح الوضع خطيراً جداً في بغداد مساء يوم 23 تشرين الثاني، وحاولت الحكومة الاستعانة بقوات الشرطة السيارة، المدربة خصيصاً لقمع المظاهرات، حيث نزلت إلى الشوارع، واصطدمت بالمتظاهرين، ووقع المزيد من القتلى والجرحى حيث استشهد 23 مواطناً فيما قتل 4 من أفراد قوة الشرطة السيارة، وتم إحراق عدد من سيارات الشرطة، وانتهت المعركة ذلك اليوم بهزيمة قوات الشرطة السيارة، وأصبح الوضع في بغداد خطيراً جداً، كما امتدت المظاهرات إلى سائر المدن العراقية الأخرى تضامناً مع جماهير بغداد، ولم يعد لقوات الحكومة القمعية أي سيطرة على الشارع العراقي، مما اضطر الوصي وقد أصابه الرعب من خطورة الموقف إلى قبول استقالة حكومة مصطفى واستدعاء رئيس أركان الجيش، الفريق [ نور الدين محمود ] لتأليف وزارة جديدة في ذلك اليوم 23 تشرين الثاني 1952،وتم إنزال الجيش إلى شوارع بغداد والمدن الأخرى وجرى تأليف الوزارة على عجل، واحتفظ [ نور الدين محمود] بوزارتي الدفاع والداخلية إضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء من أجل السيطرة على الأوضاع الأمنية، وإخماد الوثبة. (17)
سارعت الحكومة الجديدة إلى إعلان الأحكام العرفية في نفس اليوم، وجرى تأليف المحاكم العرفية العسكرية، وأصدرت أمراً بمنع المظاهرات والتجمعات وحمل الأسلحة منذرة المخالفين  بإنزال أشد  العقوبات بحقهم.
كما أعلنت الحكومة عن حل الأحزاب السياسية كافة، وتعطيل معظم الصحف، حيث شمل التعطيل صحف الأهالي، و لواء الاستقلال، والجبهة الشعبية، لسان حال الأحزاب السياسية المعارضة، وكذلك صحف القبس و النبأ واليقظة وصوت الشعب والسجل والحصون والأفكار والوادي والآراء والعالم العربي وعراق اليوم والجهاد. (18)
لكن المظاهرات استمرت بعنفوانها، متحدية الحكم العسكري الجديد، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط الحكم العسكري، ويطالبون بتشكيل حكومة مدنية برئاسة السيد[كامل الجادرجي].
 قام الجيش بالتصدي للمتظاهرين، وجرى إطلاق النار عليهم، حيث استشهد 8 مواطنين، وجرح 84 آخرين، أصدرت الحكومة قرارا بمنع التجول من الساعة السادسة مساءاً وحتى الساعة السادسة صباحا، وقامت خلال الليل بحملة اعتقالات واسعة في صفوف الشعب شملت ما يزيد على 3000 مواطنا بينهم 220 شخصاً من الوزراء لسابقين والنواب والصحفيون ورؤساء الأحزاب وشخصيات سياسية معروفة، وجرى تقديمهم جميعاً إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حكم على أثنين منهم بالإعدام، وعلى 958 منهم بالسجن لمدد مختلفة، وعلى 582 آخرين بالغرامة، وعلى 294 بالكفالة، وتم الإفراج عن 1161 فرداً.(19)
وبعد أن تم للحكومة إخماد الوثبة المجيدة بالحديد والنار، ومصادرة الحريات العامة، وإغلاق الأحزاب والصحف، والزج بمئات الوطنيين في السجون، لجأت إلى بعض الإجراءات لتخفيف الغضب الشعبي العارم  وامتصاصه، فأصدرت عدة مراسيم تتعلق بخفض الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة والمصدرة [ مرسوم رقم 1 ] وإلغاء رسم الاستهلاك وضريبة الأرض عن المخضرات والأثمار الطرية  [مرسوم رقم 2 ] ومرسوم تخفيض ضريبة الأملاك [مرسوم رقم 5 ] وغيرها من المراسيم الأخرى، لكن المرسوم الأهم كان [مرسوم رقم 6]  الخاص بتعديل قانون الانتخاب، وجعله على مرحلة واحدة، أي مباشراً.
لكن تلك المراسيم، باستثناء المرسوم رقم 6، لم تكن إلا إجراءات تخديرية لم تستطع حل المشاكل المعيشية التي يعاني منها الشعب، وحتى مرسوم تعديل قانون الانتخاب لم يكن سوى حبراً على ورق، ذلك أن التدخلات التي جرت أثناء الانتخابات التي جرت في 17 كانون الثاني 1953 كانت أكثر من مثيلاتها السابقة، حيث فاز فيها بالتزكية 76 نائباً من مجموع 135 نائباً، وقد وصل الأمر بجميل المدفعي الذي تولى رئاسة الوزارة فيما بعد أن صرح في 17 شباط وهو في قمة السلطة قائلاً : { أنا اعتقد أن بعض الانتخابات غير المباشرة كانت قد جرت أحسن من الانتخابات المباشرة الحالية }.(20)
وأكد أحد وزراء نوري السعيد المزمنين السيد [ عبد المهدي ] أن الانتخابات لم تجرِ على الطريقة الصالحة، فقد جرى تهديد المرشحين غير المرغوب بهم بوجوب الانسحاب من الترشيح، و إلا ستجبرهم عصابات السلطة إذا ما أصروا على خوض الانتخابات، وقد جرى استدعاء متصرفي الألوية[المحافظين] وتم إبلاغهم بقوائم مرشحي البلاط، وأمروا بالعمل على إنجاحها. (21)
كما أكد صالح جبر ومحمد مهدي كبه وقوع التدخلات الحكومية المكشوفة
 في الانتخابات، وأعلن حزب الاستقلال اللحاق بالحزب الوطني الديمقراطي والانسحاب من الانتخابات. (22)
لم تثنِ إجراءات حكومة نور الدين محمود أبناء الشعب عن سعيهم للخلاص من الزمرة الحاكمة، وإنقاذ البلاد من الهيمنة الإمبريالية، وبدأت بذور الثورة تنمو في أحشاء المجتمع العراقي من جديد لإسقاط ذلك النظام الذي كان هو والشعب على طرفي نقيض، مما جعل أي أمل في إصلاح الأوضاع السياسية في البلاد أمراً مستحيلاً، وأيقن الشعب وقواه الوطنية، والضباط الوطنيون في الجيش أن الطريق لإصلاح الأوضاع لا يمكن إلا بقلب النظام القائم، وإنهاء سلطة تلك الزمرة التي باعت نفسها ووطنها للإمبرياليين.
أما حكومة نور الدين محمود فقد أنجزت المهمة التي كلفها بها الوصي عبد الإله في قمع الوثبة الشعبية العارمة، ولم يبقَ أي مبرر لاستمرارها وعليه تقدم نور الدين محمود باستقالة حكومته إلى الوصي في 23 كانون الثاني 1953، وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه.
وفي تلك الأيام توارى نوري السعيد عن الأنظار، وابتعد عن السلطة مؤقتاً ريثما تهدأ الأوضاع ليعود من جديد، فقد كان السعيد عاشقاً للسلطة لا يستطيع الابتعاد عنها طويلاً.
سارع الوصي إلى تكليف السيد [ جميل المدفعي] بتشكيل الوزارة الجديدة في 29 كانون الثاني 1953.
ومن الملاحظ في التشكيلة الوزارية هذه أنها جاءت تضم أكبر تجمع لأقطاب السلطة الحاكمة منذ تأسيس الدولة العراقية، فقد ضمت أربعة من رؤساء الوزارات السابقين كان من بينهم [ نوري السعيد ] الذي تسلم حقيبة وزارة الدفاع .
جاءت معبئة كل قواها لإعادة البلاد إلى مرحلة ما قبل وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948، وكان لهؤلاء الساسة المخضرمين دور غير مشرف في تاريخ العراق السياسي، وكانوا منفذين لسياسة المحتلين البريطانيين وعاملين بأمرهم.
لقد وقف عدد من النواب الوطنيين في البرلمان يهاجمون الحكومة الجديدة، ويفضحون رجالها، فقال نائب البصرة [عبد الرزاق الحمود] مخاطبا المجلس والحكومة قائلاً:
{ يتبادر لذهن قارئ يتلو قائمة هذه الوزارة أن العناصر المحافظة قد حشدت قواها،ونظمت صفوفها لتدعيم مركزها، والرجوع إلى عهد ما قبل الوثبة الوطنية عام 1948، وإذا ما تناول أي عراقي هذه الأسماء يجد بعض هؤلاء هم الذين كتبوا بيمينهم تاريخ العراق السياسي الحديث أو معظمه على أقل تقدير، وهذا التاريخ فيه صفحات غير مشرفة، بل صفحات قاتمة فيها أمور تثير الأسى ، وتحز في النفوس. إن على الحكومة أن لا تفكر هذه الأيام في إرضاء المجلس، وهي قادرة حتماً، ولكني أتساءل إن كان بإمكانها إرضاء رجل الشارع ؟ لأنه إذا انفجر الشارع مرة أخرى فإنه سيكون كالبركان وسيعصف بالجميع}. (22)
أما الشيخ [ محمد رضا الشبيبي ] الذي شارك في العديد من الوزارات السابقة فقد قال:
{ إن البلاد مغلوب على أمرها، وإن الأجنبي الغاشم يتدخل في شؤونها، وإنه يلتزم فريقاً معيناً من الناس، ويفرضهم فرضاً على البلاد، ويناهض كل فئة واعية لها آراؤها المحترمة، وتفكيرها السياسي الناضج منذ زمان طويل إلى هذا اليوم . لقد انشطرت البلاد، مع بالغ الأسف، بسبب هذه السياسة، تجاهلنا جيل واعٍ حديث تفكيره وآراؤه ومناهجه تختلف كل الاختلاف عن تفكيرنا نحن أبناء الجيل القديم الذين اشغلنا المناصب مراراً كثيرة، والذين أبينا أن نفسح المجال في أغلب الأحيان لغيرنا، أو أن نعد أناساً لأشغال هذه المناصب فيما إذا أنتهي أمرنا}. (23)
لقد بقيت البلاد تحكم حكماً عرفياً، وبقت الصحف والأحزاب السياسية ملغاة، والبؤس والفقر يفتك بملايين المواطنين، وكان كل ما تفكر به الوزارة هو تثبيت ذلك لنظام الذي أسسه الإمبرياليون البريطانيون، وتنفيذ كل ما يؤمرون به من قبل السفارة البريطانية في بغداد، والتي كانت تتدخل بكل صغيرة وكبيرة، فلا يمكن أن تُشكل وزارة دون إرادتها ومباركتها .
لقد استمرت الأحكام العرفية طوال عهد هذه الوزارة والوزارة التي أعقبتها، وكانت برئاسة المدفعي نفسه، واستمر تعطيل الصحف، ولم يُسمح للأحزاب بممارسة نشاطها، رغم المذكرات التي رفعها كل من السادة [كامل الجادرجي ] رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، و[محمد مهدي كبه] رئيس حزب الاستقلال إلى رئيس الوزراء، وطالباه فيها إنهاء الأوضاع الشاذة في البلاد، وإلغاء الأحكام العرفية، وعودة الصحافة الوطنية للصدور، واستعادة الأحزاب الوطنية لنشاطها السياسي، فقد بعث السيد محمد مهدي كبه بمذكرته الأولى في 31 كانون الثاني 1953، وبعث السيد كامل الجادرجي بمذكرته الأولى في 1 شباط 1953، ولما كان رد رئيس الوزراء غير مقنع، وكان مقتضبا ً، وحاول التهرب من الإجابة الصريحة، رافضاً إعطاء موعد محدد لإلغاء الأحكام العرفية، وعودة النشاط السياسي للأحزاب، وعودة الصحف الملغاة، فقد رد الزعيمان كبه، والجادرجي على رئيس الوزراء بمذكرتين جديدتين في 14 شباط 1953 اتهماه بالمراوغة وتجاهل المطالب التي قدماها إليه، والمعبرة عن تطلعات
الشعب.
لكن الحكومة كانت في وادٍ، والشعب وقواه السياسية الوطنية في وادٍ آخر، مما دفع بالصراع بين الطرفين إلى التصاعد من جديد، و بدأت نذر الانفجار تتولد من جديد.
بسبب إصرار النظام القائم على السير في نفس الطريق الذي اختاره لهم أسيادهم الامبرياليين، غير مبالين بمصالح الشعب وحقوقه المسلوبة، ودون الاتعاظ بالأحداث الماضية، كما سنرى فيما بعد. (24)

رابعاً: فيصل الثاني يبلغ سن الرشد، ويتوج ملكاً على العراق

في الثاني من أيار 1953، بلغ الملك فيصل الثاني سن الرشد، وتولى مهامه الدستورية ملكاً على العراق، وأقيمت في بغداد حفلة التتويج حيث اقسم اليمين القانونية، وأبدى الشعب العراقي سروراً بالغاً بانتهاء وصاية الأمير عبد الإله، لما كان يكنه له من كره، محملاً إياه كل ما حدث في العراق من مآسي وويلات، كما أنه كان وراء مقتل الملك غازي بالتعاون مع نوري السعيد، والإنكليز.
كان الشعب العراقي يتوق إلى التغيير، بعد تولي الملك فيصل الثاني مهامه الدستورية، لكن آماله خابت، وظهر فيما بعد أن الملك الشاب كان لا حول له ولا قوة، وكان ألعوبة في يد عبد الإله، ونوري السعيد ، ومن ورائهم الإنكليز، وأصيب الشعب العراقي بخيبة أمل مريرة في إجراء أي إصلاح لأوضاع البلاد وأحوال الشعب. وبمناسبة انتقال السلطة إلى الملك فيصل الثاني قدم السيد[ جميل المدفعي] استقالة حكومته، حسبما ينص الدستور، وقد كلفه الملك بإعادة تأليف الوزارة من جديد  في 5 أيار 1953، وجاءت  الوزارة الجديدة بنفس تشكيلاتها السابقة باستثناء إضافة وزيرين للدولة هما السيد [علي الشرقي] و[السيد نديم الباجه جي] الذي أصبح فيما بعد وزيراً للأعمار التي استُحدثت في 23حزيران 1953 .
ورغم تسلم الملك فيصل الثاني سلطاته الدستورية فإن شيئاً لم يتغير، فقد بقيت حكومة المدفعي بتشكيلاتها السابقة، تضم أقطاب الزمرة الحاكمة بكل تاريخها المرتبط بخدمة المصالح الإمبريالية البريطانية، والتنكر لطموحات الشعب في الحرية والاستقلال، والحياة الحرة الكريمة.
 وبقيت الأحكام العرفية سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب، وبقيت الصحافة الوطنية معطلة، والأحزاب الوطنية ملغاة رسمياً، ومحاربة فعلياً،على الرغم من إصرار تلك الأحزاب على عدم الاعتراف بحلها، لكن نشاطها اقتصر على تقديم المذكرات للملك والحكومة.
 فقد قدم الحزب الوطني الديمقراطي في 18 أيار 1953 مذكرة إلى الملك فيصل الثاني حول الأوضاع السائدة في البلاد، وضرورة أجراء الإصلاحات الضرورية، وإلغاء الأحكام العرفية، وإفساح المجال لحرية الأحزاب والصحافة، وانتهاج سياسة وطنية بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.
كما بعث حزب الاستقلال بمذكرة أخرى مشابهة استعرض فيها أوضاع البلاد المتدهورة جراء سياسة الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم، مطالباً بالإصلاحات الضرورية، ومعالجة مشاكل الشعب المعيشية .

خامساً:مذكرة الحزب الوطني الديمقراطي للملك فيصل الثاني:
حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم:
يا صاحب الجلالة:لابد أن جلالتكم قد اطلعتم على المذكرات التي تقدم بها حزبنا، وحزبا الاستقلال والجبهة الشعبية، بتاريخ 28 تشرين الأول 1952 إلى سمو ولي العهد المعظم،عندما كان يزاول الوصاية على العرش، إذ بلغ سوء الأوضاع في العراق غاية في التردي، وعمت الشكوى أوساط الشعب، وباءت كل دعوة للإصلاح بالفشل.
وقد اتفقت الكلمة في تلك المذكرات على خطورة الوضع القائم في البلاد، وقد طالب كل حزب بما يجب القيام به من إصلاح شامل ليتمتع الشعب العراقي بحرياته الدستورية، وفي تعين سياسة العراق الخارجية على أسس وطنية، وتحديد موقفه من المشاريع الاستعمارية التي يراد فرضها على البلاد، بإعلان حياده تجاه التكتلات الدولية، واجتناب كل ارتباط له بالدول الاستعمارية، والمحافظة على سلامته، وتنظيم أحواله الاجتماعية والاقتصادية والمالية على أسس سليمة.
 وقد كانت هذه المطالب ولا تزال تعبر عن ضرورة ملحة للشعب العراقي في تحقيق الإصلاح الذي ينشده، مما كان يستوجب المبادرة إلى تحقيقها .
 غير أن الجو الذي تركه مؤتمر البلاط المنعقد في اليوم الثالث من تشرين الثاني 1952، لبحث ما جاء في تلك المذكرات، وعدم الاكتراث بتلك المطالب، والإصرار على استبقاء قانون الانتخاب السابق، وسوء تصرف الحكومة القائمة آنذاك في قضايا الطلاب وما إلى ذلك من أمور تتعلق بتصرفات المسؤولين، كل ذلك أدى إلى وقوع حوادث دامية أسفرت عن استقالة حكومة فخامة السيد [مصطفى العمري]، وتسليم مقاليد الأمور إلى الجيش، وإعلان الأحكام العرفية، وإلغاء الأحزاب والصحف الحزبية، ومعظم الصحف الحرة، واعتقال عدد كبير من المواطنين، بما فيهم قادة الأحزاب والكثير من الصحفيين وأصحاب الرأي، دون سبب مبرر، وقد أضافت تلك الإجراءات الشاذة إلى حالة البلاد سوءاً على سوء، وخلقت جواً إرهابياً لا يستطيع معه الشعب التعبير عن إرادته في القضايا الداخلية والخارجية على السواء، ومن ضمنها الانتخابات العامة التي أجريت في ذلك الجو الإرهابي .
إن الأحكام العرفية التي أعلنت فور تسليم مقاليد الأمور إلى الجيش قد اتُخذت وسيلة لإجراء تغير كبير في أسلوب الحكم، إذ أن تلك الأحكام قد ألغت نظام الحكم الديمقراطي المقرر للبلاد، وقلبته في الواقع إلى نظام دكتاتوري سافر. فالحياة الحزبية لا تزال معطلة، وحرية الصحافة لا تزال مفقودة، والحملة الإرهابية ضد المواطنين عامة، والمثقفين خاصة لا تزال مستمرة، ومن شأن ذلك كله كما تعلمون جلالتكم أن يزيد من استياء الشعب، ويعزز الاعتقاد بأن استمرار هذه الحالة الشاذة يضع جميع المواطنين في قلق دائم، ويجعل بإمكان السلطة انتهاك الحريات العامة والخاصة لكل مواطن لأعذار واهية لا تتصل بالمصلحة العامة.
وقد قدم الحزب الوطني الديمقراطي عدة مذكرات إلى فخامة السيد [جميل المدفعي]،منذ أن ألف وزارته السابقة، أثبت فيها خطأ تلك الإجراءات التي اتخذت ضد الأحزاب الوطنية، وصحافتها، والصحافة الحرة، من الوجهة الدستورية والقانونية، وطالب مراراً بإنهاء هذا الوضع الشاذ، وإعادة الأحزاب الملغاة، وفسح المجال لصحافتها والصحافة الحرة للقيام بواجباتها الوطنية في هذه الظروف الدقيقة التي يجتازها العالم، وبصفة خاصة العراق باعتباره جزء من البلاد العربية التي تجري المساومة على كيانها ومستقبلها من قبل المستعمرين، إلى جانب معالجة حالة البلاد السيئة التي تتطلب إبداء كل مواطن عراقي رأيه فيها، وقد وعدت الحكومة مراراً، سواء في جواب رئيسها إلى الأحزاب، أو في تصريحاته وتصريحات بعض المسؤولين في البرلمان والصحف بأنها سوف تنهي الإدارة العرفية حالما ترى زوال الأسباب التي دعت إلى إعلانها،غير أن الحكومة استبقت الإدارة العرفية من دون سبب مبرر، كما أنها لم تتخذ أي إجراء من شأنه أن يعيد إلى الأحزاب كيانها القانوني وحقوقها الدستورية.
وكان المعتقد أن الوعود التي قطعت للأحزاب، وللرأي العام، بإنهاء الوضع الشاذ القائم لا يمكن أن تبقى مجرد أقوال، وخاصة بعد تسلم جلالتكم سلطاتكم الدستورية، لأن الشعب العراقي حريص على إنهاء هذا الوضع الإرهابي الذي يرزح تحت نيره.
ولاشك أن في عدم الاستجابة لمطالب الشعب التي تبنتها الأحزاب في مذكراتها، واستمرار الحكم على أساس دكتاتوري، وانتهاز الفرص لإعلان الأحكام العرفية واستبقائها ،وجعلها هي الأساس لمزاولة الحكم، كل ذلك لا يتفق مع رغبة الشعب في أن يكون هذا العهد دستورياً تضمن فيه للمواطن جميع حرياته المغتصبة، وتسترد فيه حقوقه السياسية المسلوبة، ولا تزال فيه سيئات العهد الماضي الذي عانى الشعب منه الأمرّين. فالشعب يا صاحب الجلالة إنما يتطلع إلى استرداد حرياته وحقوقه، وإلى إنهاء هذا الوضع الشاذ الذي لا يزال قائما، أملاً أن يكون في مقدمة ذلك إلغاء الأحكام العرفية، وإعادة الحياة الحزبية، وما يرافقها من حريات تمهيداً لتحقيق المطالب الشعبية الأساسية التي عبرت عنها الأحزاب في مذكراتها.
 والحزب الوطني الديمقراطي إذ يتقدم بهذه المذكرة، ليأمل أن يكون عهد جلالتكم، عهداً تحترم فيه أحكام الدستور، لتحقيق سيادة الشعب التي هي أهم مقوماته، وبذلك يكون هذا العهد حقاً جديداً للعراق، من حيث واقع حياته،لا من حيث الشكل فحسب.
  وتفضلوا يا صاحب الجلالة بقبول خالص احترامنا. (25)
بغداد في 5 رمضان 1372 هجرية المصادف 18 أيار 1953 ميلادية .
                                          كامل الجادرجي
                               رئيس الحزب الوطني الديمقراطي
لكن الملك فيصل، ومن ورائه عبد الإله ونوري السعيد، لم تعجبهم تلك المذكرات، ولم يكلف نفسه مشقة الرد عليها، بل لم يتح له خاله الوصي عبد الإله فرصة الرد عليها، وأشار عليه أن يحيلها إلى رئيس الوزراء السيد  [جميل المدفعي]  ليجيب عليها نفسه إجابة مقتضبة فيها الكثير من المراوغة والتهرب من تلك المطالب، وبدا للشعب وأحزابه الوطنية أن العهد الجديد ما هو إلا امتداد لذلك العهد الأسود، عهد عبد الإله ونوري السعيد، وأن السلطة الحاكمة ماضية في سياسة اضطهاد الشعب وحرياته الدستورية، واضطهاد الأحزاب والصحافة الوطنية، حيث بقيت تلك الأحزاب ملغاة رسمياً والصحافة معطلة، والأحكام العرفية سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب.
سادساً:الحكومة تقترف جريمة كبرى ضد السجناء السياسيين
لم تكتفِ تلك الحكومة بكل هذا، بل تمادت في غيها وارتكبت جريمة كبرى بحق السجناء السياسيين الشيوعيين في سجن بغداد ذهب ضحيتها 7 سجناء استشهدوا برصاص الشرطة، وجرح23 آخرين، وهذا وصف للمجزرة البشعة التي نفذتهما الحكومة في السجن المذكور. (26)
أحدثت تلك الجريمة النكراء صدمة كبرى للشعب العراقي وقواه السياسية الوطنية، وانبرت الأحزاب والصحافة تهاجم الحكومة، وتفضح حججها في تبرير الهجوم، وقتل وجرح السجناء العزل دون وازع أخلاقي أو إنساني.
لقد تلبد الجو في بغداد من جديد لهول تلك الجريمة، وقامت على أثرها مظاهرات ضمت عوائل السجناء وأبنائهم وذويهم، وتوجهوا إلى المستشفى للبحث عن أبنائهم وذويهم، لكن الشرطة تصدت للمتظاهرين هذه المرة أيضاً وأطلقت الرصاص عليهم، مما أدى إلى استشهاد وجرح عدد آخر منهم، وألقت الشرطة القبض على الكثيرين، حيث سيقوا إلى المجلس العرفي العسكري الذي وسعت الحكومة صلاحياته في 20 حزيران 1953، إمعاناً في سياستها المعادية للشعب. (27)
وعلى الأثر قدم الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال مذكرتي احتجاج شديدة اللهجة إلى الحكومة، واتهمتها بتدبير المؤامرة على السجناء السياسيين لأجل تصفيتهم جسدياً، وطالبت المذكرتان بإجراء تحقيق قضائي عادل، وتحديد المسؤولين عن تلك الجريمة، وإحالتهم إلى المحاكم لمحاكمتهم .
كما قدم 20 نائباً في البرلمان احتجاجاً على تلك الجريمة، وقدموا طلباً لمساءلة الحكومة أمام البرلمان. إلا أن الأكثرية الموالية للسلطة رفضت الاستجابة للطلب، حيث صوت 65 نائباً سعيدياً ضده، وبذلك افشل الطلب، ولم تجرِ الحكومة أي تحقيق جدي حول الجريمة، ولم يتم إحالة أي مسؤول إلى المحاكمة، وتم إسدال الستار عنها. (28)
وتجاهلت حكومة المدفعي كل الاحتجاجات والحملات الصحفية، ومذكرات الأحزاب، والمظاهرات، على جريمتها في سجن بغداد، وتمادت في غيها وتحديها للرأي العام، وراحت تخطط لمجزرة جديدة في [سجن الكوت ] الذي كان يضم 123شيوعياً كانوا قد احتجوا على جريمة الحكومة في سجن بغداد، ومحاولة الحكومة نقلهم إلى سجن بعقوبة، كما فعلت مع السجناء الشيوعيين في سجن بغداد. وتنفيذاً لهذه الغاية حاولت الحكومة تجريد السجناء

408
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة 12 /16


حامد الحمداني                                                      10 / 9 /2008
أولاً : مهمات حكومة نوري السعيد الجديدة
كما أسلفنا سابقاً فإن نوري السعيد كان دوماً رجل المهمات الصعبة بالنسبة البريطانيين، الذين كانوا يوعزون للوصي [ عبد الإله ] أن يكلفه بتشكيل الوزارة  كلما دعت الحاجة لتنفيذ مهمات خطيرة، فقد تم على عهده إبرام معاهدة 1930 الجائرة، وقام بالدور المعروف في مقتل الملك غازي، وتولي عبد الإله وصاية العرش، وولاية العهد، وقام بمهمة الانتقام من المشاركين والمؤيدين لانقلاب بكر صدقي، وعمل نفس الشيء مع رجالات حركة رشيد عالي الكيلاني ورفاقه العقداء الأربعة -قادة الجيش ـ الذين نفذ فيهم حكم الإعدام، وأعلن الحرب على ألمانيا وإيطاليا أبان الحرب العالمية الثانية، وشن الحرب الشعواء على الشيوعية، ونفذ حكم الإعدام بقادة الحزب الشيوعي، وانتقم من كل من كان له دور في وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948.
وها قد استجدت مهام جديدة يتطلب القيام بها وجود حكومة قوية قادرة على تحدي إرادة الشعب، وتفرض ما تكلفها به السفارة البريطانية، فكان والحالة هذه لا بد من تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة من جديد تأخذ على عاتقها تنفيذ المهام التالية وهي:
    1 ـ  ربط العراق بالأحلاف والمخططات الإمبريالية
    2 ـ  مفاوضات النفط مع الشركات البريطانية والأمريكية.
3 ـ الاستمرار في حملة مكافحة الشيوعية والحركة الوطنية.
4 ـ التصدي للحركة الكردية  .

وهكذا تم تكليف السعيد بتأليف الوزارة في 15 أيلول 1950، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي : (1)
 1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية.
2 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع ووكيلاً للخارجية.
3 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
4 ـ حسن سامي التاتار ـ وزيراً للعدلية.
5 ـ خليل كنه ـ وزيراُ للمعارف.
6 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد.
7 ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للمواصلات والأشغال، ووكيلاً للمالية.
كان مجيء نوري السعيد إلى الحكم من جديد نذيراً باشتداد الصراع بين الشعب وقواه السياسية الوطنية من جهة ونوري السعيد ورهطه، ومن ورائه الإمبريالية من جهة أخرى.
ولقد بدأ الصراع أول الأمر داخل مجلس النواب عندما قدم 28 نائباً من نواب المعارضة مشروع قانون لتعديل قانون الانتخاب، يقضي بجعله على درجة واحدة بدلاً من درجتين، لكي يمنع السلطة من التدخل في الانتخابات عن طريق التأثير على المنتخبين الثانويين، سواء كان ذلك عن طريق شراء ضمائرهم، أو ترهيبهم، لكن المجلس الذي يضم أكثرية سعيدية رفض مشروع القانون بأغلبية 52 صوتاً ضد 32، وغياب 56 نائباً عن حضور الجلسة، وبذلك افشل مشروع القانون.

ثانياً: نوري السعيد يسعى لربط العراق بالأحلاف الغربية:
منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على دول المحور، وبروز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كقوتين عظميين، وكل قوة تحمل أيديولوجيا مناقضة للقوة الأخرى،عاد الصراع بينهما، الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي من جهة، والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة من جهة أخرى، وأخذ الصراع يتصاعد يوماً بعد يوم بين المعسكرين، وكل معسكر يسعى إلى ضم دول أخرى إلى صفوفه، وكان الصراع حول منطقة الشرق الأوسط يتسم بجانب كبير جداً من الأهمية نظراً لكونه اكبر مستودع للنفط في العالم.
وعلى ذلك فقد سعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى ربط الدول العربية بمخططاتها للوقوف بوجه الاتحاد السوفيتي تحت شعار[الدفاع عن الشرق الأوسط].
لقد رأت العديد من الدول العربية أن من الخطأ الجسيم ربط مصير بلدانهم بهذه المخططات، ولاسيما بعد الذي حل بفلسطين على أيدي أولئك الإمبرياليين، فليس للعرب والحالة هذه مصلحة في ارتباطات كهذه، وأن من الأصلح لبلدانهم الحياد بين المعسكرين، وتجنب شرور الحرب الباردة بين المعسكرين، والأعباء التي تفرضها الأحلاف العسكرية على العراق.
لكن نوري السعيد كان في وادٍ آخر، وادي الإمبريالية، حيث سعى بكل جهوده لربط العراق بالأحلاف الغربية، مما أثار حفيظة الوطنيين العراقيين الداعين إلى الحياد بين المعسكرين، حيث أصدروا بياناً إلى الشعب نددوا فيه بالمخططات التي يسعى إليها نوري السعيد، ومخاطرها على مصير البلاد، وطالب البيان الشعب العراقي برص الصفوف، والعمل الجدي الحازم لمنع زج البلاد في الحرب الباردة بين المعسكرين وتعريض أمن البلاد والشعب لمخاطر جسيمة.
وقد وقع البيان الشخصيات السياسية التالية:
1ـ كامل الجاد رجي                 2 ـ صادق البصام       
3  ـ مزاحم الباجه جي             4 ـ طه الهاشمي             
5ـ حسين جميل                      6 ـ محمد حديد
 7 ـ حسين فوزي                   8 ـ عبد الرزاق الظاهر
 9 ـ حسن عبد الرحمن            10 ـ عبد الهادي الظاهر     
 11 ـ جعفر حمندي                12 ـ عارف قفطان
 13ـ صالح شكارة                 14 ـ جميل صادق     
 15 ـ جعفر البدر                  16 ـ برهان الدين باش أعيان
 17 ـ قاسم حسن                   18 ـ رجب علي الصفار
 19 ـ عبد الرزاق الحمود        20 ـ محمود الدرة       
 21 ـ نائل سمحيري              22ـ عبد الرحمن الجليلي.       
 23 ـ عبد الجبار الجومرد
أحدث هذا البيان دوياً هائلاً في صفوف أبناء الشعب، فانهالت البرقيات لتأييد الموقعين على البيان، وقامت حملة واسعة في الصحف ضد توجهات نوري السعيد، مستنكرة ربط البلاد بالمخططات الإمبريالية، وداعية إلى الحياد بين المعسكرين.
وانتقل الصراع إلى داخل البرلمان، حيث ندد العديد من النواب بهذه التوجهات، وطالبوا بإبعاد البلاد عن آتون الحرب الباردة بين المعسكرين وبالنظر لتصاعد حملة الاحتجاجات هذه اضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان أنكر فيه نيته ربط العراق بالأحلاف الغربية. (2)
لكن الشخصيات السياسية التي وقعت على البيان، والتي ضمت أحزاباً وطنية عدة لم تتراجع عن مواقفها، بل صعدت من جهودها، بالاتفاق فيما بينها على تأليف [الجبهة الشعبية المتحدة]، وقدمت طلباً رسميا إلى وزارة الداخلية لإجازتها في 14 نيسان 1951.
و قد اعترضت وزارة الداخلية على تأسيس الجبهة في 19 نيسان، مدعية أن الجبهة تتألف من عدة أحزاب سياسية، وهيئات وأفراد، وأن ذلك مخالف للمادة الثالثة من قانون الجمعيات. لكن المؤسسين اعترضوا على قرار وزير الداخلية لدى مجلس الوزراء الذي أحال بدوره الاعتراض إلى وزارة العدل.
غير أن وزارة العدل أيدت قرار وزير الداخلية، وطالبت بإلغاء الفقرة الواردة في طلب التأسيس، والمتضمنة عبارة [ من أحزاب وهيئات وأفراد] وتم إجراء الطلب في 16 نيسان 1951، بعد أن انسحب الحزب الوطني الديمقراطي من الهيئة المؤسسة للجبهة، على أن يوحد الطرفان جهودهما المشتركة من أجل تحقيق مطامح الشعب العراقي في الحرية والاستقلال والعيش الكريم، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية ومخططاتها العدوانية. وقد صدر بيان مشترك بين الطرفين يؤكد تعاونهما ونضالهما المشترك ضد كافة محاولات الإمبريالية الهادفة إلى ربط العراق بمشروع ما سمي [ الدفاع عن الشرق الأوسط ] أو غيره من الأحلاف العدوانية، وحذر البيان الحكومة من مغبة السير وراء تلك المخططات المعادية لمصالح الشعب والوطن، وما يمكن أن تؤدي إليه تلك السياسة من مخاطر جسيمة.
كما طالب البيان أن لا يصبح العراق قاعدة عسكرية لتهديد الآخرين، وإبعاد البلاد عن التكتلات الدولية التي تؤدي إلى إقحامها في حرب لا مصلحة لها فيها، وطالب البيان بصيانة الحريات الدستورية للشعب، وتعديل قانون الانتخابات، وجعله على درجة واحدة [انتخاب مباشر] لمنع أي تزوير أو تأثير على الناخبين الثانويين، وعلى نتائج الانتخابات. وطالب أيضاً بإجراء تحقيق في حوادث التعذيب، ومعاقبة المسؤولين عنها، وإغلاق المعتقلات السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وحل مشاكل الشعب المعيشية، وتوفير الغذاء والكساء بأسعار معقولة، ومحاربة الاحتكار. (3)
 وقد وقع على البيان عن الحزب الوطني الديمقراطي الأستاذ كامل الجادرجي، وعن الجبهة الشعبية السيد طه الهاشمي.

ثالثاً:السعيد يفاوض شركات النفط البريطانية والأمريكية
تأميم الدكتور مصدق للنفط الإيراني وتأثيره على العراق :

خاضت القوى السياسية الوطنية في إيران الانتخابات النيابية تحت ظل الجبهة الوطنية التي شكلتها تلك القوى بقيادة الوطني البارز الدكتور [محمد مصدق ] وتمكنت من تحقيق الفوز في تلك الانتخابات عام 1951، وأصبح الدكتور مصدق رئيساً للوزارة الإيرانية.
وضعت حكومة مصدق نصب أعينها معالجة الغبن الذي أصاب إيران من قبل شركات النفط التي يمتلكها الكارتيل العالمي، وسعت بكل جهدها رفع هذا الغبن.
 لكن الشركات أصّرت على عدم تلبية المطالب الإيرانية، مما دفع بحكومة الجبهة الوطنية إلى إصدار تشريع بتأميم النفط الإيراني في 20 آذار 1951.
أحدثت خطوة الحكومة الإيرانية دوياً هائلاً أقضّ مضاجع الإمبرياليين، وبدأت أبواق دعاياتهم، ووسائل إعلامهم ترعد وتزبد، وتتوعد بالحكومة الإيرانية، وسارعت بريطانيا إلى إنزال قواتها العسكرية قرب [عبدان] بحجة حماية أرواح الفنيين والمهندسين البريطانيين العاملين في شركات النفط، والبالغ عددهم 3000 فرد.
لكن قرار تأميم النفط الإيراني قوبل في العراق بموجة عارمة من الفرح والتأييد لدى مختلف فئات الشعب، وظهرت الدعوات التي تنادي باقتفاء أثر الحكومة الإيرانية، وتأميم النفط العراقي، في الصحف الحزبية والوطنية المستقلة، والمجالس العامة، وفي البرلمان.
 فقد تقدم عشرون نائبا في البرلمان بلائحة قانون لتأميم النفط العراقي في 25 آذار 1951، ونشرت الصحف نص الطلب في 27 آذار. (4)
 كما تقدم محامو البصرة بمذكرة للحكومة بطلب تأميم النفط العراقي، وانهالت برقيات التأييد من كل جانب لهذا الطلب. حاولت الحكومة جاهدة تأخير تحديد موعد مناقشة الطلب في البرلمان بذرائع مختلفة حتى انتهت مدة دورته في 31 أيار، ولم تعين الحكومة موعداً لمناقشة اللائحة المقترحة، وطواها النسيان فيما بعد، بعد أن حذرت الحكومة البريطانية حكومة نوري السعيد من مغبة فسح المجال للمعارضة في البرلمان لطرح هذا الموضوع بالنظر لما يشكله من خطورة على مصالحها النفطية في العراق. ( 5) 
في الوقت الذي كانت حملة المطالبة بتأميم النفط في أوج عنفوانها على الصعيد الشعبي، والمعارضة البرلمانية، كانت حكومة نوري السعيد تجري مفاوضات مع شركات النفط لإتمام المباحثات التي بدأتها معها الوزارة السويدية الثالثة، وشكل نوري السعيد وفداً لإكمال المباحثات مؤلفاً من نائب رئيس الوزراء [توفيق السويدي]، ووزير المالية [عبد الوهاب مرجان] ووزير الاقتصاد [عبد المجيد محمود].
وفي الوقت نفسه نشرت الصحف العراقية الصادرة في نيسان 1951  نص برقية التهديد الصادرة من لندن من مغبة أية محاولة من جانب البرلمان العراقي لتشريع قانون بتأميم النفط العراقي، وجاء في البرقية ما يأتي :
{ يعتقد المراقبون السياسيون أن المسؤولين هنا يدرسون فكرة اتخاذ إجراء بريطاني ـ أمريكي مشترك لوقف مطالب التأميم الجديدة في الشرق الأوسط ، وإن بريطانيا والولايات المتحدة قد اتفقتا على توجيه إنذار رسمي للحكومة العراقية تحذرها فيه من مغبة اتخاذ أية خطوة  لتأميم النفط في العراق من قبل البرلمان العراقي }. (6)
وفي المقابل أعلنت شركات النفط عن قبولها مبدأ مناصفة الأرباح مع العراق ولو اسمياً، ووقع نوري السعيد اتفاقاً مع الشركات يقضي ببيع [مصفى الوند] في خانقين للحكومة،على أن تستمر شركة نفط خانقين البريطانية بأعمال التوزيع بالنيابة عن الحكومة حتى عام 1961.
 كما جرى الاتفاق على إنشاء [مصفى الدورة] ببغداد،على أن تناط إدارة توزيع الإنتاج بشركات النفط حتى عام 1961، لكن شركات النفط غير مسؤولة عن تجهيز النفط الخام.
كما جرى الاتفاق على أن تنتج شركة النفط العراقية مالا يقل عن 22 مليون طن من النفط كحد أدنى، وتنتج شركة نفط البصرة 8 ملايين طن سنوياً.
 وتعهدت شركات النفط بأن لا يقل دخل العراق عن 20 مليون دينار خلال سنتي  1953 و 1954، و25 مليون دينار عام 1955 والسنوات التي تليها، ولاشك أن هذه الموارد تبقى ضئيلة جداً بالنسبة لما تحققه الشركات من أرباح خيالية. (7)
وفي جلسة مجلس النواب السابعة بتاريخ 9 شباط 1952 تقدم نوري السعيد للمجلس بالاتفاقية التي وقعها مع شركات النفط، طالباً التصويت عليها بصورة مستعجلة وتصديقها، ولما كان لنوري السعيد الأغلبية في المجلس فقد جرت مناقشتها بصورة سريعة، وتم التصديق عليها في 14 شباط 1952 على الرغم من احتجاجات نواب المعارضة الذين قدموا استقالاتهم من المجلس في 27 شباط .
كما اصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الجبهة الشعبية، بياناً مشتركاً يندد بالاتفاقية الجديدة التي أبقت على سيطرة شركات النفط على موارد البلاد ونهبها، وفضح البيان مبدأ مناصفة الأرباح، واصفاً إياه بأنه لا يعدُ أن يكون للتغطية، وهو بعيد كل البعد عن الحقيقية، وأكد البيان أن هذه الاتفاقية بدلاً من أن تزيل الغبن فقد زادته أكثر فأكثر، فقد حددت الاتفاقية أسعار النفط الذي تأخذ الحكومة العراقية حصتها على أساسه، أدنى من السعر العالمي، مما الحق بالخزينة خسائر فادحة، هذا بالإضافة إلى استلام العراق لحصته بالإسترليني، مما حرم العراق من الحصول على العملات النادرة الأخرى، وكان الإسترليني معرضاً باستمرار إلى الهبوط.
  ففي 17 أيلول 1949 خفضت الحكومة البريطانية قيمة الجنيه الإسترليني من أربعة دولارات للجنيه الواحد إلى دولارين وثمانون سنتاً، وتبعاً لذلك هبطت قيمة الدينار العراقي بنفس المعدل، مما أوقع البلاد في اخطر أزمة نقدية واقتصادية، واضطرت حكومة نوري السعيد إلى إعلان حالة التقشف القاسية، لتدارك العجز الهائل في الميزانية. (8)
 وقد دعا البيان إلى استلام حصة العراق المقررة 50% عيناً، أي [ نفط خام ] ليتصرف بها كما يشاء كإجراء حالي إلى أن يتم حل المشكلات مع الشركات جذريا ًبتأميم النفط الذي غدا مطلب الأمة. (9)
وقع البيان كل من السيد كامل الجادرجي، والسيد طه الهاشمي .
أما حزب صالح جبر فقد رفض مشاركة نوري السعيد بتحمل وزر هذه الاتفاقية الجائرة بحق العراق وثروته الوطنية، فأعلن نوابه في البرلمان انسحابهم من الجلسة، لكن المعتقد أن صالح جبر لم يكن جاداً في معارضته للاتفاقية، وإنما أراد أن يبيّض صورته السوداء أمام الشعب وهو لو كان جاداً في مواقفه لبقي النواب المنسحبون من الجلسة وصوتوا ضد الاتفاقية مع نواب المعارضة، فقد سهل انسحابهم من الجلسة على نوري السعيد تمرير الاتفاقية بصورة مستعجلة.
 أدى تصديق الاتفاقية إلى الإضراب العام في البلاد تلبية لدعوة الأحزاب الثلاثة المعارضة، في 19 شباط 1952، من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، احتجاجاً على توقيع الاتفاقية، وقد شمل الإضراب كافة قطاعات الشعب، فيما راحت الحكومة تهدد أبناء الشعب عبر بيانها الصادر يوم 18 شباط بإنزال اشد العقوبات بحق كل من يحاول التصدي للحكومة. (10)
ومع ذلك فقد قامت المظاهرات الشعبية، وجرى صدام عنيف مع قوات الشرطة التي تصدت للمتظاهرين، مما تسبب في وقوع العديد من الجرحى، وقامت السلطات باعتقال أعداد أخرى من المواطنين بينهم العديد من طلاب المدارس والكليات، وكتحدي للشعب، أمرت حكومة نوري السعيد بصرف مكافئة نقدية لأفراد الشرطة وضباطها الذين تصدوا للمظاهرات وأصيبوا فيها، وكان نصيب ضابط الشرطة 20 ديناراً والمفوض 10 دنانير والشرطي 5 دنانير.

رابعاً:السعيد يواصل حملة مكافحة الشيوعية والحركة الوطنية
تفننت حكومة نوري السعيد في إيجاد كل الوسائل والسبل لمكافحة الشيوعية في العراق، فأصدرت المراسيم الجائرة، وعدلت قانون العقوبات البغدادي لكي تستطيع اعتقال وسجن كل من يُشك في صلاته بأي نشاط شيوعي، وهكذا ملأ نوري السعيد السجون بخيرة الأساتذة والمفكرين، والمثقفين، وطلاب الكليات.
لكن تلك الإجراءات لم تكن كافية لنوري السعيد الذي وجد أن السجون قد تحولت إلى مدارس تثقيفية للسجناء العاديين لإصلاحهم، ووجد لدى السجناء السياسيين الإصرار على مواصلة النضال من أجل قضية الشعب والوطن، فتفتق ذهن السعيد عن إبعاد السجناء الشيوعيين إلى السجن الصحراوي النائي في [ نقرة السلمان ] الذي يبعد عن[ السماوة] 150 كم في قلب الصحراء، بعيدين عن أهلهم وذويهم وشعبهم، وحيث تستطيع الأجهزة القمعية للسلطة ممارسة كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي ضدهم دون رقيب، ونتيجة لسوء أوضاع المسجونين الذين ضمهم سجن نقرة السلمان، والبالغ عددهم 162 سجيناً تقدم هؤلاء بمطالب للحكومة تضمنت ما يأتي: (11)
1ـ نقلهم إلى سجون قريبة من ذويهم .
2 ـ منحهم الحقوق المقررة للسجناء السياسيين .
3 ـ توفير المعالجة الطبية لهم .
4 ـ الكف عن توجيه الإهانات لهم، وإعادة النظر في الأحكام الصادرة بحقهم من قبل المجالس العرفية العسكرية.
لكن حكومة نوري السعيد رفضت تلك المطالب، مما دفعهم إلى إعلان الإضراب عن الطعام حتى تلبى مطالبهم، وتمكنوا من إيصال قرارهم بالإضراب إلى أهلهم وذويهم الذين قاموا بدورهم بالاتصال بالأحزاب السياسية والصحف لشرح مطالبهم، ومطالبة السلطة بتنفيذها.
وعلى الأثر شنت الصحف الوطنية حملة شعواء على الحكومة متهمة إياها بانتهاك حقوق الإنسان، وانتهاك الدستور الذي كفل حرية الرأي والعقيدة.
 وقامت الأحزاب الوطنية بحملة واسعة للضغط على الحكومة، أصدرت البيانات المنددة بإجراءاتها المنافية للدستور، وحقوق الإنسان. (12)
كم قامت عائلات السجناء من النساء والأطفال بمظاهرة في بغداد يومي 25 و28 تموز مطالبين بإطلاق سراح أبنائهم، وإلغاء سجن نقرة السلمان.
 لكن قوات الحكومة القمعية جابهتهم بعنف، وفرقت مظاهرتهم، مما دفع الصحف الوطنية إلى مهاجمة الحكومة والمطالبة برحيلها، واضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان يحاول فيه تبرير نقل السجناء إلى سجن نقرة السلمان، ويعد بإعادة كل من يحترم قوانين السجون !!، وقام فيما بعد بنقل عدد من السجناء لامتصاص غضب الجماهير الشعبية. (13)

خامساً: نوري السعيد ولقضية الكردية:
بدأت المسألة الكردية تفرض نفسها عندما اندحرت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واحتلت بريطانيا العراق، حيث حاولت تركيا أن تستميل الشيخ[محمود الحفيد] الذي كان يتمتع بسلطة دينية، ونفوذ كبير لدى غالبية الشعب الكردي، إلى جانبها، رغبة منها في إلحاق ولاية الموصل [والتي تشمل محافظات الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية] بها .
 إلا أن الشيخ الحفيد اتصل بالإنكليز بصورة سرية، وتعهد لهم بالسيطرة على الحامية التركية التي كانت ما تزال باقية في السليمانية، لقاء منحه امتيازات في إدارة الشؤون الكردية، وتشكيل حكومة كردية برئاسته، على أن تكون تحت ظل الانتداب البريطاني.
 رحبت السلطات البريطانية بعرض الشيخ الحفيد، نظراً لما يتمتع به من مركز مرموق في صفوف الأكراد، وقامت بإرسال مندوبين عنها من كبار الضباط لإجراء مفاوضات معه في 6 تشرين الثاني 1918، لتسهيل دخول القوات البريطانية إلى السليمانية، وقد استقبلهم الشيخ محمود الحفيد بحفاوة، وسلمهم الحامية التركية، التي سيطرت عليها قواته، وسارعت السلطات البريطانية إلى تعيينه حاكماً على لواء السليمانية، ومنحته راتباً شهرياً قدره [ 15ألف روبية ]،كما عينت الميجر [نوئيل] مستشاراً له، وشكلت نواتاً لحكومة كردية في منطقة كردستان العراق، والتي أشارت إليها [معاهدة سيفر] في موادها الثانية والستين والثالثة والستين والرابعة والستين. (14)
لكن علاقة الشيخ الحفيد بالبريطانيين أصابها بعض الفتور عندما حاول المحتلون البريطانيون تقليص نفوذه وإضعافه، مما دفع الشيخ الحفيد في نهاية الأمر إلى إعلان الثورة على الحكم البريطاني، وقام باحتلال السليمانية في 21 أيار 1919 بعد أن دحر القوات البريطانية، وقوات الليفي التي شكلها البريطانيون للحفاظ على مصالحهم في المنطقة، وتمكن من أسر عدد كبير منهم، ومن الضباط الإنكليز، وأعلن تشكيل دولة كردية، وأعلن نفسه ملكا عليها، واتخذ له علماً خاصاً بدولته.
أخذ الشيخ محمود الحفيد يوسع مناطق نفوذه في كردستان، بعد أن استطاع دفع القوات البريطانية نحو[ مضيق طاسلوجة] و[مضيق دربن] واستطاع الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة من القوات البريطانية وقوات الليفي الآشورية التابعة لهم.
واستمر الشيخ الحفيد يوسع مملكته وضم إليها مناطق[رانية] و[ حلبجة] و [كويسنجق] متحدياً السلطات البريطانية. لكن البريطانيون جهزوا له قوة عسكرية كبيرة، ضمت الفرقة الثامنة عشر بقيادة الجنرال[فريز] لقمع حركته، واستطاعت هذه القوات بما تملكه من أسلحة وطائرات حربية أن تدحر قوات الشيخ محمود وتعتقله، بعد أن أصابته بجروح في المعارك التي دارت بين الطرفين، وأرسلته مخفوراً إلى بغداد، حيث أحيل للمحاكمة، وحكم عليه بالإعدام .
غير أن السلطات البريطانية أبدلت الحكم إلى السجن المؤبد، ثم قرت نفيه إلى الهند خوفاً من وقوع تطورات خطيرة في كردستان، حيث يتمتع بمكانة كبيرة في صفوف الأكراد، وبقي الشيخ محمود منفياً حتى عام 1922،عندما أعاده البريطانيون إلى السليمانية، وسلموه زمام الأمور فيها من جديد.
لكنه ما لبث أن ثار على الإنكليز مرة أخرى، مما دفع الإنكليز، والحكومة العراقية إلى تجريد حملة جديدة ضده، حيث استطاعت احتلال السليمانية من جديد.
لكن الشيخ محمود لم يستكن للأمر، وأخذ يستجمع قواه وينظمها، واستطاع مهاجمة الجيش المتواجد في مدينة السليمانية وطرده منها في 11 تموز 1923، وبقي الشيخ محمود يحكم السليمانية مدة  تزيد على العام . (15)
ولما تولى[ ياسين الهاشمي] رئاسة الوزارة العراقية كان في مقدمة مهام وزارته إعادة السليمانية للسلطة العراقية، فجهز حملة عسكرية بدعم من البريطانيين، وبشكل خاص قواتهم الجوية التي هاجمت قوات الشيخ الحفيد واستطاعت دحرها، وإيقاع خسائر جسيمة في صفوفها، وتم إعادة لواء السليمانية إلى سيطرة الحكومة العراقية، وهرب الشيخ محمود الحفيد إلى خارج العراق، وقامت الحكومة بتعيين متصرف[محافظ] للسليمانية من الأكراد. رأت بريطانيا أن إقامة دولة كردية في كردستان قد يسبب لها مشاكل خطيرة، وبما أنها قد ضمنت مصالحها في العراق بموجب معاهدة عام 1920العراقية البريطانية، فقد قررت صرف النظر نهائياً عن إقامة دولة كردية، وضم كردستان للمملكة العراقية نهائيا.
أما الحكومة العراقية فقد أعلنت من جانبها بأنها سوف لا تعيين موظفاً عربياً في منطقة كردستان، ما عدا الفنيين، وأن السكان الأكراد لهم الحق بالتكلم بلغتهم الخاصة، وأن الحكومة سوف تحافظ على حقوق السكان الدينية والمدنية، كما جرى انتخاب خمسة أعضاء من الأكراد، وضمتهم إلى المجلس التأسيسي.
وفي شباط 1925،عندما جاءت اللجنة المكلفة من عصبة الأمم لبحث قضية ولاية الموصل وأجرت دراستها للأوضاع في الولاية، وقدمت تقريرها إلى عصبة الأمم، تبنت اللجنة وجهة النظر البريطانية القاضية بضم ولاية الموصل إلى المملكة العراقية، مع مراعاة حقوق الأكراد فيما يخص اللغة الكردية، وتعين الموظفين الإداريين الأكراد.
وفي تشرين الأول 1926 أجتمع مستشار وزارة الداخلية بالشيخ محمود الحفيد وتباحث معه في الأمور التي تخص كردستان، وجرى الاتفاق على شروط الصلح مع الحكومة، حيث وقع الشيخ الحفيد اتفاقاً مع الحكومة العراقية في حزيران 1927، تعهد بموجبه أن يعيش هو وأفراد عائلته خارج العراق، مع إعادة كافة أملاكه له، وتعين وكيل من قبله لإدارة شؤون أملاكه.
 وهكذا استمرت الأوضاع هادئة في كردستان حتى عام 1930، حينما وقّعت حكومة نوري السعيد معاهدة 30 حزيران 1930، فقد شعر الشيخ الحفيد أن بريطانيا قد تنكرت لحقوق الشعب الكردي، واستغل الشيخ الحفيد قيام الأكراد في السليمانية بحركة احتجاجات واسعة، ومظاهرات ضد المعاهدة، وضد حكومة نوري السعيد، ليجمع المسلحين من أتباعه داخل العراق، ويحتل منطقة [ شهر بازار ]، ثم بعث بمذكرة إلى المندوب السامي البريطاني يطالبه بإنشاء دولة كردية في منطقة كردستان تمتد من زاخو وحتى خانقين.
 أنذرت الحكومة العراقية الشيخ الحفيد بوجوب مغادرة العراق، وسحب عناصره المسلحة، لكن الشيخ الحفيد تجاهل الإنذار، ومضى في توسيع منطقة سيطرته، مما دفع الحكومة إلى تجريد حملة عسكرية كبيرة ضمت رتلين عسكريين، توجه الرتل الأول نحو[جوارته] فيما توجه الرتل الثاني نحو[بنجوين]، كما شاركت الطائرات البريطانية في التصدي لحركة الشيخ الحفيد حيث دارت بين الطرفين معارك دامية استمرت زهاء ستة أشهر تكبد خلالها الطرفان خسائر كبيرة، لكن قوات الحكومة استطاعت في النهاية فرض سيطرتها على مناطق كردستان، وهرب الشيخ محمود الحفيد لفترة من الزمن، ثم اضطر في نهاية الأمر إلى تسليم نفسه للجيش في 13 أيار 1931، وتم نقله إلى مدينة السماوة ثم نقل إلى مدينة الناصرية، وأخيراً تم نقله إلى  قصبة عانه، ثم سمحت له الحكومة بالإقامة في بغداد، وقررت مصادرة كافة أملاكه في السليمانية.
سادساً:الثورة البارزانية بقيادة الشيخ أحمد:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان لمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة  [بازيان ] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى] التي تتوسطها قرية [بارزان ] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني،عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد .
رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة، وأخذ البارزاني يوسع  نفوذه في المنطقة.
وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ احمد البارزاني، في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البارزانيين في 25 أيار 1931. كان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البارزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة، وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي نقلته إلى منطقة [ أدرنة ] على الحدود البلغارية، لكنها ما لبثت أن إعادته إلى منطقة الحدود العراقية.
 ولما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليمه، إلا أن  الحكومة التركية رفضت الطلب مشترطة إصدار عفو عام عنه، وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم، وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة، فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.

سابعا:الثورة الكردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني:
على الرغم من أن الحكومة كانت قد قضت على حركة الشيخ أحمد البارزاني إلا أن هجمات الجماعات الكردية المسلحة استمرت دون انقطاع، حيث كانت تغير على المنطقة بين الحين والأخر. حاولت الحكومة إنشاء مخفر للشرطة في قرية  [بله] مقر البارزانيين، لكن مصطفى البارزاني رفض ذلك، وهدد بقتل كل من يحاول القيام بذلك.
وبالفعل جرى قتل القائمقام والمهندس اللذين حاولا البدء بإنشاء المخفر، وعلى الفور أقدمت الحكومة على إعلان الأحكام العرفية في المنطقة التي شملت نواحي [ ميزوري بالا] و[بازيان] و[ ميركه سور] و[كاني رش] وسيرت قوة عسكرية ضد البارزانيين، وتعاونت الحكومة التركية مع الحكومة العراقية، حيث قامت بإغلاق حدودها أمام البارزانيين وحشدت قواتها على الحدود، واستطاعت قوات الحكومة القضاء على ثورة البارزاني في 30 تشرين الأول 1935. (16)
لم تهدأ الحركة الكردية رغم ما أصابها على يد الجيش العراقي، وازداد إصرار أبناء الشعب الكردي على نيل حقوقهم القومية، ومطالبتهم بتخصيص نسبة عادلة من موارد الدولة لتنمية المنطقة الكردية، والنهوض بها من حالة التخلف، والعمل على حل المشاكل المعيشية التي يعانون منها، فتقدم مصطفى البارزاني بمطالب تضمنت ما يلي:
1 ـ  تعيين موظفين إداريين أكراد في منطقة كردستان.
2 ـ  تعين مساعد كردي لكل وزارة.
3 ـ  اعتبار اللغة الكردية اللغة الرسمية في المنطقة الكردية.
4 ـ  إطلاق سراح المعتقلين والمسجونين الأكراد الذين تم اعتقالهم بسبب القضية الكردية. (17)
لكن الحكومة تجاهلت تلك المطالب ولجأت على الضد من ذلك إلى تصعيد مواقفها تجاه الحركة الكردية وقيادتها، وطالبت بتسليم كافة الأسلحة التي بحوزتها، وتسليم عدد من المطلوبين الأكراد.
كان مجلس الوزراء قد قرر في 25 كانون الثاني 1944 إبعاد مصطفى البارزاني من منطقة بارزان، وأجبرته على الإقامة في بيران.
 فلما وجد أن الحكومة لا تنوي الاستجابة للمطالب التي بعث بها إليها ترك منطقة إقامته المحددة تلك، وبدأ يجري اتصالاته مع العديد من رؤساء العشائر الكردية، وحثهم على التعاون والتآزر، للوقوف بوجه الحكومة ومشاريعها الهادفة إلى إخضاع الشعب الكردي.
 فقد زار البارزاني منطقة [ براد وست] و[ بالك] و[ به دنان]، وتنقل في[العمادية] و[عقرة] و[الشيخان] حاثاً الشعب الكردي على الوقوف صفاً واحداً للضغط على الحكومة من اجل تنفيذ مطالبهم القومية المشروعة. (18)
كما نشطت المنظمات السياسية الكردية، وعلى رأسها منظمة[هيوا ]،أي الأمل،التي بادرت بالاتصال بعدد من الضباط الأكراد العاملين في الجيش والمتقاعدين داعية إياهم إلى الانضمام إلى الحركة الكردية، وقد لبى نداءهم كل من الضباط [عزيز عبد الشمزيني ]،والرئيس[ مير حاج أحمد] والمقدم[أمين الراوندوزي] والرئيس [مصطفى خوشناو] والملازم الأول [خير الله عبد الكريم] والملازم [ محمد القدسي ].
 وهكذا توسعت الحركة الكردية لتشمل جانبا كبيراً من العسكريين الأكراد، ولما وجد السفير البريطاني أن الأمور قد تطورت إلى درجة خطيرة، أرسل معاونه لمقابلة البارزاني محذراً إياه من الإقدام على أي تحرك ضد الحكومة وأبلغه أن القوات العراقية والبريطانية سوف تجريان مناورات عسكرية في كردستان، محذراً إياه من التصدي لهذه القوات، ونصحه بوجوب إطاعة الحكومة، وتنفيذ أوامرها، وطالبه بعودة الضباط الذين التحقوا بالحركة إلى وحداتهم العسكرية.
وقد رد البارزاني بأنه لن يبدأ بإطلاق النار على قوات الحكومة إذا فعلت الشيء نفسه، أما مسألة عودة الضباط فتتطلب اتخاذ إجراءات من قبل وزارة الدفاع لضمان سلامتهم.
وفي الفترة ما بين 5 ـ 14 آذار بدأ الفوج الرابع من الجيش العراقي بمهمة استطلاعية مما أثار الشكوك لدى القيادة الكردية، وجاء مقتل أحد أخوال البارزاني [أولوبيك ]على أيدي قوات الشرطة التي حاولت نزع السلاح من مرافقيه فكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث اندفع البارزانيون نحو مخفر الشرطة واستولوا عليه، وقتل مأمور المخفر، وقد ترك البارزاني مقر سكنه عائداً إلى بارزان، معقله الحصين، وعمل على تعبئة قواته استعداداً لملاقاة الجيش العراقي الذي كان قد تم تحشيده ما بين قضاء [ عقرة ] جنوباً و[بافستيان ] شرقاً، فيما تجمعت الشرطة في منطقة [ ريكان ]، وقامت الطائرات البريطانية بقصف القرى والقصبات الكردية بوابل من قنابلها. (19)
وفي الوقت نفسه توجه البارزاني إلى عقرة مستحثاً العشائر الكردية على الانضمام للحركة الكردية، واستطاع استمالة عدد كبير منها، وبدأ الطرفان يستعدان ليوم النزال ، فقد اتخذ مجلس الوزراء في 8 آب 1945 قراراً باحتلال المنطقة الكردية عسكرياً، وخول وزير الدفاع اتخاذ كل ما يلزم لتنفيذ هذه المهمة.
بدأت القوات العراقية بالتعاون مع القوات البريطانية بالزحف على معاقل الحركة الكردية، حيث احتلت منطقة [ نهلة ] بين جبل عقرة وجبل بيرس بعد معارك عنيفة مع القوات الكردية التي كان البارزاني يقودها بنفسه، ووقعت إصابات كبيرة في صفوف الطرفين. ثم تقدمت قوات الحكومة نحو منطقة شرق العمادية، وواصلت تقدمها نحو منطقة  [نيروه ريكان] ثم استطاعت فيما بعد من دخول منطقة [بارزان ] معقل البارزاني، واستطاعت تلك القوات السيطرة على  منطقة [سيدكان] و [براد وست] كما تقدمت قوات أخرى على محور [بافستيان] واستطاعت أن تطوق قوات البارزاني وتحتل جبل[ بيرس ].
وفي 3 تشرين الأول 1945 عبرت القوات العراقية نهر الزاب،واحتلت مركز قضاء الزيبار[ بله]، وانسحبت القوات الكردية إلى جبل[ شيرين].
كما تقدمت قوة عسكرية أخرى في منطقة[ ديزي ] واحتلت قرية [أركوش ]، وواصلت تقدمها على طريق [خليفان ـ ريزان ] واحتلت جسر [ خلان] وقرية [جعفريان ] .
 وفي 6 تشرين الأول 1945 احتلت قوات الحكومة كامل منطقة بارزان ثم واصلت تقدمها نحو [ميركه سور] واحتلتها، كما استولت على [كلي بالندا] واستمرت قوات الحكومة في تقدمها فاستولت على [ شروان مازن ] و [جامة] و[كاني وطن] واضطرت القوات الكردية إلى التراجع نحو الحدود الإيرانية، حيث لم يكن هناك تكافؤ بين الطرفين من حيث التسليح والطائرات، والدعم البريطاني المكشوف، واضطر مصطفى البارزاني وشقيقه الشيخ احمد البارزاني للهرب إلى إيران، وبذلك انهارت الحركة الكردية، وتمكن الجيش من السيطرة على كامل منطقة كردستان. (20)
وبدأت الحكومة بإحالة المشاركين في الحركة إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حُكم على مصطفى البارزاني وشقيقه الشيخ أحمد مع  35 فردا ً آخرين من بينهم 7 ضباط، بالإعدام، وحُكم على 70 آخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تم القبض على الضباط [مصطفى خوشناو] و[عزت عزيز] و[خير الله عبد الكريم] و[محمد القدسي] ، وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم . (21)
وقد اعتبرتهم قيادة ثورة الرابع عشر من تموز 1958 شهداء الوطن وتقرر منح عوائلهم تعويضاً ورواتب تقاعدية.
وهكذا انتهت الثورة الكردية، وتمكن  مصطفى البارزاني وجماعته من الوصول إلى الاتحاد السوفيتي بصعوبة بالغة، وبقي هناك حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز، حيث سمح الزعيم عبد الكريم قاسم بعودتهم، وجرى لهم استقبالاً حافلاً رسمياً وشعبياً، وتم إسكان السيد البارزاني في قصر غريمه نوري السعيد، وتم منحه راتب وزير، كما تم منح رفاقه رواتب شهرية ، وتم إسكانهم على نفقة الدولة.








409
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة 11/ 16


حامد الحمداني                                                  8/9/2008
                                                               
نوري السعيد يعود للواجهة من جديد، ويشكل وزارته العاشرة
منذُ أن شكل السيد [ مزاحم الباجه جي] وزارته في 26 حزيران 1948 بدا واضحاً أنها جاءت لتمهد الطريق لعودة رجالات معاهدة بورتسموث إلى السلطة من جديد، وخاصة بعد أن طلب الوصي عبد الإله إجراء تعديل في وزارته بعد استقالة وزير الدفاع [صادق البصام ]، وتعين عدد من وزراء حكومة صالح جبر، وكان أبرزهم [شاكر الوادي] وزير الدفاع وأحد الموقعين على معاهدة بورتسموث، والذي تسلم وزارة الدفاع مجدداً.
لم تمضِ وزارة [مزاحم الباجه جي] في الحكم سوى ستة أشهر حيث قدمت استقالتها، وتم تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة الجديدة والتي تم تشكيلها على الشكل التالي : (1)
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية.
2 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع.
3 ـ عبد الإله حافظ ـ وزيراً للخارجية.
4 ـ جلال بابان ـ وزيراً للأشغال والمواصلات.
5 ـ محمد حسن كبه ـ وزيراً للعدلية.
6 ـ نجيب الراوي ـ وزيراً للمعارف.
7 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد.
8 ـ خليل إسماعيل ـ وزيراً للمالية.
9 ـ بهاء الدين نوري ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
وحال تشكيل الوزارة أعلن نوري السعيد بأنه سيضع نصب عينيه بالدرجة الأولى قضية فلسطين بغية إنقاذها من محنتها !!.
لكن الحقيقة كانت على عكس ما جاء في خطابه، ولم يكن في جعبته سوى إكمال المؤامرة التي صاغتها بريطانيا، ونفذها الحكام العرب لتصفية القضية الفلسطينية وتثبيت الكيان الصهيوني ، وهذا ما أكده [السيد طه الهاشمي] في مذكراته حيث يقول :
{إن ما جاء في الكتب المتبادلة بين الأمير [عبد الإله] و[نوري السعيد] من التنويه بقضية فلسطين إنما قصد به ذر الرماد في العيون، وأنا أتوقع أسوأ النتائج من هذه الوزارة، فسيبدأ الاعتقال والسجن، وكم الأفواه إلى أن تستقر الأمور في العراق، وسيشجع [الملك عبد لله] على اقتطاع الأرض العربية فلسطين ليضمها إلى إمارته [ شرق الأردن ]. (2)
أما السيد [كامل الجادرجي]  فقد علق على عودة نوري السعيد  إلى الواجهة من جديد، وتشكيله وزارته العاشرة قائلاً:
{إن عودة نوري السعيد إلى الحكم في أوائل كانون الثاني 1949هي من الأحداث البارزة في فترة ما بعد الوثبة، وقد اعتبرت عودته تصفية نهائية لآثار وثبة كانون الثاني 1948، وعودة سيطرته الكاملة على الحكم}.(3)
وهكذا جاءت هذه الوزارة وأمامها مهمات خطيرة لم يكن لأي رئيس حكومة القدرة على القيام بها سوى نوري السعيد.

ثانياً: تصفية القضية الفلسطينية:
عاد نوري السعيد إلى الحكم ليكمل فصول المؤامرة الإمبريالية على فلسطين بالتفاهم والتعاون مع [الملك عبد الله] وحكومته التي كانت برئاسة [ توفيق أبو الهدى ] .
فقد وصل أبو الهدى بغداد في 25 نيسان 1949، واجتمع بالوصي عبد الإله، وبنوري السعيد، وقد طلب أبو الهدى، بناء على توجيهات الأمير عبد الله، سحب القوات العراقية من فلسطين، وبالفعل باشرت تلك القوات الانسحاب والعودة إلى العراق، حيث وصلت طلائعها مدينة الرمادي في 29 نيسان، وبلغت بغداد في الأول من أيار. (4)
وقد سارع الملك عبد الله إلى إرسال البرقية التالية إلى أحد أكبر زعماء المنظمات الصهيونية [ موشي شرتوك ] في 15 آذار 1949 يقول فيها :
{ عزيزي شرتوك : لم يكن بحثي أمس ما عزى إليكم من التصريح عن الجبهة العراقية في حالة انسحابها إلا لأمور جوهرية هي :
عند حضور ساسون أفندي، والقائد دايان إلى الغور لمقابلتنا، بحثنا عن عدم الاطمئنان بهدنة لم يكن العراق قابلاً بها، وأن الجيش العراقي ينسحب منها.
 فللرغبة في التسوية المأمولة عزمنا تسلم الجبهة العراقية،فهذا التصريح وما وقع في الجنوب من حركات يدعو للتردد في النتائج، ولذلك أحب أن تشعروا وفدكم بأن يتفق مع وفدنا على سريان اتفاقية عدم إطلاق النار في الحدود التي يشغلها الجيش العراقي حال تسلمها من قبل القوات الأردنية مع تحياتي لكم وللمستر بن غوريون}. (5)
وما أن تم انسحاب الجيش العراقي من المثلث العربي [ جنين ـ نابلس ـ طول كرم ] حتى بادر الملك عبد الله إلى تسليم  اللد والرملة إلى القوات الصهيونية بحجة أن ذلك من مقتضيات اتفاقية الهدنة التي عقدت في [رودس] بين الأردن وإسرائيل، ومن متماتها، وقد تم التسليم في 19 أيار 1949 مما أثار غضب الشعب الفلسطيني، فكان أن دفع الملك عبد الله حياته ثمناً لتلك
الخيانة، حيث جرى اغتياله في 20 تموز 1951. (6)
ويقول عبد الرزاق الحسني عن عملية سحب القوات العراقية معلقاً:
{لقد كان سحب القوات العراقية من فلسطين من القضايا الخطيرة، لأنها تتصل بشعور الشعب العربي الناقم على حكومات الدول العربية في كافة عواصمها، وكانت الحكومات العراقية المتعاقبة تخشى الإقدام على مثل هذه الحركة فاستطاعت الوزارة السعيدية العاشرة أن تقوم بهذه المهمة مستفيدة من وجود الأحكام العرفية في البلاد. (7)
سيطر على أبناء الشعب وجوم وحزن شديدين بسبب خيانة الحكام، وقد شكّل سحب القوات العراقية تحدياً سافراً لمشاعر الشعب الذي اعتبر قضية فلسطين قضيته الأولى المقدسة. 
و لم يكتف حكام العراق بخيانتهم للقضية الفلسطينية هذه، بل أقدمت حكومة توفيق السويدي على إصدار قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود في 2 آذار1950، وتسفيرهم إلى إسرائيل لكي يدعم قيام الدولة العبرية، ويمدها بالطاقة البشرية التي كانت بأمس الحاجة لها. (8)
وبذلك أكمل نوري السعيد فصول المؤامرة على فلسطين بالتعاون والتنسيق مع العرش الهاشمي في الأردن، والذي استحوذ على القسم العربي من فلسطين مشكلاً المملكة الأردنية الهاشمية بتخطيط من الإمبريالية البريطانية والأمريكية. (9)

ثالثاً:السعيد ينكل بالعناصر الوطنية المشاركة في الوثبة
                                                                                                                                       بعد أن أكمل نوري السعيد فصول المؤامرة الأنكلو أمريكية على فلسطين توجه نحو تصفية القوى الوطنية في الداخل، بادئاً بالحزب الشيوعي الذي كان له الدور الأكبر في وثبة كانون المجيدة، وفي جعبته تصفية حساباته مع الحزب، وسائر القوى الوطنية الأخرى، ولينتقم أشد الانتقام من أولئك الذين كانوا وراء الوثبة.
كان بداية ذلك الهجوم الشرس على الحزب الشيوعي يتمثل في إعادة محاكمة السكرتير الأول للحزب يوسف سلمان [فهد] ورفاقه أعضاء المكتب السياسي[ زكي بسيم] و[حسين محمد الشبيبي] و[يهودا صديق] والذين سبق وأن حكم عليهم المجلس العرفي العسكري بالإعدام،ثم خفض الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد، بعد إلقاء القبض عليهم في عهد وزارة نوري السعيد التاسعة، في منتصف عام 1947، واليوم وقد سنحت الفرصة لنوري السعيد تحت ظل الأحكام العرفية لتنفيذ ما أراد تنفيذه قبل سنتين، فقد تمت إعادة محاكمتهم من قبل المجلس العرفي العسكري الذي أصدر بدوره حكم الإعدام عليهم في 10، و11 شباط 1949، وتم تنفيذ الحكم يومي 14، و15 شباط، وعلقت جثث الشهداء في ساحتي المتحف والتحرير لساعات طويلة إرهاباً للشعب، وتحدياً لمشاعره الوطنية.
 كانت ردة فعل إعدام قادة الحزب الشيوعي عنيفة، عراقياً وعربياً ودولياً، حيث قامت المظاهرات المنددة بالجريمة الشنعاء لنوري السعيد وحكومته، وشنت الصحف الوطنية العراقية والعربية والأجنبية حملة شعواء على الحكومة متهمة إياها بتنفيذ مخططات الإمبرياليين الهادفة إلى كبح جماح الحركة الوطنية في العراق. (10)
ولم تقف إجراءات نوري السعيد عند هذا الحد، بل مضى في تنفيذ ما خططه له أسياده الإمبرياليون حيث جرى اعتقال أكثر من 370 فرداً من أعضاء الحزب الشيوعي وكوادره، ومارست الأجهزة القمعية في مديرية التحقيقات الجنائية [ مديرية الأمن العامة] أبشع أساليب التعذيب لأخذ الاعترافات منهم عن تنظيمات الحزب، ومات البعض منهم تحت التعذيب، وأحيل كافة المعتقلين إلى المجالس العرفية العسكرية التي حكمت بدورها عليهم بأحكام جائرة تراوحت بين السجن المؤبد والسجن لمدة ثلاث سنوات، وبمراقبة الشرطة بعد انتهاء الأحكام، ولم تقف شهية نوري السعيد للانتقام من الحزب الشيوعي إلى هذا الحد، بل سارع إلى إصدار مرسوم خطير وجائر لكبح جماح الهيئة التعليمية والطلبة وإخماد صوتها، وعزلها عن الحركة الوطنية، فجاء في هذا المرسوم انتهاكاً صارخاً للحقوق الدستورية للمواطنين، وفي ما يلي نص المرسوم: (11)

استناداً إلى الفقرة 3 من المادة السادسة والعشرين من القانون الأساسي، وبناء على ما عرضه وزير الداخلية ووافق عليه مجلس الوزراء، أمرنا بوضع المرسوم الأتي:
 مرسوم:
المادة الأولى : ممنوع على هيئات التدريس في الكليات والمعاهد العلمية والمدارس، وموظفيها على اختلاف أنواعها ودرجاتها سواء كانت حكومية أم أهلية أم أجنبية ما يأتي:
1 ـ بث الدعايات السياسية بين الطلاب .
2 ـ تحريض الطلاب على مخالفة أحكام القوانين والأنظمة.
3 ـ حض الطلاب أو غيرهم على المظاهرات، أينما وكيفما تقع.
4ـ حث الطلاب على الإضراب داخل الكليات والمدارس والمعاهد العلمية وخارجها .
المادة الثانية : تعتبر هيئات التدريس في الكليات والمعاهد العلمية والمدارس، وموظفوها مسؤولين جميعاً عن الأعمال الممنوعة المبينة في المادة الأولى من هذا المرسوم لغرض المادة الرابعة، ما لم يُظهر التحقيق الموظف أو الهيئة أو الشخص الذي قام في أمر بثها، أو تحريض الطلاب، أو حثهم عليها.
المادة الثالثة : لمجلس الوزراء، بناء على اقتراح الوزير المختص أن يفصل الموظفين، والهيئات التدريسية للمدة التي يقررها إذا ثبت عليهم أحد الأعمال المبينة في المادة الأولى من هذا المرسوم، أو ثبت إهمالهم، أو تقصيرهم في إظهار مرتكبي أحد الأعمال الواردة في المادة المذكورة
 المادة الرابعة : يحرم الموظفون وهيئات التدريس الذين يفصلون وفق المادة السابقة من هذا المرسوم من حقوقهم التقاعدية، سواء كانوا يستحقون إكرامية أم مرتباً تقاعديا ًخلال مدة الفصل، على أن يعطى لورثتهم راتب التقاعد،أو الإكرامية إذا وقعت الوفاة قبل انتهاء مدة الفصل.
المادة الخامسة:
ينفذ هذا المرسوم من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية .
المادة السادسة: على وزراء الدولة تنفيذ هذا المرسوم الذي يجب عرضه على مجلس الأمة في أول اجتماع له.
كتب في بغداد في اليوم السادس من شهر ربيع الثاني 1368 والمصادف لليوم الخامس من شباط 1949.
هكذا انتهك نوري السعيد بكل فضاعة الدستور العراقي الذي كفل الحقوق العامة للشعب، وجعل إدارات المدارس والمعاهد والكليات أجهزة بوليسية، منذراً بإنزال العقاب الصارم بكل من لا يتعاون مع الأجهزة القمعية لمحاربة الحركة الوطنية في صفوف الطلاب والأساتذة. 
 نفذ نوري السعيد تهديداته وقام بفصل أعداد كبيرة من المعلمين والمدرسين وأساتذة الكليات والمعاهد من وظائفهم، كما تم فصل أعداد كبيرة من طلاب الكليات والمعاهد ،انتقاما للدور البطولي الذي لعبه أولئك الطلاب أبان وثبة كانون المجيدة عام  1948.
 وقد درست اللجنة المشتركة والمؤلفة من اللجنة الحقوقية ولجنة المعارف بمجلس النواب هذا المرسوم، ورفعت تقريرها حوله في 15 كانون الثاني 1951، وأصدرت قراراً برفضه لمخالفته لأحكام الدستور.
لكن رئاسة مجلس النواب، بضغط من الحكومة والبلاط ، أرجأت عرض قرار اللجنة المشتركة على المجلس، واستمر العمل بموجبه حتى عام 1955، بعد أن استنفذ أغراضه، وبعد أن وضع نوري السعيد العديد من المراسيم الأخرى الأشد وطأة منه، والأكثر عدوانية على حقوق الشعب  لمحاربة القوى الوطنية، كما سنرى فيما بعد. (12)

رابعا:السعيد وعبد الإله والإمبرياليون يتآمرون على سوريا

 أثارت خيانة الحكام العرب لقضية فلسطين، واندحار الجيوش العربية أمام قوات المنظمات الإرهابية الصهيونية، وقبول الحكام العرب بالهدنة المعقودة في [رودس ]مع الكيان الصهيوني، وبالتالي القبول بتقسيم فلسطين كأمر واقع، ردة فعل واسعة اجتاحت العالم العربي، وسارت المظاهرات المنددة بالحكام العرب وتخاذلهم، وانغمار معظمهم في المؤامرة الانكلو أمريكية، وخلق ذلك الوضع لدى الشعوب العربية يأساً شديداً من أولئك الحكام، وأصبحت لديهم القناعة من أن أي إصلاح للأوضاع العربية لا يمكن أن يكون دون زوال تلك الأنظمة، وأولئك الحكام .
واستغلت الإمبريالية الأمريكية تلك الظروف اكبر استغلال على الساحة السورية، نظراً لأهمية موقع سوريا الجغرافي بالنسبة لضمان أمن دولة إسرائيل، القاعدة المتقدمة للإمبريالية في قلب العالم العربي، فقد كان قيام نظام حكم وطني حقيقي في سوريا يشكل خطراً على إسرائيل.
 هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لإزاحة النفوذ البريطاني في منطقة الشرق الأوسط، والاستئثار بها لوحدها، نظراً لما تشكله هذه المنطقة من أهمية بالنسبة للإستراتيجية الأمريكية حيث يوجد اكبر خزان للنفط في العالم، فيما كانت الإمبريالية البريطانية تسعى جاهدة لإحكام سيطرتها على المنطقة، فقد سعت إلى قلب الحكومة السورية، وإقامة مشروع [الهلال الخصيب] بزعامة العرش الهاشمي، وتحت هيمنتها، وقد لعب نوري السعيد دوراً كبيراً في تنفيذ المخطط البريطاني. لكن الإمبريالية الأمريكية كانت أسرع في تحركها حيث دبرت انقلاب [حسني الزعيم ] رئيس الأركان السوري ،في 30 آذار 1949، واستطاع حسني الزعيم السيطرة على الأوضاع في سوريا دون أن يلقى انقلابه أية مقاومة تذكر، مستغلاً عواطف الجماهير السورية الناقمة على الحكومة السابقة، بسبب دورها في نكبة فلسطين، وطبيعي أن يستغل حسني الزعيم تلك النكبة ليظهر نفسه بمظهر الوطني الحريص على قضية فلسطين، لكن الحقيقة لا تعدو أن تكون انقلاباً أمريكياً، حيث يقول الكاتب الأمريكي [ كوبلاند ] في كتابه [لعبة الأمم] ما يلي:{وكان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة [الميجرميد] بإنشاء علاقات منتظمة مع الزعيم [حسني الزعيم]،الذي كان رئيساً لأركان الجيش السوري. ومن خلال تلك الصداقة أوحى لحسني الزعيم بفكرة الانقلاب العسكري، حيث اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كل خطته، وإثبات كافة التفصيلات المعقدة }. (13)
أحدث انقلاب حسني الزعيم قلقاً عميقاً لدى الدوائر البريطانية والعرش الهاشمي في العراق، وأسرع نوري السعيد إلى دمشق، يستكشف طبيعة الانقلاب، واختلى السعيد بحسني الزعيم، ونصحه بالعودة إلى واجباته العسكرية، وترك الأمور السياسية، وكان نوري السعيد أثناء زيارته لدمشق يلبس بزة عسكرية برتبة كبيرة في محاولة للتأثير على قائد الانقلاب حسني الزعيم. (14)                                                                                             
 لكن بريطانيا لم تستسلم لما حدث في سوريا، ونشطت أجهزة مخابراتها في العمل لتدبير انقلاب عسكري معاكس. ونجحت جهودها بإحداث انقلاب جديد بقيادة اللواء [سامي الحناوي] في 14 آب 1949، وقبل أن يمض على انقلاب حسني الزعيم ستة أشهر، وكان واضحا أن الانقلاب
 الجديد كان بإخراج بريطاني.
تم لسامي الحناوي السيطرة على البلاد، وجرى إعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه [محسن ألبرازي ] بعد محاكمة لم تدم سوى ساعتين مما أثار غضب الإمبرياليين الأمريكيين. 
  لم يخفِ العرش الهاشمي، ونوري السعيد فرحهما وسرورهما لنجاح انقلاب [سامي الحناوي]، وسارع سامي الحناوي إلى بغداد وبصحبته الملحق العسكري العراقي [ عبد المطلب الأمين ]، واجتمع مع نوري السعيد وعبد الإله، ثم عاد في نفس اليوم إلى دمشق.
 ولم تلبث حكومة بغداد أن أرسلت رئيس الديوان الملكي [ احمد مختار بابان ] إلى دمشق لمناقشة موضوع إقامة اتحاد بين العراق وسوريا  لكن المشروع لم يكتب له النجاح، فقد أفلح الأمريكيون في إحداث انقلاب جديد في سوريا بقيادة العقيد  [أديب الشيشكلي ] في 19 كانون الأول بالتعاون مع [ أكرم الحوراني ] و[فوزي سلو] ، وتم اعتقال سامي الحناوي . لكن أديب الشيشكلي لم يستلم الحكم بصورة رسمية، بل حكم من وراء الستار، وأعاد الحكم المدني للواجهة حتى تشرين الثاني من عام 1951، حيث قام بانقلابه الثاني، وأقال الحكومة المدنية، وأعلن نفسه دكتاتوراً للبلاد. بقي الشيشكلي في الحكم حتى شباط 1954،عندما أسقطه انقلاب جديد بقيادة [ فيصل الأناسي ] بمساعدة [ غسان جديد ]،حيث تحرك الجيش، تدعمه الأحزاب السياسية التي ضاقت الأمرين على أيدي الدكتاتور الشيشكلي، وفرض الانقلابيون على أديب الشيكلي  الاستقالة وتم فرض النظام البرلماني من جديد، وذهبت جهود نوري السعيد وعبد الإله، ومن ورائهم البريطانيون أدراج الرياح.

خامساً: نوري السعيد يؤلف حزب[ الاتحاد الدستوري]:

حاول نوري السعيد تقوية مركزه وهيمنته على السلطة عن طريق جر بعض الأطراف السياسية وخاصة حزب الاستقلال للتعاون معه بموجب ميثاق وضعه السعيد بنفسه وسماه [الميثاق الوطني ]، وكان من جملة ما جاء في ذلك الميثاق مكافحة الشيوعية، ومحاربة الأعمال التي تستهدف إضعاف الحكومة أو إسقاطها، ومقاومة تلك الأعمال مقاومة فعالة و بجميع الوسائل. هذا هو جوهر ميثاق نوري السعيد الذي غلفه بعبارات عامة منمقة،كاحترام الدستور ـ الذي كان هو نفسه أول وأكثر منتهكيه ـ ومكافحة الرشوة، وتأسيس المشروعات الصناعية، وحماية حقوق العمال والفلاحين !!، وتقوية الروابط مع البلدان العربية، وغيرها من الأمور الأخرى . لكن نوري السعيد لم يُوفّق في مسعاه، فقد رد عليه زعيم حزب الاستقلال [محمد مهدي كبه] مفنداً كل ادعاءاته، ودعاه إلى العمل الجدي الصادق لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد بموجب برنامج حدده الحزب. (15)
ولما يئس نوري السعيد من جر حزب الاستقلال للتعاون معه،لجأ إلى تأليف حزب سياسي  دعاه [ حزب الاتحاد الدستوري ] وهو لا يعدو أن يكون في برنامجه صورة طبق الأصل لما جاء في ميثاقه، وقد وقع على طلب التأسيس كل من:
 1ـ محمد علي محمود        2ـ موسى الشابندر      3 ـ جميل الأورفلي 
  4 ـ  عبد الوهاب مرجان   5 ـ  خليل كنه           6 ـ سعد عمر 
  7 ـ مجيد عباس              8 ـ احمد العامر     
  وقد تم منح الحزب المذكور الإجازة من قبل وزارة الداخلية في 24 تشرين الثاني1949، وضم هذا الحزب عناصر مختلفة من الإقطاعيين وأصحاب المصالح، والملاكين الكبار، والانتهازيين الطامعين بالمناصب الكبيرة وبالنيابة والوزارة، وهم جميعاً من مؤيدي السياسة البريطانية. في العراق. (16)
وبعد أن أتم نوري السعيد المهمة المناطة به،بمكافحة الحركة الوطنية، وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي، وتقليم أظافرها، والانتقام من المشاركين بوثبة كانون الثاني المجيدة، وتصفية جميع المنجزات التي حققتها الوثبة، وبعد أن أكمل فصول المؤامرة الكبرى على القضية الفلسطينية، لم يبقَ لديه ما يؤديه في تلك المرحلة، لذا فقد تقدم باستقالة حكومته إلى الوصي في 9 كانون الأول 1949، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي مباشرةً.

    توثيق الحلقة الحادية عشر
(1)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ عبد الرزاق الحسني ـ ص 60 .
(1)   مذكرات طه الهاشمي ـ الجزء الثاني ـ ص 254 .
(2)   مذكرات كامل الجاد رجي ـ ص 267 .
(3)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ الحسني ـ ص 74 .
(4)   نفس المصدر ـ ص 76 .
(5)   تاريخ الأردن في القرن العشرين ـ ص 552 .
(6)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثامن ـ الحسني ـ ص 75 .
(7)   نفس المصدر ـ ص 156 .
(8)   المصدر السابق ـ ص 85ـ87 .
(9)    نفس المصدر السابق
(10) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 486.
(11) تقرير مجلس النواب ـ الاجتماع الاعتيادي ـ لسنة 1950 ـ ص 71.
(12) لعبة الأمم ـ ص 73 ـ كوبلاند .
     (13)حديث اللواء عبد المطلب الأمين لعبد الرزاق الحسني ـ ص 81 ـ ج8
     (14) لمحات وذكريات ـ ص 114 ـ جميل الاورفلي .
     (15)مذكرات كامل الجاد رجي ـ ص 71 .


410
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة العاشرة

حامد الحمداني                                                      11/9/2008
نوري السعيد يعود للحكم من جديد ويؤلف وزارته التاسعة
أولاً: الظروف التي مهدت لعودة السعيد للحكم:

عندما شكل السيد [ أرشد العمري] وزارته في 1 حزيران 1946، بدعوى إجراء انتخاب مجلس النواب، كان قد وضع نصب عينيه تحجيم نشاط الأحزاب السياسية التي سمحت وزارة السويدي بقيامها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مختلقاً شتى الأعذار لذلك، مما أدى إلى تصادم تلك الأحزاب مع الحكومة، وخاصة عندما حاولت هذه الأحزاب إثارة القضية الفلسطينية،على اثر إعلان مقررات اللجنة البريطانية الأمريكية حول القضية، والتي دعت إلى تقسيم فلسطين.
 وكانت الأحزاب السياسية العراقية المعارضة قد اتخذت قراراً بالعمل على مساندة الشعب الفلسطيني، وتقديم كل ما يمكن من المساعدات المادية التي تمكنه من الصمود أمام محاولات الإمبرياليين والصهاينة ،وشكلوا لجنة للعمل معاً من أجل نصرة القضية الفلسطينية، ولجمع التبرعات من أبناء الشعب لهذا الغرض.
إلا أن حكومة [أرشد العمري] منعت تلك الأحزاب من القيام بهذه المهمة بحجة أن هناك لجنة حكومية تقوم بهذا العمل.
 أدى موقف الحكومة هذا إلى وقوع أزمة خطيرة بينها وبين أحزاب المعارضة الخمسة التي سارعت إلى تقديم مذكرة احتجاج إلى الحكومة وأعلنت إيقاف نشاط اللجنة بسبب عدم  توفر الظروف الملائمة لاستمرار عملها، وقد جاء في  تلك المذكرة ما يلي :
{ تألفت لجنة الأحزاب العراقية للدفاع عن فلسطين على اثر صدور تقرير لجنة التحقيق البريطانية الأمريكية، وقد كانت باكورة أعمالها إعلان الإضراب العام في كافة أنحاء المملكة، ذلك الإضراب الذي دل بشموله وهدوئه على مقدار الوعي والنضج الذين أظهرهما هذا الشعب، ومنذُ أن تألفت الوزارة الحاضرة، وجدت لجنة الأحزاب نفسها في وضع لا تستطيع معه القيام بأي عمل جدي مثمر لنصرة الشعب الفلسطيني في محنته الحاضرة، بالنظر إلى خطة الحكومة التعسفية التي لم تقتصر على الأحزاب ونشاطها السياسي، بل تعدته إلى موضوع فلسطين بالذات وكان الظن أن الحكومات المتعاقبة مهما اختلفت وجهات نظرها فإنها تتفق في مثل هذا الموضوع الخطير، حتى أن اللجنة لم يسمح لها بالقيام بالاكتتاب العام لمساعدة شعب فلسطين.
لذلك فإن لجنة الأحزاب العراقية، بالنظر إلى موقف الوزارة الحاضرة، وبالنظر لعدم توصلها إلى اتخاذ خطة موحدة لمجابهة الموقف، لا يسعها مع شديد الأسف إلا أن تحل نفسها  حتى تتهيأ لها الظروف وإمكانيات العمل، وسوف يستقل كل حزب في عمله السياسي لمعالجة قضية فلسطين في ضوء خطته}. (1)
                                                    بغداد في 14 آب 1946
 وقد ردت الحكومة على الأحزاب ببيان حاولت فيه تبرير عملها بذرائع غير مقبولة، وكان واضحاً أنها أرادت منع الأحزاب من القيام بأي نشاط فيما يخص القضية الفلسطينية.
ورداً على سياسة حكومة [أرشد العمري] تجاه القضية الفلسطينية، وموقفها من الأحزاب السياسية المعارضة، أُعلن الإضراب العام في البلاد، واندلعت المظاهرة الصاخبة في بغداد، في 28 حزيران 1946 احتجاجاً على الجرائم التي اُرتكبت بحق الفلسطينيين من قبل العصابات الصهيونية، وعلى سياسة الحكومتين العراقية والبريطانية وقوات احتلالها في فلسطين.
 وكانت قوات الشرطة السيارة التي أعدت وُدربت لقمع المظاهرات بانتظارها، حيث اصطدمت معها مستخدمة الرصاص لتفريقها، وقد وقعت معركة غير متكافئة بين متظاهرين عزل من أي سلاح، وتلك القوات المدججة بالسلاح مما أدى إلى استشهاد خمسة متظاهرين وجرح عدد كبير منهم، كما اعتقلت الشرطة عدد كبيراً آخر من المواطنين. (2)
 حاولت حكومة العمري التقليل من عدد القتلى والجرحى، وتبرير فعلتها النكراء،  متهمة المتظاهرين بالإخلال بالأمن، وغيرها من الادعاءات التي لا يمكن قبولها. لقد أحدث إقدام السلطة على استخدام السلاح ضد المتظاهرين غلياناً شعبياً، واحتجاجات واسعة على سياسة القمع وسارعت الأحزاب السياسية المعارضة إلى تقديم مذكرة احتجاج شديدة اللهجة للحكومة، وحملتها مسؤولية الأحداث. وقد قام قادة الأحزاب المذكورة بمقابلة نائب الوصي، الأمير زيد لتقديم احتجاج أحزابهم على سياسة الحكومة. (3)
وجاء إضراب عمال شركة نفط كركوك في 3 تموز 946  بعد أن فشلت مساعيهم في تحقيق مطالبهم المتعلقة بتحسين أوضاعهم المعيشية ومطالبين بزيادة أجورهم، وتهيئة دور سكن لعوائلهم، أو منحهم بدل إيجار، وتخصيص سيارات لنقلهم إلى مقر عملهم في الشركة، ومنحهم إكرامية
الحرب أسوة بعمال حيفا وعبدان، وأخيراً تطبيق قانون العمال.
ولما يئس العمال من استجابة الشركة إلى مطالبهم، لجئوا إلى الإضراب عن العمل إلى حين تحقيق هذه المطالب.
وقد مارست الحكومة على العمال كل وسائل الضغط والإرهاب لإجبارهم  على العودة إلى أعمالهم، متجاهلة كل مطالبهم المشروعة، لكنها لم تفلح في ثنيهم عن الإضراب، وأصروا على تلبية مطالبهم العادلة.
 وفي 7 تموز حضر وزير الاقتصاد إلى كركوك في محاولة للضغط على العمال المضربين، مستخدماً أساليب التهديد والوعيد، وقد قابله العمال المضربين بتجمع جماهيري واسع في حديقة[ كاور باغي] وألقيت خلال ذلك التجمع الكلمات التي عبرت عن حقوق العمال ومطالبهم المشروعة.
لكن الحكومة كانت قد بيتت لهم مذبحة جديدة، حيث أحاطت بهم قوات من الشرطة تتألف من فوجين، وبدأت بإطلاق النار على التجمع لتفريقه وأدى ذلك العمل الإجرامي إلى استشهاد 16 عاملاً، فيما جرح أكثر من 30 عاملا آخر. (4)
ولم تكتفِ الحكومة بتلك الإجراءات الوحشية، بل سارعت إلى إنزال قوات الجيش إلى شوارع كركوك بدباباتها ومدرعاتها، وأصدرت أمراً بمنع التجول في المدينة خوفاً من ردة فعل الشعب على تلك الجريمة النكراء، وهكذا لطخت حكومة أرشد العمري أيديها مرة أخرى بدماء عمال نفط كركوك، وأضافت جريمة أخرى إلى جرائمها بحق الشعب.
لقد أشعلت [ مذبحة كاور باغي ] معركة الشعب وقواه السياسية الوطنية ضد الحكومة، واستنكرت الأحزاب تلك الجريمة المروعة، وأدانت الحكومة، واعتبرتها مسؤولة عما حدث، وطالبت بمعاقبة المسؤولين عن المذبحة.
ورغم أن الحكومة أعلنت تحت ضغط الرأي العام العراقي، والأحزاب السياسية الوطنية،عن تقديم المسؤولين عن المجزرة للمحكمة، إلا أن الحكومة لم تكن جادة في ذلك، بل أرادت امتصاص غضب الشعب وثورته، وتهدئة الأوضاع. فلم تكن المحاكمة سوى مهزلة،حيث جرت محاكمة المتهمين الرئيسيين الثلاثة في محكمة جزاء كركوك، التي أصدرت قرارها ببراءتهم، وأطلقت سراحهم، مما دفع بوزير الداخلية [عبد الله القصاب] إلى تقديم استقالته من الحكومة في 17 آب 1946، وقد أكد الوزير القصاب للسيد عبد الرزاق الحسني،مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، بعد قيام ثورة 14 تموز وسقوط النظام الملكي، أن السفارة البريطانية هي التي أمرت الحكومة بعدم إدانة المتهمين، بل وزادت في ذلك فطلبت عدم سحب المتهمين من وظائفهم في كركوك أو نقلهم إلى أي مكان آخر، وطلبت كذلك عدم منح أي تعويض لذوي الشهداء والجرحى، و كانت الحكومة قد قررت ذلك من قبل لكنها تراجعت عن قرارها إذعاناً لطلب السفارة البريطانية. (5)
كانت ردة الفعل على تلك المجزرة الرهيبة، وعلى سياسة حكومة أرشد العمري المعادية للشعب وحقوقه المشروعة، شديدةً جداً تتناسب وتلك الجريمة النكراء، فقد أخذت الأحزاب تهاجم الحكومة بعنف،عبر صحافتها، فاضحة إجراءاتها المعادية لمصالح الشعب والوطن، وتدعوا الجماهير الشعبية للتظاهر ضدها، ودعت إلى إسقاطها.
 وقد ردت الحكومة بتعطيل معظم الصحف، وخاصة الصحف الحزبية، وساقت مدرائها المسؤولين ومحرريها إلى المحاكم بتهمة التحريض ضد السلطة، وكانت تعيد الكرة بعد كل محاكمة لتوجه اتهامات جديدة وتجري المحاكمات الجديدة لهم، وزجت بالعديد منهم في السجن.
وبسبب تلك الإجراءات غير الدستورية، دعت الأحزاب الوطنية الثلاثة حزب الاتحاد الوطني، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، في 30 آب 1946 إلى عقد اجتماع عام حضره جمع غفير من أبناء الشعب جاوز 5000 مواطن، حيث ألقيت الخطب المنددة بالحكومة والمعبرة عن سخط الشعب وقواه السياسية الوطنية من سياستها، والجرائم التي اقترفتها بحق الشعب، وسلبها لحقوقه الدستورية، وتجاوزها على الأحزاب وصحافتها.
وفي ختام الاجتماع تم الاتفاق على رفع مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى الحكومة، والى الوصي على العرش [عبد الإله] وجاء في المذكرة: (6)
{إن الجموع الغفيرة المجتمعة بدعوة من حزب الاتحاد الوطني، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب، لمناقشة الموقف السياسي الراهن هالها موقف الوزارة الحاضرة، بمكافحة الأحزاب السياسية ومحاولة شل نشاطها، وغلق صحفها، وإحالة رؤساء تحريرها إلى المحاكم، وسجن بعض أعضاء هذه الأحزاب لمجرد إبداء آرائهم في السياسة العامة، وهو حق من حقوق كل مواطن في بلد له دستور يحترم حرية الرأي، ويأخذ بنظام الحكم الديمقراطي.
 غير أن الوزارة الحاضرة تجنبت الحكم الديمقراطي، واتجهت بحكم البلاد اتجاهاً استبدادياً مخالفا لأحكام القانون الأساسي، وهي تتعمد إهماله ولا تحترم ما فيه من نصوص عن حقوق الشعب وحرياته الديمقراطية، وقد وقع في عهدها من الأحداث الجسام ما روع العراقيين كافة، وما أنذرهم به من خطر جسيم يهدد كيان الشعب ومستقبله، وما أصبح معه العراقيون غير آمنين ولا مطمئنين على حقوقهم وحرياتهم بل وحياتهم .
بالإضافة إلى ذلك لم تستطع أن تصون سيادة العراق وكيانه الدولي، ففي عهدها نزلت القوات البريطانية في البصرة، في الوقت الذي يطالب به الشعب العراقي بالجلاء، ولم تستطع الوقوف الموقف الصحيح لمعالجة مشكلة خطيرة تتعلق بكيان الشعب العربي الفلسطيني، بل بكيان ومصالح البلاد العربية كافة، وذلك بعرض القضية على مجلس الأمن الدولي، وهو مطلب الشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية بصورة عامة، فهي بأعمالها التي أفصحت عن استهانتها بحقوق الشعب وحرياته وقانونه الأساسي،غير جديرة بتحمل مسؤولية الحكم، ولا القيام بالمهمة التي أعلنت أنها تتولى الحكم لإتمامها، وهي مهمة انتقالية حيادية تتلخص بإجراء انتخابات حرة لمجلس جديد، فنحن نطالب بتنحي هذه الوزارة، وإقامة وزارة دستورية يرتضي الشعب سياستها}.
 ويقول السيد عبد الرزاق الحسني في وصفه لتلك الاحتجاجات:{إننا لو أردنا نشر كافة الاحتجاجات ضد حكومة أرشد العمري لتطلب ذلك مجلدات}.
ونتيجة لتطورات الأوضاع وخطورتها، والضغوط التي تعرضت لها حكومة العمري،اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها في 16 تشرين الأول 1946، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم، ودون أن تستطيع إجراء الانتخابات العامة.
ونتيجة لتدهور الأوضاع السياسية في البلاد، وخطورة الموقف سارع وزير الخارجية البريطانية المستر [ بيفن ] إلى إرسال برقية إلى الوصي عبد الإله تسلمها بعد منتصف الليل يطلب فيها بتكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة لمعالجة الأوضاع الخطيرة التي سببتها سياسة حكومة أرشد العمري، والتي اتسمت بالرعونة والاستهانة بالشعب. (7)
ثانياً: نوري السعيد يؤلف وزارته التاسعة:
وهكذا تم ما أراده [ بيفن ]،وصدرت الإرادة الملكية بتكليف نوري السعيد بتأليف وزارته التاسعة في 21 تشرين الثاني 1946، فقد أراد الإنكليز أن يمهّد نوري السعيد الأجواء لتنفيذ المهمة الخطيرة والمتضمنة تهيئة الأجواء لتجديد المعاهدة العراقية البريطانية التي كانت معاهدة عام 1930 التي وقعها نوري السعيد آنذاك قد أوشكت على نهايتها.
أراد نوري السعيد تهدئة الأوضاع المتأزمة التي سببتها الوزارة السابقة فأجرى اتصالات مع الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الأحرار، داعياً إياهما للاشتراك في الحكومة، محاولاً خلق شعبية لوزارته وبالفعل تمكن من إقناع الحزبين بمشاركة عضو عن كل منهما في الوزارة، وفق الشروط التي حدداها بكون الوزارة انتقالية تهدف إلى إجراء انتخابات حرة لمجلس النواب، مع ضمان إطلاق حرية الأحزاب والصحافة وضمان حق المواطنين في انتخاب العناصر التي يثقون فيها دون تدخل  الإدارات المحلية في عملية الانتخاب، والسماح بفتح فروع لهما في الألوية، وممارسة حقهما في الدعاية الانتخابية بكل حرية، وقد رد نوري السعيد على الحزبين بالإيجاب، وتم تشكيل الوزارة، ودخلها عن الحزب الوطني الديمقراطي السيد [ محمد حديد] وعن حزب الأحرار السيد[علي ممتاز الدفتري]  وجاءت الوزارة على الشكل التالي :
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيرا للداخلية
2ـ عمر نظمي ـ وزيراً للعدلية .
 3ـ صالح جبر ـ وزيراً للمالية .
4 ـ صادق البصام ـ وزيراً للمعارف .
5 ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
6 ـ فاضل الجمالي ـ وزيراً للخارجية .
 7 ـ بابا علي الشيخ محمود ـ وزيراً للاقتصاد .   
 8 ـ جميل عبد الوهاب ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
 9 ـ محمد حديد ـ وزيراً للتموين .         
10 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع
ثالثاًً: السعيد يمهد الأجواء لمعاهدة جديدة مع بريطانيا:
 حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات مزيفة جديدة :
 كانت باكورة أعمال الوزارة السعيدية إقدامها على حل مجلس النواب تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، حيث صدرت الإرادة الملكية بحله في 21 تشرين الثاني 1946، وبوشر بالإجراءات اللازمة لانتخاب المجلس الجديد قبل أن يتم فتح فروع للأحزاب السياسية في الألوية، والتي تعتبر مهمة جداً لهما للقيام بالدعاية الانتخابية.
ولدى البدء في إجراء انتخاب المنتخبين الثانويين، ورغم تعهد نوري السعيد بأن تكون انتخابات حرة ونزيهة، فقد قام تكتل في الوزارة يقوده [صالح جبر] وزير المالية بتدخل سافر في تلك الانتخابات، مما دفع الحزبين المشاركين في الوزارة بالاحتجاج لدى رئيس الوزراء الذي حاول طمأنتهما. لكن التدخلات استمرت وتصاعدت، فلم يرَ الحزبان المذكوران بداً من سحب ممثليهما من الوزارة، وتقدم [محمد حديد] ممثل الحزب الوطني الديمقراطي و[ممتاز الدفتري ] ممثل حزب الأحرار باستقالتهما من الوزارة، وصدر الإرادة الملكية بقبولهما في 31 كانون الأول 1946.
 استمرت الحكومة بخططها لإكمال الانتخابات وفق مقاسها هادفة إلى إنجاح مرشحيها، وكانت التدخلات تجري بشكل سافر مما أجبر بعض الأحزاب الوطنية إلى مقاطعة الانتخابات. (8)
ولما وجد الوصي عبد الإله أن تلك التدخلات بلغت حداً لا يمكن السكوت عنه، استدعى متصرفي الألوية [ المحافظين]، متجاوزاً الحكومة، وطلب إليهم إنجاح المرشحين الذين يختارهم البلاط الملكي، وهكذا دخل الوصي على الخط ليكون له النصيب الأوفر في نتائج الانتخابات متجاهلا إرادة الشعب وحقوقه التي ضمنها الدستور. (9)
ورغم أن الحزب الوطني الديمقراطي لم يقاطع الانتخابات، واستمر فيها إلى النهاية، وفاز بخمسة مقاعد، إلا أنه قرر بعد الانتخابات سحب نوابه الخمسة من المجلس احتجاجاً على التدخلات السافرة من قبل الحكومة والوصي عبد الإله.
 وقد أكد الحزب في بيانه الذي أعلن بموجبه سحب النواب انه إنما استمر في خوض الانتخابات لكي يكون قريباً منها، وليفضح التدخلات التي مارستها الحكومة وأجهزتها الإدارية، والتي كان من نتائجها أن النواب جرى تعينهم سلفاً، وان تلك العملية الانتخابية لم تكن إلا لذر الرماد في العيون، ومحاولة خداع الشعب وقواه السياسية الوطنية، ودعا بيان الحزب في النهاية أبناء الشعب إلى مواصلة الكفاح من اجل حقوقهم الدستورية.

رابعاً:الأحزاب تصدر بياناً يندد بالحكومة، وبعملية الانتخاب:

لم تلبث الأحزاب السياسية الخمسة أن دعت بعد الانتخابات إلى لقاء لممثليها في 24آذار 1947 للتداول في الأوضاع السياسية للبلاد، وما آلت إليه الانتخابات المزعومة من نتائج.
 وقد تم في ذلك اللقاء تقيم دقيق للموقف، وأصدرت في نهاية الاجتماع  بياناً شديد اللهجة اتهم الحكومة بتزييف إرادة الشعب، وسلبه حقوقه وحرياته، والإتيان بمجلس لا يمثله على الإطلاق، بل جرى تعينه سلفاً وأعلن البيان عدم اعترافه بشرعية نتائج الانتخاب، ودعت إلى حل المجلس، وتشكيل حكومة محايدة تجري انتخابات حرة ونزيهة وشريفة يقول فيه الشعب العراقي كلمته بكل حرية في من يمثله صدقاً وحقاً، ومحذرة من أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه ينذر بعواقب وخيمة. (10)
خامساً: استقالة حكومة نوري السعيد،وتكليف صالح جبر:
بعد أن أكمل نوري السعيد المهمة التي جاء من أجلها، وهيأ الأجواء لصعود صالح جبر إلى قمة مجلس الوزراء ،بناء على رغبة الإنكليز، وتوصية المخابرات البريطانية. (11)
 قدم استقالة حكومته إلى الوصي عبد الإله في 11آذار 1947، وتم قبول الاستقالة بعد 16 يوماً، لغرض الفراغ من تأليف الوزارة الجديدة. وتم الإعلان عن قبول الاستقالة في 29 منه، وعهد الوصي إلى [ صالح جبر] بتأليف الوزارة الجديدة التي احتفظ فيها جبر بوزارة الداخلية وأسند وزارة الخارجية للسيد[ فاضل الجمالي] ووزارة الدفاع للسيد [شاكر الوادي ] وقد جاءت هذه الوزارة بأمر من الإنكليز، وتم وضع منهاجها بالاشتراك مع أقطاب السفارة البريطانية وبوحي من وزارة الخارجية البريطانية. (12)
وكان في مقدمة أهداف الوزارة  تحقيق ما يأتي :
1 ـ تجديد المعاهدة العراقية البريطانية [ معاهدة 1930].
2 ـ مكافحة الشيوعية، أو ما سمته الحكومة [المبادئ الهدامة].
3 ـ تنفيذ المخطط البريطاني ـ الأمريكي حول القضية الفلسطينية .
4 ـ تقوية وتوسيع جهازي الأمن والشرطة وتدريب منتسبيهما. (13)
وقد غلفت الحكومة منهجها هذا بجملة مشاريع   وهمية لا تعدو عن كونها وسيلة لتغطية المخطط الذي جاءت لتنفيذه، والذي قال عنه السيد توفيق السويدي :{ أن المنهاج أحتوى على آمال وخيالات لا يتسنى للبلد تحقيقها إلا بنصف قرن، وأضاف انه لو تسنى تحقيق عشر ما جاء به منهاج هذه الوزارة لتحول العراق إلى جنة عدن، لكن المنهاج   لم يكن سوى حبراً على ورق}. (14)
سادسا: محاولة فرض معاهدة بورتسموث،ودور السعيد:
على الرغم من أن نوري السعيد لم يشترك في وزارة [صالح  جبر] حيث صدرت إرادة ملكية بتعينه رئيساً لمجلس الأعيان بعد استقالة وزارته، إلا أنه كان قد تولى أمر المفاوضات مع  البريطانيين في واقع الأمر، فقد عبر الوصي عبد الإله عندما كان في لندن لرئيس الوزراء [صالح جبر] عن رغبته في أن يصطحب معه كل من [ نوري ا لسعيد ] و[ توفيق السويدي ] وقد تقبل السيد صالح جبر الأمر بكل سرور. (15)
كان نوري السعيد آنذاك يراقب الوضع السياسي المضطرب، والذي كان ينذر بأحداث جسيمة بسبب الوضع المعيشي الصعب الذي كان يمر به الشعب العراقي والغلاء الفاحش الذي سبب ارتفاع الأسعار بشكل رهيب جاوز الخمسين ضعفاً للعديد من السلع،وافتقدت الأسواق الكثير منها وبلغ التضخم درجات عالية جداً مما عمق الأزمة الاقتصادية الخانقة وقد اشتهرت تلك الفترة العصيبة في حياة الشعب العراقي بفترة[الخبز الأسود] لكثرة الشوائب فيه، وندرته، وصعوبة الحصول عليه حيث كان يتجمع الألوف من الناس أمام المخابز لساعات طوال للحصول على بضعة أرغفة من ذلك الخبز الأسود .
وجاءت قضية اغتصاب معظم أجزاء فلسطين من قبل الصهيونية العالمية نتيجة المؤامرة البريطانية الأمريكية، وخيانة الحكام العرب المشتركين في تلك المؤامرة، ومهزلة ما سمي بالحرب العربية الإسرائيلية التي لم تكن في واقع الأمر سوى تمثيلية مفتعلة أراد الحكام العرب منها تبرئة ذمتهم من تلك الجريمة التي لا زال العالم العربي بوجه عام والشعب الفلسطيني بوجه خاص يعاني من آثارها الخطيرة حتى يومنا هذا على أيدي حكام إسرائيل وحماتهم الأمريكان والبريطانيين.
ولقد أدرك نوري السعيد خطورة الأوضاع، وما يمكن أن تؤدي إليه فاقترح على الوصي عبد الإله تأجيل تعديل المعاهدة في ذلك الوقت لعدم ملائمة الأوضاع الداخلية والعربية.
إلا أن الوصي أصرَّ على رأيه، وقد اقترح السعيد عليه استقالة الوزارة وتأليف وزارة جديدة تضم الأطراف الأخرى من المعارضين لحكومة صالح جبر، لكن الوصي رفض الاقتراح، وأصر على مشاركة السعيد في المفاوضات الجارية في بريطانيا. (16)
فقد ذكر توفيق السويدي في مذكراته أن حكومة  صالح جبر حكومة ضعيفة لا تقوى على احتمال مسؤولية المفاوضات التي تستلزم جهوداً واستعدادات واسعة فيجب أن تكون لدينا حكومة مفاوضات قادرة على إنجاز هذه المهمة الخطيرة، ويضيف السويدي أن الوصي قد ألح عليه أن يرافق صالح جبر ونوري السعيد إلى لندن ليكون مراقباً لسير المفاوضات نيابة عنه. وعليه فقد امتثل لرغبة الوصي واشترك مع  نوري السعيد وصالح جبر في المفاوضات. (17)
وعلى أثر تسرب الأخبار عن اجتماع قصر الرحاب ومعرفة الأحزاب السياسية بالأمر قررت الاحتجاج على ذلك، وأصدرت البيانات المنددة بالمعاهدة والقائمين بها، فقد أصدر كل من حزب الاستقلال،وحزب الأحرار، والحزب الوطني الديمقراطي بيانات شديدة اللهجة منددة بالحكومة ووفدها المفاوض، ومحذرة إياهم من مغبة الإقدام على توقيع المعاهدة التي دعيت بـ[ معاهدة بورتسموث] نسبة إلى المدينة التي جرت المفاوضات فيها. (18)
وكانت قد  تسربت أنباء عن وصول وفد بريطاني بصورة سرية لأجراء مفاوضات مع حكومة صالح جبر لوضع مسودة معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1930، وضم الوفد البريطاني نائب مارشال الجو السير [ بريان بيكر ] والبريكادير[كيرتس] ونائب مارشال الجو [ كراي ]، والمستر  [بسك ]،والميجر [رنتن ]، والميجر [برتواك ] فيما كان الوفد العراقي قد تألف من [صالح جبر ] و [شاكر الوادي ] و [ صالح صائب الجبوري ] رئيس أركان الجيش، وقد تبين أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد بدأت في 8 مايس1947 واستمرت حتى 17 منه بصورة سرية ،وتم إجراء المفاوضات في قصر الرحاب،تحت أشراف الوصي عبد الإله الشخصي . (19)
 كما سافر عبد الإله إلى لندن في 15 تموز، وأجرى مباحثات مع المستر   [بيفن ] استكمالاً للمحادثات التي بدأت في بغداد، وبعد عودة الوصي إلى العراق استأنفت المباحثات بين الطرفين في 22 تشرين الثاني ،واستمرت حتى 4 كانون الأول، وكان الجانب البريطاني يتقدم بمسودات متعددة للمعاهدة الجديدة، وسافر[ نوري السعيد ] و[ فاضل الجمالي ] وزير الخارجية إلى لندن، وأجريا لقاءات متعددة في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قدم لهما مساعد وزير الخارجية مسودة جديدة للمعاهدة، وقد اتصل نوري السعيد برئيس الوزراء [صالح جبر] داعيا إياه إلى الحضور إلى لندن لاستكمال المباحثات حول مسودة المعاهدة، وقد لبى صالح جبر الدعوة، وغادر إلى لندن وبصحبته وزير الدفاع [ شاكر الوادي ] و[ توفيق السويدي] بعد الاجتماعين الذين تمم عقدهما في قصر الرحاب برئاسة عبد الإله، وكان الاجتماع الأول قد عقد في قصر الرحاب في 28 كانون الأول، وضم ذلك الاجتماع 7 رؤساء وزارات سابقين و12 وزيراً بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي السيد [أحمد مختار بابان ].
 ثم تلاه الاجتماع الثاني في 3 كانون الثاني 1948، وضم كل من [الوصي عبد الإله] و[ صالح جبر] و[ نوري السعيد ] و[ توفيق السويدي ] و[ أحمد مختار بابان ] رئيس الديوان الملكي، وقد تحدث الوصي إلى الحاضرين ونوقشت فيه النقاط الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها، والأسس التي ينبغي أن تؤخذ في نظر الاعتبار في المفاوضات. 
 ويقول السيد توفيق السويدي في مذكراته أن صالح جبر كان قد وزع على الحاضرين مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وعندما طالبته بنسخة عربية أجابني أنه لم يتسنى لنا ترجمتها إلى العربية، ويضيف السويدي قائلا بأنه لم يجد ما يستوجب الاعتراض من الجانب السياسي، ولكن وجدت الجانب العسكري عليه الكثير من الاعتراضات، وقد رد عليّ صالح جبر بان هذا الأمر مدروس من قَبلْ ومتفق عليه بهذا الشكل، وليس فيه ما يستوجب الاعتراض، الأمر الذي دل بوضوح على أن المعاهدة قد وضعت واتُفق على موادها سلفاً، وإن الوصي أراد إضفاء الشرعية عليها، وفي نهاية الاجتماع تم تخويل الوفد  برئاسة[ صالح جبر] صلاحية التوقيع على المعاهدة. (20)
وعندما سرت أنباء اجتماعات قصر الرحاب سارعت الأحزاب الوطنية إلى الاحتجاج عليها بسبب استبعاد الشخصيات الوطنية منها، وأصدرت بيانات تندد بالحكومة، وتستنكر سعيها لربط العراق بمعاهدة جديدة اشد وطأة، وتمتهن سيادة واستقلال البلاد، مستهترة بإرادة الشعب وحقوقه المشروعة، وظهرت تلك البيانات في الصحف في اليوم التالي.
لكن الحكومة مضت في خططها لإتمام الصفقة مع المحتلين البريطانيين متحدية إرادة الشعب، حيث أعلن عن سفر الوفد العراقي إلى لندن في 5 كانون الثاني 1948. وجاءت تصريحات وزير الخارجية فاضل الجمالي والتي أشاد فيها بالمعاهدة العراقية البريطانية الموقعة في حزيران 1930، وبجهود الحكومة لعقدها مع الحليفة بريطانيا، وأهمية وضرورة عقدها، لتشعل أول شرارات وثبة كانون الثاني 1948، فقد كانت تصريحات الجمالي استفزازية وقحة دفعت طلاب الكليات إلى الخروج في مظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة لعقد المعاهدة الجديدة، وقام طلاب كلية الحقوق بدور بارز في تلك المظاهرات.
لكن الحكومة سارعت إلى دفع قوات الشرطة للتصدي للمظاهرات مستخدمة أساليبها القمعية المعروفة لتفريقها، وقد أصيب عدد من الطلاب في الصدام، واعتقل البعض الأخر، وأقدمت الحكومة على تعطيل الدراسة في كلية الحقوق في 5 كانون الثاني، وقد احتج أساتذة الكلية على إجراءات الحكومة وأساليبها القمعية في تعاملها مع الطلاب المتظاهرين، لكن الحكومة ردت باعتقال عدد من أساتذة الكليات والطلاب واتهمتهم بحمل المبادئ الهدامة. (21)
ونتيجة لسلوك الحكومة هذا إزاء الطلاب وأساتذة الكليات أعلن طلاب الكليات والمعاهد العالية إضرابهم عن الدراسة، وخرجوا في مظاهرات صاخبة سارت حتى بناية مجلس النواب للاحتجاج على الحكومة. وبسبب تسارع الأحداث وتطورها، حاول وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] تهدئة الأوضاع فأمر بإعادة فتح كلية الحقوق، وإطلاق سراح الطلاب،
 وأساتذتهم المعتقلين.
 وجاءت أزمة الحبوب وفقدان رغيف الخبز في مطلع عام 1947 لتصاعد من حدة التناقض بين الشعب وحاكميه، ولترفع من حرارة الغليان الشعبي. فبسبب سياسة الحكومة الاقتصادية الرعناء التي سمحت بتصدير كميات كبيرة من الحبوب إرضاءً لكبار الإقطاعيين والملاكين الزراعيين، على الرغم من سوء الموسم الزراعي ذلك العام  بسبب شحة الأمطار، ورغم كل التحذيرات التي وُجهت للحكومة من خطورة الوضع وضرورة منع التصدير ذلك العام ،إلا أن الحكومة أغمضت عيونها عن تلك التحذيرات واستمرت في سياستها المتعارضة، ومصالح الشعب وحياته المعيشية مما سبب فقدان الحبوب في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وقد لاقى الشعب صعوبات بالغة في الحصول على رغيف الخبز، وكانت صفوف المنتظرين أمام المخابز تثير الأسى والحزن على ما يلاقيه الناس للحصول عليه.
لقد كانت أزمة الخبز أحد الأسباب الرئيسية لقيام وثبة كانون الثاني المجيدة  في مطلع عام 1948، وكانت الأوضاع تنتظر من يشعل الشرارة لتنفجر ثورة عارمة ضد نظام الحكم القائم.

توقيع معاهدة بورتسموث بالأحرف الأولى:
وصل الوفد العراقي المفاوض إلى لندن في 6 كانون الثاني 1948، حيث عقد الوفدان العراقي والبريطاني في مقر وزارة الخارجية اجتماعاتهما حول المعاهدة المقترحة، والتي كانت قد أعدت سلفاً، واستغرقت الاجتماعات أربعة أيام، وانتهت في 10 كانون الثاني بعد أن جرى الاتفاق على بنودها، وتقرر التوقيع عليها في 15 منه في ميناء [بورتسموث ].
 وبادر رئيس الوزراء صالح جبر بإرسال نسخة من مسودة المعاهدة المتفق عليها باللغة الإنكليزية، طالبا عدم نشرها لحين ترجمتها إلى العربية.
 وقد تم بالفعل ترجمتها، وإذاعتها من دار الإذاعة في 16 منه، وتناقلت الصحف نشر نصوص المعاهدة في اليوم التالي، وقد أحدث نشرها غليانا شعبياًً شديداً كان ينذر بالانفجار في أية لحظة.
وعلى أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها [صالح جبر] والوفد المرافق له مع[ارنست بيفن] وزير الخارجية البريطاني والوفد المرافق له، اجتاحت البلاد موجة عارمة من الغضب الشعبي العارم، واندلعت المظاهرات الصاخبة والمنددة بالحكومة وبالمعاهدة، وخاصة بعد أن نشرت الأحزاب الوطنية في 18 كانون الثاني البيانات المنددة بالحكومة والمعاهدة، والتي طالبت البيانات باستقالة حكومة صالح جبر، ورفض المعاهدة التي جاءت أقسى من معاهدة 1930 وأشد وطأة.
سابعا:اندلاع وثبة كانون الثاني وسقوط حكومة صالح جبر:
سارع طلاب الكليات والمعاهد العالية إلى إعلان الإضراب العام، وتشكيل [ لجنة التعاون الطلابي ] التي ضمت مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية، وقامت المظاهرات الصاخبة في بغداد، ثم ما لبثت أن امتدت إلى مختلف المدن العراقية في 18  كانون الثاني، وتصاعدت موجة المظاهرات في اليوم التالي عندما انضم إليها العمال والكادحين من سكان الصرائف المحيطة ببغداد، والكسبة والمدرسين والمحامين وسائر طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة، واتجهت المظاهرات إلى بناية مجلس النواب، وكانت الجماهير تنظم إليها خلال مسيرتها، والكل يهتفون بسقوط صالح جبر ونوري السعيد، وسقوط الوزارة، وحلّ المجلس النيابي،ورفض المعاهدة .
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان أذيع من دار الإذاعة هددت فيه بقمع المظاهرات بكل الوسائل والسبل، وقد شكل البيان استفزازاً كبيراً لجماهير الشعب دفعهم إلى تحدي السلطة، وأعلن طلاب المدارس كافة تضامنهم مع جماهير الشعب، وتحدي البيان.
وفي 20 كانون الثاني انطلقت المظاهرات الواسعة يتقدمها طلاب كلية الشريعة بجببهم، وعمائمهم البيضاء، هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة، وجابهتهم قوات كبيرة من الشرطة مطلقة الرصاص على المتظاهرين، مما أوقع العديد من الشهداء والجرحى الذين نقلوا إلى المعهد الطبي، والمستشفى التعليمي بجوار كليتي الطب والصيدلة، وقد أدى ذلك الصدام إلى انتشار لهيب الوثبة في بغداد وسائر المدن الأخرى، وتصاعدت موجات المظاهرات التي اشتركت فيها جميع فئات الشعب من الطلاب والعمال والمثقفين والكسبة والكادحين، واشتبكوا مع قوات الشرطة التي لم تستطع مجابهة المتظاهرين، وولت هاربة رغم السلاح الذي كانت تحمله بين أيديها، ولازلت أذكر تلك الأيام المجيدة من تاريخ كفاح الشعب العراقي بدقائقها، حيث كنت أحد الطلاب المشاركين فيها  في مدينة الموصل، وشاهدت شرطة النظام وهي تولي هاربة من غضب الجماهير الشعبية، وأسفرت مظاهرات يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني في بغداد عن استشهاد أربعة من الطلاب والمواطنين، إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى.
 لكن تلك التضحيات كانت حافزاً قوياً دفع جماهير الشعب على مواصلة الكفاح حتى تحقيق أهدافها في إسقاط الوزارة والمعاهدة معاً.
وفي يوم الأربعاء 21 كانون الثاني توجهت جماهير الشعب نحو المستشفى التعليمي لاستلام جثث الضحايا، لكن الشرطة فاجأتهم بوابل من الرصاص، وحاولت الجماهير الاحتماء في بناية كليتي الطب والصيدلة، وبناية المستشفى، ولاحقتهم الشرطة داخل البنايات المذكورة وقتلت أثنين منهم، كان أحدهم طالبا في كلية الصيدلة، مما أشعل الموقف، ودفع عميدي كليتي الطب والصيدلة وأساتذة الكليتين إلى الاستقالة احتجاجا على انتهاك حرمة الكليّتين، واحتجت الجمعية الطبية العراقية ببيان شديد اللهجة على تصرف الحكومة.
وتدهور الوضع في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة والوصي [عبد الإله] الذي سارع  لدعوة أعضاء الحكومة، وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية الوطنية، إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في 21 كانون الثاني لتدارس الوضع والخروج من المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها فيه، وكان من بين الحاضرين الشيخ [ محمد الصدر ] و[جميل المدفعي ] و[ حكمت سليمان] و[ حمدي الباجه جي ] و[ارشد العمري ] و[نصرت الفارسي] و [ جعفر حمندي ] و [ محمد رضا الشبيبي ] و[محمد مهدي كبه ] زعيم حزب الاستقلال و [كامل الجادرجي] زعيم الحزب الوطني الديمقراطي و[علي ممتاز الدفتري] ممثلا لحزب الأحرار و[عبد العزيز القصاب ] و[صادق البصام]  ونقيب المحامين [ نجيب الراوي] وجرت في الاجتماع نقاشات حامية حول تطور الأوضاع بين الموالين للسلطة والمعارضين لها وقد اتهم الوزير عبد المهدي المتظاهرين بأنهم عناصر شيوعية هدامة، ورد عليه السيد كامل الجاد رجي بقوله:
 { إن المتظاهرين هم عناصر وطنية عربية صرفه }. (22)
شعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف، وعدم استطاعة الحكومة مجابه الشعب، وبعد مداولات دامت أكثر من خمس ساعات أصدر الوصي بياناً إلى الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة، ومما جاء في بيانه قوله :{ أنني اعد الشعب بأنه سوف لن تبرم أية معاهدة لا تتضمن حقوق البلاد وأمانيها الوطنية }. (23)
لقد أراد الوصي أن يمتص ببيانه هذا الغضب الجماهيري العارم الذي بات يهدد النظام، وهو في حقيقة الأمر كان مرغماً على تلك الخطوة وهذا ما أكده وكيل رئيس الوزراء [ جمال بابان ] نفسه للسيد عبد الرزاق الحسني، بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، من أن الوصي عبد الإله أصّر في بادئ الأمر على استخدام الشدة والعنف مع المتظاهرين وحصدهم حصداً !!، وبرر سكوته عن ذلك طيلة تلك المدة إرضاءً للوصي، وتستراً على موقفه من قصة رفض الشعب للمعاهدة التي عقدت بمعرفته وبتوجيهاته. (24)
أدى بيان الوصي عبد الإله إلى حدوث انشقاق في صفوف الأحزاب الوطنية، فقد  انشق حزب الاستقلال داعياً جماهير حزبه إلى التوقف عن التظاهر بعد بيان الوصي، فيما أصرت بقية القوى الوطنية على مواصلة الكفاح حتى سقوط حكومة صالح جير، وقيام حكومة حيادية تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتطلق سراح كافة المعتقلين السياسيين.
وفي الوقت الذي كان الوصي يسعى بكل جهده لتهدئة الوضع طلع علينا رئيس الوزراء [صالح جبر] بتصريح في لندن في 22 كانون الثاني يتهم المتظاهرين بأنهم عناصر هدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941، بعد إسقاط حكومة الكيلاني على يد جيش الاحتلال البريطاني، وقد توعد جبر في تصريحه بالعودة إلى بغداد لسحق رؤوس العناصر الفوضوية!!.
 وكان جبر بتصريحه هذا قد صب الزيت على النار فانطلقت مظاهرات عارمة ضد الحكومة. (25)
وفي 25 منه أعدت الحكومة البريطانية طائرة خاصة لنقل صالح جبر وبقية أعضاء الوفد إلى بغداد لمعالجة الوضع، وكبح جماح المعارضة الوطنية، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في مطار بغداد لذي طوقته الجماهير، واضطرت إلى الهبوط في القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وتم نقل الوفد المرافق له بواسطة المصفحات والمدرعات إلى قصر الرحاب خفية، حيث التقى بالوصي بحضور نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وقد اتهم صالح جبر وكيله جمال بابان بالتهاون في قمع المظاهرات، وطلب من الوصي منحه الصلاحيات اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية خلال 24 ساعة. (26)
لكن جمال بابان أكد استحالة إنهاء المظاهرات دون استقالة الحكومة، وأيده في موقفه جميل عبد الوهاب، وزير الشؤون الاجتماعية، فيما وقف نوري السعيد إلى جانب صالح جبر داعياً إلى استخدام أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين، فما كان من جمال بابان إلا أن قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على انتقادات صالح جبر. (27)
وفي ليلة 26 / 27 كانون الثاني أصدر صالح جير بياناً يحذر فيه أبناء الشعب من التظاهر، ويتوعدهم بإنزال العقاب الصارم بهم، وخول متصرفي الألوية[ المحافظين]، وأمين العاصمة، ومدراء الشرطة صلاحية استخدام السلاح لتفريق المظاهرات، وإنزال قوات كبيرة من الشرطة لتحتل المراكز الحساسة في العاصمة، وبقية المدن الأخرى. (28)
وتحدت الجماهير الشعبية صالح جبر ونوري السعيد، واجتاحت شوارع بغداد وسائر المدن الأخرى مظاهرات هادرة منددة بالحكومة، ومطالبة بسقوطها، وسقوط المعاهدة، وبات الوضع خطيراً جداً في تلك الليلة حيث كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق من قبل الشعب من جهة والحكومة وقواها القمعية من جهة أخرى انتظاراً لصباح اليوم التالي 27 كانون الثاني. فلما حلّ ذلك الصباح تحولت شوارع بغداد والمدن الأخرى إلى ساحات حرب حقيقية، فقد نشرت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة المزودة بالمصفحات في الشوارع الرئيسية، فيما نصبت الرشاشات الثقيلة فوق أسطح العمارات العالية، ومنارات الجوامع، استعداداً للمعركة الفاصلة.
 وفي الساعة التاسعة صباحاً بدأت الجماهير الشعبية في الاعظمية والكاظمية، وفي جانبي الكرخ والرصافة تتجمع في الساحات العامة، ثم انطلقت في مسيرتها للالتقاء ببعضه، وقابلتها قوات الشرطة بوابل من رشقات الرصاص استشهد على أثرها أربعة من المتظاهرين،  ووقع العديد من الجرحى،مما زاد في اندفاع الجموع الهادرة واندفاعها، وإصرارها على التصدي لقوات القمع، وتقدمت مظاهرتان من جهة الاعظمية، ومن جوار وزارة الدفاع لتطويق قوات الشرطة التي حاولت الانسحاب إلى شارع [ غازي ] سابقا، والكفاح حالياً، ولاحقتها جموع المتظاهرين مشعلة النيران بسياراتها ومصفحاتها، واستولت الجماهير على مركز شرطة  [العباخانة ]، وتوجهت إلى ساحة الأمين [الرصافي حالياً] في طريقها للالتحام بجماهير الكرخ عبر جسر المأمون [ الشهداء حالياً ].
 كانت قوات الشرطة قد استعدت عند مدخل الجسر، حيث نصبت رشاشاتها فوق أسطح العمارات، ومنارات الجوامع عند طرفي الجسر في جانبي الكرخ والرصافة لمنع مرور المتظاهرين عبر الجسر، ومعهم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين المندفعين نحو الجسر، واستطاعت قوات الشرطة إيقاف زحف الجماهير نحو الجسر من جانب الرصافة في بادئ الأمر، مما دفع بجماهير الكرخ إلى الاندفاع نحو الجسر بغية عبوره، والالتحام بجماهير الرصافة المتواجدة في ساحة الأمين،  وعند منتصف الجسر جابهتهم قوات الشرطة بنيران رشاشاتها المنصوبة فوق منارة جامعي [الوزير ] و[الآصفية ] في جانب الرصافة، ومنارة جامع [ حنان] في جانب الكرخ، ومن المدرعات الواقفة في مدخل الجسر، وقد استشهد ما يزيد على 40 مواطنا، وجرح أكثر من 130 آخرين، وتناثرت جثث الضحايا فوق الجسر.
اشتد ضغط الجماهير في ساحة الأمين على قوات القمع، مما أجبرها على الانسحاب نحو الجسر، وتقدم المتظاهرون عبر الجسر، ومرة أخرى انهمر عليهم الرصاص واستشهد عدد آخر وجرح الكثيرون.
لكن الجموع ازدادت بأساً واندفاعاً مما أوقع الهلع في صفوف قوات القمع التي خافت أن تقع في أيدي الجماهير الغاضبة فولت هاربة تاركة ساحة المعركة تملأ جثث الشهداء والجرحى.
حاول عبد الإله استخدام الجيش ضد الشعب، وأجرى اتصالا تلفونياً مع رئيس أركان الجيش الفريق [ صالح صائب الجبوري] في 27 كانون الثاني، حوالي الساعة الثالثة والنصف عصراً، طالباً منه إدخال عدد من قطعات الجيش إلى شوارع بغداد، لكن الجبوري حذر الوصي من مغبة إدخال الجيش في شوارع بغداد، ولاسيما وانه لا يزال يعاني من مرارة الاحتلال البريطاني عام 1941، وأكد الجبوري للوصي عدم ضمان وقوف الجيش ضد الشعب، واقتنع الوصي برأي الجبوري، وطلب منه البقاء على اتصال دائم بالقصر حتى ينجلي الوقف بوضوح. (29)
وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد قدم 20 نائبا في البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب بالإضافة إلى استقالة وزير المالية [ يوسف غنيمة] ووزير الشؤون الاجتماعية [ جميل عبد الوهاب ] . وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ [محمد الصدر] و[ نوري السعيد ] لبحث الموقف، وسبل الخروج من الأزمة.
كان نوري السعيد يلح على الوصي بقمع الحركة الشعبية، وطالب بإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول لاحتواء المظاهرات، فيما نصح الشيخ محمد الصدر الوصي بإقالة الوزارة لتهدئة الأوضاع، ولاسيما وأن المظاهرات قد امتدت إلى جميع المدن العراقية، وفقدت الشرطة سيطرتها على الموقف، وأشعل المتظاهرون النار في مكاتب الإرشاد البريطانية في السليمانية وكركوك والموصل. (30)
وأخذ الوصي برأي الشيخ الصدر على مضض، رغم كونه كان في الواقع يسعى لقمع  الحركة الشعبية، وأوعز إلى رئيس الديوان الملكي [أحمد مختار بابان ] للاتصال بصالح جبر، والطلب منه تقديم استقالة حكومته، في 27 كانون الثاني 1948 الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة أعلن فيه استقالة الحكومة، وداعياً
الشعب للإخلاد إلى الهدوء !!. (31)
وسارع الوصي إلى تكليف السيد [محمد الصدر] بتأليف وزارة جديدة تأخذ على عاتقها تهدئة الأوضاع، وامتصاص الغضب الشعبي من خلال العديد من الإجراءات كإطلاق سراح مئات المعتقلين المشاركين في الوثبة، وحل البرلمان، وتعديل قانون الانتخابات وجعله على مرحلة واحدة [ انتخابات مباشرة ] وعودة الصحف المعطلة، وغيرها من الإجراءات.
لكن كل تلك الإجراءات لم تكن سوى خطوات تسكينية بغية عودة الهدوء والسكينة في البلاد، وتمهيد الظروف لعودة الوجوه البوتسموثية إلى الحكم من جديد، وليبدأ التنكيل بالقوى الوطنية التي كان لها الدور الفاعل في تلك الانتفاضة، وخاصة قادة وكوادر الحزب الشيوعي حيث جرى إعادة محاكمة قادة الحزب [ يوسف سلمان ] و[زكي بسيم ] و[حسين محمد الشبيبي] الذين سبق الحكم عليهم بالسجن المؤبد، والحكم عليهم من جديد بالإعدام وتنفيذ الحكم في ساحات بغداد للإرهاب الشعب،  كما جرى اعتقال المئات من كوادر وأعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي وتمت إحالتهم إلى المجالس العرفية، والحكم عليهم بالسجن لمدد طويلة كما سنرى فيما بعد.   
لقد حقق الشعب في وثبته المجيدة هدفان، فقد اسقط المعاهدة، واسقط الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين البريطانيين على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي، ولو تسنى للجماهير الوصول إليهما آنذاك لمزقهم تمزيقاً.
توثيق الحلقة العاشرة
   (1)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع  ـ ص 101 ـ الحسني.
    (2) تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي ـ ص 51 ـ فاضل حسين .
    (3) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع  ـ ص 111ـ الحسني .
    (4) المصدر السابق ـ ص 114 .
    (5) نفس المصدر ـ ص 119 .
    (6) صحيفة صوت الأهالي ـ العدد 1244 ـ أيلول 1946 .
    (7) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 450 .
    (8)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 134ـ الحسني .
    (9) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 452 ـ453  .
    (10) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 151 ـ الحسني .
    (11) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 457 .
    (12) سحابة بورتسموث ـ ص 42 ـ صدر الدين شرف الدين .
    (13) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 160 ـ161 . الحسني .
   (14) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 457.
    (15) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 219 ـ الحسني .
    (16) العراق أمسه وغده ـ ص   82 ـ خليل كنة .
    (17) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 464 .
    (18) صحيفة صوت الأحرار ـ العدد 444 ـ تاريخ 1/1/1948 .
    (19) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 212 ـ الحسني .
 (20)مذكرات توفيق السويدي ـ ص 464 .
 (21) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 226 ـ 227 . الحسني
(22)نفس المصدر ـ ص 220 .
(23) المصدر السابق ـ ص 262 .
(24)نفس المصدر السابق ـ 257 .
(25)مذكرات توفيق السويدي ـ ص 474 .
(26)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 264 . الحسني .
(27) مذكرات تفيق السويدي ـ ص 475 .
(28)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ـ ص 265 ـ الحسني .
(29) نفس المصدر السابق ـ ص 265 .
(30)سحابة بورتسموث ـ ص 152 ـ صدر الدين شرف الدين .
   (31)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السابع ص 272 ـ الحسني



411
العلاقات الأمريكية الروسية ومسؤولية الحرب الجورجية
حامد الحمداني                                               6/9/2008



منذُ انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عام 1991، وتحول الولايات المتحدة إلى الدولة الأعظم في العالم، سعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على سدة الحكم إلى تكريس وحدانية القطب الواحد في العالم، والسعي الحثيث لمنع انبعاث أقطاب أخرى بعد أن أصبحت تتحكم بمصائر الشعوب، مستقوية بقوتها العسكرية الجبارة بما تمثله من أسلحة متطورة فتاكة، وتكنولوجيا عالية، واقتصاد قوي، رافضة أن يشاركها أحد في تقرير مصائر الدول والشعوب.
لقد وصل الأمر بالإدارة الأمريكية على عهد رئيسها الحالي جورج بوش الأبن  إلى تجاهل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن عندما قرر غزو العراق عام 2003 بعد أن أعلنت كل من روسيا والصين وفرنسا عن رفضها لشن الحرب على العراق، واستعدادها لاستخدام حق النقض في مجلس الأمن للحيلولة دون إقدام الولايات المتحدة على شن الحرب.
لكن الرئيس بوش تجاهل تهديدات الدول الكبرى الثلاث، وتجاوز مجلس الأمن، الجهة الوحيدة المخولة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن والسلام الدوليين، ونفذ خططه بغزو العراق.
واضطرت هذه الدول التي رفضت المشاركة بالحرب إلى الرضوخ للمشيئة الأمريكية، وتمرير العديد من القرارات المتعلقة بالعراق بعد غزوه، وإسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين من دون معارضة، على الرغم من أن هذه الدول الكبرى الثلاث قد خسرت العقود النفطية التي كانت قد وقعتها مع نظام صدام.
لكن هذا التساهل من جانب هذه الدول، وعلى وجه الخصوص روسيا لم يرضِ طموحات الإدارة الأمريكية، وخططها البعيدة المدى لمنع انبعاث الدور الروسي في الشأن العالمي، ولاسيما وأن روسيا ما تزال تمتلك ترسانة نووية، وصواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى أية بقعة في العالم، مما يسبب للإدارة الأمريكية أشد القلق، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت ولا تزال تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج على وجه الخصوص، بل لمنع أي مشاركة حقيقية لروسيا في الشأن العالمي.
إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان إلى الوضع القائم في روسيا اليوم، وعلى الرغم من العلاقات التي تربط بين الطرفين والتي يسودها التوتر أحيانا، فهي تخشى من حدوث تغيرات في قمة السلطة تعيد الحرب الباردة والصراع بين الطرفين، وهذا ما يسبب أشد القلق لها، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت وما تزال تعمل  بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن الشؤون العالمية، بل لتطويقها، ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها، حيث سعت إلى ضم بولندا وجيكيا ولتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى حلف الأطلسي، وهي تحاول كذلك ضم أوكرانيا وجورجيا، بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو ] أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً.
لقد تحدث الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي [فلادمير بوتين] بخطابه في مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية في الحادي عشر من شباط 2007 موجهاً فيه اتهامه الصريح للولايات المتحدة قائلاً:
{أن الولايات المتحدة تنشئ، أو تحاول إنشاء، عالم وحيد القطبية}.
  ثم عاد وفسر بوتين ما تعنيه هذه التسمية قائلاً :
{ماذا يعني عالم وحيد القطبية؟  بصرف النظر عن محاولاتنا لتجميل تلك العبارة، فإنها تعني العالم الذي يرتكز على وجود قوة واحدة تتحكم فيه، وتعني أيضا عالم له سيد واحد فقط،، وإن هذه التركيبة أدت إلى كارثة، مضيفاً أن الولايات المتحدة قد تحدت حدودها الوطنية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، بل وفرضت نفسها على الدول الأخرى. إن الحروب الأهلية والإقليمية لم تتوقف، كما أن عدد الناس الذين يقتلون بسببها في ازدياد متصاعد. إننا لا نرى أي نوع من التعقل في استخدام القوة، بل نرى استخداما مستديما ومفرطا للقوة، وأضاف أن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراع آخر دون تحقيق أي حل شامل لأي منهم}.                                .                                                         
وبحضور وزير الدفاع الأمريكي الجديد [روبرت جيت] وعدد من نواب الكونجرس، دعا بوتين أمامهم إلى إعادة هيكلة نظام الأمن الدولي القائم حالياً بأكمله.
 وقد وصف الأمين العام لمنظمة دول حلف شمال الأطلسي [الناتو] السيد [جاب دي هوب شيفر] خطاب الرئيس بوتين بأنه مخيب للآمال وغير مجدي.
أما السناتور الجمهوري الأمريكي [ جون ماكين ] المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري فقد رد بعنف على خطاب الرئيس بوتين قائلاً:
{إن عالم اليوم ليس وحيد القطبية، وأن روسيا الاستبداديةّّ هي التي تحتاج إلى تغيير في سلوكها، وأضاف قائلاً إن على موسكو أن تفهم أنها لا تستطيع أن تتمتع بمشاركة حقيقية مع الغرب طالما أن أفعالها في الداخل وفي الخارج تتعارض بشكل أساسي مع لب قيم الديمقراطيات إليورو- أطلسية، وادعى جون ماكين أن عالم اليوم هو بالفعل عالم متعدد الأقطاب، ولا يوجد مكان للمواجهات العديمة الجدوى، لذا أتمنى أن يفهم الزعماء الروس هذه الحقيقة}!!.
وبعد هذه المواجهة الكلامية بين بوتين وماكين تحدث بعض المشاركين في
المؤتمر عن قيام حرب باردة جديدة، لكن البعض  الآخر قللوا من أهمية                                          ما حدث، وقالوا إن خطاب بوتين يعد أحد الحركات التي دأبت روسيا على اتخاذها بصفة دورية للتعبير عن سخطها من تلاشي دورها الكبير الذي كانت تلعبه في الخريطة السياسية للعالم.
إن الحرب الأخيرة التي شنها نظام شكاسفيلي في جورجيا لم يكن بمعزل عن الخطط الأمريكية لتطويق روسيا، فما كان الرئيس الجورجي قادراً على الأقدام على غزو أوستيا الجنوبية لولا التحريض والتشجيع والدعم الذي تلقاه من الإدارة الأمريكية، لكن رد الفعل السريع والقوي من جانب روسيا اسقط في يد سكاشفيلي وحلف الناتو والإدارة الأمريكية التي عجزت عن تقديم الدعم الفعّال لجورجيا، بل لقد جاءت تلك الحرب المجنونة بنتائج كارثية على جورجيا، حيث قررت روسيا الاعتراف باستقلال إقليمي أبخازيا، وأوستيا عن جورجيا، دون أن يستطيع حلف الناتو والإدارة الأمريكية منع ذلك.
إن روسيا التي بدأت تشعر يوماً بعد يوم بالجرح الذي أصاب كبريائها كدولة عظمى كانت تقف نداً للطغيان الأمريكي، وأخذت تتوجس من النوايا الأمريكية لتطويقها وتقزيم دورها في الشأن العالمي، والسعي لنصب الصواريخ النووية على حدودها بدعوى مجابهة الصواريخ الإيرانية، باتت تدرك أن الهدف الحقيقي من الخطط الأمريكية هو روسيا بالذات ، فقد عقدت القيادة الروسية العزم على التصدي لهذه الخطط مستعرضة قواها العسكرية، واستخدامها الفعلي في جورجيا، وتوجيه تهديد صريح لبولندا وجيكيا من مغبة التمادي في خدمة المخططات الأمريكية العدوانية بتوجيه الصواريخ الروسية نحو هذه البلدان، وتوجيه الضربات الأولى لها في حالة نشوء نزاع مسلح بين روسيا والولايات المتحدة.
إن الولايات المتحدة قد أسكرتها انتصاراتها في حرب العراق، وجعلتها تفقد توازنها، وباتت تتصرف كشرطي عالمي، وتتجاهل المنظمة الدولية ومجلس الأمن لتفرض على الشعوب ودول العالم مشيئتها، لكن ذلك لن يدوم إلى الأبد، فالمارد الصيني والمارد الروسي ينهضان لأخذ دورهما الفعّال في الشؤون الدولية ، كما أن الهند باتت تشكل اليوم قوة كبرى ، كما أن الاتحاد الأوربي بات دوره يتعاظم في الشأن الدولي، وفي أحيان كثير يأخذ اتجاهاً استقلاليا عن المخططات الأمريكية. وهكذا سيغدو العالم بكل تأكيد متعدد الأقطاب، وستضطر الولايات المتحدة شاءت أم أبت إلى القبول بالواقع الجديد الذي يولد وينمو ويتعاظم دوره، وستضطر في نهاية المطاف إلى  العودة للمنظمة الدولية والالتزام باحترامها، وسيتم إصلاح المنظمة هذه لتواكب التطور الحالي في العالم اليوم بعد أن مضى على تأسيسها 63 عاماً، ولاسيما وأن هناك دعوات بدأت تتصاعد لإصلاحها حتى من قبل أمينها العام من أجل أخذ دورها الفعّال في صيانة الأمن والسلام الدوليين، وخدمة البشرية بتكريس جهودها لمعالجة مسألة الفقر والبطالة المفرخة للإرهاب ورفع مستوى حياة الإنسان في الدول الفقيرة بدل توجيه الأموال الطائلة نحو الحروب والتسلح الذي لا يجلب إلا الخراب والدمار.     


412
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة التاسعة

حامد الحمداني                                              5/9/2008


نوري السعيد يعود إلى رئاسة الوزارة ينتقم من الانقلابيين
أولاً: نوري السعيد يؤلف وزارته السادسة :

فور استقالة حكومة جميل المدفعي في 21 أيلول 1941،أوعزت السفارة البريطانية إلى الوصي عبد الإله أن يستدعي نوري السعيد، الذي كان يشغل منصب وزير العراق المفوض في القاهرة، لتشكيل الوزارة الجديدة، وهذا ما كان، فقد صدرت الإرادة الملكية بتكليفه في 9 تشرين الأول 1941، وبدأ نوري السعيد باختيار أعضاء وزارته من العناصر المشهود لها بالولاء التام لبريطانيا، وعدائها لحركة الكيلاني و العقداء الأربعة لكي تستطيع تصفية الحسابات مع جميع العناصر التي ساندت حكومة الكيلاني، ولتنفيذ معاهدة 1930 العراقية البريطانية، بما يؤمن مصالح بريطانيا ومجهودها الحربي في العراق، وجاءت الوزارة على النحو التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع .
2 ـ صالح جبر ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للمالية .
4 ـ صادق البصام ـ وزير العدلية .
5 ـ تحسين علي ـ وزيراً للمعارف .
6 ـ محمد أمين زكي ـ وزيراً للمواصلات والأشغال .
7 ـ جمال بابان ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
8 ـ عبد المهدي ـ وزيراً للاقتصاد .
 1 ـ منهاج حكومة السعيد :
وضع نوري السعيد في منهاج حكومته ثمانية أهداف سطرها في رسالة شخصية إلى السفير البريطاني، وبعث بنسخة منها إلى السفير الأمريكي الذي أرسلها بدوره إلى حكومته ببرقيته المرسلة في 15 تشرين الأول 1941، وجاء فيها: (1)
1ـ التعهد بتنفيذ المعاهدة العراقية البريطانية بصورة كاملة، ولاسيما بالنسبة لتحضيرات بريطانيا الدفاعية والمواصلات.
2ـ التعهد بتطهير الجيش من العناصر المؤيدة لحركة رشيد عالي الكيلاني وللمحور.
3 ـ التعهد بإحالة الكيلاني  والعقداء الأربعة الذين ساهموا وساندوا الحركة إلى القضاء.
4 ـ التعهد بفصل كافة الموظفين المؤيدين لحركة الكيلاني والمحور، واعتقال العناصر النشطة منهم.
5ـ التعهد بفصل كافة المعلمين والأساتذة الذين أيدوا حركة الكيلاني، وتغير كافة المناهج والكتب المدرسية المعادية لبريطانيا.
6ـ التعهد بإجراء تغيرات واسعة في وزارة الداخلية بمشورة المستشار البريطاني للوزارة.
7 ـ التعهد بعدم إثارة قضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى خلال فترة الحرب.
8 ـ التعهد بغلق سفارة حكومة [ فيشي ] الفرنسية التي نصبها الألمان بعد سحق فرنسا.
وهكذا بدأ نوري السعيد خططه باعتقال عدد من كبار الشخصيات السياسية الوطنية، وتم حجزهم في [معتقل الفاو] في جنوب البصرة، في 29 تشرين الأول 1941، ثم أعقبهم بمجموعة أخرى جاوزت الأربعين من الشخصيات السياسية المعارضة للاحتلال البريطاني في 20 تشرين الثاني ،ثم جرى اعتقال مجموعة كبيرة من الضباط الذين أحيلوا على التقاعد بعد فشل حركة الكيلاني في 27 منه، وتم إيداعهم معتقل الفاو أيضاً. (2)
وفي 7 آذار 1942 جرى اعتقال وجبة رابعة من الوطنيين وسيقوا إلى معتقل الفاو كذلك، ثم تلتها وجبة خامسة في 7 تموز من نفس العام وجرى إيداعها [معتقل العمارة]، وقد ضمت تلك الوجبات خيرة الشخصيات الوطنية من المهندسين والأطباء والمدرسين وأساتذة الكليات ورجال الصحافة، والسياسيين الحزبيين والكسبة والعمال والطلاب والتجار، وقد جرى اعتقالهم جميعاً بموجب مرسوم  [صيانة الأمن العام وسلامة الدولة ] رقم 56 لسنة 1940 الذي تم بموجبه تعطيل الحقوق الدستورية للمواطنين، وإطلاق أيدي الأجهزة القمعية لوزارة الداخلية  [الأمن والشرطة] لتعتقل من تشاء دون أسانيد أو مسوغ قانوني. (3)
وبسبب تمادي نوري السعيد في حملته ضد الوطنيين استقال وزير العدل السيد [صادق البصام ] احتجاجاً على تلك السياسة، وقد تم قبول استقالته في 9 شباط 1942، وصدرت الإرادة الملكية بتعيين [ داؤد الحيدري]  بدلاً منه. (4)
ويصف السيد توفيق السويدي  تصرفات وإجراءات نوري السعيد تلك قائلاً: لقد قامت الحكومة السعيدية بأعمالٍ لم تكن حكومة المدفعي مستعدة للقيام بها، وقد كان من المتوقع أن تقوم الوزارة السعيدية بأعمال ملائمة جداً للرغبات البريطانية، إذ ظهر ذلك بانتقاء الوزراء ممن كانت تميزهم صفة التودد إلى البريطانيين إن لم يكونوا من رجالهم. (5)
بدأت حكومة السعيد بعد الاعتقالات بمحاكمة الكيلاني ورفاقه الوزراء كل من: [علي محمود الشيخ علي] و[يونس السبعاوي] و[الفريق أمين زكي] وكيل رئيس أركان الجيش، والعقداء قادة الجيش [ صلاح الدين الصباغ] و[محمود سلمان ] و[كامل شبيب] و[فهمي سعيد] حيث أصدر المجلس العرفي العسكري حكمه بالإعدام غيابياً بحق الجميع، وتم أبدل حكم الإعدام الصادر ضد الفريق أمين زكي إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
 كما صدر حكم بالأشغال الشاقة لمدة 15 عاماً على الوزير[ ناجي شوكت]، وحكم على الدكتور[ محمد حسن سلمان] بالسجن لمدة سنة وعلى [صديق شنشل] بالسجن لمدة 5 سنوات.
ولم يكتفِ نوري السعيد بكل ذلك بل حرض المحتلين على اعتقال الوزراء السابقين كل من [ناجي السويدي] و[رؤوف البحراني] و[محمد علي محمود] و[موسى الشابندر] و[عبد القادر الكيلاني]، وتم إبعادهم إلى [سالسبوري ] في جنوب أفريقيا.
وفي 4 أيار 1942، سلمت بريطانيا كل من: [يونس السبعاوي] و[محمود سلمان] و[فهمي سعيد] إلى الحكومة العراقية التي أعادت محاكمتهم بنفس اليوم أمام المجلس العرفي العسكري، الذي أيد الحكم السابق الصادر بحقهم، والقاضي بإعدامهم، ونفذ بهم الحكم في اليوم التالي المصادف 5 أيار 1942، بحضور عبد الإله ونوري السعيد.
كان الجو العام ذلك اليوم مكفهراً، وكان الحقد والغضب على حكومة نوري السعيد وعبد الإله والمحتلين البريطانيين يتطاير كالشرر من عيون أبناء الشعب، مما ألقى الرعب في نفوس أولئك القتلة لدرجة أن نوري السعيد لازم داره شهراً كاملاً خوفاً من غضب الجماهير.
وقد رثى الشاعر العراقي الكبير [ معروف الرصافي ] أولئك الشهداء بقصيدة عصماء. (6)
بعد تنفيذ تلك الأحكام طلبت حكومة نوري السعيد من بريطانيا إعادة المعتقلين في  جنوب أفريقيا لمحاكمتهم، وقد تمت إعادتهم بالفعل، وأحيلوا إلى المجلس العرفي العسكري الذي أصدر حكمه على [كامل شبيب] بالإعدام في 16 آب 1944، ونفذ الحكم فيه في اليوم التالي المصادف 17 آب.  كما حكم على كل من الوزراء : [محمد علي محمود] و[موسى الشابندر] و[رؤوف البحراني]  بالسجن لمدة خمس سنوات، وعلى الوصي [ شريف شرف ] بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وعلى [رؤوف البحراني] بالسجن لمدة سنتين، و[على عبد القادر الكيلاني] بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، وقد أمر عبد الإله اعتبار هؤلاء جميعا سجناء عاديين، كما أمر بربط أرجلهم بالسلاسل الحديدية.
أما [صلاح الدين الصباغ]  فقد فرّ إلى تركيا، وبقي هناك حتى عام 1945، حيث سلمته الحكومة التركية تحت الضغط الشديد من الحكومة البريطانية، إلى الحكومة العراقية في  تشرين الأول 1945، حيث جيء به إلى بغداد، وأمر الوصي عبد الإله بشنقه أمام وزارة الدفاع صباح يوم 16 تشرين الأول، وبقي معلقاً فـوق مشنقته لعدة ساعات، وحضر الوصي لمشاهدته، والشماتة به.
أما[ ناجي شوكت] فقد اعتقلته القوات الأمريكية بعد نهاية الحرب في إيطاليا، وأعيد إلى العراق حيث حكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً. (7)
وهكذا اثبت نوري السعيد أنه بحق رجل المهمات البريطانية الكبرى واستحق ثناء وإطراء[ونستن تشرشل] رئيس الوزارة البريطانية في برقيته المرسلة إليه والتي جاء فيها :
{ لقد تتبعت بشديد الاهتمام سير الأحداث في العراق في خلال    الخمسة عشر شهراً الأخيرة، وإن التحسن المطرد الذي تم برعاية الوصي وإرشادكم الحكيمين، مما يدعو إلى مزيد من ارتياح لأصدقاء بريطانيا المخلصين، وإني لأقدر حق التقدير الوجه الذي أنجزت عليه حكومة العراق الحاضرة عهودها المقطوعة وفق المعاهدة العراقية البريطانية، وأسلوب تعاونها مع حكومة جلالته في مكافحة الطغيان النازي، وأجناد الشر....}.  (8)
أدت إجراءات نوري السعيد القمعية ضد الوطنيين من أبناء الشعب، والطاعة العمياء لإرادة المحتلين البريطانيين إلى خلق جو من التذمر الشديد وصل حتى إلى مجلس وزرائه، وأخذ الوزراء يتسللون من الوزارة واحداً تلو الآخر بحجج شتى، تخوفاً مما قد تسببه سياسة نوري السعيد من رد فعل شعبي، مما اضطر نوري السعيد إلى تقديم استقالة حكومته إلى عبد الإله  في 3 تشرين الأول 1942.
لكن وزارة الخارجية البريطانية طلبت من عبد الإله تكليف نوري السعيد بإعادة تشكيل الوزارة الجديدة، وطلبت من السعيد أن يختار رجلاً قوياً لوزارة المالية، وقد اختار السعيد السيد [صالح جبر] لهذا المنصب وجاءت وزارته السابعة على الوجه التالي: (9)
1 ـ نوري السعيد رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع .
2 ـ تحسين العسكري ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للمالية .
4 ـ عبد الإله حافظ ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ داؤد الحيدري ـ وزيراً للعدلية
6 ـ عبد المهدي ـ وزيرا للأشغال والمواصلات .
7 ـ تحسين علي ـ وزيراً للمعارف .
8 ـ عبد المحسن شلاش ـ وزيراً للاقتصاد .
9 ـ احمد مختار بابان ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
و في معرض حديثه عن منهاج وزارته الجديدة قال نوري السعيد أن الوزارة الجديدة هي امتداد للوزارة السابقة، وأنه سوف يركز جهوده لإصلاح وزارة المعارف !!، وعلى تنظيم الشؤون الاقتصادية، وقضايا التموين.
لم يمضِ أسبوعان على تأليف الوزارة حتى استقال اثنان من أعضائها هما [عبد المحسن شلاش]  وزير الاقتصاد و[عبد المهدي] وزير الأشغال والمواصلات، بسبب خلافاتهم مع نوري السعيد حول السياسة الاقتصادية والخارجية، واضطر السعيد إلى إدخال وزيرين جديدين في وزارته هما [عبد الرزاق الازري] و[سلمان البراك] .

ثانياً: السعيد يزج العراق في الحرب الاستعمارية:

كان على نوري السعيد أن يمضي قدماً في تنفيذ كل ما يطلبه منه المحتلون البريطانيون، وفي مقدمة تلك المطالب إعلان الحرب على دول المحور، وهكذا لم يمضِ على تأليف الوزارة سوى 28 يوما حتى أعلن السعيد الحرب على تلك الدول، حيث صدرت الإرادة الملكية بإعلان الحرب ليلة 16 / 17 كانون الثاني 1943، وبذلك أدخل نوري السعيد، وعبد الإله العراق في أتون تلك الحرب، التي لا مصلحة له فيها سوى خدمة المحتلين البريطانيين، وأخذ السعيد يوغل في سياسة القمع واعتقال الوطنيين، وكل من يشم منه رائحة العداء لبريطانيا، واستمرت المحاكم العرفية العسكرية تطحن بالأبرياء، فلم يكن نوري السعيد سوى أداة منفذة لإرادة الإمبرياليين البريطانيين الذين صاروا هم الحكام الفعليين للبلاد، يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، ويصدرون الأوامر باعتقال وسجن من يشاءون من المواطنين.
3 ـ السعيد يعدل الدستور ويعين عبد الإله ولياً للعهد ويمنحه صلاحيات واسعة:
لم يمض على حكومة السعيد سوى شهرين حتى أقدم على تعديل القانون الأساسي [الدستور] بغية توسيع صلاحيات عبد الإله والحكومة، وقد شمل التعديل 43 مادة من مواد الدستور، كان أبرزها منح الوصي عبد الإله صلاحية إقالة الوزارة، وإقرار تنصيبه ولياً للعهد، على الرغم من أن الدستور قد نص على عدم جواز إجراء أي تغيير فيما يخص حقوق الملك طالما يمارس الوصي حقوق الملك.
فقد شكل نوري السعيد لجنة خاصة برئاسة [ جميل المدفعي] وعضوية [توفيق السويدي] و[عمر نظمي] و[ محمود صبحي الدفتري] و[مصطفى العمري] و[نوري القاضي] و[عبد الوهاب محمود] لدراسة إمكانية إجراء التعديل، وقد قررت اللجنة تشكيل محكمة دستورية عليا برئاسة السيد  [محمد الصدر] وأربعة أعضاء من مجلس الأعيان هم السادة [ عمر نظمي] و[محمود صبحي الدفتري ] و[ صالح باش أعيان] و[محسن شلاش] بالإضافة إلى رئيس محكمة التمييز وثلاثة من أعضائها . (10)
وكان من أبرز تلك التعديلات :
1 ـ حق الملك أو الوصي في إقالة رئيس الوزراء.
2 ـ حق الملك في حل مجلس الوزراء أو تعطيله أو فضه.
3 ـ تفويض الحكومة حق إصدار القوانين أو المراسيم القاضية بحجز الأموال، أو مصادرتها، وفرض القروض الإجبارية.
4ـ منع مخاطبة السلطات العامة وحصرها بالهيئات الرسمية لقمع الاحتجاجات التي كان يرفعها قادة الأحزاب السياسية للوصي أو للحكومة ضد الإجراءات غير الدستورية.
5ـ حق الملك بالغياب عن الدولة وحقه في تنصيب نائبه بقرار من مجلس الوزراء.
6ـ تعديل المادة المتعلقة بولاية العهد والتمهيد لتعيين عبد الإله ولياً للعهد وقد تم ذلك فيما بعد.
7ـ عدم جواز إصدار تشريعات بإعفاء من ارتكبوا جرائم من شأنها المساس بشكل الحكومة، وقد قصد بها نوري السعيد مجموعة رشيد عالي الكيلاني وسائر المساهمين معه في أحداث 2 أيار 1941.
8ـ جعل عدد أعضاء مجلس الأعيان ربع عدد أعضاء مجلس النواب بعد أن كان الدستور ينص على أن العدد عشرون عيناً، وقد حصرها نوري السعيد برؤساء الوزارات والوزراء وفئات معينة أخرى. (11)
وهكذا جاءت هذه التعديلات الواسعة لمنح صلاحيات واسعة للوصي عبد الإله وللحكومة، وجرى كل ذلك على حساب حقوق وحريات الشعب العراقي التي نص عليها الدستور.
و لم تكن هذه التعديلات هي الأخيرة التي أجراها نوري السعيد، فقد أعقبتها عند توليه وزاراته اللاحقة تعديلات اشد وطأة سلب فيها معظم حقوق وحريات الشعب، وأفرغ الدستور العراقي من تلك الحقوق كما سنرى فيما بعد. وقد أراد نوري السعيد أن يجري التصديق على التعديلات من قبل مجلس نواب حكومة الدفاع الوطني [ حكومة رشيد عالي الكيلاني ] لكي يكتسب التعديل الشرعية، وتم له ما أرد، وتم التصديق على التعديلات من قبل مجلس النواب في جلسته بتاريخ 27 أيار 1943، حيث صادق عليها78 نائباً، هم كافة النواب الحاضرون في الجلسة، وتغيب عن الجلسة 59 نائباً. من المعرضين لإجراءات نوري السعيد. (12)
 ثم تم عرضها على مجلس الأعيان الذي صادق عليها في جلسته المنعقدة في 9 حزيران 1943، وصادق عليها الوصي عبد الإله. (13)

رابعاً:السعيد يزور الانتخابات، ويؤلف وزارته الثامنة:
كان على نوري السعيد، بعد أن صوت مجلس النواب على التعديلات  أن يحل  المجلس، ويجري انتخابات جديدة ليصادق على التعديلات المجلس الجديد، كما ينص الدستور، وعليه فقد أقدم السعيد  في التاسع من حزيران 1943،على حل البرلمان، وأجرى انتخابات جديدة تحت ظل الأحكام العرفية، و[مرسوم صيانة الأمن العام وسلامة البلاد] السيئ الصيت، وقد تم إعداد قائمة بمرشحي الحكومة والسفارة البريطانية والوصي عبد الإله، وجاء المجلس الجديد بأكثرية موالية للوصي.
لقد أدان نوري السعيد نفسه عند تحديه للنواب المعارضين لحكمه في جلسة المجلس بتاريخ 15 كانون الثاني 1944، حيث قال رداً على أحد النواب قائلاً:
{ إن نظام الحكم يقتضي بإجراء انتخابات في المملكة، وللشعب أن ينتخب من يعتمد عليه ليراقب، ويسيطر على أمور الدولة، وهذا هو أساس الحكم. ولكن بالنظر إلى أن قانون الانتخابات الموجود بأيدينا هل بالإمكان أناشدكم الله أن يخرج أحد نائباً مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة، ما لم تأتِ الحكومة وترشحه ؟ فأنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته، عليه أن يستقيل الآن، ويخرج ونعيد الانتخابات، ولا ندخله في قائمة الحكومة، ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة الذي وراءه ما وراءه
من المؤيدين يستطيع أن يخرج نائباً}. (14)
بهذا الأسلوب أجرى نوري السعيد انتخابات المجلس النيابي ليخرج بنتائج تضمن له الأغلبية المطلقة في البرلمان تتيح له تنفيذ الأهــداف التي ترسمها له السفارة البريطانية، والتي تهدف إلى ضمان هيمنتها على مقدرات العراق.
وبعد الانتهاء من الانتخابات تقدم نوري السعيد باستقالة حكومته في 19 كانون الأول 1943، وتم قبول الاستقالة، وكلفه عبد الإله من جديد بتأليف الوزارة الجديدة في 15 منه، وجاءت الوزارة على الوجه التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع.
2 ـ توفيق السويدي ـ نائباً لرئيس الوزراء.
3 ـ محمود صبحي الدفتري ـ وزيراً للخارجية.
4 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للداخلية.
5 ـ علي ممتاز الدفتري ـ وزيراً للمالية.
6 ـ أحمد مختار بابان ـ وزيراً للعدلية.
7 ـ صادق البصام ـ وزيراً للأشغال والمواصلات
8 ـ عبد الإله حافظ ـ وزيراً للمعارف.
9 ـ سلمان البراك ـ وزيراً للاقتصاد.
10 ـ محمد حسن كبه ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
11 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً بلا وزارة.
كان في مقدمة المهام التي أخذها نوري السعيد على عاتقه، بعد تأليف وزارته الجديدة، هي ترويض الجيش، عن طريق تقليصه وإضعافه وتجريده من سلاحه، لكي يأمن جانبه بعد تلك الحركة التي قادها الكيلاني خلال شهري نيسان وأيار  1941، والتهاب الشعور الوطني الجياش الذي عم جنوده وضباطه على حد سواء، وخاصة بعد اصطدامه بالجيش البريطاني، الذي احتل العراق مجدداً.
 فبعد أن كان الجيش العراقي قبل أحداث أيار 1941 يضم [ 45 ألف جندي] و[1800 ضابط ] قلص نوري السعيد عدد أفراده إلى[25 ألفاً]، كما فصل عدداً كبيراً من الضباط ، وضباط الصف، وأعاد إليه الضباط والمستشارين البريطانيين الذين كانت حكومة [رشيد عالي الكيلاني] قد أنهت خدماتهم.
 و بنفس الوقت سعى نوري السعيد إلى زيادة عدد أفراد جهازي الأمن والشرطة، وتنظيمهما وتدريبهما، وتم رفع ميزانيتهما إلى ثلاثة أضعاف عما كانت عليه قبل أحداث أيار 1941، من أجل إعدادهما لقمع الحركة
الوطنية. (15)
كما أقدم نوري السعيد على إعارة كل ما لدى العراق من معامل عسكرية وذخائر للجيش البريطاني، لتعزيز مجهوده الحربي، وجاء فيضان نهر دجلة، وغرق معسكر الرشيد، ومعسكر القوة الجوية، وغرق مخازن العتاد المشيدة تحت الأرض فيهما، على البقية الباقية من العتاد الذي أصابه التلف، وبذلك غدا السلاح العراقي البسيط أصلاً، بدون عتاد.
 كما أقدم نوري السعيد على زج بقية القطعات العسكرية في الحرب ضد الأكراد، حيث أعلن السيد مصطفى البارزاني تمرده على الحكومة، وقيل آنذاك أن بريطانيا، وسفارتها في بغداد لم تكن بعيدة عن تدبير ذلك، فقد كان المخطط البريطاني يرمي إلى إضعاف الجيش العراقي وإنهاكه عن طريق إشغاله في حرب أهلية مع الأكراد.
و لم يكتفِ نوري السعيد بكل ذلك، بل سخر كل إمكانيات البلاد المدنية والعسكرية، والخدمات المخصصة أصلاً لأبناء الشعب، لخدمة جيش الاحتلال.
فقد وضع الميناء، وسكك الحديد، ودوائر البريد والبرق والهاتف في خدمة القوات البريطانية دون مقابل، حارماً أبناء الشعب من الاستفادة منها، وحتى المستشفيات، ومديرية الأشغال العامة، والمعامل العائدة لمدارس التدريب اليدوي كلها تم وضعها في خدمة القوات البريطانية.
كما أدى استخدام القوات البريطانية للآليات الثقيلة إلى إتلاف الطرق العراقية دون أن تقدم بريطانيا أي تعويض عن تلك الأضرار.
 وخلاصة القول لم يترك نوري السعيد شيئاً إلا وقدمه للمحتلين ودون مقابل، فيما سيطرت قوات الاحتلال على الفائض الزراعي والحيواني كالقطن والصوف والتمور وبذور السمسم والحبوب والفواكه والخضراوات وغيرها لقاء أسعار زهيدة، مما سبب في قلة المعروض في السوق، وبالتالي ارتفاع أسعارها، وتحمل أبناء الشعب العراقي الذي يعاني أصلاً من ضائقة اقتصادية صعبة أعباء اقتصادية جديدة وقاسية، نيابة عن المحتلين. (16)
وعلى الصعيد السياسي الداخلي أقدم نوري السعيد على إلغاء رخص كافة الأحزاب والجمعيات التي كانت موجودة اسمياً، ومجمدة فعلياً بسبب سياسة القمع، وذلك بموجب قانون جديد للجمعيات أصدرته حكومته، وخول القانون المذكور وزير الداخلية صلاحية تصفية كافة ممتلكاتها لصالح الدولة. (17)
إن السياسة التي سارت عليها حكومات نوري السعيد الثلاثة المتعاقبة، كانت تلقى الاستهجان والازدراء من قبل الشعب العراقي، وكلما كانت تلك الحكومات  توغل في جرائمها بحق الشعب والوطن، كلما كانت المعارضة لنوري السعيد تتصاعد حتى وصلت إلى النواب الذين جاء هو بهم إلى المجلس النيابي، وبدأ العديد من النواب يشنون حملات عنيفة على الحكومة، وإجراءاتها المعادية لمصالح الشعب والوطن.

خامساً: خلافات بين السعيد والوصي استقالة الوزارة:
لم تؤدي المواقف التي وقفها نوري السعيد تجاه عبد الإله إلى محو الخلافات بينهما، بل ربما كان لها دور كبير في تصاعد الصراع على النفوذ بين الطرفين، فبعد أن تم تعديل الدستور، وامتلك عبد الإله الكثير من الصلاحيات الجديدة وخاصة توليه منصب ولاية العهد تملكه الغرور وأخذ يسعى لتركيز وتقوية مركزه في حكم البلاد، وعمل على تجميع العديد من أنصاره في مجلسي النواب والأعيان، ومارس تدخلاً مكشوفاً في الانتخابات النيابية التي جرت في 9 حزيران 1943 لصالح مرشحيه مما اعتبره نوري السعيد تحدياً لسلطاته، وكاد الموقف أن يؤدي إلى وقوع أزمة وزارية لولا تنازل السعيد ورضوخه لإرادة عبد الإله ولو إلى حين.
 ومما فاقم في تلك الصراعات المشادات التي حصلت داخل البرلمان بين عدد من النواب المحسوبين على البلاط وبين نوري السعيد، وهذا ما أشار إليه السعيد في مذكرته الآنفة الذكر للوصي، والتي كتبها وهو في حالة من الانفعال الشديد، والتي تسببت في إغضاب عبد الإله.
و كان نوري السعيد قد خرج من معركة تعديل الدستور وهو يشعر بالزهو والقوة، والهيمنة المطلقة على مقدرات البلاد، مما عمق من شدة التناقض بين الطرفين، وسعي كل منهما لتحجيم دور الطرف الآخر.
ولقد ظهرت الخلافات بين الطرفين بصورة أشد عندما ألف السعيد وزارته الثامنة في 25 كانون الأول 1943، فقد سلم الوصي لنوري السعيد قائمة تضم أسماء 10 مرشحين من قبل البلاط للوزارة، لكن نوري السعيد قدم للوصي قائمة مغايرة بدعوى صعوبة الجمع بين مرشحي البلاط ومرشحيه. (18)
 لم يرتح عبد الإله لقائمة السعيد، ولاسيما وأن فيها أسماء [علي ممتاز الدفتري] و[ صادق البصام ] اللذان كانا أعضاء في حكومة [طه الهاشمي] والذين رفضوا اللحاق به حين هربه من بغداد. واتخذ البريطانيون موقف الحياد من الخلافات بين الطرفين، فهم لا يريدون إبعاد نوري السعيد رجل مهماتهم الكبرى عن الحكم، ولا يريدون إغضاب الوصي وولي العهد تجنباً لحدوث أزمة سياسية قد يكون لها نتائج سلبية على مستقبل العلاقات بين الطرفين من جهة وبريطانيا من جهة أخرى. (19)
ومما عمق في الخلافات بين الطرفين لجوء النواب المحسوبين على البلاط بمهاجمة حكومة نوري السعيد داخل البرلمان لدرجة جعلت السعيد يضيق ذرعاً بالنواب المعارضين له، وشكاهم للوصي عبد الإله، ولاسيما وأن قسماً منهم كان يلمح إلى أنهم مسندون من البلاط، وفي حقيقة الأمر أن عبد الإله نفسه لم يكن مرتاحاً لاستئثار نوري السعيد بكل شيء، وخاصة بالنسبة لعلاقاته بالسفارة البريطانية، مما جعل نفوذه يتصاعد يوماً بعد يوم، وقيل آنذاك أن الوصي نفسه أوعز لبعض النواب المحسوبين على البلاط ليهاجموا نوري السعيد وحكومته بأقذع الكلام، مما دفع السعيد إلى تقديم استقالة حكومته في 19 نيسان 1944، بعد أن أرفق استقالته بمذكرة رفعها للوصي تحدث فيها عن أعماله ومنجزات حكوماته الثلاث، صانعاً من نفسه ذلك الرجل الذي خدم بلاده وشعبه أعظم خدمة !!!، في حين لم يكن سوى خادماً مطيعاً للمحتلين البريطانيين. (20)
لم يستطع الوصي البت في استقالة حكومة السعيد فوراً، إذ كان عليه أن يحصل على موافقة السفارة البريطانية قبل البت فيها، والاتفاق على شخصية رئيس الوزراء الجديد، ولذلك فقد تأخر البت في الاستقالة أكثر من شهر، فما كان من السعيد إلا أن يبعث للوصي بمذكرة جديدة في 23 أيار اتسمت بلهجة حادة أثارت غضب عبد الإله وانزعاجه، و جاء فيها:
{إن الأساليب الغريبة التي لجأ إليها بعض النواب الذين كانت الحكومة قد رشحتهم في قائمتها، ممن سمو أنفسهم[ معارضين] للحكومة وأشاعوا في الأوساط العامة أن معارضتهم هذه تستند إلى رغبة كبار حاشية البلاط الملكي، ثم أخذوا يرصفون العبارات الماسة بكرامة الوزراء والحكومة بدون مبرر، حتى أنهم لم يتورعوا عن القذف والتعريض بالكرامة الشخصية، مما أدى إلى حوادث لم يسبق لها مثيل في تاريخ البرلمان العراقي، فضلاً عن هذه العبارات التي من شأنها أن تلقي ضوءاً ساطعاً على الواقع السياسي في العراق، وأضاف السعيد في كتاب استقالته تهديداً مبطناً بقوله :
 أرى من الضروري أن يحسب للحاشية في البلاط حسابها لئلا تكون وسيلة يتذرع بها المخادعون وذو الأغراض في اختلاق الأكاذيب عن أسمى مقام في الدولة، وبث روح التشكيك في الثقة بين رئيس الدولة ووزراءه، وإذا لم يجرِ تلافي هذه القضية بصورة جلية، ظاهرة للعام والخاص بأي شكل من الأشكال التي تتفق ورغبة سموكم، فلا مناص من حدوث أمور غير محمودة، مما قد يؤدي إلى ضرر أعظم مما نتصوره الآن }. (21)
لكن الوصي تجاهل المذكرة هذه، وسارع إلى قبول الاستقالة، وصدرت الإرادة الملكية في 3 حزيران 1944 من دون أن يشير عبد الإله إلى المذكرة. وقد كلف الوصي السيد[حمدي الباجه جي ] في نفس اليوم بتأليف الوزارة الجديدة.
لكن التوتر الحاصل بين نوري السعيد وعبد الإله لم يدم طويلاً، ولاسيما وأن بريطانيا كانت ترى في شخص نوري السعيد دائماً أنه الوحيد القادر على القيام بأحسن وجه بالمهمات الكبرى التي تعهد إليه .
وقد علق السفير البريطاني [ كونواليس] على الصراع الدائر بين الوصي والسعيد قائلاً :{مع أن نوري السعيد أبلغني حول هذه التطورات، إلا أنني لم أحاول أن القي بثقلي إلى أحد الجانبين باعتبار أن الموضوع يمثل قضية داخلية محضة}. (22)
لكن الواقع أن موقف السفير من الخلافات بين الوصي والسعيد كان نابعاً من كون بريطانيا لا تريد وضع كل بيضها في سلة واحدة كما ورد في برقية السفارة إلى وزارة الخارجية البريطانية في 3 أيلول 1943. (23)
و سعت إلى تصفية الأجواء بين البلاط والسعيد لتهيئة الأجواء لعودته إلى الحكم في وزارته التاسعة بتاريخ 21 تشرين الثاني 1947، كما سنرى لاحقاً.
التوثيق
   (1 ) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السادس ـ ص 51 ـ عبد الرزاق الحسني.
    (2) صحيفة الزمان ـ العدد 1353 ـ تاريخ 27 شباط 1941 .
    (3) نفس المصدر السابق ـ العدد 1465 ـ في 8 تموز 1942 .
    (4) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السادس ـ ص 63 ـ الحسني.
    (5) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 394 .
    (6) ديوان الرصافي ـ ص 283 .
    (7) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السادس ـ ص 75 ـ الحسني.
    (8) نوري السعيد ودوره في السياسة العراقية ـ ص 158 ـ سعاد رؤوف .
    (9) أرشيف وزارة الخارجية البريطانية ـ وثيقة رقم 293 ـ في 30 أكتوبر 1942.
    (10) الوقائع العراقية ـ الإرادة الملكية ـ وثيقة رقم 8 ـ في 12 كانون الثاني 1942 .
    (11) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السادس ـ ص 128 ـ133 ـ الحسني
    (12) محاضر مجلس النواب ـ الجلسة الثانية والأربعون ـ ص 375 ـ 376 .
    (13) محاضر مجلس الأعيان ـ الاجتماع الاعتيادي لسنة 42ـ 43 ت في 9 حزيران 1943.
    (14) محاضر مجلس النواب ـ الجلسة الثالثة ـ في 15 كانون الثاني ـ 1944 .
    (15) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء السادس ـ ص 180 ـ الحسني.
    (16) نفس المصدر ـ ص 182 ـ 188 .
    (17) المصدر السابق ـ ص 199.
    (18) الخلاف بين البلاط ونوري السعيد ت ص 72 ـ خيري العمري .
    (18) نوري السعيد ودورة في السياسة العراقية ـ ص 177 ـ سعاد رؤوف .
    (20)نفس المصدر ـ ص 179 .
     (21)المصدر السابق ـ
     (22)العراق ـ حنا بطا طو ـ الجزء الأول ـ ص 347 .
     (23) نوري ودوره في السياسة العراقية ـ ص 178 ـ سعاد رؤوف .

ملاحظة هامة: للإطلاع على الكتاب كاملاً بصيغته المطبوعة يرجى الرجوع إلى موقع الكاتب على الانترنيت التالي:
www.Hamid-Alhamdany.com


413
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثامنة

حامد الحمداني                                                       7/9/2008
                                   
الحرب العالمية الثانية وحركة الكيلاني ومواقف نوري السعيد
أولا: نوري السعيد والموقف من الحرب العالمية الثانية:
لم تكد بريطانيا تعلن الحرب على ألمانيا، واشتعال لهيب الحرب في أنحاء أوربا، حتى بادر السفير البريطاني للاتصال بنوري السعيد على الفور طالباً منه تطبيق معاهدة التحالف المبرمة بين البلدين في 30 حزيران 1930، وإعلان الحرب على ألمانيا، وقد طمأن نوري السعيد السفير البريطاني، ووعده بقطع العلاقات مع ألمانيا، وإعلان الحرب عليها بأسرع وقت. (1)
وعلى الفور أبلغ نوري السعيد الوصي عبد الإله برغبة بريطانيا بإعلان الحرب على ألمانيا، وتقرر عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عبد الإله في 5 أيلول 1939، وطرح نوري السعيد أمام مجلس الوزراء الطلب البريطاني، لكن خلافاً حاداً حدث داخل مجلس الوزراء، فقد رفض وزير الدفاع [طه الهاشمي ] ووزير العدل [ محمود صبحي الدفتري ] فكرة إعلان الحرب على ألمانيا، طالبين الاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، وأعلنا أنهما سيقدمان استقالتهما إذا ما أصر نوري السعيد على إعلان الحرب. (2)
 وإزاء ذلك الموقف اضطر نوري السعيد للتراجع مؤقتاً، والاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية، وسارع بالطلب من السفير الألماني [الدكتور كروبا] بمغادرة البلاد تحت حراسة الشرطة نحو سوريا، كما قام نوري السعيد باعتقال كافة الرعايا الألمان، وسلمهم للقوات البريطانية المتواجدة في قاعدة الحبانية، ثم جرى تسفيرهم إلى الهند كأسرى حرب.
أما عبد الإله فقد سارع إلى إرسال برقية إلى الملك جورج، ملك بريطانيا، يبلغه أن العراق سوف يلتزم تماماً بمعاهدة الصداقة والتحالف المعقودة مع بريطانيا عام 1930، وسوف يقدم العراق كل ما تتطلبه المعاهدة. (3)
كما أذاع نوري السعيد بياناً للحكومة في 17 أيلول أعلن فيه التزام العراق بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعداد الحكومة للقيام بما تمليه تلك المعاهدة من واجبات تجاه الحليفة بريطانيا.
 سبب موقف نوري السعيد وحكومته موجة من السخط العارم على تلك السياسة المتعارضة مع المصلحة الوطنية، والتي تهدف إلى زج العراق في الحرب الإمبريالية. أما نوري السعيد فقد أقدم على تعطيل مجلس النواب الذي نظمت وزارته انتخابه قبل مدة وجيزة، ولجأ إلى إصدار المراسيم المخالفة للدستور، والهادفة إلى قمع كل معارضة لسياسته الموالية لبريطانيا، وكان من بين تلك المراسيم مرسوم مراقبة النشر رقم 54 لسنة 1939، ومرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1939، منتهكاً بذلك الحقوق والحريات التي كفلها الدستور للشعب. (4)
وتطبيقاً لمعاهدة 1930، فتح نوري السعيد الباب على مصراعيه للقوات البريطانية لكي تحتل العراق من جديد، وليصبح العراق طرفاً في حرب استعمارية لا ناقة له فيها ولا جمل كما يقول المثل.
لم تترك الحرب العالمية الثانية بعد أن أمتد لهيبها ليشمل أوربا وأسيا وأفريقيا  بلداً إلا وكان لها تأثير كبير عليه، سواء كان عسكرياً أم اقتصادياً، أم اجتماعياً، وكان العراق غارقاً في خضم تلك الحرب بعد أن احتلته القوات البريطانية احتلالاً كاملاً لمنع القوات الألمانية من الوصول إليه، حيث يمتلك العراق مصادر الطاقة [النفط] التي كانت ألمانيا بأمس الحاجة لها لإدامة آلتها الحربية.
لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين من تلك الحرب حيث أفتقد المواد الغذائية،والملابس، وغيرها من الحاجات المادية الأخرى، وأصبحت تلبية تلك الحاجات أمراً صعباً للغاية، واضطرت الحكومة إلى تطبيق نظام الحصص[الكوبونات] لكي تحصل الأُسر العراقية على حاجتها من المواد الغذائية والأقمشة لصنع الملابس، واشتهرت تلك الأيام بـ[ أيام الخبز الأسود] بسبب النقص الخطير في الحبوب، ورداءة نوعية الطحين.
 كما أن حكومة نوري السعيد كانت قد سخرت موارد البلاد لخدمة الإمبريالية البريطانية وحربها، مما أثار غضب الشعب العراقي وحقده على الإنكليز، والنظام الملكي. وفي تلك الأيام جرى اغتيال وزير المالية [ رستم حيدر] في 18 كانون الثاني 1940،على يد مفوض الشرطة [حسين فوزي توفيق] في مكتبه بالوزارة، وقد تم اعتقال القاتل.
 حاول نوري السعيد أن يستغل الحادث لتوجيه تهمة التحريض على القتل لعدد من الشخصيات السياسية المعارضة، حيث أقدم على اعتقال كل من الوزيرين السابقين[ صبيح نجيب ] و[إبراهيم كمال ]، والمحاميين المعروفين [ نجيب الراوي ] و[شفيق السعيدي] موجهاً لهم تهمة التحريض على قتل الوزير. وقام نوري السعيد بمقابلة القاتل في السجن وضغط عليه، ووعده بالتخفيف عنه لكي يعترف بأن صبيح نجيب، وإبراهيم كمال قد حرضاه على قتل [رستم حيدر]. (5)
 أثار تصرف نوري السعيد هذا حفيظة العديد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، بالإضافة إلى وزير الداخلية في حكومة السعيد [ناجي شوكت] حيث وجدوا أن نوري السعيد يريد استخدام حادث القتل لتصفية عدد من خصومه السياسيين، ولذلك فقد لجئوا إلى الوصي عبد الإله، مستنكرين أعمال نوري السعيد بزج أسماء أولئك الذين اتهمهم بالتحريض على قتله، وكان من بين أولئك الذين قابلوا الوصي، وشكوه من تصرفات نوري السعيد كل من ناجي السويدي، وجميل المدفعي، وتوفيق السويدي، وكلهم من رؤساء الوزارات السابقين. (6)
ورغم كل تلك الاحتجاجات حاول نوري السعيد إحالة هؤلاء المعتقلين إلى المجلس العرفي العسكري لمحاكمتهم بتهمة التحريض، إلا أن وزير الخارجية[ علي جودت الأيوبي ]، ووزير المواصلات والأشغال[ جلال بابان] عارضا بشدة محاولة نوري السعيد، وطالبا بإحالة القضية إلى محكمة مدنية.
 كما هدد وزير العدل [محمود صبحي الدفتري ] بالاستقالة إذا ما مضى السعيد بخططه، وقد أيد موقف الوزير اثنان آخران من الوزراء، وبذلك فشلت خطط نوري السعيد، وأصبح من المتعذر عليه الاستمرار في الحكم بتلك التشكيلة الوزارية، فتوجه باستقالة حكومته إلى الوصي في 18 شباط 1940. (6)
استقالة وزارة نوري السعيد:
قبل أن يقدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الوصي، دعا مساء يوم 14 شباط القادة العسكريين الذين كان يتوكأ عليهم، وهم العقداء [ صلاح الدين الصباغ ] و[ فهمي سعيد ] و  [محمود سلمان ] و[ كامل شبيب ] و[ سعيد يحيى ] و [إسماعيل نامق ] إلى العشاء معه في داره، وفي أثناء المأدبة فاتحهم بموضوع وزارته وأوضاعها، بعد مقتل [رستم حيدر] معرباً عن رغبته في الاستقالة، وأبلغهم أنه اتفق مع [ طه الهاشمي ] على إسناد رئاسة الوزارة إلى [رشيد عالي الكيلاني]، وقد عبر قادة الجيش عن معارضتهم لاستقالة نوري السعيد ودعمهم له.
لكن نوري السعيد عاد بعد يومين إلى فكرة الاستقالة، وفي الوقت نفسه قام وزير الدفاع [ طه الهاشمي ] بجمع قادة الجيش  في 18 شباط وشرح لهم ضرورة استقالة الحكومة، وتأليف حكومة جديدة قوية
ولما بلغ أسماع رئيس أركان الجيش [الفريق حسين فوزي] تلك التحركات، أستدعى أولئك القادة العسكريين، وأبلغهم أن في نية نوري السعيد الاستقالة، وتكليف[رشيد عالي الكيلاني] بتشكيل الوزارة الجديدة على أن يشغل نوري السعيد وزارة الخارجية، و[طه الهاشمي ] وزارة الدفاع ،وأبدى رئيس أركان الجيش الفريق[حسين فوزي]، وقائد الفرقة الأولى اللواء [أمين العمري] رغبتيهما في عدم إشراك هذين القطبين اللذين استخدما الجيش في المسائل السياسية، وضرورة إبعاد الجيش عن السياسة. (7)
ولما علم نوري السعيد بتحركات الفريق حسين فوزي والفريق  أمين العمري قرر سحب استقالة حكومته، وأصدر قراراً بإحالة كل من [حسين فوزي] و[أمين العمري] و[عزيز ياملكي] على التقاعد  في الوقت الذي كان هؤلاء يخططون لعمل ضد حكومته، لكن السعيد كان أسرع منهم حيث وجه لهم ضربته، وعاد يمتلك السلطة والقوة من جديد حيث كلفه عبد الإله بتأليف الوزارة  الجديدة. (8)
ثانياً: نوري السعيد يؤلف الوزارة من جديد:
حاول عبد الإله في بادئ الأمر تشكيل وزارة محايدة برئاسة الشيخ [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، إلا أن الصدر اعتذر عن هذه المهمة بسبب ضغوط العسكريين الموالين لنوري السعيد، كما اعتذر [رشيد عالي الكيلاني] عن المهمة لنفس السبب.
أما نوري السعيد فقد ذهب لمقابلة الوصي عبد الإله وأبلغه أن الجيش معه، فلم يجد الوصي سبيلاً سوى تكليف نوري السعيد من جديد في 22 شباط 1940، وتم تشكيل وزارته الخامسة  بنفس اليوم، لكن هذه الوزارة كانت قصيرة العمر، حيث لم تمكث في الحكم سوى خمسة أسابيع،عمل خلالها نوري السعيد جاهداً على إدانة المتهمين بالتحريض على قتل [رستم حيدر] لكنه لم يوفق في ذلك بعد أن طلبت منه الحكومة البريطانية إجراء محاكمة مدنية لهم . (9)
واضطر نوري السعيد إلى سحب الدعوة من المجلس العرفي، وأحالها إلى المحاكم المدنية التي نظرت في الدعوة، وقررت براءتهم من التهمة الموجه لهم، إلا أنها حكمت على وزير الدفاع السابق [ صبيح نجيب] بالسجن لمدة  سنة واحدة بسبب تهجمه على حكومة نوري السعيد، حيث اعتبرت المحكمة ذلك التهجم إثارة للرأي العام ضد الحكومة.
 أما القاتل فقد حكم علية بالإعدام، ونفذ الحكم به فجر يوم الأربعاء 27 آذار 1940، وقد تفوه القاتل قبيل تنفيذ الحكم بعبارات تثير الشكوك في أن يكون لنوري السعيد يد في تدبير اغتيال رستم حيدر، وبإعدامه أسدل الستار على هذه القضية التي أراد نوري السعيد استخدامها وسيلة للتنكيل بخصومه السياسيين، وأصبحت حكومة نوري السعيد في موقف ضعيف جداً بعد افتضاح اللعبة التي لعبها مما اضطره ذلك إلى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي في 31 آذار 1940، حيث تم قبول الاستقالة في نفس اليوم، وباشر الوصي مشاوراته لتأليف وزارة جديدة حيث دعا رؤساء الوزارات السابقين السادة [علي جودت الأيوبي] و[توفيق السويدي] و[ناجي السويدي] و[جميل المدفعي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني] و[ناجي شوكت] وتباحث معهم في أمر تأليف وزارة ائتلافية تضم جميع الأطراف، وتستطيع مجابهة الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، حيث استقر الرأي على تكليف [ رشيد عالي الكيلاني]، وقيل آنذاك أن السفير البريطاني هو الذي أشار على الوصي بتأليف وزارة قومية تضم جميع الأطراف والتكتلات. (10)
ثالثاً: رشيد عالي الكيلاني يؤلف وزارة جديدة:
 في 31 آذار 1940 صدرت الإرادة الملكية بتكليف رشيد عالي الكيلاني الذي كان يشغل منصب رئيس الديوان الملكي آنذاك بتأليف الوزارة الجديدة، واحتفظ الكيلاني بوزارة الداخلية، وأصبح نوري السعيد وزيراً للخارجية، وطه الهاشمي وزيراً للدفاع، فيما شغل ناجي السويدي   وزارة المالية، وناجي شوكت وزارة العدل.
 وهكذا جاءت الوزارة الكيلانية الجديدة وهي تضم أربعة من رؤساء الوزارات السابقين، ومختلف الكتل، وحاولت تحسين صورتها أمام الرأي العام العراقي، فأقدمت على إلغاء الأحكام العرفية في الموصل وبغداد، وأطلقت سراح العديد من المعتقلين السياسيين الذين أدانتهم المجالس العرفية.
 لكن الحكومة بدأت باكورة أعمالها بإصدار مرسوم [ صيانة الأمن العام وسلامة الدولة] في 30 أيار 1940، وجاء هذا المرسوم أشد وطأة من المرسوم الذي أصدره نوري السعيد، والذي رفضته المحكمة العليا فيما بعد لمخالفته أحكام الدستور، في 11 أيلول 1939، حيث خول المرسوم الجديد صلاحية اعتقال الأشخاص المشتبه بكونهم يمثلون خطراً على الأمن العام ونفيهم، أو سجنهم لمدد تصل إلى 5 سنوات، وفرض المرسوم قيوداً جديدة على الصحف، وكافة وسائل النشر ومراقبة الرسائل البريدية، والتلفون، والبرقيات، ومراقبة المطبوعات والمطابع، وصلاحية غلقها، ومنع الاجتماعات والتجمعات، وتفريقها بالقوة، وغلق النوادي والجمعيات، ومنع التجول، وتفتيش الأشخاص والمساكن والمحلات، وغيرها من الإجراءات الأخرى المخالفة للدستور، وخول المرسوم وزير الداخلية صلاحية اتخاذ كل ما يلزم لتنفيذ هذا المرسوم، واعتبر هذا المرسوم لطخة سوداء في تاريخ الوزارة الكيلانية.
لم تكد تمضي سوى مدة شهرين على تشكيل الوزارة الكيلانية حتى دبت الخلافات بين أركانها بسبب الموقف من إيطاليا التي أعلنت الحرب على بريطانيا وفرنسا في 10 حزيران 1940 ، ودخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.
فقد سارع السفير البريطاني إلى الاجتماع بنوري السعيدـ وزير الخارجية ـ وطلب منه قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا، وطلب منه أيضا أن يصله جواب الحكومة قبل الساعة الثانية عشرة من ظهر ذلك اليوم. (11)
 وعلى الفور قام نوري السعيد بإبلاغ رئيس الوزراء بطلب السفير البريطاني، وتقرر أن يجتمع مجلس الوزراء فوراً برئاسة الوصي عبد الإله لدراسة الطلب البريطاني، واتخاذا قرار بشأنه.
وخلال النقاش الذي أجراه مجلس الوزراء ظهر انقسام شديد بين أعضائه، فقد انقسم المجلس إلى تيارين، التيار الأول دعا  إلى إعلان قطع العلاقات مع إيطاليا فوراً، تنفيذاً لطلب بريطانيا وتزعم هذا التيار [نوري السعيد] وضم [محمد أمين زكي] و[صادق البصام] و[رؤوف البحراني] و[عمر نظمي] .
 أما التيار الثاني والأقوى بزعامة رئيس الوزراء[ رشيد عالي الكيلاني]  وضم [ طه الهاشمي ] و[ناجي شوكت] و[ناجي السويدي] فقد دعا إلى التريث، وعدم التسرع في اتخاذ أي قرار، ولاسيما وأن الحرب قد اتخذت لها مساراً خطيراً، بعد أن استطاعت ألمانيا اجتياح معظم البلدان الأوربية، مؤكدين على ضرورة أن تراعي الحكومة مصلحة البلاد، وتراقب أوضاع الحرب وتطوراتها لكي لا تنعكس سلباً على العراق.
تأزمت الخلافات داخل مجلس الوزراء بين التيارين، وهدد الوزير [محمد أمين زكي] بالاستقالة إذا لم تقرر الوزارة الاستجابة لطلب بريطانيا.
 غير أن مجلس الوزراء لم يتوصل إلى أي قرار، وتم الاتفاق على عقد جلسة أخرى مساء اليوم نفسه، وفي مقر مجلس الوزراء.
 وتم عقد الاجتماع في الموعد المقرر، وواصل مناقشة الموضوع، واتخذت الحكومة قرارها بالتريث في مسألة قطع العلاقات مع إيطاليا، مع الإقرار بتمسك الحكومة بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، واستعدادها للقيام بما تمليه عليها معاهدة 1930 المعقودة مع بريطانيا.
 أثار قرار الحكومة غضب السفير البريطاني الذي أسرع لمقابلة رئيس الوزراء في 12 حزيران، وعبر له عن دهشة، وقلق بريطانيا من القرار، وتردد الحكومة في قطع العلاقات مع إيطاليا، وأبلغه بأن هذا الموقف من جانب الحكومة يؤثر تأثيراً بالغاً على صدقيه الحكومة في تنفيذ بنود معاهدة
التحالف الموقعة عام 193.
لكن الكيلاني أجابه على الفور أن الحكومة تقرر ما تراه موافقاً لمصلحة البلاد، فكان أن سأله السفير فيما إذا كان هذا الموقف يمثل رأيه  الشخصي أم رأي الحكومة ؟  وقد رد عليه الكيلاني أن القرار قد اتخذته الحكومة، وأنا أرى شخصياً أن لا يورط العراق نفسه في عمل من شأنه أن يؤثر على حاضره ومستقبله، ويقلق الرأي العام العراقي.
أثار تصرف رئيس الوزراء الكيلاني هذا غضب المستر [تشرشل ] رئيس الوزراء البريطاني حيث صرح قائلاً :
 {إن حكومة الكيلاني تتصرف بروح استقلالية لم يسبق لأي رئيس وزارة عراقية أن تصرف بمثلها من قبل }. (12)
وحاولت الحكومة البريطانية الضغط على حكومة العراق بأساليبها العسكرية، فقد أبلغت السفارة البريطانية وزارة الخارجية العراقية بكتابها المرقم 284 في 21 حزيران 1940أن الحكومة البريطانية قررت إنزال قواتها العسكرية في البصرة، لغرض التوجه إلى حيفا، وطلبت أن تسمح الحكومة للقوات الجوية البريطانية بتأسيس معسكرات للاستراحة في البصرة وبغداد والموصل، وتأسيس خطوط مواصلات عبر الصحراء بين بغداد وحيفا،وقد أجابت الحكومة العراقية بالموافقة على الطلب البريطاني في 22 تموز،عملاً ببنود معاهدة 1930، وكان ذلك أكبر خطأ ارتكبته حكومة الكيلاني، فقد كان الهدف الحقيقي من جلب القوات البريطانية لغرض فرض الهيمنة البريطانية المطلقة على العراق، وإسقاط حكومته، كما سنرى فيما بعد.
رابعاً: تطورات العلاقة العراقية الألمانية والعراقية البريطانية
لم يمضِ سوى أسبوع واحد على دخول إيطاليا الحرب إلى جانب ألمانيا حتى استطاعت الأخيرة دحر القوات الفرنسية، واحتلال العاصمة الفرنسية باريس.
وفي تلك الأيام وصل إلى العراق [الحاج أمين الحسيني ] مفتي فلسطين هرباً من ملاحقة القوات البريطانية له، وكان معروفاً عنه أنه كان على علاقة جيدة مع ألمانيا غريمة بريطانيا، وقد نصح الحسيني الكيلاني بأن يجري اتصالاً مع السفير الألماني في تركيا [فون بابن ] للوقوف على وجهة نظر ألمانيا تجاه مستقبل البلاد العربية، وسوريا على وجه الخصوص، حيث كانت تحت الانتداب الفرنسي. (13)
جرى الاتفاق بين الكيلاني والحسيني أن ترسل الحكومة وفداً مؤلفاً من وزير الخارجية[نوري السعيد] ووزير العدل [ ناجي شوكت] إلى تركيا بحجة التباحث مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا بعد انهيار فرنسا،على أن يقوم ناجي شوكت بعد انتهاء المباحثات وعودة نوري السعيد بزيارة إلى [اسطنبول] لبضعة أيام بدعوى الراحة والاستجمام لغرض الالتقاء مع السفير الألماني [فون بابن] دون علم نوري السعيد لعدم ثقة الكيلاني به، وقد زود أمين الحسيني السيد ناجي شوكت برسالة إلى السفير [فون بابن ] الذي تربطه به علاقات وثيقة. وبعد سفر الوفد إلى تركيا أجرى محادثات مع الحكومة التركية حول مستقبل سوريا، بعد انهيار فرنسا، وقد عاد نوري السعيد إلى بغداد بعد انتهاء المباحثات، فيما توجه ناجي شوكت إلى اسطنبول، بحجه قضاء بضعة أيام فيها للراحة والاستجمام، والتقى بالسفير الألماني هناك وبحث معه موقف ألمانيا من البلاد العربية، وأبلغه أن العرب يطمحون إلى التخلص من الاستعمار البريطاني والفرنسي ، وهو يود معرفة موقف ألمانيا من الأماني العربية، وناشده أن تصدر ألمانيا وإيطاليا بياناً حول الموضوع، وقد وعده السفير الألماني بنقل ما دار في اللقاء إلى حكومته، وأن يبذل جهده لحمل الحكومة الألمانية على تحقيق الأماني العربية.
وفي ختام اللقاء ترك إلى السفير العراقي [كامل الكيلاني] مهمة مواصلة اللقاءات مع السفير الألماني، وعاد إلى بغداد في 12 تموز، واطلع رفاقه الكيلاني، والهاشمي، وناجي السويدي على ما دار في ذلك اللقاء. (14)
 أما السفير[ فون بابن ] فقد توجه بعد اللقاء إلى ألمانيا ليجري اتصالاته مع الحكومة حول لقائه مع الوزير العراقي، واستطاع أن يقنع الحكومة بأن تصدر بياناً ألمانياً إيطالياً مشتركاً حول موقف دول المحور من البلاد العربية، ومستقبلها. ثم عاد إلى اسطنبول وأبلغ السفير العراقي كامل الكيلاني، شقيق رئيس الوزراء، بقرار الحكومة الألمانية، وقام السفير بدوره بإبلاغ أخيه بالأمر.
وبناء على ذلك قرر رشيد عالي الكيلاني إرسال ناجي شوكت إلى اسطنبول مرة أخرى بحجة الراحة والاستجمام للقاء السفير[ فون بابن] وتقديم مسودة بالأسس التي تود الحكومة العراقية أن يتضمنها البيان، وكان في مقدمتها الاعتراف الصريح من جانب ألمانيا وإيطاليا باستقلال البلاد العربية، وحق العرب في إقامة وحدتهم القومية، ورفض إقامة كيان صهيوني في فلسطين.
غادر ناجي شوكت إلى اسطنبول في 2 آب 1940، حيث التقى بالسفير الألماني، وسلمه مسودة البيان الذي تقترحه الحكومة العراقية، وطلب منه إرساله إلى حكومته، وأبلغه أن الحكومة العراقية بانتظار صدور البيان الألماني الإيطالي المنتظر، الذي يتضمن هذه الأسس التي نقلها إليه.  وفي 23 تشرين الأول 1940 أذيع  من راديو برلين وراديو روما البيان الموعود، لكن البيان جاء بعبارات عمومية لم تتضمن الأسس التي جاءت بها المسودة التي نقلها الوزير العراقي للسفير الألماني[ فون بابن]  الذي أعلم السفير العراقي أن هذا البيان هو مجرد بداية !!. (15)
تدهور العلاقات العراقية البريطانية :
على اثر قرار حكومة الكيلاني بالتريث في قطع العلاقات مع إيطاليا رغم إلحاح السفير البريطاني، بدأت العلاقات العراقية البريطانية تأخذ بالتأزم، ولاسيما بعد أن وصل إلى علم الحكومة البريطانية الاتصالات التي أجراها ناجي شوكت مع السفير الألماني في تركيا [ فون بابن ].
لقد أدرك السفير البريطاني صعوبة التعاون مع حكومة الكيلاني، وأخذ يتحين الفرصة لإسقاطها، وبالمقابل أخذت حكومة الكيلاني تضيق على تحركات الإنكليز، ووسائل دعاياتهم ضد دول المحور متذرعة بعدم رغبة الحكومة بخلق مشاكل لها مع هذه الدول .
 وازدادت الأزمة تصاعداً عندما رفضت بريطانيا تزويد الجيش العراقي بالأسلحة التي كان بأمس الحاجة لها، حيث قيدت معاهدة 1930 العراق بشراء الأسلحة البريطانية فقط ، فلما وجدت حكومة الكيلاني أن الباب موصود أمامها للحصول على السلاح البريطاني لجأت إلى إيطاليا واليابان لشراء الأسلحة منهما، وكان رد الفعل البريطاني على خطوة حكومة الكيلاني أن امتنعت الحكومة البريطانية عن شراء القطن العراقي رغم تدني أسعاره، مما دفع بحكومة الكيلاني إلى عقد اتفاقية مع اليابان باعت بموجبها جميع محصول القطن، ومحصول التمور لها، مما أثار غضب الحكومة البريطانية إلى أقصى الحدود، ولاسيما وأن اليابان كانت قد دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.
ومن جانب آخر أقدمت حكومة الكيلاني على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، مما أوصل العلاقات بين العراق وبريطانيا إلى أقصى درجات التأزم، بحيث أبلغ السفير البريطاني نوري السعيد بأن الحكومة البريطانية لم تعد تثق بحكومة الكيلاني، وأن على العراق  أن يختار بين الاحتفاظ بحكومة الكيلاني أو الاحتفاظ بصداقة بريطانيا العظمى. (15)
وهكذا بدأ الصراع المكشوف بين الحكومة البريطانية والسفير البريطاني وسارع الكيلاني إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء لبحث التدخل البريطاني السافر بشؤون العراق الداخلية، وتقرر تقديم احتجاج رسمي إلى الحكومة البريطانية على تصرفات سفيرها في بغداد. (16)
ولممارسة المزيد من الضغوط على حكومة الكيلاني لجأت بريطانيا إلى الولايات المتحدة داعية إياها للضغط على حكومة الكيلاني، حيث اتصل السفير الأمريكي بالكيلاني، وطلب منه التعاون مع الحكومة البريطانية، ومنع دعاية الكراهية لبريطانيا بين صفوف الشعب العراقي.
 وقد أكد الكيلاني للسفير الأمريكي أن الحكومة لا تنوي الإضرار بالمصالح البريطانية، وأنها حريصة على تطبيق بنود معاهدة 1930 لكن شائعات سرت بعد بضعة أيام تقول أن الحكومة العراقية تنوي إعادة العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا.
لم يستطع نوري السعيد تحمل سياسة الكيلاني، وهو المتحمس إلى أبعد الحدود لتشديد ارتباط العراق بالعجلة البريطانية، فكتب مذكرة إلى الكيلاني، وبعث بنسخة منها إلى الوصي عبد الإله، وإلى السفير البريطاني ينتقد فيها سياسة الحكومة تجاه بريطانيا العظمى، ويتحدث عن فقدان الانسجام والتعاون بين أعضاء الوزارة، ويحذر من مغبة السير بهذا الطريق، ويدعو الحكومة إلى إعادة النظر في مجمل سياساتها. (17)
 أما الوصي عبد الإله فقد دعا لعقد جلسة لمجلس الوزراء برئاسته في البلاط، في 17 كانون الأول، لمناقشة مذكرة نوري السعيد، وسياسة الحكومة. وخلال الاجتماع بدت على الوصي علامات الانفعال من سياسة الكيلاني،حيث تحدث إليه قائلاً:{ إنني ألاحظ أن التآزر بين أعضاء الوزارة القائمة مفقود، والاختلافات بين أركانها في تزايد مستمر، ولاسيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلاقات بلادنا بالحليفة بريطانيا العظمى}. (18)
وقد رد السيد ناجي السويدي قائلاً أن ليس هناك من خلافات خطيرة تستوجب ذلك.
 لكن نوري السعيد أصر على موقفه من وجود الخلافات، وانتهى الاجتماع مع الوصي دون حدوث أي تغير. ولم يكد أعضاء مجلس الوزراء يغادرون البلاط الملكي حتى لحق رئيس الديوان الملكي السيد عبد القادر الكيلاني برشيد عالي الكيلاني ليطلب منه تقديم استقالته بناء على رغبة الوصي، حرصا على عدم إحراجه مع الإنكليز، وكان هذا التصرف من جانب الوصي بناء على طلب الحكومة البريطانية. وهكذا بدأت الأزمة بين حكومة الكيلاني والوصي عبد الإله، وقرر مجلس الوزراء إرسال وفد لمقابلة الوصي برئاسة رئيس الوزراء الكيلاني وعضوية كل من وزير الدفاع
[طه الهاشمي] و ناجي شوكت ـ وزير المالية .
وخلال اللقاء أبلغ الوفد الوصي أن طلب استقالة الوزارة عمل غير دستوري، وأن ليس من حقه بموجب الدستور أن يقيل الوزارة. (19)
كان رشيد عالي الكيلاني في ذلك الوقت قد أمّن وقوف قادة الجيش العقداء الأربعة[ صلاح الدين الصباغ ] و[فهمي سعيد]  و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] إضافة إلى مفتي فلسطين الذي يتمتع بنفوذ كبير لدى الضباط القوميين.
وفي 21 كانون الأول 1940، أعلن الكيلاني أمام مجلس النواب أن العراق دولة مستقلة، وعليه أن ينشد في كل تصرفاته مصالحه الوطنية، وأمانيه القومية، وينبغي أن لا ينجرف وراء ما لا يتلاءم مع هذه المصالح والأماني، وان الحكومة حريصة على عدم القيام بأي عمل يجر العراق إلى شرور الحرب  والمساس بسلامة البلاد.
وعلى أثر ذلك قطع السفير البريطاني أي صلة له بالحكومة ورئيسها وأخذت صلاته تجري مع الوصي بصورة مباشرة، متخطيا الحكومة الشرعية ورئيسها.اشتدت الأزمة داخل مجلس الوزراء، ولاسيما بين نوري السعيد المتحمس للإنكليز، وناجي شوكت المعارض لهم، واقترح طه الهاشمي لحل الأزمة أن يستقيل نوري السعيد وناجي شوكت من الوزارة، وبالفعل قدم نوري السعيد استقالته من الوزارة في 19 كانون الأول فيما قدم ناجي شوكت استقالته في 25 منه.
 لكن الوصي رفض التوقيع على الاستقالة مطالباً رشيد عالي  الكيلاني بتقديم استقالة وزارته، غير أن  تدخل العقداء الأربعة أجبر عبد الإله على توقيع استقالة الوزيرين، وأسندت وزارتيهما إلى ناجي السويدي، وعمر نظمي وكالة. (20)
 لم يرضِ هذا الإجراء السفير البريطاني الذي كان يلح على استقالة الوزارة، مشدداً ضغطه على الوصي عبد الإله، الذي أخذ يمتنع عن توقيع الإرادات الملكية والقوانين والمراسيم والأنظمة. وأخيراً أخذ يحرض الوزراء على الاستقالة من الحكومة، واستمر الوصي في ضغطه على الكيلاني بأن أرسل بطلب الوزير عمر نظمي في 25 كانون الأول 1940، وطلب منه إبلاغ الكيلاني  بأنه سيستقيل من الوصاية إذا لم تقدم وزارة الكيلاني استقالتها حتى ظهر يوم الغد. (21)
أما مجلس الوزراء فقد عقد اجتماعاً في اليوم التالي 26 كانون الأول لمناقشة الأزمة، ولم يحضر الوزيران المستقيلان، وخلال الاجتماع فاجأ الوزراء جميعاً رئيس الوزراء بتقديم استقالاتهم من الوزارة، ما عدا رؤوف البحراني، مما تسبب في إحراج الكيلاني الذي حاول جاهداً تثنيهم
عن الاستقالة. (22)
خامساً:أزمة خطيرة بين الوصي والكيلاني واستقالة الوزارة:
تصاعدت الأزمة بين الوصي عبد الإله ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني بعد أن قدم الوزراء استقالاتهم، وحاول الوصي  إرغام الكيلاني على تقديم استقالته عن طريق اللجوء إلى القوة العسكرية، حيث بادر لاستدعاء رئيس أركان الجيش، ومدير الشرطة العام، وطلب إليهم عدم إطاعة رئيس الوزراء، وأبلغهم أن الوزارة أصبحت غير شرعية.
 لكن الكيلاني لجأ إلى قادة الجيش [العقداء الأربعة] الذين قرروا إرسال مندوب عنهم إلى الوصي ليبلغه أن الجيش يريد بقاء الكيلاني على رأس الحكومة، وبالفعل قابل العقيد[محمود سلمان ] أحد العقداء الأربعة الوصي وأبلغه بالأمر.
ورغم محاولات الوصي ثني قادة الجيش عن موقفهم لكنه فشل في إقناعهم، فقد قابل العقيد محمود سلمان الوصي للمرة الثانية  بحضور الشيخ [محمد الصدر] رئيس مجلس الأعيان، وأبلغه بقرار قادة الجيش وقد نصح الشيخ الصدر الوصي بالرضوخ للأمر الواقع تجنياً لما قد لا يحمد عقباه، إذا ما أصر على موقفه من الكيلاني. (23)
وهكذا تراجع الوصي ولو مؤقتاً، وأصدر إرادة ملكية بتعين [يونس السبعاوي] وزيراً للاقتصاد و[علي محمود الشيخ علي] وزيراً للعدلية في 28 كانون الثاني بناء على طلب الكيلاني وقادة الجيش. وفي اليوم التالي قدم ناجي السويدي استقالته من الوزارة،وأسرع الكيلاني إلى تعين [موسى الشابندر] وزيراً للخارجية والمحامي [ محمد علي محمود]  وزيراً للمالية، واستصدر إرادة ملكية بتعيينهم في نفس اليوم المصادف 29 كانون الثاني 1941.
حاول الكيلاني أن يوطد مركز حكومته باللجوء إلى حل البرلمان وأجراء انتخابات جديدة، وتوجه إلى عبد الإله طالباً منه التوقيع على الإرادة الملكية بحله. (24)
  طلب الوصي إمهاله حتى المساء لدراسة الأمر، وغادر الكيلاني البلاط على أمل أن يوقع على حل البرلمان، لكنه بدلاً من ذلك  غادر الوصي  بغداد سراً بعد خروج الكيلاني، وتوجه إلى الديوانية، حيث حاول استعداء قائد الفرقة الرابعة اللواء الركن [إبراهيم الراوي ] على حكومة الكيلاني.
 كما اتصل من هناك بقائد الفرقة الثانية في كركوك [ قاسم مقصود] لنفس الغرض، بالإضافة إلى مجموعة من السياسيين والوزراء السابقين وعدد من متصرفي الألوية الذين طلب منهم الوصي عدم إطاعة أوامر الكيلاني
والعمل على إسقاط حكومته.
 كما فرَّ نوري السعيد إلى المحمودية، واختفى في مزرعة شقيق قرينته هادي العسكري جرياً على عادته أن يفعل ذلك عند حدوث أي أزمة يشم منها رائحة الخطر. (25)
كاد الأمر أن يؤدي إلى حرب أهلية طرفاها الجيش لولا موقف القائدين الراوي ومقصود المتعقل، حيث أبلغا الوصي أنهما لا يودان زج الجيش في المشاكل السياسية، وأنهما كعسكريين يتلقيان الأوامر من رئيس أركان الجيش.
 أما الكيلاني فقد دعا مجلس الوزراء إلى عقد اجتماع عاجل لبحث الأزمة بعد هروب الوصي، وقد حضر الاجتماع قادة الجيش، وأمين الحسيني، ويونس السبعاوي، ومحمد أمين زكي، وتقرر في الاجتماع مواجهة الوزارة لمجلس النواب، وانتزاع الثقة بالوزارة منه، وقد دعا الحاضرون إلى صمود الوزارة بوجه محاولات الوصي، والسفير البريطاني لإسقاطها. وفي أثناء الاجتماع حضر كل من الشيخ [محمد الصدر] و[طه الهاشمي] وطلبا من الكيلاني معالجة الأمور قبل استفحالها، والحيلولة دون وزج الجيش في حرب أهلية، وتمكنا من إقناع الكيلاني لتقديم استقالة حكومته. (26)
 وبالفعل قدم الكيلاني استقالته في 31 كانون الثاني 1941 في برقية بعث بها إلى الوصي في الديوانية .
بادر الوصي فور استلام البرقية إلى قبول الاستقالة، ودعا عدد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، ورئيس مجلس الأعيان للبحث في تشكيل وزارة جديدة. وفي بغداد،عقد المدعوين للاجتماع بالوصي اجتماعاً فيما بينهم وتباحثوا في الأمر، وقد استقر رأيهم على أن يذهب كل من الشيخ [محمد الصدر] و[صادق البصام ] إلى الديوانية لمقابلة الوصي والوقوف على ما يريد. وبالفعل استقل الاثنان طائرة عسكرية نقلتهم إلى الديوانية، وتباحثا مع الوصي في سبل حل الأزمة، ثم اختلى الشيخ الصدر بالوصي، وأجرى معه نقاشاً حول خطورة الأزمة، وقد أقترح الشيخ محمد الصدر على الوصي  تكليف [ طه الهاشمي ] بتأليف الوزارة الجديدة إذا ما أراد الخروج من الأزمة، وتجنب وقوع الحرب الأهلية. (27)
سادساً:الوصي يكلف طه الهاشمي بتأليف الوزارة:
على أثر اللقاء الذي تم بين الوصي والشيخ الصدر، استدعى الوصي السيد طه الهاشمي بحضور صادق البصام، وكلفه بتأليف الوزارة الجديدة،على الرغم من عدم اقتناعه به، ورضاه عنه، لكن الظروف الدقيقة والخطيرة ونصيحة الشيخ الصدر هي التي جعلته يكلف الهاشمي. وقد حاول الوصي أن يشهّد البصام على تعهد الهاشمي بتشتيت شمل قادة الجيش [ العقداء الأربعة ]، وحذره من المتصيدين في الماء العكر، والإيقاع مجدداً بينه وبينهم، ووعد الوصي بأنه سوف يسعى إلى لقاء القادة الأربعة به لتقديم الولاء والطاعة، لكن ذلك لم يتم بسبب نصيحة السفير البريطاني لعبد الإله بعدم استقبالهم. (28)
تم تأليف الوزارة الجديدة في 31 كانون الثاني 1941،وعبّر السفير البريطاني في برقيته إلى وزارة الخارجية البريطانية عن سروره لإخراج الكيلاني من الحكم، ولكنه أعرب عن عدم اطمئنانه لطه الهاشمي، ووعد بأن يكون عمر الوزارة قصيراً، وأشاد السفير بدور نوري السعيد،والجميل الذي أسداه لبريطانيا،غير أنه قد فقد نفوذه في الآونة الأخيرة، ورأى أن يكون بعيداً عن الأنظار حالياً. (29)
كان همْ السفارة البريطانية بعد استقالة حكومة الكيلاني هو التخلص من العقداء الأربعة بأي طريقة كانت لكي يستقر الوضع لصالح بريطانيا.
أما الوصي فقد طلبت منه حكومة الهاشمي العودة إلى بغداد، وأرسلت لمرافقته كل من عمر نظمي،وزير الداخلية، ووكيل رئيس أركان الجيش،أمين زكي، إلا أن الوصي تردد في العودة خوفاً من وجود مؤامرة لقتله، مما اضطر الهاشمي إلى السفر إلى الديوانية وإقناعه بالعودة، وعاد الوصي بصحبة الهاشمي في 3 شباط 1941.
سابعاً: حركة الكيلاني الانقلابية وموقف نوري السعيد:
بدا الوضع السياسي بعد تشكيل حكومة الهاشمي يميل نوعاً ما إلى الهدوء بعد تلك العاصفة التي حدثت بين الكيلاني والوصي. لكن النار كانت لا تزال تحت الرماد، فقد كان عنصر الثقة بين الوصي والهاشمي شبه مفقود، كما كانت الثقة بين الكيلاني ومن ورائه العقداء الأربعة المسيطرين على الجيش وبين الوصي قد تلاشت.
وكان الوصي ومن ورائه السفارة البريطانية يعمل في الخفاء من أجل تشتيت شمل قادة الجيش تمهيداً للتخلص منهم ومن الكيلاني، ومارست السفارة البريطانية ضغوطها على رئيس الوزراء من أجل إبعاد العقداء الأربعة عن أي تأثير سياسي في البلاد، كما ضغطوا على الهاشمي لقطع العلاقات مع إيطاليا، وكان الهاشمي يخشى رد فعل الشعب إن هو فعل ذلك. ونتيجة لتلك الضغوط أقدم الهاشمي بصفته وزيراً للدفاع وكالة بتاريخ 26 آذار 1941 على نقل العقيد [ كامل شبيب] إلى قيادة الفرقة الرابعة في الديوانية، ليحل مكانه صديق الوصي الذي أواه في الديوانية اللواء الركن [إبراهيم الراوي ] . كما أصدر قراراً آخر بنقل مقر قيادة الفرقة الثالثة التي يقودها العقيد [صلاح الدين الصباغ ] من بغداد إلى جلولاء. (30)
كانت تلك الإجراءات التي اتخذها الهاشمي بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل، فلم يكد يبلغ القرار لقادة الجيش حتى قرروا على الفور التصدي له ورفضه، واتخاذ التدابير السريعة والضرورية لحل الأزمة بصورة جذرية.
ففي مساء يوم 1 نيسان 1941، أنذر العقداء الأربعة قطعات الجيش في بغداد، وتم إبلاغها بما ينوون القيام به حتى إذا انتصف الليل، نزلت القوات العسكرية لتحتل المراكز الهامة والحساسة في بغداد، كدوائر البرق والبريد والهاتف والجسور ومداخل الطرق الرئيسية، وجميع المرافق العامة في بغداد، وتوجه العقيد [ فهمي سعيد ] وبرفقته وكيل رئيس أركان الجيش  [محمد أمين زكي ] إلى دار رئيس الوزراء السيد [ طه الهاشمي ] وأجبروه على الاستقالة.
 واضطر الهاشمي إلى تحرير كتاب استقالة حكومته إلى الوصي وسلمها لهما حرصاً على عدم إراقة الدماء. (31)
أما الوصي  فقد أيقضه الخدم من النوم، وأبلغوه أن هناك أوضاع غير طبيعية في منطقة القصر، وأن الجيش متواجد في المنطقة، فما كان من الوصي إلا أن صمم على الهرب مرة أخرى، واستطاع الإفلات من قبضة الجيش، ولجأ إلى السفارة الأمريكية بعد أن تعذر عليه الوصول إلى السفارة البريطانية، وقامت السفارة الأمريكية بنقله إلى قاعدة الحبانية، ومن هناك تم نقله على متن طائرة حربية بريطانية إلى البصرة حيث نقل إلى البارجة الحربية البريطانية [ كوك شبير] الراسية قرب البصرة، وكان برفقته كل من [ علي جودت الأيوبي ] ومرافقه العسكري [عبيد عبد الله المضايفي ] ثم لحق بهم [ جميل المدفعي ]. (32)
وحاولت السفارة البريطانية الاتصال بأعضاء وزارة طه الهاشمي ،في محاولة لنقلهم إلى البصرة للالتحاق بالوصي، لكن العقداء الأربعة حالوا دون خروجهم . كما نصبت القوات البريطانية للوصي إذاعة لاسلكية حيث قام بتوجيه خطاب إلى الشعب في الرابع من نيسان .
وقامت الإذاعة البريطانية في لندن بإعادة إذاعة الخطاب مرة أخرى، وقد هاجم الوصي في خطابه الكيلاني والعقداء الأربعة، واتهمهم بالاعتداء على الدستور، والخروج على النظام العام واغتصاب السلطة.
كما أخذ الوصي يحرض قائد الفرقة الرابعة في الديوانية  [إبراهيم الراوي] وقائد حامية البصرة العقيد[رشيد جودت] وعدد من شيوخ العشائر الموالين للبلاط والإنكليز للتمرد على الكيلاني وقادة الجيش، والزحف على بغداد، لكن الراوي وجودت رفضا السير مع الوصي بهذا الطريق الذي لو تم لوقعت حرب أهلية لا أحد يعرف مداها.
بادر العقداء الأربعة بعد هروب الوصي إلى تشكيل مجلس الدفاع الوطني، وتم اختيار[ رشيد عالي الكيلاني] رئيساً للمجلس ليقوم مقام مجلس الوزراء.
وفي أول اجتماع لمجلس الدفاع الوطني قرر المجلس إرسال مذكرة إلى الحكومة البريطانية تحذرها من التدخل في شؤون العراق الداخلية، وتقديم الدعم والمساندة للوصي عبد الإله.
كما قرر المجلس إرسال قوات عسكرية إلى البصرة لمنع أي تحرك ضد مجلس الدفاع الوطني، وتم اعتقال متصرف البصرة [ صالح جبر ] الذي قطع صلاته ببغداد تضامناً مع الوصي، وتم تسفيره إلى بغداد. (33)

ثامناً:عزل عبد الإله وتعين شريف شرف وصياً على العرش
 رداً على تحركات الوصي الرامية إلى إسقاط حكومة الدفاع الوطني وهروبه من العاصمة، وتعاونه مع المحتلين البريطانيين في هذا السبيل فقد وجهت حكومة الدفاع الوطني إنذاراً له بالعودة إلى بغداد فوراً وإلا فإنها ستضطر إلى عزله من الوصاية وتعين وصي جديد على العرش بدلا منه.
ولما لم يستجب عبد الإله للإنذار قررت حكومة الدفاع الوطني عزله من الوصاية، وتعيين [ الشريف شرف ] وصياً على العرش بدلاً عنه، وقد صادق البرلمان على هذا الإجراء في جلسته المنعقدة في 16 نيسان 1941. (34)
وبعد أن تم تعيين [الشريف شرف] وصياً على العرش، قدم مجلس الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني استقالته إلى الوصي الجديد في 12 نيسان 1941 لغرض تشكيل حكومة مدنية جديدة، وقد كلف الوصي السيد الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدة في اليوم نفسه، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي :
1 ـ رشيد عالي الكيلاني ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية .
2ـ ناجي السويدي ـ وزيراً للمالية .
3 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للدفاع.
4 ـ موسى الشابندر ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ رؤوف البحراني ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية .
6 ـ علي محمود الشيخ علي ـ وزيراً للعدلية .
7ـ يونس السبعاوي ـ وزيراً للاقتصاد .
8 ـ محمد علي محمود ـ وزيراً للأشغال والمواصلات .
9 ـ محمد حسن سلمان ـ وزيراً للمعارف .
وفور تشكيل الوزارة أعلن الكيلاني عن عزم الحكومة على عدم توريط العراق في الحرب مع الالتزام بمعاهدة التحالف مع بريطانيا، والتمسك بالتعهدات الدولية.
 وقد لاقت حكومة الكيلاني تأييداً كاسحاً من أبناء الشعب الحانقين على الاستعمار البريطاني وعملائه.
تاسعاً: بريطانيا تسقط حكومة الكيلاني،وتعيد عبد الإله:
تسارعت التطورات في البلاد بعد أحكام سيطرة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة على مقاليد الحكم، ولاسيما وأن الحركة قد لاقت تأييداً واسعاً من أبناء الشعب عامة الذين كانوا يحدوهم الأمل في التخلص من الاستعمار البريطاني الذي أذاقهم الأمرّين، وهكذا أصبحت الأمور صعبة للغاية بالنسبة لبريطانيا وتنذر بمخاطر كبيرة .
وبناء على ذلك طّير السفير البريطاني [كورنوليس] برقية إلى [المستر تشرشل] رئيس الوزراء  جاء فيها :
{ إما أن ترسلوا جيشاً كافيا إلى العراق أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان}.
فلما اطلع تشرشل على البرقية أسرع بالإبراق إلى وزير الهند لإرسال قوات عسكرية، وإنزالها في البصرة على عجل. (36)
كانت الحكومة البريطانية قد أبلغت العراق قبل وقوع الانقلاب أنها عازمة على إنزال قوات في البصرة لنقلها عبر العراق إلى حيفا في فلسطين حيث تقتضي ضرورات الحرب.
 وبموجب المعاهدة العراقية البريطانية يحق لبريطانيا ذلك، بعد إبلاغ ملك العراق بذلك، ولذلك فقد اتصل القنصل العام البريطاني في البصرة بوكيل المتصرف يوم 10 نيسان، وأبلغه أن فرقة من الجيش الهندي على ظهر ثلاث بواخر حربية، وبحراسة طرادين حربيين، وثلاث طائرات سوف تدخل المياه الإقليمية العراقية خلال 48 ساعة، وطلب منه إبلاغ حكومته بذلك للموافقة على نزول تلك القوات في البصرة.
كما قام مستشار وزارة الداخلية المستر [ ادمونس ] في بغداد بزيارة رئيس الوزراء الكيلاني وابلغه بنفس الأمر. (37)
وعلى الفور أجتمع مجلس الوزراء، وبحث الأمر، وبعد مناقشة مستفيضة اتخذ قرارا بالسماح للقوات البريطانية بالنزول، وفق الشروط التي اتفق عليها في 21 حزيران 1940، والتي نصت على نزول القوات لواء بعد لواء،على أن يبقى اللواء مدة معقولة وهو في طريقه إلى فلسطين، ثم يليه نزول اللواء التالي، بعد أن يكون اللواء السابق قد غادر الأراضي العراقية، وعلى الحكومة البريطانية أن تشعر الحكومة العراقية بعدد القوات المراد إنزالها.
كما قررت الحكومة العراقي إيفاد اللواء الركن [ إبراهيم الراوي] إلى البصرة لاستقبال القوات البريطانية كبادرة حسن نية من الحكومة.
 لكن بريطانيا كانت قد قررت غزو العراق،وإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة وإعادة عبد الإله وصياً على عرش العراق.
 وكانت تعليمات القيادة البريطانية تقضي باحتلال [منطقة الشعيبة ] في البصرة واتخاذها رأس جسر لإنزال قواتها هناك، والانطلاق بعد ذلك إلى بغداد، ففي يومي 17  و 18 نيسان 1941 نزلت القوات البريطانية في البصرة، وعلى الفور أبرق رئيس الوزراء البريطاني تشرشل إلى الجنرال [ ايمسي ] في رئاسة الأركان البريطانية يأمره بالإسراع بإنزال 3 ألوية عسكرية في البصرة. وقد بدا واضحاً من تصرف تلك القوات أنها لن تغادر العراق، كما هو متفق عليه، بل لتبقى هناك حيث قامت بحفر الخنادق وإقامة الاستحكامات، وترتيب بقائها لمدة طويلة .
وفي 28 نيسان 1941 أبلغ مستشار السفارة البريطانية في بغداد وزارة الخارجية العراقية بنية بريطانيا إنزال  قوة أخرى قوامها 3500 جندي وضابط في 29 نيسان، وقبل رحيل القوات التي نزلت في البصرة قبلها. عند ذلك أدركت حكومة الكيلاني أن بريطانيا تضمر للعراق شراً، وأنها لا تنوي إخراج قواتها كما جرى عليه الاتفاق من قبل، بل لتستخدمها لاحتلال العراق من جديد، وعليه اتخذت قرارها بعدم السماح لنزول قوات بريطانية جديدة في البصرة قبل مغادرة القوات التي وصلت إليها من قبل.
كما طلبت الحكومة العراقية من السفير البريطاني تقديم أوراق اعتماد حكومته كدليل على اعتراف بريطانيا بالوضع الجديد في العراق. وفي الوقت نفسه قررت الحكومة العراقية القيام بإجراءات عسكرية احترازية لحماية العراق، وأصدرت بياناً إلى الشعب بهذا الخصوص، وقد أشار البيان إلى إخلال بريطانيا بنصوص معاهدة التحالف، وأن الحكومة قد قدمت احتجاجاً رسميا إلى الحكومة البريطانية. كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على التمسك بحقوق العراق وسيادته واستقلاله.
لكن الحكومة البريطانية تجاهلت مواقف الحكومة العراقية واحتجاجاتها وأنزلت قوات جديدة في البصر في 30 نيسان، وحاولت تلك القوات قطع الطريق على القوات العراقية المتواجدة هناك، لكن القوات العراقية استطاعت الانسحاب إلى المسيب، مقرها الدائم .
 وهكذا أيقنت حكومة الكيلاني أن الصِدام بين الجيشين العراقي والبريطاني قد أصبح أمرا حتمياً، وقررت اتخاذ عدد من الإجراءات العسكرية لحماية بغداد. (38)
 فقد أرسلت عدداً من قطعاتها العسكرية إلى المنطقة القريبة من [الحبانية] حيث توجد قاعدة جوية بريطانية كبيرة.
لكن ثلاث أسراب من الطائرات البريطانية قامت على الفور بقصف تلك القوات المتمركزة في [ سن الذبان ] بجوار بحيرة الحبانية وذلك صباح يوم الجمعة المصادف  2 أيار 1941، وبذلك اشتعلت الحرب بين العراق وبريطانيا، وقام على الأثر السفير البريطاني بإصدار بيان موجه إلى الشعب العراقي كان قد أعده سلفاً، وهاجم فيه بشدة حكومة الكيلاني، واتهمها بشتى التهم، وبذلك كشف البيان عن جوهر السياسة البريطانية  وأهدافها الاستعمارية العدوانية تجاه العراق.
وفي اليوم نفسه قدم السفير البريطاني إنذاراً

414
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة السابعة

حامد الحمداني                                                     5/9/2008
مقتل الملك غازي
أولاً:بريطانيا ونوري السعيد وعبد الإله يتآمرون على الملك غازي:
لم تكن بريطانيا راضية عن تولي [الملك غازي] المُلك بعد وفاة والده الملك فيصل الأول، فقد أصيبت بخيبة أمل كبيرة منه أثناء توليه منصب [ نائب الملك] ،بحكم كونه ولياً للعهد، أثناء غياب والده عن البلاد، والأسلوب الذي اتبعه في معالجة قضية ثورة لآشوريين بقيادة المار يوسف].
كما أن بريطانيا كانت تراقب العلاقات المتنامية بين الملك غازي ودكتاتور ألمانيا [ أودولف هتلر] بشئ كبير من الشك والريبة، خوفاً من أن تحصل ألمانيا على موطئ قدم لها في العراق، ومنطقة الخليج الغنية بالنفط .
كما كانت محاولة الملك غازي احتلال الكويت بالقوة أثناء غياب رئيس الوزراء نوري السعيد، والذي كان قد سافر إلى لندن لحضور مؤتمر حول القضية الفلسطينية، في 7 شباط 1939، حيث كان قد استدعى رئيس أركان الجيش الفريق [حسين فوزي ] عند منتصف الليل،وكلفه باحتلال الكويت فوراً، كما اتصل بمتصرف البصرة، داعيا إياه إلى تقديم كل التسهيلات اللازمة للجيش العراقي للعبور إلى الكويت واحتلالها.(1)
وهكذا تجمعت كل تلك العوامل لتفعل فعلها في تصميم بريطانيا على التخلص من الملك غازي بأسرع ما يمكن، وكان رجل مهماتها الكبرى  [نوري السعيد] ،الذي حاول بكل جهده منع الملك غازي من تولي العرش بعد وفاة والده الملك فيصل، واستبداله بالأمير[ زيد] عم الملك غازي على كامل الاستعداد لتنفيذ مهمة التخلص من الملك غازي بالتعاون مع[عبد الإله] وشقيقته [ الملكة عالية ] زوجة غازي التي كان قد هجرها دون أن يطلقها بصورة رسمية.
كانت هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى النية للتخلص من الملك ، فقد ذكر السفير البريطاني [ باترسن ] في كتابه Both sides of Curtain حول تصرفات غازي ما يلي :
{ لقد أصبح واضحا للعيان أن الملك غازي إما يجب أن يُسيطر عليه، أو أن ُيخلع من العرش، وقد ألمحت إلى ذلك، وبهذا المقدار في زيارتي الوداعية للأمير عبد الإله }!!. (2)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيذكر في مذكراته [ فرسان العروبة] أن نوري السعيد الذي كان يقيم في القاهرة كان قد أرسل إليه، والى العقيد فهمي سعيد، ولده صباح، بعد مقتل بكر صدقي بأسبوعين ليستفسر منهما عما إذا كانا يريان قتل الملك غازي، وإلحاقه ببكر صدقي، وتخليص البلاد من عبثه أمرٌ ممكن !!.
وقد رد عليه فهمي سعيد بصوت جهوري قائلاً:
{ لا يا صباح لن يحدث هذا أبداً}.
 أما صلاح الدين الصباغ فقد رد عليه قائلاً:
{ أما بصد اغتيال الملك غازي، فنحن أبعد الناس إلى التطرق لمثل هذا العمل، ولا نسمح بأن يذكر أمامنا، ونصيحتي لكَ أن لا تكرر ما قلته لي وأن لا تفاتح به أحد بعد اليوم}. (3)
وجم صباح السعيد وتلعثم، وأدرك خطورة ما تفوه به أمام الصباغ وفهمي سعيد عن أفكار والده نوري السعيد.
وتطرق توفيق السويدي إلى نفس الموضع في مذكراته المعنونة [ نصف قرن من تاريخ العراق، والقضية العربية] قائلاً:
{أتذكر بهذا الصدد أنني عندما كنت في لندن،والتقيت بالمستر[ بتلر] وكيل وزير خارجية بريطانيا الدائم، وقد أبدى لي شكوى عنيفة من تصرفات الملك غازي فيما يتعلق بالدعاية الموجهة ضد الكويت من إذاعة قصر الزهور، وقال لي بصراحة:
{إن الملك غازي لا يملك القدرة على تقدير مواقفه لبساطة تفكيره، واندفاعه وراء توجيهات تأتيه من أشخاص مدسوسين عليه، إن الملك بعمله هذا يلعب بالنار، وأخشى أن يحرق أصابعه يوماً ما}. (4)
كما استدعى الملك غازي صباح اليوم التالي نائب رئيس الوزراء [ناجي شوكت] بحضور وزير الدفاع،  ووكيل رئيس أركان الجيش، ورئيس الديوان الملكي، وأبلغهم قراره باحتلال الكويت، لكن ناجي شوكت نصحه بالتريث، ولاسيما وأن رئيس الوزراء ما زال في لندن، وأبلغه أن العملية سوف تثير للعراق مشاكل جمة مع بريطانيا، والمملكة العربية السعودية وإيران، واستطاع ناجي شوكت أن يؤثر على قرار الملك غازي، وتم إرجاء تنفيذ عملية احتلال الكويت. (5)
فلما عاد نوري السعيد إلى بغداد، وعلم الأمر، سارع بالاتصال بالسفير البريطاني، وتداول معه عن خطط الملك غازي، فكان قرار الاثنان التخلص من الملك بأسرع وقت ممكن، وهذا ما صار بعد مدة وجيزة ،حيث جرى تدبير خطة لقتل الملك والتخلص منه، والمجيء بعبد الإله وصياً على العرش، نظراً لصغر سن ولده الوحيد [فيصل الثاني] الذي كان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات آنذاك. (6)
ثانياً : مقتل الملك غازي :
في صباح يوم الخامس من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه :
{ بمزيد من الحزن والألم، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية انتقال المغفور له سيد شباب البلاد [جلالة الملك غازي] الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة [نهر الخر]،بالقرب من [قصر الحارثية] في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس.
وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل، وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون}. (7)                                               
                                                      بغداد في 4 نيسان 1939
لم يكد خبر مقتل الملك غازي يصل إلى أسماع الشعب حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة اتجهت نحو السفارة البريطانية وهتافات التنديد بالإمبريالية البريطانية ورجل مهماتها الكبرى [نوري السعيد]  تشق عنان السماء، وامتدت المظاهرات الشعبية الهادرة إلى سائر المدن العراقية من أقصاه إلى أقصاه، وظهرت المنشورات التي وزعتها الجماهير، والتي تقول أن الملك لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد، وإنما قتل بعملية اغتيال دبرتها الإمبريالية البريطانية ورجالها، وعلى رأسهم نوري السعيد بالذات، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد في تلك اللحظات لفتكت فيه ومزقته إرباً، ولذلك فقد هرب نوري السعيد، بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية في الاعظمية، حيث استقل زورقاً بخارياً من المقبرة إلى داره في جانب الكرخ.
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين، هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد.
كان رد فعل الجماهير الشعبية في الموصل شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة، وتوجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل، المستر [مونك ميسن ]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد ، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري لمزقته.
لكن ما يؤسف له هو قيام الجماهير الغضبة بمهاجمة الحي اليهودي في بغداد والموصل، ووقوع عمليات النهب، وحرق مساكن اليهود.
 استغل نوري السعيد الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين. ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي يتضمن  تقريراً طبياَ صادراَ عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي :
{ ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول، في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3 / 4 نيسان 1939 متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدم سيارة صاحب الجلالة عندما كان يسوقها بنفسه  بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام ولم يسترجع وعيه حتى اللحظة الأخيرة}. (8)                                             
                                                            3 /4 نيسان 1939
 الدكتور جلال حمدي       الدكتور صبيح وهبي      الدكتور سندرسن
  الدكتور صائب شوكت             الدكتور أبراهام

   
وعلى اثر إعلان وفاة الملك غازي، تولى مجلس الوزراء حقوق الملك الدستورية، وفقاً للمادة 22 من الدستور، وجرى الإعلان عن تولى الملك فيصل الثاني الملك،على أن يسمى وصياً عليه، نظراً  لصغر سنه، بعد دعوة مجلس النواب الذي سبق أن صدرت الإرادة الملكية بحله، وقرر مجلس الوزراء تعين الأمير عبد الإله وصياً على العرش، وادعى نوري السعيد أن ذلك القرار كان  بموجب وصية الملك غازي نفسه،غير أنه لم يثبت أن هناك أي وصية من هذا القبيل، وكان معروفاً آنذاك أن الملك غازي كان يكره عبد الإله كرهاً شديداً، ولذلك فلا يعقل أن يوصي بالوصاية لعبد الإله ويأتمنه على طفله، كما أن الملك غازي كان حسبما ورد في التقرير الطبي قد فقد شعوره فوراً ولم يسترجعه حتى وفاته.
والحقيقة أن وصاية عبد الإله قد رتبت من قبل السفارة البريطانية وحكومة نوري السعيد. (9)
كما أن أحداً لم يقتنع بما أذاعته الحكومة عن اصطدام سيارة الملك ومقتله في الحادث، وهناك شواهد عديدة على أن الملك قد قتل نتيجة تدبير مؤامرة حبكتها السفارة البريطانية، وجرى تنفيذها من قبل نوري السعيد وعبد الإله، وأهم الشواهد على ذلك ما يلي:
‍1 ـ قبل مقتل الملك بتسعة أشهر، وبالتحديد في 18 حزيران 1938، وُجد خادم الملك غازي الشخصي مقتولاً داخل القصر، وجاء تقرير خبير التحريات الجنائية البريطاني أن القتل كان نتيجة إطلاق النار بالصدفة من مسدس القتيل نفسه ‍‍‍‍‍‍‍‍!!.
سبّب قتل الخادم رعباً في نفس الملك غازي لازمه لأيام، وبدأت الشكوك تنتابه حول مؤامرة لقتله فيما بعد، وكان شكّ الملك يحوم حول عبد الإله ونوري السعيد، وزوجته الملكة عالية ـ شقيقة عبد الإله ـ المنفصل عنها بصورة غير رسمية، وكانت تضمر له الكراهية والحقد. (10)
2ـ إن أي حادث لسيارة يؤدي إلى الوفاة،لابد أن تكون إصابة السيارة شديدة وكبيرة، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماماً، فقد كانت الأضرار التي لحقت بالسيارة طفيفة جداً، وهذا ما يثير الشكوك حول حقيقة مقتل الملك.
3ـ كان بمعية الملك في السيارة كل من خادمه، وهو شقيق الخادم السابق القتيل، وعامل اللاسلكي، جالسين في المقعد الخلفي بالسيارة، ولكنهما اختفيا في ظروف غامضة، ولم يعرف أحد عن مصيرهما نهائياً، وقد أثارت عملية اختفائهما شكوكاً كبيرة حول مقتل الملك، وحول صدقيه حادث الاصطدام، واستمرت تلك الشكوك تحوم حول عبد الإله ونوري السعيد والسفارة البريطانية.
فقد ذكر الفريق نور الدين محمود، الذي كان قد شغل منصب رئيس أركان الجيش ثم رئيساً للوزراء عام 1952 حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
 { إنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث}. (11)
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيقول في مذكراته:
{ قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939 وهو في السابعة والعشرين من عمره}. (12)
ويقول الأستاذ [ جان ولف ] في كتابه [ يقظة العالم العربي ] :
{ مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دونما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة،  فتعالى الهمس في بغداد بين أبناء الشعب متهمين بعض الجهات بتدبير الحادث}. (13)
وقال الأستاذ  [كارتاكوز ] في كتابه [ ثورة العراق ] ما يلي :
{ لعل مأثرته الرئيسية ـ يقصد الملك غازي ـ انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف في حادث سيارة يٌعتقد أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه}. (14)
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ [عبد الرزاق الحسني] مؤلف تاريخ الوزارات العراقية في 8 نيسان 1975 بالدكتور [صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص، وأول من قام بفحصه قبل وفاته، وسأله عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي:
{ كنت أول من فحص الملك غازي  بناء على طلب السيدين [نوري السعيد] و[رستم حيدر]  لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء. وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر، والذي كان معه في السيارة  لتنفيذ عملية الاغتيال.
فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمت بإعادته إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك ليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى اليوم. (15)
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد [ ناجي شوكت ] الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك وسأله عن حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
{ لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، و رستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي}. (16)
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي، وتم نقل جثمانه إلى المقبرة الملكية في الأعظمية، في الساعة الثامنة من صباح يوم الخامس من نيسان على عربة مدفع، وسط موجة من الهياج اجتاحت جماهير بغداد الغاضبة، والمنددة بالاستعمار البريطاني وأعوانه القتلة، وانهمك المتآمرون بعد دفنه، بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد.
ثالثاً: فيصل الثاني ملكاً، وعبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد:
كان مقتل الملك غازي هو الجانب الأول من مؤامرة نوري السعيد وأسياده الإنكليز، وكان الجانب الثاني يتمثل بتنصيب عبد الإله وصياً على العرش وولياً للعهد. فمنذ الساعات الأولى لمقتل الملك غازي عمل نوري السعيد جاهداً ليقنع مجلسا النواب والأعيان، والشعب العراق بما ادعاه بوصية مزعومة للملك غازي بتكليف عبد الإله بالوصاية على العرش فيما إذا حصل له أي مكروه له.
 إلا أن[ طه الهاشمي] قال في مذكراته:
{أن الوصية التي عزاها نوري السعيد إلى الملك غازي كانت مزيفة دون شك }. (17)
أما وزير الدولة السيد [ علي الشرقي ] فيقول في كتابه [الأحلام ] ما يلي: { أوعز نوري السعيد إلى الملكة عالية أن ترفع كتاباً إلى مجلس الوزراء المنعقد للنظر في إقامة وصي على العرش  تشهد فيه أن الملك غازي قد أوصاها أن يكون عبد الإله وصياً على العرش إذا ما حدث له أي مكره}. (18)
وقال السفير البريطاني [ سندرسن ] في كتابه [Both Side of Curtain]:
{ كان معروفاً أيضاً أن الإنكليز كانوا يميلون إلى عبد الإله أكثر من ميلهم إلى الملك غازي }. (19)
ويقول الدكتور [ صائب شوكت ] طبيب الملك غازي الخاص ما يلي:.
 إنه عندما تأكد من وفاة الملك غازي، كان عبد الإله وتحسين قدري بالقرب مني. دنا تحسين قدري مني وهمس في آذني أن الأمير عبد الإله يرجوك بأن تقول بأن الملك أوصاك قبل وفاته بأن يكون عبد الإله وصياً على ولده الصغير فيصل، ولكني رفضت ذلك رفضاً قاطعاً قائلاً له:
إن الملك غازي كان فاقداً الوعي فور وقوع الحادث وحتى  وفاته}.(20)
ويقول طبيب الملك البريطاني [ سندرسن ] في كتابه المعنون:
[Thousand and One Night] حول مقتل الملك :
{ في خلال 20 دقيقة من وفاة الملك غازي طلب إليّ[ رستم حيدر] أن أعلن أن الملك غازي قبل أن يموت قد عّبر عن رغبته بأن يتولى عبد الإله السلطة كوصي على العرش،غير أني رفضت أن أفعل ذلك، لأن الملك لم يستعيد وعيه لحظة واحدة، وحتى لو ارتكبت جريمة مثل هذا الإدعاء الكاذب فلابد أن يكون هناك الكثير من المستعدين لتكذيبه}. (21)
ورغم كل ذلك فقد اجتمع مجلس الوزراء، واتخذ قراره بتولي عبد الإله الوصاية على العرش وولاية العهد، ودعا نوري السعيد مجلسا النواب والأعيان إلى عقد جلسة مشتركة في يوم الخميس المصادف 6 نيسان 1939، وكان عدد الحاضرين  122عضواً فقط من مجموع المجلسين، وكلهم من مؤيدي نوري السعيد، حيث قاطع الجلسة عدد كبير من النواب والأعيان لكي لا يكونوا شاهدي زور على جريمة الاغتيال، وقد عرض عليهم نوري السعيد قرار مجلس الوزراء، وتمت الموافقة عليه بإجماع الحاضرين، وبذلك تم تنصيب عبد الإله وصياً على العرش ،وولياً للعهد.
رابعاً: نوري السعيد يقدم استقالة حكومته،وتكليفه من جديد
على اثر انتخاب عبد الإله وصياً على العرش، قدم نوري السعيد استقالة حكومته في 6 نيسان 1939، وتم قبول الاستقالة، وعلى الفور كلف عبد الإله نوري السعيد من جديد بتأليف الوزارة التي جاءت على الشكل التالي:
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية .
2 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للداخلية.
3 ـ رستم حيدر ـ وزيراً للمالية .
4 ـ محمود صبحي الدفتري ـ وزيراً للعدلية .
5 ـ طه الهاشمي ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ عمر نظمي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
7 ـ صالح جبر ـ وزيراً للمعارف .
وهكذا جاءت الوزارة من نفس الأعضاء السابقين باستثناء إضافة ناجي شوكت لوزارة الداخلية، حيث استوزره نوري السعيد لكونه شقيق طبيب الملك غازي الخاص[ صائب شوكت] لكي يأمن من عدم فضح صائب شوكت لدوره في مقتل الملك غازي، وفرض عبد الإله وصياً على العرش بأساليب الكذب والافتراء. (22)
خامساً: السعيد يحل البرلمان ويجري انتخابات جديدة:
كانت أولى المهام التي أخذ نوري السعيد على عاتقه تحقيقها هي إجراء انتخابات جديدة. فقد سبق أن حصل إرادة ملكية بحل البرلمان في أواخر أيام الملك غازي، لكي يؤمن لوزارته الأغلبية المطلقة، ويصبح طليق اليدين للمهمات الخطيرة التالية، والتي كان على رأسها مشروعه للتآمر على سوريا، ومحاولة ضمها إلى العراق. وبعد أن تم له ما أراد وأجرى الانتخابات في 29 نيسان  1939  بأسلوبه المعروف في التزوير والممارسات غير المشروعة، وجاء بالمجلس كما يريده، عقد المجس أولى جلساته في 12 حزيران بحضور عبد الإله، الذي ألقى خطاب العرش لأول مرة، ودافع في ذلك الخطاب عن إجراءات نوري السعيد ضد حكمت سليمان، والضباط الموالين للفريق بكر صدقي، بدعوى وجود المؤامرة السالفة الذكر.  كما برر إعلان الأحكام العرفية في الموصل، إثر مقتل القنصل البريطاني فيها، بعد إعلان مقتل الملك غازي، وإحالة أعداد كبيرة من المواطنين الموصليين إلى المجالس العرفية التي أصدرت بحقهم الأحكام الجائرة والقاسية، والتي وصلت إلى حد الحكم بالإعدام على بعضهم. كما برر عبد الإله لجوء نوري السعيد إلى حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات جديدة.
سادساً:السعيد وعبد الإله يتآمران على سوريا لضمها للعراق
بعد أن انتهى نوري السعيد من الانتخابات، وأمّن له الأغلبية المطلقة في المجلس أنصرف إلى المهمة الأساسية والخطيرة، إلا وهي مشروعه للتآمر على سوريا ومحاولة ضمها إلى العراق بالقوة.
 كان باكورة مشروعه تكليف وزير الداخلية[ ناجي شوكت]  بالسفر إلى تركيا، واستطلاع موقفها من مشروعه، وبالفعل غادر ناجي شوكت إلى تركيا، وأجرى محادثات مع أركان الحكومة التركية حول المشروع، ولم تعارض الحكومة التركية رغبة نوري السعيد بضم سوريا، بعد أن ضمنت لنفسها ضم لواء الاسكندرون السوري إليها. (23)
وفي الوقت الذي كان ناجي شوكت في تركيا يجري مباحثاته مع الحكومة التركية،أجرى نوري السعيد تعديلاً على وزارته،  أخرج بموجبه ناجي شوكت من وزارة الداخلية وأسندها لنفسه، كما أسند وزارة الخارجية التي كانت بعهدته إلى [علي جودت الأيوبي ]، وهكذا تخلص نوري السعيد من ناجي شوكت، ولما يمضي على تشكيل الوزارة سوى أيام قلائل، وهذا ما يؤكد كون نوري السعيد استوزر[ ناجي شوكت] حينذاك لغرض في نفسه. (24)
وفي 10 تموز من ذلك العام قُتل مدير الشرطة العام [ هاشم العلوي ] في الرطبة،عندما كان في طريقه إلى لبنان، وأحيط مقتله بظروف غامضة، حيث قالت الحكومة أنه انتحر، ولكن الحقيقة التي كان يتداولها العارفون ببواطن الأمور آنذاك يقولون أن هاشم العلوي كان يعرف أسرار مقتل الملك غازي، وأراد نوري السعيد أن يتخلص منه بأسرع وقت خوفاً من أن  يقوم بإفشاء تلك الأسرار لدى وصوله إلى لبنان، نظراً لكونه كان يشغل أعلى منصب أمني في البلاد، وانه كان مطلعاً على كل شيء. (25)
التوثيق
 (1)مذكرات طه الهاشمي ـ ص 200 .
Both side of  Curtain(2)   ـ ص 150 ـ موريس باترسن سفير بريطانيا في العراق
(3)فرسان العروبة ـ ص 90 صلاح الدين الصباغ .
(4)مذكرات طه الهاشمي ـ ص 300 .
(5)مذكرات توفيق السويدي ـ نصف قرن تاريخ العراق ـ ص 326 .
(6)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 76 ـ عبد الرزاق الحسني .
(7)المصدر السابق ـ ص77 .
(8)نفس المصدر ـ ص78 .
(9)حديث الدكتور صائب شوكت ـ طبيب الملك غازي مع الحسني في 8 نيسان 1975 .
(10)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 79 ـ عبد الرزاق الحسني .
(11)فرسان العروبة ـ ص 87 ـ صلاح الدين الصباغ .
(12)المصدر السابق ـ ص 87 .
(13)يقظة العالم العربي ـ ص 120 ـ جان ولف .
(14)ثورة العراق ـ ص 32 ـ كارتاكوز .
(15)تصريح صائب شوكت لعبد الرزاق الحسني ـ ت ، ز ، ع ، ص 79 .
(16)تصريح ناجي شوكت ـ وزير الداخلية ـ لعبد الرزاق الحسني ـ ت ، و ، ع ، الجزء  الخامس ، صحيفة 81 ـ
(17)مذكرات طه الهاشمي ـ ص 241 .
(18)كتاب الأحلام ـ ص 170 ـ علي الشرقي .
(19)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 79 .
(20)نفس المصدر السابق .
(21)الف ليلة وليلة ـ ص 170 ـ طبيب الملك غازي سندرسن .
(22)مذكرات طه الهاشمي ـ ص 305 .
(23) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 90 ـ عبد الرزاق الحسني
(24)نفس المصدر .



415
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة السادسة

حامد الحمداني                                                          2/9/2008
أولاً: انقلاب بكر صدقي والأحداث التي رافقته:
 نبذة عن حياة بكر صدقي:
ولد بكر صدقي عام 1866، ودرس في الأستانة في المدرسة الحربية وتخرج منها ضابطا في الجيش العثماني، انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه المحتلون في 6 كانون الثاني 1921 برتبة ملازم أول.
رغم كون بكر صدقي من أبوين كرديين فقد كانت له ميول قومية عربية، ولذلك فقد تلقفه أنصار القومية العربية من الطبقة العراقية الحاكمة، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن في عهد الملك غازي، واشتهر بالقسوة والعنف عندما قاد الجيش العراقي ضد ثورة الآشوريين عام 1933،على عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد الحركة البار زانية، وضد ثورة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك السيد حكمت سليمان الذي أحبه كثيراً.
اشتد الصراع بين وزارة [يسين الهاشمي] الثانية والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان بكر صدقي الذي شغل منصب قائد الفرقة العسكرية الثانية يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف [حكمت سليمان ]، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقادها للتأييد الشعبي، واختمرت لدى بكر صدقي فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري بالتعاون مع الفريق [عبد اللطيف نوري ] قائد الفرقة الأولى الذي كانت تربطه معه علاقات وثيقة. (1)
 واستطاع الاثنان أن يضما إلى صفهما قائد القوة الجوية العقيد [محمد على جواد]، وسارت الأمور بتكتم شديد، مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها، وعندما جاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936 وجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه الفرصة، فقد كانت خطة المناورات تقتضي  إجراءها فوق [جبال حمرين]، في المنطقة  الواقعة بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد، فيما تكون الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي في موقع الهجوم .
 وفي 29 تموز 1936 سافر رئيس أركان الجيش الفريق [يسين الهاشمي] شقيق رئيس الوزراء، في مهمة إلى خارج العراق، وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري، مما سهل على الانقلابيين الأمر كثيراً.
كان موعد المناورات قد حُدد يوم 3 تشرين الأول 1936 ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر بكر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات.
وفي يوم الثلاثاء المصادف 27 تشرين الأول جرى لقاء قبل التحرك بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، واتفقا على موعد تنفيذ الانقلاب وتفاصيل الخطة، وجرى الاتفاق على تسمية حركتهم [ القوة الوطنية الإصلاحية]،وطلبا من السيد [كامل الجادرجي ] إعداد مذكرة إلى الملك غازي يطلبان فيها إقالة حكومة [يسين الهاشمي] وتكليف السيد [حكمت سليمان] بتأليف الوزارة. كما تم إعداد بيان الانقلاب، وجرى إعداد عدد من الطائرات بقيادة العقيد [ محمد علي جواد ]، وبذلك أصبح كل شيء جاهزاً لتنفيذ الانقلاب. (2)
ففي ليلة الخميس المصادف 27 تشرين الأول 1936 زحفت قوات الجيش إلى بعقوبة، حيث وصلتها صباح اليوم التالي ، وقامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد، واستولت على دوائر البريد والتلفون، وعدد من المواقع الإستراتيجية في المدينة، ثم واصلت القوات زحفها نحو بغداد في الساعة السابعة والنصف صباحاً بقيادة بكر صدقي.
وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهرت في سماء بغداد 3 طائرات حربية، وكان يقودها العقيد محمد علي جواد واثنين من رفاقه الضباط، وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب، والذي دعا الملك غازي إلى إقالة حكومة [ يسين الهاشمي] وتكليف السيد [حكمت سليمان] بتشكيل وزارة جديدة. 
وفي الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل السيد حكمت سليمان سيارته إلى قصر الزهور حاملاً إلى الملك غازي المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك لإقالة  وزارة ياسين الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي السيد[ رستم   حيدر]. (4)
وما أن بلغ نبأ الانقلاب[ يسين الهاشمي] حتى بادر إلى الاتصال ببكر صدقي الذي أبلغه خلال محادثته بالتلفون أن الملك غازي على علم بالانقلاب، ولم يكد يسين الهاشمي ينهي المكالمة التلفونية مع بكر صدقي حتى سارع للتوجه إلى قصر الزهور لمقابلة الملك، وتدارس الأمر معه.
سلم [ رستم حيدر] المذكرة إلى الملك غازي، وكان يبدو على وجهه الذهول والاضطراب، وعلى الفور طلب الملك استدعاء كل من [يسين الهاشمي] و[جعفر العسكري] وزير الدفاع، و[نوري السعيد] وزير الخارجية، والسفير البريطاني لتدارس الوضع.
 وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي، وسأله إن كان على علم مسبق بالانقلاب، لكن الملك نفى ذلك.
وتحدث يسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة، فأن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابيين، وإلا فأنه سيقدم استقالة حكومته. (5)
أما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير البريطاني أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث مالا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.(6)
مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بإلقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، ودائرة البريد القريبة من مسكن يسين الهاشمي، ودار البرلمان واضطرت الحكومة إلى تقديم استقالتها للملك في 29 تشرين الأول 1936،وتم قبول الاستقالة، وسارع الملك غازي إلى الطلب من السيد حكمت سليمان  بتأليف الوزارة الجديدة بناء على طلب الانقلابيين، لكن حكمت سليمان طلب من الملك أن يوجه إليه تكليفاً خطياً لكي يشكل الوزارة. (7)
وفي الوقت الذي قدمت الحكومة  استقالتها إلى الملك فأنها عملت على إفشال الانقلاب. فقد بعث [جعفر العسكري] إلى عدد من قادة الجيش داعياً إياهم للتحرك لحماية بغداد إلا أن تلك الرسائل لم تستطيع أن تفعل شيئا.

ثانيا: مقتل جعفر العسكري، وهروب نوري السعيد:
حاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيين نحو بغداد، فاتصل ببكر صدقي، وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته، وأنه يحمل رسالة من الملك. كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري، صهر نوري السعيد، والرجل القوي في الوزارة، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله. ولما وصل خبر مقتله إلى نوري السعيد سارع إلى اللجوء للسفارةالبريطانية التي استطاعت تهريبه إلى خارج العراق. (7)
استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد،  حيث وصلت أبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر فلم يجد الملك بُداً من توجيه خطاب التكليف إلى السيد[ حكمت سليمان ] في 29 تشرين الأول. وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد، دون أن تلقى أي مقاومة، وكان [حكمت سليمان] قد عقد قبل يومين اجتماعا في دار السيد[ كامل الجادرجي ] ضم السادة [جعفر أبو التمن] و[ محمد حديد ] لوضع قائمة بأسماء أعضاء الوزارة في حالة نجاح الانقلاب، وقد طرح في الاجتماع اقتراح حول اختيار [نوري السعيد ] في منصب وزاري لتطمين الإنكليز، لكن الاقتراح لم يلقَ القبول، فقد عارضه السيدان جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، واقترح بدلا منه السيد [صالح جبر] .
أتم الانقلابيون تشكيل وزارتهم، وصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءا،ً وجاءت على الوجه التالي :
1 ـ حكمت سليمان ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ جعفر أبو التمن ـ وزيراً للمالية .
3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للعدلية .
4 ـ ناجي الأصيل ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ كامل الجادرجي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
7 ـ يوسف إبراهيم ـ وزيراً للمعارف .
 أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من طه الهاشمي الذي أحيل على التقاعد.
أما يسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد فقد غادروا العراق على الفور، وبمساعدة السفارة البريطانية، خوفاً من بطش بكر صدقي.
أسرع السفير البريطاني إلى لقاء[ الملك غازي] و[حكمت سليمان] ليقف على ما تنوي الوزارة عمله، وقد طمأنه حكمت سليمان بأن الوزارة تحترم تعهدات العراق، وتسعى للنهوض بالبلاد، في كافة المجالات، كما لقي السفير من الملك كل ما يطمئن الحكومة البريطانية.
أراد بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية[ يسين الهاشمي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني]،إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة.
كان من أولى المهام بالنسبة للوزارة الجديدة تثبيت سلطتها، حيث لجأت إلى إجراء تغيرات واسعة في أجهزة السلطة الإدارية، والدبلوماسية، وإبعاد كافة العناصر المؤيدة للوزارة السابقة.
وفي الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعو فيها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي، والعمل على رفع  مستوى معيشة الشعب، وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد. ولم تقتصر المظاهرات على بغداد فقط  بل امتدت إلى سائر المدن العراقية.
و بعد أن ثبتت الحكومة أقدامها، وبسطت سلطتها على كافة أنحاء البلاد أقدمت على حل المجلس النيابي الذي جرى انتخابه على عهد الحكومة السابقة، واستصدرت الإرادة الملكية بحله في 31 تشرين الأول 1936 تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
وفي الوقت نفسه تقدمت الحكومة بمنهاجها الوزاري الذي أكد على تعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه، ومع بريطانيا، لما فيه مصلحة الأطراف جميعاً، وتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، وتحسين أدائه، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وتحسين أحواله الصحية والثقافية، وتوسيع الخدمات العامة، وتنظيم السجون، وجعلها أداة إصلاح للمسجونين، والعمل على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وتلافي العجز في الميزانية، وتطوير الزراعة والصناعة في البلاد، وإصلاح الجهاز القضائي، وإعادة النظر في القوانين والمراسيم التي أصدرتها الوزارات السابقة.
كما أكد المنهاج على تقوية الجيش، وتدريبه وتسليحه، ليكون سياجاً حقيقياً للوطن، وإصلاح جهاز التعليم، وتوسيع معاهد المعلمين، وفتح المزيد من المدارس، وإلغاء أجور الدراسة المتوسطة والثانوية وجعلها مجانية، وبناء المزيد من المدارس.
 وفي واقع الأمر كان لدى الوزارة الجديدة خططاً طموحة لتغير وجه العراق، فقد أطلقت سراح المسجونين الذين أدانتهم المجالس العرفية، وأعادت كافة الأموال المصادرة منهم، كما أعادت كافة الصحف التي أغلقتها الوزارات السابقة، وسمحت بدخول الكثير من الكتب التقدمية التي كانت ممنوعة في العهود السابقة، وإعادة الموظفين المفصولين لأسباب سياسية إلى وظائفهم، وأصدرت الحكومة قانون العفو العام .
لكن بكر صدقي بعد أن أحكم سيطرته على مقدرات البلاد استهوته شهوة الحكم، وأراد أن يحكم من وراء الستار، متجاوزاً حلفائه الإصلاحيين [حزب الإصلاح الشعبي ] الذين يمثلون الأغلبية في الوزارة، وكان باكورة خطواته الطريقة التي جرى فيها انتخاب مجلس النواب.
 فقد عقد بكر صدقي مع فريقاً من ضباطه، وعدد من القوميين اجتماعاً في داره لوضع الترتيبات للانتخابات، وإعداد قوائم المرشحين، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين، وجاءت قوائم المرشحين في معظمها من  المؤيدين لبكر صدقي شخصياً، فيما كانت حصة الإصلاحيين أقل بكثير، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937، وجاءت النتيجة كما خطط لها بكر صدقي سلفاً.
كان منهاج حزب الإصلاح الشعبي يرمي إلى إجراء تغيرات شاملة في حياة الشعب العراقي مستهدفاً إجراء إصلاح حقيقي سياسي واجتماعي، واقتصادي شامل في البلاد، وإعادة توزيع الثروة بصورة عادلة.
  وتفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين، التقليل من الفروق الطبقية بين أبناء الشعب، وإطلاق كافة الحريات الديمقراطية، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة وضمان حقوق الشعب، وحرياته العامة.
وقد لقي منهاج الحزب هذا دعما كبيراً من الحزب الشيوعي، ومن عدد كبير من صغار الضباط، ولعب الحزب الشيوعي دوراً بارزاً في تحريك الجماهير للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم العامة.
لكن بكر صدقي أراد أن يجعل من نفسه [ أتاتورك العراق ]، ويحكم البلاد على هواه، وقد ظهر فيما بعد أن تقرب بكر صدقي من الإصلاحيين وضمهم إلى الوزارة كان يهدف من ورائه استخدامهم وسيلة للوثوب إلى السلطة المطلقة، فلما أدرك الاصلاحيون أن الحكومة لا تحكم، وأن الحاكم الحقيقي هو بكر صدقي، فلم يكن أمامهم سوى تقديم استقالتهم من الوزارة، وخصوصاً بعد أن أقدم بكر صدقي على استخدام القوة العسكرية ضد انتفاضة العشائر في السماوة في 13 حزيران 1937، ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، حيث قضت تلك الأحداث على آخر أمل للإصلاحيين من البقاء في الحكم، فأقدم السادة [جعفر أبو التمن] و[كامل الجادرجي] و[يوسف عز الدين] على الاستقالة من الحكومة، وقد تضامن معهم [صالح جبر] وقدم استقالته من الحكومة أيضاً، فلم يبقَ في الوزارة سوى وزيرين فقط هما [عبد اللطيف نوري ] و[ ناجي الأصيل ]. (8)
وفي الوقت الذي استقال الاصلاحيون من الوزارة، أخذ الاستقلاليون [القوميون] يتصلون ببكر صدقي، ويحرضونه على العناصر الماركسية واليسارية التي أخذت شوكتها تشتد، أعربوا له عن استعدادهم الكامل لدعمه إذا ما وقف ضد هذا التيار الجديد، والعمل على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وإبعاد تلك العناصر من البرلمان الجديد.
وقد وعدهم بكر صدقي بتحقيق ذلك، وتم ترقيع الوزارة بتاريخ 24 حزيران 1937، حيث دخل الوزارة كل من محمد علي محمود، وعباس مهدي، وعلي محمود الشيخ علي، وجعفر حمندي ومصطفى العمري.

ثالثاً: مقتل بكر صدقي وإسقاط حكومة حكمت سليمان
أصيب الشعب العراقي بخيبة أمل كبيرة، بعد أن تبين له أن كل ما يهم بكر صدقي هو السلطة، متناسياً ما وعد به الشعب. وجاءت استقالة الوزراء الإصلاحيين من الوزارة لتزيد من انعزال حكومة بكر صدقي عن الشعب، وسحب الثقة بها، وبذلك فقد بكر صدقي وحكومته أهم عامل دعم وإسناد وهو الشعب.
كان الإنكليز ورجالاتهم من الساسة العراقيين يراقبون الأمور عن كثب ويتحينون الفرصة للانقضاض على الانقلابيين، فقد كان قلق الإنكليز يزداد يوماً بعد يوم ،من توجهات بكر صدقي، وجاء زواج بكر صدقي من إحدى الغانيات الألمانيات ليزيد من قلق الإنكليز، خوفاً من تقربه من ألمانيا، وأخيراً أخذت الأخبار تتوارد إلى السفارة البريطانية عن عزم بكر صدقي احتلال الكويت، مما زاد في قلق الحكومة البريطانية، ودفعها إلى التعجيل في تحركها للخلاص منه بأسرع وقت ممكن.
 وجاءت الفرصة المناسبة عند ما قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، واتخذ الإنكليز قرارهم بتصفيته، وهو في طريقه إلى تركيا.
غادر بكر صدقي بغداد في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد [محمد علي جواد] قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار، لكنه أحس بوجود مؤامرة ضده وقرر السفر بالطائرة.
وصل بكر صدقي إلى الموصل، ونزل في دار الضيافة، وبصحبته محمد علي جواد، وقد وجد المتآمرون فرصتهم في الإجهاز عليه في الموصل، حينما انتقل بكر صدقي إلى حديقة مطعم المطار  البعيد والمنعزل، وبينما كان بكر صدقي جالساً في الحديقة مع قائد القوة الجوية محمد علي جواد، والمقدم الطيار[ موسى علي ] آمر القاعدة الجوية بالموصل يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نائب العريف [ عبد الله التلعفري ] نحوهم، ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدساً تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي، اخرج مسدسه وصوبه نحو جمجمته، وأطلق النار عليه فقتل في الحال، ثم أقدم العريف على إطلاق النار على العقيد محمد علي جواد وقتله أيضاً.
وتم إلقاء القبض على القاتل، وأوسع ضرباً، وقد أعترف بأن الذي جاء به لينفذ الجريمة هو الضابط [ محمود هندي ] الذي اختفى بعد مقتل بكر صدقي، ورفيقه محمد علي جواد، وتبين فيما بعد أن المتآمرين قد هيئوا عدة مجموعات لقتل بكر صدقي، ووزعوها على[كركوك] و[التون كوبري] و [أربيل ] و[الموصل ]، على احتمال أن بكر صدقي سوف يمر من إحدى هذه الطرق في طريقه إلى تركيا، وقيل أن العقيد [ فهمي سعيد] كان لولب الحركة، وأن الضابط [محمود خورشيد] هو الدماغ المفكر لعملية تنفيذ الاغتيال، وسرت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل، هو الذي دبر عملية الاغتيال، وكان المقدم الطيار[ موسى علي] آمر القاعدة الجوية بالموصل قد تحدث إلى السيد عبد الرزاق الحسني بأن المقدم محمد علي جواد قائد القوة الجوية والساعد الأيمن لصدقي كان قد أبلغه بأن الإنكليز يرمون قتل بكر صدقي.(9)
حاولت الحكومة إجراء تحقيق واسع لمعرفة الذين كانوا وراء عملية الاغتيال، وقد أرسلت لجنة تحقيقية إلى الموصل برئاسة نائب المدعي العام [ أنطوان لوقا ] حيث باشر في إجراء التحقيقات التي أخذت تتوسع شيئاً فشيئاً، مما أثار خوف وقلق الضباط المشاركين في المؤامرة من أن تصل التحقيقات إليهم، فأعلن أمر حامية الموصل اللواء [أمين العمري] العصيان على بغداد، واعتقال نائب المدعي العام، وجرى تمزيق أوراق التحقيق.
 كما جرى تسريح كافة الضباط الموالين لبكر صدقي وللحكومة في بغداد، وأصدر بياناً يعلن فيه انفصاله عن حكومة بغداد. (10)
ورغم اتصال الملك غازي بأمين العمري، ودعوته له لإطاعة أوامر القيادة العسكرية، إلا أن الانقلابيين أصروا على موقفهم، وطالبوا الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة[ جميل المدفعي ] ، كما رفضوا تسليم الضباط المتهمين بمؤامرة اغتيال بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد.
حاولت الحكومة بدفع من الضباط الموالين لبكر صدقي الزحف بالفرقة الثانية في كركوك إلى الموصل لإخضاع المتمردين على الحكومة، لكنها لم تستطع ذلك. ومن جهة أخرى حاول اللواء أمين العمري استمالة عدد من الوحدات العسكرية الأخرى إلى جانبه، واستطاع الحصول على دعم آمر معسكر الوشاش في بغداد [سعيد التكريتي ] وساعده الأيمن المقدم  [صلاح الدين الصباغ ]، كما انضم إليهم آمر حامية الديوانية .
وهكذا بدا أن الجيش قد انقسم على نفسه، وأن الأمور قد باتت خطيرة جداً تنذر بوقوع حرب أهلية يكون عمادها الجيش، ولذلك اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها للملك غازي في 17 آب 1937، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.
وسارع الملك غازي إلى تكليف[جميل المدفعي] بتأليف الوزارة الجديدة، وكان واضحا أن التكليف جرى بضغط من السفارة البريطانية، وزمرة أمين العمري التي دبرت مؤامرة اغتيال بكر صدقي، حيث طالب أمين العمري الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتكليف المدفعي بتأليف وزارة جديدة، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف المدفعي في 19 آب 1937 .
وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أعلن المتمردون في الموصل إنهاء تمردهم، وعادت الأمور إلى مجراها بعد أن تم التخلص من بكر صدقي وحكومته، وهكذا تبين أن مقتل بكر صدقي لم يكن مجرد حادث فردي، وإنما هو انقلاب عسكري جرى تدبيره بتخطيط من الإمبرياليين البريطانيين وأزلامهم العسكريين والسياسيين، وكانت تلوح رائحة الانتقام من كل العناصر التي ساهمت وساندت وأيدت انقلاب بكر صدقي، وكان على رأس أولئك المتعطشين للانتقام نوري السعيد، والذي وصل به الأمر إلى اتهام الملك غازي بالتواطؤ مع بكر صدقي.

رابعاً: نوري السعيد يتآمر لإسقاط حكومة المدفعي:
كان نوري السعيد كما ذكرنا قد هرب حال سماعه بتقدم قوات الانقلابيين نحو بغداد، ومقتل صهره وزير الدفاع [جعفر العسكري]، والتجأ إلى السفارة البريطانية التي قامت بدورها بنقله خفية في سيارة السفارة ممداً في الحوض الخلفي للسيارة وقد غطي بالسجادة لإخفائه عن الأنظار، كما جاء في كتاب [ دي غوري ] ثلاث ملوك في بغداد،الصفحة 157 حيث تم نقله إلى قاعدة الهنيدي [ معسكر الرشيد] حالياً، ومنها تم نقله بطائرة بريطانية إلى القاهرة، حيث مكث فيها فترة من الزمن، ثم انتقل إلى [لندن]، وهناك قام السعيد بنشاطات واسعة واتصالات مع المسؤولين البريطانيين للعمل على التخلص من بكر صدقي وحكومة حكمت سليمان ،وعندما جرى اغتيال بكر صدقي، وتم إسقاط حكومة حكمت سليمان، وجرى تكليف السيد[ جميل المدفعي] بتأليف الوزارة، حاول نوري السعيد العودة إلى بغداد، وفي ذهنه تسلم السلطة، والانتقام من الانقلابيين، والضغط على جميل المدفعي من أجل استقالة حكومته مستعيناً بثلاثة من كبار قادة الجيش، وهم العقيد [صلاح الدين الصباغ ] و[العقيد فهمي سعيد] و[الفريق طه الهاشمي]، وقد رفض الملك غازي والسيد جميل المدفعي عودته، وطلبا من السفارة البريطانية تأخير عودته لفترة من الزمن ريثما تهدأ الأوضاع، ويتم تجاوز أحداث الانقلاب، وقد أجرى السعيد اتصالات مع العقيدين صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد عن طريق ولده صباح من أجل التوسط لدى المدفعي لتسهيل عودته، وقد تمكن العقداء من إقناع المدفعي شرط أن يمتنع السعيد عن ممارسة أي نشاط ضد الحكومة.
 عاد السعيد إلى بغداد في 25 تشرين الأول 1937وهو متعطش للانتقام من قتلة صهره جعفر العسكري، وتشريده وإبعاده عن السلطة. (11)
ولم يمضِ سوى خمسة أيام على عودته حتى باشر في حبك المؤامرات محرضاً العقداء الأربعة قادة الجيش لإزاحة حكومة المدفعي، فما كان من المدفعي إلا أن توجه إلى السفير البريطاني يشكوه من تصرفات نوري السعيد، وطلب منه أبعاده إلى خارج العراق في الوقت الحاضر على الأقل، أو القبول بمنصب وزير العراق المفوض في لندن. وبالفعل أوعز السفير البريطاني للسعيد بمغادرة البلاد، حيث بقي بعيداً عن العراق حتى تشرين الأول 1938.
 قامت الوزارة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش المحسوبين على بكر صدقي على التقاعد، وعينت آخرين بدلاً منهم. كما شنت الحكومة في 18 تشرين الثاني حملة شعواء ضد المشتبه بقيامهم بنشاط شيوعي وأحالتهم إلى المحاكم التي أصدرت أحكاما بالسجن ضد معظمهم .
وفي 18 كانون الأول باشرت الحكومة بإجراء الانتخابات البرلمانية بنفس الأسلوب الذي درجت عليه الوزارات السابقة، حيث تقوم الحكومة بترشيح العناصر المؤيدة لها، وتفرضهم على المنتخبين الثانويين فرضاً، وبذلك استطاعت الحكومة إبعاد كل العناصر اليسارية عن المجلس الجديد، كما جرى أبعاد جميع العناصر العسكرية أيضاً.

خامساً:إسقاط حكومة المدفعي بضغط من العسكريين:
منذ أن عاد[ نوري السعيد] و[طه الهاشمي] إلى العراق، بعد أن ثبّت حكومة المدفعي مركزها في الحكم، أخذا يمارسان الضغط على الحكومة لمحاكمة رجالات الانقلاب، والحكم بإعدامهم، لكن حكومة المدفعي لم تكن ترى من مصلحة البلاد اللجوء إلى ذلك، وبالتالي عارضته بشدة. وبسبب هذا الموقف سعى كل من السعيد وطه الهاشمي إلى إسقاط الحكومة بالقوة، مستعينان بما عرف بالعقداء الأربعة، قادة الجيش الذين أخذ دورهم في الحياة السياسية يتنامى في أعقاب الدور الذي لعبوه في إسقاط حكومة حكمت سليمان، وهم كل من [صلاح الدين الصباغ ] و[فهمي سعيد] و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] ،وقد انضم إلى جانبهم عدد من الضباط
الناقمين على بكر صدقي.
شعر جميل المدفعي بما يدبره له نوري السعيد، وطه الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني من مكيدة، فسارع إلى نفي الكيلاني إلى [ عانة]،وحاول نفي العقداء الأربعة، ومعهم العقيد [ يوسف العزي] والعقيد [ عزيز ياملكي ] .
لكن نوري السعيد كان أسرع حركة منه، واستطاع  أن يرتب الأمر مع العقداء الأربعة للقيام بانقلاب عسكري لإسقاط الحكومة، وحدد له موعداً في 24 كانون الأول 1938، وقام العقداء المذكورون بتهيئة قواتهم للقيام بالحركة، أرسلوا العقيد [عزيز ياملكي] إلى جميل المدفعي يطلبون منه الاستقالة فوراً.
كما أرسلوا الفريق [ حسين فوزي ] رئيس أركان الجيش، وهو من المشاركين في التمرد على الحكومة، إلى الملك غازي ليطلب منه إقالة حكومة المدفعي. (11)
استاء الملك غازي من تصرف الضباط ، ومن وراءهم نوري السعيد وطه الهاشمي، وأراد أن يستخدم القوة لقمع التمرد، لكنه تراجع عن موقفه بعد أن وجد جميل المدفعي ينوي الاستقالة، ليجنب البلاد إراقة الدماء، وربما يحدث ما لا يحمد عقباه  فآثر الاستقالة في 24 كانون الأول 1938، واضطر الملك غازي تحت ضغط العسكريين إلى تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة. (12)

سادساً: نوري السعيد يشكل الوزارة وينتقم من الانقلابيين
 
عاد نوري السعيد ليشكل حكومته الثالثة بضغط مباشر من العسكريين على الملك غازي الذي كانت تتقاذفه أمواج الزمرة السياسية المتعاقبة على سدة الحكم والتي تسير بهدى وتوجيهات السفارة البريطانية، واضطر الملك غازي وهو الذي لا يطيق رؤية نوري السعيد ،إلى دعوته إلى تشكيل الوزارة على مضض، في 25 كانون الأول 1938.
وهكذا قبض الثنائي نوري السعيد ـ طه الهاشمي على أخطر الوزارات الداخلية والخارجية والدفاع  إضافة إلى رئاسة الوزارة، ثم عاد نوري السعيد بعد يومين، فعين[ ناجي شوكت] وزيراً للداخلية. (13)
كان أمام الوزارة السعيدية مهمة حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة، حيث أن حكومته لا تتمتع بتأييد أغلبية أعضاء المجلس، وكان في جعبة نوري السعيد الانتقام من خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الملك غازي، وحكمت سليمان، والعديد من الضباط الذين آزروا بكر صدقي في انقلابه، وتسببوا في مقتل صهره ،جعفر العسكري، وزير الدفاع في حكومة الهاشمي.
ففي 22 شباط 1939 استحصل نوري السعيد إرادة ملكية بحل المجلس النيابي، لكن الحكومة تلكأت في إجراء الانتخابات بحجة قيام حكمت سليمان بالتعاون مع عدد من الضباط  بمؤامرة مزعومة لقتل عبد الإله و50 شخصية سياسية، وضباط كبار في الجيش كانوا مدعوين في قصر الأمير إلى مأدبة عشاء.
وفي حقيقة الأمر، وكما ورد على لسان العديد من الوزراء،وأعضاء المجلس العرفي الذي شكله نوري السعيد لمحاكمة المتهمين بالمؤامرة أن المؤامرة المزعومة كانت من صنع  [نوري السعيد] الذي كان يضمر لحكمت سليمان، والضباط [حلمي عبد الكريم ] و[إسماعيل عباوي] و[جواد حسين] ،و[عبد الهادي كامل] و[علي غالب] روح الانتقام،  وينتظر الفرصة المناسبة لذلك حيث أحالهم إلى المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري الذي حكم على حكمت سليمان وأربعة من كبار الضباط بالإعدام، وعلى أثنين آخرين بالسجن لمدة 7 سنوات.
لكن نوري السعيد لم يستطع تنفيذ حكم الإعدام بسبب عدم موافقة الملك، وتم استبدال الحكم إلى السجن المؤبد بالنسبة لإسماعيل عباوي، ويونس عباوي، وجواد حسين، فيما خفض الحكم على حكمت سليمان إلى السجن لمدة 5 سنوات، وسيق إلى السجن، وأصيب هناك بمرض صدري وبقي في السجن حتى قيام حركة رشيد عالي الكيلاني،عام 1941، حيث أطلق سراحه من السجن. (14)
التوثيق
(1) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 271 .
(2) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 202 .
(3)نفس المصدر ـ ص 209 .
(4)نفس المصدر  ـ ص 211 .
(5)نفس المصدر ـ ص 212
(6)مذكرات طه الهاشمي ـ ص 151 .
(7)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 217 ـ الحسني.
(8)صحيفة البلاد ـ العدد 893 ـ في 12 حزيران 1937 .
(9)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 340 ـ الحسني.
(10)نفس المصدر ـ ص 344 .
(11)فرسان العروبة ـ ص 91 ـ صلاح الدين الصباغ .
(12)الخلاف بين البلاط  ونوري السعيد ـ ص 56 خيري العمري
(13)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 66 ـ الحسني.
 (14)نفس المصدر ـ ص 72 .



416
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الخامسة

حامد الحمداني                                              1 /9/2008


أولاً: وفاة الملك فيصل الأول في ظروف غامضة:
 في الأول من أيلول 1933،وصل الملك فيصل إلى العاصمة السويسرية  برن ] طلباً للاستشفاء، وكان الإعياء بادياً عليه، حيث نزل في فندق[bellevue] المطل على نهر[ الآر]،وهناك بدأ الملك رغم وضعه الصحي المتعب يستقبل مراسلي الصحف، والعديد من الأصدقاء، ويدلي بتصريحاته محاولاً الرد على الدعايات المضللة الموجه ضده، وضد العراق وحكومته على أثر الأحداث التي رافقت ثورة الآشوريين.
كان القلق والانفعال باديين على وجه، وتميزت تصريحاته بشدة اللهجة وكان يضرب بيده على الطاولة بقوة وهو يتحدث مع الصحفيين، فقد كان قد تلقى سيلاً من التهديدات من الحكومة البريطانية بسبب قمع الحكومة العراقية، ونائب الملك [الأمير غازي] للحركة الآشورية، وقد طالبته الحكومة البريطانية بالعودة فوراً إلى بغداد، وأخذ زمام الأمر بيده وإلا فسوف يتعرض لنتائج وخيمة!!، وهذا نص آخر إنذار وجهته وزارة الخارجية البريطانية إليه:
{ إن استمرار الحركات العسكرية ضد الآشوريين، وإصرار الحكومة على موقفها، وعدم إصغائها لأوامر جلالتكم، قد أحدث تأثيراً سيئاً لدى الرأي العام البريطاني وغيره، ولذلك فإن لم تعودوا فوراً إلى العراق وتقبضوا بنفسكم على زمام الأمور، فان الحكومة البريطانية ستضطر إلى إعادة النظر في علاقاتها العهدية مع العراق }. (1)
قضى الملك فيصل 3 أيام على تلك الحال وهو يزداد تعباً، وتزداد صحته تردياً. و في 7 أيلول أُصيب الملك بالآم حادة في بطنه، وحضر طبيبه الخاص على عجل، وتم حقنه بحقنة تحت الجلد، حيث أحس بنوع من الراحة.
غير أن صحته تدهورت،عند منتصف الليل، وقد حضر إلى غرفته كل من [نوري السعيد ] و[رستم حيدر] و[تحسين قدري]،حيث وجدوه وهو في حالة خطيرة يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان آخر ما قاله:
{ أنا مرتاح، قمت بواجبي، وخدمت الأمة بكل قواي، ليسر الشعب بعدي بقوة واتحاد}. ثم شهق شهقة الموت. (2)
وعلى الفور طّير[ نوري السعيد] و[رستم حيدر] برقية إلى الحكومة في بغداد وجاء فيها :
 { فجعت الأمة العراقية،عند منتصف الليل بوفاة سيدها وحبيبها جلالة الملك فيصل، وذلك نتيجة نوبة قلبية}!!.
وخرج التقرير الطبي بان الوفاة ناجمة عن انسداد الشرايين، وقد أثار هذا الأمر الاستغراب في وقته، حيث أن هذا الأمر لا يحدث عادة إلا عند المتقدمين في العمر، والملك لم يكن قد بلغ الخمسين عاماً من العمر.
وتم نقل جثمان الملك إلى بغداد في 14 أيلول حيث تم تشيعه في موكب رسمي، ودفن في المقبرة الملكية في الأعظمية.

ثانياً : الشكوك تدور حول بريطانيا ونوري السعيد:
 ثارت الشكوك حول السبب الحقيقي للوفاة، حيث ذكر التقرير الطبي كما أسلفنا هو انسداد الشرايين، وانسداد الشرايين كما هو معروف يسبب آلاماً شديدة في الصدر، في حين أن الملك كان قد شعر في تلك الليلة بالآم حادة في البطن، وليس في الصدر، وعليه فقد كان هناك شك كبير في أن السبب الحقيقي للوفاة هو التسمم، وقيل أن الإنكليز ونوري السعيد هم الذين كانوا وراء العملية.
ومما زاد في تلك الشكوك ما جاء في الوثائق البريطانية مؤخراً عن تصريح للسفير البريطاني [ هيمفريز]الذي جاء فيه :
[ إن جعفر العسكري ونوري السعيد اتفقا على أن لا يتحملا أية مسؤولية في المستقبل إذا لم يطرأ تغيير كامل على نفسية الملك فيصل، وأن نوري السعيد مصر على أن لا يتقلد الحكم ما دام فيصل على العرش وأنه لا يمكن للعراق أن يتقدم على عهد ولي العهد [ الأمير غازي ]، فلا بد إذا من تغيير نظام الوراثة ليكون  [الأمير زيد ] ملكاً بعد وفاة أخيه الملك فيصل ] . (3)
وبوفاة الملك فيصل، اختفت فوراً مذكراته الخطيرة، ولم يعد أحد يعرف عنها شيئاً، وكل الشكوك كانت تشير إلى أن وراء عملية الاختفاء تلك كان نوري السعيد.
ثالثاً: نوري السعيد يحاول إبعاد الأمير غازي عن المُلك:
وعلى أثر وفاة الملك فيصل، حاول نوري السعيد إقناع رئيس الوزراء  [رشيد عالي الكيلاني ] و[ رستم حيدر] وزير الاقتصاد والمواصلات، والمقرب جداً من العائلة المالكة استبعاد الأمير غازي عن تولي الملك بصفته ولياً للعهد، ودعوة [ الأمير زيد ] لتولي الملك، بدعوى أن الأمير غازي متخلف عقلياً، ولا يصلح لتولي الملك، لكن الكيلاني رفض رفضاً قاطعاً محاولات نوري السعيد، وأجرى على عجل مراسيم تحليف الأمير غازي اليمين القانونية أمام مجلسي النواب والأعيان، و جرى تتويجه رسمياً مساء يوم 8 أيلول 1933 ملكاً على العراق، وبذلك اسقط في يد نوري السعيد.(4)
وبمناسبة تسلم الملك غازي سلطاته الدستورية، وحسبما ينص الدستور، قدم السيد رشيد عالي الكيلاني استقالة حكومته إلى الملك الذي قبل بدوره الاستقالة، وكلفه من جديد بتأليف الوزارة الجديدة.

رابعاًً: اضطراب الأوضاع في عهد الملك غازي
أحدثت وفاة الملك فيصل الأول اختلالاً خطيراً في التوازن السياسي القائم في البلاد، وقد أدت تلك الظروف إلى تفاقم التنافس السياسي بين أولئك الضباط الشريفيين المخضرمين، ومحاولة كل واحد منهم الوصول إلى سدة الحكم مستخدمين البرلمان تارة وتحريك العشائر تارة أخرى، ووصل بهم الأمر إلى حد استخدام الجيش من أجل تحقيق مآربهم.(5)
وقد وجد[ نوري السعيد] الفرصة السانحة لتوسيع نفوذه  في إدارة شؤون البلاد، وسعى بكل جهوده للهيمنة على المسرح السياسي. فقد حاول السعيد بدعم من صهره وحليفه[ جعفر العسكري ] بعد فشله في منع الملك غازي من تسلم سلطاته الدستورية إلى احتوائه والتأثير عليه لدرجة وصلت إلى حد التدخل في أموره الشخصية، وكان من بين تلك المسائل الشخصية تدخله في منع زواجه من ابنة السيد[يسين الهاشمي ]، وفرض زواجه على[الأميرة عالية ] شقيقة عبد الإله، وذلك عن طريق تحريض عمه [الملك عبد الله]الذي تدخل لدى الملك وحمله على الزواج منها، وكانت تلك الزيجة التي تمت في كانون الثاني 1934غير ناجحة، وانتهت بهجر الملك غازي لها حتى مقتله. (6)
 حاول رشيد عالي الكيلاني حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة تضمن له الأكثرية في المجلس، وتقدم بطلب إلى الملك غازي بهذه الرغبة، وتدخل نوري السعيد لدى السفارة البريطانية لمنع حل البرلمان، وسارع السفير البريطاني إلى توجيه تحذير إلى الملك غازي من مغبة الأقدام على حل البرلمان خوفاً من أن يأتي الكيلاني ببرلمان يضم أكثرية من الإخائيين. (7)
 كما حذر الملك[ عبد الله] ابن أخيه الملك غازي من الأقدام على هذه الخطوة، وجاء ذلك في رسالة بعث بها إليه وجاء فيها: { إن عليك أن لا تحل المجلس تحت أي ظرف كان، وإلا ستظهر الحاجة إلى إعادة الانتخاب من جديد، وعندها ستواجه مخاطر الصراعات الحزبية }. (8)
 وعليه فقد رفض الملك غازي طلب الكيلاني، وهكذا لم يكن أمام حكومة الكيلاني سوى تقديم استقالتها في 28 تشرين الأول 1933، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم .
لكن الملك آثر أن يبقي العلاقة مع الاخائيين، الذين عملوا معه جنباً إلى جنب، ، وعليه فقد كلف زعيمهم [ يسين الهاشمي] بتشكيل الوزارة الجديدة، لكنه اشترط عليه الإبقاء على المجلس النيابي الحالي .
لكن[يسين الهاشمي] رفض هذا الشرط، وبالتالي رفض قبول المنصب وجرى تكليف السيد [جميل المدفعي ] بتأليف الوزارة الجديدة.
ورغم أن الملك لم يكلف نوري السعيد بتشكيل الوزارة، وعهد بها إلى السيد [جميل المدفعي ] إلا أن السعيد شغل منصب وزير الخارجية، ووزير الدفاع وكالة في تلك الوزارة، وبذلك هيمن على أخطر وزارتين فيها مما يؤكد مدى تأثيره على إدارة الشؤون العامة للبلاد. (9)
لقد تميزت الأوضاع العامة للبلاد على عهد الملك غازي بالاضطراب فقد حدث تمرد للعشائر في مختلف المناطق، وكان دور السياسيين في حدوثها وإذكائها بارزاً، من أجل تحقيق أهداف وغايات سياسية شخصية لا تمت إلى مصلحة البلاد، وقد استطاعت تلك الحركات إسقاط وزارتين متعاقبتين في خلال فترة وجيزة. وقد أكد السيد [ توفيق السويدي ] على دور السعيد في تأييد تلك الحركات حيث يقول :
[ إن نوري السعيد وإن لم يكن قد اشترك اشتراكاً فعلياً في تلك الحركات العشائرية إلا أنه كان يؤيدها، وقد انتقد استخدام القوة لقمعها ]. (10)
ويقول اللورد بيرد وود:
{ إن نوري السعيد وإن كان وزيراً للخارجية إلا أنه لا يستبعد تأييده لتلك الحركات بدليل عدم موافقته على استخدام القوة لقمعها، وهو وإن كان قد اشترك في الوزارتين إلا أنه كان من أشد المعارضين لها، إذ أنه كان يشعر أنه أحق من[جميل المدفعي] و[علي جودت الأيوبي] برئاسة الوزارة، وكان يأمل في تطور الأحداث الجارية لكي تلجأ إليه السفارة البريطانية، والطلب من الملك غازي لتكليفه بتأليف الوزارة. (11)
وعندما استقالت حكومة المدفعي نتيجة للخلافات داخل مجلس الوزراء كلف الملك غازي رئيس الديوان الملكي السيد[علي جودت الأيوبي] بتأليف الوزارة التي دخلها نوري السعيد كوزير للخارجية. ولما شغر منصب رئاسة الديوان الملكي حاول السعيد ترشيح صهره [جعفر العسكري] لتولي المنصب، إلا أن الملك غازي رفض الترشيح  وعيّن [رستم حيدر] رئيساً للديوان.
أعتبر الشعب العراقي هذه الوزارة امتداداً للوزارة السابقة، وهاجمتها المعارضة بشدة، وقد وزعت في ذكرى تتويج الملك غازي، في 8 أيلول 1934 منشورات تندد بالحكومة وبالملك الذي حملته مسؤولية سوء الأوضاع الاقتصادية، مما أثار جزع الحكومة، التي حاولت من دون جدوى  معرفة مصدر تلك المنشورات، وقد لجأت إلى إغلاق صحيفة الأهالي لمدة سنة، والمعتقد أن الحزب الشيوعي، الذي كان قد جرى تأسيسه في ذلك العام كان وراء تلك المنشورات، فقد شهدت البلاد نشاطاً واسعاً للشيوعيين في تلك الأيام، مما جعل الحكومة تشن حملة شعواء ضد العناصر المشتبه بهم، وإحالتهم إلى المحاكم بتهمة الانتماء لحزب غير مجاز.
اشتدت المعارضة ضد الحكومة من قبل عدد من الشخصيات السياسية وبعض رؤساء العشائر الذين استبعدتهم الحكومة من مجلس النواب وتداعوا إلى عقد اجتماع لقادة  المعارضة في دار السيد حكمت سليمان،  وقد حضر الاجتماع كل من [رشيد عالي الكيلاني ] و[ياسين الهاشمي ] والعديد من رؤساء العشائر،الذين كونوا حلفاً معارضاً للحكومة، وقد جرى انتخاب ياسين الهاشمي زعيماً لهم، ووضعوا لهم ميثاقاً تضمن الإخلاص للملك، والمحافظة على الدستور، وحل المنازعات بين العشائر دون الرجوع إلى الحكومة، وعدم جواز الاشتراك في الحكم دون موافقة القائمين بهذا الحلف. (12)

خامسا: مؤتمر للمعارضة في النجف:
أرادت المعارضة التي شكلت لها حلفاً في اجتماع الصليخ، الحصول على دعم رجال الدين، فدعت إلى عقد مؤتمر لها في النجف في 22 آذار 1935 بدار الشيخ [محمد حسين آل كاشف الغطاء ]،وقد حضر المؤتمر عدد كبير من الشخصيات السياسية الوطنية، ورؤساء العشائر والعديد من رجال الدين كان أبرزهم بالإضافة إلى السيد كاشف الغطاء كل من [عبد الواحد سكر ] و[جعفر أبو التمن ] و[محسن أبو طبيخ ] وكل من المحامين [ محمد أمين الجرجفجي ] و[ذيبان الغبان ] و[محمد عبد الحسين ] وعشرات غيرهم، وقد بلغ عدد الحاضرين أكثر من 200 شخصية سياسية ودينية، ورئيس عشيرة.
جرى في المؤتمر بحث السبل الممكنة لإجراء الإصلاحات في البلاد وصيانة الدستور من تلاعب الوزارات المتعاقبة على سدة الحكم ومعالجة مشاكل الشعب الاقتصادية، وكُلف المحامون [أمين الجرجفجي] و[محمد عبد الحسين] و[ذيبان الغبان] بوضع ميثاق لتجمع قوى المعارضة المجتمعين في هذا المؤتمر. كما تم الاتفاق على رفع مذكرة إلى الملك غازي تتضمن مطالب المعارضة، والتي ورد فيها المطالب التالية:
 1ـ إلغاء التمييز الطائفي، وتمثيل جميع الطوائف في الإدارة والبرلمان.
2ـ تعديل قانون الانتخاب المعمول به على درجتين، وجعله على درجة واحدة منعاً للتأثيرات الحكومية على المنتخبين الثانويين، وضماناً لمصداقية الانتخابات ومنع التلاعب فيها.
3 ـ إدخال عضو من الطائفة الشيعية في محكمة تمييز العراق أسوة ببقية الطوائف الأخرى.
4 ـ إطلاق حرية الصحافة، ورفع كافة القيود المفروضة عليها، وحصر الأشراف عليها بالقضاء.
5ـ تطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، والمعروفة بسوء السلوك والسمعة .
6ـ مراعاة التوزيع العادل للخدمات الصحية، والثقافية وغيرها ،على كافة مناطق العراق.
7 ـ عدم التعرض لمن اشترك في الحركات الوطنية الحاضرة من أبناء الشعب والموظفين وأفراد الجيش والشرطة.
8 ـ إصلاح نظام إدارة الأوقاف.
9ـ تعديل وتعميم لجان تسوية حقوق الأراضي، والإسراع في تنفيذ قانون البنك الزراعي والصناعي .
10ـ إلغاء ضريبة الأرض والماء، واستبدال ضريبة [الكودة ] على المواشي بضريبة استهلاك.
11 ـ إلغاء القوانين التي تتعارض مع هذه المطالب. (13)
لكنّ عدداً من رؤساء العشائر انشق عن إجماع المؤتمرين ورفضوا التوقيع على المذكرة بدعوى أن المذكرة شديدة اللهجة وتتضمن مطالب تعجيزية من الحكومة، وغادروا الاجتماع، وبعثوا بمذكرة إلى الملك والى الوزارة أعربوا فيها عن تأييدهم للسلطة.
أدى ذلك المؤتمر والمذكرة المرفوعة للملك، إلى تصاعد الصراع بين الحكومة والمعارضة، وحاولت الحكومة توجيه ضربة للمعارضة، لكنها خافت من تمرد العشائر، فقد كادت الأمور تفلت من يد الحكومة، وتقع حرب بين العشائر والحكومة، وفي نهاية المطاف قدمت الحكومة الأيوبية استقالتها إلى الملك في 23 شباط 1935، وقد قبل الملك الاستقالة بعد يومين
وكلف الملك غازي السيد [يسين الهاشمي] بتأليف الوزارة الجديدة.
إلا أن الهاشمي اعتذر عن قبول التكليف بعد أن فرض الملك إشراك جميل المدفعي وعلي جودت الأيوبي في الحكومة، واستبعاد رشيد عالي الكيلاني الذي اتهم بإسقاط وزارتيهما عن طريق اتصالاته بالعشائر، ورفض الهاشمي شروط الملك، والتي هي من شروط السفير البريطاني حيث أشار السفير البريطاني على الملك تكليف السيد[ جميل المدفعي ] بتشكيل الوزارة الجديدة، واشترك السعيد في الوزارة كوزير للخارجية أيضاً. (14)
سادساً: ثورة العشائر في الفرات الأوسط :
جاءت وزارة المدفعي، وفي جوهر منهاجها اتخاذ الإجراءات لقمع المعارضة الشعبية والحزبية والعشائرية، وعلى ضوء ذلك قررت الحكومة تجريد حملة ضد العشائر التي وقفت ضد الحكومة السابقة، ونسقت جهودها مع المعارضة السياسية. كانت البلاد في حالة من الفوضى، فقد هاجت القبائل وتسلحت واستعدت لمجابهة حملة الحكومة، وقد تعطلت الزراعة، وتوقفت التجارة وانتشرت روح التمرد لدى العشائر، حيث وصل الأمر بهم إلى المطالبة بسقوط الوزارة الجديدة، وقامت قبائل [الأكرع ] باحتلال قلعة [الدغارة] الواقعة جنوب الحلة،على بعد 60  كم.
كما قامت مجموعات من قبائل[ الفتلة ] بزعامة عبد الواحد سكر بتخريب القناطر والجسور المقامة على الأنهر الفصلية وأبو صخير والشامية بغية قطع الطريق على قوات الحكومة.
وفي لواء ديالى قامت قبائل [ العزة ] التي يرأسها الشيخ حبيب الخيزران باحتلال [ منصورية الجبل ] في نفس اليوم، وبذلك اشتعلت ثورة العشائر في الديوانية وديالى.
وبالنظر لتطور الأوضاع بهذا الشكل الخطير دعا رئيس الوزراء أعضاء حكومته إلى اجتماع عاجل حضره مستشار وزارة الداخلية المستر [كرونواليس ]، ورئيس الديوان الملكي، حيث بحثوا التطورات الحاصلة واتخذوا قراراً بتجريد حملة عسكرية كبيرة لقمع تمرد العشائر، وصدرت الأوامر لقوات الجيش في 13 آذار 1935 بالتحرك فوراً، كما طلب رئيس الوزراء من السفير البريطاني دعم قوات الجيش بالطائرات الحربية البريطانية. (15)
لم تكدْ تتحرك قوات الجيش، وتظهر الطائرات البريطانية في سماء المنطقة حتى هبت قبائل المشخاب والشامية والرميثة وعفك والفتلة وغيرها من العشائر لدعم القبائل الثائرة مما أربك الحكومة وأقلقها كثيراً بسبب خطورة الموقف واحتمال تطوره.
لم يكن الجيش العراقي ذلك اليوم من القوة والتسلح لكي يتمكن من أداء المهام المناطة به، فقد كان يتألف من 15 فوجاً، ولم يكن يملك سوى أسلحة بسيطة غير متطورة، ولم يكن بمستطاع  القوة التي دفعت بها الحكومة لقمع ثورة العشائر، ولذلك اضطرت إلى سحب العديد من الأفواج من الألوية الأخرى وزجتها في المعركة. كانت الحكومة متخوفة جداً من ثورة العشائر هذه، فقد كانت تختلف كل الاختلاف عن سابقاتها من الثورات، كثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية، وثورة الآشوريين، ذلك لأن معظم جنود الجيش هم من العشائر، وكان خوف الحكومة من حدوث تمرد في صفوف الجيش وانضمام المتمردون إلى ثورة العشائر.
لجأت الحكومة بناء على نصيحة السفارة البريطانية إلى استمالة عدد من رؤساء العشائر من غير المنضمين إلى الثورة، ودفعهم للوقوف ضد العشائر الثائرة لكي تجعل الحكومة تلك الثورة وكأنها حرب أهلية بين العشائر، لكنهم فشلوا في الوقوف بوجه الثورة، واضطرت الحكومة إلى تعطيل مجلس النواب في 12 آذار، وذلك بغية منعه من مناقشة الأوضاع، هذا وقد وقف مجلس الأعيان ضد إجراءات الحكومة  التي وصفها بالتهور، وعدم الحكمة. (16)
أما السيد [جعفر أبو التمن ] فقد كتب مقالة في صحيفة  [المبدأ] حلل فيه تطور الأحداث، ودعا الحكومة إلى التزام جانب الحكمة، وعدم التهور وإنقاذ البلاد من المخاطر الجسيمة التي يمكن أن تتعرض لها إذا ما استمرت المجابهة. كما دعا إلى إجراء إصلاحات جذرية في البلاد ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية. (17)
كما استنكر المحامون لجوء الحكومة إلى القوة، ودعوا إلى حقن الدماء وحل المشكلة بالطرق السلمية، ودعوا إلى تأليف حكومة وحدة وطنية.
كما دعا الشيخ كاشف الغطاء إلى توقف حركات الجيش، وإجراء إصلاحات في البلاد، فيما دعا عبد الواحد سكر إلى استقالة الحكومة وتأليف حكومة جديدة تأخذ على عاتقها تهدئة الأوضاع، وتجري الإصلاحات اللازمة لمعالجة مشاكل الشعب.
انهالت البرقيات على الملك غازي تستنكر لجوء الحكومة إلى القوة وتطلب من الملك إقالة الوزارة، ومعالجة الأمور بحكمة وتروي، ووجد الملك أن سياسة الحكومة يمكن أن تؤدي إلى كارثة، ولذلك فقد طلب من رئيس الديوان الملكي أن يبلغ رئيس الوزراء رغبته في أن تقوم الحكومة بإعادة النظر في سياستها نحو العشائر الثائرة، والعمل على معالجة الأمر بحكمة وتروي، فلما بُلغ الأمر إلى رئيس الوزراء أدرك انه لا يمكنه الاستمرار في الحكم فسارع إلى تقديم استقالة حكومته  في 15 آذار 1935، وتم قبول الاستقالة بعد يومين من تقديمها.
سابعا:تصاعد الثورة وتكليف يسين الهاشمي بتأليف الوزارة
كلف الملك غازي السيد[ يسين الهاشمي] بتأليف الوزارة الجديدة لكي تأخذ على عاتقها تهدئة الأوضاع بصورة سلمية، وبدأ الهاشمي مشاوراته لتأليف الوزارة الجديدة.
حاول الهاشمي إدخال حكمت سليمان في الوزارة، إلا أن حكمت أعتذر عن قبول المنصب استناداً لمقررات[مؤتمر الصليخ] مشترطاً موافقة رفاقه جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وعبد القادر إسماعيل، وبالفعل جرى الاتصال بهم، وتم الاتفاق على دخوله الوزارة، لكنه اشترط على الهاشمي إسناد وزارة الداخلية إليه مما سبب إحراجاً للهاشمي.
وحاول الهاشمي إدخال رشيد عالي الكيلاني في الحكومة، إلا أن الكيلاني اشترط إسناد وزارة الداخلية إليه أيضاً، مما دفع السيد الهاشمي إلى الاعتذار عن تشكيل الوزارة. ولما كانت الأوضاع خطيرة جداً، وتتطلب سرعة تشكيل الوزارة، اضطر الملك غازي إلى الطلب من الهاشمي أن يشكل الوزارة كما يرتئ، وهكذا تشكلت الوزارة التي دخلها رشيد عالي الكيلاني وزيراً للداخلية، في حين عين  نوري السعيد وزيراً للخارجية، وجعفر العسكري وزيراً للدفاع. (18)
لم تكن السفارة البريطانية مرتاحة لمجيء وزارة يسين الهاشمي إلى الحكم بالنظر لمواقفه السابقة من معاهدة 1930 العراقية البريطانية، لكن الهاشمي طمأن السفير البريطاني قائلاً له:
{إن لدينا الآن صديقاً جديداً كان عدواً لنا من قبل }!!. (19)
كان من أولى المهام الملقاة على عاتق الحكومة معالجة مسألة ثورة العشائر، ولذلك فقد أصدرت بلاغاً وزعته على العشائر الثائرة بواسطة الطائرات تدعوها إلى الهدوء والسكينة، والعودة إلى مزاولة أعمالها واعدة إياها بإجراء الإصلاحات، وسحب القوات العسكرية إلى ثكناتها كما أرسلت الحكومة وفداً إلى رؤساء العشائر ضم رشيد عالي الكيلاني وزير الداخلية ونوري السعيد  وزير الخارجية بغية إقناعهم بإلقاء السلاح.
 لكن العشائر لم تقتنع بوعود الحكومة، وطالبوا باستقالة الوزارة، عاد الوفد الوزاري إلى بغداد دون أن يحقق شيئاً.
سارعت الحكومة إلى توجيه إنذار للعشائر الثائرة بإلقاء السلاح خلال 3 أيام وإلا لجأت إلى استخدام القوة العسكرية ضدهم.وهكذا  تراجع رؤساء العشائر عن مواقفهم، وطلبوا إلى العشائر الثائرة  إلقاء السلاح، لكن ذلك الحال لم يستمر طويلاً بل إلى حين، فقد كانت عوامل الثورة تفعل فعلها وكانت أبسط أزمة يمكن أن تشعل نار الثورة من جديد.
الجيش يقمع ثورة العشائر في الرميثة:   
بسبب تلكؤ الحكومة في تنفيذ وعودها، ومماطلاتها في إجراء الإصلاحات التي التزمت بها،عاد التوتر يخيم من جديد على أجواء الوضع السياسي في البلاد، وجاء إقدام الحكومة على حل حزبها تمهيداً لإنهاء الحياة الحزبية في البلاد ليصاعد من حدة الأزمة، وتصاعدت الدعوات بين صفوف العشائر للثورة على الحكومة وإسقاطها.
فلما شعرت الحكومة بهذه التحركات لجأت إلى اعتقال أحد رموز المعارضة الدينية في النجف الشيخ [أحمد أسد الله] وأصدرت قراراً بإسقاط الجنسية العراقية عنه، ونفيه خارج العراق.
شاع خبر اعتقال الشيخ احمد وإسقاط الجنسية عنه وإبعاده عن البلاد وأدى ذلك إلى حالة من الهيجان في صفوف العشائر في ناحية الرميثة وتجمع المسلحون من أفرادها وهاجموا محطة القطار، وحاصروا سراي الحكومة وسيطروا على الناحية.
سارعت الحكومة إلى تجهيز حملة عسكرية للقضاء على الثورة بقيادة اللواء [بكر صدقي ] المعروف بقسوته، وتقدمت قواته على جبهتين ووجه بكر صدقي إنذاراً للثوار عن طريق منشورات ألقتها الطائرات على المنطقة بإلقاء السلاح خلال 24 ساعة، ولما انتهت مهلة الإنذار بدأ القصف الجوي العنيف على المنطقة، وأعلنت الحكومة الأحكام العرفية في المنطقة في 11 أيار 1935، وأعلنت منطقة الرميثة منطقة حرب، تسري عليها القوانين العسكرية.
وتقدمت قوات بكر صدقي نحو الرميثة بعد أن مهدت لتقدمها بقصف جوي ومدفعي، واستخدمت الحكومة عدد من العشائر الموالية لها في حربها ضد الثوار، وتم للجيش احتلال الرميثة في 17 أيار1935، بعد أن تكبد الطرفان خسائر كبيرة واستطاع الثوار إسقاط طائرة عراقية وقتل قائدها، كما اسقط الثوار طائرة عسكرية بريطانية أخرى وقُتل من فيها.

ثامنا : حكومة الهاشمي تصدر مرسوم الأحكام العرفية:
بعد أن تسنى لحكومة[ يسين الهاشمي] إخماد ثورة عشائر الرميثة سارعت إلى إصدار مرسوم الإدارة العرفية، وطبقت أحكامه على الثائرين، وكان ذلك المرسوم أسوأ إجراء اتخذته الحكومة، واعتُبر وصمة عار في جبينها، بالنظر إلى كونه قد أنتهك جميع الحقوق والحريات العامة التي نص عليها الدستور وجعلها حبراً على ورق، واستخدمته الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم منذُ ذلك التاريخ ولسنوات طويلة، لتنكل بخصومها والمعارضين لها، وبالنظر لخطورة ذلك المرسوم فقد وجدت ضرورة إطلاع القراء على نصه، ليقفوا على مدى انتهاكه للدستور وحقوق المواطنين. 
نص مرسوم الإدارة العرفية :
الفصل الأول
المادة الأولى [/size] : يتألف المجلس العرفي العسكري من رئيس وأربعة أعضاء، على أن يكون الرئيس وعضوان منهم من الضباط العسكريين يعينون بإرادة ملكية بناء على اقتراح وزير الدفاع، والعضوان الآخران من الحكام العدليين يعينان بإرادة ملكية بناء على اقتراح وزير العدل.
المادة الثانية : يقوم بوظيفة الإدعاء العام في المجلس المذكور نائب الأحكام العسكرية، أو أي شخص آخر يعينه وزير الدفاع .
المادة الثالثة : على المجلس العرفي العسكري محاكمة الأشخاص الذين يحالون إليه لأجل المحاكمة من قبل قائد القوات العسكرية، أو المدعي العام. 
المادة الرابعة : يباشر المجلس المحاكمة باستماع بيان المدعي العام الذي يتضمن خلاصة الجريمة المسندة، ثم يمّكن المتهم من إفادته الأولى ويستمع شهود الإثبات، ويمّكن المتهم من مناقشتهم، ويستمع إلى شهود الدفاع إن وجدوا، وما لم يرى المجلس أن الغرض من طلب سماعهم هو لغرض المماطلة، ويسمع دفاع المتهم ثم يصدر قراره.
المادة الخامسة: تجري المرافعة بصورة علنية، إلا إذا رأى المجلس ضرورة رؤيتها بصورة سرية.
المادة السادسة: تصدر القرارات باتفاق الآراء، أو بالأكثرية المطلقة.
المادة السابعة: يجب أن يستند القرار إلى مادة قانونية، وأن يحتوي على الأسباب المدللة.
المادة الثامنة: تنفذ أحكام المجلس على الفور، إلا ما كان متضمناً الحكم بالإعدام.
المادة التاسعة : لا ينفذ حكم الإعدام إلا بعد تصديق قائد القوات العسكرية.
الفصل الثاني
المادة العاشرة : المحاكمة عن جميع الأفعال داخل منطقة الإدارة العرفية أو خارجها عندما تكون ذات مساس أو ارتباط بالأفعال الجرمية الحادثة ضمن تلك المنطقة من اختصاص المجلس العرفي العسكري عدا الأفعال الجرمية التي يأمر قائد القوات العسكرية برؤيتها من قبل المحاكم العدلية أو لإدارية، كل حسب اختصاصه.
المادة الحادي عشرة : يعاقب بالإعدام :
1 ـ كل من حمل السلاح، أو أي آلة جارحة ضد الحكومة، أو قواتها العسكرية على اختلاف أنواعها، أو قوات الشرطة، أو أستعمل السلاح ضد أي من موظفي الدولة، أو مستخدميها.
2 ـ كل من اشترك في عصيان مسلح ضد الحكومة، أو قواتها العسكرية المسلحة، ويقصد بالعصيان المسلح وجود أكثر من شخص واحد يحمل سلاحاً نارياً، أو أية آلة جارحة.
3 ـ كل من اشترك في أي عمل من شأنه تخريب خطوط المواصلات، أو المخابرات للقوات العسكرية،أو تعطيلها، أو تخريب وسائط النقل للقوات المذكورة.
4 ـ كل من اشترك في مساعدة العصاة بتقديم أسلحة أو ذخيرة أو عتاد لهم.
5 ـ كل من يبث الدعاية بين أفراد القوات العسكرية، أو الشرطة، لغرض إضعاف قواهم المعنوية، أو لحملهم على عدم القيام بالواجب.
6ـ كل من حرّضَ بأي صورة كانت شخصاً على ارتكاب الأفعال السابقة سواء كان المحرّضْ داخل المنطقة العرفية، أو خارجها.
7ـ كل من تجسس لمصلحة العصاة ضد الحكومة داخل المنطقة المعلنة فيها الأحكام العرفية.
المادة الثانية عشرة :
 يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة أو بالحبس مدة لا تزيد عن 15 عاماً كل من:
1 ـ أعطى أخباراً، أو معلومات إلى العصاة،عن الحركات العسكرية، أو أعمال الحكومة المتعلقة بالحركات في المنطقة المعلنة فيها الأحكام العرفية.
2 ـ شجع العصاة على الاستمرار في الحركات العصيانية.
3 ـ نشر الأخبار المختلقة، إذا أدت هذه الأخبار، أو كان من شأنها أن تؤدي إلى إضعاف القوة المعنوية بين أفراد القوات العسكرية للحكومة.
المادة الثالثة عشرة : الأفعال الجرمية غير المنصوص عليها في هذا المرسوم يعاقب مرتكبوها وفقاً لأحكام قانون العقوبات البغدادي، أو القوانين الأخرى.
المادة الرابعة عشرة : يجوز لقائد القوات المسلحة  أن يتخذ بإعلان، أو بأوامر كتابية أو شفوية التدابير الآتي بيانها :
 1ـ سحب الرخص بحيازة السلاح أو حمله، والأمر بتسليم الأسلحة على اختلاف أنواعها، والذخائر، والمواد القابلة للانفجار، والمفرقعات وضبطها أينما وجدت، وإغلاق مخازن الأسلحة.
2ـ الترخيص بتفتيش المنازل والأشخاص في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار.
3ـ الأمر بمراقبة الصحف والنشرات الدورية قبل نشرها من غير إخطار سابق، والأمر بإغلاق أي مطبعة، وضبط المطبوعات والنشرات والرسومات التي من شأنها تهييج الخواطر، وإثارة الفتنة أو مما قد يؤدي إلى الإخلال بالأمن والنظام العام سواء كانت معدة للنشر والتوزيع أو للعرض أو للبيع،أو لم تكن معدة لغرض من هذه الأغراض .
4 ـ الأمر بمراقبة الرسائل البريدية، والتلغرافية، والتلفونية.
5 ـ تحديد مواعيد فتح المحال العمومية وإغلاقها كلاً أو بعضاً، سواء في كل الجهة التي أُعلنت فيها الأحكام العرفية أو في بعض النواحي والأحياء، أو تبديل تلك المواعيد، وإغلاق المحال العمومية المذكورة كلها أو بعضها.
6ـ الأمر بإعادة المولودين، أو المتوطنين في غير الجهة التي يقيمون فيها إلى مقر ولادتهم، أو توطينهم، إذا لم يوجد ما يبرر مقامهم في تلك الجهة، أو أمر في أن تكون بيدهم تذاكر لإثبات الشخصية، أو الأذن بالإقامة.
7ـ الأمر بالقبض على المشردين والمشتبه فيهم وحجزهم في مكان أمين.
8 ـ منع أي اجتماع عام وحله بالقوة، وكذلك منع أي نادٍ أو جمعية، أو اجتماع وحله بالقوة.
9 ـ منع المرور في ساعات معينة من الليل أو النهار في كل الجهة التي أعلنت فيها الأحكام العرفية، أو في بعضها، ومنع ذلك الاستعمال عند الاقتضاء.
10ـ تنظيم استعمال وسائط النقل على اختلاف أنواعها في كل الجهة التي أعلنت فيها الأحكام العرفية أو في بعضها، ومنع ذلك الاستعمال عند الاقتضاء.
11ـ إخلاء بعض الجهات أو عزلها، وعلى العموم حصر وتحديد المواصلات بين الجهات المختلفة التي أعلنت فيها الأحكام العرفية وتنظيم تلك المواصلات.
12ـ الاستيلاء على أية واسطة من وسائط النقل،أو أي مصلحة عامة أو خاصة، أو أي معمل أو مصنع أو محل صنائعي، أو أي عقار،أو أي منقول، أو أي شيء من المواد الغذائية، وكذلك تكليف أي فرد بتأدية أي عمل من الأعمال، ويجوز لمجلس الوزراء أن يضيف دائرة الحقوق المتقدمة المخولة لقائد القوات العسكرية، أو أن يرخص له أي تدبير آخر مما يقتضيه صون الأمن والنظام العام في كل الجهة التي أعلنت فيها الأحكام العرفية،أو في بعضها.
المادة الخامسة عشرة : يعاقب من خالف الإعلانات والأوامر الصادرة من قائد القوات العسكرية بالعقوبات المنصوص عليها في تلك الإعلانات ولا يجوز أن تزيد هذه العقوبة عن الحبس لمدة 3 سنوات، ولا على الغرامة بمبلغ 150 دينار.
على أن ذلك لا يمنع من توقيع عقوبة أشد، حيث يقضي بها قانون العقوبات والقوانين الأخرى، ويجوز دائماً إلقاء القبض على المخالفين في الحال .
المادة السادسة عشرة: ينفذ هذا المرسوم من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
المادة السابعة عشرة : على وزراء الداخلية والعدلية والدفاع تنفيذ هذا المرسوم الذي يجب عرضه على مجلس الأمة في اجتماعه القادم .
كتب ببغداد في اليوم الحادي عشر من صفر سنة 1354 هجرية المصادف لليوم الرابع عشر من أيار 1935 ميلادية.
          يسين الهاشمي      الملك غازي الأول
نظرة في المرسوم:

بقراءة متأنية لهذا المرسوم يتبين لنا أن الحكومة قد صادرت بشكل فعلي كل الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور وجعلها حبراً على ورق، وأصبح  هذا المرسوم سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب العراقي استخدمته الحكومات المتوالية على سدة الحكم  كلما شعرت بتحرك الشعب من أجل إعادة حقوقه المغتصبة. ولم تكتفِ السلطة الحاكمة بإصدار هذا المرسوم بل أتبعته بمجموعة من المراسيم المكملة له لكي تحكم قبضتها على الشعب، وكان من بين تلك المراسيم :
1ـ مرسوم منع الدعايات المضرة رقم 44 لسنة 1937،على عهد حكومة جميل المدفعي .
2ـ مرسوم منع الدعايات المضرة رقم 20 لسنة 1938،على عهد حكومة جميل المدفعي .
3ـ مرسوم الطوارئ رقم 57 لسنة 1938،على عهد حكومة نوري السعيد.
4ـ قانون ذيل قانون العقوبات البغدادي[المعروف بقانون مكافحة الآراء الهدامة] رقم 51 لسنة 1938، على عهد حكومة جميل المدفعي.
5ـ مرسوم انضباط موظفي الدولة رقم 7 لسنة 1939 على عهد حكومة نوري السعيد . واستمرت الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم على عهد الوصي عبد الإله، بعد مقتل الملك غازي،  بإصدار المراسيم المنافية للدستور، وإفراغه من كل الحقوق والحريات التي نص عليها مما شكل عاملاً حاسماً في قيام ثورة 14 تموز 1958.

417
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرىـ الحلقة الرابعة

حامد الحمداني                                          30/8/2008



أولاً:خلافات داخل مجلس الوزراء، واستقالة حكومة السعيد
أدت سياسة نوري السعيد، وأساليبه القمعية التي استخدمها لفرض معاهدة 30 حزيران 1930 إلى خلافات عميقة في مجلسي النواب  الوزراء، وأدت تلك  الخلافات إلى استقالة السيد[ جميل المدفعي] من رئاسة مجلس النواب، ومن حزب نوري السعيد[حزب العهد] احتجاجاً على تصرفات الحكومة، وبالأخص وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي ] إثر الهجوم العنيف الذي تعرض له في مجلس النواب من قبل نواب المعارضة، بسبب تصرفات الحكومة المخالفة للدستور، والمنتهكة للحريات، وقد بعث السيد المدفعي بكتاب إلى السعيد يعلن فيه استيائه من تصرفات وزير الداخلية غير القانونية، والتزام السعيد جانبها، وأعلن انسحابه من حزب العهد، وقد لخص المدفعي تصرفات وزير الداخلية [مزاحم الباجه جي ] بالتالي :
1 ـ تصرفاته المشينة خلال الإضراب الشعبي العام،  مما كان سببا في توسيعه توسعاً خطيراً.
2 ـ تطبيقه قانون العشائر على ذوات ليسوا من العشائر، وبينهم من كبار رجال القانون.
3 ـ تضيقه على كبار رجال الأمة، وتعقيبهم بالجواسيس بصورة لم يسبق لها مثيل، ومطارداته الشبيبة الوطنية لمجرد ما يظهروه من الشعور الوطني، شأن الشباب في جميع بلاد الله.
4 ـ وضع المراقبة الشديدة على حرية المخابرة، خلافاً لما هو مضمون في القانون الأساسي الذي حلفنا اليمين على التمسك به. 
5ـ تطبيقه الذيل الخاص بالعقوبات بحق رجال عرفوا بمقدرتهم وإخلاصهم، لكي يتسنى له تعيين بعض محسوبيه، ومروجي تصرفاته في محله.                                                                                             
6 ـ تفسيره القوانين كما تشتيهه أغراضه، وهتكه شرف الرجال المخلصين
7 ـ إصدار الكتب التهديدية السرية المملوءة بالبذاءات، وهتك الحرمات،   وعليه أرجو اعتباري مستقيلاً من الحزب، وسأقدم استقالتي رسمياً من رئاسة مجلس الأمة أيضاً، وتقبلوا احترامي. (1)
                  جميل المدفعي ـ في 16 تشرين الأول 1931                   
 وهكذا فضح المدفعي سلوك الحكومة المخزي، وانتهاكها للدستور، ونكثها لليمين باحترامه، والاعتداء على حقوق وحريات المواطنين التي نص عليها الدستور، واستغلال النفوذ بهذا الشكل المكشوف، فلم يعد أمام نوري السعيد إلا أن يقدم استقالة حكومته إلى الملك  فيصل في 19 تشرين الأول 1931، و تم قبول الاستقالة.
ثانياً:المندوب السامي يضغط على الملك لتكليف السعيد مجدداً
لم يكد المندوب السامي يبلغه خبر استقالة نوري السعيد حتى سارع إلى الملك فيصل طالباً منه أن يعيد تكليف السعيد بتشكيل الحكومة الجديدة، ومارس ضغطاً على الملك لكي ينفذ طلبه، فلم يكن أمام الملك من بد إلا أن ينفذ مشيئة المندوب السامي  كما أراد، حيث كانت هناك مهام خطيرة يتطلب تنفيذها من قبل شخصية قوية ومضمونة، ولقد اثبت نوري السعيد أنه هو لا غيره ذلك الرجل القوي القادر على القيام بتلك المهمات التي تنتظر الحكومة الجديدة، وهكذا رضخ الملك فيصل لمشيئة المندوب السامي وكلف نوري السعيد من جديد بتشكيل الوزارة، وباشر السعيد على الفور باختيار أعضاء وزارته بالتشاور مع المندوب السامي والملك فيصل في اليوم نفسه، وجاءت وزارته الثانية على الوجه التالي :
1   ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء       
 2 ـ ناجي شوكت ـ وزيراً للداخلية.
2   ـ رستم حيدر ـ وزيراً للمالية .    
 4ـ جمال بابان ـ وزيراً للعدلية .
 5ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع والخارجية
6   ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف
 7ـ محمد أمين زكي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
كان عهد هذه الوزارة مليئاً بالأحداث التي كان على السعيد معالجتها وأبرزها:
1 ـ تمرد بعض قوات الليفي.
2 ـ اندلاع الثورة البارزانية.
3 ـ دخول العراق عصبة الأمم وسريان معاهدة 1930.

ثالثاً: معالجة تمرد قوات الليفي الآشورية:
قوات الليفي الآشورية أنشأها البريطانيون لمساعدة قواتهم المحتلة للعراق في حفظ الأمن والنظام ، والقيام بدور الحراسة للمعسكرات والقواعد البريطانية، والقيام بدور الحراسة للمعسكرات والقواعد البريطانية.
كان الآشوريون يطمحون بقيام دولة لهم في  دهوك وبعض المناطق الأخرى في شمال العراق، لكن آمالهم خابت بعد صدور القرار بضم العراق إلى عصبة الأمم، وتجاهل بريطانيا تلك المطالب، مما أثار استياء قوات الليفي العاملة في خدمة القوات البريطانية، حيث استقال ما يزيد على 1300 فرداً منهم، وتقدموا للمندوب السامي بالمطالب التالية:
1 ـ الاعتراف بهم كشعب من أقدم مواطني العراق، وليسوا مجرد طائفة دينية أو عنصرية.
2ـ إيجاد كيان لهم في منطقة [ دهوك ]، والعمل على إعادة منطقة [حكاري] الواقعة تحت السيادة التركية، وإذا ما تعذر ذلك فيجب إيجاد موطن للآشوريين في العراق مفتوح لكل الآشوريين في داخل العراق وخارجه.
3ـ الاعتراف الرسمي بسلطة زعيمهم الديني [المار شمعون] الدينية والدنيوية.
4ـ عدم سحب السلاح منهم .
5ـ مطالب أخرى حول فتح مدارس ومستشفى ودار أوقاف آشورية.
لكن المندوب السامي طلب منهم التراجع عن مواقفهم والعودة إلى الخدمة غير أنهم أصروا على ذلك، فما كان من السلطات البريطانية إلا أن تأتي بقوة عسكرية من الإنكليز المتواجدين في مصر لتحل محلهم، حيث تم نقلهم على عجل بواسطة الطائرات.
 فلما وجدت قوات الليفي أن بريطانيا عازمة على عدم تلبية مطالبهم، تراجع قسم كبير منهم وعاد إلى الخدمة، أما القسم الآخر الذي أصر على موقفه فقد قررت السلطات البريطانية إقصاءهم نهائياً.
 أما الحكومة العراقية فقد قررت في 2 تموز 1932، وبعد موافقة المندوب السامي، سحب السلاح من الليفي، ومنعت حمل أي سلاح إلا بإجازة رسمية، كما قررت وضع أفراد من الشرطة مع قوات الليفي في كافة المخافر. (2)
رابعاً: السعيد يقمع الثورة البارزانية:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان، ولمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة [بازيان] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى]، والتي تتوسطها قرية [بارزان] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني،عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد. (3)
رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا
يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة.
أخذ البارزاني يوسع  نفوذه في المنطقة، وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ [أحمد البارزاني] في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البارزانيين في 25 أيار1931 وكان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البارزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة، وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي قامت بنقله إلى مدينة [ أدرنه]على الحدود البلغارية.
وفي تلك الأيام حاول الإنكليز إسكان الآشوريين في منطقة بارزان، فلما علمت الحكومة التركية بالأمر، وهي التي تكن الكره الشديد للآشوريين الذين وقفوا إلى جانب بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى، سارعت إلى إعادة الشيخ احمد البارزاني إلى منطقة الحدود العراقية.
 وعندما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية، تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليم الشيخ احمد.
إلا أن الحكومة التركية رفضت الطلب، مشترطة إصدار عفو عام عنه وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم.
وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.
خامساً: إدخال العراق في عصبة الأمم:
بعد أن تسنى لبريطانيا فرض معاهدة 30 حزيران 1930، والتي ضمنت من خلالها الهيمنة التامة على مقدرات العراق اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وحيث تصبح هذه المعاهدة نافذة حال دخول العراق عصبة الأمم كدولة مستقلة، تقدمت الحكومة البريطانية بطلب إلى عصبة الأمم في 13 أيار 1931، لقبول العراق عضواً فيه معلنة أن العراق أصبح يمتلك الأهلية ليكون دولة مستقلة وعضو فيها.
جرى توزيع الطلب البريطاني على أعضاء عصبة الأمم في الجلسة التي عقدتها في حزيران 1931، وأجرى المجلس مذاكرة حول الطلب، وحول التقرير الذي قدمته بريطانيا عن العراق، فقرر المجلس في 4 كانون الأول تأليف لجنة لدرس التقرير وتقديم توصيانها في مدة أقصاها 30 كانون الأول.
 وبالفعل قدمت اللجنة في هذا التاريخ تقريرها الذي أوصت فيه بقبول العراق عضواً في العصبة بعد أن يوقع العراق على ميثاق العصبة، وعلى الشروط التي وضعتها عصبة الأمم، والمتعلقة بالضمانات اللازمة للحفاظ على حقوق الأقليات، وتقيد العراق بمبادئ العصبة.
وافق العراق على شروط عصبة الأمم، وقدمت الحكومة العراقية الضمانات المطلوبة، والتي صادق عليها مجلس النواب، في جلسته بتاريخ 5 أيار 1932، وعند ذلك أعلنت عصبة الأمم في 31 كانون الثاني 1932عن قبول العراق عضواً في العصبة. (4)
قدم الملك جورج، ملك بريطانيا، تهانيه إلى الملك فيصل بقبول العراق عضواً في العصبة، وأصبحت معاهدة 30 حزيران 1930 نافذة المفعول من تاريخ صدور قرار عصبة الأمم بقبول عضوية العراق.
إلا أن استقلال العراق لم يكن سوى استقلالاً شكلياً محضاً، فقد قيّدته معاهدة 1930 بقيود ثقيلة جعلته في واقع الأمر تحت الحماية البريطانية لسنين طويلة.
سادساًً:الملك فيصل يطلب من نوري السعيد تقديم استقالته:
بعد أن أنجزت حكومة نوري السعيد المهام الموكولة لها، والمتمثلة بعقد معاهدة 30 حزيران 1930، وإدخال العراق في عصبة الأمم، ومنح العراق الاستقلال [الشكلي]، قدم نوري السعيد استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 27 تشرين الأول 1932، وتم قبول الاستقالة في اليوم التالي، وكلف الملك فيصل السيد [ناجي شوكت] بتأليف الوزارة الجديدة في 3 تشرين الثاني 1932.
ورغم أن استقالة السعيد جاءت بناء على طلبه كما جاء في كتابه الموجه إلى الملك، إلا أن الحقيقية كانت غير ذلك، وأن الملك فيصل هو الذي طلب منه تقديمها فقد جاء في البرقية التي طيرها المندوب السامي [هيوبرت همفري] إلى وزارة الخارجية البريطانية برقم 335 بتاريخ 29 تشرين الأول 1932 ما يلي :
[ إن الملك هو الذي طلب من السعيد تقديم استقالة حكومته لأنه فقد ثقة الملك، ولما عرض على الملك استعداده لجمع نوري السعيد بالملك رفض الملك ذلك، وقرر الانفصال عن السعيد، ولم تفد توسلاتي وتوسلات المستشار [ كورنواليس] لتثني الملك عن قراره. (5) 
كان هدف الملك من طلب الاستقالة تقليص نفوذ نوري السعيد الذي تصاعد نجمه لدى الإمبرياليين البريطانيين بعد أن افلح في توقيع معاهدة 1930، وأصبح يتمتع بمنزلة كبيرة لدى المندوب السامي البريطاني والحكومة البريطانية، ونال ثقتهما، وأصبح يرى نفسه وكأنه الشخصية الوحيدة القادرة على إدارة شؤون البلاد.
كما هدف الملك فيصل من التغير الوزاري استمالة ما يدعى بالمعارضة المعتدلة، بعد الذي سببته معاهدة 30 حزيران 1930 الجائرة، والمقيدة لاستقلال العراق من جهة.
وهكذا جاءت حكومة [ناجي شوكت] وسطاً بين الاتجاه الموالي لبريطانيا والاتجاه المعارض لسياستها، وللمعاهدة.
أما الرأي العام العراقي فقد كان بين متفائل ومتشائم من هذه الوزارة، ورأى البعض الأخر أن هذه الوزارة لا تعدو عن كونها وزارة انتقالية ليس إلا.
أما وزارة الخارجية البريطانية فقد كان رأيها أن هذه الوزارة لن تدوم طويلاً، فبريطانيا لا ترضى إلا بوزارة تكون ألعوبة بأيديها، وهي لم تعترض على تشكيلها لكي تهدئ الأوضاع في البلاد بعد الذي سببته حكومة نوري السعيد بعقد معاهدة 30 حزيران 1930.
كان على الوزارة الجديدة أن تلجأ إلى حل البرلمان الذي يتمتع فيه نوري السعيد بالأغلبية المطلقة لتقليم أظافره من جهة، ولإرضاء الشعب بعد أن زوّر نوري السعيد الانتخابات السابقة بشكل خطير.
 حاول نوري السعيد ثني ناجي شوكت عن حل البرلمان واعداً إياه بتأييد نواب حزبه للوزارة. غير أن الملك كان قد صمم على حل البرلمان، وأصدر الإرادة الملكية بحله في 8 تشرين الثاني 1932.
حاول نوري السعيد عرقلة قرار حل البرلمان بأن أوعز إلى نواب حزبه بعدم حضور الجلسة التي تتلى فيها الإرادة الملكية بحله، لكن ذلك لم يمنع من مضي الحكومة والملك قدماً في حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة. (6)
أما نوري السعيد فقد عقد اجتماع لقيادة حزبه في 10 تشرين الأول بعد يومين من قرار الحل، وأصدرت القيادة بياناً يندد بالحل، وقررت كذلك إرسال مذكرة إلى الملك فيصل ادعت فيها عدم شرعية الحل، وفوضت نوري السعيد بمتابعة المذكرة.
ولما بلغ الأمر للملك فيصل، قرر إبعاد نوري السعيد عن العراق بتعيينه
ممثلاً للعراق في عصبة الأمم في 16 تشرين الثاني 1932.
كان أمام حكومة ناجي شوكت مدة أربعة أشهر تبدأ من تاريخ حل البرلمان لإجراء انتخابات جديدة حسبما نص على ذلك القانون الأساسي بمادته الأربعين، ولذلك فقد سارعت الحكومة إلى تعين يوم 10 كانون الأول 1932 موعداً لانتخاب المنتخبين الثانويين، وجرت الانتخابات في جو من اللامبالاة من قبل الشعب الذي كان يدرك أن الحكومات المتعاقبة تجري الانتخابات حسبما تريد هي والمندوب السامي والملك، شاء الشعب أم أبى. ومع ذلك فقد رشح أعضاء من [ حزب الإخاء الوطني ] الذي يقوده الزعيم الوطني[ جعفر أبو التمن] بشكل فردي، وفاز معظم المرشحين في الانتخابات، ولكن عددهم كان قليلاً. كما رشح عدد من أعضاء [الحزب الوطني] بزعامة [يسين الهاشمي] على الرغم من حدوث انشقاق في قيادة الحزب بسبب مطالبة البعض منهم مقاطعة الانتخابات وفاز عدد من المرشحين .
أما حزب نوري السعيد [ حزب العهد ] فقد كان حزب حكومة وبرلمان فلما ذهبت الوزارة وحُل البرلمان تلاشى الحزب، لكن عدد من أعضاء الحزب رشحوا في الانتخابات بصورة فردية، وفازوا فيها.
كانت حصة الأسد كما هو جارٍ عادة في كل انتخابات للحكومة، فقد فازت كتلة الحكومة بـ  72 مقعداً في المجلس المؤلف من 88 مقعدا ودعيت كتلة رئيس الوزراء [الكتلة البرلمانية]، لكن هذه الكتلة بدأت بالتفكك عندما عقد المجلس اجتماعه في 8 آذار 1933، على أثر تواصل هجمات المعارضة على الحكومة. حاول ناجي شوكت بعد الانتخابات أن يوسع وزارته، ويدخل فيها عناصر ما كان يدعى بالمعارضة المعتدلة مثل [يسين الهاشمي] و[حكمت سليمان] لكن الملك لم يوافق على ذلك، وأثر بقاء الوزارة على حالها، وخيره بالبقاء على رأس الوزارة أو تكليف رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة، فما كان من ناجي شوكت إلا أن قدم استقالة حكومته إلى الملك في 18 آذار 1933، وتم قبول الاستقالة، وكلف الملك السيد رشيد عالي الكيلاني بتأليف وزارة جديدة  في 20 آذار 1933 .
توثيق الحلقة الرابعة
(1)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 158 ـ عبد الرزاق الحسني.
(2)   المجلة العسكرية العراقية ـ العدد 68 ـ ص 115.
(3)   مذكرات ناجي شوكت المخطوطة ـ ص 162 .
(4)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 193
(5)   نفس المصدر ـ ص 205  .
(6)   نفس المصدر ـ ص 212


418
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثالثة


حامد الحمداني                                               28/8/2008
                     
أولاً : جعفر العسكري يفشل في إقرار المعاهدة:
كان رئيس الوزراء السيد جعفر العسكري قد أخذ على عاتقه إقرار معاهدة 1930، حيث كان قد سافر إلى لندن لوضع مسودة المعاهدة والتوقيع عليها بالأحرف الأولى كي تعرض على البرلمان لإقرارها.
لكن العسكري وجد نفسه في موقف صعب بعد عودته إلى بغداد. فقد استقال كل من وزير الداخلية [رشيد عالي الكيلاني]، ووزير المالية  [يسين الهاشمي]،كما وجد البلاد في حالة من الغليان الشديد احتجاجاً على تلك المعاهدة التي لم تختلف في جوهرها عن سابقاتها معاهدة 1922 ومعاهدة 1926.
 فلازالت بريطانيا تقيد العراق بقيود ثقيلة  في سائر المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية، وتتدخل بشؤون العراق صغيرها وكبيرها.
وهكذا وجد رئيس الوزراء أن مواجهة مجلس النواب بهذه المعاهدة قد بات أمراً صعباً للغاية، فلم يجد ُبد من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 8 كانون الثاني 1928، وقد تم قبول الاستقالة وكلف الملك السيد عبد المحسن السعدون بتأليف وزارته الثالثة في 14 كانون الثاني 1928. (1)

ثانياً:عبد المحسن السعدون يفشل في إقرار المعاهدة وانتحاره
كان في مقدمة المهام الملقاة على عاتق هذه الحكومة بطبيعة الحال هو إقرار المعاهدة الجديدة في مجلس النواب، والشروع في مفاوضات لتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.
وحيث أن الحكومة الجديدة لا تضمن الأكثرية في المجلس، ولوجود معارضة قوية من قبل العديد من النواب للمعاهدة المذكورة، فقد طلب رئيس الوزراء من الملك فيصل إصدار الإرادة الملكية بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة. وتم للسعد ون ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 18كانون الثاني1928، وقامت الحكومة بحملة تنقلات واسعة في الجهاز الإداري بين كبار الموظف قبل إجراء الانتخابات العامة لتأمين حصول الحكومة على الأكثرية اللازمة لإقرار المعاهدة.
لكن أحداث خطيرة وقعت في العراق في أول عهد الوزارة، فقد قبضت الحكومة على الشيخ  [ضاري الشعلان ] الذي اتهم هو وأولاده بقتل الكولونيل [ لجمان ] بعد قرار السلطات البريطانية بالقبض عليه ومحاكمته أبان ثورة العشرين، واضطر الشيخ ضاري إلى الهرب، لكنه وقع في قبضة الحكومة في 3 تشرين الثاني 1927 نتيجة وشاية، فأحيل إلى المحاكمة وهو في حالة صحية سيئة، وحكم عليه بالإعدام ثم جرى تخفيض الحكم إلى السجن المؤبد، ولم يمضِ على سجن الشيخ ضاري سوى بضعة أيام حتى فارق الحياة في سجنه.
أدى موت الشيخ ضاري إلى هياج الجماهير الشعبية التي خرجت في مظاهرات صاخبة واقتحمت المستشفى، وانتزعت جثة الفقيد، وسارت به في مظاهرة عارمة وهي تندد بالحكومة وبالاستعمار البريطاني، وكان ذلك أول صدمة تلقتها الحكومة السعدونية.(2)
وجاءت زيارة الصهيوني البريطاني المعروف [السير الفرد موند] إلى العراق في 8 شباط 1928، واستقباله من قبل المندوب السامي، وكبار الشخصيات اليهودية المتحمسة للحركة الصهيونية لتزيد في الطين بله، فقد أثار مقدمه إلى العراق موجة من السخط العارم لدى أبناء الشعب الذين هبوا في مظاهرة صاخبة منددين بالصهيونية والاستعمار البريطاني وبالحكومة، واستخدمت الحكومة القوة لتفريق المتظاهرين فوقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وأصيب خلال المصادمات العديد من المتظاهرين وأفراد الشرطة.(3)
لقد كانت المظاهرة من السعة بحيث ضمت أكثر من عشرين ألفاً سارت نحو محطة قطار الكرخ، حيث كان من المقرر أن يمر من هناك موكب الزائر الصهيوني، واضطرت الحكومة إلى تغير مسار الموكب نحو الكاظمية فالأعظمية، حيث نزل [الفرد موند] عند المندوب السامي البريطاني. وقامت الحكومة بحملة واسعة ضد العناصر الوطنية التي ساهمت في المظاهرة، وأغلقت [نادي التضامن] الذي اتهمت الحكومة المشرفين عليه بالتحريض على التظاهر، وأصدرت أمراً بمنع التجمعات والمظاهرات بدون موافقة السلطة.
كما قررت وزارة المعارف طرد عدد كبير من الطلاب والمدرسين وأحالت قسم منهم إلى المحاكمة، وأعلن وزير المعارف [ توفيق السويدي] أن الحكومة عازمة على منع المظاهرات حتى ولو تطلب الأمر إطلاق الرصاص على الطلاب المتظاهرين المخالفين للقرار.
أما المندوب السامي فقد قدم احتجاجاً للملك على قيام المظاهرات المنددة بالصهيونية وببريطانيا، لكن المظاهرات تجددت يوم 10 شباط حيث انطلقت من جامع [الحيدرخانه ] مظاهرة كبيرة تهتف بسقوط الصهيونية وسقوط وعد [بلفور] والاستعمار البريطاني، وجرى صدام عنيف مع رجال الشرطة التي استطاعت تفريق المظاهرة بعد جهد كبير، واعتقلت عدد من الخطباء وإحالتهم إلى المحاكمة.
ولما كان مجلس النواب قد حُلّ، ولإصرار الحكومة على إعادة الأمن وقمع المظاهرات فقد لجأت إلى إصدار المراسيم العقابية ضد كل من يحاول التظاهر، ونصت تلك المراسيم على جلد المتظاهرين، ووضعهم تحت مراقبة الشرطة، والطرد من المدارس والوظائف، والأبعاد والنفي وغيرها من المراسيم المنافية لروح الدستور، وقد أثارت هذه المراسيم موجة احتجاجات عاتية من قبل الأحزاب السياسية والصحافة التي وصفتها بأنها مراسيم جائرة.
وعلى أثر ذلك استقال وزير العدل [ حكمت سليمان ] من منصبه احتجاجاً على حضور المستشار البريطاني  لوزارة العدل جلسة مجلس الوزراء، والتي قرر خلالها المجلس إصدار تلك المراسيم، ودور المستشار البريطاني في إصدارها، ونتيجة لكل تلك الضغوط اضطرت الحكومة إلى إلغاء تلك المراسيم في 17 أيار 1928. (4)
وفي 22 كانون الثاني 1928 شرعت الحكومة في الأعداد للانتخابات
الجديدة لمجلس النواب، وعبأت المعارضة قواها لخوضها، وبدأت الحكومة تمارس ضغوطها للتأثير على سير الانتخابات للخروج بمجلس يؤيد سياستها، ويقر المعاهدة الجديدة مما أثار موجة من الاحتجاجات لدى المعارضة التي أعلنت أن الحكومة تعين النواب في واقع الأمر، وتقوم بتهديد الأهالي للتصويت لمرشحيها.
تم انتخاب المجلس في 9 أيار 1928 بالشكل الذي أرادته الحكومة بعد أن استخدمت كل وسائل التزوير والترهيب، واحتج حزبا [ الاستقلال ] و الحزب [الوطني] على نتائج الانتخاب في مذكرة رفعاها إلى رئيس الوزراء.
تم دعوة المجلس الجديد للاجتماع يوم 13 أيار 1928، حيث ألقى الملك فيصل خطاب العرش، والذي حاول فيه تبرير حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة بالرجوع إلى رغبات الأمة !! في بعض الأمور الخطيرة، وكان الملك يقصد بذلك إقرار المعاهدة الجديدة، والتفاوض على تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.
ولما رأت بعض الشخصيات الوطنية ما تنوي الحكومة الأقدام عليه قررت تجميع صفوفها، وتأسيس حزب سياسي معارض يقف ضد تلك المعاهدة فكان تأليف [الحزب الوطني ] بقيادة الشخصية الوطنية البارزة [جعفر أبو التمن ]، وضمت قيادة الحزب كل من السادة [محمد مهدي البصير] و[علي محمود الشيخ علي] و[أحمد عزت الأعظمي] و[عبد الغفور البدري] [ومولود مخلص] و[بهجت زينل] و[محمود رامز] . وبعض الشخصيات الوطنية الأخرى.(5)
قررت الحكومة السعدونية بدء المفاوضات مع بريطانيا في 11 تشرين الأول 1928 حول تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وفوضت وزراء الدفاع والمالية والمعارف للتفاوض مع الجانب البريطاني، فيما فوضت بريطانيا من جانبها المندوب السامي ومارشال الجو [ أدور ولنكتون]، والسكرتير المالي لدار الاعتماد، وقد تقدم الوفد البريطاني بمسودة اتفاقيتين جديدتين لكي تحلان محل الاتفاقيتين الملحقتين بمعاهدة 1922.
لكن الوفد العراقي المفاوض وجد أن هاتين المسودتين لا تختلفان في جوهرهما عن سابقتيهما، ولذلك اعترض عليهما، وقدم من جانبه مسودتان جديدتان تضمنتا المطالب التي تحقق طموحات العراق في التحرر من التبعية البريطانية عسكريا ومالياً.
 فقد تضمنت مسودة الاتفاقية العسكرية الطلب بأن يكون من مسؤولية الجيش العراقي الحفاظ على أمنه الداخلي والخارجي، مع تحديد عدد الضباط البريطانيين في الجيش، وأن يعهد بإدارة الأحكام العرفية إلى ضابط عراقي بدلاً من البريطاني.
أما مسودة الاتفاقية المالية فقد تضمنت طلب العراق تملك السكك الحديدية التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وعدم تحمل الجانب العراقي نفقات المندوبية البريطانية.
أثارت المسودتين المقدمتين من الجانب العراقي غضب المندوب السامي البريطاني الذي أعلن على الفور رفض قبولهما، مما تسبب في وقوع أزمة بين الحكومة العراقية والمندوب السامي، وسارعت الحكومة إلى إرسال مذكرة للمندوب السامي في 27 كانون الأول أوضحت له فيها وجهة نظرها في المفاوضات الجارية وضمنتها المطالب التالية:
1ـ ضرورة تولي الجيش العراقي مسؤولية الدفاع عن الوطن.
2 ـ انتخاب قائد القوات المشتركة  [البريطاني] من قبل الملك فيصل.
3 ـ إدارة الأحكام العرفية من قبل ضابط عراقي .
4 ـ رفض سلطة قائد القوة الجوية البريطاني على الجيش العراقي.
5 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي .
6 ـ رفض الفقرة الخاصة بالدفاع البحري عن العراق .
أما ما يخص الاتفاقية المالية فإن الحكومة ترى ما يلي:
1 ـ أن العراق هو المسؤول عن مالية قواته البرية والجوية، وإن ما تقدمه الحكومة البريطانية من مساعدة يذهب إلى رواتب العدد الكبير من الضباط البريطانيين الذين لا ضرورة لبقائهم .
2ـ إن إمكانية الحكومة العراقية لا تسمح بدفع نفقات دار المندوبية البريطانية .
3 ـ يجب تعديل اتفاقية الرسوم الجمركية بما يتفق ومصالح العراق.
4ـ ضرورة تملك العراق للسكك الحديدية، والحكومة العراقية على استعداد لدفع تعويض للحكومة البريطانية.
5 ـ تحديد فترة زمنية لنفاذ الاتفاقية المالية.
و في الختام أبلغت الحكومة المندوب السامي في مذكرتها بأنها سوف لا تقدم المعاهدة الجديدة إلى مجلس الأمة قبل تعديل هاتين الاتفاقيتين المذكورتين. (6)
أما المندوب السامي، وبعد إطلاعه على مذكرة الحكومة العراقية، فقد سارع إلى الرد بعنف على ما جاء في مذكرة الحكومة، وخصوصاً فيما أعلنته حول عدم تقديم المعاهدة الجديدة إلى مجلس النواب قبل تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ودعا المندوب السامي الحكومة العراقية إلى أن تعلن أن أحكام الاتفاقيتين نافذة طالما لم يتوصل الجانبان لاتفاقيات جديدة.
سارع السعدون بعد تلقي مذكرة المندوب السامي إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء ودعا  قادة المعارضة السادة [رشيد عالي الكيلاني] و[جعفر أبو التمن] و[ياسين الهاشمي] لحضور الجلسة، وأطلعهم على مذكرة المندوب السامي، وطلب مشورتهم فيما يمكن عمله، وقد أشاروا عليه بالاستقالة مؤكدين له أن لا أحد سيقدم على تشكيل وزارة جديدة.
وبعد هذا اللقاء جمع السعدون قادة حزبه [ حزب التقدم ] وعرض عليهم الأمر، وقد اتخذ قادة الحزب قراراً بدعم موقف السعدون.
وبناء عليه سارع السعدون إلى إرسال مذكرة جوابية إلى المندوب السامي أعلن فيها أن الشعب العراقي ومجلس الأمة لا يرضيان بأقل من تحقيق المطالب التي تقدمت بها وزارته، وأن الحكومة غير مستعدة لتعلن الاتفاق على استمرار سريان مفعول الاتفاقيتين العسكرية والمالية السابقتين إلى أجل غير مسمى، وأن إقدام الحكومة على خطوة كهذه معناه الرجوع إلى الوراء، وأن ذلك مخل بكرامة الحكومة ومدعاة إلى القول بحقها أقوال شتى، وعليه فلم يعد أمام الوزارة غير تقديم استقالتها، وسوف أقدم استقالتي بداعي الأسباب الصحية، وعدم الإدلاء بأي بيان عن المفاوضات لمجلس الأمة لكي لا يحدث ما لا يحمد عقباه، ويتخذ المجلس قراراً مخالفاً لخطة الوزارة المقبلة.
سارع المندوب السامي إلى إبلاغ وزير المستعمرات البريطاني برقياً في 19 كانون الثاني 1929عن الموقف المتأزم، وعن عزم الحكومة السعدونية على الاستقالة. وحالما قرأ الوزير البريطاني الرسالة كتب إلى السعدون مذكرة مستعجلة رجاه فيها الاستمرار في الحكم  رغم فشل الطرفين في التوصل إلى اتفاق بشأن الاتفاقيتين العسكرية والمالية، واعداً إياه بمعاضدة بريطانـيا لــدخول العـراق إلى عصبة الأمم، وإمكانية تحقيق بعض المطالب التي تقدمت بها حكومته.إلا أن السـعدون رد على مـذكرة وزيـر المستعمرات البريطاني بمذكرة أرسلها له في 19 كانون الثاني 1929 معرباً له عن رفضه الاستمرار في تحمل المسؤولية.
 قدم السعدون استقالة حكومته إلى الملك في 20 كانون الثاني 1929 واضطر الملك إلى قبول الاستقالة على مضض طالباً منه تسيير أمور الحكم حتى تؤلف وزارة جديدة.
لم يتمكن الملك فيصل من تشكيل وزارة جديدة لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ استقالة وزارة السعدون، بسبب الموقف البريطاني المتعنت من تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ولما وجد المعتمد السامي أن الأمر قد طال، ولتخوفه من خطورة الأزمة أسرع إلى مقابلة الملك فيصل طالباً منه الإسراع بتأليف الوزارة بأسرع ما يمكن، وقد رد عليه الملك انه لا يستطيع تكليف أحد بتأليف الوزارة طالما بقي الموقف البريطاني على حاله.
وسارع السعدون إلى دعم موقف الملك بغية إحراج المندوب السامي، فبعث إلى الملك برسالة أبلغه فيها بأنه لا يستطيع الاستمرار في تسيير دفة الحكم أكثر من هذه المدة، وطلب من الملك قبول الاستقالة والانسحاب راجياً الملك أن يكلف أحداً بتشكيل الوزارة. (7)
وفي تلك الأيام أنتقل الحكم في بريطانيا من حزب المحافظين إلى حزب العمال، وقررت الحكومة العمالية الجديدة نقل المندوب السامي [ هنري دوبس ] على أثر المشادة الكلامية التي حصلت بينه وبين الملك، وبذلك انتهت خدماته في العراق، وغادر بغداد في 1 شباط 1929، وقررت الحكومة البريطانية تعيين السير[جلبرت كلايتي] خلفاً له، والذي وصل بغداد في 2 آذار 1929.
تأمل الشعب العراقي أن يحصل تغير في السياسة البريطانية تجاه العراق بعد انتقال الحكم إلى حزب العمال وتغير المندوب السامي. فقد وعد المندوب السامي الجديد في خطابه الموجه إلى الملك فيصل أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه العراق !!، ودعاه إلى المحافظة على الثقة والاعتماد المتبادلين.كما سارع المندوب السامي الجديد إلى لقاء رئيس الوزراء المستقيل عبد المحسن السعدون راجياً إياه العدول عن الاستقالة والاستمرار في الحكم.
 لكن السعدون أبلغه أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم طالما أصرت بريطانيا على عدم الاستجابة لمطالب العراق الوطنية المشروعة.
وعلى اثر تلك المقابلة سارع المندوب السامي إلى إعلام الحكومة البريطانية بالموقف، ووجدت الحكومة البريطانية أن بقاء التوتر بينها وبين الشعب العراقي ليس في صالح بريطانيا، وأن استمرار التوتر ينذر بأخطار كبيرة، فكتبت إلى مندوبها السامي  تعلمه أن الوزارة عازمة على إدخال العراق في عصبة الأمم  شرط أن تضمن المصالح البريطانية من خلال تعهدات ترتبط بها حكومة العراق مع بريطانيا، وأنها مستعدة للنظر في مطالب العراق فيما يخص الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وعليه فقد سارع المندوب السامي إلى إبلاغ الملك فيصل بمضمون رسالة وزير المستعمرات البريطانية في 21 نيسان 1929.
حاول الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة، إلا أن
السعدون أبلغ الملك أن أعضاء حزبه في البرلمان لا يستطيعون منح الثقة لنوري السعيد، ولما لم يجد الملك مفراً من ذلك عهد إلى توفيق السويدي بتأليف الوزارة الجديدة في 28 نيسان 1929 على أمل إنقاذ الموقف، وجرى تأليف الوزارة على عجل. (8)
جاءت الوزارة الجديدة من هيئة الوزارة السعدونية السابقة، ومستندة إلى حزب السعدون الذي يتمتع بالأغلبية في مجلس النواب، لكن الحزب وضع أمام الوزارة شرط إجراء التعديلات المطلوبة على الاتفاقيتين المالية والعسكرية كي تنال ثقة البرلمان.
أثار تشكيل توفيق السويدي للوزارة موجة من الغضب الشعبي، وغضب أحزاب المعارضة على حد سواء، ولذلك فقد كان عمر الوزارة قصيراً، ولم تستطع أن تقدم شيئاً يذكر سوى تصديها للمظاهرات الوطنية التي قامت في بغدد في 30 آب 1929 احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها الصهاينة وقوات الاحتلال البريطاني في فلسطين ضد السكان العرب في ذلك الشهر، حيث تصدت الشرطة للمظاهرات وقمعتها بالقوة، وقامت الحكومة بتعطيل صحيفتي {النهضة } و{الوطن }، وتوجيه إنذار لصحيفة {العالم العربي } بسبب نشر المقالات المنددة بوعد [بلفور] وجرائم الصهاينة في فلسطين، واحتج الحزب الوطني على أساليب الحكومة القمعية، وقمعها للحريات العامة.
وبسبب الموقف الشعبي وموقف أحزاب المعارضة من الحكومة لم يجد توفيق السويدي بُداً من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 25 آب  1929 ولم يمضِ على تشكيلها سوى أقل من أربعة أشهر كي تعقبها وزارة السعدون الرابعة، حيث كلفه الملك فيصل بتأليف الوزارة الجديدة في 19 أيلول 1929.
وخلال الفترة الزمنية التي تلت استقالة حكومة السويدي وتأليف حكومة عبد المحسن السعدون توفي المندوب السامي [ جلبرت كلايتي] بالسكتة القلبية في بغداد مساء يوم الأربعاء 11 أيلول 1929. شكل عبد المحسن السعدون وزارته الرابعة في 19 أيلول 1929 مبدياً أول ملاحظاته عن الوضع السياسي حيث أشار فيها إلى أن بريطانيا قد وافقت على العمل لإدخال العراق في عصبة الأمم دون قيد أو شرط عام 1932.
كما أعلن عن رغبة بريطانيا في عقد معاهدة جديدة لتنظيم العلاقة بين البلدين، على نفس الأسس التي أقتُرح للاتفاق المصري البريطاني، وأشار إلى أن هذا الموقف يعتبر تراجعاً من بريطانيا عن مواقفها السابقة المتصلبة تجاه المطالب العراقية المشروعة في التحرر والاستقلال الوطني والسيادة الحقيقية، وقد وضع السعدون في مقدمة قائمة المهام لوزارته الأمور التالية:
1 ـ العمل على عقد معاهدة جديدة وتطبيقها لتسريع دخول العراق في عصبة الأم  قبل عام 1932، وإزالة أي صبغة للاحتلال البريطاني في صلب المعاهدة الجديدة. 
2 ـ إنهاء مسؤولية بريطانيا الدفاعية عن العراق، وإناطتها بالجيش العراقي، وتطبيق قانون التجنيد الإلزامي، لبناء جيش كبير وقوي يستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه.
3 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي، وتقليص عدد المفتشين البريطانيين، والموظفين الذين لا تستدعي الحاجة إلى بقائهم، واستبدالهم بموظفين عراقيين.
 4ـ إعادة النظر في التعريفة الجمركية، وتشجيع الصناعات الوطنية وصمودها أمام المنافسة الأجنبية.
وبالنظر لوفاة المندوب السامي [ جلبرت كلايتي ] المفاجئة بالسكتة القلبية قررت الحكومة البريطانية تعيين السير [ فرانسيس هيمفريز] ليحل محله كمندوب سامٍ لها في العراق، في 7 تشرين الأول 1929، ووصل بالفعل إلى بغداد لتسلم مهام منصبه في 10 كانون الأول من السنة نفسها، وأعلنت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه عن عزمها على ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932.
قررت حكومة السعدون الشروع بإجراء المفاوضات لوضع معاهدة جديدة تلبي طموح الشعب العراقي، وألّفت وفدها المفاوض من السادة وزراء الدفاع والمالية والداخلية، وسارع السعدون إلى طرح برنامج حكومته أمام مجلس النواب في أول لقاء له مع المجلس بعد تأليف وزارته.
لكن المعارضة هاجمته بشدة، واتهمته بالتراجع عن مواقفه السابقة التي أصر فيها على المطالب العراقية المشروعة فيما يخص المعاهدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.
وجاء ردّ ه على نواب المعارضة بنفس الدرجة من العنف عندما أنتقد النواب قبوله لتصريح الحكومة البريطانية السالف الذكر، وعما سيحصل إذا تغيرت الحكومة العمالية، وتراجعت بريطانيا عن التصريح حيث قال:
{إذا حصل ذلك فإني اعتقد أن نيل الاستقلال تابع إلى جرأة الأمة، فالأمة التي تريد الاستقلال يجب أن تتهيأ له، ولا يكون ذلك بالكلام والأقوال الفارغة، فالاستقلال يؤخذ بالقوة والتضحية، وهذا ما أحببت أن أقوله}.
انتحار عبد المحسن السعدون:
كان لكلام عبد المحسن السعدون في مجلس النواب دوي كبير لدى الجانب المعارض والجانب الموالي لبريطانيا على حد سواء، ففي الوقت الذي ثمّنَ المعارضون ما قاله من أن الاستقلال يؤخذ بالقوة، ومطالبته الشعب بالتهيؤ له والتضحية في سبيله، فإن الموالين لبريطانيا قد أغضبهم حديثه، وسعى البعض منهم للوشاية به لدى وكيل المندوب السامي البريطاني [ الميجر يانك ] لذي سارع إلى معاتبته، وتقريعه بكلمات خشنة وعنيفة أثارت في نفسه الحزن العميق لدرجة لم يعد يتحملها، ودفعته إلى الانتحار في 13 تشرين الثاني 1929، حيث أطلق على نفسه الرصاص تاركا رفاقه، والملك فيصل، ووكيل المندوب السامي في حالة من الذهول الشديد، والقلق العميق مما يمكن أن يحدثه انتحاره من رد فعل لدى الشعب، وقد ترك وصيته لأبنه [علي ] شرح فيها أسباب أقدامه على الانتحار، وأوصاه بوالدته و أخوته الصغار، وهذه نص الوصية:
{ ولدي وعيني، ومستندي علي: اعفِِ عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذةً، وذوقاً، وشرفاً. فالأمة تنتظر مني خدمة، والإنكليز لا يوافقون، وليس لي ظهير. العراقيون طلاب الإستقلال ضعفاء وعاجزون، وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير أرباب الناموس أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنكليز؟ ما أعظم هذه المصيبة !! أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني، قد كابدت أنواع الإحتقارات، وتحملت المذلات مضضاً في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش بها آبائي وأجدادي مرفهين .ولدي نصيحتي الأخيرة لك هي :
1 ـ أن ترحم أخوتك الصغار، الذين سيبقون يتامى، وتحترم والدتك، وتخلص لوطنك.
2 ـ أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصاً مطلقاً.
 أعفِ عني يا ولدي علي} . (10)            
                                                                                 التوقيع
                                            عبد المحسن السعدون

سارعت الحكومة إلى إذاعة نبأ الفاجعة، وجرى تشيع مهيب للفقيد إلى المقبرة الكيلانية في باب الشيخ، وسار خلف جنازته جميع الشخصيات السياسية، وجمع غفير جداً من أبناء الشعب، وهم يعبرون عن الأسى والحزن العميق لانتحاره، وانهالت برقيات التعازي من شتى أنحاء العالم. أما وكيل المندوب السامي فقد أحتج على الحكومة بشدة بسبب سماحها بنشر وصية السعدون، معتبراً ذلك العمل تحريضاً على بريطانيا وسياستها تجاه العراق، وتثير هيجاناً لدى الرأي العام العراقي، لكن الملك فيصل والحكومة حاولوا بكل خنوع تبرير نشر الوصية إرضاءً لوكيل المندوب السامي البريطاني. (11)
بعد إتمام مراسيم تشيع الفقيد أصبحت الوزارة في حكم المستقيلة، وتحتم تشكيل وزارة جديدة تحاول تهدئة الغليان الشعبي الذي أحدثه انتحاره، ولاسيما بعد  نشر وصيته، واتفق الملك فيصل مع وكيل المندوب السامي على ترشيح السيد [ ناجي السويدي ] ، وصدرت الإرادة الملكية بتكليفه في 18 تشرين الثاني 1929، وتم تشكيل الوزارة، وأعرب رئيس الوزراء بعد تشكيل وزارته في رسالته الموجه إلى الملك فيصل عن عزمه على السير على نفس النهج الذي سارت عليه وزارة الفقيد السعدون، وأكد حرصه على فسح المجال للوزراء لممارسة مهام وزاراتهم بحرية، والعمل على الحد من تدخل المندوب السامي والمستشارين البريطانيين، والعمل على تحقيق أماني الشعب فيما يخص المعاهدة الجديدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية بما يضمن حقوق العراق وحريته واستقلاله.
 وقد أوعز رئيس الوزراء إلى اللجنة التي شكلها السعدون لمفاوضة بريطانيا حول المعاهدة الجديدة، وبُوشر بالمفاوضات مع الوفد البريطاني، برئاسة المندوب السامي.
 لكن المفاوضات اصطدمت مرة أخرى برفض المندوب السامي الاستجابة للمطالب الوطنية، وبقيت مواقف الطرفين متباعدة جداً، ولم تستطع المفاوضات تحقيق أي تقدم .
وفي عهد هذه الوزارة بدأ النفوذ الأمريكي بالتغلغل في العراق بشكل رسمي، بعد أن وقعت الحكومة الأمريكية من جهة، والحكومتان البريطانية والعراقية من جهة أخرى في 9 كانون الثاني 1930 على معاهدة تؤمن المصالح الأمريكية في العراق، وقد جعلت هذه المعاهدة تحت الهيمنة البريطانيةـ الأمريكية المشتركة،المتشابكة مصالحهما الاقتصادية والعسكرية والسياسية مع بعضها البعض، وكان الشيء الإيجابي الوحيد في تلك المعاهدة هو اعتراف الولايات المتحدة باستقلال العراق. (12)
غير أن هذه الوزارة عجزت عن تحقيق أي من الأمور الرئيسية التي كان قد قررها الراحل عبد المحسن السعدون في منهاجه والتي كانت قد وعدت بتنفيذها. فقد حاولت الحكومة تقليص الميزانية المخصصة للموظفين البريطانيين في محاولة منها لتقليص عددهم، وأدى ذلك إلى اصطدام الحكومة بالمندوب السامي الذي  استشاط غضباً على خطط الحكومة، وطلب من الملك التخلص منها، واضطرت الحكومة تحت ضغط المندوب السامي إلى تقديم استقالتها إلى الملك فيصل في 9 آذار 1930، وتم قبول الاستقالة، ورحب المندوب السامي بها، ووقف رئيس الوزراء [ ناجي السويدي ] يخطب في مجلس النواب شارحاً أسباب الاستقالة ومتهماً الموظفين البريطانيين بالتحكم في أمور البلاد، ثم تلاه [يسين الهاشمي] وقال مخاطباً أعضاء المجلس أن الإنكليز يحكمون البلاد حكماً كيفياً، وإن الملك فيصل يساير الإنكليز، ولا يستطيع معارضتهم. (13)
أدت استقالة الحكومة، وبيان رئيسها حول سبب الاستقالة إلى هيجان شعبي عارم، وخرجت جماهير الشعب في مظاهرات صاخبة احتجاجاً على السياسة البريطانية تجاه العراق، ومطالبة بالاستقلال الحقيقي الناجز، والتخلص من الهيمنة الإمبريالية، وقد تقاطرت الوفود من كافة أنحاء العراق للمشاركة في مظاهرات الاحتجاج، وانهالت البرقيات على الحكومة والصحافة الوطنية، وأصبح الوضع يهدد بوقوع أحداث خطيرة، وخاصة في 21 آذار،حيث اجتاحت بغداد مظاهرة كبرى أقفلت على أثرها المحال التجارية والأسواق أبوابها، وأصدر المندوب السامي أمراً للموظفين البريطانيين بملازمة مساكنهم، وسارت المظاهرة في شوارع بغداد، وتوجهت إلى الباب الشرقي، ثم إلى دور السفارات والقنصليات، وهم يهتفون الهتافات الوطنية المطالبة بالاستقلال الناجز، ورفض الهيمنة البريطانية، وبالنظر لخطورة الموقف أشار المندوب السامي على الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها إقرار المعاهدة.
ثالثاً: نوري السعيد يشكل الوزارة، ويتولى إقرار المعاهدة:
هكذا إذاً شكل نوري السعيد وزارته الأولى في 23 آذار 1930، بناء على تكليف الملك بطلب من المندوب السامي البريطاني، وكان ذلك التكليف باكورة هيمنته على سياسة العراق، حيث تولى الحكم أربعة عشر مرة منذُ ذلك التاريخ وحتى سقوط النظام الملكي إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولعب خلال تلك الحقبة دوراً خطيراً في حياة البلاد السياسية، واشتهر بإخلاصه التام للإنكليز، وبحملات القمع التي مارسها ضد أبناء الشعب، والمراسيم الجائرة التي كان يصدرها لكي يسكت أفواه المواطنين وقوى المعارضة العراقية، مستخدماً كل الوسائل والسبل المخالفة للدستور. كما اتخذ له موقفاً معادياً من حركات التحرر العربية إرضاءً لأسياده البريطانيين. وقد جاءت وزارته على الشكل التالي :
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية.
2 ـ جميل المدفعي  ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ علي جودت الأيوبي ـ وزيراً للمالية .
4 ـ جمـال بابان ـ وزيراً للعدل .
5 ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ جميل الراوي ـ وزيراً للأشغال والإسكان .
7 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف .
وقد أعلن نوري السعيد أن أمام وزارته مهمة التفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة على أساس الاستقلال، ودخول العراق إلى عصبة الأمم، لكن حقيقة الأمر أن حكومة نوري السعيد جاءت لفرض معاهدة 1930 الجائرة على العراق. (14)

رابعاً: إجراءات السعيد لتأمين فرض معاهدة 1930:
بدأت المفاوضات العراقية البريطانية حول عقد معاهدة جديدة في 31 آذار 1930، وقد ترأس الوفد البريطاني المندوب السامي السير  [هيمفريز]، وضم الوفد مساعده [الميجر يونك ] و[المستر ستاجر] ،فيما كان الوفد العراقي برئاسة [الملك فيصل ]، وعضوية [نوري السعيد] و[جعفر العسكري ] و[رستم حيدر ]، وقد لعب الملك دوراً بارزاً في المفاوضات، وكانت الحكومة تصدر كل يوم بياناً مقتضباً حول مجرى المفاوضات دون الدخول في التفاصيل، حتى جاء يوم 8 نيسان 1930 حين صدر بيان عن الحكومة يقول:
لقد تم الاتفاق بين المتفاوضين على ما يلي:
1ـ إن المعاهدة التي تجري المذاكرة حولها الآن ستدخل حيز التنفيذ عند دخول العراق في عصبة الأمم.
2ـ إن وضع العراق كما هو مصرح في المعاهدة سيكون وضع دولة حرة مستقلة.
3ـ عند دخول المعاهدة الجديدة حيز العمل ستنتهي حالاً جميع المعاهدات والاتفاقات الموجودة ما بين العراق وبريطانيا العظمى، والانتداب الذي قبله صاحب الجلالة البريطانية سينتهي بطبيعة الحال.
 لعب نوري السعيد دوراً أساسياً في عقد المعاهدة الجديدة بالنظر للثقة الكبيرة التي أولاها البريطانيون له، والاطمئنان إليه، وكذلك ثقة الملك فيصل.
كان الشعب العراقي يدرك أن المفاوضات لن تطول، وهذا ما كان، فقد أعلن بيان رسمي للحكومة  في 30 حزيران 1930 عن توقيع معاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا العظمى تنفذ حال قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وأن المعاهدة ستنشر في بغداد ولندن في وقت واحد يتفق عليه الطرفان.
باشر نوري السعيد المهام التي أنيطت به، وكان جُلّ همه أن ينجح في الامتحان الصعب، وينال ثقة الإنكليز، وقد فعل ذلك ونجح، وأصبح رجل بريطانيا القوي دون منازع، فكانت بريطانيا تنيط به تأليف الوزارة كلما كان لديها مهمة صعبة تنوي تنفيذها كما سنرى فيما بعد، وقد اتخذ نوري السعيد الإجراءات التالية تمهيداً لإقرار المعاهدة.
1ـ  حل المجلس النيابي :
بعد أن أتمت الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة يستطيع من خلالها تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط.
وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز، وأحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة منددة بنوري السعيد وبالمعاهدة وبالإمبريالية البريطانية، فقد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق، بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة، وتقييد العراق بقيود جديدة. (15)
2 ـ  السعيد يزور الانتخابات لضمان فرض المعاهدة :
بعد أن حلت الحكومة مجلس النواب، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط  والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن ] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو وليس الشعب. وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول  1930 في جو مشحون بالإرهاب.
 فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية بالوكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه وأساليبه القمعية المعروفة لإرهاب المنتخبين الثانويين، وإجبارهم على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات، تنقلات واسعة بين رؤساء وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة.
 لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل 88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى من قبل مجلس النواب،وجاءت المعاهدة على الوجه التالي. (16)
خامسا: نص معاهدة 30 حزيران 1930: (17)
صاحب الجلالة ملك العراق.
وصاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
لما كانا راغبين في توثيق أواصر الصداقة، والاحتفاظ  بصلات التفاهم وإدامتها ما بين بلديهما، ولما كان صاحب الجلالة ملك بريطانيا قد تعهد في معاهدة التحالف الموقع عليها في بغداد في اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية، بأن ينظر نظراً فعلياً في تمتين علاقاتنا في فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات، ولما كانت حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قد أعلمت الحكومة العراقية في اليوم الرابع عشر من أيلول سنة 1929 أنها مستعدة لعضد ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 بلا قيد ولا شرط ، وأعلنت لمجلس العصبة في اليوم الرابع عشر من كانون الأول 1929 أن هذه هي نيتها. ولما كانت المسؤوليات الانتدابية التي قبلها صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق ستنتهي من تلقاء نفسها،عند إدخال العراق عصبة الأمم، ولما كان صاحب الجلالة ملك العراق، وصاحب الجلالة البريطانية يريان أن الصلات التي ستقوم بينهما بصفة كونهما مستقلين، وينبغي تحديدها بعقد معاهدة تحالف وصداقة.
فقد اتفقا على عقد معاهدة جديدة لبلوغ هذه الغاية،على قواعد الحرية والمساواة التامتين، والاستقلال التام، وتصبح نافذة عند دخول العراق عصبة الأمم، وقد عينا عنهما مندوبين مفوضين هما:
عن جلالة ملك العراق: نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حامل وسامي النهضة والاستقلال من الصنف الثاني.
وعن جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار، إمبراطور الهند اللفتنانت كولونيل السر[ هنري هيمفريز]المعتمد السامي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق اللذان بعد أن تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة قد اتفقا على ما يلي :
المادة الأولى: يسود سلم وصداقة دائمين بين صاحب الجلالة ملك العراق وصاحب الجلالة البريطانية، ويؤسس بين الفريقين الساميين المتعاقدين تحالف وثيق، توطيداً لصداقتهما وتفاهمهما الودي، وصلاتهما الحسنة، وتجرى بينهما مشاورة تامة وصريحة في جميع الشؤون السياسية الخارجية، مما قد يكون له مساس مصالحهما المشتركة.
ويتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن لا يقف من البلاد الأجنبية موقفاً لا يتفق ومعاهدة   التحالف هذه، أو قد يخلق مصاعب للفريق الآخر.                                                                                                                       المادة الثانية : يمثل كل من الفريقين الساميين المتعاقدين لدى بلاط الفريق السامي المتعاقد الآخر ممثل سياسي [دبلوماسي] يعتمد وفقاً للأصول المرعية.
المادة الثالثة:إذا أدى نزاع بين العراق ودولة ثالثة إلى حالة يترتب عليها خطر قطع العلاقات بتلك الدولة يوحد عندئذٍ الفريقان الساميان المتعاقدان مساعيهما لتسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً لأي تعهدات دولية أخرى يمكن تطبيقها على تلك الحالة.
المادة الرابعة:إذا اشتبك أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في حرب رغم أحكام المادة الثالثة أعلاه   يبادر حينئذٍ الفريق السامي المتعاقد الآخر فوراً إلى معونته بصفة كونه حليفاً، وذلك دائماً وفق أحكام المادة التاسعة أدناه. و في حالة خطر حرب محدق يبادر الفريقان الساميان المتعاقدان فوراُ إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية.
إن معونة صاحب الجلالة ملك العراق في حالة حرب، أو خطر حرب محدق تنحصر في أن يقدم إلى صاحب الجلالة البريطاني في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر، والموانئ والمطارات، ووسائل المواصلات.
المادة الخامسة: من المفهوم بين الفريقين الساميين المتعاقدين أن مسؤولية حفظ الأمن الداخلي في العراق وأيضاً ـ بشرط مراعاة أحكام المادة الرابعة أعلاه مسؤولية الدفاع عن العراق إزاء الاعتداء الخارجي تنحصران في صاحب الجلالة ملك العراق.
مع ذلك يعترف جلالة ملك العراق بان حفظ   وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية بصورة دائمة في جميع الأحوال هما من صالح الفريقين الساميين المتعاقدين المشترك.
فمن أجل ذلك، وتسهيلاً للقيام بتعهدات صاحب الجلالة البريطانية وفقاً للمادة الرابعة أعلاه يتعهد جلالة ملك العراق بأن يمنح صاحب الجلالة البريطانية طيلة مدة التحالف موقعين لقاعدتين جويتين ينتقيهما صاحب الجلالة البريطانية في البصرة، أو في جوارها، وموقعاً واحداً لقاعدة جوية ينتقيها صاحب الجلالة البريطانية في غرب نهر الفرات.
وكذلك يأذن جلالة ملك العراق لصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الأراضي العراقية في الأماكن الأنفة الذكر وفقاً لأحكام ملحق هذه المعاهدة، على أن يكون مفهوماً أن وجود هذه القوات لن يعتبر بأي حال من الأحوال احتلالاً، ولن يمس على الإطلاق سيادة واستقلال العراق.
المادة السادسة: يعتبر ملحق هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.
المادة السابعة: تحل هذه المعاهدة محل معاهدتي التحالف الموقع عليهما في بغداد في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922 ميلادية، والموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية، وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني سنة 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية مع الاتفاقات الفرعية الملحقة بها، التي تمسي ملغاة عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وهذه المعاهدة في نسختين في كل من اللغتين العربية والإنكليزية، ويعتبر النص الأخير المعول عليه.
المادة الثامنة: يعترف الفريقان الساميان المتعاقدان بأنه عند الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة تنتهي من تلقاء نفسها وبصورة نهائية جميع المسؤوليات المترتبة على صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق وفقاً لأحكام وثيقة دولية أخرى، وينبغي أن يترتب على جلالة ملك العراق وحده، وعلى الفريقين الساميين المتعاقدين أن يبادرا فوراً إلى اتخاذ الوسائل المقتضية لتأمين نقل هذه المسؤوليات إلى جلالة ملك العراق.
المادة التاسعة:  ليس في هذه المعاهدة ما يرمي بوجه من الوجوه إلى الإخلال أو يخل بالحقوق والتعهدات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الفريقين الساميين المتعاقدين وفقاً لميثاق عصبة الأمم، أو معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في اليوم السابع والعشرين من شهر آب سنة 1928 ميلادية.
المادة العاشرة: إذا نشأ خلاف فيما يتعلق بتطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها ولم يوفق الفريقان الساميان المتعاقدان إلى الفصل فيه بالمفاوضة رأساً بينهما يعالج الخلاف حينئذٍ وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم .
المادة الحادية عشرة: تبرم هذه المعاهدة، ويتم تبادل الإبرام بأسرع ما يمكن، ثم يجري تنفيذها عند قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وتظل هذه المعاهدة نافذة لمدة خمس وعشرين سنة ابتداء من تاريخ تنفيذها، وفي أي وقت كان بعد عشرين سنة من تاريخ الشروع بتنفيذها، على الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما بناء على طلب أحدهما بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار على حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال.
وعند الخلاف في هذا الشأن يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم .
وإقراراً لما تقدم قد وقع كل من المندوبين المفوضين على هذه المعاهدة وختمها بختمه.
كتب في بغداد في اليوم الثلاثين من شهر حزيران سنة 1930 ميلادي الموافق لليوم الثاني من شهر صفر سنة 1349 هجرية.

          هنري هيمفر                                    نوري السعيد
ملحق
فقرة رقم 1
يعين صاحب الجلالة البريطانية من حين لأخر مقدار القوات التي يقيمها جلالته في العراق وفقاً لإحكام المادة الخامسة من هذه المعاهدة، وذلك بعد مشاورة صاحب الجلالة ملك العراق في الأمر،ويقيم صاحب الجلالة البريطانية قوات في [الهنيدي] لمدة خمس سنوات، بعد الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وذلك لكي يتمكن صاحب الجلالة ملك العراق من تنظيم القوات المقتضية للحلول محل تلك القوات، وعند انقضاء تلك المدة تكون قوات صاحب الجلالة البريطانية قد انسحبت من الهنيدي.
ولصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الموصل لمدة حدها الأعظم خمس سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وبعد ذلك لصاحب الجلالة البريطانية أن يضع قواته في الأماكن المذكورة في المادة الخامسة من هذه المعاهدة، ويؤجر صاحب الجلالة ملك العراق مدة هذا التحالف لصاحب الجلالة البريطانية المواقع المقتضية لإسكان قوات صاحب الجلالة البريطانية في تلك الأماكن.
فقرة رقم 2
بشرط مراعاة أي تعديلات قد يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على إحداثها في المستقبل، تظل الحصانات والامتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية،  بما في ذلك الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها القوات البريطانية في العراق شاملة القوات المشار إليها في الفقرة الأولى أعلاه، وتشمل أيضاً قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف، وهي القوات التي يحتمل وجودها في العراق عملاً بأحكام هذه المعاهدة وملحقها، أو وفقاً لاتفاق يتم عقده بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وأيضاً يواصل العمل بأحكام أي تشريع محلي له مساس بقوات صاحب الجلالة البريطانية المسلحة، وتتخذ الحكومة العراقية التدابير المقتضية للتثبت من كون الشروط المتبدلة لا تجعل موقف القوات البريطانية فيما يتعلق بالحصانات والامتيازات أقل ملائمة من الوجوه من الموقف الذي تتمتع به هذه القوات في تاريخ الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة
فقرة رقم 3
يوافق جلالة ملك العراق على القيام بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة في الفقرة الأولى من هذا الملحق، وتدريبها وأعالتها وعلى منحها عين التسهيلات استعمال التلغراف واللاسلكي، التي تتمتع بها عند الشروع
في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 4
يتعهد صاحب الجلالة ملك العراق بأن يقدم بناء على طلب صاحب الجلالة البريطانية، وعلى نفقة صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً للشروط التي يتفق عليها الفريقان الساميان المتعاقدان، حرساً خاصاً من قوات صاحب الجلالة ملك العراق لحماية القواعد الجوية، مما قد تشغله قوات صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً لأحكام هذه المعاهدة، وأن يؤمن سنّ القوانين التشريعية التي قد يقتضيها تنفيذ الشروط الآنفة الذكر .
فقرة رقم 5
يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يقوم عند كل طلب يطلبه صاحب الجلالة ملك العراق بجميع التسهيلات في الأمور التالية، وذلك على نفقة جلالة ملك العراق، وهي:
1 ـ تعليم الضباط العراقيين الفنون البحرية والعسكرية والجوية في المملكة المتحدة.
2 ـ تقديم الأسلحة والعتاد والتجهيزات والسفن والطائرات من أحدث طراز متيسر إلى قوات جلالة ملك العراق .
3 ـ تقديم ضباط بريطانيين مجربين عسكريين وجويين للخدمة بصفة استشارية في قوا

419
نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
الحلقة الثانية

حامد الحمداني                                            29/9/2008


أولاً: حكومة السعدون تفشل في إقرار معاهدة عام 1922 الاسترقاقية
كان على حكومة عبد المحسن السعدون تنفيذ المهام الموكلة لها بانتخاب المجلس التأسيسي، وإقرار المعاهدة، وإقرار القانون الأساسي، وقانون الانتخاب، ومن أجل تنفيذ هذه المهام فقد كان على الحكومة أن تهيئ الأجواء التي تمكنها من تنفيذ هذه المهام بعد تلك الموجة العارمة التي اجتاحت العراق احتجاجاً على بنود المعاهدة التي وقعتها حكومة النقيب مع المندوب السامي البريطاني [بيرسي كوكس ] وذلك عن طريق توجيه ضربة قاصمة للقادة الوطنيين المعارضين للمعاهدة، ولرجال الدين في النجف وكربلاء الذين وقفوا بصلابة ضدها .
 فقد قبضت السلطات الحكومية على الشيخ [مهدي الخالصي ] وولديه في 27 حزيران 1923، ونفتهم خارج العراق، كما نفت قريبيه الشيخين[علي تقي] و[سلمان الصفواني] وعطلت الحكومة عدد من الصحف المعارضة للمعاهدة، وقامت بحملة إرهاب للمواطنين لحملهم على المشاركة في الانتخابات المزمع أجراءها، والتي كان المندوب السامي يلح على إجرائها بأسرع وقت لغرض إقرار المعاهدة .(1)
أثار عملية إبعاد الشيخ الخالصي وولديه وقريبيه موجة احتجاجات عارمة من قبل رجال الدين في النجف وكربلاء الذين هاجموا إجراءات الحكومة، وطالبوا بعودتهم إلى العراق .
غير أن الحكومة بدلاً من أن تستجيب لمطالبهم واحتجاجاتهم أقدمت على إبعاد ما يزيد على 30 رجل دين أخر منهم إلى إيران، ووضعت تحت مراقبة الشرطة أكثر من 50 آخرين، وأشاعت جواً من الإرهاب في جميع أنحاء البلاد مما سبب في هيجان الشارع العراقي حيث خرجت الجماهير الشعبية تعلن رفضها للمعاهدة وتستنكر إجراءات الحكومة.
وبسبب تلك المعارضة الشعبية الواسعة، وبسبب الضغوط التي مارسها المندوب السامي على حكومة السيد [ عبد المحسن السعدون ] لإقرار المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922، وعلى الرغم من الإجراءات القمعية التي اتخذتها ضد المعارضة الشعبية الواسعة وقادتها الوطنيين فإن السعدون فشل في تحقيق رغبة المندوب السامي بإقرارها بسبب بنودها المجحفة بحق العراق واستقلاله، حيث أعطت تلك البنود بريطانيا الهيمنة المطلقة على مقدرات العراق، وقد  حاول المندوب السامي [برسي كوكس]  فرضها مستخدماً كافة وسائل الضغط على الملك والحكومة معاً، مما اضطر السعدون إلى تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 15 تشرين الأول 1923، حيث تم قبول الاستقالة على الفور، وعهد الملك تأليف الوزارة الجديدة إلى السيد جعفر العسكري الذي اختار بدوره صهره نوري السعيد وزيراً للدفاع، لكي تأخذ هذه الحكومة على عاتقها إقرار المعاهدة، وتم تشكيل الوزارة في 22 تشرين الثاني 1923.

ثانياً :  كيف تم إقرار المعاهدة ؟
في 2 نيسان 1924  قدم رئيس الوزراء[جعفر العسكري] المعاهدة العراقية البريطانية مع البروتوكول المرفق بها، والاتفاقيات المتفرعة عنها إلى المجلس التأسيسي طالباً منه إقرارها.
وحاول رئيس الوزراء تبرير ضرورة إقرار المعاهدة بصورة مستعجلة بحجة تمكين بريطانيا من إدخال العراق إلى عصبة الأمم، وتأمين الاستقلال الوطني، وحسم مسألة الحدود العراقية التركية، وقضية ولاية الموصل التي سعت تركيا بكل جهودها لضمها إليها، واستخدمت بريطانيا هذه المشكلة وسيلة ضغط على الحكومة العراقية لقبول المعاهدة المفروضة على العراق، وهذا ما أعلن عنه بصراحة أمام أعضاء المجلس [عبد المحسن السعدون ]،رئيس المجلس رداً على اعتراضات النواب الوطنيين حيث قال:
{ أيها السادة: إن الإنكليز مصرون على ربط قضية الموصل بتوقيع المعاهدة، فإما المعاهدة، وإما خسارة ولاية الموصل }. (2)
حاول رئيس الوزراء جعفر العسكري تمرير المعاهدة بأسرع ما يمكن بسبب إلحاح المندوب السامي البريطاني، لكن المعارضة طلبت توزيع لائحة المعاهدة على أعضاء المجلس لدراستها ومناقشتها، ولكي تعلن للشعب تفاصيلها، وجاء ذلك الاقتراح على لسان السيد[ ناجي السويدي] حيث جرى التصويت عليه وقبل الاقتراح وتم توزيع نسخ من المعاهدة، وطلب السيد ناجي السويدي تشكيل لجنة  لتدقيق المعاهدة على أن تضم عضواً عن كل لواء، وبالفعل تم تشكيل اللجنة التي تألفت من النواب التالية أسماؤهم :
1 ـ ياسين الهاشمي                  2 ـ عمر علوان 
 3 ـ زامل المناع                     4 ـ حبيب الخيزران
 5 ـ أصف أغا                       6 ـ داؤد الجلبي
7 ـ فالح الصيهود                   8 ـ محمد زكي         
 9 ـ عداي الجريان                 10 ـ فهد الهذال           
11ـ شريف أغا                     12 ـ حبيب الطالباني         
 13 ـ المرزا فرج                  14 ـ عبد الواحد سكر   
15 ـ صالح شكارة .
باشرت اللجنة اجتماعاتها لمناقشة بنود المعاهدة حيث عقدت 29 جلسة نهارية، و20 جلسة مسائية، ودرست خلالها بنود المعاهدة، والمراسلات والوثائق المتعلقة بها، ووضعت تقريرها الذي ضم 65 صفحة.
في الوقت الذي كان المجلس التأسيسي يناقش بنود المعاهدة، كان الشارع العراق في حالة من الغليان الشديد، وكان العلماء  والمحامون والمثقفون والأساتذة والطلاب ينظمون الاجتماعات والمظاهرات المطالبة بتعديل بنود المعاهدة بما يتفق وأماني الشعب في الحرية، والاستقلال الحقيقي، وكان لتلك المظاهرات والاحتجاجات أثرها الكبير على العديد من أعضاء المجلس الذين غيروا رأيهم، وطالبوا بتعديل بنود المعاهدة، وقد سبب هذا الموقف قلقاً شديداً للملك فيصل وللمندوب السامي البريطاني على حد سواء، وخاصة بعد إطلاق النار على أثنين من أعضاء المجلس المعروفين بولائهم للإنكليز وهما [ عداي الجريان ] و[سلمان البراك] مما خلق جواً من الرعب والقلق، ودفع عدد من أعضاء المجلس إلى تقديم استقالتهم، فيما امتنع البعض الآخر عن حضور جلسات المجلس بحجج مختلفة.

لقد سرتْ إشاعات في بغداد تقول أن إطلاق النار كان مدبراً من قبل الحكومة لاتخاذه مبرراً للتنكيل بالمعارضة وقمعها، واعتقال العناصر النشطة المعارضة للمعاهدة، وقيل أن الذي أطلق النار على عضوي المجلس هو أحد أزلام نوري السعيد [شاكر القره غولي]،وبالتعاون مع [عبد الله سرية].(3)
ولم تكتفِ الحكومة بكل ذلك بل لجأت إلى إغلاق العديد من صحف المعارضة كان من بينها[ الشعب] و[الاستقلال ] و[الناشئة] بغية كمّ الأصوات الوطنية المطالبة بتعديل بنود المعاهدة بما يتفق ومصالح الشعب والوطن .
لكن إصرار المعارضة الشعبية على مواصلة الكفاح ضد المعاهدة وضد سياسة الحكومة، وتصاعد الأزمة التي نشأت عن محاولة فرض المعاهدة التي كانت تنذر بتطورات خطيرة أجبرت الحكومة على تقديم استقالتها .
إلا أن الملك فيصل والمندوب السامي ضغطا على جعفر العسكري لكي يبقى في الحكم لحين إقرار المعاهدة .
كان المندوب السامي يراقب عن كثب مناقشات المجلس التأسيسي لبنود المعاهدة، وخطب الموالين والمعارضين، كما كان يراقب ما تنشره الصحف المعارضة، وتملكه شعور بالغضب لإصرار عدد  كبير من أعضاء المجلس على تعديل بنود المعاهدة، وعلى تأخر إبرامها، فبعث إلى الملك فيصل بمذكرة خطيرة تنم عن التهديد، في 26 نيسان 1924،وجاء في المذكرة :
{حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، دام ملكه:
يا صاحب الجلالة:
كثيراً ما اقُترح في أثناء المباحثات بخصوص معاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق،والاتفاقيات المتفرعة،أن يُطلب من الحكومة البريطانية أن توافق على تعديلات في بعض الأمور التي يداخل المجلس شك بخصوصها. فلي الشرف أن أبلغ جلالتكم أن الحكومة البريطانية لا يسعها الموافقة على أي تعديلات، لا في المعاهدة ولا في البروتوكولات، ولا في الاتفاقيات، والأمر متروك للمجلس التأسيسي في أن يقبلها [ أي المعاهدة والبروتوكولات والاتفاقيات ] أو يرفضها برمتها،على نحو ما يراه الأفضل لمصلحة العراق.

إن السبب في قرار الحكومة البريطانية هذا  هو أن إجراء التعديلات في المعاهدة والاتفاقيات بين توقيعها وإبرامها مخالف كل المخالفة للتعامل الدولي المقرر من أزمنة بعيدة في التاريخ، ويؤدي إلى جعل إتمام المعاهدات إتماماً نهائياً من المستحيلات تقريباً}. (4)
كانت مذكرة المندوب السامي هذه بمثابة إنذار للملك فيصل، بضرورة إقرار المعاهدة دون تغير أو تأخير.
وفي 16 أيار 1924 بعث المندوب السامي بمذكرة أخرى للملك فيصل،جاء فيها :
{يا صاحب الجلالة: لقد قمت بإيقاف حكومة صاحب الجلالة البريطانية تمام الوقوف على ما قد بدا حديثاً في العراق من الآراء والرغائب فيما يتعلق بمعاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق  والاتفاقيات المتفرعة عنها، وقد فوضتني الآن حكومة صاحب الجلالة البريطانية،بأن أبلغ جلالتكم رسمياً ما يلي :
{ إن حكومة صاحب الجلالة البريطانية لا يسعها أن تقبل قبل الإبرام أي تعديلات ما في المعاهدة والاتفاقيات التي سبق توقيعها بالنيابة عن الحكومتين، ولكن ستكون بعد الإبرام مستعدة لأن تبحث بروح الاعتدال، في كل ما قد يُرغب فيه من تعديلات في الاتفاقية المالية، هذا ولاشك في أن جلالتكم ستتخذون الوسائل لنشر هذا الكتاب}. (5)
            صديق جلالتكم  هنري. دوبس

ثالثاً:الشعب يتحدى والحكومة تطلق النار على المتظاهرين:

في الوقت الذي أشتد فيه ضغط المندوب السامي وحكومته على الملك فيصل والحكومة والمجلس التأسيسي من أجل الإسراع بإقرار المعاهدة العراقية البريطانية دون تأخير، ودون إجراء أي تعديل أو تغير عليها، صعّد الشعب العراقي كفاحه ضد المعاهدة، وسير المظاهرات الصاخبة المطالبة بتعديل بنودها بما يحقق السيادة الحقيقية، والاستقلال التام للعراق .
 لقد أراد الشعب وقواه السياسية الوطنية تقديم الدعم الأقصى للنواب الوطنيين في المجلس التأسيسي  ليكون موقفهم قوياً أثناء مناقشة بنود المعاهدة.
ولما بلغ أسماع أبناء الشعب أن المعاهدة ستناقش يوم 29 أيار 1924 خرجت مظاهرة صاخبة تندد بالمعاهدة، وتطالب بتعديلها، وتوجهت المظاهرة إلى مقر المجلس التأسيسي وأحاطت به، وكانت أصوات الغضب المنبعثة من حناجر المتظاهرين قد أجبرت رئيس الوزراء للخروج والتحدث إلى قادة المظاهرة طالباً منهم التفرق، والاعتماد على المندوبين، واعداً إياهم بعدم التفريط بحقوق الشعب وحرية العراق واستقلاله.
لكن حديثه لم ينجح في إقناع المتظاهرين، وحاولت الشرطة تفريقهم بالقوة، ولكنها فشلت في ذلك، ووقعت صِدامات عنيفة بينهم وبين المتظاهرين، مما دفع وزير الدفاع  [نوري السعيد ] إلى استدعاء قوات الجيش لقمع حركة الاحتجاجات الشعبية، حيث جرت مصادمات عنيفة بين عناصر الجيش والمتظاهرين بعد أن استخدم الجيش الرصاص لتفريق المظاهرة، ووقوع إصابات عديدة في صفوف المتظاهرين العزل من السلاح، واستطاع الجيش تفريق المظاهرة. (6)
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان رسمي في محاولة منها لتبرير استدعاء الجيش، واستخدام السلاح ضد أبناء الشعب المطالب بحريته واستقلال وطنه، كما أصدر رئيس المجلس التأسيسي في 29 أيار 1924 بياناً لتطمين أبناء الشعب معلناً أن المجلس سوف لن يفرط بحقوق الشعب مهما كانت الأحوال، وطالباً من أبناء الشعب انتظار قرار المجلس بكل اطمئنان .
وعلى اثر تلك الأحداث الدامية قرر المجلس تأجيل مناقشة المعاهدة إلى يوم السبت 3 أيار، لكن عدداً من المندوبين تغيبوا عن الحضور في ذلك اليوم، وكانت آثار الخوف والقلق بادية على وجوه الحاضرين منهم حتى أن الكثيرين منهم رفض الدخول إلى القاعة، مما اضطر رئيس المجلس إلى تأجيل الاجتماع إلى يوم 2 حزيران. وفيما بدأ الحاضرون في مغادرة بناية المجلس، حضر المندوب السامي [ هنري دوبس ] وبصحبته مستشار وزارة الداخلية المستر  [كرونواليس ]، واضطر أعضاء المجلس إلى العودة إلى القاعة ليستمعوا إلى المندوب السامي.
تحدث المندوب السامي أمام الأعضاء الحاضرين بلهجة تنم عن التهديد والوعيد قائلاً:
{ بلغني أن بعض النواب قدموا تقريراً يقولون فيه أن المجلس لا يقبل إبرام المعاهدة ما لم تعطي بريطانيا ضماناً بالتعديل على أساس تقرير اللجنة التي شكلها المجلس لدراسة بنود المعاهدة، وهذا يعني في حقيقة الأمر تعديل المعاهدة، وهذا ما تعتبره حكومتي رفضاً للمعاهدة، وعلى المجلس أن يلاحظ تأثير ذلك على سير المفاوضات مع تركيا حول ولاية الموصل، فقد أخذنا معلومات بأن السير[بيرسي كوكس ] عند وصوله إلى الاستانة شاهد تسهيلات في المعاملة لإبقاء ولاية الموصل للعراق.
 ولكن عند ما بلغ الأتراك سير أعمال المجلس التأسيسي العراقي  تغيروا وصاروا يطلبون ولاية الموصل، وإنهم يرفضون إحالة الأمر إلى مجلس عصبة الأمم }. (7)
كانت كلمة المندوب السامي أمام الحاضرين من أعضاء المجلس التأسيسي بمثابة إنذار لهم، فإما إقرار المعاهدة وإما سلخ ولاية الموصل من العراق، مستخدماً قضية الموصل ورقة ضغط كبرى لغرض إقرار المعاهدة.  وقبل أن يغادر القاعة طلب إقرار المعاهدة بشكلها الحالي واعداً أعضاء المجلس بأجراء مفاوضات لتعديل ما طالبت به اللجنة في تقريرها شرط أن يكون ذلك بعد إقرار المعاهدة .
وفي 2 حزيران 1924 أجتمع المجلس التأسيسي من جديد، وحضر الاجتماع 63 عضواً من مجموع 100، وبدأ المجلس بمناقشة بنود المعاهدة، وأثناء المناقشة حدثت مشادات عنيفة بين الأعضاء المؤيدين للحكومة والمعارضين لها، واسُتخدمت فيها أقسى العبارات.
في تلك الساعات الحرجة كان الملك فيصل يشعر نفسه واقعاً بين نارين، نار المندوب السامي البريطاني وضغطه المتواصل لإبرام المعاهدة، بما فيها من مسٍ خطيرٍ بحقوق العراق ومستقبله، ونار المعارضة الشعبية العارمة والرافضة لتلك المعاهدة، وبقي في حيرة من أمره لا يدري ماذا يفعل، وكيف يرضي المندوب السامي، ويرضي الشعب العراقي في الوقت نفسه .
وحاول الملك من خلال اللقاء الذي دعا إليه أعضاء المجلس التأسيسي يوم 9 حزيران 1924 الوصول إلى حل ما  لهذه الأزمة حيث تحدث  مع أعضاء المجلس قائلاً : {أنا لا أقول لكم أقبلوا المعاهدة أو ارفضوها، وإنما أقول لكم اعملوا ما ترونه الأنفع لمصلحة بلادكم فان أردتم رفضها فلا تتركوا فيصلاً معلقاً بين السماء والأرض، بل أوجدوا لنا طريقاً غير المعاهدة، فلا تضيعوا ما في أيديكم من وسيلة للمحافظة على كيانكم، وتحينوا الفرصة لتحصلوا على ما هو أكثر مما في أيديكم}. (8)
وفي 10 حزيران 1924 عقد المجلس التأسيسي جلسته الثالثة والعشرين، وأعلن رئيس المجلس أن هناك اقتراحاً من عدد من أعضاء المجلس بتأجيل البت في المعاهدة إلى حين الانتهاء من مشكلة ولاية الموصل، ثم طلب رئيس الوزراء [جعفر العسكري ] الحديث طالباً من المجلس عدم تأجيل البت في المعاهدة بسبب أمور سياسية خارجية استوجبت ذلك، وكان رئيس الوزراء يشير بذلك إلى التهديدات البريطانية المتصاعدة للملك والحكومة لإقرار المعاهدة .
لكن المجلس صوت على تأجيل الجلسة إلى اليوم التالي، وقد أثار قرار التأجيل المندوب السامي، الذي صمم على فرض المعاهدة فرضاً.
فقد تحدث المندوب السامي مع الملك فيصل بالهاتف، وأعلمه بأنه سوف يكون عنده عصر ذلك اليوم لأمرٍ هام، فيما كان قد أعد مذكرة خطيرة يطلب فيها إصدار قانون بحل المجلس التأسيسي، وإصدار أمر باحتلال بناية المجلس .
وعند وصول المندوب السامي إلى البلاط عصر ذلك اليوم سلم الملك فيصل المذكرة التالية : {لا تستطيع حكومة صاحب الجلالة البريطانية في مثل هذه الظروف أن تسمح باستمرار الحالة الراهنة التي ينشأ عنها خطر عظيم يهدد سلامة العراق الداخلية والخارجية، فأن المذاكرات الأخيرة للمجلس التأسيسي التي جرت في هذا اليوم لم تظهر أي اقتراب من الاتفاق، ولا أي أمل في اتخاذ المجلس قراراً صريحاً وسريعاً، لذا طُلب إليّ أن أوجه أنظار جلالتكم كشرط لاستمرار تأييد حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن تصدروا فوراً بعد استشارة مجلس وزارتكم وبواسطته تعديلاً لقانون المجلس التأسيسي يخولكم حق فض المجلس في أي وقت شئتم خلال الأربعة أشهر من تاريخ افتتاح جلساته، وأن تأمروا بموجب هذا التعديل حل المجلس اعتباراً من الساعة الثانية عشرة من ليلة 10 على 11 حزيران.
وأرى من واجبي أن اطلب من جلالتكم أن تبلغوا الأمر رسمياً، بواسطة رئيس وزرائكم إلى رئيس المجلس التأسيسي قبل الساعة السابعة من صباح اليوم الحادي عشر من حزيران، وأن تصدروا التعليمات بواسطة وزير الداخلية لغلق بناية المجلس فوراً، وإحاطتها وما يجاورها بقوة من الشرطة تكفي لتنفيذ هذا الأمر}. (9)
حاول الملك فيصل وبحضور رئيس الوزراء [جعفر العسكري] وزعيم المعارضة [ياسين الهاشمي] إيجاد حل لهذه الأزمة مع المندوب السامي، وجرى بحث مستفيض حول السبل الممكنة لذلك، وقد طلب المندوب السامي أن يدعى المجلس التأسيسي إلى عقد جلسة له فوق العادة، وقبل منتصف الليل من هذا اليوم ويبرم المعاهدة كحل أخير ونهائي، وإلا يجب أن يحل المجلس.
 وعلى الفور أمر الملك باستدعاء رئيس المجلس إلى الحضور، وطلب إليه الملك والمندوب السامي أن يجمع أعضاء المجلس هذه الليلة ويقرّ المعاهدة دون تأخير.
خرج رئيس المجلس وبصحبته رئيس الوزراء، واحد مرافقي الملك، وبقي المندوب السامي في البلاط ليواصل الضغط على الملك لإقرار المعاهدة قبل الساعة الثانية عشرة ليلاً، وصار مدير الشرطة يرافقه مرافق الملك وعدد من أفراد الشرطة يدورون على أعضاء المجلس ويرغمونهم على حضور الجلسة لأجل إقرار المعاهدة في تلك الليلة، فقد ذكر الحاج ناجي،أحد أعضاء المجلس أن الشرطة انتزعته من سريره وحشرته في السيارة وهو لا يعرف إن كانوا سيأخذونه إلى المشنقة أم  إلى السجن، فقد كان من معارضي المعاهدة. (10)
رابعاً:المجلس  يجتمع ليلاً،ويقر المعاهدة تحت التهديد:
استطاع مدير الشرطة ورجاله جمع  68 نائباً في ليلة 10 / 11 حزيران 1924 قبل منتصف الليل، وأعلن رئيس المجلس [ عبد المحسن السعدون ] عن افتتاح الجلسة، حيث تحدث إلى الحاضرين من أعضائه قائلاً:{كان مجلسكم العالي قد أجل جلسته إلى يوم الغد (الأربعاء) غير أن جلالة الملك أبلغني بأن فخامة المندوب السامي قد أبلغ جلالته بأنه لا يمكن تأجيل المذاكرات إلى الغد، لأنه يعد ذلك رفضاً للمعاهدة، وعليه فقد دعوتكم إلى الاجتماع، ومن وظيفتي أن أبلغكم ذلك}. (11)
لم يكن أمام المجلس إلا إقرار المعاهدة في تلك الليلة، حيث جرى التصويت عليها على عجل، وتحت التهديد بحل المجلس، وقد وافق عليها 37 نائباً وعارضها 24، وامتنع عن التصويت 8 أعضاء، وبذلك أقرت المعاهدة من قبل المجلس التأسيسي .
ُسرّ المندوب السامي لإقرار المعاهدة، وهرع إلى البلاط الملكي حيث اجتمع إلى الملك فيصل وأبلغه أن الحكومة البريطانية تعتبر تصويت المجلس على المعاهدة وذيولها على النحو الذي تم يفي بالشروط المطلوبة في المادة 18 من المعاهدة والتي تنص على أن المعاهدة لا تبرم من قبل الفريقين الساميين المتعاقدين إلا بعد قبولها من المجلس التأسيسي .
ولا بد أن أشير هنا إلى أن الأعضاء الذين وافقوا على المعاهدة قد أضافوا فقرة تقول:{ وتصبح هذه المعاهدة واتفاقياتها لاغية لا حكم لها إذا لم تحافظ الحكومة البريطانية على بقاء ولاية الموصل ضمن العراق }.
وبعد توقيع المعاهدة وحصول الإمبرياليين البريطانيين على الامتيازات النفطية صادقت عصبة الأمم في 16 كانون الأول 1925 على عائدية ولاية الموصل للعراق، وجعل حدود العراق وفقاً لما يسمى [ خط بروكسل ] ودعت عصبة الأمم العراق إلى عقد معاهدة مع بريطانيا تضمن استمرار الانتداب على العراق لمدة 25 سنة، وبالفعل تم إقرار المعاهدة الجديدة في البرلمان في 18 كانون الثاني 1926، رغم معارضة النواب الوطنيين الذين طلبوا إحالتها إلى لجنة برلمانية لدراستها ولكن دون جدوى .
أما تركيا فقد خضعت للضغط البريطاني، ووافقت على بقاء ولاية الموصل ضمن العراق، وذلك بموجب المعاهدة العراقية البريطانية التركية المعقودة في 5 حزيران 1926،على أن تمنح الحكومة البريطانية تركيا نصف مليون ليرة بريطانية تعويضاً عن حصتها في البترول، بعد أن فشلت في إقناع بريطانيا بمنحها ولاية الموصل،لقاء منحها بريطانيا امتياز استخراج النفط واستثماره فيها، لكن الحكومة البريطانية رفضت العرض التركي لأنها وجدت مصلحتها في إعادة الولاية إلى العراق بعد أن ضمنت هيمنتها المطلقة على العراق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بموجب المعاهدة التي فرضتها على المجلس التأسيسي فرضاً . وقد وجدت من الضروري أن يطلع عليها القراء لما فيها من إجحاف بحق العراق وفيما يلي نصها:

خامساً: نص المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922
 جلالة ملك بريطانيا                                         جلالة ملك العراق
بما أن جلالة ملك بريطانيا قد أعترف بفيصل أبن الحسين ملكاً دستورياً على العراق، وبما أن جلالة ملك العراق يرى من مصلحة العراق، ومما يؤول إلى تأمين سرعة تقدمه، أن يعقد مع جلالة ملك بريطانيا معاهدة على أسس التحالف.
وبما أن جلالة ملك بريطانيا قد أقتنع بأن العلاقات بينه وبين جلالة ملك العراق يمكن تحديدها الآن بأحسن وجه، وهو عقد معاهدة تحالفيه كهذه، تفضيلاً لها على أي وسيلة أخرى، فبناء على ذلك قد عين المتعاقدان الساميان وكيلين عنهما مفوضين لأجل القيام بهذا الغرض وهما:
من قِبل جلالة ملك المملكة المتحدة بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار إمبراطور الهند السير [بيرسي كوكس ] المعتمد السامي البريطاني في العراق.
ومن قبل جلالة ملك العراق صاحب السماحة والفخامة عبد الرحمن النقيب رئيس الوزارة العراقية، ونقيب أشراف بغداد اللذان بعد أن تبلغ كل منهما أوراق اعتماد الآخر، ووجداها طبقاً للأصول الصحيحة المرعية، قد اتفقا على ما يأتي:
المادة الأولى:
بناء على طلب جلالة ملك العراق يتعهد جلالة ملك بريطانيا بأن يقوم في أثناء مدة هذه المعاهدة، مع التزام نصوصها، ما يقتضي لدولة العراق من المشورة والمساعدة بدون أن يمس ذلك بسيادتها الوطنية، ويمثل جلالة ملك بريطانيا بمعتمد سامٍ، وقنصل جنرال تعاونه حاشية كافية.
المادة الثانية :
يتعهد جلالة ملك العراق بأن لا يعيّن مدة هذه المعاهدة موظفاً ما في العراق من تابعية غير عراقية في الوظائف التي تقتضي إرادة ملكية بدون موافقة جلالة ملك بريطانيا، وستعقد اتفاقية منفردة لضبط عدد الموظفين البريطانيين، وشروط استخدامهم على هذا الوجه في الحكومة العراقية.
المادة الثالثة:
يوافق جلالة ملك العراق على أن ينظم قانوناً أساسياً، ليعرض على المجلس التأسيسي العراقي، ويكفل تنفيذ هذا القانون الذي يجب أن لا يحتوي على ما يخالف نصوص هذه المعاهدة، وأن يأخذ بعين الاعتبار حقوق ورغائب ومصالح جميع السكان القاطنين في العراق، ويكفل للجميع حرية الوجدان التامة، وحرية ممارسة جميع أشكال العبادة بشرط أن لا تكون مخلة بالآداب والنظام العموميين، وكذلك يكفل أن لا يكون أي تمييز بين سكان العراق، بسبب القومية أو الدين أو اللغة، ويؤمن لجميع الطوائف عدم نكران أو مساس حقها بالاحتفاظ بمدارسها لتعليم أعضائها بلغاتها الخاصة،على أن يكون ذلك موافقاً لمقتضيات التعليم العامة التي تفرضها حكومة العراق، ويجب أن يعين هذا القانون الأساسي الأصول الدستورية، تشريعية كانت أم تنفيذية، التي ستتبع في اتخاذ القرارات في الشؤون المهمة المرتبطة بمسائل المالية، والعسكرية.
المادة الرابعة:
 يوافق جلالة ملك العراق، وذلك من غير المساس بنصوص المادتين 17و 18 من هذه المعاهدة،على أن يستدل بما يقدمه جلالة ملك بريطانيا من المشورة بواسطة المعتمد السامي جميع الشؤون المهمة التي تمس بتعهدات جلالة ملك بريطانيا الدولية والمالية، وذلك طول مدة هذه المعاهدة، ويستشير جلالة ملك العراق المعتمد السامي الاستشارة التامة فيما يؤدي إلى سياسة مالية ونقدية سليمة، ويؤمن ثبات وحسن نظام مالية الحكومة العراقية مادامت تلك الحكومة مديونة لحكومة صاحب الجلالة البريطانية.
المادة الخامسة:
 لجلالة ملك العراق حق التمثيل السياسي في لندن، وغيرها من العواصم
والأماكن الأخرى، مما يتم الاتفاق بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وفي الأماكن التي لا ممثل فيها لجلالة ملك العراق، يوافق جلالته على أن يعهد إلى جلالة ملك بريطانيا بحماية الرعايا العراقيين فيها، و جلالة ملك العراق هو الذي يصدر التصديق على أوراق اعتماد ممثلي الدول الأجنبية في العراق بعد موافقة جلالة ملك بريطانيا على تعينهم.
المادة السادسة:
يتعهد جلالة ملك بريطانيا بأن يسعى بإدخال العراق في عضوية عصبة الأمم في أقرب ما يمكن.
المادة السابعة:
يتعهد جلالة ملك بريطانيا بأن يقدم من الإمداد والمساعدة لقوات جلالة ملك العراق المسلحة ما يتفق عليه من وقت لآخر الفريقان المتعاقدان الساميان، وتعقد بينهما اتفاقية منفردة لتعيين مقدار هذا الإمداد، وهذه المساعدة وشروطها، وتبلغ هذه الاتفاقية إلى مجلس جمعية الأمم.
لمادة الثامنة:
لا يتنازل عن أراضى ما في العراق، ولا تؤجر إلى أي دولة أجنبية، ولا توضع تحت سلطتها بأي طريقة كانت. على أن هذا لا يمنع جلالة ملك العراق من أن يتخذ ما يلزم من التدابير لإقامة الممثلين السياسيين، ولآجل
القيام بمقتضيات المادة السابقة.
المادة التاسعة :
 يتعهد جلالة ملك العراق بقبول الخطة الملائمة التي يشير بها جلالة ملك بريطانيا، ويكفل تنفيذها  في أمور العدلية لتأمين مصالح الأجانب، بسبب عدم تطبيق الامتيازات والصيانات التي كان يتمتع بها هؤلاء بموجب الامتيازات الأجنبية،أو العرف، ويجب أن توضع نصوص هذه الخطة في اتفاقية منفردة، وتبلغ إلى مجلس جمعية الأمم.
المادة العاشرة:
 يوافق الفريقان الساميان المتعاقدان، على عقد اتفاقية منفردة، لتأمين تنفيذ المعاهدات أو الاتفاقات ،أو التعهدات، التي قد تعهد جلالة ملك بريطانيا بأن تكون نافذة فيما يتعلق بالعراق، وجلالة ملك العراق متعهد بأن يهيئ المواد
التشريعية اللازمة لتنفيذها، وتبلغ هذه الاتفاقات إلى  مجلس جمعية الأمم.
المادة الحادي عشرة :
 يجب أن لا يكون ميّزة ما في العراق للرعايا البريطانيين، أو لغيرهم من رعايا الدول الأجنبية الأخرى، على رعايا أية دولة هي عضو في جمعية الأمم، أو رعايا أي دولة مما قد وافق جلالة ملك بريطانيا ،بموجب معاهدة، على أن يضمن لها عين الحقوق التي تتمتع بها فيما لو كانت من أعضاء الجمعية المذكورة، وتشمل كلمة رعايا الدولة الشركات المؤلفة بموجب قوانين تلك الدولة في الأمور المتعلقة بالضرائب، أو التجارة، أو الملاحة، أو ممارسة الصناعة والمهن، أو معاملة السفن التجارية، أو السفن الهوائية الملكية، وكذلك يجب أن لا تكون ميزة ما في العراق لدولة ما من الدول المذكورة على الأخرى فيما يتعلق بمعاملة البضائع الصادرة منها أو المصدرة إليها، ويجب أن تطلق حرية مرور البضائع وسط أراضي العراق بموجب شروط عادلة.
المادة الثانية عشرة :                                                           .                                                            لا تتخذ وسيلة ما في العراق لمنع أعمال التبشير،أو المداخلة فيها ،أو لتميّز مبشر على غيره بسبب اعتقاده الديني أو جنسيته على أن لا تخل
 تلك الأعمال بالنظام العام، وحسن إدارة الحكومة.
المادة الثالثة عشرة :
يتعهد جلالة ملك العراق بأن يساعد بقدر ما تسمح به الأحوال الاجتماعية والدينية وغيرها على تنفيذ كل خطة عامة تتخذها جمعية الأمم لمنع الأمراض ومقاومتها، ويدخل في ذلك أمراض الحيوانات والنباتات.
المادة الرابعة عشرة :
 يتعهد جلالة ملك العراق بأن يتخذ الوسائل اللازمة لسن نظام الآثار القديمة في خلال اثنتي عشر شهراً من تاريخ العمل بهذه المعاهدة، ويكفل تنفيذه.
ويكون هذا النظام مؤسساً على القواعد الملحقة بالمادة 421 من معاهدة الصلح الموقع عليها في [سيفر] في 10 آب 1920، فيقوم مقام النظام العثماني السابق للآثار القديمة، ويضمن المساواة في مسائل تحري الآثار القديمة بين رعايا جميع الدول، من أعضاء جمعية الأمم، ورعايا أية دولة مما قد وافق جلالة ملك بريطانيا بموجب معاهدة،على أن يضمن لها عين الحقوق التي تتمتع بها فيما لو كانت من ضمن أعضاء جمعية الأمم.
المادة الخامسة عشرة:
تعقد اتفاقية لتسوية العلاقات المالية بيم الفريقين الساميين ينص فيها من جهة على تسليم حكومة جلالة ملك بريطانيا إلى حكومة العراق ما يتفق عليه من المرافق العمومية، وعلى تقديم حكومة جلالة ملك بريطانيا مساعدة مالية حسبما تقتضيه الحاجة في العراق من وقت إلى آخر، وينص من جهة أخرى على تصفية حكومة العراق تدريجياً جميع الديون المتكبدة في هذا السبيل، وتبلغ هذه الاتفاقية إلى مجلس جمعية الأمم.
المادة السادسة عشرة:
 يتعهد جلالة ملك بريطانيا، على قدر ما تسمح به تعهداته الدولية، بان لا يضع عقبة ما في سبيل ارتباط دولة العراق، لمقاصد جمركية وغيرها، مع من يرغب من ذلك من الدول العربية المجاورة.
المادة السابعة عشرة:
في حالة وقوع خلاف بين الفريقين المتعاقدين الساميين فيما يتعلق بتفسير نصوص هذه المعاهدة، يعرض الأمر على محكمة العدل الدولية الدائمة المنصوص عليها في المادة 14 من عهد جمعية الأمم، وإذا وجد في حالة كهذه أن هناك تناقضاً في المعاهدة بين النص الإنكليزي والنص العربي، يعتبر النص الإنكليزي المعول عليه.
المادة الثامنة عشرة:
تصبح هذه المعاهدة نافذة العمل حال ما تُصدّق من قبل الفريقين المتعاقدين الساميين بعد قبولها من المجلس التأسيسي، وتظل  معمولا ًبها لمدة عشرين سنة، وعند انتهاء هذه المدة تفحص الحالة، فإذا إرتأ الفريقان الساميان المتعاقدان أنه لم يبقَ حاجة إليها يصار إلى إنهائها ،ويكون أمر الإنهاء عرضة للتثبيت من قبل جمعية الأمم، ما لم تدخل المادة السادسة في حيز التنفيذ قبل ذلك التاريخ، وفي الحالة الأخيرة  يجب أن يبلغ إشعار الإنهاء إلى مجلس جمعية الأمم، ولا مانع للفريقين الساميين المتعاقدين من إعادة النظر من وقت لأخر في شروط هذه المعاهدة، وشروط الاتفاقية المنفردة الناشئة عن المواد 7، 15، 17، بقصد إدخال ما يترائى مناسبته من التعديلات، حسبما تقتضيه الظروف الراهنة آنئذٍ، وكل تعديل يتفق عليه الفريقان الساميان المتعاقدان يجب أن يبلغ إلى مجلس جمعية الأمم، ويجب أن تتبادل تواقيع التصديق في بغداد. وقد وضعت هذه المعاهدة بالإنكليزية والعربية، وستبقى صورة منها بكل من اللغتين في خزانة سجلات حكومة صاحب الجلالة البريطانية. وللبيان قد وقع الوكيلان المفاوضان المختصان على هذه المعاهدة وثبتا ختميهما ع، الموافقلت في بغداد عن نسختين اثنتين، في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922،الموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية .
               بيرسي كوكس                         عبد الرحمن النقيب          المعتمد السامي  لجلالة ملك بريطانيا            رئيس وزراء العراق   

توثيق الحلقة الثانية
   (1)العراق ـ الكتاب الأول ـ ص 356 ـ حنا بطاطو .
  (2) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ ص 38 ـ عبد الرزاق الحسني.
(3)   العراق ـ الكتاب الأول ـ ص 369 ـ حنا بطاطو .
(4)   المصدر السابق.
(5)   نفس المصدر السابق ـ ص370 .
(6)   صحيفة العالم العربي ـ العدد 58 ـ في 1 حزيران 1924 .
(7)   نفس المصدر ـ العدد 65 ـ في 10 حزيران 1924 .
(8)   تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ ص 228 ـ عبد الرزاق الحسني.
(9)   نفس المصدر السابق .
(10)مجموعة مذكرات المجلس التأسيسي ،  المجلد الأول ـ ص 431 .
(11)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ ص 232 ـ الحسني.   


420
ملاحظة هامة للقراء الكرام: قبيل بدء عرض مسلسل نوري السعيد في شهر رمضان الكريم الذي سيجري بعد أيام، وجدت من المناسب أن أقدم للشعب العراقي على وجه الخصوص، وللعالم العربي بوجه عام فصول كتاب {نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى}  الموثق، لكي يطلع الجميع على تلك المرحلة الهامة من تاريخ العراق، والدور الذي لعبه نوري السعيد فيها.
                                                  المؤلف حامد الحمداني


نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى
كتاب في حلقات ـ الحلقة الأولى

حامد الحمداني                                          27/8/2008

لم يشهد تاريخ الحكم الملكي في العراق شخصية سياسية لعبت دوراً خطيراً في تاريخ العراق خلال تلك الحقبة الممتدة من عام 1921 ولغاية قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 كشخصية [نوري السعيد] فقد كان السعيد يتمتع بثقة كبرى ومنزلة خاصة لدى بريطانيا، وقد كانت بريطانيا تعتبره رجل المهمات الخاصة والكبرى للمصالح البريطانية في العراق وسائر منطقة الشرق الأوسط ، وكما هو معروف لدى المؤرخين والمتتبعين للسياسة البريطانية أن كل وزارة كانت تشكل في العهد الملكي تمر عبر السفارة البريطانية في بغداد، وينبغي أن تنال شخصياتها رضا وقبول السفير البريطاني. 
كانت بريطانيا، تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك، قد احتلت العراق عام 1915 أبان الحرب العالمية الأولى وأخضعته لانتدابها، واضطرت على أثر اندلاع ثورة العشرين إلى إقامة ما سمته بالحكم الوطني، لكنها في واقع الأمر كانت تهيمن على مقدرات العراق السياسية والاقتصادية والعسكرية وسائر الشؤون الأخرى، وكانت كلما كان لديها مهمة خطيرة  تشير على الملك فيصل الأول، ومن بعده الملك غازي، ثم الوصي على عرش العراق عبد الإله بعد مقتل الملك غازي، وانتهاءً بالملك فيصل الثاني إلى وجوب تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة العراقية الذي تعتمد عليه كل الاعتماد بأداء المهمة المطلوب تنفيذها، ولذلك كانت لنوري السعيد حصة الأسد في تلك المرحلة حيث شكل أربعة عشر وزارة، وهو رقم قياسي لم تحققه أي شخصية سياسية عراقية خلال تلك الحقبة من تاريخ العراق التي دامت 37عاماً.
ففي 23 آذار شكل نوري السعيد وزارته الأولى التي استمرت في الحكم حتى 19 تشرين الأول 1930.
وفي 19 تشرين الأول عام 1931شكل وزارته الثانية، واستمرت في الحكم حتى 27 تشرين الأول 1932 .
وفي 25 كانون الأول 1938 شكل وزارته الثالثة، واستمرت في الحكم حتى 6 نيسان 1939.                                                                .                                                             وفي 6 نيسان 1939 شكل وزارته الرابعة على أثر مقتل الملك غازي وتولي عبد الإله وصاية العرش بسبب صغر سن الملك فيصل الثاني آنذاك
واستمرت في الحكم حتى18 شباط 1940.
وفي 22 شباط 1940 شكل السعيد وزارته الخامسة، واستمرت في الحكم حتى 31 آذار 1940 .
وفي 9 تشرين الأول 1941 شكل وزارته السادسة، واستمرت في الحكم حتى3 تشرين الأول 1942.
وفي 8 تشرين الأول 1942 شكل وزارته السابعة، واستمرت في الحكم حتى 19 كانون الأول 1943.
وفي 25 كانون الأول 1943 شكل وزارته الثامنة، واستمرت في الحكم حتى 19 نيسان 1944 .
وفي 21 تشرين الثاني 1946 شكل وزارته التاسعة، واستمرت في الحكم حتى 19 نيسان 1944 .
وفي 6 كانون الثاني 1949 شكل وزارته العاشرة، واستمرت في الحكم حتى 9 كانون الأول 1949 .
وفي 15 أيلول 1950 شكل وزارته الحادية عشرة، واستمرت في الحكم حتى 10 تموز 1952.
وفي 3 آب 1954 شكل وزارته الثانية عشرة، واستمرت في الحكم حتى 17 كانون الأول 1957.
وفي 17 كانون الأول 1957 شكل السعيد وزارته الثالثة عشرة، واستمرت في الحكم حتى 8 حزيران 1957.
وفي 3 آذار 1958 شكل وزارته الرابعة عشرة، واستمرت في الحكم حتى 14 مايس 1958.
وفي 19 أيار 1958 شكل السعيد وزارة حكومة الاتحاد الهاشمي المقام بين العراق والمملكة الأردنية الهاشمية، واستمرت في الحكم حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق وبالاتحاد الهاشمي الذي أقيم على عجل رداً على قيام الوحدة السورية المصرية، وتكوين[الجمهورية العربية المتحدة].
 و بالإضافة إلى تأليفه أربعة عشر وزارة في تلك الحقبة فإنه كان قد شارك كوزير للدفاع أو الخارجية في عشرة وزارات أخرى، فقد شغل وزارة الدفاع في حكومة صهره[جعفر العسكري] بتاريخ 22 تشرين الثاني 1923
و في 1 تشرين الثاني 1924 شغل منصب وزير الدفاع في وزارة صهره جعفر العسكري الثانية.
وفي 21 نيسان 1926 حاول الملك فيصل الأول إسناد منصب رئيس الوزراء إلى نوري السعيد لأول مرة، إلا أن السيد [عبد المحسن السعدون] ٍالذي كان يسيطر أعضاء حزبه على البرلمان أبلغ الملك فيصل أن أعضاء حزبه لا يستطيعون منح ثقتهم لنوري السعيد، مما اضطر الملك إلى تكليف السيد [ توفيق السويدي] بتأليف الوزارة بدلاً من نوري السعيد. (3)
وفي 18 تشرين الثاني 1929 شغل نوري السعيد منصب وزير الدفاع في وزارة السيد [ ناجي السويدي ] التي أعقبت وزارة السيد عبد المحسن السعدون الذي انتحر في 13 تشرين الثاني من نفس العام .
وفي 20 آذار 1933 شغل نوري السعيد وزارة الخارجية في وزارة السيد  [رشيد عالي الكيلاني ] .
وفي 9 أيلول 1933 شغل نوري السعيد وزارة الخارجية في وزارة  [رشيد عالي الكيلاني]الثانية في أعقاب وفاة الملك فيصل الأول، وتسلم الملك غازي زمام الحكم.
وفي 9 تشرين الثاني شغل السعيد وزارة الخارجية، ووكالة وزارة الدفاع في وزارة السيد [ جميل المدفعي ] الأولى.
وفي 25 آب 1934 شغل السعيد وزارة الخارجية في وزارة السيد  [جميل المدفعي ] الثانية.
وفي 29 كانون الثاني 1953 شغل السعيد وزارة الدفاع في وزارة السيد [جميل المدفعي] الثالثة .

لقد لعب نوري السعيد خلال سنوات حكمه دوراً خطيراً في حياة البلاد، وكان سيفاً مسلطاً على رقاب الشعب العراقي حيث استهان بالدستور العراقي، وسلب منه كل الحقوق والحريات التي تمس حياة المواطنين، والتي نص عليها ذلك الدستور، ومنها حرية التنظيم الحزبي والنقابي وحرية الصحافة والنشر، وسائر المنظمات الديمقراطية والجمعيات وحتى النوادي العامة، وتلاعب في انتخابات مجلس النواب، وتزوير إرادة الناخبين باستمرار لضمان الإتيان ببرلمان ينفذ إرادته ومخططاته، وعمد مرات عديدة إلى حل المجلس النيابي واستغلال الوضع بإصدار المراسيم المنافية لنصوص الدستور، والمقيدة لحقوق وحريات المواطنين، وأعلن الأحكام العرفية لمرات عديدة ولفترات طويلة، ومارس حكماً قمعياً في حالات عديدة انتفض فيها الشعب العراقي احتجاجاً على سياسات الحكومات المتعاقبة، كما حدث بعد مقتل[ بكر صدقي] الذي قاد انقلاباً عسكرياً عام 1936، وتنكيله برجالات الانقلاب كان من بينهم رئيس الوزراء حكمت سليمان والعديد من الوزراء وكبار شخصيات الدولة، ومارس تلك السياسة الانتقامية بعد أحداث 2  أيار 1941 عندما قام رشيد عالي الكيلاني بحركته الانقلابية بمساعدة العقداء الأربعة[ قادة الجيش] والذين كان قد استخدمهم نوري السعيد نفسه عندما دبر انقلاباً على وزارة[ يسين الهاشمي] وقد نكل السعيد بالعقداء الأربعة حيث تم إعدامهم وعلق جثثهم في ساحات بغداد بعد أن احتل البريطانيون العراق من جديد واسقطوا حكومة الكيلاني، كما نكل بالعديد من الشخصيات السياسية التي اتهمها بالمشاركة في حركة الكيلاني الانقلابية وأودعهم السجون، ونفى البعض منهم .

كما مارس سياسته الإرهابية تجاه الشعب العراقي أبان وثبة كانون المجيدة عام 1948، ووثبة تشرين المجيدة عام 1952، وانتفاضة الشعب عام 1956 أبان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة واحتجاجاً على مواقفه من ذلك العدوان، وشماتته بالرئيس المصري جمال عبد الناصر.
ورغم كل المذكرات التي كان قد رفعها إلى الوصي عبد الإله كل من السيد كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، والسيد محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال حول السياسة المعادية لمصالح الشعب والوطن التي يتبعها نوري السعيد، والتي تهدد مصير الكيان العراقي لما تسببه من تراكم للسخط الشعبي، إلا أن عبد الإله صم آذانه عن سماع تلك النصائح، وأوغل في معاداة القوى السياسية الوطنية حتى وصل الأمر إلى إعدام قادة الحزب الشيوعي يوسف سلمان [ فهد ] وزكي بسيم  [حازم ] ومحمد حسين الشبيبي [ باسم]عام 1949 ،وملأ السجون بخيرة الوطنيين الساعين إلى حرية واستقلال العراق الحقيقي، وأغلق كافة الصحف والمجلات، وألغى جميع الأحزاب والجمعيات والنوادي وانتهى به المطاف إلى الحكم  على السيد كامل الجادرجي بالسجن والنفاذ إمعاناً باضطهاد الشعب وقواه السياسية الوطنية، وكان هذا السلوك المعادي للديمقراطية، وحقوق الإنسان الذي مارسه الثنائي نوري السعيد وعبد الإله عاملاً حاسماً في انفجار الغضب الشعبي، والعناصر الوطنية في قواتنا المسلحة في ثورة الرابع عشر من تموز 1958 بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، وكانت ثورة خاطفة أنهت النظام الملكي خلال ساعات، وأعلنت قيام النظام الجمهوري.
وقبل الولوج في صلب الدور الذي لعبه نوري السعيد وإجراءاته المنافية للدستور،واضطهاده لحقوق وحريات الشعب العراقي،لا بد وأن نقدم نبذة عن حياته بادئ ذي بدء،وعلاقته بالملك فيصل الأول وبالبريطانيين، وصعود نجمه بين سائر الشخصيات السياسية التي لعبت دوراً بارزاً في تلك المرحلة .
من هو نوري السعيد؟   
      ولد نوري السعيد عام 1888ميلادية في بغداد، من عائلة من الطبقة الوسطى (1) ،حيث كان والده يعمل مدققاً في إحدى الدوائر في العهد العثماني، وهو من الطائفة السنية، وقد درس السعيد في الأكاديمية العسكرية في اسطنبول، وتخرج برتبة ملازم في الجيش العثماني، كما درس في كلية الأركان وتخرج منها، وانظم إلى مجموعة الضباط [الشريفيين] الذين التحقوا بالثورة العربية ضد الحكم العثماني بزعامة الملك [حسين بن علي] ملك الحجاز عام 1916، كما انضم العديد من الضباط الآخرين إلى الملك فيصل الأول عندما تولى عرش سوريا لفترة وجيزة، حيث قدر عددهم آنذاك بحوالي 300 ضابط ومدني واحد هو السيد [رستم حيدر] وهو مدير مدرسة سابق من بعلبك في لبنان.
لكن القوات الفرنسية أسقطت نظام حكم الملك فيصل وطردته من سوريا، وقرر البريطانيون فيما بعد تنصيبه ملكاً على العراق، وقد رافقه الضباط الشريفيون عند انتقاله إلى العراق، وكان من بينهم  [نوري السعيد ] و [جعفر العسكري ] و[علي جودت الأيوبي ] و[جميل المدفعي] و[ياسين الهاشمي]  وأخيه [ طه الهاشمي ] و [تحسين العسكري ] و[ شاكر الوادي]  و[علي جودت الأيوبي]، وقد شغل هؤلاء جميعاً مناصب عليا في الدولة العراقية من بينها رئاسة الوزارات، واتخذ الملك فيصل ابن الحسين السيد  [رستم حيدر ] سكرتيراً خاصاً له وأمين أسراره، ورافقه حتى وفاته وتقلد العديد من المناصب على عهده كان أهمها رئاسة الديوان الملكي ووزارة المالية.
ورغم أن هذه المجموعة من الضباط الشريفيين كانوا من الطبقة الوسطى الدنيا، باستثناء عدد قليل منهم، لكنهم بمرور الزمن قد تملكوا الأراضي الزراعية من الدولة، وبذلك أصبحوا من طبقة الملاكين وكونوا لهم روابط قوية مع عائلات الطبقة العليا في المجتمع. (2)
لقد كان واضحاً لكل المؤرخين والمتتبعين أن الأمير فيصل لم يكن له حضاً في حكم العراق لولا الدعم البريطاني، ومجموعة الضباط الشريفيين، فقد كان هناك العديد من الشخصيات العراقية التي كانت ترى نفسها أحق من الملك فيصل في حكم العراق، وكان من أبرزهم السيد [عبد الرحمن النقيب]  والسيد [ طالب النقيب ]ً الذي أعلن صراحة أنه أحق من فيصل [الغريب] في حكم العراق، وقد اتخذ المندوب السامي قراراً بنفي السيد طالب النقيب إلى سيلان في 16 نيسان 1921، بعد أن وجد أنه يمثل خطورة كبيرة على المشروع البريطاني بتنصيب الأمير فيصل ابن الحسين بن علي ملكاً على العراق.(3)
كان الملك فيصل أكثر اعتماداً على نوري السعيد من أي من الضباط الشريفيين الأوائل، حيث كلفه في بادئ الأمر مهمة بناء جهازي الشرطة والأمن، وبوأه منصب مدير الشرطة العام، وقد عمل السعيد جهده لتعيين أصدقائه ومناصريه من الضباط الشريفيين الأوائل  في المناصب الحساسة بهذا الجهاز.(4)
كما عين الملك فيصل نوري السعيد نائباً للقائد العام للقوات المسلحة عندما باشر في تكوين الجيش العراقي، حيث يكون الملك عادة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة بموجب الفقرة الثامنة من المادة 26 من الدستور.             كما أشغل السعيد كما أسلفنا وزارة الدفاع في أغلب الوزارات، وكان بحكم منصبه كنائب للقائد العام مشرفاً على عمل وزارة الدفاع في كافة الوزارات التي لم يكن يشغل فيها الوزارة المذكورة، وقد حرص السعيد على جمع أكبر عدد من الضباط الشريفيين القدامى في الجيش الوليد، وبوأهم أعلى المناصب فيه بحيث وصل عددهم إلى 12ً من أصل 19 من الضباط ذوي الرتب العالية.(5)                                                                 .                                                                       
لقد مكنت هذه المناصب نوري السعيد من زيادة وتعاظم نفوذه السياسي في البلاد لدرجة أوصلت العديد من الشخصيات السياسية إلى القناعة من أن نوري السعيد قد أصبح من العسير اقتلاعه، فقد كان يتميز بعلاقاته الواسعة، واختلاطه برجال المجتمع، وإخلاصه لأصدقائه، وكان يتميز بالحيوية والنشاط، فقد وصفه السيد [توفيق السويدي ] بأنه شخص واسع الحيلة، يقضاً بشكل غير معتاد استطاع بدهائه أن يصبح في منتصف العشرينات اليد الطولى للملك فيصل عملياً. (6)
كما شبهه السيد[ طالب مشتاق] بكرة الثلج التي تكبر وتكبر باستمرار، أي يكبر نفوذه باستمرار، وكان السياسيون يخشون أحابيله ومؤامراته، حيث كان لا يتوانى عن القيام بأي عمل إذا كان ذلك العمل يحقق طموحه السياسي، ويوصله إلى أرفع مراكز السلطة لدرجة جعلت منافسيه من السياسيين يخشونه، ويشعرون منه بالرعب، فقد كان باستطاعته أن يدبر بكل سهولة اغتيال معارضيه، فقد دبر عملية اغتيال السيد[ توفيق الخالدي] وزير الداخلية في 25 شباط 1924، وكان للخالدي ميولاً معادية لدور الضباط الشريفيين، وسعى لتقليص دورهم في إدارة أمور البلاد، وقد تم اغتياله على يد شخصين من أزلام نوري السعيد هما كل من [ شاكر القرةغلي] و[ عبد الله سرية ] بتحريض منه  شخصياً، وقيل أن الملك فيصل وجعفر العسكري كانت لهم يد في عملية الاغتيال بدعوى أن توفيق الخالدي كان من أنصار النظام الجمهوري.
 لكن الحقيقة أن اشتراك الملك فيصل مشكوك بها، وقد تم حشر اسم الملك من أجل طمس أسم المدبر الحقيقي للاغتيال نوري السعيد. (7)
كما أن الشكوك كانت تدور حول وفاة الملك فيصل في سويسرا في 7 أيلول 1933، واختفاء مذكراته فور وفاته، فقد ثارت الشكوك حول وفاته، وكان هناك شك أن السبب الحقيقي للوفاة هو التسمم، وأن لنوري السعيد يد فيها، وقيل أن الإنكليز هم الذين كانوا وراء العملية، فقد كانوا قد أرسلوا إليه الإنذار تلو الإنذار في الفترة الأخيرة بسبب أحداث ثورة الآشوريين، وأسلوب قمعها الوحشي على يد بكر صدقي. (8)
وكانت السفارة البريطانية في سويسرا قد رفعت تقريراً يشير إلى بعض الشكوك في سبب موت الملك،وجاء في التقرير:
[ إن الموت يمكن أن يكون نتيجة التسمم بعد اختلافه مع السيدة التي كانت لها علاقة حب به!!،أو التحريض من قبل الوكلاء السياسيين].(9)
وكان نوري السعيد و رستم حيدر ملازمين للملك حين وفاته، ومما يعزز هذا الشك هو فتور العلاقة الذي حصل بين الملك فيصل ونوري السعيد في السنة الأخيرة من حكمه، على الرغم من العلاقة الحميمة التي ربطتهما ببعضهما في الفترة الماضية لدرجة أن لقاءاتهما كانت قد تباعدت، وأخذت تقل تدريجياً عن المعتاد حتى وصل الأمر بنوري السعيد إلى أن يسرَّ في أذن مسؤول كبير في وزارة الخارجية البريطانية عام 1933بقوله :
{ لن اعد أتحمل مرة أخرى مسؤولية رئاسة الوزارة طالما بقي الملك فيصل على عرش العراق}. (10)
أما ملابسات قضية مقتل الملك غازي فإن كل الدلائل كانت تشير إلى عملية اغتيال مدبرة من قبل البريطانيين، وأن من خطط لتنفيذها كل من نوري السعيد وعبد الإله، كما سيرد ذلك في حينه فيما بعد. استمر نجم نوري السعيد بالصعود حتى تبوأ منصب رئيس الوزراء لأول مرة بتاريخ 23 آذار 1930، بإيعاز من السفارة البريطانية لكي ينفذ لهم أخطر مهمة ناءَ بحملها الآخرين من رجال السياسة، إلا وهي توقيع معاهدة عام 1930 التي ربطت العراق بعجلة الإمبريالية البريطانية لزمن طويل، وسأتناول هذه المعاهدة والإجراءات التي اتخذها نوري السعيد في وزارته الأولى، وردود الفعل التي أحدثتها لدى الرأي العام العراقي بوجه عام، ورجالات الدولة البارزين بوجه خاص في الحلقة الثانية .
التوثيق:
توثيق الحلقة الأولى

  (1) لعراق ـ الكتاب الأول ـ ص 356 ـ حنا بطاطو .
   (2) نفس المصدر السابق .
  (3)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الأول ـ ص 38 ـ عبد الرزاق الحسني
  (4)العراق ـ الجزء الأول ـ ص 369 ـ حنا بطاطو .
(5)نفس المصدر السابق .
(6)المصدر السابق ـ ص370
    (7) تاريخ الوزارات العراقية ـ ج1 ـ ص 196 ـ عبد الرزاق الحسني
   (8)نفس المصدر ـ ص 310
   (9)نفس المصدر ـ الجزء الثالث ـ ص 309 . الحسني.
  (10)العراق ـ ج1  ـ ص 372  ـ حنا بطاطو

   
 





421
المنبر الحر / حذار فالقادم أعظم!
« في: 19:42 26/08/2008  »
حذار فالقادم أعظم!
حامد الحمداني                                              26/8/2008
لم تكن جريمة اغتيال الشهيد كامل شياع مفاجئة لكل متتبع للأوضاع العراقية الراهنة، وليست هي الجريمة الأولى بل هي جزء من سلسلة الجرائم التي عصفت وما تزال بالمجتمع العراقي، والتي استهدفت وما تزال تستهدف المثقفين الديمقراطيين على وجه الخصوص.
إنها الريح السوداء لقوى الظلام والفاشية الدينية التي تسعى لإبقاء حالة التخلف التي أوصلنا إليها نظام الطغيان الصدامي وحزبه الفاشي خلال خمسة وثلاثين عاما من حكمهم البغيض.
 ثم جاءنا الغزو الأمريكي الوحشي باسم [تحرير الشعب العراقي!] ليسلم العراق لقوى ظلامية أشد وحشية وأقسى، والتي وضعت في مقدمة أهدافها شن الحرب على العناصر التنويرية من المثقفين العراقيين الذين كرسوا حياتهم لإنقاذ شعبنا من حالة التخلف التي عادت بنا القهقرى عشرات السنين إلى الوراء، من أجل تكريس هيمنتها على السلطة، ونهب ثروات البلاد، وهي تدرك أن الجدار الصلد الذي يقف أمام تحقيق طموحاتها الشريرة هي الطبقة المثقفة الواعية حاملة راية التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان، الساعية لتأمين حياة كريمة تليق بالإنسان في المجتمع العراقي الذي قاسى لأكثر من أربعة عقود مرارة الفقر والجوع والحرمان والأمراض الفتاكة، وسلب الحريات ، والسجون والتعذيب والقتل بالجملة، والقبور الجماعية خير شاهد على ذلك، وفقدان الخدمات الأساسية الضرورية، والأخطر من ذلك كله فقدان الأمان وشيوع الجريمة المنظمة التي باتت تمارسها الميليشيات بعد سقوط نظام الطاغية صدام والتي تتخذ من الإسلام وسيلة لتنفيذ مآربها الشريرة .
إن استشهاد الباحث والكاتب والمثقف كامل شياع ، وسائر المثقفين الشهداء الآخرين الذين سبقوه على أيدي تلك العصابات المجرمة هو ناقوس خطر يدق بأعلى صوته محذراً من حملة ظلامية أوسع واشمل تجتاح العراق، وتضع في مقدمة أهدافها بكل تأكيد المثقفين التقدميين، الذين تعتبرهم قوى الظلام والفاشية التي تهيمن اليوم على الشارع العراقي اليوم من أجل تكريس الأوضاع الحالية البائسة، وتكريس سلطتها الجائرة، والحيلولة دون انتقال الشعب العراقي نحو الانفتاح على العالم المتقدم، ونفض غبار الرجعية والتخلف، واللحاق بركب الإنسانية الناهضة من خلال السعي لإقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي، وسيادة القانون، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين سائر مكونات الشعب بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم دون تمييز.
إن قوى الظلام لا يروق لها أن تجد شخصية وطنية علمانية لها دور في وزارة الثقافة، ولذلك فقد بذلت جهدها لإزاحة الوزير الأول الأستاذ مفيد الجزائري، لتضع مكانه شرطياً لا يفهم من الثقافة شيئا، ثم اتبعته بعد الانتخابات الثانية وتشكيل حكومة المالكي بالملا اسعد الهاشمي الذي تبين للعدالة أنه ليس فقط أمياً متخلفا لا يفهم معنى الثقافة، بل وقاتلاً من طراز فريد، أدين بقتل ولدي أحد زملائه في البرلمان السيد مثال الآلوسي بدم بارد، ورغم أن المحكمة الجنائية قد أثبتت عليه الجريمة وحكمت عليه بالإعدام، فقد جرى تهريبه خارج العراق لكي تُرضي الحكومة والإدارة الأمريكية السيد طارق الهاشمي حرصاً منهم على عدم انهيار حكومة التحاصص الطائفي المقيت، والحكومة بطبيعة الحال تتحمل كامل المسؤولية عن تهريب هذا المجرم القاتل.
أن قوى الإسلام السياسي المهيمنة على السلطة اليوم لا يروق لها أن ترى  أية وجوه ديمقراطية علمانية في وزارة الثقافة، حيث تُعتبر الثقافة عندهم سموم تهدد المجتمع الذي ينشدونه مجتمع التخلف والعبودية ، ولا بد من (تنظيف)! هذه الوزارة على وجه الخصوص، وسائر الوزارات الأخرى بوجه عام من كل عنصر مثقف مخلص لوطنه وشعبه، يستهدف التصدي لحالة التخلف والهمجية التي تعصف بالبلاد اليوم.
إن اشتداد حملة قوى الظلام والرجعية والفاشية الدينية في الآونة الأخيرة يتعلق بقرب إجراء الانتخابات المحلية للمحافظات التي هيمنت على السلطة  فيها عبر الانتخابات السابقة، والتي باتت معروفة لسائر أبناء وبنات شعبنا كيف جرت تلك الانتخابات، وتحت أي شعارات، وعن الدعم الذي تلقته من قبل المرجعية الدينية، وكل ذلك جرى تحت وقع سلاح ميليشيات الأحزاب الدينية الطائفية وإرهابها، وقد تكشفت لشعبنا حقيقة هذه القوى والجرائم التي ارتكبتها بحق عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء، وهي اليوم وبعد أن انكشفت على حقيقتها، وخيبة الأمل الكبرى التي أصابت لمواطنين الذين انتخبوهم، ورفضهم لإعادة انتخابهم من جديد، لم تجد سبيلا للتشبث بالسلطة إلا بشن الحرب على القوى التقدمية والعلمانية ورموزها، والحيلولة دون عودة عشرات الألوف من المثقفين من بلدان اللجوء إلى الوطن ، فهي تدرك تماماً تأثير هذه العودة على مستقبلهم وتأثيرهم في المجتمع العراقي الذي بدأ يعي الدرك السحيق الذي قادته هذه القوى إليه.
أن القوى الديمقراطية والعلمانية مدعوة اليوم أن تعي حقيقية المخططات الظلامية والفاشية والمخاطر التي تنتظرها وتنتظر الشعب العراقي قبل فوات الأوان، والتصدي بحزم لهذه المخططات، وفضح أهدافها الشريرة ، من خلال تعبئة الجماهير الشعبية، وزجها في النضال من أجل كبح نشاطات هذه القوى الظلامية ، ولاسيما وأن البلاد باتت على أبواب الانتخابات المحلية، والتي ستعقبها في العام القادم الانتخابات البرلمانية، التي ستحدد بكل تأكيد مصير العراق لعقود طويلة إذا ما هيمنت هذه القوى على السلطة من جديد .
الوقت يمر سريعا، والعاقل من يعي أهمية عامل الوقت وضرورة استغلال دل ساعة، بل كل دقيقة من أجل الاستعداد لخوض الانتخابات من أجل تحقيق نتائج ذات تأثير فاعل في الحكومات المحلية، وفي البرلمان القادم، من أجل تحقيق انعطافة تاريخية في بناء العراق الجديد، وتحريره من عبودية الاحتلال، ومن هيمنة القوى الظلامية والفاشية، والنهوض به في كافة المجالات السياسية والاجتماعية ولاقتصادية والثقافية والصحية والخدماتية.
فهل تعي القوى الديمقراطية والعلمانية هذه الحقيقة؟
 أتمنى ويتمنى كل المحبين لشعبهم ووطنهم ذلك....

422
أهكذا تكون نهاية حياة أدبائنا وكتابانا ومثقفينا!!
حامد الحمداني                                             21/8/2008


صدمت وأنا أتصفح موقع [عراقنا الإخباري] عندما وقعت عيناي على الخبر المثير التالي:[وصية الروائي السوري الكبير الأستاذ حنا مينه]
فقد نشر الروائي السوري المعروف حنا مينه وصيته، يوم الاثنين المصادف 18-8-2008، عبر الصحف الرسمية، بعد أن بلغ من العمر 84 عاماً، معرباً عن شعوره بأنه عمّر طويلا ، وطلب مينه في وصيته ألا يذاع خبر وفاته في أي وسيلة إعلامية، ويحمل نعشه 4 موظفين من دائرة دفن الموتى، وليس أي أحد من معارفه.
 وتابع الأستاذ مينه قائلاً : بعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
كما أوصى بالا تقام له أية تعزية، أو أي شكل من أشكال الحزن، مشددا على عدم إقامة حفل تأبيني له قائلاً : {إن الذي سيقال بعد موتي سمعته في حياتي، وهذه التأبينات، وكما جرت العادات، منكرة، منفرة ومسيئة إلي. استغيث بكم جميعاً أن تريحوا عظامي منها}.                                    .
وختتم الروائي السوري وصيته بترك حرية التصرف بما يتركه من إرث لـ من يدّعون أنهم أهلي، ما عدا منزله في مدينة اللاذقية الذي أوصى به لزوجته مريم دميان سمعان، طوال حياتها. وذيّل وصيته بتوقيعه وبالتاريخ (17-8-2008.(
الروائي الكبير حنا مينا من مواليد اللاذقية عام 1924. نشأ في أسرة فقيرة، وعمل في بداية حياته حلاقاً ، ثم حمالاً في ميناء اللاذقية، ثم بحاراً، إضافة إلى أعمال أخرى مشابهة، قبل أن يصبح كاتبا لمسلسلات إذاعية، ثم روائيا في الأربعين من عمره، حتى أصبح رئيسا لتحرير صحيفة [الإنشاء] في دمشق، وكانت أولى روايات مينه [المصابيح الزرق]و [النجوم تحاكم القمر] و[القمر في المحاق] و[ نهاية رجل شجاع] وقد أنتج حوالي 30 عملا أدبيا جرى تحويلها إلى إعمال تلفزيونية.              .
وهو أب لخمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم الذي توفي منذ زمن بعيد، وسعد الذي أضحى ممثلا، أما بناته فهن سلوى (طبيبة)، وسوسن (تحمل شهادة في الأدب الفرنسي، وأمل مهندسة مدنية.
 إنه لأمر مؤسف جداً أن يحدث هذا الأمر لهذا الكاتب الكبير الذي تمثلت فيه كل القيم الإنسانية النبيلة، والوطنية الصادقة ، أنها خيبة الأمل الكبرى بذوي القربى بدأ من الأقربين إليه، وصولاً لبقية لأهله ومعارفه ، وخيبة الأمل من الدولة السورية، ومنظماتها الثقافية، تجاه هذا الإنسان الكبير الذي جرى إهمال تكريمه في حياته لكي يرفض تكريمه بعد مماته بعد طول عمر لكاتبنا الكبير.
 أن كاتبنا الجليل حنا مينا كما يبدو من وصيته يشعر بحزن عميق لما آلت إليه العلاقات الإنسانية مع اقرب المقربين، وهذه تمثل قمة المأساة بالنسبة لكاتب مرهف الإحساس نذر حياته لنشر الفكر الإنساني وقيمه النبيلة من خلال كتاباته الرائدة، ويشعر بالتقصير الشديد للحكومة السورية، والاتحاد العام للكتاب السوريين، والاتحاد العام للكتاب العرب الذين تجاهلوا تكريم هذه الشخصية الأدبية الكبيرة.
أليس عاراً على حكامنا ومؤسساتنا الثقافية تجاهل تكريم كتابانا وأدبائنا وفنانينا ومثقفينا في حياتهم لينتهي بهم المآل إلى بضعة كلمات تقال بحقهم في الصحافة بعد رحيلهم؟
أن هذا الموقف الشائن يعبر أدق تعبير عن مدى اهتمام حكامنا في العالم العربي بالثقافة، ورعاية المثقفين، بل أن بعضهم يرى في الثقافة خطراً يهدد عروشهم وسلطانهم، من خلال توعية الكتاب والأدباء والشعراء والفنانين للمواطن العربي بحقوقه وحرياته، وحقه في الحياة الحرة الكريمة.
أن ذكرى حنا مينة ستبقى خالدة في قلوب كل من عرفه وقرأ له، كإنسان محب للخير، كارها للشر، سعى طوال حياته لغرس المفاهيم الإنسانية النبيلة في نفوس قرائه، وناضل من أجل تحقيق الحياة الديمقراطية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية، ومن أجل السلام والحرية والديمقراطية في المجتمع السوري بوجه خاص، والعالم العربي بوجه عام ، وللإنسانية جمعاء . أن وصية حنا مينا وصمة عار لكل من تخلف عن أداء الواجب الوطني والأخلاقي والإنساني تجاهه، وهو في هذا العمر الطويل، وسيكون العار اشد وطأة عليهم بعد رحيله، فهل يدرك كل هؤلاء  مواقفهم المخجلة تجاه كاتبنا الكبير حنا مينا قبل فوات الأوان؟



423
العراق ومخاطر المعاهدة الأمريكية المقترحة!
حامد الحمداني                                                     19/8/2008
                                                     
العراق اليوم يجتاز أخطر مرحلة في تاريخه الحديث ستقرر مصيره لأمد طويل، ويترتب على العراقيين أن يدركوا طبيعة هذه المرحلة، وطبيعة المخاطر المحدقة بمستقبلهم، حيث بات العراق رهينة المشاريع الأمريكية المتعلقة بمستقبل ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد!.
 فالجيوش الأمريكية ما زالت جاثمة على صدور العراقيين منذ عام 2003 وحتى اليوم، وليت أن الأمر انتهى إلى هذه الحال، لكن الذي جرى بعد إسقاط نظام البعث الفاشي كان عملية هدم وتخريب منظمة للبنية التحية العراقية وسائر أجهزة الدولة، لتترك البلاد فريسة سهلة لعصابات النهب والسلب والقتل والتخريب والتدمير، ثم لتنصب على العراق الدبلوماسي الأمريكي، وخبير ما يدعي بمكافحة الإرهاب بول بريمر حاكماً على البلاد، ليشيد لنا نظاماً طائفيا ًرجعياً كريها، ويضع اللبنات الأساسية لمشروع تمزيق العراق عبر دستوره الذي دعاه بـ [ قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية]، والذي اتخذ أساسا للدستور الدائمي الذي جرى تشريعه فيما بعد على أيدي قوى الإسلام الطائفي الشيعي بالاشتراك مع القوى القومية الكردية فكان من نتائج تلك السياسة الأمريكية الرعناء إيصال العراق إلى حالة من الصراع الطائفي والعراقي وصولا للحرب الأهلية الطائفية التي سادت البلاد.                                   .   
هذا هو حالنا الذي أوصلتنا إليه اليوم الولايات المتحدة بعد أن دمرت كل شئ، فهي لم تسقط نظام صدام فحسب ، بل أسقطت العراق بكل مؤسساته ، المدنية والعسكرية، فقد حلت جيشه ودمرت جانباً كبيراً من سلاحه، وأتاحت للسراق سرقة الجانب الآخر، وتركت العراق ضعيفاً بين الوحوش المحيطة به، إيران والسعودية وسوريا وتركيا والكويت والأردن وإسرائيل، لكي يقول حكام أمريكا للعراقيين أنكم مهددون من قبل جيرانكم، وأن وجود قواتنا في العراق أمر ضروري لحمايته.
يقال أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإذا أعاد نفسه يوماً ما فعلى شكل مهزلة، وهذا ما يجري في بلادنا كما يبدو، فحكام أمريكا يفعلون اليوم نفس ما فعل الامبرياليون البريطانيون الذين احتلوا العراق خلال الحرب العالمية الأولى عندما أعلن قائد الحملة العسكرية التي احتلت العراق للشعب قائلا:
{ لقد جئنا لكم محررين}، لكنهم عملوا في بادئ الأمر على حكم البلاد حكماً عسكرياً مباشراً، واستمروا على تلك الحال حتى أجبرتهم ثورة عام 1920 على تغيير أسلوب حكمهم، حيث أقاموا ما دعي بالحكم الوطني، وجاؤا بالأمير فيصل ونصبوه ملك على العراق، يعاونه عدد من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني، وانضموا إلى ثورة الملك حسين بن علي ضد الحكم العثماني، و حكموا العراق من وراء الستار منذُ ذلك الحين وحتى وقوع ثورة 14 تموز ،1958 بعد أن نصّبوا حكومة موالية لهم، لا حول لها ولا قوة سوى الطاعة، وفرضوا على العراق المعاهدة الإسترقاقية الجائرة التي دُعيت بـ [ معاهدة عام 1922]، ومن بعدها معاهدة عام 1930، ثم تلاها عقد حلف بغداد عام ،1955 والتي جعلت العراق تحت الهيمنة البريطانية.
فقد جاء الغزو الأمريكي للعراق بدعوى [ حرب تحرير الشعب العراقي من نظام صدام الفاشي] فإذا بالمحتلين الجدد يطبقون نفس السياسة الاستعمارية التي انتهجتها بريطانيا العظمى آنذاك، احتلال مستمر، وضغوطات مستمرة على الحكومة التي نصبوها هم أنفسهم لتوقيع معاهدة طويلة الأمد تجعل من الاحتلال الأمريكي للعراق أمراً واقعاً بصورة رسمية، وحجة المحتلين هي الحفاظ على امن واستقلال العراق، فأي أمن حل في البلاد ، وأي استقلال وسيادة تلك التي يتحدثون عنها؟
إن الولايات المتحدة بعد كل الذي جرى على أيديها من خراب ودمار وتمزيق للبنية الاجتماعية العراقية، وشيوع الصراع الطائفي والعرقي في البلاد، وصولاً للحرب الأهلية التي أزهقت أرواح أكثر من 650 ألف مواطن برئ، وأقامت في البلاد نظاماً طائفياً مقيتاً، وفسحت المجال واسعاً أمام القوى القومية الكردية الشوفينية، وقوى الإسلام الطائفية الشيعية للسير في طريق تمزيق العراق من خلال إقامة الفيدراليات المشبوهة قد فقدت مصداقيتها لدى الشعب العراقي، وتلاشت الثقة التي وضعها البعض في الإدارة الأمريكية التي غزت العراق بدعوى إنقاذ الشعب العراقي من طغيان نظام الدكتاتور صدام حسين، وإقامة نظام ديمقراطي بديل، فقد تلاشت كل تلك الأحلام، وتلك الثقة التي وضعوها في الإدارة الأمريكية، بل لقد تحولت نظرة المواطنين العراقيين إلى الكراهية الشديدة للمحتلين الأمريكيين، وبدأ الشعب العراقي يحس بوطأة الاحتلال، وبرغبة الإدارة الأمريكية ببقاء الاحتلال جاثماً على صدور أبنائه إلى أمد غير محدود، وأصبح حلم العراقيين أن يشهدوا تحرر البلاد من الاحتلال واستعادة سيادته واستقلاله الكاملين، وانسحاب القوات الأمريكية المحتلة بأقرب وقت ممكن. 
ولكون الوضع الأمني غير مستقر في البلاد ، وبسبب ضعف مستوى تسليح الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، وتغلغل أعضاء الميليشيات الحزبية الطائفية والعراقية في صفوفه فإن انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق في الوقت الحاضر بات يهدد الوضع الأمني الهش في البلاد، ويثير القلق في نفوس العراقيين بعد تلك السنوات القاسية التي عاشها في رعب شديد.
 ولأجل تجنب انتكاسة الوضع الأمني من جديد، فإني أرى أن الحل الوحيد الممكن في الوقت الحاضر هو استبدال قوات الاحتلال الأمريكي بقوات تابعة للأمم المتحدة لفترة زمنية محددة يجري خلالها تشكيل حكومة تنكوقراط مشهود لأعضائها بالكفاءة والأمانة والإخلاص للعراق وحده، تتولى إعادة النظر في الدستور بما يضمن وحدة العراق شعباً ووطنا، وبناء المؤسسات الديمقراطية تمهيداً لإقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة للمواطنين على قدم المساواة بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، وتنظيم الحياة الحزبية في العراق على أسس ديمقراطية بعيداً عن الطائفية المقيتة والعرقية المتزمتة، وتعيد تنظيم الجيش والأجهزة الأمنية على أسس قويمة، وتنظيفها من سائر العناصر التابعة للميليشيات الحزبية دون استثناء، وتسليح الجيش بالأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية بما يتيح له استعادة الأمن والسلام في البلاد، وحماية حدود العراق، والتصدي لأي عدوان على سيادته واستقلاله من دول الجوار.
 وعندما يقف العراق على قدميه من جديد ويستعيد حريته واستقلاله سيكون على استعداد لعقد الاتفاقيات المختلفة مع الولايات المتحدة وسائر الدول الأخرى على قدم المساواة على أساس المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة شرط احترام سيادة واستقلال العراق، لا على أساس غالب ومغلوب، أو قوي وضعيف، كما يجري اليوم لفرض معاهدة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة تكرس احتلال العراق .
 أن من يقرأ معاهدة عام 1922 التي فرضتها بريطانيا وأعوانها في السلطة بالقوة لا يرى في المعاهدة الجديدة المقترحة مع أمريكا، بما سربته الصحافة الغربية من بنودها ، سوى نسخة طبق الأصل لتلك المعاهدة المشؤومة.
إن من حق المواطنين العراقيين أن يرتابوا من سياسة الإدارة الأمريكية التي تدعي حرصها على سيادة واستقلال العراق، بعد أن أقدمت على حل الجيش العراقي وقواته الأمنية والاستعاضة بجيش وقوات أمنية عشعشت فيها ميليشيات الأحزاب الطائفيه والعرقية المتعددة الولاءات، ودون أن تسلح الجيش  بما يحتاجه من الأسلحة كي يضمن قدرته على صيانة أمنه الداخلي وحدوده وحماية استقلاله؟
فبعد مرور 5 سنوات على الاحتلال، لا يمتلك العراق طائرة حربية واحدة ولا أسلحة ثقيلة يحمي بها الوطن، كما أن ترسانته الضخمة من الطائرات والدبابات والمدفعية والصواريخ قد جرى تدمير جانب منها، وتمت سرقة الجانب الآخر من قبل الميليشيات الكردية، وما زالت إيران تحتفظ بأكثر من 140 طائرة حربية ومدنية بعث بها دكتاتور العراق صدام إلى إيران إثناء حرب الخليج الثانية خوفاً عليها من التدمير.
وما زال العراق تحت طائلة البند السابع لغاية اليوم على الرغم من سقوط
نظام صدام، واحتلال العراق من قبل جيوش الولايات المتحدة، فهل ما زال العراق اليوم يهدد الأمن والسلام في المنطقة، وهو العاجز عن حماية نفسه، والتصدي للتدخل الفض في شؤونه الداخلية من قبل جيرانه الطامعين بثرواته؟
لقد بات العراق اليوم في مأزق حرج جراء السياسة الأمريكية، فلا هو قادر على حماية وضعه الداخلي، ولا هو قادرٌ على التصدي للتهديدات الخارجية المتربصة به بحيث أصبح خروج القوات الأمريكية من العراق يعرض فعلا أمنه الداخلي والخارجي لخطر كبير، وفي مقدمة الأخطار المحدقة به هو الخطر الإيراني، وخطر عودة نظام البعث إلى الحكم من جديد، وبذلك تحل بالبلاد كارثة أشد وأقسى.
لقد أوصلتنا الإدارة الأمريكية إلى هذه الحالة المفجعة، التي وضعت العراق أمام خيارين أحلاهما مرٌّ، فإما القبول بالوجود العسكري الأمريكي في العراق، وأما لينتظر الشعب المغلوب على أمره والمسلوب الإرادة،  المصير الكارثي  المحتوم.
إن على الحكومة العراقية الحالية أن تتحمل المسؤولية الوطنية تجاه شعبها  وأن تعرض عليه بكل شفافية بنود المعاهدة المفروضة من قبل الإدارة الأمريكية ليكون على بينة من أمره، وعلى المخاطر المحدقة بمستقبله، وستجد في الشعب خير عون لها على الصمود أمام أطماع المحتلين، وبعكسه ستتحمل الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم وزر أي معاهدة تسلب سيادة واستقلال البلاد، فلن يغفر الشعب العراقي لمن يسعى لبيع الوطن للمحتلين مهما كانت التبريرات، ومهما طال الزمن، ولا بد أن يستعيد العراق حريته واستقلاله مهما غلت التضحيات.



424
حكومة الكويت والسياسة القصيرة النظر تجاه العراق!!
حامد الحمداني                                                      12/8/2008
على الرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها العراق منذ الغزو الأمريكي الذي انتهى بإسقاط  نظام صدام عام 2003، والدمار والخراب الذي حل بالبلاد طيلة السنوات التي تلت الحرب، فما يزال حكام الكويت يستقطعون من أفواه العراقيين مئات الملايين من الدولارات سنويا كتعويضات عن غزو النظام الصدامي للكويت عام 1990.

وعلى الرغم من الحملة التي قادتها الإدارة الأمريكية لإسقاط الديون العراقية التي تقدر بمئات المليارات، والتي استطاعت إقناع مختلف دول العالم التي لها ديون على نظام صدام المنهار بالتنازل عن تلك الديون بما لا يقل عن 80% من أصلها، وعلى الرغم من محاولات المندوب الأمريكي جيمس بيكر إقناع حكام الكويت بإلغاء ديونها على العراق فإنهم قد أصروا على رفض الطلب، وهم تارة يدعون أن الأمر يتعلق بالبرلمان الذي يرفض التنازل عن تلك الديون، وتارة يدعون أن هذه الديون تعود للشعب الكويتي الذي لا يقبل التنازل عنها.

و قد حاول السيد نوري المالكي أثناء زيارته الأخيرة للكويت ثني حكام الكويت عن موقفهم إزاء الديون لكنه فشل هو الآخر في ذلك.
إن هذا الموقف المجافي لعلاقات الأخوة وحسن الجوار من جانب حكام الكويت تجاه العراق لا يعبر إلا عن سياسة قصر النظر التي لا يمكن أن تخدم الكويت على المدى البعيد، وهم اليوم يستغلون حالة الضعف التي يمر بها العراق في محاولة منهم لاستنزاف ثروته.
فقد نقلت وسائل الإعلام أن حكام الكويت قد طالبوا الحكومة العراقية بتسديد الديون المستحقة على النظام الصدامي البائد، متعللين بأن هناك تراكم في خزينة الدولة العراقية من واردات النفط ، وإن الكويت تطالب العراقي بدفع الفوائد على الديون كذلك.

إن حكام الكويت بحاجة إلى أن ينظروا بعيداً في سياستهم تجاه العراق، لا أن ينظروا بين أقدامهم!!، وأن يفكروا جيداً بمستقبل العلاقة بين البلدين ، ولو رجعنا للتاريخ القريب، وأمعنا النظر في تفاصيل ما جرى بين البلدين قبل وبعد حرب الخليج الثانية [ حرب تحرير الكويت]لوجدنا أن حكام الكويت يتحملون جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وحلفائها ونظام صدام حسين مسؤولية غزو الكويت، وحرب الخليج الثانية، بقيادة الولايات المتحدة و32 دولة أخرى، والتي انتهت بخراب ودمار العراق وتدمير قواته المسلحة، ومقتل أكثر من 300 ألف من جنوده وضباطه في تلك المجزرة الوحشية البشعة التي ارتكبتها الطائرات الأمريكية ضد القوات العراقية المنسحبة من الكويت على الطريق بين الكويت والبصرة، ووقوع الانتفاضة الشعبية في الأول من آذار 1991 كرد فعل على جرائم نظام صدام، والتي قمعها النظام الصدامي بصورة وحشية ، حيث ذهب ضحيتها مئات الألوف من المواطنين، والقبور الجماعية المكتشفة خير دليل على عظم الجريمة والوحشية التي نفذت فيها.
إن الكويت كان بإمكانها أن تحل الخلافات بينها وبين النظام العراقي بما يجنب الشعبين العراقي والكويت ويلات الحرب ومآسيها، وما سببته من خراب ودمار، ولاشك أن أرواح مئات الألوف من المواطنين الذين قضوا في تلك الحرب هي أثمن من كنوز الدنيا.
لكن حكام الكويت آثروا السير بركاب الولايات المتحدة، والمشاركة في المؤامرة على العراق،  والسماح لقوات الولايات المتحدة باتخاذ الكويت مركزاً لتجمع القوات الأمريكية والبريطانية وحلفائهما للعدوان على العراق،  والتي تكشفت أسرارها لكل ذي بصر وبصيرة.
 أن الولايات المتحدة هي التي أوعزت لعميلها صدام بمهاجمة إيران، ومدته بمختلف الأسلحة والخبرات لبناء المصانع الحربية، وإنتاج أسلحة الدمار الشامل، وسعت جهدها لإطالة أمد الحرب عن طريق مساعدة الطرفين المتحاربين العراق وإيران كي تستمر الحرب أطول مدة ممكنة ، وهذا ما اعترف به الدكتور [هنري كيسنجر] وزير الخارجية الأمريكية الأسبق في مذكراته حيث يقول عن تلك الحرب:
{إنها أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج منها أحد منتصرا}.

واستمرت الولايات المتحدة بدعم النظام الصدامي والنظام الإيراني 8 سنوات لكي تدمر القوة العسكرية للبلدين، وتدمر اقتصادهما وتخرب بنيتهما التحية، وكانت الكويت قد قدمت تلك الديون للعراق بأمر من الولايات المتحدة، كما هو الحال ببقية دول الخليج، لكي لا ينهار العراق في تلك الحرب، وهي في عامها الثاني عندما اندحرت القوات العراقية في معركة نهر الطاهري، فكان لا بد  من دعم العراق لكي تستمر الحرب، وفي الوقت نفسه تحول دون تحقيق أي من الطرفين النصر.
 ولم تطلب الولايات المتحدة من مجلس الأمن إصدار قرار بوقفها إلا بعد ثمان سنوات من حرب دامية مفجعة ، وبعد أن تحولت الحرب إلى حرب الناقلات النفطية في الخليج، وأصبح شريان النفط الضروري للعجلة الاقتصادية الغربية معرضاً لأخطار كبيرة .

إن حكام الكويت كان بإمكانهم أن يتجنبوا الغزو كي لا يدفع الشعب الكويتي الثمن الذي دفعه جراء الاحتلال، وكي لا أن يدفع الشعب لعراقي ذلك الثمن الكبير جراء الحرب ، وخصوصاً بعد أن تم فرض الحصار الاقتصادي الجائر عليه دون حكامه، والذي أوصل الأحوال المعيشية للشعب إلى الحضيض، حيث عم الفقر والجوع أغلبية الشعب العراقي ، وانهارت العملة العراقية حتى وصل سعر الدولار 3000 دينار بعد أن كانت قيمته أقل من ثلث الدينار ، وأصبح راتب الأستاذ الجامعي يعادل قيمة طبقة البيض التي وصلت قيمتها 3000 دينار، وهكذا تسببت الحرب، والحصار الاقتصادي الظالم إلى انهيار البنية التحية للمجتمع العراقي والتي ما يزال العراق يعاني منها أشد المعانات حتى يومنا هذا، والتي  يتطلب أصلاحها جهود أجيال عديدة.

إن الكويت تتحمل مسؤولية الكارثة التي حلت بالعراق بكل تأكيد جنبا إلى جنب مع صدام والرئيس بوش الأب، وبدلا من أن تسعى لإصلاح العلاقة مع الشعب العراقي فإنها ما تزال تصر على السير في نفس الطريق ، طريق معادات العراق، وانتزاع مناطق نفطية واسعة في جنوب البلاد وانتزاع نصف الميناء العراقي العميق الذي كان يدعى بميناء البكر دون وجه حق بل استقواء بالمحتل الأمريكي دون النظر بعيداً لما ستسببه هذه السياسة  الخرقاء تجاه العراق، وتجاه العلاقة بين الشعبين الشقيقين.

إن على حكام الكويت أن يدركوا أن الوجود الأمريكي في المنطقة لا يمكن أن يبقى على الدوام، وأن العراق وشعبه باقيان إلى الأبد، والعراق إن كان اليوم ضعيفاً انهكته الحروب، والاحتلال الأمريكي البغيض، والأعمال الإرهابية المجرمة، فلا بد أن يتعافى، وينهض من جديد بلداً قوياً عظيماً بما يمتلكه من موارد كبيرة وثروات هائلة، وقدرات بشرية كبيرة وكفاءات عالية .
نعم سينهض العراق من كبوته، ويعيد الشعب بناء ما خربته الحروب، وسيعود قوياً عزيزاً تهابه الأعداء، وسوف لن ينسَ الشعب كل من قدم له المساعدة ووقف إلى جانبه، وفي الوقت نفسه سوف لن ينسَ من كان سببا في البلاء الرهيب الذي وقع عليه، وما يزال يصر على السير في نفس الطريق الخاطئ، فهل يعود حكام الكويت إلى رشدهم، ويكفروا عن أخطاء سياستهم تجاه شعب العراق قبل فوات الأوان؟؟



425
من ذاكرة التاريخ:
الفخ الذي نصبه الحزب الديمقراطي الكردستاني
 للحزب الشيوعي!

حامد الحمداني                                              9/8/2008


 شهد عام 1961 تدهور الأوضاع السياسية في العراق، وانقسام القوى الوطنية، وحدوث الخلافات العميقة بين قيادة عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البارزاني.
 وفي الوقت نفسه اندلعت حركة تمرد في شمال العراق على الحدود العراقية الإيرانية قادها عدد من كبار الإقطاعيين الكرد، وكان على رأسهم كل من[رشيد لولان] و[عباس مامند] و[حسن أغا بوسكين] و[علي أغا المنكوري] و[ إسماعيل سوار أغا ] و[أنور بيك بيتواته] بدعم وإسناد مباشر من قبل نظام شاه إيران والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف المتمردون إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها الشاه زعزعة النظام  في العراق وإسقاط نظام الزعيم عبد الكريم قاسم مما استدعى إرسال القوات العراقية لقمع ذلك التمرد
وفي ظل تلك الظروف الحرجة التي سادت المنطقة الكردية بسبب التمرد المذكور، بادرت صحيفة الحزب الديمقراطي الكردستاني[ خاباد] إلى مهاجمة أسلوب سلطة عبد الكريم قاسم في إدارة شؤون البلاد، وطالبت بإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة في البلاد، وسن دستور دائم للبلاد.
وكان رد عبد الكريم قاسم على مقال صحيفة الحزب خاباد أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق الصحيفة، واعتقال بعض القيادين الكرد المتواجدين في بغداد في آذار1961، وهكذا أخذت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام .
وفي 20 تموز 961 ، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تضمنت العديد من المطالب، لكن الزعيم عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة المذكورة.
وجاء الرد من الملا مصطفى البارزاني بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان في 6 أيلول 1961، حيث توقفت كافة الأعمال، وأصاب المنطقة كافة شلل تام، وقام المسلحون البيشمركة باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة.
كان على القيادة الكردية أن تقدر دوافع ذلك التمرد، والقائمين به، والمحرضين عليه ومموليه، وعدم تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية وأذنابها، سواء كانوا عرباً كما هي الحال مع حزب البعث وحلفائه القوميين، أو كانوا من الكرد، كما هو الحال مع تمرد رشيد لولان وعباس مامند.
كان رد الزعيم عبد الكريم قاسم بدفع المزيد من قطعان الجيش في 9 أيلول 961، لضرب الحركة الكردية مستخدمأً مختلف الأسلحة والطائرات، حيث امتدت المعارك لتشمل كافة منطقة بارزان.
ومن جانبه أصدر الحزب الشيوعي بياناً في 22 آب 1961 حول الوضع الراهن في كردستان مؤكداً على ضرورة النضال من أجل تسوية الوضع المتأزم في كردستان، وذلك بضرب نشاط عملاء الاستعمار وحلف السنتو في المناطق المتاخمة للحدود الإيرانية، والوقوف ضد الصدام بين القوات الحكومية المسلحة والبارزانيين، والحل السلمي للقضية الكردية.
كما طالب تقرير اللجنة المركزية للحزب في تشرين الثاني 1961 حكومة عبد الكريم قاسم بتحقيق المطالب التالية :
1ـ إلغاء الحملة العسكرية النظامية.
2 ـ حل المسالة الكردية بالطرق السلمية بإصدار بيان رسمي بالاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن الوحدة العراقية .
3 ـ إصدار عفو عام عن المشتركين في الحركة .
4ـ إطلاق سراح جميع المعتقلين وإرجاع المفصولين لأعمالهم
5 ـ دفع التعويضات للمتضررين.
 ولم تجدِ نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال واللجوء إلى الحوار، واستمرت الحرب بالتصاعد .

 وهكذا اتخذ الحزب الشيوعي قراره بشن حملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار[ السلم في كردستان ،والديمقراطية للعراق ]، وقد بذل رفاق الحزب الشيوعي في السليمانية، وكنت واحداً منهم ، جهداً كبيراً في إظهار السعة الجماهيرية لتلك الحملة لدرجة أنها أغضبت حاكم السليمانية العسكري الجلاد صديق مصطفى في أواخر عام 1962 ، حيث بادر إلى جمع رؤساء الدوائر على الفور، وقدم لهم صيغة برقية إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تطالبه بقمع الحركة الكردية بشدة، وطلب من كل رئيس دائرة أن يسجل أسماء منتسبي دائرته، ويوقع كل موظف أمام اسمه، والذي يرفض التوقيع يكتب أمام اسمه لا أوقع، ومنح رؤساء الدوائر ومنتسبيها مهلة أمدها حتى الساعة الثانية من ظهر اليوم التالي، وكان واضحاً أن خطة الجلاد صديق مصطفى تقضي بالتنكيل بمن يرفض التوقيع على البرقية.
وعلى أثر ذلك الإجراء اللا قانوني تم عقد لقاء بين قيادتي الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني لتدارس الموقف الناجم عن تصرف الحاكم العسكري صديق مصطفى، والإجراء المضاد الذي يمكن اتخاذه لتحدي سلطة هذا الجلاد.
وخرجت قيادة الحزبين بقرار يلزم أعضاء حزبيهما بتحدي القرار، وعدم التوقيع عليه محذرة أعضاء الحزبين بطرد كل من يوقع على البرقية، وطلبت كذلك بعدم الهروب من وجه السلطة وإلا واجه الطرد أيضا. وهكذا بعثت قيادة فرع الحزب في السليمانية بتبليغ مستعجل إلى كافة رفاق الحزب تضمنت النص التالي :
إلى كافة رفاق حزبنا الشيوعي :
إن دكتاتورية عبد الكريم قاسم لا تتحطم إلا على أيدي الشيوعيين!!
نمنعكم من التوقيع على البرقية، وكل من يوقع على البرقية يطرد من الحزب فوراً، وكل من لا يوقع ويهرب من وجه السلطة يطرد أيضاً.

وعندما تسلمت التبليغ شعرت بالغضب الشديد ليس على رفض التوقيع وتحدي السلطة، على الرغم من عدم قناعتي بالقرار، ولكن على الديباجة في تصدرت في أعلى التبليغ التي دلت على عدم نضوج قيادة الفرع، وضحالة تفكيرها بحيث جعلت من نفسها القوة التي ستحطم سلطة عبد الكريم قاسم !! فلماذا ؟ ولمصلحة من هذا القرار ؟ هل يصب هذا القرار في خدمة قضايا شعبنا ووطننا أن نحطم سلطة عبد الكريم قاسم، ونعرض ثورة 14 تموز وكل مكاسبها للضياع؟
لقد شعرت بالاشمئزاز من تلك الديباجة الخطيرة، وساورتني الشكوك حول نتائج هذه السياسة الحمقاء، ورد الفعل الذي سيتخذه الزعيم عبد الكريم قاسم تجاه الحزب الشيوعي.
الفخ :
في صباح اليوم التالي كان في مقدمة الموقعين على البرقية هم أصحاب الحركة المسلحة قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني وتبعهم كافة رفاق حزبهم دون استثناء.
ولما وجد الرفاق الشيوعيون أن قادة ورفاق الحزب الديمقراطي الكردستاني قد وقعوا على البرقية، بدأوا بالتوقيع عليها كذلك، وعندما بلغت الساعة الثانية ظهراً، وانتهى الموعد المحدد للتوقيع، كان كل من بقي من الشيوعيين غير الموقعين 6 رفاق فقط  4 منهم عرب، وكنت احدهم ، واثنان من الرفاق الأكراد. وهكذا تبين لنا أن قادة القوميون الكرد قد نصبوا فخاً محكماً لتخريب تنظيم الحزب الشيوعي في صفوف المثقفين أدى إلى خسارة الحزب لهذا الجانب الهام والواسع بصورة شاملة، وفي الوقت نفسه خرج قادة القوميون الكرد هم ورفاق حزبهم سالمين!!

أصبح وضعنا حرجاً جداً بعد انتهاء المهلة، وكنا ندرك أن الجلاد صديق مصطفى سيصب جام غضبه علينا، وعليه فقد بادرت إلى إرسال رسالة مستعجلة لقيادة الفرع، وطلبت منهم الموافقة على الاختفاء تجنباً لما لا يحمد عقباه، فماذا كان الجواب؟
كان الجواب الذي تلقيته بالنص:{ موتوا كي نشيعكم}!!
هكذا بكل بساطة يقدمون أرواح رفاقهم فداء بالمجان، ولمصلحة منْ؟ متجاهلين انعكاسات موتنا على مستقبل عوائلنا وأطفالنا.
أثارت الرسالة في نفسي الحزن والألم، والغضب الشديد، ودفعتني إلى اتخاذ قراري الحاسم والنهائي بالاستقالة من الحزب، وعدم التفكير في أي انتماء حزبي مستقبلاً، مع البقاء على علاقة طيبة مع سائر القوى الوطنية ولكن عن بعد، وأتحرر من القيود الحزبية، وامتلك القدرة على نقد الأخطاء، وادعم الخطوات الصائبة دون حدود أو قيود.
مكثت في البيت تلك الليلة في انتظار إجراءات الجلاد صديق مصطفى، ولم تكد الساعة تعلن العاشرة ليلاً حتى طُوقت قوات الانضباط العسكري داري والمنطقة المحيطة به من قبل مجموعة كبيرة كان على رأسها آمر الانضباط المجرم [رشيد علوان المهداوي]،وجرى تفتيش الدار، واعتقالي ونقلي إلى دائرة الانضباط العسكري مع بقية رفاقي الخمسة .
كان هناك ثلة من قوات الانضباط في انتظارنا، وقد اصطفت على جانبي المدخل الضيق والطويل لدائرة الانضباط، وقد استعدوا لاستقبالنا بما يشبع رغبة الجلاد، حيث تلقينا من الضربات الموجعة من كل جندي بما أسقطنا أرضاً في نهاية الممر من شدة الألم حيث لم تبقَ بقعة من أجسامنا دون أن تصيبها الكدمات، واثبت الأوباش من الانضباط العسكري أنهم اشد وحشية وقسوة من الأجهزة الأمنية.
 استمر بنا الحال أسبوعين في الاعتقال دون أي تهمة أو سند قانوني، كنا خلالها نقاسي من التعذيب الوحشي ما لا يوصف، حيث خرجنا بعدها منهكي القوى، وفي وضع صحي سيئ جداً واستمرت معاناتنا لأمد طويل.

 استمرت الحرب بين السلطة وقوات البارزاني حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963.  ومن المثير للغضب والاستنكار أن قادة الحركة الكردية كانوا قد وضعوا أيديهم بأيدي انقلابيي شباط 963 ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظناً منهم أن بالامكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية المشروعة على أيدي أولئك القوميين الفاشيين والمتعصبين.
لقد كان موقفهم هذا أقل ما يقال عنه أنه موقف ميكافللي لا مبدأي يبرر الوسيلة مهما كانت لتحقيق الهدف المنشود، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ذلك الموقف كان يعبر عن جهل بطبيعة حزب البعث والقوى القومية المتعصبة المتحالفة معه، الذين لم يكّنوا يوماً المودة للشعب الكردي، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957.
 لم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط، حتى بادر الانقلابيون في 10 حزيران 1963 إلى شن حملة عسكرية هوجاء على الحركة الكردية، منزلين فيه أشد الويلات والمآسي بالشعب الكردي.





426
حول الديمقراطية والحياة الحزبية في العالم العربي
حامد الحمداني                                             6/8/2008
ما زال العالم العربي متخلفاً عن ركب العالم المتقدم في مجال الديمقراطية ، وإن كل ما نشهده من ادعاءات الحكام عن الالتزام بالديمقراطية بعيد جداً عن الواقع، ربما باستثناء لبنان إلى حد ما .
ففي كل الأنظمة العربية لم نشهد انتخاباً حقيقياً لرئيس الدولة، بل على العكس من ذلك نجد استئثار معظم القادة بالسلطة لدورات متتالية امتدت لعشرين وثلاثين وحتى أربعين عاماً، وغالباً ما تعدل الدساتير ليتمكن الحاكم من تجديد ولايته . هذا بالنسبة للأنظمة الجمهورية التي باتت وراثية في بعض الأحيان فالرئيس باقٍ حتى وفاته ، وقد أعد إبنه لتولي الرئاسة من بعده .
 أما في الأنظمة الملكية فالسلطة كلها بيد الملك حتى اللحظة الأخيرة من حياته ، ولا شك أن ارتباط الدول العربية بعجلة السياسة الأمريكية لا يخفى على أحد، ولنا من العراق المثال الصارخ على الهيمنة الأمريكية على مقدراته لدرجة أن الحاكم الأمريكي بريمر هو من وضع الدستور العراقي المؤقت، والذي اتخذ فيما بعد أساساً للدستور الدائم ، وهو الذي عين رئيس الجمهورية ونوابه وعين رئيس الحكومة ، ووزع المناصب الوزارية، فأية ديمقراطية يمكن أن نتحدث عنها في عالمنا العربي ، أنها ليست  سوى ضحك على الذقون .
أما الصحافة التي أُطلقَ عليها السلطة الرابعة فهي في عالمنا العربي ليست حرة فيما تكتب، وتتعرض للغلق والمحاكمة إذا ما وجهت أي انتقاد للسلطة الحاكمة ، وفي كثير من الأحيان تصبح الصحف وعاظ للسلاطين. 
 
إن الديمقراطية ليست رداء نلبسه لنصبح ديمقراطيين ، إنها تربية تبدأ من الطفولة ، فلا يمكن أن نكون ديمقراطيين بين عشية وضحاها والديمقراطية التي نشهدها في أوربا لم تأتي وتتجذر في المجتمع الأوربي إلا خلال مرحلة طويلة، حيث نجد تداول السلطة يجري بشكل سلس ، وحيث احترام الرأي الآخر دون أي انفعال أو صراع عنيف ، وحيث احترام مبدأ الديمقراطية والدفاع عنها ، وحيث احترام حقوق الإنسان.

كما أن الأحزاب في العالم العربي مع الأسف لا تمتلك هذه  التراث المتراكم  الذي يؤهلها لقيام حياة حزبية ديمقراطية ، وكثيراً ما نجد حياة حزبية مشوهة ،حيث تستأثر أحزاب السلطة بالحكم ، وحيث تزييف الانتخابات على المكشوف لصالح حزب السلطة ، ولذلك نجد أن أحزاب المعارضة غالبا ما يجري حلها أو تقزيمها ، وقد تضطر بعضها إلى اللجوء للعمل السري  وإلى العنف لمحاولة قلب الأنظمة القائمة ، كما أن عدم نضوج الحياة الديمقراطية في العالم العربي يؤدي بالعديد من الأحزاب السياسية إلى منزلقات خطيرة تؤدي إلى نتائج كارثية حول مستقبل الديمقراطية عندما يستطيع حزب ما ، خاصة عندما ما يكون مدعوماً من قوى دولية، من السطو على السلطة من خلال انقلاب عسكري حيث يجري قمع كل مظاهر الديمقراطية، و حكم البلاد حكما ديكتاتوريا دمويا كما حدث في العديد من الدول العربية.
 
كما إن الأحزاب السياسية في العالم العربي لها توجهات وارتباطات مختلفة ، فقسم ذو توجه ديني متطرف يستهدف استخدام الديمقراطية للوثوب إلى السلطة فقط ، وعندما يتمكن من ذلك يتجاهل الديمقراطية ويسعى لفرض أجندته الدينية المتخلفة عن روح العصر، وقسم آخر يرتبط بأنظمة خارجية ودول أجنبية، ويسعى لتنفيذ أجندتها، وقسم آخر من هذه الأحزاب هو عبارة عن تجمع لشخصيات لا يجمعها مع بعضها سوى المصالح الذاتية بعيداً عن مصلحة الوطن والمواطن.

 فالأخوان المسلمين على سبيل المثال هي بالأساس أمريكية المنشأ والدعم منذ عدة عقود عندما كان الصراع قائماً بين المعسكرين الشرقي والغربي، بدعوى مكافحة الأفكار الهدامة والإلحاد!.
كما أن الأحزاب الدينية الطائفية الشيعية في العراق مرتبطة بنظام ملالي طهران وتسعى لتنفيد الأجندة الإيرانية ، وقد وجدنا هذه الظاهرة في أجلى مظاهرها في دعوة الخميني في أول عهد ما سمي بالثورة الإسلامية في إيران  إلى امتداد الثورة إلى العالم العربي في السعي للهيمنة على العراق ومنطقة الخليج، كما نجد أن أجندة حزبي الطالباني والبارزاني بعيدة كل البعد عن الأيمان بالوطنية العراقية، ويسعى الحزبان في نهاية المطاف إلى تمزيق العراق ، وإقامة كيان قومي عنصري في شمال العراق.

 لكن هذا لا يعني أن كل الأحزاب على هذه الشاكلة، فهناك قوى وأحزاب وطنية حقيقية تسعى لتعزيز الديمقراطية ، والنهوض الشامل بالمجتمع العربي، إذا ما أُتيح لها المجال للعمل بحرية دون تدخل الأنظمة الحاكمة، لكنها مع شديد الأسف محاصرة، ويجري تقزيمها باستمرار.
 ويتهم البعض من الكتاب الشعوب العربية بأن إنتماءتها لبعض الأحزاب الإقليمية قد أصبحت أقوى من انتمائها لوطنها، لكن إذا أخذنا هذا الأمر بصفة الجمع نكون قد ظلمنا شعوبنا.

غير أن  هذا لا يعني أن هناك جانب ، قد يكون كبيراً أو صغيراً، يسير في هذا الاتجاه ، وهذا يعود بكل تأكيد إلى التخلف السائد في المجتمع العربي من جهة ، والتعصب الطائفي والديني والقومي من جهة أخرى ، وهذا ما نشهده بكل وضوح ، وبشكل صارخ، في العراق اليوم حيث تأثير الأحزاب الدينية الطائفية والعرقية يلعب دوراً خطيراً في دفع جماهير الشعب نحو التعصب للطائفة أو العرقية، وخاصة في صفوف الجماهير التي لا تتمتع بمستوى ثقافي مناسب، مما يجعلها سريعة الانقياد بشكل أعمى لأجندة قيادات هذه الأحزاب.

وهكذا نجد أن الثقافة وشيوع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان هي السبيل للوقوف أمام تلك الأجندات اللا وطنية ، وتعزيز الشعور بالإنتماء للوطن، والحرص على الروابط المتينة بين أبناء الوطن الواحد .

 كما  أن إبعاد الدين عن السياسة هو السبيل للنهوض بالعالم العربي ، واللحاق بركب الإنسانية المتقدمة ، وأن زج الدين في السياسة قد  افسد الدين والسياسة معاً، وإذا كنا حريصين على نقاء الدين وقدسيته فينبغي أن نبعده عن سوق النخاسة للسياسيين الذي يستخدمون الدين لتحقيق أهداف سياسية .
إن فصل الدين عن الدولة، ورفض قيام حياة حزبية قائمة على أساس ديني أو طائفي ، أو عرقي شوفيني يتنافى ومبدأ الديمقراطية ، فالأحزاب من هذا النوع لا تؤمن بالديمقراطية ، بل تريدها وسيلة للصعود للسلطة ، والتنكر لها فيما بعد ، والاستئثار بها .

إن سيادة الديمقراطية الحقيقية هي السبيل القويم للحرية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق وحريات المواطن بصرف النظر عن قوميته وجنسه ودينه وطائفته ، ففي المجتمع الديمقراطي ينال كل ذي حق حقه دون تمييز في ظل سيادة القانون ، واحترام الحريات العامة والخاصة بما لا يتعارض مع مصلحة الجميع.   


427
المقدمات الخاطئة لن تعطِ إلا نتائج خاطئة
وقد تؤدي إلى نتائج كارثية

حامد الحمداني                                                 5/8/2008

نعم وبكل تأكيد المقدمات الخاطئة لن تعطِ إلا نتائج خاطئة ، هكذا يقول العلم والعلماء، وهكذا تعلمنا خلال سنوات الدراسة، وهذا القانون لا ينطبق على موضوع معين فحسب ، بل ينطبق على كل مجالات العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وسائر العلوم الأخرى.
وما يهمنا اليوم في موضوعنا هذا تناول الأحداث التي ترتبت على الاحتلال الأمريكي للعراق، ونتائجها الكارثية على الأوضاع  السياسية والاجتماعية للمجتمع العراقي منذ الغزو الأمريكي للعراق في العشرين من آذار 2003 وحتى اليوم ، والتأثيرات السلبية الخطيرة على مستقبل العراق وشعبه.
ولكن لا بأس أن نعود قليلاً إلى الوراء لنستعرض السياسة الرعناء لنظام البعث، والتي قادت العراق إلى المصير المجهول، فقد تعرض العراق على عهد هذا النظام الشمولي الذي دام 35 عاماً ، وبوجه خاص على عهد الدكتاتور صدام حسين الذي فرض نفسه قائداً أوحداً يمسك بين يديه كل مفاصل الدولة، وكل القرارات المتعلقة بمصير الشعب والوطن، لكوارث رهيبة كان أبشعها حروبه الكارثية المتتالية بدءً من حرب الخليج الأولى ضد إيران التي دامت 8 سنوات بالنيابة عن الولايات المتحدة ،  فاحتلال الكويت ، فحرب الخليج الثانية التي خطط لها الرئيس بوش الأب  بمشاركة جيوش 32 دولة أخرى بدعوى تحرير الكويت، لكن الهدف الأساسي لتلك الحرب كان تدمير القدرات العسكرية العراقية بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية،  ثم الحصار الأمريكي الجائر الذي يعتبر بحق أقسى وأشنع أنواع الحروب ضد الشعب العراقي ، والذي دام 13 عاماً عجافا كانت له اشد التأثيرات الكارثية على البنية الاجتماعية والاقتصادية العراقية، ثم تلا ذلك حربه الداخلية لقمع انتفاضة الشعب عام 1991، فاستمراره بلعبة القط والفأر مع الولايات المتحدة حول التخلص من أسلحة الدمار الشامل، ومواصلة الإدارة الأمريكية  القصف الجوي المستمر على العراق في عهد الرئيس كلنتون، وأخيراً حرب الخليج الثالثة التي قادها الرئيس بوش الأبن باسم تحرير الشعب العراقي من نظام صدام، وانتهت بسقوط النظام ، واحتلال الجيش الأمريكي للعراق  إلى أمد لا أحد يستطيع تحديد مداه، وتكشّف زيف الادعاءات الأمريكية حيث انتقل الشعب العراقي من طغيان نظام صدام إلى طغيان نظام الاحتلال الأمريكي.
لم تكن هناك أية مبررات لتلك الحروب الكارثية، وما كان لها أن تحدث لولا استئثار نظام البعث بالسلطة المطلقة، والتصرف الطائش والأهوج، وجنون العظمة لصدام، وتطلعاته للهيمنة على منطقة الخليج فهي التي قادته، وقادت الشعب العراقي إلى هذه النهاية المفجعة ، وأوصلت العراق إلى الاحتلال والخراب والدمار .
وجاء الاحتلال الأمريكي للعراق على الرغم من معارضة الأمم المتحدة ، ومعارضة معظم دول العالم وفي مقدمتها فرنسا وروسيا والصين الأعضاء الدائميين في مجلس الأمن لتلك الحرب التي سببت للعراق من الكوارث التي كانت الأشد من سابقاتها بسبب الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الحاكم الأمريكي بريمر خلال عام كامل، وسواء أكانت قرارات بريمر الكارثية قد جرى أعداها سلفا في دهاليس البيت الأبيض والبنتاجون ، وهو ما أرجحه، أم أنها قرارات خاطئة اتخذها بريمر بنفسه فالنتيجة كانت واحدة قيام نظام طائفي وعنصري شوفيني أجج الصراعات الدينية والأثنية بين مكونات المجتمع العراقي والتي قادته إلى الصراع المسلح والحرب الأهلية الطائفية، ولا أريد الإطالة بالحديث عن تفاصيل الكوارث التي حلت في العراق على يد المحتلين ومن جاؤوا بهم وبوأوهم أعلى مناصب الدولة ليقودوا العراق إلى الهاوية فالشعب العراقي كله ما زال يعيش هذه كارثة، وما زال يكتوي بنيرانها، ويدفع كل يوم ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة التي جاوزت الـ 650 ألف ضحية، وتشريد أكثر من أربعة ملايين مواطن عراقي يقاسون شضف العيش في ظل ظروف قاسية جداً بعد أن جرى إخراجهم من بيوتهم وتهجيرهم تحت تهديد السلاح والقتل والحرق .
لقد حلت الإدارة الأمريكية  الجيش وقوات الشرطة ولم تقم بواجبها في حماية مرافق الدولة وحماية المواطنين حسبما تقتضي معاهدة جنيف، فكانت النتيجة سيادة شريعة الغاب تحت سمع وبصر القوات الأمريكية التي كانت تقف مكتوفة الأيدي أمام عمليات السرقة والنهب التي امتدت إلى كل مرافق الدولة دون استثناء ، فهل كانت القوات الأمريكية التي أسقطت نظام صدام بما يمتلك من جيش جرار، وأجهزة أمنية ، وجيش القدس، وفدائيي صدام في 20 يوماً عاجزة عن حماية مرافق الدولة وحماية المواطنين العراقيين؟
ثم هل عجزت الإدارة الأمريكية عن إيجاد 30 عنصرا وطنياً مستقلاً من التنكوقراط لتشكيل حكومة مؤقتة تتولى الحكم لفترة زمنية محدد، وتتولى إعادة الأمن والنظام في البلاد ، وتأمين الخدمات الضرورية للمواطنين، وتهيئة المستلزمات لإقامة المؤسسات لنظام حكم ديمقراطي حقيقي يضمن الحقوق والحريات العامة لسائر مكونات الشعب بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة ، أم أن الإدارة الأمريكية قد قررت سلفاً حكم العراق بصورة مباشرة فنصبت بريمر حاكماً على البلاد في بادئ الأمر، ثم اضطرت أمام ضغط واحتجاج العالم اجمع إلى إقامة ما أسمته بالعملية السياسية، وإقامة هذا النظام الطائفي والعرقي المقيت تحت جناحيها لتمزق البنية الاجتماعية للشعب، وتزجه في هذا الصراع العنيف، كي يستمر احتلالها للعراق؟
وجاءت الإدارة الأمريكية بدستور بريمر  الذي كرس الطائفية والعرقية في البلاد ، وفتح الباب واسعاً أمام القوى التقسيمية لتفتيتها، و اتُخذ فيما بعد أساساً للدستور الدائم الذي تم وضعه من قبل قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية وقادة الأحزاب الكردية تحت إشراف السفير الأمريكي، حيث باتت البلاد على كف عفريت.
إن كل ما اتُخذ من إجراءات خاطئة في العراق منذ 9 نيسان 2003 وحتى اليوم تتحمل مسؤوليتها الإدارة الأمريكية، وإن العملية السياسية التي قامت على أسس خاطئة قد جاءت بهذه النتائج الخاطئة، والتي جلبت وما تزال الكوارث للشعب العراقي .
إن العملية السياسية بوضعها الحالي لا يمكن أن تحقق الأمن السلام والحياة الهادئة للشعب، بل على العكس قد أصبحت مدخلاً لصراعات قد تمتد لأمد طويل، وهي تتطلب إعادة النظر الجذرية بكل مفاصلها بدءً من الدستور والبرلمان والحكومة، بما يؤمن الحفاظ على تماسك البنية الاجتماعية والحفاظ على وحدة الشعب والوطن، وكبح جماح الساعين لتقسيم العراق باسم الفيدرالية التي باتت تستهدف تحويل العراق إلى دويلات الطوائف والأعراق، وإن إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد هو الكفيل بتأمين حقوق وحريات كل القوميات، وكل أتباع الطوائف والأديان ، وتأمين الحياة الكريمة للجميع، والعراق بما يمتلك من موارد نفطية وغيرها من الموارد الوفيرة قادر بكل تأكيد على ضمان حاجات المواطن العراقي المادية على أحسن وجه.           
     

428
العراق يواجه خطراً داهماً ، وعلى الشعب أن يأخذ الأمر بيده قبل فوات الأوان!
حامد الحمداني                                              3/8/2008

يتعرض العراق هذه الأيام إلى خطر داهم بات يهدد مصيره ومستقبله لكارثة أشبه ما تكون بالكارثة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين وسائر أجزاء العالم العربي ، وكانت مقدمة تلك الكارثة قد جاءت بعد صدور وعد بلفور السيئ الصيت، وما أعقب ذلك الوعد من مباشرة المحتلين البريطانيين في تسهيل هجرة اليهود من مختلف بلدان العالم إلى فلسطين ، ودعم تشكيل الميليشيات الصهيونية ومدها بالسلاح استعداداً لليوم الموعود عندما حان موعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948 ، حيث أعلنت بريطانيا سحب قواتها بعد تسليم أسلحتها إلى الميليشيات الصهيونية حيث أعقبها بصورة مباشرة إعلان قيام دولة إسرائيل، واعتراف الولايات المتحدة وحلفائها بذلك الكيان فور الإعلان عن قيامه، وقيام تلك الميليشيات الصهيونية بعملية تهجير واسعة النطاق للشعب الفلسطيني مستخدمة أبشع وسائل القتل والحرق والتخريب والتدمير لمساكن الفلسطينيين الذين غادروا موطنهم هرباً من بطش هذه العصابات الفاشية، ولجأوا إلى  الدول العربية المجاورة وما يزالوا لاجئين حتى يومنا هذا رغم كل الحروب التي جرت بين الدول العربية والكيان الصهيوني المدعوم من الإمبريالية الأمريكية التي صنعت من هذه الدولة القاعدة المتقدمة لها في الشرق الأوسط ، والسيف المسلط على رقاب العرب تستطيع تحريكه متى شاءت وأنى أرادت .
واليوم يجري تكرار ما جرى في فلسطين من جديد لكن هذه المرة في تخوم العراق على يد نفس القوى الإمبريالية التي بدأت تعد مشروعها الجديد في إقامة دولة مسعود البارزاني وجلال لطالباني ، حيث مهدت السبيل لقيام هذا الكيان منذ عام 1991 على أثر إعلان الحماية الجوية المستديمة للمنطقة الممتدة شمال خط العرض الثاني والثلاثين، والذي دعته بـ [ كومفورت بروفايد]،وسلخ المنطقة الشمالية من الوطن الأم ، وإقامة كيان دولة أمراء الحرب البارزاني والطالباني ، في حين تخلت عن حماية الشعب العراقي، في جنوب ووسط العراق، وتركته فريسة لقوات الجلاد صدام حسين الذي نكل بالمواطنين أبشع تنكيل، حيث ذهب ضحية ذلك الهجوم الوحشي لقوات صدام وحرسه الجمهوري ما يزيد على 300 ألف شهيد تم دفنهم في مقابر جماعية جرى كشفها بعد سقوط النظام على أيدي المحتلين الأمريكيين وحلفائهم بدعوى تحرير الشعب العراقي من نير النظام الصدامي الذي صنعوه هم أنفسهم، وسخروه لخدمة مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة ، فكانت حرب الخليج الأولى التي قادها صدام ضد إيران بالنيابة عن أسياده الأمريكيين تلك الحرب التي دامت 8 سنوات كما خططت لها الإدارة الأمريكية، فكانت الكارثة الكبرى التي حلت بالعراق، الذي دفع أرواح نصف مليون مواطن ، ناهيكم عن مئات ألوف الجرحى والمعوقين والأرامل والأيتام ، ودمرت بنيته التحية ، واستنفذت
كل مدخرات العراق، وكل موارده النفطية خلال سنوات الحرب، وأغرقته بالديون التي بلغت أرقاما خيالية، وخرج العراق من تلك الحرب يمتلك جيشاً جرارا ، وأسلحة دمار شامل فتاكة، واقتصاد منهار.
ولم تكد الحرب تضع أوزارها، ويتنفس الشعب العراقي نسيم السلام حتى باشرت الإمبريالية الأمريكية بمخططها التالي الذي يرمي إلى تجريد الجيش العراقي من أسلحته ليس فقط أسلحة الدمار الشامل بل وحتى أسلحته التقليدية فنصب للصدام فخاً محكماً لكي يحتل الكويت كي يعوض عن خسائر العراق في تلك الحرب، ويسدد الديون الفلكية المتراكمة ، فكانت حرب الخليج الثانية، التي أعدت لها إدارة بوش الأب وكأنها تخوض الحرب العالمية الثالثة ، مجندة إلى جانبها قوات 30 دولة أجنبية وعربية ، ومستخدمة أحدث ما ابتكرته المصانع الحربية الأمريكية ، وأشدها تدميرا ، لتنتهي بتدمير قدرات العراق العسكرية ، وتدمر كافة مرافقه الحيوية، وتفرض على نظام صدام في خيمة صفوان الشهيرة شروطها المجحفة بحق العراق والعراقيين .
ولم تنته المشاريع الأمريكية العدوانية ضد العراق عند ذلك الحد ، حيث استمرت الهجمات الجوية طيلة عهد الرئيس كلينتون، ليأتي بعده بوش الأبن ويشن حربه على العراق من جديد في 20 آذار 2003 مدعوما من قبل بريطانيا وحلفاء آخرين كان من بينهم ميليشيات البارزاني والطالباني اللذان يفخران في رسالتهما الموجهة لبوش بأنهما قد قدما من الضحايا في تلك الحرب أكثر مما قدمه حلفاء أمريكا !!.
أدعى بوش أنه قاد الحرب  لتحرير الشعب العراقي من نظام صدام ، فأصبح العراق بلداً محتلا، وقد حكمه الحاكم الأمريكي بريمر عاماً كاملا، شاد في البلاد أسس النظام الطائفي والعنصري الشوفيني، وشرع للعراق دستورا مؤقتا وضع فيه أسس تمزيق العراق من خلال المادة 58 السيئة الصيت. وجاء الدستور الدائم الذي تولى سنه التحالف الشيعي بزعامة الحكيم والتحالف الكردي بزعامة البارزاني والطالباني نسخة مطابقة لدستور بريمر. وهذا هو سر تمسك القيادة الكردية بهذا الدستور الذي جرى تفصيله على مقاس البارزاني والطالباني.
 واستحصل بوش قراراً من مجلس الأمن يشرعن الاحتلال، وما زال المحتلون يمسكون بتلابيب العراق منذ ذلك الحين، ويبذلون أقصى جهدهم لفرض معاهدة أمنية طويلة الأمد على النظام الطائفي والعرقي الذي أقاموه بعد الاحتلال ، بعد أن هدموا الكيان العراقي بكل مؤسساته العسكرية والأمنية والمدنية والخدماتية، وتركوه يعبث فيه النهابون والسراق المجرمون ممن أطلق عليهم الشعب تسمية [الحواسم] !.
فكانت أكبر عملية نهب في تاريخ العراق لم تبق فيه على شيء بدءً من المتحف العراقي الذي ضم النفائس التي لا تقدر بثمن مروراً بالمصارف بما فيها البنك المركزي و فروعه، ومكتبة العراق الوطنية الثمينة ، وامتدت أيدي ميليشيات البارزاني والطالباني لتسرق أسلحة ثلاثة فيالق عسكرية عراقية كانت متواجدة في المنطقة الشمالية ، وليهدد بها البارزاني فيما بعد الشعب العراقي عبر القنوات التلفزيونية بالحرب الأهلية الحقيقية التي قال أنها ستندلع من هنا [ كردستان] إذا لم تعود كركوك وما يسمى بالمناطق المختلف عليها،والتي تمتد في سهل الموصل وسنجار وخانقين وحتى بدرة وجصان إلى دولته العتيدة.
وما أن صدر قانون الانتخابات لمجالس المحافظات حتى قامت قائمة البارزاني والطالباني ، وتصاعدت التهديدات بضم كركوك بالقوة ، وأخذت التصريحات الهستيرية تتولى من جانب غلاة العنصريين الكرد تتهم كل من يخالفهم بالشوفينية والعنصرية وهم العنصريون الشوفينيون حتى العظام والذين ينطبق عليهم قول الإمام علي كرم الله وجهه:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله*****عار عليك إذا فعلت عظيمٌ
أن القادة الكرد قد استغلوا الأوضاع الأمنية في العراق لتحقيق أقصى ما يمكنهم من التمدد في المناطق العربية، وخاصة في مدينة الموصل التي تتعرض للتكريد بنفس الأسلوب الذي طبقه الصهاينة في فلسطين، حيث تسيطر ميليشيات البيشمركة على مناطق واسعة من الموصل ، وحيث تمارس أبشع الوسائل لتحقيق أهدافها الشريرة.
إن القادة الكرد سيقعون في خطأ جسيم إذا ظنوا أنهم قادرون على تنفيذ تهديداتهم ، وفرض إرادتهم على العراقيين ، وسينقلب السحر على الساحر ، وعندها سيخسرون كل ما استطاعوا تحقيقه منذ عام 1991 وحتى يومنا هذا، وستندحر مشاريع التقسيم سواء جاءت من القادة الكرد أم من قبل زمرة الحكيم، وسيبقى العراق موحداً رغم انف أصحاب مشاريع التقسيم .
كلمة أخيرة أوجهها لأبناء الشعب العراقي الغيارى إن العراق لن يحميه سواكم ، انه بيتكم الكبير الذي لا غنى لكم عنه سواء كنتم عرباً أم كرداً أم تركماناً أم آشوريون، مسلمون شيعة وسنة أو مسيحيون أو مندائيون أو أيزيديون، وأن الحرص على مستقبلكم، هو الحرص على مستقبل العراق. أن هناك أيادي تعمل في الظلام على تمزيقه باسم الفيدرالية التي جاوزت كل الحدود ، وتمارس هذه الأيادي كل الوسائل لتحقيق أهدافها الشريرة، ومنها الرشاوى التي تقدمها للعديد من المسؤولين الكبار الذي هان عليهم بيع الوطن .
أن عليكم يا أبناء وطني مهمة صيانة وحدة وأمن واستقلال العراق ، وتحريره من الاحتلال ، وأنتم جديرين بحمل هذا الشرف الرفيع ، والقيام بهذا الواجب ، وقد أثبتت أحداث التاريخ القريبة والبعيدة أنكم أهل لهذه المهمة بكل جدارة.



429
أحزاب الإسلام السياسي الطائفي تتاجر بأرواح المواطنين
حامد الحمداني                                              30/7/2008

من حق كل مواطن حريص على مصلحة الشعب والوطن أن يتوجه بالأسئلة التالية إلى قيادات احزاب الإسلام السياسي الطائفية الشيعية ، وإلى الجماهير المظللة المدفوعة من قبل هذه القيادات نحو المسيرات والتجمعات الدينية:
ماهي الضرورة لدفع مئات الألوف من الناس البسطاء إلى هذه التجمعات، ولاسيما في ظل هذه الظروف الأمنية الخطيرة، حيث تمارس قوى الأرهاب جرائمها الوحشية كل يوم عبر السيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة، والتي تؤدي بحياة العشرات والمئات من المواطنين الأبرياء ، بحجة الاحتفال بميلاد الأمام موسى الكاظم؟
لماذا لم  تتعلم هذه القيادات الدرس من الكارثة التي حلت قبل عامين بذلك التجمع المماثل، والذي ذهب ضحيته أكثر من 1100 مواطن برئ دفعوا حياتهم دون أدنى مبرر سوى الرغبة الجامحة لقادة هذه الأحزاب في تعبئة هذه الجماهير البسيطة ، استعداداً لخوض انتخابات المحافظات، والتي تستهدف الهيمنة على حكومات المحافظات كخطوة أولى نحو تحقيق حلمهم في إقامة فيدرالية الجنوب والوسط التي يسعى لها السيد عبد العزيز الحكيم وحزبه وميليشياته، وتمزيق الوطن العراقي، والنسيج الإجتماعي لشعبه باسم الفيدرالية!!.
وبدلا من أن تحول حكومة المالكي دون تنظيم مثل هذه المسيرات والتجمعات التي تعرض حياة المواطنين للخطر الجسيم ، نجدها تقف إلى جانب تنظيم هذا المهرجان المفتعل ، وتزج  بستة فرق عسكرية، إضافة إلى قوات الشرطة وكافة الأجهزة الأمنية والمخابراتية، لحماية هذا التجمع باسم الاحتفال بميلاد الأمام موسى الكاظم الذي رحل قبل مئات السنين.
ولم تكتفِ حكومة المالكي بكل هذا الحشد العسكري والأمني ، بل لجأت إلى فرض منع التجول في بغداد حتى يوم الأربعاء دون التفكير كم تكلف هذه الإجراءات الأمنية خزينة الدولة بالإضافة إلى أشغال القوات المسلحة في أمور ليس للشعب فيها ناقة ولا جمل، فهي لا تخدم سوى اهداف سياسية وانتخابية لهذه الأحزاب دون وجه حق .
أما كان الأجدر بالحكومة أن تزج بهذه القوات لملاحقة قوى الإرهاب الظلامية والفاشية،  وتحقيق الأمن والسلام في البلاد ، وتحقيق حياة آمنة للمواطنين الذين ارهقتهم جرائم الإرهابيين من ميليشيات هذه الأحزاب نفسها، بالإضافة إلى ايتام نظام البعث، وعناصر القاعدة الظلامية؟
ماذا يجني الشعب العراقي من احتفالات كهذه  سوى دفع المزيد والمزيد من الأرواح البريئة على مذبح الأهداف السياسية لأحزاب قوى الاسلام الطائفي الشيعية المتمثلة بالإستثار بالسلطة والثروة ؟
لماذ يغيب  قادة هذه الأحزاب عن قيادة هذه  المسيرات والتجمعات السياسية المحتوى، والدينية الواجهة ؟ أليس لأنهم خائفون على حياتهم قابعين في قلاعهم، وقد احاطوا انفسهم بحماية كبيرة مدججة بالسلاح مكتفين بدفع هؤلاء المواطنين البسطاء إلى المجزرة، حيث أن حياتهم لا تساوي عندهم شيئا ؟
إنهم يستخدمون ما يدعى بالمناسبات الدينية سلاحاً فعالاً في سعيهم المحموم نحو الاستئثار بالسلطة والثروة على حساب هؤلاء الفقراء البائسين الجهلة ، وهم يخترعون بين حين وآخر مناسبة كهذه للإبقاء على هيمنتهم على هذه الجماهير المضللة باسم الدين والتقاليد الدينية التي عفا عليها الزمن، والتي لا تقدم أية فائدة لهذه الجماهير المخدرة، بل تزيدهم بؤساً على بؤسهم، وتعاسة هلى تعاستهم .
إن هذه الجماهير المضللة تحتاج إلى تأمين حياة كريمة لهم ولعوائلهم ، وتأمين الخدمات الصحية والاجتماعية، وتأمين حاجاتهم الضرورية من ماء صالح للشرب وغير ملوث ، وكهرباء يستعينون به في هذا الحر اللاهب، ووقود بمختلف انواعه وتحريرره من سيطرة ميليشيات هذه الأحزاب التي تتحكم فيه، وتبيعه بالسوق السوداء بأضعاف سعره الرسمي، حتى باتت قنينة الغاز السائل بـ 25 ديناًر، في وقت تصاعدت فيه الأسعار بشكل خيالي ، وتآكلت مدخولات الطبقات الفقيرة والمتوسطة واصبحت عاجزة عن تلبية متطلبات الحياة العائلية .
إلى متى ستبقى هذه الجماهير المخدرة سائرة منقادة في مخططات هذه القوى السياسية؟
متى تدرك حقيقة هذه الأهداف التي لا تمت للدين بصلة، ولا تقدم لهم أية فائدة تذكر ، بل على العكس من ذلك تعرض حياتهم  لمخاطر كبيرة، وتسبب الويلات والمصائب لعوائلهم وأولادهم كي ينعم هؤلاء القادة بنعيم السلطة والثروة ؟ 
إن القوى العلمانية والديمقراطية مدعوة اليوم وبشكل ملح إلى فضح أهداف قادة احزاب الأسلام السياسي الشيعية من وراء تنظيم هذه التجمعات والمسيرات ، وتوعية الجماهير المخدرة والمنقادة دون وعي منها ، والأخذ بيدها لتحقيق الحياة الكريمة التي تليق بالإنسان ، وتوعيتها بحقوقها وحرياتها ، وتأمين حاجاتها المادية في مختلف المجالات ، وبوجه خاص في المجال الثقافي حيث تتفتح اذهان هذه الجماهير، لتصبح سيدة نفسها دون أي تأثيرديني أو طائفي مسلط عليها.     

430
الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران
 والخيارات المرة

حامد الحمداني                                                      20/ 7/2008

يبدو أن علاقات الولايات المتحدة وإسرائيل بإيران تمر بمأزق حرج بسبب إصرار حكام طهران على الاستمرار في تخصيب اليورانيوم، وامتلاك ناصية السلاح النووي الذي يثير المخاوف الجدية من أن تصبح إيران دولة نووية، ولاسيما وأنها تتمتع بموقع استراتيجي خطير على امتداد الخليج والبحر العربي ، وتتحكم بمضيق هرمز الممر لأكثر من ثلث إنتاج النفط العالمي الذي يعتبر الشريان الرئيسي لاقتصاد الدول الغربية بوجه خاص والعالم بوجه عام.
ورغم استمرار المحادثات التي تجري بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا لإقناع حكام طهران بالكف عن خططها النووية تارة بتقديم العديد من المحفزات والإغراءات ، وتارة أخرى بالتهديدات المتواصلة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل لاستخدام القوة العسكرية ضدها إن هي استمرت في خططها النووية ، ولاسيما بعد التهديدات التي أطلقها مراراً الرئيس الإيراني نجاد بإزالة إسرائيل من الخارطة ، ومواصلة النظام الإيراني دعم سوريا وحزب الله وحركة حماس في قطاع غزا بمختلف أنواع الأسلحة والتدريبات العسكرية والأموال، مما تعتبره الولايات المتحدة وإسرائيل يمثل خطراً حقيقياً على مصير الدولة العبرية أولاً، وعلى استمرار تدفق النفط من المنطقة ثانيا.
ولم تفلح جهود الولايات المتحدة وحلفائها رغم كل العروض المقدمة لحكام طهران في إقناعهم بوقف نشاطهم بتخصيب اليورانيوم ، ورغم كل التهديدات باللجوء إلى القوة العسكرية في نهاية المطاف ضد إيران.

وهنا يتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية :
1 ـ هل أن الولايات المتحدة قادرة على شن الحرب على إيران حقاً ؟
2 ـ هل أن إيران قادرة على الوقوف أمام الولايات المتحدة وإسرائيل إذا ما وقعت الحرب ؟
3 ـ هل ستكتفي الولايات المتحدة وإسرائيل بالقصف الجوي للمنشآت النووية الإيرانية والمرافق الحيوية كما فعلت مع يوغسلافيا، أم ستخوض حرباً لإسقاط النظام الإيراني كما فعلت مع نظام صدام ؟
4 ـ هل بإمكان الولايات المتحدة وإسرائيل حصر الحرب على الساحة الإيرانية ومنعها من الانتشار في منطقة الشرق الأوسط على أقل تقدير ؟
5 ـ هل ستشترك سوريا وحزب الله في الحرب إذا ما اندلعت مع الحليفة إيران؟ وماذا ستكون نتائج الحرب بالنسبة لإسرائيل، ولمنطقة الخليج التي تضم العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في العراق والسعودية والكويت وقطر والبحرين وعمان والإمارات بالإضافة إلى أفغانستان ؟
6 ـ هل ستلجأ إسرائيل على استخدام السلاح النووي ضد إيران إذا ما تعرضت لقصف مركز من قبل إيران وحلفائها المحيطين بها ؟
7 ـ ماذا سيكون موقف روسيا من الحرب التي ستطوقها أمريكا بها إن وقعت؟ وهل ستستمر في دعم النظام الإيراني بالسلاح بغية إنهاك القوات الأمريكية في حرب طويلة الأمد؟
8 ـ ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب على حرب كهذه بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط عامة، والخليج خاصة، ولاسيما مخاطر انتشار الإرهاب على نطاق واسع يمكن أن يغطي المنطقة كلها، وربما يمتد إلى مناطق واسعة من العالم ؟

إن الإجابة على كل هذه الأسئلة تظهر بلا أدنى شك أن الطرفين واقعان في مأزق حرج ، وإن الخيارات كلها أمام الطرفين مرة، فإشعال الحرب ربما يكون أمر سهل جداً، لكن تحمل نتائجها الكارثية، وإطفائها أمر في غاية الصعوبة، ولاسيما وان إيران دولة واسعة جداً ونفوسها تتجاوز الـ 80 مليون نسمة، ولها من الإمكانيات المادية والبشرية ما يتجاوز أضعاف إمكانيات نظام صدام.

وللإجابة على الأسئلة  الواردة في بداية المقال أستطيع القول أن الولايات المتحدة التي تتمتع بمركز الدولة العظمى في العالم، بما تملكه من أسلحة فتاكة وطائرات وسفن حربية عملاقة هي قادرة بلا أدنى شك على مهاجمة إيران مدعومة بالقوة الجوية الاسرائلية وصواريخها البعيدة المدى.
 لكن إسرائيل والولايات المتحدة سوف لن تتحمل رد الفعل الإيراني على الضربة الأولى والتي يمكن أن تشعل المنطقة كلها بنيرانها ، وربما سيتوقف شريان النفط لفترة زمنية قد تطول، مما سيرفع برميل النفط إلى أسعار خيالية لا يتحملها الاقتصاد العالمي.
وبالنسبة للسؤال الثاني والثالث أستطيع القول أن إيران إذا ما هوجمت فسوف لن تتوانى عن استخدام كل ترسانتها الحربية لضرب القواعد الأمريكية في  منطقة الخليج ، وربما تتجاوز ذلك إلى ضرب المنشآت النفطية كذلك . وهي قادرة على الوقوف بوجه القوات الأمريكية لفترة زمنية قد تطول لأشهر منزلة الخسائر الجسيمة بالقوات الأمريكية وبالمنطقة كلها.

أما إذا اكتفت الولايات المتحدة وإسرائيل بقصف المنشآت النووية الإيرانية فقط فسيكون الرد الإيراني القصف المضاد بلا أدنى شك لكل القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة مما يعرضها لكوارث بيئية إضافة للخسائر المادية والبشرية الجسيمة .

وبالنسبة للسوأل الرابع فإن الحرب إذا ما اندلعت فلا أحد يستطيع تحديد مداها، وبكل تأكيد سيعم الخراب والدمار في المنطقة ، وإن إطفاء الحرب ليس كإشعالها أبداً وستجلب الكوارث للجميع.

وبالنسبة للسوأل الخامس فإن حزب الله كما اعتقد سيشارك في الحرب لحظة وقوعها بالنظر لكون الحزب يؤمن بولاية الفقيه وينفذ ما تطلبه القيادة الإيرانية منه بكل تأكيد، مما سيجلب الخراب والدمار للبنان الشقيق والدولة اللبنانية غير قادرة على ضبط حزب الله إذا نشبت الحرب .

وبالنسبة للسوأل السادس أستطيع القول أن إسرائيل إذا ما تعرضت لقصف مدمر فسوف لن تتوانَ عن استخدام سلاحها النووي عندما تجد مصيرها كدولة في مهب الريح، مما سيسبب اخطر كارثة بيئية في المنطقة كلها ، أما موقف سوريا فإحتمال تدخلها ينبغي أن يدخل في الحسبان، وخصوصاً إذا ما استمرت إسرائيل بالمماطلة في إعادة مرتفعات الجولان لها . فربما تكون الحرب إذا ما نشبت الحرب الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط.

وبالنسبة للسوأل السابع فإن روسيا يساورها القلق الشديد من عمليات التطويق التي تمارسها الولايات المتحدة ضدها، وهي ترفض بلا ادنى شك الحرب ضد إيران ليس فقط حرصاً على مصالحها الاقتصادية ، بل حرصاً على مستقبلها هي بالذات .وعليه أرى أن روسيا ستستمر بدعم إيران بالسلاح للوقوف بوجه الولايات المتحدة .

وبالنسبة للسوأل الثامن أرى أن الحرب ستؤدي إلى انتشار واسع النطاق في منطقة الشرق الأوسط  بصورة خاصة، والمصالح الأمريكية في العالم أجمع، سواء خسرت إيران الحرب أم استمرت لأمد طويل .
وفي كل الأحوال أستطيع القول إن الحرب إن وقعت ستكون كارثية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، وإن السبيل لتفادي الحرب كما أرى يتطلب عقد مؤتمر دولي لتنظيف الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل بالذات من أسلحة الدمار الشامل كافة لانتزاع الحجة من حكومة إيران ، وإقرار السلام العادل في الشرق الأوسط من خلال إعادة الجولان لسوريا وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل الضفة الغربية وغزا وسحب المستوطنين من الضفة الغربية ، وحل مشكلة اللاجئين من خلال إسكانهم في المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية وعودة ما يمكن عودتهم إلى مناطق سكانهم الأصلية ، والتعويض لمن يفضل العيش في الخارج ، كما ينبغي إعادة مزارع شبعا إلى لبنان ، وإقامة علاقات مع دول الجوار على أساس احترام سيادة كل بلد واستقلاله وعدم التدخل في شؤونه، وعلى أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بين الجميع ، وتوجيه ثروات بلدان المنطقة لمعالجة مشكلة الفقر والبطالة وتأمين حياة كريمة لمواطنيها فهذا هو السبيل الوحيد لمكافحة الإرهاب ولا سبيل غيره .

431
إلى  طعنوا بثورة 14 تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم ومجدوا النظام الملكي

هكذا وقع نوري السعيد معاهدة عام 1930 الاسترقاقية


حامد الحمداني                                                      18/7/2008
بعد أن فشل السيد جعفر العسكري في تمرير معاهدة عام 1930 مع بريطانيا على اثر الاحتجاجات الشعبية العارمة، تقدم باستقالة حكومته لتخلفها حكومة السيد عبد المحسن السعدون ، لكنه هو الآخر فشل في إقناع الشعب العراقي وأحزابه الوطنية ، وتلقى الإهانة من المندوب السامي لتأخره في إقرار المعاهدة ، فما كان منه لا أن يقدم على الانتحار، وبذلك سقطت حكومة السعدون .
وهكذا بادر المندوب السامي للطلب من الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة بعد أن تعهد له بإقرار المعاهدة بالرغم من رفض الشعب لها.
و شكل نوري السعيد وزارته الأولى في 23 آذار 1930،  وكان ذلك التكليف باكورة هيمنته على سياسة العراق، حيث تولى الحكم أربعة عشر مرة منذُ ذلك التاريخ وحتى سقوط النظام الملكي إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولعب خلال تلك الحقبة دوراً خطيراً في حياة البلاد السياسية، واشتهر بإخلاصه التام للإنكليز، وبحملات القمع التي مارسها ضد أبناء الشعب، والمراسيم الجائرة التي كان يصدرها لكي يسكت أفواه المواطنين وقوى المعارضة العراقية، مستخدماً كل الوسائل والسبل المخالفة للدستور. كما اتخذ له موقفاً معادياً من حركات التحرر العربية إرضاءً  لأسياده البريطانيين، وقد أعلن نوري السعيد أن أمام وزارته مهمة التفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة على أساس الاستقلال، ودخول العراق إلى عصبة الأمم لكن حقيقة الأمر أن حكومة نوري السعيد جاءت لفرض معاهدة 1930 الجائرة على العراق. (1)
باشر نوري السعيد المهام التي أنيطت به، وكان جُلّ همه أن ينجح في الامتحان الصعب، وينال ثقة الإنكليز، وقد فعل ذلك ونجح، وأصبح رجل بريطانيا القوي دون منازع، فكانت بريطانيا تنيط به تأليف الوزارة كلما كان لديها مهمة صعبة تنوي تنفيذها كما سنرى فيما بعد، وقد اتخذ نوري السعيد الإجراءات التالية تمهيداً لإقرار المعاهدة.
حل المجلس النيابي :
بعد أن أقرت  الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة يستطيع من خلالها تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط .
وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز، وأحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة منددة بنوري السعيد وبالمعاهدة وبالإمبريالية البريطانية، فقد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق، بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة، وتقييد العراق بقيود جديدة. (2)
السعيد يزور الانتخابات لضمان فرض المعاهدة :
بعد أن حلت الحكومة مجلس النواب، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط  والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن ] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو وليس الشعب. وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول  1930 في جو مشحون بالإرهاب.
 فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية بالوكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه وأساليبه القمعية المعروفة لإرهاب المنتخبين الثانويين وإجبارهم على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات، تنقلات واسعة بين رؤساء وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة. لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل 88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى من قبل مجلس النواب،وجاءت المعاهدة على الوجه التالي. (3)
نص معاهدة 30 حزيران 1930: (4)
صاحب الجلالة ملك العراق.
وصاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
لما كانا راغبين في توثيق أواصر الصداقة، والاحتفاظ بصلات التفاهم وإدامتها ما بين بلديهما، ولما كان صاحب الجلالة ملك بريطانيا قد تعهد في معاهدة التحالف الموقع عليها في بغداد في اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية، بأن ينظر نظراً فعلياً في تمتين علاقاتنا في فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات، ولما كانت حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قد أعلمت الحكومة العراقية في اليوم الرابع عشر من أيلول سنة 1929 أنها مستعدة لعضد ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 بلا قيد ولا شرط ، وأعلنت لمجلس العصبة في اليوم الرابع عشر من كانون الأول 1929 أن هذه هي نيتها. ولما كانت المسؤوليات الانتدابية التي قبلها صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق ستنتهي من تلقاء نفسها،عند إدخال العراق عصبة الأمم، ولما كان صاحب الجلالة ملك العراق، وصاحب الجلالة البريطانية يريان أن الصلات التي ستقوم بينهما بصفة كونهما مستقلين، وينبغي تحديدها بعقد معاهدة تحالف وصداقة.
فقد اتفقا على عقد معاهدة جديدة لبلوغ هذه الغاية،على قواعد الحرية والمساواة التامتين، والاستقلال التام، وتصبح نافذة عند دخول العراق عصبة الأمم، وقد عينا عنهما مندوبين مفوضين هما:
عن جلالة ملك العراق : نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حامل وسامي النهضة والاستقلال من الصنف الثاني.
وعن جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار، إمبراطور الهند اللفتنانت كولونيل السر[ هنري هيمفريز]المعتمد السامي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق اللذان بعد أن تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة قد اتفقا على ما يلي :
المادة الأولى: يسود سلم وصداقة دائمين بين صاحب الجلالة ملك العراق وصاحب الجلالة البريطانية، ويؤسس بين الفريقين الساميين المتعاقدين تحالف وثيق، توطيداً لصداقتهما وتفاهمهما الودي، وصلاتهما الحسنة، وتجرى بينهما مشاورة تامة وصريحة في جميع الشؤون السياسية الخارجية، مما قد يكون له مساس مصالحهما المشتركة.
ويتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن لا يقف من البلاد الأجنبية موقفاً لا يتفق ومعاهدة  التحالف هذه، أو قد يخلق مصاعب للفريق الآخر.                                                                                                                                        المادة الثانية : يمثل كل من الفريقين الساميين المتعاقدين لدى بلاط الفريق السامي المتعاقد الآخر ممثل سياسي [دبلوماسي] يعتمد وفقاً للأصول المرعية.
المادة الثالثة:إذا أدى نزاع بين العراق ودولة ثالثة إلى حالة يترتب عليها خطر قطع العلاقات بتلك الدولة يوحد عندئذٍ الفريقان الساميان المتعاقدان مساعيهما لتسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً لأي تعهدات دولية أخرى يمكن تطبيقها على تلك الحالة.
المادة الرابعة:إذا اشتبك أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في حرب رغم أحكام المادة الثالثة أعلاه  يبادر حينئذٍ الفريق السامي المتعاقد الآخر فوراً إلى معونته بصفة كونه حليفاً، وذلك دائماً وفق أحكام المادة التاسعة أدناه . وفي حالة خطر حرب محدق يبادر الفريقان الساميان المتعاقدان فوراُ إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية.
إن معونة صاحب الجلالة ملك العراق في حالة حرب،أو خطر حرب محدق تنحصر في أن يقدم إلى صاحب الجلالة البريطاني في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر، والموانئ والمطارات، ووسائل المواصلات.
المادة الخامسة: من المفهوم بين الفريقين الساميين المتعاقدين أن مسؤولية حفظ الأمن الداخلي في العراق وأيضاً ـ بشرط مراعاة أحكام المادة الرابعة أعلاه مسؤولية الدفاع عن العراق إزاء الاعتداء الخارجي تنحصران في صاحب الجلالة ملك العراق.
مع ذلك يعترف جلالة ملك العراق بان حفظ  وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية بصورة دائمة في جميع الأحوال هما من صالح الفريقين الساميين المتعاقدين المشترك.
فمن أجل ذلك، وتسهيلاً للقيام بتعهدات صاحب الجلالة البريطانية وفقاً للمادة الرابعة أعلاه يتعهد جلالة ملك العراق بأن يمنح صاحب الجلالة البريطانية طيلة مدة التحالف موقعين لقاعدتين جويتين ينتقيهما صاحب الجلالة البريطانية في البصرة، أو في جوارها، وموقعاً واحداً لقاعدة جوية ينتقيها صاحب الجلالة البريطانية في غرب نهر الفرات.
وكذلك يأذن جلالة ملك العراق لصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الأراضي العراقية في الأماكن الأنفة الذكر وفقاً لأحكام ملحق هذه المعاهدة، على أن يكون مفهوماً أن وجود هذه القوات لن يعتبر بأي حال من الأحوال احتلالاً، ولن يمس على الإطلاق سيادة واستقلال العراق.
المادة السادسة: يعتبر ملحق هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.
المادة السابعة: تحل هذه المعاهدة محل معاهدتي التحالف الموقع عليهما في بغداد في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922 ميلادية، والموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية، وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني سنة 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية مع الاتفاقات الفرعية الملحقة بها، التي تمسي ملغاة عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وهذه المعاهدة في نسختين في كل من اللغتين العربية والإنكليزية، ويعتبر النص الأخير المعول عليه.
المادة الثامنة: يعترف الفريقان الساميان المتعاقدان بأنه عند الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة تنتهي من تلقاء نفسها وبصورة نهائية جميع المسؤوليات المترتبة على صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق وفقاً لأحكام وثيقة دولية أخرى، وينبغي أن يترتب على جلالة ملك العراق وحده، وعلى الفريقين الساميين المتعاقدين أن يبادرا فوراً إلى اتخاذ الوسائل المقتضية لتأمين نقل هذه المسؤوليات إلى جلالة ملك العراق.
المادة التاسعة:  ليس في هذه المعاهدة ما يرمي بوجه من الوجوه إلى الإخلال أو يخل بالحقوق والتعهدات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الفريقين الساميين المتعاقدين وفقاً لميثاق عصبة الأمم، أو معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في اليوم السابع والعشرين من شهر آب سنة 1928 ميلادية.
المادة العاشرة: إذا نشأ خلاف فيما يتعلق بتطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها ولم يوفق الفريقان الساميان المتعاقدان إلى الفصل فيه بالمفاوضة رأساً بينهما يعالج الخلاف حينئذٍ وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم .
المادة الحادية عشرة: تبرم هذه المعاهدة، ويتم تبادل الإبرام بأسرع ما يمكن، ثم يجري تنفيذها عند قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وتظل هذه المعاهدة نافذة لمدة خمس وعشرين سنة ابتداء من تاريخ تنفيذها، وفي أي وقت كان بعد عشرين سنة من تاريخ الشروع بتنفيذها، على الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما بناء على طلب أحدهما بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار على حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال.
وعند الخلاف في هذا الشأن يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم .
وإقراراً لما تقدم قد وقع كل من المندوبين المفوضين على هذه المعاهدة وختمها بختمه .
كتب في بغداد في اليوم الثلاثين من شهر حزيران سنة 1930 ميلادي الموافق لليوم الثاني من شهر صفر سنة 1349 هجرية.
       
هنري هيمفر                                                      نوري السعيد
ملحق المعاهدة
 فقرة رقم 1
يعين صاحب الجلالة البريطانية من حين لأخر مقدار القوات التي يقيمها جلالته في العراق وفقاً لإحكام المادة الخامسة من هذه المعاهدة، وذلك بعد مشاورة صاحب الجلالة ملك العراق في الأمر،ويقيم صاحب الجلالة البريطانية قوات في [الهنيدي] لمدة خمس سنوات، بعد الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وذلك لكي يتمكن صاحب الجلالة ملك العراق من تنظيم القوات المقتضية للحلول محل تلك القوات، وعند انقضاء تلك المدة تكون قوات صاحب الجلالة البريطانية قد انسحبت من الهنيدي.
ولصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الموصل لمدة حدها الأعظم خمس سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وبعد ذلك لصاحب الجلالة البريطانية أن يضع قواته في الأماكن المذكورة في المادة الخامسة من هذه المعاهدة، ويؤجر صاحب الجلالة ملك العراق مدة هذا التحالف لصاحب الجلالة البريطانية المواقع المقتضية لإسكان قوات صاحب الجلالة البريطانية في تلك الأماكن.
فقرة رقم 2
بشرط مراعاة أي تعديلات قد يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على إحداثها في المستقبل، تظل الحصانات والامتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية،  بما في ذلك الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها القوات البريطانية في العراق شاملة القوات المشار إليها في الفقرة الأولى أعلاه، وتشمل أيضاً قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف، وهي القوات التي يحتمل وجودها في العراق عملاً بأحكام هذه المعاهدة وملحقها، أو وفقاً لاتفاق يتم عقده بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وأيضاً يواصل العمل بأحكام أي تشريع محلي له مساس بقوات صاحب الجلالة البريطانية المسلحة، وتتخذ الحكومة العراقية التدابير المقتضية للتثبت من كون الشروط المتبدلة لا تجعل موقف القوات البريطانية فيما يتعلق بالحصانات والامتيازات أقل ملائمة من الوجوه من الموقف الذي تتمتع به هذه القوات في تاريخ الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة
فقرة رقم 3
يوافق جلالة ملك العراق على القيام بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة في الفقرة الأولى من هذا الملحق، وتدريبها وأعالتها وعلى منحها عين التسهيلات استعمال التلغراف واللاسلكي، التي تتمتع بها عند الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 4
يتعهد صاحب الجلالة ملك العراق بأن يقدم بناء على طلب صاحب الجلالة البريطانية، وعلى نفقة صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً للشروط التي يتفق عليها الفريقان الساميان المتعاقدان، حرساً خاصاً من قوات صاحب الجلالة ملك العراق لحماية القواعد الجوية، مما قد تشغله قوات صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً لأحكام هذه المعاهدة، وأن يؤمن سنّ القوانين التشريعية التي قد يقتضيها تنفيذ الشروط الآنفة الذكر .
فقرة رقم 5
يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يقوم عند كل طلب يطلبه صاحب الجلالة ملك العراق بجميع التسهيلات في الأمور التالية، وذلك على نفقة جلالة ملك العراق، وهي:
1 ـ تعليم الضباط العراقيين الفنون البحرية والعسكرية والجوية في المملكة المتحدة.
2 ـ تقديم الأسلحة والعتاد والتجهيزات والسفن والطائرات من أحدث طراز متيسر إلى قوات جلالة ملك العراق .
3 ـ تقديم ضباط بريطانيين مجربين عسكريين وجويين للخدمة بصفة استشارية في قوات جلالة ملك العراق .
فقرة رقم 6
لما كان من المرغوب فيه توحيد التدريب والأساليب في الجيشين العراقي والبريطاني يتعهد جلالة ملك العراق بأنه إذا رأى ضرورة الالتجاء إلى مدربين عسكريين أجانب فإنهم يختارون من الرعايا البريطانيين.
ويتعهد أيضاً بأن أي أشخاص من قواته، من الذين يوفدون إلى الخارج للتدريب العسكري يرسلون إلى مدارس وكليات ودور تدريب عسكرية في بلاد جلالته البريطانية، بشرط أن لا يمنع ذلك صاحب الجلالة ملك العراق من إرسال الأشخاص الذين لا يمكن قبولهم في المعاهد، ودور التدريب المذكورة في أي قطر آخر.
ويتعهد أيضاً بأن التجهيزات الأساسية لقوات جلالته، وأسلحتها ،لا تختلف في نوعها عن أسلحة قوات صاحب الجلالة البريطانية، وتجهيزاتها.
يوافق جلالة ملك العراق على أن يقوم عند طلب صاحب الجلالة البريطانية ذلك بجميع التسهيلات الممكنة لمرور قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف العسكرية عبر العراق لنقل وخزن جميع المؤن والتجهيزات التي قد تحتاج إليها هذه القوات في أثناء مرورها في العراق، وتتناول هذه التسهيلات استخدام طرق العراق، وسككه الحديدية، وطرقه المائية، وموانئه، ومطاراته، ويؤذن لسفن صاحب الجلالة البريطانية أذناً عاماً في زيارة شط العرب، بشرط إعلام جلالة ملك العراق، قبل القيام بتلك الزيارات للموانئ العراقية.
                                                      دار الاعتماد  ن. س . ف
                                                     بغداد في 30 حزيران 1930
وقبل أن يعرض نوري السعيد معاهدته المشؤومة على مجلس النواب لجأ إلى تأليف حزب سياسي له ضم العناصر التي رشحها في الانتخابات لتكون سنداً له في تصديق المعاهدة فكان [حزب العهد]. وفي 4 تشرين الأول 1930 أتخذ مجلس الوزراء قراراً بالموافقة على المعاهدة، وتم دعوة مجلس النواب إلى الاجتماع  في 16 تشرين الأول، واتخذ نوري السعيد احتياطات أمنية واسعة النطاق حول بناية المجلس الجديد في بناية جامعة[آل البيت]،التي ألغاها عند تشكيله لوزارته، والواقعة في الاعظمية، وأصدر قراراً بضمها إلى حدود أمانة العاصمة، حيث ينص الدستور على أن يكون مقر مجلس النواب في العاصمة. وفي اليوم المقرر لمناقشة المعاهدة من قبل مجلس النواب تقدم نوري السعيد إلى المجلس بالاقتراح التالي :
{لما كانت نصوص المعاهدة مع بريطانيا المنعقدة في 30 حزيران 1930 قد نشرت للرأي العام  منذ مدة طويلة، وكانت انتخابات مجلس النواب قد جرت على أساس استفتاء الشعب فيها اقترح على المجلس الموقر أن يوافق على المذاكرة فيها بصورة مستعجلة}.
وقد تمت الموافقة على الاقتراح من قبل رئيس المجلس، و تم طرح المعاهدة بعد نقاش للمعارضة دام 4 ساعات للتصويت عليها، وقد صوت إلى جانب المعاهدة 69، وعارضها 13عضواً ، وتغيب 5 أعضاء عن الحضور، وسط هياج وصياح المعارضة المنددة بالمعاهدة. (5)
 لم يبق أي عائق أمام نوري السعيد لتصديق المعاهدة، فالملك فيصل كان يرأس الوفد المفاوض أثناء عقد المعاهدة، ومجلس الأعيان يعيينه الملك، ويعمل بأمره .أما المعارضة فقد أبرق أقطابها المعروفين السادة[جعفر أبو التمن ] و[ناجي السويدي] و[يسين الهاشمي ] إلى سكرتارية عصبة الأمم يحتجون على بنود المعاهدة التي لا تضمن للعراق استقلالاً حقيقياً، وتفسح المجال لبريطانيا باستغلال البلاد حسب ما تقتضيه أغراضها الاستعمارية.
ماذا قال رجال الدولة البارزين عن المعاهدة ؟ (6)
لم يكد نوري السعيد يحقق مهمته الأولى بالتصديق على المعاهدة حتى عمَّ استياء عام وهياج جماهير الشعب احتجاجاً على ربط العراق بعجلة الاستعمار البريطاني، ولم يستطع رجالات السياسة البارزين وأقطاب الحكم إلا أن يوجهوا النقد الشديد للحكومة، بالنظر لكونها قد قيدت العراق لسنوات طويلة، وربطته بعجلة بريطانيا خلافاً لمصالح الشعب والوطن، وأعلنوا رفضهم لها .
فقد قال [ رشيد عالي الكيلاني ] وهو من رؤساء الوزارات المخضرمين:
{ إن أقل ما يقال عن هذه المعاهدة أنها استبدلت الانتداب الوقتي باحتلال دائم وأضافت إلى القيود والأثقال الحالية  قيوداً وأثقالاً أشد وطأة }.
وقال [ يسين الهاشمي ] وهو أيضاً من رؤساء الوزارات، والذي شكل العديد من الوزارات ما يلي :
 { لم تضف المعاهدة شيئاً إلى ما كسبه العراق بل زادت في أغلاله، وعزلته عن الأقطار العربية، وباعدت ما بينه وبين جارتيه الشرقيتين وصاغت لنا الاستقلال من مواد الاحتلال، ورجائي من أبناء الشعب أن لا يقبلوها}.
وقال [ حكمت سليمان ] وهو رئيس وزراء سابق ما يلي:
{ المعاهدة الجديدة تضمن الاحتلال الأبدي، ومنحت بريطانيا امتيازات دون عوض أما ذيولها المالية، فإنها تكبد العراق أضراراً جسيمة دون مبرر}.
أما السيد[ محمد رضا الشبيبي ] وهو وزير في وزارات عديدة فقد قال:
 { إنني أرتئي رفض المعاهدة وملحقاتها لأنها حمّلت العراق الكثير من المغارم والتبعات، ولم يكسب مقابل ذلك حقاً جديداً من الحقوق، في حين حصل الجانب الآخر على امتيازات وحقوق جديدة }.
أما السيد [ عبد العزيز القصاب ] وهو وزير في وزارات عدة فقد قال عن تلك المعاهدة ما يلي:
{ إن المعاهدة لا تلبِِ رغبات الشعب، وجاءت هادمة لكل الجهود التي بذلت لتخفيف وطأة المعاهدات السابقة، وأنا ارفضها ويرفضها الشعب}.
وقال [ حمدي الباجه جي ] وهو رئيس وزارة سابق:
 { إن المعاهدة الجديدة تجعل كابوس الاستعمار البريطاني دائماً ومستمراً}.
وقال [ يوسف غنيمة ] وهو وزير سابق:
 {إن المعاهدة لا تتفق والاستقلال التام، ورغبات الشعب، وليست في مصلحة البلاد}.
وقال [ كامل الجادرجي ] وهو وزير سابق وزعيم الحزب الوطني الديمقراطي، وأحد أبرز رموز المعارضة العراقية:
{ إن نتيجة هذه المعاهدة وذيولها حمايةٌ بريطانية شديدة الوطأة واحتلال دائم}. (7)
لكن المؤسف أن كل أولئك الساسة، باستثناء الأستاذ كامل الجادرجي، قد تنكروا لأقوالهم، واشتركوا في الوزارات التالية، ونفذوا بنود المعاهدة، وبلعوا تعليقاتهم حولها.
غير أن أكثر الشخصيات الوطنية عنفاً في مقاومة المعاهدة كان القائد الوطني البارز[جعفر أبو التمن] زعيم الحزب الوطني الذي بعث بمذكرة باسم الحزب إلى كل من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإيران وتركيا وإلى عصبة الأمم في 1 تشرين الأول 1930 أدان فيها أسلوب تأليف حكومة نوري السعيد، والأساليب غير الدستورية التي أقدم عليها، بتأجيل جلسات المجلس النيابي، ومن ثم حله دون أن يمض عليه خمسة أشهر، وقيامه بتعطيل أكثر من 20 صحيفة سياسية، وإحالة عدد من المحررين الصحفيين إلى المحاكم، ومنع الحكومة للاجتماعات العامة، وكمّ أفواه الشعب، وعقد معاهدة جائرة يرفضها الشعب لأنها تصب في خدمة الأغراض الاستعمارية البريطانية، وإجراء انتخابات مزورة، لفرض المعاهدة التي رفضها الشعب وقواه الوطنية، وإن الحزب الوطني الذي أيدت سياسته أكثرية الشعب العراقي يعتبر أن هذه المعاهدة ملغاة وباطلة}.
كما أحتج عدد من الشخصيات السياسية الكردية على المعاهدة، وأبرقوا إلى سكرتارية عصبة الأمم عدة برقيات في 20، و26 تموز تستنكر عقد المعاهدة .
وقال عدد من أعضاء اللجنة الدائمة للانتدابات من ممثلي الدول في عصبة الأمم :
{ إن قبول العراق لهذه المعاهدة سيجعله بعد تحرره من الانتداب تحت الحماية البريطانية} .
وقال[ المسيو بار] العضو الفرنسي في اللجنة المذكورة :
{ أنا شخصياً لا أحب أن أرى بلادي تدخل في مثل هذا التعهد الذي قبله العراق على نفسه }.
وهكذا أثبت نوري السعيد أنه أكثر إنكليزية من الإنكليز، وانه رجل الإمبريالية البريطانية دون منازع، وهذا ما أهله لكي يكون العمود الفقري الذي تستند عليه السياسة البريطانية في العراق، ومكنته من أن يشكل 14 وزارة، في الفترة الممتدة من منتصف حزيران 1930 وحتى سقوط النظام الملكي حين قامت ثورة 14 تموز 1958.(8)
التوثيق(1)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 7 .
(2)نفس المصدر ـ ص 17 .
(3)صحيفة صدى الاستقلال ـ العدد الرابع .
(4)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 19 .
(5)محاضر مجلس النواب 1930 ـ ص 57 .
(6)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص50 .
(7)في غمرة النضال ـ ص 178 ـ سلمان الفياض .
(8)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الثالث ـ ص 127 .


432
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة الأخيرة ـ 30 / 30


حامد الحمداني                                                     16/7/2008

السبيل لإنقاذ العراق من الكارثة
إن الوضع الكارثي الذي يخيم على العراق اليوم، والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية والظلام، والذي يعصف بالبلاد ويزهق أرواح المواطنين بالجملة كل يوم، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة،  والفقر والجوع والبطالة، وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد، حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى المخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، وقوات الاحتلال الأمريكية المهيمنة على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم  العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كما فعلت بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى ، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير، وكارثة كبرى تهدد وبشكل جدي مصير ومستقبل العراق وشعبه.

فالطائفية التي مهد لها الدكتاتور صدام حسين بحملته الإيمانية المزيفة، والتي اعتمدها الحاكم الأمريكي بريمر في تشكيله مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة المؤقتة فيما بعد، والانتخابات السابقة واللاحقة كلها تمثل عاملاً حاسماً في  ترسيخ جذورها، وتعميق مخاطرها على مستقبل العراق.
 كما أن التعصب القومي الشوفيني، والكراهية أخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي بحيث غدا المواطن السني يكره الشيعي، والشيعي يكره السني، الكردي يكره العربي، والعربي يكره الكردي، والتركماني يكره الكردي، والكردي يكره التركماني، دعك عن القلق الشديد الذي ينتاب الطوائف الأخرى من المسيحيين، والصابئة والأيزيديين، جراء تنامي الطائفية البغيضة والشوفينية القومية المتعصبة والخطيرة، ومحاولات البعض فرض أجندتهم المتخلفة على الآخرين بالقوة والترهيب، بل لقد تجاوزت ذلك إلى حد الاغتيال ونسف محلات بيع المشروبات الروحية، ومحلات الحلاقين الرجالية منها والنسائية، وفرض الحجاب على المرأة والعودة بها القهقرى إلى العصور القديمة بحجة مخالفة الشريعة !!.
وبدأت الدعوات تتصاعد إلى إقامة دويلات في الشمال تارة، والجنوب والفرات الأوسط تارة أخرى، وكأنما العراق أصبح فريسة لكل من يملك القوة والمليشيات المسلحة ليحقق طموحاته في تمزيق العراق، وإشعال نيران الحرب الأهلية التي تنذر بالموت والدمار، وإغراق العراق بالدماء.
وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب والوطن فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، وعلى وجه السرعة قبل فوات الأوان لإنقاذ وصيانة الوحدة الوطنية، والقضاء على النشاط الإرهابي، وإبعاد شبح الحرب الأهلية، وعودة الأمن والسلام في ربوع العراق والتوجه نحو إعادة بناء البنية التحتية للعراق الجديد، وتأني في مقدمة هذه الإجراءات:                                                                               1 ـ ضرورة إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما سحب قواتهم من العراق خلال ستة أشهر، إذا كانت هاتان الدولتان تحملان نوايا صادقة تجاه العراق والحرص على سيادته واستقلاله كما تدعيان، على أن تستبدل بقوات محايدة من الأمم المتحدة تتولى المساعدة في صيانة الأمن والنظام العام، والعمل على بناء جيش وأجهزة أمنية جديدة قادرة على حفظ الأمن والنظام بعد خروج قوات الأمم المتحدة .
لكن الوقائع تشير إلى أن الرئيس بوش وحزبه الجمهوري لا ينويان سحب القوات الأمريكية  من العراق، فقد صرح بوش أنه ينوي بقاء القوات الأمريكية في العراق لحماية أمنه، ومنع تدخل وتهديدات دول الجوار، ولذلك تحدث بوش مع رئيس الوزراء نوري المالكي عبر حلقة
 تلفزيونية مغلقة حول توقيع معاهدة طويلة الأمد مع العراق. وقد كشف تقرير صحافي بريطاني أن مسودة اتفاق بين الولايات المتحدة والعراق لاستبدال التفويض الممنوح من مجلس الأمن للقوات المتعددة الجنسية، تنصّ على التزام عسكري أمريكي غير محدّد زمنياً في هذا البلد. وأفادت صحيفة [ذي غارديان]البريطانية أن هذه المسودة السرّية والحسّاسة التي تحمل تاريخ 7 آذار/مارس 2008 تسمح للولايات المتحدة بشن عمليات عسكرية في العراق، وتوقيف أشخاص لضرورات أمنية من دون تحديد سقف زمني لذلك. وسيحلّ هذا الاتفاق محلّ تفويض الأمم المتحدة الذي سينتهي في نهاية العام الجاري.                       .
ولا يحدّد مشروع الاتفاق أيضاً حجم القوات الأميركية في العراق ولا الأسلحة التي يمكنها استخدامها، ولا الوضع القانوني لهذه القوات، ولا السلطات التي تتمتع بها حيال المواطنين العراقيين. وتؤكد المسودة أن [المصلحة المتبادلة للولايات المتحدة والعراق تقضي بالمحافظة على سيادة العراق ووحدة، وسلامة أراضيه، واستقلاله السياسي، وردع التهديدات الخارجية التي تحدق به].
وتنصّ المسودة أيضاً على أن الولايات المتحدة والعراق اتفقا على التشاور الفوري في حال تعرضت وحدة وسلامة أراضي العراق واستقلاله السياسي إلى تهديد.(17)
                                       
 ولاشك أن هذه الاتفاقية تمس بسيادة واستقلال العراق، وتمنع القوات الأمريكية صلاحيات واسعة في تحركاتها وإجراءاتها، ويمارس الرئيس بوش الضغوط على حكومة المالكي والبرلمان لإبرام المعاهدة المذكورة بالإضافة إلى التصديق على قانون النفط والغاز.

أما المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية جون ماكين فقد أعلن صراحة في تصريح له نقله راديو سوا قائلاً:
أن القوات الأمريكية سوف تحتفظ بوجود دائمي في العراق كما هو الحال في كوريا الجنوبية واليابان، ولأمد طويل . (18 )
أما السيناتور الديمقراطي [هاري ريد] زعيم الأغلبية  الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي فقد صرح لراديو سوا قائلاً:
 إن الرئيس بوش ينوي الإبقاء إلى أجل غير مسمى على 142 ألفا من القوات الأميركية في العراق الذي يشهد حربا أهلية. وأردف قائلا:
إنه خلال هذا النزاع الذي مضى عليه خمس أعوام تبقى قواتنا في خضم حرب أهلية لا نهاية لها، كما أن قواتنا العسكرية تتعرض لضغوط شديدة ونحن غير قادرين على الرد على التهديدات الصادرة عن مناطق كثيرة في العالم. وعلاوة على ذلك فإن دافعي الضرائب ينفقون 12 مليار دولار كل شهر في العراق على حساب الأولويات التي نحتاجها داخل بلادنا.                                                   
ومضى ريد قائلا :
{إنه في الوقت الذي سار فيه الرئيس خطوة إلى الأمام، في نهاية المطاف في قبول ما كان الديموقراطيون في الكونغرس يطالبون به، وعّدل فترة إقامة أي وحدات ترسل إلى العراق، إلا أنه تراجع خطوتين إلى الوراء بسبب إصراره على إبقاء 142 ألف جندي في العراق إلى ما لا نهاية. إن هذا القرار يلحق مزيدا من الضرر بأمننا القومي وبمدى جاهزية قواتنا العسكرية. وأوضح ريد أن الرئيس لا يفهم أن موارد أميركا المحدودة لا يمكنها دعم حرب يخوضها إلى ما لا نهاية. وقال دعوني أكون واضحا، إن ما قاله الرئيس كان بمثابة إشارة إلى الشعب الأمريكي مفادها أنه لا ينوي سحب مزيد من القوات الأميركية من العراق، وبدلا من ذلك فإنه سيترك عملية اتخاذ القرارات الصعبة المتعلقة بهذا الموضوع إلى الحكومة القادمة}. (18)

وكما قلنا من قبل أن دخول قوات الاحتلال ليس كخروجها أبداً، وأن استعادة سيادة واستقلال البلاد تتطلب نضالاً شعبياً متواصلاً وبمختلف الأساليب بدءاً من الأسلوب السلمي، وتصعيد أساليب النضال حسبما تقتضيه الظروف والإمكانيات المتاحة، غير أنه لا بد من الكفاح وبذل التضحيات لاستعادة السيادة والاستقلال الحقيقيين، وإقامة العلاقات مع مختلف دول العالم ومنها الولايات المتحدة على أساس المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة ، واحترام سيادة واستقلال العراق.
 
2 ـ تتولى الأمم المتحدة تشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية القائمة  في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بنظام صدام المسقط، ولا أي ارتباطات بدول الجوار وخاصة تلك التي تمارس التدخل الفض في شؤون العراق كإيران وسوريا والسعودية، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية يمتد أمدها لفترة زمنية محددة، بدعم من قوات الأمم المتحدة لإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، وإنهاء أي دور للميليشيات الحزبية كافة ، وسحب كافة الأسلحة منها .
3 ـ إلغاء الانتخابات الحالية، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت يضم 150 شخصية وطنية عراقية من مختلف محافظات العراق على أساس الكفاءة والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، وإعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين،  وتجفيف مصادر تجنيدهم ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لقضية البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء صالح للشرب، وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.

4 ـ يقوم أعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم كافة، قبل مباشرتهم المسؤولية، وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة والمشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة السراق والمرتشين، وناهبي أموال الشعب، وهدر ثروات البلاد، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.
 ولابد من سن قانون { من أين لك هذا} لمحاسبة السراق والمرتشين وناهبي ثروات البلاد، وإحالتهم إلى المحاكم لينالوا عقابهم الصارم، واستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة.

 5 ـ وقف العمل بالدستور الحالي المختلف عليه، والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالية يحمل بذور الحرب الأهلية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة النظر في كافة مواده من قبل لجنة دستورية مختارة من العناصر القانونية المشهود لها بالأمانة والنزاهة والتوجه الديمقراطي بما يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة والشوفينية القومية، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب.

6 ـ حل كافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كلمن يخالف القانون.
أن توجه السيد المالكي لنزع أسلحة جيش المهدي وحده، وتجاهل ميليشيات منظمة بدر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم، وميليشيات الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني المسماة بـقوات البيشمركة، وميليشيات الحزب الإسلامي السني، وكذلك ميليشيات حزب الفضيلة وحزب الله وثأر الله وغيرها من الميليشيات الأخرى هي المعيار الحقيقي لجدية توجه رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، وأن أي ادعاء بكون قوات البيشمركة هي قوات منظمة مرفوض تماماً ، فلا يوجد في العالم كله دولة فيدرالية تمتلك فيها كل فيدرالية جيشها الخاص، ولا بد من نزع سلاح كافة الميليشيات كبيرها وصغيرها، وأن يكون السلاح بيد الجيش العراقي وحده.

7 ـ تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والإدارية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء أفراد الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان والحرص على سيادة واستقلال العراق.

8 ـ إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، ورفض قيام الأحزاب على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً،أو قومي شوفيني متطرف عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً .
9 ـ منع نشاط حزب البعث الصدامي، ومكافحة فكره الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر.

10 ـ محاكمة أعوان نظام صدام الذين ارتكبوا الجرائم الوحشية بحق الشعب من دون إبطاء، أو تلكؤ، وإنزال العقاب الصارم بحقهم، فهؤلاء يتحملون المسؤولية عن كل الويلات والمصائب التي حلت بالشعب والوطن جراء طغيانهم، وجراء شن الحروب الإجرامية الداخلية منها والخارجية والتي أزهقت أرواح الملايين من أبناء شعبنا، وشردت ملايين أخرى في مختلف بقاع الأرض، ودمرت البنية الاجتماعية والاقتصادية، واستنفذت كل موارد العراق وأغرقته الديون بعشرات المليارات من الدولارات، وملأت ارض العراق بالقبور الجماعية، وهمشّت القوى والأحزاب السياسية الوطنية، وقمعت الحقوق والحريات الديمقراطية العامة للشعب.

11 ـ إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض هي ملك للشعب العراقي كله دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية  ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعات المناطق الأكثر تضرراً، والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.
وينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم ، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة للعراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.

12 ـ تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات.
إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عليها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدرالية الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه مطلقاً، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسير في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني والذي لن يخرج
أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

13 ـ العمل على انسحاب كافة القوات الأجنبية من البلاد حال استتباب الأمن والسلام في البلاد، وإكمال بناء قوات الجيش والأجهزة الأمنية بما يمكنها من صيانة الأمن الداخلي وسلامة الحدود وصيانة استقلال البلاد، والسعي لإقامة أفضل العلاقات مع سائر دول العالم على أساس المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، شرط عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة واستقلال العراق، ووحدة أراضيه.
هذا هو السبيل للخروج بالعراق من الكارثة حلت به جراء الاحتلال الأمريكي للعراق ، تلك الحرب التي مزقت النسيج الاجتماعي العراقي ، وأشعلت الحرب الأهلية الطائفية، ودمرت البقية الباقية من بنيته التحتية، وسببت إزهاق مئات الألوف من أرواح المواطنين الأبرياء، والتهجير القسري لأربعة ملايين عراقي ، نصفهم يعيشون في الخيام في حالة يرثى لها ونصفهم الآخر هاجر إلى سوريا والأردن ومصر ولبنان، وإلى الدول اللجوء الأوربية والأمريكية لمن يمتلك المال واستطاع إلى ذلك سبيلا.
إن أي طريق آخر لن يفضِ إلى خروج العراق من الكارثة، وسيبقى تحت الاحتلال الأمريكي إلى أجل غير مسمى، واستمرار الصراعات الطائفية والأثنية، والسعي لتمزيق العراق، وتدهور الأوضاع المعيشية والخدماتية للشعب العراقي، واستمرار النزيف لكوادر العراق في مختلف التخصصات العلمية ، والإبقاء على حالة التخلف والتأخر عن اللحاق بركب الإنسانية السائرة نحو التقدم والرقي في مختلف مجالات الحياة بما يؤمن الحياة الكريمة للإنسان. 
ملاحظة هامة: للإطلاع على الكتاب بشكله المطبوع، والملاحق المرفقة في نهاية الكتاب، و توثيق الكتاب، يرجى الرجوع إلى موقعي على الانترنيت التالي:

www.Hamid-Alhamdany.com

433
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة 29 / 30


تدهور الأوضاع المعيشية والصحية والخدماتية في البلاد

يشهد الشعب العراقي تدهوراً في الأوضاع المعيشية والخدماتية، حيث البطالة الواسعة والجوع والفقر المدقع، والتصاعد الفلكي للتضخم، وارتفاع الأسعار، واختفاء العديد من السلع والحاجات الأساسية من السوق، وانتعاش تجارة السوق السوداء، التي استنفذت كل الإمكانيات لدى الطبقة الوسطى ناهيك عن الطبقة الفقيرة من العمال والفلاحين والحرفيين الذين لا تكاد مدخولاتهم تسد الحاجات الأساسية لهم ولعوائلهم من طعام وغذاء وسكن.

 فقد بلغ سعر قنينة الغاز على سبيل المثال  25 الف دينار، وصار لتر وقود السيارات يباع بالسوق السوداء بأضعاف سعره الحقيقي، وزاد في الطين بله تقليص الحصة التموينية، وانعدام الخدمات العامة من كهرباء، وماء صالح للشرب، والصرف الصحي، وارتفاع أجور النقل، وتدهور الخدمات الصحية، والتربوية، كل ذلك أدى إلى تدهور الحالة الإنسانية للمواطن العراقي بحيث أوصلت الفقراء إلى البحث عن فضلات الطعام في المزابل على مرأى ومسمع العالم كله حيث تقلت القنوات التلفزيونية تلك المشاهد المؤلمة.
ويصف تقرير لمنظمة[أوكسفام انترناشيونال]ونقلته صحيفة  [ الاندبندت] البريطانية الوضع الكارثي في العراق قائلاً: (13)
إن كارثة إنسانية خطيرة قد حلت في العراق في وقت يتزايد فيه هرب
 الأطباء والممرضين من العنف الذي يعصف بحياة العراقيين، وأضافت                                                                  قائلة إن العراق يتعرض حالياً إلى كارثة إنسانية رهيبة بسبب النزوح الجماعي للكوادر الطبية التي تهرب من البلاد بسبب تصاعد العنف اليومي والفوضى المزمنة.                                    .
ويبين التقرير أن تناقص أعداد الأطباء والممرضين يحطم النظام الطبي ويضعه على حافةالانهيار، وكشف التقرير أن العديد من المستشفيات والمرافق الطبية والتعليمية في بغداد قد فقدت ما يصل إلى 80 % من أعضاء الهيئات التدريسية.                                                       .
ويقول التقرير كذلك أن العراق يعاني من أزمة إنسانية مهولة وكبيرة وغير معلنة، لا تتعلق بكوارث التفجيرات اليومية، إنما بملايين الناس الذين هم في حاجة ماسة للمساعدة الطبية والإنسانية.
ويصف التقرير حالة الطفولة البائسة بأن الأطفال، كما هو الحال في معظم الصراعات، يشكلون الفئات الأكثر تضررا في المجتمع، فمعدلات سوء التغذية بين الأطفال في العراق قد ارتفعت بالفعل من 19 % قبل الغزو إلى 28%، وأكثرمن 11 % من الأطفال يولدون ناقصي الوزن، أي بنسبة ثلاثة أضعاف منذ بدء الحرب، وتابع التقريرأن المستشفيات في المدن الرئيسية تواجه قضايا أمنية أخرى، فمستشفى اليرموك في بغداد، يضطر بانتظام إلى تقديم العلاج إلى أفراد الشرطة والجيش، فضلا عن عناصرالجماعات المسلحة في مقابل إهمال العناية بالمواطنين المدنيين المرضى، والذين يعانون من إصابات خطيرة.               .                                         وتتواصل معاناة البلاد من النزوح الجماعي في داخل وخارج البلاد، ويشير تقرير اوكسفام انه بعد خمس سنوات على غزو العراق على يد الولايات المتحدة وبريطانيا، فان أكثر من 43% من العراقيين يعانون من الفقر المدقع، ونحو نصف السكان يعانون من البطالة.                .                         
ويتابع التقرير القول أن من بين اربعة ملايين عراقي يعتمدون بمعيشتهم على المعونة الغذائية، فان 60 % منهم فقط يحصلون على نظام التوزيع الحكومي، وبنسبة انخفاض مريعة بلغت 96 % عما كانت عليه الحال قبل ثلاث سنوات.                                     .               
ويتحدث التقرير عن أوضاع المواطنين العراقيين المتدهورة بأنها تتمثل في أعداد اللاجئين الكبيرة الذين فروا من البلاد، والمشردين في داخلها، حيث أن هناك أربعة ملايين عراقي فروا من منازلهم، نصفهم هربوا إلى خارج العراق، والباقي يعيشون في مخيمات النازحين في الداخل التي غالبا ما تفتقر إلى ابسط المرافق.
 وقال التقرير إن أخر الأرقام تبين أن 32 % منهم لا يحصلون على حصص غذائية، و 51 % يحصلون على الطعام بنحو متقطع. ويضيف التقرير أن كثيرا من الذين فروا هم من الاختصاصيين الذين توجهوا إلى الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين ادعتا بناء دولة ديمقراطية ومستقرة في عراق ما بعد صدام، ومن بين أولئك الفارين آلاف من الأطباء والممرضين، وأساتذة الجامعات والمدرسين ورجال الأعمال، ومن بينهم أيضا مهندسو مياه من الذين ساهموا في الحفاظ على بنية العراق التحتية من الانهيار منذ حرب الخليج الأولى، وسنوات طويلة من الحصار الأمريكي والبريطاني الذي جرى على أساس عقوبات فرضتها الأمم المتحدة.
وفى هذا الشأن قالت إن عدد العراقيين الذين لا يحصلون على ما يكفيهم  من إمدادات المياه قد ارتفع من 50 إلى 70 %  خلال  السنوات الأربع الماضية، و 80 % منهم يفتقرون إلى المرافق الصحية الكافية، وتتابع الصحيفة القول أن نهري دجلة والفرات يعانيان من التلوث الشديد بسبب تصريف مياه المجاري غير المعالجة وكنتيجة لذلك ازداد عدد المصابين بأمراض الإسهال من الشباب.
 وفي تقرير لصحيفة [ The Nation] تصف فيه الأوضاع في العراق حيث تقول:
إن العراق يحتل اليوم المرتبة الأولى عالمياً، من حيث الدول الخصبة للنشاطات الإرهابية، وهو يسبق بأشواط دولة أفغانستان في هذا المجال، بحسب ما كشفته وكالة الاستخبارات الأمريكية[C. I .A] منذ أيار 2005. حيث ينشط في العراق نحو 100 ألف إسلامي متطرف، ويضيف التقرير أن العراق اليوم يُعد ثاني أسوأ دولة في العالم من حيث عدم الاستقرار والفقر.
 وتقول دراسة لمؤسسة [فايلد ستاينس إندكس] أن العراق لا يسبقه سوى السودان. ويتقدّم على دول الصومال والتشاد و زيمبابواى. وكان العراق يحتلّ المرتبة الرابعة عالمياً قبل عام، أي منذ بدء العمل بالخطة الأمريكية الجديدة. وتتوقّع المؤسسة نفسها، أن يحتل العراق المرتبة الأولى إذا استمرّت الأحوال على ما هي عليه اليوم حتى نهاية العام الجاري. ويُعدّ العراق وأفغانستان أكثر دولتين لا سيطرة لهما على أراضيهما الإقليمية، ويشير التقرير إلى أنّ حكومة نوري المالكي لا سيطرة لها على 60 في المئة من البلاد، باعتراف الجيش الأمريكي. وتكاد تقتصر على المنطقة الخضراء حيث الأمن مشدّد، رغم أنّ ذلك لم يمنع سقوط عدد قياسي من صواريخ الهاون، والتي بلغت نحو 80 عملية في الفترة بين آذار وحزيران الماضي، بحسب إحصاءات صادرة عن الأمم المتحدة. (15)
                                                                                                                                  ويقول تقرير للصليب الأحمر اعد خصيصاً بمناسبة حلول الذكرى السنوية الخامسة للغزو الأمريكي للعراق إن الوضع الإنساني في أجزاء كثيرة من البلاد هو الأسوأ في العالم. ويضيف التقرير إن الملايين من العراقيين ما زالوا يفتقرون إلى المياه النظيفة وابسط الخدمات الطبية، حيث تخلو المستشفيات من الأسرة والأدوية والكوادر الطبية، كما تضطر بعض الأسر إلى إنفاق ثلث دخولها الشهرية البالغة 150 دولارا بالمعدل على شراء مياه الشرب النظيفة.
 وجاء في التقرير أن المسؤولين العراقيين يعتقدون أن أكثر من 2200 طبيبا وممرضة قتلوا، وأن 250 اختطفوا منذ عام 2003. وتشير الإحصاءات إلى أن 20  ألفا من الكوادر الطبية من مجموع 34 ألفا قد
اضطروا إلى مغادرة البلاد منذ الغزو الأمريكي.
 وجاء في التقرير أيضا أن عشرات الآلاف من العراقيين قد  اختفوا منذ بدء الحرب عام 2003، وان العديد من ضحايا العنف الحالي لم يجر التعرف عليهم لأن نسبة قليلة جدا من الجثث التي يتم العثور عليها تسلم إلى السلطات الطبية القضائية.
هذا ويحاجج الأمريكيون ومسئولو الحكومة العراقية بأن الوضع الأمني قد تحسن في العراق منذ بدء الحملة الأمنية الأخيرة في العام الماضي بعد أن  زجت الولايات المتحدة بقوات إضافية بلغت 30 الف جنديا لأجل نجاح الحملة .
اإلا أن رئيسة عمليات الصليب الأحمر في الشرق الأوسط وأفريقيا تقول إن العراقيين الذين اضطروا إلى هجر مساكنهم بسبب العنف - بمن فيهم النساء والأطفال والكهول والمعوقين - ما زالوا في وضع صعب للغاية. وأضافت المسؤولة يجب أن لا يحجب تحسن الوضع الأمني في بعض مناطق العراق عن أعيننا حقيقة أن الملايين من العراقيين قد تركوا دون عون بالمرة. ويضيف التقرير بأن عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين،  وغالبيتهم العظمى من الرجال، يقبعون في السجون.(16)



434
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة 28 /30

حامد الحمداني                                                      11/7/2008


الفساد يعم أجهزة السلطة من القمة حتى القاعدة

1 ـ الفساد في عهد الحاكم الأمريكي بول بريمر:
لم يتخيل الشعب العراقي الذي تخلص من نظام الطاغية صدام الذي استأثر بكل ثروات البلاد لكي يشهد حالة من الفساد اشد وأقسى، فقد ذهب صدام ونظامه ليجد الشعب أن الفساد قد أخذ بالاتساع  في البلاد أفقيا وعمودياً، حتى عم كافة أجهزة السلطة من قمة رأسها حتى قاعدتها، إبتداءً من عهد الحاكم الأمريكي بول بريمر مروراً بمجلس الحكم ، فحكومة الدكتور أياد علاوي ، فحكومة إبراهيم الجعفري وصولاً إلى حكومة نوري المالكي.                                                                                                                                             فقد نشرت صحيفة واشنطن غلوب تقريراً تناول الفساد المالي والإداري في العراق على عهد بريمر قائلة:                                .                                                                                      {إن سرقة الأموال العراقية من أهم إنجازات سلطة الائتلاف المؤقتة، حيث أن  مئات الملايين من الدولارات من أموال العراق قد نهبت أثناء فترة تولي السفير بول بريمر إدارة سلطة التحالف المؤقتة تحت شعار إعادة إعمار العراق، سرقها متعهدون أمريكيون من الحكومة العراقية التي أنشأتها سلطة الائتلاف المؤقتة عام 2003.                 .                                  فقد أصدرت سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق مرسوما منح المتعهدين الأمريكان حصانة قانونية ضد أية دعاوى ترفع ضدهم في العراق، وذلك قبيل أيام من موعد تسليم السلطة إلى العراقيين في حزيران- يونيو عام 2004 ، وهذا القانون حول العراق إلى موقع للنهب المباح، حتى أن الأمم المتحدة التي أنشأت نظاماً لمراقبة التصرف بالأموال العراقية، لا تملك تفويضا لمقاضاة ومحاسبة الذين نهبوا المال العراقي العام.   
 وترجع معظم هذه القضايا إلى الأيام الأولى للاجتياح الأمريكي للعراق في آذار - مارس من عام 2003، حيث ارتأت إدارة الرئيس بوش آنذاك أن تعيد إعمار العراق بأموال عراقية.                                .                                           وبدأت قضية ضياع الأموال العراقية عندما بسطت سلطة الائتلاف المؤقتة التي تشكلت فور سقوط النظام السابق سيطرتها على جميع عائدات النفط، والأموال التي وجدتها في المصارف وقصور الرئيس المخلوع صدام حسين، بالإضافة إلى الميزانية التي كانت مخصصة لبرنامج النفط مقابل الغذاء.                     .
وهكذا أصبح تحت تصرف سلطة الائتلاف المؤقتة أكثر من عشرين مليار دولار من المال العراقي العام، أودعت في حساب خاص سمي صندوق تنمية العراق، والذي قال عنه السفير بول بريمر حرفيا بأنه [أنشأ  لمصلحة الشعب العراقي]!!، ووضعت هذه الأموال النقدية تحت تصرف الأمريكيين الذين كانوا مسؤولين آنذاك عن مشاريع إعادة بناء الطرق والجسور والمستشفيات.                       .                                                 
وهذه الأموال لم تخضع للشروط التي خضع لها مبلغ الثمانية عشر مليار دولار التي خصصتها الإدارة الأمريكية لعمليات إعادة الإعمار، حيث لا يمكن إنفاقها إلا بموافقة الكونغرس. أما سلطة الائتلاف المؤقتة فقد أنفقت مليارات الدولارات من الأموال العراقية بدون حسيب او رقيب، وذلك حسب تقارير رفعها مدققو حسابات إلى لجنة خاصة أنشأها الكونغرس للإشراف على كيفية إنفاق الأموال المخصصة لإعادة الإعمار. (4)   
   وفي حزيران - يونيو من عام 2004 أصبح [ صندوق تنمية العراق ] تحت سلطة الحكومة العراقية المؤقتة، ولكن سلطة التحالف المؤقتة التي أنشأت هذا الصندوق كانت قد أنفقت نحو 14 مليار دولار من هذه الأموال على مشاريع إعادة البناء، وعلى تصريف أمور الحكومة االمؤقتة. ومن ضمن الشركات التي نالها نصيب من هذه الأموال، شركة هاليبرتون التي فازت بعقد قيمته مليارين و200 الف دولار لإصلاح البنية التحتية للصناعة النفطية في العراق، ولكن مدققي الحسابات في البنتاغون وجدوا أن هناك فواتير وهمية او مبالغ فيها بقيمة 263 مليون دولار.
 لكن تحقيقات المفتش الخاص أدت إلى اعتقال خمسة أشخاص فقط والتحقيق في 60 قضية تضمنت دعاوى تزوير وفساد في كيفية إنفاق الأموال الأمريكية او العراقية المخصصة لإعادة الإعمار ، حسب ما صرح به للصحيفة [جيمس ميشيل الناطق باسم المفتش العام].(5)         
  أما الدكتور مهدي الحافظ الذي شغل منصب وزير التخطيط في وزارة الدكتور أياد علاوي فقد ذكر تصريح صحفي له قائلاً:             .                          {أن تسعة مليارات دولار من الأموال التي خصصتها الإدارة الأمريكية لإعادة بناء البنية التحية في العراق قد اختفت دون أن يعلم أحد عن مصيرها}. (6)
2ـ الفساد على عهد الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم:
لم تكد الإدارة الأمريكية تسلم السلطة للأحزاب السياسية الشيعية والكردية حتى بدأ الفساد المالي والإداري يأخذ بالاتساع أفقيا وعموديا، وباتت الميليشيات المسلحة التابعة لهذه الأحزاب هي التي تحكم البلاد ، ولا احد يستطيع الوقوف ضدها وفضح سرقاتها ونهبها لثروات البلاد، حيث القتل يتنظره على أيدي تلك الميليشيات.                           .                                  لقد تحدث السيد رئيس هيئة النزاهة التي جرى تشكيلها لتعقب الفساد والمفسدين السيد راضي حمزة الراضي أمام الكونغرس الأمريكي عن الفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة من القمة إلى القاعدة، وتحدث عن المضايقات والتهديدات والقتل الذي تعرض له أعضاء وموظفي هيئة النزاهة لمنعهم من كشف قضايا الفساد الذي بلغت قمة السلطة قائلاً:                                                                                 {أن المالكي هددني بنفسه، وإن مجموع الفساد المالي في الوزارات قد بلغ18 مليار دولار. وقد  تم اغتيال 31 من موظفي هيئة النزاهة، وأن السلطة القضائية استسلمت للضغوط التي مورست عليها من قمة السلطة للتستر على جرائم القتل التي سجلت ضد مجهول.                   .
و قال راضي حمزة الراضي  لقد نجحنا في التحقيق في أكثر من 3000 قضية للفساد، وإحالتها إلى المحاكم للفصل فيها، ووفقا لسجلات بلدي، فإن 241 حالة فقط قد تم الفصل فيها حتى الآن، وأضاف خلال جلسة الاستماع الثانية له قبل أيام أمام الكونغرس الأمريكي أن حجم الفساد التي كشفت عنه اللجنة حتى الآن عبر جميع الوزارات في العراق قد قُدرت بحوالي 18 مليار دولار، وتقف على رأسها وزارة الدفاع حيث بلغ حجم الفساد فيها 5 مليارات دولار، ثم وزارة التجارة 3 مليارات، ووزارة الكهرباء 3 مليارات، ووزارة النقل ملياري دولار، ووزارة الصحة ملياري دولار، ووزارة الداخلية مليار دولار، ووزارة لاتصالات مليار دولار، ووزارة الإسكان مليار دولار، ثم وزارة المالية 500 مليون دولار، ثم وزارةالنفط 500 مليون دولار.
 وأكد الراضي أن تلك البيانات لم تستوعب قضايا الفساد جميعها فهناك قضايا كثيرة لم يتم إدراجها لأسباب متعددة منها عدم اكتمال الأدلة، ومنها اختفاء ملفات، وتابع إن التقرير لا يعكس النطاق الكامل للفساد في مجال النفط، بما في ذلك قياس الاحتيال، والسرقة والتهريب، وفي بلدي توجد مجموعة صغيرة من المحققين ممن لا يملكون القدرة على التحقيق في كل قضايا تهريب النفط.                                  .                                                           ويضيف السيد راضي الراضي في تقريره قائلاً: بالإضافة إلى السرقة من قبل الميليشيات وموظفي الحكومة، فقد تلقيت أدلة على تفشي التهريب بما في ذلك إعادة إنشاء طرق التهريب التي تعود إلى عهد الدكتاتور صدام حسين.                                         .
وأوضح رئيس هيئة النزاهة أنه تم تصنيف قضايا الفساد إلى خمسة أنواع، وأنه توصل إلى أن قضايا فساد كبيرة تعود إلى 35 من كبار المسؤولين المتهمين. وحول العقبات الرئيسة التي تعترض عمل الهيئة بيّن راضي الراضي العقبات التالية:
1 ـ العقبة الأولى: هي  العنف والترهيب والهجمات الشخصية، حيث أنه  منذ إنشاء لجنة النزاهة العامة تعرض أكثر من 31 موظفا للاغتيال، وكذلك لا يقل عن 12 فرد من إفراد عوائلهم.                                                               وتابع الراضي قائلاً: كان موظفو مكتبي وأقاربهم عرضة للخطف، أو الاحتجاز التعذيب قبل قتلهم. والعديد من هؤلاء الأشخاص كانوا قد تعرضوا إلى إطلاقات نارية من مسافة قريبة.                             .                                          وقدم السيد الراضي أمام الكونكرس عرضا موجزا لأشخاص قتلوا أو تعرضوا للتهديد، فقد أكد أن الموظف [محمد عبد] كان قد أُطلق عليه النار في الشارع مع أبنائه وزوجته الحامل، و رئيس جهاز الأمن في الهيئة تعرض مرارا وتكراراً للتهديد بالقتل، وكان والده مؤخرا قد خُطف وقتل بسبب عمل ابنه في لجنة النزاهة العامة، وقد عُثر على جثته معلقة بخطاف اللحوم، وكذلك احد الموظفين الذين يؤدون واجبات كتابية كان في ضمن حماية أمن الموظفين، ولكن والده خُطف بسبب عمل ابنه في اللجنة أيضا. هذا الموظف الذي كان والده البالغ من العمر 80 عاما، وجدت جثته مملوءة بالثقوب بالدريل [ المثقب الكهربائي]الذي استخدم لتعذيبه قبل القتل، كما أن رئيس فرع النزاهة في الموصل قتل على يد مهاجم انتحاري في مكتبه.                                        .                                                                    وتابع الراضي:وقبل أسبوعين تعرض أحد زملائي المحامين إلى محاولة اغتيال حيث أصيب بعدة إطلاقات نارية في رقبته و صدره، وهو الآن يكافح من اجل البقاء على قيد حياته. و يوم الجمعة عثرنا على جثة احد المحققين في بغداد في مكان رمي النفايات. هذه مجرد أمثلة قليلة، وهناك الكثير من التهديدات التي وجهت إلى الموظفين التابعين لي شخصياً وكذلك لأسرتي، فعلى سبيل المثال، تعرضت عائلتي مرارا للهجوم بقذائف الهاون، وقد دمر كل شيء من حولها. وقد تلقيت رصاصة من قناص أثناء خروجي من المكتب.                     .
2 ـ العقبة الثانية: تتعلق بطبيعة عمل الهيئة في ظل حكومة المالكي حيث إن رئيس الوزراء وحكومته رفضوا الاعتراف باستقلال لجنة النزاهة العامة، رغم أن الدستور العراقي قد نص صراحة على استقلال اللجنة، والمسؤولون والوكالات في الحكومة العراقية أرسلوا إلينا رسائل رسمية تمنعنا من اتخاذ أي إجراء ضد الرئاسة، ومجلس الوزراء السابقين والوزراء الحاليين.                                           .
وكشف الراضي مسألة في غاية الخطورة حين أعلن أن  هناك العديد من حالات الفساد التي تم إغلاقها من قبل الوزراء ورئيس الوزراء، ويقدر قيمتها بمئة بليون دينار عراقي.                                 .
3ـ العقبة الثالثة: تتعلق بعمل القضاء حيث أن  كثيرا من القضاة في العراق يعيشون في حالة من الخوف من الخطف التعذيب والاغتيال لأنفسهم شخصياً، ولأفراد أسرهم عندما يشاركون في قرارات الفصل في القضايا التي تعود إلى كبار المسؤولين الحكوميين. كما أن السلطة القضائية في كثير من الأحيان تستسلم للضغوط، ولا تفصل في قضاياالفساد.                               
                                             
 4-العقبة الرابعة: أن كافة السلطات التنفيذية، والتشريعية والقضائية وغيرها من فروع الحكومة العراقية لم تعمل كما هو مطلوب من اجل تعزيز سيادة القانون، ومكافحة الفساد في العراق.                          .                                   فالسلطة التنفيذية تنشط في كثير من الأحيان في حماية الموظفين الفاسدين في محاولة للقضاء او السيطرة على اللجنة،  وفي الوقت نفسه لم تنقح السلطة التشريعية قوانين مكافحة الفساد، وأكد الراضي
 أن من المستحيل على لجنة النزاهة العامة أن تحقق في قضايا الفساد في مجال النفط بأمان وكفاية، خاصة التي فيها ميليشيات من السنة والشيعة يقومون بالسيطرة على عدادات مقياس النفط، ونقل وتوزيع النفط العراقي، وقد أدى هذا الأمر إلى أن تصبح وزارة النفط في واقع الحال ممولة لميليشيات الإرهابيين.                         .
5-العقبة الخامسة: تتعلق بالتحقيق في مجال الفساد في القوى الأمنية، ففي الوقت الذي كان يفترض أن تكون قوى الأمن حامية ومساندة عمل الهيئة فإن التحقيق عن الفساد في قوات الأمن صعب جدا.                       .                      فألاشخاص الصادقين والمخلصين الذين يعملون تحت رئاستي في لجنة النزاهة العامة بحاجة إلى الحماية والدعم، وأولئك الذين تسللوا إلى اللجنة لأسباب سياسية وطائفية لا بد من استبدالهم بتعيين الناس الذين هم حقا ملتزمون بمهمتهم، والمبدأ التوجيهي هو [لا شيء فوق القانون]. وإذا لم يحدث ذلك أخشى أن تستخدم اللجنة نفسها كأداة من أدوات القهر، وكذلك أداة للإفساد، والى المزيد من الفساد.                             .
وأكد الراضي في معرض حديثه أمام الكونغرس أن حكومة العراق ستفشل، وستستمر معانات الشعب العراقي إذا بقيت الميليشيات مسيطرة على أجزاء من الحكومة بما في ذلك قوات الأمن، والتي ليست تحت السيطرة. الفساد والطائفية قد تؤدي إلى تآكل جهود العراقيين لبناء مستقبل أفضل للعراق والمنطقة.                 .   
ويروي الراضي قصة سفره إلى الولايات المتحدة لغرض التدريب قائلاً  أنا واحد من الموظفين الوافدين من لجنة النزاهة العامة للجمهورية العراقية جئنا من العراق إلى الولايات المتحدة في 24 آب / أغسطسس، 2007 بصورة شرعية، ولأجل التدريب مع وزارة العدل الأمريكية، و أثناء زيارتنا وجهت لي ولعائلتي تهديدات تصاعدت إلى أعلى مستوى، جنبا إلى جنب مع الضغط الهائل خلال السنتين الأخيرتين من أعلى المستويات في الحكومة العراقية، ومما يدعو للأسف وبشكل مؤلم تسبب لي التماس الحماية المناسبة من الحكومة الأمريكية لعائلتي... إن سلامة عائلتي معرضة للخطر في العراق بسبب عملي، والآن كلماتي  إليكم في هذا اليوم يمكن أن تضيف إليهم خطراً آخر.                         
وتابع الراضي: قبل مثولي للشهادة في الولايات المتحدة في 4 تشرين الأول / أكتوبر  2007 ، هددني رئيس الوزراء العراقي بنفسه وقال لي أن الوكالة السابقة قد وجهت جهودها إلى مجرد متابعة التهم الموجهة لى ولموظفي، وتجاهل الفساد في الحكومة العراقية.                  .             
وختم الراضي تقريره بالقول: الموظفون وأسرهم، وأنا وعائلتي نعرف جيدا أن الديمقراطية والعدالة لا تشترى بدون ثمن. (7) 
3ـ  تقرير رئيس هيئة النزاهة السابق موسى فرج
في اتصال مع السيد موسى فرج الذي تولى رئاسة هيئة النزاهة بعد إقالة السيد راضي الراضي، من قبل صحيفة [الملف برس]  لتزويدها بما لديه من معلومات ووثائق حول الفساد، وقضية سرقة وتهريب النفط في  البصرة، أجاب السيد موسى قائلاً:
{ تم الاتصال بي حول قضية البصرة، وقد أوضحت انه يتم يوميا سرقة وتهريب للنفط تقدر بـ [ 300 إلى 500 الف برميل يوميا] تبلغ قيمتها بالحد الأدنى إذا افترضنا انه يتم سرقة 300 الف طن بسعر 80 دولار للبرميل ولمدة 300 يوم من السنة بـ  7,2 مليار دولار سنويا من النفط الخام.
 وأضاف فرج قائلاً: لقد قمت بتاريخ 29/ 10/ 2007 بتقديم تقرير إلى رئاسة الوزراء، وهيئة رئاسة مجلس النواب، ومستشار الأمن الوطني يتضمن عدة نقاط كان أهمها ما يخص الجهات التي تسرق النفط وتهربه وهم مسؤولون حكوميين، في مقدمتهم محافظ البصرة الحالي وهو من حزب الفضيلة، ومع عدد من شخصيات أحزاب المحافظة الأخرى، و قدمت وثائق رسمية فيها أسماء مهربي النفط وسراقه، مدعومة بصور جوية لمواقعهم، وموانئ التهريب غير الرسمية، ومعدات النقل المهرب، وأنابيب النفط المثقوبة التي يتم السرقة منها، وكذلك صور جوية لبحيرات النفط المسحوب من الأنابيب تمهيدا لسرقته، فضلا عن مواقع موانئ التهريب التي عددها [ 6 ] في أبي الخصيب و موقعين في الفاو وخويسات، وأوضحت لهم  في التقرير أن الجهات الضالعة في التهريب هم محافظ البصرة وحزبه، وأشخاص يرتبطون بوزارة الداخلية، وكانت الخطة المقترحة بموجب التقرير استخدام قوة عسكرية من بغداد حصراً وليس من البصرة لان الأجهزة الأمنية في البصرة مسيطر عليها من قبل المحافظ، والأحزاب الموجودة فيها التي تشترك في عملية التهريب، وطالبت أن تكون هذه القوة العسكرية مزودة بالطائرات العمودية لتقوم بمداهمة أوكار التهريب [ الموانئ الأهلية] أي أنها غير الشرعية، بشكل مفاجئ، وتدمرها كلياً، وتعتقل أصحابها، وتدمر وسائط النقل والمعدات المستخدمة بالتهريب، ووضع اليد على ما يسمى بـ [المسافن]، وحجز القطع البحرية التي تستخدم في عمليات التهريب.
ومن الفقرات الأخرى التي تضمنها التقرير طالبت بإبعاد محافظ البصرة ومسؤول لجنة النزاهة في مجلس المحافظة، و مسؤول حماية النفط وإحالتهم للقضاء.
 كما طالبت مجلس النواب بإتاحة الفرصة لي للإدلاء بشهادتي حول سرقة النفط أمام المجلس، لكن المجلس لم يحرك  ساكناً.
 وأضاف فرج  قائلاً: حصلت اجتماعات بيني وبين وزير الدفاع العراقي  ووزير النفط، ومسؤولين عسكريين من وزارتي الدفاع والداخلية وذلك بحضور قادة أمريكان، وبحثنا الموضوع، لكن الموضوع علق في حينه لغاية تأمين طائرات عمودية من قبل قوات التحالف!!.
 وأكد رئيس هيئة النزاهة السابق موسى فرج مرة أخرى أن المسؤولين عن السرقة هم من حزب الفضيلة، لذا تحرك رئيس لجنة النزاهة في مجلس النواب[ صباح الساعدي ] لتطويق الموضوع بشكل محموم وعندما وجدني لم أتوقف عن المطالبة بملاحقة المهربين، حيث اتفق مع المقربين من رئيس الوزراء بعد أن كان يطالب بإحالته ومدير مكتبه ومستشاره القانوني إلى الاستجواب أمام مجلس النواب، إلا انه ترك الأمر، وبدأ بالاندماج معهم مستغلاً الخلاف بيني وبينهم بسبب وجود قضايا مثارة ضدهم، مما أدى في حينها إلى قرار إبعادي.
واضاف فرج قائلا:  فوجئت خلال حملة البصرة أن الحملة موجهة إلى التيار الصدري فإذا كان التيار الصدري في البصرة قد منع حملة الحكومة ضد المهربين فالتيار الصدري يتحمل المسؤولية، ولكن هذا يحتاج إلى الدليل، والدليل هو أن تثبت الحكومة أنها اتجهت إلى ضرب المهربين، فإذا اعتقلت الأشخاص الذين قدمت أسمائهم لهم من قبل، وهم المسؤولين عن التهريب فعلاً، وليس من بينهم أحد من التيار الصدري وأبعدت الراعين للتهريب، وهم المحافظ وأتباعه، وإذا قامت الحكومة بقصف مواقع التهريب فأنها صادقة في توجهها للبصرة. أما إذا لم يحصل شيئاً من هذا القبيل فأن الحكومة متجهة إلى التيار الصدري تحديداً، ولأسباب سياسية يقف في مقدمتها الخلاف الحاصل في كربلاء.
وطالب فرج الحكومة بأن تبرهن للشعب العراقي بأن حملتها موجهة ضد سراق النفط من خلال تقديم أدلة ملموسة باعتقالها لرؤوس التهريب ووضع اليد على معدات التهريب، وإبعاد محافظ البصرة وأتباعه.
واستشهد فرج بوقت كان القاضي وائل عبد اللطيف محافظ للبصرة حيث قال: لم تحصل آي عملية سرقة او تهريب في ذلك الوقت. وشدد فرج على أن الفيصل الآن لمصداقية الحكومة في حملتها الحالية هو اعتقال الرؤوس المدبرة والمساندة لهم في عمليات السرقة وتهريب للنفط في البصرة، وان لم يحصل ذلك فأن الحكومة تكون قد اتجهت ضد حزب معين، ولا صلة لحملتها بمقاومة الفساد والتهريب.(8)
4 ـ تقرير لجنة النزاهة في الجمعية الوطنية:                          .                                         كشف عضو لجنة النزاهة في الجمعية الوطنية السيد هادي العامري، وهو أحد أعمدة النظام القائم اليوم وزعيم منظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم عن فساد مالي وإداري في وزارات عراقية مهمة خلال الفترة السابقة التي تسلمت فيها حكومة الدكتور أياد علاوي الحكم للفترة الانتقالية.                                                 
فقد جاء في تقرير ديوان المحاسبة المالية وتقارير لجنة النزاهة الذي قدمه رئيس اللجنة إلى الجمعية الوطنية وزارات عراقية مهمة خلال الفترة السابقة التي تسلمت فيها حكومة الدكتور أياد علاوي الحكم للفترة الانتقالية.                                                 
وتحدث في الاجتماع الاعتيادي للجمعية الوطنية بالأرقام عن حجم المخالفات المالية والإدارية، وحجم الفساد الإداري في بعض الوزارات العراقية في حكومة أياد علاوي، وجاء في تقريره أن وزارة الدفاع تأتي بالمرتبة الأولي في حجم المخالفات المالية والإدارية، حيث أن الوزارة قد تعاقدت مع احدي الشركات المدعوة [شركة العين] وحدها بمبلغ 929 مليون دولار وقد دفعت المبالغ نقدا ومقدماً قبل إتمام العقد. وكذلك تعاقدت الوزارة على شراء 24 طائرة سمتية ودفعت مبلغ 22  ونصف مليون دولار، وعند تشكيل لجنة فنية من الوزارة لمتابعة الموضوع تبين عدم وجود سوي أربع طائرات، والباقي عبارة عن طائرات قديمة بحاجة للإصلاح موجودة في احدي جمهوريات الاتحاد السوفيتي المنحل. وأشار إلى أن المبلغ قد سدد من قبل الوزارة بالكامل مما يخالف شروط التعاقد المتعارف عليها للتعاقدات، وأشار إلى عدم وجود ضمانات لدي الحكومة العراقية عند نكول الشركات عن التجهيز وفق الشروط المطلوبة، وأكد أن العقد المشار إليه قد جرى رفضه من قبل اللجنة التي شكلتها وزارة الدفاع، وأن الوزارة قد نقلت شكواها عن طريق وزير الدفاع سعدون الدليمي للجمعية الوطنية لمساعدتها على إعادة المبالغ التي دفعتها الحكومة العراقية لعدم إمكانية الاستفادة من الطائرات التي تحاول الشركة المتعاقدة استبدالها بأجهزة فنية ومعدات ووضع مبالغ إضافية.                                                                                                         وأوضح العامري أن عددا من الدعاوى قد أقيمت ضد عدد من ضباط الجيش والشرطة منها دعوى بمبلغ 60 مليون دينار على ضابط عن رواتب وهمية دفعت لمنتسبين وهميين في وزارة الدفاع، وكذلك إدراج احد الضباط اسم ابنته البالغة من العمر 3 سنوات في قوائم الرواتب وضابط آخر درج اسم ابنه البالغ من العمر 7 سنوات في قوائم الرواتب للحماية، وتطرق إلى موضوع الرشوة وانتشارها بشكل مروع في أجهزة الأمن، وإلى ظاهرة الفصل والطرد للمنتسبين في الوقت الذي تبقي رواتبهم تدفع من الدولة، وبقاء سجلات الرواتب مفتوحة لهم، وعزا عدم تحسن الوضع الأمني إلى الوقت الحاضر إلى عدم تطوير أجهزة الأمن والمؤسسات الحكومية، إضافة إلى الفساد الذي عده أكثر خطرا من الإرهاب وحاضنة له وطريقة لتسلل العناصر البعثية إلى مؤسسات الدولة وخاصة الأجهزة الأمنية.                         
وتطرق عضو لجنة  النزاهة بمجلس النواب إلى عقود وزارة البلديات حيث أشار إلى إن الوزارة قد تسببت بخسائر للدولة لا تقل عن 22 ونصف مليون دولار عبر التعاقدات غير الصحيحة، وغير القانونية، وكذلك وزارة النقل دفعت مبلغ  مليوني دولار كغرامات، وأشار إلى أن وزارة الكهرباء هي أيضا متورطة بقضايا فساد كبيرة حيث تعاقدت لشراء محطة كهرباء، ووصل قسم من المواد للبلاد ودفعت مبلغ 283 مليون دولار لأحدي الشركات الأميركية، ولا توجد معلومات لدي الجمعية عن المحطة.                                                                                 كما أن الفساد الإداري الذي يشمل الرشوة، وعدم استقطاع مبالغ ضريبة الدخل، ورسم الطابع، وقسم من المواد لم تصل إلى المخازن أصلا، فضلا على أن قسماً من العقود تحال بقرار من الوزير إلى الشركة بدون الرجوع إلى لجنة المعطاءات، وبدون دخول الشركة في المناقصات الأصولية والعقود غير المستوفية للشروط القانونية قد ساعد على تبديد أموال هائلة من الأموال العامة.                                             
من جانب آخر أشار العامري إلى أن موضوع الحصة التموينية ورداءتها، والنقص المتكرر في مفرداتها من جراء العقود غير الدقيقة، وما تتعرض له الشاحنات من سرقة وتدمير قبل وصولها إلى المخازن، وإلى تهريبها، كما حصل العام الماضي حيث ضبطت نحو 400 شاحنة معدة للتهريب إلى سوريا محملة بمفردات البطاقة التموينية. وتطرق العامري إلى عهد بريمر الذي قال عنه انه باع حتى سماء العراق إلى شركات الاتصالات العربية مقابل مبالغ تافهة لم تستفد منها الحكومة العراقية، والتي من المفروض الإفادة منها عبر فرض الرسوم الاعتيادية التي تفرض عادة على حقوق الاستثمار، وطالبا من الحكومة العراقية والجمعية الوطنية عدم منح أي شركة من شركات الاتصالات ما لم تكن تلك الشركة ذات تقنيات تقدم خدمات جيدة للمواطن.                 
    لكن السيد العامري تجاهل وحاول التغطية على السرقات الكبرى وعمليات تهريب النفط التي تشارك فيها منظمة بدر التي يقودها هو شخصيا، وهكذا ينطبق عليه المثل القائل [حاميها حراميها]. (9)           
5 ـ الجريمة والفساد في وزارة الصحة
قديماً قيل عندما يتخاصم المجرمون فيما بينهم تنكشف الجرائم، وهذا المثل ينطبق تمام الانطباق على وزير الصحة [على الشمري]، ووكيل الوزارة [حاكم الزاملي] القيادي في التيار الصدري الذي حُوكم بتهمة خطف وقتل وكيل الوزارة السابق السيد [عمار الصفار]، وقد حوكم حاكم الزاملي عن هذه الجريمة، لكن المحكمة برأته من تهمة القيام بعمليات الخطف والقتل!!، وقد ادعى حاكم الزاملي أن الوزير السابق لوزارة الصحة على الشمري قد قام بتلفيق تهم له بالقتل والخطف، وان الحكومة أخفت اعتقالها العصابة التي خطفت وكيل وزير الصحة السابق عمار الصفار.                                                       .
وكشف الزاملي في تصريحات إلى لصحيفة الحياة عن وجود مافيا تتاجر بالأدوية وعقود الإعمار داخل الوزارة طاولت رأس الهرم فيها. وأوضح قائلاً: اكتشفت قبل اعتقالي وجود فساد إداري ومالي بأكثر من بليون دولار، منها عقود بـ300 مليون دولار تورط فيها الوزير الشمري الذي طلب اللجوء إلى الولايات المتحدة. وكذلك توصلت إلى المسؤول عن استيراد عقاقير ملوّثة بالإيدز، وزعت في محافظة بابل قبل حوالي عام ونصف.
 أما خطف المهداوي فقد شهد أكثر من عشرة مدراء عامين وصغار الموظفين على ما جرى يوم الحادثة، حيث كان مقرراً اجتماعا للمديرين العامين في مقر الوزارة، وفوجئنا بحضور المهداوي الذي قال أن الوزير شخصياً استدعاه. وبعد انتهاء الاجتماع اخذ الشمري بيد المهداوي ودعاه إلى مكتبه ثم اختفى،  ونفى القيادي في التيار الصدري ما أُشيع عن أن اختفاء المهداوي كان بسبب منافستي له على منصب الوكيل، لأن الحقيقة أنني تسلّمت المنصب من الوكيل السابق صباح الحسيني.                                 
 أما السرداب الذي اتهمت باستخدامه للتعذيب والقتل، بحسب ما اتهمني به الشمري حيث قال في شهادته أمام المحكمة انه كان يشم منه رائحة جثث متفسخة، فقد أكد شهود النفي إن هذا النفق مخصص لاستخدامه من جانب الوزير كمرآب لسياراته الخاصة!!.
  وانتقد الزاملي السلطة التنفيذية لعدم تطبيقها مذكرات قبض بحق عدد من المسؤولين في وزارة الصحة لعلاقتهم بأحزاب تقود الحكومة كانوا ضمن شهود الإثبات بعد ما قدّمت إلى المحكمة وثائق تدينهم بالفساد، تتجاوز مبالغها بليون دولار، كنت قد حصلت عليها قبل اعتقالي، وكان وراء مكيدة نسجها الوزير وعدد من أتباعه ضدي بينهم صديقه الحميم  الذي سلمه مهمة عقود الإعمار بالوزارة بعد سحبه صلاحيات الوكيل السابق عمار الصفار، وتورطه أيضا باستيراد عقار الألبومين إلى العراق الملوّث بالإيدز، وجرى توزيعه في محافظة بابل حينها، وقد جرى اغتيال الصيدلاني الذي فحص الدواء، وكشف التلوّث، وأبلغ السلطات عنه. (10) 
6 ـ الفساد والجريمة في وزارة الداخلية:
أما الفساد في وزارة الداخلية فقد كان مدار حديث المواطنين العراقيين والأجانب على حد سواء. فقد أكد [ماثيو شيرمان] المستشار السابق في وزارة الداخلية العراقية استشراء حالات الفساد والمحسوبية في الوزارة، الأمر الذي يهدد الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لتسليم مهام الأمن إلى السلطات العراقية.
 ونقلت صحيفة واشنطن تايمز عن شيرمان قوله في كلمة ألقاها في معهد السلام الأمريكي في العاصمة واشنطن إن مساعي السيطرة على الوزارة تحولت إلى صراع سياسي من أجل البقاء وكسب النفوذ أكثر من كونها محاولات لبسط الاستقرار في البلد، ومضى شيرمان قائلاً:             
أن الوزارة تدار من قِبل حزب الدعوة، والمجلس الأعلى الإسلامي وحزب الفضيلة، مؤكدا أن طريقة استخدام هذه الأحزاب لمقدرات الوزارة أصبح خارج نطاق سيطرة الولايات المتحدة، ومن جانبه، قال أندرو راثميل وهو خبير أمني بريطاني إن خطط الولايات المتحدة لنقل الملف الأمني إلى السلطات العراقية قد فشلت مرارا بسبب الإفراط في التفاؤل وعدم الواقعية بشأن جاهزية القوات العراقية. وأعرب راثميل عن اعتقاده بأن الأشهر المقبلة ستشهد تنافسا حادا بين الأحزاب العراقية الرئيسية، موضحا ذلك بقوله أعتقد أننا خلال الأشهر الثمانية عشرة المقبلة، وفي الانتخابات المحلية القادمة، انتخابات مجالس المحافظات، سنرى منافسات أكثر بين القوى السياسية كمنظمة بدر وحزب الدعوة وجيش المهدي. وقد يكون الصراع داخل وزارة الداخلية وتشكيلات قوات الشرطة.(11)
7ـ الفساد في إقليم كردستان العراق
في تقرير للأمم المتحدة نشرته الـ BBC عن الفساد في إقليم كردستان الذي يحكمه الحزبان الكرديان، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني تناول فيه الأوضاع المعيشية القاسية للشعب الكردي في حين ظهرت طبقة تتمتع بالثراء الفاحش على حساب بؤس وشقاء الشعب الكردي.
يقول التقرير: يناضل المواطن الكردي العراقي في سبيل البقاء بينما تسرق الأموال العامة، وتجد طريقها إلى جيوب قلة من العناصر المتنفذة.                                                                                ومن جانبها، تعاقب السلطة الكردية بشدة كل من تسول له نفسه الخروج عن خطها، حيث يقول التقرير الذي لم يجد طريقه للنشر، واطلعت عليه بي بي سي إن السلطات الكردية تعتقل الآلاف من المواطنين شهريا جلهم لأسباب سياسية. و يُحتجز معظم هؤلاء دون محاكمة، ويحرم عليهم الاتصال بمحامين.                                             .                                                               من جانب آخر، يخشى رجال الأعمال الاكراد التحدث بحرية عن الفساد الذي يواجهونه. ولكن سامان الجاف، وهو قائد سابق في ميليشيا البيشمركة الكردية، وافق على التحدث إلينا قائلا:                      .                                 {إذا كنت قريبا لأحد الزعماء السياسيين، فبإمكانك الحصول على وظيفة في الحكومة مع ميزانية او عقد قد تبلغ قيمته مليونين او ثلاثة ملايين من الدولارات لتعبيد طريق على سبيل المثال}.
وقال الجاف إنه ليس من المهم أن كان هذا القريب يعرف أي شئ عن تعبيد الطرق أساسا، فالعقد سوف يباع مرات عديدة حتى يصل إلى أيدي شركة إنشاء حقيقية. ولكن عند ذاك ستكون قيمته نصف القيمة الأصلية. وخلص سامان الجاف للقول:{إن الفساد كالفيروس فهو يقتل كردستان}. وأكدت لنا معلومات سربها أحد العاملين في وزارة التخطيط الكردية أن المشاريع الحكومية لا تمنح بطريقة شفافة وأصولية، حيث قال:         .           {يحاول الوزراء وكبار المسؤولين أن يمنحوا المقاولات لشركاتهم او للشركات التي يمتلكها أصدقاؤهم، وذلك ليكون لهم من الطيب نصيب كما يقال}.                                               .                                                                               بينما يجري كل ذلك، يجاهد الاكراد العاديون من أجل الحصول على لقمة العيش، حيث يعانون من التضخم، والبطالة، وانقطاع الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء.                                           .                                                          ففي مدينة السليمانية ثاني أكبر مدن كردستان العراق، ومعقل الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه الرئيس العراقي الحالي السيد جلال الطالباني، يقول السكان إنهم لا يحصلون على المياه الجارية إلا لأربع ساعات كل ثلاثة أيام، أما التيار الكهربائي، فلا يصلهم إلا لثلاث أو أربع ساعات في اليوم. وقد أدت المياه الملوثة إلى تفشي وباء الكوليرا.
وتقول إحدى النساء التي فقدت والد زوجها وولدها اللذين توفيا بالكوليرا: { لقد طلبنا من الحكومة مرارا أن تساعدنا، ولكن دون جدوى. فهم يعدون ولا يفعلون شيئا}. ووصفت السيدة الكردية الخوف الذي كان ينتابها عندما عصف الوباء بالمنطقة في شهر سبتمبر أيلول الماضي، حيث كانت تعلم أن المياه التي تشربها أسرتها ملوثة، ولكنها لم تكن تستطيع أن تغليها بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وخلصت إلى القول: [عندما أفكر في الميزانية، وملايين الدولارات، وارى وضعي اشعر وكأني مت}.                                                                                                                  والحقيقة أن ميزانية إقليم كردستان كبيرة فعلا، حيث تجاوزت 6 مليارات دولار في العام الماضي، جلها من حصة الإقليم من صادرات النفط العراقي. ولكن هناك بون يتسع باستمرار بين المواطنين العاديين والصفوة الحاكمة.                                                 .                                                                      يقول آري هارسين، وهو مقاتل سابق في صفوف البيشمركة يعمل الآن رئيسا لمكتب أربيل التابع لصحيفة [آويني] المستقلة:               .                        {أرى بعض المسؤولين الحاليين الذين كانوا منذ عشرين سنة خلت يقاتلون معنا في الجبال. كانوا حينئذ وطنيين مثاليين. أما الآن فهم يستقلون سيارات اللاند كروزر ذات النوافذ الغامقة، ولديهم الكثير من الحرس. إنهم يرون كيف يعيش المواطن العادي، ولكنهم لا يخجلون}.
ومن العجيب والمثير للسخرية في العهد الأمريكي الجديد أن يتباهى رئيس الجمهورية السيد جلال الطالباني في حديث له مع قناة الحرة الأمريكية قائلاً: { لقد كان عندنا قبل سقوط نظام صدام أقل من عشرة ملياديرية في كردستان العراق، أما اليوم فقد تجاوز عددهم الـ 100  مليادير}!!.   
 ولا أدري كيف سمح الطالباني لنفسه بهذا التصريح، ولماذا لم يخبرنا كيف حدث هذا وبأي أسلوب، وهل جمع الملياديرية الجدد أموالهم بتعب اليمين وعرق الجبين، أم انه المال العام المسروق من أفواه فقراء الشعب الكردي المنكوب بحكامه. وإذا كان هذا ما حدث في كردستان، فماذا حدث لدى قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعية الممسكين بالسلطة بعد عمليات سرقة وتهريب النفط الذي تحدثت عنه هيئة النزاهة على لسان رئيسها الأول السيد راضي الراضي ورئيسها الثاني موسى فرج الذي أزيح هو الآخر من رئاسة الهيئة بعد كشف المستور، وماذا حدث بعد إزاحة موسى فرج، وليت قادة هذه الأحزاب تعطي الشعب العراقي الجائع فكرة عن عدد القطط السمان من أصحاب المليارات في آخر الزمان، وليقدموا واجبات الشكر الجزيل للرئيس الأمريكي جورج بوش على النعمة التي أسبغتها حربه اللا شرعية على العراق، ورغم احتجاج العالم أجمع بحجة تحرير الشعب العراقي المزعوم.

435
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة / 27 /30

حامد الحمداني                                                     9/7/2008

مسؤولية إدارة بوش عن الكارثة التي حلت بالعراق
إن تصاعد الأزمة العراقية المستعصية يوماً بعد يوم عمقاً واتساعاً، على الجانبين السياسي والأمني هي نتاج الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الأمريكي، والرجل الذي أوكله الرئيس بوش لحكم العراق[ بول بريمر]،الذي كان يجهل كل شيء عن العراق وشعبه، ولم يسبق له حتى زيارة هذا البلد من قبل، فكان أن اتخذ قرارات خطيرة كانت لها نتائج كارثية على الجانبين السياسي والأمني، من خلال إقامة نظام حكم طائفي في البلاد، أوصل العراق إلى هذا الجحيم الذي نشهده اليوم، والذي بات الخروج منه يصل إلى حد المعجزة، إن كانت هناك معجزات حقاً في علم السياسة وإدارة الأزمات.
لقد أوصلت تلك السياسة الرعناء للإدارة الأمريكية إلى ما دعته بـ [الفوضى الخلاقة] كما يتحدث الممسكون بالملف العراقي في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية، ولا أدري هل في قواميس اللغة ما يشير إلى الفوضى، أية فوضى بكونها خلاقة !!
أنها في واقع الحال الفوضى المخربة والمدمرة، والمستنقع الذي وقع فيه ليس الشعب العراقي فحسب، بل قوات الاحتلال للدولة العظمى في العالم ذاتها، والتي باتت لا تعرف كيف تخرج من هذا المستنقع، ولا تستطيع تحديد النتائج الكارثية للخروج منه ليس على قواتها العسكرية فحسب بل على منطقة الخليج والشرق الأوسط خاصة، والعالم بصورة عامة، فقد يقع العراق فريسة أما بأيدي القاعدة وحلفائها انصار نظام صدام، أو بأيدي حكام طهران وحلفائها قوى الإسلام السياسي الشيعي المعروفة، ولا شك أن الإدارة الأمريكية تدرك تمام الإدراك نتائج هذا المصير المفزع على العراق والعالم أجمع.
إن العراق اليوم تتحكم فيه قوى الإسلام الطائفي بشقيه الشيعي والسني بما تحمله من فكر ديني متخلف عفا عليه الزمن، لتستخدمه سلاحاً فعالاً لتحقيق أجندتها السياسية الهادفة لامتلاك السلطة والثروة، مستخدمة كل وسائل العنف والتدمير والقتل على الهوية، ومستغلة الجهل والتخلف الذي حل بالمجتمع العراقي خلال أربعة عقود من حكم البعث القومي الفاشي، ولاسيما أبان حكم طاغية العراق صدام حسين ونظامه القمعي الشمولي، والذي ركب نفس المركب الذي يركبه اليوم رجال الدين المتسيسون، من خلال حملته الدينية المشعوذة، وهو الذي ارتكب من المجازر بحق شعبه وشعوب جيرانه ما يعجز خبراء الإحصاء عن تحديد حجمها وعددها، وبذلك هيأ صدام حسين الظروف الموضوعية لرجال الإسلام السياسي ليحققوا أحلامهم في الاستئثار بالسلطة والثروة وهذا ما يجري اليوم في البلاد حيث انتشر الفساد في كل مرافق البلاد وكل الأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية، بل والأجهزة التربوية والتعليمية والصحية والخدمية.
إن قوى الإسلام السياسي لا يهمها من أمر الدين شيئاً، وهي التي باعت مبادئها بثمن بخس للمحتلين، وتعاونت مع الإدارة الأمريكية في سعيها لاحتلال العراق، وعادت من منفاها وراء دباباتها لتتولى السلطة في البلاد. ومن المؤسف أن تتخذ قيادات الأحزاب القومية الكردية نفس السبيل الذي اتخذته أحزاب الإسلام السياسي، واضعة أيديها بيد الولايات المتحدة وجيش الاحتلال، بل لقد ذهبت في سياستها بعيداً عندما تخلت عن اقرب واصدق حلفاء الشعب الكردي من القوى الديمقراطية والعلمانية، وتحالفت مع قوى الإسلام السياسي، وهي تدرك حق الإدراك أن هذه القوى لا تؤمن حقاً وصدقاً بحقوق الشعب الكردي المشروعة، يحدوها نفس الأمل لقوى الإسلام السياسي بالاستحواذ على السلطة والثروة، واستطاعت القيادة الكردية إقناع الإدارة الأمريكية بفرض المادة 58 في قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية فيما يخص إقامة نظام والفيدرالية للعراق، وهذا ما شجع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على العمل لتضمين الدستور هذا النظام المشبوه، ومطالبتهم في إقامة فيدرالية الجنوب والوسط الذي يرمي إلى تمزيق وحدة العراق إن لم يكن اليوم ففي القادم من الأيام، وهذا هو سر التحالف بين أحزاب الإسلام السياسي الشيعي وأحزاب القومية الكردية.
لقد نادت القوى الديمقراطية والعلمانية ومنذ أمد طويل بتحقيق أماني الشعب الكردي، وجرى الاتفاق على صيغة الفيدرالية للمنطقة الكردية بما يحقق وحدة العراق أرضاً وشعباً، فقد عاش الشعبان العربي والكردي إخوة متحابين، وخاضوا معا النضال ضد سلطة البعث الفاشية التي نكلت ليس فقط بالشعب الكردي، بل نكلت بالشعب العربي، وبسائرالقوميات الأخرى من تركمان وآشوريين وأيزيدية مندائيين.
ومن المؤسف جداً أن ينبري السيد مسعود البارزاني عبر قناة الحرة الأمريكية بالحديث بأسلوب التهديد والوعيد بإشعال الحرب الأهلية التي سماها بـ [الحقيقية]، إذا لم تعد كركوك إلى أحضان دولته القائمة فعلاً، وكأنما هذه الحرب الأهلية التي يشهدها العراق اليوم بكل ويلاتها ومآسيها لم تعد تكفي، ولم تصل [المستوى الحقيقي!!]، وأنه سيشن الحرب الأهلية الحقيقية إذا لم تنفذ المادة 140 من الدستور الذي وضع أسسه المحتلون الأمريكيون، ووكيلهم بريمر تحت ظل جيوش الاحتلال.
إن السيد مسعود البارزاني يضع نفسه وشعبه في مأزق خطير إذا ما أقدم على السير في هذا الطريق، وهو يدرك أن الاستعانة بالحماية الأمريكية لن تدوم مدى الدهر، وهو إن أقدم على إشعال حرب كردية عربية فسوف يقع في خطأ جسيم لا يمكن إصلاحه، وربما يؤدي إلى انقلاب قوى الإسلام السياسي الشيعي عليه، وتضع أيديها  بيد قوى الإسلام السياسي السني في معركة المصير. إن هذا لا يعني سوى اللعب بالنار التي ستأتي على الأخضر واليابس، وسيكتوي الجميع بنيران الحرب التي يبشرنا بها السيد مسعود البارزاني، وسيكون الشعب الكردي الخاسر الأكبر في هذه الحرب إن وقعت لا محالة.
إن الطريق الصحيح والآمن أن تتصرف القيادة الكردية بحكمة بعد أن حققت كل هذه المكاسب التي حصلت عليها، والتفرغ لخدمة الشعب الكردي والنهوض بمستوى معيشته ورفاهه، لا التضحية بكل هذه المكاسب ، فهذه السياسة لن تجلب الخير للشعب الكردي على أية حال، وعليه أن يدرك أن السياسة هي فن الممكن، وتتحكم الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية والدولية في مساراتها، وإن سياسة حرق المراحل قد تفقد الشعب الكردي كل ما حصل عليه من حقوق، والعودة به إلى الوراء عشرات السنين.
إن مدينة كركوك هي مدينة التعايش الوطني لكل فئات الشعب بكل قومياته وأديانه وطوائفه، وإن فرض أي حل بالقوة لمشكلة كركوك التي تمثل اليوم برميل بارود كبير وخطير يمكن أن يحرق العراق من البصرة حتى زاخو، فلا ينبغي المقامرة بمصير العراق وشعبه، فتتحملوا وزر الكارثة التي ستحل بالعراق، و سيحاسب التاريخ كل من يسعى لتخريب العراق وقتل أبنائه.

اندلاع الصراع المسلح بين الأحزاب السياسية الشيعية

الصراع المسلح الدائر الآن في البصرة والحلة والكوت والسماوة وبغداد وغيرها من المدن العراقية ذات الأغلبية الشيعية هي حرب كارثية لا مصلحة للشعب العراقي فيها، ولا صلة لها بالمصلحة الوطنية والحرص على العراق لا من قريب ولا من بعيد، إنها حرب تقودها مافيا الميلشيات التابعة للأحزاب الإسلامية الطائفية التي جاء بها الاحتلال الأمريكي، وبوأها أعلى مراتب السلطة في العراق، والتي سلطت ميليشياتها المسلحة لتثبيت لسلطتها على الشعب العراقي المنكوب، بقوة السلاح، فعاثت في البلاد فساداً وخراباً ودماراً وقتلاً واغتصابا دون وازع من ضمير  او أخلاق.
إن ما نشهده ويشهده العالم أجمع من مشاهد القتل والخراب والدمار يثير الفزع والاشمئزاز من هذا الاستهتار بحياة المواطنين العراقيين الذين يخشون مغادرة بيوتهم والتوجه إلى أعمالهم وكلياتهم ومدارسهم، بل لم يعودوا يأتمنون على حياتهم حتى في منازلهم، وكثيراً ما يهاجم هؤلاء الإرهابيون المواطنين الآمنين في مساكنهم، ويصفونهم بكل وقسوة ووحشية، نساءً ورجالاً وأطفالا.
 لقد مرَّ العراق بأصعب مرحلة من تاريخه، منذ شنت القوات الأمريكية والبريطانية الحرب على العراق، وأسقطت نظام صدام الدكتاتوري القمعي، حيث أخذت أوضاع البلاد تتحول من سيئ إلى أسوأ، ولم يدر في خلد المواطنين العراقيين أن يتخلصوا من ذلك النظام الكريه ليقعوا فريسة هذه العصابات الإجرامية المتوحشة والموغلة في ساديتها، والمتخذة من الدين ستاراً لتنفيذ جرائمها البشعة، والاعتداء على حريات المواطنين، والتحكم في نمط حياتهم ولطعامهم وحتى ملابسهم، وكم أفواههم، وكتم أنفاسهم كي يصفو لهم الجو لتنفيذ أجندتهم الهادفة للاستئثار بالسلطة، ونهب ثروات البلاد، حتى بات الفساد السمة المييزة لجهاز الدولة من القمة إلى القاعدة.
والصراع الدموي الحالي الذي يجري اليوم على الساحة العراقية ما بين
حلفاء الأمس في الائتلاف العراقي، الذي ضم سائر أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، لا يستهدف سوى السلطة والثروة التي هي جوهر الصراع بين المجلس الأعلى وذراعه الميليشياوي المسلحة [منظمة بدر] بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم، والكتلة الصدرية  وذراعها المسلح [جيش المهدي] بزعامة مقتدى الصدر، بالإضافة إلى حزب الفضيلة وميليشياتها المسلحة، وثأر الله وميليشياته، وعلى الرغم من الروابط الوثيقة التي تربط هذه الأحزاب بالنظام الإيراني، لكن الذي يبدو اليوم أن إيران قد وضعت ثقلها إلى جانب الصدر وميليشيات جيش المهدي الذي بات الإعلام الإيراني لا يخفي هذا الموقف الداعم له، متهمين المالكي والحكيم بتنفيذ الأجندة الأمريكية.  ومما لاشك فيه أن الإدارة الأمريكية وقوات الاحتلال تتحمل كامل المسؤولية عما جرى ويجري اليوم في العراق على أيدي هذه الميليشيات التي باتت هي السلطة الفعلية المسيطرة على الشارع العراقي، فهي التي سمحت بتشكيل وتسلح هذه الميليشيات سواء كان ذلك عن تخطيط مسبق لغايات وأهداف مستقبلية، وهو المرجح كما اعتقد، أو أنها تغاضت عن ذلك بسبب العمليات الإرهابية التي خاضتها العناصر البعثية وميليشيات أحزاب الإسلام السياسي السنية، وعناصر القاعدة القادمة عبر الحدود السورية والإيرانية والسعودية، كي تركز جهدها العسكري لمقاومتها وسحقها، ومن ثم التفرغ للميليشيات الشيعية التي قوي ساعدها، واشتد عودها، وباتت تؤرق وتقلق الإدارة الأمريكية، مما دفعها للتفكير في خلق نوع من التوازن بين القوى السنية بمختلف فصائلها والقوى الشيعية بمختلف فصائلها هي الأخرى ريثما تدبر أمرها، والتخلص منها جميعاً في نهاية المطاف.
ومن أجل تحقيق هذه الأجندة بدأت الإدارة الأمريكية بالخطوة الأولى عندما دعت إلى إلغاء قانون اجتثاث البعث، واستبداله بقانون المحاسبة والمصالحة، والاتصال بالعديد من القوى السنية التي حملت السلاح ضد القوات الأمريكية وقوات السلطة التي نصبتها، واستطاعت إغرائها بالمال، وكسب جانب كبير منها إلى جانبها، ودعتها بـ [قوات الصحوة] وتحويل سلاحها نحو القاعدة وحلفائها من انصار نظام صدام حسين، وجهزتها بالسلاح والأموال، وبذلك استطاعت إضعافها، وتخفيف العبء عن قواتها، تمهيداً للانتهاء منها مستقبلاً.
 ثم التفتت نحو الميليشيات الشيعية لتشعل فتيلة الصراع المسلح بينها انتظاراً لنتائج الصراع كي تتفرغ فيما بعد للجانب الرابح من هذه المعارك الدموية الجارية اليوم .
إن الاستراتيجية الأمريكية تبقى هي نفسها لا تتغير، وهي في نهاية المطاف ترمي إلى خلق نظام بعيد عن سائر الميليشيات الشيعية والسنية، نظام قوي ثابت يرتبط بالولايات المتحدة بوشائج قوية وثابتة ودائمية في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسة وسائر المجالات الأخرى، كحليف استراتيجي لها في المنطقة على المدى البعيد.
أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها صداقة دائمة، بل لها مصالح دائمة، وعندما تقتضي مصلحتها التنكر لآي جهة شيعية كانت أم سنية أم كردية فلا تتوانى عن ذلك فهي تريد أن تكون السيد المطاع من قبل الجميع، ولنا من شواهد التاريخ الأمثلة الكثيرة.     
إن استمرار التدهور الأمني في العراق، وتعمق الأزمة السياسية جراء الصراع الذي تخوضه الأحزاب الدينية الطائفية الشيعية منها والسنية على حد سواء، بالإضافة إلى القوى الموالية للنظام الدكتاتوري الصدامي المسقط عن السلطة، وعناصر القاعدة التي يحتضنها البعثيون أعوان صدام، ويوفرون لهم كل ما يلزم من مأوى وسلاح وأموال وتوجيهات لتنفيذ جرائمهم البشعة في البلاد، قد أدى إلى تصاعد المحنة القاسية التي يعيش في ظلها الشعب بشكل رهيب، مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق، بعد أن استشرت جرائم التفجيرات، والخطف والقتل على الهوية والاسم، والتهجير تهديداً بالقتل، على خلفية الانتماء الطائفي الشيعي والسني، وعلى خلفية الانتماء الديني، كما هي الحال تجاه المواطنين المسيحيين والصابئة والأيزيدية، وعلى خلفية الانتماء العرقي كما هي الحال مع المواطنين الأكراد والتركمان، مما اضطر جموع غفيرة من هؤلاء المواطنين إلى ترك مساكنهم، وأعمالهم ومصالحهم ومدارس أبنائهم هرباً من الموت الذي يترصدهم على أيدي القتلة من العناصر الطائفية المجرمة، من الطائفتين الشيعية والسنية على حد سواء وعلى أيدي العصابات البعثية الموالية لنظام صدام المسقط، وعلى أيدي عصابات الجريمة المطلق سراحها من السجون من قبل دكتاتور العراق صدام قبيل إسقاط حكمه الكريه.
 إن الهجرة الجماعية التي يشهدها العراق اليوم تمثل كارثة إنسانية كبرى حيث يعيش المهجرون حياة قاسية لا مثيل لها، يهيم جانب منهم في شوارع عمان ودمشق والمدن السورية والأردنية الأخرى، والجانب الآخر في المدن العراقية التي تظم أكثرية من تلك الطائفة في حالة مزرية، وجانب ثالث يمتلك الإمكانية المادية وقادر أن يدفع مبالغ طائلة للمهربين بغية الوصول إلى دول اللجوء في أوربا وأمريكا.
وتمارس الميلشيات الموالية لإيران جرائم القتل بحق الضباط في الجيش العراقي السابق، والطيارين بوجه خاص، وكذلك أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين، الذين يمثلون ثروة البلاد العلمية التي لا غنى عنها، مما اضطر أعداد غفيرة منهم إلى الهجرة خارج العراق، حيث شكل خسارة جسيمة للعراق لا تعوض.
ولا شك أن وصول العراق إلى هذه الحال هو نتاج مباشر للسياسة التي اتبعتها سلطة الاحتلال بعد إسقاط نظام صدام حسين الفاشي، وتشجيعها للطائفية السياسية من خلال تشكيلها لمجلس الحكم، والحكومات التي تلته، ومن خلال الانتخابات التي أفرزت هذا الانقسام الطائفي الذي نشهده اليوم، ومن خلال الدستور الذي كرس الطائفية المقيتة، مما أوصل البلاد إلى هذا الاستقطاب الطائفي الحالي الذي ينذر بتوسع وانتشار الحرب الأهلية الطائفية في عموم البلاد، وهذه الإجراءات الأمريكية لا تتفق بكل تأكيد مع الادعاءات الأمريكية بتحقيق نظام ديمقراطي في العراق يكون نموذجاً يحتذي في الشرق الأوسط.
 فقد جاءت تلك السياسة، وتلك الإجراءات بهذا النموذج البائس الذي يشهده العراق اليوم، وهو يمثل ليس فشلاً ذريعاً للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وحسب، بل وجلب كراهية شديدة للولايات المتحدة في المنطقة العربية من الصعب معالجته.
إن الحكومة العراقية بوضعها الحالي، حتى لو تم الاتفاق على ترقيعها ، فإنها لا تبشر بعودة الأمن والسلام في البلاد طالما جرى تأليفها على أساس المحاصصة الطائفية، وطالما تمتلك الأحزاب الطائفية الشيعية منها والسنية المليشيات التي تصول وتجول في سائر مناطق العراق، ترتكب الجرائم الوحشية بحق أبناء الشعب الآمنين، مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق.
إن على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في مجمل سياستها وإجراءاتها في العراق، وتعالج نتائج تلك السياسة الخاطئة، والإجراءات الكارثية التي اعترف بها كل من الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في لقائهما الأخير في واشنطن.( 2 )
وفي اعتقادي إن الشعب العراقي في وضعه الحالي، والذي لم يشهد أو يمارس الديمقراطية خلال تلك العقود السوداء من حكم طاغية العصر صدام حسين وحزبه الفاشي، والذي أدى على انهيار البنية الاجتماعية في العراق جراء الحروب الإجرامية الداخلية منها والخارجية التي زج النظام بها العراق، وجراء الحصار الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة على شعبنا خلال 13 عشر عاماً عجافا، قد غيَّر كل القيم والسلوكيات والعادات النبيلة في المجتمع العراقي من عفة ونزاهة وصدق ومحبة الآخرين والتعاون الخيّر بين المواطنين، وحل محلها قيم وعادات وسلوكيات هي على النقيض منها،فقد بات على  العراقي أن يشبع بطون عائلته في ظل تلك الظروف بكل الوسائل والسبل، وكل الطرق المشروعة وغير المشروعة. ويذكرنا الكاتب الكبير [ تليستوي ] في وصفه الدقيق لنتائج الحروب، وما تسببه من انهيار خطير للبنية الاجتماعية حيث يقول :       [ إن سنة واحدة من الحروب تفسد المجتمع أكثر مما تفسده ملايين الجرائم لعشرات السنين ] فكيف هو الحال بالشعب العراقي الذي زجه
حكامه المجرمون بالحروب لثلاثة عقود ونصف ؟ (3)
ومن هذا يتبين لنا أن هذه السلوكيات الإجرامية العنيفة التي تعم العراق اليوم قد جعلت الشعب العراقي غير مؤهل للديمقراطية والانتخابات وتشريع الدستور الدائم، إن الوضع الحالي يتطلب تشكيل حكومة إنقاذ وطني من عناصر تنكوقراط وطنية نظيفة الأيدي لا تنتمي للأحزاب الطائفية الشيعية منها والسنية التي تمثل وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن أن تخدم العراق، ولا تحقق مستقبلاً مشرقاً كما يتمنى العراقيون، بل على العكس من ذلك تقود العراق نحو مستقبل مظلم قاتم.
 ولا شك أن في العراق عناصر كثيرة تحمل هذه المواصفات، وتستطيع قيادة العراق في فترة انتقالية لمدة محدودة يجري خلالها العمل على إعادة الأمن والسلام في البلاد، وحل كافة الميليشيات دون استثناء والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بأمن المواطنين، وإعادة اللحمة بين أطياف الشعب العراقي كافة على أساس من المساواة في الحقوق والواجبات، وعودة المهجرين إلى مناطق سكناهم، وتقديم الحماية اللازمة لهم، ومعالجة مشكلة البطالة التي تمثل المرتع الخصب لتخريج الإرهابيين القتلة، وإعادة بناء كافة المنشئات الخدمية المدمرة من ماء الشرب والكهرباء والوقود، والصرف الصحي، الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتكليف رجال قضاء مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة لإعداد دستور علماني جديد بعيداً عن الطائفية وشرورها، ويتضمن قانوناً جديداً للأحزاب يحرم تأليف الأحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، ويحافظ على تماسك النسيج الوطني للشعب العراقي ، استعداداً لإجراء انتخابات برلمانية جديدة بعد انتهاء فترة الانتقال .
 أما الاستمرار على هذه الحال فلن توصل العراق إلا إلى الحرب الأهلية التي ستأتي على الأخضر واليابس، وتحيل البلاد إلى خراب، وتزهق أرواح مئات الألوف أن لم نقل الملايين من المواطنين الأبرياء، وتهجير ملايين أخرى إلى بلدان اللجوء ربما تكون أشد وطأة من الهجرة التي جرت إبان حكم طاغية العصر صدام حسين، وتفريغ البلاد من كفاءاته ومثقفيه، وعلى الشعب العراقي أن يأخذ في حسبانه ما آلت إليه الحرب الأهلية في لبنان التي اشتعلت عام 1975، واستمرت 15 عاماً قاسية، وخربت المدن اللبنانية، وحصدت أرواح مئات الألوف من المواطنين اللبنانيين، وهجرت مئات الألوف الأخرى، ودمرت اقتصاد البلاد، وأغرقته بالديون، ولا شك في أن ما حدث في لبنان سيمثل نزهة لما يمكن أن يحدث في العراق إذا انتشر لهيب الحرب الأهلية، وتدخلت الدول الإقليمية، وفي مقدمتها إيران وسوريا والسعودية وبقية دول الجوار في تسعير
نيرانها.
إن تجارب أنظمة الحكم القائمة على أساس ديني أو طائفي أو عرقي لم تستطع أن تقدم لنا أي أنجاز يستهدف خدمة شعوبها، وتأمين حقوقها الإنسانية وحريتها، وتحقيق الحياة التي تليق بها، بل على العكس من ذلك جلبت لشعوبها العبودية والتخلف، وسلب المواطنين لحقوقهم الإنسانية، والتدخل الفض في أعماق شؤونهم الشخصية، مما شكل اعتداءً صارخاً على حقوق وحريات المواطنين التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948.
ولنا من نموذج الحكم القائم في إيران والسودان والسعودية ونيجريا، وقبلهم نظام طالبان في أفغانستان خير دليل على الانتهاك الفض لحقوق مواطني هذه البلدان، ومعانات شعوبهم القاسية، حيث تتحكم هذه الأنظمة بكل صغيرة وكبيرة في حياة للمواطنين، تتحكم في مأكلهم وملبسهم وهواياتهم وأفكارهم، ناهيك عن حرمانهم حق المشاركة الحقيقية في الحكم من خلال الانتخابات البرلمانية والدستور، وتتحمل المرآة التي تمثل نصف المجتمع الظلم الأكبر من طغيان حكامهم الذين يعتبرون المرأة عورة، ويغتصبون كامل حقوقها الإنسانية، ويفرضون عليها الحجاب والانكفاء، وخدمة الرجل في البيت ومتعته، وإنجاب الأطفال. وتعاني الأقليات الدينية الأخرى في المجتمعات الإسلامية من تدخل الأنظمة الإسلامية الشمولية في أسلوب حياتهم الخاصة وتقاليدهم الدينية،  متجاهلين كون هذه الأقليات تدين بدين آخر لا يفرض عليهم ما يفرضه الدين الإسلامي مما يشكل انتهاكاً خطيراً لحقوقهم وحرياتهم.
ورغم أننا نعيش في مقتبل القرن الحادي والعشرين، وما حدث من تطور وتغيير هائل في كافة مجالات الحياة للمجتمع الإنساني خلال القرن الماضي فإن الأنظمة الدينية الشمولية ما تزال ترفض التطور والتغيير على الرغم من الضغوط التي تمارسها عليهم شعوبهم من جهة، والمجتمع الدولي من جهة أخرى، وتصر على الجمود والتخلف في كافة مجالات الحياة بحجة قدسية الدين وما يفرضه على المسلم من شروط وقيود عفا عليها الزمن، ولا تتفق مع التطور الحاصل في المجتمع البشري.
 إن هذه التجارب المحزنة المستقاة من تلك الأنظمة تثير القلق والريبة لدى المواطنين العراقيين من نوايا الأحزاب الدينية العراقية بشقيها الشيعي والسني، ومن محاولة فرض أجندتها المتخلفة عن روح العصر على المجتمع العراقي المتكون من خليط متنوع من الأثنيات والأديان والطوائف، والتي من المستحيل تقبلها، والرضوخ لها.

 إن ما يشهده المجتمع العراقي اليوم من تمزق واحتراب بين الطائفتين الشيعية والسنية، والذي قاد الشعب نحو الحرب الأهلية هو  نتاج نشوء وتسلط الأحزاب الدينية، وزج الدين بالسياسة، وبالتالي أفسدت هذه الأحزاب الدين من خلال تسخيره لتحقيق أهداف سياسية غير مشروعة، وأفسدت السياسة بعد أن اتخذت من الدين وسيلة في العمل السياسي و واستخدمته وسيلة للصراع السياسي القائم في العراق اليوم.

إن الشعب العراقي الذي قاسى الويلات والمصائب من طغيان نظام صدام الدكتاتوري الشمولي يقف اليوم مرعوباً أمام ما يجري على الساحة العراقية من جرائم باسم الدين، وما يجري من صراع بين الأحزاب الدينية من جهة وبينها وبين والأحزاب العلمانية على السلطة، وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه فسوف يشكل ذلك كارثة كبرى لن يخرج منها العراق ويتعافى لأمد طويل، ولا شك أن الولايات المتحدة ستتحمل مسؤولية كاملة عما جرى ويجري في العراق من خراب ودمار.


436
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة ـ 26 / 30


حامد الحمداني                                                    7/7/2008

أولاً:الخطة الأمنية الجديدة ومستقبل حكومة المالكي
بعد أن انسحب وزراء جبهة التوافق، وجبهة الحوار، والقائمة العراقية والتيار الصدري، من حكومة السيد نوري المالكي التي عجزت عن تحقيق المصالحة الوطنية، باتت الحكومة مشلولة تماماً، وعاجزة عن اتخاذ القرارات الحاسمة في مختلف الشؤون السياسة والاقتصادية والأمنية، وخاصة فيما يتعلق بتعديل الدستور، ومعالجة موضوع المواد المختلف عليها، والتي تمثل المدخل الحقيقي لتحقيق المصالحة الوطنية، وصيانة وحدة العراق، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، وإعادة اللحمة إلى النسيج الاجتماعي العراقي، والانتقال نحو بناء البنية التحية المخربة، ومعالجة معضلة البطالة الواسعة، ومكافحة الفساد المستشري في الجهاز الإداري على نطاق واسع.   
مرت الأشهر العديدة و السيد رئيس الوزراء المالكي، و الناطق الرسمي باسمه يعلنان مرة بعد أخرى بقرب إملاء الشواغر في الوزارة تارة، أو بتشكيل وزارة تنكوقراط جديدة تارة أخرى، لكن الأيام والأسابيع والأشهر مضت دون أن نشهد الوزارة المعهودة، ومشاريع القوانين معطلة، وفي مقدمتها ما يخص المصالحة الوطنية أمام البرلمان المعطل هو الآخر حيث يسرح ويمرح معظم أعضاءه في بلدان أوربا وبعض البلدان العربية للترفيه عن أنفسهم بعد عناء العيش في سجن الواحة الخضراء!!.
وبات البرلمان العتيد والشعب العراقي على طرفي نقيض، والأحزاب الدينية قد سيّست الدين، واستخدمته لتحقيق أغراض سياسية تتمثل حصراً بالصراع من أجل السلطة والثروة، مدعومة من قبل مليشياتها المسلحة التي باتت تتحكم بمصير الشعب العراقي، والويل لمن يقف أمامها، فهي لا تتحدث مع المواطنين إلا بقوة السلاح كي تكتم به أنفاسهم، ومنعهم من  التعبير عن رفضهم واستيائهم مما يجري في البلاد من جرائم وحشية بشعة من قتل وتهجير وتشريد، وانتهاك لحرمة المنازل، وقمع الحريات العامة والشخصية، حتى بات المواطن على يقين أن الحكومة ليست هي التي تحكم هذا البلد بل المليشيات المنفلتة من عقالها دون وازع من أخلاق أو ضمير أو قانون.
ولم يعد نشاط هذه الميليشيات يقتصر على الصراع مع الشعب، بل لقد تعدتها لتدخل في الصراع الذي احتدم  بين الأحزاب التابعة لها، وهذا ما شهده الشعب في الديوانية والبصرة والعمارة والنجف والحلة وغيرها من المدن الأخرى حيث الصراع المحتدم بين ميليشيات المجلس الإسلامي الأعلى التابع لعبد العزيز الحكيم وجيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، والذي بلغ حد الصراع المسلح، واغتيال العديد من المحافظين ومدراء الشرطة وضباط عسكريين كبار تابعين لهما.
إن ما تدعيه حكومة المالكي حول التحسن الأمني المحدود في البلاد أمر لا يمكن الركون إليه، فهو في واقع الأمر تحسن هش حصل جراء زيادة القوات الأمريكية، حيث استقدمت إدارة الرئيس بوش 30 الف جندي ليرتفع عدد الجنود الأمريكيين إلى 170 الف جندي، هذا من جهة،  ومن جهة أخرى لجوء الإدارة الأمريكية إلى تكوين ما يسمى بقوات الصحوة من العشائر التي كانت مرتبطة بالنظام السابق فيما مضى، والتي كانت هي نفسها تحمل السلاح ضد قوات الاحتلال وقوات السلطة، وتمارس أعمال القتل والتفجير، وزرع العبوات الناسفة وعمليات اختطاف المواطنين، وقد تم ربطها بقيادة القوات الأمريكية بصورة مباشرة، وتستلم أجورها وسلاحها من قبل القوات الأمريكية. (1)
إن هذه القوات المشكلة والتي أطلق عليها بقوات الصحوة تمثل سلاحاً ذو حدين، فهي مرهونة بتواجد القوات الأمريكية في البلاد، والتي خلقتها لتعيد التوازن بين القوى الشيعية التي هيمنت على السلطة، والقوى السنية التي تم دحرها في الحرب الأخيرة التي انتهت بسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين، بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية خطر الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية المرتبطة بالعديد من الوشائج مع حكام طهران، وعليه فإن التحسن الأمني المحدود يبقى هشاً، ويبقى الوضع الأمني قابلاً للانفجار في أية لحظة، حيث  لا يمكن الركون إلى ولاء هذه القوات، والتي يمكن أن تفجر الوضع الأمني متى شاءت.
إن الأمن الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون إجراء مصالحة حقيقية بين مكونات الشعب العراقي، مع استبعاد العناصر التي مارست دوراً في جرائم النظام السابق، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي لا شائبة فيه، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق على يد حكومة مبتورة الأطراف، ولا بد من تشكيل حكومة تنكوقراط بعيدة عن المحاصصة الطائفية والعرقية، تتولى  إعادة الأمن والسلام في البلاد، وتصفي كافة الميليشيات المسلحة دون استثناء.
إن استمرار وضع الحكومة على حاله، وحتى القيام بترقيع الحكومة لا يمكن أن يضمن دوام الأمن والسلام في البلاد، ويشكل تهديداً مستمراً لتدهور امني جديد ما دامت عوامل الانقسام والصراع مستمرة لتخفو تارة وتندلع نيرانه تارة أخرى، ولابد من معالجة جذرية لأسباب الانقسام والصراع، ولا سبيل لذلك غير طريق المصالحة الوطنية القائمة على أسس من العدالة، فلا عفو عن المجرمين، ولا تحميل الأبرياء وزر جرائم لم يرتكبوها، وإن عملية اجتثاث الفكر البعثي الفاشي، وليس اجتثاث البعثيين، هو السبيل لقيام النظام الديمقراطي المنشود.

ثانيا: دور الصراع الإقليمي في تدهور الوضع الأمني في البلاد

تعرض العراق منذ اندحار القوات الصدامية في حرب الخليج الثانية أثر غزوه الكويت لشتى التدخلات الدولية والإقليمية، وبشكل خاص من قبل الولايات المتحدة ودول الجوار تركيا وإيران وسوريا، ولاسيما بعد تحجيم نظام صدام، وفرض الحصار الاقتصادي على العراق، وتحول العراق إلى ساحة للصراع. فلم تكد حرب الخليج الثانية تضع أوزارها حتى اندلعت انتفاضة الأول من آذار  عام 1991 التي جاءت احتجاجاً على جريمة النظام الذي ورط العراق في حرب معروفة نتائجها سلفاً، واحتجاجاً على طغيان الدكتاتور صدام حسين وحزبه، وقد انتشر لهيب الانتفاضة في مختلف المدن العراقية بسرعة خاطفة أذهلت النظام وأرعبته، حيث تمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة على 14 من مجموع 18 محافظة.
وسرعان ما ألقت إيران بثقلها في الأحداث تلك في محاولة منها لتجيير الانتفاضة لحسابها، مرسلة بأعداد من حرس الثورة للعراق، وتم رفع الشعارات الطائفية، وصور القادة الإيرانيين، وعلى رأسهم صور الأمام الخميني، مما جعل الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب، الذي كان قد دعا الشعب العراقي للثورة على نظام صدام حسين ، إلى تغيير موقفه بصورة جذرية خوفاً من أن يقع العراق لقمة سائغة في حلق النظام الإيراني، وهكذا تخلت الولايات المتحدة عن انتفاضة الشعب العراقي،  وسمحت لصدام حسين باستخدام طائراته الحربية وسمتياته وصواريخه ومختلف أسلحته الفتاكة ضد الانتفاضة، وتركت الشعب العراقي تحت رحمة الجلادين الذين أجهضوا الانتفاضة، وأغرقوا العراق بالدماء.

وعلى الجانب التركي أصبحت منطقة كردستان ساحة لنشاط قواتها تدخل متى شاءت بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني،  بعد أن سمح لها نظام صدام بدخول الأراضي العراقية بعمق 40 كم، وتعيث في المنطقة خراباً ودماراً، ولا زالت القوات التركية تحتفظ بمنطقة بامرني ومطارها حتى اليوم، وما زالت الحكومة التركية تهدد باجتياح كردستان بحجة ملاحقة البيشمركة الخاصة بحزب العمال الكردستاني.
 واستمرت لعبة القط والفار بين الولايات المتحدة والنظام الصدامي حول أسلحة الدمار الشامل التي تعهد صدام بتدميرها عندما تم وقف إطلاق النار في حرب الخليج الثانية في خيمة صفوان، مما عرّض العراق للقصف الجوي من قبل الولايات المتحدة عام 1998، وتدمير العديد من المنشآت الصناعية العراقية والبنية التحتية ومصانع الأسلحة وغيرها.
لكن صدام حسين استمر في تحديه للولايات المتحدة، وهو أضعف من أن يقف أمام جبروتها حتى وصلت الأمور إلى ذروتها من التأزم، واتخذ الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن قراره بإسقاط نظام صدام، وكان معروفاً أن الولايات المتحدة لا تبغي من خلال الحرب سوى تأمين مصالحها الاقتصادية في المنطقة، وفي المقدمة منها ضمان تدفق النفط  من منطقة الخليج، والهيمنة على العراق الذي يمتلك أكبر خزين نفطي في العالم حيث يقدر احتاطي النفط أكثر من 300 مليار برميل.

وجاءت الحرب في التاسع عشر من آذار 2003 والشعب العراقي في محنة ما بعدها محنة، فهو وإن كان كل أمله أن يتخلص من أعتا نظام دكتاتوري دموي أذاقه من الويلات والمصائب ما يعجزعن وصفها القلم، إلا انه كان يدرك ما تعنيه الحرب من ويلات وخراب ودمار وضحايا، وكان يدرك أيضاً أن الحرب ستعني الاحتلال بكل ما فيه من إذلال وعبودية واستغلال، ويدرك أيضاً أن خروج المحتلين من الوطن ليس كدخولهم البلاد، وأنه سيعاني الكثير من المحتلين، ويخوض الكفاح من أجل تحرره مبتدئاً كفاحه السلمي من أجل استعادة حريته واستقلاله واستعداه لتصعيد أساليب الكفاح بما تقتضيه الظروف والأوضاع.

لكن الظروف البالغة الصعوبة والخطورة التي استجدت بعد إسقاط نظام صدام ، والتي بلا أدنى شك تتحمل مسؤوليتها الإدارة الأمريكية سواء كانت قد جرت بإرادة منها، وهذا ما أرجحه، أم أنها كانت نتيجة أخطاء غير مقصودة قد جعلت مسألة خروج الاحتلال في هذه الظروف الخطيرة بالذات سوف لا يعني إلا اتساع الحرب الأهلية التي ستنتهي إلى إحدى نتيجتين كلاهما يشكلان كارثة عظمى ليس على العراق فحسب ، بل على منطقة الشرق الأوسط بوجه خاص، والعالم بوجه عام،  فالحكومة الحالية سوف لن تصمد أمام القوتين المتصارعين المتمثلتين بالميليشيات الطائفية الشيعية المدعومة من قبل النظام الإيراني من جهة، والبعثيون المتحالفون مع القاعدة من جهة أخرى، وإذا ما وقع العراق بأيدي أي جهة منهما فالكارثة ستحل بالمنطقة لا محالة، وهكذا أصبح مصير الشعب العراقي اليوم رهينة الاحتلال الأمريكي حيث ينطبق عليه قول الشاعر المتنبي:
  ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى **** عـدواً له ما من صداقته بُـد
إن إيران اليوم على الرغم من الوجود العسكري الأمريكي هي اللاعب الأكبر على الساحة العراقية، وهي تدعم الميليشيات الشيعي، وفي مقدمتها ما يسمى بجيش المهدي الذي يقوده مقتدى الصدر بالمال والسلاح والتدريب، ويخوض القتال ضد القوات الأمريكية والعراقية في مدينة الصدر، وقبلها في مدينة البصرة والعديد من المدن ذات الأغلبية الشيعية في الجنوب والفرات الأوسط، ويقف حكام طهران على المكشوف بجانب عصابات جيش المهدي، ولولا القوات الأمريكية والبريطانية لانهزمت قوات الحكومة أمام جيش المهدي في البصرة ومدينة الصدر، فقد كادت قوات جيش المهدي أن تفتك برئيس الوزراء السيد نوري المالكي وكافة مرافقيه في البصرة لولا تدخل القوات الأمريكية وسلاحها الجوي لفك الحصار عنهم . 
أما البعثيون انصار النظام الصدامي، وأجهزة النظام القمعية فرغم عظم
الجرائم التي اقترفوها خلال 35 عاماً، فإن المحتلين ركزوا جهودهم للقبض على 55 شخصاً من كبار المسؤولين فقط، تاركين تلك العصابة المجرمة دون ملاحقة وحساب، فبعد أن اطمأنت من جانب المحتلين، بعد أن توارت عن الأنظار في الأيام الأولى لسقوط النظام، بدأ البعثيون يجمعون وينظمون صفوفهم من جديد استعداً للقيام بالعمليات الإجرامية في مختلف المدن العراقية، وساعدهم في ذلك نشر نظام صدام ملايين قطع السلاح في مختلف مناطق العراق وطرقها وشوارعها، وتوزيع كميات هائلة من الأسلحة على أعضاء حزب البعث والأجهزة الأمنية قبل الحرب، ونهب النظام صدام كل ما استطاع من ثروات البلاد والأموال المودعة في البنك المركزي والبنوك الأخرى لكي تستخدم فيما يسمونه بمقاومة الاحتلال، واجتاحت عصاباتهم مدن العراق لينفذوا جرائمهم البشعة بحق الشعب من تفجير السيارات المفخخة، والقنابل البشرية لطالبي الجنة من القادمين من وراء الحدود لتوقع آلاف الضحايا من أبناء الشعب الأبرياء وتترك الشعب يعيش في حالة من الرعب والقلق بعد أن افتقد الأمان، ولم يعد الفرد العراقي يأتمن على حياته حتى داخل بيته.
وانتهز حكام إيران وسوريا الظروف الصعبة والحرجة التي يمر بها العراق وهم الخائفون على عروشهم المهزوزة لينقلوا الصراع مع الولايات المتحدة إلى الساحة العراقية.
 لقد أدى الفلتان في السيطرة العراقية على الحدود إلى تدفق المغرر بهم، والمغسولة أدمغتهم من الجهلة عبر الحدود السورية والإيرانية لينفذوا جرائمهم بحق الشعب كي يصلوا إلى الجنة التي وعدهم أسيادهم بها!!، وأصبح العراق مسرحاً مرعباً لجرائمهم البشعة في بغداد وكربلاء والحلة وأربيل والبصرة والموصل والفلوجة والرمادي والقائم، وغيرها من المدن العراقية.
 واستغل حكام إيران أحزاب القوى الطائفية، وفي مقدمتها مقتدى الصدر وجيشه المسمى بـ [جيش المهدي]، وأمدته بالمال والسلاح والمتطوعين وشجعته على التمرد على مجلس الحكم، والسيطرة على النجف وكربلاء والكوفة ومدينة الثورة، وإعلانه تشكيل  حكومة الظل ، وفي ذهن حكام
طهران أن  بإمكان  مقتدى أن يسطوا على الحكم ، ويقيم  دولة  إسلامية
تابعة للنظام الإيراني.
كما وقفت سوريا الموقف ذاته حيث فسحت المجال واسعاً للانتحاريين المرسلين من قبل القوى الإسلامية من مختلف الدول العربية والإسلامية لينفذوا جرائمهم البشعة في مختلف مدن البلاد.
و فتحت الحكومة السورية مجالا رحبا أمام العناصر القيادية لحزب البعث المسقط من السلطة لكي يمارسوا قيادة وتمويل عصاباتهم التي تمارس الأعمال الإجرامية في سائر مدن العراق.
وسعى حكام سوريا إلى استقطاب أعضاء حزب البعث العراقي إلى حزبهم، ودفعهم للقيام بما يسمونه مقاومة المحتلين، في وقت تحتل فيه إسرائيل هضبة الجولان منذ عام 1967 وحتى يومنا هذا دون أن تطلق طلقة واحدة من جانب سوريا ضد المحتلين الإسرائيليين.



437
في الذكرى الخمسين لثورة الرابع عشر من تموز المجيدة

دروس وعبر من ثورة 14 تموز المجيدة
بقلم : حامد الحمداني                                                              5 تموز 2008
لم تكن ثورة الرابع عشر من تموز 1958 انقلاباً عسكرياً كما يحلو لبعض الكتاب ، بل كانت في واقع الأمر ثورة شعبية قادها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم بدعم وإسناد حاسمين من قبل جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 1957 وضمت الحزب الشيوعي ، والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث القوميين ، واللذين رفضا انضمام الحزب الديمقراطي الكردستاني مما اضطر الحزب الشيوعي إلى عقد اتفاق ثنائي معه. فكان الدعم الشعبي الهادر بقيادة جبهة الاتحاد الوطني العامل الحاسم في نجاح الثورة.
التآمر على الثورة:
لكن الحزبين القوميين بقيادة عبد السلام عارف ، الشخص الثاني في قيادة الثورة ما لبثا في التآمر على الثورة وهي في أيامها الأولى ومحاولة اغتصاب السلطة بدعوى إقامة الوحدة الفورية مع العربية المتحدة آنذاك بقيادة عبد الناصر، والتي أثبت التاريخ كذبها وتنكر    أصحابها للوحدة المزعومة بعد انقلابهم المشؤوم في 8 شباط 1963

ولقد وقفت الأحزاب الديمقراطية المتمثلة بالحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي ،والحزب الديمقراطي الكردستاني بصلابة دفاعاً عن الثورة ومنجزاتها، وكان موقفها آنذاك أمر طبيعي حيث كانت تناضل من أجل عراق ديمقراطي متحرر من أية هيمنة أجنبية ، وضمان الحقوق والحريات العامة ، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي والجمعيات ، وحرية الصحافة ، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة ، وتشريع دستور دائم للبلاد يضمن كافة حقوق وحريات الشعب بكل فئاته وقومياته ،وتولي حكومة دستورية حكم البلاد تكون مسؤولة أمام البرلمان .
لكن الأحداث التي جرت في البلاد والثورة ما تزال في أيامها الأولي عطلت المسيرة الديمقراطية، وأدخلت البلاد في دوامة العنف والعنف المضاد، وأدى ذلك بالتالي إلى ارتكاب أخطاء جسيمة من جانب السلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الملتفة حول الثورة، وتحولت المواقف إلى الاختلاف والصراع الذي اضرّ بكل تأكيد بالغ الضرر بمستقبل العراق والحركة الديمقراطية، وأدى في نهاية الأمر إلى اغتيال الثورة بعد أن استطاعت قوى الردة البعثية والقومية، وأذناب الاستعمار من استغلال التدهور الحاصل في العلاقات بين قيادة الثورة والأحزاب الديمقراطية والتي أدت إلى عزل قيادة الثورة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم ، واستطاعت اغتيال الثورة في انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي، وإغراق القوى الديمقراطية بالدماء في حملة تصفية لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل .
فهل كان هناك مبرراً لوقوع ذلك الصراع بين حلفاء الأمس،  ومن يتحمل مسؤوليته؟
وما هي الأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف ؟
في حقيقة الأمر أن جميع الأطراف كانت قد ارتكبت الأخطاء التي ما كان ينبغي أن تقع فيها ، فالأحزاب الديمقراطية الثلاث كلها تتفق على كون الزعيم عبد الكريم قاسم كان شخصية وطنية صادقة لا شائبة فيها، حارب الاستعمار، وحقق الحرية والاستقلال الحقيقي لوطنه .
مكاسب الثورة:
لقد قاد الزعيم الثورة بدعم وإسناد من هذه القوى ، وحقق إنجازات كبيرة في الحقل الوطني وكان في مقدمة تلك الإنجازات :
1 ـ الخروج من حلف بغداد ،وتحرير العراق من الهيمنة الإمبريالية.
2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني وتحرير العملة العراقية .
3ـ إصدار قانون الإصلاح الزراعي وتحرير الفلاحين الذين يشكلون 70% من نفوس العراق وإنقاذهم من طغيان الإقطاع وكان القانون يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى.
4 ـ إصدار القانون رقم 80 الذي تم بموجبه سحب 99،5 % من المناطق النفطية من شركات النفط ، وتأسيس شركة النفط الوطنية من اجل استثمار الثروة النفطية وطنيا.
5 ـ السماح للأحزاب السياسية بممارسة نشاطها بحرية في بادئ الأم، وإطلاق حرية الصحافة ، وحرية تشكيل المنظمات والنقابات منذ انبثاق الثورة على الرغم من عدم وجود قانون ينظم مسألة تأليف الأحزاب السياسية .
ولم يكن عبد الكريم قاسم شوفينياً، بل كان على علاقة مع العديد من الشخصيات الديمقراطية المعروفة وعلى صلة بالأحزاب الوطنية ذات الخط الديمقراطي ، وقد أبلغ عدد من أولئك القادة الوطنيين بموعد الثورة ، وضم العديد منهم في حكومته.
فالطرفان المتمثلان بالسلطة بقيادة عبد الكريم قاسم والأحزاب الديمقراطية الثلاث الوارد ذكرها يمثلان قوى وطنية، وأن أي تناقض بين هذه القوى يعتبر تناقض ثانوي، في حين أن القوى القومية التي تخلت عن جبهة الإتحاد الوطني، وانسحبت من الحكومة، وتآمرت على ثورة تموز وقيادتها مستخدمة أسلوب العنف لاغتصاب السلطة كانت قد فقدت صفتها الوطنية، وبذلك أصبح التناقض بينها وبين السلطة والأحزاب الديمقراطية الثلاث يمثل تناقضاً أساسياً .
كان على السلطة المتمثلة بقيادة الزعيم عبد الكريم  قاسم ، والأحزاب الديمقراطية الثلاث أن تدرك المخاطر الحقيقية التي تمثلها تلك القوى المتآمرة على الثورة، والقوى التي تقف وراءها وتدعمها، فالجميع كانوا في حقيقة الأمر في سفينة واحدة ، والمتمثلة بالثورة ، وأن غرقها سيعني بلا شك غرق الجميع، وهذا هو الذي حدث بالفعل بعد نجاح انقلاب الثامن
من شباط الفاشي عام 1963 ، حيث لم تسلم أي من هذه القوى من بطش السلطة الانقلابية.
فلماذا حدث كل هذا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ذلك ؟
وإنصافاً للحقيقة التي عايشت أحداثها بكل تفاصيلها بحكم ارتباطي بالحزب الشيوعي آنذاك أستطيع القول أن الجميع وبلا استثناء يتحملون مسؤولية ما حدث، واليوم وبعد مضي 45 عاماً على حلول تلك الكارثة التي حلت بالعراق وشعبه نتيجة ذلك الانقلاب الدموي الفاشي فإن استذكار مسببات ذلك الحدث أمرٌ هام جداً يستحق الدراسة والتمحيص للخروج بالدروس البليغة للحركة الوطنية لكي لا تقع بمثل تلك الأخطاء من جديد .
لقد أخطأت الأحزاب الوطنية في طريقة التعامل مع الزعيم عبد الكريم قاسم، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي، مما أدى إلى فقدان الثقة بين الطرفين.
 وفي الوقت نفسه أخطأ الزعيم عبد الكريم قاسم في تعامله مع هذه القوى الوطنية ظناً منه أن الأخطار تأتيه من اليسار وليس من جانب القوى اليمينية التي مارست ونفذت الحركات التآمرية ضد الثورة وقيادتها فعلياً .
 لكن الذي لا يجب إغفاله أن الزعيم عبد الكريم كان فرداً أولاً، وكان قريب عهد في السياسة ثانياً ، فلم يكن مركزه العسكري يمكنه من مزاولة أي نشاط سياسي، وعليه فإن احتمالات وقوعه بالخطأ كبيرة شئنا ذلك أم أبنينا .
 لكن الأحزاب السياسية التي تقودها لجان مركزية، ومكاتب سياسية كانت قد تمرست في النشاط السياسي، وهي تجتمع لدراسة وتمحيص القرارات السياسية قبل اتخاذها ، فإن وقوعها في الخطأ ينبغي أن يكون في أضيق الحدود إن وقع ، مع تحمل المسؤولية عن ذلك إذ من المفروض إن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ، ولاسيما حينما يتعلق الخطأ بمستقبل ومصير شعب بأكمله !!.
مسؤولية الزعيم الراحل :
ولكون الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم كان في قمة السلطة فقد كان بإمكانه أن يفعل الكثير من أجل صيانة الثورة، والحفاظ على لحمة الصف الوطني، واليقظة والحذر من غدر قوى الردة، لكنه لم يدرك خطورة الموقف ووقع في تلك الأخطاء الخطيرة والتي يمكن أن نلخصها بالتالي :
1 ـ  لقد اخطأ الزعيم عبد الكريم في سياسة عفا الله عما سلف ، وسياسة فوق الميول وفوق الاتجاهات، وعفا عن الذين تآمروا عليه وعلى الثورة جميعاً، وأطلق سراحهم في محاولة منه لخلق حالة من التوازن بين القوى الوطنية المساندة للثورة، والقوى الساعية لاغتيالها ، وكان ذلك الموقف خطأً قاتلاً يتحمل هو مسؤوليته الكاملة.

2 ـ لقد اعتقد عبد الكريم قاسم أن الخطر الحقيقي يأتيه من قوى اليسار[القوى الديمقراطية]  وبوجه خاص من [الحزب الشيوعي] الذي وقع في أخطاء كبيرة ما كان له أن يقع فيها بحيث تحولت الشكوك لدى الزعيم إلى القناعة أن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى من انتزاع السلطة، ومما زاد في قناعة الزعيم هذا الموقف الذي وقفته القيادة اليمينية للحزب الوطني الديمقراطي بغياب زعيم الحزب المرحوم كامل الجادرجي والتي أدخلت في روعه الخطورة التي بات يمثلها الحزب الشيوعي على سلطته، فقرر تقليم أظافر الحزب وأضعاف نفوذه الطاغي في الشارع العراقي آنذاك، وكانت باكورة إجراءاته سحب السلاح من المقاومة الشعبية، ومن ثم إلغائها بدلاً من إصلاحها، ولو كانت المقاومة باقية يوم الثامن من شباط لما تسنى للانقلابيين النجاح في انقلابهم .
  لقد كان رد فعل الزعيم يمثل الرد على الخطأ بخطأ أعظم وأفدح، حيث افتقد قوى واسعة ومؤثرة أكبر التأثير في الساحة العراقية، وعزل نفسه عن الشعب، مما سهل للانقلابيين تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة في الثامن من شباط 1963 .

3 ـ لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القضية الكردية وقيادتها المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني، بلجوئه إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع تلك القيادة ، كما أن القيادة الكردية قد أخطأت في إيصال الخلافات مع عبد الكريم قاسم إلى حمل السلاح و  الصراع المسلح ، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط 1963، على الرغم من أنه لم يكن يحمل أي أفكار شوفينية تجاه القومية الكردية، وأن استقباله للسيد البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي، وتكريمهم، والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت، يؤكد هذا الموقف لديه ، في حين أن القوى القومية التي نفذت انقلاب 8 شباط كانت غارقة في شوفينيتها وكراهيتها للشعب الكردي بحيث لم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية سوى أقل من أربعة أشهر، على الرغم من تحالفها مع الانقلابيين قبل وقوع الانقلاب، منزلة الخراب والدمار بكردستان بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية .

4 ـ لقد اخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لمسألة الصراع مع القوى المضادة للثورة ،الذي أججته قرارات الثورة، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي، الذي أحدث ثورة اجتماعية حقيقية، سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية. ولذلك فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد ، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين والقوى القومية الكردية. لقد استغلت الرجعية تلك الظروف من أجل تنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب .

الصراع مع شركات النفط:

5 ـ لقد أخطأ عبد الكريم قاسم في تقييمه لخطورة  الصراع مع شركات النفط ، من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961 ، والذي أنتزع بموجبه 99,5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرة شركات النفط الاحتكارية، والعمل على استغلالها وطنياً .
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط ، وتبادل الطرفان التهديدات ، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي ، وكان الوفد يعني ما يقول ، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها ، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة  والحذر من أحابيل  ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها ، حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء.
لقد كان على عبد الكريم قاسم إن يدخل في صراعه مع شركات النفط محصناً بجبهة شعبية قوية قوامها هذه الأحزاب الوطنية والديمقراطية تقف إلى جانبه وتدعم موقفه لا أن يدخل في صراع معها غير مبرر إطلاقاً فتستغل الإمبريالية موقفه الضعيف لتنفذ مؤامرتها الدنيئة بنجاح في الثامن من شباط 63 .

6 ـ إطالة فترة الانتقال وإجراء الانتخابات وتشريع الدستور الدائم :
كانت إطالة الفترة الانتقالية والتأخر في إجراء الانتخابات العامة وتشريع دستور دائم للبلاد  والتي استغرقت 4 سنوات ، أحد العوامل الرئيسية في نشوب الخلافات بين القوى الوطنية والسلطة المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتحول الخلافات نحو الصراع بين الأطراف الوطنية والسلطة.
لم يكن هناك مبرر لإطالة فترة الانتقال طيلة هذه المدة ، وكان بالإمكان اختزالها لمدة أقصاها سنتين، والتوجه نحو إجراء انتخاب مجلس تأسيسي يأخذ على عاتقه تشريع دستور دائم للبلاد، وعرضه على الشعب في استفتاء عام، ليتم بعد ذلك قيام حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب .
لكن الزعيم عبد الكريم شاء أن يختار لنفسه أن يكون [فوق الميول وفوق الاتجاهات ] !!، و[سياسة عفا الله عما سلف ] وأطلق سراح المتآمرين الذين أطلقوا عليه الرصاص في رأس القرية والمحكومين بالإعدام ، وفي الوقت نفسه أصدر أمره بتنفيذ حكم الإعدام بحق الشهيد الشيوعي [ منذر أبو العيس ] ، وحاول أن يخلق نوعاً من التوازن بين حماة الثورة والمدافعين عنها، والحريصين على صيانتها،  وبين الذين تآمروا عليها وحاولوا مراراً وتكراراً إسقاطها والوثوب على الحكم  وهذه هي إحدى أخطائه الجسيمة التي أوصلته إلى تلك النهاية المحزنة، وأوصلت الشعب العراقي إلى الكارثة.
تدهور العلاقة بين السلطة والقيادة الكردية:   
كانت ثالثة الأثافي في تدهور الأوضاع السياسية في البلاد ، وانقسام القوى الوطنية ، حدوث الخلافات العميقة بين قيادة عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مصطفى البارزاني ، ولجوء الطرفين إلى الصراع المسلح ، واستخدام السلطة للجيش في حسم ذلك الصراع . بدأت العلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني  والسلطة بالتدهور عام 1961 ، عندما هاجمت صحيفة الحزب [ خه بات ] أسلوب السلطة في إدارة شؤون البلاد ، وطالبت بإلغاء الأحكام العرفية، وإنهاء فترة الانتقال، وإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، وسن دستور دائم للبلاد، وإطلاق سراح السجناء السياسيين الأكراد واحترام الحياة الحزبية ،وحرية الصحافة.
كان الرد من قِبل عبد الكريم قاسم أن أمر بغلق مقر الحزب في بغداد، وغلق صحيفة الحزب ومطاردة قادته، واعتقال البعض منهم في آذار 1961، واستمرت العلاقة بين الطرفين بالتدهور حتى بلغت مداها في شهر تموز من ذلك العام .
وفي 20 تموز 961 ، قدم المكتب السياسي للحزب مذكرة إلى الزعيم عبد الكريم قاسم تضمنت العديد المطالب .
لكن عبد الكريم قاسم تجاهل المذكرة، واستمر في حشد قواته العسكرية في المناطق المحاذية لإيران، حيث كانت قد اندلعت حركة تمرد بقيادة اثنان من كبار الإقطاعيين هما كل من [رشيد لولان ] و[ عباس مامند] بدعم وإسناد من النظام الإيراني ، والسفارة الأمريكية في طهران، وقد أستهدف رشيد لولان، وعباس مامند إلغاء قانون الإصلاح الزراعي، فيما استهدفت الإمبريالية الأمريكية وعميلها شاه إيران  زعزعة النظام الجديد في العراق وإسقاطه .
وهكذا اتخذ الحزب الديمقراطي الكردستاني من حشود القوات العراقية لقمع تمرد عباس مامند ورشيد لولان ورفاقهما ذريعة لحمل السلاح ومقاتلة القوات العراقية ، فقد استهل صراعه مع السلطة بإعلان الإضراب العام في منطقة كردستان  في 6 أيلول 961 ، حيث توقفت كافة الأعمال، و أصاب المنطقة شلل تام، وقام المسلحون البيشمركة  باحتلال مناطق واسعة من كردستان حاملين السلاح بوجه السلطة .
كان على القيادة الكردية أن تقدر دوافع تلك الحركة، والقائمين بها، والمحرضين عليها، ومموليها، وعدم تغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي مع الإمبريالية وأذنابها سواء كانوا عرباً كما هي الحال مع حزب البعث وحلفائه القوميين ، أو كانوا من الكرد، كما هو الحال مع تمرد الاقطاعيين رشيد لولان وعباس مامند.
كما أن عبد الكريم قاسم فضل هو الآخر اللجوء إلى استخدام القوة، ورفض  الحوار وحل المشاكل مع القيادة الكردية، وإيجاد الحلول الصائبة للقضية الكردية حسب ما نصت عليه المادة الثالثة من الدستور المؤقت.
 ظن الزعيم عبد الكريم قاسم أن اللجوء إلى السلاح سينهي الأزمة خلال أيام، ويصفي كل معارضة لسياسته في البلاد، لكن حساباته كانت خاطئة، وبعيدة جداً عن واقع الحال، وكانت تلك الحرب في كردستان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اغتيال ثورة 14 تموز يوم الثامن من شباط 1963 .
لقد رد الزعيم عبد الكريم قاسم  بدفع المزيد من قطعات الجيش في 9 أيلول 961، لضرب الحركة الكردية مستخدمأً كافة الأسلحة، والطائرات ، وهكذا امتدت المعارك وتوسعت لتشمل كافة أرجاء كردستان .
ولم تجدِ نفعاً كل النداءات التي وجهها الحزب الشيوعي لكلا الطرفين لإيقاف القتال، واللجوء إلى الحوار، وإيجاد حل سلمي للقضية الكردية، حيث شن الحزب الشيوعي حملة واسعة شملت كافة أنحاء العراق تحت شعار [ السلم في كردستان ،والديمقراطية للعراق ]  وقد أثارت تلك الحملة غضب الزعيم عبد الكريم قاسم على الحزب، وتعرض المئات من رفاق الحزب للاعتقال والتعذيب وحتى السجن وكنت أحدهم ، لكن تلك الجهود باءت بالفشل ، ولم تلقَ الاستجابة من الطرفين، واستمرت الحرب بينهما حتى وقوع انقلاب 8 شباط 1963 .
ومن المؤسف أن يقع قادة الحركة الكردية في خطأ جسيم آخر، عندما وضعوا أيديهم بأيدي انقلابيي شباط 963 ضد السلطة الوطنية بقيادة عبد الكريم قاسم، ظناً منهم أن بالإمكان حصول الشعب الكردي على حقوقه القومية المشروعة على أيدي أولئك القوميين الفاشيين والمتعصبين . لقد كان موقفهم هذا أقل ما يقال عنه أنه ينم عن جهل بطبيعة حزب البعث، والقوى القومية المتعصبة المتحالفة معه، الذين لم يكّنوا يوماً المودة للشعب الكردي ، ورفضوا حتى إشراك الحزب الديمقراطي في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 .
 وهكذا فلم تمض ِسوى أربعة أشهر على انقلاب 8 شباط ، حتى بادر الانقلابيون في 10 حزيران 1963 إلى شن حملة عسكرية هوجاء على الشعب الكردي ، لم يشهد لها مثيلاً من قبل، منزلين فيه الويلات والمآسي و ألوف القتلى، وتهديم القرى، وتهجير الشعب الكردي .
لقد تمزقت الوحدة الوطنية ، وتحولت الجبهة الوطنية إلى الصراع المرير بين أطرافها ، ومع السلطة  جراء الأخطاء القاتلة لكافة الأحزاب السياسية والسلطة على حد سواء ، فقد كان لكل طرف حصة ونصيب في تلك الأخطاء التي أدت إلى التمزق  والصراع ، وضياع الثورة، وتصفية كل مكاسب الشعب، وإغراق البلاد بالدماء . ولاشك أن عبد الكريم قاسم يتحمل القسط الأكبر من مسؤولية تلك الأخطاء، لأنه كان على قمة السلطة، وكان بمقدوره أن يفعل الكثير من أجل إعادة اللحمة للصف الوطني، ومعالجة المشاكل، والتناقضات التي نشأت، والتي يمكن أن تنشأ مستقبلاً ، بروح من الود والتفاهم، والمصلحة العامة لشعبنا ووطننا، والتحلي بإنكار الذات  وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح .
كان بمقدوره أن يعمل على إنهاء فترة الانتقال  ويجري انتخاب المجلس التأسيسي، وسن الدستور الدائم للبلاد  وإرساء الحكم على أسس ديمقراطية صلبه، ولو فعل ذلك لتجنّب ، وجنّب الشعب العراقي كل تلك الويلات والمصائب والمصير المظلم الذي حلّ بالبلاد على أيدي انقلابيي 8 شباط 1963 ، وهو لو شاء أن يؤسس له حزباً ويخوض الانتخابات لفاز فيها بكل تأكيد .
إن عبد الكريم قاسم ، رغم كل أخطائه ، يبقى شامخاً كقائد وطني ، معادى للاستعمار ، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك ، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع ، وحرر المرأة ، وساواها بالرجل ، وحطم حلف بغداد ، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية ، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس ، أميناً على ثروات الشعب ، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته ، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير .
وها هم بعض الذين أساءوا إلى شخصه ، بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء قد بدأت تستيقظ ضمائرهم ، ويعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز ، بنوع من التجرد ، لتعيد له اعتباره ، وتقيّم تلك المرحلة من جديد .


438
في الذكرى الخامسة والأربعين
لانتفاضة الشيوعيين ضد نظام انقلابيي 8 شباط


حامد الحمداني                                             4 تموز 2008

بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963، وحملة التنكيل بالحزب الشيوعي، واستشهاد الكثير من قياداته  وكوادره ورفاقه ، وبعد امتصاص تلك الضربة الموجعة التي وجهها الانقلابيون له، بدأ الشيوعيون الناجون من الاعتقال تجميع صفوفهم وتنظيمها من جديد، وكان هناك عدد من قياديي وكوادر الحزب مازالوا طليقين، قسم منهم لم يكن مكشوفاً، وقسم آخر كان في الاختفاء. وأخذ يعمل في الخفاء، وكان من بين الناجين من قيادة الحزب الشهداء [محمد صالح العبلي] و[جمال الحيدري] و[عبد الجبار وهبي] .
 
بدأ أولئك القادة حملة نشيطة لإعادة بناء الحزب من جديد، والنضال ضد الانقلابيين، وكانت هناك مجموعة كبيرة من العناصر الثورية الجريئة في صفوف الحزب، مستعدة لكل التضحيات في سبيل القضية التي ناضلوا من أجلها.
كما كان من بين الكوادر المتقدمة في الحزب التي استطاعت النجاة من الاعتقال الشهيد[إبراهيم محمد علي] من مدينة مخمور، عضو اللجنة العمالية المركزية للحزب المتصلة مباشرة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والتي تمثل العمود الفقري لتنظيمات الحزب، حيث كانت تدير أكثر من 50 نقابة عمالية في كافة المشاريع الكبيرة والصغيرة في مختلف أنحاء العراق.
كان إبراهيم كادراً حزبيا بارزا عمل في المنظمات العمالية والفلاحية في كردستان العراق، ثم انتقل إلى بغداد واحترف العمل الحزبي تحت الاسم المستعار[ جهاد]، وعمل في الوقت نفسه ملاحظا في مطبعة الرابطة بالعيواضية العائدة للشخصية السياسية البارزة [ عبد الفتاح إبراهيم ]، وهي من كبريات المطابع في بغداد ، وقد استطاع إبراهيم بخلقه وإخلاصه في عمله من كسب محبة وثقة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم الذي صار يأتمنه في كل صغيرة وكبيرة.
 وفي الوقت نفسه حل محل الرفيق [مهدي أحمد الرضي]  بمسؤولية هيئة المشاريع الصغرى لتنظيم الحزب الشيوعي ، حيث كلف الحزب  مهدي الرضي، مسؤول اللجنة، بتولي مسؤولية مطابع الحزب السرية بناء على توصية أخيه سلام عادل ، وكان مهدي الرضي هو الذي رشح شخصيا إبراهيم لهذه المهمة.         
عمل الشهيد إبراهيم  جاهدا  في ظل تلك الظروف القاسية والخطير من أجل ربط خلايا الحزب وإعادة التنظيم في الخط العمالي من جهة، وإعادة ربطها بقيادة الحزب المذكورة آنفاً من جهة أخرى، والتي كانت السبب في وقوعه في الفخ الذي نصبته له عصابات الحرس القومي بعد القبض على محمد حبيب، واعترافه بكون إبراهيم محمد علي هو مسؤوله الحزبي الذي يقود التنظيم.
وبحكم كون إبراهيم محمد علي مسؤولاً عن اللجنة العمالية الثالثة فقد كان المسؤول الحزبي لمحمد حبيب المسمى بأبي سلام، وعلى صلة مباشرة به، وكان محمد حبيب مسؤولاً حزبياً عن المجموعة الصِدامية الشجاعة التي قادت ونفذت انتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963، بقيادة المناضل الجسور[حسن سريع] ، وكان إبراهيم يلتقي به في دار الكادر الحزبي [ خضير] بالقرب من ساحة الوثبة.
لقد شاءت الظروف أن تجمعني بالشهيد إبراهيم علاقة عائلية وثيقة، حيث كان قد تزوج شقيقة زوجتي  قبيل انقلاب 8 شباط بوقت قصير، ولكني لم تتح لي الفرصة للالتقاء به إلا بعد الانقلاب، حيث كنت أمارس التعليم في مدينة السليمانية، وصدر بحقي إلقاء القبض في اليوم الأول لانقلاب شباط 63، وفصلت من الوظيفة. لكني استطعت النجاة من الاعتقال، ومكثت في السليمانية متخفيا حتى العشرين من حزيران، واضطررت إلى مغادرة السليمانية إلى بغداد بعد اندلاع الحرب في كردستان بمساعدة الرفاق الأكراد .
لم يكن لدي ملجأ آمن في بغداد، وقد استطاعت زوجتي الوصول إلى شقيقتها رهبية وزوجها الشهيد إبراهيم حيث كانا مختفيان  في دار شقيقه إسماعيل محمد علي، وعلى الفور دعانا للقدوم بشكل مؤقت ريثما يستطيع تأمين استئجار دار لنعيش فيه مختفين معا . كانت معي زوجتي وطفلاتي الثلاث، واستطاع  إسماعيل محمد علي ـ شقيق إبراهيم ـ أن يستأجر لنا داراً في الصليخ الجديدة بالقرب من دار أهل زوجتي، حيث انتقلنا إليه وكانت فرحتنا به كبيرة جداً، حيث استطعنا تحقيق الاستقلال دون أن نثقل على أحد أو نجلب المخاطر لأحد.
 ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، فقد عشنا أياماً كنت خلالها اكتشف كل يوم صفات وخلق وشجاعة ذلك الإنسان النبيل الذي اتصف بالبساطة، وسمو الخلق، والروح الجهادية العالية، والإيمان بالمبادئ، والاستعداد للتضحية اللامتناهي.
لقد حدثني الشهيد إبراهيم عن تفاصيل الإعداد لحركة ثورية واسعة تطيح بحكم حزب البعث الفاشي كان من المقرر تنفيذها في 5 تموز، وتقتضي الخطة بالسيطرة على  معسكر الرشيد والقاعدة الجوية فيه، وإطلاق سراح الضباط المعتقلين في سجن رقم واحد في المعسكر المذكور، وهذا الدور كان قد أنيط سياسيا بمحمد حبيب، وتنفيذيا بقيادة المناضل الشجاع حسن سريع .
وكانت هناك مجموعة داعمة كان من المفترض إن تعمل خارج معسكر الرشيد ، وكانت صلاتها مع الحزب، وكان صلة الوصل بينها وبين الحزب احد الرفاق من أهالي تلعفر يدعى  عباس التركماني، وهو عامل في معمل الدرزي وبرايا للكاشي والموزائيك في منطقة النعيرية والقيارة قرب معسكر الرشيد وقاعدة الرشيد الجوية، وفي منطقة كمب سارة الملاصقة لمعسكر الرشيد التي كان يسكن فيها قائد الحزب الشهيد [جمال الحيدري] الذي كان يتابع بنفسه نشاط جماهير الحزب في منطقة الصرائف قرب نهر دجلة، ومعمل الزيوت النباتية شمال معسكر الرشيد، والتي كان يسكنها آلاف العوائل الفقيرة، وهم في غالبيتهم يشكلون جماهير الحزب، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من أبناء عشيرة البو عامر قرب المحمودية.
كانت ساعة الصفر هي إذاعة البيان الأول للانتفاضة من إذاعة بغداد حيث كان لدى الحزب مجموعة من الجنود المكلفين بحراسة دار الإذاعة مستعدين للقيام بالسيطرة عليها فجر يوم 5/7/1963.
كما تم وضع خطة بديلة إذا تعذر السيطرة على دار الإذاعة، وكانت الخطة تقتضي بالاستيلاء على محطة الكهرباء المحاذية لمعمل الأسلحة والمعادن حيث يمكن إذاعة البيان من مرسلة إذاعية موجودة داخل محطة الكهرباء الوطنية.                                                         
  كانت لدى الحزب خطة محكمة، وعلى نطاق واسع، ويشارك فيها رفاق ومناصرون من قطعات أخرى، وكان الجميع بانتظار أن يطلق سراح الضباط في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد ليتولوا قيادة القطعات التي أبدت كامل استعداها للمشاركة في الانتفاضة.
لكن محمد حبيب بدأ يتهرب من اللقاء مع إبراهيم في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الانتفاضة ، وبات واضحا أنه أراد الانشقاق عن الحزب والاستئثار بالحركة لنفسه ، ومن وراء ظهر المجموعة المنفذة بقيادة الشهيد حسن سريع ، فأقدم على تغيير موعد تنفيذ الانتفاضة المقرر في 5 تموز إلى يوم 3 تموز، مدعيا أن ذلك قد تم بأمر الحزب ، وقد تسبب محمد حبيب بعمله هذا إلى تصفيه خيرة قيادات وكوادر وقواعد الحزب.

حسن سريع قائد الانتفاضة:
 كان حسن سريع على رأس تلك المجموعة المناضلة والمفعمة بالأيمان بقدرتها على خلق المعجزات، والتصدي لطغيان العصابة التي اغتصبت السلطة في انقلاب 8 شباط الفاشي في ذلك العام 1963 ودحرها ، وعلى الرغم من كونها مجموعة من بقايا خلايا الحزب الشيوعي التي سلمت من الانكشاف والاعتقال والسجون والقتل، آلت على نفسها أن تناضل لإسقاط  سلطة البعث، ذلكم هو الرجل الشجاع أبن الخامسة والعشرين الشهيد البطل [حسن سريع].شاب نحيف متوسط البنية ذو سحنة سمراء وعينان صغيرتان سوداوان، من مواليد قضاء شثاثة [ عين التمر] في أوائل الأربعينات، و ينتمي إلى عائلة من بني حجام القادمة من مدينة السماوة، ويرى البعض من رفاقه أنه من آل الأزيرج المعروفة بمواقفها الوطنية الشجاعة.
ويصفونه رفاقه الذين ساهموا في انتفاضة معسكر الرشيد أنه كان ذو شخصية فذة، ومحترم جداً في وحدته العسكرية من قبل الجميع بما فيهم الأعلى منه رتبة حيث تمييز بالقدرة الفائقة على الحوار والإقناع     والتمسك بالصدق في القول ، والعمل ، حافظاً لوعوده ، حريصاً على
أسرار حزبه ورفاقه الذين شاركوه في تلك الانتفاضة الشجاعة.
درس الشهيد حسن سريع الابتدائية في شثاثة، وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب لعائلته الكادحة  تطوع للجيش بمدرسة قطع المعادن المهنية بمعسكر الرشيد في بغداد، ولذكائه الوقاد، وخلقه العالي جرى اختياره معلماً في نفس المدرسة، ورُفع على رتبة نائب عريف ، وفي الوقت نفسه التحق بالثانوية المسائية لإكمال دراسته وتطوير مستواه العلمي.
انطلاق الانتفاضة:
كان القائد الثوري الميداني الشهيد حسن سريع قد استطاع بجهاديته ونشاطه الدؤوب تجميع وتهيئة العناصر التي أبدت استعدادها للمشاركة في الانتفاضة مع علمها الأكيد بالمخاطر التي تنتظرهم سواء خلال تنفيذ الانتفاضة  التي لا بد أن يسقط فيها الضحايا، أو في حالة فشلها، لكن الروح الثورية التي كانت عامرة بها نفوسهم الجريئة هي التي قادت اندفاعهم لتنفيذ الانتفاضة بكل جرأة ورباطة جأش.
لقد كانت الانتفاضة تحرك ثوري جرئ ينطوي على مهاجمة معسكر الرشيد القريب من بغداد والسيطرة عليه، وإطلاق سراح الضباط الشيوعيين والقاسميين والديمقراطيين المعتقلين في سجن رقم واحد داخل المعسكر، وكان عددهم يقدر بأكثر من 1300 ضابط من مختلف الرتب والأصناف، بينهم مجموعة كبيرة من الطيارين، وكان إطلاق سراحهم وسيطرتهم على المعسكر وقاعدته الجوية  يمكن أن يقلب موازين القوى ويقتلع حكم البعث، ذلك أن الجنود وضباط الصف ، كانوا لا يدينون بالولاء لتلك السلطة الغاشمة، التي أغرقت العراق بالدماء، بل كانوا على العكس من ذلك يدينون بالولاء لثورة الرابع عشر من تموز التي أغتالها الانقلابيون، وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم.
كان تحرير الضباط من السجن، وقيادتهم للجنود وضباط الصف، والعديد من الضباط ذوي الرتب الصغيرة الذين لم يكشفهم الانقلابيون   والاستيلاء على قاعدة الرشيد الجوية، يشكل تهديداً خطيراً لسلطة الانقلابيين. وبالفعل تهيأت تلك المجموعة للعمل في فجر 3 تموز  1963، وتحت جنح الظلام تحرك قائد المجموعة ورفاقه من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية، ومجموعة من المدنيين الذين كانوا قد لبسوا الملابس العسكرية، وحمل بعضهم رتب الضباط، والتحق بهم مجموعة أخرى من الجنود وضباط الصف من وحدات أخرى منطلقين نحو كتيبة الهندسة، وعندما أصبحت المجموعة قريبة جداً من باب الحرس صرخ حسن سريع بأعلى صوته داعياً الحرس إلى إلقاء أسلحتم، وفوجئ الحرس بمشاهدة مجاميع من الجنود المسلحين تتقدم نحوهم فأسرعوا إلى إلقاء السلاح وأعلنوا استسلامهم.
 واندفعت القوة التي يقودها حسن سريع لتسيطر بسرعة خاطفة على كتيبة الهندسة، ومن ثم السيطرة على أغلب أقسام معسكر الرشيد حيث يضم أكبر قوة عسكرية في بغداد، وحيث تضم القاعدة الجوية بطائراتها  أعداداً كبيرة من الدبابات والمدرعات، وتمكنت المجموعة  من اعتقال وزير الخارجية [طالب شبيب] ووزير شؤون رئاسة الجمهورية [حازم جواد] والقائد العام للجيش الشعبي [منذر الونداوي ]،حيث كانوا متواجدين داخل المعسكر آنذاك، واعتقال عدد من الضباط الموالين لسلطة البعث، وقاموا بتجهيز عدد من الطائرات بالعتاد انتظاراً لتحرير الضباط الشيوعيين والقاسميين من سجن رقم واحد ، وكان من بينهم العديد من الطيارين، و ضباط من مختلف الصنوف العسكرية .
كانت المجموعة الشجاعة تلك تعوّل على  تحرير الضباط السجناء ليتولوا قيادة  القطعات العسكرية في معسكر الرشيد والمعسكرات الأخرى في التاجي وأبو غريب والمحاويل، وكان في تلك المعسكرات مجموعات كبيرة من الجنود وضباط الصف المستعدين للقيام بمهماتهم في اللحظة الحاسمة، وكان قد جرى تبليغهم بساعة الصفر التي تبدأ حال وصول الضباط المطلق سراحهم من السجن لتلك الوحدات.
كما أجرت الحركة اتصالات مع العديد من التنظيمات الشيوعية في بغداد والفرات الأوسط ، وبعض المحافظات الأخرى، وكانت المجموعة يحدوها الأمل الكبير في انضمام الجنود وضباط الصف الذين كانوا يدينون بالولاء لثورة 14 تموز، وللزعيم عبد الكريم قاسم، وكانت الحركة من التنظيم والتصميم والاندفاع والشجاعة ما يؤهلها لتحقيق النصر لو تمكنت من تحرير الضباط من السجن داخل المعسكر.
 لكن تخاذل قائد الدبابة الوحيدة المتقدمة نحو باب السجن، والتي كان يقودها الجندي [ خلف شلتاغ]، ودفاع قوة حراسة السجن المستميتة هي التي أخرت كسر أبواب السجن وإطلاق سراح الضباط ، وأعطت الفرصة للسلطة  لجلب قوات كبيرة مجهزة بأسلحة ثقيلة من خارج المعسكر، حيث اشتبكت تلك القوات مع المجموعة الثورية المهاجمة ، ودارت معركة شرسة بين الطرفين قبل تمكن المجموعة من كسر باب السجن  لتحرير الضباط .
إجهاض الانتفاضة:
 و بسبب عدم وجود أي تكافئ بين الطرفين من جهة، واعتماد المجموعة على الأسلحة الخفيفة من جهة أخرى استطاع انقلابيو شباط إجهاض الانتفاضة، بعد استشهاد عدد كبير منهم، وتم اعتقال ما تبقى من المجموعة، حيث نقلوا إلى مقر هيئة الحقيق لزمرة وناظم كزار، وعمار علوش، وخالد طبرة وغيرهم من القتلة حيث تعرضوا لصنوف من  التعذيب الوحشي على أيديهم، واستشهد قسم منهم، وأحيل القسم الآخر إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليهم بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم بهم،  وكان على رأس  المعدومين القائد الشجاع حسن سريع.

قطار الموت:
على أثر فشل انتفاضة معسكر الرشيد جرت المداولات بشأن الضباط المعتقلين، وقد أصر عبد الغني الراوي، وصالح مهدي عماش والعديد من الضباط معهم على تنفيذ حكم الإعدام بهم والتخلص منهم مرة وإلى الأبد.إلا أن الرأي استقر في النهاية على قتلهم بطريقة إجرامية أخرى.
بادرت السلطة الفاشية بنقل كافة الضباط المعتقلين إلى سجن [نقرة السلمان] الواقع في البادية الجنوبية حيث تم حشرهم في عربات الحمل الحديدية التي ليس فيها أي تهوية، وفي ذلك الشهر الشديد الحرارة من أشهر الصيف، وكان الفاشيون يرمون بذلك إلى القضاء عليهم بسبب شدة الحرارة، وفقدانهم للسوائل، ولولا شهامة سائق القطار الذي علم  بأن ما تحمله عربات النقل هم الضباط المعتقلين من شيوعيين وقاسميين، وقاد القطار بأسرع ما يمكن حتى مدينة السماوة لكان هلك الجميع .
 كما كان للموقف الوطني البطولي لأبناء السماوة، رغم أنف جلاوزة السلطة، الذين استقبلوا المعتقلين، وقدموا لهم المياه واللبن والملح للتعويض عن السوائل المفقودة لكان الكثير منهم قد هلك، فقد كان المعتقلون في وضع خطير جداً، وقد تم بعد ذلك نقل المعتقلين بواسطة السيارات إلى سجن نقرة السلمان، في وسط الصحراء بعيداً عن أهلهم وذويهم .
الفاشيون يشنون حملة شعواء على الشيوعيين:
اندفعت قطعان الفاشست من عصابات الحرس القومي بعد إجهاض انتفاضة الرشيد ضد انقلابيي 8 شباط في حملة محمومة ضد العناصر الشيوعية التي ساهمت في الإعداد وتنفيذ الانتفاضة في الثالث من  تموز من ذلك العام ، وضد من تبقى من العناصر القيادية والكوادر الحزبية، فقد تمكنت تلك العصابات من الوصول إلى الشهداء [ جمال الحيدري ] و [محمد صالح العبلي ] [عبد الجبار وهبي]ـ أبو سعيد ، وتمت تصفيتهم تحت التعذيب الشنيع.
كنا في تلك الليلة أنا وزوجتي والشهيد إبراهيم وزوجته جالسين أمام التلفاز نستمع إلى الأخبار، وقد اشتد بنا الحزن لفقد الرفاق، وقد تصاعدت بنا المخاطر من كل جانب. كانت ليلة الثامن عشر من تموز عام 1963 أشبه بكابوس رهيب، فقد اشتدت الحملة الفاشية ضد الشيوعيين، ولاسيما أن كلانا بالإضافة إلى زوجة إبراهيم ملاحقين منذ اليوم الأول لوقوع الانقلاب المشؤوم. ورغم صعوبة تلك الظروف والمخاطر المحدقة بنا في كل لحظة، أبلغني الشهيد إبراهيم في تلك الليلة بأنه سوف يخرج في الصباح لمدة ساعتين في مهمة عاجلة، ثم سكت برهة، وعاد ليقول لي أن خروجي كما تعلم فيه الكثير من المخاطر، أنا معروف في بغداد، ولاسيما من بعض العناصر التي انهارت وتعاونت مع البعثيين، أما أنت فلست معروفاً هنا ولم يسبق لك العمل الحزبي في بغداد، ولذلك ومن أجل الصيانة فيما إذا حدث أمر ما لي فإني سأقول أنكم جئتم إلى بغداد كضيوف عندنا لتباركوا لنا زواجنا، أرجو أن تؤكد كلامي هذا وتصر عليه. في تلك اللحظة شعرت لأول مرة أن الخطر سيداهمنا، وشعرت بثقل تلك الليلة، ويبدو أن الشهيد كان لديه نفس الشعور.
التفت إلى إبراهيم قائلاً: أرجوك يا إبراهيم إن لم تكن هناك ضرورة ملحة للخروج أن لا تخرج، فالظرف عصيب، والحملة البعثية على أشدها لملاحقة الشيوعيين الذين لا زالوا طليقين، لكنه أجابني على الفور أنه لا بد من الخروج لأمر ضروري، وأرجو أن لا تقلق أبداً، وكل ما قلته لك هو من باب الاحتياط ليس إلا.
وفي صباح اليوم التالي خرج إبراهيم مبكراً، وقد استبد بنا القلق، وحاولت أن أكتم قلقي عن زوجتي، لكني لم استطع إخفاء ذلك، ومرت الساعتين ولم يعد إبراهيم، وهو المعروف بدقة مواعيده، وبدأنا أنا وزوجتي، حيث كانت زوجته قد خرجت لمراجعة الطبيب، نعد الدقائق والثواني ونحن على أحر من الجمر، ومرت ساعة أخرى ولم يعد إبراهيم، كانت تلك الساعة كأنها سنوات طويلة، وتصاعد شعورنا بالقلق عليه، إن مواعيده مضبوطة، لا بد أن أمراً ما قد حصل له، وبينما نحن على تلك الحال وإذا بطرقات شديدة ومتتالية على الباب، واشتد القلق بنا من يا ترى هو الطارق؟                                 .                                        تقدمت نحو الباب قائلاً من الطارق؟ وإذا بصوت إبراهيم يخرج من فمه بصعوبة بالغة دلت على أنه في وضع سيئ جداً، وفتحت الباب ويالهول ما رأيت، إبراهيم مكبل بالحديد، وقد غطت جسمه  الدماء من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، وهو لا يقوى على الوقوف والكلام، وحوله ما يزيد على عشرة من قطعان الفاشست أفراد الحرس القومي، وقد شهروا رشاشاتهم بوجوهنا مما أرعب أطفالي، وجعلهم يصرخون عندما شاهدوا إبراهيم على تلك الحال.                                   
   سارعت زوجتي للتخلص من هويتي المزورة حيث استطاعت تمزيقها ورميها في المرافق، وأخذ الفاشست يفتشون الدار حيث قلبوا أثاثه رأساً على عقب بحثاً عن أية أدلة أو مستمسكات حزبية، وطلبوا مني أن أرافقهم مع إبراهيم، وهكذا أصبحت حياتنا معلقة على شعرة دقيقة. وفي تلك الأثناء صادفت عودة زوجة إبراهيم من المستشفى، وما أن اقتربت من الدار، ووجدت أن الوضع غير طبيعي حوله حتى استدارت عائدة لكي لا يراها أحد، فقد كانت هي الأخرى مطلوبة للقبض عليها.
 لكن عصابة الفاشست لمحتها وهي ترجع هاربة من براثنهم فلحقوا بها واستطاعت الإفلات منهم في بادئ الأمر حيث تمكنت من ركوب حافلة الركاب، لكنهم لحقوا بالحافلة، وأمروا السائق بالتوقف، وصعدوا إلى الحافلة والقوا القبض عليها، وقد تعرضت للتعذيب الشنيع على أيديهم القذرة لفترة طويلة في ملعب الإدارة المحلية بالمنصور الذي اتخذه البعثيون سجنا للنساء، فقدت على أثرها الجنين الذي كان سيحمل اسم الشهيد إبراهيم، فقد أجهضت بسبب التعذيب الذي تعرضت له، وأحيلت إلى المجلس العرفي العسكري الذي حكم عليها بالسجن لمدة 7 سنوات ومراقبة الشرطة لمدة سنتين، ولم يطلق سراحها إلا في عهد عبد الرحمن عارف حيث استدعاها رئيس الوزراء آنذاك طاهر يحيى، وبعد نقاش حامٍ معها أوعز طاهر يحيى بإطلاق سراها على أن تخضع لمراقبة الشرطة المحكومة بها وأمدها سنتين.             
  وقبل أن يأخذنا الحرس القومي معهم، طلبوا من زوجتي إخلاء الدار وتسليم مفاتيحه لهم، حيث أمروا اثنان من المجموعة البقاء والمبيت في الدار ظننا منهم أن الدار وكر حزبي، على أمل إلقاء القبض على من يتردد على الدار، تم  جرى نقلنا إلى مقر هيئة التحقيق البعثية التي كان يشرف عليها[ ناظم كزار] و[عمار علوش] و[خالد طبرة] و[عباس الخفاجي] وهو شيوعي مرتد تعاون مع البعثيين، ومارس أشد أنواع التعذيب مع رفاق حزبه، وكان البعثيون قد اتخذوا مقر محكمة الشعب لتكون مقراً للهيئة التحقيقية، ومركزاً للتعذيب والقتل الذي مارسوه ضد العناصر الشيوعية.
وعند وصولنا إلى المقر استقبلنا الجلاد [ناظم كزار] الذي عرفت اسمه من المعتقلين، حيث تم إدخالنا غرفة التعذيب.  كان في وسط الغرفة رجل فاقد الوعي ممداً على الأرض، وفي الحال التفت نحوي ناظم كزار قائلاً: هل تعرف هذا؟ مشيراً للشخص الممد على الأرض، وقد أجبته على الفور: ومن أين لي بمعرفته؟ لكنه فأجابني بأن هذا هو [أبو سلام]. وقد أجبته على الفور : ومن هو أبو سلام ؟ وجاء جوابه ضربة شديدة على رأسي وهو يصرخ كالثور الهائج: ألا تعرف من هو أبو سلام ؟ ألم تسمع بحركة الرشيد؟ وقد أجبته نعم لقد سمعت بما جرى في معسكر الرشيد، لكني لا أعرف من هو أبو سلام، ولا اسكن أنا في بغداد، وليس عندي أي علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما في الأمر أن شقيقة زوجتي قد تزوجت، وقد جئت بصحبة زوجتي مع أطفالنا لمباركة زواجها والعودة من حيث أتينا.                                            .                                                                    كان علي أن أعمل جهدي على إقناعهم بأني لا صلة لي بالسياسة والأحزاب لكي أنفذ بجلدي من مجزرة هؤلاء المجرمين، وفي حقيقة الأمر فقد كان علي أمراً بإلقاء القبض، ولوا أنهم سألوا عني من أي جهة أمنية لكان مصيري كمصير إبراهيم. في تلك اللحظة التفت ناظم كزار إلى عباس الخفاجي قائلاً له : خذه إلى الموقف فإن قضيته متعلقة بقضية إبراهيم محمد علي وتم نقلي إلى إحدى غرف التوقيف، كان هناك ثلاثة غرف وكل غرفة تضم ما يزيد على الأربعين موقوفاً وهم جميعاً من المشاركين في انتفاضة الرشيد، وأنا الشخص الغريب بينهم، وكل ما يعرفونه عني أنني قد اعتقلت مع إبراهيم محمد علي. كانت الغرفة مكتظة بالموقوفين في ذلك الصيف الحار حيث يتعذر على الإنسان أن يجد له مكاناً كافياً لكي يتمدد أو ينام، وكانوا يخرجونا مرة واحدة يومياً للمرافق على أن لا تتجاوز حصة كل واحد في المرافق عن الخمس دقائق، حيث يهجم الحرس على من يتأخر بأعقاب البنادق، ويمعنون بنا ضرباً.     
أما الشهيد إبراهيم فقد أبقوه في غرفة التعذيب الرهيبة وهو في حالة يرثى لها، وبدءوا بممارسة أشد أنواع التعذيب بغية الحصول منه على أي اعتراف، ولاسيما وأن محمد حبيب [ أبو سلام ] كان قد اعترف لهم أنه مسئوله الحزبي، واستمروا في ضربه حتى فقد الوعي.                  .                                                                                         كان هناك أحد أفراد الحرس، وعلى ما أعتقد كان اسمه صبار، يتردد علينا في الموقف، وأثناء خروجنا إلى المرافق، كان يبدوا عليه الطيب، لكنه كان حذراً جداً من الحديث مع الموقوفين، حيث استطاع أن يحدثني بضع كلمات فقط عن إبراهيم قائلا لي: [إنه صلب وشجاع، لم يحصلوا منه على كلمة واحدة، لكن حياته في خطر، لقد كسروا أضلاعه وأطرافه. وفي اليوم الثالث استطاع الهمس في أذني:[ إبراهيم قضى بطلاً وقطعت أوصاله، والقيت في نهر دجلة.  لم استطع تحمل الصدمة، وبدأت الأرض تدور من حولي، وانهالت الدموع من عيناي وأنا لا أستطيع أن افعل شيئاً، يا لهول الصدمة، ويا لعظم الخسارة، أي نوع من الوحوش هذه الزمرة التي لا تعرف معنى لحقوق الإنسان!!. لقد انقطع الخيط الذي كان القتلة يريدون من خلاله التوصل إلى حقيقة علاقتي بإبراهيم فكان صموده وبطولته الخارقة هي العامل الحاسم في إنقاذي من أيدي الجلادين البعثيين الفاشست، وبقائي على قيد الحياة. أما الشهيد إبراهيم فستبقى ذكراه خالدة في ذاكرتي ما حييت كإنسان نبيل ، ومناضل شجاع صمد تحت أيدي جلاديه حتى الموت دون أن ينطق بكلمة واحدة عن أسرار الحزب، وبذلك أنقذ الكثير من رفاق الحزب من الوقوع في أيدي الجلادين.                     
ملاحظة:للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة كتابي[ سنوات الجحيم]على صفحات موقعي على الانترنيت التالي:www.Hamid-Alhamdany.com


439
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
      الحلقة / 25

حامد الحمداني                                                        4/7/2008
أولاً : تفجير مرقد العسكري في سامراء واندلاع الحرب الأهلية
في ظل تلك الأجواء الرهيبة التي كانت تسود البلاد، وفي ظل الشحن الذي كانت تمارسه قيادات الأحزاب الدينية الشيعية والسنية، في ظل السعي المحموم لعناصر القاعدة وحلفائها الصداميين، جاءت جريمة التفجير النكراء والخطيرة التي طالت مرقدي الإمامين على الهادي وحسن العسكري في سامراء، والتي جرى تنفيذها من قبل عناصر لا تؤمن بدين ولا بأية قِيمٍ إنسانية، عناصر باعت نفسها بثمن بخس لمن دفعها للقيام بهذه الجريمة الشنعاء لتحقيق أهداف أكثر خطورة وأفضع.
أنهم  استهدفوا بفعلتهم الجبانة تلك إشعال  نيران الحرب الأهلية الطائفية
باسم الدين والعقيدة، ليحرقوا العراق وشعبه، حرب من أشد الحروب فضاعة، بعد أن استمرَّ المسؤولون في تجاهل الأخطار المحدقة بالبلاد،  وفسحوا المجال واسعاً أمام العناصر الجاهلة التي يغلب على سلوكها التعصب الطائفي الأعمى لصب الزيت على النار، هذه النار التي كما يدرك كل العقلاء أنها تبدأ دائماً بشرارة، وها قد بدأت، ولكنها وبسبب الأجواء العراقية المحتقنة والخطيرة، والصراع السياسي المكشوف على السلطة فإن نيرانها قد انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم، ودفع الشعب ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه ومن ممتلكاته مما لا أحد يستطيع تقديره.
إن الوضع الذي تفجر على أثر ذلك العمل الإجرامي الخطير كان يتطلب من كل الحريصين على مستقبل العراق وشعبه أن يعملوا وبأسرع ما يمكن على إطفاء نيران الحرب الطائفية قبل انتشارها، وأن يكف الجميع عن الحديث الطائفي سنياً كان أم شيعياً.
لقد كان من المؤلم أن نسمع خطابات المتطرفين من رجال الدين، ونطالع في صفحات الانترنيت، وفي مختلف القنوات الفضائية، والصحافة دعوات مجنونة في التحريض، وصب الزيت على نار الفتنة، ليحرقوا العراق بأهله، ربما بعضهم تصرف بغير وعي منهم،  لكن تصرف الأغلبية كان بوعي وتصميم من أجل تحقيق أهداف ومكاسب سياسية في الصراع المكشوف على السلطة، وهم يستهدفون تحريك الجماهير البسيطة غير الواعية وغير المنضبطة، ودفعها إلى أتون الحرب الطائفية من أجل الإمساك بالسلطة حتى لو دُمر العراق، وقضى مئات الألوف على مذبح هذه السلطة الملعونة.
ولا شك أن كل من سعى إلى دفع الجماهير بهذا الاتجاه الخطير يتحملون كامل المسؤولية عن النتائج التي نجمت عن هذا السلوك.
لقد كان على السلطة القائمة آنذاك التوجه بأقصى السرعة لمعالجة الوضع الخطير الناشئ عن الجريمة النكراء والمفجعة، وبقدر كبير من التعقل والحكمة، وتهدئة الجماهير الهائجة أو المهيجة، والعمل بكل جد وشفافية لتشكيل لجنة تحقيقية نزيهة محايدة تتولى البحث والتحقيق عن الأيدي المجرمة والجبانة التي اقترفت هذه الجريمة، والتعمق في التحقيق للوصول إلى من يقف وراءها، ومن له مصلحة حقيقية في تدبيرها، وإنزال العقاب الصارم بالفاعلين وأسيادهم عبر الحدود، لا أن تترك منتسبي أحزابها الطائفية الجهلة تصب الزيت على الوقود وإشعال نيران الحرب الطائفية.
بدأت الأخطار المحدقة بالشعب العراقي تتصاعد يوماً بعد يوم جراء تلك الأحداث الأليمة التي جرت على أثر الجريمة النكراء حيث أقدمت زمر طائفية غوغائية مشحونة وغير منضبطة بمهاجمة الجوامع السنية وتخريبها، وقتل العديد من رجال الدين والمصلين المتواجدين فيها، بل لقد تمادت هذه الزمر في غيها بمهاجمة وقتل المواطنين الآمنين من الطائفة السنية مما أدى على استشهاد ما يزيد على 400 مواطن حسب تقدير السلطات الرسمية، وما يتجاوز ال1000 حسب تقديرات الجهات الأخرى، وأخذت تلك الأرقام تتصاعد يوماً بعد يوم حتى جاوزت عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء..
ولقد كانت التصريحات التي صدرت من بعض قادة الأحزاب الطائفية وبعض رجال الدين التابعين لهم بمثابة صب الزيت على النيران الطائفية التي أشعلها هؤلاء الغوغائيين الذين وجهوا اتهاماتهم حول جريمة تفجير المرقد في سامراء لأبناء الطائفة السنية دون وجه حق، مما أوقع تلك الخسائر البشرية والمادية الجسيمة في صفوف المواطنين، وعلى الرغم من اتخاذ السلطة قراراً بمنع التجول في بغداد والمحافظات المجاورة ذات الأغلبية السنية لمدة ثلاثة أيام، فقد انتشرت نيران الحرب الأهلية الطائفية على أوسع نطاق. وعلى الرغم مما سببته تلك الجرائم التي أزهقت أرواح ألوف المواطنين فلم نسمع أن الحكومة التي تُعتبر مسؤولة مسؤولية مباشرة عن حفظ أرواح وممتلكات المواطنين قد اتخذت الإجراءات القانونية ضد العناصر التي قامت بهذه الجرائم، وضد محرضيها، لردع كل من تسول له نفسه تكرار ما حدث خلال الأيام التي تلت التفجير الإجرامي لمرقد الإمامين في سامراء .
فما أن رفعت حالة منع التجول بعد 3 أيام، حتى بادرت المليشيات المسلحة تواصل القيام بأعمالها الإجرامية ضد المواطنين الآمنين، مما خلق حالة من الهلع والرعب في البلاد واضطرار الكثير من المواطنين ملازمة بيوتهم التي لم تسلم هي الأخرى من هجمات واغتيالات واعتداءات هؤلاء المخربين القتلة الذين يبتغون إشعال الحرب الأهلية الطائفية ، وكل ذلك جرى تحت سمع وبصر قوات الاحتلال الأمريكي.
لقد كانت مهمة معالجة ذلك الوضع المأساوي الخطير الذي كان يعيش في ظله الشعب العراقي يتطلب بكل تأكيد تعاون الجميع، فليس بمقدور أي قوى سياسية لوحدها مهما كانت صفتها، وسعة جماهيرها وإمكانياتها أن تحقق الأمن والسلام في البلاد، وتأخذ بيد الشعب نحو شاطئ السلام، وكان لا بد من تكاتف كل الجهود الخيرة والحريصة على إعادة الأمن والسلام للعراقيين، والانصراف نحو إعادة بناء هذا الوطن المخرب.
لكن الذي جرى كان أقسى وأمر، فقد جرت عمليات تهجير وهجرة قسرية من قبل طرفي الصراع ، وكانت تلك الحملة المجنونة أقسى على جانب الطائفة السنية التي تعرضت لهجمة وحشية، واجبر المواطنون على ترك بيوتهم بما حوت وخرجوا بملابسهم هرباً من عمليات الذبح والتصفية الجسدية التي مورست ضدهم بوحشية، وقدر عدد المهاجرين والمهجرين بحوالي أربعة ملايين مواطن نصفهم جرى تهجيرهم في مناطق أخرى داخل الوطن والكثير منهم ما زالوا حتى اليوم يعيشون في الخيام في حالة بائسة جداً لا تتوفر فيها ابسط الشروط اللائقة بإنسان، في الوقت الذي التجأ أكثر من مليوني مواطن إلى سوريا والأردن ومصر، واستطاع عشرات الألوف ممن يمتلكون المال الوصول إلى بلدان اللجوء الأوربية ، لكي يبدأوا حياتهم من جديد بعد أن فقدوا مساكنهم وأموالهم.   
ثانيا:اختيار مجلس الرئاسة، وتشكيل حكومة نوري المالكي
لم تكد تجري الانتخابات البرلمانية وتظهر نتائجها بفوز قائمة الائتلاف الشيعية بالتحاف مع القائمة الكردية بالأغلبية حتى بدأ الصراع بين حزبي الدعوة بزعامة الجعفري والمجلس الأعلى بزعامة الحكيم على منصب رئاسة الوزارة حيث رشح الحكيم السيد عادل عبد المهدي لرئاسة الوزارة، في حين بقي الجعفري يتشبث بالمنصب، مما ادخل البلاد في أزمة سياسية استمرت أكثر من ثلاثة اشهر، في حين كانت البلاد في وضع كارثي خطير بسبب الإرهاب الواسع النظاق الذي عم  سائر المدن العراقية، حيث يجري تفجير السيارات المفخخة والعبوات المزروعة على جوانب الطرق والشوارع والأحزمة الناسفة لتحصد كل يوم أرواح العشرات بل والمئات من أبناء الشعب، وقوات الشرطة والحرس الوطني، وتدمر الممتلكات العامة والخاصة على نطاق واسع.
 وفي ظل استمرار ذلك الوضع المأساوي الحرج، وتصاعد الإرهاب كماً ونوعاً، استمرت أزمة تشكيل الوزارة العراقية منذ انتخاب مجلس النواب قبل ثلاثة اشهر، دون أن يظهر أي ضوء في آخر النفق المظلم، فقادة العراق الميامين ممن أفرزتهم حرب أمريكا لتحرير العراق، ونشر الديمقراطية الموعودة!!، منشغلون في الصراع على السلطة والكراسي، ولكل منهم أجندته الخاصة، والتي لا تمت بصلة مع أجندة العراق الوطنية، والشعب يكتوي بنير الإرهاب الطائفي المقيت.
وفي نهاية المطاف وبعد الضغوط التي مارستها الإدارة الأمريكية من جهة، والقيادة الكردية من جهة أخرى أدرك السيد إبراهيم الجعفري أنه بات غير مرغوب به لا أمريكياً ولا كردياً ولا من قبل المجلس الأعلى اضطر إلى الانسحاب من الترشيح مرغماً، وفاز السيد نوري المالكي بمنصب رئاسة الوزارة بتأييد كتلة التيار الصدري في البرلمان، وهكذا تم الاتفاق بين سائر الكتل الممثلة في البرلمان، وبإشراف مباشر من السفير الأمريكي خليل زادة على اختيار رئيس وأعضاء مجلس الرئاسة
والحكومة وعلى الوجه التالي:(7)
السيد جلال الطالباني ـ رئيساً للجمهورية [ كردي]
السيد عادل عبد المهدي ـ عضو مجلس الرئاسة [ شيعي]
السيد طارق الهاشمي ـ عضو مجلس الرئاسة [ سني]
وهكذا تم اختيار مجلس الرئاسة على نفس أسس المحاصصة الطائفية والعرقية، والتي اصبحت فيما بعد عامل تعطيل في إدارة شؤون الدولة بدلاً من أن تكون عامل توحيد لجهود القوى السياسية التي أمسكت بزمام السلطة.
أما الحكومة فجاءت على الوجه التالي:
1 ـالسيد نوري المالكي ـ رئيساً للوزراء
2 ـ برهم صالح نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا لشؤون الأمن الوطني.
3 ـ سلام الزوبعي نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للدفاع ( وكالة ).
4 ـ نوري المالكي وزيرا الداخلية ( وكالة).
5 ـ حسين الشهرستاني وزيرا لنفط
6 ـ باقر جبر صولاغ وزيرا للمالية
7 ـ هوشيار زيباري وزيرا للخارجية
8 ـ هاشم الشبلي وزيرا للعدل
9 ـ على بابان وزيرا للتخطيط
10 ـ كريم وحيد وزيرا للكهرباء   
11 ـ على الشمري وزيرا للصحة
12 ـ خضير الخزاعي وزيرا للتربية
13 ـ عبد ذياب العجيلي وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي   
14 ـعبد الفلاح السوداني وزيرا للتجارة
15 ـ فوزي الحريري وزيرا للصناعة 
16 ـ كريم مهدي صالح وزيرا للنقل
17 ـ محمد توفيق وزيرا للاتصالات
18 ـ بيان دزة ئي وزيرة للإسكان والإعمار
19 ـ رياض بليغ وزيرا للبلديات
20 ـ يعرب ناظم وزيرا للزراعة
21ـ لطيف رشيد وزيرا للموارد المائية
22 ـ محمد ال راضي وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية
23 ـ رائد فاهم وزيرا للعلوم والتكنولوجيا
24 ـ نرمين عثمان وزيرة للبيئة
25 ـ جاسم محمد جعفر وزيرا للشباب والرياضة
26 ـ اسعد عبد الله الهاشمي وزيرا للثقافة
27 ـ وجدان ميخائيل وزيرا لحقوق الإنسان
 28 ـ عبد الصمد سلطان وزيرا للمهجرين والمهاجرين
 29 ـ لواء سميسم وزيرا الدولة للسياحة والآثار
ا30 ـ  عادل الأسدي وزير الدولة لشؤون المجتمع المدني
 31 ـ رافع جياد العيساوي وزير الدولة للشؤون الخارجية
32 ـ صفاء الصافي وزير الدولة لشؤون مجلس النواب                     
 33 ـ سعد طه الهاشمي وزير الدولة لشؤون المحافظات
34 ـ فاتن عبد الرحمن محمود وزيرة الدولة لشؤون المرأة
35 ـ أكرم الحكيم وزيرا للدولة.
36 ـ محمد عباس الربيعي وزيرا للدولة.
 37 ـ حسن راضي الساريـ وزير للدولة.
38 ـ  فهيمة باسم وزير للدولة.                                               
 ثم جرى فيما بعد وبعد مداولات ومناورات طويلة، وبعد ممارسة السفير الأمريكي مختلف الضغوط على الأطراف السياسية، ورئيس الحكومة، والبرلمان، تم التوافق على اختيار وزيري الدفاع والداخلية، حيث جرى تعيين السيد جواد البولاني وزيراً للداخلية، والسيد عبد العزيز جاسم العبيدي وزيراً للدفاع.
ثالثا: انتقال الصراع من الشارع إلى الحكومة والبرلمان
جاء تشكيل مجلس الرئاسة وحكومة نوري المالكي لضم قادة القوى التي تقود الصراع المسلح في الشارع العراقي بعد الجهود التي بذلتها الإدارة الأمريكية مع قادة الطرفيين الشيعة والسنة، بعد وعود بإجراء مصالحة وطنية من خلال المشاركة الفعلية في السلطة، ومن خلال تعديل مواد الدستور المختلف عليها، وخاصة فيما يخص المادة 58 من قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية والمادة 140 المتعلقة بمحافظة كركوك، وموضوع تشكيل الفيدرالية، ومن خلال إعادة النظر في قانون اجتثاث البعث الذي أعطى نتائج عكسية لما كان ينتظر منه مشرعه بول بريمر، ومن بعده قادة الأحزاب الشيعية، والأحزاب القومية الكردية، من دون التفكير بنتائجه الكارثية التي حولت جانبا كبيرا من العناصر البعثية إلى حمل السلاح، وما ترتب عليه من خراب ودمار، وإزهاق أرواح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء، واستنزاف مداخيل البلاد في هذه الحرب الكارثية التي عمت العراق من أقصاه إلى أقصاه.
لقد كان ذلك الأجراء الذي تم في إشراك قادة الأحزاب السنية في قمة السلطة والبرلمان محكوم عليه بالفشل بسبب كونه إجراءا فوقيا لم يتناول المشكلة الأساسية المتعلقة بالقاعدة، من خلال اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة مشكلة البطالة المستفحلة التي تمثل الحاضنة الواسعة والمفرخة لقوى الإرهاب، ومن خلال تأمين وصول الخدمات الأساسية والضرورية للمواطن العراقي، وتأمين مورد يوفر للعائلة العراقية حياة كريمة خيالية من العوز والحاجة، ومن خلال أجراء مصالحة حقيقية قائمة على نفس الأسس التي جرت عليها في جنوب أفريقيا بعد إسقاط حكومة الأقلية البيضاء التي نكلت أشنع تنكيل بالسكان السود أصحاب الوطن الحقيقيين، فقد كان هذا الطريق هو السبيل الوحيد لتجنب الصراع المسلح ونتائجه الكارثية على الجميع، وبذلك استطاعت حكومة القائد الوطني الكبير نلسن مانديلا، وحكمته تجاوز تلك المظالم التي سببها حكم البيض، وكان هو شخصياً في مقدمة المواطنين الذين عانوا اشد المعانات حيث قضى في السجن الانفرادي 28 عاماً، وتلقى خلالها صنوف التعذيب النفسي والجسدي.
لم يستمر الصراع في الشارع العراقي فحسب، بل انتقل إلى الحكومة وقاعة البرلمان التي باتت ساحة للصراع، وزاد في الطين بله طبيعة اختيار أعضاء البرلمان التي جرت بموجب توزيع المحاصصة الطائفية حسب القانون الانتخابي الذي وضعه الحاكم الأمريكي بول بريمر، والذي جاء بنماذج لا تصلح بأية حال من الأحول لشغل أدنى وظيفة في الدولة، وقد تبين فيما بعد أن العديد منهم لا يمتلك شهادة تؤهله لشغل هذا الموقع الهام،  وأن غيرهم قد زور شهادته، وقد كشفت لجنة النزاهة ذلك التزوير دون أن يتخذ المجلس قراراً بإبطال عضوية المزورين، وإحالتهم للمحاكمة بتهمة التزوير.(8)                          .                                               ورغم كل هذه الحالة المزرية لمجلس النواب فإن النصاب القانوني لاجتماع المجلس كان مفقوداً في أعلب الأحيان، ونواب الشعب يتنزهون في البلدان العربية والأوربية وغيرها من البلدان الأخرى، ومشاريع القوانين معطلة، فهم في وادٍ والشعب الذي أوصلهم إلى البرلمان في وادٍ آخر.
ومنذُ اشهر عديدة وحكومة المالكي تعاني من صراعات عميقة، وتمزق بين إطرافها، فهذه الحكومة التي أطلق عليها حكومة الوحدة الوطنية، والتي لا تعدو عن كونها حكومة محاصصة طائفية بين قوى وأحزاب لا يجمعها أية أهداف وبرامج وطنية مشتركة، وجُل هم هذه الجهات هو تحقيق المكاسب والمغانم لحسابها الخاص، دون الالتفات للمصالح الوطنية العليا، ودون الاهتمام بما يعانيه الشعب العراقي من أوضاع كارثية في كافة المجالات الأمنية والاجتماعية والصحية والثقافية والخدماتية.
ونتيجة للصراعات المحتدمة بين هذه الأطراف بسبب اختلاف                                                                                                          المصالح واختلاف التوجهات أخذت الانسحابات من تتوالى من الحكومة  فقد انسحب منها حزب الفضيلة منذ بداية تشكيلها، ثم تبعه انسحاب التيار الصدري، وجبهة التوافق، وجبهة الحوار، وأخيراً القائمة العراقية، وأخذ الحديث يدور عن نية حزب الدعوة [ تنظيم العراقٍ ] بالانسحاب كذلك، وهكذا لم يبقَ في حكومة المالكي سوى طرفين فقط هما الائتلاف الشيعي المتمثل بالمجلس الأعلى بزعامة عبد العزيز وحزب الدعوة بزعامة المالكي، والتحالف الكردستاني المتمثل بالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة  السيد مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني. ونتيجة للصراعات المحتدمة بين أطراف التحالف الشيعي نفسه بدأت الانسحابات من هذا التحالف تتوالى، فقد كان قد انسحب حزب الفضيلة من قبل، ثم لحق به التيار الصدري الذي سبق له أن انسحب من الوزارة، وانسحاب كتلة إبراهيم الجعفري، وكتلة الرساليون، وهكذا أصبح مصير حكومة المالكي في مهب الريح، ولن يجدي نفعاً كل محاولات المالكي لترقيع الوزارة.             .                          فمنذ اشهر عديدة والسيد نوري المالكي يصرح كل يوم تارة عن قرب إملاء الشواغر في الوزارة بعد استقالة 17 وزيراً، وعن النية في تأليف وزارة تنكوقراط مصغرة من نفس القوى السياسية تارة أخرى. ويستمر المالكي بالتشبث بالسلطة رغم انفراط أغلب أطراف الحكومة دون أن يستطيع حتى ترقيع الوزارة،ة مدعوماً بالإرادة الأمريكية التي تنتظر من المالكي إنجاز مهمتين أساسيتين، أولهما المصادقة على المعاهدة الأمريكية العراقي طويلة الأمد ، والمهمة الثاني تتمثل في إنجاز قانون النفط والغاز بما يضمن هيمنة الشركات النفطية الأمريكية الكبرى على نفط العراق.
ومما زاد في الطين بله الوضع المأساوي للبرلمان العراقي  الذي عجز رئيسه السيد محمود المشهداني أن يجمع أعضائه لإكمال النصاب، فمعظم أعضاء المجلس يتواجدون خارج العراق، والبرلمان مشلول تماماً، شأنه شأن حكومة المالكي، وأوضاع العراق الأمنية تسير من سيئ إلى أسوأ، والخدمات الضرورية لحياة المواطنين في أسوأ أحوالها، فلا كهرباء ولا ماء الشرب ولا وقود بمختلف أنواعه، حيث تسيطر عليه الميلشيات المعروفة، وتتحكم بأسعاره، ويجري تهريب كميات كبيرة منه، ولا العناية بصحة المواطنين، بعد أن غادر أغلبية الأطباء الاختصاصيين، والألوف من الأطباء الآخرين إلى خارج العراق هرباً من الموت، بالإضافة إلى شحة الدواء، وصعوبة حصول المواطنين عليه، بعد الفساد الذي استشرى في كافة مرافق الدولة، وصارت الأدوية تجارة رابحة خارج المستثفيات.
كما أخذت تتصاعد كل يوم أرقام العراقيين المغادرين للعراق هرباً من الحرب الطائفية التي يدعي السيد المالكي بأنه استطاع وقفها، لكن جثث الضحايا تستمر دون انقطاع، وتستمر العصابات الميلشياوية باحتلال مساكن المواطنين بما فيها من أثاث دون أن تستطيع الحكومة أعادتها إلى أصحابها، ويعاني المهجرون داخل وخارج العراق ظروفا قاسية جداً دون أن تلقى أوضاعهم أي اهتمام.
إن حكومة هذه تركيبتها، وهذه توجهاتها وإجراءاتها لا يمكن أن تحل المليشيات، وتسحب منها السلاح، وتعيد الأمن والسلام في ربوع العراق، وتتوجه نحو معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية، وإعادة بناء البنية التحية المخربة، وإعادة المهجرين والمهاجرين إلى الوطن، واستعادة رؤوس الأموال الهاربة خارج الحدود، وتشجيع الاستثمار الأجنبي لإقامة مختلف المشاريع الصناعية والزراعية، ومعالجة مشكلة البطالة، المفرخة الأساسية لقوى الإرهاب، ولا سبيل لمعالجة المأزق الحالي إلا بقيام حكومة تنكوقراط مركزية قوية، من العناصر الوطنية النظيفة، بعيداً عن هيمنة القوى الطائفية والعرقية، ووقف العمل بالدستور، وحل البرلمان، ووقف العمل بالمجالس المحلية التي تتحكم فيها القوى الطائفية وميلشياتها المسلحة، ومنح الحكومة صلاحيات واسعة لمدة زمنية محددة لا تتجاوز ثلاث سنوات، ريثما يعود الأمن والسلام في البلاد، وتزول الميلشيات، وتتهيأ الظروف الطبيعية لإجراء انتخابات برلمانية جديدة، بعد سن قانون جديد للأحزاب لقيام حياة حزبية تؤمن بالديمقراطية بعيداً عن الطائفية الدينية والعرقية، وتشكيل لجنة من كبار أساتذة القانون الدستوري لوضع مسودة دستور علماني جديد للبلاد، يكرس الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية بين المواطنين بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، وإن أي طريق أخر لن يفضِ إلى السلام المنشود، وسيستمر الصراع والتناحر بين القوى الطائفية وميليشاتها، ويستمر نزيف الدم، ويستمر الخراب والدمار في كافة مرافق البلاد وتتدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتستمر الهجرة الاضطرارية، وتفريغ العراق من كافة كوادره العلمية بمختلف اختصاصاتها، ويستمر تحكم قوى الظلام والفاشية الدينية في حياة المواطنين الذين يسعون لإقامة نظام طالباني جديد في العراق.

440
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة / 24
حامد الحمداني                                                   1/ 7/2008
 
                                         
أولاً:اشتداد الصراع السياسي وتدهور الوضع الأمني في البلاد
أصبح المواطن العراقي يعيش في ظل كابوس رهيب يتربص به الموت من كل الجهات على أيدي عصابات الإرهابيين القتلة من  الصداميين، وعناصر القاعدة، الذين كان يقودهم المجرم الزرقاوي، وفرق الموت التابعة للأحزاب الدينية الشيعية الذين تمرسوا على الجريمة والقتل بدم بارد، متخذين من الإسلام شعاراً لهم.
لقد تحول العراق بفضل السياسة الأمريكية الحمقاء إلى ساحة للصراع بين الولايات المتحدة والقوى الإرهابية التي خلقتها هي نفسها فيما مضى  يوم كان الاتحاد السوفيتي قائما، والصراع بين القوتين العظميين جارياً على قدم وساق، على حساب أمن المواطنين العراقيين، الذي أصبح فيما بعد الشغل الشاغل لهم، ناهيك عن المعانات الشديدة والقاسية نتيجة التدهور الحاصل في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدمية منذ أن تم إسقاط نظام صدام الدكتاتوري في التاسع من نيسان 2003 ، في حين كان الشعب العراقي المظلوم يراوده الأمل بعد التخلص من ذلك النظام القمعي الذي استباح البلاد إن يستعيد حريته المسلوبة وكرامته المهانة، وتحقيق الحياة الكريمة لأجياله الناهضة، فإذا به يعيش في وضع مأساوي لم يشهد له مثيلاً من قبل، فلا كهرباء، ولا ماء صالح للشرب، ولا وقود، ولا رعاية صحية، ولا رعاية اجتماعية، ولا اهتمام بالثقافة، وتحولت الجامعات والمؤسسات الثقافية إلى حسينيات أو جوامع بفضل السياسة الأمريكية التي صنعت لنا نظاماً طائفيا، وشكلت على أساسه مجلس الحكم [البريمري]، وفسحت المجال واسعاً للعناصر الطائفية، مستغلة التخلف الواسع النطاق الذي خلفه لنا نظام الطاغية صدام حسين من خلال حملته الإيمانية المزيفة، ومن خلال إنعاش العلاقات العشائرية المتخلفة، والتي كانت ثورة 14 تموز عام 1958 قد وضعت حداً لها، من خلال إلغاء قانون العشائر السيئ الصيت.
لقد تركت قوات الاحتلال حدود العراق مفتوحة على مصراعيها أمام قوى الظلامية السنية والشيعية على حد سواء لتدخل العراق من دول الجوار إيران وسوريا والأردن والسعودية وتركيا والكويت، كي تمارس جرائمها البشعة. كما وضعت للعراق دستوراً يكرس النظام الطائفي، ويشجع على تفتيت العراق كوطن، وعلى تمزيق البنية الاجتماعية على أساس ديني طائفي أو عرقي يتعارض بشكل صارخ مع مصالح الشعب والوطن.
وها هو الشعب العراقي اليوم بوضعه الحالي المفجع قد وقع ضحية استقطاب طائفي لم نشهد له مثيلا من قبل، وأخذ رجال الدين الشيعة من جهة، والسنة من جهة أخرى يمارسون عمليات التحريض لدى طوائفهم ضد بعضهم البعض، حيث أوصلوا الحال إلى حد الاقتتال. 
لقد بات الوضع الأمني يقض مضاجع جميع أبناء الشعب، حيث تهدر الدماء البريئة كل يوم بالمئات، وحيث تدمر الممتلكات الخاصة والعامة ، وحيث يعم الخراب والجوع والإذلال، وحيث تنتشر البطالة والفقر بشكل مريع، وحيث ينخر الفساد في كافة أجهزة الدولة من القمة حتى القاعدة، وحيث السرقات للأموال العامة بمليارات الدولارات، وحيث أصبحت الرشوة هي الوسيلة الوحيدة لتمشية معاملات المواطنين في دوائر الدولة بشكل علني ودون خوف ، فلا سلطة للقانون، ولا وازع من ضمير.
هذه هي الجنة التي وعد بها الرئيس الأمريكي بوش الشعب العراقي حيث المفخخات والعبوات والأحزمة الناسفة ليل نهار، وحيث تجبر العوائل على مغادرة مساكنها تحت تهديد القتل وحرق الدار.
لقد فقد الشعب الثقة بكل ما أنجزته الإدارة الأمريكية منذ التاسع من نيسان 2003 وحتى اليوم. وبات همه الوحيد عودة الأمن والسلام في البلاد، واستعادة عرى الأخوة والمحبة والاحترام بين أطياف الشعب بكل أديانهم وطوائفهم وقومياتهم.
إنه يريد الديمقراطية و الحرية الحقيقية، بعد كل تلك السنوات العجاف للطغيان البعثي الصدامي، وهو يرفض اليوم رفضاً قاطعا استبدال هذا الطغيان الصدامي بطغيان طائفي اشد ظلاماً وأقسى.
 إنه يريد حكومة لا تنتمي إلى كل هذه القيادات التي وضعت مصلحة الشعب والوطن وراء ظهرها.
إنه يريد حكومة ديمقراطية مستقلة من عناصر تنكوقراط نظيفة  أيديها، مستنيرة عقولها، قوية شكيمتها، تضع مصالح الشعب والوطن في بؤبؤ عيونها، و تعيد بناء الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية بعيداً عن هيمنة الأحزاب الطائفية وميلشياتها، وتؤمن بالعراق ومصالح الشعب فقط، وتتصدى للإرهاب والإرهابيين أينما كانوا، وإلى أية جهة ينتمون، وتعيد الأمن والسلام في ربوع العراق، وتعيد بناء ما خربه النظام السابق، وما خربته الحرب الأمريكية، وما خربته العناصر الإرهابية، وتعيد بناء البنية الاجتماعية المحطمة على أساس من العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مقدمة شعاراتها وأهدافها وصلب دستور البلاد.
الشعب يريد من حكومته أن تقول للمحتلين اخرجوا من ديارنا، ودعونا نعيش بسلام، نبني الوطن، ونحقق الحياة الرغيدة لشعبنا الجائع الذي يعيش في هذا البلد الغني جدا،ً ولا يجد من خيراته شيئاً.
الشعب يريد من حكومته أن تحقق له الاستقلال التام والناجز، وإقامة العلاقات المتكافئة مع سائر بلدان العالم على أساس الاحترام المتبادل للسيادة، والمنافع المشتركة، من دون استغلال أو استعباد.
الشعب يريد دستوراً وطنياً ديمقراطيا يفصل الدين عن الدولة، ولا يفرق بين أحد من المواطنين بسبب دينه أو طائفته أو قوميته، يحترم حقوق الإنسان ويحقق المساواة أمام القانون لسائر المواطنين دون تمييز.
إن الشعب العراقي يُحمّل الولايات المتحدة مسؤولية كل ما جرى ويجري في العراق باعتبارها دولة محتلة للعراق بجيوشها الجرارة، وأسلحتها الفتاكة، وطائراتها المخيفة، وهي تملك كل الوسائل والسبل لإخراج العراق وشعبه من هذه المحنة لو هي شاءت، لكنها كما يبدو لكل ذي بصر وبصيرة أن الإدارة الأمريكية لم يكن في أجندتها أقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ولم يكن هدفها من الحرب الكارثية تخليص الشعب العراقي من نظام صدام القمعي وهي التي جاءت للعراقيين بهذا النظام الطائفي الذي يمارس ما مارسه نظام صدام أضعافا مضاعفة وبصورة علنية، حيث يجري قتل المئات من المواطنين الأبرياء في الشوارع والطرق على رؤوس الأشهاد، وحيث تلقى الجثث في المزابل طعاماً للكلاب السائبة، مما أوقع الشعب العراقي في محنة قاسية فاقت كل المحن السابقة، وأصابه اليأس القاتل من أمكانية الخروج منها، ولم يبقَ أمامه من طريق سوى التفكير في الرحيل من العراق لمن استطاع إليه سبيلا، أو الانكفاء في البيت واستنفاذ كافة مدخراته من أجل إدامة حياة العائلة، أو الاستسلام للأقدار، والخروج للعمل والمجازفة بحياتهم لأجل تأمين المتطلبات الضرورية للعائلة وهم غير مصدقين بسلامة العودة.
ثانيا: انعقاد الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق بجهود عربية ودولية
انتيجة للجهود التي بذلتها جامعة الدول العربية، وبمشاركة العديد من قادة الدول العربية لجمع الأطراف التي كانت تخوض الصراع على الساحة العراقية فيما بينها، في محاولة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء تمهيداً للوصول إلى قواسم مشتركة لإجراء مصالحة وطنية تخرج العراقيين من الوضع الكارثي الذي حل بالبلاد، فقد تكللت تلك الجهود بجمع سائر الأطراف في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية في القاهرة في الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق، على أن تلتقي هذه الأطراف بعد تهدئة الأوضاع الأمنية في بغداد لمواصلة أعمال المؤتمر بغية الخروج من المأزق الراهن.
وهكذا انعقد الاجتماع التحضيري في التاسع عشر والعشرين من شهر تشرين الثاني 2005 ، ورغم ما ساد المؤتمر خلافات عميقة فقد استطاع المؤتمرون بمساعدة الرئيس المصري حسني مبارك، والسيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية، والسيد عبد العزيز بلخادم الممثل الشخصي للرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقه، وبحضور الرئيس العراقي السيد جلال الطالباني، والدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء، والسيد هوشيار زيباري وزير الخارجية، والسيد اشرف قاضي ممثل الأمين العام للجامعة في العراق، ووزراء خارجية إيران وتركيا، وسفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والعديد من الشخصيات السياسية الأخرى، الخروج من المؤتمر بالمقررات الإيجابية التي تضمنها البيان التالي الصادر عن المؤتمر، وهذا نصه: (1) 
انعقد في مقر الأمانة العامة بالقاهرة الاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي خلال الفترة من 19-21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005، بمشاركة القوى السياسية العراقية من مختلف مكونات الشعب العراقي، وذلك تلبية لدعوة من السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية.                                                                                 افتتح أعمال المؤتمر الرئيس حسنى مبارك رئيس جمهورية مصر العربية، والرئيس جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق، والدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقي، والسيد عبد العزيز بلخادم وزير الدولة الممثل الشخصي للرئيس عبد العزيز بو تفليقه رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية رئيس القمة العربية، والسيد أشرف قاضي الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق.                                   .                       
كما حضر الجلسة الافتتاحية السادة وزراء الخارجية العرب أعضاء اللجنة الوزارية الخاصة بالعراق ووزير خارجية الجمهورية اللبنانية، والدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس جمهورية السودان، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، والأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وممثل اتحاد المغرب العربي، وممثل جمهورية موريتانيا الإسلامية، ووزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وممثل وزير خارجية جمهورية تركيا، وسفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والمندوبون الدائمون لدى الجامعة العربية، وعدد من سفراء الدول الأجنبية المرتبطة بمذكرات تفاهم مع الجامعة العربية، وممثل الاتحاد الأوروبي، وممثلون عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي للتنمية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وقد أكد مصدر مسؤول في جامعة الدول العربية أن توسيع العملية السياسية هو النقطة الأولى على مشروع جدول أعمال مؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي أعدته الأحد 20 تشرين الثاني 2005 لجنة منبثقة عن اجتماع القوى العراقية في القاهرة.                               .
وكانت أعمال اليوم الثاني للاجتماع التحضيري شهدت انفراجا في أجواء التوتر التي خيمت عليه السبت. وشهدت أروقة الجامعة العربية اجتماعا غير مسبوق بين رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري ورئيس هيئة علماء المسلمين السنية حارث الضاري.                     .
وقال مصدر مسؤول في الجامعة أن الأمين العام للجامعة عمرو موسى ساهم في أتمام هذا الاجتماع الذي جرى على هامش غداء عمل لرؤساء الوفود في مقر الجامعة.                                       .   
وبعد انتهاء هذا الاجتماع صرح الجعفري للصحافيين لدى مغادرته مقر الجامعة أن تقدما كبيرا تحقق في الاجتماعات التحضيرية في كافة الأمور، وأن مصالحة تمت بين العديد من المشاركين في المؤتمر، وتابع أن هناك تساؤلات مشروعة طرحت وهي تستدعي متابعة وليس الابتعاد عنها لكي يتوحد العراقيون.                     .                               
وقال الجعفري انه حدث لبس في فهم الكلمة التي ألقاها السبت في الجلسة الافتتاحية للاجتماع مؤكدا انه ليس فيها إقصاء لأحد موضحا انه كان يعني أن [عودة حزب البعث إلى الحكم خط احمر سواء كان تنظيما او قيادات]. أما الذين لم يتسلموا مواقع في النظام السابق فلا مشاكل معهم وهم الذين يديرون الأمور الآن في مختلف المؤسسات.                   .
وكان الجعفري قد قال في كلمة ألقاها أمام الجلسة الافتتاحية للاجتماع التحضيري لمؤتمر الوفاق العراقي السبت انه لا مجال للبعث في العراق فهذا خط احمر.(2)
وقد رد عليه حارث الضاري مؤكدا أن كلمته تضمنت روحا إقصائية واعتبر انه قلل من شأن المشاكل التي يعاني منها السنة في العراق.(3)             
كما أدلى الرئيس العراقي جلال طالباني بتصريحات مماثلة وقال انه لا يعارض إدماج البعثيين الذين لم يرتكبوا جرائم بحق الشعب العراقي بل أكد استعداده لمقابلة من يسمون أنفسهم بالمقاومة والاستماع إليهم بصفته رئيسا لكل العراقيين.(4)
وقد خرج المؤتمر بالبيان الختامي التالي:                                .
تدارس المشاركون الإعداد لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي وآليات العمل والتحضير له في المرحلة المقبلة لبناء عراق المستقبل، وأظهرت مداخلات المشاركين والمشاورات والحوارات التي جرت في جلسات العمل والحوارات التي جرت في جلسات عمل الاجتماع توافق في الرأي على النقاط التالية:                            .
1ـ الترحيب بمبادرة جامعة الدول العربية لعقد مؤتمر الوفاق الوطني العراقي، وتأكيد حرص الجميع على توفير أفضل الظروف لعقد هذا المؤتمر ونجاحه.                                                     
2 ـ الالتزام بوحدة العراق وسيادته وحريته واستقلاله وعدم السماح بالتدخل في شؤونه الداخلية، واحترام إرادة الشعب العراقي وخياراته الديمقراطية في إطار التعددية ونظام اتحادي وحقه في تقرير مستقبله بنفسه.
3 ـ إن الشعب العراقي يتطلع إلى اليوم الذي يتم فيه خروج القوات الأجنبية من العراق وبناء قواته المسلحة والأمنية ويحظى فيه بالأمن والاستقرار، والتخلص من الإرهاب الذي يطال العراقيين والبنية التحتية العراقية ويُدمر الثروات الوطنية وأجهزة الدولة.                   .                                        4 ـ مع أن المقاومة حق مشروع للشعوب كافة، بيد أن الإرهاب لا يُمثل مقاومة مشروعة، عليه نُدين الإرهاب وأعمال العنف والقتل والخطف التي تستهدف المواطنين العراقيين والمؤسسات الإنسانية والمدنية والحكومية، والثروة الوطنية، ودور العبادة، ونطالب بالتصدي له فوراً      5 ـ إدانة التكفير للشعب العراقي لأنه يتعارض مع تعاليم الإسلام السمحة التي تُحرم تكفير المسلم لأخيه المسلم، والعمل على إشاعة القيم الإسلامية التي تدعو إلى التآخي والتسامح وترسيخ الوحدة الوطنية.
6 ـ الدعوة إلى الإفراج عن كل المعتقلين الأبرياء الذين لم يُدانوا أمام القضاء، والتحقيق في دعاوى التعذيب ومحاسبة المُقصرين ومرتكبي هذه الأعمال، والإيقاف الفوري للمداهمات العشوائية والاعتقالات بدون أمر قضائي موثق.                                             .
7 ـ  المطالبة بانسحاب القوات الأجنبية وفق جدول زمني، وذلك بوضع برنامج وطني فوري لإعادة بناء القوات المسلحة تدريباً وإعداداً وتسليحاً على أسس سليمة تُمكنها من حماية حدوده، ومن السيطرة على الوضع الأمني في البلاد.
8 ـ احترام موقف جميع أطياف الشعب العراقي، وعدم إعاقة العملية السياسية والمشاركة الواسعة في الانتخابات المقبلة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، واحترام رأى الشعب العراقي في اختيار ممثليه.     
كما دعا المشاركون الدول العربية الشقيقة إلى دعم العراق في مختلف المجالات وعلى رأسها ما يلي:                                            .
1 ـ التعجيل بإلغاء الديون المستحقة على العراق أو تخفيضها تمشياً مع قرار نادى باريس وقرارات جامعة الدول العربية.                          .
2 ـ  المساهمة في تدريب وتأهيل الكوادر العراقية في مختلف قطاعات الدولة.
3 ـ تعزيز التواجد الدبلوماسي العربي في العراق مع توفير الحماية الأمنية اللازمة للبعثات الدبلوماسية العربية.                     
4 ـ تقديم المساعدات الإنسانية، والقيام بدورٍ فعال في عملية إعادة الإعمار في العراق.                                            .
5 ـ  المساعدة في ضبط الحدود لمنع المتسللين.                             
وفي ضوء المناقشات والمداخلات تم تشكيل مجموعتي عمل الأولى معنية بالإعداد لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي بإدارة معالي السيد عبد العزيز بلخادم، والثانية معنية بإجراءات بناء الثقة بإدارة معالي الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، حيث تم التوصل إلى ما يلي:                .                 
أولاً:  أن يُعقد مؤتمر الوفاق الوطني العراقي خلال الأسبوع الأخير من شهر فبراير/ شباط أو في الأسبوع الأول من مارس/ آذار 2006 في بغداد.
 ثانياً: مشروع جدول أعمال المؤتمر والذي يتضمن المحاور التالية:      .  1 ـ توسيع العملية السياسية لتشمل جميع القوى على أساس تبني النهج الديمقراطي.
2 ـ  وحدة العراق واستقلاله وسيادته ووضع برنامج لإنهاء مهمة القوة المتعددة الجنسيات. 
3 ـ معالجة الوضع الأمني.                                         
4ـ المساواة في المواطنة في الحقوق والواجبات.
5ـ مجالات الدعم المطلوبة لإنجاح عملية الوفاق الوطني. 
 6 ـ معالجة موضوع الديون وإعادة إعمار العراق.
ثالثاً: تحديد معايير المشاركة في المؤتمر على النحو التالي :             
1 ـ ضمان التمثيل المتوازن والشامل للقوى والأحزاب السياسية العراقية الممثلة لمكونات الشعب العراقي كافة بما فيها العشائر، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني والمرأة.                             
2ـ الالتزام بالحوار والنهج الديمقراطي ونبذ العنف والاستعداد للمشاركة في العملية السياسية.                                   
 3 ـ الالتزام بالسعي نحو تحقيق أهداف العملية السياسية بالوسائل السلمية واحترام وجهات النظر المختلفة.                             
رابعاً: تشكيل لجنة مُصغرة لمتابعة الإعداد لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي تُسمى [لجنة المتابعة والإعداد] من القوى السياسية في العراق بمشاركة جامعة الدول العربية وبالتعاون مع الأمم المتحدة.               
خامساً: إقرار عدد من إجراءات بناء الثقة خلال المرحلة المقبلة من بينها الإجراءات العملية التالية                                    .
1 ـ الابتعاد عن تبادل الاتهامات، ودعوة وسائل الإعلام العراقية والعربية للعمل على التقريب بين أطياف الشعب العراقي.                 
2 ـ  عدم استخدام المنابر الدينية والسياسية والإعلامية للتحريض على الكراهية والفُرقة.                                               
3 ـ  العمل على توفير المناخ المناسب لإجراء عملية الانتخابات القادمة بصورة حرة وشفافة.                                         
4 ـ إيجاد صيغة عملية لعمل لقاءات منتظمة بين القوى السياسية والأطياف العراقية لتهيئة المناخ لتحقيق الوفاق الوطني العراقي.    .
5 ـ ضرورة مراجعة وضع المعتقلين في أسرع وقت ممكن وإطلاق سراح مَنْ لم تثبت تهمته ووقف المداهمات إلا بأمر قضائي موثق وإشاعة جو من الأمن والطمأنينة.
  وقد اتفق ممثلو القوى العراقية الذين واصلوا اجتماعاتهم يوم الأحد 20-11-2005 على عقد مؤتمر الوفاق الوطني في الأسبوع الأخير من شباط 2006 داخل العراق على أن يكون [توسيع العمليةالسياسية] النقطة الأولى على جدول أعماله.( 5)
وفي الختام أعرب المشاركون عن الشكر والتقدير لجمهورية مصر العربية رئيساً وحكومةً وشعباً على حُسن الاستقبال وكرم الضيافة، وأشادوا بجهود الرئيس حسنى مبارك، وتقديرهم للدور الذي قامت به اللجنة الوزارية الخاصة بالعراق، كما أعرب المشاركون عن تقديرهم للجهود التي بذلها الأمين العام لجامعة الدول العربية لعقد هذا الاجتماع، والنتائج التي أسفر عنها، والكلمة الهامة التي ألقاها في افتتاح الاجتماع التحضيري وتقديرهم للدور الذي قامت به الأمم المتحدة في دعم المؤتمر
                                                                                           
ثالثاً: الجعفري يتجاهل التدهور الأمني، ويتشبث بالسلطة:

على الرغم من التدهور الأمني الخطير، وتصاعد الأعمال الإرهابية في البلاد وعلى الرغم من الصراع الطائفي الذي بات يحصد أرواح المئات من المواطنين شيعة وسنة كل يوم، وبات القتل يجري على الهوية، بل تعداه إلى الاسم في عرف المتطرفين الجهلة من الطائفتين الشيعية والسنية، والمتطرفين والإرهابيين التكفيرين من عصابة ابن لادن والبعثيين أنصار الجلاد صدام، وكل ذلك جرى ويجري باسم الإسلام، وهكذا تحول العراق إلى جحيم لا يمكن تحمله بعد أن أدى إلى وقوع الكارثة الكبرى بالعراق.
وبات الشعب العراقي يعيش في رعب قاتل، والقلق والاكتئاب والخوف من المستقبل أصبح ملازماً للمواطن العراقي حتى في بيته ، فلا ضمان أن لا يهاجم زوار الليل من القتلة المجرمين بيوتهم وهم نيام لتجز سكاكينهم القذرة رقاب الأطفال قبل النساء والرجال، وهم يهتفون باسم الله وباسم الإسلام.

ولا شك أن المسؤول الأول عن الوضع المأساوي الذي حل بالمجتمع العراقي بالإضافة إلى الاحتلال هو الحكومة القائمة، برئاسة إبراهيم الجعفري، فهو السبب المباشر في الأزمة السياسية المستعصية التي حالت دون تشكيل حكومة وحدة وطنية عراقية قوية قادرة على إعادة الأمن والنظام العام في البلاد، رغم مضى أكثر من ثلاثة أشهر على انتخاب مجلس النواب، والبلاد في فراغ سياسي وأمني خطير حيث كانت وزارة الجعفري هي وزارة تصريف أعمال ليس غير.
وقد أصر السيد إبراهيم الجعفري على تولي رئاسة الوزارة للسنوات الأربعة التالية،على الرغم من معرفته أنه لا يستطيع الحصول على ثلثي أصوات أعضاء مجلس النواب، وعلى الرغم من أن نصف قائمة الائتلاف قد صوتت ضد ترشحه لرئاسة الوزارة، وعلى الرغم من إدراك كل القوى السياسية على الساحة العراقية أن أي حكومة حزبية شيعية كانت أم سنية لا يمكنها إعادة الأمن والسلام في البلاد، وأن السبيل الوحيد للخروج بالعراق وشعبه من هذه المحنة هو تأليف وزارة وحدة وطنية قوية تضم سائر الأطراف ويقودها شخصية وطنية وسياسية قوية ومعتدلة تستطيع إطفاء الحريق، وتحقيق الأمن والسلام لسائر المواطنين، والتفرغ لإعادة بناء العراق الجديد، وتحقيق حياة حرة كريمة تليق بالإنسان العراقي الذي قاسى ولا يزال يقاسي منذ عدة عقود شظف العيش والبؤس والفاقة والأمراض الفتاكة، ودون رعاية اجتماعية.
 لكن الجعفري الذي كان يرفض الفكاك من السلطة حتى لو احترق العراق بأهله، وهو ما برح يدفع بالناس البسطاء والجهلة، وبأعضاء حزبه للتظاهر رافعين صوره التي تذكرنا بصور صدام حسين المخلوع، وهم يهتفون نفس الشعارات التي كان يرفعها رعاع حزب البعث [ ماكو ولي إلا على ونريد حاكم جعفري].
أما الجعفري فقد ذهب بعيداً أكثر من هذا عندما صرح في مقابلة مع صحيفة[الكارديان البريطانية] بأنه لن يرغم على ترك منصبه تحت ضغط الولايات المتحدة وبريطانيا!!، وأضاف قائلا أنه تولى منصبه بقرار ديمقراطي، ويجب احترام إرادة الشعب. (6)
 كان الجعفري يتحدث وكأنما الشعب هو حزب الدعوة وعصابة مقتدى الصدر، بل لقد ذهب إلى ابعد من ذلك إلى التهديد بأن الشعب سيتحرك إذا لم تحترم إرادة الشعب، و يتولى منصب رئاسة الوزراء.
ويبدو أن السيد الجعفري قد نسي أم أنه يتناسى أن من بوأه رئاسة الوزارة هم الأمريكيون، وأنهم الحكام الحقيقيون للعراق شئنا أم أبينا، ولولا إسقاطهم نظام الطاغية صدام لكان هو وكل رفاقه في الحكم ما زالوا لاجئين في دول أوربا والولايات المتحدة.
  وجاء تفجير مرقدي  الإمامين على الهادي وحسن العسكري في سامراء لصب الزيت على النار الطائفية التي اشتعلت بين الشيعة والسنة وحصدت أرواح الألوف من أبناء الطائفتين السنية والشيعية، ولم تتخذ حكومة الجعفري الأجراء الحاسم لوقف حمام الدم هذا، ومنع انتشار نيران الفتنة الطائفية، فقد كان عليه أن يعلن على الفور نظام منع التجول لمنع وقوع تلك المذابح الطائفية البشعة، تاركاً العناصر المتطرفة تستغل تفجير المرقد في سامراء لترتكب تلك الجرائم البشعة بحق أبناء الطائفة السنية من جهة، ولتصعيد الصراع إلى المستوى الذي يهدد بانتشار الحرب الأهلية التي لا تخدم أحداً، تاركين الأخطار الحقيقية التي تمثلها قوى الفاشية السوداء وحلفائها قوى الظلام الإسلامي المسيرة من وراء الحدود.                           
كان المشهد السياسي يبعث الأسى العميق، ويثير القلق الشديد لما كنا نراه من انقسام وتنافس وصراعات غير مبررة لدى القوى الوطنية، السياسية والطائفية والقومية، وكل من هذه القوى تطرح أجندتها وتحاول فرضها على الآخرين كأمر واقع متجاهلين المخاطر التي تهدد في واقع الحال الجميع، وتهدد بكل تأكيد مستقبل العراق وشعبه بكل قومياته وأديانه وطوائفه وتوجهاته السياسية.                                   .
فقوى الإسلام السياسي للطائفة الشيعية التي تتوزع بين المجلس الأعلى وحزب الدعوة والتيار الصدري وحزب الفضيلة، إضافة للقوى الملتفة حول الحوزة تسودها حالة من التنافس غير المبرر، وكل جهة تسعى لفرض هيمنتها على الطائفة، وتحقيق حلمها بالوصول إلى السلطة، وفرض أجندتها المتمثلة بدولة ودستور إسلاميين متجاهلين كون الشعب العراقي يرفض الدكتاتورية الدينية مثل ما رفض الدكتاتورية الصدامية، وهو يطمح بقيام نظام ديمقراطي ودستور علماني يحفظ للدين هيبته واحترامه، ويبعده عن الاستغلال من قبل القوى السياسية أياً كانت، وفي المقابل نجد الطائفة السنية التي ارتبطت بوشائج عديدة مع نظام صدام تحاول إعادة ترتيب أمورها لتحقيق دور لها لما بعد عهد صدام، لكنها تخطئ في اختيار الأساليب الصحيحة لتصحيح مسيرتها، ويقوم جانب كبير من رجال الدين السنة وخاصة خطباء الجوامع بدور خطير جداً يصب في تشجيع القوى التي تمارس الإرهاب من خلال خطبهم التحريضية التي بدأت تتصاعد في وقت كان كل هؤلاء الخطباء لا يملكون الجرأة على أن ينبسوا بكلمة واحدة ضد جرائم نظام صدام التي يندى لها جبين الإنسانية، وتجاهلوا المقابر الجماعية التي ضمت رفات مئات الألوف من أبناء الشعب، وتجاهلوا جرائم الأنفال، وحلبجة، وشهداء انتفاضة آذار المجيدة، وتجاهلواالحروب الإجرامية ضد إيران والكويت، والحروب التي خاضها النظام البائد مع الولايات المتحدة وحلفائها عام 1991 وعام 2003 التي انتهت بزواله، ومع ذلك فلا نجد خطباء الجوامع السنية يتحدثون عن تلك الجرائم ويدينوها، بل أصبح جل همهم التحريض على العهد الجديد، وتشجيع عصابات القتلة من خلال وصفها بالمقاومة للاحتلال، بل وحولوا العديد من الجوامع إلى مخازن أسلحة للإرهابيين بحجة مقاومة الاحتلال، ويتعامون عن الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين وأفراد قوات الشرطة والدفاع المدني الوطنية!. لقد أصبح الوضع خطيراً جداً، وهذا الخطر يهدد الجميع دون استثناء، ولا يمكن درء هذا الخطر إلا بوحدة القوى الوطنية كافة، واتفاقها على القواسم المشتركة التي تحافظ على مصالح الشعب والوطن، من خلال إقامة نظام حكم ديمقراطي تعددي يضمن وحدة وسلامة العراق أرضاً وشعباً، ويزيل المخاوف والحساسيات، وانعدام الثقة بين سائر مكونات الشعب القومية  والطائفية والسياسية، وإعادة النظر في الدستور الجديد بما يؤمن مصالح الجميع، والتوجه العلماني للدولة ويحفظ الحقوق والحريات العامة، وتجنب المنزلقات الطائفية والشوفينية التي لن تقود إلا إلى الحرب الأهلية، والتي لا تجلب إلا الويلات والمصائب التي لا أحد يستطيع تحديد مداها.
 لقد كان أمام الأطراف السياسية خياربن لا ثالث لهما فإما الوطنية الصادقة التي تقود البلاد إلى شاطئ السلام، وتحقق الشعب طموحاته التي يحلم بها في العيش الكريم في ظل عصر من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإما الطوفان الذي يأتي على الأخضر واليابس، ويحقق  حلم الدكتاتور صدام حسين عن تصوره للعراق بعد زوال حكمه [أرضاً يباباً دون شعب]، وتتحمل كل هذه الأطرف مجتمعة مسؤولية الطريق الموصل إلى الهاوية.                                 .
كان الأمل يحدو الشعب العراقي وهو يمر بتلك الظروف العصيبة أن تعي سائر القوى السياسية مسؤولياتها تجاه شعبها،  وأن تعي خطورة المرحلة الحبلى بكل المفاجآت، وأن تدرك أن سعيها لتحقيق مصالحها الأنانية، وما يمليه عليها ضيق افقها القومي والديني والطائفي  لن يقود إلا إلى الكارثة التي ستذهب بالجميع دون استثناء.

441
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة / 23

حامد الحمداني                                                     27/6/2008

أولاً:الاستفتاء العام يقر الدستور الجديد!
جاء إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق النتائج النهائية للاستفتاء الذي جري في 15 أكتوبر تشرين الأول2005 والتي اظهرت أن الدستور قد جرى إقراره من قبل الشعب حيث صوت 79 في المئة من الناخبين بقبول الدستور، وأن 21 في المئة من المصوتين عارضوه، بينما بلغت نسبة الإقبال على الاستفتاء 63 % من مجموع المواطنين الذين يحق لهم التصويت، وهم يمثلون الطائفة السنية.(1)
 كان إسقاط الدستور يتطلب رفض أكثر من ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات، غير أنه من بين 18 محافظة كانت هناك محافظتان فقط قد  رفضت الدستور بأكثرية ثلثي الأصوات هي محافظتي الأنبار وصلاح الدين، وقال عضو المفوضية العليا للانتخابات فريد أيار إن نسبة تأييد مسودة الدستور في محافظة نينوى ذات الأغلبية السنية هي التي حسمت الموقف حيث أيده 44,92% مقابل رفض 55,08% في نينوى حيث شارك 718 ألفا و758 ناخبا من اصل مليون و343 ألفا و381 شخصا مسجلا في سجل الناخبين، وكانت نسبة المقترعين الذين قالوا نعم 322 ألفا و869 مقابل 395 ألفا و889 شخصا صوتوا برفضه.
 وتابع إن السيد أيار قائلاً الفارق هو 11% فقد كانت الطائفة السنية تتحتاج إلى 88 الف صوتا لكي تتغير نتيجة الاستفتاء، وقد لعب الأكراد الدور الحاسم في هذه النتيجة، فقد رفضت محافظتان ذات غالبية من العرب السنة هما محافظة صلاح الدين بنسبة 81,75% ومحافظة الأنبار بنسبة 96,95% الدستور ما أسفر عن تركيز الأنظار على نينوى بصفتها صاحبة الكلمة الفصل. ويشار إلى أن مسودة الدستور تسقط في حال رفضها من قبل ثلاث محافظات بغالبية ثلثي الأصوات.
 وقد اتهم الموصليون الأحزاب القومية الكردية التي عملت المستحيل من أجل إقرار الدستور الذي كانت لهم اليد الطولى في إقرار مواده، بتزوير الاستفتاء، والتلاعب بأعداد الناخبين الكرد، من خلال تكريد مناطق واسعة من أطراف محافظة الموصل، وبالتالي التأثير على نتائج الاستفتاء إدراكا منهم أن تصويت ثلثي الناخبين في الموصل برفض الدستور كان سيسقطه، في حين عمل قادة الحزبين الكرديين جلال الطالباني ومسعود البارزاني على عدم بلوغ الرافضين للدستور نسبة ثلثي الأصوات، حيث كانت عملية التصويت في الموصل فرصتهم التاريخية في تحقيق حلمهم بتثبيت الكيان الذي شيدوه في شمال العراق بدعم وحماية الولايات المتحدة وبريطانيا على أثر الانتفاضة التي اعقبت حرب الخليج الثانية عام 1991.                     .                                                                                    كما وجهت القوى والأحزاب السنية الاتهامات المباشرة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات بتزوير إرادة الشعب العراقي في محافظة الموصل للحيلولة دون إسقاط الدستور، وقد رفض فريد أيار الناطق باسم المفوضية الاتهامات بحدوث تلاعب في النتائج مشيرا إلى انه كانت هناك عملية تدقيق مطولة قبل إعلان النتائج، ولكن أشرف قاضي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان قال إن الاستفتاء قد أظهر كيف صارت حالة الاستقطاب خطيرة في العراق. (2)
ثانيا:الطائفة السنية ترفض الدستور ونتائج الاستفتاء
وهكذا جاء الاستفتاء على الدستور مخيباً ليس فقط لآمال الطائفة السنية، بل لسائر القوى العلمانية التي وجدت في الدستور مشروع لتقسيم البلاد، وللحرب الأهلية، واستمرار تدهور الوضع الخطير في البلاد، وجاء أول رد فعل بعد إعلان نتائج الاستفتاء من قبل زعماء المعارضة السنية الذين عبروا عن رفضهم نتائج الاستفتاء التي أقرت الدستور الدائم في 25 تشرين الأول2005، متهمين الطرف الآخر بالتزوير، واتهم عدد من الشخصيات السنية التي شاركت بالمفاوضات على مسودة الدستور المفوضية العليا المستقلة بالإذعان للضغوط الأمريكية،والتلاعب بالنتائج لصالح الزعماء الشيعة والأكراد الذين   سيطروا على الحكومة والبرلمان وسائر مرافق الدولة.                                    .                                                                                                                                                وأعلن زعماء المعارضة بأن هذه النتيجة ستثنيهم عن المشاركة في الانتخابات التي ستجري في كانون الأول المقبل، ودعوا الأمم المتحدة للتدخل معلننين عدم القبول بإجراء أي استفتاء أو انتخابات من دون مراقبين دوليين.                                  .                                                                                                                وكانت الحكومة العراقية قد بذلت جهدها لتهدئة الوضع الأمني في البلاد من خلال محاولة إشراك الطائفة السنية في العملية السياسية، لكن الدستور جاء معمقاً للانقسامات الطائفية، حيث أعطى الدستور الطائفة الشيعة والأكراد سلطة وسيطرة واسعة على ثروة البلاد، وفي مقدمتها الموارد النفطية من خلال مشروع إقامة الفيدراليات الشيعية والكردية.(3)                                                             ومن جهته قال الرئيس الأمريكي بوش إن ملايين العراقيين قد صوتوا في انتخابات كانون الثاني 2005، ولم يكن عدد كبير من الأفراد يعتقد أن هذا أمر ممكن. وتم صياغة الدستور الجديد، وكما تعلمون أنها وثيقة أثارت نقاشات وجدلا، فقد أبدى البعض تحفظات بشأنها أو دعمها جزئيا، لكنها تبقى وثيقة يمكن تعديلها من قبل حكومة تنتخب ديموقراطيا تماما كما حصل مع الدستور الأمريكي، ومضى الرئيس بوش في الحديث قائلاً: إن [الدستور الأمريكي] أثار قلقا أيضا عندما تم تبنيه للمرة الأولى، وتم تعديله على الفور. (4)
ثالثا: حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة باشتراك السنة
بعد أن تم إعداد الدستور الجديد من قبل اللجنة المشكلة من قبل البرلمان وإقراره في الاستفتاء، جاءت الخطوة التالية القاضية بحل البرلمان وأجراء انتخابات برلمانية جديدة تتولى بموجب الدستور الجديد الذي أصبح نافذ المفعول، انتخاب رئيس للجمهورية ونائبين للرئيس، ورئيس للوزراء وتشكيل الحكومة الجديدة.
 كان واضحاً أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعية التي دخلت الانتخابات تحت قائمة الائتلاف العراقي، وقائمة التحالف الكردستاني ستقطف مرة أخرى ثمار الانتخابات الجديدة بكل تأكيد، مما يعني ذلك استمرار عزل المعارضة السنية، واستمرار التدهور الأمني في البلاد.  وعلى الرغم من استطاعة الإدارة الأمريكية إقناع جبهة التوافق التي يتزعمها الحزب الإسلامي الطائفي السني بزعامة طارق الهاشمي، وحلفائه جبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلق وغيرها من التنظيمات السنية الأخرى المشاركة في الانتخابات بعد أن طمأنت قادة هذه القوى بإجراء تعديلات على الدستور بعد الانتخابات بما يلبي مطالب الطائفة السنية التي جرى تهميشها داعية إياهم إلى المساهمة في تهدئة الأوضاع.
وبالفعل استطاعت الحكومة إجراء الانتخابات في جو من الهدوء النسبي لم تشهده البلاد منذ سقوط نظام صدام، مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين القيادات السنية والشيعية وبين العناصر المسلحة التي أغرقت الشوارع والطرق العراقية بدماء الأبرياء، حيث أوعز قادة الطرفين إلى الميليشيات التابعة لهم بتهدئة الوضع في البلاد خلال الانتخابات، والسماح للمواطنين المشاركة فيها دون خوف من السيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة والقذائف والرصاص المنهمر فوق رؤوس المواطنين كل يوم.
لم يكن هناك تصويت لبرنامج السياسي بل جرى التصويت بدوافع الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي بسبب الظرف الخاص الذي كان يمر به العراق، وشاركت بعض القوى السنية في الانتخابات بعد أن قاطعت الانتخابات السابقة، وبالتالي عن صياغة الدستور،مبعدة نفسها عن التأثير الفعال في القرار السياسي، مما أحدث خللا في توازن مجلس النواب العراقي المؤقت السابق. وجاءت نتائج الانتخابات التي جرت في 15 كانون الأول 2005، وبعد التصويت على الدستور العراقي الدائم الذي تم في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2005 بمجلس نيابي ضم 275 عضوا لكي يتولى تشكيل حكومة تتولى السلطة لمدة أربع سنوات.
 وبحسب توزيع المفوضية العليا التي أشرفت على الانتخابات فقد تم تخصيص 59 من مقاعد البرلمان لمحافظة بغداد و 19 لمحافظة نينوى و 16 لمحافظة البصرة و 15 لمحافظة السليمانية و 13 لمحافظة أربيل و 12 لمحافظة ذي قار و 11 لمحافظة بابل و 10 لمحافظة ديالى و 9 لكل من محافظة الأنبار و محافظة كركوك و 8 لكل من محافظة صلاح الدين و محافظة النجف و محافظة القادسية و 7 لكل من محافظة ميسان و محافظة دهوك و 6 لكل من محافظة كربلاء و محافظة المثنى.
 أما بالنسبة للمقاعد ال45 المتبقية فقد منحت للأقليات التي لم تستطع المنافسة مع القوائم الكبرى و للمرأة العراقية إذا أخفقت في الحصول على نسبة 25% من المقاعد التي اقرها الدستور. (5)
وقد شارك في الانتخابات العديد من الأحزاب المؤتلفة كان أبرزها:
1 ـ الائتلاف العراقي الموحد: وقد ضم الأحزاب الشيعية الدينية وهي المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، و حزب الدعوة الاسلامية و التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر، وحزب الفضيلة، وقد حصلت على 128 مقعداً.
2 ـ التحالف الكردستاني: وقد ضم الحزب الديمقراطي الكردستاني و الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الشيوعي الكردستاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني وحزب كادحي كردستان، وقد حصلت على 53 مقعداً.
3 ـ القائمة العراقية الوطنية:  وهو تحالف علماني بقيادة رجل الولايات المتحدة رئيس الوزراء السابق أياد علاوي، وضم الحزب الشيوعي العراقي، والعديد من الشخصيات السياسية المستقلة كان من بينها الدكتور مهدي الحافظ والسيد غازي الياور، وقد حصلت على 25مقعداً.
4 ـ قائمة المؤتمر الوطني العراقي: بقيادة أحمد الجلبي، والذي انسحب من قائمة الائتلاف الشيعية، وفشلت في الحصول على أي مقعد. وقد تم منح الجلبي مقعداً من المقاعد التعويضية.
5 ـ قائمة التوافق : التي ضمت الحزب الإسلامي والعديد من التجمعات الطائفية السنية ، وقد حصلت على 44 مقعداً.
6 ـ جبهة الحوار: بزعامة الدكتور صالح المطلك، وحصلت على 11 مقعداً.                                                                                       7ـ قائمة المصالحة والحوار: بزعامة مشعان الجبوري، وقد حصلت على 3 مقاعد.                                                    .                                                                                8 ـ قائمة الرساليون: القريبة من الصدريين، وقد حصلت على مقعدين.
9 ـ قائمة الرافدين المسيحية: وقد حصلت على مقعد واحد.
10ـ الجبهة التركمانية والأيزيديين وقائمة مثال الآلوسي: حصلوا على مقعد واحد لكل منهم.
وبقيت المقاعد التعويضية البالغة 45 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 275 مقعداً فقد جرى توزيعها على القوائم الفائزة كل بنسبة أصواتها . (6)
وهكذا أظهرت الانتخابات الجديدة أن الائتلاف الشيعي قد خسر 12 مقعداً في البرلمان الجديد في حين خسر التحالف الكردي 22 مقعداً وخسر ت القائمة العراقية بزعامة علاوي 15 مقعداً ، أما قائمة المؤتمر الوطني العراقي بقيادة الدكتور احمد الجلبي فقد فشلت في الحصول على أي مقعد في البرلمان الجديد بعد أن خرج من قائمة الائتلاف الشيعي .     
تسبب إعلان النتائج الانتخابات بقيام المظاهرات احتجاجا على تلك النتائج حيث أعلن ممثلي القوائم الأخرى أن الانتخابات قد جرى تزويرها لصالح ائتلاف الأحزاب الشيعية الدينية. (7)
 أما هيئة علماء المسلمين السنية التي  ضمت القوى الرجعية وعناصر بعثية، فقد أعلنت أن الانتخابات غير شرعية طالما جرت في ظل الاحتلال،  وطالبت الأحزاب السنية والعلمانية بإعادتها بدعوى حصول تزوير فيها ومضايقة وتهديد واستفزاز الناخبين. (8)              .                             إن ما أفرزته الانتخابات الثانية من نتائج، وما أثير حولها من شكوك واتهامات بالتزوير من جانب العديد من قادة القوائم المشاركة في الانتخابات، وقبلها الانتخابات البرلمانية السابقة والتي قاطعتها الطائفة السنية، والدستور الذي اقره البرلمان السابق وما أثير حوله، وحول الاستفتاء من شكوك وقلق من قبل جانب كبير من أبناء الشعب، والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية والظلام، والذي يعصف بالبلاد ويزهق أرواح الأبرياء، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، والفقر والبطالة وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى المخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، وقوات الاحتلال الأمريكية المهيمنة على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم  العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير ينذر بكارثة كبرى تهدد بشكل جدي مصير ومستقبل العراق وشعبه. وقد  دفعت هذه الأوضاع الكارثية الإدارة الأمريكية إلى التفكير بإشراك أحزاب الطائفة السنية في السلطة في محاولة لتهدئة الموقف.                                   
رابعا:الإدارة الأمريكية تنجح في إشراك السنة في السلطة:
كانت الطائفية التي مهد لها الدكتاتور صدام حسين بحملته الإيمانية المزيفة، والتي اعتمدها الحاكم الأمريكي بول بريمر في تشكيله مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة المؤقتة فيما بعد، والانتخابات السابقة واللاحقة كلها تمثل عاملاً حاسماً في ترسيخ جذورها، وتعميق مخاطرها على مستقبل العراق. كما أن التعصب القومي الشوفيني، والكراهية أخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي بحيث غدا المواطن السني يكره الشيعي، والشيعي يكره السني،الكردي يكره العربي والعربي يكره الكردي، والتركماني يكره الكردي والكردي يكره التركماني، دعك عن القلق الشديد الذي ينتاب الطوائف الأخرى من المسيحيين والصابئة والأيزيدية جراء تنامي الطائفية البغيضة والشوفينية القومية المتعصبة والخطيرة، ومحاولات البعض فرض أجندتهم المتخلفة على الآخرين بالقوة والترهيب، بل لقد تجاوزت ذلك إلى حد الاغتيال، ونسف محلات بيع المشروبات الروحية، ومحلات الحلاقين الرجالية منها والنسائية، وفرض الحجاب على المرأة، والعودة بها القهقرى إلى العصور القديمة بحجة مخالفة الشريعة!!.                .                                                                                                       وبدأت النغمات تتصاعد بالدعوة إلى استقلال كردستان تارة، والجنوب والفرات الأوسط تارة أخرى، وأصبح العراق فريسة لكل من يملك القوة والمليشيات المسلحة ليحقق طموحاته في تمزيق العراق، وإشعال نيران الحرب الأهلية التي تنذر بالدمار والخراب وإغراق البلاد بالدماء من أجل الاستئثار بالسلطة والثروة.
ما كان في حسبان الشعب العراقي الذي كان تواقاً للخلاص من نظام طاغية العصر صدام وحزبه الفاشي، والخروج من ذلك الوضع القاسي، ليصبح  ضحية وضع أشد فتكاً وأفضع.
كما لم يدر في خلده أن يشهد هذا الصراع العنيف بين قادة الكتل والأحزاب السياسية على السلطة، تاركين الشعب تحت رحمة القوى الإرهابية الصدامية والظلامية التي حولت حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق، جراء الجرائم التي يقترفونها كل يوم بدم بارد، وعن عزمٍ وتصميم لإنزال اكبر الخسائر البشرية والمادية بالشعب العراقي، بسياراتهم المفخخة، والعبوات المزروعة على الطرق والشوارع، والأحزمة الناسفة للانتحاريين الظلاميين المجرمين، حتى بات المواطن العراقي لا يأتمن على نفسه حتى في بيته.
وبدلا من أن توحد القوى والأحزاب السياسية التي عارضت نظام الطاغية صدام جهودها للتصدي لهذا الوباء الخطير الذي يعصف بالبلاد فقد جرى تحويل مجرى الصراع بين هذه القوى إلى صراع طائفي خطير بين الشيعة والسنة !!، ووصل هذا الصراع إلى الحد الذي جرت فيه أعمال القتل الوحشية على الهوية، ولعب الإعلام المتخلف والمتعصب لهذه القوى دوراً خطيراً في تحشيد العناصر المتخلفة وغير المنضبطة، وزجها في هذا الصراع الرهيب الذي ينذر بكارثة كبرى إذا لم تبادر هذه القوى على معالجة الأمر قبل فوات الأوان.
لكن المؤسف أن هذه القوى قد تخلت عن وطنيتها العراقية واضعة نصب أعينها الحصول على المكاسب والمغانم من خلال سعيها الحثيث للإمساك بالسلطة حتى لو احتراق العراق بأهله.
 ففي حين نشهد كل يوم عشرات بل مئات الضحايا من المواطنين المقتولين خنقاً أو ذبحاً أو رصاصة بالرأس وهم معصوبي الأعين ومكتفي الأيدي على يد تلك العناصر الإرهابية التي لم تبقَ وقفاً على العناصر الصدامية والظلامية، بل يشاركها اليوم العناصر المحسوبة على الطائفة الشيعية بما فيها عناصر تنتسب إلى قوات الأمن المفروض فيها حماية الأمن والنظام العام، والحفاظ على امن المواطنين، وقد اعترفت وزارة الداخلية بأن عصابات الموت في الأجهزة الأمنية قد مارست هذا العمل الشنيع بحق المواطنين الأبرياء. (9)
إن هذه القوى قد فقدت ثقة الشعب بها جراء مواقفها إلا مسؤولة، وتخليها عن وطنيتها العراقية، فقد وضعت بعض القوى السياسية عنبها في سلة إيران، وأخرى وضعت عنبها في سلة سوريا، وثالثة وضعت عنبها في سلة السعودية، ورابعة وضعت عنبها في سلة أمريكا و بريطانيا، ولكل منها أجندتها وأهدافها البعيدة المدى مستعينة بما تقدمها هذه الدول من دعم مادي ولوجستي لقاء الخدمات التي تقدمها هي لهذه الدول بالضد من مصالح الشعب والوطن .
ولم تتعلم هذه القوى الدرس من تجارب التاريخ، وتناست كل تلك المؤتمرات التي كانت تعقدها يوم كانت في المعارضة خارج الوطن، وتوافقها على وحدة الجهود لبناء عراق ديمقراطي موحد، ينعم فيه شعبنا بالحرية والعدالة الاجتماعية التي حُرم منها لعقود طويلة. (10)
لقد تخلت هذه القوى عن الشعب في أحلك محنة تعصف به، ولم يعد ما يهمها سوى تحقيق مآربها الأنانية، وتعطشها للسلطة والاستئثار بها، والسعي لتحقيق أهدافها الخاصة حتى ولو أدت إلى تمزيق العراق شعباً ووطناً. القد بات الشعب العراقي تنتابه خيبة أمل كبرى بحكامه، فقد تلاشى الأمل الذي كان يحلم به، وأصابه اليأس من إصلاح الأوضاع المأساوية التي يعيش بظلها، فلا أمان واطمئنان على الحياة، ولا خدمات اجتماعية وصحية وثقافية، والبطالة بلغت أعلى معدلاتها، والأمراض والجوع والفقر تنخر بالمجتمع، والحكام عنه لاهون، وعلى السلطة يتصارعون، ولخدمة المحتلين يتسابقون.
وبسبب تلك الظروف البالغة الخطورة وجدت الإدارة الأمريكية أن إشراك الطائفة السنية في السلطة أمر لا مفر منه للسيطرة على الوضع الأمني في البلاد والخروج من المأزق التي وقعت فيه قواتها العسكرية التي باتت تدفع ثمناً باهظاً في الأفراد والمعدات يوماً بعد يوم، وفي تكاليف الحرب التي بدأت تتصاعد بأرقام قياسية أثارت أعضاء مجلس النواب الأمريكي الديمقراطيين حيث بدأوا حملة واسعة مطالبين بسحب القوات الأمريكية من العراق.(11)
وهكذا بدأت الإدارة الأمريكية مغازلة الحزب الإسلامي السني، وجبهة
الحوار وعدد من القوى السياسية السنية الأخرى في محاولة لإشراكها في العملية السياسية، واستطاعت إقناعها في المشاركة في السلطة بعد أن وعدتها بإعادة النظر في العديد من مواد الدستور المختلف عليها بما يرضي الطائفة السنية التي سعت القوى الأخرى لتهميشها.
لكن تلك المواعيد المتعلقة في إعادة النظر في مواد الدستور المختلف عليه ظلت تتناولها التجاذبات بين أحزاب السلطة المتمثلة بالمجلس الأعلى، وحرب الدعوة، والحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، وبين أحزاب الطائفة السنية بمختلف توجهاتها، من دون أي إجراء حقيقي لتنفيذ تلك الوعود التي جرى على أساسها المشاركة في الانتخابات البرلمانية الثانية وكذلك المشاركة في السلطة، واستمرت المماطلات من قبل أحزاب السلطة، مما اضطر في نهاية المطاف قادة أحزاب الطائفة السنية إلى الانسحاب من الحكومة والبرلمان، وأدى الأمر إلى استمرار التدهور الأمني في البلاد، وبالتالي استمرار الكارثة التي بات الشعب العراقي يعيش في ظلها منذ سقوط نظام الدكتاتور صدام في التاسع من نيسان 2003 وحتى يومنا هذا .

442
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة / 22
حامد الحمداني                                                      25/6/2008
تأليف مجلس الرئاسة، والحكومة برئاسة الجعفري:
بعد ظهور نتائج الانتخابات للمجلس التأسيسي وفوز قائمة الائتلاف الشيعية وقائمة التحالف الكردستانية المتحالفة معها بأغلبية مقاعد المجلس بات من المحتم أن يشكل الوزارة أحد أقطاب قائمة الائتلاف الشيعية باعتبارها  فازت بالأغلبية.
كان هناك تنافس شديد بين المجلس الأعلى برئاسة السيد عبد العزيز الحكيم ، وحزب الدعوة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري ، قطبا التحالف الشيعي الرئيسيين حول منصب رئاسة الحكومة، فقد رشح عبد العزيز الحكيم السيد عادل عبد المهدي، فيما رشح حزب الدعوة زعيمه إبراهيم الجعفري، وبعد مشاورات تخللتها مناورات عديدة بين مختلف أطراف التحالف الشيعي استطاع الدكتور إبراهيم الجعفري تحقيق الفوز بمنصب رئاسة الوزارة، وجرى تعيين مجلس الرئاسة على الوجه التالي:
1 ـ السيد جلال الطالباني ـ رئيساً للجمهورية
2 ـ السيد غازي عجيل الياور ـ نائباً لرئيس الجمهورية
3 ـ السيد عادل عبد المهدي نائباً لرئيس الجمهورية

وجاء تشكيل الحكومة العراقية الجديدة  برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري على الوجه التالي: (4)
 1ـ روش نوري شاويس ـ نائبا لرئيس الوزراء
 2-احمد الجلبي ـ نائبا لرئيس الوزراء
 3-عبد مطلك حمود الجبوري ـ نائب لرئيس الوزراء
 4 ـ أزهار الشيخلي ـ وزيرة الدولة لشؤون المرأة
 5 ـ سعدون الدليمي ـ  وزيرا للدفاع 
 6ـ باقر صولاغ جبر ـ وزيرا للداخلية
 7 ـ هوشيار زيباري  ـ وزيرا للخارجية
 8 ـ على عبد الأمير ـ علاوي وزيرا للمالية
 9 ـ احمد الجلبي وزير ـ النفط بالوكالة
 10 ـ روش نوري شاويس ـ وزيرا للكهرباء بالوكالة
 11 ـ جاسم محمد جعفر ـ وزيرا الإعمار والإسكان
 12 ـ عبد الفلاح حسن ـ وزيرا للتربية
 13 ـ سامي المظفر وزيرا للتعليم العالي
 14 ـ عبد المطلب محمد على ـ  وزيرا للصحة
 15 ـ برهم صالح ـ وزيرا للتخطيط والتعاون الإنمائي
 16 ـ جوان فؤاد معصوم ـ وزيرة للاتصالات
 17 ـ عبد الباسط كريم مولود ـ  وزيرا للتجارة
 18 ـ مصلح خضر الجبوري ـ وزيرا للصناعة والمعادن بالوكالة
 19 ـ على البهادلي  ـ وزيرا للزراعة
 20 ـ عبد الحسين شندل ـ وزيرا للعدل
 21 ـ إدريس هادي ـ وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية
 22 ـ لطيف رشيد ـ وزيرا للموارد المائية
 23 ـ سلام المالكي ـ وزيرا للنقل
 24 ـ نوري فرحان الراوي ـ وزيرا للثقافة
 25 ـ باسمة يوسف بطرس ـ وزيرة للعلوم والتكنولوجيا
 26 ـ سهيلة عبد جعفر ـ وزيرة للمهجرين والمهاجرين
27  ـ طالب عزيز زيني ـ وزيرا للشباب والرياضة
28 ـ نرمين عثمان ـ  وزيرة لحقوق الانسان بالوكالة
 29 ـ نسرين برواري ـ وزيرة للبلديات والأشغال العامة
 30 ـ عبد الكريم العنزي ـ وزير الدولة لشؤون الأمن الوطني
 31 ـ سعد نايف الحردان ـ وزير الدولة لشؤون المحافظات
 32 ـ علاء حبيب كاظم ـ وزير الدولة لشؤون المجتمع المدني
 33 ـ هاشم الهاشمي ـ وزير الدولة لشؤون السياحة والآثار. 
   
 وقد منح المجلس التأسيسي الثقة لحكومة إبراهيم الجعفري بتاريخ 28  نيسان 2005 ، حيث نالت 180 صوتاً  من أصوات النواب الحاضرين
البالغ عددهم 185 من أصل 275 نائباً. ( 5 )
وقد أدى الدكتور الجعفري على الفور اليمين الدستورية استجابة لطلب التحالف، لكن القسم تجاهل ثلاث كلمات منه تتضمن الإشارة إلى النظام الديموقراطي الاتحادي في العراق، حيث احتج ممثلي التحالف الكردستاني على نص القسم، واضطر الجعفري إلى أعادة أداء القسم في الجلسة التالية لمجلس الوزراء، ثم تلاه نوابه ثم بقية الوزراء. وجاء القسم الجديدعلى النص التالي: [اقسم بالله العلى العظيم أن أؤدي مهامي ومسؤولياتي بتفان وإخلاص، وان أحافظ على استقلال العراق وسيادته، وأرعى مصالح شعبه، واسهر على سلامة أرضه، وسمائه، ومياهه، وثرواته، ونظامه الديموقراطي الاتحادي، واعمل على صيانة الحريات العامة والخاصة، واستقلال القضاء، والتزم بتطبيق التشريعات بأمانة وحياد، والله على ما أقول شهيد] . 
                                                     
خامساً: تشريع الدستور الدائم
بعد إتمام انتخاب المجلس التأسيسي، وتشكيل مجلس الرئاسة والحكومة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري، كان أمام المجلس والحكومة مهمة تتمثل في تشريع الدستور الدائم الذي سيقرر مصير ومستقبل  البلاد، وكان الشعب  ينتابه القلق حول طبيعة الدستور الذي سيجري سنه من قبل اللجنة المشكلة لهذه المهمة، والتي هي بطبيعة الحال مرتبطة بأحزاب الإسلام السياسي الشيعي المتحالف مع الأحزاب القومية الكردية  وكانت شكوك المواطنين تدور حول الأمور الهامة التالية:
1 ـ ما هي توجهات تحالف القوى المنتصرة في الانتخابات؟
2 ـ ما هي طبيعة التحالفات التي انبثقت عنها تشكيل الحكومة الجديدة وانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء  ومجلس الوزراء ؟
3ـ ما هو موقف القوى المنتصرة من مسألة صياغة الدستور ؟
4 ـ ما العلاقة المستقبلية  بين الدين والدولة ؟
5 ـ ما هو الموقف من المرأة التي تمثل نصف المجتمع؟
6 ـ ما هو الموقف من قضية الفيدرالية، وأية فيدرالية تريد الأحزاب الكردية المتحالفة مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعية؟
7ـ ما الموقف الحقيقي من قوى الفاشية والظلام التي تمارس الأعمال الإرهابية في البلاد؟
8 ـ هل سيشهد العراق وحدة وطنية حقيقية أم سيدخل في صراعات جديدة طائفية أشد وأقسى؟
9 ـ  هل يمكن إعادة بناء العراق الجديد دون قيام حكومة وحدة وطنية ؟
أسئلة كثيرة وهامة كانت تتطلب الإجابة عليها بكل صراحة وشفافية لكي يحكم الشعب العراقي على السلطة الجديدة، ولكي يطمئن على مستقبله ومستقبل الوطن.
كان المطلوب من السلطة الجديدة التي ستتولى تشريع الدستور الدائم للبلاد الإفصاح عن برنامجها السياسي، ومشاريعها المستقبلية فيما يخص الدستور الذي تطمح إلى تشريعه بكل شفافية، ودون أي لبس أو غموض، والحذر من محاولة فرض دستور لا يلبي حاجات المجتمع العراقي في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ذلك أن أية محاولة لفرض دستور إسلامي سوف لن يكون إلا مدخلاً لصراعات خطيرة لا مصلحة للشعب فيها، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي،  وتقدم خدمة للقوى المعادية للشعب.
كان الشعب يتطلع إلى أن تسود الحكمة لدى القوى المنتصرة في الانتخابات لكي تحافظ على الوحدة الوطنية، والسير بالعراق نحو الديمقراطية الحقيقية، وتجنيب الشعب أية صراعات جديدة، والحرص على مشاركة كافة القوى الوطنية في السلطة، وفي صياغة الدستور بما يلبي طموحات الشعب التواق للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وكان على السلطة الجديدة الحذر من ربط الدين بالدولة، واستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية وحزبية، وليكن شعار الجميع الدين لله والوطن للجميع .
كما أن السلطة كانت مدعوة للإفصاح عن موقفها من المرأة التي تمثل نصف المجتمع والتواقة للتمتع بكامل حقوقها وحرياتها على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات، حيث سيكون موقف السلطة من هذه المسألة هو المحك للحكم على ديمقراطية السلطة المنشودة.
وكان على السلطة أن تعالج موضوع الفيدرالية للشعب الكردي بما يضمن حقوقه القومية، وعدم تعرضه مستقبلاً لمثل تلك الحملات الفاشية التي تعرض لها خلال العقود الماضية مع ضمان وحدة الوطن العراقي أرضاً وشعباً في ظل الإخاء الوطني، واحترام خصوصية الشعب الكردي .
وكانت السلطة مدعوة كذلك إلى الإسراع في محاكمة أركان النظام الصدامي، والعناصر التي تلطخت أيديها بدماء أبناء الشعب البررة دون تلكأ أو تردد  فلا بد أن يأخذ كل ذي حق حقه بموجب القانون، والعمل على استئصال الفكر البعثي الفاشي وليس البعث من المجتمع العراقي، وتربية أبنائنا منذ الطفولة على القيم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان ونبذ الفكر الفاشي العدواني.

كان ما يثير المخاوف والقلق الشديد لدى أبناء الشعب ما كان يدور وراء الكواليس بين أعضاء لجنة كتابة الدستور المؤلفة أغلبيتها من الأحزاب الطائفية و ممثلي القائمة الكردية من التوجهات التي بدأت تظهر للسطح حول مساعي الأحزاب الدينية لفرض نظام حكم قائم على أساس ديني وطائفي، ومحاولة تفتيت العراق، وتحويله إلى دول الطوائف الذي أوصل الشعب إلى حالة من اليأس القصوى، والقلق الشديد على مستقبله ومصيره، وهو يعيش حالة من التدهور الشديد في كافة مجالات الحياة، فلا أمان، ولا كهرباء،ولا وقود، ولا ماء صالح  ًللشرب، ولا صرف صحي، ولا خدمات صحية حقيقية، ولا سكن، وملايين العاطلين تعاني شظف العيش والبؤس، والمخدرات فُتحت أمامها أبواب العراق، وتجارة الرقيق الأبيض تزدهر يوماً بعد يوم، ولم تبقَ مختصة بالمرأة اليوم، بل بدأت تنافسها تجارة الأطفال التي أصبحت منظمة تتولاها عصابات متخصصة، وفوق كل هذا وذاك نجد شرطة الأحزاب الطائفية تطلق النار على المواطنين المحتجين على أوضاعهم السيئة، وفقدان الخدمات الأساسية كما جرى في السماوة والديوانية والبصرة، وغدا العراق نهباً للطامعين في الثروة الوطنية، وانتشار الفساد في كافة أجهزة الدولة وفي كل المستويات، فأي مستقبل كان ينتظر للعراق وشعبه إذا استمر الحال على ما هو عليه؟
لقد كانت مخاوف الشعب وقلقه على مصيره أمراً واقعاً ومشروعاً بعد كل الذي جرى وما زال يجري على الساحة العراقية حيث استلبت ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي الشيعية منها والسنية كل الحقوق والحريات العامة والشخصية للمواطنين، وتدخلها الفض في حياتهم وخصوصياتهم صغيرها وكبيرها، وكان انتهاك حقوق وحرية المرأة قد أصابها في الصميم، فقد فرض عليها الحجاب بقوة السلاح والتهديد بالقتل سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو صابئية، ودفع المئات منهن حياتهن على أيدي القتلة المجرمين من أدعياء الدين، وعاد المجتمع العراقي القهقرى عشرات السنين، وجرى تهجير مئات الألوف من المواطنين المسيحيين والصابئة من العراق هرباً من طغيان قوى الظلام والفاشية الدينية الجديدة. وفي ظل تلك الظروف الخطيرة، وسيادة قوى الظلام السوداء على الشارع العراقي بقوة السلاح جرى إعداد الدستور الذي حمل معه بذور الصراع والعنف، وتمزيق النسيج الاجتماعي.
 فعلى الرغم من أن قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية كان العمود الفقري للدستور الجديد، فقد استطاعت قوى الأحزاب السياسية الشيعية فرض ديباجة ذات مضمون طائفي صريح، والعديد من المواد والفقرات التي أعطت للدستور بعداً طائفياً، ولاسيما وأن الطائفة السنية كانت قد قاطعت الانتخابات، ولم يكن لها دور فاعل في كتابة الدستور، وكان لها اعتراضات كثيرة عليه، مما عمق في الأزمة السياسية المستحكمة، وصعد من التدهور الأمني في البلاد بشكل خطير.
كما استطاعت الأحزاب القومية الكردية إدخال العديد من المواد والفقرات التي تتناقض مع المادة 13 من الدستور، وسأتعرض لها عند مناقشة بنود الدستور والتناقضات التي ضمتها مواده وما يشكله هذا التناقض من مخاطر جسيمة على مستقبل العراق.
لقد أصرت أحزاب الطائفة السنية على عدم الانخراط في العملية السياسية والمشاركة في الانتخابات القادمة إذا لم يجرِ إعادة النظر في العديد من مواد الدستور، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الفيدرالية وقضية الثروة الوطنية، وفي المقدمة منها النفط والغاز، وكذلك طبيعة السلطة التي تؤمن التوازن المطلوب بين مكونات المجتمع العراقي . وقد استطاعت الإدارة الأمريكية إقناع أحزاب الطائفة السنية بالانخراط بالعملية السياسية بعد أن وعدتها بإعادة النظر في المواد المختلف عليها،  وعلى وجه الخصوص فيما يخص مبدأ الفيدرالية وتقاسم الثروة، وما يزال البرلمان يراوح مكانه دون أن نشهد هذا التعديل الذي بدونه لن يشهد العراق سلاماً ولا استقراراً. ويجد القارئ الكريم نص الدستور في الملاحق المرفقة في آخر الكتاب لكي يتسنى له الإطلاع عليه، وعلى الجوانب السلبية فيه، والتناقضات التي حوته مواده، والتي تتطلب إعادة النظر فيها من أجل إعادة اللحمة بين أطياف الشعب العراقي، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، والتفرغ لإعادة بناء العراق من جديد، وتحقيق الجلاء التام للقوات المحتلة وتحقيق السيادة والاستقلال الناجز.

نظرة في الدستور الدائم 1 ـ الديباجة:
ومن خلال هذه الديباجة يتبين لنا النفس الديني والطائفي، ويثير الخلافات الطائفية والصراع، مما لا ضرورة له، ولا بد من إعادة النظر فيه ليأتي بتأكيد على علمانية الدستور وفصل الدين عن الدولة.   
2 ـ المادة الثانية:
أولا:الإسلام دين الدولة الرسمي،وهو مصدر أساس للتشريع:            .                                                                               
أـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.               .                             
ب ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.                 .                     
ج ـ لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
وفي هذه المادة نجد التناقض الصارخ بين الفقرات أ ، ب، وج ، فكيف ومن يحدد الثوابت الإسلامية ؟ أنها مجرد أفخاخ أريد بها لصبغ الدستور بالصبغة الدينية، مما سيؤدي إلى الصراع والنزاع، ولاسيما وأن مكونات الشعب العراقي تضم المسلمين والمسيحيين والصابئة والأيزيدية. وهي تتطلب إعادة النظر بها من جديد.                                 
3 ـ المادة 115 والمادة 121 وتناقضها مع المادة 13
4 المادة (7):
أولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه، وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون. 
وهذه المادة تتطلب التعديل بما يتفق مع تعديل قانون اجتثاث البعث                                                                                                 
والتأكيد على مكافحة الفكر البعثي  الفاشي.
ثم أن هذه المادة تظهر لنا أن ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي قد انتهكت المادة المذكورة بممارسة الإرهاب والتكفير والطائفية بأبشع صورها
5 ـ المادة (9):                                                            .                                                   
أولاً: أ ـ تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، تراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق ولا تكون أداة في قمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة.
ب ـ يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة.
وهنا تبدو الأحزاب الاسلامية والقومية الكردية قد خالفت مخالفة صريحة نص الفقرة ب وكونت لها ميلشياتها الخاصة في تحدي صريح للدستور.

6 ـ المادة (10):العتبات المقدسة والمقامات الدينية في العراق كيانات دينية وحضارية، وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيه.
لماذا جرى زج هذه المادة في الدستور، فكل العتبات والحسينيات والجوامع والكنائس ينبغي أن تكون لها حرمتها، وحق ممارسة الشعائر الدينية دون تمييز.   
7 ـ  المادة (12):                                                       .                                                               
أولاًـ ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي.
وفيما يخص هذه المادة فبرغم مرور 5 سنوات على سقوط نظام صدام فإن الأحزاب الطائفية الدينية بشقيها الشيعي والسني ترفض تنفيذ هذه المادة، وتصر على الاحتواء العلم لعبارات دينية.

8 ـ  المادة 13:                                                          .
1- عدم جواز تشريع أي قانون يتعارض مع هذا الدستور سواء كان هذا التشريع مركزيا (اتحاديا) أو محليا (إقليميا). ويحكم القضاء المختص بعدم دستورية التشريع الذي يخالف هذه القاعدة.                    .                                                               
2- تكون قواعد هذا الدستور ملزمة في جميع أنحاء الوطن وبدون استثناء.                  .
3- يعد باطلا كل دستور إقليمي أو أي نص قانوني أخر إذا تعارض مع أحكام الدستور العراقي.
 وهنا تأكيد صريح على أن أي تشريع في إقليم أو محافظة يتعارض مع هذا الدستور يعتبر باطلاً وغير دستوري، لكننا نجد أن المادتين، وهذه المادة الأساسية في الدستور تتعارض تمام المعارضة مع نص المادتين 115 ، و121 التي جعلت من هاتين المادتين فوق المادة 13 الأساسية، ويشير هنا بهذا الصدد استاذ القانون الدكتور عيسى الزهيري إلى هذا التناقض قائلا:
أن المواد (115) و (121) من الدستور العراقي الجديد تشكلان خطورة بالغة على مستقبل النظام الدستوري العراقي بسبب استبعادهما للمبادئ الدستورية المتعارف عليها، ولتغليبهما المصلحة المحلية للأقاليم والمحافظات على المصلحة الوطنية العامة عند تعارضهما او تناقضهما. لذلك وجب تعديلهما بما يتطابق مع هذه المبادئ .
كما يجب إعادة النظر في مشروع قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم الذي اعتبر مجلس المحافظة سلطة تشريعية بخلاف ما هو معروف في النظام الإداري اللا مركزي الذي يعتبر مثل هذا المجلس مجرد سلطة تنظيمية لا يمتد اختصاصه إلى التشريع.( 6)                       
  9ـ المادة (36):                                            .
تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:                         .
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.                 .
ثانيا: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.       
ثالثاً:حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون 
وهنا نجد في العبارة [تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب] إمكانية الاختلاف في تأويل هذه العبارة، وما هي الأمور التي تخل بالنظام العام والآداب؟ ولاسيما أن ما حصل ويحصل في العراق اليوم من تجاوز على حريات المواطنين الشخصية باسم مخالفة الآداب العامة، وفرض الحجاب على المرأة، وفرض إطالة اللحية، وطريقة حلاقة الرأس، ومنع صالونات الحلاقة وقتل أصحابها، وكل هذه الاعتداءات تجري باسم حماية الآداب العامة. لذلك فإن إلغاء هذه الفقرة أمر ضروري، وهناك قوانين عقابية تحاسب على ذلك بموجبها.                         
10ـ  المادة (41):                                     .
أولاً: أتباع كل دين أو مذهب أحرار في:                                .
 أ ـ ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية.                  .
ب ـ إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية، وينظم ذلك بقانون
ثانياً: تكفل الدولة حرية العبادة وحماية أماكنها.   
وهنا نجد التمييز بالنسبة للشعائر الدينية المتعلقة بالطائفة الشيعية، فهل ضرب الزناجيل والسيوف وإسالة الدماء هي من الشعائر الدينية ؟ أن الشهيد الحسين أسمى وأعظم من أن يرتضي تلك المشاهد المؤلمة التي نقلتها القنوات التلفزيونية إلى مختلف دول العالم، وأن تمجيد مآثر الحسين والإقتداء به هي السبيل الأمثل لذلك.

11 ـ المادة (109):                                   .
النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات.
وهذه مادة صريحة تتعارض مع الاجراءات التي اتخذتها حكومة إقليم كردستان العراق بعقد العديد من العقود مع شركات أجنبية لاستثمار النفط والغاز في منطقة كردستان، وإصرارها على ذلك رغم تحذير وزير النفط العراقي من كون هذه الاجراءات غير دستورية، بل تجاوزت الحكومة ذلك بالرد على وزير النفط قائلة في كل مرة تعترضون على العقود سنوقع عقدين جديدين، وهذا يشكل انتهاك صارخ للدستور.     
                    . 
المادة (110):                                         .
أولا: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قبل النظام السابق، والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون.                 .
ثانيا: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.
في هذه المادة استغلت حكومة إقليم كردستان بتفسير الفقرة ثانياً لصالح إجراءاتها في توقيع العقود مع العديد من الشركات خلافا للمادة 109 الصريحة، ولا بد من إعادة النظر في الفقرة الثانية لإزالة  هذه الثغرة في الدستور، وحصر مسألة رسم السياسات النفطية بالحكومة الاتحادية. كما أن إعادة النظر في إقامة الأقاليم في الوقت الحاضر وشعب العراق يخوض نزاعاً دموياً لن ينتهِ إذا لم يعاد النظر فيها، وحصرها في الوقت الحاضر بإقليم كردستان مع وضع الضوابط التي تضمن وحدة البلاد  أرضا وشعباً، والمحافظة على إدامة النسيج الاجتماعي في البلاد.

12 ـ   المادة (112):                                                         .
كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية تكون من صلاحيات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحية الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولية لقانون الإقليم في حالة الخلاف بينهما.
وهنا تبدو الأمور معكوسة تماماً مما يشكل مخالفة صريحة للدستور، فهذه المادة تشبه ذلك الذي يقف على رأسه وليس على أقدامه، وتتطلب تعديل هذه المادة بقلبها على الوجه الصحيح.                                                                             
وأخيراً أستطيع القول أن الدستور الجديد جاء مفصلاً على مقاس حزبي البارزاني والطلباني بامتياز.




443
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة / 21

حامد الحمداني                               23/6/2008
تحالف الأحزاب الشيعية الطائفية والقومية الكردية


بعد أن أفرزت الانتخابات النيابية فوزاً كاسحاً لقوى الإسلام السياسي الشيعي، وحازت قائمة الائتلاف على ما يقارب نصف مقاعد البرلمان وفوز الأحزاب الكردية بواحد وسبعين مقعداً، بادر الطرفان لإجراء مفاوضات بين القيادتين من أجل تشكيل تحالف يضمن لهما أغلبية الثلثين في البرلمان، مما يجعل أيديهما طليقة في تقرير مصير البلاد من خلال تقاسم السلطة بينهما، وتشكيل الوزارة، وتشريع وإقرار الدستور الدائم.   
وجدت الأحزاب الكردية المتمثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة السيد مسعود البارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة السيد جلال الطالباني أن مصلحتهما تكمن في إقامة التحالف مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي متخلية عن حلفائها التقليديين متجاهلين كونهما حزبين ديمقراطيين!       
  كما وجد زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية السيد عبد العزيز الحكيم أن هناك قاسماً مشتركاً مع قادة الحزبين الكرديين يتمثل بإقامة كيانات  فيدرالية بموجب ما نصت عليه المادة 58 من قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الذي فرضه الحاكم الأمريكي بول بريمر، والتي تستهدف في واقع الحال تمزيق الكيان العراقي وبنيته الاجتماعية، مما قد يدفع الشعب العراقي إلى الصراعات الطائفية والعراقية، وبالتالي الحرب الأهلية بين سائر مكوناته الإثنية والطائفية.
 دخل الطرفان في مباحثات واسعة ومعمقة لم تترك صغيرة ولا كبيرة في سائر شؤون الحكم، وتقاسم السلطة والوزارات السيادية، وصياغة الدستور، ومسألة الفيدرالية، والميليشيات المسلحة للطرفين، ونسب توزيع ميزانية الدولة، واستطاع الجانب الكردي الذي مثل بيضة القبان في البرلمان فرض شروطه على قادة أحزاب الائتلاف الشيعي، والتي تضمنها الاتفاق الذي جرى عقده بين الطرفين، والذي وجدت من الضروري أن يطلع عليه القراء كي يقفوا على كل ما تضمنه الاتفاق. والتعليق الذي سيتناول كافة جوانب الاتفاق، والتأثير الذي سيتركه على مستقبل العملية السياسية في العراق، وبالتالي مستقبل العراق نفسه وطناً وشعباً.                                                                                               نص اتفاق الائتلاف العراقي الموحد والقائمة الكردية:                        .                 بسم الله الرحمن الرحيم:                                            .
الأسس والمبادئ المتفق عليها بين الائتلاف العراقي الموحدة  والتحالف الوطني الكردستاني لعمل الحكومة الانتقالية:                 .
 أفرزت الانتخابات العامة حالة جديدة في الساحة السياسية العراقية ما يستوجب شحذ الهمم وتكاتف القوى الوطنية والإسلامية الأساسية العامة وخصوصا الفائزة منها للعمل المشترك، ووضع آلية وبرنامج عمل الحكومة الوطنية لتعكس المهمات الكبيرة لاستحقاقات المرحلة القادمة وبذل كل الجهود من أجل تنفيذ هذا البرنامج لإنجاح العملية السياسية، ولبناء العراق الدستوري الديمقراطي الاتحادي التعددي الموحد، الذي يشعر فيه المواطن بكامل المواطنة المتساوية في ممارسته لحقوقه الفردية والجماعية، لنجعل من العراق بلد الجميع من قوميات واديان ومذاهب .. يراعي ويحترم فيه الإسلام العظيم السمح المتعايش بمبادئه الخالدة مع بقية الديانات والمعتقدات في العراق وأبنائها كالمسيحيين والصابئة والأيزيديين وغيرهم . بلد تتحد فيه القوميتان الكبيرتان العربية والكردية اللتان تشكلان الثقل الأعظم للشعب العراقي دون عزل او تمييز عن الدور الكبير الذي يحتله التركمان والكلدان والآشوريين وبقية المكونات بما يؤمن الحقوق الدينية والقومية لكل الأفراد ومكونات الشعب العراقي، بلد تتآخى فيه الأغلبية الشيعية مع السنة بمكانتهم التاريخية ليعمل الجميع من أجل عراق موحد ديمقراطي اتحادي تعددي.         
   إن طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها الشعب العراقي نحو مرحلة دستورية مستقرة تتطلب تشييد البناء على أسس واضحة المعالم لجميع مكونات الشعب العراقي بأطيافه وتياراته السياسية، ولاسيما وان للكثير من أطراف الحركة الوطنية والإسلامية العراقية تحالفات سابقة فيما بينها لمناهضة النظام الدكتاتوري المقبور، وتعاون بناء في مختلف المجالات بعد سقوط ذلك النظام تكلل بالانتخابات الرائعة التي استطاع شعبنا أن ينتصر فيها، والتي تمخضت عن فوز كبير للقائمتين الكبيرتين الائتلاف العراقي الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، مما يوفر أرضية ممتازة للكتلتين بالتعاون إنشاء الله مع بقية الكتل واللوائح لاجتياز هذه المرحلة الحساسة سوية، وهذا شرف كبير يكتب لنا جميعا يسجله التاريخ، وتشيد به الأجيال القادمة لتعزيز الحالة الديمقراطية لبناء العراق على أساس العدالة والإنصاف والمشاركة. يتفق الطرفان على الأسس التالية لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية:                         .                                             
أولا:                                                           .
1 ـ  الالتزام بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية واعتبار أن مهمة المرحلة الانتقالية هي إعداد الدستور الدائم، والسير قدما في قيام حكومة منتخبة وفق دستور دائم.                           .
2ـ  تشكيل حكومة وحدة وطنية، والأخذ بمبدأ المشاركة والتوافق، وتمثيل المكونات العراقية مع الأخذ بنظر الاعتبار النتائج الانتخابية والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، وتوسيع دائرة الاشتراك في العملية السياسية،والإجراءات لصياغة الدستور لكل المكونات والعناصر المقبولة والممثلة لأوساطها، والتي تنبذ الإرهاب والتخريب دون تهميش            أوغبن.                                                 
3ـ العمل على صيانة سيادة العراق وتعزيز استقلاله ووحدته، والتعامل مع مسألة تواجد القوات المتعددة الجنسيات ضمن قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 1546، والإسراع في خطط استكمال بناء القوات المسلحة العراقية لتستطيع أن تتسلم المهام الأمنية من القوات المتعددة الجنسيات عند استكمال المستلزمات عند الجانبين، وتأكيد منهج الاستمرارية والتعاون بين الطرفين بما يحقق الغايات المعلنة بانتهاء مهمة العراق                                                                                       
 إن الإسراع في استكمال المستلزمات الذاتية وفق جدول زمني لتسليم القوات العراقية المهام الأمنية كاملة سوف يهيئ الظروف لتقليل دور القوات المتعدد الجنسيات تدريجيا وصولا إلى إنهاء مهامها.              .
4 ـ  عدم قبول واقع الحرمان والمظلومية والعزل والتمييز واللا مساواة والتأخر التي أصابت المناطق والمدن بسبب السياسات العنصرية والطائفية والاستبدادية للنظام السابق، خصوصا ما حصل في الجنوب وكردستان حلبجة وبقية محافظات العراق، والبدء بتنشيط فكرة مجلس الإعمار خصوصا من أجل إعادة إعمار الجنوب، وتلك المناطق، وتشجيع السياحة الدينية وسياسات الاستثمار والخدمات العامة، كذلك إعطاء الأولوية للسياسات اللازمة في معالجة كل ذلك (المظلومين وضحايا الأنفال والحرب الكيماوية والانتفاضة الشعبانية والسجناء والمفصولين والمهجرين وعوائل الشهداء والمناطق المحرومة ... الخ) . كل ذلك دون الإخلال بمبدأ عدم التمييز بين مناطق العراق إلا لتطبيق السياسات الايجابية، وتوفير نفس فرص التطور والخدمات لكل المناطق بدون استثناء، وكذلك الحفاظ على مبدأ الأهلية والكفاءة من جهة، ومبدأ فاعلية الأجهزة وضرورة استمرارها في تأدية واجباتها.                      .
5 ـ  يجب الحرص على وحدة الحكومة وعملها، وتنسيق سياساتها، وتبني مجلس الوزراء لنظام داخلي ينظم عمله بما ينسجم والتوافق السياسي في اتخاذ القرارات الأساسية السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية.           
6 ـ الحكومة الانتقالية، وبغض النظر عن التحالفات داخلها كل متحد وعليه يجب الحرص على وحدتها، وانسجام عملها، وتناسق سياساتها .. وفي حالة حصول خلاف في داخل الحكومة بين الائتلاف الموحد والتحالف الوطني الكردستاني، وعند استعصاء الخلاف بينها فانه لا يصار إلى حل التحالف والمطالبة باستقالة الحكومة إلا في الحالات المسوغة لحل التحالف والمنصوص عليها أدناه:                  .
  أ ـ مخالفة مبدأ واحد او أكثر من المبادئ العامة المتفق عليها لسياسة 
 الحكومة على نحو لا تسوغ هذه المخالفة ضرورة قاهرة تمليها ظروف داخلية او إقليمية او دولية يعترف بوجودها الطرف المنسحب.      .
 ب ـ إقالة عضو في موقع سيادي من موقع مجلس الوزراء او سحب الثقة منه دونما سبب قانوني وموافقة الطرف الذي ينتمي إليه هذا العضو 
 ت ـ اتخاذ أية إجراءات او تدابير بواسطة الحكومة من شانها إلغاء أي مطلب من المطالب الممنوحة لأي طرف من طرفي التحالف بموجب الاتفاق المبرم بينهما.                                    .
 ث ـ وقبل استقالة الحكومة يتبع الطرفان الوسائل التالية المتدرجة لحل هذا لخلاف :                                                               .
 ـ  لقاء بين ممثلي الكتلتين داخل مجلس الوزراء.                     .
 ـ اجتماع ممثلي الطرفين من هيئة رئاسة الدولة ومجلس الوزراء وهيئة رئاسة الجمعية الوطنية.                               .
 ـ اجتماع بين رؤساء الأحزاب والقوى السياسية المنضوية داخل الكتلتين 
 في حالة عدم التوصل إلى حل، وأدى ذلك إلى انسحاب احد الطرفين من الحكومة تعتبر مستقيلة، ويجري التشاور لتشكيل حكومة إنتقالية جديدة خلال فترة أقصاها شهر واحد مع مراعاة أن لا تترك البلاد تحت فراغ دستوري او امني او إداري.                         .
 ـ لحين تشكيل الحكومة الجديدة تقوم الحكومة المستقيلة بتصريف الأمور.
 7 ـ إعادة الهيبة لعمل القضاء، وإرساء دولة القانون، وإتباع الأصول الإدارية والمؤسساتية، ورفض سلطة الفرد والقرارات الارتجالية وغير الأصولية، واعتبار الوزارات ومؤسسات الدولة هوية وطنية وملكا للشعب وليست هوية لحزب او لوزير او لأهوائه وقراراته الشخصية، ومنع أي استئثار او هيمنة او وصاية فكرية لأية فئة او جماعة بالتشكيلات الحكومية والإدارية والمؤسسات العامة، واحترام حرية الرأي ومؤسسات المجتمع المدني والإسراع في محاكمة مجرمي العهد السابق، وإنزال اشد العقوبات فيهم للجرائم اللا إنسانية التي ألحقوها بالشعب العراقي وذلك وفق أسس العدالة والقوانين المرعية.              .
  8 ـ تشكيل المحكمة الاتحادية المكونة من 9 أعضاء حسب الخطوات المبينة في قانون إدارة الدولة على أن يراعى في ذلك التمثيل العادل لكل البلاد على أساس التكافؤ بما يتناسب مع مكونات الدولة العراقية الاتحادية التاريخية والجغرافية، وان تتوفر في أعضاء المحكمة الخبرة  المؤهلات القضائيةالعالية، وان لا تسقط المحكمة تحت تأثير جماعة معينة، وان تتمتع بالحياد المطلق، وان لا يعتبر القاضي ممثلا لجماعة بل ممثلا للحقيقة والرأي القانوني والقضائي المستقل بعيداً تماما عن أية تأثيرات. 
 9 ـ تفعيل عمل الهيئات الواردة في قانون إدارة الدولة، وعدم الالتفاف عليها مع مراعاة أهمية تسيير أداء عمل تلك الهيئات وفق الأهداف التي أسست من اجلها.                                      .
 10ـ حل الخلافات والمنازعات بين الجماعات وفق مواصفات التفاهم والتشاور والمواطنة والرغبة المشتركة للبناء الوطني والعيش بسلام بمراعاة حقوق الجميع وعدم اللجوء إلى الاستفزاز او الاعتداء، والتقيد بالقوانين والأنظمة والأساليب التفاوضية وقواعد الاحتكام بما يرفع الظلم ويحقق العدل والوئام والسلام بين ابناء الشعب وجماعاته المختلفة .
 11 ـ إتباع سياسة الصداقة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع دول الجوار ودول العالم وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واعتماد الحوار والتفاوض لحل الخلافات العالقة.                                      .
ثانيا: العمل على إعداد مسودة الدستور:                           .                                   
 1 ـ تتفق الأطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء إعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الأساسية المثبتة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الإطراف أنها تسعى إلى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنه.            .
 2 ـ أن تشترك الأطراف التي لم تفز في الانتخابات او التي لم تشارك فيها لأسباب اضطرارية، وممثلو كل الفئات والجماعات التي هناك اتفاق عام على حاجتها للوحدة الوطنية، وتقرير مستقبل البلاد إلى ضرورة حضورها اللجان النقاشات وإعداد الصياغات التحضيرية لإعداد الدستور قبل طرحه على الجمعية الوطنية والاستفتاء العام، وان يراعى تحقيق التوافق الوطني لكل أطياف الشعب العراقي.                 .
ثالثا : حقوق الأقليم والمحافظات والمواطنين:                        .
 تعزيز المكانة الخاصة لدورالأقاليم ومجالس المحافظات، واحترام نتائج انتخابات مجالس المحافظات، وللمجلس الوطني لإقليم كردستان وتطوير التنسيق والتعاون بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات، وتوفير الميزانيات اللازمة لها، واحترام مبدأ عدم التدخل في شؤونها ودورها المستقل في نطاق عملها، وتطوير صلاحياتها كما ورد في قانون إدارة الدولة، وفي الأمر رقم 71 مع إعادة الاحترام والفاعلية لعمل الدولة لممارسة صلاحياتها، وتأدية  مهامها وعدم التمييز بين العراقيين في كل أنحاء العراق، وحقهم المشروع في الإقامة والعمل والتنقل والتملك والتمتع بالحقوق والواجبات الاتحادية والإقليمية بكل مساواة وعدم تمييز، شرط أن لا يكون ذلك قد تم وفق سياسة عنصرية  او طائفية تفرض تغيير الواقع السكاني.
ثالثاً: 1ـ الإسراع في تطبيع الأوضاع في المناطق المختلف عليها وبضمنها كركوك من خلال إعادة المهجرين، وإعادة توطين الغرباء الذين اسكنوا في هذه المناطق ضمن سياسة التغيير السكاني والتطهير العرقي وفق قانون إدارة الدولة، وذلك بتوفير التخصيصات اللازمة لهيئة فض منازعات الملكية، وهيئة تطبيع الأوضاع في كركوك، وعلى الحكومة العراقية الانتقالية اتخاذ الخطوات العاجلة لتطبيق 1 و 2 و 3 و 4 من الفقرة (أ) من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتقوم الحكومة الانتقالية خلال فترة لا تتجاوز الشهر من تشكيلها بتفعيل إجراءات التطبيع بما فيها توفير التمويل لهيئة تطبيع الأوضاع في كركوك وهيئة منازعات الملكية.                                   .
2ـ التطبيق الكامل للمادة 58 من قانون إدارة الدولة الانتقالية بما يؤدي إلى تحديد الانتماء  الإداري للمناطق المختلف عليها بما فيها محافظة كركوك وعلى الرئاسة الانتقالية الإسراع في تقديم المقترحات بشان معالجة التلاعبات بالحدود الإدارية لهذه المناطق إلى الجمعية الوطنية الانتقالية، وتوضع التسويات الضرورية بما يحقق الرغبة النهائية لسكان المحافظة بعد التطبيع وبعد المصادقة على الدستور الدائم.             .
3 ـ مواصلة الجهود لتصحيح الأوضاع في التمثيل الخارجي بما يعالج سياسات التمييز والعزل السابقة، ويسمح لكل الكفاءات العراقية بحسن الحضور والتمثيل، وان يعكس الوجه الخارجي للعراق واقع الشعب العراقي والمبادئ والسياسات التي يؤمن بها.                      .
4ـ التعامل مع الملف الأمني، وإعطاء أولوية خاصة في اتجاهين رئيسيين: .
 الأول: إيقاف المجازر والقتل اليومي ورفع التهديد التخريبي والإرهابي عن السكان، والذي مازال يشكله الخلل الأمني المتمثل في بعض جوانبه الخطيرة بوجود عناصر بقايا النظام السابق، والعناصر الفاسدة في بعض المؤسسات والأجهزة الأمنية .. واعتبار أن الولاء للنظام الجديد هو شرط رئيسي يجب أن يتلازم مع  الكفاءات والأهلية من جهة وضمان استمرارية عملية بناء هذه الأجهزة وعدم تعريضها للتشويش او للتعطيل من جهة أخرى،  وكذلك باتخاذ الاجراءات الحاسمة لمنع تدخل الدول المجاورة في الشؤون العراقية، وتشجيع الإرهابيين وتوفير الأغطية الإيديولوجية لهم، ومحاربة المنظمات الإرهابية الموجودة  في العراق وكشفها وتعريتها أمام الشعب العراقي وإنزال أقسى العقوبات بعناصرها وتطهير البلاد من كل المنظمات الإرهابية.                      .
 
 الثاني: وهو بناء القوات المسلحة العراقية وقوات الأمن بشكل ينسجم مع حاجات الأقاليم والمحافظات وقوى أمنها الداخلي وتوفير التخصيصات المالية والتسليحية واللوجستية لذلك، وبما ينسجم مع الضرورات السوقية ومتطلبات الدفاع الوطني والأمن الداخلي للبلاد كلها .. والإسراع بتطبيق الأمر 91 ( والذي يشمل 11 مؤسسة منها قوات البيشمركة وبدر وبقية التشكيلات التي قاتلت النظام بكل بسالة وإخلاص ) وان تتحول العناصر المندمجة من القوات المشار إليها إلى عنصر طبيعي في القوات المسلحة العراقية وان يتم توفير التخصيصات لها ويشار إلى تحويل قوى منها إلى قوى امن داخلي في الأقاليم والمحافظات او يتم استيعابها في المؤسسات المدنية او تتلقى التأهيل اللازم عبر ذلك من إجراءات لاندماجها واستيعابها.                  .
5ـ أن تعكس الموازنة العراقية وسياسات العرض والاستثمار والمنح الأجنبية حاجيات الشعب العراقي الراهنة والمستقبلية وخصوصا فئاته الفقيرة والمحرومة وضمان تطور العراق ليستعيد مكانته الطبيعية      كذلك أن تعكس الموازنة والسياسة المذكورة اعلاه حاجيات المحافظات  والأقاليم بشكل متوازن من جهة، ويزيل الحيف عن بعض المناطق المتضررة والمظلومة من جهة أخرى، وان تراعي الحكومة الانتقالية هذه الاعتبارت في خططها القادمة وفي موازنة 2006 مع الالتزام بتنفيذ موازنة 2005 بكل ما تتضمنها من الأهداف اعلاه.                         .
 6 ـ تقوم الحكومة العراقية بتأسيس وتشجيع شركات استثمار للثروات الطبيعية ومنها النفطية على المستويات الاتحادية، وفي إقليم كردستان وفي المحافظات، وان على الحكومة إن تضع الضوابط الاتحادية والإقليمية كذلك المحافظات بالاتفاق مع السلطات المحلية لأعمال الاستغلال والاستثمار بما يحقق التوزيع العادل للعوائد وفق نسب السكان وحاجيات المناطق من جهة، وتحقيق المصالح الوطنية العامة من جهة أخرى.(3)                           .
 التوقيع 
 الائتلاف العراقي الموحد: عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية وخالدة العطية وفالح الفياض عضوا الجمعية الوطنية.
 التحالف الوطني الكردستاني: فؤاد معصوم عضو الجمعية الوطنية ونوري شاويس نائب رئيس الجمهورية، وبرهم صالح نائب رئيس الوزراء  وهوشيار زيباري وزير الخارجية المنتهية ولايتهم
نظرة في اتفاقية التحالف الشيعي الكردي:
من خلال دراسة متأنية لاتفاقية التحالف لقوى الأحزاب الطائفية الشيعية والقومية الكردي يتبين لنا أن الاتفاقية كانت اشبه بملخص للدستور، الذي أقر فيما بعد كما سنرى، بين فريقين استأثرا بالسلطة بعد أن شكل تحالفهما الأغلبية المطلقة في البرلمان، واستطاع الجانب الكردي فرض أدق الشروط التي تضمن لهم مطالبهم وأهدافهم البعيدة المدى
    فقد جاء في الفقرة الأولى من الاتفاق: الالتزام بقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية بكافة بنوده بوصفه المنظم والمرجعية لعمل الحكومة والجمعية الوطنية والسلطة القضائية،واعتبار أن مهمة المرحلة الانتقالية هي إعداد الدستور الدائم، وهذا يعني تمسك الفريق الكردي بنصوص قانون إدارة الحكم الذي وضعه بريمر واتخاذه أساسا لصياغة الدستور العراقي، وخاصة فيما يخص المادة ،58 والتأكيد على إقامة الفيدراليات. ورغم ما ورد في الوثيقة حول تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، والأخذ بمبدأ المشاركة والتوافق وتمثيل المكونات العراقية، والسير قدما في سياسة الحوار الوطني، لكن الحقائق أثبتت أن القرارات كانت تمارس من قبل التحالف الشيعي الكردي، ولم يكن للأطراف المشاركة الأخرى دور فاعل مما اضطرها في نهاية المطاف إلى الانسحاب من الحكومة وحتى من البرلمان. ما تزال البلاد تحكمها الميليشيات التابعة لهذه الأحزاب، ويتهددها التمزق والحرب الأهلية، ومازالت ميليشياتها قائمة خلافاً للدستور الذي وضعوه هم.                                                 
وجاء في الفقرة الثانية من الاتفاق: ـ تتفق الأطراف المتحالفة على التعاون وبذل الجهود المخلصة لإنهاء إعداد مسودة الدستور بما يكفل المفاهيم الأساسية المثبتة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وتؤكد هذه الإطراف أنها تسعى إلى تطوير المفاهيم والسياسات المثبتة في ذلك القانون لا التراجع عنها.
وهنا يبدو لنا بيت القصيد في هذا الاتفاق حيث حرص الجانبان وبوجه خاص الجانب الكردي على التمسك بدستور بريمر الذي كان لهم الدور الكبير في إخراجه، ومارسوا الضغوط على بريمر ليأتي بهذا المحتوى فكان الدستور الذي تم وضعه من قبل المتحالفين نسخة من الدستور الذي وضعه المحتلون الأمريكيون، ولا شك أن ما وضع على يد المحتلين سيكون باطلاً في نهاية المطاف. 
وجاء في الفقرة الثالثة من الاتفاق: إزالة آثار سياسات النظام البائد في تغيير الواقع القومي والمذهبي والسكاني من خلال الهجرة القسرية وتوطين الأفراد الغرباء، التي جرى فرضها من قبل القيادة الكردية ليشكل برميل بارود قد يفجر الحرب الأهلية بسبب إصرار هذه القيادة على إخراج العرب من كركوك وضمها لمنطقة كردستان، ومطالبتهم بمناطق واسعة أخرى من محافظات الموصل وديالى وصلاح الدين، وقد وصل الأمر بالسيد مسعود البارزاني أن تحدث صراحة في مقابلة مع قناة الحرة بشكل استفزازي قائلا:
{إن الحرب الأهلية الحقيقية ستندلع من هنا إذا لم تعد إلينا كركوك}، ولم يكمل البارزاني تهديده، ويحدثنا ضد من سيحارب، والقوة التي ستشعل الحرب الأهلية، والتي هي بكل تأكيد ميليشيا البيشمركة التي ترفض اخذ الأوامر من رئيس الحكومة المالكي باعتباره حسب الدستور القائد العام للقوات المسلحة، ورغم ذلك تدفع الحكومة العراقية 17% من موارد النفط لحكومة كردستان والتي يذهب جانب كبير منها إلى قوات البيشمركة التي لا تخضع لحكومة بغداد بل لقيادة البارزاني.

444
المعاهدة الأمريكية المقترحة ومحنة العراقيين!

حامد الحمداني                                                                      21/6/2008

يجتاز العراق اليوم أخطر مرحلة في تاريخه الحديث، ويترتب على العراقيين أن يدركوا طبيعة هذه المرحلة، وطبيعة المخاطر المحدقة بمستقبل العراق ، فقد بات العراق وشعبه رهينة  لدى الإدارة الأمريكية وجيوش الاحتلال.، وبات وضعه ينطبق عليه قول المتنبي في قصيدته حيث يقول:              .
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى****عدواً له ما من صداقته بدُ
هذا هو حالنا الذي أوصلتنا إليه اليوم الولايات المتحدة بعد أن دمرت كل شئ، فهي لم تسقط نظام صدام فحسب ، بل أسقطت العراق بكل مؤسساته ، وحلت جيشه ودمرت جانباً كبيراً من سلاحه، وأتاحت للسراق سرقة الجانب الآخر، وتركت العراق ضعيفاً بين الوحوش المحيطة به، إيران والسعودية وسوريا وتركيا والكويت والأردن وإسرائيل، لكي يقول حكام أمريكا للعراقيين أنكم مهددون من قبل جيرانكم، وأن وجود قواتنا في العراق أمر ضروري لحمايته، وهكذا كما يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن على شكل مهزلة، فحكام أمريكا يفعلون اليوم ما فعل المستعمرون البريطانيون في العراق خلال الحرب العالمية الأولى عندما احتلوا العراق، وقالوا لقد جئنا لكم محررين، ولكنهم حكموا العراق من وراء الستار بعد أن نصّبوا حكومة موالية لهم، لا حول لها ولا قوة سوى الطاعة.
 ولقد طرحتُ في أحدى مقالاتي دعوة لأمريكا، إذا ما كانت جادة حقاً وصدقاً في حرصها على مستقبل العراق، أن تسحب قواتها من البلاد خلال 6 أشهر، وتسليم العراق إلى قوات تابعة للأمم المتحدة لفترة زمنية محددة يجري خلالها تشكيل حكومة تنكوقراط مشهود لأعضائها بالكفاءة والأمانة والإخلاص للعراق وحده، تعيد تنظيم الجيش والأجهزة الأمنية وتنظيفها من سائر العناصر التابعة للميليشيات الحزبية دون استثناء ، وتسليح الجيش بالأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية بما يتيح له استعادة الأمن والسلام في البلاد، وحماية حدود العراق، والتصدي لأي عدوان على سيادته واستقلاله، وعندما يقف العراق على قدميه من جديد سيكون على استعداد لعقد الاتفاقيات المختلفة مع أمريكا وسائر الدول الأخرى على قدم المساواة على أساس المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة شرط احترام سيادة واستقلال العراق، لا على أساس غالب ومغلوب ، أو قوي وضعيف.
 أن من يقرأ معاهدة عام 1922 التي فرضها رئيس الوزراء العراقي آنذاك [نوري السعيد] بالقوة بضغط من المحتلين البريطانيين على العراق لا يرى في المعاهدة الجديدة المقترحة مع أمريكا، بما سربته الصحافة الغربية من بنودها ، سوى نسخة طبق الأصل لتلك المعاهدة المشؤومة .
ومن حق المواطنين العراقيين أن يسألوا الإدارة الأمريكية التي تدعي حرصها على سيادة واستقلال العراق ، وإقامة النظام الديمقراطي الذي يعيد الحقوق والحريات العامة للشعب بعد تلك العقود الكالحة السواد لحكم عصابة البعث وطاغية العصر صدام حسين:
* لماذا أقدمت الإدارة الأمريكية على حل الجيش العراقي وقواته الأمنية والاستعاضة بجيش وقوات أمنية عشعشت فيها ميليشيات الأحزاب الطائفيه والعرقية المتعددة الولاءات، حتى باتت الإدارة الأمريكية تخشى تسليح الجيش بما يضمن له القوة والمنعة لصيانة حدود البلاد وصيانة الأمن الداخلي ، وحقوق وحريات الشعب ؟

* لماذا لم يسلح العراق  بما يحتاجه من الأسلحة كي يضمن قدرته على صيانة حدوده وحماية استقلاله؟

* لماذا لا يتملك لحد الآن، وبعد مرور 5 سنوات على الاحتلال، طائرة حربية واحدة يحمي بها الوطن؟

* أين صارت طائراته ودباباته ومدفعيته وصواريخه ؟

* لماذا بقي العراق تحت طائلة البند السابع لغاية اليوم بعد مرور 5 سنوات على سقوط نظام صدام، واحتلال العراق من قبل جيوش الولايات المتحدة ؟

* هل ما زال العراق اليوم يهدد الأمن والسلام في المنطقة، وهو العاجز عن حماية نفسه، والتصدي للتدخل الفض في شؤونه الداخلية من قبل جيرانه الطامعين بثرواته؟
لقد بات العراق اليوم في مأزق حرج جراء السياسة الأمريكية ، فلا هو قادر على حماية وضعه الداخلي ، ولا هو قادرٌ على التصدي للتهديدات الخارجية المتربصة به بحيث أصبح خروج القوات الأمريكية من العراق يعرض فعلا أمنه الداخلي والخارجي لخطر كبير، وفي مقدمة الأخطار المحدقة به هو الخطر الإيراني ، وخطر عودة نظام البعث إلى الحكم من جديد، وبذلك تحل بالبلاد كارثة أشد وأقسى.
لقد أوصلتنا الإدارة الأمريكية إلى هذه الحالة المفجعة، فإما القبول بالوجود العسكري الأمريكي في العراق، وأما لينتظر الشعب المغلوب على أمره والمسلوب الإرادة  المصير المحتوم .
إن على الحكومة العراقية الحالية أن تتحمل المسؤولية الوطنية تجاه شعبها  وأن تعرض عليه بكل شفافية بنود المعاهدة المفروضة من قبل الإدارة الأمريكية ليكون على بينة من أمره، وعلى المخاطر المحدقة بمستقبله، وستجد في الشعب خير عون لها على الصمود أمام أطماع المحتلين، وبعكسه ستتحمل الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم وزر أي معاهدة تسلب سيادة واستقلال البلاد، فلن يغفر الشعب العراقي لمن يسعى لبيع الوطن مهما كانت التبريرات، ومهما طال الزمن.



445
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق
الحلقة / 20



حامد الحمداني                                                                           20/6/2008

أولاً: المشهد السياسي العراقي قبل إجراء الانتخابات

 اجتاز الشعب العراقي قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية ظروفاً بالغة الصعوبة بسبب تصاعد النشاط الإرهابي الذي كانت تمارسه عصابات حزب البعث الذي جرى إسقاط سلطته الفاشية بالتعاون مع قوى الظلام الأسود التي تتلبس لبوس الإسلام من أعوان بن لادن، والسلفية المتخلفة عن العصر التي ادعت تمثيلها للطائفة السنية من جهة، والميليشيات التابعة للأحزاب الإسلام السياسي الشيعية، وفي مقدمتها جيش المهدي ومنظمة بدر وحزب الله، وثأر الله من جهة أخرى.
وقد حاولت هذه القوى من خلال تصعيد نشاطها الإرهابي هذا الحيلولة دون تمتع الشعب  بحق كان يحلم أن يمارسه منذ ثمانية عقود، ذلكم هو حقه في انتخاب ممثليه إلى البرلمان في جوٍ من الحرية والديمقراطية التي حُرم منها طيلة تلك العقود.
فلم يكد يمر يوماً واحداً دون أن نشهد المزيد من السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والاغتيالات والخطف لإرهاب المواطنين وتخويفهم، ومنعهم من التوجه لصناديق الانتخاب.
وفي ظل تلك الظروف البالغة الصعوبة، ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات كان المشهد العراقي  تتقاذفه الصراعات والتناقضات التالية:
1 ـ قوى الإسلام السياسي الشيعي متحمسة لإجراء الانتخابات في موعدها مطمئنة إلى قدرتها على الفوز فيها بنسبة عالية، مدعومة بالحوزة الدينية، وعلى رأسها السيد على السيستاني، ولها بطبيعة الحال أجندتها الإسلامية، لكن هذا لا يعني أن هذه الأحزاب تمثل وحدها الطائفة الشيعية، فهناك جانب كبير من الطائفة التي تؤمن بقيام نظام ديمقراطي وتشريع دستور علماني.
2 ـ قوى الإسلام السياسي السني التي تهيمن على إرادتها ما يسمى بهيئة علماء المسلمين، والتي هي على صلة وثيقة بما كان يجري على الساحة العراقية من أعمال إرهابية بدعوى مقاومة الاحتلال، وقد حاولت هذه القوى الحيلولة دون ممارسة الطائفة السنية لحقها في الانتخاب من خلال ترهيب وتخويف المواطنين، ودفع قيادة الحزب الإسلامي لإعلان انسحابه من الانتخابات، علماً أن الأغلبية السنية الصامتة كانت تنشد قيام عراق ديمقراطي متحرر و تتطلع بشغف لممارسة حقها الانتخابي لو أن السلطة استطاعت تحقيق وضع أمني حقيقي في مناطقها.

3 ـ الأحزاب القومية الكردية كانت في بادئ الأمر تسودها حالة من التردد بين المشاركة في الانتخابات في موعدها الحالي، أو طلب تأجيلها بسبب مشكلة المهجرين الأكراد من محافظة كركوك، وكانت تطالب بتنفيذ الفقرة 58 من قانون إدارة الحكم، وهددت برفض الاشتراك بانتخاب مجلس المحافظة، لكنها رضخت في نهاية الأمر لإرادة الحاكم الأمريكي بريمر، ودخلت الانتخابات بصورة منفردة متخلية عن القوى الديمقراطية التي تحالفت معها لعقود عديدة، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي الذي وقف منذ تأسيسه إلى جانب حقوق الشعب الكردي.

4 ـ القوى الديمقراطية والعلمانية، وفي المقدمة منها الحزب الشيوعي لم تستطع إيجاد قواسم مشتركة لخوض الانتخابات في قائمة موحدة على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها الحزب الشيوعي في هذا السبيل مع هذه القوى، مما دفعه إلى دخول الانتخابات بقائمته [ اتحاد الشعب ] بالتحالف مع بعض العناصر الوطنية المستقلة.

5 ـ أحزاب وقوى السلطة وعلى رأسها حركة الوفاق بقيادة الدكتور أياد علاوي والشيخ غازي عجيل الياور، التي كانت تحظى بمباركة الولايات المتحدة، وكانت تحلم بالاستمرار بحكم العراق بوجوه بعثية جديدة يرفضها الشعب العراقي الذي اكتوى بنير حزب البعث طيلة 35 عاماً من حكمه الدكتاتوري البشع.

 وبالرغم من تلك الظروف الخطيرة التي كان يمر بها العراق، وبالرغم من تكالب دول الجوار في التدخل في شؤون العراق، ودعم الإرهابيين من قبل البعض، كان المشهد السياسي  يضم ذلك الكم الكبير من القوائم المتقدمة للانتخابات فقد كان يتطلب الوضع الخطير هذا تكاتف وتعاون سائر القوى الوطنية المكتوية بنظام صدام وحزبه الفاشي في جبهة متحدة تقوم على أساس برنامج وطني يحدد معالم الدستور الدائم للبلاد بشكل توافقي يضمن كامل الحقوق والحريات الديمقراطية في البلاد، وحل دائم للقضية الكردية قائم على أساس الفيدرالية مع الحفاظ على وحدة الوطن أرضاً وشعباً، وكان هذا هو السبيل الأمثل والأضمن للخروج بالعراق وشعبه من هذا النفق المظلم وإيصاله شاطئ السلام والأمن، والتوجه نحو بناء العراق الجديد.                                                           ومن المؤسف أن القوى الوطنية لم تتوصل إلى تحقيق هذا الحلم قبل الانتخابات، وأصرت على الدخول إما منفردة، أو من خلال تكتلات محدودة، والنتيجة كانت تنذر بكل تأكيد بقيام مجلس تأسيسي تتقاذفه الصرعات حول الدستور، قسم ينادي بدستور علماني ديمقراطي، وقسم آخر ينادي بالدستور الإسلامي، في وقت تجابه هذه القوى محاولات مستميتة من جانب القوى الصدامية للعودة للسلطة من جديد.

وفي ظل تلك الظروف البالغة الصعوبة، والمخاطر الأمنية على حياة المواطنين تقرر إجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي في 30 كانون الثاني 2004،على الرغم من تهديدات العصابات الإرهابية بتخريب الانتخابات من خلال استخدام السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة، وأعمال الخطف والاغتيالات التي شهدها وما زال يشهدها العراق حتى اليوم.
ولاشك أن عدم استتباب الأمن والنظام العام في العديد من المحافظات العراقية، وخاصة العاصمة بغداد والموصل وصلاح الدين والرمادي وغيرها من المدن الأخرى جعل من عملية الانتخابات مشكوك في جديتها وصدقيتها، ولو أُتيح لقوات الأمن تحقيق الأمن والسلام في هذه المدن فإن أغلبية المواطنين كانوا سيتجهون إلى صناديق الانتخاب بكل اندفاع،  فالمسألة لا تتعلق بحرمان السنة من المشاركة في الانتخابات، فلا أحد يستطيع حرمانها من هذا الحق لكن العصابات الصدامية فرضت بقوة السلاح على المواطنين عدم الذهاب إلى صناديق الانتخاب تحقيقاً لأهدافها المعروفة، في الوقت الذي كان المواطنون تواقون لممارسة هذا الحق لولا سيف الإرهاب.
وعليه فقد كانت المخاطر المحدقة بمستقبل العراق السياسي والاجتماعي مثيرة للقلق والريبة لدى أبناء الشعب، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالمسألتين الرئيسيتين التاليتين:
المسألة الأولى: تتعلق بمستقبل الديمقراطية في العراق، وهل ستلتزم قوى الإسلام السياسي الشيعي، والأحزاب القومية الكردية جميعاً بهذا التوجه أم سيجري التنكر للمشروع الديمقراطي، ومحاولة فرض أجندة دينية أو طائفية أو عرقية؟ وما يمكن أن ينتج عن سلوك هذا السبيل من صراعات مريرة، ولاسيما وأن الشعب العراقي قد بلغ به الملل حداً لم يعد بعده قادراً على تحكم فئة معينة تحاول فرض أجندتها عليه ، وهو ينشد الديمقراطية كخيار وحيد ينال في ظله كل مواطن حقه بصرف النظر عن قوميته أو دينه أو طائفته حيث الجميع متساوون في الحقوق والواجبات .
المسألة الثانية: تتعلق بالموقف من الفيدرالية، وطبيعة هذه الفيدرالية، وهي في واقع الأمر على ارتباط وثيق بالمسألة الأولى، فلا فيدرالية دون ديمقراطية، وأن قضية الحفاظ على وحدة وسلامة العراق أرضاً وشعباً متعلقة بهذا الخيار، وكان الواجب على القوى الوطنية أن تتحمل مسؤولية معالجة هذا التعصب وضيق الأفق القومي والمذهبي الذي نشهده اليوم، وأن تربي جماهيرها على محبة الوطن، وتمتين عرى الأخوة والمحبة بين سائر القوميات والطوائف والأديان وبصورة خاصة بين القوميتين العربية والكردية . 
ولو كانت البلاد تمر بظروف طبيعية دون مخاطر تتهددها لكان الوضع الحالي للقوى الوطنية مسألة طبيعية ومعقولة، أما في ظل تلك الظروف الحرجة والبالغة التعقيد فقد كان الواجب يقتضي أن تضع هذه القوى مصلحة الشعب والوطن فوق مصالحها الحزبية الضيقة كي لا تعرّض مستقبل البلاد لمخاطر كبيرة .
كان الشعب العراقي آنذاك ينتظر بقلق يوم الانتخابات، وما سيتخلل ذلك اليوم من مخاطر إرهابية، وما ستسفر عنه الانتخابات من نتائج تحدد مستقبل البلاد، وما هو الدور الذي ستلعبه الولايات المتحدة من وراء الستار بعد الانتخابات في تقرير من سيحكم العراق، وطبيعة الدستور القادم، ومستقبل الوجود العسكري للقوات الأمريكية، وهل ستنسحب هذه القوات فعلاً بعد استتباب الأمن والنظام العام، واستكمال قدرات العراق الأمنية، أم أن الولايات المتحدة تخطط لبقاء جانب كبير من قواتها في العراق، ولاسيما وأن الشعب العراقي له تجربة سابقة مؤلمة مع القوات البريطانية التي دخلت العراق إبان الحرب العالمية الأولى بحجة تحرير العراق لكنها استمرت في حكم البلاد وتقرير مصيره حتى قيام ثورة 14 تموز المجيدة عام 1958، وكان الشعب العراق يتوجس القلق والحذر من المشاريع الأمريكية المستقبلية في العراق، ومن حقه أن يقلق، ليرى مدى التزام الولايات المتحدة بسيادة واستقلال العراق وإقامة العلاقات المتكافئة القائمة على أساس المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة من دون التدخل في شؤون العراق الداخلية.

ثانياً: الانتخابات البرلمانية تكرس الاستقطاب القومي والطائفي

لم تتوقف الدعوات المتكررة لقوى اليسار والديمقراطية والعلمانية والليبرالية منذ سقوط نظام طاغية العراق صدام حسين لتوحيد قواها، ووضع برنامج وطني ديمقراطي، وتوحيد خطابها السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تتوجه به إلى جماهير الشعب، والذي يتحسس كل المشاكل والمصاعب المتعلقة  بحياة المواطنين، ويضع الحلول الصائبة لمعالجتها وفق خطط واقعية مدروسة ومقنعة، كي تكسب دعم ومساندة الشعب الفاعلة، وكي تكون قوة مؤثرة في البرلمان المنتخب، وعلى الساحة السياسية العراقية.

لكن الذي يؤسف له أن هذه القوى قد تجاهلت هذه الدعوات المخلصة، وتجاهلت مصالح الشعب والوطن ومستقبلهما، وفضلت الحفاظ على استقلاليتها وفرديتها، ومصالحها الحزبية الضيقة في وقت يجتاز العراق أخطر مرحلة في تاريخه قد تقرر مصير الشعب والوطن لعقود عديدة حيث سيناط بالمجلس التأسيسي المنتخب تشريع دستور دائم للبلاد وانتخاب رئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس وزراء والوزارة، هذا إلى ما ينتظر الحكومة القادمة من مهام كبيرة في مقدمتها إعادة الأمن والسلام في البلاد، والتفرغ لعملية البناء، ومعالجة مشكلة البطالة المستشرية، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين من ماء صالح للشرب وكهرباء ووقود، وخدمات صحية وتعليمية إضافة إلى تأمين حياة كريمة للمواطنين.
 لقد دخلت الانتخابات أعداد كبيرة من القوى والأحزاب السياسية جاوزت المئة، وهناك أعداد غفيرة منها تتخذ من الديمقراطية شعاراً لها لكنها دخلت الانتخابات بحالة من التشرذم والتمزق فيما بينها، وهي ترى أمامها تآلف أحزاب الإسلام السياسي الشيعي من جهة، والأحزاب القومية الكردية من جهة أخرى.
وكانت نتيجة هذا التشرذم والتمزق الفشل الذريع، وضياع أصوات الناخبين، وضياع الفرصة الثمينة لإثبات وجودها وتأثيرها في تحديد مستقبل البلاد، ومدى تأثيرها على الشارع السياسي العراقي.ولم تدرك هذه القوى أن في توحيد الجهود قوة، وأن التمزق التشرذم مصيره الخسران والخذلان ؟
ولم تدرك أن ما جرى على الساحة السياسية من اصطفاف للقوى الإسلامية مع بعضها، بالإضافة إلى وقوف السيد السيستاني إلى جانبها والتأثير الكبير الذي أحدثه موقفه على الجماهير الشيعية، وبشكل خاص الجماهير البسيطة التي تعتبر التصويت للقائمة التي باركها السيد السيستاني أمراً يجب الالتزام به كي تنال رضاه ؟
لقد أدركت أحزاب الإسلام الطائفي الشيعية ما لم تدركه قوى اليسار والعلمانية المتباهية بثقافتها وإدراكها، ودخلت الانتخابات مؤتلفة مع بعضها مدعومة بمباركة السيد السيستاني، وأحرزت هذا الانتصار الساحق. ولم يبقَ أمام قوى اليسار والعلمانية والليبرالية سوى أن تعض أصابع الندم بعد أن ضيعت الفرصة الثمينة بسبب أنانيتها وفرديتها وتفضيل مصالحها الحزبية الضيقة فخرجت من الانتخابات فاضية اليدين، ولم تحصل إلا على الفتات، ومعظمها  لم يحصل على شيء.
تأخر إعلان نتائج الانتخابات أكثر من 15 يوماً كان الشعب ينتظر خلالها بفارغ الصبر إعلان نتائجها بانتظار أن يجري انتخاب رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، وتأليف الوزارة، ولاسيما وأن القوى الإسلامية بدأت تسرب معلومات عن فوزها بنسب عالية جدا، وتعد العدة لاستلام السلطة، في حين أخذ رئيس الوزراء أياد علاوي ينشط في اتصالاته بالقوى السياسية الأخرى بعد أن تأكد له أن قائمته قد تأتي على ما يبدو في المرتبة الرابعة، يخطب ودها، وفي المقدمة منها القوى الكردية  لتكوين  ائتلاف في  محاولة  للتشبث بالبقاء على كرسي  رئاسة
الوزارة.
 كان وراء هذا التأخير في الواقع دوافع سياسية، حيث كانت تجري  وراء الكواليس، مداولات بإشراف وضغط أمريكي على القوى السياسية لكي يتم طبخ الوزارة، ورئاسة الجمهورية على نار هادئة، وقد تولى السفير الأمريكي في بغداد [نغروبونتي] هذه المهمة حيث ذكرت المعلومات أنه كان يجري اتصالات واجتماعات مكثفة مع القوى السياسية للخروج بنتائج توافقية على المراكز السيادية، وعلى الخطوط الرئيسية للدستور القادم بما يرضي الأطراف الفائزة في الانتخابات، ويؤمن المصالح الأمريكية في المستقبل.
لقد كانت الولايات المتحدة عندما وضعت قانون إدارة الحكم تُدرك تمام الإدراك الاحتمالات الواردة في أي انتخابات تُجرى في البلاد، ولكي لا تُفاجأ بما لا يلبي أهداف السياسة الأمريكية في العراق وضعت شروطاً وقيوداً تحول دون إمكانية استحواذ أية قوة سياسية على السلطة بمفردها ولاسيما خشيتها من حصول القوى الإسلامية على الأغلبية في البرلمان يؤهلها لاستلام السلطة في الوقت الذي ترتبط هذه القوى بوشائج مع نظام إيران بحكم تواجدها على الساحة الإيرانية خلال الحقبة الصدامية الفاشية، وبحكم توجهها الإسلامي، ورغبتها في اعتبار الإسلام مصدر أساسي في التشريع، وهو أمر يتوجس منه الشعب، وكذلك تتوجس منه الولايات المتحدة القلق، وينتابها الشكوك حول مستقبل العراق في وقت تخوض فيه الولايات المتحدة حرباً سياسية مع إيران بسبب نشاطاتها في الحقل النووي، ومحاولاتها المحمومة للتدخل في الشأن العراقي، ودعمها للقوى الإسلامية وميليشياتها في العراق بشكل مكشوف.
ويدرك المتتبعون للسياسة الأمريكية وأهدافها الاستراتيجية في هذه المنطقة الهامة جداً لمصالحها النفطية والاقتصادية إن هيمنة القوى الإسلامية على مقاليد السلطة في العراق أمر لا يمكن هضمه، ومن أجل ذلك فإنها كانت تخوض في تلك الأيام صراعاً مع الزمن، وقبل إعلان نتائج الانتخابات لإيجاد صيغة لأتلاف القوى السياسية الفاعلة في البلاد بالشكل الذي يؤمن عدم هيمنة أية قوة سياسية على السلطة بشكل مطلق  وخلق حالة من التوازن لكي يتم التوافق على المراكز السيادية، ومشروع الدستور الذي يؤمن التوازن المنشود جهد الإمكان خلال الفترة الزمنية التي تنتهي بنهاية العام، حيث ستجرى انتخابات جديدة لإقرار الدستور وإجراء استفتاء شعبي عليه.
كان الشعب العراقي ينتظر بقلق بالغ إعلان نتائج الانتخابات، ونتائج المداولات الجارية وراء الكواليس لكي يشهد قيام مجلس تأسيسي لا تتنازعه الصراعات لكي يباشر على الفور انتخاب رئيس للجمهورية، وحكومة قوية تأخذ على عاتقها ملاحقة القوى الإرهابية والظلامية التي تعيث في البلاد خراباً ودماراً وتقتيلاً، بشكل جدي وحازم، وتعيد الأمن والسلام والنظام في ربوع البلاد، وتفرغ المجلس التأسيسي لصياغة الدستور الدائم للبلاد بما يؤمن الحقوق والحريات العامة للمواطنين، ويضمن قيام حكم ديمقراطي تعددي بعيد عن الهيمنة الدينية أو الطائفية أو العرقية، لكي يكون سائر المواطنين بموجبه سواسية أمام القانون في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن القومية أو الدين أو الطائفة.
وأخيراً وبعد مرور أسبوعين على الانتخابات تم إعلان النتائج التي جاءت على الشكل التالي:
حصلت 12 لائحة من مجموع 258 لائحة شاركت في الانتخابات على مقاعد الجمعية الوطنية البالغة 275 مقعداً وكانت موزعة على الوجه التالي: (1)                                         . 
1 ــ قائمة الائتلاف العراقي الموحد  الشيعية حصلت على 132 مقعدا 
2 ــ قائمة التحالف الكردستاني  الكردية  حصلت على 71 مقعدا.        .               
3 ـ القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي  حصلت على 38 مقعدا.       .               
4ــ قائمة عراقيون بزعامة غازي الياور حصلت على 5 مقاعد.      .             
5ـ قائمة جبهة تركمان العراق حصلت على 3 مقاعد.         .
6ـ قائمة اتحاد الشعب - الحزب الشيوعي ـ حصلت على مقعدين.         .
7ـ قائمة  الصدريين  حصلت على مقعدين.                        .
8ـ قائمة التحالف الإسلامي الكردستاني حصل على مقعدين.        .
9ـ قائمة منظمة العمل الإسلامي الشيعية حصلت على مقعد واحد.          .
10ـ قائمة تجمع الديموقراطيين المستقلين حصلت على مقعد واحد    .
11ـ قائمة ائتلاف بين النهرين الوطنية المسيحية  حصل على مقعد واحد.         
12ـ قائمة المصالحة والتحريرـ مشعان الجبوري حصل على مقعدين .
وقد بقي 16 مقعدا جرى توزيعها على باقي القوائم، وعلى من ينال أكبر نسبة من الأصوات.                                         .
وقد بلغ عدد الذين أدلوا بأصواتهم 8 ملايين و 456الف و266 ناخب من أصل 14,2 مليون يحق لهم الانتخاب. ورغم الفوز الكبير لقائمة الائتلاف الشيعية التي ضمت الأحزاب الإسلامية الشيعية فقد عبر قادتها عن الشعور بخيبة الأمل بسبب فوزهم بأقل من 50 في المئة!!. وقال همام حمودي نائب الزعيم الشيعي البارز عبد العزيز الحكيم الذي يقود الائتلاف العراقي الموحد أنهم كانوا يتوقعون الحصول على أكثر50 % من المقاعد!!.
أما النسب التي حصلت عليها القوائم المتنافسة فكانت كالتالي:
1ـ الائتلاف حصل على 47,6% ،أي بما يقابل 4,075 ملايين صوت
2ـ الأحزاب الكردية حصلت على  25,4 %  2,175 مليون صوت
3ـ القائمة العراقية حصلت على13,6 % أي ما يقابل 1,168 مليون صوت
نسبة المقترعين إلى المسجلين 58 % إذ بلغ عددهم  8,55 مليون مقترع من المساهمين في الانتخابات.(2)


446
حرب الخليج الثالثة والكارثة التي حلت بالعراق

الحلقة / 19

حامد الحمداني                                                      18/6/2008

أولا: تأليف مجلس وطني مؤقت والإعداد للانتخابات البرلمانية
بعد أن تم تشكيل الحكومة المؤقتة، انتقل الحاكم الأمريكي بول بريمر إلى الخطوة التالية القاضية بعقد مؤتمر وطني لتشكيل الجمعية الوطنية الانتقالية وتشكيل مجلس الرئاسة والحكومة لتحل مكان مجلس الحكم بعد حله عملاً بنص  قانون إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية الموقع من قبله ومن قبل مجلس الحكم المنحل، الذي جرى بموجبه تحديد أجهزة المنظومة الوطنية، والتي سيجري من خلالها اختيار الأفراد لتلك الأجهزة، حيث يجري حل مجلس الحكم مع تشكيل الجمعية الوطنية الانتقالية التي تقرر أن تضم 100 عضو على أن يكون أعضاء مجلس الحكم الذين لم يشغلوا منصباً وزارياً والبالغ عددهم 20 عضواً من بين أعضاء الجمعية الوطنية المؤقتة  شرط أن يتم انتخاب أعضاء الجمعية وفق الشروط التي حددتها اتفاقية إدارة الحكم في المرحلة الانتقالية التي نصت على الأسلوب التالي:                                       .                                                                                                                                                                                                                                                               1ـ يجري انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية وفق عملية تتسم بالشفافية، والإشراك، والديمقراطية عبر لجان بحثية في كافة محافظات العراق الثمانية عشرة                                                 .                                                                       
  2ـ في كل محافظة تشرف سلطة التحالف المؤقتة على عملية يتم بمقتضاها تشكيل لجنة تنظيمية من العراقيين، وتشمل هذه اللجنة التنظيمية خمسة أفراد يعينهم مجلس الحكم، وخمسة أفراد يعينهم المجلس المؤقت، وفردا واحدا يعينه المجلس المحلي لأكبر خمس مدن داخل المحافظة.                                                                                                       
3ـ تقوم اللجنة التنظيمية بالدعوة لانعقاد لجنة انتقاء بالمحافظة من الأعيان من أنحاء المحافظة المختلفة، وللقيام بذلك، يتطلب ترشيح أسماء من مختلف الأحزاب السياسية، والمجالس المحلية في المحافظات، والهيئات المتخصصة والمدنية، والكليات الجامعية، والجماعات القبلية والدينية.                                .                                                                             
 4ـ يتعين أن يفي المرشحون بالمعايير المحددة لقبول الترشيح حسب ما نص عليها في القانون الأساسي. وسيتعين الموافقة على ترشيح أي مرشح بأغلبية 11 من 15 من اللجنة التنظيمية، لاختيار هذا المرشح كعضو في لجنة الانتقاء البحثية للمحافظة.                             .                                         
 5 ـ تنتخب كل لجنة انتقاء بحثية لكل محافظة ممثلين يمثلون المحافظة في الجمعية الانتقالية الجديدة على أساس نسبة سكان كل المحافظة.                                                                                                 
  6 ـ تنتخب الجمعية الوطنية الانتقالية في موعد أقصاه 31 أيار 2004.
وهكذا تمت الدعوة لتشكيل هيئة عليا للإعداد للمؤتمر من عدد من القوى السياسية لتتولى الأعداد لعقد المؤتمر الوطني.
 لكن الدعوة وُجهت لـ 50 حزبا فقط من اصل 135 حزبا يمثلون الاتجاهات السياسية العراقية، وقد جرى تبرير سبب عدم دعــــوة الأحزاب الثمانين كونها غير معروفة الأهداف والمنهـج، ولعدم اتساع قواعدها الجماهيرية، مما سبب توجها رافضا للمؤتمر من هذه الأحزاب التي شهدت البلاد إعلان المئات منها عقب سقوط نظام صدام حسين في نيسان /ابريل 2003.
 وتم التداول لتحديد نسب وعدد الممثلين الذين سيشاركون في انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية، وقد تم بالفعل تشكيل تلك الهيئة المشرفة على الانتخاب برئاسة السيد فؤاد معصوم، من التحالف الكردي لتتولى القيام بهذه المهمة.
 وقد أعلن الدكتور فؤاد معصوم إن الاتفاق قد تم على توزيع المقاعد، وآلية العمل للمحافظات، وآلية العمل لباقي المقاعد، وجرى تخصيص 548 مقعداً للمحافظات حسب النسبة السكانية بناء على البطاقات التموينية، بالإضافة إلى 90 عضواً من أعضاء الهيئة العليا والذين يشكلون مختلف أطياف الشعب العراقي حزبيين وغير حزبيين إسلاميين وغير إسلاميين وعلمانيين وغيرهم من مكونات الشعب العراقي العربية والكردية والمسيحية والصابئة والأيزيدية والتيارات السياسية الأخرى المختلفة.
أما بالنسبة لبقية المقاعد الذي يصل عددها إلى 300 مقعد فقد جرى تخصيص 40% للأحزاب السياسية القديمة والحديثة الفاعلة، و40% للشخصيات الوطنية العشائرية، والعلمية والفنية والسياسية والدينية و20% لمؤسسات المجتمع المدني، مع وجوب مرعاة وضع التركمان والكلدوآشوريين كأحزاب وشخصيات، وكذلك مؤسسات المجتع المدني، وقد عقد أعضاء المؤتمر الذين جرى اختيارهم جلسات عدة انتهت باختيار أعضاء الجمعية الوطنية، حيث جرى  تسمية 81 عضوا في 18 آب/ أغسطس 2004، وأضيف إليهم 19 عضواً من أعضاء مجلس الحكم السابق ليصبح العدد مائة عضو شكلوا الجمعية الوطنية الانتقالية التي حلت محل مجلس الحكم الذي جرى حله في 1 حزيران 2004، حيث ستتولى الجمعية الوطنية الانتقالية دوراً استشارياً للحكومة، من دون أن يكون لها صلاحيات تشريعية.                          .
لكن في حقيقة الأمر كان اختيار أعضاء الجمعية قد جرى بموجب الأجندة الأمريكية التي كان ينفذها الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، وعلى نفس الأسس الطائفية والعرقية الذي تم بموجبها اختيار مجلس الحكم من قبل، حيث  توزعت المقاعد على 40 شيعيا و25 سنيا و25 كرديا و6 تركمان و2 مسيحيين و1 يزيدي و1 صابئي، وضمت عناصر تنتمي لاتجاهات ملكية وجمهورية ويسارية ودينية وعشائرية وتكنوقراط وشخصيات مجتمع مدني وعلمانيين، وحتى بعثيين وعسكريين سابقين.
  لكن حزب الوفاق الذي يقوده أياد علاوي رئيس الوزراء، والمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة الإسلامية بقيادة إبراهيم الجعفري نائب رئيس الجمهورية والحزبين الكرديين بقيادة البارزاني والطالباني كانت لهم حصة الأسد في المجلس .
  وقد وصف مستقلون وأعضاء في أحزاب عراقية، وممثلو المحافظات العراقية، وبعض مندوبي منظمات المجتمع المدني قائمة الجمعيةالوطنية الانتقالية الفائزة، والتي قدمها فؤاد معصوم ‏رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر بأنها قائمة أعدت سلفا من قبل الحاكم الأمريكي بول بريمر،  ومن تدبير الأحزاب الستة الكبيرة ‏الممثلة في الحكومة العراقية الحالية، واعتبروا  أن الجمعية الانتقالية لن تستطيع أن تكون جهة ضاغطة او مراقبة ‏بنزاهة لأداء الحكومة العراقية، ولذلك انسحب بعض الأعضاء من الجمعية، كان من بينهم ممثلو محافظة البصرة، احتجاجا على ضعف تمثيل الجنوب العراقي في المؤتمر على حد تعبيرهم.
ووصف السيد مثال ‏الآلوسي المجلس المنبثق عن المؤتمر الوطني وفق الآلية التي اقترحت بأنه مجلس حكم ‏موسع مشيرا ‏إلى أن بعض ممثلي الأحزاب، وبخاصة الدينية، لا يزالون يفكرون بصيغة المحاصصة الطائفية ولا ‏يستطيعون تجاوز ذلك.                                    .                                                          كماانتقد مندوبون مستقلون المؤتمر قائلين انه يحفل بمسؤولي الحكومة ومندوبيها، وان المجلس الذي اختير للإشراف على الحكومة المؤقتة كان مجرد أداة للتصديق التلقائي على قراراتها.                              .                                         
وهكذا أصبح الأعضاء المئة للجمعية الوطنية المؤقتة بمثابة برلمان للعراق للإشراف ومراقبة عمل الحكومة المؤقتة الحالية والموافقة على ميزانية الدولة للعام المقبل 2005 إلى أن يتم انتخاب برلمان وطني المقرر في أواخر كانون الثاني من عام .2005                        .                                   ولدى التئام الجمعية الوطنية المؤقتة تحدث رئيس الوزراء الدكتور أياد علاوي في كلمته أمام المؤتمر عن مهام المجلس الوطني المنتخب بمتابعة إعادة البناء والتنمية الاقتصادية في البلاد، وضمان الأمن وتطبيق القوانين والموافقة على تعيين أعضاء رئاسة الجمهورية، والسلطة التنفيذية في حالة إخلاء مناصبهم عند الاستقالة او الوفاة، وأضاف علاوي أن صلاحيات المجلس ستشمل أيضا حق نقض قرارات رئاسة الوزراء التي لها قوة القانون خلال عشرة أيام من تاريخ إصدارها. كما سيكون للمجلس حق المصادقة على ميزانية الدولة لعام 2005 التي سيقترحها مجلس الوزراء، وقد وصف علاوي أعمال المؤتمر بالخطوة الأولى على طريق البناء الديمقراطي في البلاد لبناء عراق خال من التفرقة الدينية والعنصرية، ووصف المؤتمر بالتحدي الأكبر أمام قوى الظلام التي أرادت تمزيق وحدة البلد قائلاً:
{ إن هذا المؤتمر هو ليس نهاية المطاف في التجربة الفتية بل هو الخطوة الأولى والتي ستعقبها خطوات لقيام نظام ديمقراطي في البلاد}.
 وقد حددت الحكومة العراقية في بيانها أمام المؤتمر الخطوط العريضة لمسؤولياتها ومهماتها، معتبرة أنها تتحمل مسؤولية تاريخية خطيرة للنهوض بمهمات عديدة على طريق إنجاز العملية السياسية، ونقل البلاد إلى حكم المؤسسات المنتخبة، والدستور الدائم، والاحتكام إلى الرأي العام العراقي في كل ما يتعلق بشؤونه العامة ومستقبله، وهو ما يتطلب من الحكومة العمل على توفير الأمن، وإنجاز العملية السياسية للانتقال إلى حكم المؤسسات المنتخبة، والارتقاء بالخدمات الأساسية التي يعاني منها المواطن، وتعهدت الحكومة بمخاطبة الشعب بعقل واع، وقلب مفتوح استنادا إلى التواصل والمسؤولية تجاه الوطن ومستقبله.
لكن حكومة علاوي لم تستطع إنجاز كل ما تعهدت به حيث انشغلت في معالجة الوضع الأمني في البلاد.
ثانيا: إصدار قانون الانتخابات البرلمانية
بعد تشكيل حكومة الدكتور أياد علاوي، واختيار الجمعية الوطنية الانتقالية كان أمام سلطات الاحتلال والحكومة الإعداد للمرحلة التالية، والمحددة بموجب اتفاقية إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية، والتي نصت على تحديد موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، مما يتطلب أصدر قانون تجري بموجبه الانتخابات، وعليه فقد بادرت سلطة الاحتلال إلى إصدار قانون جديد للانتخابات البرلمانية.                                 .                                                     لكن القانون الجديد كان قد جعل من العراق كله منطقة انتخابية واحدة بدلاً من أن يقسم العراق إلى مناطق انتخابية متعددة كي يتعرف الناخبون على شخصيات المرشحين للبرلمان في مناطقهم، وينتخبون من يروا فيه الكفاءة والنزاهة، والإيمان الحقيقي بعراقيته، وإلمامه بما يعانيه أبناء المنطقة الانتخابية من مشاكل ومصاعب وأخطار، واتصالاته المباشرة بناخبيه، والاستماع لمطالبهم المشروعة.                  .                              أن القانون الذي جعل العراق كله منطقة واحدة قد جاء بنواب لا صلة مباشرة لهم بناخبيهم، بل جرى اختيارهم من قبل قيادة أحزابهم الطائفية والقومية الكردية، وهم أدوات طيعة بيد قيادة أحزابهم تأمرهم فيطيعون، وليست لهم علاقة بالشعب.                                              .                                                              وهذا ما يؤكده الواقع،  فقد جاءت الانتخابات بعناصر جاهلة، وإمعات، والعديد منهم قد زور شهادته لكي يترشح للانتخابات التي اشترطت أن يكون المرشح حاصلاً على شهادة الدراسة الثانوية على أقل تقدير، وهذا ما أثبتته هيئة النزاهة، وقدمت قضاياهم إلى المحاكم، كما جاءت بعناصر على صلة وثيقة بالميليشيات والعصابات الإرهابية. ورغم كل ذلك فلم يستطع مجلس النواب المنتخب من قبل أحزابهم أن يجتمع في الكثير من الأحيان بسبب عدم اكتمال النصاب حيث يقضي الكثير منهم جل وقته خارج العراق، ويتغيبون عن الجلسات دون مبرر، ودون أية محاسبة، ومن المضحك أن يهدد رئيس المجلس الأعضاء المتغيبين بعد أن تمادوا في غياباتهم، بقطع جزء من رواتبهم!!، كأنهم موظفون عاديون، لا نواب يمثلون شعبهم في أهم سلطة في البلاد هي السلطة التشريعية.
ثالثا: ظهور عشرات الأحزاب استعداداً لخوض الانتخابات
على اثر سقوط النظام العراقي في التاسع من نيسان 2003 ظهرت إلى السطح عدد كبير من الأحزاب السياسية التي لم نكن نسمع  بها من قبل حتى جاوز عددها المئة وخمسين حزباً، قبيل الانتخابات الأولى التي جرت في البلاد.                                              .                                                                                                                                 ولم يكن لهذه الأحزاب أي تاريخ نضالي من قبل، وليس لها قاعدة شعبية يعتد بها، فقد كانت مجرد تجمع للعديد من الأشخاص الذين لا ماضي سياسي معروف لهم على أمل الحصول على دعم مادي من جهات وأطراف مختلفة داخلية وخارجية، والرغبة في أن يكون لهم دور في السلطة الجديدة التي أقامها الحاكم المدني بريمر على أنقاض النظام البعثي المنهار. لكن هذه الأحزاب ما لبثت بعد الانتخابات إن اضمحل معظمها كفقاعة صابون بعد أن فشلت في الحصول مقعد في البرلمان المنتخب، وكان من  بين تلك الأحزاب:                               .                                             1ـ التيار العراقي الديمقراطي 2 ـ حركة المجتمع الديمقراطي 3 ـ تجمع العراق الديمقراطي 4 ـ التيار الإسلامي الديمقراطي 5 ـ التجمع الشعبي الديمقراطي6 ـ التجمع الملكي العراقي الهاشمي 7 ـ حزب الإخاء الوطني العراقي 8ـ حزب الوحدة الاسلامية في العراق 9 ـ تجمع أحفاد ثورة العشرين10 ـ تجمع الوحدة الوطنية العراقية 11ـ ائتلاف الرافدين الديمقراطي 12ـ التجمع الوطني لتيار الوسط 13ـ تجمع الديمقراطيين المستقلين 14ـ جبهة العمل المشترك الديمقراطية 15 ـ الجبهة الوطنية لوحدة العراق 16 ـ التجمع من أجل الديمقراطية العراقي 17 ـ الحركة القومية التركمانية، 18 ـ الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي 19 ـ التجمع الديمقراطي العراقي للتحرر والبناء 20ـ حزب البناء الديمقراطي 21ـ منظمة ثأر الله الإسلامي في العراق 22ـ حزب الوطن الديمقراطي الحر23ـ الحركة الأيزيدية من أجل الإصلاح والتقدم،24ـ  حزب الشعب العراقي الديمقراطي 25ـ حزب الطليعة الإسلامي 26ـ الحزب الإسلامي الديمقراطي 27ـ ائتلاف الوطني الديمقراطي 28ـ التحالف الوطني الديمقراطي 29 ـ حركة الوفاق الإسلامي 30 ـ حركة نهضة العراق الجديد 31ـ الجبهة الديمقراطية العربية 32ـ التجمع الوطني العراقي  33ـ حزب الوحدة 34ـ حزب الإنقاذ الوطني العراقي 35ـ التجمع الجمهوري العراقي 36ـ كتلة المصالحة والتحرير37ـ حزب انصار الديمقراطية العراقي 38ـ الكتلة العراقية المستقلة39ـ حزب الأمة العراقية الديمقراطي 40 ـ الجبهة التقدمية المستقلة 41ـ الحزب الإسلامي العراقي 42ـ الحركة الوطنية العراقية والائتلاف المستقل لمنظمات المجتمع المدني 43ـ مؤتمر العراق الديمقراطي الموحد 44ـ حزب الأمة 45ـ ائتلاف العدالة والمستقبل46 ـ حزب المحافظين الكردستاني. (4)
ومن هذا التشكيلة العجيبة نجد أن معظم هذه الأحزاب قد اتخذ من الديمقراطية واجهة له، وهو يشكل بلا أدنى شك أقصى درجات التشرذم والتفكك أمام وحدة أحزب الإسلام السياسي الشيعي التي خاضت الانتخابات بقائمة واحدة أطلقت عليها اسم [الائتلاف العراقي الموحد]، ولو كانت هذه الأحزاب جادة في ديمقراطيتها لوحدت جهدها في جبهة ديمقراطية واحدة مع سائر القوى والأحزاب الديمقراطية والعلمانية والليبرالية كي تقف نداً أمام الائتلاف العراقي.
 لكنها اتخذت العمل المستقل سبيلاً لها فكانت النتيجة أن أي منها لم يستطع دخول البرلمان، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فسحت المجال واسعاً أمام استحواذ أحزب الإسلام السياسي الشيعي للحصول عل أكثر من نصف مقاعد البرلمان.                                                    .                                                                                                                   أما الأحزاب المعروفة التي كانت تمارس العمل الحزبي السري فقد تضاءل دورها السياسي أبان عهد النظام السابق إلى أقصى الحدود بعد أن شن صدام حملة وحشية لا تعرف الهوادة تجاهها، وسن قانوناً يحكم بالإعدام على كل من ينتمي لحزب سياسي عدا حزب البعث طبعا، وقد غادر معظم قادة تلك الأحزاب إلى خارج العراق هرباً من بطش النظام الصدامي، وفي مقدمتها قادة حزب الدعوة الاسلامية، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والحزب الشيوعي، والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب العربي الاشتراكي. وبقي قسم منهم في منطقة كردستان التي كانت تحت الحماية الأمريكية البريطانية منذ وقوع الانتفاضة آذار عام 1991، حيث كانت الأحزاب الكردية تمارس نشاطها في المنطقة الكردية بحرية، وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الشيوعي الكردستاني، وحزب كادحي كردستان، والحزب الاشتراكي الكردستاني.                                                       .                                           وأهم هذه الأحزاب: 
1 ـ المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ـ بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم. 
2  ـ حزب الدعوة الإسلامية ـ  بزعامة إبراهيم الجعفري
 3 ـ الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ بزعامة السيد مسعود البارزاني.
 4 ـ الإتحاد الوطني الكردستاني ـ بزعامة السيد جلال الطالباني.                             
 5ـ الحزب الشيوعي العراقي ـ  بزعامة السيد حميد مجيد موسى.                                 
 6 ـ حركة الوفاق ـ بزعامة الدكتور أياد علاوي.                  .                               
 7 ـ حزب المؤتمر الوطني العراقي ـ بزعامة الدكتور أحمد الجلبي.                                             
 8 ـ الحزب الإسلامي العراقي السني ـ بزعامة السيد طارق الهاشمي.
وقد بادر العديد من قادة  وكوادر وأعضاء هذه الأحزاب للعودة إلى العراق على الفور بعد سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية لأخذ دورها في العمل السياسي، تحدوها الرغبة في الانخراط في العملية السياسية الحصول على أكبر ما يكون من كعكة الحكم بعد أن انهار نظام صدام بكل مؤسساته وأجهزته الإدارية والأمنية.
ووجدت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية فرصتها الذهبية في الحصول على القسم الأعظم من كعكة الحكم،  فأحزاب الإسلام السياسي قد وجدت الجو مهيأ لنشاطها في المجتمع العراقي بعد الحملة الإيمانية الصدامية المزيفة، وبعد اليأس الذي أطبق على المجتمع العراقي نتيجة الظروف المعيشية الصعبة التي سببتها حروب صدام وحصار أمريكا اللا إنساني الذي كان يمثل أقسى الحروب التي عاشها الشعب العراقي، فلم يعد أمامه غير التوجه إلى الله والتديّن للخروج من تلك المحنة القاسية، وقد وجدت قوى الإسلام السياسي ضالتها المنشودة للتأثير على جماهير الشعب التي عاشت قرابة الأربعة عقود في ظل الكبت والإرهاب والقتل الذي مارسه نظام صدام ضد الشيعة في جنوب ووسط العراق، وعلى وجه الخصوص خلال انتفاضة آذار 1991، والتي جرى قمعها بأقصى الشدة والهمجية.
وما جرى في جنوب ووسط العراق جرى في كردستان العراق كذلك حيث كانت جرائم النظام الصدامي ما تزال ماثلة أمام أبناء الشعب الكردي خلال حملة الأنفال ومحرقة حلبجة، واستطاعت الأحزاب القومية الكردية التي كانت ممسكة بالسلطة تحت الحماية الأمريكية والبريطانية الحصول حصتها من كعكة الحكم بعد أن شاركت قوات البيشمركة مشاركة فعالة في الحرب إلى جانب القوات الأمريكية، ونالت الحظوة لدى سلطة الاحتلال التي مكنتها من أن تصبح القوة الثانية بعد ائتلاف أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، واستطاعت أن تحقق لها دوراً أساسياً في السلطة بتحالفها مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعية. 
أما القوى والأحزاب السياسية واليسارية والعلمانية والليبرالية فلم تستطع أن تقييم الظروف السياسية الجديدة تقييماً صحيحاً، وتستجمع صفوفها وقواها في ظل قاسم مشترك تتفق عليه جميعاً كي تستطيع أن تؤثر على مجرى الأحداث في الساحة السياسية، وعلى تركيبة السلطة، حيث بقيت على تشرذمها وانقساماتها، فلم تحقق ما كانت تصبو إليه، وأصبحت عاجزة عن التأثير الجدي في مجرى الإحداث، وجرى تهمشها، ومحاولة إزاحتها من الساحة من قبل أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني على حد سواء من جهة، ومن قبل إدارة الاحتلال التي وجدت ضالتها المنشودة في قوى الإسلام السياسي، وقوى الأحزاب القومية الكردية.
رابعاً:استقطاب طائفي وعرقي، والسنة يقاطعون الانتخابات
المجتمع العراقي كما هو معروف للجميع متعدد القوميات والأديان والطوائف والمذاهب، ولذلك فقد كانت المحافظة على انسجام  مكوناته وتماسكها مرهون بالالتزام بمبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ونبذ التعصب والانغلاق، ورفض تكريس الولاء الطائفي
بديلا عن الهوية الوطنية، والولاء للعراق كوطن للجميع.
  لقد كانت السياسة التي اتبعها نظام صدام المنهار، والتي انطوت على التصنيف القومي والطائفي، قد كرست الانقسام في المجتمع العراقي، وزرعت بذور الشقاق بين مكونات المجتمع العراقي، ومهدت السبيل للاستقطاب الطائفي والقومي الذي يشهده العراق اليوم.
  وجاءت الحرب الأمريكية التي أسقطت نظام البعث لتطلق تلك النعرات الطائفية والقومية من عقالها، واستغلت قوى الإسلام السياسي والقوى القومية الكردية نتائج تلك الحرب لتكريس نهج الاستقطاب الطائفي والعرقي بدل تقديم البرنامج السياسية في تنافسها مع القوى السياسية الأخرى بغية الوصول إلى السلطة وتحكمها بمراكز القرار، وهذا ما أكدته الحملة الانتخابية التي اعتمدت على الطائفية والعرقية لتحقيق الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان، مما أدى إلى تعميق الاستقطاب الطائفي والعرقي في البلاد.
 وهكذا جرت الانتخابات في الثلاثين من كانون الثاني عام 2004 تحت ظل الشعارات الطائفية والعرقية، فالمواطنون الشيعة صوتوا لطائفتهم بشكل عام بعد الذي أصابهم من طغيان النظام المنهار ما أصابهم، وكذلك الأكراد صوتوا لقوميتهم في ذهنهم حملة الأنفال السيئة الصيت، وجريمة ضرب حلبجة بالأسلحة الكيماوية، وكانت المقابر الجماعية التي تم  كشفها لمئات الألوف من المواطنين الشيعة والأكراد وسائر الوطنيين قد ساهمت إلى حد كبير في تأجيج مشاعر الكراهية والعداء تجاه الطائفية السنية، واستغلت كسلاح فعال في الحملة الانتخابية التي جاءت بنتائج حاسمة لصالح قوى الإسلام الطائفي الشيعية، والأحزاب القومية الكردية، ولاسيما بعد أن قاطعت الطائفة السنية بمختلف توجهاتها الانتخابات تحت تأثير القوى الإرهابية التي كانت تمارس جرائمها الوحشية على الساحة العراقية من جهة، وتحت تأثير قوى الإسلام الطائفي السنية المتمثل بـ  [مجلس الشورى وأهل السنة] بزعامة حارث الضاري، وجبهة الوفاق العراقية والمرتبطة بشكل مباشر بالنشاط الإرهابي الذي كانت تمارسه العناصر البعثية بالتعاون والتنسيق مع عناصر القاعدة التي كانت تتسلل عبر الحدود السورية والسعودية والإيرانية كل يوم، وتنفذ جرائمها الوحشية البشعة في مختلف المدن العراقية حيث لم يكد يمر يوماً واحداً دون تفجير السيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة، منزلة الخسائر الجسيمة بأرواح المواطنين الأبرياء، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، ولاشك أن قوى الإرهاب الفاشية والظلامية لعبت دوراً كبيراً في تعميق وتفاقم مشاعر الكراهية والعداء لدى المواطنين في الطائفتين الشيعية والسنية من جهة، والتعصب القومي والكراهية من جهة أخرى لمنع أي تقارب وتنسيق بين القوى السياسية المتنافسة على السلطة، بل سعت بدل ذلك لدفعها للصراع المسلح.
 وهكذا دخلت الأحزاب الدينية الشيعية في ائتلاف فيما بينها أطلقت عليه [قائمة الائتلاف العراقي الموحد] في 6 كانون الأول /ديسمبر2004. فيما شكلت الأحزاب الكردية قائمتها الموحدة تحت اسم [ قائمة التحالف الكردستاني]. في حين امتنعت أحزاب الإسلام السياسي السني عن المشاركة في الانتخابات وقاطعتها، واضطرت الغالبية من الطائفة السنية غير المرتبطة بهذه الأحزاب إلى الانكفاء وعدم المشاركة خوفاً من قوى الإرهاب التي كانت تسيطر على الشارع العراقي في تلك المناطق ذات الأغلبية السنية، وفي بغداد العاصمة، مما مهد الطريق لأحزاب الإسلام السياسي الشيعية والأحزاب القومية الكردية لجني اكبر المكاسب في الانتخابات دون منافس، وخرجت القائمتان من تلك الانتخابات                                                                                                                                                         بحصة الأسد في عدد المقاعد التي حصلت عليها، حيث شكلت كتلة الائتلاف العراقي الشيعية، وكتلة الأحزاب القومية الكردية أغلبية الثلثين في البرلمان، وبادرت إلى تشكيل تحالف بينهما، وبات هذا التحالف يتحكم بمراكز السلطة كافة، ولعب دوراً أساسياً في تشريع الدستور العراقي الجديد الذي جاء مخيباً لآمال الشعب العراقي في قيام نظام حكم ديمقراطي علماني في البلاد، وعمقت العديد من بنوده الخلافات بين مكونات الشعب العراقي، وباتت كبرميل بارود يهدد الوحدة الوطنية بانفجار الصراع الطائفي والعراقي على نطاق واسع.
 أما القوى العلمانية والديمقراطية واليسارية فقد أصيبت بخيبة أمل كبير من نتائج الانتخابات بعد أن هيمنت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية،  والأحزاب القومية الكردية على سائر مرافق السلطة والبرلمان، من دون أن يكون لها أي دور مؤثر على مجرى العملية السياسية في البلاد. وأخيراً بدأت تدرك بعد فوات الأوان ضرورة وأهمية وحدة القوى العلمانية والليبرالية واليسارية، حيث وجه الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والحزب العربي الاشتراكي مؤخراً دعوة لتشكيل تحالف جديد فيما بينها ، مع دعوة سائر القوى العلمانية والليبرالية واليسارية الأخرى للإنظمام لهذا التحالف، لكن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً وجهدا كبيراً وإمكانيات مادية يفتقدها،  ليأخذ هذا التحالف دوره المؤثر على الساحة العراقية.


447



المقدمة


بعد النجاح الذي حققته الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية عام 1991، وبعد انهيار الإتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وما تبع ذلك من فقدان التوازن الدولي، وتحوله نحو سيادة القطب الواحد الأمريكي، بدأت تتكشف الاستراتيجية الأمريكية الهادفة للهيمنة المطلقة على العالم تبدو بأجلى مظاهرها، وتميّزت هذه الاستراتيجية بتقديس السيطرة التكنولوجية التي تتمتع بها  كوسيلة فعّالة لتحقيق أهدافها.
وجاءت تحركات الولايات المتحدة الأمريكية في الإعداد لحرب الخليج الثالثة ضد العراق كمرحلة أولى ضمن هذا السياق، وكلحظة تجسيدٍ لذلك الانحراف الأمريكي الهادف لتحقيق السيطرة الكلية على مصير العالم، ومصير البشرية، متذرعة بضرورة العمل بأقصى سرعة ضد المجمع الصناعي العسكري العراقي الذي سعت لتضخيمه، وحذرت من برامجه المتقدمة في مجال صناعة أسلحة الدمار الشامل، النووي والكيماوي والبيولوجي، وسعت لإقناع حلفائها الغربيين بأن العمل العسكري المباشر هو السبيل الوحيد للتخلص من هذا الخطر الماثل علماً أن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين هم من ساعدوا نظام الدكتاتور العراقي في هذا المجال، ومدوه بكل الخبرات والوسائل أبان حرب الخليج الأولى التي خاضها النظام ضد إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، والتي امتدت لثمانية أعوام من دون أي مبرر، ودفع الشعب العراقي خلالها ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، ناهيك عن الخراب الاقتصادي والاجتماعي الذي حل بالبلاد.
ويقدم الكاتب الفرنسي المعروف [ آلن جوكس ] في كتابه [أمريكا المرتزقة ] تحليلاً تفصيلياً لميكانيزمات هذا التحول الأمريكي نحو تبني نظرية الحرب الهجومية كوسيلة للدفاع عن المصالح الأمريكية، اعتماداً على توثيق دقيق للشهادات التي يدلي بها صناع القرار والتوجيه الأمريكيين أمام اللجان المختلفة للكونغرس، إضافة إلى تلك الوثائق والدراسات التي يعدها كبار الخبراء، والتي تلعب دوراً مهماً في صوغ المواقف السياسية لجزء هام من النخبة الأمريكية. إن  أحد أهم مفاصل هذا التحليل المعمق لميكانيزمات صنع القرار السياسي والاستراتيجي للولايات المتحدة يتمثل في توضيح العلاقة المتشابكة ما بين [ السلطة التشريعية ] متمثلة بالكونغرس و [ السلطة التنفيذية ] متمثلة بمؤسسات الرئاسة، ووزارة الخارجية والبنتاغون، حيث أن الانفصال بينهما يجسد أحد أهم مبادئ الدستور الأمريكي، وهكذا فإن للكونغرس سلطة فعلية، تتمثل بالسلطة المالية، حيث أن سحب الثقة عن أية ميزانية مقدمة من طرف إحدى المؤسسات التنفيذية، إنما هو سلاح فعال لمواجهة سياسات لا يتفق الكونغرس على خطوطها الرئيسية.
لكنَّ هذه السلطة لدى الكونغرس ليست سوى سلطة منقوصة في حالات الحرب، وبخصوص قضايا الأمن القومي التي ينظر إليها الدستور الأمريكي على أنها حكر ٌعلى السلطة التنفيذية بامتياز.
ولغرض إقناع الرئيس الأمريكي بوش للكونغرس للموافقة على مشروع الحرب المخطط لتنفيذها إزاء العراق، كخطوة أولى في المخططات الأمريكية للهيمنة على العالم، كان سلاح المناورة والتحايل، وتضخيم الأخطار إزاء الولايات المتحدة والشعب الأمريكي، سلاحاً فعالاً بيد الإدارة الأمريكية لخلق قبول عام لفكرة الحرب على العراق.
أن تشكيل أي رأي عام مؤيد للحرب من شأنه ممارسة أشكال من الترهيب والتخويف للمجتمع الأمريكي من مخاطر الإرهاب الدولي، مستغلاً أحداث الحادي عشر من أيلول الإجرامية، وكذلك للضغط على السلطة التشريعية لإقناعها بضرورة الحرب المطلوبة، أو لإجبارها مكرهة على الالتحاق بهذا الركب.
و لا شك أن الجيل الأمريكي المتلفز قد أصبح سهل الانقياد لمناورات التضليل بعد أحداث أيلول، والأهداف المتوخاة منها، والمتمثلة بما تدعي الإدارة الأمريكية بمكافحة الإرهاب من أجل تبرير مشاريعها الحربية الهادفة للهيمنة على العالم.
وفي ظل هذا الواقع يجد المتتبعون للسياسة الأمريكية أن الديمقراطية الأمريكية قد فقدت الكثير من مصداقيتها المتمثلة بالتلاعب بالرأي العام الأمريكي بشكل خاص، والرأي العام العالمي بشكل عام، والذي يطلب منه تبني فكرة اللجوء إلى الحرب الهجومية كضرورة لا مفرَّ منها، وهذا التلاعب قد امتد إلى فترة زمنية طويلة، وكان شعارها الاقتصادي والعسكري كسلاح وحيد وفعّال لإجبار النظام العراقي على الانسحاب من الكويت عام 1991، وعلى تدمير أسلحته ذات الدمار الشامل، وفي ظل هذا الشعار المخادع جرت الاستعدادات للحرب الهجومية على قدم وساق، وهذه الاستعدادات لم تكن سراً من الأسرار، فلا مجال في الولايات المتحدة لكتمان الأسرار طويلاً، وهكذا باتت الحرب ضد العراق مؤكدة بنظر أهل الاختصاص من ذوي العلاقة  بالدوائر الحاكمة حيث تعمل المؤسسة العسكرية جاهدة على تجهيز خطة متكاملة للحرب لكي تكون جاهزة في لحظة قرار سياسي من قبل الرئيس بوش.
إن التفكير الأمريكي الذي يقدس الإمكانيات والوسائل التكنولوجية لدرجة سيادة نوع من دكتاتورية الأدوات والوسائل تتقدم لتملي على السياسة مبادئ عملها وأهدافها قد غدا العامل المحرك لسياستها الهادفة للهيمنة على العالم، وهذا الجانب المأساوي من الفكر الإستراتيجي الأمريكي الذي ينظّر لسيادة التكنولوجيا على السياسة، وهذا الانسحاب للمجتمع المدني ولتعبيراته البرلمانية والجماهيرية أمام تقدم طبقة أو شريحة من التنكوقراط المرتبطة بجملة مصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي هو ما دفع أوربا خصوصاً، والعالم عموماً، إلى إطلاق صيحة تحذيرٍ من الأهداف الأمريكية، ذلك أن الانصياع والخضوع للسياسات الأمريكية إنما يحمل خطراً جسيما على مستقبل البشرية جمعاء .
أخذت الولايات المتحدة تعمل في تلك الأيام بنشاط مكثف من أجل الحشد الميداني الذي يفوق بالفعل حاجات الانخراط في ميادين المعركة الحقيقية  وذلك لتحقيق هدف استراتيجي يتجاوز البعد العسكري للمواجهة مع العراق، في محاولة لردع النظام العراقي دون أن يضطر الطرف الأمريكي للتورط في معركة فعلية ذات أبعاد كارثية إذا ما أمكن ذلك، ومهددة النظام بمواجهة خطر التدمير الساحق الذي يتجسد عياناً بتلك الحشود الهائلة في الميدان، وهي مصرة على شن الحرب لإسقاط النظام العراقي إذا ما أصرَّ على تجاهل تلك الحشود والتهديدات.
 وكما أصر رأس النظام صدام من قبل على تجاهل الدعوات له للخروج من الكويت، رغم كل النصائح المقدمة له من خطورة الحرب التي كانت الولايات المتحدة تهيئ لها، مستقدمة قوات هائلة، ومسلحة بأحدث ما أنتجته المصانع الحربية الأمريكية، فإن صدام  استمر على مواقفه الخاطئة، ولم يتعلم الدرس من حروبه السابقة، رغم كل النصائح التي قُدمت له بعد احتلاله للكويت بضرورة الانسحاب حفاظاً على مصير العراق وشعبه، وعلى جيشه من التدمير الذي ينتظره إذا لم ينفذ قرار مجلس الأمن القاضي بالانسحاب من الكويت دون قيد أو شرط.
 لكنه تجاهل كل تلك النصائح، وركب رأسه رافضاً الانسحاب، وحينما التقى وزير الخارجية الأمريكية [ جيمس بيكر ] بطارق عزيز في جنيف قبيل نشوب الحرب وجه  بيكر تحذيراً صارماً لصدام حسين من خلال الرسالة التي سلمها إلى طارق عزيز بأن البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية، والقوات المسلحة العراقية ستتعرض لدمار هائل، وأن العراق سيعود القهقرة عشرات السنين إلى الوراء.
لقد كان من الطبيعي أن لا يذرف  المواطن العراقي  الدمع على صدام ونظامه إذا ما تم إزالة ذلك النظام الفاشي الذي جثم على صدور المواطنين خلال خمسة وثلاثين عاماً عجافا، أذاق خلالها العراقيين من الويلات والمآسي والمصائب ما لا يوصف جراء فاشيته و وحشيته، وحروبه العدوانية ضد إيران والكويت، وضد أبناء شعبه، وإن الشعب العراقي بمختلف أطيافه كان يتطلع إلى يوم الخلاص من ذلك النظام الذي فاق بإجرامه أعتا الأنظمة الدكتاتورية في العالم.
 لكن الشعب العراقي كان في الوقت نفسه ينتابه القلق الشديد مما تخبئه الولايات المتحدة له، ولاسيما وأن ما بدأ يتكشف من المخططات الأمريكية المستهدفة للهيمنة على مقدرات الشعوب، وهو الذي كانت لديه هواجس كثيرة، وعدم الاطمئنان والثقة بالسياسة الأمريكية، ولاسيما وأنها قد خذلته في انتفاضة آذار المجيدة عام 1991، ودعمت نظام الدكتاتور صدام في قمعها، وابتلع الرئيس جورج بوش الأب دعوته الشعب العراقي للانتفاض ضد النظام، كما سبق وأن خذلت الولايات المتحدة الحركة الكردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني عام 1975، بعد أن وقع صدام  وشاه إيران اتفاقية الجزائر، والأمثلة كثيرة على عدم مصداقية وجدية السياسة الأمريكية التي لا تعرف غير مصالحها الذاتية. كان أخشى ما يخشاه الشعب أن يبدل نظاماً دكتاتورياً فاشياً باحتلال أمريكي قد يطول لسنوات عديدة، فلم يعد الشعب قادراً على تحمل المزيد من العبودية والمظالم ، ناهيك عن الويلات والمصائب والخراب والدمار الذي يمكن أن تسببه الحرب، ولاسيما وأن الولايات المتحدة قد أعدت آخر ما ضمته ترسانتها الحربية من الأسلحة الفتاكة، وما عاناه الشعب من ويلات خلال حربي الخليج الأولى والثانية، والحروب الداخلية المستمرة في كردستان العراق، وهو لا ينشد سوى العيش بسلام وحرية وأمان، وأن يحيا في ظل نظام ديمقراطي تعددي تسوده قيم العدالة والحرية والوئام بعيداً عن الحروب ومآسيها وويلاتها.
كان حلم الشعب أن يطيح بالنظام الصدامي من دون حرب واحتلال وضحايا ودمار وخراب، وكان طموحه أن يجبر مجلس الأمن النظام الصدامي على أجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية في البلاد، وإعادة الحقوق والحريات الديمقراطية المسلوبة، وإجراء انتخابات برلمانية تحت إشراف الأمم المتحدة، وقيام نظام حكم ديمقراطي حقيقي يطلق الحريات العامة بما فيها حرية الصحافة، والتنظيم الحزبي والنقابي، وحرية تأسيس الجمعيات ذات النشاط الاجتماعي.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية التي أصدرت عشرات القرارات ضد النظام العراقي قبل نشوب حرب الخليج الثانية عام 1991، تحت البند السابع الذي يلزم النظام العراقي بالتنفيذ، استثنت القرار الوحيد رقم 688 والمتعلق بحقوق وحريات الشعب العراقي من هذا البند، مما حول القرار في واقع الحال إلى حبر على ورق، ولم يعر له صدام أي اهتمام ما  دام غير ملزم له، بل وتمادى في تزييف إرادة الشعب من خلال الاستفتاء الزائف على رئاسته، والذي جاءت نتائجه بتأييد 99و99% وهو رقم لم يشهد له مثيلاً لدى كل دول العالم، واستمر سيفه المسلط على رقاب الشعب، واستمر يقطع رؤوس كل من يشك بعدم ولائه لنظامه الدكتاتوري الشمولي.
وتمادت الولايات المتحدة من جانبها في إيذاء الشعب العراقي بفرض الحصار الجائر ليس على صدام ونظامه، بل على الشعب المهضومة كافة حقوقه وحرياته، وسيف النظام المسلط على رقبة أبنائه، واستمر ذلك الحصار ثلاثة عشر عاما عجافاً لم يشهد لها العراق مثيلاً من قبل في كل تاريخه الحديث، فقد كان الحصار يمثل أشنع أنواع الحروب، حرب التجويع والإذلال والفقر والأمراض، وانهيار البنية الاجتماعية، واختفاء القيم الإنسانية النبيلة التي تعود عليها الشعب لتحل مكانها قيم وسلوكيات على النقيض منها، حيث لم يعد ما يهم المواطن العراقي غير
تأمين مصادر العيش له ولعائلته مهما كانت الوسائل والسبل!!. 
وتصاعدت الأخطار المحدقة بالعراق من جديد جراء لعبة القط والفأر التي مارسها صدام  مع فرق التفتيش الدولية حول أسلحة الدمار الشامل معرضاً الشعب لكارثة حرب جديدة مع الولايات المتحدة وحلفائها جراء إصراره على افتعال الأزمات مع اللجنة الدولية لنزع أسلحة الدمار الشامل من جهة، وإصرار الولايات المتحدة وبريطانيا على إيجاد واستغلال كل الذرائع الممكنة لتوجيه ضربة قاضية للعراق، حيث لا أحد يعلم مدى ما ستسببه من مآسي وويلات لشعبنا المنهك أصلاً، جراء الحصار الاقتصادي اللاإنساني، حيث بادرت الولايات المتحدة بحشد سفنها الحربية وطائراتها المجهزة بآخر ما توصلت إليه مصانعها الحربية من الأسلحة الفتاكة استعداداً لشن الهجوم على العراق بحجة تدمير الأسلحة الكيماوية والجرثومية البيولوجية التي كانت تقول أن النظام العراقي قد خبأها في مخازن تحت الأرض، ولم يظهر لها أثراً بعد الحرب، وباتت المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه كبيرة جداً، ولا أحد يستطيع تحديد مداها، لكنها في غالب الأحوال كان مقدراً لها أن تكون  أشد وطأة من حرب الخليج الثانية عام 1991، وأنها ستأتي على البقية الباقية من بنية العراق الاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل تلك الظروف الخطيرة المحدقة بالعراق وشعبه، والتطورات التي يمكن أن تحدث بين يوم وآخر كانت قوى المعارضة العراقية ما تزال على انقسامها وتشتتها غير عابئة بما يمكن أن تؤول إليه تلك الأحداث، فقد كانت  دون مستوى الإحداث، بل كانت تهرول وراءها، واستطاعت الولايات المتحدة أن تستقطب معظم تلك القوى التي انحازت إلى المخطط الأمريكي لغزو العراق بحجة إسقاط النظام الدكتاتوري وإنقاذ الشعب من طغيان صدام.
 أخذت الأخطار المحدقة بالعراق تسارع الخطى، وكانت كل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة عازمة عزماً لا رجعة فيه على غزو العراق، و إسقاط نظام صدام واحتلال العراق، ومن أجل تحقيق هذا الهدف جري نقل القوات والأسلحة المتطورة والفائقة التدمير إلى قواعد الانطلاق القريبة من العراق في الخليج العربي وتركيا وإسرائيل والأردن، وتوجهت حاملات الطائرات والمدمرات الأمريكية نحو أقرب
المواقع للعراق.
كما تبعت بريطانيا الولايات المتحدة في تعبئة أعداد كبيرة من قواتها وتجهيزاتها الحربية استعداداً للمشاركة في الحرب، كما جرت الاستعدادات الحربية في إسرائيل بكل نشاط، وبسرية مطلقة، بسبب حساسية الموقف ، استعداداً لساعة الصفر التي بات قريبة كما قدّر الكثير من المراقبين.
وفي حين كان يمضي الوقت مسرعاً نحو اندلاع الحرب التي لم  يشك أحداً بنتائجها، وبالويلات والمآسي والمصائب والخراب والدمار الذي سيحل بالشعب والوطن، فإن دكتاتور العراق كان يساوره الأمل بتجاوز الحرب، والبقاء في السلطة غير عابئ بمصالح الشعب، وسيادة واستقلال العراق.
وهكذا اقتربت ساعة الحسم، ولم يعد أمام صدام متسعاً من الوقت لكي يجنب العراق وشعبه ويلات الحرب، و يجنب نفسه وحاشيته المصير المحتوم، ولم يكن هناك من  سبيل أمامه سوى الرحيل بأسرع وقت، بعد أن وجهت له الولايات المتحدة إنذارا بمغادرة العراق مع عائلته خلال 48 ساعة وإنقاذ العراق من الخراب والدمار، لكنه استمر على  إصراره البقاء في السلطة ولسان حاله يقول على وعلى الشعب وليكن ما يكون.
وانطلقت شرارة الحرب في فجر العشرين من آذار عام 2003 ، تلك الحرب التي لم يستطع صدام وجيشه الصمود فيها سوى عشرين يوماً، حيث انهار النظام بكل مؤسساته وأجهزته العسكرية والأمنية، واحتلت القوات الأمريكية العراق، واستحصلت قراراً من مجلس الأمن يشرعن الاحتلال، ونصبت الجنرال المتقاعد [ كاردنر]  حاكماً على العراق، ثم ما لبثت أن استبدلته بالدبلوماسي الأمريكي [ بول برايمر ]  الذي حكم العراق عاماً كاملاً اقترف فيه الكثير من الأخطاء الكارثية التي أوقعت الشعب العراقي في جحيم أقسى وأمر من جحيم نظام صدام، بإقامته نظام حكم طائفي متخلف، أدى إلى استقطاب طائفي شيعي وسني أشعل نيران الحرب الأهلية الطائفية التي  باتت تطحن بالمئات من المواطنين الأبرياء كل يوم على أيدي المليشيات التابعة للأحزاب الطائفية بشقيها الشيعي والسني، وبات التهجير والعزل السكاني يجري في البلاد على قدم وساق وأخذت موجات الهجرة الداخلية والخارجية تتصاعد يوما ًبعد
يوم حتى جاوزت الأربعة ملايين مواطن، هرباً من الموت الزؤام.
لقد حولت الولايات المتحدة العراق إلى ساحة لتصفية الحساب مع قوى الإرهاب المدعومة من دول الجوار المحيطة بالعراق، وفي المقدمة منها إيران وسوريا بالإضافة إلى عناصر القاعدة التي مهدت لها دول الجوار السبيل للعبور نحو العراق برعاية العناصر البعثية، لتنفذ جرائمها الوحشية التي تستهدف قتل العراقيين .
كما فسحت المجال أمام العناصر البعثية التي أُسقطت من السلطة لتستعيد أنفاسها، وتعيد تنظيم صفوفها، لتشن حربا إجرامية لا هوادة فيها ضد الشعب العراقي، وهي المدربة على السلاح، ولديها ملايين قطع السلاح التي نشرها النظام الصدامي في البلاد، بالإضافة إلى الأموال الهائلة التي سرقها النظام طوال فترة حكمه الطويلة والمقدرة بحوالي 90 مليار دولار لاستخدامها في استعادة السلطة، كما قال صدام نفسه أمام قادة حزبه في احد الاجتماعات.
 إنها حرب قوامها السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي تقتل المواطنين بالجملة كل يوم مما حول حياة المواطنين إلى جحيم لا يطاق، وسأتعرض إلى تفاصيل الأحداث التي تلت احتلال العراق  في ثنايا هذا الكتاب .   
                                                                       المؤلف


448
السبيل لإنقاذ العراق من وضعه الكارثي

حامد الحمداني                                                                                         6/6/2008
إن الوضع الكارثي الذي يخيم على العراق اليوم، والوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية والظلام، والذي يعصف بالبلاد ويزهق أرواح المواطنين بالجملة كل يوم، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، والفقر والجوع والبطالة، وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد، حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى المخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، وقوات الاحتلال الأمريكية المهيمنة على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم  العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كما فعلت بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير، وكارثة كبرى تهدد بشكل جدي مصير ومستقبل العراق وشعبه.
فالطائفية التي مهد لها الدكتاتور صدام حسين بحملته الإيمانية المزيفة، والتي اعتمدها الحاكم الأمريكي بريمر في تشكيله مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة المؤقتة فيما بعد، والانتخابات السابقة واللاحقة كلها تمثل عاملاً حاسماً في  ترسيخ جذورها، وتعميق مخاطرها على مستقبل العراق.
 كما أن التعصب القومي الشوفيني، والكراهية أخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي بحيث غدا المواطن السني يكره الشيعي، والشيعي يكره السني، والكردي يكره العربي، والعربي يكره الكردي، والتركماني يكره الكردي، والكردي يكره التركماني، دعك عن القلق الشديد الذي ينتاب الطوائف الأخرى من المسيحيين، والصابئة واليزيديين، جراء تنامي الطائفية البغيضة والشوفينية القومية المتعصبة والخطيرة، ومحاولات البعض فرض أجندتهم المتخلفة على الآخرين بالقوة والترهيب، بل لقد تجاوزت ذلك إلى حد الاغتيال ونسف محلات بيع المشروبات الروحية، ومحلات الحلاقين الرجالية منها والنسائية، وفرض الحجاب على المرأة والعودة بها القهقرى إلى العصور القديمة بحجة مخالفة الشريعة !!.
وبدأت الدعوات تتصاعد إلى إقامة دويلات في الشمال تارة، والجنوب والفرات الأوسط تارة أخرى، وكأنما العراق أصبح فريسة لكل من يملك القوة والمليشيات المسلحة ليحقق طموحاته في تمزيق العراق، وإشعال نيران الحرب الأهلية التي تنذر بالموت والدمار، وإغراق العراق بالدماء.
وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب والوطن فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، وعلى وجه السرعة قبل فوات الأوان لإنقاذ وصيانة الوحدة الوطنية، والقضاء على النشاط الإرهابي، وإبعاد شبح الحرب الأهلية، وعودة الأمن والسلام في ربوع العراق والتوجه نحو إعادة بناء البنية التحتية للعراق الجديد، وتأتي في مقدمة هذه الإجراءات:                                                 .                                                                                  1 ـ إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا سحب قواتهما من العراق خلال ستة أشهر، إذا كانت هاتان الدولتان تحملان نوايا صادقة تجاه العراق والحرص على سيادته واستقلاله كما تدعيان، على أن تستبدل بقوات محايدة من الأمم المتحدة تتولى صيانة الأمن والنظام العام، والعمل على بناء جيش وأجهزة أمنية جديدة قادرة على حفظ الأمن والنظام بعد خروج قوات الأمم المتحدة .

2 ـ تتولى الأمم المتحدة تشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية القائمة  في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بنظام صدام المسقط، ولا أي ارتباطات بدول الجوار وخاصة تلك التي تمارس التدخل الفض في شؤون العراق كإيران وسوريا والسعودية وتركيا، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن، تتولى السلطة خلال فترة انتقالية يمتد أمدها لفترة زمنية محددة، بدعم من قوات الأمم المتحدة لإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، وإنهاء أي دور للميليشيات الحزبية، وسحب كافة الأسلحة منها .

3 ـ إلغاء الانتخابات الحالية، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت من قبل الأمم المتحدة يضم 150 شخصية وطنية عراقية من مختلف محافظات العراق على أساس الكفاءة والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، ويختار البرلمان الاستشاري رئيساً مؤقتاً للجمهورية خلال الفترة الانتقالية، وتشكيل حكومة تنكوقراط تتولى إصلاح ما خربته الحقبة الصدامية الفاشية، والحرب الكارثية الأمريكية، للبنية التحية العراقية الاقتصادية والإجتماعية والثقافية والصحية والخدماتية، وفي المقدمة من ذلك إعادة الأمن والسلام في ربوع العراق، وإعادة المهجرين، واستعادة مساكنهم وممتلكاتهم، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لمسألة البطالة، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء صالح للشرب، وكهرباء، وخدمات صحية، وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.

4 ـ يقوم رئيس الجمهورية المؤقت وأعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم كافة، قبل مباشرتهم المسؤولية، وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، لضمان مكافحة الفساد المستشري في البلاد، وإعادة تشكيل هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة والمشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة، والحماية الأمنية الظرورية، لملاحقة السراق والمرتشين، وناهبي أموال الشعب، وهدر ثروات البلاد، وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.
 ولابد من سن قانون { من أين لك هذا} لمحاسبة السراق والمرتشين وناهبي ثروات البلاد، خلال مرحلة نظام صدام ، والنظام الذي أقامه المحتلون الأمريكيون، وإحالتهم إلى المحاكم لينالوا عقابهم الصارم، واستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة.

 5 ـ وقف العمل بالدستور الحالي المختلف عليه، والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالي يحمل بذور الحرب الأهلية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة النظر في كافة مواده من قبل لجنة دستورية مختارة من العناصر القانونية العراقية المشهود لها بالأمانة والنزاهة والتوجه الديمقراطي الصادق، بما يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة، والشوفينية القومية البائسة، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، ويتم عرضه على أول برلمان منتخب.

6 ـ حل كافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون.
أن توجه حكومة المالكي لنزع أسلحة جيش المهدي وحده، وتجاهل ميليشيات منظمة بدر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة عبد العزيز الحكيم، وميليشيات الحزبين الكرديين، الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني المسماة بـقوات البيشمركة، وميليشيات الحزب الإسلامي السني، وكذلك ميليشيات حزب الفضيلة وحزب الله وثأر الله وغيرها من الميليشيات الأخرى هي المعيار الحقيقي لجدية توجه رئيس الوزراء نوري المالكي، وأن أي ادعاء بكون قوات البيشمركة هي قوات منظمة مرفوض تماماً ، فلا يوجد في العالم كله دولة فيدرالية تمتلك فيها كل فيدرالية جيشها الخاص، ولا بد من نزع سلاح كافة الميليشيات كبيرها وصغيرها، وأن يكون السلاح بيد الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وحدهما.

7 ـ تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والإدارية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء أفراد الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان والحرص على سيادة واستقلال العراق.
إن تواجد العناصر المرتبطة بالأحزاب داخل صفوف الجيش والأجهزة الأمنية سيبقى يمثل برميل بارود معرض للانفجار في أي لحظة ، حيث الولاء للحزب وليس للعراق وشعبه، فلا مجال للنشاط الحزبي في صفوف الجيش والأجهزة الأمنية.

8 ـ إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية، ورفض قيام الأحزاب على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً،أو قومي شوفيني متطرف عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً.

9 ـ منع نشاط حزب البعث الصدامي، ومكافحة فكره الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية، وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي، وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر.

10 ـ محاكمة كافلة أعوان نظام صدام الذين ارتكبوا الجرائم الوحشية بحق الشعب من دون إبطاء، أو تلكؤ، وإنزال العقاب الصارم بحقهم، فهؤلاء يتحملون المسؤولية عن كل الويلات والمصائب التي حلت بالشعب والوطن جراء طغيانهم، وجراء شن الحروب الإجرامية الداخلية منها والخارجية، والتي أزهقت أرواح الملايين من أبناء شعبنا، وشردت ملايين أخرى في مختلف بقاع الأرض، ودمرت البنية الاجتماعية والاقتصادية، واستنفذت كل موارد العراق، وأغرقته بالديون بعشرات المليارات من الدولارات، وملأت ارض العراق بالقبور الجماعية، وهمشّت القوى والأحزاب السياسية الوطنية، وقمعت الحقوق والحريات الديمقراطية العامة للشعب.

11 ـ إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض هي ملك للشعب العراقي كله دون استثناء، وتحت تصرف حكومة مركزية  ديمقراطية، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية، وبشكل عادل، مع مراعات المناطق الأكثر تضرراً، والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.
وينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم ، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثروة البلاد من الهيمنة الإمبريالية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة للعراق، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.
12 ـ تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد، والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات.
إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عليها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدراليات الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه مطلقاً، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسير في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني والذي لن يخرج أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

13 ـ العمل على انسحاب كافة القوات الأجنبية من البلاد حال استتباب الأمن والسلام في البلاد، وإكمال بناء قوات الجيش والأجهزة الأمنية وتجهيزها بكافة الأسلحة الثقيلة والطائرات المتطورة للجيش بما يمكنه من صيانة الأمن الداخلي وسلامة الحدود وصيانة استقلال البلاد، والسعي لإقامة أفضل العلاقات مع سائر دول العالم على أساس المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، شرط عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة واستقلال العراق، ووحدة أراضيه.

أن أي ترقيع لحكومة المالكي في ظل الوضع الحالي الخطير لن يحقق الأمن والسلام الدائميين للعراق، وسيبقي الوضع الأمني هشاً قابلاً للانفجار في أية لحظة ما دام العراق تقوده أحزاب طائفية، وشوفينية عنصرية، مدعومة بميليشياتها المسلحة التي باتت هي الحاكم الحقيقي على أرض العراق، مما شجع على انتشار الفساد في كافة أجهزة الدولة من القمة إلى القاعدة، وانتشار ظاهرة الميلياديرية الجدد في البلاد التي لم يكن لها وجود قبل الغزو الأمريكي البريطاني للعراق بحجة تحريره من نظام صدام حسين ، لكن المحتلين خلقوا في البلاد العشرات إذا لم نقل مئات الصداميين الجدد الذين لا هم لهم سوى الاستئثار بالسلطة ونهب ثروات البلاد تاركين الشعب العراقي البائس في حالة يرثى لها، حيث يفتك به الجوع والأمراض والفقر والبطالة من جهة،  وسيوف الميليشيات الطائفية والعنصرية المسلطة على رقابه، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة تخص حياة المواطنين وحقوقهم وحرياتهم العامة والخاصة باسم الدين الذي استغلوه أبشع استغلال، وأساءوا إليه بالغ الإساءة. 



449
حذار: فالإدارة الأمريكية تنوي إبقاء احتلالها للعراق
لأمد طويل!
حامد الحمداني                                                       4/6/2008

مخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها العسكرية، وتنهي احتلالها للعراق بصرف النظر عن من سيتولى السلطة بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجري نهاية هذا العام.
فالاستراتيجية الأمريكية لا يحددها شخص الرئيس، جمهورياً كان أم ديمقراطياً، بل يجري وضعها من قبل خبراء ومنظري السياسة الخارجية،  وبما يتفق ومصالح أصحاب الكارتيلات، والشركات الاحتكارية الكبرى، وعلى المدى البعيد، وكل ما يجري من انتقادات وتصريحات من قبل الديمقراطيين حول ضرورة سحب القوات الأمريكية لا تعدو عن كونها فقاعات صابون لا تلبث أن تتلاشى بعد الانتخابات الرئاسية.

 لقد صرح بوش أنه ينوي بقاء القوات الأمريكية في العراق لحماية أمنه، ومنع تدخل وتهديدات دول الجوار، ومن أجل ذلك تحدث بوش مع رئيس وزراء العراق  السيد نوري المالكي، في  شهر مارس/ آذار الماضي، عبر حلقة تلفزيونية مغلقة حول ضرورة توقيع معاهدة طويلة الأمد مع العراق.
ثم ما لبث الرئيس بوش أن قدم مسودة اتفاقية ينوي عقدها مع الحكومة العراقية، طالباً من حكومة المالكي بدء المفاوضات حولها من أجل الوصول إلى الصيغة النهائية تمهيداً لعرضها على البرلمان، وإقرارها قبل شهر تموز المقبل، وتجري الإدارة الأمريكية ممارسة شتى الضغوط على الحكومة العراقية من أجل الإسراع في إقرارها.

ولاشك أن بنود هذه الاتفاقية تتعارض بشكل صارخ مع سيادة واستقلال على العراق، وتبقيه رهينة الهيمنة المطلقة للإرادة الأمريكية، والتي هي شبيهة تماماً بمعاهدة عام 1922 التي فرضها المحتلون البريطانيون العراق بعد الحرب العالمية الأولى، والتي رهنت سيادة واستقلال العراق للمشيئة البريطانية منذُ ذلك الحين حتى قيام ثورة 14 تموز عام 1958، حيث تشكلت لأول مرة حكومة وطنية دون تدخل وفرض السفارة البريطانية .
 لقد كشف تقرير صحافي بريطاني أن مسودة الاتفاق بين الولايات المتحدة والعراق لاستبدال التفويض الممنوح من مجلس الأمن للقوات المتعددة الجنسية، تنصّ على التزام عسكري أمريكي غير محدّد زمنياً في هذا البلد.
وأفادت صحيفة [ذي غارديان] البريطانية أن هذه المسودة السرّية والحسّاسة التي تحمل تاريخ 7 آذار/مارس 2008 تسمح للولايات المتحدة بشن عمليات عسكرية في العراق، وتوقيف أشخاص لضرورات أمنية من دون تحديد سقف زمني لذلك، وسيحلّ هذا الاتفاق محلّ تفويض الأمم المتحدة الذي سينتهي في نهاية العام الجاري.                    .
ولا يحدّد مشروع الاتفاق حجم القوات الأميركية في العراق، ولا الأسلحة التي يمكنها استخدامها، ولا الوضع القانوني لهذه القوات، ولا السلطات التي تتمتع بها حيال المواطنين العراقيين.
 وتشير المسودة أن [المصلحة المتبادلة للولايات المتحدة والعراق تقضي بالمحافظة على سيادة العراق ووحدتة، وسلامة أراضيه، واستقلاله السياسي، وردع التهديدات الخارجية التي تحدق به]!!.
وتنصّ المسودة أيضاً على أن الولايات المتحدة والعراق اتفقا على التشاور الفوري في حال تعرضت وحدة وسلامة أراضي العراق واستقلاله السياسي إلى تهديد.                                                .                             
 ولاشك أن هذه الاتفاقية تمس بسيادة واستقلال العراق، وتمنح القوات الأمريكية صلاحيات واسعة في تحركاتها وإجراءاتها، ويمارس الرئيس بوش الضغوط على حكومة المالكي والبرلمان لإبرام المعاهدة المذكورة بالإضافة إلى التصديق على قانون النفط والغاز.

أما المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية جون ماكين فقد أعلن صراحة في تصريح له نقله راديو سوا قائلاً:
أن القوات الأمريكية سوف تحتفظ بوجود دائمي في العراق كما هو الحال في كوريا الجنوبية واليابان، ولأمد طويل .

وقد تحدث السيناتور الديمقراطي [هاري ريد] زعيم الأغلبية  الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي لراديو سوا قائلاً:
 إن الرئيس بوش ينوي الإبقاء إلى أجل غير مسمى على 142 ألفا من القوات الأميركية في العراق الذي يشهد حربا أهلية، وأردف قائلا:
إنه خلال هذا النزاع الذي مضى عليه خمس أعوام تبقى قواتنا في خضم حرب أهلية لا نهاية لها، كما أن قواتنا العسكرية تتعرض لضغوط شديدة ونحن غير قادرين على الرد على التهديدات الصادرة عن مناطق كثيرة في العالم. وعلاوة على ذلك فإن دافعي الضرائب ينفقون 12 مليار دولار كل شهر في العراق على قواتهم، على حساب الأوليات التي نحتاجها داخل بلادنا.                                                                   
ومضى ريد قائلا: إنه في الوقت الذي سار فيه الرئيس خطوة إلى الأمام، في نهاية المطاف في قبول ما كان الديمقراطيون في الكونغرس يطالبون به، وعدّل فترة إقامة أي وحدات ترسل إلى العراق، إلا أنه تراجع خطوتين إلى الوراء بسبب إصراره على إبقاء 142 ألف جندي في العراق إلى ما لا نهاية. إن هذا القرار يلحق مزيدا من الضرر بأمننا القومي، وبمدى جاهزية قواتنا العسكرية.
وأوضح ريد أن الرئيس لا يفهم أن موارد أميركا المحدودة لا يمكنها دعم حرب يخوضها إلى ما لا نهاية. وقال دعوني أكون واضحا، إن ما قاله الرئيس كان بمثابة إشارة إلى الشعب الأمريكي مفادها أنه لا ينوي سحب مزيد من القوات الأميركية من العراق، وبدلا من ذلك فإنه سيترك عملية اتخاذ القرارات الصعبة المتعلقة بهذا الموضوع إلى الحكومة القادمة.
 
لكن هذه التصريحات لا تعدو عن كونها احدى وسائل الدعاية الانتخابية لا غير، وسيبتلع الديمقراطيون إذا ما فازوا في الانتخابات القادمة كل تصريحاتهم ومطالباتهم بسحب القوات الأمريكية من العراق. فالسياسة الخارجية الأمريكية تبقى واحدة بين الديمقراطيين والجمهوريين الذين يتداولون السلطة باستمرار .

إن حكومة المالكي والأحزاب الممسكة بالسلطة سوف تتحمل مسؤولية كبرى تجاه الشعب العراقي إذا ما رضخت للضغوط الأمريكية، وعقدت هذه الاتفاقية المخلة بسيادة واستقلال العراق، وسوف لن يسمح ، ولن يسامح الشعب العراقي من يقدم على بيع العراق للإمبريالية الأمريكية، ورهن مصيره، وللشعب العراقي تاريخ مجيد في الكفاح ضد المحتلين وأعوانهم، واعتزازاً لا حدود له بحريته وسيادة واستقلال الوطن .
 
إن الشعب العراقي يدرك تماماً أن دخول قوات الاحتلال في البلاد ليس كخروجها منه أبداً، وأن استعادة سيادة واستقلال البلاد لا بد أن تتطلب نضالاً شعبياً متواصلاً وبمختلف الأساليب، بدءاً بالأسلوب السلمي، مع تصعيد أساليب النضال حسبما تقتضيه الظروف والإمكانيات المتاحة، غير أنه مؤمن بأنه لابد من الكفاح، وبذل التضحيات لاستعادة السيادة والاستقلال الحقيقيين، وهو في الوقت نفسه يرمي إلى إقامة العلاقات الطبيعية ، وفي سائر المجالات، مع سائر دول العالم، ومنها الولايات المتحدة، على أساس المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة، شرط احترام سيادة واستقلال العراق.

450
فرصة تاريخية حقيقية فلا تضيعوها

حامد الحمداني                                                                       27/5/2008

بعد التهميش والانكماش الذي أصاب القوى العلمانية بشتى فصائلها طيلة الأعوام الخمسة الماضية التي تلت إسقاط نظام الدكتاتور صدام حسين ، واستئثار قوى الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني بالسلطة، والإمساك بكل مرافق الدولة التي أقام أركانها الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر على أنقاض نظام البعث المنهار بكل مؤسساته المدنية والعسكرية والأمنية، وسيطرتها على المجتمع العراقي بقوة ميليشياتها المسلحة من جهة، وباستخدام الدين والمرجعية وسيلة للكسب السياسي في صفوف المجتمع العراقي الذي عانى من التخلف والتهميش والعزل عن العالم طيلة العقود الأربعة التي امتدت منذ انقلاب 8 شباط 1963 ، وحتى سقوط النظام الصدامي في 9 نيسان 2003 على أيدي القوات الأمريكية والبريطانية التي ادعى قائدها جورج بوش أن غزوه للعراق يستهدف تحرير الشعب العراقي من نير الدكتاتورية الصدامية، وإقامة نظام ديمقراطي في البلاد ، لكن الذي جرى كان على العكس من ذلك تماماً ، حيث انقلب التحرير إلى احتلال، وانقلبت الديمقراطية الموعودة إلى طغيان أحزاب الإسلام السياسي الطائفي الذين بوأهم الاحتلال زمام السلطة، وفسح لهم المجال واسعاً للإمساك بكل مرافق الدولة من القمة  وحتى القاعدة، وبات الشعب العراقي رهينة الأجندة الرجعية الدينية المتخلفة، ورهينة الصراع الطائفي الدامي، والقتل على الاسم والهوية بكل بشاعة لم يكن الشعب يتخيل حدوثها من قبل. وبات التهجير السكاني يجري على أيدي العصابات المتلبسة بعباءة الدين من كلا الطائفتين الشيعية والسنية حتى جاوزت الأرقام الأربعة ملايين مهاجر، نصفهم غادر العراق إلى سوريا والأردن ومصر ودول اللجوء الأوربية لمن استطاع إليها سبيلا، والنصف الثاني ما زال يعيش في الخيام في حالة يرثى لها حيث لا تتوفر ابسط مقومات الحياة اللائقة بالإنسان، وحيث الجوع والمرض ينهش بالأطفال قبل الكبار، وحيث  يبحث المهجرون بين أكوام القمامة  عن فضلات طعام يسدون به رمقهم ورمق أطفالهم في بلد من أغنى بلدان العالم ، حيث نقلت القنوات التلفزيونية حول العالم مشاهد لهؤلاء المواطنين المنكوبين وهم يبحثون في تلك القمامة.
لقد تعرت حقيقة هذه السلطة ذات الرداء الديني أمام جماهير الشعب العراقي، وبدأت أذهانهم تتفتح على الحقيقة المرة لهذه القوى التي استأثرت بالسلطة، وسيطرت على البرلمان، وسائر أجهزة الدولة التي اصبحت حكراً لها ، وأيقن الشعب العراقي  عمق الخديعة التي مورست عليه باسم الطائفة تارة وباسم العرقية تارة أخرى وباسم المظلومية التي باتت كقميص عثمان متمسكين بها لكي يستمروا بالإمساك بالسلطة ، وبالتالي الإمساك برقاب الشعب المنهوك الذي كان يحلم بالتخلص من نظام الطغيان البعثي وسيده الجلاد صدام حسين، ليقع فريسة جلادين اشد قسوة وسادية، حيث التعذيب الوحشي والقتل وإلقاء الجثث في المزابل طعاماً للكلاب .
وتشير الاستطلاعات التي أجريت في البصرة والديوانية والعمارة على شرائح المجتمع ذي الأغلبية الشيعية إلى أن 95 % من المواطنين قد أعلنوا عن رأيهم بصراحة مطالبين بفصل الدين عن الدولة، وإقامة نظام حكم ديمقراطي علماني حقيقي في البلاد، ولا شك أن هذا الاستطلاع لو جرى تعميمه في سائر محافظات القطر لأظهر بكل جلاء أن الشعب قد ضاق ذرعاً بقوى الإسلام السياسي، وتدخله الفض في كل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها ، وفرضْ نمط  متخلف على المجتمع، وقد كان نصيب المرأة التي تمثل أكثر من نصف المجتمع العراقي الظلم الأكبر، والطغيان الأبشع، وعاد بها القهقرى عشرات السنين إلى الوراء، وبات عليها أن تناضل من جديد، ومن نقطة الصفر ضد هذه الهيمنة الرجعية المطلقة لقوى الإسلام السياسي الطائفي .
أن العراق مقبل على إجراء انتخابات محلية في المحافظات، وسوف تليها بعد سنة الانتخابات النيابية، ولا شك أن أمام القوى الديمقراطية العلمانية بكل أجنحتها فرصة تاريخية حقيقية ثمينة لا يمكن أن تعوض، وما عليها إلا أن تبدأ، وبأسرع ما يمكن، تجميع صفوف كل الديمقراطيين واليساريين والعلمانيين والليبراليين في جبهة عريضة تتخذ لها قواسم مشتركة نستهدف القيام بنشاط واسع في صفوف الجماهير العراقية فوراً، وقبل فوات الأوان استعداداً للانتخابات القادمة، المحلية منها والنيابية، بغية إحداث نقلة نوعية في تركيبة السلطة الحالية تستهدف انعطافاً جذرياً نحو بناء عراق ديمقراطي تعددي، عراق تتساوى فيه الفرص أمام الجميع دون تمييز في القومية أو الدين او الطائفة .
إن الحل الحقيقي للمعضلة العراقية هي بيد الشعب العراقي وطليعته القوى العلمانية التي ينبغي أن تأخذ دورها بأسرع ما يمكن، وتفويت الفرصة على قوى الظلام والفاشية الدينية للإمساك بالسلطة وبكافة مرافق الدولة والاستئثار بالثروة الوطنية التي اصبحت نهباً لعصابات ميليشيات أحزاب الإسلام السياسي، والتي هي اليوم تتنازع فيما بينها وبقوة السلاح على السلطة والثروة، وبذلك أفسدت الدين والسياسة معاً.
إن الصراع الذي جرى ويجري في العراق اليوم ليس صراعاً طائفياً أو قومياً ، فالشعب العراقي بكل أطيافه شيعة وسنة ، مسلمين ومسيحيين وصابئة وأيزيدية ، عرباً وكرداً وكلدوآشوريين لم يكونوا قد دخلوا يوماً في صراع بينهم ، بل على العكس من ذلك كان التآخي القومي والمذهبي والديني هو السائد في المجتمع العراقي .
إن الأزمة العراقية الراهنة، والصراع الدائر في البلاد بكل تأكيد ليس سوى صراع تقوده قوى سياسية دينية طائفية وقومية هدفها الأول والأخير السيطرة على السلطة والثروة ، فمن يمتلك السلطة يستطيع التصرف بالثروة في ظل نظام استبدادي لا دور للشعب في تقرير مصيره ، وتأمين حقوقه وحرياته ، وحقه في توزيع عادل للثروة ، وتحقيق مستوى حياة تليق به ، وتلك هي مسؤولية القوى العلمانية الديمقراطية  فهي القادرة وحدها على تحقيق آمال شعبنا في العيش في ظل الحرية والديمقراطية والعيش الرغيد.
إن هذه القوى مدعوة اليوم، وبإلحاح، أن لا تضيّع الفرصة المتاحة أمامها اليوم، والشعب يمتلك كل الاستعداد للشد على أيديهم إذا ما أخذوا زمام المبادأة، وقادوا النضال الجماهيري من أجل تحقيق غد أفضل للمواطن العراقي المحروم .


451
ستون عاماً على الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني
القسم الثاني والأخير


حامد الحمداني                                                                 18/5/2008

أولاً : إعلان قيام دولة إسرائيل،ودخول الجيوش العربية فلسطين
في الرابع عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إكمال انسحابها من فلسطين، وإنهاء الانتداب البريطاني عليها، وفي نفس اليوم أعلنت المنظمات الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبعد عشرين دقيقة من إعلان قيامها أعلنت الولايات المتحدة اعترافها بالدولة العبرية، وتبعها بعد ذلك حكومات بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي واعترفوا بها،  وكان ذلك قد شكل أكبر تحدي لمشاعر الملايين من الجماهير العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، وضربة قاصمة وجهتها الإمبريالية للعرب .

بدأت العصابات الصهيونية أشنع حملة لتهجير السكان العرب من مدنهم وقراهم، فأقاموا المجازر البشعة ضدهم، مستخدمين كل أنواع الأسلحة، وقُتل من قُتل من النساء والأطفال والشيوخ، وترك ما يزيد على المليون وربع المليون من الفلسطينيين ديارهم هرباً من بطش الصهاينة، تاركين وراءهم كل ما يملكون من مساكن وأثاث وأموال ومصالح، وأصبحوا لاجئين في البلدان العربية المجاورة، يعيشون تحت الخيام، بانتظار مساندة ودعم الحكام العرب لعودتهم إلى ديارهم !!.
واضطر الحكام العرب تحت ضغط شعوبهم إلى دفع جيوشهم إلى فلسطين، واستبشر الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة بتحرك الجيوش العربية، لكن ظهر فيما بعد أن تلك الحرب لم تكن سوى مسرحية أخرجها الإمبرياليون،ونفذها الحكام العرب، لا لتحرير فلسطين، بل لتثبيت الدولة العبرية الجديدة .
دخلت القوات العربية إلى فلسطين ساعيةً إلى الحرب بدون حسام، فلقد جُهز الجيش المصري بعتاد فاسد، مما أوقع خسائر فادحة في صفوفه . أما القوات العراقية فقد كانت أربعة أفواج مجهزة بأسلحة خفيفة لا تفي بالغرض، وحتى القوة الآلية للجيش العراقي فقد كان الجنود غير مدربين على استخدام تلك الآليات، فقد ذكر قائد القوات العراقية في فلسطين، اللواء الركن [ نور الدين محمود ] في تقريره إلى رئاسة أركان الجيش، في حزيران 1948 ما يلي :
{ خلال مدة بقائي في المفرق، فتشت القوة الآلية فوجدت معظم جنود الفوج الآلي غير مدربين، حتى أن القسم الأعظم لم يرموا بأسلحتهم الخاصة بهم، وبالإضافة إلى ذلك علمت أن الفوج المذكور استلم مدافع الهاون في يوم حركته من بغداد ولا يعلم أحد بالفوج، ولا بالقوة الآلية كلها كيفية استخدام هذا المدفع، وقد تركت في السيارات بانتظار إرسال الجنود المدربين على استخدامها من بغداد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجدت أن جنود المدرعات لم يدربوا بأسلحتهم مطلقاً فاضطررت إلى الإبراق إلى وزارة الدفاع للموافقة على تدريبهم على إطلاق بضعة إطلاقات بصورة مستعجلة، لكي يعرفوا خصائص أسلحتهم على الأقل، وعند الاستفسار عن كميات العتاد المتوفرة ظهر لي أن القنابل من عيار 2 رطل كان محدوداً جداً، كما أن الوحدات استصحبت عتاد الخط الأول فقط، ولم يؤسس خط للمواصلات بعد، وكانت الوحدات تستهلك الأرزاق التي جلبتها من بغداد، وكانت بقية أمور التموين والإعاشة في دور التأسيس .
وهكذا كانت الحالة للقوة الآلية المرسلة إلى فلسطين، والمزمع إشراكها في القتال دون التهيئة، وأن وضعية كهذه جعلتني في حالة استغراب من إرسال قوات وزجها في القتال بهذا الوضع الناقص }. (1)
ومع ذلك فقد أبدى الجنود العراقيين بسالة منقطعة النظير، واستطاعوا التقدم واحتلال العديد من المواقع الصهيونية، مما أزعج الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا الضغط على الحكومة العراقية لمنع تقدم قواتها، وهكذا قُيدت حركة القوات العراقية، وظهرت تلك الأيام حكاية تداولها الشعب العراقي بتهكم شديد، وهي عبارة [ ماكو أوامر ]،أي أن الجيش ليس لديه أوامر للتحرك.
 لقد كانت تلك الحرب مخططة مسبقاً، ونتائجها مرسومة، وهي تقتضي قيام دولة إسرائيل، وخذلان الجيوش العربية .
أما الملك عبد الله ـ جد ملك الأردن الحالي ـ ملك شرق الأردن ـ فقد أصّر على أن تكون قيادة القوات العربية له، وقد عارضت بعض الدول العربية ذلك، حيث أن الجيش الأردني يقوده الجنرال البريطاني[كلوب باشا] وبريطانيا هي التي سلمت فلسطين للصهاينة، فلا يعقل أن تسلم قيادة الجيوش العربية إلى كلوب باشا.
لكن حكام الدول العربية تراجعوا عن معارضتهم بضغط من بريطانيا، وتسلم كلوب باشا  القيادة الفعلية للجيوش العربية !!!.
كان الملك عبد الله يغتنم كل فرصة لكي يؤمن لنفسه الاستفادة مما ستؤول إليه الأمور، وكان يجري باستمرار اتصالاته السرية مع [ وايزمان ] و[ بن غوريون]، وسلم الملك عبد لله مدينتي [اللد] و[الرملة] للصهاينة دون قتال، بعد أن كانت القوات العربية قد سيطرت عليها .
لقد نال الملك عبد الله ثقة الصهاينة، بعد أن أمر القوات العربية التي وصلت إلى أبواب [تل أبيب]  بالتقهقر إلى الوراء، والعودة إلى مراكزها السابقة، متيحاً الفرصة للصهاينة لتنظيم صفوفهم، وجلب الأسلحة والمعدات والقوات، للوقوف بوجه القوات العربية . (2)
ورغم خيانة الحكام العرب، ليس لفلسطين وحسب، بل لجيوشهم التي زجوا بها في المعركة دون استعداد ، ودون سلاح ، وتزويدها بالعتاد الفاسد، كما جرى للجيش المصري ، إلا أن القوات العربية المؤمنة بقضية العرب الرئيسية فلسطين أبلوا في الحرب بلاءً قلّ نظيره، وكادت تلك القوات  برغم الظروف السيئة تلك أن تقضي على القوات الصهيونية التي أصابها الإعياء، ونفذ عتادها، مما اضطر زعماء الصهيونية إلى الطلب من الولايات المتحدة العمل على وقف القتال، وقيام هدنة بين الطرفين لاستعادة الأنفاس والتهيئة لجولة جديدة.

ثانيا : إعلان الهدنة الأولى في فلسطين :
سارعت الولايات المتحدة إلى دعوة مجلس الأمن الدولي إلى الاجتماع، بدعوى أن الوضع في الشرق الأوسط يهدد الأمن والسلام الدوليين، واستطاعت استصدار قرار من المجلس يقضي بوقف القتال بين الطرفين، وإرسال الوسيط الدولي السويدي [ الكونت برنادوت ] الذي قتله الصهاينة فيما بعد، ليلة 22 / 23 أيار، بعد 39 ساعة من بدء القتال.
سارع الحكام العرب إلى قبول وقف القتال، بعد اجتماع عاصف بين ممثلي الحكومات العربية، فقد هدد رئيس الوزراء المصري [ محمود فهمي النقراشي] بأن مصر سوف تعقد هدنة مع الصهاينة لوحدها إذا لم توافق بقية الدول العربية على ذلك. (3)
أما الملك عبد الله فقد أصرّ على قبول الهدنة، وهدد بقطع التموين عن الجيش العراقي إذا أصرّ العراق على عدم قبولها . (4)
أما الملك عبد العزيز آل سعود، فقد رفض قطع النفط عن الولايات المتحدة، بناء على طلب الجامعة العربية، وكان ذلك كفيلاً بأن يشكل اكبر ضغط عليها .
 كانت مواقف الحكومة السورية أكثر جرأة واندفاعا، ولذلك وجدنا القوات الصهيونية ركز هجماتها على القوات السورية . بدأت القوات الصهيونية تستعيد أنفاسها، وبدأت الأسلحة تنهال عليها من كل جانب، وجرى تنظيم، وإعداد تلك القوات لجولة جديدة مع القوات العربية، وكان قبول الحكام العرب يمثل خيانة كبرى لمصالح الأمة العربية، ولقضية فلسطين، كما كان قرار مجلس الأمن أهم امتحان لمصداقية المهيمنين على مجلس الأمن، والذين تنكروا للميثاق الذي وضعوه هم أنفسهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية .
لقد كان العراق يملك من القوات والأسلحة ما يكفيه وحده لتحطيم القوات الصهيونية، لكن الحكام المؤتمرون بأوامر الإمبريالية لم يكونوا جادين في حربهم.
 أما الملك عبد الله فخيانته للقضية الفلسطينية لا تحتاج إلى دليل، فقد كان يقدم للصهاينة النفط الذي كان يمر عبر أنبوب النفط العراقي إلى [حيفا] والتي وقعت بأيدي الصهاينة، حيث استمر بالتدفق ليستخدموا البترول في تسيير آلياتهم العسكرية، فقد وصف المؤرخ الأردني المعروف [ سليمان موسى ] موقف الملك عبد الله قائلاً :
{ كان الأردن حتى أوائل شهر أيار 1948 يحصل على ما يحتاج إليه من مشتقات النفط من مصفاة شركة بترول العراق في حيفا، وعندما سلمت بريطانيا، مدينة حيفا للصهاينة أصبحت المصفاة بأيديهم فأخذوا يستغلونها لسد حاجاتهم، ولذلك لم يكن الصهاينة بحاجة، أو أزمة فيما يختص الوقود بأنواعه، أما الأردن فقد استطاع الحصول على ما يحتاج من وقود من محطتي H3وH5، حيث ضخت الشركة 12 مليون غالون من كركوك  إلى خزاناتها في المحطتين، ومنها أخذ الأردن حاجته من الوقود}. وهكذا اشتركت الحكومتان العراقية والأردنية في تزويد الصهاينة بالنفط الضروري لحركة آلياتهم العسكرية.(5)

ثانياً:استئناف القتال،والولايات المتحدة تفرض هدنة جديدة:
عندما أكره مجلس الأمن الدول العربية على وقف القتال قي فلسطين اعتباراً من 11 حزيران 1948 وعين الوسيط الدولي [ الكونت برنادوت ] لوضع حل سلمي للمشكلة الفلسطينية !!، كان أحد شروط الهدنة هو عدم استفادة أي طرف من الأطراف لتعزيز قواته، أو تحريكها .
 لكن الحقيقة أن الصهاينة استفادوا من كل يوم، بل وكل ساعة لتعزيز مواقعهم، ولجلب الأسلحة والطائرات التي أخذت تنهال عليهم من الإمبرياليين الأمريكيين والإنكليز وغيرهم، فيما بقيت القوات العربية ملتزمة ببنود الهدنة، ولم تسعَ إلى تقوية مركزها، معتمدة على مصداقية مجلس الأمن!!.
لكن الدول العربية اضطرت في نهاية المطاف، وبعد أن وجدت التعزيزات العسكرية الصهيونية تجري ليل نهار، إلى استئناف القتال من جديد في 9 تموز، وفوجئت القوات العربية بأخذ القوات الصهيونية زمام المبادرة من أيديهم، وبدأت تهاجمهم بعنف، وخسرت القوات العربية  [صفد] و[الناصرة] و [اللد] و[الرملة] والعديد من القرى العربية، وتشرد الألوف الجدد من أبناء الشعب الفلسطيني، تاركين ديارهم وأملاكهم وأموالهم، هرباً من المذابح الصهيونية.
 وهكذا استطاعت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أن تفرض على العرب هدنة جديدة، في 18 تموز 1948، وتخاذل الحكام العرب، وقبلت أربعة دول عربية هي مصر والأردن والسعودية واليمن  مبدأ التقسيم، فيما رفضت الحكومتان السورية والعراقية الهدنة.
 لكن الموافقة على القرار تم بالأكثرية وقبل العرب إجراء مفاوضات لعقد هدنة دائمة مع إسرائيل في [لوزان ] بسويسرا ، وقد استنكرت الأحزاب الوطنية في العراق قرار مجلس الأمن، وقبول الحكام العرب له، في بيان مشترك صدر عن الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار.
 كما سيروا المظاهرات في بغداد يوم الجمعة المصادف 23 تموز 1948، احتجاجاً على قبول الهدنة ، في حين أصدر الحزب الشيوعي بياناً يدعو فيه إلى وقف القتال، وسحب الجيوش العربية، والقبول بقرار مجلس الأمن، وكان ذلك الموقف استمراراً لمواقفه الخاطئة من القضية الفلسطينية، والتي أضرّت بالحزب وشعبيته ضرراً بليغاً. (6)

ثالثاً: مصير القسم العربي من فلسطين: 
بعد إعلان قبول الدول العربية بالهدنة الثانية، والقبول بتقسيم فلسطين، قدمت الحكومة المصرية اقتراحاً لجامعة الدول العربية يقضي بإعلان حكومة عموم فلسطين العربية، على أن يعّين [ احمد عرابي باشا ] حاكماً عليها ، وقد أيد العراق الاقتراح المصري، وأيده فيما بعد ذلك كل من  لبنان والسعودية واليمن، وعارضه الملك عبد الله الذي كانت بريطانيا قد وعدته أثناء زيارته الرسمية للندن  في 21 شباط 1946 بضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارته [ شرق الأردن ]، إذا ما حان الوقت لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولذلك جاءت معارضة الملك عبد الله ، والتي اتسمت بالشدة وهدد باتخاذ أشد الإجراءات الهادفة إلى إحباط الاقتراح المصري .(7)
ودبر الملك عبد الله، بالتعاون مع الإنكليز، ما سمي [مؤتمر أريحا ] والذي جاءوا له بعدد من الشخصيات الفلسطينية الموالية لبريطانيا وللملك عبد الله، ليقرروا ضم الجزء العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن.  (8)
 فيما خضع قطاع غزة للإدارة المصرية، وهكذا اختتمت المسرحية التي أخرجتها الإمبريالية الأمريكية والبريطانية، ونفذها الحكام العرب، وكان ضحيتها ليس شعب فلسطين فحسب، بل الشعب العربي كله .
 فقد أصبحت إسرائيل مصدراً للعدوان والتوسع على حساب البلدان العربية، واضطرت هذه البلدان إلى خوض عدة حروب معها، وكانت إسرائيل توسع كيانها في كل مرة على حساب العرب، ناهيك عن أنهاك الاقتصاد العربي بسبب تلك الحروب، والتسلح المستمر منذُ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا .
أثارت تلك المؤامرة الكبرى نقمة الشعوب العربية على حكامها، وأدركت هذه الشعوب أن الداء هو في وجود هؤلاء الحكام على رأس السلطة ، وأن لا سبيل لإصلاح الأمور إلا بتغيير الأوضاع فيها.
كما أن الجيوش العربية التي عادت إلى بلدانها، ومرارة الحزن والأسى بادية على وجوه الجنود والضباط المغلوبين على أمرهم قد أدركوا أن الحكام العرب هم أساس البلوى، فقد باعوا  أنفسهم للإمبريالية، ونفذوا مخططاتها في المنطقة العربية، وكان من بين أولئك الضباط قائد ثورة 23 يوليو في مصر [ جمال عبد الناصر ] و قائد ثورة 14 تموز في العراق  الشهيد [عبد الكريم قاسم ].
 لقد شهدت البلدان العربية بعد عام النكبة 1948 تغيرات كثيرة حيث اختفت رموز كثيرة من المسرح السياسي ، فقد وقع انقلاب عسكري في سوريا في 30 آذار 1949 بقيادة [ حسني الزعيم]  وقتل الملك عبد الله في 20 تموز 1951، كما قتل رئيس وزراء مصر [ محمود فهمي النقراشي ] ، وقتل رئيس وزراء لبنان [رياض الصلح ] إثناء زيارته الرسمية إلى عمان في 16 تموز 1951 .
أما في العراق  فقد جرت المعارك في شوارع بغداد وسائر المدن العراقية بين السلطة والشعب، وتم إسقاط وزارة صالح جبر الموالي للإنكليز، ثم جاءت ثورة 23 يوليو في  مصر، وتم إسقاط حكم الملك فاروق، أحد المسؤولين الكبار عن النكبة، كما وقع انقلاب عسكري في لبنان في 18 أيلول 1952  أطاح بالرئيس اللبناني [ بشارة الخوري ]، وأخيراً تكلل نضال الشعب العراقي بالنجاح في ثورة 14 تموز 1958 التي أسقطت النظام الملكي الموالي للإنكليز.

رابعاً: تطورات درامية في حرب فلسطين:
لعب الملك عبد الله، وقائد جيشه البريطاني [ كلوب باشا ] دوراً خيانيا مشهوداً، بعد أن تولى الاثنان قيادة الجيوش العربية في القاطعين الشمالي والشرقي من الجبهة . فبعد أن أقّر رؤساء الأركان العرب في اجتماع [الزرقاء ] خطة عسكرية فعالة لمجابهة القوات الصهيونية، أعترض عليها كلوب باشا واستبدلها بخطة جديدة، فقد أدرك كلوب أن تنفيذ تلك الخطة سوف يفشل المخطط الإمبريالي الصهيوني، وخطة الملك عبد الله الطامع في الأرض الفلسطينية، وكان بإمكان تلك الخطة القضاء على القوات الصهيونية، ولكن إقدام كلوب باشا على إبدالها أدى إلى الفشل الذريع للجيوش العربية ، وبالتالي أصبحت إسرائيل حقيقة واقعة.
هذا على الجبهتين الشمالية والشرقية، أما على الجبهة الجنوبية التي حارب فيها الجيش المصري فكانت الخيانة أعظم، عندما جُهز الجيش المصري بالعتاد الفاسد، مما سبب كارثة للجيش، ومكّن القوات الصهيونية من محاصرته في الفالوجه، وإلحاق الخسائر الجسيمة به والاستيلاء على الفالوجة .
وعلى الأثر سافر رئيس الوزراء، الباجه جي، إلى القاهرة، والتقى زميله المصري [ محمود فهمي النقراشي ] وبحثا الأحوال بعد سقوط الفالوجة، وجرى الاتفاق على إرسال لواء عراقي آلي مع فوجين سوريين لمساعدة الجيش المصري، وتم الاتفاق على موعد الهجوم على الفالوجة. (9)
  ولما اطلع كلوب باشا على الخطة رفضها فوراً، وأعلن أن الجيش الأردني في منطقة القدس لن يسمح بمرور القوات العراقية والسورية، وبذلك أفشل كلوب باشا خطة رؤساء الأركان العرب لمساعدة الجيش المصري، والذي بقي يقاتل لوحده متحملاً ضغط القوات الصهيونية. (10)

خامساً:الشعب العراقي والقضية الفلسطينية
بانكشاف هذه المؤامرة الجديدة على القضية الفلسطينية، قامت المظاهرات العارمة في بغداد وسائر المدن العراقية احتجاجاً على تخاذل الحكومة، وضلوع العرشين الهاشميين في تلك المؤامرة، وقد وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، أصيب على أثرها أكثر من 200 من المواطنين بجراح في بغداد وحدها، واعتقلت السلطات أعداد كبيرة أخرى منهم .
كما قام وفد من نواب المعارضة بمقابلة عبد الإله، ورئيس الوزراء الباجه جي، بعد اجتماع عقده نواب المعارضة، وقدموا مذكرة باسم المعارضة لهما، وقد دعت المذكرة إلى عدم التزام العراق بالهدنة التي تنتهكها إسرائيل باستمرار، والعمل فوراً على تقديم العون العسكري للقوات المصرية التي بقيت تقاتل لوحدها، وقطع النفط عن الدول الإمبريالية التي تدعم العصابات الصهيونية، وإنذار بريطانيا بإلغاء معاهدة التحالف معها إذا ما استمرت في سياستها الحالية .
كما فضحت المذكرة الدور الخياني لحكومة الأردن، وحذرت من أن  ترك مصر لوحدها سوف يؤدي إلى انهيار الجامعة العربية، وانعزال مصر عن القضايا العربية، وفقدان الأمل في قيام وحدة عربية .
 وقد وقّع على المذكرة كل من السادة النواب : خميس الضاري  ـ ذيبان الغبان  ـ داؤد السعدي ـ عبد الرزاق الظاهر  ـ محمد حديد ـ عبد الجبار الجومرد ـ عبد الكريم كنه  ـ فائق السامرائي  ـ إسماعيل الغانم  ـ  روفائيل بطي ـ عبد القادر العاني  ـ نجيب الصايغ ـ عبد الرزاق الشيخلي ـ هاشم بركات ـ حسن عبد الرحمن ـ جعفر البدر ـ ريسان كاطع ـ مصلح النقشبندي ـ خدوري خدوري  ـ جميل صادق ـ برهان الدين باش أعيان  ـ عبد الرحمن الجليلي  ـ محمد مهدي كبه  ـ حسين جميل ـ أركان العبادي ، وقد قدم النواب صورة من هذه المذكرة إلى رئيسي مجلسي النواب والأعيان .
وبالنظر لتطور الأحداث بهذا الشكل المتسارع، وشدة الانتقادات التي وُجهت للحكومة، ولخطورة الموقف، لم يجد مزاحم الباجه جي أمامه من طريق سوى تقديم استقالة حكومته إلى الوصي، في 6 كانون الثاني 1949، وتم قبول الاستقالة على الفور، وكلف الوصي رجل بريطانيا القوي في العراق  نوري السعيد، لتأليف وزارته العاشرة  في اليوم نفسه لكي يتولى قمع الشعب العراقي ترويضه، حيث كانت بريطانيا تلجأ إلى نوري السعيد لتشكيل الوزارة كلما استجدت أحداث خطيرة في العراق ، بما عرف عنه من تحدي حاسم لإرادة الشعب بكل ما يمتلك من قوة، واستعداده التام لوقف العمل بالدستور وإعلان الأحكام العرفية ، وإصدار المراسيم القمعية المنافية لنصوص الدستور.
 وكان شاعر العرب الأكبر محمد مهدي  الجواهري قد عبر في قصيدته الرائعة { يوم الشهيد} أصدق تعبير عن إجراءات نوري السعيد والسلطة الحاكمة آنذاك، حيث يقول:
وتعطلَ الدستورُ عن أحكاِمهِ       مِنْ فَرطِ ما ألوى به الحُكامُ
فالوعي بَغيٌ، والتحررُ سُبةٌ       والهمسُ جُرمٌ والكلامُ حَرامُ
ومُـدافع ٌ عما يُديـنُ مُخربٌ         ومُطــالبٌ بحقــوقِهِ هَــــدّامُ

التوثيق
  (1) تقرير قائد القوات العراقية في فلسطين اللواء نور الدين محمود لرئاسة الأركان
  (2) يقظة العالم العربي ـ جان وولف ـ ص 90 .
  (3) مذكرات محمد مهدي كبه ـ في صميم الأحداث ـ ص 263 .
  (4) نفس المصدر السابق.
  (5) تاريخ الوزارات العراقية ـ عبد الرزاق الحسني ـ الجزء الثامن ـ ص 94 .
  (6) تاريخ الحزب الوطني الديمقراطي ـ د. فاضل حسين ـ ص 236
  (7) تاريخ الوزارات العراقية ـ عبد الرزاق الحسني ـ الجزء الثامن ـ ص 36
  (8) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 486 .
  (9)  ) تاريخ الوزارات العراقية ـ عبد الرزاق الحسني ـ ج 7 ـ ص 315 .
  (10) المصدر السابق ـ ج 8 ـ ص 17








452
ستون عاماً على الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني
القسم الأول


حامد الحمداني                                                    16/5/2008

بدأت المشكلة الفلسطينية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، باندحارالإمبراطورية العثمانية، واقتسام بريطانيا وفرنسا البلاد العربية التي كانت تحت السيطرة العثمانية، بموجب معاهدة [سايكس بيكو ] السرية، فقد احتلت بريطانيا العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، ومصر، والسودان، ومنطقة الخليج، ووضعت هذه البلدان تحت حمايتها، وأحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه البلدان، ناكثة بالعهد الذي قطعته على نفسها للملك حسين بن علي ـ ملك الحجاز ـ آنذاك ـ بمنح البلاد العربية استقلالها، إذا ما شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية.

وكانت بريطانيا قد خططت لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين منذ 31 تشرين الأول 1917  عندما أصدر وزير خارجية بريطانيا [ بلفور] وعده المشؤوم الذي عرف باسمه.
بدأت بريطانيا منذ بداية احتلالها لفلسطين بالأعداد لتنفيذ ذلك المخطط الإمبريالي القاضي بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي ، وصلة الوصل بين مشرقه ومغربه ، حيث بدأت هجرة أعداد كبيرة من اليهود من دول أوربا وأمريكا وغيرها من البلدان الأخرى إلى فلسطين ، وقدمت قوات الاحتلال البريطاني كل ما يلزم لتوطين هؤلاء المهاجرين ودعمهم ، وتقديم السلاح لمنظماتهم الإرهابية لتمكينها من فرض سيطرتها على البلاد  قبل أن تجلوا تلك القوات منها ، لغرض إقامة ذلك الكيان الدخيل.
وفي الوقت نفسه قامت قوات الاحتلال بعمليات اضطهاد واسعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي أحسّ بالمؤامرة التي تحاك ضده ، وأدرك المخاطر التي تنتظره على يد المحتلين البريطانيين .
لقد خاض الشعب العربي الفلسطيني نضالاً شاقاً ضد قوات الاحتلال مطالبا باستقلال بلاده وحريته ، وحدثت ثورات عديدة كان أكثرها عنفاً ثورة عام 1936 التي شملت فلسطين بأسرها ، لكن المحتلين قمعوها بقوة السلاح ، وبقسوة ليس لها مثيل ، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه دفاعا عن حريته واستقلال بلاده ووحدة أراضيه .
لم تستطع الدول العربية تقديم الدعم الحقيقي واللازم لنضال الشعب الفلسطيني ، فقد كانت تلك الدول واقعة هي نفسها تحت نير المحتلين ، وكل الذي جرى هو تطوع الكثير من أبناء الشعب العربي للدفاع عن عروبة فلسطين .
 وعند قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 بين بريطانيا وفرنسا من جهة وألمانيا وإيطاليا من جهة أخرى ، ولأجل ضمان مصالح بريطانيا في المنطقة العربية ، أقدمت الحكومة البريطانية على إعلان [كتابها الأبيض] الذي حددت فيه سياستها تجاه القضية الفلسطينية ، فقد اعترفت باستقلال فلسطين ، وأعلنت تنصلها من الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين .
 لكنها في حقيقة الأمر كانت قد هيأت كل شيء لقيام هذا الكيان ، ولم يكن كتابها الأبيض الذي أصدرته في نهاية مؤتمر لندن عام 1939 لبحث القضية الفلسطينية سوى خدعة للشعوب العربية اقتضتها مصالحها لتعزيز مجهودها الحربي .
 فلما انتهت الحرب بانتصار الحلفاء على دول المحور شددت بريطانيا قبضتها على البلاد العربية ، عن طريق إقامة كيانات عربية مستقلة بالاسم  لكنها كانت تدار فعلياً من قبل سفاراتها، ومستشاريها باسم الانتداب .
بدأت بريطانيا بالإعداد لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين ، وتنكرت مرة أخرى لكتابها الأبيض ، وفتحت الباب على مصراعيه لهجرة الآلاف من اليهود إلى فلسطين ، وظهرت في البلاد منظمات إرهابية صهيونية مثل [منظمة الهاجانا ] و [منظمة شتيرن ] و[منظمة الأركون] وقدمت بريطانيا لهم السلاح، وكل المساعدات الممكنة لكي تشكل هذه المنظمات الإرهابية جيشاً كبيراً وقوياً يستطيع مجابهة العرب عندما يحين موعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين ، في الوقت الذي كانت تنكل قواتها بالفلسطينيين ، وتحكم بالإعدام على كل فلسطيني يعثر لديه على طلقة واحدة .
وفي آذار 1946 وصلت إلى المنطقة العربية [ لجنة التحقيق الأنكلو ـ أمريكية ] بعد الفورة التي اجتاحت العالم العربي ضد المخطط الصهيوني في فلسطين .
 وجاء تقرير اللجنة، في 16 آذار 1946 مخيباً للآمال العربية، واستفزازاً لها. فقد جاء في التقرير خطة لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود ، وتأسيس كيان صهيوني فيها، والسماح فوراً لهجرة 100 ألف يهودي من سائر الأقطار الأوربية والأمريكية إلى فلسطين ، على أن تستمر هذه الهجرة بعد ذلك لكل من يرغب من اليهود ، وكان التقرير يهدف إلى تغير نسبة السكان في فلسطين لصالح اليهود.
أدى إعلان التقرير إلى موجة احتجاجات ومظاهرات جماهيرية احتجاجا على خطط الإمبرياليين ، وعلى تهاون الحكومة تجاه المؤامرة التي يجري تدبيرها في فلسطين، ودعت الأحزاب السياسية إلى الإضراب العام احتجاجاً على تقرير اللجنة، وشنت الصحافة حملة شعواء على السياسة البريطانية والأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، واضطرت حكومة السيد جميل المدفعي ، رئيس الوزارة العراقية، تحت ضغط الجماهير الشعبية إلى تقديم احتجاج خجول في 1 أيار 1946 إلى بريطانيا والولايات المتحدة . لكن حكومة المدفعي لم تكن جادة في موقفها أبداً ، بل اضطرت إلى مسايرة غضبة الجماهير، ولم تتخذ أي إجراء يمس المصالح البريطانية والأمريكية ردا على ذلك التقرير .
وفي حزيران 1946 عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية اجتماعا لها في [بلودان ] بسوريا ، وقيل أنها اتخذت قرارات سرية بتدخل الجيوش العربية في فلسطين، إذ ما أعُلن عن قيام دولة صهيونية فيها .
 لكن الذي صدر عنها بشكل علني هو الدعوة لجمع التبرعات لشعب فلسطين !!، بهذه العقلية كانت الحكومات العربية تفكر في معالجة أخطر مشكلة جابهت العرب في تاريخهم الحديث ، وسببت قيام أربعة حروب بين الدولة الصهيونية وجيرانها العرب ، ومكنت تلك الحروب إسرائيل من أن تسيطر على جميع الأراضي الفلسطينية ، إضافة إلى هضبة الجولان السورية، وجنوب لبنان، وصحراء سيناء،  إلى أن عقد أنور السادات معها معاهدة [ كامب ديفد ].
 كما سيطرت على مصادر المياه في المنطقة،  واستمرت الدولة العبرية في اعتداءاتها على جيرانها العرب حتى يومنا هذا.
ورغم أن الحكومة العراقية قررت جمع التبرعات لفلسطين، إلا أنها منعت الأحزاب الوطنية من القيام بهذا العمل، واتخذت حكومة أرشد العمري ذلك ذريعة لحل حزبين سياسيين وطنيين هما [حزب الشعب] و[حزب التحرر الوطني]
وفي 23 أيلول 1947، عقد مؤتمر في لندن، حضرته الدول العربية، لبحث القضية الفلسطينية، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أي نتيجة لصالح الفلسطينيين، وفوجئت الوفود العربية بالخطة الأنكلو أمريكية لتقسيم فلسطين، وعادت الوفود العربية خالية اليدين .
وفي 22 تشرين الأول من نفس العام عقد رؤساء العشائر العربية والكردية والأيزيدية في العراق مؤتمراً في مدينة الحلة لبحث القضية الفلسطينية، وخرجوا بمقررات عديدة، كان أهمها إرسال المتطوعين إلى فلسطين للتصدي للعصابات الصهيونية.
 إلا أن تلك القرارات بقيت حبراً على ورق، ولم يجد تنفيذها النور، ولاشك أن الإنكليز كانوا وراء فشل ذلك المؤتمر في تنفيذ قراراته.
وفي 30 تشرين الثاني 1947 طُرحت القضية الفلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في دورتها الثانية، وكان الاجتماع خاتمة المطاف لتنفيذ المشروع الانكلوأمريكي، حيث قررت هيئة الأمم تقسيم فلسطين، والمضي قدماً في المخطط الإمبريالي .
وعلى أثر صدور قرار الأمم المتحدة بالتقسيم، عقد رؤساء الحكومات العربية اجتماعا في القاهرة في 8 كانون الأول 1947  لبحث القرار، إلا أن الذي جرى هو تراجع وتخاذل الحكام العرب، بضغط من الإمبرياليين، ولم يكن الاجتماع سوى وسيلة لخداع شعوبهم، وإظهار أنفسهم بمظهر الحريصين على القضية الفلسطينية، وذراً للرماد في العيون .
وفي الوقت نفسه كانت المنظمات الصهيونية تستعد لإعلان دولة إسرائيل، وكانت تلك المنظمات تعمل على إنشاء جيش [الهاجانا ] و[ الماباخ ]،القوة الفدائية في الجيش الإسرائيلي .
سادت التظاهرات أرجاء العراق، احتجاجاً على قرار التقسيم، وأصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب الأحرار، بيانات تندد بالقرار، وبمواقف الحكومات العربية المتخاذلة، ضاغطة عليها للقيام بإجراءات سريعة لمنع قيام الكيان الصهيوني.
 إلا أن الحزب الشيوعي العراقي وقع في خطأ استراتيجي جسيم بموقفه المؤيد  لقرار التقسيم، وقيام الكيان الصهيوني، بعد أن أعلن الاتحاد السوفيتي اعترافه بالكيان،  وخسر بسب ذلك الموقف عطف وتأييد الكثير من الجماهير الشعبية المتحمسة للقضية الفلسطينية ، وبقي تأثير ذلك الموقف يلاحق الحزب الشيوعي، واستغلت الإمبريالية ذلك الموقف لإثارة الجماهير العراقية ضد الحزب، وقد أدرك الحزب خطأه فيما بعد، وصحح موقفه، بعد أن وجد أن الصهيونية العالمية هي التي سيطرت على الدولة العبرية، وكان الهدف من إنشائها إقامة قاعدة متقدمة للإمبريالية في قلب الوطن العربي، وسيفاً مسلطاً على رقاب الشعوب العربية، من أجل ضمان هيمنة الإمبريالية على منابع النفط العربي، والأسواق العربية، وقد لعب الحزب الشيوعي فيما بعد دوراً طليعياً في قيادة النضال ضد الصهيونية والإمبريالية .
وبسبب ضغط الجماهير العربية، وغضبها العارم على مشروع التقسيم، عقدت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية اجتماعا لها في دمشق، في 15 آذار 1948، لبحث تطورات القضية، لكنها لم تتخذ أي إجراء حقيقي، وعادت اللجنة المذكورة إلى الاجتماع ثانية في 9 نيسان، وكان الاجتماع كسابقه، ولم يسفر عن أي نتيجة .
وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعا في عمان، وقرر المجتمعون أن أي تدخل عسكري يتطلب خمس فرق عسكرية بكامل أسلحتها ومعداتها، إضافة إلى 6 أسراب من الطائرات القاصفة والمقاتلة،على أن تكون هذه القوات تحت قيادة واحدة .
وفي 26 نيسان 1948 سارت مظاهرات كبرى في شوارع بغداد، وتوجهت إلى مجلس الوزراء، وكان المتظاهرون يهتفون بسقوط المشروع الأنكلو أمريكي، ويطالبون الحكومة بالعمل الجدي لإنقاذ فلسطين، وقد خرج الشيخ محمد الصدر ـ رئيس الوزراء ـ وألقى كلمة بالمتظاهرين أعرب فيها عن حرصه على إجراء كل ما يلزم ، لكن الطلاب المتظاهرين لم يقتنعوا بحديث الصدر، واستمروا بالتظاهر، واستمر إضراب الطلاب عن الدراسة وعن الطعام حتى تجاب مطالبهم .
وفي 11 أيار عقدت اللجنة السياسية التابعة للجامعة العربية اجتماعاً جديداً في دمشق، واتخذت فيه قرارات عدة حول دخول القوات العربية إلى فلسطين، وحول إيواء اللاجئين من النساء والأطفال والشيوخ، وحول الإجراءات الأمنية التي تقرر اتخاذها، كإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيوش العربية، لكنها في واقع الأمر كانت موجهة لقمع أي تحرك شعبي ضد تلك الحكومات التي اشتركت فعلياً في تنفيذ المؤامرة على فلسطين.
ومن الجهة الأخرى، كانت بريطانيا قد أعلنت عن عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، بعد أن رتبت الأوضاع للمنظمات الصهيونية التي تشكلت قبل ذلك استعداداً لتسلم السلطة عند إنهاء بريطانيا لانتدابها، وكانت كل تلك التحركات الصهيونية تجري تحت سمع وبصر المحتلين البريطانيين ، وبالتنسيق معهم، ومع الولايات المتحدة ، وقد أخذت تلك المنظمات تمارس شتى الأعمال الإرهابية ضد السكان العرب لحملهم على ترك ديارهم ، دون أن تتخذ السلطات البريطانية أي إجراء لحمايتهم .
ولم يكن الحكام العرب ، الذين نصبهم الإمبرياليون، جادين في تصديهم للعصابات الصهيونية، بل كانوا مجرد منفذين لأوامرهم، ولذلك نجد أن قرارات الجامعة العربية كانت لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع تلك الأحداث التي كانت تجري في فلسطين، وحتى قرار الحكام العرب بإرسال جيوشهم إلى فلسطين لم يكن سوى مجرد مسرحية أوحت بها الحكومتان البريطانية والأمريكية، لتغطية خططهما في زرع ذلك الكيان الغريب في قلب الوطن العربي، ولتبرئة ذمة أولئك الحكام أمام شعوبهم، بكونهم أرسلوا الجيوش، وقاموا بالواجب الوطني الملقى على عاتقهم تجاه محنة الشعب الفلسطيني !!! .

انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني
www,Hamid-Alhamdany.com

453
حسن نصر الله يحاول اغتيال الديمقراطية في لبنان

حامد الحمداني                                                                         15/5/2008
لبنان الجميل، لبنان واحة الحرية والديمقراطية في عالمنا العربي أجمع يجابه اليوم محنة خطيرة تهدد كيانه، وتهدد الحياة الديمقراطية التي تعود عليها شعبه، وعاش في ظلها، وذاد عنها أبناؤه بدماء غزيرة يوم تعرض لتلك الهجمات المتتالية أبان الحرب الأهلية التي استعر لهيبها، وامتدت نيرانها لتشمل البلاد كلها، والتي استمرت خمسة عشر عاماً شديدة القسوة، تارة على أيدي البعض من بني الوطن الذي ارتضى أن يكون أداة بيد الأجنبي لحرق وطنه، وقتل أبناء جلدته، وتارة على أيدي الأشقاء الذين احتضنهم أيام المحنة، وحمل همومهم، ودافع عن قضيتهم العادلة، وتارة على أيدي جيش العدوان الإسرائيلي الذي استباح البلاد مرات عديدة، واحتل عاصمتها بيروت، وأحتل جنوب لبنان، وعسكر فيها أكثر من عقدين من الزمن .
لكن شعب لبنان الشجاع لم يرتضِ الذل والهوان يوماً، بل حمل كل ما أُتيح له من سلاح دفاعاً عن حرية الوطن وسيادته واستقلاله، ودفاعاً عن الديمقراطية التي لن يرتضِ عنها بديلا.
أن محنة الشعب اللبناني اليوم تتمثل بجانب من أبناء الوطن المنتمين لحزب الله  الذي يقوده السيد حسن نصر الله الذي ارتضى لنفسه أن يكون أداة طيعة بيد النظام الإيراني وحليفه النظام السوري، والذي استثمر المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان ليبني له جيشاً عرمرماً مجهزاً بأحدث الأسلحة،تتجاوز قدرات الجيش اللباني الوطني، ومليارات الدولارات التي أخذت تنهال عليه من ملالي طهران، والمقطوعة من أفواه الشعب الإيراني الجائع بدعوى مقاومة العدوان الإسرائيلي. حيث ادخل لبنان في حرب جديدة عام 2006 دون إرادة الحكومة الشرعية والبرلمان والشعب اللبناني، والتي أدت إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، والهجرة الجماعية لأبناء الجنوب الذين استقبلهم أخوتهم في بيروت والمدن اللبنانية الأخرى وقدموا لهم كل ما أمكن من مساعدة، واحتضنوهم ضيوفاً أعزاء عليهم .
واستمر حسن نصر الله بعد خروج القوات الاسرائلية من لبنان في تقوية جهازه العسكري بالسلاح والمعدات المتطورة لينقلب فجأة نحو أبناء وطنه، ونحو حكومته الشرعية ليفرض على الحكومة، وعلى الأغلبية النيابية، شروطاً تتعارض ومبادئ الديمقراطية، فمن المبادئ الثابتة للديمقراطية أن الأغلبية في البرلمان هي التي تشكل الحكومة، وهي التي تحكم البلاد.
ومع ذلك فقد أشركت الأغلبية حزبي المعارضة، حزب الله وحركة أمل في الحكومة ، وانتخبت زعيم حركة أمل رئيساً للبرلمان حفاظاً على الوحدة الوطنية، وتماسك النسيج الاجتماعي اللبناني المتعدد .
لكن السيد حسن نصر الله وحليفه السيد نبيه بري انقلبا على الحكومة مطالبين بمطالب لا تقرها الديمقراطية، مستعينين بقوة السلاح الذي أخذا يهددان به الحكومة وينعتاها بالحكومة اللا شرعية تارة والعميلة تارة أخرى، ونسيا أنهما كلاهما عملاء لإيران والنظام السوري الذي اغتصب لبنان منذ عام 1975 وحتى يوم استشهاد الرئيس رفيق الحريري على أيدي المخابرات السورية وأعوانها في لبنان، فكانت انتفاضة 14 آذار ضد الاحتلال السوري وصدور قرار مجلس الأمن بخروج القوات السورية من لبنان، والقرار بتشكيل المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الشهيد رفيق الحريري ، والتي انسحب على أثرها وزراء حزب الله وحركة أمل من الحكومة، وعلى الرغم من استقالتهم استمروا على الدوام  في مكاتبهم الوزارية رافضين الاجتماع بمجلس الوزراء، ومعتبرين حكومة السيد فؤاد السنيورة غير شرعية، وبدأ زعيما حزب الله وحركة أمل يكشران يوماً بعد يوم عن أنيابها الإيرانية والسورية ليفترسا الحرية والديمقراطية اللبنانية . رافضين فتح المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية الذي شغر بعد انتهاء ولاية رجل سوريا التي فرضت تمديد ولايته سنتين، إيميل لحود، ومنذ عدة اشهر والدولة اللبنانية دون رئيس للجمهورية، مما استدعى أن يتولى مجلس الوزراء مجتمعاً صلاحيات رئيس الجمهورية لحين انتخاب الرئيس الجديد .
لكن نصر  الله وبري وثالثهم الانتهازي المصلحي الجنرال المتقاعد ميشيل عون الذي يحلم أن يتسلق منصب رئيس الجمهورية، ومن أجل تحقيق أحلامه، وهوسه بالسلطة تحالف مع النظام السوري الذي طرده من قصر الرئاسة الذي هدمه على رأسه، وهرب ليحتمي بالسفارة الفرنسية لعدة اشهر حتى دبرت له الحكومة الفرنسية عملية الخروج من لبنان وقبوله لاجئاً في فرنسا .
ولم يستطع العودة إلى لبنان حتى سقوط حكومة السيد عمر كرامي على أثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وصدور قرار مجلس الأمن تحت البند السابع يقضي بخروج القوات السورية من لبنان على أثر انتفاضة الشعب اللبناني ضد الهيمنة السورية على مصير لبنان، وجرى حل البرلمان، وتشكيل حكومة محايدة برئاسة السيد نجيب ميقاتي لإجراء انتخابات عامة في البلاد أفرزت فوز كتلة 14 آذار بالأغلبية في البرلمان، وتشكيل حكومة السيد فوأد السنيورة، والتي شاركت فيها قوى المعارضة التي ضمت حزب الله وحركة أمل.
لكن ممثلي حزب الله وحركة أمل في الوزارة أعلنوا عن استقالتهم من الحكومة على أثر صدور قرار مجلس الأمن بتشكيل المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري وكافة النواب الذين اغتيلواالشهداء باسم فليحان وجبران تويني ووليد عيد وولده وبيير الجميل وانطوان غانم ، وكذلك الشهداء جورج حاوي،وسمير قصير ، وفرانسو الحاج ووسام عيد ، وبدأ السيد حسن نصر الله، والسيد نبيه بري وحليفهم ميشيل عون يضغطون على حكومة السنيورة لإجبارها على الاستقالة ، ولما فشلوا في مسعاهم مرة أخرى كشر حزب الله عن أنيابه المسلحة بسلاح ملالي طهران، في محاولة انقلابيه أدت إلى ازهاق أرواح العشرات من المواطنين اللبنانيين، وجرح المئات الآخرين، ناهيكم عن الخسائر المادية الجسيمة في الممتلكات العامة والخاصة، وترويع الشعب اللبناني الذي استذكر أيام الحرب الأهلية المفعة التي دامت 15 عاماً.
لقد خسر السيد حسن نصر الله بإقدامه على تنفيذ الانقلاب ضد السلطة الشرعية ، وتوجيه السلاح ضد الشعب اللبناني والسلطة اللبنانية كل المجد الذي بناه يوم كان يقاوم الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان ، وتبين للشعب اللبناني والعالم اجمع أن نصرالله قد اتخذ من المقاومة وسيلة لتشكيل جيش عرمرم مسلح باسلحة حديثة، بحيث تجاوز قدرات الجيش الوطني، وبذلك اصبح حزب الله بقوة سلاحه هو الدولة .
أن السيد حسن نصر الله إذا ما استمر على السير في هذا الطريق الخطر فإنه سيسبب كارثة كبرى ليس على نطاق لبنان فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط كلها، وسيكتوي الجميع بنيران حرب دموية كارثية لم يشهد لها مثيلاً من قبل ، وسيقع السيد نصر الله في نفس الفخ الذي وقع فيه صدام حسين من قبل. وعند ذلك ستقع الكارثة الكبرى التي ستحرق الجميع. ولا يضنن أحدُ أن بإمكان حزب الله وحركة أمل أقامة قاعدة إيرانية في لبنان، فإما العودة عن شهر السلاح ، فتح المجلس النيابي لانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية ، وإجراء حوار بين الطرفين تحت قيادة رئيس الجمهورية المنتخب، لبحث مسألة سلاح حزب الله، وتسليمه للجيش اللبناني، وتعديل قانون الانتخاب على اساس القضاء ، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة كي تتولى الجهة الفائزة في الانتخابات السلطة الحقيقية للبلاد من دون تهديد حزب الله، وحلفائه، وسلاحه اللامشروع.
وليعلم السيد حسن نصرالله وحلفائه بري وعون أن المحادثات التي تجري الآن مع الوفد الوزاري للجامعة العربية برئاسة الأمين العام للجامعة العربية ستكون الفرصة الأخيرة أمامهم للوصول إلى حل يقود إلى انتخاب رئيس الجمهورية، والجلوس إلى طاولة الحوار لحل كافة القضايا المعلقة،أما إذا فشلت مهمة الوفد فستكون الخطوة التالية هي التحرك الدولي ومجلس الأمن لمعالجة تهديدات حزب الله وحلفائه، وعند ذلك ستقع الطامة الكبرى.
ليعش لبنان حراً مستقلاً وسيداً
ولينعم الشعب اللبناني بالحرية والديمقراطية والسلام والعيش الرغيد.

454
حرب الخليج الثالثة / الحلقة 15
الإدارة الأمريكية تقرر تشكيل مجلس الحكم المؤقت

حامد الحمداني                                                           7/4/2008
 
بعد الضغوطات التي مارستها القوى والأحزاب السياسية في البلاد من جهة، والاستنكار العالمي للاحتلال الأمريكي للعراق من جهة أخرى، اضطرت الولايات المتحدة إلى إقامة سلطة عراقية مؤقتة تحت إشراف الحاكم الأمريكي بريمر، أطلقت عليها [ مجلس الحكم ] لإدارة شؤون البلاد. لكن الحكم الفعلي بقي بيد بريمر، حيث يتمتع بصلاحيات مطلقة في حكم البلاد، وقد جرى اختيار أعضاء المجلس المتكون من [25] عضواً من قبله على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، حيث نالت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي حصة الأسد في المجلس، وحصلت على  [14] مقعدا.  في حين حصلت الأحزاب القومية الكردية على[5] مقاعد في المجلس، وبذلك أصبح لتحالف المجموعتين أغلبية الثلثين بالمجلس.
  وجاء تشكيل المجلس على الوجه التالي:
   1 ـ إبراهيم الجعفريي ـ زعيم حزب الدعوة الإسلامي
 2 ـ أحمد شياع البراك ـ شيخ عشيرة
 3ـ أحمد الجلبي ـ زعيم جزب المؤتمر الوطني العراقي.                                  .                                                                                                                  4 ـ إياد علاوي ـ زعيم كتلة الوفاق الوطني العراقي.                                   
 5ـ جلال الطالباني ـ زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني.                            .                                                                      6 ـ حميد مجيد موسى ـ سكرتير الحزب الشيوعي العراقي.                             .                                                                     7 ـ دارا نور الدين ـ قاضي ومعارض سابق.                                                             
 8 ـ عبد الكريم المحمداوي ـ رئيس حزب الله العراقي.                                           
 9ـ عدنان الباجه جي ـ زعيم تجمع الديمقراطيين العراقيين المستقلين                         
 10ـ عقيلة الهاشمي ـ دبلوماسية سابقة في وزارة خارجية حكومة صدام.
11 ـ غازي عجيل الياورـ أحد شيوخ شمر، مهندس ومقيم في السعودية.
12ـ محسن عبد الحميد ـ زعيم الحزب الإسلامي العراقي.
13ـ  محمد بحر العلوم ـ رجل دين شيعي ورئيس مؤسسة أهل البيت .
14ـ محمود عثمان ـ سياسي كردي مستقل.                                                         
 15 ـ مسعود البارزاني ـ زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني.
16ـ موفق الربيعي ـ طبيب ومقيم لفترة طويلة في لندن.
17ـ نصير كامل الجادرجي ـ زعيم الحزب الوطني الديمقراطي. 
18 ـ  وائل عبد اللطيف ـ قاض منذ بداية الثمانينات.
19 ـ يونادم كنه ـ زعيم الحركة الآشورية الديمقراطية.
20 ـ رجاء حبيب الخزاعي ـ مديرة مستشفى للولادة.                 
 21ـ سمير شاكر محمود الصميدعي، رجل أعمال .
22ـ صلاح الدين محمد ـ زعيم حزب الاتحاد الإسلامي الكردستانيز
23ـ صونكول جاجوك، مهندسة تركمانية.
24ـ عز الدين سليم ـ زعيم حزب الدعوة الإسلامية في البصرة.
25ـ عبد العزيز الحكيم ـ زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.

  لقد جاء تكوين مجلس الحكم بهذه الصيغة ليكرس الحكم الطائفي في البلاد، وانعكاساته الخطيرة على تماسك البنية الاجتماعية العراقية، وتأجيج الصراع الطائفي وصولا إلى الصراع المسلح، وتصاعد النشاط الإرهابي بين قوى الطائفتين الشيعية والسنية، والتي أوصلت البلاد إلى أتون الحرب الأهلية التي باتت تحصد المئات من أرواح المواطنين الأبرياء.
لقد كان الأجدر بالإدارة الأمريكية، لو كانت تبتغي حقاً إقامة نظام ديمقراطي حقيقي في البلاد، وهي التي بشرت الشعب العراقي بالديمقراطية أن تقيم حكومة تضم شخصيات وطنية علمانية ولبرالية تؤمن حقاً وصدقاً بالديمقراطية كنظام منشود، ومشهود لها بالكفاءة ونظافة اليد، ولم يسبق لها أن ارتبطت بأية وشيجة مع النظام الدكتاتوري السابق، لكي تتولى السلطة لفترة زمنية محددة من أجل إعادة الأمن والسلام في البلاد، وإصلاح ما خربته الحروب الكارثية التي ورط نظام صدام العراق بها، وبناء القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي المنشود، وتهيئة الظروف الطبيعية والديمقراطية المناسبة لإجراء الانتخابات البرلمانية في البلاد، بعد أربعين عاماً من الحكم الدكتاتوري القمعي الذي عاش الشعب العراقي بظله، مما جعله غير مهيأ بالمرة لانتخابات برلمانية عاجلة كانت نتائجها معروفة سلفا جراء هيمنة قوى الأحزاب الطائفية الشيعية، والأحزاب القومية الكردية على الساحة العراقية بتأثير الجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام السابق بحق الشعب الكردي، والطائفة الشيعية في جنوب ووسط العراق، واستغلال التأثير الطائفي والعرقي لتحقيق مكاسب وأهداف سياسية، ولتكريس الطائفية والعرقية في البلاد، فكانت النتيجة قيام نظام تقوده قوى الإسلام السياسي الطائفي الرجعي، والمرتبط بوشائج عدة مع نظام جمهورية إيران الإسلامية، والتي مكنت النظام الإيراني ومخابراته من لعب دور خطير على الساحة العراقية، وتغلغلها في كافة مرافق الدولة، مما كانت له نتائج خطيرة على الوضع الأمني في البلاد، وعلى القوات المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة التي باتت تخشى على مصالحها في منطقة الخليج. لكن الإدارة الأمريكية استمرت في ارتكاب المزيد من الأخطاء التي أوقعتها في نهاية المطاف في مأزق خطير لا تستطيع الفكاك منه، كما سنرى فيما بعد.                                       .                                                                                                                                                                                                                                                           وهكذا استحصلت الولايات المتحدة قراراً من مجلس الأمن يتضمن إقامة ما دعته مجلس الحكم، وقد جرى اختياره من قبل الحاكم المدني الأمريكي بريمر، وجرى تسليمه السلطة التي لم تكن سوى سلطة شكلية، حيث الإدارة الأمريكية وأداتها العسكرية وسلطة الحاكم المدني بريمر في واقع الحال هي الحاكم الفعلي للبلاد، وقامت بوضع الضوابط التي ينبغي أن يلتزم بها مجلس الحكم بموجب اتفاقية مفروضة على المجلس حيث جرى التوقيع عليها بين الطرفين أطلق عليها الحاكم المدني بريمر[اتفاقية العملية السياسية]، والتي أظهرت بكل وضوح وجلاء الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على مقدرات الحكم في البلاد، كما هو وارد في نص الاتفاقية، ولم يكن مجلس الحكم قادراً على اتخاذ أي قرار دون موافقة الحاكم المدني بريمر.
ثالثاً: اتفاقية العملية السياسية بين سلطة الاحتلال والمجلس
بعد أن تم تشكيل مجلس الحكم من قبل الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر جاءت الخطوة الثانية لتحدد العلاقة بين سلطة الاحتلال ومجلس الحكم من جهة، ولتحديد القانون الأساسي الذي سيلتزم به مجلس الحكم في إدارة البلاد، وقد مثل هذا القانون الأساس المادي لدستور العراق الذي جرى تشريعه من قبل البرلمان فيما بعد، فيما استطاعت أحزاب الإسلام السياسي الشيعية فرض ديباجة الدستور وبعض المواد والفقرات التي تشير إلى طائفيه الدستور، كما استطاعت الأحزاب القومية الكردية فرض العديد من المواد المتعلقة بالفيدرالية وصلاحيات الأقاليم والثروة الوطنية فكانت لها حصة الأسد في صياغة مواد الدستور، والذي سنتناوله فيما بعد. وهذا هو نص القانون الذي أطلق عليه اتفاقية العملية السياسية بين سلطة الاحتلال ومجلس الحكم:                                                       .                                                                                                         القانون الأساسي:                                                                      .                                                                                                   تجري صياغة القانون الأساسي من قبل مجلس الحكم العراقي، بالتشاور الوثيق مع سلطة التحالف المؤقتة، ويجري إقراره من جانب مجلس الحكم وسلطة التحالف، بحيث يحدد رسميا مدى وهيكل الإدارة الانتقالية العراقية ذات السيادة.                     .                                                                                                                         عناصر القانون الأساسي:                                                   .                                                                                            يشمل القانون الأساسي مسودة الحقوق، وتشمل حرية التعبير والتشريع، والدين، وبيان المساواة في الحقوق بين كافة العراقيين، بغض النظر عن النوع، أو الطائفة، أو العرق، وتضمن المسار الملائم لإقرار تلك الحقوق وصيانتها، والتي تشتمل على الأسس التالية:                                          1ـ الترتيبات الفدرالية للعراق، بما يشمل المحافظات، وتحديد السلطات التي تضطلع بها الهيئات المركزية والمحلية، والفصل بين تلك السلطات.                                   .                                                                        2ـ بيان استقلال القضاء، وآلية المراجعة القضائية.                      .                                                                  3ـ بيان السيطرة السياسية المدنية على القوات المسلحة العراقية.                            .                                                                                   4 ــ بيان بعدم إمكان تعديل القانون الأساسي                      .                                                                    5ـ موعد انتهاء صلاحية القانون الأساسي.                                                                           6ـ الجدول الزمني لصياغة الدستور العراقي الدائم من جانب هيئة ينتخبها الشعب العراقي انتخابا مباشرا، وكذلك جدولا زمنيا للتصديق على الدستور الدائم، ولإجراء الانتخابات في ظل الدستور الجديد.                                                         .                                                                                                                        7ـ صياغة وإقرار القانون الأساسي بحيث يستكمل بحلول28 شباط/  فبراير 2004.
الاتفاقات مع التحالف حول العلاقة  الأمنية:
 يتطلب أن تتفق سلطة التحالف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي على الاتفاقات الأمنية، وتغطي الاتفاقات الأمنية وضع قوات التحالف في  العراق، بما يتيح لها نطاقا واسعا من حرية توفير أمن وسلامة الشعب العراقي، ويتم استكمال إقرار الاتفاقات الثنائية بنهاية مارس/آذار 2004
  اختيار الجمعية الوطنية الانتقالية:
 يحدد القانون الأساسي أجهزة المنظومة الوطنية، كما يوضح في نهاية المطاف تفصيلا للعملية التي سيجري من خلالها اختيار الأفراد لتلك الأجهزة، غير أنه يتعين الاتفاق على خطوط إرشادية معينة اتفاقا مسبقا.                                                                   .                                                                                                                                                                                                           لن تكون الجمعية الانتقالية توسيعا لدور مجلس الحكم العراقي. ولن يكون لمجلس الحكم دور رسمي في اختيار أعضاء الجمعية، وسوف ينحل مجلس الحكم مع تشكيل الإدارة الانتقالية، والاعتراف بها. غير أنه يمكن أن يخدم أفراد من مجلس الحكم في الجمعية الانتقالية، شريطة أن يتم انتخابهم وفق العملية الموضحة أدناه:                       .                                                                                                                                           1ـ يجري انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية وفق عملية تتسم بالشفافية، والديمقراطية عبر لجان بحثية في كافة محافظات العراق الثمانية عشرة.                     .                                                  2ـ في كل محافظة تشرف سلطة التحالف المؤقتة على عملية يتم بمقتضاها تشكيل لجنة تنظيمية من العراقيين. وتشمل هذه اللجنة التنظيمية خمسة أفراد يعينهم مجلس الحكم، وخمسة أفراد يعينهم المجلس المؤقت، وفردا واحدا يعينه المجلس المحلي لأكبر خمس مدن داخل المحافظة.                                                                  .                                                                                         3ـ سيكون غرض اللجنة التنظيمية الدعوة لانعقاد لجنة انتقاء بالمحافظة من الأعيان من أنحاء المحافظة المختلفة، وللقيام بذلك يتطلب ترشيح أسماء من الأحزاب السياسية، والمجالس الإقليمية المحلية والهيئات المتخصصة والمدنية والكليات الجامعية، والجماعات القبلية والدينية.                                                           .                                                                                              4ـ يتعين أن يفي المرشحون بالمعايير المحددة لقبول الترشيح  والمنصوص عليها في القانون الأساسي. وسيتعين الموافقة على ترشيح أي مرشح بأغلبية 11 من 15 من اللجنة التنظيمية، لاختيار هذا المرشح كعضو في لجنة الانتقاء البحثية للمحافظة.                 .                       5 ـ تنتخب كل لجنة انتقاء بحثية لكل محافظة ممثلين يمثلون المحافظة في الجمعية الانتقالية الجديدة على أساس نسبة سكان المحافظة.                                   .                                                                                                                                                  6 ـ تنتخب الجمعية الوطنية الانتقالية في موعد أقصاه 31 أيار 2004.
  إعادة السيادة للعراق:
 1ـ بعد عملية اختيار أعضاء الجمعية الانتقالية، ستجتمع الجمعية لانتخاب مجلس تنفيذي، ولتعيين مجلس الوزراء.                                                            .                                                                                           2 ـ بحلول 30 يونيو/حزيران 2004، سيكون التحالف قد اعترف بالإدارة الانتقالية الجديدة، وسوف تتولى تلك الإدارة صلاحيات سيادية كاملة لحكم العراق. وستنحل سلطة التحالف المؤقتة. 
 عملية إقرار الدستور الدائم
 سوف يشتمل القانون الأساسي في نهاية المطاف على العملية الدستورية والجدول الزمني، غير أنه يلزم الاتفاق عليهما اتفاقا مسبقا، كما هو مفصل أدناه.                                                                                                                                                                                                     1ـ يقوم مؤتمر دستوري ينتخبه الشعب العراقي انتخابا مباشرا، بإعداد دستور دائم للعراق.                                                 2ـ تجري الانتخابات للمؤتمر الدستوري في موعد أقصاه15 آذار/ مارس2005.                                             3ـ يتم نشر مسودة الدستور على الشعب للتباحث والتعليق.                                                                       4 ـ تطرح مسودة نهائية للدستور على الشعب، ويجرى استفتاء شعبي للتصديق على الدستور.                                                                                                       5 ـ تجري انتخابات لحكومة عراقية جديدة بحلول 31 ديسمبر/كانون أول 2005، وعندها تنتهي صلاحية القانون الأساسي وتتولى حكومة جديدة السلطة. (3)
نظرة في الاتفاقية:                                         .                                                                                    ومن خلال دراسة متأنية للاتفاقية الأنفة الذكر والتي جرى فرضها من قبل سلطة الاحتلال نستطيع تحديد السلبية التالية:                                              .                                                                            1 ـ إن سلطة الاحتلال قدر فرضت على مجلس الحكم تحديد العناصر الأساسية لقانون إدارة الدولة، والذي هو بمثابة الدستور المؤقت للبلاد، كما أقرت الاتفاقية بعدم جواز إجراء أي تعديل عليه من قبل مجلس الحكم، كما جرى اعتبار القانون المذكور أساسا للدستور الذي جرى تشريعه فيما بعد ما عدى بعض الإضافات الهامشية التي لم تؤثر على
صلب الدستور.
2 ـ فرض الاتفاقية الأمنية من قبل سلطة الاحتلال على العراق، وتغطي الاتفاقية الأمنية وضع قوات التحالف في  العراق، بما يتيح نطاقا واسعا من حرية الحركة. وهي عبارة مطاطية غير محددة تتيح لقوات الاحتلال قانونية التواجد على ارض العراق، وحرية تحركاتها كيفما، وقتما تشاء.
3 ـ مهدت الاتفاقية السبيل لإقامة كيانات ما دعته بالعراق الفيدرالي الذي كان بالأساس محصوراً بالنسبة لمنطقة كردستان العراق، مما أتاحت السبيل لقوى الإسلام الطائفي الشيعي للسعي لإقامة كيانات تستهدف تقطيع أوصال العراق باسم الفيدرالية، والذي يهدد بدوره في إشعال الحرب الطائفية في البلاد وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي.
4 ـ فرضت الاتفاقية تحديد تواريخ متقاربة، وبصورة متعجلة، لإجراء انتخابات برلمانية في البلاد، وتشريع الدستور الدائم، في حين أن الأوضاع السائدة في البلاد لم تكن مناسبة لمثل هذه العجالة، فالشعب العراقي الذي كان قد خرج لتوه من ظلام أربعة عقود من الطغيان والفاشية لم يكن مهيئاً لمثل هذه العملية التي ستقرر مصير العراق لعقود طويلة، فكانت النتيجة هيمنة الأحزاب الدينية الطائفية التي قادت البلاد نحو الصراع الطائفي المسلح الذي نشهده اليوم بكل بشاعته وفضاعته، حيث الشعب دفع كل يوم ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، وتبدد حلمه  بالخلاص من نظام صدام القمعي ليقع فريسة الإرهاب الطائفي.
مجلس الحكم يصدر بيانه السياسي الأول:
 فور الإعلان عن تشكيل مجلس الحكم تم عقد اجتماع له برئاسة اكبر الأعضاء سناً، رجل الدين السيد محمد بحر العلوم، وحضر الاجتماع  كل من الحاكم المدني الأمريكي للعراق [بول بريمر]،وممثل بريطانيا في العراق [جون ساورز]، والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى العراق [سيرجيو فييرا دي ميلو] ليعلن لهم تشكيل المجلس في وقت وصف فيه بريمر الاجتماع بأنه يوم تاريخي قائلاً: {يتحرك العراق نحو ما ينتمي إليه حقاً... نحو السلام مع نفسه وجيرانه، وإن المجلس سيمنح العراقيين دوراً مركزياً في إدارة بلادهم].(4)                                                                لكن الشعب العراقي سرعان ما وجد نفسه في معمعة الصراع الطائفي المقيت، وبات المواطنون لا يأتمنون على حياتهم وأموالهم وممتلكاتهم.                           .                                                                                                                             أما سيرجيو فيييرا دي ميلو فقد تحدث قائلاُ:                                    .                                                                                                   {ثمة لحظات حاسمة في التاريخ، واليوم بالتأكيد إحداها في العراق.(5)
لكن الرجل الطيب دي ميلو كان من بين أول الضحايا للصراع الطائفي اللعين، حيث قضى هو والعديد من رفاقه في عملية إجرامية جراء تفجير سيارة مفخخة استهدفت المقر الرسمي للأمم المتحدة في بغداد حيث تم تدميره بالكامل، بمن فيه من الموظفين التابعين للأمم المتحدة، مما دفع الأمين العام للمنظمة إلى غلق المكتب.                                 .                                                                                                   
 أكد مجلس الحكم الانتقالي بعد اختتام أول اجتماع له انه سيركز علي الأمور الأساسية التالية:
1 ـ  توفير الأمن والاستقرارفي البلاد.
 2ـ إعادة بناء مؤسسات الدولة، والمجتمع المدني.
 3ـ اقتراح مسودة للدستورالدائم للبلاد.
 4ـ إقامة نظام ديمقراطي فدرالي في العراق.
                                                                                                                                                                      وفي الثاني والعشرين من تموز2003 عقد مجلس الحكم جلسة له حيث برزت الاختلافات بين أعضائه حول من يكون رئيس المجلس، وأخيرا اقترح بريمر أن يتم تداول الرئاسة فيما بينهم شهرياً!!، وحسب تسلسل  أبجدية الأسماء، إرضاءاً لقادة الأحزاب الاسلامية والقومية الكردية، وهكذا تولى الرئاسة الأولى السيد [إبراهيم الجعفري] زعيم حزب الدعوة الإسلامية، وأصدر المجلس بنهاية الاجتماع بيانه االتالي:                        .                                                                                                                                                                           
بيان سياسي:                                           .                                                                                                                                                                                  لقد تشكل مجلس الحكم العراقي، بمبادرة وطنية عراقية!!، تلبية لمتطلبات المرحلة الانتقالية، وأحكام قرار مجلس الأمن 1483، كخطوة أساسية على طريق استنهاض الوطن وبناءه، وتحقيق الاستقلال تمهيداً لتأسيس الحكومة الشرعية القائمة على أساس دستوري ديمقراطي.
ويأتي هذا الحدث في أعقاب سقوط النظام الاستبدادي، بفضل نضالات الشعب العراقي، ودعم قوى التحالف الدولي، والذي نأمل أن يوفر للشعب العراقي الفرصة لإعادة بناء دولته على أسس ديمقراطية سليمة تكفل له الحرية والأمن والحياة الرغيدة، ويواجه العراق أرثاً رهيباً من الدمار نتيجة سياسات التنكيل والقمع، والاضطهاد القومي والطائفي للنظام، ومغامراته الطائشة ضد دول الجوارالذي تمثل بما كشفته الصور المروعة لشهداء المقابر الجماعية، والخراب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لذا فإن أعباءاً جسّاما تواجه المجلس في هذه المرحلة العصيبة، الأمر الذي يستوجب تكاتف كل الخيرين من أبناء العراق، ومساندة كافة القوى الدولية والإسلامية والعربية.
 وتتمحور المجالات الأساسية للمجلس في ضوء استقراء أعضائه للواقع العراقي والدولي، بالمهمات التالية:                              .                                 
1 ـ توفير الأمن والاستقرار للمواطنين، وحماية ممتلكاتهم، وتفعيل أجهزة الدولة، وإعادة بناءها، وتحديداً أجهزة الشرطة العراقية والجيش،  والتصدي الحازم لمحاولات الإرهاب والتخريب الموجهة من قبل فلول النظام البائد وأعوانه.                           .                                                           
2 ـ تصفية آثار الاستبداد السياسي والتمييز القومي والطائفي، واجتثاث حزب البعث وأفكاره من المجتمع العراقي، وترسيخ مبادىء الديمقراطية التعددية السياسية، والإسراع بتطبيق قرار مجلس الحكم المتعلق بتشكيل محاكم متخصصة لمقاضاة مسؤولي النظام البائد المشاركين في الجرائم ضد الشعب العراقي والإنسانية، وإنزال العقاب العادل بالمجرمين. كما يتعين أطلاق مبادرة المصالحة الوطنية مع الذين لم يرتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وإعادة تأهيلهم ضمن المجتمع العراقي في جو من المكاشفة وإقرار الحقائق.                                                                                                                                                  3 ـ وضع الأسس لنظام ديمقراطي فدرالي تعددي يكفل الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان ويحترم الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، وحقوق المرأة، وتعزيز السلطة القضائية، وضمان استقلالها، ويقف في مقدمة ذلك إطلاق عملية ديمقراطية لإقرار دستور دائم للبلاد.                                                                .
4ـ توفير الخدمات العامة للمواطنين من خلال تفعيل أجهزة الدولة، واستئصال بؤر الفساد، والتخريب الذي يستهدف المرافق الاقتصادية، والخدمية، والحفاظ على البيئة.                                     
5ـ إنعاش الاقتصاد الوطني وخلق فرص العمل وتحسين الوضع المعاشي للمواطنين من خلال أتباع سياسة اقتصادية متوازنة قائمة على أساس تعبئة الموارد المالية، وتحسين الكفاءة الاقتصادية، وتشجيع القطاع الخاص، ومناخ الاستثمار، ومعالجة مشكلة الديون الخارجية، والمطالبة بإلغاء التعويضات الناجمة عن السياسات الكارثية للنظام البائد.                                                                         
6 ـ تطوير وتأهيل القطاع النفطي، وإعادة هيكلة شركات النفط الوطنية وتطويرها بما يؤمن أهداف السياسة الاقتصادية الوطنية.                                              .                             
7ـ تشكيل مؤسسة لرعاية ذوي الشهداء وتوفير التعويضات المناسبة لضحايا الاضطهاد الطائفي، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، ومصادرة الممتلكات التي تملكها النظام البائد.                     .                                               
8 ـ يسعى المجلس لتطوير علاقات العراق الخارجية مع الدول العربية والإسلامية والمجتمع الدولي، بما يكفل الأمن والاستقرار، والمصالح المتبادلة والمنافع المشتركة.                                                                                                               
9 ـ إبلاء اهتمام كبير لتوثيق العلاقات مع الأمم المتحدة، وتطوير دورها في العملية السياسية، والإغاثة الإنسانية، وحماية حقوق الإنسان، وإعادة الأعمار، ولاسيما في إنجاز المهمات الملحة بالمرحلة الانتقالية.                                     .                                                                                                           
إن بناء العراق الجديد يبقى أساساً مهمة العراقيين، الأمر الذي يستوجب إشراك جميع مكونات المجتمع العراقي من عرب وكرد وتركمان و كلدو آشوريين، وغيرهم من الأقليات المتآخية الأخرى.
 ويهيب المجلس بالعراقيين للتكاتف ويناشدهم العمل المشترك لإنجاز هذه المهمات الجسّام للمرحلة الانتقالية، وترسيخ أسس الوحدة الوطنية العراقية، والنهوض بالعراق من كبوته، واستعادة مكانته اللائقة بين الأمم. (6)
لكن المجلس ليس فقط لم يستطع أن يحقق ما تضمنه البيان المذكور، بل اغتصب حقوق المرأة العراقية التي تمثل نصف المجتمع العراقي التي ناضلت من أجل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية لعقود طويلة، وخاضت من أجل ذلك معركة الحرية والإنعتاق، ودفعت الثمن غالياً من الدماء والدموع، وتحملت السجون والمعتقلات والتعذيب وحتى الإعدام من أجل أن تنال حقوقها الإنسانية التي سطرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي طالبت هيئة الأمم المتحدة بأن تتضمن دساتير الدول لنصوص ذلك الإعلان الذي يؤكد على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواحبات. فقد أصدر مجلس الحكم قراراً سرياً رقم 137 ألغى بموجبه قانون الأحوال المدنية رقم 188 لسنة 1959 والذي أصدرته حكومة الشهيد عبد الكريم قاسم النافذ منذ عشرات السنين، والذي كان انقلابيوا 8 شباط قد اجروا تعديلات عليه، وسلبوا العديد من الحقوق التي تخص المرأة، لكنهم لم يجرأوا على إلغائه بجرة قلم، كما فعل مجلس الحكم اليوم، وليعيدوا العمل بالشريعة الإسلامية التي كانت سائدة قبل أربعة عشر قرناً !!.
هكذا جاءت الإجراءات من قبل مجلس الحكم الذي وعد الشعب أن يحقق له عصراً من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان نكوص عن أماني الشعب وامتهان لحقوق نصف المجتمع العراقي المتمثل بالمرأة، وتثبيت جائر للمجتمع الذكوري الذي يعتبر المرأة سلعة يتصرف فيها كما يشاء دون قانون يحميها من ظلمه.
أن ذلك الإجراء قد أثار في نفوس العراقيين القلق المشروع لما ينتظرهم في مستقبل الأيام إذا كان هذا هو التوجه للسلطة التي تقود العراق والساعية إلى عودة عصر الحريم ، ودولة طالبان!! .
ولقد مثل ذلك القرار ناقوس الخطرالذي كان يدق بأعلى صوته أن هناك قوى رجعية مؤثرة في مجلس الحكم تسعى للعودة بالعراق القهقرى إلى العصور الماضية، ونحن  في مقتبل القرن الحادي والعشرين، عصر تحرر الشعوب من ظلام العصور الماضية.
فهل ناضل الشعب ضد طغمة البعث الفاشية طيلة أربعة عقود، ودفع ثمنا باهظاً من أرواح أبنائه من أجل أن ينال حقوقه وحرياته كاملة غير منقوصة، ليجد نفسه اليوم بمواجه  طغيان سلطة دينية وطائفية اشد وطأة وأقسى.
 إن المرأة التي تمثل نصف المجتمع هي الأم والمربية والمدرسة، ولم يكن من الحكمة أن يكافئها مجلس الحكم في هذا العهد بالذات الذي توسم الشعب فيه عهد الحرية، وحقوق الإنسان والمساواة، بهذا القرار الجائر، لكي تبدأ المرأة  كفاحها من أجل حقوقها المهضومة من نقطة الصفر من جديد ؟
ومن المؤسف أن تتجاهل القوى التي تتشدق بالديمقراطية والتقدمية وحقوق الإنسان هذا القرار، وكأن الأمر لا يعنيها، ولم يسمع المواطن العراقي أي احتجاج داخل مجلس الحكم على صدور هذا القرار.
كان لسان حال المواطن العراقي يتساءل:
هل كان ذلك الإجراء هو كل ما يشغل مجلس الحكم  في تلك الأيام العصيبة التي يمر بها الشعب والوطن حيث يفتقد الأمان ولقمة العيش؟
هل حقق مجلس الحكم الأمن والسلام في ربوع العراق، وأتم مكافحة الإرهاب والإرهابيين الذين يمعنون خراباً ودماراً وتقتيلا للأبرياء؟                                              .                                                                                هل حل مجلس الحكم مشكلة البطالة المتفشية بشكل رهيب في البلاد  تلك البطالة التي اصبحت مرتعاً كبيراً للنشاط الإرهابي في البلاد.
هل تمت معالجة أزمات الكهرباء والماء والصرف الصحي والوقود وغيرها من الأزمات التي كان يعاني منها الشعب أم أنها تعمقت وتفاقمت إلى حد رهيب ؟
أليست هذه الأزمات والمشاكل هي التي كان ينبغي أن تمثل معالجتها أولى الأوليات لمجلس الحكم ؟
لقد كانت هذه هي المهام هي التي انتظرها الشعب من مجلس الحكم، لا إصدار قانون تحت غفلة من الزمن، وبشكل سري ينتهك حقوق وحريات نصف المجتمع العراقي، وكانت الحملة التي قادتها المرأة ومنظماتها المختلفة مدعومة بقوى المثقفين الديمقراطيين ضد ذلك القانون الرجعي هي التي أجبرت الحاكم المدني بريمر على أن يصدر قراراً بإبطال قرار مجلس الحكم.
كان الشعب العراقي ينتابه القلق البالغ بسبب إهمال معالجة هذه القضايا التي جرى استعراضها، وكان يشعر أن من حقه أن يطلب من مجلس الحكم أن يصارحه في كل ما يخص أحواله الحالية ومستقبله ومصيره، لكي يكون على بينة بما يجري، ويساهم مساهمة فعالة في دعم المجلس لإيصال السفينة العراقية إلى  بر الأمان.
 كان أمله أن يصارحه المجلس بما يدور وراء الأبواب المغلقة بين أعضائه، ويتساءل إن كان أعضاء المجلس قد وضعوا لهم خطوطاً عريضة لمشروع وطني يلتزم به الجميع نصاً وروحاً، ويعملون بتفانٍ لإنجازه، واضعين نصب أعينهم مصالح الشعب والوطن قبل أية مصالح فئوية أو حزبية أو طائفية للقوى والأحزاب المنضوية في هذا المجلس.
كان المشروع الوطني في تلك المرحلة الحساسة والبالغة الخطورة أمر ضروري لا يمكن الاستغناء عنه، ولا يمكن تحقيق طموحات الشعب بدونه، فقد كان العراق أشبه بسفينة تبحر في محيط هائج تتلاطمه الأمواج من كل صوب وإن إيصال هذه السفينة إلى شاطئ الحرية
والسلام والديمقراطية يتطلب قيادة موحدة للملاحين تضع أمامها أهداف محددة ومتفق عليها بين الجميع.
ولذلك فقد كان الشعب العراقي يتطلع أن يطلعه مجلس الحكم  أولاً بأول عما يدور في أروقة المجلس، وما يتخذه من قرارات، وما يواجهه من عقبات سواء كانت من جانب الحاكم المدني بول بريمر، أو من جانب أعضائه ليكون على بينة من أمره، وهذا الأمر حقُ من حقوقه ينبغي أن يمارسه، وليس من حق أحد كائنا من كان أن يمنعه من ممارسة هذا الحق.
فمن حقه أن يطلع على ما يدور وراء الكواليس حول مواقف القوى السياسية التي تشكل المجلس، وما بينها من تناقض و خلافات، وأن يكون على بينة  حول ظروف العمل داخل المجلس، ومدى ما يمتلكه من الصلاحيات، ومن حرية العمل، وحرية اتخاذ القرارات، وما مدى تدخل الحاكم المدني بريمر في اتخاذ القرارات وتنفيذها، فقد كان إطلاع الشعب على هذه الأمور أمر هام وضروري جداً، فقد كان مجلس الحكم بحاجة إلى دعم قوي يساعده على الحصول على صلاحيات ومساحات أوسع للتحرك في مختلف المجالات، وليس هناك من أحد يستطيع تقديم مثل هذا الدعم إلا الشعب الذي يملك من الطاقات ومن الإرادة، ومن القدرة على تقديم التضحيات ما يؤهله لصنع المعجزات، وإن أية حكومة تسند ظهرها إلى قوى شعبها، وتتحصن به تكون بكل تأكيد قادرة على تحقيق ما يصبوا إليه الشعب.
لكن مجلس الحكم كان في وادٍ والشعب العراقي في وادي آخر، فقد كانت الأخبار والتقارير تتوارد عن التنافس المحموم بين القوى السياسية الفاعلة في مجلس الحكم من أجل الحصول على أكبر قطعة من الكعكة العراقية في المرحلة الانتقالية القادمة عندما تسلم قوات الاحتلال حكم البلاد للعراقيين ، وتسعى كل فئة من الفئات المتنفذة في المجلس للهيمنة على الحكم في المرحلة القادمة .
فقد تواردت التقارير عن صراع بات مكشوفاً على مستوى الصحافة وبشكل خاص الصحافة الأمريكية بين الدكتور أحمد الجلبي ـ زعيم المؤتمر الوطني العراقي  والدكتور أياد علاوي ـ زعيم حركة الوفاق المنشقة عن حزب البعث من أجل استلام القيادة في البلاد في المرحلة الانتقالية مستغلين العلاقات التي تربطهم بالعديد من القيادات الأمريكية المحافظة ووزارة الدفاع الأمريكية والمخابرات المركزية الأمريكية لنيل الحظوة المرجوة التي تؤهلهما لتولي قيادة البلاد. (7)
وقد تجلى هذا الصراع داخلياً في سعي الدكتور أحمد الجلبي إلى اجتثاث البعثيين من أجهزة الدولة ، وبشكل خاص من الدوائر الحساسة والمؤثرة ، في حين وقف السيد أياد علاوي على الضد من هذا الموقف مدعياً أن هذا التصرف لا يخدم المصالحة الوطنية ويظلم الكثير من البعثيين. كما أن السيد علاوي وحزبه كانا قد سعيا بشكل محموم إلى استقطاب البعثيين بدعوى كونهم لم يقوموا بأعمال إجرامية، من دون أن يثبت ذلك، ومن الخطورة بمكان تجاهل حقيقة أن الجهاز الحزبي كان يمثل السيف بيد الدكتاتور صدام حسين ، وكان جهازه التجسسي على المواطنين ، وتقديم التقارير التي أودت بحياة مئات الألوف من المواطنين العراقيين الشرفاء نتيجة تلك الوشايات التي تضمنتها تقاريرهم البائسة والمجرمة.  وكان السعي للدفاع عن هؤلاء القتلة والجواسيس وتبرئة ساحتهم من الجرائم التي ارتكبت بحق أبناء شعبنا الذين ضمتهم المقابر الجماعية وسجون النظام البشعة ومثارمه التي ليس لها مثيل في العالم أجمع ، وكان السعي لضمهم إلى حزبه من أجل توسيع قاعدته الحزبية عمل مرفوض ويشكل أعظم خطر على مستقبل الديمقراطية في العراق .
ومن جانب آخر سعت القوى السياسية الإسلامية الشيعية حثيثاً من أجل الهيمنة على الشارع العراقي لفرض أجندتها الإسلامية من خلال الاستعجال بفرض الانتخابات التي لم تهيأ لها الظروف الأمنية، ولم يهيأ لها شعبنا الذي خرج لتوه من قمقم الدكتاتورية والفاشية، ولم يتمتع بثمار الديمقراطية التي حرم منها خلال عقود طويلة لكي يتفتح ذهنه على التطورات الديمقراطية الجارية في العالم أجمع ويمارس حقوقه الديمقراطية التي أقرها له المجتمع الدولي من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة، وكان تفكير قيادات تلك الأحزاب محصوراً في السعي للهيمنة على المجلس التأسيسي الانتقالي ، ومن ثم السلطة العليا في البلاد ، وسن الدستور الجديد بما يتوافق مع أجندتهم الإسلامية الطائفية التي اوصلت البلاد فيما بعد للحرب الأهلية الطائفية.
كان  ما يحتاجه العراق في تلك الأيام وفي المرحلة الانتقالية التي تلتها هو قيام نظام حكم مستقل عن هيمنة الأحزاب الدينية وغير الدينية يقوده رئيس مؤقت مستقل مشهود له بالوطنية الصادقة وحكومة تنكوقراط من العناصر الوطنية المستقلة النظيفة لمدة لا تزيد عن عام أو عامين على أبعد تقدير، تأخذ على عاتقها أحلال الأمن والنظام العام في البلاد ، وإرساء أسس الديمقراطية،

455
حرب الخليج الثالثة ـ الحلقة 14
 قرار مجلس الأمن رقم 1546
بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة وإنهاء الاحتلال
حامد الحمداني                                                              23/3/2008
أولا: قرار مجلس الأمن بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة
بعد أن وقع مجلس الحكم والحاكم المدني الأمريكي بول بريمر اتفاقية العملية السياسية التي وضعتها الإدارة الأمريكية، كانت المهمة التالية لسلطة الاحتلال اختيار رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة عراقية مؤقته، ولذلك فقد سارعت إلى تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن بهذا الخصوص، بعد أم ضمنت بموجب تلك الاتفاقية موافقة مجلس الحكم على بقاء القوت الأمريكية في العراق بناءً على طلب الحكومة!!، ودور قوات الاحتلال الأساسي في الشؤون الأمنية في البلاد، مع عدم تحديد المدة الزمنية لهذا التواجد، وقد جرت المصادقة على القرار تحت رقم 1546 ، في 8 حزيران 2004 ، وهذا هو نص القرار :
قرار رقم 1546 في 8 حزيران / يونيه2004
إن مجلس الأمن: (1)
إذ يرحب ببدء مرحلة جديدة على طريق انتقال العراق إلى حكومة منتخبة انتخابا ديمقراطيا، وإذ يتطلع تحقيقا لهذه الغاية إلى إﻧﻬاء الاحتلال، وتولي حكومة عراقية مؤقتة مستقلة، وتامة السيادة لكامل المسؤولية والسلطة بحلول ٣٠ حزيران/يونيه ٢٠٠٤،
وإذ يشير إلى جميع قراراته السابقة ذات الصلة بشأن العراق، وإذ يعيد تأكيد استقلال العراق وسيادته ووحدته وسلامته الإقليمية، وإذ يعيد أيضا تأكيد حق الشعب العراقي في أن يقرر بحرية مستقبله السياسي، وفي السيطرة على موارده الطبيعية، وإذ يسلم بأهمية الدعم الدولي، لاسيما الدعم المقدم من بلدان المنطقة والبلدان اﻟﻤﺠاورة للعراق، والمنظمات الإقليمية، لشعب العراق في الجهود التي يبذلها لتحقيق الأمن والازدهار، وإذ يشير إلى أن التنفيذ الناجح لهذا القرار سيسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي، وإذ يرحب بجهود المستشار الخاص للأمين العام الرامية إلى مساعدة شعب العراق على التوصل إلى تشكيل الحكومة المؤقتة للعراق، على النحو المبين في رسالة الأمين العام، المؤرخة ٧ حزيران يونيه ٢٠٠٤، وإذ يحيط علما بحل مجلس الحكم العراقي، وإذ يرحب بالتقدم المحرز في تنفيذ ترتيبات الانتقال السياسي للعراق المشار إليها في القرار 1511في 16 تشرين الثاني 2003، وإذ يرحب بالتزام الحكومة المؤقتة للعراق بالعمل على إقامة عراق اتحادي ديمقراطي تعددي موحّد، يتوافر فيه كامل الاحترام للحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وإذ يشدد على ضرورة أن تحترم جميع الأطراف تراث العراق الأثري والتاريخي والثقافي والديني، وأن تحمي هذا التراث، وإذ يؤكد أهمية سيادة القانون، والمصالحة الوطنية، واحترام حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، والحريات الأساسية، والديمقراطية، بما في ذلك الانتخابات الحرة والنزيهة، وإذ يشير إلى إنشاء بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق في 14 آب/أغسطس 2003، وإذ يؤكد أن الأمم المتحدة ينبغي أن تؤدي دورا رئيسيا في مساعدة الشعب العراقي والحكومة العراقية في تكوين المؤسسات اللازمة للحكم التمثيلي، وإذ يسلم بأن الدعم الدولي لاستعادة الاستقرار والأمن أمر ضروري لرفاه شعب العراق، فضلا عن تمكين جميع المعنيين من الاضطلاع بعملهم لصالح شعب العراق، وإذ يرحب بإسهامات الدول الأعضاء في هذا الصدد في إطار القرار1483، والقرار 1511، وإذ يشير إلى التقرير المقدم من الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن في 16 نيسان/أبريل 2004 بشأن جهود القوة المتعددة الجنسيات،  وما أحرزته من تقدم، وإذ يقر بتلقي الطلب الوارد في الرسالة المؤرخة في 5 حزيران / يونيه2004  الموجهة إلى رئيس اﻟﻤﺠلس من رئيس وزراء الحكومة المؤقتة للعراق، والمرفقة ﺑﻬذا القرار، بالإبقاء على وجود القوة المتعددة الجنسيات، وإذ يقر أيضا بأهمية موافقة حكومة العراق ذات السيادة فيما يتعلق بوجود القوة المتعددة الجنسيات، وأهمية التنسيق الوثيق بين القوة المتعددة الجنسيات وتلك الحكومة، وإذ يرحب باستعداد القوة المتعددة الجنسيات لمواصلة الجهود الرامية إلى المساهمة في صون الأمن والاستقرار في العراق ،دعما للانتقال السياسي، لاسيما فيما يتعلق بالانتخابات المقبلة، ولتوفير الأمن لوجود الأمم ا لمتحدة في العراق، على النحو المبين في الرسالة المؤرخة في ٥ حزيران/يونيه2004 الموجهة إلى رئيس اﻟﻤﺠلس من وزير خارجية الولايات المتحدة، والمرفقة ﺑﻬذا القرار، وإذ يحيط علما بالتزام جميع القوات العاملة على صون الأمن والاستقرار في العراق بالتصرف وفقا للقانون الدولي، بما في ذلك الالتزامات المقررة بموجب القانون الانساني الدولي، وبالتعاون مع المنظمات الدولية ذات الصلة، وإذ يؤكد أهمية المساعدة الدولية في إعادة بناء الاقتصاد العراقي وتنميته، وإذ يسلم بالفوائد التي تعود على ا لعراق من الحصانات والامتيازات التي تتمتع ﺑها الإيرادات النفطية العراقية وصندوق التنمية للعراق، وإذ يشير إلى أهمية كفالة استمرار الإنفاق من هذا الصندوق من جانب الحكومة المؤقتة للعراق، و الحكومات التي تخلفها، بعد حل سلطة  الائتلاف المؤقتة، وإذ يقرر أن الحالة في العراق لا تزال تشكل ﺗﻬديدا للسلام والأمن الدوليين، وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة،يقرر:
1 - يقر تشكيل حكومة ذات سيادة للعراق، على النحو الذي عُرض به في 1 حزيران/يونيه 2004 ، تتولى كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30حزيران /يونيه  2004 لحكم العراق مع الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات تؤثر على مصير العراق فيما يتجاوز الفترة المؤقتة المحدودة، إلى أن تتولى حكومة انتقالية منتخبة مقاليد الحكم على النحو المتوخى في الفقرة الرابعة أدناه.
2 - يرحب بأنه سيتم بحلول 30 حزيران /يونيه 2004، انتهاء الاحتلال، وانتهاء وجود سلطة الائتلاف المؤقتة، وبأن العراق سيؤكد من جديد سيادته الكاملة.
3 - يعيد تأكيد حق الشعب العراقي في تقرير مستقبله السياسي بحرية، وفي ممارسة كامل السلطة والسيطرة على موارده المالية والطبيعية.
4 - يقر الجدول الزمني المقترح للانتقال السياسي للعراق إلى الحكم الديمقراطي، ويشمل ما يلي:
 (ا) تشكيل حكومة مؤقتة ذات سيادة للعراق تتولى مسؤولية الحكم والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004.
(ب) عقد مؤتمر وطني يعكس تنوع اﻟﻤﺠتمع العراقي.
(ج) إجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة بحلول 31 كانون الأول ديسمبر2004، إذا أمكن ذلك، أو في موعد لا يتجاوز بأي حال من الأحوال 31 كانون الثاني/يناير 2005، لتشكيل جمعية وطنية انتقالية، تتولى جملة مسؤوليات منها تشكيل حكومة انتقالية للعراق، وصياغة دستور دائم للعراق تمهيدا لقيام حكومة منتخبة انتخابا دستوريا بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005.
5 - يدعو حكومة العراق إلى أن تنظر في مسألة كيف يمكن لعقد اجتماع دولي أن يدعم العملية المذكورة أعلاه، ويشير إلى أنه سيرحب بعقد اجتماع من هذا القبيل لدعم الانتقال السياسي العراقي والانتعاش العراقي لفائدة شعب العراق، ولصالح الاستقرار في المنطقة.
6 - يهيب بالعراقيين كافة أن ينفذوا جميع هذه الترتيبات تنفيذا سلميا وكاملا، ويهيب بجميع الدول والمنظمات ذات الصلة أن تدعم هذا التنفيذ.
7 - يقرر أن يقوم الممثل الخاص للأمين العام، وبعثة الأمم المتحدة، لتقديم المساعدة إلى العراق، في سياق تنفيذ ولايتهما، وفقا لما تسمح به الظروف، لمساعدة الشعب العراقي والحكومة العراقية ، وفقا لما تطلبه حكومة العراق أداء دور رئيسي فيما يلي:
١ـ المساعدة في عقد مؤتمر وطني، خلال شهر تموز /يوليه 2004 ، لاختيار مجلس استشاري.
٢ـ تقديم المشورة والدعم إلى اللجنة الانتخابية المستقلة للعراق، فضلا عن الحكومة المؤقتة للعراق، والجمعية الوطنية الانتقالية بشأن عملية  إجراء الانتخابات.
٣ـ تشجيع الحوار وبناء التوافق في الآراء على الصعيد الوطني بشأن صياغة شعب العراق لدستور وطني.
(ب) وأيضا:
١ـ  تقديم المشورة إلى حكومة العراق في مجال توفير الخدمات المدنية والاجتماعية الفعالة
٢ـ المساهمة في تنسيق وإيصال مساعدات التعمير والتنمية والمساعدات الإنسانية.
٣ـ تعزيز حماية حقوق الإنسان، والمصالحة الوطنية ،والإصلاح القضائي والقانوني، من أجل تعزيز سيادة القانون في العراق.
٤ـ تقديم المشورة والمساعدة إلى حكومة العراق فيما يتعلق بالتخطيط الأولي لإجراء تعداد سكاني شامل في ﻧﻬاية المطاف.
8 - يرحب بالجهود الجارية التي تبذلها الحكومة المؤقتة المقبلة للعراق لتكوين القوات الأمنية العراقية، بما فيها القوات المسلحة العراقية المشار إليها فيما يلي باسم [القوات الأمنية العراقية] التي تعمل تحت سلطة الحكومة المؤقتة للعراق، والحكومات التي تخلفها، والتي ستؤدي دورا متزايدا بصورة تدريجية، وستتولى في ﻧﻬاية المطاف المسؤولية الكاملة عن صون الأمن والاستقرار في العراق.
9 - يشير إلى أن وجود القوة المتعددة الجنسيات في العراق هو بناء على طلب الحكومة المؤقتة المقبلة للعراق، ولذا فإنه يعيد تأكيد التفويض الممنوح للقوة المتعددة الجنسيات المنشأة تحت قيادة موحدة بموجب القرار 1511 في 2003 مع إيلاء الاعتبار  للرسالتين المرفقتين بهذا  بالقرار.
 10 - يقرر أن تكون للقوة المتعددة الجنسيات سلطة اتخاذ جميع التدابير الأزمة للمساهمة في صون الأمن والاستقرار في العراق وفقا للرسالتين المرفقتين ﺑﻬذا القرار اللتين تتضمنان، في جملة أمور، الإعراب عن طلب العراق استمرار وجود القوة المتعددة الجنسيات، وتبينان مهامها، بما في ذلك عن طريق منع الإرهاب وردعه، بحيث تتمكن الأمم المتحدة، ضمن أمور أخرى، من إنجاز دورها في مساعدة الشعب العراقي على النحو المجمل في الفقرة السابعة أعلاه ، وبحيث يستطيع الشعب العراقي أن ينفذ بحرية              ودون تعرض للتخويف جدول العملية السياسية الزمني وبرنامجها وأن يستفيد من أنشطة التعمير والإصلاح.
11 ـ  يرحب في هذا الصدد بالرسالتين المرفقتين ﺑﻬذا القرار واللتين تقرران، في جملة أمور، أنه يجري إنشاء ترتيبات لإقامة شراكة أمنية بين حكومة العراق ذات السيادة والقوة المتعددة الجنسيات ولكفالة تحقيق التنسيق بينهما، ويشير أيضا في هذا الصدد إلى أن القوات الأمنية العراقية مسؤولة أمام الوزراء العراقيين المختصين، وأن حكومة العراق لديها السلطة لإلحاق قوات أمنية عراقية بالقوة المتعددة الجنسيات للاضطلاع بعمليات معها، وأن الهياكل الأمنية المذكورة في الرسالتين ستكون بمثابة محافل لحكومة العراق والقوة المتعددة الجنسيات للتوصل إلى اتفاق بشأن كامل نطاق المسائل الأمنية والمسائل المتعلقة بالسياسات، بما في ذلك السياسة المتصلة بالعمليات الهجومية الحساسة، وستكفل تحقيق شراكة كاملة بين القوات الأمنية العراقية والقوة المتعددة الجنسيات، من خلال التنسيق والتشاور على نحو وثيق.
12 - يقرر كذلك استعراض ولاية القوة المتعددة الجنسيات بناء على طلب حكومة العراق أو بعد مضي اثنى عشر شهرا من تاريخ اتخاذ هذا القرار، على أن تنتهي هذه الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في الفقرة 4 أعلاه، ويعلن أنه سينهي هذه الولاية قبل ذلك إذا طلبت حكومة العراق إﻧﻬاءها.
13 - يحيط علما بالنية المبينة في الرسالة المرفقة الواردة من وزير خارجية الولايات المتحدة لإنشاء كيان قائم بذاته في إطار القيادة الموحدة للقوة المتعددة الجنسيات تقتصر مهمته على توفير الأمن لوجود الأمم المتحدة في العراق، ويسلِّم بأن تنفيذ التدابير التي ﺗﻬدف إلى توفير الأمن لموظفي منظومة الأمم المتحدة العاملين في العراق سيتطلب قدرا كبيرا من الموارد، ويطلب إلى الدول الأعضاء والمنظمات ذات الصلة تقديم هذه الموارد، بما في ذلك المساهمة في ذلك الكيان.
14ـ يسلم بأن القوة المتعددة الجنسيات سوف تساعد أيضا في بناء قدرة القوات والمؤسسات الأمنية العراقية من خلال برنامج للتجنيد والتدريب والتجهيز بالمعدات والتوجيه والرصد.
15 ـ يطلب إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية والإقليمية تقديم المساعدة للقوة المتعددة الجنسيات، بما فيها القوات العسكرية، حسبما يتفق عليه مع حكومة العراق، للعمل على تلبية احتياجات الشعب العراقي إلى الأمن والاستقرار و تقديم المساعدات الإنسانية ومساعدات التعمير، ودعم جهود بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق.
16 - يؤكد أهمية إنشاء شرطة عراقية فعالة، وإنقاذ مراقبة الحدود، وإنشاء هيئة لحماية المرافق تخضع لسيطرة وزارة الداخلية العراقية، وتخضع أيضا، في حالة هيئة حماية المرافق، لوزارات عراقية أخرى، من أجل صون القانون والنظام والأمن، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، ويطلب إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية مساعدة حكومة العراق على بناء قدرة هذه المؤسسات العراقية.
17 - يدين كافة أعمال الإرهاب في العراق ويؤكد من جديد التزامات الدول الأعضاء بموجب القرارات  1267  و 1333 و1373 و 1390 و1455، وغيرها من الالتزامات الدولية ذات الصلة، المتعلقة في جملة أمور بالأنشطة الإرهابية في العراق، أو الناشئة من العراق أو ضد مواطنيه، ويؤكد مجددا ، وعلى وجه التحديد، دعوته إلى الدول الأعضاء أن تمنع عبور الإرهابيين إلى العراق ومنه، وتزويد الإرهابيين بالأسلحة، وتوفير التمويل لهم مما من شأنه دعم الإرهابيين، ويؤكد من جديد أهمية تعزيز تعاون بلدان المنطقة ولاسيما البلدان المجاورة للعراق في هذا الصدد.
18 - يسلِّم بأن الحكومة المؤقتة للعراق ستضطلع بالدور الرئيسي في تنسيق المساعدات الدولية المقدمة إلى العراق.
19 - يرحب بجهود الدول الأعضاء والمنظمات الدولية الرامية إلى دعم طلبات الحكومة المؤقتة للعراق لتوفير مساعدات تقنية وخبراء أثناء قيام العراق بإعادة بناء قدراته الإدارية.
20 - يكرر طلبه إلى الدول الأعضاء والمؤسسات المالية الدولية وغيرها من المنظمات تعزيز جهودها الرامية إلى مساعدة شعب العراق في التعمير، وفي تنمية الاقتصاد العراقي، بما في ذلك توفير الخبراء الدوليين والموارد الضرورية عن طريق برنامج لتنسيق مساعدات الجهات المانحة.
21 - يقرر ألا يسري الحظر المتعلق ببيع أو توريد الأسلحة و الأعتدة المتصلة ﺑﻬا إلى العراق بموجب القرارات السابقة على الأسلحة أو الاعتدة المتصلة ﺑﻬا اللازمة لحكومة العراق، أو للقوة المتعددة الجنسيات لخدمة أغراض هذا القرار، ويشدد على أهمية تقيد جميع الدول ﺑﻬا تقيدا صارما، ويشير إلى أهمية الدول اﻟﻤﺠاورة للعراق في هذا الصدد، ويطلب إلى حكومة العراق والقوة المتعددة الجنسيات ضمان وضع إجراءات تنفيذ ملائمة.
22 - يشير إلى أنه لا يوجد في الفقرة السابقة ما يمس الحظر المفروض على الدول أو التزاماﺗﻬا فيما يتعلق بالبنود المحددة في الفقرتين 8 و 12 من القرار687  المؤرخ في 3 نيسان/أبريل 1991 أو الأنشطة الوارد وصفها في الفقرة 3  ومن القرار707 المؤرخ 15 آب/أغسطس 1991 ويؤكد من جديد اعتزامه إعادة النظر في ولايتي لجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش، والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
23 ـ يطلب إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية أن تستجيب لطلبات العراق للمساعدة في الجهود التي يبذلها العراق لإدماج قدامى المحاربين وأفراد الميليشيات السابقين في اﻟﻤﺠتمع العراقي.
24 ـ ينوه بأنه يلزم، بعد حل سلطة التحالف  المؤقتة، أن يكون التصرف في أموال صندوق التنمية للعراق مرهونا على وجه الحصر بتوجيهات حكومة العراق، ويقرر أن يستخدم صندوق التنمية للعراق بطريقة شفافة ومنصفة، ومن خلال الميزانية العراقية ، بما في ذلك لأغراض الوفاء بالالتزامات المستحقة على صندوق التنمية للعراق، وأن يستمر نفاذ ترتيبات إيداع عائدات صادرات النفط والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي المنصوص عليها، وأن يواصل المجلس الدولي للمشورة والرصد أنشطته في رصد صندوق التنمية للعراق وأن يضم فردا مؤهلا حسب الأصول تسميه حكومة العراق ليكون عضوا إضافيا به يتمتع بكامل حق التصويت، وأن تتخذ الترتيبات الملائمة لمواصلة إيداع العائدات المشار إليها في الفقرة 21 من القرار 1483.
٢٥ ـ يقرر كذلك أن يتم استعراض أحكام الفقرة السالفة الذكر المتعلقة بإيداع العائدات في صندوق التنمية للعراق والمتعلقة بدور اﻟﻤﺠلس الدولي للمشورة والرصد بناء على طلب الحكومة الانتقالية للعراق أو بعد مضي أثنى عشر شهرا من تاريخ اتخاذ هذا القرار، وأن ينتهي العمل بتلك الأحكام لدى إنجاز العملية السياسية المبينة في الفقرة الرابعة أعلاه.
26 - يقرر فيما يتصل بحل سلطة التحالف المؤقتة، أن تضطلع الحكومة المؤقتة للعراق وما يخلفها من الحكومات بالحقوق والمسؤوليات والالتزامات المتعلقة ببرنامج النفط مقابل الغذاء التي نقلت إلى السلطة، بما فيها كامل المسؤولية التشغيلية للبرنامج وأي التزامات تضطلع ﺑﻬا السلطة بصدد تلك المسؤولية، ومسؤولية ضمان التأكيد الموثق من جهة مستقلة لتسليم السلع.
 27 ـ ويقرر كذلك أن تضطلع الحكومة المؤقتة للعراق وما يخلفها من حكومات، بعد فترة انتقالية مدﺗﻬا 120 يوما من تاريخ اتخاذ هذا القرار، بمسؤولية التصديق على تسليم السلع بموجب عقود سبق تحديد أولويتها، وأن يعتبر ذلك التصديق بمثابة التوثيق المستقل اللازم للإفراج عن الأموال المرتبطة ﺑﻬذه العقود، مع التشاور، حسب الاقتضاء، لضمان سلاسة تنفيذ هذه الترتيبات؛ يقرر كذلك أن تظل أحكام الفقرة 22 من القرار 1483سارية، فيما عدا أن الإمتيازات والحصانان المنصوص عليها في تلك الفقرة لا تسري فيما يتعلق بأي حكم ﻧﻬائي ناشيء عن التزام تعاقدي يدخل فيه العراق بعد 30 حزيران /يونيه 2004.

28 - يرحب بالتزامات عديد من الدائنين، بمن فيهم المنتمون إلى نادي باريس، بتحديد سبل تخفيض الديون السيادية على ا لعراق تخفيضا جوهريا، ويطلب إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية والإقليمية دعم جهود العراق للتعمير، ويحث المؤسسات المالية الدولية والمانحين الثنائيين على اتخاذ إجراءات فورية لتوفير مجموعة كاملة من القروض والمساعدات المالية الأخرى للعراق، ويسلم بأن للحكومة المؤقتة للعراق سلطة إبرام وتنفيذ ما قد يلزم من اتفاقات وترتيبات أخرى في هذا الصدد، ويطلب إلى الدائنين والمؤسسات والمانحين أن يتناولوا هذه المسائل على سبيل الأولوية مع الحكومة المؤقتة للعراق وما يخلفها من حكومات.
29 - يذكّر باستمرار التزامات الدول الأعضاء بتجميد وتحويل أموال وأصول وموارد اقتصادية معينة إلى صندوق التنمية للعراق وفقا للفقرتين 19 و23 من القرار1518 و القرار 1483.
30 - يطلب إلى الأمين العام أن يقدم إلى اﻟﻤﺠلس في غضون ثلاثة أشهر من تاريخ اتخاذ هذا القرار تقريرا عن عمليات بعثة الأمم ا لمتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق، وتقريرا كل ثلاثة أشهر بعد ذلك عن التقدم المحرز نحو إجراء انتخابات وطنية والاضطلاع بكافة مسؤوليات البعثة.
31 - يطلب إلى الولايات المتحدة أن تقدم إلى اﻟﻤﺠلس، باسم القوة المتعددة الجنسيات، تقريرا في غضون ثلاثة أشهر من تاريخ اتخاذ هذا القرار عن الجهود التي تضطلع ﺑﻬا هذه القوة وما تحرزه من تقدم، وتقريرا كل ثلاثة أشهر بعد ذلك.
32 - يقرر أن يٌبقي المسألة قيد نظره الفعلي.


ثانياً : نظرة في القرار رقم 1546
تضمن قرار مجلس الأمن رقم 1546 نقاط إيجابية ونقاط سلبية بالنسبة لمستقبل العراق  ومستقبل قوات الاحتلال شرط الإيفاء بتطبيقها على الواقع، ونستطيع تحديدها بالأمور التالية:
 في المجال الإيجابي للقرار:
 1 –  حدد القرار موعداً لانتهاء سلطة الاحتلال المؤقتة بحلول الثلاثين  من حزيران 2004 انتهاء الاحتلال، وانتهاء وجود سلطة التحالف المؤقّتة، واستعادة العراق سيادته واستقلاله من جديد.
2 – أكد القرار على حق الشعب العراقي في تقرير مستقبله السياسي بحرية، وحقه في  ممارسة السلطة، والسيطرة على موارده المالية والطبيعية .
3ـ تضمن القرار دعوة الدول الدائنة للعراق إلى تخفيض تلك الديون، وخاصة الدول المنتمية إلى نادي باريس، وذلك للتخفيف من أعباء الديون التي ربط نظام صدام العراق بها ، وبالفعل فقد تم حذف 80% من ديون العراق من أجل خلق الأجواء المناسبة لإعادة بناء البنية التحية للعراق في مختلف المجالات الاقتصادية والصحية والخدماتية .
لكن المؤسف أن كلا الفقرتين الأولى والثانية بقيتا حبراً على الورق لحد الآن، وما زال العراق محتلاً ، وما زالت مقدرات العراق رهناً بمشيئة الإدارة الأمريكية.

  أما الجوانب السلبية للقرار فيتضمن ما يلي:
1 – أشار القرار إلى أنّ وجود القوّة المتعددة الجنسيات في العراق هو بناء على  طلب الحكومة العراقية المؤّقتة، وبذلك تم منح قوات الاحتلال التواجد الشرعي في العراق، كما ورد في البند التاسع من القرار.

2ـ منح القرار القوات المتعددة الجنسيات سلطة اتخاذ جميع التدابير اللازمة للمساهمة في صون الأمن والاستقرار في العراق، وفقاً للرسالتين المرفقتين بهذا القرار كما ورد في البند العاشر من القرار، وهذا يعني في واقع الأمر تفويضاً مطلقاً لقوات الاحتلال في التدخل في كافة الملفات الأمنية العراقية، والاكتفاء بالتشاور والتنسيق مع الحكومة العراقية دون أن يكون لهذه الحكومة الكلمة الفصل في اتخاذ القرارات اللازمة حيال المسائل الأمنية.
كما يعطي الشرعية لرسالتي وزير الخارجية الأمريكية كولن باول، والدكتور أياد علاوي رئيس الوزراء المعين فيما يتعلق بالملف الأمني.

3ـ عدم الالتزام بأي موعد محدد لجلاء القوات الأجنبية عن العراق، على الرغم من إصرار فرنسا وروسيا، العضوين الدائميين في مجلس الأمن على تحديد مدة زمنية للقوات المتعددة الجنسيات لمغادرة العراق.

4ـ تخويل القوات المتعددة الجنسيات عملية بناء قدرات القوات والمؤسسات الأمنية العراقية من خلال برنامج للتجنيد والتدريب والتجهيز بالمعدات والتوجيه والرصد ، وذلك بموجب البند الرابع عشر من القرار، مما يشكل جانباً أساسيا من جوانب إعادة صياغة العراق، بما يخدم مخططاتهم ومصالحهم في المنطقة والعالم .

5ـ على الرغم من نص القرار على تشكيل صندوق التنمية للعراق تحت إشراف سلطة الحكومة العراقية، بموجب البند الثالث والعشرين ، إلا أن القرار منح المجلس الدولي للمشورة والرصد صلاحية رصد الصندوق، وبذلك أبقى عملياً تحكم الولايات المتحدة بالملف الاقتصادي إلى جانب تحكمها بالملف الأمني للبلاد.

456
أحزاب الإسلام السياسي الشيعية تخوض حرباً دموية
 من أجل السلطة والثروة


حامد الحمداني                                                          28/3/2008

الحرب الأهلية الدائرة الآن في البصرة والحلة والناصرية والعمارة والكوت والسماوة وبغداد وغيرها من المدن العراقية ذات الأغلبية الشيعية هي حرب كارثية لا مصلحة للشعب العراقي فيها، ولا صلة لها بالمصلحة الوطنية والحرص على العراق لا من قريب ولا من بعيد، إنها حرب تقودها مافيا الميلشيات التابعة للأحزاب الإسلامية الطائفية التي جاء بها الاحتلال الأمريكي، وبوأها أعلى مراتب السلطة في العراق، والتي سلطت ميليشياتها المسلحة والمتوحشة لتثبيت لسلطتها على الشعب العراقي المنكوب، بقوة السلاح، فعاثت في البلاد فساداً وخراباً ودماراً وقتلاً واغتصابا دون وازع من ضمير  او أخلاق.
إن ما نشهده ويشهده العالم أجمع من مشاهد القتل والخراب والدمار يثير الفزع والاشمئزاز من هذا الاستهتار بحياة المواطنين العراقيين الذين يخشون مغادرة بيوتهم والتوجه إلى أعمالهم وكلياتهم ومدارسهم، بل لم يعودوا يأتمنون على حياتهم حتى في منازلهم، حيث الصواريخ تنطلق في كل الاتجاهات فوق المسكن المواطنين وكثيراً ما يهاجم هؤلاء الإرهابيون المواطنين الآمنين في مساكنهم ويصفونهم بكل وحشية وسادية، نساءً ورجالاً وأطفالا.
 لقد مرَّ على العراق خمس سنوات منذ شنت القوات الأمريكية والبريطانية الحرب على العراق، وأسقطت نظام صدام الدكتاتوري القمعي، وأوضاع البلاد تتحول من سيئ إلى أسوأ، ولم يدر في خلد المواطنين العراقيين أن يتخلصوا من ذلك النظام الكريه ليقعوا فريسة هذه العصابات الإجرامية المتوحشة والموغلة في ساديتها، والمتخذة من الدين ستاراً لتنفيذ جرائمها والاعتداء على حريات المواطنين، والتحكم في نمط حياتهم ولطعامهم وحتى لباسهم، وكم أفواههم، وكتم على أنفاسهم لكي يصفو لهم الجو لتنفيذ أجندتهم الهادفة للاستئثار بالسلطة، ونهب ثروات البلاد ، حتى بات الفساد السمة المييزة لجهاز الدولة من القمة إلى القاعدة.
والصراع الدموي الحالي الذي يجري اليوم على الساحة العراقية بين حلفاء الأمس في الائتلاف العراقي الذي ضم سائر أحزاب الإسلام السياسي الشيعي لا يستهدف سوى السلطة والثروة التي هي جوهر الصراع بين المجلس الأعلى وذراعه الميليشياوي المسلحة [منظمة بدر] بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم والكتلة الصدرية وذراعها الميليشياوي المسلحة[ جيش المهدي] بزعامة السيد مقتدى الصدر بالإضافة إلى حزب الفضيلة وميليشياتها المسلحة، وثأر الله وميليشياته المسلحة، وعلى الرغم من الروابط الوثيقة التي تربط هذه الأحزاب بالنظام الإيراني، لكن الذي يبدو اليوم أن إيران قد وضعت ثقلها إلى جانب الصدر وميليشيات جيش المهدي الذي بات الإعلام الإيراني لا يخفي هذا الموقف الداعم متهمين المالكي والحكيم بتنفيذ الأجندة الأمريكية.

 ومما لاشك فيه أن الإدارة الأمريكية وقوات الاحتلال تتحمل كامل المسؤولية عما جرى ويجري اليوم في العراق على أيدي هذه الميليشيات التي باتت هي السلطة الفعلية المسيطرة على الشارع العراقي، فهي التي سمحت بتشكيل وتسلح هذه الميليشيات سواء كان ذلك عن تخطيط مسبق لغايات وأهداف مستقبلية، أو أنها تغاضت عن ذلك بسبب العمليات الإرهابية التي خاضتها ضد العناصر البعثية وميليشيات أحزاب الإسلام السياسي السنية الفاشية ، و عناصر القاعدة المجرمة القادمة عبر الحدود السورية والإيرانية والسعودية، كي تركز جهدها العسكري لمقاومتها وسحقها، ومن ثم التفرغ للميليشيات الشيعية التي قوي ساعدها واشتد عودها، وباتت تؤرق وتقلق الإدارة الأمريكية، مما دفعها للتفكير في خلق نوع من التوازن بين القوى السنية بمختلف فصائلها والقوى الشيعية بمختلف فصائلها هي الأخرى ريثما تدبر أمرها، وتتخلص منها جميعاً في نهاية المطاف .
ومن أجل تحقيق هذه الأجندة بدأت الإدارة الأمريكية بالخطوة الأولى عندما دعت إلى إلغاء قانون اجتثاث البعث واستبداله بقانون المحاسبة والمصالحة من جهة والاتصال بالعديد من القوى السنية التي حملت السلاح ضد القوات الأمريكية وقوات السلطة التي نصبتها، واستطاعت إغراء وكسب جانب كبير منها إلى جانبها، ودعتها بـ [ قوات الصحوة ] وتحويل سلاحها نحو القاعدة وحلفائها من انصار نظام صدام حسين المنهار، وجهزتها بالسلاح والأموال، وبذلك استطاعت إضعاف قوى الإرهاب السنية، وتخفيف العبء عن قواتها، تمهيداً للانتهاء منها مستقبلاً .
ثم التفتت نحو الميليشيات الشيعية لتشعل فتيلة الصراع المسلح بينها انتظاراً لنتائج الصراع كي تتفرغ فيما بعد للجانب الرابح من هذه المعارك الدموية الجارية اليوم .
إن الاستراتيجية الأمريكية تبق هي هي لا تتغير ففي نهاية المطاف ترمي إلى خلق نظام بعيد عن سائر الميليشيات الشيعية والسنية ، نظام قوي ثابت يرتبط بالولايات المتحدة بوشائج قوية وثابتة ودائمية في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسة وسائر المجالات الأخرى، كحليف استراتيجي لها في المنطقة على المدى البعيد.
أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها صداقة دائمة، بل لها مصالح دائمة ، وعندما تقتضي مصلحتها التنكر لآي جهة شيعية كانت أم سنية أم كردية فلا تتوانى عن ذلك فهي تريد أن تكون السيد المطاع من قبل الجميع، ولنا من شواهد التاريخ الأمثلة الكثيرة التي تؤكد على طبيعة السياسة الأمريكية وأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى في الشرق الأوسط بوجه خاص، وفي العالم أجمع بوجه عام.     

457
أحزاب الإسلام السياسي الشيعية تخوض حرباً دموية
 من أجل السلطة والثروة
حامد الحمداني                                                          28/3/2008

الحرب الأهلية الدائرة الآن في البصرة والحلة والناصرية والعمارة والكوت والسماوة وبغداد وغيرها من المدن العراقية ذات الأغلبية الشيعية هي حرب كارثية لا مصلحة للشعب العراقي فيها، ولا صلة لها بالمصلحة الوطنية والحرص على العراق لا من قريب ولا من بعيد، إنها حرب تقودها مافيا الميلشيات التابعة للأحزاب الإسلامية الطائفية التي جاء بها الاحتلال الأمريكي، وبوأها أعلى مراتب السلطة في العراق، والتي سلطت ميليشياتها المسلحة والمتوحشة لتثبيت لسلطتها على الشعب العراقي المنكوب، بقوة السلاح، فعاثت في البلاد فساداً وخراباً ودماراً وقتلاً واغتصابا دون وازع من ضمير  او أخلاق.
إن ما نشهده ويشهده العالم أجمع من مشاهد القتل والخراب والدمار يثير الفزع والاشمئزاز من هذا الاستهتار بحياة المواطنين العراقيين الذين يخشون مغادرة بيوتهم والتوجه إلى أعمالهم وكلياتهم ومدارسهم، بل لم يعودوا يأتمنون على حياتهم حتى في منازلهم، حيث الصواريخ تنطلق في كل الاتجاهات فوق المسكن المواطنين وكثيراً ما يهاجم هؤلاء الإرهابيون المواطنين الآمنين في مساكنهم ويصفونهم بكل وحشية وسادية، نساءً ورجالاً وأطفالا.
 لقد مرَّ على العراق خمس سنوات منذ شنت القوات الأمريكية والبريطانية الحرب على العراق، وأسقطت نظام صدام الدكتاتوري القمعي، وأوضاع البلاد تتحول من سيئ إلى أسوأ، ولم يدر في خلد المواطنين العراقيين أن يتخلصوا من ذلك النظام الكريه ليقعوا فريسة هذه العصابات الإجرامية المتوحشة والموغلة في ساديتها، والمتخذة من الدين ستاراً لتنفيذ جرائمها والاعتداء على حريات المواطنين، والتحكم في نمط حياتهم ولطعامهم وحتى لباسهم، وكم أفواههم، وكتم على أنفاسهم لكي يصفو لهم الجو لتنفيذ أجندتهم الهادفة للاستئثار بالسلطة، ونهب ثروات البلاد ، حتى بات الفساد السمة المييزة لجهاز الدولة من القمة إلى القاعدة.
والصراع الدموي الحالي الذي يجري اليوم على الساحة العراقية بين حلفاء الأمس في الائتلاف العراقي الذي ضم سائر أحزاب الإسلام السياسي الشيعي لا يستهدف سوى السلطة والثروة التي هي جوهر الصراع بين المجلس الأعلى وذراعه الميليشياوي المسلحة [منظمة بدر] بزعامة السيد عبد العزيز الحكيم والكتلة الصدرية وذراعها الميليشياوي المسلحة[ جيش المهدي] بزعامة السيد مقتدى الصدر بالإضافة إلى حزب الفضيلة وميليشياتها المسلحة، وثأر الله وميليشياته المسلحة، وعلى الرغم من الروابط الوثيقة التي تربط هذه الأحزاب بالنظام الإيراني، لكن الذي يبدو اليوم أن إيران قد وضعت ثقلها إلى جانب الصدر وميليشيات جيش المهدي الذي بات الإعلام الإيراني لا يخفي هذا الموقف الداعم متهمين المالكي والحكيم بتنفيذ الأجندة الأمريكية.

 ومما لاشك فيه أن الإدارة الأمريكية وقوات الاحتلال تتحمل كامل المسؤولية عما جرى ويجري اليوم في العراق على أيدي هذه الميليشيات التي باتت هي السلطة الفعلية المسيطرة على الشارع العراقي، فهي التي سمحت بتشكيل وتسلح هذه الميليشيات سواء كان ذلك عن تخطيط مسبق لغايات وأهداف مستقبلية، أو أنها تغاضت عن ذلك بسبب العمليات الإرهابية التي خاضتها ضد العناصر البعثية وميليشيات أحزاب الإسلام السياسي السنية الفاشية ، و عناصر القاعدة المجرمة القادمة عبر الحدود السورية والإيرانية والسعودية، كي تركز جهدها العسكري لمقاومتها وسحقها، ومن ثم التفرغ للميليشيات الشيعية التي قوي ساعدها واشتد عودها، وباتت تؤرق وتقلق الإدارة الأمريكية، مما دفعها للتفكير في خلق نوع من التوازن بين القوى السنية بمختلف فصائلها والقوى الشيعية بمختلف فصائلها هي الأخرى ريثما تدبر أمرها، وتتخلص منها جميعاً في نهاية المطاف .
ومن أجل تحقيق هذه الأجندة بدأت الإدارة الأمريكية بالخطوة الأولى عندما دعت إلى إلغاء قانون اجتثاث البعث واستبداله بقانون المحاسبة والمصالحة من جهة والاتصال بالعديد من القوى السنية التي حملت السلاح ضد القوات الأمريكية وقوات السلطة التي نصبتها، واستطاعت إغراء وكسب جانب كبير منها إلى جانبها، ودعتها بـ [ قوات الصحوة ] وتحويل سلاحها نحو القاعدة وحلفائها من انصار نظام صدام حسين المنهار، وجهزتها بالسلاح والأموال، وبذلك استطاعت إضعاف قوى الإرهاب السنية، وتخفيف العبء عن قواتها، تمهيداً للانتهاء منها مستقبلاً .
ثم التفتت نحو الميليشيات الشيعية لتشعل فتيلة الصراع المسلح بينها انتظاراً لنتائج الصراع كي تتفرغ فيما بعد للجانب الرابح من هذه المعارك الدموية الجارية اليوم .
إن الاستراتيجية الأمريكية تبق هي هي لا تتغير ففي نهاية المطاف ترمي إلى خلق نظام بعيد عن سائر الميليشيات الشيعية والسنية ، نظام قوي ثابت يرتبط بالولايات المتحدة بوشائج قوية وثابتة ودائمية في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسة وسائر المجالات الأخرى، كحليف استراتيجي لها في المنطقة على المدى البعيد.
أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها صداقة دائمة، بل لها مصالح دائمة ، وعندما تقتضي مصلحتها التنكر لآي جهة شيعية كانت أم سنية أم كردية فلا تتوانى عن ذلك فهي تريد أن تكون السيد المطاع من قبل الجميع، ولنا من شواهد التاريخ الأمثلة الكثيرة التي تؤكد على طبيعة السياسة الأمريكية وأهداف الاستراتيجية البعيدة المدى في الشرق الأوسط بوجه خاص، وفي العالم أجمع بوجه عام.     

458
السيد حسن نصر الله، ومدفع الدوريين لقصف تكريت

حامد الحمداني   25/3/2008
هناك مزحة كان يتداولها التكارتة [ نسبة إلى مدينة تكريت العراقية ]عن جيرانهم الدوريين [ نسبة إلى منطقة الدور القريبة من تكريت ] الذين كانوا يصفونهم دائماً بالسذاجة، وتدور المزحة عن أن احد الدوريين كان قد سافر إلى تكريت لقضاء بعض حاجاته التسويقية، وهناك تعرض الرجل المسيكن إلى أنواع مختلفة من المزاح الثقيل الذي أشعره بالإهانة.
عاد الرجل إلى موطنه في الدور، وبادر يشكو همومه إلى أهله وأصدقائه مما لاقاه في تكريت من تصنيف على المواطنين الدوريين، وقد دفعت الحمية أحد المجتمعين حيث وقف يخطب بين الحاضرين:
 {لا عليكم أنا سأتدبر أمر التكارتة، وسأهدم تكريت على رؤوسهم حتى يكفوا عن التصنيف على الدوريين.
وقد رد عليه الملتفين حوله متسائلين عن خطته الجهنمية لهدم مدينة تكريت، وقد رد عليهم قائلاً اتركوا الأمر علي ونفذوا فقط ما أطلبه منكم.
ثم طلب منهم أن يأتوا له بجذع نخلة ليصنع منها مدفعاً عملاقاً، وطلب منهم أن يحفروا تجويفاً في الجذع ، وبعد إكمال التجويف طلب منهم جلب حشوة كبيرة من المتفجرات ووضعها في التجويف، ثم أدار المدفع نحو تكريت ووضعه على قاعدة خشبية استعداداً لإطلاق المدفع وقصفها ، وقد تجمع جمع غفير من الدوريين حول المدفع ليشهدوا الحدث العظيم عقاباً للتكارتة على مزاحهم الثقيل مع الدوريين.
وتهيأ الرجل لإشعال الفتيلة التي ستطلق المدفع، وما هي إلا لحاضات حتى انفجر المدفع، وإذا بكل من كان حول المدفع بين قتيل أو جريح.
وقامت الضجة على هذا الرجل الذي أصيب بجراح، والناس يصرخون به ويحك يا هذا ماذا فعلت بنا؟. فأجابهم الرجل على الفور :
إذا كان هذا ما فعله المدفع هنا بهذه الضخامة، فماذا يمكن قد أحدث في تكريت حيث وجهتُ فوهة المدفع نحوها، لا بد أن ما حدث هناك إضعاف وإضعاف مما حدث هنا من خراب ودمار وضحايا.
ذكرتني هذه المزحة بتصريحات السيد حسن نصر الله يوم أمس بأنه عازم على إزالة إسرائيل من الوجود، غير مقدر بما ستسببه مغامراته ومغامرات أسياده القابعين في إيران وسوريا ليس للشعب اللبناني فحسب، من كوارث لا حصر لها ستأتي على الأخضر واليابس، ولا أحد يستطيع تحديد نتائجها التي ستمتد إلى ابعد من لبنان، وتشعل الحرب التي سيكتوي بنيرانها الشعب السوري والإيراني والعراقي وسائر منطقة الخليج.
إن نيران الحروب قد يشعلها حادث عرضي بسيط ، لكنها ما أن تشتعل وتأخذ مداها حتى يصبح إطفائها أمر عسير، ولنا من عبر التاريخ القريب والبعيد ما يؤكد ذلك ، فالحرب العالمية الأولى أشعلها اغتيال الأرشدوق ـ ولي عهد  النمسا ـ آنذاك ، والحرب العراقية الإيرانية التي أشعلها صدام حسين بالنيابة عن الولايات المتحدة وبدفع منها ظنها نزهة قد تدوم بضعة أسابيع ويحتل منابع النفط الإيرانية ويصبح إمبراطورا للخليج، لكنه اخطأ الحساب حيث استمر لهيب الحرب 8 سنوات، ولم يترك صدام رئيساً أو دولة إلا ووسطها لوقف تلك الحرب المجنونة التي انتزعت أرواح أكثر من مليون من الشباب العراقي والإيراني، وتركت ملايين المعوقين والأيتام والأرامل في كلا البلدين، واستهلكت كل مداخرات العراق من احتياطي العملات الأجنبية والذهب، وأغرقته بعشرات المليارات من الدولارات ديون هائلة استحقت فوائد هائلة، وهكذا خرج صدام من تلك الحرب بعد 8 سنوات يمتلك [جيشاً جراراً واقتصادا منهار] فكانت نتائج تلك الحرب الدافع المباشر لصدام لغزو الكويت لتعويض خسائره في تلك الحرب، وما جرته على العراق حرب الثلاثين دولة بقيادة الولايات المتحدة ، وتم فرض الحصار الاقتصادي الجائر على الشعب العراقي المغلوب على أمره استمر 13 عاماً عجافا، ولم يتنهِ الحصار إلا بعد حرب الخليج الثالثة التي انتهت بإسقاط نظام صدام في السابع من نيسان 2003 ، ودفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً جراء حروب صدام الكارثية، وما حدث بعد الحرب الأخيرة كان أعظم وأمر، رغم مرور خمس سنوات على إسقاط النظام حيث قادت تلك الحرب الشعب العراقي نحو الحرب الأهلية التي نشهد فواجعها اليوم بأبشع الصور. ولو صرف صدام ما صرفه في حروبه الكارثية لبناء العراق، ورفع مستوى حياة العراقيين، لكان العراقيون اليوم اسعد شعوب المنطقة، لكنهم اليوم بين جائع يبحث عن فضلات الطعام في المزابل وبين مهجر قسراً أو مهاجر خوفاً من عصابات القتل على الهوية والاسم، وهم في حالة  بائسة يرثى لها، إلا من استطاع الوصول إلى دول اللجوء الغربية، وعلى وجه الخصوص دولة السويد التي استقبلت أغلبية العراقيين، ومنحتهم الإقامة الدائمة، وكل ما يلزم لحياة كريمة وآمنة. في حين رفضت معظم الدول العربية استقبالهم ما عدا سوريا والأردن التي وصلهما أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ عراقي هرباً من الموت الزوئام من دون أن تقدم لهم الدولتان الخدمات المطلوبة، بل بدأت تضايقهم وتضغط عليهم للعودة إلى العراق، إلى حيث الموت سواء بالتفجيرات أو الاغتيال والذبح على الهوية والطائفة والاسم.
 الحرب يا سيد نصر الله لن تجلب للشعب اللبناني الخير والسعادة، فإسرائيل تمتلك من الإمكانيات العسكرية ما لا تملكه غيرها من إيران وسائر الدول العربية التي انهارت في حرب 5 حزيران خلال 6 أيام، واستولت إسرائيل على الجولان السورية والضفة الغربية وغزة وسائر صحراء سيناء، وحتى في حرب تشرين عام 1973 فقد وصلت دبابات شارون إلى الكيلو 101 عن القاهرة.
الحروب تجلب الويلات والمصائب والمآسي التي لا حصر لها للشعوب، وإذا كنت  تمتلك الصواريخ الإيرانية مهما عظم حجمها وشأنها، فإسرائيل تملك الأعظم والأشد فتكاً، وسيكون ردها أقسى وأمر هذه المرة، وربما ستكون آخر الحروب في الشرق الأوسط ولكن بعد خراب البصرة كما يقول المثل، ولا أخال أحداً يظن أنني أدافع عن إسرائيل ووجودها في قلب العالم العربي، فهي القاعدة المتقدمة للإمبريالية، وحامية المصالح الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة التي تمتلك عصب الحياة للاقتصاد الغربي بوجه خاص، والعالم بوجه عام، أنه النفط الذي اعلنت الولايات المتحدة بموجب وثيقة[ جيمي كارتر]، أنها لن تسمح لأحد بتهديد إمدادات النفط، وستستخدم كل امكاناتها العسكرية بما فيها السلاح الذري لحماية مصالحها في المنطقة.
الحلول لأزمة الشرق الأوسط لن تتم عن طريق الحروب، ولا طريق غير طريق السلام والمفاوضات بين الدول العربية وإسرائيل للانسحاب من الجولان ومزارع شبعة التي باتت مسمار جحا، والضفة الغربية، وإقامة الدولة الفلسطينية، والطريق الصائب لكم أن تتصالحوا مع ابناء وطنكم، وتدعوا البرلمان ينتخب الرئيس العماد سليمان، وتسلموا السلاح للدولة، وتتحولوا من دولة داخل الدولة إلى حزب سياسي، شأنكم شان بقية الأحزاب اللبنانية، بعيداً عن الارتماء بأحضان إيران وسوريا، فحضن الوطن اللبناني وحضن الشعب اللبناني هما أدفأ الأحضان وأسلمها وآمنها لتعيشوا جميعاً متحابين يشد بعضكم إزر بعض، ولتنضهوا جميعاً بلبنان الشقيق، لبنان الحرية والديمقراطية، وملجأ الأحرار في العالم العربي، ليعود إلى سالف مجده وعزته، مشعلاً منيراً في العالم العربي ومركزاً للتجارة العالمية، ومرتعاً لإخوتكم العرب المصطافين في ربوع جنائنه الجميلة.
المجد للبنان الخالد، والسلام والأمان والأخوة والمحبة والتعاطف بين أطياف الشعب اللبناني، والعيش الرغيد للشعب اللبناني فهو شعب نشط وقوي وشجاع، وقادر على إعادة بناء لبنان من جديد، ودعوة مهجريه في مختلف بقاع الأرض للمساهمة الفعّالة في عملية البناء .
لينتصر السلام في لبنان الحر الديمقراطي، فقد عانى الكثير والكثير من الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، وهو يعاني اليوم ومنذُ ثلاث سنوات من وضع اجتماعي واقتصادي صعب للغاية بسبب الأزمة السياسية الراهنة التي جعلت الشعب يعيش القلق المزمن، مما يمكن أن تسببه حرب أهلية جديدة أو حرب مع إسرائيل،فليكن السيد حسن نصر الله رسول السلام والمحبة في لبنان وليس داعية للحروب.     

459
حرب الخليج الثالثة
سلطات الاحتلال تُصدر قانون إدارة الدولة         
والنشاط الإرهابي يعم أرجاء البلاد
الحلقة 13


حامد الحمداني

                                                                 22/3/2008
أولاً: قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية:
بعد أن تم تشكيل مجلس الحكم بات لزاماً أن  يكون للعراق دستور مؤقت يُستند إليه مجلس الحكم في إدارة شؤون البلاد، وعليه فقد بادرت سلطات الاحتلال بوضع القانون الذي أطلق عليه [قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية] للعمل بموجبه، وقد طلب الحاكم الأمريكي بريمر من مجلس الحكم المصادقة عليه، والالتزام ببنوده من دون إجراء أي تغير أو تعديل. وقد جرى على أساس هذا القانون سن الدستور الدائم للبلاد كما سنرى فيما بعد. وهكذا صادق مجلس الحكم على القانون المذكور، واتخاذه كدستور مؤقت للبلاد، وأعلن التزامه ببنوده دون أجراء أي تغيير أو إضافة. وسيتم تضمين الكتاب نص القانون ضمن الملاحق في آخر الكتاب من أجل إطلاع القراء عليه.
ملحق قانون إدارة الدولة : (7)
وفي الخامس من حزيران أصدر بول بريمر ملحقاً لقانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية المتضمن الأقسام الثلاثة التالية:                    .                                                                               1ـ تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة.                               .                                                2ـ مؤسسات ‏‏الحكومة العراقية المؤقتة وصلاحياتها.                    .                                        3 ـ البنود الخاصة ‏‏بالمجلس الوطني المؤقت
  ونص الملحق في قسمه الأول على أن الحكومة العراقية المؤقتة المشكلة وفق ‏‏مشاورات موسعة مع جميع شرائح المجتمع العراقي والمكونة من مواطنين معروفين ‏بكفاءتهم، ونزاهتهم تتولى السلطة السيادية لحكم العراق في موعد لا يتعدى 30 من حزيران/ ‏‏يونيو الجاري.
 ‏كما نص على أن الحكومة العراقية المؤقتة معنية بإدارة شؤون العراق، والعمل بشكل ‏خاص على تحقيق رفاهية الشعب العراقي وأمنه، وتشجيع إعادة الإعمار والتنمية ‏الاقتصادية، والإعداد لإجراء انتخابات وطنية في 31 من ديسمبر المقبل إن أمكن ذلك على أن لا يتعدى تاريخ 31 من يناير من العام المقبل.
 ‏ وأكد الملحق أن الحكومة بصفتها المؤقتة ستمتنع عن القيام بأي أعمال تؤثر على ‏‏مصير العراق مشددا على أن مثل هذه الأعمال يجب أن تحفظ للحكومات التي سيتم انتخابها من قبل ‏الشعب العراقي بصورة ديمقراطية في المستقبل، واشترط على ضرورة أن يؤدي أعضاء الحكومة المؤقتة اليمين الدستوري أمام رئيس أعلى سلطة قضائية في العراق.        ‏ ونص على أن الحكومة المؤقتة ملزمة بحل نفسها عند تشكيل الحكومة الانتقالية ‏‏التي تلي الانتخابات الوطنية.
أما القسم الثاني فنص على أن الحكومة المؤقتة تعمل طبقا لقانون إدارة ‏‏الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، وأنها تتكون من رئاسة الدولة المكونة من رئيس ‏‏ونائبين ومجلس وزراء بما في ذلك رئيس الوزراء، والمجلس الوطني المؤقت والسلطة ‏‏القضائية       .                                 ‏
‏وجاء في الملحق انه باستثناء ما يتعلق بالباب التاسع من قانون إدارة الدولة ‏العراقية، أو ماهو منصوص عليه خلاف ذلك، فان ما ورد في قانون إدارة الدولة ‏بشان تشكيل الحكومة العراقية الانتقالية ومؤسساتها ومسؤولياتها في هذا القانون تنطبق على الحكومة المؤقتة ومؤسساتها ومسؤوليها. وقال في هذا السياق ستحترم الحكومة المؤقتة ما هو منصوص عليه في ذلك القانون ‏‏من الالتزامات التي تعود إلى الفترة الانتقالية والمبادئ الأساسية وحقوق الشعب ‏العراقي.
 كما أشار في هذا الصدد إلى أن مؤسسات حكومة إقليم كردستان والمحافظات ‏‏والبلديات التي تعود إلى الحكومة ستعمل وفقا لهذا القانون.                          . ‏
‏وأكد انه لمجلس الوزراء الصلاحية على شرط موافقة رئاسة الدولة بالإجماع لإصدار ‏‏أوامر لها قوة القانون، وتبقي سارية المفعول حتى يتم إلغاؤها او تعديلها بواسطة ‏حكومات عراقية منتخبة. ‏
 كما ستكون لمجلس الوزراء في ظل هذا القانون الصلاحية الكاملة بإجراء التعيينات ‏‏واستخدام القوات المسلحة العراقية والتصديق على الاتفاقيات الدولية.                      .                                        ‏ وقال أن الحكومة المؤقتة معنية بعقد الاتفاقات الدولية بيد انه نص أن صلاحياتها ‏‏في هذا الشأن ستنحصر في مجالات العلاقات الدبلوماسية والمنح والمساعدات الدولية ‏‏واطفاء الديون السيادية.‏ وذكر أن للحكومة المؤقتة صلاحية تعيين أعضاء المحكمة العليا على أن يتم تصديق ‏‏ذلك من قبل رئاسة الدولة في الحكومة الانتقالية المنتخبة خلال تسعين يوما من ‏ ‏توليها السلطة والإجماع .                       
‏ وفي ما يتعلق بالبند الثالث المعني بتشكيل المجلس الوطني العراقي اكدد ‏‏ملحق قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية انه سيتم تشكيل واختيار المجلس ‏الوطني المؤقت بواسطة مؤتمر وطني يعقد في بغداد خلال شهر يوليو المقبل.                              . ‏
‏وأوضح أن عملية تنظيم المؤتمر الوطني ستتم بواسطة هيئة عليا تضم أعضاء مجلس ‏‏الحكم ممن لا يتولون مناصب حكومية أخرى، ومن ممثلي الأقاليم والمحافظات والشخصيات ‏‏العراقية المعروفة بنزاهتها وكفاءتها.                                    .                                                          ‏
ونص الملحق في فقرته الثالثة أن المجلس الوطني المؤقت يتكون من مائة عضو ومن ‏ ‏ضمنهم أعضاء مجلس الحكم ‏ وذكر أن المجلس يجب أن ينعقد دوريا لتشجيع الحوار البناء وتكوين إجماع وطني وتقديم ‏‏المشورة لرئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء.               .                             ‏
‏كما أكد أن للمجلس الوطني المؤقت سلطة مراقبة تنفيذ القوانين ومتابعة إعمال ‏الهيئات التنفيذية، وتعيين رئيس الجمهورية أواحد نائبيه في حالات الاستقالة ‏‏أو الوفاة كما له حق استجواب رئيس وأعضاء مجلس الوزراء، ‏وأضاف أن للمجلس [حق نقض الأوامر]    ألتنفيذية بثلثي أصوات أعضائه خلال عشرة ‏‏أيام من تاريخ تبليغ تلك الأوامر التي تم التصديق عليها من قبل رئاسة الدولة، كما أن للمجلس الوطني المؤقت صلاحية تصديق الميزانية الوطنية للعراق للعام ‏‏2005 والتي يتم اقتراحها من قبل مجلس الوزراء، ووضع النظام الداخلي لمجلس الوزراء.
 وبصدور هذا الملحق تم تحديد الهيكليات والصلاحيات للحكومة العراقية المؤقتة ‏‏التي تتطابق تقريبا مع الصلاحيات والهيكليات الموجودة في قانون إدارة الدولة ‏‏نفسه. وانه سيوضح جليا أن الحكومة المؤقتة ستكون ذات سيادة كاملة، وذات صلاحيات ‏‏كاملة، ولديها الحق بإصدار قرارات لها قوة القانون، وبإمكانها إجراء تغيير أو تعديل ‏‏أي قانون موجود حاليا بما في ذلك الأوامر التي أصدرتها سلطة الائتلاف المؤقتة وان ‏‏الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو قانون ملحق إدارة الدولة نفسه.                                         ‏ كما أكد عدم وجود أي قيود على صلاحية الحكومة باستثناء أنها لا تستطيع اتخاذ القرارات التي تؤثر على مصير العراق بعد الفترة المؤقتة المحددة لها.


ثانياً: نظرة في  قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية: 
من خلال دراسة متأنية لقانون إدارة الحكم نستطيع تثبيت الملاحظات التالية:            .                                                                                                 1 ـ إن القانون المذكور والذي كان فد اتُخذ دستوراً مؤقتاً للعراق قد جرى فرضه من قبل الدولة المحتلة، الولايات المتحدة، والحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، وفي ظل الاحتلال وقد اتخذ هذا القانون أساسا للدستور الذي شرعته لجنة برلمانية تتألف غالبيتها من أحزاب الطائفة الشيعية المتحالفة مع الحزبين القوميين الكرديين، والذي سأتحدث عن تداعياته الخطيرة على مستقبل العراق في فصل قادم.
2 ـ إن القانون المذكور قد وضع اللبنات الأساسية لعملية تمزيق العراق من خلال فرض التشكيلات الفيدرالية للمحافظات مما شجع قوى الإسلام الطائفي الشيعي المتمثلة بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بزعامة عبد العزيز الحكيم المرتبط بوشائج لا تنفصم مع النظام الإيراني للدعوة لإقامة تكتل شيعي فيدرالي يضم 9 محافظات ذات الأغلبية الشيعية، مما يهدد في تمزيق العراق، ومن المؤسف أن قوى الأحزاب القومية الكردية قد وجدت في الحكيم حليفاً قويا بسبب ما يجمعها من أهداف مشتركة باسم الفيدرالية التي تجاوزت ما خُطط لها قبل سقوط النظام حيث باتت تمثل دولة داخل الدولة بكل مقوماتها الأساسية.
3 ـ فرض القانون بعدم جواز تعديل أي من مواده إلا في بموافقة أكثرية ثلاثة أرباع أعضاء الجمعية الوطنية. وإجماع تصديق مجلس الرئاسة. مما يصبح عمليا من الصعوبة بمكان تعديل مواد القانون.
4 ـ فرض القانون الاتفاقية الأمنية التي وضعتها الولايات المتحدة في صلب القانون، والتي أعطت لقوات الاحتلال حرية الحركة في انحاء البلاد ، مما يتعارض مع سيادة واستقلال العراق، وتجاهل القانون تحديد المدة التي ستبقى فيها القوات الأمريكية والبريطانية وحلفائها فيما يدعى بالقوات المتعددة الجنسيات والتي اتخذتها الولايات المتحدة ستاراً لها.

ثالثاً: النشاط الإرهابي يعم أنحاء البلاد:

لم تكد القوات الأمريكية تدخل بغداد وتسقط حكم الطاغية صدام حسين في 9 نيسان 2003 حتى توارى البعثيون عن الأنظار خوفاً وفزعاً من مصير مجهول، وتبخر الجيش العراقي العرمرم الذي كان صدام يتباه بقوته وجبروته تاركاً سلاحه في كافة المعسكرات، وفي كل مناطق وشوارع وأزقة العراق التي زرعها الدكتاتور بهذه الأسلحة والتي وزعها على أعضاء حزبه  وفدائيه [ فدائي صدام ]، وما يسمى بـ [جيش القدس ] .
كما هربت قوات الشرطة والأجهزة الأمنية المتعددة، والتي تقدر بمئات الألوف خوفا من أن ينالها غضب وعقاب الشعب جراء ما اقترفت أياديهم من جرائم بشعة بحق مئات الألوف من المواطنين الأبرياء الذين قضوا تحت التعذيب الرهيب، وفي غياهب السجون، وعلى أعواد المشانق والمثارم الوحشية البشعة، هذا بالإضافة إلى أربعة ملايين مواطن عراقي شردوا من وطنهم في مختلف بقاع العالم هرباً من بطش النظام الصدامي وأجهزته القمعية التي فاقت كل تصور.
لكن القوات الأمريكية، وبتوجيه من القيادة السياسية للولايات المتحدة لم تتخذ إي إجراء ضد أولئك الذين اعتمد عليهم الدكتاتور صدام في الحفاظ على سلطته وسلطة حزب البعث طيلة 35 عاماً من حكمهم الرهيب، بل لقد تركت القوات الأمريكية البلاد في حالة من الفوضى والفلتان الأمني لتفتح الباب واسعاً أمام العصابات الإجرامية التي أطلق سراحها صدام قبيل سقوط نظامه، والتي تقدر بعشرات الآلاف من السراق والقتلة والمجرمين المحترفين ليعيثوا في البلاد نهباً وسلبا وخراباً ودماراً لكافة المؤسسات العراقية والوزارات والدوائر الرسمية كافة، وكانت سرقة المتحف العراقي بما يحتويه من أنفس الآثار التي لا تقدر بثمن من أخطر السرقات التي تعرض لها العراق على مر السنين.
لقد كان والواجب يقتضي بحكم مسؤوليتها أن تعلن القوات الأمريكية المحتلة منع التجول في كافة أنحاء البلاد بغية السيطرة على الوضع الأمني بعد أن توارت الأجهزة الأمنية منعاً للفلتان الأمني وأعمال النهب والسلب والحرق والتخريب والتدمير، لكنها على العكس من ذلك اتخذت لنفسها موقف المتفرج على تلك الأعمال الإجرامية مما أثار الشكوك لدي المواطنين العراقيين أن قوات الاحتلال لها اليد الطولى في كل ما جرى، وأنها تتحمل كامل المسؤولية عن كل الخسائر المادية جراء سماحها باستباحة كافة مرافق البلاد، وفي المقدمة منها المتحف العراقي بما يحويه من النفائس الأثرية التي لا تقدر بثمن، والمصارف وبضمنها البنك المركزي وفروعه في الموصل والبصرة التي تعرضت للنهب على مرأى ومسمع القوات الأمريكية دون أن تتخذ أي إجراء لحمايتها،ولم تلاحق السراق والمجرمين.

لقد ركزت القوات الأمريكية جهدها لإلقاء القبض على 55 من رجال السلطة الصدامية لا غير، تاركة ذلك الجيش الجرار من الأجهزة الأمنية القتلة، وفدائي صادم، والمجرمين من   أعضاء الحزب في مأمن ولم يمسهم أي أذى، ولم يتخذ تجاهها أي إجراء حتى ولو كان احترازياً، من أجل صيانة الأمن والنظام العام في البلاد بعد انهيار كل المؤسسات العراقية بما فيها المؤسسات التي تتولى صيانة الأمن في البلاد.
وهكذا وجد البعثيون أنفسهم في مأمن من الملاحقة والعقاب جراء الجرائم البشعة التي ارتكبوها بحق الشعب والوطن طيلة تلك العقود الأربعة العجاف، وبدأوا بالظهور على الساحة مرة أخرى  متلبسين برداء جديد هذه المرة وبمسميات إسلامية متعددة لا صلة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وبدأت تلك المسميات تظهر للعلن من خلال الإعلان عن الجرائم التي تنفذها على الساحة العراقية عبر وسائل الإعلام المرئية. 

وإمعاناً في الجريمة بدأت العصابات البعثية تمهد السبيل لدخول عصابات القاعدة الساحة العراقية حيث تولت استقبال الوحوش الآدمية المغسولة الأدمغة من الانتحاريين عبر الحدود السورية والسعودية والإيرانية، من مختلف البلدان العربية والإسلامية بذريعة مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق، وتؤمن لهم السكن والحماية والمال والسلاح والسيارة المفخخة لتحول العراق إلى جحيم لا يطاق.

وخرجت تلك العصابات المجرمة تحمل والصواريخ والمتفجرات والأحزمة الناسفة، ومختلف أنواع الأسلحة الأخرى، بل لقد طوروا من أساليب جرائمهم باستخدام السيارات المفخخة وزراعة العبوات الناسفة ليوقعوا أكبر قدر من التخريب والتدمير وقتل الأبرياء من أبناء شعبنا بالجملة. فقد ازداد حقدهم على الشعب أضعافاً مضاعفة بعد أن فقدوا السلطة التي عاشوا في ظلها 35 عاماً يتمتعون بهبات وعطايا ومكارم دكتاتور العراق صدام حسين على حساب بؤس وعذابات وشقاء الغالبية العظمى من الشعب العراقي المهضوم الحقوق.
 لقد أصبحوا بعد سقوط النظام، وفقدان امتيازاتهم، أكثر عنفاً من أجل استعادة السلطة، تماما كما فعلوا بعد أن اسقط حكمهم شريكهم في انقلاب الثامن من شباط 1963 عبد السلام عارف، حيث لم يمضِ سوى بضعة اشهر حتى دبروا محاولة انقلابية على نظام عارف، على الرغم من أن تجربتهم في الحكم لم تتجاوز 9 أشهر، لكن محاولتهم تم إحباطها، ومع ذلك استمروا في محاولاتهم الانقلابية حتى استطاعوا تنفيذ انقلاب 17 تموز1968بتدبير ودعم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، وامسكوا بالسلطة بيد من حديد 35 عاماً تمتعوا خلالها بثروات البلاد دون حساب.
لقد كان التغاضي عن هذه الزمرة الشرير بعد إسقاط النظام الصدامي مباشرة أحد أكبر الأخطاء التي ارُتكبتها الولايات المتحدة وقواتها في العراق، والتي دفع الشعب العراقي وما يزال ثمناً غالياً بسببها، حيث حولت عصابات القتلة حياته إلى جحيم.
ومما زاد في الطين بله إقدام الإدارة الأمريكية على حل الجيش والأجهزة الأمنية بذلك الأسلوب الخاطئ، ودون أن تحسب أي حساب ما تمثله تلك القوة الهائلة من خطورة على الأمن والنظام العام، ولاسيما وأنها مدربة تدريباً جيداً على استخدام جمع أنواع الأسلحة، والسلاح مباح أمامها في المعسكرات المهجورة، وحتى في الشوارع والطرق والمدارس التي ملأها النظام الصدامي بالسلاح استعداداً للحرب.
 وقد فقد أفراد الجيش مصدر عيشهم وعيش عوائلهم على حين غرة، وكما هو معروف أن النظام السابق كان قد فرض الانتماء لحزب البعث على كل منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية، فكان حرمانهم من الوظيفة، ومن المورد الضروري للعيش قد دفع أعداد غفيرة منهم نحو حمل السلاح بوجه القوات المحتلة وقوات السلطة على حد سواء، مستخدمين كل الوسائل المتاحة لهم لتنفيذ عمليات القتل والتخريب والتدمير الذي امتد فيما بعد نحو المواطنين الآمنين.
ومما ساهم مساهمة فعّالة في تصاعد الصراع المسلح لجوء عناصر ومناصري أحزاب الإسلام السياسي الشيعي إلى عمليات التصفية الجسدية للعناصر البعثية خارج القانون والمحاكم لتصفية الحسابات التي سببها طغيان النظام الصدامي، وخاصة خلال الانتفاضة الشعبية في الثاني من آذار 1991، والتي قمعها النظام بكل وحشية، مما تسبب في استشهاد عشرات الألوف من المواطنين الشيعة.
 غير أن ذلك الأسلوب الانتقامي جاء بنتائج عكسية خطيرة على الأمن والنظام العام في البلاد، على عكس ما جرى في كردستان العراق، حيث جرى التعامل مع العناصر التي تعاونت مع نظام صدام ضد أبناء جلدتهم الأكراد.
لقد كان من المفروض للإدارة الأمريكية إن لا تقدم على حل الجيش والأجهزة الأمنية بتلك الصورة المتعجلة، بل كان الأمر يقتضي إصدار أمر لهذه القوات بالالتحاق بمعسكراتهم بإشراف القيادة العسكرية الأمريكية والبريطانية لتحييدهم، والنظر فيما بعد في قضايا العناصر التي كانت على صلة مباشرة مع النظام وإحالتها على التقاعد، وتقديم من يثبت عليه القيام بإعمال إجرامية بحق الشعب إلى المحاكم لينالوا ما يستحقونه من عقاب، أما الحكم على أفراد الجيش بالطرد فقد كان من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية، وكان بالإمكان كسب معظم أفراد الجيش إلى جانب السلطة الجديدة وإعادة تثقيفهم بثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية، واحترام الحريات العامة للمواطنين.

لكن قرار حل الجيش المتسرع ذاك شجع الزمرة الشريرة من أعوان نظام صدام لتكشّر عن أنيابها المتعطشة للدماء من جديد، وكان لترك قوات الاحتلال المعسكرات ومخازن الأسلحة دون حراسة أن مكّنَ هؤلاء القتلة من الحصول على مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة التي استخدموها في تفخيخ السيارات، وزراعة المتفجرات على جونب الطرق لتزهق المزيد والمزيد من أرواح المواطنين الأبرياء . وتحولت والفلوجة إلى قلعة الإرهاب التي تنطلق منها تلك العصابات لتعيث في الوطن تقتيلاً وتدميراً، وأصبحت الموصل وبعقوبة والرمادي وسامراء وتكريت وبيجي مرتعاً لجرائم الإرهابيين.

ومن جهة أخرى بدأت المليشيات التابعة للأحزاب الشيعية، وفي المقدمة منها ميلشيات بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم، وما يدعى بجيش المهدي التابع لمقتدى الصدر تمارس العمليات الإرهابية هي الأخرى، واستطاع جيش المهدي أن يفرض سيطرته على مدينة النجف بقوة السلاح، فيما قوى البعث وعناصر القاعدة القادمة من مختلف البلدان العربية عبر الحدود السورية والسعودية بأعداد متصاعدة استطاعت فرض سيطرتها على أجزاء كبيرة من بغداد والفلوجة والرمادي وسائر محافظة الأنبار، وكذلك الموصل  وديالى، وبذلك أخذ الوضع الأمني في البلاد في التدهور يوماً بعد يوم ، وتحول العراق إلى ساحة للصراع الدامي.، واضطرت الإدارة الأمريكية للاعتراف لأول مرة في 16 تموز 2003 بمواجهة حرب العصابات. 
كانت أولى الجرائم التي ارتكبتها القوى الإرهابية اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي في داخل مرقد الأمام علي بن أبي طالب على أيدي الزمرة التابعة لمقتدى الصدر، والتي جرت على رؤوس الأشهاد أمام جمع غفير من المواطنين والمسؤولين، ومن دون أن تتخذ الإجراءات القضائية بحق القتلة المجرمين!!، بل على العكس من ذلك تجرأ مقتدى الصدر على الإعلان عن تشكيل ما يسمى بـ [جيش المهدي]، وبتغاضٍ من قبل قوات الاحتلال، وقد جمع  أعدادا غفيرة من أنصاره الذين كانوا بالأمس القريب من البعثيين، واستطاع السيطرة على مدينة النجف بقوة السلاح. وجاءت الجريمة الثانية التي ارتكبتها القوى الإرهابية السفارة الأردنية في 7 آب 2003، ثم اتبعتها بالجريمة الثالثة ضد المقر الرسمي لممثلية الأمم المتحدة التي كان يرأسها الشهيد[ سيرجيو فيرا دي ميلو]، في 18 آب/أغسطس، حيث جرى مهاجمتها وتفجيرها عن طريق سيارة مفخخة بكميات كبيرة من المتفجرات أدت إلى تدمير المقرب الكامل وذهب ضحية الهجوم الإجرامي أكثر من عشرين موظفا كان من بينهم الشهيد دي ميلو، مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة [ كوفي عنان ] آنذاك إلى غلق المثلية في بغداد.
وكانت الجريمة الرابعة البشعة التي ارتكبت في مدينة النجف في 29 آب/أغسطس عندما فجر إرهابي سيارة مفخخة بين جموع غفيرة كانت تحيط بزعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق [ محمد باقر الحكيم ] والتي ذهب ضحيتها الحكيم مع أكثر من تسعين مواطناً ، بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من الجرحى، وكانت جراح معظمهم بليغة.
وفي الفلوجة القريبة من بغداد سيطرة القوى الإرهابية من البعثيين وعناصر القاعدة التي بدأت تعبر الحدود السورية بإعداد كبيرة على الوضع في المدينة بقوة السلاح ، وأقدمت على قتل أربعة من الأمريكيين والتمثيل بجثثهم بشكل بشع، وجرى تعليقهم على الجسر الحديدي مما دفع سلطات الاحتلال إلى الإعداد لهجوم واسع النطاق على الفلوجة.

وفي 17 أيار 2004 جرى اغتيال رئيس مجلس الحكم السيد [ عز الدين سليم ] في عملية إرهابية بتفجير سيارة مفخخة في أحد مداخل المنطقة الخضراء أودت بحياته مع العديد من حراسه. وفي 25 أيلول جرى اغتيال عضوة مجلس الحكم السيدة عقيلة الهاشمي، وهكذا أخذ النشاط الإرهابي يتصاعد في البلاد يوماً بعد يوم ويؤدي بأرواح العشرات من أبناء الشعب، بالإضافة إلى التدمير والتخريب الذي تسببه تلك التفجيرات للمرافق العامة والممتلكات الخاصة التي أصبحت هدفاً للإرهابيين، بالإضافة إلى عمليات الخطف والابتزاز والاغتصاب والقتل الوحشية التي كانت تجري كل يوم.  احتلالها الفعلي للعراق.

460
حرب الخليج الثالث
الحلقة 12
الإدارة الأمريكية تقرر تشكيل مجلس الحكم المؤقت
حامد الحمداني                                                               19 /3/2008
أولاً: تشكيل مجلس
الحكم:                                               .                                                                 بعد الضغوطات التي مارستها القوى والأحزاب السياسية في البلاد من جهة، ولاستنكار العالمي الواسع للاحتلال الأمريكي العراق، اضطرت الولايات المتحدة إلى إقامة سلطة عراقية مؤقتة تحت إشراف الحاكم الأمريكي بريمر، أطلقت عليها [ مجلس الحكم ] لإدارة شؤون البلاد.
 لكن الحكم الفعلي بقي بيد الحاكم الأمريكي بريمر، حيث كان يتمتع بصلاحيات مطلقة في حكم البلاد، وقد جرى اختيار أعضاء المجلس المتكون من [25] عضواً على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، حيث حصلت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على حصة الأسد في المجلس حيث منحها بريمر[14] مقعدا في حين منح الأحزاب القومية الكردية [5] مقاعد في المجلس، وبذلك أصبح لتحالف المجموعتين أغلبية الثلثين في المجلس، وجاء تشكيل المجلس على الوجه التالي:                                  .                                                                                                                             1ـ إبراهيم الجعفري ـ زعيم حزب الدعوة الإسلامي.                  .                         2ـ أحمد شياع البراك ـ احد شيوخ عشيرة البو سلطان.                            .                                  3 ـ أحمد الجلبي ـ زعيم جماعة المؤتمر الوطني العراقي                .                                                                        4 ـ إياد علاوي ـ زعيم كتلة الوفاق الوطني العراقي.                                            5ـ 5 ـ جلال الطالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني                       .                                                                                                                               6 ـ حميد مجيد موسى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي                    .                                                                                                   7 ـ دارا نور الدين ـ قاض ومعارض سابق.                                    .                                             8 ـ عبد الكريم المحمداوي ـ زعيم حزب الله العراقي.                .                                9 ـ عدنان الباجه جي ـ زعيم تجمع الديمقراطيين العراقيين المستقلين.                    .                                                                                                                                         10ـ عقيلة الهاشمي ـ دبلوماسية سابقة في وزارة خارجية حكومة صدام.                     .                                                                                                                              11ـ غازي عجيل الياورـ أحد شيوخ قبيلة شمر.                           .                                                        12ـ محسن عبد الحميد ـ زعيم الحزب الإسلامي العراقي.                         .                                          13 ـ  محمد بحر العلوم ـ عالم دين شيعي بارز ورئيس مؤسسة أهل البيت                  .                        14ـ  محمود عثمان ـ سياسي كردي مستقل وعضو قيادة الديمقراطي الكردستاني سابقاً.
 15 ـ مسعود البارزاني ـ زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني.
16ـ موفق الربيعي ـ طبيب تلقى تعليمه في بريطانيا ومقيم في لندن.
17ـ نصير كامل الجادرجي ـ زعيم الحزب الوطني الديمقراطي. 
18 ـ  وائل عبد اللطيف ـ قاض منذ بداية الثمانينات.
19 ـ يونادم كنه ـ زعيم الحركة الآشورية الديمقراطية.
20 ـ رجاء حبيب الخزاعي ـ مديرة مستشفى للولادة.
21 ـ  سمير شاكر محمود الصميدعي ـ رجل أعمال.
22ـ صلاح الدين محمد بهاء الدين ـ زعيم حزب الاتحاد الإسلامي الكردستاني .
23ـ صونكول جاجوك ـ مهندسة تركمانية في مجال المرأة ومهندسة.
24ـ عز الدين سليم ـ زعيم حزب الدعوة الإسلامية في البصرة.
25ـ عبد العزيز الحكيم ـ زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. (1)

نظرة في تشكيل مجلس الحكم:
لقد جاء تكوين مجلس الحكم بهذه الصيغة ليكرس الحكم الطائفي في البلاد، وانعكاساته الخطيرة على تماسك البنية الاجتماعية العراقية، وتأجيج الصراع الطائفي وصولا إلى الصراع المسلح، وتصاعد النشاط الإرهابي بين قوى الطائفتين الشيعية والسنية، والتي أوصلت البلاد إلى أتون الحرب الأهلية التي باتت تحصد المئات من أرواح المواطنين الأبرياء،.
 لقد كان على الإدارة الأمريكية، وهي التي بشرت الشعب العراقي بالديمقراطية أن تقيم حكومة تضم شخصيات وطنية علمانية ولبرالية تؤمن حقاً وصدقاً بالديمقراطية كنظام منشود، ومشهود لها بالكفاءة ونظافة اليد، ولم يسبق لها أن ارتبطت بأية وشيجة مع النظام الدكتاتوري السابق، لكي تتولى السلطة لفترة زمنية لا تقل عن 3 سنوات من أجل إعادة الأمن والسلام في البلاد، وإصلاح ما خربته الحروب الكارثية التي ورط نظام صدام العراق بها، وبناء القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي المنشود، وتهيئة الظروف الطبيعية والديمقراطية المناسبة لإجراء الانتخابات البرلمانية في البلاد، بعد أربعين عاماً من الحكم الدكتاتوري القمعي الذي عاش الشعب العراقي بظله، مما جعله غير مهيأ بالمرة لانتخابات برلمانية عاجلة كانت نتائجها معروفة سلفا جراء هيمنة قوى الأحزاب الطائفية الشيعية، والأحزاب القومية الكردية على الساحة العراقية، واستغلال التأثير الطائفي والعرقي لتحقيق مكاسب وأهداف سياسية، ولتكريس الطائفية في البلاد، فكانت النتيجة قيام نظام تقوده قوى الإسلام السياسي الطائفي الرجعي، والمرتبط بوشائج عدة مع نظام جمهورية إيران الإسلامية، والتي مكنت النظام الإيراني ومخابراته من لعب دور خطير على الساحة العراقية، وتغلغلها في كافة مرافق الدولة، مما كانت له نتائج خطيرة على الوضع الأمني في البلاد، وعلى القوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة التي باتت تخشى على مصالحها في منطقة الخليج.                             .                                                                  لكن الإدارة الأمريكية استمرت في ارتكاب المزيد من الأخطاء التي أوقعتها في نهاية                                                                                                                                                                                      المطاف في مأزق خطير لا تستطيع الفكاك منه، كما سنرى فيما بعد. وهكذا استحصلت الولايات المتحدة قراراً من مجلس الأمن يتضمن إقامة ما دعته مجلس الحكم، وقد جرى اختياره من قبل الحاكم المدني الأمريكي بريمر، وجرى تسليمه السلطة التي لم تكن  سوى سلطة شكلية، حيث الإدارة الأمريكية وأداتها العسكرية وسلطة الحاكم المدني بريمر في واقع الحال هي الحاكم الفعلي للبلاد، وقامت بوضع الضوابط التي ينبغي أن يلتزم بها مجلس الحكم بموجب اتفاقية مفروضة على المجلس حيث جرى التوقيع عليها بين الطرفين أطلق عليها بريمر[اتفاقية العملية السياسية] والتي أظهرت بكل وضوح الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على مقدرات الحكم في البلاد، كما هو وارد في نص الاتفاقية، ولم يكن مجلس الحكم قادراً على اتخاذ أي قرار دون موافقة الحاكم المدني بريمر.
ثانيا: اتفاقية العملية السياسية بين سلطة الاحتلال والمجلس:                               .                                       بعد أن تم تشكيل مجلس الحكم من قبل الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر جاءت الخطوة الثانية لتحدد العلاقة بين سلطة الاحتلال ومجلس الحكم من جهة، ولتحديد القانون الأساسي الذي سيلتزم به مجلس الحكم في إدارة البلاد، وقد مثل هذا القانون الأساس المادي لدستور العراق الذي جرى تشريعه من قبل البرلمان فيما بعد، وكل ما جرى إضافته أو تعديله من قبل البرلمان لا يعدوا عن أمور شكلية لم تمس جوهر القانون الذي وضعه بريمر، وهذا هو نص القانون الذي أطلق عليه اتفاقية العملية السياسية بين سلطة الاحتلال ومجلس الحكم:
 القانون الأساسي:
 تجري صياغة القانون الأساسي من قبل مجلس الحكم العراقي، بالتشاور الوثيق مع سلطة التحالف المؤقتة، ويجري إقراره من جانب مجلس الحكم وسلطة التحالف، بحيث يحدد رسميا مدى وهيكل الإدارة الانتقالية العراقية ذات السيادة.                         .                              عناصر القانون الأساسي:                           .                                                                 يشمل القانون الأساسي مسودة الحقوق، وتشمل حرية التعبير والتشريع، والدين، وبيان المساواة في الحقوق بين كافة العراقيين، بغض النظر عن النوع، أو الطائفة، أو العرق، وتضمن المسار الملائم لإقرار تلك الحقوق وصيانتها، والتي تشتمل على الأسس التالية:  .                                             1ـ الترتيبات الفدرالية للعراق، بما يشمل المحافظات، وتحديد السلطات التي تضطلع بها الهيئات المركزية والمحلية، والفصل بين تلك السلطات.                                      .                                               2ـ بيان استقلال القضاء، وآلية المراجعة القضائية.                  .                                                                      3ـ بيان السيطرة السياسية المدنية على القوات المسلحة العراقية.             .                                                                                    4ــ بيان بعدم إمكان تعديل القانون الأساسي.                           .                                      5ـ موعد انتهاء صلاحية القانون الأساسي.                                                                           6ـ الجدول الزمني لصياغة الدستور العراقي الدائم من جانب هيئة ينتخبها الشعب العراقي انتخابا مباشرا، وكذلك جدولا زمنيا للتصديق على الدستور الدائم، ولإجراء الانتخابات في ظل الدستور الجديد.                                                                .                                                                                        7ـ صياغة وإقرار القانون الأساسي بحيث يستكمل بحلول28 شباط/  فبراير 2004.
 الاتفاقات مع التحالف حول العلاقة  الأمنية:
 يتطلب أن تتفق سلطة التحالف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي على الاتفاقات الأمنية، وتغطي الاتفاقات الأمنية وضع قوات التحالف في  العراق، بما يتيح لها نطاقا واسعا من حرية توفير أمن وسلامة الشعب العراقي، ويتم استكمال إقرار الاتفاقات الثنائية بنهاية مارس/آذار 2004
 اختيار الجمعية الوطنية الانتقالية:
 يحدد القانون الأساسي أجهزة المنظومة الوطنية، كما يوضح في نهاية المطاف تفصيلا للعملية التي سيجري من خلالها اختيار الأفراد لتلك الأجهزة، غير أنه يتعين الاتفاق على خطوط إرشادية معينة اتفاقا مسبقا.                                        .                                                                                                                                                                                                                  لن تكون الجمعية الانتقالية توسيعا لدور مجلس الحكم العراقي. ولن يكون لمجلس الحكم دور رسمي في اختيار أعضاء الجمعية، وسوف ينحل مجلس الحكم مع تشكيل الإدارة الانتقالية، والاعتراف بها. غير أنه يمكن أن يخدم أفراد من مجلس الحكم في الجمعية الانتقالية، شريطة أن يتم انتخابهم وفق العملية الموضحة أدناه:                .                                     1ـ يجري انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية وفق عملية تتسم بالشفافية، والديمقراطية عبر لجان بحثية في كافة محافظات العراق الثمانية عشرة.             .                                                                    2ـ في كل محافظة تشرف سلطة التحالف المؤقتة على عملية يتم بمقتضاها تشكيل لجنة تنظيمية من العراقيين. وتشمل هذه اللجنة التنظيمية خمسة أفراد يعينهم مجلس الحكم، وخمسة أفراد يعينهم المجلس المؤقت، وفردا واحدا يعينه المجلس المحلي لأكبر خمس مدن داخل المحافظة.                                         .                                                                                             3ـ سيكون غرض اللجنة التنظيمية الدعوة لانعقاد لجنة انتقاء بالمحافظة من الأعيان من أنحاء المحافظة المختلفة. وللقيام بذلك يتطلب ترشيح أسماء من الأحزاب السياسية، والمجالس الإقليمية/المحلية، والهيئات المتخصصة والمدنية، والكليات الجامعية، ومن  والجماعات القبلية والدينية.                                           .                                                                               4ـ يتعين أن يفي المرشحون بالمعايير المحددة لقبول الترشيح المنصوص عليها في القانون الأساسي. ويتعين الموافقة على ترشيح أي مرشح بأغلبية 11 من 15 من اللجنة التنظيمية، لاختيار هذا المرشح كعضو في لجنة الانتقاء البحثية للمحافظة.                          .                                 5 ـ تنتخب كل لجنة انتقاء بحثية لكل محافظة ممثلين يمثلون المحافظة في الجمعية الانتقالية الجديدة على أساس نسبة سكان المحافظة.                           .                                                                      6 ـ تنتخب الجمعية الوطنية الانتقالية في موعد أقصاه 31 أيار 2004.
  إعادة السيادة للعراق:                                .                                                      1ـ بعد عملية اختيار أعضاء الجمعية الانتقالية، ستجتمع الجمعية لانتخاب مجلس تنفيذي، ولتعيين مجلس الوزراء.                                   .                                                                   2 ـ بحلول 30 يونيو/حزيران 2004، سيكون التحالف قد اعترف بالإدارة الانتقالية الجديدة، وسوف تتولى تلك الإدارة صلاحيات سيادية كاملة لحكم العراق. وستنحل سلطة التحالف المؤقتة. 
 عملية إقرار الدستور الدائم                                    .                                                       سوف يشتمل القانون الأساسي في نهاية المطاف على العملية الدستورية والجدول الزمني، غير أنه يلزم الاتفاق عليهما اتفاقا مسبقا، كما هو مفصل أدناه.                                                                                                                          1ـ يقوم مؤتمر دستوري ينتخبه الشعب العراقي انتخابات مباشرا، بإعداد دستور دائم للعراق.                                                                                                    2ـ تجري الانتخابات للمؤتمر الدستوري في موعد أقصاه 15 آذار/مارس2005.                                3ـ يتم نشر مسودة الدستور على الشعب للتباحث والتعليق.                                                 4 ـ تطرح مسودة نهائية للدستور على الشعب، ويجرى استفتاء شعبي للتصديق على الدستور.                              .                                                                     5 ـ تجري انتخابات لحكومة عراقية جديدة بحلول 31 ديسمبر/كانون أول 2005، وعندها تنتهي صلاحية القانون الأساسي وتتولى حكومة جديدة السلطة. (2)
نظرة في الاتفاقية:  ومن خلال دراسة متأنية للاتفاقية الأنفة الذكر والتي جرى فرضها من قبل سلطة الاحتلال نستطيع تحديد الملاحظات التالية:                   .                                                  1ـ إن سلطة الاحتلال قدر فرضت على مجلس الحكم تحديد العناصر الأساسية لقانون إدارة الدولة، والذي هو بمثابة الدستور المؤقت للبلاد، كما أقرت الاتفاقية بعدم جواز إجراء أي تعديل عليه من قبل مجلس الحكم، كما جرى اعتبار القانون المذكور أساسا للدستور الذي جرى تشريعه فيما بعد، ما عدى بعض الإضافات الهامشية التي لم تؤثر على صلب الدستور.
2 ـ فرض الاتفاقية الأمنية من قبل سلطة الاحتلال على العراق، وتغطي الاتفاقية الأمنية وضع قوات التحالف في  العراق، بما يتيح نطاقا واسعا من حرية الحركة. وهي عبارة مطاطية غير محددة تتيح لقوات الاحتلال قانونية التواجد على ارض العراق، وحرية تحركاتها كيفما، وقتما تشاء.
3 ـ مهدت الاتفاقية السبيل لإقامة كيانات ما دعته بالعراق الفيدرالي الذي كان بالأساس محصوراً بالنسبة لمنطقة كردستان العراق، مما أتاحت السبيل لقوى الإسلام الطائفي الشيعي للسعي لإقامة كيانات تستهدف تقطيع أوصال العراق باسم الفيدرالية، والذي يهدد بدوره في إشعال الحرب الطائفية في البلاد وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي.
4 ـ فرضت الاتفاقية تحديد تواريخ متقاربة، وبصورة متعجلة، لإجراء انتخابات برلمانية في البلاد، وتشريع الدستور الدائم، في حين أن الأوضاع السائدة في البلاد لم تكن مناسبة لمثل هذه العجالة، فالشعب العراقي الذي كان قد خرج لتوه من ظلام أربعة عقود من الطغيان والفاشية لم يكن مهيئاً لمثل هذه العملية التي ستقرر مصير العراق لعقود طويلة، فكانت النتيجة هيمنة الأحزاب الدينية الطائفية التي قادت البلاد نحو الصراع الطائفي المسلح الذي نشهده اليوم بكل بشاعته وفضاعته التي لم يعرف لها الشعب العراقي مثيلاً من قبل، وها هو الشعب يدفع كل يوم ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه بما يتجاوز المئات، وتبدد حلمه  بالخلاص من نظام صدام القمعي ليقع فريسة الإرهاب الطائفي البشع بأقسى صوره وهمجيته.                                                                                                          5 ـ لم يجِر الالتزام  حتى بالمعايير التي نصت عليها اتفاقية العملية السياسية فيما يخص انتخاب المؤتمر الدستوري، وصياغة القانون الأساسي، واحترام استقلال القضاء، وقيادة القوات المسلحة من قبل العراقيين، وانتخاب هيئة من قبل الشعب لصياغة الدستور، واسلوب تعيين وليس انتخاب اعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية، والتزام المعايير اللازمة للمرشحين الذين ثبت أن الكثير منهم إما أنهم لا يحملون الشهادة الدنيا المطلوبة، أو أنهم يحملون شهادات مزورة، وأخيراً وهو الأهم عدم إعادة السيادة للعراقيين، فما زالت السيادة العراقية رهينة بيد المحتلين الأمريكيين وحلفائهم حتى اليوم.

461
أزمة الكِتاب في العالم العربي

حامد الحمداني                                                           16/3/2008

مما لاشك فيه أن أحد أهم المعايير لتطور وتقدم الشعوب في مختلف بلدان العالم يتمثل بمدى الاهتمام بالكتاب والمؤلف في هذا البلد أو ذلك، ونسبة عدد ونوعية ما يصدر من الكتب بالنسبة للبلدان الأخرى، وبشكل خاص الدول المتقدمة التي عادة ما تكون أكثر اهتماماً بالعلم والعلماء، وبما يصدر من كتب في مختلف المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية والأدبية.
وتعير هذه الدول شديد الاهتمام بالكتاب والمؤلفين والأدباء والشعراء والفنانين، لما يتمتعون به من منزلة كبيرة في المجتمع، وتقدم لهم مختلف أنواع الدعم المادي والمعنوي من أجل التفرغ، ومواصلة الجهود في أبحاثهم، مدركة أن تطور المجتمع منوط بما يكتسب المواطن فيها من علم وثقافة ومعرفة.
ومن المؤسف حقاً أن يجري في عالمنا العربي اليوم هذا النكوص الرهيب في هذا المجال ، وعزوف القراء عن القراءة، ويغدو الكتاب سلعة ثانوية في حياة المواطن العربي، ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين عدد ونوعية الكتب التي كانت تصدر في العالم العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وبين حالها اليوم لهالنا الأمر، ولتبين لنا هذا النكوص بشكل جلي مما يشكل ردة كبرى في المستوى الثقافي والاجتماعي والعلمي، إذا ما قيست بما جرى من تطور وتقدم في هذا المجال في الدول المتقدمة ، وهذا أمر في غاية الخطورة، ويتطلب المعالجة الحقيقية من قبل الحكومات العربية والمؤلفين ودور النشر جميعاً. فاليد الواحدة لا تصفق، ولا بد من تعاون الجميع من أجل دراسة معمقة لأزمة الكتاب العربي المستفحلة هذه الأيام.
ومن أجل إجراء دراسة جدية حقيقية، ووضع الخطوط العريضة لحملة واسعة النطاق في عالمنا العربي لاستعادة دور الكتاب، والنهوض بالمجتمع العربي، وانتشاله من وضعه الحالي يتطلب الوقوف على أسباب هذا النكوص من أجل التوصل إلى أنجع الطرق والأساليب التي نستعيد فيها دور الكتاب والمؤلف من جهة، وتقديم ما ينفع المجتمع العربي بوجه خاص، والمجتمع الإنساني بوجه عام ، ويساهم في تلاقح الحضارات، وتبادل المعرفة، والعمل المشترك من أجل خلق عالم أفضل ، عالم تسوده شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة منذ نصف قرن، والتي مع شديد الأسف لا تلقى الاحترام من قبل معظم الأنظمة العربية على الرغم من تصديق حكوماتها عليها.
إن المعالجة الجدية لازمة الكتاب العربي تتطلب تحقيق الأمور الأساسية التالية :
1 ـ الاهتمام الجدي والحقيقي من قبل الأنظمة العربية بمسألة الحرية والديمقراطية ، وفسح المجال واسعاً أمام الكتاب والمؤلفين للكتابة بكل حرية، ودون رقابة سوى رقابة الضمير، ورفع القيود على مختلف الكتب التي تدعو لتثبيت القيم الإنسانية، وتمجد الإنسان، وحقه في الحياة والحرية واكتساب المعرفة، وحرية انتقال الكتاب من وإلى العالم العربي، والكف عن سياسة عزل المجتع العربي عن محيطه الإنساني الواسع.

2 ـ  رفع هيمنة رجال الدين وتدخلهم الفض في حياة المؤلف، وتهديده بمختلف الأشكال والأساليب بدعوى مخالفة الشريعة، وغيرها من الأمور البائسة الأخرى التي عفا عليها الزمن، كاتهام المؤلف بالكفر وتهديده بالقتل، كما جرى بالنسبة للعديد من الكتاب المعروفين في العالم العربي كالدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتورة نوال السعداوي والعديد غيرهم من الكتاب، والذين يستهدفون تنوير الشعوب العربية، وتشذيب الدين من الشوائب التي ألحقتها به المؤسسات الدينة، لا حرصاً على الدين، بل لتحقيق أهداف سياسية. ولا بد لي أن أشير هنا إلى قول المفكر الكبير الأمام محمد عبدو عندما قال بصراحة [ تسييس الدين يفسد الدين والسياسة معا] .

3 ـ ضرورة الاهتمام الجدي والحقيقي بالكتاب والمؤلفين من قبل الأنظمة العربية، والعمل على تأمين كل المستلزمات الضرورية المادية والمعنوية والحماية، ورفع مستواهم المعيشي بما يليق بهم وبعلمهم وثقافتهم، ودورهم في تنوير المجتع وتطوره ورقيه إلى مصافي الشعوب التي سبقتنا بمراحل طويلة.

4 ـ مسؤولية الأنظمة العربية في دعم الكتاب والمؤلف الذي يبذل عصارة جهده ويقضي معظم سنوات حياته في الانكباب على البحث والكتابة، ولا يستفيد من نتاجاته سوى القليل والقليل جداً، هذا إذا ما قلنا أن العديد مهم يخسرون من موردهم الضئيل في أغلب الأحوال، وهناك العديد من الكتاب الذين بقيت كتبهم مخطوطة دون أن تتاح لهم الفرصة لطبعها بسبب الكلفة العالية للطباعة، واستئثار دور النشر والتوزيع بجهود وأتعاب الكاتب.

5 ـ إلاء الاهتمام من قبل الأنظمة العربية بالكتب الجيدة، وتولي طباعتها على حسابها مع تقديم مكافئة جيدة تتناسب وأهمية الكتاب، من أجل تشجيع الكتاب والمؤلفين على مواصلة العمل في مجال البحث والتأليف، والحد من نشر الكتب الرخيصة التي باتت اليوم هي الكتب السائدة في سوق الكتب والتي يعرفها الجميع.

6 ـ معالجة مسألة السطو على جهد الكتاب والمؤلفين، ووضع القوانين صارمة لمعاقبة الذين يمارسون السرقة الأدبية والعلمية، وهناك دور نشر قد مارست السرقة، وطباعة الكتب للعديد من الكتاب  من دون موافقتهم ، وهذا ما حصل لي شخصياً حيث جرى طبع احد كتبي في أحدى دور النشر في بغداد من دون علمي، ودون أن أستطيع أن أقاضي دار النشر بسبب الوضع الأمني في العراق وفقدان القانون.

7 ـ أن أهم جانب في نشر وتوزيع الكتاب على نطاق واسع يتعلق بالوضع المعيشي البائس للأغلبية الساحقة من المجتمع العربي، الذي بات لا يفكر إلا في تأمين لقمة العيش، حتى بات الكتاب سلعة كمالية بعيدة المنال بالنسبة لهم، وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين عدد قراء الكتب في المجتمعات المتقدمة والمجتمع في عالمنا العربي لهالنا الأمر، ففي المجتمع الأوربي على سبيل المثال يندر أن لا تقتني العائلة الكتب باستمرار معتبرة إياها غذاء ضرورياً كضرورة الطعام لحياة الانسان، وهذا يتطلب من الأنظمة العربية معالجة مشاكل البطالة والفقر التي تنخر بالمجتمع العربي، على الرغم من الموارد الهائلة لمعظم دول العالم العربي الغني بالنفط، وغيره من الثروات الأخرى ، ولقد هالني أن أشاهد، وشاهد العالم أجمع قبل أيام عبر أجهزة التلفزة كيف يبحث المواطنون العراقيون الفقراء في القمامة عن فضلات الغذاء ليسدوا بها رمقهم ورمق أطفالهم في بلد يطفو على بحر من النفط الذي جاوز سعر البرميل الواحد منه 102 دولار ، فكيف يفكر هذا الإنسان بشراء الكتاب ؟؟
إن مسؤولية الحكومات العربية تجاه شعوبها تقتضي الإسراع بمعالجة مشكلة البطالة والجوع والفقر والأمراض، ورصد الأموال اللازمة للنهوض بمستوى معيشة شعوبهم، فثروات البلاد هي ملك للشعوب، وليست ملكاً للحكام.

                الباحث
          حامد الحمداني
عضو الاتحاد العام لكتاب السويد

462
حرب الخليج الثالثة
الحلقة 11
مجلس الأمن  يشرعن الاحتلال
الأمريكي للعراق
حامد الحمداني                                                                14 /3/2008
                                                                 
بعد أن تسنى للإدارة الأمريكية إسقاط نظام صدام، واحتلال العراق وتعيين بول بريمر حاكماً على البلاد، لجأت إلى ممارسة الضغط على مجلس الأمن الذي عارض بالأمس عملية الغزو لانتزاع قرار منه لشرعنة الاحتلال، وبالفعل استطاع الرئيس بوش تحقيق هذا الهدف بصدور القرار 1483 في 22 أيار/ مايو، والذي حدد الخطوط العامة لمستقبل العراق، وقد تضمن القرار مسائل عديدة كان أبرزها:
1 ـ اعتبار الولايات المتحدة دولة محتلة للعراق بصورة رسمية.
2 ـ رفع الحصار المفروض على العراق منذُ عام 1990.
3 ـ نزع أسلحة العراق ذات الدمار الشامل، والأسلحة التقليدية.
 4 ـ دعوة دول العالم والمنظمات لتقديم المساعدات للعراق.
5 ـ إنهاء المهام المرتبطة بأنشطة المراقبة والرصد التي يضطلع بها الأمين العام في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء.
6 ـ إنهاء العمل بقرار النفط مقابل الغذاء والدواء وإنشاء صندوق للتنمية في العراق يوضع في عهدة البك المركزي العراقي، مع استقطاع 5% من الموارد النفطية للتعويضات الناشئة عن غزو نظام صدام للكويت، ولخطورة هذا القرار على مصير العراق وضرورة مناقشته وجدت من الضروري أن أتناول نص القرار:
 مجلس الأمن: 
قرار رقم 1483 في 22 أيار /مايو 2003:                    .
إن مجلس الأمن، إذ يذكّر بجميع قراراته ذات الصلة السابقة، وإذ يؤكد من جديد سيادة العراق وسلامته الإقليمية، وإذ يؤكد من جديد أيضا أهمية نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتأكيد نزع سلاح العراق في نهاية المطاف، وإذ يشدد على حق الشعب العراقي في تحديد مستقبله السياسي بحرية والسيطرة على موارده الطبيعية، وإذ يرحب بالتزام كافة الإطراف المعنية بدعم تهيئة بيئة تمكّنه من القيام بذلك في اقرب وقت ممكن، وإذ يعرب عن تصميمه على ضرورة أن يحل اليوم الذي يحكم فيه العراقيون أنفسهم على وجه السرعة.                             .
وإذ يشجع الجهود التي يبذلها شعب العراق من اجل تشكيل حكومة تمثيلية استنادا إلى مبدأ سيادة القانون الذي كفل المساواة في الحقوق وأمام العدالة لجميع المواطنين العراقيين دونما اعتبار للأصل العرقي أو الدين أو نوع الجنس، وإذ يذكر، في هذا الصدد، بالقرار 1325 (2000) المؤرخ في 31 أكتوبر (تشرين الأول).2000                              .                                       
وإذ يرحب بالخطوات الأولى التي اتخذها الشعب العراقي في هذا الشأن، ويلاحظ في هذا الصدد بيان الناصرية الصادر في 15 ابريل / نيسان 2003 وبيان بغداد الصادر في 28 ابريل2003.                     .
وقد عقد العزم على أن تقوم الأمم المتحدة بدور حيوي في توفير الإغاثة الإنسانية، وإعادة بناء العراق، وإعادة إنشاء مؤسسات وطنية ومحلية للحكم التمثيلي.                            .
وإذ يلاحظ البيان الصادر في 12 ابريل 2003 عن وزارة المالية ومحافظي المصارف المركزية في مجموعة الدول الصناعية السبع الذي يسلّم فيه أعضاؤها بضرورة بذل جهود متعددة الإطراف للمساعدة في أعادة بناء العراق وتنميته، وبضرورة أن يقدم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المساعدة في هذه الجهود.                     .
وإذ يرحب أيضا باستئناف المساعدات الإنسانية ومواصلة جهود الأمين العام والوكالات المتخصصة الرامية لتوفير الغذاء والدواء لشعب العراق.                      .
وإذ يرحب بتعيين الأمين العام لمستشاره الخاص بشأن العراق.                .
وإذ يؤكد ضرورة المحاسبة على الجرائم والفظائع التي ارتكبها النظام العراقي السابق.                             
وإذ يشدد على ضرورة احترام التراث الأثري والتاريخي والثقافي والديني للعراق، ومواصلة حماية مواقع الآثار، والمواقع التاريخية والثقافية والدينية، والمتاحف والمكتبات والآثار.                     .
وإذ يلاحظ الرسالة المؤرخة 8 مايو/أيار 2003 الموجهة إلى رئيس مجلس الأمن من الممثلين الدائمين للولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية، وإذ يسلّم بالصلاحيات والمسؤوليات والالتزامات المحددة بموجب القانون الدولي المنطبق لهاتين الدولتين، بوصفهما دولتين قائمتين بالاحتلال تحت قيادة موحدة السلطة. وإذ يلاحظ كذلك أن دولا أخرى ليست دولا قائمة بالاحتلال تعمل الآن أو قد تعمل في المستقبل تحت السلطة.                                         .
وإذ يوجب كذلك برغبة الدول الأعضاء في المساهمة في الاستقرار والأمن في العراق عن طريق المساهمة بأفراد ومعدات وموارد أخرى تحت السلطة.                                 .
وإذ يساوره القلق لان كثيرا من الرعايا الكويتيين والرعايا التابعين لدول ثالثة لا يزال مصيرهم غير معروف منذ 2 أغسطس/آب1990.                    .                                                                                     
وإذ يقرر أن الوضع في العراق لا يزال، رغم تحسنه يشكّل تهديدا للسلام والأمن الدوليين.                                     
وإذ يتصرف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة:             .
1ـ يناشد الدول الأعضاء والمنظمات المعنية أن تقدم المساعدة لشعب العراق في جهوده الرامية إلى إصلاح مؤسساته، وإعادة بناء بلده، وان تساهم في تهيئة ظروف الاستقرار والأمن في العراق وفقا لهذا القرار.                                    .
2ـ يطلب إلى جميع الدول الأعضاء التي هي في وضع يسمح لها بتلبية النداءان الإنسانية التي توجهها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية من اجل العراق والمساعدة في تلبية الاحتياجات الإنسانية وغيرها للشعب العراقي، آن تقوم بذلك على الفور من خلال توفير الغذاء واللوازم الطبية والموارد اللازمة لإعادة بناء وإصلاح الهياكل الأساسية الاقتصادية في العراق.                                     .
3ـ يناشد جميع الدول الأعضاء عدم منح ملاذ آمن لأعضاء النظام العراقي السابق الذين يزعم أنهم يتحملون المسؤولية عن ارتكاب جرائم وفظائع ودعم الإجراءات الرامية إلى تقديمهم للعدالة.                                    .
4ـ يطلب من السلطة أن تعمل، بما ينسق مع ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية الأخرى ذات الصلة، على تحقيق رفاه الشعب العراقي عن طريق الإدارة الفعالة للإقليم، بما في ذلك بصفة خاصة العمل على استعادة الأحوال التي يتوافر فيها الأمن والاستقرار، وتهيئة الظروف التي يمكن فيها للشعب العراقي أن يقرر بحرية مستقبله السياسي.
5ـ يطلب من جميع الجهات المعنية أن تتقيد تقيدا تاما بالتزاماتها بموجب القانون الدولي بما في ذلك بصفة خاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وقواعد لاهاي لعام1907.       .                     
6 ـ يطلب إلى السلطة والمنظمات والأفراد ذوي الصلة مواصلة بذل الجهود من اجل القيام بما لم يقم به النظام العراقي السابق، من تحديد لأماكن جميع الرعايا الكويتيين والرعايا التابعين لدول ثالثة الذين كانوا موجودين في العراق في 2 أغسطس 1990 أو بعده، والتعرف عليهم وإعادتهم إلى أوطانهم، أو تحديد أماكن رفاتهم والتعرف عليها وإعادتها إلى أوطان أصحابها، وكذلك المحفوظات الكويتية. ويوعز، في هذا الصدد، إلى المنسق الرفيع المستوى أن يتخذ، بالتشاور مع لجنة الصليب الأحمر الدولية واللجنة الثلاثية، وبدعم مناسب من شعب العراق وبالتنسيق مع السلطة، الخطوات اللازمة للوفاء بولايته فيما يتعلق بمصير المفقودين من الرعايا الكويتيين والرعايا التابعين لدول ثالثة وممتلكاتهم.
7ـ يقرر أن تتخذ جميع الدول الأعضاء الخطوات المناسبة لتيسير العودة السالمة إلى المؤسسات العراقية للممتلكات الثقافية العراقية والأشياء الأخرى ذات الأهمية الأثرية والتاريخية والثقافية وذات الأهمية العلمية النادرة، وذات الأهمية الدينية، التي أخذت بصورة غير قانونية من المتحف الوطني العراقي، والمكتبة الوطنية، ومن مواقع أخرى في العراق منذ اتخاذ القرار 661 (1990) المؤرخ 6 أغسطس 1990، بما في ذلك عن طريق فرض حظر على الاتجار بهذه الأشياء أو نقلها وكذلك الأشياء التي من المعقول الاشتباه في أنها أخذت بصورة غير قانونية، ويطلب إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والمنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الانتربول)، والمنظمات الدولية الأخرى، حسب الاقتضاء، المساعدة في تنفيذ هذه الفقرة.                       .             
8ـ يطلب إلى الأمين العام تعيين ممثل خاص للعراق تشمل مسؤولياته المستقلة تقديم تقارير منتظمة إلى المجلس عن أنشطته بموجب هذا القرار، وتنسيق أنشطة الأمم المتحدة في عمليات ما بعد انتهاء الصراع في العراق، والتنسيق فيما بين وكالات الأمم المتحدة والوكالات الدولية المشاركة في أنشطة المساعدة الإنسانية، وأنشطة إعادة البناء في العراق وتقديم المساعدة لشعب العراق، بالتنسيق مع السلطة، عن طريق ما يلي:              .
 أ ـ تنسيق المساعدات التي تقدمها بين وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية للأغراض الإنسانية وإغراض إعادة البناء.              .
ب ـ وتشجيع العودة الآمنة والمنظمة والطوعية للاجئين والمشردين.              .
ج ـ والعمل بصورة مكثفة مع السلطة ومع شعب العراق، والجهات المعنية الأخرى لتعزيز الجهود المبذولة لاستعادة وإنشاء المؤسسات الوطنية والمحلية اللازمة للحكم التمثيلي، بما في ذلك العمل الجماعي من اجل تيسير العملية التي تقضي بقيام حكومة تمثيلية معترف بها دوليا في العراق.                                     .
د ـ وتيسير إعادة بناء العناصر الرئيسية للهياكل الأساسية، بالتعاون مع المنظمات الدولية الأخرى.                           .
هـ ـ وتشجيع عملية إعادة بناء الاقتصاد وتهيئة الظروف اللازمة للتنمية المستدامة، عن طريق التنسيق مع المنظمات الوطنية والإقليمية، حسب الاقتضاء، ومع المجتمع المدني، والجهات المانحة، والمؤسسات المالية الدولية.                             .
و ـ وتشجيع الجهود الدولية الرامية إلى المساهمة في المهام الأساسية للإدارة المدنية.                                     
ز ـ وتعزيز حماية حقوق الإنسان.                            .
ح ـ وتشجيع الجهود الدولية الرامية إلى إعادة بناء قدرات قوة الشرطة المدنية العراقية.                                    .
ط ـ وتشجيع الجهود الدولية الرامية إلى تعزيز الإصلاح القانوني والقضائي.          .
9 ـ يؤيد قيام شعب العراق، بمساعدة السلطة وبالعمل مع الممثل الخاص، بتكوين إدارة مؤقتة عراقية بوصفها إدارة انتقالية يسيرها العراقيون، إلى أن ينشئ شعب العراق حكومة تمثيلية معترف بها دوليا وتتولى مسؤوليات السلطة.                                   .
10 ـ يقرر ألا تسري بعد الآن جميع تدابير الحظر المتصلة بالتجارة مع العراق وبتقديم الموارد المالية أو الاقتصادية للعراق، والمفروضة بموجب القرار 661 (1990) أكتوبر 1992، وذلك باستثناء تدابير الحظر المتصلة ببيع الأسلحة أو الاعتدة ذات الصلة بالعراق أو تزويده بها، فيما عدا الأسلحة الاعتدة ذات الصلة التي تحتاجها السلطة لخدمة أغراض هذا القرار والقرارات الأخرى ذات الصلة.                    .
11 ـ يؤكد من جديد ضرورة أن يلبي العراق التزاماته بشأن نزع السلاح، ويشجع المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية إلى إبقاء المجلس على علم بأنشطتهما في هذا الشأن، ويشدد على اعتزام المجلس العودة إلى النظر في ولايات لجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش، والوكالة الدولية للطاقة الذرية كما ترد في القرارات 687 (1991) المؤرخ 3 ابريل 1991، و1284 (1999) المؤرخ 17 ديسمبر (كانون الأول) 1999، و1441 (2002) المؤرخ 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2002.                  .
12 ـ يشير إلى إنشاء صندوق تنمية للعراق، يوضع في عهدة المصرف المركزي للعراق، ويقوم بمراجعة حساباته محاسبون عموميون مستقلون يقرهم المجلس الدولي للمشورة والمراقبة لصندوق التنمية للعراق، ويتطلع إلى عقد اجتماع مبكر للمجلس الدولي للمشورة والمراقبة. ومن بين أعضائه ممثلون مؤهلون على النحو الواجب للأمين العام، وللمدير الإداري لصندوق النقد الدولي، وللمدير العام للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ولرئيس البنك الدولي.                            .
13 ـ يشير كذلك إلى أن أموال صندوق التنمية للعراق تصرف بتوجيه من السلطة، بالتشاور مع الإدارة المؤقتة العراقية، للأغراض المبينة في الفقرة 14 أدناه.               .                                 
14 ـ يشدد على أن يستخدم صندوق التنمية للعراق على نحو شفاف لتلبية الاحتياجات الإنسانية للشعب العراقي، ومن أجل إعادة بناء الاقتصاد وإصلاح الهياكل الأساسية للعراق، ومواصلة نزع سلاح العراق، وتغطية تكاليف الإدارة المدنية العراقية، وللأغراض الأخرى التي تعود بالفائدة على شعب العراق.                          .
15 ـ يطلب إلى المؤسسات المالية الدولية مساعدة شعب العراق في إعادة بناء اقتصاده وتنميته وتيسير تقديم المساعدة من جانب مجتمع المانحين بنطاقه الأوسع، ويرحب باستعداد المقرضين، بما في ذلك نادي باريس، التماس التوصل إلى حل لمشاكل الديون الكبيرة للعراق.                                                   .
16 ـ يطلب إلى الأمين العام أن يوصل، بالتنسيق مع السلطة، مباشرة المسؤوليات المنوطة به بموجب قراري مجلس الأمن 1472 (2003) المؤرخ 28 مارس (آذار) 2003 و1476 (2003) المؤرخ ابريل (نيسان) 2003، لفترة ستة اشهر عقب اتخاذ هذا القرار، وان ينهي، في غضون هذه الفترة الزمنية، على نحو فعال من حيث التكاليف، العمليات الجارية «لبرنامج النفط مقابل الغذاء» (البرنامج)، على كل من صعيد المقر وفي الميدان، مع نقل المسؤولية عن إدارة أي نشاط متبق في إطار البرنامج إلى السلطة، بما في ذلك اتخاذ التدابير اللازمة التالية:                                             .
 أ ـ تيسير القيام في اقرب وقت ممكن بشحن السلع المدنية ذات الأولوية، كما يحددها الأمين العام والممثلون الذين يعينهم، بالتنسيق مع السلطة والإدارة المؤقتة العراقية، بموجب عقود تمت الموافقة عليها وممولة سبق أن أبرمتها حكومة العراق السابقة، للإغاثة الإنسانية لشعب العراق، وإيصال تلك السلع بصورة مؤنقة، بما في ذلك، حسب الضرورة، التفاوض على إجراء تعديلات من حيث شروط هذه العقود وخطابات ائتمان كل منها كما يرد في الفقرة 4 (د) من القرار 1472 (2003).                                 .
ب ـ القيام، في ضوء الظروف المتغيرة، بالتنسيق مع السلطة والإدارة المؤقتة العراقية، باستعراض الفائدة النسبية لكل عقد تمت الموافقة عليه وممول بغية تحديد ما إذا كانت هذه العقود تتضمن أصنافا تلزم لتلبية احتياجات شعب العراق، الآن وأثناء إعادة البناء، وإرجاء اتخاذ قرار بشأن العقود التي يتقرر أن فائدتها موضع تساؤل، وخطابات الائتمان المعنية حتى تصبح هناك حكومة تمثيلية للعراق معترف بها دوليا، في وضع يتيح لها اتخاذ قراراتها الخاصة بشأن الوفاء بهذه العقود.                                .
ج ـ تقديم ميزانية تشغيل تقديرية إلى مجلس الأمن في غضون 21 يوما من اتخاذ هذا القرار، كي يستعرضها مجلس الأمن وينظر فيها، وذلك على أساس الأموال المجنبة بالفعل في الحساب المنشأ عملا بالفقرة 8 (د) من القرار 986 (1995) المؤرخ 14 ابريل 1995،تحدد:                                        .
1 ـ جميع التكاليف المعروفة والمسقطة للأمم المتحدة اللازمة لكفالة مواصلة الاضطلاع بالأنشطة المرتبطة بتنفيذ هذا القرار، بما في ذلك مصاريف التشغيل والمصاريف الإدارية المرتبطة بوكالات وبرامج الأمم المتحدة ذات الصلة المسؤولة عن تنفيذ البرنامج في المقر وفي الميدان على السواء.                               .
2 ـ وجميع التكاليف المعروفة والمسقطة المرتبطة بإنهاء البرنامج.               .
3 ـ وجميع التكاليف المعروفة والمسقطة المرتبطة باستعادة أموال حكومة العراق التي قدمتها دول أعضاء إلى الأمين العام كما طلب في الفقرة 1 من القرار 778 (1992).                               
4 ـ وجميع التكاليف المعروفة والمسقطة المرتبطة بالممثل الخاص والممثل المؤهل للأمين العام المحدد للعمل في المجلس الدولي للمشورة والمراقبة، لمدة الأشهر الستة المحددة اعلاه، على أن تتحمل الأمم المتحدة هذه التكاليف بعد ذلك.                          .
د ـ توحيد الحسابات المنشأة عملا بالفقرتين 8 (أ) و8 (ب) من القرار 986 (1995) في حساب واحد.                                        .
هـ ـ الوفاء بجميع الالتزامات المتبقية المتصلة بإنهاء البرنامج، بما في ذلك التفاوض، بأكثر الطرق فعالية من حيث التكاليف، على أي مدفوعات تسوية يلزم دفعها من حسابات الضمان المنشأة عملا بالفقرتين 8 (أ) و8 (ب) من القرار 986 (1995)، مع الإطراف التي دخلت من قبل في التزامات تعاقدية مع الأمين العام في إطار البرنامج، والقيام، بالتنسيق مع السلطة والإدارة المؤقتة العراقية، بتحديد. الوضع المستقبلي للعقود التي تعهدت بها الأمم المتحدة ووكالات الأمم المتحدة ذات الصلة في إطار الحسابات التي أنشئت عملا بالفقرتين 8 (ب) و8 (د) من القرار 986 (1995).                          .                                     
و ـ تقديم استراتيجية شاملة لمجلس الأمن، في غضون 30 يوما من إنهاء البرنامج، توضع بالتنسيق الوثيق مع السلطة والإدارة المؤقتة العراقية تؤدي إلى تسليم جميع الوثائق ذات الصلة ونقل كل مسؤولية تشغيلية عن البرنامج للسلطة.                                .
17 ـ يطلب كذلك إلى الأمين العام أن ينقل في اقرب وقت ممكن إلى صندوق التنمية للعراق بليون دولار من دولارات الولايات المتحدة من الأموال غير المرتبط بها في الحسابات المنشأة عملا بالفقرتين 8 (أ) و8 (ب) من القرار 986 (1995)، وان يعيد أموال حكومة العراق التي قدمتها الدول الأعضاء إلى الأمين العام على نحو ما تقتضيه الفقرة 1 من القرار 778 (1992)، ويقرر أن تنقل إلى صندوق التنمية للعراق في اقرب وقت ممكن جميع الأموال الفائضة في حسابات الضمان المنشأة عملا بالفقرتين 8 (أ) و8 (ب) و8 (د) و8 (و) من القرار 986 (1995)، بعد خصم جميع مصاريف الأمم المتحدة ذات الصلة المرتبطة بشحن العقود المأذون بها، والتكاليف التي تحملها البرنامج المحملة في الفقرة 16 (ج) اعلاه، بما في ذلك الالتزامات المتبقية.                      .
18 ـ يقرر أن ينهي اعتبارا من اتخاذ هذا القرار المهام المرتبطة بأنشطة المراقبة والرصد التي يضطلع بها الأمين العام في إطار البرنامج، بما في ذلك رصد تصدير النفط والمنتجات النفطية من العراق.                                      .
19 ـ يقرر إنهاء اللجنة المنشأة عملا بالفقرة 6 من القرار 661 (1990) في ختام فترة الأشهر الستة المطلوبة في الفقرة 16 اعلاه ويقرر كذلك أن تحدد اللجنة الأفراد والكيانات المشار إليهم في الفقرة 23 أدناه.                                               .
20 ـ يقرر أن تكون جميع صادرات العراق من مبيعات النفط والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي عقب تاريخ اتخاذ هذا القرار متفقة مع أفضل ممارسات السوق الدولية السائدة، وان يتولى مراجعة حساباتها محاسبون عموميون مستقلون مسئولون أمام المجلس الدولي للمشورة والمراقبة المشار إليه في الفقرة 12 اعلاه من اجل كفالة الشفافية، ويقرر كذلك أن تودع جميع العائدات الآتية من تلك المبيعات، باستثناء ما هو منصوص عليه في الفقرة 21 أدناه، في صندوق التنمية للعراق إلى أن يتم تشكيل حكومة عراقية تمثيلية معترف بها حسب الأصول.                                    .
21 ـ يقرر كذلك أن تودع نسبة 5 % من العائدات المشار إليها في الفقرة 20 اعلاه في صندوق التعويضات المنشأ وفقا للقرار 987 (1991) والقرارات اللاحقة ذات الصلة، وان يكون هذا المطلب ملزما لحكومة العراق التمثيلية المعترف بها دوليا المشكلة حسب الأصول وأي خلف لها، ما لم تقرر خلاف ذلك حكومة العراق التمثيلية المعترف بها دوليا، ومجلس إدارة صندوق الأمم المتحدة للتعويضات، ممارسة منه لسلطته على طرق كفالة تسديد المدفوعات في صندوق التعويضات.                           .
22 ـ يلاحظ أهمية إنشاء حكومة تمثيلية معترف بها دوليا في العراق واستصوب الإنجاز العاجل لإعادة هيكلة ديون العراق المشار إليها في الفقرة 15 اعلاه، ويقرر كذلك انه حتى 31 ديسمبر (كانون الأول) 2007، ما لم يقرر المجلس خلاف ذلك، تتمتع كميات النفط والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي التي منشؤها العراق، إلى أن تنتقل ملكيتها إلى المشتري الأصلي، بالحصانة من الدعاوى القانونية ضدها ولا تخضع لأي شكل من إشكال الحجز أو التحفظ أو التنفيذ وان تتخذ جميع الدول ما يلزم من خطوات في إطار النظام القانوني المحلي لكل منها لضمان هذه الحماية وان تتمتع العائدات والالتزامات الناشئة من بيعها، فضلا عن صندوق التنمية للعراق، بامتيازات وحصانان تعادل ما تتمتع به الأمم المتحدة عدا أن والامتيازات والحصانان المذكورة اعلاه لن تنطبق فيما يتعلق بأي إجراء قانوني يلزم فيه اللجوء إلى هذه العائدات أو الالتزامات للوفاء بمسؤوليته عن أضرار تفرض فيما يتصل بحادث بيئي يحدث بعد تاريخ اتخاذ هذا القرار، بما في ذلك الانسكاب النفطي.                .
23 ـ يقرر أن تقوم جميع الدول الأعضاء التي يوجد بها.            .
 أ ـ أموال أو أصول مالية أخرى أو موارد اقتصادية ملك لحكومة العراق السابقة أو الهيئات الحكومية أو المؤسسات أو الوكالات التابعة لها، الموجودة خارج العراق في تاريخ اتخاذ هذا القرار.             .
ب ـ أوأموال أو أصول مالية أخرى أو موارد اقتصادية أخرجت من العراق أو حصل عليها صدام حسين أو مسئولون كبار غيره في النظام العراقي السابق وإفراد أسرهم الاقربون، بما في ذلك الكيانات التي يمتلكها أو يسيطر عليها، بضرورة مباشرة أو غير مباشرة، هؤلاء الأشخاص أو أشخاص يتصرفون بالنيابة عنهم أو بتوجيه منهم.        .
بتجميد تلك الأموال أو الأصول المالية الأخرى أو الموارد الاقتصادية، دون إبطاء، وان تعمل على الفور على نقلها إلى صندوق التنمية للعراق. ما لم تكن تلك الأموال أو الأصول المالية الأخرى أو الموارد الاقتصادية هي ذاتها موضوع حجز أو قرار قضائي أو إداري أو تحكيمي، على أن يكون مفهوما انه يجوز توجيه المطالبات التي يقدمها الأفراد أو الكيانات غير الحكومية بشأن تلك الأموال أو الأصول المالية الأخرى إلى حكومة العراق التمثيلية المعترف بها دوليا، ما لم تعالج بطريقة أخرى، ويقرر كذلك أن تتمتع جميع تلك الأموال أو الأصول المالية الأخرى أو الموارد الاقتصادية بنفس والامتيازات والحصانان وأشكال الحماية المنصوص عليها في الفقرة 22.                    .
24 ـ يطلب إلى الأمين العام أن يقدم تقريرا إلى المجلس على فترات منتظمة عن عمل الممثل الخاص فيما يتعلق بتنفيذ هذا القرار وعن عمل المجلس الدولي للمشورة والمراقبة ويشجع المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية إلى إبلاغ المجلس على فترات منتظمة بجهودهما المبذولة بموجب هذا القرار.
25 ـ يقرر أن يستعرض تنفيذ هذا القرار في غضون اثني عشر شهرا من اتخاذه وان ينظر أن الخطوات الأخرى التي قد يلزم اتخاذها.                                 .
26 ـ يطلب إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية والإقليمية أن تساهم في تنفيذ هذا القرار.                        .
27 ـ يقرر أن يبقي هذه المسألة قيد نظره. (8)

نظرة في القرار1483:
كان اخطر بند ورد في القرار اعتبار العراق بلداً محتلاً من جانب الولايات المتحدة بصورة رسمية وشرعية، حيث منحها سلطة الاحتلال، وقد ترتب على المحتلين مسؤولية حفظ الأمن والنظام العام في البلاد، وحماية أمن المواطنين وحقوقهم وحرياتهم، بموجب معاهدة جنيف التي حددت واجبات البلدان المحتلة تجاه شعوب البلدان التي تعرضت للاحتلال، وقد شكل هذا القرار تناقضاً صارخاً مع الأهداف المعلنة من قبل الرئيس الأمريكي بوش في تبريره للحرب عبر إنذاره الذي وجهه إلى دكتاتور العراق صدام قبل 48 ساعة من بدء الحرب، وكذلك عِبر الرسالة التي وجهها لشعب الولايات المتحدة وللعالم في بيانه بانتهاء الحرب، وسقوط نظام صدام، والتي أطلق عليها {حرب تحرير العراق}، مما يتعارض مع شرعنة الاحتلال بموجب هذا القرار.
ورغم مرور خمسة سنوات على احتلال العراق فإن قوات الاحتلال لم تستطع تحقيق الأمن والسلام في البلاد، وحماية أرواح المواطنين وحقوقهم وحرياتهم العامة وممتلكاتهم، بل على العكس من ذلك تدهور الوضع الأمني في البلاد بشكل رهيب، وتحول العراق إلى جحيم حقيقي لم يشهد له الشعب العراقي مثيلاً من قبل، نتيجة للأخطاء الفادحة التي ارتكبها الحاكم الأمريكي بول بريمر بترسيخ النظام الطائفي في البلاد، وفسح المجل واسعاً مع أحزاب قوى الإسلام السياسي للهيمنة على السلطة والمرافق العامة في البلاد من جهة، ومن جهة أخرى ارتكب بريمر خطأ جسيماً آخر في أسلوب التعامل مع منتسبي حزب البعث بإصدر قانون اجتثاث البعث، وفصلهم من أعمالهم ووظائفهم دون التفكير في مصير عوائلهم وأطفالهم بصورة شاملة، مما دفعهم إلى حمل السلاح، وارتكاب جرائم القتل والتدمير والتخريب على نطاق واسع في البلاد منذ سقوط النظام وحتى يومنا هذا.
لقد كان الواجب يقتضي فرز العناصر البعثية القريبة من نظام صدام والمنفذة لسياساته الإجرامية، وتقديمهم للمحاكمة لينالوا جزائهم العادل على الجرائم التي اقترفوها بحق الشعب والوطن، والتصدي للفكر الفاشي الشمولي، والعمل الجدي على كسب تلك العناصر البعثية الواسعة التي انتمت لحزب البعث لأسباب وظروف قاهرة، وإعادة تثقيفهم بالثقافة الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية التي نصت عليها شرعة حقوق الإنسان الدولية، بدل دفعهم لحمل السلاح ليس ضد الدولة فحسب، بل ضد المواطنين الأبرياء، وكان ينبغي أن يتعلم بريمر الدرس من الطريقة التي تعاملت بها السلطة في كردستان مع الميلشيات الكردية التي تعاونت مع نظام صدام ضد أبناء جلدتهم، وكسبتهم إلى جانبها، مما جنبهم الصراع المرير معها والذي كان سيؤدي بمنطقة كردستان من كوارث تماما كما حل في بقية أجزاء العراق.
إن اجتثاث البعث أمر مستحيل، غير أن التصدي للفكر البعثي الفاشي والشمولي أمر ممكن وواجب، وليس الفكر البعثي الفاشي وحده بل الفكر الطائفي العدواني الذي لا يقل خطراً على المجتمع عن الفكر الفاشي الشمولي.
وبفقدان الأمن والسلام في البلاد وتصاعد النشاط الإرهابي فقد بات من المتعذر تنفيذ جميع الفقرات التي وردت في القرار، فيما يخص إعادة بناء البنية التحية للاقتصاد العراقي المنهار، واستحالة استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية للمشاريع الاستثمارية الملحة، وتقديم المساعدات الاقتصادية لانتشال الشعب العراقي من وضعه الكارثي، ذلك أن مفتاح إعادة البناء يتطلب ظروف أمنية شاملة في البلاد.


463
حرب الخليج الثالثة
الحلقة العاشرة
الإدارة الأمريكية تقرر الحكم المباشر للعراق
حامد الحمداني                                                        11 / 3 /  2008

أولاً: بوش يعين الجنرال جي كاردنر حاكما على العراق:

فور إعلان الرئيس الأمريكي بوش انتهاء العمليات الحربية في العراق أصدر قرارا بتعيين الجنرال المتقاعد [جي كاردنر] حاكماً عسكريا مؤقتاً على العراق بحجة إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في البلاد.
وكان كاردنر قد قدم  للرئيس بوش اقتراحاً  بتقسيم العراق إلى ثلاث ولايات هي بغداد والموصل والبصرة، ويتولى مسؤولية إدارة كل ولاية من هذه الولايات موظف أمريكي، وتعيين مجلس استشاري له من العراقيين دون أن  يتمتع المجلس بصلاحيات تنفيذية.
كما اقترح كاردنر إن تتولى إدارة بغداد[ باربارة بودين] السفيرة السابقة للولايات المتحدة الأمريكية في اليمن، كما يتولى الجنرالان المتقاعدان [بروس مور] و[باك والتزر] مسؤولية إدارة ولايتي البصرة والموصل. (1)                                                  .
 وقد ووافقت الإدارة الأمريكية علي مقترح الجنرال غاردنر في بادئ الأمر، إلا أنه جرى صرف النظر عن تنفيذ اقتراح كاردنر بعد إن لقي قرار تعيين الجنرال كاردنر حاكماً عسكرياً على العراق من قبل الشعب العراقي وسائر القوى السياسية معارضة شديدة، وعليه قرر الرئيس بوش إبدال الحكم العسكري المباشر بحكم تحت غطاء مدني، حيث أصدر بعد أسبوعين من تعيين كاردنر قراراً بتعيين السفير السابق [بول بريمر] حاكما على العراق.

ثانيا: بوش يعيّن بول بريمر حاكما مدنياً على العراق:

عندما عين الرئيس الأمريكي بوش الجنرال المتقاعد[جي كاردنر] حاكماً مؤقتاً على العراق كان الاعتقاد السائد لدى كل من وضع كامل ثقته في السياسة الأمريكية أن يكون هذا التعيين لفترة زمنية محدودة، ريثما يتم إعادة الأمن والنظام العام في البلاد، بعد انهيار كافة مؤسسات الدولة، ليتم فيما بعد تعيين حكومة عراقية مؤقتة لفترة انتقالية ريثما تهيئ الشعب العراقي لدخول مرحلة الديمقراطية التي وعد بها الرئيس بوش آنذاك، ولم يدر في خلدهم أن يمارس الرئيس بوش الضغوط على مجلس الأمن لإصدار قرارا يُشرعنُ الاحتلال، واعتبار الولايات المتحدة دولة محتلة للعراق، ويعين الدبلوماسي الأمريكي [بول بريمر] حاكماً عاماً على العراق.
لقد كان الأجدر بالرئيس بوش أن يشكل فوراً حكومة تنكوقراط من العناصر الديمقراطية العلمانية المشهود لها بالكفاءة والنزاهة مدعومة من القوات المتعددة الجنسيات لكي تثبت للعراقيين بأن الولايات المتحدة لا ترمي إلى حكم العراق سواء كان ذلك عن طريق الحكم المباشر كما فعلت عندما عين الرئيس بوش حاكماً أمريكيا، ولا عن طريق غير مباشر، كما فعلت بريطانيا عندما أقامت النظام الملكي بعد ثورة العشرين، وجاءت بالأمير فيصل أبن الحسين ملكاً على العراق ، لكنها قيدت العراق بقيود معاهدات جائرة، وحكمت العراق من وراء الستار حتى قيام ثورة 14 تموز، حيث تشكلت لأول مرة حكومة عراقية دون تدخل السفارة البريطانية. لكن بوش اختار الحكم الأمريكي المباشر للعراق بتعينه [ بول برايمر] حاكماً على العراق.
من هو الحاكم بول بريمر؟
  بول بريمر دبلوماسي أمريكي محترف شغل خلال ثلاثة عقود مناصب رفيعة عدة، فقد عمل رئيساً لمستشاري وزير الخارجية السابق [هنري كيسنجر]، كما عمل كسفير مفوض في قسم مكافحة الإرهاب، في عهد الرئيس [ رونالد ريغان ]، وتنقل بحكم وظيفته تلك إلى عواصم العديد من دول الشرق الأوسط ، باستثناء العراق. كما خدم هو زوجته [فرانسي] في السفارة الأمريكية في أفغانستان لمدة طويلة، لكنه ترك العمل الدبلوماسي، وعمل في القطاع الخاص، حيث أشرف على قسم إدارة الأزمات في شركة أمريكية ضخمة تدعى [مارش وماكلنان]، وفجأة استدعاه الرئيس بوش ليعينه حاكماً مدنياً على العراق خلفاً للجنرال كاردنر. (2)
 وصل بول بريمر إلى بغداد في الثاني عشر من أيار ليتولى منصبه الجديد، يرافقه نائبه المعين [كانكلاي مكمنوي]، وهو سفير آخر متقاعد، وأحد أصدقائه القدامى بالإضافة إلى مستشاره[هيوم  هوران] وهو سفير سابق  كذلك، وأحد المختصّين بالثقافة العربية، في وزارة الخارجية، وقد أمضى جلّ حياته المهنية في الشرق الأوسط. (3)
                                                             
 ثالثاً: بول بريمر يقرر حل الجيش والأجهزة الأمنية:

كان أول قرار اتخذه بول بريمر، بعد المشاورات التي أجراها مع وزير الدفاع الأمريكي [رامسفيلد ] وبموافقة الرئيس بوش، هو حل الجيش العراقي وكافة الأجهزة الأمنية، وإلغاء وزارة الدفاع، و وزارة الإعلام، وكان ذلك القرار الكارثي من أعظم الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية، وهذا ما أكده  الجنرال [جيمس كونواي] قائد قوات المارينز الأمريكية الذي صرح لشبكة US News بتاريخ 18آذار 2007 قائلاً: {إن الخطأ الأكبر الذي تم ارتكابه في العراق يبقى قرار تفكيك وحل الجيش العراقي، حيث أن تداعياته السلبية لا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم. وأضاف قائلاً لقد كان الجيش العراقي المؤسسة الأكثر احتراما في البلاد، كما أن مساعدته لنا كانت أساسية في مجال التخطيط الأمريكي ما قبل الحرب لجهود إعادة البناء في العراق، لكن بعد حل وتفكيك الجيش العراقي تحول عناصره السابقون إلى أعداء سواء لقوات الأمن العراقية أو القوات الأمريكية}. (4)

كان الأجدر بالإدارة الأمريكية أن تطلب من كافة أفراد الجيش ضباطاً وحنوداً الالتحاق بمعسكراتهم فورا بإشراف القيادة الأمريكية، ومن ثم تجري دراسة أضابير كبار ضباط الجيش، وتتخذ الإجراءات المناسبة بمن كان على صلة وثيقة بالنظام  بإحالتهم على التقاعد، و بتكليف  الآخرين بوظائف مدنية، وإعادة تثقيف منتسبي الجيش بالفكر الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة حقوقه وحرياته المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان، وإبعاد الجيش والأجهزة الأمنية عن أي نشاط حزبي لكي يكون ولاءهم للعراق بشكل مطلق. 

لقد ألقى قرار حل الجيش المتسرع بأكثر من نصف مليون ضابط وجندي في قارعة الطريق، من دون التفكير في الوضع المعيشي لهم ولعوائلهم، ودون التفكير في عواقب هذا القرار على مستقبل الوضع الأمني في العراق، حيث تحول قطاع كبير من ذلك الجيش نحو حمل السلاح باسم مقاومة الاحتلال، لكنه سرعان ما  تحول إلى عمليات إرهابية موجهة ضد المواطنين وقوات الأمن العراقية حيث تفجير السيارات المفخخة والعبوات المزروعة في الطرق والشوارع والأحزمة الناسفة والإرهاب والخطف والابتزاز والاغتصاب والقتل الذي اقض مضاجع الشعب العراقي، والذي دفع ولا يزال يدفع حتى اليوم ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، حيث تزهق الأعمال الإرهابية أرواح المئات من المواطنين الأبرياء كل يوم .

ويشير الحاكم المدني الأمريكي بريمر في مذكراته عن قرار حل الجيش قائلاً:
{في التاسع من مايو 2003، أي قبل يوم واحد من مغادرتنا الولايات المتحدة إلى العراق، أرسلت مذكرة إلى وزير الدفاع [دونالد رامسفيلد] ونسخة منها إلى [بول ولفوويتز] وعدد آخر من المسؤولين في الوزارة لخصت ما دار من النقاشات مع رفاقي حول الإجراءات الضرورية، التي تنتظرنا، وخلصت إلى ضرورة حل جيش صدام وأجهزته الأمنية كمقدمة لأنشاء جيش وجهاز امني جديد، وأرفقت بالمذكرة مسودة قرار بذلك،  وعقدت جلسة أخرى لمناقشة الموضوع مع المستشارين [وولت] و[كلاي] واستمر النقاش لأيام، وأكملنا النقاش حول الموضوع مع مسؤولي البنتاغون، بما فيهم وكيل الوزارة [دوغلاس فيث] وكتبت إلى رامسفيلد قائلاً :
{ دعنا أولا نكون واضحين بشأن ما نريد تحقيقه، أنه لأمر أساسي أن نقنع العراقيين بأننا لن نسمح بعودة أدوات القمع الصدامية كالبعث والمخابرات والجيش. فنحن لم نرسل قواتنا على بعد آلاف الأميال لإسقاط صدام، ووضع دكتاتور آخر مكانه، ولأنه كان يتعين علينا أن نأخذ التركيبة الطائفية في البلاد وتاريخها}. (5)

وهكذا بدأ بريمر يتحدث بأسلوب طائفي عن تكوين جيش جديد حيث يقول:
 {أن تشكيل جيش عراقي جديد ليس بالأمر السهل. إذ يجب أن يمثل الأمة بأسرها، وليس كما كان عليه الوضع بالنسبة لجيش صدام، الذي كان غالبية ضباطه من السنة، وكان صدام هو الذي يقوم بإسناد المناصب العليا فيه لمن يشاء، أما الجنود والرتب الدنيا فكانت من الشيعة}. (6) 
 ثم يمضي بريمر في رسالته إلى رامسفيلد قائلاً:
{بينما كنت أناقش المستشار [سلوكومب] حول موضوع الجيش، اتفقنا على عدم استدعاء الجيش القديم الذي كان يخضع لهيمنة السنة، لأن ذلك سيثير حفيظة الغالبية الشيعية، وسوف يعتبرونه عودة للصدامية دون صدام، وكذلك عبّرَ قادة الحركة الكردية ،الذين يتمتعون بقدر من الحكم الذاتي،  عن تأييد قرار حل الجيش}!!. (7)

هكذا إذا بدأ بريمر فترة حكمه دكتاتوراً للعراق، والتي استمرت عاماً كاملا، باتخاذ القرارت التي صبت جميعها في إقامة نظام طائفي في البلاد، وترسيخه في عملية بناء السلطة العراقية الجديدة بدءاً من إقامة مجلس الحكم، مروراً بالانتخابات البرلمانية، وتشكيل الحكومات المتعاقبة، وإعداد الدستور الطائفي، وإعادة تشكيل الجيش الجديد، وقوات الشرطة والأجهزة الأمنية التي باتت ملغمة بالعناصر الطائفية المرتبطة بأحزاب وقوى الإسلام السياسي الطائفي، مما مهد السبيل إلى الاستقطاب الطائفي، وبالتالي الصراع المسلح الذي شهده العراق، والذي حصد وما زال يحصد أرواح مئات الألوف من المواطنين الأبرياء.
وفي نهاية المطاف أدركت الإدارة الأمريكية كم هي أخطأت بحق العراق والعراقيين، وبدأت تضغط على حكومة [نوري المالكي] لكي تعيد بناء الجيش والقوى الأمنية من جديد، وإعادة الألوف من عناصر وضباط الجيش العراقي السابق، وجانب كبير من الأجهزة الأمنية، بعد أن أعيتها الحالة الأمنية، وحدّتْ من قدراتها للسيطرة على الوضع الأمني في البلاد، ووقف نزيف الدم الذي أخذ يعصف بالجميع، رغم كل الإجراءات التي اتخذتها قوات الاحتلال، وقوات الجيش العراقي والأجهزة الأمنية لوقف نزيف الدم، وإعادة الأمن والسلام في ربوع البلاد، لكن كل تلك الجهود باءت بالفشل الذريع، بل على العكس من ذلك أخذ النشاط الإرهابي يتصاعد بوتائر عالية من حيث الكم والنوع رغم كل ما تملكه القوات الأمريكية من أسلحة متطورة، وخبرات قتالية عالية، وبدأت ارقام خسائرها البشرية بالتصاعد بشكل خطير لم تكن تتوقعه، ففي حين لم يتجاوز أعداد القتلى في صفوف قواتها خلال الحرب عن 300 ضابط وجندي، فإن ارقام القتلى بعد مرور 5 سنوات على نهاية الحرب قد جاوز 3983 قتيلا  حسب التصريحات الرسمية الأمريكية ، وعشرات الألوف من الجرحى، بالإضافة إلى التكاليف الباهضة للحرب والتي جاوزت 400 مليار دولار، وبات التواجد العسكري الأمريكي في العراق يشكل كابوساً رهيباً لجنودها، وقد أثار هذا التواجد قلقاً شديداً للكونكرس الأمريكي، حيث بدأ يطالب الديمقراطيون الذين يشكلون الأغلبية فيه، بالإضافة إلى بعض الجمهوريين بسحب القوات الأمريكية من العراق، بل لقد تعالت الأصوات المنادية باستقالة الرئيس بوش الذي اضطر بدوره إلى الطلب من وزير الدفاع [رامسفيلد] والعديد من طاقمه الاستقالة، وأجراء تغيرات واسعة في البنتاغون، وتشكيل لجنة من كبار مستشاريه لإعادة تقييم الوجود العسكري الأمريكي في العراق.

464
حرب الخليج الثالثة
الحلقة التاسعة

اختفاء الجيش وقوات الأمن والفوضى تعم البلاد
حامد الحمداني                                                         10 / 3 / 2008

لم تكن نتائج حرب الخليج الثالثة تقتصر على إسقاط نظام صدام حسين القمعي الذي نكل بالشعب أبشع تنكيل، بل أدت هذه الحرب إلى انهيار شامل لكل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، وفقدان الأمن والنظام العام، وانتشار عصابات الجريمة، بالإضافة إلى عصابات البعث في طول البلاد وعرضها، والتي عملت على تخريب وتدمير وسرقة وحرق كل ما وقع تحت أيديهم.
وكان القرار الكارثي الذي أصدره الحاكم المدني الأمريكي [بول بريمر] الذي عينه الرئيس الأمريكي بوش حاكماً على العراق بحل جهازي الجيش والشرطة قد فسح المجال لهذه الزمر لتمارس جرائمها بكل حرية دون أن تخشى الملاحقة، وجعلها تتمادى في جرائمها التي وصلت إلى حد الاعتداء على المواطنين الآمنين، واغتصاب ممتلكاتهم الشخصية، ولم يتورعوا حتى عن قتل الألوف منهم.
وهكذا وجد الشعب العراقي، الذي كان يعاني أشد المعانات من أوضاعه المعيشية السيئة، نفسه أمام معضلة أشد واخطر، إلا وهي فقدان الأمن الذي أصبح هاجسه الأول، وأصبح المواطنون يفكرون بالأمن قبل أن يفكروا بلقمة العيش.
وبسبب تلكأ قوات التحالف في ملاحقة وإلقاء القبض على أعوان النظام الذي تواروا عن الأنظار في بادئ الأمر خوفاً من الاعتقال، ومن العقاب  وجدوا بعد فترة زمنية قصيرة أنفسهم في مأمن من المطاردة والعقاب، فبدأوا يخرجون  إلى العلن، وأخذوا يمارسون أعمال التخريب والحرق للمؤسسات العامة، ثم تصاعدت جرائمهم التي تحولت إلى أساليب جديدة وخطيرة، حيث السيارات المفخخة، وإلقاء القنابل وزرع المتفجرات، وقتل المواطنين، ومهاجمة قوات الشرطة، بحجة مقاومة الاحتلال،  لكنهم في واقع الأمر كانوا وما زالوا يبغون من وراء أعمالهم الإجرامية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة سلطة النظام البعثي السابق بعد أن فقدوا كل الامتيازات التي تمتعوا بها في ظل ذلك النظام. 
وهكذا أدركت قوات التحالف، بعد أن أصابتها نيران هذه العصابات وأوقعت بأفرادها الخسائر الجسيمة، وما تزال حتى هذا اليوم، خطأ تقديراتهم، حيث بادرت إلى شن الحملات العسكرية لملاحقة واعتقال هذه الزمر التي تمتلك الخبرة العسكرية، والأسلحة الكثيرة التي وزعها النظام المسقط، والأموال الضخمة التي تمت سرقتها من قِبل النظام ، وفي أذهانهم حلم استعادة الفردوس المفقود !!.
لقد وقع الحاكم المدني بريمر بخطأ جسيم آخر عندما استهان بتلك القوى البعثية التي ظنها ضعيفة، ولا تشكل مصدر تهديد، لكن الحقيقة كانت على العكس من ذلك، فبعد فقدانها السلطة أصبحت تمثل خطراً حقيقياً على مستقبل العراق، وكان لابد للتصدي لها، وعدم إتاحة أي فرصة أمامها لإعادة تنظيم صفوفها، وتجميع قواها، مستفيدة من عملية حل الجيش والأجهزة الأمنية لتصعيد أعمالها الإجرامية.
وفي ظل تلك الظروف الصعبة فإن المشهد السياسي كان يتسم بالتعقيد، وتحف به المخاطرالكبيرة، حيث بدأت تظهر بوادر انقسامات واستقطاب بين سائر القوىالسياسية، وكل جهة تسعى للحصول على أكبر قسم من كعكة الحكم متجاهلين المخاطر المحدقة بالعراق من كل حدب وصوب، غير مدركين أن الجميع في سفينة واحدة، وأن غرقها يعني غرق الجميع. كان المشهد يعكس لنا أن هناك انقساماً واستقطاباً للقوى السياسية الفاعلة في أربعة اتجاهات:
الاتجاه الأول:
 ويضم القوى الإسلامية التي كانت تهدف إلى إقامة دولة إسلامية تتخذ من الشريعة أساساً لسن الدستور الجديد، وفي ذهنها أنها تمثل الأغلبية في البلاد، وأنها هي المؤهلة لحكم البلاد.
لكن هذه القوى ضمت تيارات مختلفة وطوائف متباينة، فهناك الطائفة الشيعية، والطائفة السنية، وتضم الطائفة الشيعية حزب الدعوة المنقسم على نفسه، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الفضيلة، والكتلة الصدرية التابعة لمقتدى الصدر، وحزب الله وغيرها من التنظيمات الشيعية الأخرى، وهذا الانقسام قاد بلا شك إلى التنافس وحتى الصراع المسلح بين هذه التيارات المختلفة هذا بالإضافة إلى التنافس بين التيار الإسلامي ككل والتيار العلماني من جهة أخرى، والذي يعمق من أزمة الحركة الوطنية، ويحد من نشاطها في استتباب الأمن والنظام العام، وإعادة بناء العراق، وإقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي يصون حقوق وحريات الشعب بمختلف قومياته وأديانه وطوائفه.

أما الطائفة السنية والتي كانت في ظل النظام السابق تهيمن على الحكم، والتي وجدت نفسها على حين غرة وقد فقدت سلطتها، فقد أصيبت بالصدمة وبدأت ترتب شؤونها من جديد يحدوها الأمل في لعب دور سياسي في ظل النظام الجديد، وبادرت إلى عقد مؤتمر يضم مختلف الاتجاهات السنية.
 وخرج علينا مؤتمرهم ببيان يعلن عن تأسيس ما سمي بـ [مجلس الشورى وأهل السنة ] ويضم الأخوان المسلمين والسلفيين وغيرهم من التجمعات الرجعيةالأخرى، وهو ما يشكل استقطاباً طائفياً، وهذا الاستقطاب أثار القلق في صفوف الشعب بعد أن تحول إلى صراع طائفي عنيف، مما تسبب في اعظم الأخطار على مستقبل العراق.
الاتجاه الثاني:
 وقد ضم القوى العلمانية واللبرالية واليسارية، وهذه القوى دعت إلى إقامة دولة ديمقراطية عصرية، وإلى سن دستور علماني يضمن الحقوق والحريات العامة والمساوات لسائر المواطنين بصرف النظر عن قوميتهم أو دينهم أو طائفتهم، وهذا الاتجاه يطمئن مصالح كافة فئات الشعب بكل أطيافهم.
لكن تنظيمات هذه القوى لم تكن تخلو من عناصر الضعف نتيجة القمع والتصفية المتواصلة التي تعرضت لها على أيدي الأجهزة الأمنية لنظام صدام، ومنعها من ممارسة أي نشاط سياسي في البلاد من جهة، ونتيجة  الاختلاف في التوجهات الاستراتيجية لكل حزب، وعدم استطاعتها إيجاد قواسم مشتركة فيما بينها لتشكيل جبهة سياسية موحدة تستطيع التأثير في مجريات الأحداث السياسية، وخاصة عندما جرت الانتخابات البرلمانية، وفي عملية إعداد الدستور.
 ورغم الدعوة التي أطلقتها ثلاث قوى سياسية هي الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الاشتراكي العربي مؤخراً لتشكيل جبهة سياسية ديمقراطية علمانية التي جاءت متأخرة جداً، وفي ظل ظروف بالغة الصعوبة حيث تسيطر اليوم قوى الإسلام السياسي على الساحة العراقية، وميليشياتها المسلحة تتحكم في الشارع العراقي، وفي سائر أجهزة الدولة من القمة حتى القاعدة. 
 كما أن تخلي قيادات الأحزاب القومية الكردية عن حلفائها الحقيقيين من الأحزاب العلمانية واليسارية واللبرالية بوجه خاص، وتحالفها مع قائمة الائتلاف التي ضمت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي قد ساهم بشكل أساسي في إضعاف تأثير هذه القوى، مما أتاح الفرصة لقوى الإسلام السياسي الشيعي أن تهيمن على البرلمان والسلطة في البلاد، ولعب دور بارز في إعداد الدستور وما حواه من مثالب تحمل في طياتها عوامل استمرار الصرع بين القوى السياسية .
الاتجاه الثالث:
وقد ضم هذا الاتجاه قوى الأحزاب القومية الكردية بقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني اللذان حكما منطقة كردستان العراق مناصفة منذ انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991 بحماية أمريكية بريطانية، واستطاع الحزبان، رغم الصراع والاقتتال الذي جري بينهما على السلطة والثروة لسنوات، أن يوحداً جهودهما من جديد بضغط من قبل الإدارة الأمريكية التي جمعت القطبين في واشنطن من أجل التنسيق معهما قبل شن حرب الخليج الثالثة التي انتهت بسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين، وقد استطاعت الحكومة الكردية خلال المدة مابين الحرب الخليج الثانية وحرب الخليج الثالثة التي دامت 12 عاماً ، إن ترتب شؤون الحكم في كردستان، وتنشئ قوات عسكرية كبيرة ساهمت في الحرب إلى جانب القوت الأمريكية، واستطاعت الحصول على أسلحة الفيلقين الثاني والرابع الذين كانا متمركزان على تخوم كردستان، عندما ألقت قوت هذين الفيلقين السلاح بعد اندحار نظام صدام ، وبذلك أصحبت قوة يحسب لها الحساب في تقرير مصير العراق، وخاصة بعد أن تحالفت مع قوى أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، مما مكنها من تحقيق أقصى ما يمكنها من المكاسب في السلطة، وفي تعزيز كيانها السياسي حتى باتت دولة مستقلة تمام الاستقلال ولا يعوزها غير الإعلان الرسمي الذي ينتظر الظرف الدولي المناسب لإعلانه. وهكذا تخلت القيادات الكردية عن حليفها الاستراتيجي السابق المتمثل بالحزب الشيوعي وسائر القوى الديمقراطية، وتخلت عن شعاراتها التي طالما كانت تنادي بها طيلة العقود الماضية، فالسياسة ليس لها مبادئ ، بل لها مصالح ومصالح فقط.
لقد وضعت كل هذه القوى والأحزاب السياسية كل بيضها في السلة الأمريكية، وتخلت عن شعاراتها في الحرية والديمقراطية وتحقيق الحياة الكريمة للشعب العراقي، ودخلت في العملية السياسية التي جرى ترتيبها على أيدي الحاكم المدني الأمريكي السيئ الصيت بول بريمر من دون أن تمارس السلطة الحقيقية في البلاد ، حيث بقيت الولايات المتحدة بقواتها المحتلة هي الحاكم الفعلي للبلاد حتى يومنا هذا، ولا احد يستطيع تحديد نهاية لهذا الاحتلال واستعادة العراق لسيادته واستقلاله الحقيقيين.

الاتجاه الرابع:
ويمثل القوى التي تم إسقاط حكمها في التاسع من نيسان والمتمثلة بحزب البعث المنحل، وفلول الرجعية التي ارتبطت مصالحها مع النظام الصدامي المباد، والتي فقدت تلك المصالح والامتيازات التي تمتعت بها لأربعة عقود على حساب بؤس وشقاء غالبية أبناء الشعب، وكذلك عناصر القاعدة التي حولت ساحة صراعها مع الولايات المتحدة إلى أرض العراق، والتي بدأت تمارس أعمالاً إجرامية في مختلف المدن العراقية من تفجير السيارات المفخخة، والأحزمة الناسفة، وزرع القنابل الموقوتة التي تودي بحياة الكثيرين من أبناء الشعب، وتبث الفزع والرعب في نفوسهم.
إن هذه القوى لعبت وما تزال دوراً خطيراً في الأحداث الجارية في البلاد، وتشكل تهديداً جدياً على مستقبل الديمقراطية، مما كان يستدعي من سائر القوى السياسية المؤمنة حقاً وصدقاً بالحرية والديمقراطية إدراك مدى هذه الخطورة، والتصدى لها بجبهة موحدة تمتلك برنامجاً مشتركاً تتفق عليه جميع القوى العلمانية، والليبرالية واليسارية كي لا يتعرض مستقبل العراق لمخاطر جسيمة.
إن هذه القوى تبدو اليوم أشد شراسة مما كانت في الحكم، وأن أبعاد خطرها على مستقبل البلاد ليس بالأمر الهين، وهو يتطلب تظافر كافة الجهود للتصدي لها، وقمع أي تحرك من قبلها في مهده، وهذه القوى تستمد القوة بلا أدنى شك من تفكك وتناحر واختلاف القوى والأحزاب السياسية فيما بينها، بدل أن تضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل المصالح الأخرى، لكي لا تضيّع فرصة ربما لا تجدها مرة أخرى لسنين طويلة.

الدور الأمريكي والبريطاني في المشهد السياسي العراقي:

وفي ظل هذا المشهد العراقي الذي نجده اليوم يبقى الدور الأكبر الذي تلعبه الولايات المتحدة في تحديد مستقبل العراق، ويخطئ من يظن أن الولايات المتحدة ستخرج خالية الوفاض من العراق بعد دفعت جيوشها وخاضت الحرب لإسقاط نظام صدام، وضحت بأرواح جنودها، ودفعت وما زالت تدفع تكاليف الحرب الباهضة، والتي جاوزت 400 مليار دولار بعد مرور 5 سنوات على هذه الحرب.
 إن العالم اليوم يعيش فترة العصر الأمريكي بلا أدنى شك، فهي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وبات على العالم أن يتعامل معها على هذا الأساس شاء أم أبى ، والعراق اليوم محتل من قبلها، وهي لن تخرج قواتها من العراق قبل أن تضمن، وبشكل دائمي، مصالحها فيه بإقامة نظام حكم يكون على ارتباط وثيق بها سياسياً واقتصاديا، وفي سائر المجالات الأخرى.، وسيمتد الوجود العسكري الأمريكي إلى أمد طويل.

ورغم إن الشعب العراقي يبتغي إقامة أفضل الروابط مع بلدان العالم أجمع، ومنها الولايات المتحدة، لكنه يشترط أن تكون العلاقة قائمة على أساس المصالح المشتركة، واحترام سيادة واستقلال العراق، وإن تحقيق هذا الأمر يتطلب وحدة القوى والأحزاب المؤمنة بعراقيتها كافة، واتفاقها على برنامج مستقبلي مشترك كي تشعر الولايات المتحدة بقوة تأثيرها وعدالة مطالبها في الحرية والاستقلال، وبناء عراق ديمقراطي مسالم ومزدهر يحقق الحياة الرغيدة للشعب الذي عانى من المصائب والويلات والإفقار خلال العقود الأربعة الماضية.
وأن أية محاولة من جانب الإدارة الأمريكية للاستمرار في حكم العراق من وراء الستار، واستمرار احتلاله لن يؤدي إلا إلى تصاعد أساليب الكفاح الشعبي من أجل التحرر واحترام سيادة البلاد، فالسيادة والاستقلال أمران لا يمكن التساهل بهما. وأن العلاقات المتكافئة والمصالح المشتركة هما السبيل الوحيد لاحتفاظ العراق بعلاقة جيدة ودائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
www.hamid-Alhamdany.com

465
حرب الخليج الثالثة
الحلقة الثامنة
الجيش العراقي يلقي سلاحه وسقوط نظام صدام

حامد الحمداني                                                                6/3/2008

بعد أن دخلت القوات الأمريكية العاصمة بغداد، وبعد هروب صدام حسين وأركان نظامه،  سارع أفراد الجيش  العراقي إلى إلقاء سلاحهم، وتواروا عن الأنظار، ولم يعد في أنحاء البلاد جيشاً، ولا قوات أمنية تحافظ على الأمن والنظام والممتلكات العامة والخاصة، فقد انهار كل شيء، مما تسبب في ترك البلاد في فراغ أمني خطير، وفي الوقت نفسه لم تقم القوات الأمريكية بواجبها باعتبارها قوة احتلال مسؤولة بموجب القانون الدولي عن حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم ، وحماية المؤسسات العراقية ودوائر الدولة،  وسائر الممتلكات العامة، ولم تعر أي اهتمام لهذا الواجب، فقد كان جُل اهتمامها الوصول إلى وزارة النفط فحسب وحمايتها ، تاركة البلاد في حالة من الفوضى لم يشهد لها الشعب العراقي من قبل، فقد انطلق آلاف اللصوص الذين أطلق صدام سراحهم قبيل نشوب الحرب، في الوقت الذي أعدم جميع السجناء السياسيين عن أخرهم، في حملة مسعورة لنهب كل ما يقع تحت أيديهم تحت سمع وبصر القوات الأمريكية دون أن تتخذ أي أجراء لحماية الممتلكات العامة والوزارات ودوائر الدولة وجميع البنوك بما فيها البنك المركزي، وفروعه، والمتحف العراقي الذي يضم أعظم ثروات البلاد التي لا تقدر بثمن، وتلك كانت جريمة كبرى يتحمل مسؤوليتها المحتلون الأمريكيون .
لم تبقَ مؤسسة صناعية أو خدمية إلا وسرقت، واحرق معظمها، فلا المستشفيات سلمت من السرقة ولا المدارس ولا دوائر التسجيل العقاري ، وخلاصة القول أن العراق أصبح بعد الاحتلال مباشرة أشبه بسفينة على وشك الغرق، وبات كل شئ فيه مباح للسراق، وقوات الاحتلال تراقب هذه الجرائم دون أن تفعل شيئا لوقفها، بل على العكس من ذلك سارعت الولايات المتحدة إلى إصدار قرار بحل الجيش العراقي، والشرطة وسائر الأجهزة الأمنية لكي تفسح المجال واسعاً أمام عصابات الأجرام لسرقة كل ما تقع عليه أياديهم الآثمة.
كما أن قوات الاحتلال لم تتابع اعتقال أعوان نظام صدام الذين ارتكبوا من الجرائم بحق الشعب العراقي خلال 35 عاماً ما يندى لها الجبين، واكتفت باعتقال قائمة الـ 55 المعروفة التي وضعها  الرئيس الأمريكي بوش، مما مهد السبيل أمام القوى البعثية المسقطة عن السلطة، والتي توارت عن الأنظار في بداية الاحتلال، لتعيد تنظيم صفوفها، بعد أن أمنت الجانب الأمريكي من الاعتقال والمحاسبة عما اقترفت أياديهم الآثمة، لتبدأ من جديد حملتها لاستعادة السلطة من خلال اقتراف الجرائم الإرهابية من تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة والاغتيالات المتواصلة الهادفة لقتل المواطنين بالجملة والتي ما زلنا نشهدها اليوم ، والتي حولت حياة الشعب العراقي إلى جحيم لا يطاق.       
الرئيس الأمريكي بوش يعلن نهاية الحرب:
في الأول من أيار مايو/2003 ألقى الرئيس جورج بوش خطاباً من على ظهر حاملة   
 الطائرات [يو إس إي أبراهام لنكولن] في البحر قرب ساحل سان دياغو، ولاية كاليفورنيا معلنا نهاية الحرب، ومهنئا قواته بالنصر، ومتباه بالقوة العسكرية والتكنلوجيا الحربية الأمريكية قائلاً:
 {شكراً جزيلاً. أيها الأميرال كيلي، والكابتن كارد، وضباط وبحارة يو إس إي إبرا هام لنكولن، وأيها الزملاء المواطنون: لقد انتهت العمليات الحربية الرئيسية في العراق. وقد    انتصرت الولايات المتحدة وحلفاؤها في معركة العراق، وينهمك تحالفنا الآن في السيطرة على أمن ذلك البلد، وإعادة إعماره. لقد حاربنا في هذه المعركة في سبيل قضية الحرية، وفي سبيل سلام العالم، ويشعر بلدنا وتحالفنا بالفخر بهذا الإنجاز.                        .                                ولكن أنتم أفراد القوات المسلحة الأميركية الذين أنجزتموه. إن بسالتكم واستعدادكم لمواجهة الخطر في سبيل وطنكم، ومن أجل بعضكم بعضا هو ما جعل هذا اليوم ممكنا. إن بلدنا قد أصبح أكثر أمنا بسببكم. وقد سقط الطاغية، وتحرر العراق بفضلكم. لقد تم تنفيذ عملية حرية العراق بمزيج من الدقة المتناهية والسرعة والجرأة لم يتوقعه العدو، ولم يشهد العالم له مثيلا في السابق. وقد أرسلنا من قواعد بعيدة موجودة على سفن في عرض البحر، طائرات وصواريخ يمكنها القضاء على فرقة معادية أو إصابة غرفة واحدة محصنة تحت الأرض. وقد اندفع الجنود ومشاة البحرية زاحفين على بغداد عبر 350 ميلا من الأرض المعادية، في عملية تقدم من بين أسرع عمليات تقدم الأسلحة الثقيلة في التاريخ. وقد أظهرتم للعالم مهارة وجبروت القوات المسلحة الأميركية. إن هذه الأمة تتقدم بالشكر لجميع أفراد تحالفنا الذين شاركوا في قضية نبيلة. إننا نشكر القوات المسلحة البريطانية والأسترالية والبولندية التي شاركتنا مشقات الحرب، ونشكر جميع المواطنين العراقيين الذين رحبوا بقواتنا، وشاركوا في تحرير بلدهم. ولدي الليلة كلمة خاصة أوجهها إلى الوزير[دونالد رمسفيلد] والجنرال [تومي فرانكس] وإلى جميع الرجال والنساء الذين يرتدون بزات القوات المسلحة الأميركية قائلاً: إن أميركا شاكرة لكم لقيامكم بعمل أجدتم إنجازه. إن الخُلق الذي تحلت به قواتنا المسلحة عبر التاريخ، في جرأة نورماندي وبسالة إيوجيما الضارية والمثالية واللطف والكرم، والتي حولت الأعداء إلى أصدقاء، متجسدة تماماً اليوم في هذا الجيل. وقد شاهد المدنيون العراقيون عند النظر إلى وجوه مجندينا ومجنداتنا القوة واللطف والنوايا الحسنة. وحين أنظر أنا إلى أفراد القوات المسلحة الأميركية، أرى أفضل ما في بلدنا، ويشرفني أن أكون قائدكم الأعلى. لقد شاهدنا من خلال صور التماثيل المنهارة حلول حقبة جديدة. فقد ظل هدف تصميم واستخدام التكنولوجيا العسكرية، طوال مائة سنة من الحروب التي بلغت الذروة في العصر النووي، إلحاق إصابات بين صفوف العدو بقدر مستمر التعاظم. وقد دمرت قوات التحالف، في سياق إلحاقها الهزيمة بألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية مدنا بكاملها، في حين ظل قادة العدو الذين بدأوا الحرب في مأمن حتى أيام القتال الأخيرة. فكانت القوة العسكرية تُستخدم لإنهاء نظام عبر سحق أمة. وقد صرنا نملك اليوم القوة الأعظم لأن نحرر بلدا عبر سحق نظام خطير عدواني. وأصبح بإمكاننا، بالتكتيكات الجديدة والأسلحة المتناهية الدقة، تحقيق أهدافنا العسكرية دون توجيه العنف ضد المدنيين. لا يمكن لأي أداة يصنعها الإنسان أن تزيل المآسي التي تنطوي عليها الحروب، ومع ذلك فقد تحقق تقدم أخلاقي عظيم حين أصبح ما يخشاه المذنبون من الحرب أكثر بكثير مما يخشاه الأبرياء منها. كما أننا شاهدنا من خلال صور العراقيين المحتفلين بالتحرير، افتتان البشر السرمدي بالحرية. ولم تنجح عقود من الكذب والتخويف في جعل الشعب العراقي يشعر بالحب تجاه مضطهديه، أو بالرغبة في أن يتم استعباده. إن الرجال والنساء في كل ثقافة يحتاجون إلى الحرية تماما مثل احتياجهم إلى الطعام والماء والهواء. وفي كل مكان تصله الحرية، تحتفل البشرية، وليدخل الخوف إلى قلوب الطغاة في كل مكان تتململ فيه الحرية. لدينا عمل صعب نؤديه في العراق. إننا نقوم بإحلال النظام في أجزاء مازالت خطرة في ذلك البلد. وإننا نقوم بملاحقة والعثور على زعماء النظام القديم الذين سيحاسَبون على جرائمهم. وقد بدأنا البحث عن الأسلحة الكيميائية البيولوجية المخبأة، ونحن على علم بالفعل بمئات المواقع التي سيتم التحقق في أمرها. إننا نساعد في إعادة بناء العراق، حيث شيد الدكتاتور قصورا بدل المستشفيات والمدارس للشعب. وسنقف إلى جانب قادة العراق الجدد أثناء تشكيلهم حكومة جديدة بالشعب ومن الشعب وللشعب العراقي. إن الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية سيستغرق وقتا، ولكنه يستحق كل مجهود. وسيبقى تحالفنا في العراق إلى أن يتم إنجاز عملنا، وسنغادر بعد ذلك، ونخلف وراءنا عراقا حرا. إن معركة العراق تمثل واحدة من معارك الحرب على الإرهاب التي بدأت يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ، ومازالت مستمرة. ففي ذلك الصباح الرهيب قدم 19 رجلا شريراً هم قوات المصادمة المتقدمة لأيدلوجية مقيتة، لمحة عن طموحاتهم لأميركا والعالم، وتخيلوا، حسب ما قال أحد الإرهابيين، إن الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول سيشكل [بداية نهاية أميركا]. واعتقد الإرهابيون وحلفاؤهم أنهم بسعيهم إلى تحويل مدننا إلى ميادين قتل سيستطيعون القضاء على تصميم وعزيمة هذه الأمة، ويجبروننا على الانسحاب من العالم، وقد أخفقوا.في معركة أفغانستان، قضينا على طالبان والكثير من الإرهابيين، والمعسكرات التي كانوا يتدربون فيها. وإننا نواصل مساعدة الشعب الأفغاني على شق الطرق وترميم المستشفيات وتعليم جميع أطفاله. إلا أنه مازال علينا أيضا إتمام عمل خطير. وفي هذه اللحظة التي أتحدث فيها إليكم، تتعقب قوة من قوات العمليات الخاصة، بقيادة القوة المجوقلة 82، الإرهابيين وأولئك الذين يسعون إلى تقويض الحكومة الحرة في أفغانستان، وستكمل أميركا وتحالفنا ما بدأناه في أفغانستان. إننا نقوم بملاحقة القتلة من القاعدة من باكستان إلى الفلبين إلى القرن الأفريقي. وقد تعهدت قبل 19 شهراً بأن الإرهابيين لن يفلتوا من عدالة الولايات المتحدة الصبورة. وقد تم حتى مساء اليوم إما اعتقال أو قتل حوالي نصف كبار المسؤولين في القاعدة. ويشكل تحرير العراق تقدما حاسماً في الحملة على الإرهاب. فقد أزلنا حليفا للقاعدة، وقطعنا مصدرا من مصادر التمويل الإرهابي. وثمة أمر أكيد: لن تحصل أي شبكة إرهابية على أسلحة دمار شامل من النظام العراقي، لأن النظام زال ولم يعد موجودا. لقد كانت إجراءاتنا، خلال هذه التسعة عشر شهرا التي غيرت العالم، مركزة ومدروسة ومتناسبة مع الجريمة. إننا لم ننسَ ضحايا 11 سبتمبر/ أيلول، المكالمات الهاتفية الأخيرة، وقتل الأطفال بدم بارد، والبحث بين الأنقاض. لقد أعلن الإرهابيون ومؤيدوهم، من خلال تلك الهجمات الحرب على الولايات المتحدة. وقد حصلوا على الحرب. إن حربنا ضد الإرهاب تتقدم حسب مبادئ أوضحتها للجميع: أي شخص متورط في ارتكاب أو التخطيط لارتكاب هجمات إرهابية ضد الشعب الأمريكي يصبح عدوا لهذا البلد، وهدفا للعدالة الأميركية، وأي شخص أو منظمة أو حكومة تدعم أو تحمي أو تؤوي إرهابيين تكون ضالعة في قتل الأبرياء، وعلى نفس القدر من الذنب في ارتكاب الجرائم الإرهابية. وأي نظام خارج على القانون له علاقات مع جماعات إرهابية، ويسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، هو خطر مميت على العالم المتحضر، وستتم مواجهته. وأي شخص في العالم، بما في ذلك العالم العربي، يعمل ويضحي في سبيل الحرية له في الولايات المتحدة صديق مخلص. إن التزامنا بالحرية تقليد أميركي، وقد تم الإعلان عنه عند تأسيسنا، وتم تأكيده في حريات فرانكلن روزفلت الأربع، وأُكد في مبدأ ترومان، وفي تحدي رونالد ريغان لإمبراطورية شريرة. إننا ملتزمون بالحرية في أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين مسالمة. وإن دفع عجلة الحرية هو أضمن إستراتيجية لتقويض جاذبية الإرهاب في العالم. فحيثما ثبتت الحرية جذورها، تختفي البغضاء ليحل محلها الأمل. وحين تثبت الحرية جذورها، ينشغل الرجال والنساء بالسعي السلمي في سبيل حياة أفضل. وإن القيم الأميركية والمصالح الأميركية تقود في نفس الاتجاه: إننا نؤيد الحرية الإنسانية. إن الولايات المتحدة تدعم مبادئ الأمن والحرية هذه بطرق كثيرة، وبجميع أدوات الدبلوماسية وتطبيق القانون والاستخبارات والأدوات المالية. وإننا نتعاون مع تحالف عريض القاعدة من الدول التي تدرك التهديد ومسؤوليتنا المشتركة في مواجهته. إن استخدام القوة كان ولا يزال، ملاذنا الأخير. إلا أنه يمكن للجميع أن يعلموا، لأصدقائنا وأعدائنا على حد سواء، أن لدى أمتنا مهمة هي أننا سنرد على التهديدات لأمننا، وسندافع عن السلام. إن مهمتنا مستمرة. لقد أصيبت شبكة القاعدة بجراح، ولم يُقضَ عليها. ولا تزال خلايا الشبكة الإرهابية المبعثرة نشطة في دول كثيرة، ونحن نعرف من مصادرنا الإستخباراتية أنهم يواصلون التآمر ضد الشعوب الحرة. ومازال انتشار الأسلحة الفتاكة خطرا مميتا. إن أعداء الحرية لم يتكاسلوا ويتوقفوا عن العمل، ولم نفعل ذلك نحن أيضا. وقد اتخذت حكومتنا إجراءات لا سابق لها للدفاع عن الوطن. وسوف نواصل تصيّد العدو قبل أن يتمكن من توجيه الضربات.
إن الحرب على الإرهاب لم تنته، ولكنها ليست بلا نهاية. إننا لا نعرف اليوم الذي سيتم فيه إحراز النصر النهائي، ولكننا قد شاهدنا تحول التيار. ولن يحولنا أي عمل يقوم به الإرهابيون عن هدفنا أو يضعف من عزيمتنا أو يغير من مصيرهم. لقد خسروا قضيتهم. وستواصل الدول الحرة التقدم حتى النصر. لقد حاربت دول أخرى في أراض أجنبية عبر التاريخ وبقيت فيها للاحتلال والاستغلال. أما الأمريكيون فلا يرغبون في شيء بعد المعركة قدر رغبتهم في العودة إلى الوطن. وهذه هي الوجهة التي تتوجهون إليها الليلة. أنتم الآن في طريقكم إلى الوطن بعد أن خدمتم في ميدان الحرب في أفغانستان والعراق، وبعد مائة ألف ميل، وأطول نشر لحاملة طائرات في التاريخ الحديث، وسيلتقي بعضكم أفرادا جدداً في عائلاتهم لأول مرة، إذ وُلد 150 طفلاً أثناء وجود آبائهم على متن (حاملة الطائرات) لنكولن. إن عائلاتكم تفخر بكم، ووطنكم سيرحب بكم. وإننا نذكر أيضاً بعض النساء والرجال الأفاضل الذين لا يقومون برحلة العودة إلى الوطن. وقد تحدث أحد هؤلاء الذين سقطوا في ساحة القتال، العريف [جيسُن ميليو] مع والديه قبل خمسة أيام من وفاته، وقال والد جيسُن: {اتصل بنا من وسط بغداد، لا للتباهي، وإنما ليعبر عن حبه لنا. لقد كان ابننا جنديا}. إن كل اسم وكل حياة يشكلان خسارة لقواتنا المسلحة لبلدنا، وللأحباء الذين يشعرون بالحزن والأسى. لن تشهد هذه العائلات عودة إلى الوطن (التئام شملها). ولكننا نبتهل أن يلتئم شملها في الوقت الذي يحدده الله. لقد شوهد أولئك الذين خسرناهم لآخر مرة أثناء تأديتهم واجبهم. لقد كان آخر ما قاموا به على وجه هذا الكوكب هو مقاتلة شر عظيم وجلب الحرية لآخرين. لقد لبيتم جميعا، كل أفراد هذا الجيل من قواتنا المسلحة، أنبل نداءات التاريخ. إنكم تدافعون عن بلدكم وتحمون الأبرياء من الأذى. وأنتم تحملون معكم، حيثما توجهتم، رسالة من الأمل، رسالة بالغة القدم وجديدة دوما. وكما قال إشعياء النبي للأسرى [اخرجوا] وللذين في الظلمات [كونوا أحرارا].شكرا لكم لخدمتكم بلدنا وقضيتنا. بارككم الله جميعا، ونبتهل أن يستمر الله في مباركة أميركا. (26)   
 لكن كل وعود الرئيس بوش ذهبت كلها أدراج الرياح، سواء كانت نتيجة لسياسة أمريكية مخططة سلفاً، أو جراء الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها إدارته والحاكم المدني الذي عينه على العراق بول بريمر، وفي مقدمتها حل الجيش، وترك السلاح سائباً دون حماية ليقع في أيدي العناصر البعثية الإرهابية التي لم تلقَ أي ملاحقة، وتنظم صفوفها من جديد، وتخوض قتالاً شرساً ليس فقط ضد قوات الاحتلال، بل ضد أبناء الشعب العراقي، وقد امتلأت قلوبهم حقداً، وتحول العراق ساحة لحرب العصابات الفاشية التي تسفك دماء العشرات، بل المئات من المواطنين كل يوم، وبات الجيش الأمريكي في مستنقع عميق لا يعلم كيفية الخروج منه، وزاد في الطين بله إقامة حكم طائفي بقيادة الأحزاب الدينية الشيعية والسنية التي قادت الشعب العراقي إلى الحرب الأهلية الطائفية الوحشية، وبات الشيعي يقتل أخاه السني والأخ السني يقتل أخاه الشيعي على الاسم والهوية، وجرى تهجير المواطنين من بيوتهم في داخل العراق وخارجه حتى تجاوز رقم المهجرين والمهاجرين أربعة ملايين مواطن.
 وما زال الاحتلال جاثماً على صدور العراقيين رغم مرور خمس سنوات على سقوط نظام صدام الذي صنعوه هم، وأمدوه بكل وسائل القوة، وأسلحة الدمار الشامل عندما كان يحارب إيران نيابة عنهم، ويقمع في الوقت نفسه شعبه وقواه الوطنية الديمقراطية بأشد وسائل القمع الوحشية.
 وافتقد الشعب العراقي الأمان، وافتقد سائر الخدمات الضرورية لحياته، فلا كهرباء، ولا ماء صالح للشرب، ووقود بمختلف أنواعه واستخداماته، ولا صرف صحي ، ولا عناية صحية، ولا أدنى اهتمام للقضايا الاجتماعية والثقافية .
كما خسر العراق معظم كوادره العلمية أما قتلاً مبرمجاً على أيدي عصابات الجريمة المنظمة أو هرباً إلى خارج العراق، وباتت المدارس تحت رحمة ميليشيات الأحزاب الدينية المتخلفة التي صارت تتحكم في كل صغيرة وكبيرة في حياة المواطنين، وجرى اضطهاد لا سابق له للمرأة حتى في أوائل القرن العشرين، بل لقد أعادوها القهقرة مئات السنين .
 فأي ديمقراطية هذه التي وعد الرئيس بوش الشعب العراقي بها، وأي حرية سوى حرية الموت بالاغتيال وبالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، وعمليات التهجير المنظمة، والخطف و قطع الرؤوس. أي حياة كريمة وأكثر من نصف الشعب العراقي تحت خط الفقر، والبطالة الكارثية التي باتت خير بيئة ومنبع لقوى الإرهاب والجريمة.
لقد شاهدت وشاهد العالم أجمع عبر شاشات التلفزة كيف يبحث العراقيون الفقراء بين أكوام القمامة عن طعام يسدون به رمقهم ورمق أطفالهم في بلد من أغنى بلاد العالم ، بلد يطفو على بحيرات هائلة من النفط الذي بلغ سعر البرميل منه اليوم 102 دولار.
 لم تجلب حرب بوش وبلير للشعب العراقي سوى الموت والجوع والذل، والهروب من الوطن لمن استطاع إليه سبيلا، والعيش في الخيام هرباً من طغيان المليشيات الطائفية للفقراء والمعدمين، وثروات البلاد تنهب على أيدي السراق الكبار والصغار، فقد بلغ الفساد أقصى ما يتصوره العقل من درجات، وفي كل المجالات دون استثناء.

466
بمناسبة عيد المرأة العالمي في الثامن من آذار

متى تستعيد المرأة العراقية حريتها؟


حامد الحمداني                                                     5/3/2008
الذين ينظرون للمرأة من منطلق ذكوري متخلف على أنها قاصرة عقل ودين!!، وأنها دون مستوى الرجل، وأنها خلقت للبيت، وإنجاب الأطفال وتربيتهم، والقيام بشؤون العائلة كافة، وتأمين طلبات الرجل، هم بلا شك المختلفون بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهم عدوانيون لا يقيمون وزناً للعلاقات الإنسانية، هم انانيون لا يحبون إلا أنفسهم ولذاتهم، وهم لا يفهمون من الثقافة غير قشورها ، وهم في واقع الحال أقل وزناً من المرأة في مختلف مجالات الحياة،هم الأقل تحملاً وصبراً، والأكثر تهوراً ورعونة، في تعاملهم مع زوجاتهم، ومع بناتهم ، أنهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين، لكنهم يحملون ثقافة القرون الغابرة في نظرتهم وتعاملهم مع المرأة، وكأنها سلعة من سلع البيت دفع ثمنها مهراً بموجب الشريعة الإسلامية!!.
المرأة أيها السادة اكبر وأعظم وأقدس مما تتصورن ، أنها خالقة الإنسانية ، أنها هي التي ربتكم وعلمتكم وثقفتكم وحرصت عليكم أكثر من حرصها على بؤبؤ عينها، وضحت من أجلكم بسعادتها كي تسعدوا، وبصحتها كي تصحو، وبراحتها كي تنعموا بالحياة، ومع كل ذلك فهي تمارس العمل بكل جد في مختلف المجالات التي قد يعجز الكثير من الرجال القيام بها، العالمة الفيزيائية والكيميائية والمهندسة والطبية والقاضية والمحامية والصيدلانية والمعلمة مربية الأجيال، والعاملة في مختلف المعامل الإنتاجية، بل لقد تجاوزت أرقى سلم الثقافة والعلم، وتولت أعلى مناصب الدولة ليس فقط في البلدان المتقدمة ، بل حتى في العديد من دول العالم الثالث الاسلامية كالهند وباكستان وأندونيسا وبنكلادش دعك عن المانيا وبريطانيا والأرجنتين وتايلاند والعديد من الدول الأخرى، واغلب الذين يديرون دوائر الدول الأوربية هم من النساء، فأي ادعاء هذا الذي يدعونه أصحاب المجتمع الذكوري الذين خولوا أنفسم قوامون على النساء، وقد اتخذوا من الدين الذي جاء قبل 15 عشر قرناً وسيلة وحجة كي يستعبدوا النساء، ويفرضوا عليهن طاعتهم عنوة، ويمارسون العنف معهن بدعوة أن الدين قد اباح ضرب المرأة ، وهم يفرضون عليها اليوم سجناً رهيباً من خلال هذا الذي يسمونه الحجاب، وكأنما قطعة القماش هذه هي التي ستصون المرأة من الزلل، ثم لماذا لا يتحجب الرجل كي يصون نفسه الكثير من الزلات التي يمارسها كل يوم بحرية، ودون حساب.
أن الحجاب الذي يحمي الإنسان من الزلل هو في عقله وتفكيره وسلوكه وتصرفه، أنها الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، أنها العدالة الاجتماعية بين بني البشر مهما اخلتفت أجناسهم وقومياتهم وأديانهم ومذاهبهم .
ومهما فعل الرجل، ومهما قدم وأنجز فهو عاجز أن يقارن نفسه بالمرأة التي تعمل وتعطي أضعاف ما يعطيه الرجل دون منة أو كلل، وبكل رحابة صدر، حيث تحس بمسؤولية كبيرة تجاه أبنائها وبيتها وزوجها من جهة، وتجاه بني شعبها ووطنها والإنسانية جمعاء من جهة أخرى .
لقد خاضت المرأة العراقية منذ مطلع القرن العشرين نضالاً دؤوباً من أجل استعادة حقوقها وصيانة كرامتها، ومساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات، وحقها في تلقي العلم والمعرفة، ومشاركة الرجل في كافة مجالات العمل والإنتاج من أجل تحررها الاقتصادي الذي يعتبر هو الأساس في تحررها الاجتماعي، وتخلصها من تبعية الرجل، وتصحيح العلاقات الزوجية التي ينبغى لها أن تقوم على أساس مكين من التكافؤ، ومن الاحترام المتبادل والمحبة والعواطف الإنسانية الخالية من الزيف والمصلحة، وعندما يسود هذا النوع من العلاقات بين المرأة والرجل عند ذلك تصبح العائلة بأسعد حال ، وتربي أبنائها خير تربية، وتغدو العائلة تغمرها المحبة والحنان والتعاطف، وتتعز العلاقات الأسرية بشكل لا ينفصم عراها.
لقد حققت المرأة خلال نضالها طفرات كبرى في الطريق نحو تحررها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن الردة السوداء التي حلت على اثر انقلاب 8 شباط 1963 وتولي القوى الرجعية زمام السلطة في عهد البعث الأول وعهد الشقيقين العارفيين، ثم بلغت أوجها في عهد صدام المقبور من خلال حملته الإيمانية المزيفة، كانت تمثل مرحلة النكوص والتراجع بالنسبة لحقوق وحرية المرأة، وجاءت حروب صدام الكارثية والحصار الأمريكي الغاشم على الشعب العراقي، وانهيار البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي، والتدهور الشديد للأوضاع المعيشية للشعب، وانهيار العملة وتضاؤل قيمتها الشرائية، لتوصل الشعب العراقي حالة من الفقر المدقع، والجوع والحرمان والإذلال الذي دام 13 عاماً كانت بحق اشد الحروب قسوة ووحشية، أوصلت المجتمع العراقي إلى حالة من اليأس، وتحملت المرأة العراقية العبء الأكبر في تأمين واستمرارية حياة العائلة، ولم يكن أمام العراقيين سوى التوجه إلى الله لينقذهم من المأساة التي حلت بالبلاد وبالعباد.
وذهب نظام صدام غير مأسوف عليه، لكن وعود الرئيس الأمريكي بوش بتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ما لبثت أن تبخرت، وحلت بالبلاد كارثة أبشع، وظلم للمرأة اشد وأقسى، بعد أن تسلمت قوى الإسلام السياسي الطائفي بشقيه الشيعي والسني الحكم في البلاد.
وكونت ميليشياتها المتوحشة لتعيث في البلاد فساداً وقتلاً وذبحاً للنساء بحجة مخالفة الشريعة!!، وفرض الحجاب عليها، ليس فقط المسلمات منهن بل المسيحيات والصابئيات والأيزيديات، فقد فرضت المليشيات إرادتها على المجتمع العراقي وكأنها مفوضة من الله، تفعل ما تشاء دون أن يوقفها أحد ، وهكذا عادت قضية حقوق المرأة وحرياتها إلى الصفر من جديد، وبات عليها وعلى كل عراقي مؤمن بحقوق المرأة وحريتها، وعلى وجه الخصوص المثقفين منهم النضال بلا هوادة من أجل التصدي لقوى الظلام والرجعية السوداء، وللوقوف بجانب المرأة والأخذ بيدها، واستعادة حريتها وحقوقها المغتصبة.
تحية نابعة من القلب للمرأة في عيدها الميمون والنصر لنضالها العادل والدؤوب من أجل التحرر والإنعتاق، ومن أجل المساواة والعدالة الاجتماعية .   

467
حرب الخليج الثالثة
الحلقة السابعة
 قوات التحالف تواصل زحفها في الجنوب والشمال
حامد الحمداني
 استمرت القوات الأمريكية في زحفها عبر الصحراء مستهدفة الوصول إلى بغداد، وقال البراجديير جنرال [ فينست بوكس] في بيان صحفي في قطر أن القوات الأمريكية الخاصة تسيطر علي الحركة في صحراء العراق الغربية سيطرة تامة، وتمنع أي تحرك فيها بكفاءة عالية. (15)                                                                               
وفي الوقت نفسه ذكر مسؤولون أمريكيون أن القوات الأمريكية استولت علي مهبطي طائرات في الصحراء الغربية في المراحل الأولي للحرب. وقال محللون انه يمكن الاستفادة من هذين المهبطين وهما H2 وH 3 لإنزال قوات وإمدادات أمريكية وبريطانية لزيادة الضغط علي بغداد. 
 وعلى صعيد الحرب في المنطقة الشمالية من العراق قال مسؤول كردي كبير أن القصف الأمريكي للخط الأمامي بين الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة العراقية، والمنطقة الكردية يتزايد، ويحدث تأثيرا كبيرا. (16)
معركة النجف والناصرية:
 واصلت القوات الأميركية الزاحفة في تقدمها باتجاه العاصمة بغداد من الجنوب والجنوب الغربي، فيما قالت القيادة العراقية أنها أرسلت آلافا من عناصر الحرس الجمهوري لوقف زحف قوات مشاة البحرية [المارينز] الذين دخلوا مدينة الشطرة الواقعة علة بعد 60 كيلومترا شمال الناصرية. واعترفت القوات الأميركية بتدمير القوات العراقية دبابتين أميركيتين من طراز[ ابرامز] في المعارك الشرسة التي استخدم فيها الطرفان الصواريخ والمدفعية الثقيلة.                                                                                      .
وأعلن الكومندان [جون ألتمان] وهو ضابط في الاستخبارات الأميركية الذي يرافق وحدات فرقة المشاة الأميركية الثالثة في النجف أن المارينز تدعمهم الدبابات قتلوا نحو 650 عراقيا في المعارك التي دارت في منطقة النجف خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، إلا أن وزارة الدفاع الأميركية قدرت عدد القتلى العراقيين بـ 300 ، ولم تسجل القوات الأميركية من جهتها أية خسائر حسبما أكد الضابط.
وقال الضابط إن حوالي 250 عراقيا قتلوا وهم يدافعون عن جسر يقع شمال المدينة، بينما قتل 200 آخرون في معارك غرب المدينة، حيث تم اسر 300 عراقي. وسقط الآخرون في عدة نقاط في محيط النجف، حيث يواجه الأمريكيون مجموعات صغيرة من المقاتلين يتراوح عددها من 6 إلى 12، والنجف من كبرى المدن الواقعة على نهر الفرات، وتبعد
 حوالي 150 كلم جنوب بغداد.
 وقال الضابط إن المقاتلين العراقيين على الأرجح من العناصر المسلحة لحزب البعث ، والميليشيات [فدائيو صدام] وأنهم تمركزوا بالخصوص في مباني مدنية أو دينية.     .                                                   
وهاجمت هذه العناصر المسلحة الأميركيين بالأسلحة الرشاشة وقاذفات الصواريخ المضادة للمدرعات، ومدافع الهاون، وقذائف اربي جي، بينما رد عليهم الأمريكيون بهجوم بدبابات من طراز ابرامز ومدرعات برادلي الخفيفة. وأكد الضابط أن اثنتين من دبابات ابرامز دمرتا، ولكن عناصر طاقميهما تمكنوا من الهرب، وتم إنقاذهم فيما بعد، وأضاف إن مجموعات صغيرة من العراقيين انتشرت واتخذت لها مواقع للقنص، وأفاد ضباط في الميدان بأن معركة شرسة استمرت ساعتين بين الدبابات الأمريكية ومقاتلين عراقيين مسلحين بقذائف صاروخية، وأضافوا أن نحو 10 دبابات أمريكية أو أكثر حوصرت في منطقة نائية من ضفة النهر بعدما فجر العراقيون جسرا كانت الدبابات قد عبرته.
 وأرسلت دبابات أمريكية للمساعدة، وتعتبر هذه المواجهة أعنف معركة خاضتها الفرقة الثالثة للمشاة منذ توغلها في العراق، وخلص الكومندان ألتمان إلى القول أن العراقيين يحاولون إرسال قوات الحرس الجمهوري إلى النجف بالآلاف.                               .                         
وفي قطاع الناصرية أطلقت قوات المارينز نيران مدفعيتها على مواقع عراقية شمال المدينة الاستراتيجية التي تقع على مسافة 350 كلم جنوب غربي بغداد، حيث عبروا نهر الفرات، وفتحت المدفعية الأميركية النار بشكل متقطع على مواقع عراقية على طول الطريق شمال الناصرية، وتقدم جنود المارينز بنحو 30 كلم شمال الناصرية. وأعلنت القيادة الوسطى في قطر أن معارك الأول من نيسان أوقعت ضحايا في صفوف الأميركيين، ولكنها لم تقدم أية حصيلة، وقال الكولونيل[كين كيلي] أن أربعة من جنوده  جرحوا مساء وليل الثلاثاء أثناء الاشتباكات التي جرت بين الطرفين، وأكد أن قواته أسرت 50 عراقيا من بينهم ضابطان.
 وذكرت مصادر عسكرية أمريكية أن عناصر من المارينز سيطروا على مستشفى في الناصرية وأسروا 170 جنديا عراقيا يشتبه في أنهم استخدموا المستشفى لشن هجمات ضدهم، وأشارت إلى عثور القوات الأمريكية في الشطرة شمال الناصرية على جثث 20 إلى 25 جنديا عراقياً.
سقوط كربلاء
 بعد أن تسنى للقوات الأمريكية احتلال الناصرية، واصلت زحفها نحو  كربلاء، حيث نجحت في الاستيلاء عليها بعد معارك عنيفة استمرت 48 ساعة أوقعت 400 قتيل في صفوف الميليشيات العراقية، بحسب الناطق الأمريكي باسم الفرقة الأمريكية المجوقلة 101 الميجور[هيو كيت] الذي أضاف أن اللواء الثاني في فرقته سيطر على هذه المدينة الاستراتيجية بعدما تمكن من القضاء على مقاومة حوالي 500 مقاتل موالين للرئيس العراقي صدام حسين.
وقال الميجر هيو كيت إن قوات اللواء الثاني هاجم القوات شبه العسكرية العراقية وقضى عليها، مؤكدا أن الجهود التي بذلها الأمريكيون تكللت بالنجاح بعد يومين من المعارك العنيفة. وأكد الضابط الأمريكي أن أقل من مئة عراقي أسروا، بينما قتل  معظمهم في المعارك، وتابع كيت أن جنديا قتل بالرصاص السبت، وجرح ثمانية آخرون خلال شن الهجوم النهائي على كربلاء.

أصوات قذائف الدبابات الأمريكية تسمع في بغداد:
بعد التقدم السريع للقوات الأمريكية نحو بغداد أصبحت أصوات قذائف الدبابات الأمريكية تسمع فيها، فيما تركز القصف علي مدينة تكريت مسقط رأس الرئيس العراقي، وقد أعلن وزير الدولة البريطاني للقوات المسلحة [آدم انغرام] أن القتال مستمر في العراق، وليس هناك أية هدنة كما يشاع مؤكداً أن قوات التحالف الأمريكي البريطاني قد أخذت قسطاً  من الراحة والحصول على الإمدادات، وأضاف أنغرام في مقابلة مع تلفزيون [سكاي نيوز] قائلاً :
 لقد وصلنا إلي مرحلة تفرض علينا العمل علي أن يأخذ الجنود قسطاً من الراحة، وان يحصلوا علي الإمدادات، وأضاف بأنه ليست هناك أية هدنة. إن كلمة هدنة غير واردة، وفي رد واضح علي شائعات حول إبطاء التقدم في اتجاه العاصمة العراقية، حيث تعرضت بغداد طيلة نهار أمس إلي غارات جوية وهجمات صاروخية استهدفت تجمعات الحرس الجمهوري في غرب المدينة وقصور رئاسية ومقار للحزب الحاكم ومراكز للتدريب.
 وتُبينْ أحداث العمليات العسكرية أن القيادة العسكرية للتحالف مصممة علي ملاحقة أفراد الميليشيات العراقية التي تعوق التقدم باتجاه بغداد، وضرب القوات النظامية والحرس الجمهوري الذي يغلق طرق العاصمة والمكلف بالدفاع عنها.                                   .                                                           
علي صعيد متصل اكتسبت المعارك الدائرة قرب مدينة الحلة أهمية استراتيجية في السيطرة علي بغداد حيث ركزت القوات الأمريكية جهودها لتحييد المدينة عسكرياً أو احتلالها باعتبارها آخر معقل عسكري نحو العاصمة، فيما تدافع فرقة حمورابي، وهي من نخبة الحرس الجمهوري الخاص، عن المدينة.
ويتقدم جنود المار ينز في اتجاه هذه المدينة التي تبعد عن بغداد 70 كيلومتراً  من محاور عدة هي كربلاء ــ الهندية [طويريج] فيما واصلت الزحف نحو منطقة [النبي أيوب] في ضواحي الحلة مع تقدم للقوات القادمة من النجف ــ الكوفة ــ أبو ضخير ــ الكفل وصولاً إلى الحلة، ومحور آخر يبدأ من مدينة كربلاء أيضاً في عملية التفاف عبر مدينة الإسكندرية صعودا حتى مدينة المسيب علي بعد ثلاثين كيلومتراً من بغداد، عند تقاطع طريق حلة ــ بغداد، وكربلاء ــ بغداد، لقطع الحلة عن بغداد نهائياً، وتقدمت  دبابات مشاة البحرية في اتجاه المدينة التي استطاعت احتلالها في الأول من نيسان. (17)                                                                                               
وقالت القيادة الأمريكية أن قواتها اشتبكت مع قوات عراقية في معركة ضارية أمس حول جسر على نهر الفرات في منطقة الهندية الواقعة على بعد 80 كيلومترا جنوب بغداد، وقد جرى أسر عدد من أفراد الجيش العراقي كان بينهم عدد من الضباط ، وكان من بين الأسرى ضابط قال انه من فرقة نبوخذ نصر من الحرس الجمهوري، وذكر أنه فاجأ القادة الأمريكيين الذين قالوا أنهم كانوا يعتقدون أن هذه الفرقة متمركزة في الشمال.
 وقال الكولونيل [جون بيبودي] من الفرقة الثالثة مشاة الأمريكية أن جندياً أمريكياً واحداً أصيب بجروح طفيفة، وان العراقيين تكبدوا عشرات الخسائر البشرية، ومن جهة أخرى قال مصدر أمريكي إن جندياً من المارينز قتل في المعارك قرب النبي أيوب، وان طياراً أصيب بجروح في رأسه خلال تحليق طائرة هليكوبتر، واشتبكت وحدات أمريكية أمس مع مقاتلين عراقيين قرب موقع بابل القديمة، فيما يبدو أنه أقرب قتال بري من العاصمة .
وبمقتل جندي أمريكي يوم الاثنين قرب بلدة إمام أيوب على مسافة 110 كيلومترات جنوب بغداد يرتفع عدد القتلى من الجنود الأمريكيين حسبما أعلنت القيادة الأمريكية الى 46 قتيلا، بالإضافة الى 104 جرحى و17مفقوداً منذ بدء الحرب يوم 20 آذار. (18)
 أما بريطانيا فقد أعلنت عن مقتل 24 من الجنود البريطانيين، في حين قال ناطق باسم القوات المسلحة العراقية  أن 600 مدني قتلوا وأصيب أكثر من 4500.
 وحول المعارك الدائرة للسيطرة على الناصرية شن أفراد مشاة البحرية الأمريكية [المارينز] هجوماً واسعا مستهدفين موقعاً كان يُعتقد أن حاكم المنطقة العسكرية علي حسن المجيد الملقب [علي كيماوي] يتمركز فيه.
 وذكرت شبكة [سكاي نيوز] أن قوات المارينز استهدفت مدينة الشطرة شمال الناصرية بناء على معلومات حول وجود المجيد في المدينة. وقالت الشبكة أن عدداً من جنود قوات التحالف دخلوا الشطرة للقبض على مسؤولين عراقيين بارزين، حيث قتل جندي بريطاني خلال اقتحام المدينة، فيما أحكمت القوات الأمريكية حصارها حول مدينة النجف، في حين قتل جندي وجرح عدد من الجنود البريطانيين في الفاو.                     .                                           
وعلى صعيد متصل أرسلت الولايات المتحدة آلافاً من الجنود الإضافيين الى مدينة الناصرية لتأمين خطوط الإمداد إلي العاصمة بغداد.                                      .
وذكر راديو لندن انه تم نشر فرق القوات الخاصة ومشاة البحرية الأمريكية للسيطرة على المنطقة بشكل كامل، وقد تقرر ضم خمسة آلاف جندي من المارينز الأمريكيين الى القوات المقاتلة في الناصرية.                                                                                   .
وعلى صعيد آخر نقلت القيادة المركزية لفوات التحالف مركز ثقل العمليات الميدانية والاستخبارية في اتجاه بغداد، مع تصعيد عسكري على مختلف محاور جنوب ووسط العراق، وذلك من أجل تضييق الخناق أكثر فأكثرعلى فدائيي صدام والميليشيات، مع تركيز القصف الجوي والمدفعي علي مقار ومؤسسات الحزب الحاكم. 
                                                                                                                    رابعاً: القوات الأمريكية تطبق على بغداد
 بدأت صفحة  جديدة من الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد العراق، وتتضمن المرحلة الجديدة الاستمرار الثابت للقوات الأمريكية والبريطانية على جميع محاور القتال في جنوب ووسط وشمال العراق، بعد أن كان الزحف على جبهة واحدة، مع تواصل ملاحقة الحرس الجمهوري حول العاصمة العراقية، على أن تتواصل الإمدادات لخوض معركة فاصلة في بغداد تستهدف إطاحة صدام ونظامه، ومن ثم الإعلان عن نهاية العمليات العسكرية في العراق، فيما نفذت الطائرات المقاتلة الأمريكية والبريطانية في ذلك اليوم أكثر من ألف طلعة جوية فوق العراق، وبشكل خاص العاصمة بغداد لضرب مواقع الحرس الجمهوري العراقي الخاص.  (19)                        .            .                             
من جهة أخرى دخلت قوات التحالف مرحلة جديدة لتطويق بغداد حيث لجأت طيلة يوم كامل إلى القصف الجوي الكثيف من خلال محاولة تعزيز السيطرة على بعض المناطق في الجنوب والغرب والشمال.  وعلى صعيد متصل ذكر مكتب رئيس الوزراء البريطاني [توني بلير] أن الحرب على العراق دخلت الآن مرحلتها الثانية من التقدم نحو الهدف النهائي المتمثل في الإطاحة بنظام الدكتاتورصدام حسين من السلطة.                        .
وصرح المتحدث باسم بلير بعد اجتماع لحكومة الحرب في مقر رئيس الوزراء البريطاني أن الحملة النهائية على بغداد ستبدأ عندما نكون مستعدين لها تمام الاستعداد، وقال المتحدث إن مشاعر الخوف بين العراقيين في المناطق التي تحتلها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة تتقلص يوما بعد يوم. (20)

قوات التحالف تقتحم المجمع الرئاسي
كان الحدث الأبرز في تطورات الحرب قيام القوات الأمريكية باقتحام المجمع الرئاسي بقيادة قائد الحملة [تومي فرا نكس] الذي كان يقود العمليات داخل الأراضي العراقية، وقد أعلن وزير الدفاع البريطاني [جيف هون] أن نصف قوات الحرس الجمهوري لا تقاتل، ولكن المجموعات العسكرية الصغيرة تشكل خطراً علي خطوط اتصالاتنا، وأن قوات المارينز عبرت نهر ديالي باتجاه معسكر الرشيد، وأن الدبابات والدروع الأمريكية اخترقت في إنزال مفاجئ وسط بغداد، ومرت عبر ساحة الاحتفالات، ومن تحت قوس النصر عبوراً إلي القصر الجمهوري، حيث لم تلق مقاومة شديدة بعد إنزال سابق في منطقة الدورة.
 من جهة أخرى وصف الصليب الأحمر الوضع في مستشفيات بغداد بالمروع مع تدفق الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى نتيجة المعارك الدائرة في بغداد، وفي غضون ذلك توغلت عشرات الدبابات والعربات المدرعة الأمريكية في شوارع العاصمة العراقية، وسيطرت على حدائق القصر الجمهوري الواقع في منطقة كرادة مريم من دون أن تتمكن هذه القوات من الدخول الى مبان مجاورة تشغلها وزارتا الإعلام والخارجية، فيما زجت القيادة العسكرية الأمريكية بمشاة البحرية الأمريكية، المارينز في العمليات القتالية الدائرة في العاصمة، وقال ضابط أمريكي أن عناصر من قوات المارينز دخلوا بغداد قادمين من الجنوب الشرقي بهدف استكمال عزل نظام صدام، بعد إن تمكنت هذه القوات من عبور جسر عسكري أقامته على نهر ديالى، بعد أن دمرت القوات العراقية في وقت سابق الجسر لوقف الهجوم. ومن جهته قال الجنرال [جون كيلي] مساعد قائد فرقة المارينز الأولي أن قوات المارينز عبرت نهر ديالي. (21)
 كما شنت القاذفات الأمريكية هجوماً قوياً بالصواريخ على الموصل، حيث تم تفجير مذاخر الأسلحة والعتاد جنوبي الموصل.
من جانب آخر قال متحدث عسكري أمريكي أن قائد قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة [تومي فرانكس] قد زار قوات التحالف في العراق، وأكد الكابتن [فرانك ثورب] للصحفيين في المقر المتقدم للقيادة الأمريكية في قطر أن الجنرال فرانكس زار القوات في ثلاثة مواقع في العراق من دون أن يتطرق إلى تفاصيل الزيارة.
وفي الوقت نفسه عرض التلفزيون العراقي صوراً للدكتاتور صدام حسين وهو يترأس اجتماعا للقيادة العراقية حضره نائبه طه ياسين رمضان، وابنه الأصغر قصي الذي كان يقود الحرس الجمهوري، إضافة الى كبار ضباط الجيش.
كما شارك في الاجتماع نائب رئيس الوزراء طارق عزيز، ووزير الدفاع سلطان هاشم احمد، ورئيس هيئة الأركان إبراهيم عبد الستار، والمدير العام للرئاسة أحمد حسين خضر، وعضو القيادة القطرية للحزب لطيف نصيف جاسم، وكان صدام يجلس الى طاولة المكتب باللباس العسكري في غرفة مع واجهة زجاجية رفعت الستائر عنها. (22)
 وأكد مسؤول عسكري أمريكي في مطار بغداد الدولي الذي استولت عليه الفرقة الثالثة من مشاة البحرية الأمريكية في 5 نيسان، بعد معارك شرسة أن القوات الأمريكية استولت على ثلاثة قصور رئاسية من بينها القصر الرئاسي الأساس في وسط بغداد.
غير أن وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف نفى نبأ الاستيلاء على القصر الرئاسي، ودعا الصحفيين إلي عدم تصديق المعلومات الأمريكية حول معارك بغداد. ونقل عن مراسل وكالة الأنباء الفرنسية أن القوات العراقية تحاول يائسة الدفاع عن بغداد أمام الجيش الأمريكي الذي يتفوق عليها على الصعيدين التقني والعسكري.                        .                                                      ونقل المراسل عن مصادر أمريكية انه قتل خلال زحف قوات التحالف على بغداد الآلاف من قوات الحرس الجمهوري الخاص، ولم يقاوم التقدم سوي قلة قليلة منهم حسب تلك المصادر، وتتفوق القوات البرية والجوية الأمريكية على الحرس الجمهوري بتجهيزاتها الحديثة، وأكد أنه في مواجهة هذه القوة العسكرية الضخمة لجأت القوات العراقية الى تكتيك حرب الشوارع، وأضاف أنه قد ظهر عدم التوازن بشكل لافت داخل بغداد وجوارها، حيث دخلت فرقة المشاة الأمريكية الثالثة التي تضم 18 ألف عنصر و500 دبابة ومدرعة في العاصمة العراقية بدعم جوي يساندها من الخلف جنود مشاة البحرية.

وأكد المراسل أن الحرس الجمهوري الذي يمثل فرق النخبة في القوات العراقية فشل في صدها بعد أن أضعفته العمليات المتتالية من القصف الجوي الكثيف، وأكد ضباط أمريكيون أنهم قضوا على جانب كبير فرق الحرس الجمهوري التي تضم 60 ألف عنصر.
لكن وزير الدفاع البريطاني [جيف هون] صرح أن نصف قوات الحرس الجمهوري العراقي لم تعد تقاتل من أجل الدكتاتور صدام حسين. وقال هون في مؤتمر صحافي أن جهدا كبيرا أنجز من اجل الحد من فعالية الحرس الجمهوري، وأوضح أن تقديرات مختلفة وضعت من قبل قواتنا حول  تقليص فعاليتهم في المعركة، والتي باتت بالتأكيد بحدود 50%.
 وأضاف المراسل أنه كلما احتلت قوات التحالف أراضي كلما استطاعت أن تعد عدد الدبابات وقطع المدفعية التي دمرت، وكان الرقم 50% يبدو هو الأكثر قرباً إلي الحقيقة، وأشار إلى أن العراقيين قسموا الوحدات الى عناصر أصغر بكثير، معتبرا أن هذا يعكس على الأرجح تداعي القيادة العليا للجيش العراقي. وتابع أن هذه الوحدات الأصغر غير فعّالة من وجهة نظر عسكرية لأنها يمكن إيقافها بسهولة، لكنها تبقى خطيرة خصوصا على خاصرات خطوط اتصالات القوات. وأشار هون إلي أن كثيراً من قوات وحدات الحرس الجمهوري قد ألقت سلاحها، وعادت ببساطة إلى بيوتها، ونحن وجدنا دبابات بحالة ممتازة متروكة في الميدان. وأوضح أن هذا يظهر مرة أخرى أن كثيراً من هذه القوات لم تعد مستعدة للقتال من أجل صدام، وما أن انتهت التهديدات والتخويف حتى اتخذوا قرارهم بترك مواقعهم. وفي الوقت نفسه أعلن ناطق باسم القيادة الأمريكية الوسطي في قطر أن النظام العراقي قد فقد السيطرة على قسم من بغداد، وأعلن الجنرال [فينيس بروكس] خلال مؤتمر صحفي أن الهجمات الأمريكية في قلب بغداد على أهداف سياسية للنظام يعزز في الواقع الرأي القائل بأن النظام لم يعد يسيطر على المدينة بكاملها. (23)
وعلى صعيد آخر حاول فدائيو صدام، ووحدات الحرس الجمهوري قطع طريق عبور الدبابات والمدرعات الأمريكية من جانب الكرخ الى جانب الوصافة حيث كانوا يتمركزون في الضفة الأخرى لنهر دجلة، بينما قالت الولايات المتحدة أنها أقامت نقاط تفتيش على كل الطرق الرئيسة الى بغداد لمنع التحركات العسكرية العراقية، لكنها ستسمح للمدنيين بحرية المرور، وقال الكابتن [فرانك ثورب] المتحدث في مقر القيادة الأمريكية للحرب في قطر لدينا نقاط تفتيش على كل الطرق الرئيسة الخارجة من المدينة بما يمنع تحرك القوات العراقية.
وذكرت الأنباء الواردة من بغداد إن القوات الأمريكية ‏ ‏استولت بعد قتال عنيف مع القوات العراقية على الساحة التي تقام عليها ‏ ‏الاستعراضات العسكرية الكبرى في بغداد.‏
 ‏وعرضت شبكة سكاي نيوز الإخبارية صورا للقوات الأمريكية وهي تأسر عددا من ‏ ‏الجنود العراقيين في الساحة.‏ ‏ وذكرت الشبكة أن القوات الأمريكية دمرت عددا من تماثيل رئيس النظام العراقي ‏صدام حسين في أماكن مختلفة في محاولة لإضعاف معنويات القوات العراقية.‏ ‏وأضافت أن قوات التحالف استطاعت احتلال القصر الجمهوري في 7 نيسان، وأنها الآن تتمركز في قصور صدام الثلاثة التي سيطرت عليها، ومن ضمنها ‏‏القصر الجمهوري.
 ومن جهة أخرى قام الجنود العراقيون بتفجير اثنين من الجسور الواقعة على نهر ‏ ‏ديالى لإعاقة تقدم القوات الأمريكية،‏ ‏وذكرت محطات فضائية أن قوات أمريكية أخرى تحاصر حاليا فندق الرشيد المقابل ‏ ‏لوزارة الدفاع بوسط المدينة.‏ من جهته قال المتحدث باسم القيادة المركزية الوسطى في السيلية بقطر الكابتن [ ‏فرانك ثورب] لشبكة[CNN] أن قوات الحرس الجمهوري لم تبد مقاومة كبيرة في صد ‏ ‏قوات التحالف.‏
وردا على تصريحات لوزير الأعلام العراقي محمد سعيد الصحاف قال فرانك ثورب أن تصريحات ‏ ‏الصحاف تفتقر للمصداقية والصحة، واصفا إياه بأحد الأعضاء المهمين في دائرة صدام ‏ ‏حسين،‏ ‏وذكر أن هدف قوات التحالف القضاء على النظام العراقي مضيفا أن ما يفعلونه غير ‏‏مجدٍ، ولابد أن يستسلموا. (24)

المعارك في شمال العراق
وعلى صعيد الحرب في شمال العراق قامت القوات الأمريكية المحمولة جواً بإنزال في أطراف المنطقة المحاذية لمنطقة كردستان التي كانت تحت سيطرة الأحزاب الكردية منذ عام 1991 بدعم وإسناد من قوات البيشمركة الكردية بعد قصف شديد من قبل الطائرات الأمريكية على القطعات العسكرية العراقية المتمركزة فيها.
 و في أربيل، أكبر مدن المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد، كان يسمع أزيز  الطائرات المتجهة لقصف أهداف تابعة للحكومة العراقية ليلا ونهارا، وفي قرية [ كلك] على خط                                                                                                                                                                                                                   المواجهة التي تبعد مسافة نصف ساعة بالسيارة من أربيل، شاهد مراسل رويترز حفراً ناتجة عن سقوط قنابل بالقرب من خنادق عراقية يوم الاثنين نتيجة قصف مكثف خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية.
 ومن جانبه قال [هوشيار زيباري] المستشار السياسي لمسعود البرزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني آنذاك للصحفيين أن هذه الهجمات كانت تستهدف أغلب وحدات الخط الأمامي للفيالق الخامس والثاني والأول العراقية، حيث ألحقت بها خسائر كبيرة.                                                                           
وأضاف زيباري دون ذكر أرقام مفصلة أن أعداد القوات الخاصة  وقوات المظلات قد زادت، و أنهم ينقلون المزيد من المعدات والإمدادات الى الجبهة الشمالية يوميا، وإن هناك  بالفعل قوة كبيرة في المنطقة.
لكنه حذر قائلا انه رغم الفاعلية الكبيرة للغارات الجوية، وانسحاب قوات الحكومة العراقية عن الخط الأمامي في موقعين على الأقل هما جمجمال وقشتبة، إلا أن هذا ليس مؤشرا على تراجعها، وأضاف أننا لا نعتقد أن هذا يعد تطورا كبيرا، بل هو عمل تكتيكي لإعادة تجميع قواتهم والدفاع عن المدن الرئيسية.
وأشار الزيباري الى عدة وقائع في الفترة الأخيرة لمواقع عراقية تلقت ضربات مباشرة من غارات جوية أمريكية، وقال أن هناك تدفقا منتظما للمنشقين الى الجانب الكردي أغلبهم من ضباط الصف والجنود، ولكن ليس بينهم ضباط من رتب كبيرة. (25)
وفي مدينة الموصل التي تعرضت لغارات متتالية، ولقصف مدفعي عنيف استهدفت محيطها وأحياء بداخلها. وإثر الغارات بدأت أطراف المدينة تتعرض لقصف مدفعي عنيف بعيد المدى، ولم يتم التمكن من تحديد مصادره، بينما غاب هدير الطائرات عن سماء المدينة.
ويذكر أن المقاتلين الأكراد كانوا يتقدمون بمساندة قوات أمريكية على عدة محاور مختلفة مؤدية إلى الموصل مستفيدين من تراجع القوات العراقية.
وبسقوط العاصمة بغداد انتهت المقاومة المسلحة في مدينة الموصل، وتلاشى وجود القوات المسلحة العراقية وأفراد المليشيات التابعة لحزب البعث، ودخلت القوات الأمريكية المدينة ترافقها قوات البيشمركة الكردية، واستطاعت القوات الأمريكية دخول مدينة كركوك في العاشر من نيسان، كما دخلت قوات أمريكية أخرى مدينة تكريت في 15 نيسان. 

468
حرب الخليج الثالثة ـ كتاب في حلقات
الحلقة السادسة
انطلاق الحرب بالهجوم الجوي والبري المكثف
حامد الحمداني                                                             28/2/2008

كانت أجواء الحرب في شهر آذار 2003 قد سيطرت على كامل نشاطات البيت الأبيض وجهاز المخابرات الأمريكية في وضع اللمسات الأخيرة على سيناريو [حرب الخليج الثالثة]، وكانت المخابرات المركزية تقوم بنشاط محموم لتقديم أي جديد من المعلومات الدقيقة عن نشاط أركان النظام العراقي، وكان في مقدمة أهدافه أمكانية رصد موقع تواجد رأس النظام صدام والزمرة المقربة منه بغية تسديد ضربة قاتلة لهم، لما لها من تأثير فعّال على معنويات جيشه، ولاسيما وأن الحرب قد تقررت، ولم يبقَ غير إصدار الرئيس بوش أمراً بانطلاقها.
وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر التاسع من آذار 2003، أبلغ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA [جورج تينيت] الرئيس بوش أن جهاز المخابرات قد استطاع أن يحدد موقع صدام حسين وأركان النظام على الرغم من الحرص الشديد لصدام وجهاز حمايته من أخفاء كامل تحركاته، ومكان تواجده. (3)
و لم تكن تلك المعلومات متوقعة، لكنها يمكن أن تتغير في أية لحظة. ولذلك فهي توفر ذلك الوقت هدفا ربما لا يتكرر بعد ذلك ، ومن الضروري معالجة صدام وأركان حكمه بالنظر لتأثيراته النفسية على مجريات الحرب.
وقال تينيت إن وكالته لا تعرف موقع صدام في تلك اللحظة فحسب، بل هناك احتمال كبير بأن تعرف أين سيكون على مدى عدة ساعات قادمة، مجتمعا مع مستشاريه في دار خاصة بجنوب بغداد. ونقل مساعدو بوش أن الرئيس كان يستمع في صمت، بينما كان تينيت يكشف مصادر معلوماته وحدودها، وقابليتها للصدق والخطأ، والمدة التي يمكن لصدام أن يقضيها في ذلك الموقع قبل أن يتحرك إلى موقع آخر يختبئ فيه.
 ومع أن الرئيس العراقي يملك عدة قصور إلا انه يتفاداها جميعا في حالات الخطر القصوى. وأضاف تينيت قائلاً :
{ انه ربما لن تلوح فرصة أخرى لتحديد مكانه}.(4)
وخلال الساعات الثلاث اللاحقة انصرف بوش وكبار مساعديه إلى فحص جدول العمليات الذي نسقته بصورة دقيقة القيادة العامة للقوات الأميركية خلال عدة شهور، وقد ذكر مسئولون أمريكيون أن الحاضرين في المكتب البيضاوي في تلك اللحظات كانوا هم نائب الرئيس [ديك تشيني] وزير الخارجية [كولن باول] ووزير الدفاع [دونالد رامسفيلد] ومستشارة الأمن القومي [كوندوليزا رايس] ورئيس موظفي البيت الأبيض [اندرو كارد] ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال [ريتشارد مايرز]. وعندما وقع بوش الأمر بتسديد الضربة الساعة السادسة والنصف مساء، أضيفت إليه عبارة صيغت على عجل وهي :
 {إن الضربات الأولى يجب تخترق سقف وحيطان هذا المنزل المجهول في بغداد، وان تنفذ عميقا في الأرض بحيث لن ينجُ منها احد أبدا}. (5)
وكان ضباط العمليات على متن الطائرات الحربية المرابطة بالخليج والبحر الأحمر، يبرمجون صواريخ توماهوك وفق معلومات رقمية مبثوثة من رئاسة CIA  بفيرجينيا، تحدد الأهداف المراد ضربها. وقامت فصيلة من طواقم مقاتلات الشبح [ستيلث] بالتقاط الطيارين من غرفهم وزودتهم بالتعليمات الجديدة.
 كانت الطائرات المقاتلة والصواريخ مزودة برؤوس حربية موجهة بواسطة الأقمار الصناعية، وكانت تزن القنابل التي تحملها هذه المقاتلات 2000 رطل، وهي المصصمة لاختراق طبقات أصلب المخابئ .
 وفي الساعة الخامسة والنصف صباحا بالتوقيت المحلي من يوم الخميس المصادف العشرين من آذار 2003 ، وبعد 90 دقيقة من انتهاء المهلة التي حددها بوش لصدام في إنذاره، بدأت الحملة العسكرية الأمريكية البريطانية المشتركة، والتي أطلق عليها الرئيس بوش [حرية الشعب العراقي ] !! .
وبعد ثلاث ساعات من أصدار بوش الامر بالهجوم وجه الخطاب التالي للشعب الأمريكي وللقوات المسلحة الأمريكية:
أيها المواطنون: بدأت القوات الأميركية وقوات التحالف في هذه الساعة المراحل الأولية للعمليات العسكرية لنزع أسلحة العراق، ولتحرير شعبه، ولحماية العالم من خطر قاتم محدق.
وبناء على أوامري بدأت قوات التحالف بضرب أهداف منتقاة تتمتع بأهمية عسكرية من أجل تقويض قدرة صدام حسين على شن الحرب. هذه هي مجرد المراحل الاستهلالية لما ستكون حملة واسعة ومركزة. وتقوم أكثر من 35 دولة بتقديم الدعم الحيوي من استخدام القواعد البحرية والجوية، إلى المساعدة في المعلومات الاستخباراتية والعمليات اللوجستية، إلى نشر الوحدات القتالية. لقد اختارت كل دولة من دول التحالف أن تتحمل المسؤولية، وأن تشاطرنا شرف الخدمة في دفاعنا المشترك.
إلى جميع الرجال والنساء في القوات المسلحة الأميركية المنتشرين الآن في الشرق الأوسط أقول إن سلام العالم المضطرب، وآمال شعب مقموع تعتمد الآن عليكم، وهذه الثقة هي في محلها تماما.
 إن القوات المسلحة الأميركية، وفي هذا النزاع، تواجه أميركا عدوا لا يحترم أعراف الحرب أو القواعد الأخلاقية، فقد وضع صدام حسين القوات العسكرية والمعدات العراقية في المناطق المدنية، وهو يحاول أن يستخدم الرجال والنساء والأطفال الأبرياء دروعا بشرية لحماية قواته، وهي آخر الفظاعات التي سيقوم بها ضد أبناء شعبه. أريد من الشعب الأميريكي والعالم أن يدركوا أن قوات التحالف ستبذل كل جهد ممكن للحفاظ على المدنيين الأبرياء من الأذى.
إن حملة في بلد ذي طبيعة جغرافية صعبة بمساحة ولاية كاليفورنيا، يمكن أن تكون طويلة، وأصعب مما توقع البعض، كما أن مساعدة العراقيين على إقامة دولة موحدة مستقرة وحرة ستتطلب التزامنا المستدام. نأتي إلى العراق والاحترام يحدونا لمواطنيه، ولحضارته العظيمة، ولمعتقداته الدينية التي يمارسونها. ليست لدينا أي مطامع في العراق، سوى أن نزيل التهديد، ونعيد السيطرة على تلك الدولة إلى شعبها.
 إنني أدرك أن أُسر أفراد قواتنا المسلحة يصلون الليلة بأن يعود أحبتهم الذين يخدمون في القوات المسلحة إلى ذويهم بسلامة وبسرعة. إن ملايين الأمريكيين يصلون معكم من أجل سلامة أحبتكم وحماية الأبرياء. ولتضحياتكم، فإنكم تحظون بامتنان وتقدير الشعب الأمريكي، وعليكم أن تدركوا أن قواتنا المسلحة ستعود فور انتهاء مهمتها
 إن بلادنا تدخل هذا النزاع بتردد، ومع ذلك فإن هدفنا واضح تماماً. إن شعب الولايات المتحدة وشعوب أصدقائنا وحلفائنا لن يعيشوا تحت رحمة نظام خارج على القانون يهدد السلام بأسلحة القتل الشامل. سنتصدى لهذا التهديد الآن بجيشنا وسلاح طيراننا وبحريتنا وحرس سواحلنا وقوات مشاة بحريتنا، وذلك لكي لا نتصدى له بجيوش مكافحة الإطفاء والشرطة والأطباء في شوارع مدننا في المستقبل. والآن، وبعد أن دخلنا هذا النزاع فإن الطريقة الوحيدة لخفض مدته تتمثل في استخدام القوة الحاسمة. وأؤكد لكم أن هذه الحملة لن تكون طويلة.
أيها المواطنون:
 إن الأخطار التي تتهدد بلادنا والعالم سيتم التغلب عليها، وسنجتاز أوقات الخطر هذه، ونواصل عمل السلام. سندافع عن حريتنا، وسوف نأتي بالحرية إلى الآخرين، وسوف ننتصر، ولن نقبل أي نتيجة إلا النصر فيها. ليبارك الله بلادنا، ومن يدافعون عنها. (6)

                                                            واشنطن 19 مارس/ آذار 2003

لكن ما ورد في رسالة بوش هذه يتناقض مع الواقع الذي جرى في البلاد، فقد احتلت القوات الأمريكية العراق، واستحصلت قرارا من مجلس الأمن لشرعنة الاحتلال، وباتت الولايات المتحدة دولة محتلة، وعينت حاكماً أمريكيا على العراق هو الدبلوماسي [بول بريمر] الذي ارتكب أخطاء كارثية اوصلت العراق إلى هذه الحالة المفجعة التي نشهدها اليوم ، وبدلا من أن تقيم الإدارة الأمريكية حكومة ديمقراطية علمانية قدمت العراق هدية لقوى الإسلام السياسي الطائفي التي مكنت حكومة طهران من التغلغل في كافة مرافق الحياة العراقية من جهة، وأوصلتنا للحرب الطائفية من جهة أخرى، وهكذا تبدد حلم العراقيين في الخلاص من الطغيان الصدامي ليصبح ضحية طغيان اشد وأقسى ، ذلكم هو طغيان قوى الإسلام السياسي الطائفي بشقيه الشيعي والسني، لينتكس العراق ويعاد به القهقرى مئات السنين إلى الوراء. 
انطلاق الحرب:
وانطلقت الصواريخ الموجهة وطائرات الشبح تلقي بحممها فوق بغداد التي هزتها الانفجارات الضخمة المتتالية. لكن نتائج الانفجارات بقيت غير معروفة على وجه التحديد بالنسبة لمصير صدام وأركان حكمه المقربين، وبعد عدة ساعات من الانفجارات أصدر النظام العراقي عبر التلفزيون بياناً قال فيه إن صدام ما يزال على قيد الحياة، وانه سيوجه خطابا إلى الشعب بعد قليل، وقد جرى إذاعة ذلك البيان حوالي الساعة الثانية عشر ونصف بالتوقيت المحلي للعراق. (7)
وفي الوقت نفسه أعلن مسؤول أمريكي بأن أجهزة الاستخبارات ستحتاج إلى بعض الوقت قبل أن تتمكن من التحديد الدقيق للإصابات التي أوقعتها الضربات، والشخصيات التي كانت في موقع المحدد لتواجد صدام وأركان نظامه. وقد أتضح فيما بعد  أن الضربة الجوية قد دمرت الدار وما يحيط به تدميراً كاملاً ، لكنها فشلت في اصطياد صدام وأركان حكمه في تلك الدار، حيث كان قد غادرها قبل وقت قصير من الهجوم.
كانت الصواريخ الموجهة والطائرات المغيرة تقذف بحممها على المواقع العسكرية  والمرافق المدنية الحيوية عبر أكثر من  ألف طلعة جوية يوميا، وقد بلغ عدد المهمات القتالية الجوية قبل بداية الحرب البرية 23 ألف مهمة جوية قتالية وتموينية. (8)
فقد ذكر مراسل الـ CNN  أن الطائرات الأمريكية والبريطانية قد نفذت في يوم واحد أكثر من 1900 مهمة قتالية، وتركزت 850 طلعة جوية على مهام قتالية تم فيها قصف مواقع مختلفة في إنحاء العراق، أثناء زحف قوات التحالف نحو العاصمة العراقية، وتركزت 85 % من تلك الضربات الجوية على قوات الحرس الجمهوري ، أفضل عناصر الجيش العراقي تدريباً وعتاداً. (9)
ولم يقتصر القصف الجوي الأمريكي البريطاني على القوات العسكرية، بل ركزت هجماتها على سائر المرافق المدنية ، فلم تترك مرفقاً اقتصادياً  أو خدمياً إلا ودمرته ، ولم يسلم من بطشها ما تبقى من المصانع المدينة والعسكرية، والطاقة الكهربائية المنهكة أصلاً بسبب حرب الخليج الثانية عام 1991، ومصافي النفط، والغاز السائل المستخدم كوقود في منازل المواطنين، ومصانع الأدوية، و المدارس، والمستشفيات، وسائر المرافق العامة والخاصة.  وكانت الطائرات المساندة،  تقوم بإعادة تزويد الطائرات بالوقود في الجو بحوالي 450 طلعة من إجمالي الطلعات الجوية التي اشتملت 200 عملية نقل للجنود والعتاد، فضلاً عن 100 طلعة لطائرات المساندة والتحكم التي تشمل المهام الاستكشافية والتجسسية، وبلغت نسبة [القنابل الذكية] المزودة بأجهزة دقة إصابة الهدف التي استخدمتها طائرات التحالف لدك مواقع الجيش العراقي 70% من مختلف أنواع القنابل المستخدمة، وهي سبعة أضعاف ما تم استخدامه أثناء حرب الخليج عام 1991.
وفي الوقت الذي بدأ فيه القصف الجوي العنيف الذي استهدف القطعات العسكرية العراقية والمرافق العسكرية والمدنية باشرت القوات الأمريكية والبريطانية هجومها البري مستهدفة احتلال ميناء أم قصر.
لكن القوات البريطانية واجهت مقاومة شديدة من جانب القوات العراقية، والمليشيات التابعة لحزب البعث، وفدائيي صدام، وما أطلق عليه جيش القدس، واستمرت المقاومة أكثر من أسبوعين، على الرغم من التفوق الكبير في الأسلحة والمعدات للقوات المهاجمة والغارات التي نفذتها الطائرات البريطانية والأمريكية، لكنها تجنبت في بادئ الأمر حرب المدن، واستمرت في عمليات القصف لإضعاف المقاومة، حيث اندفعت الدبابات نحو المدينة واشتبكت في معركة ضارية مع الدبابات العراقية، واستطاعت القوات المهاجمة في نهاية المطاف  احتلال أم قصر والفاو، والسيطرة على حقول النفط في منطقة الرميلة، حيث وضعت القوات البريطانية المهاجمة الحقول النفطية ومنشآتها في منطقة الرميلة في أولويات هجومها بغية السيطرة عليها، ومنع قوات النظام العراقي من القيام بحرقها كما جرى في الكويت في حرب الخليج الثانية. (10)
وبالفعل استطاعت تلك القوات أحكام قبضتها في المرحلة الأولى من الحرب على حقول النفط تلك، والزحف نحو مدينة البصرة ، ثاني المدن العراقية بعد العاصمة بغداد، واستطاعت عزل وتطويق المدينة، لكنها تجنبت الدخول فيها في بادئ الأمر تجنباً لحرب المدن، وما يمكن أن تسببه من خسائر بشرية.
 وفي الوقت نفسه اندفعت القوات الأمريكية بآلياتها الحربية نحو العمق العراقي في الصحراء الغربية، والسيطرة عليها، ومن ثم توجهت تلك القوات نحو محافظات الناصرية والنجف وكربلاء والحلة في طريقها نحو بغداد متجنبة في بادئ الأمر الدخول إلى تلك المدن واحتلالها، لتجنب حرب المدن وخسائرها. (11)
ومن جانب آخر كان ما يزال قضاء سوق الشيوخ مسرحاً للمعارك، حيث شهد قصفا عنيفا من قبل مشاة البحرية الأمريكية، فيما أكدت قناة [سكاي نيوز] خبراستيلاء القوات الأمريكية المهاجمة علي الشطرة، ونجاح القوات المهاجمة في دخول المدينة بعد معارك عنيفة، ولم تورد القناة وقوع خسائر لدي الجانبين.               
كما أعلنت القوات الأمريكية أنها تخوض معارك حول النجف على بعد 160 كيلومترا جنوب العاصمة العراقية بغداد من دون أن تذكر أي تفاصيل حول المعارك الدائرة في الهندية وكربلاء، في وقت أعلن العراق عن سقوط عشرات القتلى والجرحى من المدنيين خلال القصف الجوي لبغداد والحلة.
 ومن جانبها أعلنت القوات المسلحة العراقية أنها كبدت القوات الأمريكية والبريطانية خسائر كبيرة قرب مدينة البصرة في الجنوب، ودمرت سبع دبابات بأطقمها حول مدينة النجف بوسط العراق.
 ولم يتسن التحقق من صحة التقرير من جهة مستقلة، وهو يتناقض مع حجم الخسائر المتدني الذي كانت القيادة العسكرية الأمريكية تتحدث عنه في بلاغاتها الحربية.                   
وعاد  المتحدث العسكري العراقي مرة أخرى لإذاعة بيان جديد صادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة أكد فيه تكبد الأمريكيين والبريطانيين خسائر كبيرة في [أبو الخصيب] جنوب البصرة، وأعلن البيان أن  جثث قتلي قوات العدو ما تزال  ملقاة في مسرح المعارك 
وأضاف المتحدث العسكري قائلاً: {إن فدائيي صدام وأعضاء حزب البعث الحاكم تصدوا للمعتدين وأجبروهم علي الانسحاب}. (12)
 وقال متحدث عسكري بريطاني أن جنديا بريطانيا قُتل خلال الليل قرب البصرة، وقال متحدث عسكري عراقي ثان في التلفزيون أن فدائيي صدام تصدوا للقوات الأمريكية على مشارف النجف، وأنهم دمروا سبع دبابات وعددا من العربات، وقتلوا كل من فيها.
 وعلى صعيد المعارك التي خاضتها القوات البريطانية في محيط مدينة البصرة ذكرت مراسلة [بي. بي. سي] أن القوات البريطانية والأمريكية في جنوب العراق قد استولت علي مدينتي [ أبو الخصيب] و[الزبير] بما يعد تطوراً مهماً في مجري الحرب، حيث فرضت القوات البريطانية حصارها على البصرة الكبرى، لكن متحدثاً باسم القوات الأمريكية أكد عدم الاستعجال في اقتحام المدينة.
واشتد ضغط القوات المهاجمة حول البصرة حيث شهد حي البعث السكني الواقع غرب المدينة، والذي يشكل آخر منطقة سكنية قبل المطار معارك عنيفة بين الجانبين في وقت أعلن ناطق بريطاني في قطر أن القوات البريطانية التي تحاصر البصرة لا تعتزم التسرع في عملياتها للاستيلاء علي المدينة.                                                               .           
وقال اللفتنانت [بيتر دارلينغ] إن قواته تقوم بالسيطرة علي المدينة قطاعا تلو الآخر، ولن نسمح للقوات العراقية بأن تدفعنا إلى التهور، ملمحاً إلى احتمال سقوط عدد كبير من الضحايا، وأضاف اللفتنانت دارلينغ أن الأوضاع في المنطقة المحيطة بالبصرة، والتي تحتلها قوات التحالف بدأت تعود إلي طبيعتها في المدن الثلاث الزبير والرميلة وصفوان، وتوقف المقاومة في تلك المنطقة.
وتحت ضغط الهجوم  البريطاني المكثف اضطر فدائيو صدام والقوات العسكرية النظامية إلى إخلاء مواقعهم في البصرة، ونزعوا ملابسهم العسكرية، وتواروا بين المدنيين عقب وصول الدبابات البريطانية إلي مركز المدينة، وفي غضون ذلك حذر قادة عسكريون بريطانيون من أن المعارك الدائرة في البصرة ثاني اكبر المدن العراقية لم تنته بعد على الرغم من فرض سيطرة القوات البريطانية علي أجزاء كبيرة منها.                                                                                               
ومن جهة أخري نُقل عن قادة عسكريين بريطانيين أن المقاومة داخل البصرة قد فاجأتهم، وأنهم كانوا يتوقعون نصرا سهلا في وقت قصير.
 وفي 27 آذار أعلن المتحدث باسم اللواء المدرع السابع اللفتنانت كولونيل [هيوبلاكمان] للصحفيين أن المعركة في البصرة قد انتهت تقريبا، وأكد أن قواته تسيطر علي معظم مناطق البصرة بما فيها المدينة القديمة، وباشرت القوات البريطانية بجمع مئات الرشاشات مع ذخيرتها التي تركها فدائيوصدام، وميليشيات حزب البعث في الشوارع بعد فرارهم أمام القوات الزاحفة. (14)                                                                           .                                             
وعلي صعيد متصل اقترب نحو 400 جندي بريطاني وأمريكي تدعمهم الدبابات وطائرات الهليكوبتر الحربية دونما مقاومة من وسط البصرة ثاني أكبر المدن العراقية بامتداد شارع بغداد حتى أصبحوا علي بعد بضع مئات الأمتار من قلب البصرة، ولم ُتسمع أي أصوات للنيران.
وفي لندن قال وزير الدفاع البريطاني [جيف هون] أن القوات البريطانية تحركت إلي قلب المدينة وإنها ذاهبة هناك لتبقى، وذكر متحدث عسكري في مقر للقيادة بقطر أن القوات البريطانية تسيطر الآن على أغلب أجزاء البصرة، وذكرت قوات بريطانية في أحد المجمعات الواقعة على أطراف البلدة القديمة للمدينة أنها تعرضت لإطلاق نيران خلال الصباح، وتتميزالبلدة القديمة بأنها ذات الشوارع الضيقة، كثيرة الأزقة، وغير مناسبة لدخول وانتشار الآليات المدرعة الثقيلة، وقد امتنعت مصادر عسكرية بريطانية عن التنبؤ بالمدة التي ستستغرقها لتأمين البلدة، وقالت مصادر عسكرية أن أكبر الخسائر البشرية قد تكون في صفوف الميليشيات التي ترتدي ملابس مدنية ممن حوصروا في المدينة.
وبعد أن تم للقوات البريطانية استكمال احتلال البصرة، بدأت قواتها بالزحف نحو مدينة العمارة التي استطاعت دخولها في9 نيسان.                                                     .                                                                                                             
وفي الوقت نفسه أعلنت القيادة البحرية الاسترالية أن سفنها الحربية  الموجودة في مياه الخليج العربي استنفاراً شاملاً تحسباً لقيام زوارق عراقية بعمليات انتحارية تستهدف السفن الحربية المشاركة فعلياً في الحرب، وبالفعل نجحت البحرية الأسترالية في اعتقال زوارق وسفن عراقية تابعة للحرس الجمهوري وهي تلقي ألغاماً في مياه الخليج. 

469
حكام طهران يلعبون بالنار




حامد الحمداني                                                               2/3/2008
السحب السوداء القاتمة كما يبدو لكل متتبع لمسيرة وتطورات الأحداث في عالم اليوم بدأت تغطي منطقة الشرق الأوسط برمتها، وباتت نذر الشر المستطير تتصاعد يوماً بعد يوم، مبشرة بحرب شاملة في هذه المنطقة الحساسة والبالغة الأهمية لدول العالم أجمع كونها المصدر الأكبر للطاقة التي لا غنى عنها لتسيير وإدامة عجلة الاقتصاد العالمي.

ومن المعلوم والثابت للجميع أن السياسة هي دائماً وأبدا في خدمة الاقتصاد، هذا أولا
وأن الحرب كما هو معروف كذلك يمثل السياسة، ولكن بأسلوب عنيف ، فهو إذا يعتبر أعلى مراحل العنف السياسي، وعادة تلجأ إليها الدول، وبوجه خاص الدول الكبرى التي تمتلك القوة والثروة والتنكلوجيا المتطورة، والتي هي على استعداد دائم لاستخدام سائر إمكانياتها العسكرية والمادية عندما تعجز الأساليب السياسية الهادئة في تحقيق والحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية في أي منطقة من العالم.

وبطبيعة الحال فإن عصب الحياة، هو الطاقة التي يعتبر مصدرها الأكبر منطقة الشرق الأوسط، بالنسبة لسائر دول العالم بوجه عام، وللدول الكبرى، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة على وجه الخصوص، هو في المقام الأول من اهتماماتها وحرصها الشديد على استمرار تدفق النفط بكل حرية وانسيابية ودون عوائق، وهم على كامل الاستعداد دائماً وأبداً لحماية مصالحهم متى ما شعروا بأي تهديد مباشر كان أم غير مباشر ، ولا يتوانون عن استخدام أقصى القوة وبكل ما يمتلكونه من أسلحة متطورة لتحقيق أهدافهم في المنطقة. ولنا من تجارب التاريخ القريبة والبعيدة ما يؤكد ذلك .

فقد حاولت المانيا للوصول إلى منابع النفط دون توقف، وخاصة عندما أفلحت حركة رشيد عالي الكيلاني بالاستيلاء على السلطة في 2 مايس 1941، عندما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة، وانحياز حكومة [ الكيلاني ]إلى جانب ألمانيا، وإعلانها الحرب على بريطانيا، وتقدمها بطلب المساعدة العسكرية من [هتلر]، لكن هتلر لم يستطع إرسال قواته إلى العراق، مكتفياً بإرسال عدد من أسراب طائراته الحربية لحماية الانقلابيين من القوات البريطانية التي راعها هذا الانقلاب المفاجئ في العراق، وخطورة وصول ألمانيا إلى منطقة الخليج والسيطرة على منابع النفط فيها، وصممت على إسقاط الحكومة الكيلانية بأسرع ما يمكن، وإعادة الوصي عبد الإله إلى الحكم من جديد. وهكذا عادت بريطانيا العظمى آنذاك إلى احتلال العراق عسكرياً من جديد.

وفي عهد الرئيس [روزفلت ] جرى ضغط شديد على رئيس الوزراء البريطاني [ونستن تشرشل] من أجل حصول الولايات المتحدة على نصيب أكبر في نفط الخليج، وكان تشرشل يقاوم الضغط الأمريكي، إلا أنه كان عاجزاً عن إيقاف ذلك الضغط، بسبب ضعف موقف بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية التي أنهكتها، فقد كتب تشرشل إلى اللورد  [بيفر بروك] العضو في وزارة الحرب البريطانية يقول فيها رداً على مذكرته حول محاولات الولايات المتحدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه من حصة بريطانيا في نفط الشرق الأوسط قائلاً:
{إنني أفهمك جيداً ولكني أخشى أن عالم ما بعد الحرب قد ينهار إذا دخلناه ونحن في معركة مع الولايات المتحدة حول البترول }.
أما الرئيس الأمريكي روزفلت في حديثة مع وزير خارجيته جيمس بيرنز قائلاً:
 { إن بترول الشرق الأوسط هو أعظم كنز تركته الطبيعة للتاريخ، وأن التأثير الاقتصادي  والسياسي لهذا الكنز سوف يكون فادحاً }.
وعندما سأل الوزير جيمس بيرنز الرئيس روزفلت ما هي الحصة يا سيادة الرئيس التي ينبغي أن نسيطر عليها من بترول الشرق الأوسط ؟
 سكت الرئيس روزفلت برهة ثم أجابه قائلاً : [ لا أقل من 100%]
أما رئيس شركة نفط  [سكسوني فاكوم] وهي أكبر إمبراطورية نفطية أمريكية فقد صرح قائلاً :
{ إن إدارة شؤون البترول تختلف عن إدارة شؤون أية سلعة أخرى، ذلك أن شؤون البترول في 90 % منها سياسية ، و10 % منها فقط بترول ،ثم زاد قائلاً:إذا كان محتَّماً على الولايات المتحدة أن تدير شؤون البترول في العالم، فإن عليها أن تدرك طوال الوقت بأنها مطالبة بأن تفعل ذلك حتى خارج حدود سياستها الإقليمية، وخارج قيود القانون الدولي إذا دعا الأمر ذلك }.
وعندما فاز حزب الدكتور محمد مصدق في الانتخابات البرلمانية في إيران، وتولى رئاسة الوزارة ، وأقدم على تأميم النفط الإيراني سارعت الولايات المتحدة إلى تدبير انقلاب عسكري دموي ضد حكومة الدكتور [محمد مصدق ]، ومزيحة الهيمنة البريطانية المطلقة على نفط الخليج، وتمكن الإمبرياليون الأمريكان الجدد من السيطرة على 54% من نفط الخليج حتى عام 1953 بعد أن كانت حصتها عام 1946 لا تتجاوز 35,3%، في حين  هبطت حصة بريطانيا من 49,9 %  إلى 28,4%  .
 أما الرئيس الأمريكي [ جيمي كارتر ] فقد أعلن أمام الكونجرس في 23 كانون الثاني 1980 ما عرف آنذاك [بمبدأ كارتر ] حيث قال:
{ إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز سيطرة في منطقة الخليج سوف يعتبر في نظر الولايات المتحدة كهجوم على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية } .
في العهد القريب شهدنا كيف كان رد الولايات المتحدة وحلفائها على غزو صدام حسين للكويت واستئثاره بموارده النفطية حيث سارعت إلى شن تلك الحرب المعروفة للجميع عام 1991، وفرضت الحصار الجائر على شعب العراق منذ ذلك التاريخ حتى انتهاء حرب الخليج الثالثة بسقوط نظام صدام، والكل يدرك ما سببته تلك الحرب، وذلك الحصار الذي يعد بحق أشنع أنواع الحروب وأقساها على شعب العراق المسلوب الإرادة من قبل ذلك النظام القمعي الاستبدادي.
 وهكذا إذاً كان الصراع محتدماً ليس فقط بين الامبرياليين ودول المنطقة، بل بين الإمبرياليين أنفسهم كذلك، ومنذُ أمد بعيد على المنطقة، وثرواتها النفطية، وبطبيعة الحال فإن العراق، بموقعه الجغرافي، وبما يملكه من ثروة نفطية هائلة، كان وما يزال وسيبقى في لب هذا الصراع للهيمنة عليه. 
إن حكام طهران كما يبدو من تصرفاتهم الطائشة لم يتعلموا أي درس من دروس التاريخ
وهم ماضون في سياسة التسلح بأسلحة الدمار الشامل، وفي مقدمتها السلاح النووي.
كما أنهم ماضون في التدخل الفظ والمكشوف والعميق في شؤون العراق، تحدوهم الرغبة الجامحة في الهيمنة على مصير العراق بانتظار اللحظة المناسبة مدعومين من قبل أحزاب قوى الإسلام السياسي الشيعي النابعة والممولة والمسلحة من قبل نظام ملالي طهران، وهم ينتظرون بفارغ الصبر خروج المحتلين الأمريكان والبريطانيين وحلفائهم لينشبوا أنيابهم في تمزيق العراق واقتطاع القسم الجنوبي والفرات الأوسط ، إذا لم يكن العراق كله من أقصى جنوبه وحتى أقصى شماله.
ومن أجل تنفيذ أجندتها في العراق تحاول اليوم إشعال نيران الحرب الأهلية في لبنان على أيدي حزب الله الذي سلحته ومولته وما تزال ليغدو أقوى من الجيش اللبناني عددا وعدة ، والذي أصبح اليوم هو الذي يمتلك القرار في لبنان بقوة صواريخ ملالي طهران وأسلحتها وأموال نفطها التي حرم منها الشعب الإيراني الذي يأكله الفقر.
ولم تكتف بكل ذلك بل التفتت إلى حركة حماس في غزة ومدتها بالأموال والأسلحة بدعوى مقاومة الاحتلال على الرغم من خروج الجيش الإسرائيلي وتهديم مستعمراتها في القطاع مما تسببوا في هذه المحنة القاسية التي يعاني منها اليوم الشعب الفلسطيني المظلوم في غزا.
وبالأمس وقف السيد حسن نصر الله يهدد إسرائيل وأمريكا والعالم الغربي بالحرب المفتوحة ليزج لبنان بالحرب من جديد، حربٌ ستكون بتقدير كل المتتبعين أقسى وأشد بما لا يمكن تقدير مداها، حرب يمكن أن يمتد لهيبها ليشمل سوريا التي ارتبط حكامها بتحالف وثيق مع نظام ملالي طهران ويمارسون التدخل الفض في الشأن اللبناني.
إن نذر الحرب بدأت تقترب من لبنان، وهي إذا اشتعلت فسوف لن تكن محصورة بين لبنان وإسرائيل، بل سيمتد لهيبها لتحرق منطقة الشرق الأوسط برمته، وسيكون واقعاً في أنونها  العراق وسائر دول الخليج بالإضافة إلى سوريا وفلسطين، وسوف يكون مصير نظام طهران كمصير نظام صدام إذا ما استمر هذا النظام على نهجه الحالي ولكن بعد خراب البصرة كما يقول المثل العراقي.

470
حرب الخليج الثالثة ـ كتاب في حلقات
الحلقة الخامسة
صدام يرفض مغادرة العراق ويصر على المواجهة!

حامد الحمداني                                                             26/2/2008

بدأت الأخطار المحدقة بمصير العراق تتصاعد بوتائر سريعة، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى أن الحرب الأمريكية واقعة لا محالة، وتصاعدت تهديدات القادة العسكريون الأمريكان من خلال تصريحاتهم بأن قواتهم باتت على أتم الاستعداد لشن الحرب فوراً، وبمجرد إصدار الرئيس بوش الأوامر بذلك .
وبات نظام صدام يواجه محنة هي من أشد ما واجهه من محن منذ أن استولى البعثيون على الحكم في انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968 الذي جلب كل الكوارث على البلاد، فلقد ضيقت الولايات المتحدة عليه الخناق بعد أن تمكنت من تمرير القرار1441بمصادقة جماعية من كافة أعضاء مجلس الأمن الدولي، مما خيب آمال دكتاتور العراق صدام حسين والزمرة المحيطة به أن تستطيع روسيا وفرنسا والصين الحيلولة دون إصدار القرار المذكور، وفاته أن ما يجمع هذه الدول من مصالح اقتصادية مع الولايات المتحدة هي أقوى وأكثر أهمية من مصالحها مع العراق،  وهكذا وضع النظام العراقي رهانه على الحصان الخاسر، كما يقول المثل، وأخطأ مرة أخرى في قراءة المتغيرات الحاصلة في الموقف الدولي، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول الإرهابية الدامية، وتتالت خيبات النظام العراقي بعد أن وافق النظام السوري اذي كان صدام يتوكأ عليه في مجلس الأمن، وقدم له الكثير من المساعدات السخية، من تزويده بالنفط العراقي، وتوسيع حجم التبادل التجاري معه بنطاق واسع جداً، وقد فلسف حكام سوريا موافقتهم على القرار بأنه حال دون وقوع الحرب التي تهدد الولايات المتحدة بها لإسقاط النظام !!. 
                                                                                   .                                                                                                 
 لكن الحقيقة ظهرت عندما تحدث وزير الخارجية الأمريكية [ كولن باول] مع نائب الرئيس السوري [فاروق الشرع] آنذاك قائلاً له:     
 { إن الرئيس بوش يريد من سوريا أن تقف إلى جانبنا، ولا تريد أي موقف آخر] ، أي أن المطلوب من سوريا أن لا تعارض القرار ولا تمتنع عن التصويت}. (1)

كما خاب ظن النظام العراقي بمواقف الدول العربية في اجتماع وزراء الخارجية العرب، والتي بنى عليها الآمال في الوقوف إلى جانبه، فقد سارعت الجامعة العربية بسائر أعضائها إلى تأييد القرار، طالبة من النظام العراقي الالتزام به التزاماً كاملاً، وبقيت آمال النظام العراقي معلقة بعد كل الذي حصل على ما يسميه بـ [الجماهير العربية]  بالوقوف إلى جانبه، لكن كل الدلائل كانت تشير إلى أن هذا الرهان سيلحق بالرهانات السابقة لا محالة، وستلجأ كل الحكومات العربية إلى كبح جماح أي تظاهرة تأييد للنظام العراقي خوفاً على أنظمتها الاستبدادية من الانهيار، وإطاعة الولايات المتحدة بكل تأكيد.
 وبغية تأخير الحرب انتظاراً لمعجزة كي تنقذ النظام،  سارع صدام حسين بتقديم الملفات الخاصة بالتسلح النووي والكيماوي والبيولوجي والتي تتجاوز 12000 صفحة حيث يتطلب دراستها من لجنة التفتيش المختصة الوقت الطويل. (2)
كما سارع صدام  إلى إصدار اعتذار للشعب الكويتي عن جريمته البشعة في غزو ونهب وتخريب الكويت، والتنكيل بأبنائه، غير مدرك أن الولايات المتحدة قد عقدت العزم على شن الحرب دون انتظار لما ستسفر عنه تلك الدراسة، طالما أعلن صدام حسين أن بلاده لا تملك أي من أسلحة الدمار الشامل، وكانت الأسلحة والمعدات والقوات العسكرية وحاملات الطائرات يجري نقلها على عجل إلى الخليج وشرق البحر الأبيض المتوسط والأردن.
كما أن الطائرات الأمريكية والبريطانية قد زادت من غاراتها الجوية التي كانت تمارسها باستمرار منذ ما بعد حرب الخليج الثانية إلى ثلاثة أمثالها على المواقع العسكرية العراقية في شمال العراق وجنوبه،  مستهدفةً تدمير شبكات الرادار، وشبكات الاتصالات لغرض تسهيل الهجوم المرتقب.
ورغم أن النظام العراقي في واقع الأمر كان يدرك تمام الإدراك أن لا أمل له في كسب الحرب، وأنه يغامر في زج جيشه في حرب محسومة سلفاً، كما كان الحال في حرب الخليج الثانية، مع فارق كبير هو فقدان الجيش العراقي للغطاء الجوي بعد أن خسر معظم طائراته فيها، وما تبقى منها طائرات قديمة لا يمكن أن تقف بوجه سلاح الجوي الأمريكي والبريطاني المجهز بأحدث الطائرات الحربية والصواريخ الموجه عن بُعد ، هذا بالإضافة إلى الأسلحة المتطورة التي تستخدمها القوات البرية  من الدبابات والمدرعات التي تفوق القدرات العسكرية العراقية .
كما أن الجيش العراقي الذي سئم من حروب صدام الكارثية لم يكن له الاستعداد والاندفاع لحرب يسوقه إليها عن، وهو يدرك تمام الإدراك أن لا أمل له في كسبها ، فهي مجرد محرقة لقوات الجيش العراقي، وهي سوف تأتي على الأخضر واليابس كما يقول المثل، وستدمر البنية التحتية للعراق في كافة المجالات، وستسبب الموت لمئات الألوف من أبناء شعبنا، وسيقع العراق لقمة سائغة في حلق الاحتكارات النفطية الأمريكية لسنين طويلة.
لكن صدام  أصر على البقاء في السلطة مستهيناً بمقدرات الشعب والوطن، ولسان حاله يقول ما دمت ذاهباً فليذهب العراق وشعبه إلى الجحيم!!.
كان الطريق الوحيد لأبعاد شبح الحرب، وإنقاذ شعبنا ووطننا هو ترك صدام وزمرته البلاد، وفسح المجال لشعبنا لاختيار حكومة جديدة تعيد إليه حقوقه وحرياته، وتشيد نظاماً ديمقراطياً تعدديا يؤمن بالسلام، ونبذ العدوان على جيرانه وأشقائه ، ويحرص على إقامة أفضل العلاقات معهم في كل المجالات، ويتفرغ لبناء العراق من جديد، والسير بخطى مسرعة لتعويض ما فاته نتيجة الحروب العبثية المجرمة، والحصار الظالم المفروض على العراق منذ عام 1990والذي يعتبر أشنع أنواع الحروب.
كان هذا الأمر يتطلب من سائر القوى الوطنية العراقية، وسائر قوى التحرر والسلام  في الوطن العربي، وفي العالم أجمع، أن تمارس أقصى ما تستطيع من الضغوط على النظام العراقي لإجباره على التخلي عن السلطة، وعدم فسح المجال للولايات المتحدة لتنفذ أهدافها في العدوان على العراق.
وكان الوقوف بجانب النظام العراقي القمعي بادعاء الحرص على العراق وشعبه لا يجلب السلام والأمن للعراق والعراقيين، ولا يمكن أن يبعد شبح الحرب، وسيحاسب التاريخ كل من تخلى عن الشعب العراقي من الحكام العرب،  والقوى السياسية العراقية والعربية، ووسائل الإعلام،  وسائر الدول التي ترتبط بصالح اقتصادية مع النظام لصالح بقاء النظام الديكتاتوري البغيض.
 لكن هذا كله لم يحدث، وهكذا بدأ ناقوس الخطر بدقاته المتسارعة تنذر بالخطر الجسيم ، ولم يعد هناك متسع من الوقت لإنقاذ العراق وشعبه، مسلماً قدره للنظام الصدامي القمعي الفاشي، وتجار الحروب الإمبرياليين الطامعين بثروات العراق، غير آبهين بما سيحل بالعراق من ويلات ومصائب ونكبات وخراب ودمار لا احد يستطيع تحديد مداها، وتهديم البنية الاجتماعية وتفككها،  واندلاع الصراعات الدموية السياسية والطائفية والعنصرية، وهو ما يشهده العراق اليوم، والذي يمثل بحق كارثة وطنية كبرى أحالت حياة المواطنين العراقيين إلى جحيم أقسى وأمر من كل الأيام السالفة مما سأتناوله في فصول قادمة .

471
حرب الخليج الثالثة ـ كتاب في حلقات
 الحلقة الرابعة
بوش ينذر صدام بمغادرة العراق خلال 48 ساعة
خطاب بوش بين الإدعاء والحقيقة!!

حامد الحمداني    24/2/2008

في اليوم الثامن عشر من آذار 2003 ألقى الرئيس الأمريكي خطاباً ذو طابع تهديدي أمهل فيه رئيس النظام العراقي صدام حسين 48 ساعة لمغادرة العراق وإلا واجه حرباً لنزع أسلحته، وفيما يلي النص الحرفي للخطاب:                                            .                                           
{وصلت الأحداث في العراق إلى آخر أيام القرار. لأكثر من عقد من الزمن بذلت الولايات المتحدة ودول أخرى خلالها جهودا صبورة ومشرفة لنزع أسلحة النظام العراقي من دون حرب، وتعهد هذا النظام بالكشف عن كل أسلحة الدمار الشامل التي يملكها، وتدميرها كشرط لوقف حرب الخليج العام 1991.
 ومنذ ذلك التاريخ باشر العالم اثنا عشرعاما من الدبلوماسية، واعتمدنا أكثر من 12 قرارا في مجلس الأمن الدولي، وأرسلنا مئات المفتشين للإشراف على نزع أسلحة العراق.
لكن نيتنا الحسنة لم تقابل بالشيء نفسه، فقد استغل النظام العراقي الدبلوماسية كحجة لكسب الوقت، وقد تحدى قرارات مجلس الأمن التي تطالب بنزع أسلحته بالكامل.           .                         
وعِبر السنين تعرض مفتشو الأمم المتحدة لتهديدات من المسؤولين العراقيين، وتم التنصت عليهم ألكترونيا، وخداعهم بشكل منهجي. وفشلت الجهود السلمية لنزع أسلحة العراق مرة بعد أخرى لأننا لا نتعامل مع رجل مسالم.
إن المعلومات التي جمعتها حكومتنا وحكومات أخرى لا تترك أي مجال للشك بأن النظام العراقي لا يزال يملك ويخفي بعضا من أفتك الأسلحة، وقد سبق لهذا النظام أن استخدم أسلحة دمار شامل ضد جيران العراق وضد الشعب العراقي.
 فالنظام له تاريخ من العدوان الأخرق في الشرق الأوسط، وهو يضمر حقدا عميقا لأميركا وأصدقائنا، وساعد ودرب وآوى إرهابيين بينهم عناصر من القاعدة. إن الخطر واضح فعبر استخدام أسلحة كيميائية وبيولوجية، وربما يوما ما أسلحة نووية يحصلون عليها بمساعدة العراق، يمكن للإرهابيين تحقيق طموحاتهم المعلنة، وقتل آلاف أو حتى مئات الآلاف من الأشخاص الأبرياء في بلادنا وفي دول أخرى.
    إن الولايات المتحدة والدول الأخرى لم تفعل شيئا لتستحق هذا التهديد، لكننا سنبذل قصارى جهدنا لهزمه بدلا من الانجرار إلى المأساة، وسنسلك الطريق نحو بر الأمان قبل أن تحل الفظاعة، وقبل أن يفوت الأوان للتحرك، وستتم إزالة هذا الخطر، فالولايات المتحدة تتمتع بالصلاحية السيادية لاستخدام القوة لحماية أمنها القومي، وهذا الواجب يقع على عاتقي بصفتي القائد الأعلى من خلال القسم الذي أديته، هذا القسم الذي سأحترمه.                                     
والكونغرس وعى بالتهديد الذي يحدق ببلادنا فصوت بغالبية كبرى العام الماضي لتأييد استخدام القوة ضد العراق. لقد حاولت أميركا العمل مع الأمم المتحدة لمواجهة هذا التهديد لأنها أرادت حل هذه المسألة سلميا، ونحن نؤمن بمهمة الأمم المتحدة.                    .                                 
 إن أحد الأسباب التي أدت إلى تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كان لمواجهة الطغاة العدوانيين بنشاط مبكر قبل أن يتمكنوا من مهاجمة الأبرياء وتدمير السلام، وفيما يتعلق بالعراق تحرك مجلس الأمن الدولي في بداية التسعينيات، وبموجب القرارين 678 و687 اللذين لا يزالان ساريين يسمح للولايات المتحدة وحلفائنا باستخدام القوة لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية.                               
إن الأمر لا يتعلق بالصلاحية بل يتعلق بالإرادة، ففي سبتمبر الماضي أيلول ذهبت إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودعوت أمم العالم إلى الاتحاد ووضع حد لهذا الخطر. وفي الثامن من نوفمبر[تشرين الثاني] اعتمد مجلس الأمن بالإجماع القرار 1441 الذي نص على أن العراق ينتهك بشكل واضح التزاماته، وسيتعرض لعواقب وخيمة في حال لم ينزع العراق أسلحته فورا وبالكامل.                                                   
واليوم لا يمكن لأي دولة أن تدّعي أن العراق نزع أسلحته، ولن ينزع أسلحته طالما أن صدام حسين يتمسك بالسلطة. فخلال الأشهر الأربعة ونصف الشهر الأخيرة عملت الولايات المتحدة وحلفائها داخل مجلس الأمن للدفع إلى تطبيق مطالب المجلس.
إن بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أعلنت أنها ستستخدم الفيتو على  مشروع عزمنا على تقديمه لنزع أسلحة العراق، هذه الدول تشاطرنا تقييمنا للخطر، لكنها لا تشاطرنا عزمنا على مواجهته.                                 
   الكثير من الدول رغم ذلك تمتلك العزم والقوة المعنوية للتحرك ضد التهديد الذي يحدق بالسلام، ويتشكل الآن تحالف واسع للعمل على تنفيذ مطالب العالم العادلة، ولم يرتق مجلس الأمن الدولي إلى مستوى مسؤولياته، لذا سنرتقي إلى مستوى مسؤولياتنا.       .                               
في الأيام الأخيرة كانت بعض حكومات الشرق الأوسط تقوم بالجزء العائد إليها، فقد وجهت رسائل علنية وشخصية تحض الديكتاتور على مغادرة العراق حتى يفسح المجال أمام عملية نزع أسلحته سلمياً، بيد أنه رفض ذلك.                                             
وصلت كل عقود المخادعة والشراسة إلى نهايتها، وعلى صدام حسين وأبنائه أن يغادروا العراق في غضون 48 ساعة، وسيؤدي رفضهم إلى بدء نزاع عسكري في الوقت الذي نختاره، وبغية المحافظة على سلامتهم, على كل الرعايا بمن فيهم الصحفيون والمفتشون مغادرة العراق فورا.                                     
الكثير من العراقيين يستطيعون سماعي هذا المساء من خلال بث إذاعي مترجم ولدي رسالة أوجهها إليهم: إذا بدأنا حملة عسكرية فإنها ستكون موجهة ضد الرجال الخارجين على القانون الذين يحكمون بلادكم وليست ضدكم. وما أن يسحب التحالف السلطة منهم سنوفر الأدوية والأغذية التي تحتاجونها، وسنقضي على آلة الترهيب، وسنساعدكم على بناء عراق مزدهر وحر، ولن يشهد العراق الحر حروبا عدوانية على جيرانكم، ولا مصانع للسموم، ولا عمليات إعدام للمنشقين، ولا غرف تعذيب، ولا غرف اغتصاب، سيرحل الطاغية قريبا، ويوم تحرركم قد إقترب، لقد فات الأوان لبقاء صدام حسين في السلطة، لكن الوقت لم يفت لكي يتصرف العسكريون العراقيون بشرف لحماية بلادكم عبر السماح بدخول قوات التحالف سلميا للقضاء على أسلحة الدمار الشامل.
قواتنا ستعطي الوحدات العسكرية العراقية تعليمات واضحة حول التحركات التي يجب أن تقوم بها لتجنب تعرضها للهجوم والتدمير. أحض كل عنصر في القوات العسكرية العراقية وفي أجهزة الاستخبارات:
 في حال وقوع الحرب لا تقاتلوا في سبيل نظام يحتضر لا يستحق أن تضحوا بحياتكم من أجله، وعلى كل العسكريين العراقيين والموظفين المدنيين أن يصغوا جيدا إلى هذا التحذير:
 في حال وقوع أي نزاع فإن مصيركم رهن بتصرفاتكم، لا تدمروا آبار النفط، وهي ثروة يملكها الشعب العراقي، ولا تذعنوا لأي أوامر باستخدام أسلحة دمار شامل ضد أي كان، بمن فيهم الشعب العراقي، وستتم محاكمات بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ستتم معاقبة مجرمي الحرب، ولن ينفع القول لقد كنت أتبع الأوامر لا أكثر.                                                             
   في حال اختار صدام حسين المواجهة يجب أن يعرف الشعب الأمريكي أن كل الإجراءات اتخذت لتجنب الحرب، وستتخذ كل الإجراءات للانتصار فيها، ويعي الأمريكيون كلفة النزاعات لأننا دفعنا الثمن في السابق، لا شيء أكيدا في الحرب سوى التضحية. لكن الطريق الوحيد لخفض الضرر ومدة الحرب هو في استخدام القوة المطلقة لقواتنا وعظمتها ونحن مستعدون لذلك.                                   
في حال حاول صدام حسين التمسك بالسلطة سيبقى خصما مميتا حتى النهاية، ففي حالة اليأس قد يحاول هو ومجموعات إرهابية شن عمليات إرهابية ضد الشعب الأمريكي وأصدقائنا. هذه الهجمات ليست حتمية لكنها ممكنة. وهذا الواقع يعزز سبب عدم تمكننا من العيش في ظل تهديد الابتزاز. التهديد الإرهابي لأميركا والعالم سيتراجع عندما تُنزع أسلحة صدام حسين.                                             
حكومتنا في حالة يقظة عالية ضد هذه المخاطر، ومع استعدادنا لضمان النصر في العراق، فإننا نتخذ إجراءات إضافية لحماية بلادنا، في الأيام الأخيرة طردت السلطات الأميركية من البلاد بعض الأفراد الذين لهم روابط مع أجهزة الاستخبارات العراقية، ومن الإجراءات الأخرى أمرتُ بإجراءات أمنية إضافية في مطاراتنا وزيادة الدوريات لخفر السواحل في المرافئ الرئيسية. وتعمل وزارة الأمن الداخلي بشكل وثيق مع حكام الولايات لزيادة الأمن في مرافق حساسة في كل أنحاء الولايات المتحدة.
 في حال ضرب الأعداء بلادنا فإنهم بذلك يحاولون تحويل انتباهنا من خلال زرع الذعر، وسيحاولون إضعاف معنوياتنا بالخوف، لكنهم سيفشلون في ذلك. فما من عمل يقومون به سيؤثر على عزم هذا البلد. نحن شعب مسالم لكننا لسنا شعباً هشاً. ولن تخفينا الوحوش والقتلة. في حال تجرأ أعداؤنا على ضربنا سيواجهون وكل من ساعدهم عواقب وخيمة، ونحن نتحرك الآن لأن مخاطر عدم التحرك ستكون أكبر بكثير. فبعد سنة أو خمس سنوات ستتضاعف قدرة العراق على إلحاق الضرر على كل الأمم الحرة مرات كثيرة.                                                               
ومع هذه القدرات يمكن لصدام حسين وحلفائه أن يختاروا متى يشنون نزاعا قاتلا عندما يكونون في موقع أقوى. ونحن نختار أن نواجه هذا التهديد الآن في مكان ظهوره قبل أن يظهر فجأة في سمائنا ومدننا.                                      .
قضية السلام تقتضي من كل دول العالم الحرة أن تعترف بالوقائع الجديدة التي لا تُدحض. في القرن العشرين البعض قرر تهدئة طغاة قتلة، مما سمح لتهديداتهم بالتحول إلى مجازر إبادة وإلى حرب شاملة.                                          .
وفي القرن الحالي في وقت يخطط فيه الرجال الأشرار لإرهاب كيميائي وبيولوجي ونووي، فإن سياسة التهدئة قد تخلف دمارا لم تعرف الأرض بحجمه قبل الآن، والإرهابيون والدول الإرهابية لا يكشفون عن هذه التهديدات مسبقا، وفي تصريحات رسمية، والرد على هؤلاء الأعداء فقط بعد توجيههم الضربات لا يعتبر دفاعا عن النفس إنه انتحار. إن أمن العالم يتطلب نزع أسلحة صدام حسين الآن، وفي سعينا إلى تحقيق مطالب العالم المحقة فإننا سنحقق أيضا التزامات بلادنا العميقة}. (14)
نظرة في إنذار بوش :
بقراءة متأنية لإنذار بوش نستطيع تحديد الحقائق التالية التي تتناقض مع ما جاء في الإنذار الموجه لصدام ونظامه والوعود التي قطعها للشعب العراقي:
1 ـ إن ما ادعاه الرئيس بوش عن كون العراق ما يزال يمتلك أسلحة الدمار الشامل قد ثبت للعلم عدم صحتها، وذلك من خلال تقرير رئيس المفتشين الدوليين [هانس بليكس] قبل وقوع الحرب، ومن خلال عمليات التفتيش التي قامت بها الفرق الأمريكية بعد إسقاط نظام صدام واحتلال العراق، حيث لم تستطع تلك الفرق التي لم تترك زاوية في الأرض العراقية إلا وفتشتها دون أن تجد أي أثر لأسلحة الدمار الشامل التي اتخذها بوش مبرر للحرب.
2 ـ إن ادعاء الرئيس بوش بأن صدام كان يضمر الحقد العميق للولايات المتحدة يتناقض مع الواقع، فالخدمات الجلى التي قدمها نظام صدام لأمريكا من خلال انقلاب 8 شباط 1863، وانقلاب 17 و30 تموز 1968 الذي جرى الإعداد لهما في دهاليز البيت الأبيض، ووزارة الدفاع والمخابرات المركزية الأمريكية، والتي كان في مقدمة أهدافها تصفية القوى الوطنية على الساحة العراقية، وفي المقدمة منها القوى اليسارية، وشن الحرب على إيران بالنيابة عن الولايات المتحدة، تلك الحرب الدامية التي سعت الإدارة الأمريكية إلى استمرارها 8 سنوات قاسية ذهب ضحيتها أكثر من نصف مليون جندي وضابط عراقي، ناهيك عن مليون معوق حرب ومثلها من الأيتام والأرامل ، هذا بالإضافة إلى تحطيم البنية الاقتصادية والاجتماعية العراقية.

3 ـ إن ادعاء الرئيس بوش بمواجهة الحكام الطغاة في العالم يكذبه واقع الحال هو الآخر حيث تحتضن الولايات المتحدة وتحتفظ بأقوى العلاقات وأمتنها مع أعتا الدول الدكتاتورية والاولكارية القمعية والشمولية في العالم العربي، والتي تحكم شعوبها بالحديد والنار.

4 ـ ذكر الرئيس بوش في إنذاره إن بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أعلنت أنها ستستخدم حق النقض [الفيتو] على أي مشروع قرار يلزم العراق بنزع أسلحته، قائلا:
{ إن هذه الدول تشاطرنا تقييمنا للخطر، لكنها لا تشاطرنا عزمنا على مواجهته}!!.
وهنا يخالف بوش الحقيقة مرة أخرى حيث أن الدول المعنية، وهي فرنسا وروسيا والصين والمانيا، لو كانت حقاً تشاطر الرئيس بوش، لما أعلنت صراحة أنها ستستخدم حق النقض ضد القرار الذي كان يزمع بوش تقديمه لمجلس الأمن، والذي كان من المقرر أن يتضمن الإنذار الأمريكي، ولو كانت تلك الدول لا تشاطر الولايات المتحدة عزمها على شن الحرب على العراق، على الرغم من أنها تشاطرها تقييمها كما قال بوش، فإن هذا يعني توجيه اتهام خطير لهذه الدول بتقاعسها عن إقرار الأمن والسلام في العالم والتهرب من مسؤولياتها الدولية.       
5 ـ وجه الرئيس بوش خطاباً للشعب العراقي من خلال إنذاره مبشراً إياه بالحرية  والعيش الرغيد قائلاً :
{إن الحملة العسكرية ستكون موجهة ضد الرجال الخارجين على القانون الذين يحكمون بلادكم وليست ضدكم. وما أن يسحب التحالف السلطة من النظام العراقي إذا بدأنا حملة عسكرية فإنها ستكون موجهة ضد الرجال الخارجين على القانون الذين يحكمون بلادكم وليست ضدكم.
وما أن يسحب التحالف السلطة منهم فسنوفر الأدوية والأغذية التي تحتاجونها، وسنقضي على آلة الترهيب، وسنساعدكم على بناء عراق مزدهر وحر، ولن يشهد العراق الحر حروبا عدوانية على جيرانكم، ولا مصانع للسموم، ولا عمليات إعدام للمنشقين، ولا غرف تعذيب، ولا غرف اغتصاب، سيرحل الطاغية قريبا، ويوم تحرركم قد إقترب.

 لكن الوقائع على الأرض تصرخ بأعلى صوت أنظروا أيها العراقيون ماذا حل بكم !!، وماذا حل بوطنكم ؟ الاحتلال جاثم على صدوركم ، والأمن والسلام أصبح بعيد المنال، والسيارات المفخخة، والعبوات والأحزمة الناسفة لعناصر النظام الصدامي وحلفائه عصابات القاعدة من جهة، وعصابات المليشيات التابعة لأحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني تفتك كل يوم بالعشرات، بل بالمئات من المواطنين الأبرياء، وخطف المواطنين وابتزاز ذويهم، واغتصاب النساء والفتيات، وفتح الحدود السورية والإيرانية على مصراعيها أمام العناصر الإرهابية من أعوان بن لادن[ القاعدة] ، وزاد في الطين بله النظام الطائفي المتخلف الذي أقامته الولايات المتحدة في العراق بعد إسقاط نظام صدام والذي قاد الشعب العراقي إلى حرب طائفية وحشية بشعة، حيث القتل يجري كل يوم على الهوية بين الشيعة والسنة، والتهجير القسري لملايين المواطنين في الداخل والخارج الذي جاوزت أرقامه أربعة ملايين مواطن، وغزو المخدرات القادم من إيران، هذا بالإضافة إلى البطالة الواسعة والفقر المدقع، بل والجوع الذي المَّ بشعب العراق، فقد ذكرت التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة إن ثلث الشعب العراقي بات تحت خط الفقر[أي ما يعادل 9ملايين مواطن]، وأن 5% من العراقيين في عداد الجوعى [ إي ما يعادل مليون و1350000 ] مواطن عراقي جائع. ناهيك عن الفساد المستشري في سائر أجهزة الدولة الجديدة من القمة إلى القاعدة، وفقدان الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ووقود وخدمات صحية واجتماعية، أما الثقافة والأجهزة التربوية فقد تولى أمرها العناصر الطائفية التي أعادت العملية التربوية إلى الوراء مئات السنين من خلال ربطها بالمرجعية الدينية حيث باتت ميليشيات الأحزاب الدينية الطائفية تتحكم بحياة المواطنين وتعتدي على حريات الشخصية وسائر الحريات العامة بقوة السلاح.
 هذا هو الوجه الحقيقي للعراق اليوم بعد مرور خمسة أعوام على سقوط نظام الدكتاتور صدام القمعي وحزبه الفاشي الشمولي، لقد انحدرت أحول الشعب العراقي نحو الحضيض وهو الذي كان يتمنى التخلص من نظام صدام لينعم بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم،  فإذا به اليوم قد تلاشت كل أحلامه، بل لقد وصل به اليأس من البقاء على قيد الحياة، والعيش بأمان وحرية وكرامة تليق بالإنسان.

472
حرب الخليج الثالثة ـ كتاب في حلقات
الحلقة الثالثة
بوش وبلير ينسقان معا خطط الحرب
حامد الحمداني                                                                      21/2/2008

في الرابع من شباط/ فبراير2003 التقى رئيس الوزراء البريطاني [توني بلير] بالرئيس الأمريكي [ جورج بوش] في البيت الأبيض، وكان الاجتماع قد جرى إعداده للتنسيق بين الولايات المتحدة وبريطانياً، ووضع اللمسات الأخيرة على خطة الحرب على العراق.
وقد أكد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير للرئيس جورج بوش في ذلك اللقاء أن بريطانيا تقف بصلابة وراء خطط الولايات المتحدة لغزو العراق حتى قبل إجراء أية مشاورات حول شرعية الغزو، وبالرغم من عدم وجود قرار ثان من مجلس الأمن يخولهم ذلك.
 فقد كشفت مذكرة الاجتماع الذي استغرق ساعتين بينهما أن الرئيس الأمريكي بوش قد أوضّحَ لرئيس الوزراء البريطاني بلير بما لا يدع مجالا للشك أن الولايات المتحدة                                                                                                     
 عازمة على غزو العراق، سواء كان هناك قرار دولي ثان أم لا، بل وحتى ولو لم يتمكن مفتشو الأمم المتحدة من العثور على أي دليل يؤكد وجود برنامج لأسلحةالدمار الشامل في العراق، وأضاف الرئيس بوش:                                     
{يتعين أن تتركز الاستراتيجية الدبلوماسية حول التخطيط العسكري الآن}.
 ولم يعترض رئيس الحكومة البريطانية بلير على ذلك، بل ونُقل عنه القول انه يقف بصلابة مع الرئيس، وانه على استعداد للقيام بأي شيء لنزع أسلحة صدام.(6)       .                                                                                                                     
جاء هذا الكشف في الحقيقة من خلال طبعة جديدة لكتاب بعنوان [عالم بلا قانون] وضعه البروفسور[فيليب ساندز] أستاذ القانون الدولي في الكلية الجامعية بلندن، وكان ساندز قد سلط في العالم الماضي الأضواء على الشكوك التي راودت محامي وزارة الخارجية البريطانية حول قانونية الغزو، مما اضطر رئيس الحكومة البريطانية لنشر فحوى المشورة القانونية التي كان قدمها له المدعي العام اللورد[غولد سميث]،وقد كشفت                           المذكرة التي اطلع عليها البروفسورساندز النقاط التالية:                                .           
1ـ قول الرئيس بوش لتوني بلير، أن الولايات المتحدة قلقة جدا من احتمال الفشل في العثور على دليل قوي ضد صدام لدرجة تفكر معها بإرسال طائرات استطلاع من طراز[U2] مصبوغة بألوان الأمم المتحدة للتحليق في أجواء العراق تحت حماية المقاتلات الأمريكية، وإنها أي الولايات المتحدة ستعتبر صدام منتهكا لقرارات الأمم المتحدة إذا أمر بفتح النار على تلك الطائرات.                                                  .
2ـ عبر الرئيس بوش عن الأمل في انتزاع منشق على النظام العراقي من اجل التحدث علنا حول أسلحة الدمار الشامل الموجودة لدى صدام.

3ـ ابلغ بلير الرئيس بوش أن إصدار قرار دولي ثاني من الأمم المتحدة من شأنه أن يشكل ضمانا سياسيا يؤمن الغطاء الدولي في حال تعقدت الحملة العسكرية، أو إذا ما زاد صدام الأخطار بإشعال النار في أنابيب النفط، أو قتل الأطفال، أو إحداث انقسامات داخلية خطيرة في العراق.                                                         
4ـ أعرب بوش عن اعتقاده لرئيس الحكومة البريطانية انه لا يرجح اندلاع حرب ضروس بين مختلف المجموعات الدينية والعرقية في العراق، وقد أثبتت الوقائع بعد الحرب ليس فقد خطأ هذا الاستنتاج، بل وقوع كارثة الحرب الطائفية في البلاد التي يشهدها العراق اليوم عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي تنقل الأحداث بلحضاتها حول العالم. 
                                   
 5 ـ أن بلير أعلن عن استعداده لدعم خطط الرئيس الأمريكي في خوض الحرب ضد العراق حتى في غياب قرار ثاني من الأمم المتحدة يتعارض مع التأكيدات التي كان قد قطعها بلير على نفسه أمام أعضاء البرلمان البريطاني بعد ذلك. (7)                           
 وجدير بالذكر أن بلير كان قد أبلغ مجلس العموم البريطاني في الخامس والعشرين من شباط/ فبراير عام 2003، أي بعد ثلاثة أسابيع من رحلته إلى واشنطن، أن الحكومة البريطانية ستمنح صدام فرصته الأخيرة لنزع أسلحته طواعية، حيث ورد في خطابه أمام المجلس قائلاً :
{إننا حتى هذه الساعة نعرض على صدام خيار نزع أسلحته طواعية من خلال الأمم المتحدة، ورغم أني أمقت نظامه، وآمل أن يفعل معظم الناس ذلك، لكن بإمكانه إنقاذ هذا النظام الآن، وذلك بالانصياع لمطلب الأمم المتحدة، ونحن ما نزال مستعدون لاتخاذ خطوة إضافية أخرى لتحقيق نزع السلاح سلميا}. (8)                         
 وفي الثامن عشر من آذار/ مارس 2003، أي قبل التصويت الحاسم على الحرب، أبلغ بلير البرلمان البريطاني قائلا :
 {يتعين أن تكون الأمم المتحدة محور الدبلوماسية والعمل}. (9)
 ومعروف أن الاجتماع بين بوش وبلير جاء في وقت تنامى فيه القلق لدى الجانبين الأمريكي والبريطاني حول الفشل في إيجاد أية معلومات موثوقة تعزز التقارير التي كانت تشير إلى أن صدام كان ما يزال يمتلك أو ينتج أسلحة دمار شامل، وينتهك بذلك التزاماته الدولية. وكان قد جرى ذلك الاجتماع قبل أيام قليلة من إلقاء وزير الخارجية الأمريكية [كولن باول] خطابه الشهير أمام مجلس الأمن، وعرض خلاله بشكل دراماتيكي صورا لبرنامج أسلحة العراق. بيد أن[ جاك سترو] وزير الخارجية البريطاني كان قد أعرب في وقت سابق في كانون الثاني/يناير 2003 عن قلقه من عدم وجود دليل ثابت في هذه القضية وذلك في مذكرة خاصة رفعها إلى بلير جاء فيها:
{آمل أن يتمكن رئيس مفتشي الأسلحة في العراق [هانز بليكس] من العثور على دليل قوي يكفي لاتهام العراق بخرق التزاماته الدولية}. (10)

 تواصل التحشيد العسكري الأمريكي البريطاني:
في بداية العام 2003 بدأت تتصاعد الجهود المحمومة للولايات المتحدة  بالتعاون مع بريطانيا لحشد القوات والأساطيل المجهزة بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية، استعداداً لشن هجوم واسع النطاق على العراق مبررين ذلك بعدم التزام نظام صدام الدكتاتوري بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتدمير أسلحة الدمار الشامل، مما جعل الشعب العراقي رهينة  ذلك النظام الاستبدادي من جهة،  والسياسة العدوانية الأمريكية التي تحاول إيجاد الذرائع للهجوم المرتقب من جهة أخرى، دون الاكتراث بما  ستسببه الحرب من كوارث خطيرة لا يمكن تحديد مداها، وبكل تأكيد فأن الضحية  هو الشعب العراقي المغلوب على أمره .
كان إصرار الولايات المتحدة على استخدام القوة العسكرية الغاشمة بحجة إجبار صدام حسين على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة القاضية بتدمير أسلحة الدمار الشامل، التي كانوا هم مَنْ جهزوه بها ليستخدمها في الحرب ضد إيران، وبالنيابة عنها، تلك الحرب التي استمرت 8 سنوات والتي وصفها وزير الخارجية الأمريكية آنذاك [هنري كيسنجر] قائلاً :
{أنها أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج منها أحد منتصرا}.
وهكذا دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه التي جاوز تعداد ضحاياها أكثر من نصف مليون ضابط وجندي، ناهيك عن مليون معوق، وأكثر من هذا العدد من الأيتام والأرامل، وبات أكثر من نصف سكان العراق تحت خط الفقر حسب تقديرات الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الانهيار الخطير للبنية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والخدماتية.
وخرج صدام من حربه المجنونة تلك يمتلك جيشاً جراراً، واقتصادا منهاراً، فكان قراره في احتلال الكويت لكي يستطيع بموارده النفطية تعويض خسائر الحرب والديون الثقيلة بعشرات المليارت من الدولارات.
وكان لابد للولايات المتحدة أن تصفي أسلحة العراق التي باتت تهدد مصالحها في الخليج، وقد وجدت أن السبيل إلى ذلك هو نصب فخ لصدام، ومهدت له السبيل لغزوا الكويت، لكي تتخذ من ذلك ذريعة لسحق جيشه وتدمير أسلحته ، بل ولتدمير كل مرافق العراق الاقتصادية والخدمية، وفرض الحصار الجائر على شعب العراق دون صدام وأركان حكمه وحاشيته وعشيرته، ذلك الحصار الذي دام 13 عاماً عجافاً أذاق خلاله الشعب العراقي مرارة الفقر والجوع والإذلال الذي لم يشهد مثيلاً له من قبل إلا على عهد الاستعمار العثماني أبان الحرب العالمية الأولى، وهكذا وجدنا الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب يرفض توجيه تحذير لصدام من مغبة غزو الكويت، بل كان ينتظر بفارغ الصبر ساعة بدء الغزو الذي ظنه صدام بمثابة المكافئة الأمريكية على حربه ضد إيران بالنيابة عنها، كما أوحت له السفيرة الأمريكية في العراق [ كلاسبي] خلال اللقاء الذي جرى بينهما، وظنه الكارت الأخضر لغزو الكويت واحتلاله.
وحاول الرئيس بوش الأبن أن يبرر الحرب الجديدة [ حرب الخليج الثالثة] بعطفه الشديد على حقوق وحريات الشعب العراقي، وتخليصه من طغيان نظام صدام حسين، حين أطلق عليها [ حرب تحرير الشعب العراقي]!!.
ولو كانت الإدارة الأمريكية صادقة في دعواها لتحرير شعب العراق من الطغيان لاتخذت من مجلس الأمن سبيلاً لفرض  مطالبها على النظام العراقي بالتعاون مع بقية أعضاء مجلس الأمن الدولي، و لأصدرت القرار رقم 688 المتعلق بحقوق وحريات الشعب المهضومة من قبل نظام صدام خلال 35 عاماً كالحة السواد، تحت البند السابع، أسوة بكل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ضد  العراق، باستثناء ذلك القرار الذي تجاهله صدام ونظامه ما دام غير ملزم التنفيذ.
ولو كانت الإدارة الأمريكية حريصة حقاً على الشعب العراقي وحقوقه وحرياته لما سكتت عن جرائم النظام الصدامي باستخدام الأسلحة الكيماوية ضده وشمال وجنوب البلاد، والأسلحة البيولوجية ضد السجناء السياسيين المعارضين لنظام صدام القمعي، وتجاهلها لسنوات طويلة، فقد كان صدام آنذاك يحارب إيران نيابة عنها.
 لكن الولايات المتحدة أرادت أن تنفرد في إجراءاتها ضد العراق، بعد أن رفضت الدول الكبرى الثلاث اللجوء إلى القوة العسكرية ضد العراق، مدعية أن لديها تخويل من مجلس الأمن، وهو أدعاء باطل بطبيعة الحال ولا أساس له من الصحة.
 كان معروفاً أن هناك دوافع لدى الإدارة الأمريكية لشن الحرب على العراق، وهي بالطبع لا تخفى على العارفين بخبايا السياسة الأمريكية، وراء تحمس إدارة الرئيس بوش لضرب العراق، والتي كانت تبغي من خلالها تحقيق مصالحها الاستراتيجية في منطقة الخليج الطافية على بحيرة كبرى من النفط، وقد أراد الرئيس بوش من خلال هذه الحرب أن يثبت للعالم أن الولايات المتحدة قد غدت القوة العظمى الوحيدة في العالم اجمع، ودون منازع ، وأن ليس هناك من يستطيع الوقوف أمامها.
وفي الوقت نفسه أرادت الإدارة الأمريكية التخلص من نظام صدام هذه المرة، وإقامة نظام بديل يلبي مطامح ومصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج، ولا يسبب لها القلق لفترة زمنية طويلة. ولاسيما بعد أن أخذ النظام العراقي يسعى بكل جهده بعد حرب الخليج الثانية إلى تحسين علاقاته مع سوريا من جهة، ومع إيران من جهة أخرى، فقد أجرى النظام العراقي لقاءات ومحادثات مع الجانبين الإيراني والسوري استهدفت تطبيع العلاقات معهما.
 ولاشك أن الولايات المتحدة لا تنظر بعين الرضا والارتياح لهذا التطور في العلاقات بين هذه الدول، والذي يهدد الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، وتعتبرالنظام القائم فيها خطراً على أمن المنطقة، والخليج بوجه خاص،  وحيث أن إسرائيل لازالت تحتل الجولان السورية، والضفة الغربية وغزة في فلسطين، ومزارع شبعا في لبنان، فأن التوتر سيبقى مستمراً في المنطقة، وأن قيام أي نوع من التعاون والتحالف بين سوريا والعراق وإيران في المستقبل يهدد المصالح الأمريكية من جهة، وأمن إسرائيل من جهة أخرى، وعليه فإن الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان تحسبان ألف حساب لمثل هذا التقارب بين هذه البلدان التي تطلق عليهم الولايات المتحدة تسمية [دول الشر]لابد أن تعملا بكل طاقاتهما لمنع مثل هذا التحالف، وإن إسقاط نظام صدام حسين المكروه من الشعب، والإتيان بنظام بديل موالي للولايات المتحدة يحول دون قيام حلف بين الأطراف الثلاثة، و يلبي ويحفظ المصالح الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة.
كما إن إسقاط النظام العراقي من قبل الولايات المتحدة يعني فرض هيمنتها التامة على العراق، وهذا بدوره سوف يعني حرمان روسيا وفرنسا والصين من العقود الاقتصادية والنفطية التي سبق أن وقعتها مع النظام العراقي، وتجييرها لصالحها، ولذلك وجدنا إن هناك معارضة قوية للحرب ليس من جانب روسيا والصين فحسب، بل حتى من جانب الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، وفي مقدمتهم فرنسا والمانيا وتركيا والعديد من الدول الأوربية الأخرى، بالإضافة إلى العديد من الدول العربية.
وهذا ما أكده الرئيس الروسي [فلادمير بوتين] بخطابه في مؤتمر ميونخ للسياسات الأمنية في الحادي عشر من شباط 2007 والذي وجه فيه اتهامه للولايات المتحدة قائلاً:
{أن الولايات المتحدة تنشئ، أو تحاول إنشاء، عالم [وحيد القطبية]}.
ثم عاد وفسر بوتين ما تعنيه هذه التسمية قائلاً :
{ماذا يعني عالم وحيد القطبية؟  بصرف النظر عن محاولاتنا لتجميل تلك العبارة، فإنها تعني العالم الذي يرتكزعلى وجود قوة واحدة تتحكم فيه، وتعني أيضا عالم له سيد واحد فقط، وإن هذه التركيبة أدت إلى كارثة، مضيفاً أن الولايات المتحدة قد تجاوزت حدودها الوطنية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والإنسانية، بل وفرضت نفسها على الدول الأخرى.
  إن الحروب الأهلية والإقليمية لم تتتوقف ، بل على العكس تصاعدت في مختلف المناطق  من العالم ، كما أن عدد الناس الذين يقتلون بسببها لم يقل بل هو في ازدياد وتصاعد مستمر. إننا لا نرى أي نوع من التعقل في استخدام القوة، بل نرى استخداما مستديما ومفرطا للقوة، وأضاف أن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراع آخر دون تحقيق أي حل شامل لأي منهم }.                                                              ..                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 
وبحضور وزير الدفاع الأمريكي الجديد [روبرت جيتس] وعدد من نواب الكونجرس، دعا بوتين أمامهم إلى إعادة هيكلة نظام الأمن الدولي القائم حاليا بأكمله.
 وقد وصف الأمين العام لمنظمة دول حلف شمال الأطلنطي الناتو[ جاب دي هوب شيفر] خطاب الرئيس بوتين بأنه مخيب للآمال وغير مجدي. ( 12)
أما السناتور الجمهوري الأمريكي [جون ماكين] المرشح الرئاسي المنتظر عن الحزب الجمهوري فقد رد بعنف على خطاب الرئيس بوتين قائلاً:                                   .                                                                         
{إن عالم اليوم ليس وحيد القطبية، وأن روسيا الاستبداديةّّ هي التي تحتاج إلى تغيير في سلوكها، وأضاف قائلاً إن على موسكو أن تفهم أنها لا تستطيع أن تتمتع بمشاركة حقيقية مع الغرب طالما أن أفعالها في الداخل وفي الخارج تتعارض بشكل أساسي مع لب قيم الديمقراطيات اليورو- أطلسية. وادعى جون ماكين أن عالم اليوم هو بالفعل عالم متعدد الأقطاب، ولا يوجد مكان للمواجهات العديمة الجدوى، لذا أتمنى أن يفهم الزعماء الروس هذه الحقيقة}!!. ( 13 )                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 
وبعد هذه المواجهة الكلامية بين بوتين وماكين تحدث بعض المشاركين في المؤتمر عن قيام حرب باردة جديدة، لكن البعض  الآخر قللوا من أهمية ما حدث، وقالوا إن خطاب بوتين يعد أحد الحركات التي دأبت روسيا على اتخاذها بصفة دورية للتعبير عن سخطها من تلاشي دورها الكبير الذي كانت تلعبه في الخريطة السياسية للعالم.                                       
 وهكذا فإن الوضع الحالي للعلاقة الأمريكية الروسية  يسبب لها أشد القلق، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك عملت ولا تزال بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن العراق ومنطقة الخليج، بل ولتطويقها، ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها، حيث سعت إلى ضم دول أوربا الشرقية أعضاء [حلف وارشو] والتي كانت تعرف بالمعسكر الاشتراكي، بل لقد تجاوزت ذلك إلى العمل على ضم الدول التي استقلت عن روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مثل أوكرانيا وجورجيا ، وجمهوريات أسيا الوسطى.

صحيح أن الشعب العراقي كان يتمنى الخلاص من نظام الدكتاتور صدام حسين القمعي المستبد، إلا أنه كان ينتابه القلق الشديد على مصيره ومصير العراق من نتائج الحرب إن وقعت، حيث لا يستطيع أحد تقدير نتائجها الكارثية ليس على العراق فحسب، بل على العالم العربي، وسائر دول العالم الأخرى، فالحرب بطبيعة الحال لا تعني سوى الخراب والدمار والضحايا والدماء، والاحتلال الذي لا يمكن تحديد مداه.
وبعد كل هذا فأن كل المدركين الحريصين على مصالح العراق وشعبه كانوا يطمحون  أن يجري تغيير النظام الصدامي على أيدي الشعب والجيش العراقي بعيداً عن التهديدات الحربية الأمريكية وهيمنتها ووصايتها، فقد كفى الشعب العراقي ما تحمل من حروب وويلات ومآسي على أيدي هذا النظام الدكتاتوري الفاشي، وعلى أيدي المعتدين الإمبرياليين الطامعين في ثروات البلاد عبر ما يقارب الأربعة عقود.
لكن نتائج تلك الحرب على العكس مما وعد الرئيس الأمريكي بوش الشعب العراق في خطابه الذي وجهه للعراق بوجه خاص، وللعالم بوجه عام ، وما عبر عنه كل الحريصين على مصالح الشعب والوطن من قلق شديد على المصير الذي ينتظر العراقيين من الحرب التي كانت تستعد لها الولايات المتحدة وبريطانيا كان صحيحاً وفي محله، ولقد كتبتُ العديد من المقالات قبل نشوب الحرب، وكنت معارضاً لها، وحذرت من نتائجها الكارثية، وطالبت بإصدار قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع يلزم صدام بإجراء إصلاحات ديمقراطية في البلاد، وإلغاء القوانين الاستثنائية وأجراء انتخابات برلمانية تحت أشراف الأمم المتحدة، وإطلاق الحريات العامة كحرية التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي ، وحرية الصحافة، وتطبيق شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة، وجعلها في صلب دستور عراقي جديد يجري سنه من قبل البرلمان المنتخب، وإلغاء الهيمنة المطلقة لحزب البعث على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في البلاد.
www.Hamid-Alhamdany.com

473

حرب الخليج الثالثة ـ كتاب في حلقات
الحلقة الثانية
الضغوط الأمريكية على مجلس الأمن
لإصدار قرار يبيح استخدام القوة ضد العراق
حامد الحمداني                                                                       19/2/2008

بدأت الولايات المتحدة تمارس ضغوطها المكثفة على الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بغية استحصال قرار يخولها باستخدام القوة ضد العراق، واستمرت في محاولاتها خارج المجلس لإقناع كل من فرنسا وروسيا والصين بضرورة التصدي عسكريا للنظام العراقي، بدعوى محاولاته الاحتفاظ بأسلحته ذات الدمار الشامل، وسعيه الدائب لإخفائها عن رقابة أعين المفتشين الدوليين، على الرغم من تقرير رئيس المفتشين [هانس بليكس] الذي أكد فيه عدم العثور على أية أسلحة جديدة، بعد أن استمرت فرق التفتيش منذ عام 1991 تدمر تلك الأسلحة، وكافة مصانع هيئة التصنيع العسكري.
ولا يستطيع أحدٌ أن ينكر أن صدام حاول بأقصى جهده أخفاء أسلحته ذات الدمار الشامل، ولكن فرق التفتيش الدولية لم تترك مكاناً في العراق كله إلا وفتشتها، بل لقد فتشت كل قصور الدكتاتور، وحتى غرفة نومه، وكان لهروب حسين كامل إلى عمان والتقائه برئيس المفتشين الدوليين [رالف إيكيوس]، وما قدمه له من معلومات عن أسلحة الدمار الشامل قد أجبر صدام إلى تقديم 12 ألف من الوثائق المتعلقة بالتسلح بأسلحة الدمار الشامل، وأمر بتقديم كل ما يتعلق بها، وأعلن مواقفته على عودة المفتشين الدوليين إلى العراق من جديد لمواصلة البحث عن ما تبقى من أسلحته المزعومة، بعد أن أدرك إن السيف الأمريكي بات قاب قوسين أو أدنى من رقبته، وعمل المستحيل لإنقاذ نظامه. (3)
لكن الرئيس الأمريكي بوش لم يقتنع لا بتقرير هانس بليكس، ولا بما قدمه نظام صدام، حيث كان قد عقد العزم على شن الحرب على العراق واحتلاله مهما كلف الأمر.
لكن الضغوطات التي مارستها الإدارة الأمريكية لم تفلح في الحصول على موافقة مجلس الأمن على لإصدار قرار صريح بالحرب على العراق يرضي طموحات الرئيس بوش، وبعد جهد جهيد صدر عن مجلس الأمن القرار رقم 1441 بتاريخ 8 تشرين الثاني 2002 والذي تضمن استخدام جميع الوسائل اللازمة للتقيّد بقراره المرقم 660 والمؤرخ 2 آب/أغسطس 1990، وجميع القرارات ذات الصلة التي تلت ذلك القرار وتنفيذها، لإعادة إرساء السلام والأمن الدوليين في المنطقة.
ومع ذلك فقد استغل الرئيس بوش هذا القرار، واستخدمه لتبرير حربه على العراق، رغم عدم تضمنه نصاً صريحاً باستخدام القوة، وكل ما طلبه القرار من نظام صدام هو وجوب تقيده بالقرارات التي سبق وأصدرها مجلس الأمن بخصوص الأزمة العراقية، ولكي يقف القارئ الكريم على هذا القرار ارتأيت ضرورة تدوينه.
قرار رقم 1441 والمؤرخ في 8 تشرين الثاني 2002
إن مجلس الأمن:
إذ يشير إلى جميع قراراته السابقة ذات الصلة، ولاسيما قراراته 661 المؤرخ في 6 آب/ أغسطس 1990، و679 والمؤرخ في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1990، و686 المؤرخ في 2 آذار/ مارس ،1991و687 المؤرخ 3 نيسان /أبريل 1991، وا699  والمؤرخ في 5 نيسان / ابريل وأضاف أن الولايات المتحدة قد خرجت من صراع لتدخل صراع آخر دون تحقيق أي حل شامل لأي منهم }. (11)                                                                           
1991، و707 والمؤرخ في 15آب/اغسطس1991، و715 والمؤرخ 11في  تشرين الأول /أكتوبر1991، و986 والمؤرخ 14 نيسان /ابريل 1995، و1284 والمؤرخ 17 كانون الأول /ديسمبر1999، وإلى جميع بيانات رئيسه ذات الصلة، وإذ يشير أيضاً إلى قراره 1382 المؤرخ في 29 تشرين الثاني/نوفمبر2001، وعزمه على تنفيذه تنفيذاً كاملاً، وإذ يسلم بالتهديد الذي يتعرض له السلام والأمن الدوليان من جراء عدم امتثال العراق لقرارات المجلس، ونشره لأسلحة الدمار الشامل والقذائف البعيدة المدى، وإذ يشير إلى أن قراره 678 في 1990، فقد أذِنَ للدول الأعضاء باستخدام جميع الوسائل اللازمة للتقيّد بقراره 660 المؤرخ في  2 آب /أغسطس 1990، وجميع القرارات ذات الصلة التي تلت القرار 660 في 1990 وتنفيذها، لإعادة إرساء السلام والأمن الدوليين في المنطقة.
                                                                     
                                                                        مجلس الأمن

استمرت الولايات المتحدة وبريطانيا في محاولاتها لإقناع روسيا والصين وفرنسا لإصدار قرار جديد يبيح صراحة استخدام القوة ضد العراق بدعوى عدم التزام النظام العراقي بالقرار 1441.
 لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، فقد رفضت كل من روسيا وفرنسا والصين إصدار قرار بالحرب، متحدين الإصرار الأمريكي، مما أدى إلى غضب الرئيس بوش من موقف هذه الدول، وبوجه خاص فرنسا الحليفة الأوربية التقليدية للولايات المتحدة، والتي أعلنت صراحة بأنها ستستخدم حق النقض [الفيتو] في مجلس الأمن إذا ما قدمت الولايات المتحدة وبريطانيا مشروع القرار الذي جرى إعداده من قبلهما. 
فقد أعلن الرئيس الفرنسي جاك شيراك] في العاشر من آذار2003 في مقابلة مع التلفزيون الفرنسي إن بلاده ستستخدم حق النقض[ الفيتو] ضد مشروع القرار الذي أرادت الولايات المتحدة تمريره في مجلس الأمن، والذي يخولها اللجوء إلى الحرب ضد العراق، وأضاف شيراك أن الحرب هي أسوأ الحلول للأزمة العراقية، رافضاً الحل العسكري ضد العراق إلا بعد أن يعلن المفتشون الدوليون أنهم لم يعودوا قادرين على العمل هناك. (3)
كما أعلنت الحكومة الروسية في اليوم نفسه على لسان وزير خارجيتها [إيغور إيفانوف] أن بلاده ستستخدم حق النقض [الفيتو] كذلك ضد مشروع القرار الأمريكي البريطاني المعروض على مجلس الأمن بمنح مهلة للعراق حتى 17 مارس 2003 لنزع سلاحه غير التقليدي، وقال إيفانوف في تصريحات صحفية بموسكو إن مشروع القرار يعتبر إنذارا غير قابل للتطبيق.
 ولاشك أن مواقف الدول الثلاث فرنسا وروسيا والصين في أساسها تخضع لمصالحها الاقتصادية التي تسعى الولايات المتحدة إلى استلابها منها، وإحكام هيمنتها المطلقة على نفط الخليج، ومن هنا كان التناقض في المواقف بينهم في مجلس الأمن حيث سعت هذه الدول إلى حل الأزمة بالوسائل السياسية والدبلوماسية، في حين انفردت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في قرارهما اللجوء إلى القوة العسكرية، بصرف النظر فيما إذا قبل الآخرون أم رفضوا ذلك.

474
حرب الخليج الثالثة ـ كتاب في حلقات ـ
الحلقة الأولى
الولايات المتحدة تخطط لغزو العراق:

حامد الحمداني                                                                   17 شباط 2007
منذ عام 2002 بدأت الولايات المتحدة بالتعاون مع حليفتها بريطانيا إعداد الخطط  لشن الحرب على العراق، وفي نهاية ذلك العام كان يبدو لكل المتتبعين لتطورات الأزمة العراقية أن الولايات المتحدة قد أوشكت على وضع اللمسات الأخيرة للمسار الذي ستتخذه هذه الحرب، وهي عازمة على المضي قدماً في تحضيراتها متجاهلة كل الاحتجاجات والمظاهرات المنددة بالحرب.

 ورغم المواقف التي اتخذتها كل من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين برفض للحرب كوسيلة لمعالجة الأزمة العراقية، وعلى أقل تقدير كانت دعواتها إلى عدم التسرع في شنها على العراق قبل استنفاذ كل الوسائل السلمية للتعامل مع نظام صدام.
لقد كان موضوع الحرب على العراق الشغل الشاغل للعالم أجمع ما بين مساند لها ومعارض، وكان لكل طرف حساباته الخاصة، ومصالحه القريبة والبعيدة المدى، لكن مصالح الولايات المتحدة كانت في مقدمة تلك المصالح.
 فالولايات المتحدة استهدفت من الحرب التي كانت تعد لها تحقيق الأهداف التالية:

أولا: احتلال العراق الذي يطفوا على اكبر خزين احتياطي من البترول، والذي يعتبر ثاني خزين احتياطي نفطي في العالم، بما قد يصل إلى  أكثر من 300 مليار برميل، ناهيك عن الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي والعديد من الثروات الطبيعية الأخرى، وكان نظام صدام قد عقد العديد من الاتفاقيات النفطية مع روسيا وفرنسا والصين، وهاهي الولايات المتحدة اليوم تمارس الضغوط على حكومة المالكي للإسراع بتصديق قانون النفط الذي سيرهن النفط العراقي باطن الأرض للشركات الأمريكية والبريطانية لعدة عقود .

 ثانيا:التخلص من نظام الدكتاتور صدام حسين الذي كانت له تطلعات للهيمنة على منطقة الخليح الغنية بالبترول الذي يمثل عصب الحياة للاقتصاد الغربي، والتي اعتبرتها الولايات المتحدة تشكل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج، ولاسيما بعد أن أقدم صدام على غزو الكويت واحتلاله، حيث أصبح العراق يمتلك  ثلث نفط الخليج لو قدر له
ا الاحتفاظ بالكويت، مما لا يمكن أن تتساهل في التصدي له.

 ثالثاً: فرض هيمنتها على الشرق الأوسط من خلال مشروعها الذي أطلقت عليه [ الشرق الأوسط الجديد ]، والذي يستهدف أجراء تغيرات واسعة في منطقة الشرق الأوسط وفق أجندتها الهادفة إلى تأمين المصالح الأمريكية في المنطقة.

 رابعاً: الرغبة بتفردها في الهيمنة على العالم من خلال هذه الحرب. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف وجدت نفسها في موقف لا يمكن التراجع عنه حتى لو اقتضى الأمر تحدي الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا ما أكده الرئيس بوش بوجه معارضيه الأوربيين، وفي المقدمة منهم فرنسا والمانيا، بالإضافة إلى روسيا والصين، وعلى الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها جراء الحرب، إضافة إلى تكاليفها الباهظة، كي لا يصاب حلمها في الهيمنة على العالم  بنكسة كبرى إن هي تراجعت عن خططها الحربية، وهذا ما لا يمكن أن تسمح به.
خامساً: إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان على الوضع القائم في روسيا اليوم، وعلى الرغم من العلاقات التي تربط بين الطرفين والتي يسودها التوتر حاليا، وهي تخشى من حدوث تغيرات في قمة السلطة تعيد الحرب الباردة والصراع بين الطرفين، وهذا ما يسبب أشد القلق للولايات المتحدة، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن العراق ومنطقة الخليج، بل ولتطويقها ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها حيث سعت إلى ضم بولندا وجيكيا لتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى حلف الأطلسي، وهي تحاول كذلك ضم أوكرانيا، بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو ] أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً.
وهكذا وجدت شعوب العالم اليوم نفسها في محنة يصعب الخروج منها دون أن تصيبها المخاطر والأضرار على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالحرب بكل تأكيد عندما تقع، يكتوي بنارها الجميع، وعليه كان لا بد من مبادرة على وجه السرعة للخروج من هذا المأزق الحرج. لكن كل المحاولات التي بذلت لتجنب الحرب باءت بالفشل، وأصرت الولايات المتحدة على الاستمرار في التحضير لها متحدية العالم أجمع، ومتجاهلة لدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
فقد كشفت الوثائق التي نشرها الموقع الخاص بـ [أرشيف الأمن القومي الأمريكي ] وهو هيئة بحثية خاصة غير حكومية تتخذ من جامعة جورج في واشنطن مقرا لها، على شبكة الإنترنيت بعد رفع السرية عنها تفاصيل خطة الحرب التي أعدتها القيادة الأميركية الوسطى لغزو العراق في شهر آب 2002، كما عرض رسومات خطط هذه الوثائق التي قال بإنه حصل عليها استنادا إلى قانون حرية المعلومات بعد رفع السرية عنها .                                                                                                                                                                                                             
وتشير الوثائق إلى أن المخططين في القيادة الأمريكية الوسطى كانوا قد أعدوا خطط العدوان على العراق بطلب من قائد القيادة الأمريكية الوسطى آنذاك الجنرال [تومي فرا نكس] تحت اسم رمزي هو [خطوة بولو] POLO STEP ليتم عرضها خلال العام 2002 على الرئيس جورج بوش ومجلس الأمن القومي، ووزير الدفاع آنذاك [دونالد رامسفيلد] وهيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية والقادة العسكريين في القيادة الوسطى.
واستنادا إلى الرسومات التوضيحية فإن تلك الخطط قد كشفت عن أنه بعد الانتهاء من العمليات الحربية الرئيسية سيكون هناك فترة تتراوح ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر تسمى [مرحلة الاستقرار]، ثم تتبعها [مرحلة الشفاء] ، وتمتد ما بين 18-24 شهرا، ثم تتبعها [المرحلةالانتقالية]، وتمتد من 12-18 شهرا لتنتهي بمرحلة [استكمال الانسحاب] بعد فترة 45 شهرا،على أن تبقى في العراق قوة رمزية تتألف من خمسة آلاف جندي أمريكي فقط.(1)
كان شهر آب من عام 2002 مهما من حيث التوقيت، حيث كان الرئيس بوش يستعد للذهاب إلى الأمم المتحدة للحديث عن النظام العراقي، ويؤكد أنه ما يزال يمتلك برنامجا لأسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي كان  التخطيط للحرب على العراق مستمرا، وقد أبلغ [تومي فرا نكس] كبار ضباط قيادته بأنه يفترض أن يكون لوزارة الخارجية الأمريكية الدور الرئيسي في تولي مسؤولية إعادة بناء المؤسسات السياسية في العراق، حيث تذكر الوثائق أن وزارة الخارجية ستعمل على إيجاد حكومة مؤقتة ذات قاعدة واسعة، وذات صدقية يُعتمد عليها كي تتولى الحكم في العراق حال تحقيق النصر وإسقاط نظام صدام حين                                                                                                     .                                                                                                                                                                                                                               
لكن المدير التنفيذي لأرشيف الأمن القومي [توماس بلانتون] كان قد ذكر إن خطط الحرب هذه تتضمن افتراضات غير واقعية كليا حول مرحلة ما بعد صدام ، وعزا بلانتون رأيه في تلك الخطط إلى أنها تفترض قيام حكومة مؤقتة غداة إسقاط النظام، وان الجنود العراقيين سيبقون في مواقعهم العسكرية، وسيكونون شركاء يعتمد عليهم، وأخيرا فان مرحلة ما بعد الأعمال الحربية ستستمر لبضعة أشهر.(2)
 لكن كل هذا الإدعاء لم يكن سوى مجرد  أوهام لا أساس لها من الصحة،
فقد كانت إدارة الرئيس بوش قد استبعدت إقامة حكومة عراقية مؤقتة عقب احتلال العراق غير أن العقيد [جونو] وهو من مخططي القيادة الأمريكية الوسطى آنذاك قد ذكر بإنه لم يكن قد أدرك الكيفية التي ستكون عليها ترتيبات ما بعد الحرب إلى أن تم تعيين الجنرال المتقاعد [جاي غارنر] في يناير 2003 للعمل كأول مسؤول إداري أمريكي في العراق عقب احتلاله، وقد أتبعت إدارة بوش ذلك فيما بعد في شهر أيار 2003 بتشكيل [سلطة الاحتلال المؤقتة] برئاسة الدبلوماسي الأمريكي [بول بريمر] الذي لم تكن لديه أي خبرة في شؤون العراق، والذي أصدر على الفور مرسوما بحل الجيش العراقي دون التفكير بعواقب ذلك القرار الخطير الذي حول مئات الألوف من منتسبيه ضباطاً ومراتب عاطلين عن العمل، ودون دخل يتدبرون به شؤون عائلاتهم، وكان ذلك الإجراء خطأ جسيمأ أدى إلى عواقب خطيرة على الأمن والنظام في البلاد، فقد كان من نتائجه تحول أعداد غفيرة من منتسبي الجيش ضباطاً ومراتب إلى حمل السلاح والقيام بنشاط  عسكري ضد القوات الأمريكية، ونشاط إرهابي استهدف حياة المواطنين الأبرياء من خلال تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي أخذت بالتصاعد يوماً بعد يوم حتى باتت السيطرة عليها اليوم أمر عسير.

475
حرب الخليج الثالثة
الحلقة الأولى
الولايات المتحدة تخطط لغزو العراق:

حامد الحمداني    17 شباط 2007
منذ عام 2002 بدأت الولايات المتحدة بالتعاون مع حليفتها بريطانيا إعداد الخطط  لشن الحرب على العراق، وفي نهاية ذلك العام كان يبدو لكل المتتبعين لتطورات الأزمة العراقية أن الولايات المتحدة قد أوشكت على وضع اللمسات الأخيرة للمسار الذي ستتخذه هذه الحرب، وهي عازمة على المضي قدماً في تحضيراتها متجاهلة كل الاحتجاجات والمظاهرات المنددة بالحرب.

 ورغم المواقف التي اتخذتها كل من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين برفض للحرب كوسيلة لمعالجة الأزمة العراقية، وعلى أقل تقدير كانت دعواتها إلى عدم التسرع في شنها على العراق قبل استنفاذ كل الوسائل السلمية للتعامل مع نظام صدام.
لقد كان موضوع الحرب على العراق الشغل الشاغل للعالم أجمع ما بين مساند لها ومعارض، وكان لكل طرف حساباته الخاصة، ومصالحه القريبة والبعيدة المدى، لكن مصالح الولايات المتحدة كانت في مقدمة تلك المصالح.
 فالولايات المتحدة استهدفت من الحرب التي كانت تعد لها تحقيق الأهداف التالية:

أولا: احتلال العراق الذي يطفوا على اكبر خزين احتياطي من البترول، والذي يعتبر ثاني خزين احتياطي نفطي في العالم، بما قد يصل إلى  أكثر من 300 مليار برميل، ناهيك عن الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي والعديد من الثروات الطبيعية الأخرى، وكان نظام صدام قد عقد العديد من الاتفاقيات النفطية مع روسيا وفرنسا والصين، وهاهي الولايات المتحدة اليوم تمارس الضغوط على حكومة المالكي للإسراع بتصديق قانون النفط الذي سيرهن النفط العراقي باطن الأرض للشركات الأمريكية والبريطانية لعدة عقود .

 ثانيا:التخلص من نظام الدكتاتور صدام حسين الذي كانت له تطلعات للهيمنة على منطقة الخليح الغنية بالبترول الذي يمثل عصب الحياة للاقتصاد الغربي، والتي اعتبرتها الولايات المتحدة تشكل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية في منطقة الخليج، ولاسيما بعد أن أقدم صدام على غزو الكويت واحتلاله، حيث أصبح العراق يمتلك  ثلث نفط الخليج لو قدر له
ا الاحتفاظ بالكويت، مما لا يمكن أن تتساهل في التصدي له.

 ثالثاً: فرض هيمنتها على الشرق الأوسط من خلال مشروعها الذي أطلقت عليه [ الشرق الأوسط الجديد ]، والذي يستهدف أجراء تغيرات واسعة في منطقة الشرق الأوسط وفق أجندتها الهادفة إلى تأمين المصالح الأمريكية في المنطقة.

 رابعاً: الرغبة بتفردها في الهيمنة على العالم من خلال هذه الحرب. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف وجدت نفسها في موقف لا يمكن التراجع عنه حتى لو اقتضى الأمر تحدي الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا ما أكده الرئيس بوش بوجه معارضيه الأوربيين، وفي المقدمة منهم فرنسا والمانيا، بالإضافة إلى روسيا والصين، وعلى الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها جراء الحرب، إضافة إلى تكاليفها الباهظة، كي لا يصاب حلمها في الهيمنة على العالم  بنكسة كبرى إن هي تراجعت عن خططها الحربية، وهذا ما لا يمكن أن تسمح به.
خامساً: إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان على الوضع القائم في روسيا اليوم، وعلى الرغم من العلاقات التي تربط بين الطرفين والتي يسودها التوتر حاليا، وهي تخشى من حدوث تغيرات في قمة السلطة تعيد الحرب الباردة والصراع بين الطرفين، وهذا ما يسبب أشد القلق للولايات المتحدة، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل، وهي لذلك تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن العراق ومنطقة الخليج، بل ولتطويقها ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها حيث سعت إلى ضم بولندا وجيكيا لتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى حلف الأطلسي، وهي تحاول كذلك ضم أوكرانيا، بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو ] أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً.
وهكذا وجدت شعوب العالم اليوم نفسها في محنة يصعب الخروج منها دون أن تصيبها المخاطر والأضرار على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالحرب بكل تأكيد عندما تقع، يكتوي بنارها الجميع، وعليه كان لا بد من مبادرة على وجه السرعة للخروج من هذا المأزق الحرج. لكن كل المحاولات التي بذلت لتجنب الحرب باءت بالفشل، وأصرت الولايات المتحدة على الاستمرار في التحضير لها متحدية العالم أجمع، ومتجاهلة لدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
فقد كشفت الوثائق التي نشرها الموقع الخاص بـ [أرشيف الأمن القومي الأمريكي ] وهو هيئة بحثية خاصة غير حكومية تتخذ من جامعة جورج في واشنطن مقرا لها، على شبكة الإنترنيت بعد رفع السرية عنها تفاصيل خطة الحرب التي أعدتها القيادة الأميركية الوسطى لغزو العراق في شهر آب 2002، كما عرض رسومات خطط هذه الوثائق التي قال بإنه حصل عليها استنادا إلى قانون حرية المعلومات بعد رفع السرية عنها .                                                                                                                                                                                                             
وتشير الوثائق إلى أن المخططين في القيادة الأمريكية الوسطى كانوا قد أعدوا خطط العدوان على العراق بطلب من قائد القيادة الأمريكية الوسطى آنذاك الجنرال [تومي فرا نكس] تحت اسم رمزي هو [خطوة بولو] POLO STEP ليتم عرضها خلال العام 2002 على الرئيس جورج بوش ومجلس الأمن القومي، ووزير الدفاع آنذاك [دونالد رامسفيلد] وهيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية والقادة العسكريين في القيادة الوسطى.
واستنادا إلى الرسومات التوضيحية فإن تلك الخطط قد كشفت عن أنه بعد الانتهاء من العمليات الحربية الرئيسية سيكون هناك فترة تتراوح ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر تسمى [مرحلة الاستقرار]، ثم تتبعها [مرحلة الشفاء] ، وتمتد ما بين 18-24 شهرا، ثم تتبعها [المرحلةالانتقالية]، وتمتد من 12-18 شهرا لتنتهي بمرحلة [استكمال الانسحاب] بعد فترة 45 شهرا،على أن تبقى في العراق قوة رمزية تتألف من خمسة آلاف جندي أمريكي فقط.(1)
كان شهر آب من عام 2002 مهما من حيث التوقيت، حيث كان الرئيس بوش يستعد للذهاب إلى الأمم المتحدة للحديث عن النظام العراقي، ويؤكد أنه ما يزال يمتلك برنامجا لأسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي كان  التخطيط للحرب على العراق مستمرا، وقد أبلغ [تومي فرا نكس] كبار ضباط قيادته بأنه يفترض أن يكون لوزارة الخارجية الأمريكية الدور الرئيسي في تولي مسؤولية إعادة بناء المؤسسات السياسية في العراق، حيث تذكر الوثائق أن وزارة الخارجية ستعمل على إيجاد حكومة مؤقتة ذات قاعدة واسعة، وذات صدقية يُعتمد عليها كي تتولى الحكم في العراق حال تحقيق النصر وإسقاط نظام صدام حين                                                                                                     .                                                                                                                                                                                                                               
لكن المدير التنفيذي لأرشيف الأمن القومي [توماس بلانتون] كان قد ذكر إن خطط الحرب هذه تتضمن افتراضات غير واقعية كليا حول مرحلة ما بعد صدام ، وعزا بلانتون رأيه في تلك الخطط إلى أنها تفترض قيام حكومة مؤقتة غداة إسقاط النظام، وان الجنود العراقيين سيبقون في مواقعهم العسكرية، وسيكونون شركاء يعتمد عليهم، وأخيرا فان مرحلة ما بعد الأعمال الحربية ستستمر لبضعة أشهر.(2)
 لكن كل هذا الإدعاء لم يكن سوى مجرد  أوهام لا أساس لها من الصحة،
فقد كانت إدارة الرئيس بوش قد استبعدت إقامة حكومة عراقية مؤقتة عقب احتلال العراق غير أن العقيد [جونو] وهو من مخططي القيادة الأمريكية الوسطى آنذاك قد ذكر بإنه لم يكن قد أدرك الكيفية التي ستكون عليها ترتيبات ما بعد الحرب إلى أن تم تعيين الجنرال المتقاعد [جاي غارنر] في يناير 2003 للعمل كأول مسؤول إداري أمريكي في العراق عقب احتلاله، وقد أتبعت إدارة بوش ذلك فيما بعد في شهر أيار 2003 بتشكيل [سلطة الاحتلال المؤقتة] برئاسة الدبلوماسي الأمريكي [بول بريمر] الذي لم تكن لديه أي خبرة في شؤون العراق، والذي أصدر على الفور مرسوما بحل الجيش العراقي دون التفكير بعواقب ذلك القرار الخطير الذي حول مئات الألوف من منتسبيه ضباطاً ومراتب عاطلين عن العمل، ودون دخل يتدبرون به شؤون عائلاتهم، وكان ذلك الإجراء خطأ جسيمأ أدى إلى عواقب خطيرة على الأمن والنظام في البلاد، فقد كان من نتائجه تحول أعداد غفيرة من منتسبي الجيش ضباطاً ومراتب إلى حمل السلاح والقيام بنشاط  عسكري ضد القوات الأمريكية، ونشاط إرهابي استهدف حياة المواطنين الأبرياء من خلال تفجير السيارات المفخخة والعبوات الناسفة التي أخذت بالتصاعد يوماً بعد يوم حتى باتت السيطرة عليها اليوم أمر عسير.

476
في الذكرى الخامسة والأربعين لانقلاب 8 شباط المشؤوم



انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963


حامد الحمداني                                        8 شباط 2008

لم تكد تمضي سوى أسابيع معدوة على نجاح ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حتى تنكر حزب البعث و القوى القومية لجبهة الاتحاد الوطني وبدأوا بتسير المظاهرات مطالبين بإقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة بزعامة عبد الناصر، وقد التفت هذه القوى حول عبد السلام عارف الشخص الثاني في قيادة الثورة، والذي استهوته شهوة السلطة طامحاً أن يكون ناصر العراق ليزيح عبد الكريم قاسم من السلطة، فراح يدعو لإقامة الوحدة الفورية.
 وبحكم تعيينه نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ووزيرا للداخلية، فقد اخذ يدور على القطعات العسكرية، ويلقي عليهم خطاباته التحريضية ممجداً بعد الناصر ومتجاهلاً الزعيم عبد الكريم قاسم ، حتى أوصل البلاد إلى حافة الحرب الأهلية .
وقد وقف الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم رافعين شعار الاتحاد الفيدرالي ، حيث لم يكن العراق مهيئا لإقامة الوحدة الفورية لأسباب تتعلق بظروفه الخاصة، كما أن البيان الأول للثورة لم يشر إلى أقامة الوحدة ، وعلى اثر ذلك قامت المظاهرات الجماهيرية المضادة التي تمثل الأحزاب الثلاث، والتي لعب فيها الحزب الشيوعي الدور القيادي دون منازع.

ونتيجة لسلوك عبد السلام عارف التحريضي لقوى الجيش، والتفاف البعثيين والقوى القومية حوله، وعلى الرغم من تحذير عبد الكريم قاسم المتكرر له أصر عارف على السر في هذا الطريق مما اضطر الزعيم إلى إعفائه من منصبه وتعيينه سفيراً في المانيا الغربية، وكان لموقف الحزب الشيوعي، ودعمه الحاسم لقيادة عبد الكريم قاسم العامل الحاسم في تغليب كفته على كفة عبد السلام والقوى القومية والبعثية .

وهكذا لجأت هذه القوى للتآمر على ثورة 14 تموز وقيادتها، فكانت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، فموآمرة  عبد السلام عارف لاغتيال  الزعيم ، فمؤامرة العقيد الشواف في الموصل ، ومؤآمر البعثيين لاغتيال عبد الكريم في رأس القرية، مما لا يتسع الوقت للتحدث عن تفاصلها، وكان للأحزاب الوطنية الثلاث الدور الحاسم في دحر كل تلك المؤامرات وحماية الثورة ومنجزاتها.
 لكن من المؤسف أن تنتكس العلاقة بين الأحزاب الوطنية الثلاث من جهة، وبين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية على الإطلاق، وعبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث لتحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين على الثورة وقيادتها، سياسة{عفا الله عما سلف}التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدداً كبيراً من الضباط الذين سبق وأن تمت إحالتهم على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل إلى مراكز حساسة في
الجيش.

وفي الوقت نفسه أقدم الزعيم قاسم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، بعد أحداث الموصل وكركوك ، وبعد مسيرة الأول من أيار التي أرعبته وأرعبت البرجوازية الوطنية ، بل وأرعبت الإمبريالية ، فقد اصبح عبد الريم قاسم على قناعة بأن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى لانتزاع السلطة منه، فاستغل أحداث الموصل وكركوك لتحجيم وإضعاف الحزب تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له حيث أقدم على اعتقال  الألوف من رفاق الحزب ومناصريه واحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، وتسريحه لعدد كبير من الضباط  المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية الوليدة، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.

 كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة، والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، وذلك بهدف إضعاف الحزب الشيوعي وتحجيمه، ومن أهم الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال، والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام هي:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها.  لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً بكل تأكيد، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية لدرجة أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب، وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء جسيمة، ما كان لها أن تحدث، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها.

لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط  لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز، واغتياله قائدها بالذات، وإغراق العراق بالدماء. لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي، وليس من القوى الرجعية وعملاء الإمبريالية.
 
إن الحزب الشيوعي بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما تيسر له، لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف: {باسم العامل والفلاح يا كريم أعطينا سلاح} ولكن دون جدوى حتى أحاط الانقلابيون بوزارة الدفاع بدباباتهم، وقاموا بقصفها بالطائرات والمدفعية حتى انهارت مقاومة قاسم واستسلامه.

2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدداً كبيراً من الضباط المخلصين للثورة ولقيادته. فقد أحال على سبيل المثال قائد الفرقة الثانية في كركوك الشهيد الزعيم الركن [داوود الجنابي] وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959، كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [هاشم عبد الجبار] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين، يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى ] المعروف بعدائه للقوى التقدمية ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد ودفنهم بقبور جماعية.

كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين كان من بينهم النقيب [حسون الزهيري] والنقيب [كاظم عبد الكريم] والمقدم [خزعل السعدي] وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة، وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب  حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع  مقر قاسم .

3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق] الذي أعاده للجيش بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار حردان التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة، ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وجرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي ] الذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب.
7ـ أحال العقيد [حسن عبود] آمر اللواء الخامس وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد حصونة] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب ، كما أحال عدداً كبيراً من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد.
9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم  1700 ضابط من الخدمة في الجيش بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها .

10ـ تنحية المقدم الركن [ سليم الفخري] المدير العام الإذاعة والتلفزيون  وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها . وقد وصفت صحيفة [صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد باتت وكراً للانتهازيين والرجعيين بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها.
 كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب. وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإحباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي التاسع من شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة  واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير غير المذاع  لما نجح الانقلاب.

11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد .

12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية،  ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.

13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم في 11 حزيران 962، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين والديمقراطيين رهائن في السجون ليأتي الانقلابيون فيما بعد وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم بعد تعذيب بشع. لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يكفهم عن التآمر.

14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قراراتها، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي الذي أحدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين  دعائم الإمبريالية.  فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين. لقد استغلت الرجعية تلك الظروف لتنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.

15ـ قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و [عباس مامند]،وانجرا ر الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع القيادة الكردية، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة الوطنية، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان، وعباس مامند، المدعوم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
كما يتحمل الزعيم عبد الكريم قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية  في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح.
16 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الرجعي الذي أنشأته، ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء  للثورة  لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية والحركات التآمرية على السلطة، وحماية المتآمرين.
 ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن الذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[محسن الرفيعي] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.

أما احمد صالح العبدي،رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما اصدر أمراً يوم 5 شباط 63، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام ، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة. وهكذا بقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين، ولم يمس الانقلابيون العبدي بسوء.

17 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961، والذي أنتزع بموجبه 99،5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرتها، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة، فيما يخص ترصين الجبهة الداخلية ، والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء. ولاشك في أن الدور الأول في الإعداد لانقلاب 8 شباط كان لشركات النفط.

من قاد ونفذ الانقلاب؟تولى قيادة وتنفيذ الانقلاب 8 شباط الجناحين المدني والعسكري لحب البعث والحركة القومية التالية أسمائهم:
 [علي صالح السعدي] و[أحمد حسن البكر] و[طالب شبيب] و[حازم جواد] و[مسارع الراوي] و[حمدي عبد المجيد] والضباط البعثيين المقدم [عبد الستار عبد اللطيف] والمقدم [عبد الكريم مصطفى نصرت] والمقدم[صالح مهدي عماش] والمقدم [حردان التكريتي] والملازم الأول الطيار [منذر الونداوي]. وعدد آخر من صغار الضباط، وبعض مراتب الجيش البعثيين.
 أما القوى القومية فقد ضمت كل من: [عبد السلام عارف] و[طاهر يحيى] و[عارف عبد الرزاق] و[عبد الهادي الراوي[ و[رشيد مصلح] و[عبد الغني الراوي] و[ خالد مكي الهاشمي] عدد من صغار الضباط.
أختار الانقلابيون موعداً لانقلابهم الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 963، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، حيث يوم الجمعة يوم عطلة، ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب، كما أن وقوع الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر، ورغم وصول إشارة إلى وزارة الدفاع قبل ساعة ونصف من وقوع الانقلاب، إلا أن آمر الانضباط العسكري، الزعيم الركن عبد الكريم الجدة لم يأخذ ذلك على مأخذ الجد ، وأعتقد أن ذلك نوع من الخيال.
فقد ذكر أحد الضباط الوطنيين المتواجدين في وزارة الدفاع، وكان ضابط الخفر ذلك اليوم قائلاً:
 أن  جرس الهاتف دق في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم الثامن من شباط، أسرعت لرفع سماعة الهاتف وإذا بشخص مجهول يحدثني قائلاً:
{إنني أحد الذين استيقظ ضميرهم، ووجدت لزاماً على نفسي أن أبلغكم بأن انقلاباً عسكرياً سيقع ضد عبد الكريم قاسم في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم ينطلق من قاعدة الحبانية الجوية، وكتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب}، وأغلق الهاتف، ثم يضيف الضابط الخفر قائلا: أسرعت بالاتصال بالزعيم عبد الكريم الجدة، آمر الانضباط العسكري  أبلغته بالأمر فما كان منه إلا أن أجابني قائلاً :
 {هل أنت سكران يا هذا ؟ كيف يقع انقلاب عسكري في يوم 14 رمضان، والزعيم صائم !! والناس صيام !!، وفي مثل هذا الوقت الذي تتحدث عنه ضحى؟ فلم يسبق أن وقع انقلاب عسكري في وضح النهار ثم أغلق الزعيم الجدة الهاتف }.
كان ذلك الموقف من عبد الكريم الجدة لا ينم إلا عن سوء التقدير للوضع السياسي في البلاد، فقد كان الجو السياسي مكفهراً، ونشاط المتآمرين يجري على قدم وساق، وإضراب الطلاب على أشده. كان الأولى بعبد الكريم الجدة الاتصال بعبد الكريم قاسم فوراً واستنفار كل الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
  كما أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 963،  ووزع بصورة علنية وعلى نطاق واسع، حذر فيه من خطورة الوضع، و جاء فيه:
{هناك معلومات متوفرة لدينا تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين، والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة، وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، ووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع وفعال في صفوف الجيش}.
 إلا أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد معتقداً  أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.

وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث وأفراد الحرس القومي الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح!!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الأوقاتي] .
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار، وأردوه قتيلاً في الحال، وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية، وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة. وفي نفس الوقت قام الملازم منذر الونداوي بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة، وبعد أن تم لهم ذلك  بادروا إلى قصف وزارة الدفاع .

وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون،  بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين. لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع ، على الرغم من تحذير الزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة، وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد ، القريبين جداً من بغداد. لكن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة، وقصفها بالطائرات والمدفعية، قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.

ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له ولكن خاب ظنه بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة واستبدلهم بعناصر انتهازية لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه سواء بقي عبد الكريم قاسم أم نجح الانقلابيون.
توجه[عبد السلام عارف]إلى[معسكر أبي غريب]،حيث وصل مقر كتيبة الدبابات الرابعة، وانضم إليه [ أحمد حسن البكر] واستقلا كلاهما إحدى الدبابات، وتوجها إلى دار الإذاعة، وبصحبتهما دبابة أخرى، وقد ساعدهم حرس دار الإذاعة المشاركين في الانقلاب على السيطرة عليها ثم التحق بهم كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وهناء العمري، خطيبة علي صالح السعدي.
 أما خالد مكي الهاشمي فقد أندفع بدباباته متوجهاً إلى بغداد رافعاً صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب التي ملأت شوارع بغداد لتدافع عن الثورة وقيادتها.

وفي نفس الوقت وصل العقيد [ عبد الغني الراوي ] إلى مقر لواء المشاة الآلي الثامن في الحبانية، وتمكن بمساعدة أعوانه من الانقلابيين من السيطرة على اللواء المذكور، وتحرك به نحو بغداد، كما نزل المئات من أفراد الحرس القومي على طول الطريق بين الحبانية وأبو غريب، حاملين أسلحتهم، وقد وضعوا الشارات الخضراء على أذرعهم، وتقدمت قوات الانقلابيين بقيادة المقدم المتقاعد[عبد الكريم مصطفى نصرت] وأحاطت بوزارة الدفاع ، كما تقدمت قوة أخرى من الطرف الثاني لنهر دجلة، مقابل وزارة الدفاع ، وبدأت قصفها للوزارة بالمدفعية الثقيلة.

كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين . لقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم ، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة منادين:
{باسم العامل والفلاح يا كريم أعطينا سلاح}. كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يردد قوله:
{إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسنقضي عليهم}
وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، بأنهم سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين. لكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب ولا عبد الكريم قاسم .
ثم يضيف رفيقي قائلاً:
في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات، تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم ، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة حيث وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم .
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات  لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع، خلال عشرة دقائق لا غير، وكانت مجزرة رهيبة لا  يمكن تصورها ، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها. ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة، موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة. ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والخيانة .

وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب،  وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم. وفي بعقوبة تصدى عدد من الضباط ، وضباط الصف والجنود للانقلاب  إلا أنهم فشلوا في ذلك،  وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً .
وفي معسكر التاجي القريب من بغداد، حيث توجد محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، غير متكافئ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار ،وضباط الصف والجنود.
كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في منطقة فايدة في شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية الذي كان يغطي ويخفي كل تحركات الانقلابيين، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم، ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري. ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، اصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية، ولا الأمنية ساكناً وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين.
كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي المعروف بعدائه للثورة، وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه
منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب.

 سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان:
{إلى السلاح ! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية}.
أيها المواطنون، يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين: لقد دق جرس الخطر،استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم و إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس  وإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع .
يا جماهير شعبنا المناضل الفخور!إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية وكل مؤسسة وكل حي وقرية، وسيُلحق الشعب بقيادة قواه الديمقراطية الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة كما فعل بمؤامرات الكيلاني والشواف، إننا نطالب بالسلاح }.
وقد دعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات. ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة للتصدي للانقلابيين، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة. فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره، وخاصة في صفوف الجيش؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش، على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه. ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل اندفاع، ووقفوا إلى جانب قيادة عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه،رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب وقدموا التضحيات الجسام ، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين. كان كل ما يعوز جماهير الشعب آنذاك هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، إلا أن كل تلك النداءات ذهبت أدراج الرياح.

ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم ، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً،ودفع حياته، ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.

في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب والقوات المسلحة، يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [كاسيت] تحت أصوات الانفجارات والقصف، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد  [سعيد الدوري] الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب، وقد حصلت على نسخة منه وبالإمكان اسماعكم إياه.

لقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها، رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع، ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع. ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، حيث خاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف .

أما [الحرس القومي]الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع وهاجموا مراكز الشرطة واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم .واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية والكاظمية وباب الشيخ، وحي الأكراد والحرية والشعلة لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع تلك المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم، وأصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على نصف مليون مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكريا ومن مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من [ سلام عادل ] السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب. كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من: جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي، أبو سعيد، ومتي الشيخ، و محمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم .

أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر] المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم [عبد الكريم الجدة] أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام وكان بصحبته كل من الزعيم الشهيد [فاضل عباس المهداوي] رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية ، والملازم الشهيد [كنعان حداد] مرافق قاسم .

ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف، طالباً منه باسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه ورعايته له، بالسماح له بمغادرة العراق. غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة  بكلمات نابية لا تدل على خلق، مما أثار غضب الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أمسك بالهاتف من يد عبد الكريم قاسم، ورد على عبد السلام عارف، باللهجة العامية بكلمات قاسية. واتصل عبد الكريم قاسم مرة أخرى بعبد السلام عارف طالباً منه السماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام.

وفي صباح اليوم التالي9 شباط خرج[يونس الطائي] صاحب صحيفة الثورة المعروف بعدائه للشيوعية،والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [ الثورة ] خرج للقاء الانقلابيين، وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة، حيث قام بدور الوسيط!! بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته، وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد حيث كان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، كان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى مبنى دار الإذاعة، حيث كان بانتظارهم قادة الانقلاب، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية، عند دخوله مبنى الإذاعة.
إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن،والدجال[يونس الطائي]الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة.
لكن الانقلابيين كانوا على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي من قطعات من الجيش من التصدي لانقلابهم المشؤوم.
قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم 9 شباط 963، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم عبد الغني الراوي، والنقيب منعم حميد،والنقيب عبد الحق فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم، رافضين وضع عصابة على أعينهم، وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي.
\
 سارع الانقلابيون إلى عرض جثته وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات، فقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة. ولم يكتفِ الانقلابيون بكلما فعلوه، بل انبرت أقلامهم القذرة، وقد أعمى الحقد قلوب أصحابها بنهش عبد الكريم قاسم، وإلصاق شتى التهم المزورة به، في محاولة للإساءة إلى سلوكه وأخلاقه مستخدمين ابذأ الكلمات التي لا تعبر إلا عن الإناء الذي تنضح منه، فعبد الكريم قاسم، رغم كل أخطائه، يبقى شامخاً كقائد وطني معادى للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير. وها هم بعض الذين أساءوا إلى شخصه، بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء، قد بدأت تستيقظ ضمائرهم ليعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز، بنوع من التجرد، لتعيد له اعتباره، وتقيّم تلك المرحلة من جديد.

477
أين الحقيقية في كارثة حي الزنجيلي بالموصل؟

وما هو المطلوب من الحكومة للأخذ بيد العوائل المنكوبة 
                           

حامد الحمداني                                                             30/1/2008

الكارثة الرهيبة التي حلت بحي الزنجيلي بالموصل تعتبر بحق جريمة بحق الإنسانية لا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها، أو التخفيف من المصيبة التي حلت بساكنيها جراء تفجير عمارة تتألف من ثلاثة طوابق بما تحتويه من متفجرات وقنابل قدرت بعشرين طناً وأتت على ما يزيد على المئة مسكن تعود لمواطنين فقراء معدمين دفنوا تحت انقاضها، حيث بدا ذلك الحي من خلال الصور التي عرضتها وسائل الإعلام المرئية وكأنما زلزالاً هائلاً قد وقع فيها، ذلك التفجير الرهيب الذي أحدث حفرة تجاوز عمقها خمسة أمتار وبقطر تجاوز الخمسة والعشرين متراً، وهذا ما يدل دلالة واضحة على الكميات الهائلة من المتفجرات التي كان موجودة داخل العمارة.

ولم تكن إجراءات السلطة لإنقاذ المواطنين المطمورين تحت أنقاض مساكنهم في مستوى الحدث المرعب، حيث لم يكن القائمون على عمليات الإنقاذ على مستوى من الأهلية و الخبرة كما يبدو، ولا يمتلكون الآليات والأجهزة المخصصة واللازمة للإنقاذ، ولا الكلاب المدربة على اكتشاف المطمورين من المواطنين تحت أنقاض منازلهم، وهذا إهمال خطير تتحمل مسؤوليته السلطة المحلية والحكومة معا.

ومن المفجع أن يصرح محافظ الموصل بعد يومين من وقوع الكارثة معلناً وقف البحث عن الأحياء تحت الأنقاض، على الرغم من شهادة بعض المواطنين أنهم كانوا يسمعون أصواتاً لمحاصرين  تحت الأنقاض، علماً أن حملات الإنقاذ كما هو معروف تستمر بضعة أيام وحتى لغاية أسبوعين، ولاسيما في فصل الشتاء حيث يستطيع الانسان المقاومة تحت الأنقاض دون ماء مدة أطول من فصل الصيف طالما يستطيع التنفس، وهذه مسؤولية كبرى ينبغي أن يحاسب عليها المحافظ وطاقمه من المسؤولين.

 كيف حدثت هذه الكارثة، ومن يقف وراءها؟

لقد اختلفت التأويلات التي أطلقتها الحكومة، والسلطة المحلية في الموصل من جهة، والمواطنون من جهة أخرى، فالحكومة تدعي أن الإرهابيين من عناصر القاعدة قد اتخذوا من هذه العمارة مخزناً للسلاح والمتفجرات، وأن جهاز الأمن قد اكتشف الأمر واتخذ قراراً بتفجيرها، وأن السلطات المحلية قد طلبت من سكان المنطقة مغادرتها قبل تفجيرها، فإذا صح هذا التعليل فمن حقنا أن نسأل الحكومة والسلطة المحلية:

 1ـ كيف وقعت كل هذه الضحايا ؟

 2 ـ كيف طمر ساكنوها تحت أنقاض منازلهم؟

 3 ـ كيف تم تفجيرها قبل التأكد من خلو المنطقة من ساكنيها ؟

4ـ  كيف جرى تقدير مساحة المنطقة المعرضة للتدمير التي سيتركها التفجير، وما مدى الاحتياطات التي كان من الواجب اتخاذها؟

5 ـ  ما هي الاجراءات التي اتخذتها الحكومة والسلطات المحلية لإسكان أهالي الحي؟

 

 أما التأويل الثاني للكارثة فهو القول أن عناصر القاعدة هي التي كدست الأسلحة والمتفجرات في العمارة ولغمتها وفجرتها، لكي توقع أقصى ما يمكن من الخسائر البشرية بساكني الحي .

فإذا صح هذا التأويل فإن هناك العديد من التساؤلات التي تتطلب الإجابة عنها من قبل الحكومة والسلطة المحلية:

1ـ كيف جرى تكديس كل هذه الكمية من الأسلحة والمتفجرات في هذه المنطقة الشعبية المكتظة بالسكان دون أن تحس بها السلطات الأمنية، وكيف سكت سأكني الدور المحيطة بالعمارة ولم يبلغوا عنها على الرغم من المخاطر الشديدة عليهم بالذات، وإبلاغ السلطات الأمنية عنها ، لاتخاذ الاجراءات اللازمة والقبض على الفاعلين المجرمين؟

2 ـ هل أن السلطات الأمنية مخترقة إلى هذا الحد لدرجة قيل أن أحد أفراد الشرطة كان لحمل حزاماً ناسفاً وفجره حال وصول مدير شرطة المحافظة لتفقد المنطقة حيث أدى إلى وفاته متأثراً بالجروح البليغة التي أصيب بها.

3 ـ لماذا لم يتم رفع كافة الأنقاض للدور المهدمة، وإخراج جثث الضحايا، وإجراء مراسيم دفنها حسب الأصول المتبعة ؟

4 ـ ما هي الإجراءات العاجلة التي اتخذتها الحكومة والسلطة المحلية في المحافظة لتأمين الحياة الطبيعية للناجين من تلك المجزرة المروعة من تأمين سكن لتلك العوائل المنكوبة، وتأمين دخل كاف لهم يسد رمقهم ورمق أطفالهم، ولاسيما وأن سكنة تلك المنطقة المنكوبة هم من الكادحين المعدمين الذين يكسبون ما يسد قوتهم اليومي من بيع قوة عملهم يوماً بيوم ؟

إن على الحكومة العراقية والسلطة المحلية في الموصل أن تتحمل مسؤوليتها تجاه هذه العوائل المنكوبة من خلال القيام فوراً ببناء عمارات سكنية محل بيوتهم المدمرة، والمتضررة والتي لم تعد صالحة للسكن، مع أقامة حديقة حول العمارات المقترحة، مع إضافة بعض الملاعب لأطفالهم للتعويض عما أصابهم من هول تلك الجريمة التي تقشعر من هولها أبدان الكبار ، فكيف الحال بالأطفال الذين روعوا أشد الترويع ؟

كما أن على السلطة المحلية أن تجد لهؤلاء المنكوبين نساءً ورجالاً العمل المناسب والدائمي لتأمين حياة كريمة لهم دون عوز، ودون قلق فهم يستحقون من الدولة كل هذا وأكثر من ذلك ، وهذا هو ابسط ما يمكن أن تقدمه الحكومة والسلطة المحلية الحاكمة في المحافظة لهؤلاء المنكوبين، أما العوائل التي فقد معيلها على الدولة أن تخصص رواتب تقاعدية للعائلة بما يسد حاجتها في تأمين حياة كريمة للإنسان، ولا اعتقد أن واردات الدولة وميزانيتها عاجزة عن تأمين هذه المطالب المتواضعة .

وهناك واجب آخر على الحكومة والسلطة المحلية يقتضي بإجراء تحقيق يتولاه اختصاصيون متمرسون في عمليات تفجير القنابل والمتفجرات لتثبيت التقصير في تقدير نتائج تفجير العمارة فيما إذا ثبت أن التفجير جرى من قبل السلطات الأمنية وليس من قبل الإرهابيين المجرمين، وعليها تحمل كامل المسؤولية عن هذا الأجراء الخطير الذي أدى إلى هذه الكارثة المروعة فيما إذا ثبت تقصيرها بذلك.

478
أين الحقيقية في كارثة حي الزنجيلي بالموصل؟
وما هو المطلوب من الحكومة للأخذ بيد العوائل المنكوبة
   
   

                       
حامد الحمداني     30/1/2008
الكارثة الرهيبة التي حلت بحي الزنجيلي بالموصل تعتبر بحق جريمة بحق الإنسانية لا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها، أو التخفيف من المصيبة التي حلت بساكنيها جراء تفجير عمارة تتألف من ثلاثة طوابق بما تحتويه من متفجرات وقنابل قدرت بعشرين طناً وأتت على ما يزيد على المئة مسكن تعود لمواطنين فقراء معدمين دفنوا تحت انقاضها، حيث بدا ذلك الحي من خلال الصور التي عرضتها وسائل الإعلام المرئية وكأنما زلزالاً هائلاً قد وقع فيها، ذلك التفجير الرهيب الذي أحدث حفرة تجاوز عمقها خمسة أمتار وبقطر تجاوز الخمسة والعشرين متراً، وهذا ما يدل دلالة واضحة على الكميات الهائلة من المتفجرات التي كان موجودة داخل العمارة.
ولم تكن إجراءات السلطة لإنقاذ المواطنين المطمورين تحت أنقاض مساكنهم في مستوى الحدث المرعب، حيث لم يكن القائمون على عمليات الإنقاذ على مستوى من الأهلية و الخبرة كما يبدو، ولا يمتلكون الآليات والأجهزة المخصصة واللازمة للإنقاذ، ولا الكلاب المدربة على اكتشاف المطمورين من المواطنين تحت أنقاض منازلهم، وهذا إهمال خطير تتحمل مسؤوليته السلطة المحلية والحكومة معا.
ومن المفجع أن يصرح محافظ الموصل بعد يومين من وقوع الكارثة معلناً وقف البحث عن الأحياء تحت الأنقاض، على الرغم من شهادة بعض المواطنين أنهم كانوا يسمعون أصواتاً لمحاصرين  تحت الأنقاض، علماً أن حملات الإنقاذ كما هو معروف تستمر بضعة أيام وحتى لغاية أسبوعين، ولاسيما في فصل الشتاء حيث يستطيع الانسان المقاومة تحت الأنقاض دون ماء مدة أطول من فصل الصيف طالما يستطيع التنفس، وهذه مسؤولية كبرى ينبغي أن يحاسب عليها المحافظ وطاقمه من المسؤولين.
 كيف حدثت هذه الكارثة، ومن يقف وراءها؟
لقد اختلفت التأويلات التي أطلقتها الحكومة، والسلطة المحلية في الموصل من جهة، والمواطنون من جهة أخرى، فالحكومة تدعي أن الإرهابيين من عناصر القاعدة قد اتخذوا من هذه العمارة مخزناً للسلاح والمتفجرات، وأن جهاز الأمن قد اكتشف الأمر واتخذ قراراً بتفجيرها، وأن السلطات المحلية قد طلبت من سكان المنطقة مغادرتها قبل تفجيرها، فإذا صح هذا التعليل فمن حقنا أن نسأل الحكومة والسلطة المحلية:
 1ـ كيف وقعت كل هذه الضحايا ؟
 2 ـ كيف طمر ساكنوها تحت أنقاض منازلهم؟
 3 ـ كيف تم تفجيرها قبل التأكد من خلو المنطقة من ساكنيها ؟
4ـ  كيف جرى تقدير مساحة المنطقة المعرضة للتدمير التي سيتركها التفجير، وما مدى الاحتياطات التي كان من الواجب اتخاذها؟
5 ـ  ما هي الاجراءات التي اتخذتها الحكومة والسلطات المحلية لإسكان أهالي الحي؟

 أما التأويل الثاني للكارثة فهو القول أن عناصر القاعدة هي التي كدست الأسلحة والمتفجرات في العمارة ولغمتها وفجرتها، لكي توقع أقصى ما يمكن من الخسائر البشرية بساكني الحي .
فإذا صح هذا التأويل فإن هناك العديد من التساؤلات التي تتطلب الإجابة عنها من قبل الحكومة والسلطة المحلية:
1ـ كيف جرى تكديس كل هذه الكمية من الأسلحة والمتفجرات في هذه المنطقة الشعبية المكتظة بالسكان دون أن تحس بها السلطات الأمنية، وكيف سكت سأكني الدور المحيطة بالعمارة ولم يبلغوا عنها على الرغم من المخاطر الشديدة عليهم بالذات، وإبلاغ السلطات الأمنية عنها ، لاتخاذ الاجراءات اللازمة والقبض على الفاعلين المجرمين؟
2 ـ هل أن السلطات الأمنية مخترقة إلى هذا الحد لدرجة قيل أن أحد أفراد الشرطة كان لحمل حزاماً ناسفاً وفجره حال وصول مدير شرطة المحافظة لتفقد المنطقة حيث أدى إلى وفاته متأثراً بالجروح البليغة التي أصيب بها.
3 ـ لماذا لم يتم رفع كافة الأنقاض للدور المهدمة، وإخراج جثث الضحايا، وإجراء مراسيم دفنها حسب الأصول المتبعة ؟
4 ـ ما هي الإجراءات العاجلة التي اتخذتها الحكومة والسلطة المحلية في المحافظة لتأمين الحياة الطبيعية للناجين من تلك المجزرة المروعة من تأمين سكن لتلك العوائل المنكوبة، وتأمين دخل كاف لهم يسد رمقهم ورمق أطفالهم، ولاسيما وأن سكنة تلك المنطقة المنكوبة هم من الكادحين المعدمين الذين يكسبون ما يسد قوتهم اليومي من بيع قوة عملهم يوماً بيوم ؟
إن على الحكومة العراقية والسلطة المحلية في الموصل أن تتحمل مسؤوليتها تجاه هذه العوائل المنكوبة من خلال القيام فوراً ببناء عمارات سكنية محل بيوتهم المدمرة، والمتضررة والتي لم تعد صالحة للسكن، مع أقامة حديقة حول العمارات المقترحة، مع إضافة بعض الملاعب لأطفالهم للتعويض عما أصابهم من هول تلك الجريمة التي تقشعر من هولها أبدان الكبار ، فكيف الحال بالأطفال الذين روعوا أشد الترويع ؟
كما أن على السلطة المحلية أن تجد لهؤلاء المنكوبين نساءً ورجالاً العمل المناسب والدائمي لتأمين حياة كريمة لهم دون عوز، ودون قلق فهم يستحقون من الدولة كل هذا وأكثر من ذلك ، وهذا هو ابسط ما يمكن أن تقدمه الحكومة والسلطة المحلية الحاكمة في المحافظة لهؤلاء المنكوبين، أما العوائل التي فقد معيلها على الدولة أن تخصص رواتب تقاعدية للعائلة بما يسد حاجتها في تأمين حياة كريمة للإنسان، ولا اعتقد أن واردات الدولة وميزانيتها عاجزة عن تأمين هذه المطالب المتواضعة .
وهناك واجب آخر على الحكومة والسلطة المحلية يقتضي بإجراء تحقيق يتولاه اختصاصيون متمرسون في عمليات تفجير القنابل والمتفجرات لتثبيت التقصير في تقدير نتائج تفجير العمارة فيما إذا ثبت أن التفجير جرى من قبل السلطات الأمنية وليس من قبل الإرهابيين المجرمين، وعليها تحمل كامل المسؤولية عن هذا الأجراء الخطير الذي أدى إلى هذه الكارثة المروعة فيما إذا ثبت تقصيرها بذلك.

479
وحدة قوى اليسار والعلمانية والليبرالية
خطوة متأخرة في أول الطريق


حامد الحمداني                                                           26/1/2008
منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وقوى اليسار والتقدم، بما فيها القوى العلمانية والليبرالية كانت هدفاً لكل الأنظمة الرجعية والقومية المتعصبة التي تعاقبت على الحكم في العراق، وبلغت ذروتها خلال الحقبة التي حكم فيها حزب البعث البلاد حتى سقوطه على يد الجيوش الأمريكية والبريطانية عام 2003، حيث كانت تتعرض باستمرار لحملات تلك الأنظمة، سواء كان ذلك عن طريق العنف الذي مارسته الدولة، أو من خلال القوانين والمراسيم التي تصدرها لتصفية الحقوق الديمقراطية والحريات العامة التي نص عليها الدستور، بغية كبح جماحها، ومحاولة إضعاف تأثيرها على مجريات الأحداث في الساحة العراقية، وتقرير مصائر الشعب والوطن.
ومع شدة شراسة تلك الأنظمة في حربها ضد قوى اليسار والديمقراطية إلا أن هذه القوى استطاعت أن تتحدى السلطة الحاكمة في العهد الملكي، وإن تقود نضال الشعب من أجل حقوقه الديمقراطية، واستطاعت أن تهيمن على العمل السياسي في الشارع العراقي، ولاسيما عندما استطاعت هذه القوى تحقيق التعاون فيما بينها من خلال الجبهة الوطنية عام 1954 لخوض الانتخابات النيابية، وجبهة الاتحاد الوطني عام 1957، والتي استطاعت أن تحقق إنجازات كبرى في مجال التحرر والديمقراطية، وبلغت قمة تلك الإنجازات في ثورة الرابع عشر من تموز1958، حيث تمتع الشعب العراقي لأول مرة بالحرية والديمقراطية.
لكن ذلك التحول لم يدم طويلاً ، فقد انفرط عقد جبهة الاتحاد الوطني بين الأحزاب الوطنية ، وأخذت القوى القومية تتنصل من التزاماتها، وتتآمر على ثورة 14 تموز في محاولة للسطو على السلطة والاستئثار بها .
وزاد في الطين بله الانشقاق الذي حصل لقوى اليسار والديمقراطية والعلمانية بسبب تلك الأخطاء التي ارتكبتها سائر تلك القوى في تعاملها مع بعضها البعض من جهة، وأسلوب تعاملها مع قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، وكانت الطامة الكبرى في حمل القيادة الكردية آنذاك السلاح ضد السلطة، وتعاونها مع انقلابيي 8 شباط لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، فكانت النتيجة تلك الكارثة التي حلت بالعراقيين جميعاً عرباً وأكراداً وسائر القوميات الأخرى.
  ولاشك في أن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه، وتحوله نحو الحكم الفردي، ومحاولة استئثاره بالسلطة، وإطالة أمد فترة الانتقال، وإجراء انتخابات برلمانية، وتشريع دستور للبلاد، وزاد في الطين بله محاولته خلق التوازن بين القوى التي تآمرت على الثورة وعلى حياته ، وبين القوى التي دافعت عن الثورة، وحمت كيان الجمهورية وقيادتها، فكانت تلك الأخطاء وتلك السياسة هي التي مهدت السبيل لوقوع انقلاب 8 شباط الفاشي بقيادة القوى البعثية والقومية، والتي صفت كل مظاهر الحرية والديمقراطية في البلاد، وقمعت بكل وسائل العنف والوحشية قوى اليسار والديمقراطية، ثم التفتت نحو الحركة الكردية حيث خاضت معها تلك الحرب الشرسة ونكلت بالشعب الكردي أبشع تنكيل.
ولم يدم حكم البعث وشركائه القوميين سوى 9 اشهر حيث انتهت بانقلاب عسكري قاده عبد السلام عارف، لكن الحملة على القوى اليسارية والديمقراطية والعلمانية استمرت في عهده على الرغم من كون حدتها قد خفت نوعاً ما، واستمر الحال بعد مقتله في حادثة طائرة، حيث تولى السلطة من بعده شقيقه عبد الرحمن عارف، وتميزت فترة حكمه بالضعف.
 وفي المقابل شهد الحزب الشيوعي نشاطاً واسعاً جداً، واستعاد دوره الكبير في الساحة السياسية رغم منع نشاطه الرسمي، لكن المؤسف أن يقع الانشقاق الذي قادة عزيز الحاج في صفوف الحزب، في 17 أيلول 1967 ، والذي استطاع سحب جانب كبير من رفاق وكوادر الحزب إلى جانبه، قد اضعف الحزب إلى حد كبير، وظل يعاني من نتائجه طويلاً على الرغم من اعتقال البعثيين لعزيز الحاج ومعظم قادة الحزب ـ القيادة المركزية ـ بعد عودتم إلى الحكم بانقلاب عسكري في 17 تموز 1968، حيث استشهد العديد من رفاق وكوادر الحزب، وترك العمل الحزبي أعداد كبيرة منهم بعد اليأس الذي أصابهم جراء اعترافات عزيز الحاج وبيتر يوسف.
واستطاع البعثيون جر الحزب الشيوعي ـ اللجنة المركزيةـ للتعاون، وصولاً إلى ما سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، والتي انتهت بكارثة أخرى حلت بالحزب على يد البعثيين بعد كارثة انقلاب 8 شباط الفاشي، واستمرت الحرب البعثية ضد الشيوعيين ، ومن ثم امتدت نحو كافة القوى الديمقراطية حتى وصلت حلفائهم القوميين.
واستمرت حالة التراجع والانكماش والضعف في صفوف القوى اليسارية والديمقراطية والعلمانية حتى وصلت إلى حافة التلاشي على عهد الجلاد صدام حسين الذي لم يبق أي اثر للنشاط الديمقراطي في العراق.
وجاءت حرب الخليج الثالثة التي قادتها الولايات المتحدة، والتي أسقطت نظام صدام وحزبه الفاشي عن السلطة، وعينت بريمر حاكما على العراق، وبدأت القوى السياسية في المهجر بالعودة إلى العراق لملئ الفراغ الحادث في السلطة، وكان للشيوعيين في أوئل أيام سقوط  النظام دور فاعل ونشط إلى حد كبير، وكان من المؤمل أن يزداد ويتوسع ذلك النشاط، والعمل الجاد على لم سائر أجنحة القوى اليسارية والعلمانية والليبرالية في جبهة موحدة في محاولة لوقف المد الرجعي الذي قادته أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، من أجل قيام نظام حكم ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، ويعيد بناء العراق من جديد بعد الخراب الذي اصابه جراء حروب صدام العبثية، وجراء الحرب الاقتصادية التي شنتها الولايات المتحدة على شعب العراق باسم الحصار على نظام صدام، مما تسبب في انهيار البنية الاجتماعية العراقية بالإضافة إلى انهيار البنية الاقتصادية، والخدمات العامة الضرورية من ماء وكهرباء وصرف صحي ورعاية صحية وتعليمية.
لكن الولايات المتحدة لم يكُ في مشروعها إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي في العراق ، ولذلك نجدها قد احتضنت قوى الإسلام السياسي الشيعي والسني ، بالإضافة إلى الأحزاب القومية الكردية التي دخلت معها في تحالف متخلية عن حلفائها الحقيقيين لسنوات طويلة، وكان خلالها يعول الشيوعيون على هذين الحزبين الكرديين كركنٍ أساسي في الحركة الديمقراطية، لكنهما آثرا التحالف مع قوى الإسلام السياسي بعد أن وجدا أن تحقيق مصالحهما فيما دعي بالعراق الفيدرالي تتفق مع توجهات المجلس الأعلى بزعامة عبد العزيز الحكيم الهادفة لتمزيق العراق ، وتخلت عما كانت تدعيه من توجه ديمقراطي علماني.
وهكذا جاءت الدعوة الأخيرة من قبل الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والعربي الاشتراكي، والعديد من الشخصيات الوطنية اليسارية والديمقراطية والعلمانية لإقامة جبهة وطنية جديدة بعد هذه المدة الطويلة التي مرت على سقوط نظام صدام ، وما حل بالشعب العراقي على أيدي هذه الأحزاب وميليشياتها المسلحة من حرب طائفية وخراب ودمار، وما حل بالمجتمع العراقي من قتل وعداء وكراهية وانتقام، ومن هجرة وتهجير جماعي طال الملايين من ابناء الشعب العراقي، مما لا يمكن تجاوز آثاره لأمد طويل.
إذا لقد جاءت الدعوة هذه متأخرة جداً، لكنها على أي حال خطوة أولى في الاتجاه الصحيح تتطلب جهداً كبيراً وعزماً أكيداً على مواصلة النضال من أجل قيام جبهة وطنية واسعة تضم كل القوى والعناصر المؤمنة بالديمقراطية والعلمانية والليبرالية.
ولا شك إن في مقدمة المهام الملقاة على عاتق الشيوعيين بشتى فصائلهم هو أن يجدوا سبيلاً لوحدتهم، فمن المحزن أن نجد على الساحة السياسية أكثر من عشرة أحزاب شيوعية، وعلى اقل تقدير فإن قيام نوع من التعاون والتنسيق كخطوة أولى نحو بناء حزب يضم الجميع.
كما أن من المحزن أن تتخلى الأحزاب القومية الكردية عن ديمقراطيتها وتتحالف مع أحزاب الإسلام السياسي، هذا التحالف الذي بدأ اليوم يشهد تفككه نتيجة العديد من الخلافات التي أخذت تظهر على السطح، فقد كان معروفاً سلفاً أن هذا الحلف مع قوى الإسلام السياسي هو موقف مصلحي لا علاقة له بالمصلحة الوطنية للعراق وشعبه، وليكن معلوماً أن العراق وطناً وشعباً هو الحاضنة التي يستظل بظلالها الشعب الكردي الشقيق تحت راية العراق الديمقراطي المتحرر، وأن قيام الجبهة الوطنية الديمقراطية الواسعة هي السبيل الأمثل لتحقيق أماني الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه وطوائفه .


480
إلى متى تستمر حكومة المالكي برجل واحدة وعكازات؟

حامد الحمداني  22/12/2007
منذ أشهر عديد وحكومة السيد نوري المالكي تستمر في قيادة البلاد ، وقد بتر احد أطرافها العليا والسفلى ، بعد استقالة 17 وزيرا منها ، وفي كل يوم يطلع علينا السيد رئيس الوزراء ، أو الناطق الرسمي باسمه بقرب إملاء الشواغر في الوزارة تارة ، و بتشكيل وزارة جديدة تارة أخرى ، وتمضي الأيام والأسابيع والأشهر دون أن نشهد الوزارة المعهودة ، ومشاريع القوانين ، وفي مقدمتها ما يخص المصالحة الوطنية أمام البرلمان المعطل حيث ثلث أعضاء البرلمان يحجون في مكة كل عام على حساب الشعب ومصالحة وأمنه وحرياته المنتهكة ، والثلث الثاني يسرح ويمرح في بلدان أوربا وبعض البلدان العربية للترفيه عن أنفسهم بعد عناء العيش في سجن الواحة الخضراء!!.
وباتت حكومة المالكي تسير على طرفها الثاني مستعينة بالعكازات التي استمدتها من برلمان هو والشعب العراقي على طرفي نقيض ، وأحزاب قد سيّست الدين ، واستخدمته لتحقيق أغراض سياسية تتمثل حصراً بالصراع من أجل السلطة والثروة ، مدعومة من قبل مليشياتها المسلحة التي باتت تتحكم بمصير الشعب العراقي ، والويل لمن يقف أمامها ، فهي لا تتحدث مع المواطنين إلا بقوة السلاح كي تكم به أفواههم ، ومنعهم من  التعبير عن رفضهم واستيائهم بما يجري في البلاد من جرائم وحشية بشعة من قتل وتهجير وتشريد وانتهاك لحرمة المنازل، وقمع الحريات العامة والشخصية حتى بات المواطن على يقين أن الحكومة ليست هي التي تحكم هذا البلد بل المليشيات المنفلتة من عقالها دون وازع من أخلاق أو ضمير وقانون.
ولم يعد نشاط هذه الميليشيات تقتصر على الصراع مع الشعب ، بل لقد تعدتها لتدخل في الصراع الذي احتدم  بين الأحزاب التابعة لها ، وهذا ما شهده الشعب في الديوانية والبصرة والعمارة والنجف والحلة وغيرها من المدن الأخرى حيث الصراع المحتدم بين ميليشيات المجلس الإسلامي الأعلى التابع لعبد العزيز الحكيم وجيش المهدي التابع لمقتدى الصدر والذي بلغ حد الصراع المسلح ، واغتيال العديد من المحافظين ومدراء الشرطة وضباط عسكريين كبار تابعين لهما .
إن ما تدعيه حكومة المالكي حول التحسن الأمني المحدود في البلاد أمر لا يمكن الركون إليه، فهو في واقع الأمر تحسن هش حصل جراء زيادة القوات الأمريكية من جهة ، حيث استقدمت إدارة الرئيس بوش 30 الف جندي ليرتفع عدد الجنود الأمريكيين إلى 170 الف جندي، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لجوء الإدارة الأمريكية إلى تكوين ما يسمى بقوات الصحوة من العشائر المرتبطة بالنظام الصدامي فيما سبق ، والتي كانت هي نفسها تمارس أعمال القتل والتفجيرات ، وزرع العبوات الناسفة وعمليات اختطاف المواطنين، والتي تم ربطها بقيادة القوات الأمريكية بصورة مباشرة ، وتستلم أجورها وسلاحها من قبل القوات الأمريكية .
إن هذه القوات المشكلة والتي أطلق عليها بقوات الصحوة تمثل سلاحاً ذو حدين، فهي مرهونة بتواجد القوات الأمريكية في البلاد ، والتي خلقتها لتعيد التوازن بين القوى الشيعية التي هيمنت على السلطة ، والقوى السنية التي تم دحرها في الحرب الأخيرة التي انتهت بسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين ، بعد أن أحست الإدارة الأمريكية بخطر الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية المرتبطة بالعديد من الوشائج مع حكام طهران ، وعليه فإن التحسن الأمني المحدود يبقى هشاً ، ويبقى الوضع الأمني قابلاً للانفجار في أية لحظة حيث  لا يمكن الركون إلى ولاء هذه القوت ، والتي يمكن أن تفجر الوضع الأمني متى شاءت .
إن الأمن الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون إجراء مصالحة حقيقية بين مكونات الشعب العراقي ، مع استبعاد العناصر التي مارست دوراً في جرائم النظام السابق ، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي لا شائبة فيه. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق على يد حكومة مبتورة الأطراف ، ولا بد من تشكيل حكومة تنكوقراط بعيدة عن المحاصصة الطائفية والعرقية، تتولى  وضع قانون انتخابي جديد على أساس الدائرة الانتخابية، وسن قانون جديد للحياة الحزبية يتضمن قيام أحزاب ديمقراطية ، ومنع قيام أحزاب على أساس ديني أو عرقي أو طائفي ، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة ، وحكومة تنبثق عن البرلمان بعيد عن المحاصصة ، وتتولى الحكومة الجديدة تشكيل لجنة دستورية من قبل كبار جال القانون الدستوري تتولى إعادة النظر في الدستور الذي وضع أسسه الحاكم الأمريكي بريمر في ظل الاحتلال، ولا شك أن ما وضع في ظل الاحتلال لا يمكن أن يمثل إرادة الشعب الحقيقية.
ينبغي أن يؤكد الدستور على التوجه الديمقراطي والتأكيد على الحريات العامة وحقوق الإنسان المشروعة ، وتصفيه كافة الميلشيات دون استثناء ، وحصر السلاح بالجيش والقوات الأمنية التي ينبغي أبعادها عن نفوذ الأحزاب الطائفية والعرقية وميليشياتها ليكون ولائها للوطن وحده ، وفي خدمة الشعب العراقي بسائر أطيافه ومكوناته على قدم المساواة ودون تمييز. إن استمرار وضع الحكومة على حاله ، وحتى القيام بترقيع الحكومة لا يمكن أن يضمن دوام الأمن والسلام في البلاد ، ويشكل تهديداً مستمراً لتدهور امني جديد ما دامت عوامل الانقسام والصراع مستمرة لتخفو تارة وتندلع نيرانه تارة أخرى ، ولا بعد من معالجة جذرية لأسباب الانقسام والصراع ، ولا سبيل لذلك غير طريق المصالحة الوطنية القائمة على أسس من العدالة ، فلا عفو عن المجرمين ، وتحميل الأبرياء وزر جرائم لم يرتكبوها ، وإن عملية اجتثاث الفكر البعثي الفاشي وليس اجتثاث البعثيين هو السبيل لقيام النظام الديمقراطي المنشود.

481
1559تحالف عون ونصر الله وبري وسادتهم في سوريا وإيران
يقامر بمستقبل لبنان وشعبه

حامد الحمداني    16/12/2007
منذ أكثر من عام وتحالف عون بري نصر الله ، وبدعم مباشر من قبل حكام سوريا وإيران قد أوصلوا الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها إلى حالة من الشلل التام ، ولكل جهة من هذه الجهات أهدافها وغاياتها التي لم تعد تنطلي على أحد ، و كل يغني على ليلاه .
فسوريا التي دخلت قواتها العسكرية إلى لبنان ضمن قوات الردع العربية إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد عام 1975 ، بقرار عربي ودولي، استطاب لها المقام فيها، على الرغم من خروج قوات الردع العربية الأخرى التي شاركتها تلك المهمة ، وباتت المخابرات السورية هي الحاكم الفعلي في لبنان ، وصار حاكم سوريا هو الذي يقرر كل صغيرة وكبيرة في البلاد ، فهو الذي يختار رئيس الجمهورية ، ورئيس الوزراء ، وسائر أجهزة الدولة السياسية والعسكرية والأمنية ، وكان آخر إجراء للقيادة السورية فرض التمديد للرئيس إميل لحود على مجلس النواب بعد التهديد المباشر والصريح الذي وجهه الرئيس السوري لرئيس الوزراء اللبناني وزعيم الأغلبية في البرلمان الشهيد رفيق الحريري بوجوب التمديد لرئاسة لحود خلافاً للدستور، وإجبار البرلمان على تعديل الدستور لهذا الغرض.
وعلى الرغم من تحقيق الأجندة السورية تلك فوجئ الشعب اللبناني والعربي والعالم أجمع بتلك الجريمة النكراء التي أودت بحياة الشهيد الرئيس رفيق الحريري، والنائب الشهيد [باسم فليحان ] الذي كان يرافقه في السيارة ، مع 22 من مرافقيه وحمايته في تفجير سيارة مفخخة كانت تترصد له لدى خروجه من مجلس النواب، مما أثار موجة عاصفة من الاحتجاجات والاستنكار والغضب في العالم اجمع.
 وجاء رد الفعل الدولي من خلال قرار مجلس الأمن الدولي رقم [  1559 ] في 2 أيلول 2004 ، والذي طالب حكام سوريا بسحب قواتهم من لبنان فوراً، واضطر حكام سوريا إلى سحب قواتهم من لبنان مرغمين، لكنهم تركوا وراءهم جيش حزب الله يحركونه متى شاءوا وأنى شاءوا.
وعلى الجانب اللبناني اندلعت انتفاضة الشعب اللبناني ضد الوجود السوري في لبنان بقيادة كتلة 14 آذار، واستقالت حكومة عمر كرامي لتخلفها حكومة مستقلة برئاسة السيد [ نجيب ميقاتي ] تتولى إجراء انتخابات عامة جديدة في البلاد ، وجاءت نتائج الانتخابات بفوز كتلة 14 آذار بالأغلبية في البرلمان الجديد ، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة السيد [ فؤاد السنيورة] ، وضمت الوزارة 5 أعضاء من كتلة حزب الله بزعامة حسن نصر الله وحركة أمل بزعامة نبيه بري الذي جرى انتخابه رئيساً لمجلس النواب .
 لكن تلك النتائج لم تكن لترضي حكام سوريا وإيران الذين باشروا على الفور بخلق المشاكل والعقبات أمام الحكومة الجديدة من قبل رئيس الجمهورية إميل لحود المعين من قبل حكام سوريا ، حتى أوصلوا العلاقة بين الرئاسة والحكومة إلى القطيعة التامة ، مما سبب في شلل عمل الحكومة .
وجاءت الضغوط التي مارسها حزب الله وحركة أمل لتعمّق من حالة الشلل السياسي والاقتصادي في البلاد بأمر من الأسياد القابعين في دمشق وطهران على أثر قرار مجلس الأمن الدولي رقم [ 1757 ] القاضي بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الشهيد رفيق الحريري ، ومن يقف وراء تلك الجريمة النكراء ، وتشكلت على الفور لجنة تحقيقية يقودها الخبير الدولي في التحقيقات الجنائية [ ديتلف ميليس] لكشف كل الخيوط المؤدية إلى الفاعلين والمخططين لتلك الجريمة.
أما إيران فقد أوعزت لجيشها في لبنان [ميليشيا حزب الله] في إشعال الحرب مع إسرائيل من وراء ظهر الحكومة اللبنانية ، تلك الحرب التي جلبت الكوارث على الشعب اللبناني ، ودمرت البنية التحية جراء التدمير الهائل في معظم مرافق البلاد ، وأدت إلى استشهاد أكثر من 1200 لبناني برئ ، وتهديم مساكن المواطنين وتهجير مئات الألوف من سكان الجنوب.
  وفي محاولة من حكام دمشق  لمنع الحكومة اللبنانية من إقرار قانون إنشاء المحكمة الدولية أعلن قادة حزب الله وحركة أمل استقالة وزرائهم الخمسة من الحكومة احتجاجاً على إقرار حكومة السنيورة للمحكمة الدولية لمحاكمة ليس فقط قتلة رفيق الحريري ، بل لتشمل كل الشهداء الذين جرى اغتيالهم من أعضاء مجلس النواب والوزراء والشخصيات الوطنية المعروفة ، وضمت قائمة الاغتيالات الشهداء النائب [جبران تويني] والوزير والنائب [بيير الجميل] والنائب [وليد عيدو] والنائب [أنطوان غانم]  والزعيم السابق للحزب الشيوعي [جورج حاوي] والصحفي البارز [سمير قصير] ، والإعلامية [مي شدياق] التي أصيبت بإصابات بالغة وفقدت ساقها ويدها ، وكان أخرهم الشهيد اللواء [ فرانسوا الحاج] الذي كان مرشحاً لقيادة الجيش .
وكان واضحاً أن هدف من اغتيال النواب وكلهم من كتلة 14 آذار لتقليص عددهم في مجلس النواب والحيلولة دون التحكم  في قراراته .
وعلى الرغم من استقالة وزراء حزب الله وحركة أمل من الحكومة فما زالوا يمارسون أعمالهم في وزاراتهم لكنهم يرفضون المشاركة في اجتماع مجلس الوزراء !!.
ولم يكتفِ حسن نصر الله وحلفائه بري وعون بهذا الشلل في عمل المؤسسات الدستورية ، بل أقدموا على احتلال قلب بيروت التجاري ، ونصبوا خيامهم في الشوارع والساحات العامة ، وقطعوا الطرق ، مطالبين بإعادة تشكيل الحكومة بحيث يكون لهم نسبة الثلث زائداً واحد فيها لكي لا تستطيع الأكثرية المتمثلة بكتلة 14 آذار اتخاذ أي قرار لا تقبل به كتلة 8 آذار، وعندما فشلوا في حملتهم تلك أخذوا يطالبون باستقالة الحكومة ، وأعلنوا عدم الاعتراف بها، مدعين بأنها غير دستورية ، وغير ميثاقية ، وفاقدة للشرعية !!!.
ومنذ 3 اشهر وقوى 8 آذار تحول دون انتخاب رئيس جديد للبلاد محاولين فرض شروطهم ليس فقط على شخص رئيس الجمهورية ، بل تعداه إلى شخص رئيس الوزراء والوزراء ، ونسبة عدد وزرائهم في الحكومة ، وتحديدهم لشخصية قائد الجيش القادم ، وقادة الأجهزة الأمنية ، والمراكز الحيوية الأخرى في الدولة .
وعندما وصل موضوع اختيار رئيس الجمهورية إلى طريق مسدود ، رغم كل المحاولات التي جرت من قبل الأكثرية للاتفاق على شخصية الرئيس مع ممثل كتلة 8 آذار السيد نبيه بري، إلا أن جهودهم باءت بالفشل جراء إصرار كتلة 8 آذار على انتخاب ميشيل عون رئيساً للجمهورية .
 وإنقاذا للبنان وحرصاً على مستقبله اتخذت  كتلة 14 قراراً  بترشيح قائد الجيش العماد [ميشيل سليمان] لرئاسة الجمهورية ، وجاء هذا الترشيح كالصاعقة على رؤوس ميشيل عون  وحسن نصر الله  ونبيه بري ، حيث طالبت كتلة الأكثرية بعقد جلسة لمجلس النواب لتعديل الدستور ، وانتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية .
ورغم كل المحاولات التي بذلتها فرنسا والعديد من الدول العربية والجامعة العربية لتقريب وجهات نظر الطرفين ، وتسهيل مهمة انتخاب رئيس للجمهورية ، فإن تلك المحاولات لم تثنٍ قادة 8 آذار عن السير في خططها لإعاقة انتخاب الرئيس ، وخرج علينا ميشيل عون غداة اغتيال الشهيد اللواء فرنسوا الحاج  بمفاجئة جديدة معلناً نفسه المفاوض مع كتلة 14 آذار بدلاً من الرئيس نبيه بري حول انتخاب الرئيس، ومعلناً أن لديه [ ورقة مستورة ] حول مطالب كتلته ، وظهر وكأنه يلعب [ لعبة البوكر] بمصير ومستقبل لبنان ، وكان يبدو عليه الانفعال ، ويتصرف بشكل لا يليق تجاه الحكومة ، وتجاه شخصية الرئيس السنيورة متهماً الحكومة بسرقة المال العام وغيرها من التهم الأخرى من دون أثبات ، والتي يمكن أن يحاسب عليها قانوناً.
لكن عون كان يتحدث مستقوياً بجيش حزب الله ، والنظام السوري الذي حاربه عندما عينه الرئيس أمين الجميل رئيساً للوزراء عند انتهاء ولايته الدستورية ، فقد خاض حرباً ضد الجيش السوري من جهة ، وضد القوات اللبنانية من جهة أخرى ، وتفوه بكلمات بذيئة ضد الرئيس السوري حافظ الأسد آنذاك، وكان في الوقت نفسه يتلقى الدعم العسكري والتمويل والسلاح من الدكتاتور العراقي صدام حسين ، ليدمر أجزاء كبيرة من بيروت كي يجلس على كرسي الرئاسة في القصر الجمهوري ، والذي هدمه الجيش السوري على رأسه ، فولى هارباً نحو السفارة الفرنسية طالباً للجوء إلى فرنسا ، وبقي تحت حماية السفارة وقتاً طويلاً حتى استطاعت التدخلات الفرنسية نقله إلى فرنسا لاجئاً فيها بعد أن احرق لبنان ، ومكث في فرنسا حتى خروج القوات السورية من لبنان، حيث سُمح له بالعودة إلى لبنان من قبل الحكومة اللبنانية.
واليوم يريد ميشيل عون تكرار لعبته الأولى فإما أن ينتخب رئيساً للجمهورية وأما أن يحرق لبنان بما فيه على مذبح أطماعه الشخصية ، وهوسه على السلطة، وإلا فما معنى هذه الشروط التعجيزية التي يريد فرضها على العماد ميشيل سليمان ، وعلى كتلة الأكثرية ، وهل يمكن أن يقبل العماد سليمان أن يكون رئيساً ضعيفاً يملي عليه ميشيل عون ما يريده من المطالب؟
إن العماد سليمان لا يمكن أن يقبل بكل تأكيد بأية شروط على توليه منصب الرئاسة ، وانه سيعمل بما يمليه عليه ضميره ، وحسه الوطني ، خدمة للبنان وشعبه بكل فئاته وطوائفه وأديانه ، ولن يكون أداة بأيدي حكام دمشق وطهران ، بل يسعى إلى إقامة علاقات متكافئة مع الشقيقة سوريا قائمة على أساس احترام سيادة واستقلال لبنان والمصالح المشتركة بين الشعبين والبلدين ، بعيداً عن الهيمنة والتحكم بلبنان من وراء الستار.
إن لبنان اليوم يمر بفترة عصيبة تتهدده الأخطار من كل جانب ، ولا يمكن أن تبقى مؤسساته الدستورية مشلولة ، ويبقى  دون  قيادة حكيمة تستطيع الخروج به من هذه الأزمة المستعصية ، فإما أن يجتمع المجلس النيابي يوم غد 17 كانون الأول ، ويقر فوراً تعديل الدستور ، و انتخاب العماد سليمان ، وإذا ما تعذر ذلك ، وأتمنى أن لا يحدث هذا ، فعلى الحكومة باعتبارها وكيلة لرئيس الجمهورية أن تدعو إلى  إجراء انتخابات رئاسية على قاعدة النصف زائداً واحد ، وعلى نائب رئيس مجلس النواب السيد فريد مكاري أن يدعو المجلس للانعقاد فوراً وانتخاب رئيس للجمهورية ، فلا يمكن أن يبقَ المجلس النيابي معطلاً ، ولا يجوز للنواب التغيب المستمر عن جلساته وإلا يعتبرون فاقدين للعضوية ما دام الغياب دون عذر مشروع.
إن أي تحرك من قبل قوى المعارضة للإخلال بالأمن والنظام العام ينبغى أن يقابل بالحزم من قبل الجيش وقوات الأمن ، وعدم السماح بأخذ الشعب اللبناني نحو الحرب الأهلية ، هذا الشعب الذي قاسى من الويلات والمصائب والموت والدمار والخراب خلال الحرب الأهلية السابقة ، والذي لم يعد قادراً على الدخول في حرب اهلية جديدة يشعلها أعداء لبنان في الخارج والداخل . وليعش لبنان وطناً آمناً حراً مستقلاً ، ولينعم شعب لبنان بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم.

482
الحجاب رمزٌ لعبودية المرأة وليس رمزاً للعفاف!


حامد الحمداني     12/12/2007لم يكن حلم الشعب العراقي بوجه عام ، وحلم المرأة العراقية على وجه الخصوص أن نشهد هذه الردة الرجعية الظلامية التي أعادت العراق إلى عهود التخلف الموحشة التي كانت سائدة قبل قرون في ظل المجتمع الذكوري المتسلط على رقاب المرأة التي تمثل نصف المجتمع ، والتي جرى حرمانها من كامل حقوقها كإنسان واستعبادها ، واتخاذها ملكية خاصة تلبي حاجات الرجل الجنسية ، وتنجب وتربي له الأبناء بالإضافة إلى الخدمة المنزلية.
وجاء الدين الإسلامي ليجعل من الرجال قوامون على النساء !!، وينتقص من عقل المرأة بدعوة فارغة يفندها الواقع [ النساء قاصرات عقل ودين]!! حيث نشهد تفوق المرأة علماً وثقافة على الكثير من الرجال عندما تتاح لها الفرصة للدراسة، والانخراط في العمل جنباً إلى جنب مع الرجل ، بل لقد تفوقت عليه في كثير من المجالات على الرغم من المهام المناطة بها في المنزل بدءاً من الحمل والولادة ، وتربية الأطفال ، وتهيئة الطعام ، والعناية بنظافة البيت وغيرها من الأمور الأخرى.
 لقد أعطى الدين للرجل حق ضرب المرأة إن هي خالفته في أمر ما ، ومنحه حق الطلاق  وحجبه عن المرأة إلا في حدود معينة ، وكثيراً ما يجبر الآباء بناتهم على الزواج عنوة برجال لا يرغبون بهم ، وتلك هي الطامة الكبرى أن تجبر  المرأة على العيش في كنف رجل لا تشعر برابطة الحب والانسجام معه.
وزاد في الطين بله أن جعل شهادة الرجل بشهادة امرأتين إمعاناً في الانتقاص من حقوقها كإنسانة في الوقت الذي نشهد المرأة في العالم المتقدم تتبوأ أعلى المناصب القضائية ، وحتى في بعض الدول الإسلامية كاندونيسيا وباكستان وبنكلادش حيث تبوأت المرأة أعلى المناصب في الدولة كرئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة.
ولقد خاضت المرأة العراقية كفاحاً مريراً ومتواصلاً من خلال منظمة الدفاع عن حقوق المرأة وغيرها من المنظمات الأخرى في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي من أجل التحرر والإنعتاق من هيمنة المجتمع الذكوري الذي كان يستهجن ذهاب البنت إلى المدرسة ، ويعتبر ذلك مخالفاً للآداب العامة !! ، والتقاليد البالية التي عفا عليها الزمن ، وكان ذلك الكفاح الذي خاضته المرأة مدعوماً بحملة واسعة من قبل المثقفين والكتاب والشعراء والأدباء ، وكان في مقدمتهم الشاعران الكبيران جميل صدقي  الزهاوي ، ومعروف عبد الغني الرصافي اللذين حملا بكل جرأة راية تحرر المرأة ، وخلاصها من عبودية الرجل ، ومن رمز تلك العبودية المتمثل بالحجاب البائس.
كما وقفت الأحزاب الوطنية التقدمية كالحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الشعب وحزب التحرر الوطني  إلى جانب المرأة في كفاحها العادل من أجل التحرر والإنعتاق ، ومن أجل المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات .
وجاءت ثورة الرابع عشر من تموز نقلة نوعية بالنسبة للمرأة وحقوقها وحريتها ، فقد كان قانون الأحوال الشخصية الذي شرعته حكومة الثورة يمثل ثورة اجتماعية جنباً إلى جنب مع قانون الإصلاح الزراعي الذي كان يمثل بحق ثورة اجتماعية كبرى حررت 70% من الشعب العراقي من نير الإقطاعيين الذين استعبدوا الفلاحين نساءاً ورجالاً  لسنوات طويلة يكدون ويكدحون طول النهار لقاء ما يسد رمقهم للبقاء على قيد الحياة ، محرومين من ابسط وسائل العيش الضرورية .
لكن قوى الظلام والفاشية ما لبثت أن تآمرت على ثورة 14 تموز واغتالتها ، وعادوا بقضية تحرر المرأة إلى الوراء من جديد ، بعد أن افرغوا قانون الأحوال الشخصية من محتواه التحرري ، ومن حقوق المرأة ، وساءت أحوال المرأة على عهد الطاغية صدام حسين من خلال ما سمي كذباً وزوراً بالحملة الإيمانية ، وهو ابعد ما يكون عن الإيمان الحقيقي، ليعود بحقوقها عشرات السنين إلى الوراء .
وجاءنا المحتلون الأمريكيون ليحررونا من طغيان نظام صدام فإذا هم يقيمون لنا نظاماً طائفياً اشد ظلاماً وأقسى ، ويسلمون السلطة للأحزاب الدينية وميليشياتها الإرهابية المسلحة التي باتت تتحكم بالشارع العراقي ، وتتدخل في حياة الإنسان صغيرها وكبيرها ، ولم يشكل هذا التدخل عدواناً على المرأة وحدها بل تعداه إلى الرجل كذلك ، فقد بات على المرأة أن تكتسي برداء العبودية البغيض ، وتنزوي في بيتها وإلا فالموت يتربص بها على أيدي حماة الدين والفضيلة المزيفين!! ، ففي البصرة وحدها قتل الإرهابيون من الميليشيات الإسلامية مؤخراً أكثر من 40 فتاة وامرأة بسبب عدم لبس الحجاب ، وأجبروا الرجال والشباب على إطالة لحالهم ، واضطر الألوف من العوائل المسيحية والصابئة إلى مغادرة المدينة هرباً من طغيان الأحزاب الإسلامية بعد أن قُتل الكثيرين منهم.
ومن المثير للغضب والاستنكار أننا لم نسمع من حكومتنا الديمقراطية !! أي رد فعل على هذه الجرائم الوحشية ، ولم نسمع باستهجان واستنكار من المراجع الدينية ، ولا تحريم لهذه الجرائم بحق المرأة بوجه خاص ، والمجتمع العراقي بوجه عام .
إن ما يجري اليوم على أرض العراق يشكل بلا أدنى شك  وصمة عار في جبين المحتلين الأمريكيين وحلفائهم لما جلبوه للعراقيين والعراقيات من ويلات ومآسي لا حصر لها ، وأوصلوا الشعب العراقي إلى كارثة مفجعة ، فهم المسؤولين أولاً وآخراً عن كل ما حدث ويحدث من جرائم بحق الإنسانية من قتل وتشريد وتهجير واغتصاب وابتزاز ، وتلك هي الديمقراطية التي وعد بها الرئيس بوش العراقيين فيا لبؤس هذه الديمقراطية.
إن القوى العلمانية بكل أطيافها مدعوة اليوم للقيام بواجبها الوطني والإنساني ، والتصدي لهذا الوباء ألظلامي الفاشي من خلال خلق جبهة واسعة تظم كل الأحزاب والمنظمات والعناصر المؤمنة حقاً وصدقاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان ، والنضال من أجل عراق ديمقراطي خالي من الأحزاب الدينية والطائفية والمليشيات الإرهابية التي تشيع الرعب والدمار والخراب في البلاد وتنشر الفساد في كل مرافق الدولة من القمة حتى القاعدة، والعمل على استتباب الأمن والسلام في ربوع البلاد ، ومطالبة المحتلين بمغادرة العراق دون رجعة ، فقد كفى الشعب العراقي ما تحمله ، وأصبح عاجزاً عن تحمل المزيد من الويلات والمصائب .

483
إصلاح النظام السياسي
هو السبيل للخروج من الأزمة العراقية الراهنة

حامد الحمداني   2/12/2007
منذ إسقاط نظام حزب البعث الفاشي بقيادة الدكتاتور صدام حسين ،على أثر حرب الخليج الثالثة التي قادتها الولايات المتحدة وبريطانيا في 9 نيسان عام 2003 ، والعراق يعاني من أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية خانقة ومستعصية، سببت للشعب العراقي من الويلات والمصائب التي يعجز القلم عن وصفها، بسبب تلك الاجراءات الخطيرة للإدارة الأمريكية وحاكمها المدني المعين بول بريمر التي استهدفت هدم البيان السياسي بكل مؤسساته العسكرية والأمنية والإدارية بقرارات متعجلة أوقعت البلاد في فراغ امني أدى بدوره إلى انفلات طائفي قادنا نحو هاوية الصراع الدامي الذي لم يشهد له الشعب العراقي طيلة تاريخه الحديث ، وزاد في الطين بله تأسيس نظام حكم طائفي مقيت تقوده أحزاب دينية طائفية شيعية في بادئ الأمر، ثم اتبعتها بالأحزاب الطائفية السنية بعد اندلاع النشاط الإرهابي ،الذي ضم تحت جناحيه القوى الصدامية المسقطة عن السلطة ، وحلفائها من إرهابيي القاعدة الدمويين ، والميليشيات التي تقودها أحزاب الإسلام السياسي الطائفي السني، مما أشعل صراعاً مسلحاً وحشي الطابع على السلطة والثروة وقوده المواطنون الأبرياء الذين دفعوا حياتهم بمئات الألوف على مذبح هذا الصراع السياسي الطائفي.
فهل كان حلم الشعب العراقي التخلص من نظام صدام وحزبه الفاشي ليقع فريسة نظام طائفي متخلف ومتوحش ليعيده مئات السنين نحو الوراء ؟
إن من حق المواطن العراقي المنكوب أن يسأل الإدارة الأمريكية وسيد البيت الأبيض بوش : هل هذه هي الديمقراطية التي وعدتنا بها في خطابك الذي وجهته للشعب العراقي  قبل يوم من شنكم الحرب على العراق تؤمله بالخلاص من دكتاتورية صدام وحزبه، لتقيم لنا دولة ديمقراطية حرة مستقلة على أنقاض ذلك النظام المنبوذ؟
وهل يتفق النظام الديمقراطي مع تسليم أحزاب دينية طائفية زمام السلطة في البلاد ، ولتجري انتخابات عامة لاختيار برلمان كان تصويت الناخبين فيه قائم على أساس الطائفة والقومية وليس على أساس البرنامج السياسي ،الذي يستهدف خدمة الشعب والوطن ، ومن ثم ليشرع لنا دستوراً طائفياً يستهدف تمزيق وحدة العراق.
وفوق كل ذلك ما يزال العراق يرزح تحت نير الاحتلال منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا بقرار من مجلس الأمن الدولي ، ويمتلك المحتلون الأمريكيون القرار السياسي في البلاد على الرغم من قيام هذه المؤسسات الدستورية التي كانت من صنع أيدهم.
أن العراق اليوم رغم كل ادعاءات المحتلين والحكومة يعيش وضعاً كارثياً بكل معنى الكلمة ، اربعة ملايين من المهجرين قسراً عن بيوتهم ومدنهم وقراهم تائهين في مختلف البلدان ، وفي الصحراء العراقية في الخيام البائسة ، هرباً من القتل الذي جرى ويجري على الهوية والاسم ، وكل يوم  نجد جثث الضحايا الأبرياء ملقاة في المزابل تنهش فيها الكلاب السائبة ، والاختطاف يجري على قدم وساق ، وابتزاز المواطنين لدفع الفدية وإلا قتل الضحية بدم بارد باسم الدين والطائفة .
أن العراق اليوم مقسم في واقع الحال إلى دويلات الطوائف في المحافظات الجنوبية والفرات الأوسط ، ودولة مستقلة في كردستان بشمال العراق ، والميليشيات هي التي تتحكم بحياة المواطنين وتتدخل في كل شؤون حياتهم الخاصة صغيرها وكبيرها.
دولة كردستان تتحدى الحكومة المركزية والدستور، ووزارة النفط ، وتعقد اتفاقيات نفطية مع الشركات الأجنبية خلافاً للقانون الأساسي الذي وضعوه هم أنفسهم إلى جانب حلفائهم أحزاب الإسلام السياسي الطائفي الشيعي!.
والحكومة شبه مشلولة بعد أن استقال منها 17 وزيراً منذ عدة أشهر دون أن يستطيع رئيس الوزراء المالكي إعادة تشكيلها من جديد بسبب الهيمنة الطائفية على البرلمان !.
والبرلمان الذي ضم هذا الخليط العجيب والغريب من العناصر التي لا تستحق هذا المركز الخطير والحساس، والعديد الذين يحملون شهادات مزورة لا أساس لها ، ولا يفكرون إلا في تشريع القوانين التي تتعلق بالامتيازات التي منحوها لأنفسهم ، ورغم كل ذلك نجد هذا البرلمان في غالب الأحيان عاجز عن الالتئام لعدم أكمال النصاب حيث يسرح ويمرح الكثيرين منهم في مختلف بلدان العالم في الوقت الذي يعيش الشعب العراقي الذي أوصلهم إلى البرلمان في غفلة من الزمن أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية خانقة!
إن الأزمة العراقية الراهنة تتطلب إصلاحاً جذرياً للنظام السياسي في المجالات التالية:
1 ـ إعادة النظر الجذرية في الدستور وتجذيبه من شوائب الطائفية المقيتة والتأكيد على الجانب الديمقراطي وحقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والتأكيد على وحدة العراق أرضاً وشعباً.
2 ـ ينبغي تحديد شروط وأسس ثابتة وواضحة لقيام فيدرالية كردستان في صلب الدستور بما لا يتعارض مع سلطة الحكومة المركزية ، ووحدة العراق أرضاً وشعباً.
3 ـ لقد اثبت الواقع فشل تأليف مجلس الرئاسة الطائفي ، وهذا يتطلب إعادة النظر في موضوع الرئاسة وذلك بإلغاء المجلس الثلاثي ، والاكتفاء برئيس للبلاد ينتخب بصورة مباشرة من قبل الشعب على أن يكون مركز الرئاسة شرفياً ، وتؤول السلطة إلى رئيس الوزراء والوزارة التي تكون مسؤولة أمام البرلمان ، وتنال الثقة منه ، كي تمارس عملها في حكم البلاد.
4 ـ حل كافة الميليشيات المسلحة والأجهزة الأمنية التي لا تتبع الحكومة المركزية في بغداد مهما كان انتماءها وحصر القوات العسكرية والأمنية بالسلطة المركزية . 
5 ـ ينبغي أن تكون جميع الثروات الوطنية في باطن الأرض ، وكافة الموارد تحت سلطة الدولة المركزية ، وتوزع مشاريع التنمية والتطوير في مختلف مناطق العراق بعدالة ، مع إعطاء أهمية خاصة للمناطق التي أصابها التخريب والإهمال والتخلف عن باقي المناطق الأخرى لرفع مستوى معيشة ابناء الشعب بصورة عادلة ، وتعويضهم عما أصابهم من إجحاف في العهد الصدامي.
6 ـ إعادة النظر في تأليف مجالس المحافظات والحكومات المشكلة من قبل الإدارة الأمريكية وبموجب دستور بريمر السيئ الصيت ، الذي جعل من هذه الحكومات دويلات مستقلة تتمرد باستمرار على الحكومة المركزية ، وتشجع على تمزيق العراق ، والعمل على قيام إدارة محلية تختص بالشؤون الإدارية للمحافظة ومرتبطة بالحكومة المركزية .
7 ـ إعادة النظر الجذرية بالجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وتطهيرها من كافة عناصر الميليشيات الطائفية ، لكي يبقى ولاءها للعراق وحده ، وإطاعة أوامر الحكومة المركزية، وليس قياداتها المليشياتية والحزبية، والاهتمام بتسليح الجيش بالأسلحة الثقيلة ، والتدريب المستمر لأفراده ، وتربيتهم تربية ديمقراطية ، واحترام الشعب ، والدفاع عن الوطن ضد أي اعتداء .
8 ـ مكافحة الفساد المالي والإداري بصورة فعالة لا تستثني أحدا هما علا مركزه وكبر شأنه ، ومن الضروري سن قانون [من أين لك هذا؟] ، وعلى كافة الوزراء ومن هم بدرجة وزير، وأعضاء البرلمان ، والمدراء العامين ، تقديم مجرد  بممتلكاتهم وثرواتهم قبل شغل المنصب وبعده ، وتقديم من يثبت إدانته بالفساد المالي إلى محكمة مختصة لتزل به العقاب الذي يستحقه.
هذا هو السبيل للخروج بالعراق من أزمته المستعصية التي بات استمرارها أمر لا يمكن السكوت عنه، وأن تجاهل هذا الواقع المر لا يعني سوى الانحدار نحو الكارثة ، فهل من  سميع وهل مجيب؟

484
هل ينجح مؤتمر أنابوليس
 في الوصول إلى حل دائم للصراع العربي الإسرائيلي؟


حامد الحمداني         25/11/2007
الصراع العربي الإسرائيلي قديم قدم الصراع بين الإمبريالية البريطانية والفرنسية التي احتلت العالم العربي مشرقه ومغربه خلال الحرب العالمية الأولى بعد اندحار الإمبراطورية العثمانية حليفة المانيا في تلك الحرب، وجرى تقاسم العالم العربي بموجب اتفاقية [ سايكس بيكو] السرية بينهما، ناكثين بوعودهم التي قطعوها للملك حسين بن علي بمنح العالم العربي حريته واستقلاله مقابل إعلان الثورة العربية ضد الاحتلال العثماني الذي جثم على صدور الشعوب العربية خلال اربعة عقود كالحة السواد وشديدة التخلف.
وعلى اثر انتهاء تلك الحرب بدأت الشعوب العربية تتطلع نحو التحرر من هيمنة الاستعمار الجديد ، ومارست النضال السلبي في بداية الأمر، داعية الحكومتين البريطانية والفرنسية للوفاء بوعودهما.
 لكن ذلك النضال جوبه من قبل جيوش الإمبرياليين بأقسى الرد مستخدمين جيوشهم في قمع الشعوب العربية ، والتنكيل في قيادات حركة التحرر العربية ، وإصدار الحكومة البريطانية ما دعي ب [ وعد بلفور] القاضي بتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، وتشجيع المنظمات الصهيونية في مختلف بلدان العالم للقيام بأوسع حملة استيطانية لليهود في فلسطين مدعومة من قبل حكومة الولايات المتحدة الأمريكيةً تمهيداً لتسليم بريطانيا تلك المنظمات الإرهابية الصهيونية زمام الأمور في فلسطين .
 وفي الوقت نفسه مارس المستعمرون البريطانيون أقصى درجات العنف ضد الشعب الفلسطيني ، وقمع حركته التحررية ، وثوراته المتتابعة ضد المحتلين بقوة السلاح، وقد جرى كل ذلك تمهيداً لطبخ مشروع تأسيس دولة إسرائيل فور انسحاب القوات البريطانية منها عام 1948، وعلى أشلاء الشعب الفلسطيني وتشريد الملايين من أبنائه في مختلف بلدان العالم العربي ، والذين ما زالوا لاجئين هذه البلدان حتى يومنا هذا يعيشون في حالة من البؤس الشديد الذي لا يليق بالإنسان ، فلماذا اختار الإمبرياليون أرض فلسطين بالذات ، وليس أية بقعة أخرى في العالم الغربي الذي أبدي حرصه المشبوه على مصير ومستقبل الشعب اليهودي ؟
لقد كان الهدف الحقيقي لقيام دولة إسرائيل في قلب العالم العربي ، يهدف إلى تحقيق أمرين أساسيين:
•   الأمر الأول استهدف عزل المشرق العربي عن مغربه حيث تمثل دولة إسرائيل اليوم الرابط الأرضي الوحيد بينهما للحيلولة دون وحدة العالم العربي مستقبلاً.
•   جعل دولة إسرائيل قاعدة متقدمة للإمبرياليين في قلب العالم العربي وتسليحها بأحدث ما أنتجته مصانعهم الحربية من مختلف الأسلحة الفتاكة، بما فيها السلاح النووي ، وجعل قوة هذه الدولة تتجاوز كافة الدول العربية من الناحية العسكرية مجتمعة، وبذلك اصبحت دولة إسرائيل السيف الإمبريالي المسلط على رقاب العالم العربي، تحركها متى شاءت وأنى شاءت، لحماية مصالحها الإمبريالية في المنطقة العربية الطافية على بحار من البترول .
ومن أجل ذلك لم يعرف العالم العربي استقراراً منذ قيام دولة إسرائيل وحتى يومنا هذا، وخاضت إسرائيل حروباً متتالية مع العالم العربي تمثلت بحرب عام 1948 ، وحرب عام 1956 [حرب السويس] وحرب عام 1967 التي احتلت خلالها سائر أجزاء فلسطين وهضبة الجولان السورية ، وصحراء سيناء المصرية ، وأجزاء من الأردن ولبنان، ثم جاءت حرب عام 1973، ثم تتالت الحروب الإسرائيلية على لبنان منذ الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 واحتلت بيروت عام 1982 واستمرت حروبها ضد لبنان واحتلال أجزاء كبيرة من جنوب لبنان ، وكانت آخر الحروب حرب تموز عام 2006، وما زالت المخاطر تحدق بالمنطقة جراء إصرار إسرائيل على عدم منح الشعب الفلسطيني حقوقه وحرياته في المناطق التي احتلها في حرب الخامس من حزيران 1967، وتقيم المستوطنات في الضفة الغربية ومنطقة القدس التي ضمتها واعتبرها عاصمة أبدية لها.
ورغم كل الجرائم التي اقترفها حكام إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بوجه خاص والعربي بوجه عام فقد كان موقف الامبرياليين في مجلس الأمن دائماً وأبدا إلى جانب إسرائيل ، وتحدي حكام  إسرائيل لكافة القرارات الدولية التي صدرت عن هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني وبالأراضي العربية المحتلة منذ حرب الخامس من حزيران 1967، دون أن تلقى أي موقف حازم من مجلس الأمن الذي لا يفرض قراراته إلا على الدول العربية، كما جرى بالنسبة للعراق.
إن إصرار حكام إسرائيل على سياستهم وأساليبهم العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني وسائر الدول العربية لن يوصل منطقة الشرق الأوسط إلى السلام ، وسيبقى الوضع مهدداً باستمرار لحروب جديدة إذا لم يغير حكام إسرائيل سياستهم تجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وتجاه جيرانهم العرب ، والانسحاب إلى حدودهم السابقة قبل الخامس من حزيران 1967. ومن سائر المناطق العربية المحتلة
أن حل قضية الشعب الفلسطيني هي لب وجوهر الصراع في منطقة الشرق الأوسط ، ولا سبيل لإنهاء هذا الصراع المرير إلا من خلال أحد الحلين التاليين:
1 ـ الانسحاب من كافة المناطق الفلسطينية المحتلة والعودة إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967 ، والانسحاب من كافة المستعمرات التي شيدتها في قلب الضفة الغربية ، وتأسيس دولة فلسطينية على كامل الضفة الغربية وغزة دون استثناء ، مع إيجاد ممرات آمنة وأنفاق بيمن الضفة والقطاع ، واحترام سيادة واستقلال الدولة الفلسطينية، وبضمانات دولية من أي تجاوز أو اعتداء إسرائيلي عليها مستقبلاً .
2 ـ العمل على إقامة دولة علمانية ديمقراطية في كافة ارض فلسطين يعيش فيها الشعبين الفلسطيني واليهودي على قدم المساواة في الحقوق والواجبات ، وكف حكام إسرائيل عن أحلامهم بدولة يهودية عنصرية لا يمكن أن تضمن قيام السلام الدائم والعلاقات المشتركة مع جيرانها العرب إلى النهاية .
إنني اعتقد أن الحل الثاني هو الأمثل الذي يمكن أن يحقق السلام الدائم بين الشعبين العربي واليهودي ، وينهي وإلى الأبد الحروب وما تسببها من ويلات ومآسي وخراب ودمار، ويحول هذه المنطقة الحساسة من العالم إلى واحة للسلام ، والعمل الجاد من أجل خلق جنة حقيقية في المنطقة الغنية جداً بمواردها التي تصرف اليوم على التسلح وعلى إعادة تعمير ما تخربه الحروب المستمرة .
وعلى حكام إسرائيل أن يدركوا أن السلاح النووي لا يمكن أن يحمي كيانهم ، بل سيشكل كارثة كبرى للمنطقة كلها بما فيها إسرائيل فيما إذا جرى استخدامه يوماً ما .
 كما أن الظروف في المنطقة المحيطة بدولة إسرائيل قد تغيرت كلياً بسبب سياسة التسلح التي تجري اليوم ، ودخول إيران إلى حلبة الصراع العربي الإسرائيلي ، ودعمها المباشر لسوريا وحزب الله في لبنان ، وقد أثبتت حرب عام 2006 مع حزب الله هذا الرأي ، فلا أمان لأحد بعد اليوم في المنطقة إذا ما نشبت حرب جديدة ، وربما أدرك حكام إسرائيل اليوم هذه الحقيقة من خلال قبولهم بحضور المؤتمر الدولي في أنابوليس لإيجاد حل للقضية الفلسطينية ، وهي التي كانت حتى الأمس القريب تعارض قبول أي مؤتمر حول القضية ، فهل سيحقق هذا المؤتمر حلاً حقيقياً شاملاً ودائماً للصراع العربي الإسرائيلي أم سيعيده إلى الصفر من جديد ؟؟

485
خطاب السيد حسن نصر الله
هل جاء دعماً لموقف المعارضة أم تنفيذاً لأجندة إيرانية؟

حامد الحمداني       15/11/2007
قبل أيام معدودة من الاستحقاق الرئاسي لانتخاب رئيس لبناني جديد في الحادي والعشرين من هذا الشهر، حيث يمثل هذا التاريخ الفرصة الأخيرة لعملية التوافق بين كتلتي 14 آذار و 8 آذار ، وعلى الرغم من الجهود المكثفة التي يتم بذلها من قبل أطراف عربية ودولية عديدة بالأضافة للجهود الحثيثة التي تبذل على النطاق الوطني اللبناني ، وفي المقدمة من ذلك جهود المطران مار بطرس صفير والشيخ سعد الحريري ورئيس المجلس النيابي السيد نبيه بري، لانتخاب رئيس توافقي، وأبعاد المخاطر الكارثية المحدقة بلبنان، جاء خطاب زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله التصعيدي الملئ بالتهجم ، وبكلمات غير لائقة في السجال السياسي المتحضر، ليحبط كل تلك الجهود ، ويعيد خلط الأوراق من جديد،  ويعيد الأزمة اللبنانية المستعصية إلى الصفر، مهدداً بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم تخضع قوى الأكثرية المتمثلة بكتلة 14 آذار لمشيئة حزب الله وحلفائه في انتخاب مرشحه ميشيل عون رئيساً للجمهورية.
فهل جاء خطاب السيد نصر الله لدعم موقف كتلة 8 آذار استعداداً ليوم الحسم في الحادي والعشرين من هذا الشهر؟ أم أن وراء هذا الخطاب الهجومي الذي فاق كل خطاباته السابقة من حيث استخدام أقذع العبارات وأشنع التهم لحكومة السنيورة ، وكتلة الأغلبية بقيادة الشيخ الحريري، بالإضافة إلى التهديدات غير المسبوقة للطرف الآخر، مما لا يصب في المطلق في خانة الجهود للحل التوافقي ، بل على النقيض من ذلك لإفشال تلك الجهود، فمن يسعى للتوافق لا يمكن أن يلجأ إلى أسلوب التهجم والتخوين وخيانة الأمانة والاتهام بسرقة المال العام وغيرها من الكلمات التي لا تليق بسياسي يعيش في بلد عربي متحضر كلبنان الذي كان ولا يزال يحمل مشعل الحرية والديمقراطية في العالم العربي.
إن أخشى ما أخشاه أن يكون خطاب السيد نصر الله قد جاء تنفيذاً لأجندة إيرانية بعيدة المدى تتعلق بالصراع مع الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل ، ومحاولة زج لبنان البلد الصغير بمساحته، والضعيف بسلاحه وقوة جيشه، وضعف اقتصاده في هذا الصراع الذي لا ناقة به ولا جمل للشعب اللبناني الشقيق الذي تحمل الكثير والكثير من جراء الصراعات التي جرت على أرضه منذ أوائل الخمسينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وقاسى شعبه الطيب من الويلات والمصائب ، وخصوصاً أيام الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً شديدة القسوة، وما تلاها من الحروب العدوانية الاسرائلية المتتالية، واحتلال إسرائيل لجنوب لبنان لسنوات طويلة، وكان آخرها حرب تموز 2006 كما هو معروف للجميع، ولا حاجة لي بتعداد تلك الحروب وتفاصيلها.
أفلا يكفي لبنان وشعبه كل تلك الحروب والمصائب والويلات التي فتكت بمئات الألوف من ابناء الشعب، وشردت الملايين من المواطنين في مختلف بقاع الأرض ؟
لماذا يصر السيد حسن نصر الله على السير بلبنان نحو الهاوية من جديد ؟
لماذا جعل السيد نصر الله من حزبه الإيراني تسليحاً وتمويلاً وتدريباً فوق الدولة والدستور والقانون، يقرر هو بذاته قرار الحرب والسلام، متجاهلاً الحكومة والبرلمان والدستور ؟
أي دولة في العالم تسمح لحزب أن يكون له جيشاً مسلحاً بأحدث الأسلحة بما يفوق قوة الجيش الوطني الرسمي ، ويقود البلاد إلى منزلقات خطيرة قد تأتي على مصيره كبلد ودولة ؟
أنه قانون القوة هذا الذي يجري في لبنان اليوم، وعندما يتحدث السيد نصر الله بهذا الأسلوب الهجومي والعدواني بحق الحكومة القائمة التي تمتلك الأغلبية في البرلمان فهذا يعني انه يتحدث بقوة جيشه وسلاحه الذي تحول اليوم صوب الشعب اللبناني، والذي بات يهدد مصيره ومستقبله.
إن من حق قوى 14 آذار أن يساورها الشكوك في نوايا حزب الله وقائده السيد حسن نصر الله ، فهو لا يمكن أن يتخذ أي قرار بمعزل عن إرادة حكام طهران ، ولاسيما وأن السيد نصر الله يؤمن بولاية الفقيه، وهو اليوم يتمثل بالسيد خامنئي ، الحاكم الفعلي لإيران، وإن إيران اليوم ، وبسبب توجهاتها نحو الحصول على السلاح النووي ، وإصرارها على تحدي المجتمع الدولي، ونشاطاتها الواسعة في لبنان، ودعمها لحركة حماس في غزة، وتحالفها الاستراتيجي مع سوريا وأحلامها بالعودة لحكم لبنان من جديد، والدور الخطير الذي تلعبه في العراق، والمتمثل بدعم وتسليح العناصر الإرهابية المتمثلة بالمليشيات الطائفية الشيعية ، بل لقد ذهبت ابعد من ذلك إلى تسليح العناصر الإرهابية السنية بغية إدامة الصراع والحرب الأهلية في العراق، من أجل تحقيق أهدافها في الهيمنة على العراق من جهة، ومحاولة إبعاد القوات الأمريكية عن حدودها الغربية في العراق والشرقية في أفغانستان لكي يخلو لها الجو في الهيمنة على المنطقة .
ولا شك أن هذا التصرف لحكام طهران قد جعل منطقة الشرق الأوسط اليوم على كفة عفريت ، واحتمالات الحرب بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وإيران وحلفائها في سوريا ولبنان وغزة من جهة أخرى، تتصاعد يوماً بعد يوم ، وإذا ما انطلقت شرارة الحرب فلن تكن ساحتها إيران وحدها ، بل وبكل تأكيد ستجر إليها العراق ودول الخليج، وسوريا ولبنان وغزة، وعند ذلك ستحل الكارثة بهذه البلدان مما لا يستطيع تحديد نتائجها أحد. أن الحكمة ينبغي أن تسود لدى الأطراف اللبنانية كافة وفي المقدمة كتلة 8 آذار وقائدها السيد حسن نصر الله، فأي خطأ يرتكبه أي طرف من أطراف الصراع سيتحمل مسؤولية كل ما يمكن أن يحل في لبنان من كوارث الحرب الأهلية التي باتت تهدد لبنان لا سمح الله ، ولاسيما أن تهديدات السيد حسن نصر الله المستقوي بجيشه وسلاحه ينبغى أن تؤخذ على محمل الجد.
وقى الله لبنان وشعبه من كل كيد فقد كفاه ما قاسى من الويلات والمصائب فدعوه يعيش بسلام وأمان واستقرار، ويعيد مجده السابق بكونه مركز التجارة العالمية في الشرق الأوسط، والمصيف الذي يضم مختلف المواطنين العرب والأجانب ، وأن يبقى لبنان حاملاً مشعل الحرية والديمقراطية في العالم العربي وقبلة ومأوى الأحرار العرب.

486
مسؤولية الأحزاب الطائفية والقومية في عودة البعثيين
إلى الواجهة من جديد



حامد الحمداني       13/11/2007

تتسارع الجهود الأمريكية في تشديد ضغوطها على حكومة المالكي لإعادة عناصر بارزة من الوجوه البعثية إلى الواجهة من جديد، ولاسيما بعد إلغاء قانون اجتثاث البعث، وطرح مشروع المصالحة، كما تتسارع الجهود الأمريكية لإعادة الأجهزة الأمنية التي نكلت أبشع تنكيل بكل العناصر الوطنية المعارضة للدكتاتورية، وإعادة رموز كبيرة من ضباط الجيش في العهد الصدامي إلى الخدمة من جديد، كما سبق أن أعيد إلى الواجهة العديد من العناصر المحسوبة على حزب البعث في السلطتين التنفيذية والتشريعية في الوقت الذي يمارس العديد منهم قيادة النشاطات الإرهابية في البلاد .

 فلماذا جرى ويجري كل هذا النكوص عن آمال وأحلام الشعب العراقي في التخلص النهائي من النظام الصدامي الدكتاتوري الفاشي، وإقامة نظام ديمقراطي جديد يحترم حقوق وحريات الإنسان ويصون كرامته؟
و لماذا تجري الاستهانة بتضحيات الشعب خلال العقود الأربعة الماضية من أجل التحرر من سلطة الطغيان البعثي الفاشي، ويجري العمل على عودة عقارب الساعة إلى الوراء، ليس فقط وكأن شيئاً لم يكن ، بل لقد تجاوز التدهور الحاصل في البلاد أمنياً واجتماعياً واقتصادياً وخدماتيا بمراحل كبيرة عما كانت عليه في السابق، وأدى بالتالي هذا التدهور إلى تحويل حياة المواطن العراقي إلى جحيم حقيقي لا يطاق، حيث يدفع الشعب كل يوم فاتورة الحرب الأمريكية على العراق المتمثلة بدماء وأرواح المئات من المواطنين الأبرياء  وحيث جرى تهجير الملايين من العراقيين للنجاة من طغيان قوى الإرهاب البعثي وأعوانهم من عناصر القاعدة، من جهة، وطغيان قوى الإسلام الطائفي الشيعية عبر ميليشياتها المتعددة من جهة أخرى؟
 فعلى مَنْ تقع مسؤولية هذا النكوص عن طموحات الشعب العراقي والعودة به إلى ذلك العهد المظلم ، بل إلى عهد اشد قتامة ؟
ليس من العسير على كل باحث حصيف يتتبع مجريات الأحداث في العراق أن يتوصل إلى  المسؤولين عن هذه الحالة المأساوية، وإلى هذا التحول في مسيرة بناء العراق الديمقراطي الجديد!!، وباعتقادي أن تلك المسؤولية يشترك فيها أطراف ثلاث :
1 ـ إقدام الإدارة الأمريكية على أقامة نظام حكم طائفي في البلاد، وفسح المجال واسعاً لأحزاب الإسلام السياسي الطائفي بتشكيل المليشيات العسكرية المسلحة لدى كلا الطائفتين الشيعة والسنية، وتسليم السلطة لأحزاب الإسلام الطائفي الشيعية بالتحالف مع الأحزاب القومية الكردية، ومحاولة الحاكم المدني الأمريكي بريمر إبعاد أبناء الطائفة السنية عن مراكز السلطة كان عاملاً حاسماً في تشجيع العناصر السنية المرتبطة بالنظام الصدامي على امتشاق السلاح والغوص في العمليات الإرهابية الوحشية البشعة.

2 ـ استئثار أحزاب الإسلام الطائفي الشيعية بالسلطة بدءاً من  مجلس الحكم وانتهاء  بالحكومات التي تشكلت فيما بعد، وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت بصورة متعجلة دون تهيئة الظروف المؤاتية لها، حيث رزح الشعب العراقي خلال أربعة عقود لطغيان نظام قمعي متوحش حرم الشعب خلاله من أي من الحقوق الديمقراطية ، وفرض عليه نمطاً واحداً من التفكير القومي الفاشي المعادي لسائر الحقوق والحريات الديمقراطية، وزاد في الطين بله زج النظام الصدامي البلاد بحروبه الإجرامية الكبرى المعروفة لدى الجميع، وبالحروب الداخلية ضد الشعب الكردي في كردستان العراق، وضد عموم الشعب العراقي أبان انتفاضة آذار 1991، وتسببه في فرض الحصار الجائر على الشعب العراقي لثلاثة عشر عاماً عجافا، شديدة القسوة ، بحيث تعتبر بمقاييس الحروب أشنعها، وأشدها تأثيراً في تخريب البنية الاجتماعية، فقد أوصلت الشعب العراقي إلى حالة من اليأس الشديد للخروج من تلك المحنة إلا بالتوجه نحو التدين وطلب العون من الله.
واستغلت الأحزاب الطائفية الشيعية هذه التوجه الديني لدى أبناء الشعب لتستخدمه سلاحاً فعالاً في حملتها الانتخابية، واستخدمت كذلك التخلف والنكوص الذي حل بالمجتمع العراقي خلال تلك الحقبة السوداء من تاريخ العراق لإقناع المواطنين البسطاء بلزوم التصويت لأحزابها كي تنال رضا الله والأئمة وتنال الجنة !.
كما أن الكثير من المواطنين أبناء الطائفة الشيعية قد صوتوا لتلك الأحزاب بعد الذي نالهم من طغيان نظام صدام وحزبه الفاشي الذي اجبر الكثيرين منهم  على الإنضام لحزب البعث فيما سبق، فكان تصويتهم للطائفة، ولم يصوتوا على برامج حزبية معينة، وها هي الجماهير الشعبية بدأت تتفتح أذهانها، وتدرك خطأ خياراتها الانتخابية بعد الذي حل بالبلاد على أيدي هذه السلطة وأحزابها الطائفية وميليشياتها الظلامية المتوحشة.
ومما زاد في تعقيد الوضع السياسي والأمني في البلاد لجوء ميلشيات الأحزاب الطائفية الشيعية إلى الاقتصاص من العناصر البعثية خارج القانون والمحاكم، وشنت هذه المليشيات حملات اغتيالات واسعة ضد الضباط والطيارين منهم بوجه خاص ، والعناصر البعثية المعروفة بوجه عام، مما دفع بالجانب الثاني المتمثل بعناصر حزب البعث، وقوى الإسلام الطائفي السنية استغلال هذا الفعل بردة فعل معاكسة، حيث مارسوا وما زالوا يمارسون عمليات الاغتيالات والسيارات المفخخة والعبوات والأحزمة الناسفة لإيقاع اكبر عدد من الخسائر البشرية في صفوف المواطنين الأبرياء، وتدمير أقصى ما يمكن من الممتلكات العامة والشخصية، والحيلولة دون أي إمكانية لإعادة بناء العراق من جديد، وإجبار السلطة على تخصيص معظم الدخل الوطني لمكافحة العمليات الإرهابية، مما يحول في نهاية الأمر دون إعادة بناء العراق، ويؤدي إلى تدهور الوضع المعيشي للشعب.
ومن جانب آخر كان التغلغل الإيراني في العراق، والعلاقات الوثيقة التي تربط أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بحكام طهران، وبالخصوص كون المليشيات التابعة لهذه الأحزاب على ارتباط وثيق بالنظام الإيراني تسليحاً وتمويلاً وتدريباً، وتمادي هذه المليشيات في أعمال القتل والاغتيالات، وتحويل الحسينيات إلى مراكز عسكرية لها دفعت الإدارة الأمريكية إلى التفكير في المخاطر التي يمكن أن تلحق بمصالحها في المنطقة جراء الهيمنة الإيرانية على العراق ، فبادرت إلى السعي لخلق نوع من التوازن بين قوى الإسلام الطائفي الشيعي والقوى البعثية والطائفية السنية، وبدأت تمارس الضغوطات الشديدة على حكومة المالكي لإعادة البعثيين إلى الواجهة من جديد في مختلف مرافق الدولة بدءً من الحكومة والبرلمان والجيش والأجهزة الأمنية وسائر مرافق الدولة الأخرى.

3 ـ الأخطاء الناجمة عن خيارات الأحزاب القومية الكردية للتحالف مع أحزاب الإسلام الطائفي الشيعي، وبشكل خاص مع المجلس الأعلى بزعامة عبد العزيز الحكيم، بدافع إسناد وتأييد فيدرالية كردستان المتفق عليها من جانب القوى السياسية  سعياً وراء حل عادل ودائمي للقضية الكردية، فالحكيم كما هو معروف لدى الجميع يسعى حثيثاً لتشكيل ما دعاه بفيدرالية الوسط والجنوب، والتوجه نحو أقامة دويلات طائفية في العراق، ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعى للتحالف مع الأحزاب القومية الكردية.
وهكذا قام التحالف المصلحي بين الطرفين، وتخلت الأحزاب القومية الكردية عن حلفائها الحقيقيين المؤمنين حقاً وصدقاً بحقوق الشعب الكردي، وإقامة الفيدرالية في كردستان على أساس الحفاظ على وحدة الشعب والوطن العراقي، وفي يقيني أن هذا التحالف ليس سوى تحالف وقتي لا يلبث أن ينقلب أصحابه على الشعب الكردي.
إن من المؤسف حقاً أن أقول أن الأحزاب القومية الكردية لم تتعلم الدرس من تحالفها السابق مع البعثيين والقوميين الذين تآمروا على ثورة الرابع عشر من تموز وقائدها الشهيد عبد الكريم قاسم ، وباركوا انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ضناً منهم أن البعثيين هم أكثر ديمقراطية وإيماناً بحقوق الشعب الكردي من قاسم، لكن أولئك القوميين العنصريين لم يمهلوا الشعب الكردي وقواه السياسية سوى أقل من أربعة اشهر ليشنوا حملة تنكيل شعواء بالشعب الكردي ، ويحرقوا الحرث ويقتلوا النسل.
إن سياسة حرق المراحل، وخلق جو من التعصب القومي لا يخدم القضية الكردية بل يزيدها  تعقيدأ، هذا بالإضافة إلى خلق رد فعل معاكس لدى العناصر القومية المتطرفة في الجانب الآخر، والذين يستغلون هذه الأخطاء لخلق جبهة معادية للشعب الكردي بين صفوف المواطنين البسطاء .
إن الحرص على الأخوة العربية الكردية وسائر القوميات الأخرى هي حجر الزاوية في تحقيق أماني الشعب الكردي وسائر القوميات العراقية الأخرى، وإن السبيل إلى تحقيق آمال وطموحات الشعب الكردي مرتبط كل الارتباط بتحقيق طموحات إخوتهم أبناء الشعب العراقي بكل فئاته وأطيافه وقومياته وأديانه هو الديمقراطية، ولا سبيل غير الديمقراطية التي تستطيع بها مكونات شعبنا تأمين كافة الحقوق والحريات العامة والخاصة، وتؤمن الحياة الرغيدة لمجموع الشعب عندما يحل الأمن والسلام في ربوع العراق، ويجري التنافس الديمقراطي الحر بين قواه السياسية على أساس احترام الرأي والرأي الآخر، وإبعاد الدين عن الشؤون السياسية، وفصله عن الدولة ، فزج الدين في السياسة قد افسد الدين والسياسة معاً، ولا سبيل للخروج من المحنة التي تعصف بالعراق وشعبه إلا بنبذ الطائفية والتعصب القومي ، والإيمان الحقيقي بالوطنية العراقية ، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، وقيام حياة حزبية لا مكان فيها للتطرف الطائفي والعنصري، من خلال إعادة النظر الجذرية في الدستور، وإعادة النظر في قانون الانتخابات على أساس الدوائر الانتخابية، وسن قانون جديد للأحزاب يؤكد على مبدأ الديمقراطية، وحل البرلمان الحالي، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة تتسم بالشفافية والديمقراطية، ومنع استخدام الدين والطائفة لتحقيق أهداف سياسية، وقيام حكومة علمانية بعيداً عن المحاصصة الطائفة من أجل إنجاز التحول نحو نظام ديمقراطي حقيقي يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات دون استثناء أو تمييز.

487

هل يتسبب حكام طهران بإشعال الحرب
   في الشرق الأوسط
   


حامد الحمداني       6/11/2007

لم يعد خافياً على أحد التدخل السافر لجمهورية إيران الاسلامية في الشؤون الداخلية للعديد من دول الشرق الأوسط، وتلعب القيادة الإيرانية دوراً خطيراً في إشعال نيران الصراعات  في العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان للتأثير على مجريات الأمور في هذه البلاد، مستهدفين من وراء ذلك تحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى تتعلق بالصراع الدائر مع الولايات المتحدة من جهة ، وبتحقيق أطماعها في المنطقة، والتي باتت معروفة لكل متتبع للسياسة الإيرانية منذ وقوع الثورة الإسلامية عام 1978.
إن حكام إيران الذين أصبح حكمهم مكروهاً جدا في نظر الشعب الإيراني، ويشهد معارضة شديدة ليس من قبل القوى المعارضة أساساً لهذا النظام الغارق في رجعيته ودمويته واضطهاده لحقوق وحريات الشعب، والتدخل الفظ في كل الأمور الشخصية صغيرها وكبيرها، بل أن الشرخ قد أصاب الفئة الحاكمة نفسها ما بين محافظين وإصلاحيين في محاولة لامتصاص نقمة الشعب الإيراني على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية المزرية ، وانتشار الفقر الذي عمّ جانباً كبيراً من المواطنين ، مما يهدد بانتفاضة شعبية ضد النظام القمعي ، وغير المهتم بمصير شعبه.
ومن أجل تحويل أنظار الشعب الإيراني عن مشاكله وأوضاعه الصعبة ، وترهيبه من خطر تواجد القوات الأمريكية على حدودها الغربية في العراق، وعلى حدودها الشرقية في أفغانستان، وتواجد الأساطيل الحربية في الخليج من جهة ، ولتحقيق أطماع حكام طهران التاريخية في العراق، حيث تمارس القيادة الإيرانية كل أشكال التدخل في الشأن العراقي، من خلال دعم ما يسمى بجيش المهدي وقائده مقتدى الصدر، ومنظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى الذي يقوده عبد العزيز الحكيم ، والتي نشأت وجرى تسليحها وتدريبها ومدها بالأسلحة والمعدات من قبل النظام الإيراني، بالإضافة إلى التمويل المستمر بملايين الدولارات ، وتسخير أجهزتهم الإعلامية لدعم هذه الميليشيات.
وبسبب الانفلات الأمني في العراق نتيجة للنشاط الإرهابي التي تمارسه القوى الصدامية الفاشية المدحورة وحلفائها الظلاميين من كلا الطائفتين السنية والشيعية في محاولة بائسة للعودة بشعبنا نحو العبودية البعثية والظلامية ، فإننا  نشهد تدفق العصابات الإرهابية والأسلحة عبر الأراضي الإيرانية والسورية والسعودية كل يوم وباستمرار لينشروا الخراب والدمار في ربوع العراق ، ويروعوا شعبنا الذي لم يكد يتنفس الصعداء بسقوط نظام صدام الفاشي البشع ليوقعوه في حالة من الرعب والخراب والدمار والقتل الأشد وطأة، جراء السيارات المفخخة والمتفجرات المزروعة بين الأحياء السكنية وأرصفة الشوارع، والتي  حصدت وما تزال تحصد أرواح الألوف من المواطنين الأبرياء. بل لقد تجاوز ذلك إلى إشعال الحرب الطائفية بين الطائفتين الشيعية والسنية ، وبات القتل على الاسم والهوية سيد الشارع في مختلف المدن العراقية.
أن أيادي حكام طهران في الأحداث الجارية في العراق لا يمكن إخفائها مهما حاول الإعلام الإيراني التنصل منها، فهناك من الأدلة والشواهد لدى السلطات العراقية ما يدين التدخل الإيراني في العراق.
إن حكام طهران يخطئون في حساباتهم ، ويكررون أخطاء نظام المقبور صدام حسين في مناطحته لأمريكا من جهة ، ويخطئون في إمكانية تحقيق أحلامهم بالهيمنة على العراق من خلال دعم أذنابهم من جهة أخرى.
إن الشعب العراقي لن يسمح بأية حال من الأحوال أية هيمنة أجنبية سواء كانت أمريكية أو إيرانية أو أي جهة كانت ، وأن سلوك حكام طهران هذا لن يُخرج القوات الأمريكية من العراق ، بل على العكس من ذلك سيطيل بقائها لأمد طويل ، وفاقد البصر والبصيرة من يعتقد أن أمريكا يمكن أن تسمح بأن يكون العراق لقمة سائغة في حلوق حكام طهران ، أو أن تسمح بقيام نظام حكم إسلامي موالٍ لإيران ، ولنا من دروس التاريخ القريب ما يثبت هذا ، فلقد وقفت أمريكا إلى جانب النظام الصدامي أبان انتفاضة الشعب في الأول من آذار عام 1991 بعد أن شعرت بمحاولة حكام طهران الهيمنة على مجريات الانتفاضة ، فكانت النتيجة وقوع الكارثة التي حلت بالشعب العراقي، بعد أن سمحت أمريكا لنظام صدام حسين بقمع الانتفاضة بكل الأسلحة التي بحوزته، وتدمير المدن والقرى الشيعية والكردية  ودفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من دماء أبنائه البررة جاوزت مئات الألوف ، دعك عن الخراب والدمار الذي حل بالمدن العراقية .
إن حكام إيران اليوم يلعبون بالنار حقاً ، إنهم يطيلون من عذابات شعبنا ومعاناته الصعبة  أنهم يطيلون من بلاء الاحتلال الجاثم على صدورنا ، أنهم يمنعون إعادة بناء العراق ومعالجة أحوال شعبنا الاقتصادية والصحية والاجتماعية والثقافية المتردية إلى الحضيض، إنهم يمنعون تحقيق حياة كريمة لشعبنا ، بل وينغصون حياته كل يوم حتى غدا همه الأول تحقيق الأمن والأمان قبل الطعام ، فأية محنة هذه التي يحياها شعب  العراق ؟ وأي أعذار لحكومة طهران تسمح لها بأن تمارس هذه اللعبة القذرة والخطرة على ارض العراق ؟
ومما زاد في سعار النظام الإيراني، وتصاعد تدخله الفظ في الشؤون العراقية كان تصدي الإدارة الأمريكية لمساعي حكام طهران المحمومة للحصول على السلاح النووي، وهذا أمر لا يمكن أن تسمح به أمريكا وحلفائها الغربيين، وكلما أوغل حكام طهران في سياستهم الخرقاء وأصروا على مواصلة هذا الطريق ليجعلوا من إيران دولة نووية، كلما عجلت الإدارة الأمريكية في اتخاذ قرار الحرب ضدها.
أن إيران بسياستها الحمقاء هذه لن تحرق العراق وشعبه وحسب ، بل وبكل تأكيد ستحرق إيران وشعبها، بل ستمتد نيران الحرب لتطال معظم دول الخليج التي أقامت فيها الولايات المتحدة قواعدها العسكرية، والنار تبدأ عادة بعود ثقاب بسيط ، لكنها عندما تمتد وتستعر فإن حكام طهران لن يكونو قادرين على إخمادها بكل تأكيد.
بالأمس وقف وزير دفاعهم شمخي أمام وسائل الإعلام يهدد الولايات المتحدة وأضاف إليها إسرائيل بصواريخه والكل يدرك أن الولايات المتحدة تملك من الأسلحة مما لا قبل لإيران وغير إيران بمجابهته ، إذا استثنينا جدلاً العملاقين روسيا والصين ، وحتى هذين البلدين لم يهددا الولايات المتحدة علناً ولا سراً،  وهم يدركون ما تعنيه الحرب من دمار لكوكب الأرض بمن فيه ، وينشدون قيام علاقات طبيعية ، وتعاون متبادل قائم على أساس الاحترام المتبادل والمنافع المشتركة خدمة لشعوبهم .
أن معالجة الأوضاع في العراق ، وتحقيق السيادة الكاملة ، وإخراج كافة القوات الأجنبية من أرض الوطن دون استثناء هي مهمة وطنية بلا أدنى شك ، وخائن  من لا يناضل من أجل حرية وطنه وشعبه.
لكن إحراق العراق والمجازفة بمصير شعبه يمثل خيانة أشد وأخطر ، وأن السبيل الوحيد في الوقت الحاضر يتمثل في إعادة الأمن والسلام إلى ربوع العراق ، ومعالجة الجروح العميقة التي سببها النظام الصدامي وحروبه الإجرامية ، وعند ما يسود الأمن وتستقر الأوضاع فلن تبقى لأمريكا وحلفائها أية حجة في البقاء على أرض الوطن ، وعلى كل مواطن غيور على مصالح شعبه وحرية وطنه أن يناضل من أجل تحقيق الجلاء الكامل للقوات الأجنبية ، مستخدمين أسلوب النضال السلمي لإقناع الولايات المتحدة وحلفائها بالرحيل ، وإقامة علاقات متكافئة مع تلك البلدان قائمة على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل لسيادة جميع الدول صغيرها وكبيرها ، فنحن نعيش في عالم لا يمكن أن يتحمل حرباً عالمية جديدة لا تبقي ولا تذر ، ولا سبيل أمام البشرية سوى التعايش السلمي والتعاون وتبادل المنافع .
 وسيكون واجباً على الشعب العراقي بكافة مكوناته أن يصعد من أساليب نضاله شيئاً فشيئاً إذا ما رفضت قوات الاحتلال الرحيل ، ومن حقه أن يستخدم  كل إمكاناته لتحقيق هذا الهدف الوطني النبيل ، وأنا على ثقة قصوى بأن كل أطياف شعبنا سيكونون متكاتفين ومتعاضدين لتحقيق هذا الهدف المنشود .
       
                 
      Alhamdany34@ comhem.se

488
وداعاً المناضلة الشيوعية الباسلة الدكتورة نزيهة الدليمي


حامد الحمداني   10/10/2007
يوم أمس غيب الموت المناضلة الشيوعية الباسلة الدكتورة نزيهة الدليمي ، هذه الشخصية الوطنية الرائعة التي اختارت طريق النضال في صفوف الحزب الشيوعي منذ كانت طالبة في كلية الطب، وقضت معظم سنوات عمرها الطويل تعمل بكل نشاط من أجل خدمة قضايا شعبها ووطنها، وتبوأت عضوية اللجنة المركزية للحزب لسنوات طويلة حتى أقعدها المرض.
 أخذت الرفيقة نزيهة الدليمي على عاتقها مهمة النهوض بالمرأة العراقية، وإنقاذها وتحريرها من كل القيود التي كان قد فرضها عليها المجتمع الرجولي  المتخلف، من خلال رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، التي تولت تأسيسها وقيادتها لسنوات طويلة، كما عملت بنشاط في منظمة أنصار السلام، وكانت واحدة من العناصر الفاعلة في تأسيسها عام 1954.
 واستطاعت الدكتورة نزيهة أن تنال محبة واحترام المرأة العراقية، وكل من عرفها عن قرب، وقد اختارها الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم وزيرة للبلديات، فكانت أول امرأة تتولى الوزارة ليس في العراق فحسب، بل في العالم العربي، وكان لها دوراً فاعلاً من خلال وجودها في الحكومة في إصدار قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، والذي اعتبر في حينه ثورة اجتماعية ثانية بعد قانون الإصلاح الزراعي الذي حرر 70% من ابناء المجتمع العراقي من نير الاقطاعيين. هذا بالإضافة إلى أنجاز جملة من المشاريع الخدمية لأبناء شعبها.
لقد كان أول لقاء لي بالمناضلة نزيهة في صيف عام 1954 عندما زرتها بتكليف من الحزب في عيادتها في منطقة الشواكة بجانب الكرخ في مهمة تتعلق بمؤتمر السلام العالمي الذي عقد في هلنسكي بفلندا، وسأكتب عن ذلك اللقاء وتلك المهمة في مقال خاص فيما بعد ، وكان آخر لقاء بها عندما زارتنا في مدينة يتبوري بالسويد بدعوة من البيت الثقافي العراقي ، وجمعنا لقاء طويل في بيتي وثقته بالصورة والصوت ، واستمرت اتصالاتنا بها عن طريق الهاتف حتى أمد قريب عندما أصيبت بالشلل، وأصبح من المتعذر عليها الحديث في التلفون.
 ستبقى ذكرى الرفيقة نزيهة الدليمي خالدة في قلوب رفاقها وأصدقائها ومحبيها ،وكل من عرفها،إلى جانب كل الرفاق الخالدين من قادة الحزب الذين قضوا في ساحات النضال  وسيبقى ارثها التاريخي والسياسي أشعاعا ينير الطريق للمرأة العراقية من أجل استكمال تحررها، ومساهمتها في العمل إلى جانب الرجل وعلى قدم المساواة.
المجد والخلود للرفيقة نزيهة راية خفاقة من رايات حزبها المجيد.

489
مستقلون في كردستان العراق ويحكمون في بغداد!!



حامد الحمداني  8/10/2007


رحم الله الفنان الكبير جعفر السعدي الذي كان يردد مقولته الشهيرة [عجيب أمور غريب قضية]على خشبة المسرح كلما واجه موقفاً أو حدثاً غريباً، فكل الذي يجري في العراق اليوم غريب كل الغرابة، ويثير العجب العجاب، بحيث تنطبق عليه مقولته المشهورة تلك تمام الانطباق .
فالقيادة الكردية المتمثلة بحزبي البرزاني والطالباني في واقع الأمر قد أقامت دولتها المستقلة في كردستان العراق بكل ما تعنيه كلمة الاستقلال من معنى ، حدود محكمة لا يمكن تجاوزها إلا بموافقة أجهزتهم الأمنية، حتى يتخيل العراقي الذي يروم السفر إلى المنطقة وكأنه مسافر لدولة أجنبية وتتطلب جواز سفر أو جواز مرور.
دولة لها رئيسها وحكومتها ودستورها وبرلمانها وجيشها وعلمها الخاص، وترفض رفع علم العراق الذي سكتت عن إبداله بعلم آخر ليكون ذريعة لها برفع علمها، ورفض العلم العراقي في الوقت الذي كان ولا يزال بإمكانها فرض تغيير العلم العراقي الذي تسميه علم صدام، وهم الذين يشكلون الأغلبية في البرلمان مع حلفائهم قوى الإسلام الطائفي الشيعي، وهذه الحقيقة لا تعدُ عن كونها كلمة حق يراد بها باطل.
وهم يتصرفون في ثروات البلاد النفطية في المنطقة الكردية بمعزل عن وزارة النفط، ويعقدون الاتفاقات الاستثمارية مع الشركات الأجنبية على الرغم من معارضة الوزارة لمخالفته للدستور، بل لقد بلغ بهم الأمر إلى تحدي وزير النفط والتهجم عليه ومطالبته بالاستقالة، فأي فيدرالية هذه أيها السادة ؟؟
وفي الوقت الذي يدّعون بالتمسك بما يسمونه بالعراق الفيدرالي، وينكرون توجهاتهم الانفصالية، فإنهم يمارسون بشكل عملي ممنهج عملية الانفصال ووضع كل الحواجز بين المواطنين الكرد وسائر إخوتهم العرب والتركمان والآشوريين وبقية الأقليات الأخرى .
 فقد تم إلغاء اللغة العربية في المدارس الكردية، وجرى رفع كل أثر للغة العربية على سائر اللافتات للدوائر والمحلات والشواع، بحيث أصبح الجيل الجديد في المنطقة الكردية لا يعرف عن العربية شيئا، ويجري تعزيز الحاجز النفسي بين المواطنين الأكراد، وإذكاء النعرة العنصرية الشوفينية، والكراهية بين ابناء القوميتين بدعوى ما أصاب الكرد من ظلم واضطهاد من قبل العراقيين العرب، فكأنما الظلم قد وقع على الكرد وحدهم دون غيرهم، متجاهلين عن عمد ما أصاب العراقيين العرب من ظلم النظام السابق، وبقية الأنظمة الأخرى، فما دفعه العراقيون العرب أضعافاً مضاعفة لما دفعه الكرد سواء في حروب الدكتاتور صدام حسين الإجرامية، وفي قمع انتفاضة الشعب عام 1991، و في دهاليز المخابرات الصدامية التي كانت تعج بالشيوعيين، وعناصر حزب الدعوة، والقبور الجماعية التي ضمت أجداث مئات الألوف من الوطنيين العراقيين العرب خير شاهد على ذلك، في الوقت الذي أفلت ابناء الكرد من المشاركة في حروب صدام الكارثية، حرب الخليج الأولى ضد إيران ، وحرب الخليج الثانية لتحرير الكويت عام 1991، وانتفاضة أبناء الجنوب والفرات الأوسط في ذلك العام نفسه، والتي جاوزت المليون ضحية سيقوا عنوة إلى ساحات تلك المجازر الرهيبة.
أما في كردستان العراق فقد أقامت القوات الأمريكية والبريطانية الحماية الجوية، وعاش أبناء الكرد بأمان بعيدين عن بطش النظام الصدامي اثنا عشر عاماً، لولا أن تخلل تلك الفترة الحرب  بين قوات حزبي البرزاني والطالباني، والتي انتهت باستعانة قوات البارزاني بقوات صدام حسين لطرد قوات الطالباني من أربيل، واستمر الصراع بين الجانبين إلى أن فرضت الإدارة الأمريكية عليهما المصالحة استعداداً لعملية غزو العراق، واحتلاله بدعم مباشر من قبل البيشمركة الكردية، واستطاعت القيادة الكردية ممارسة الضغط على الإدارة الأمريكية، والحاكم المدني الأمريكي السيئ الصيت بريمر لوضع نص في قانون إدارة العراق في المرحلة الانتقالية حول جعل العراق دولة فيدرالية ، ومن ثم في الدستور العراقي الذي كان من صنع الثلاثي بريمر والقيادة الكردية وقيادة الائتلاف للأحزاب الطائفية الشيعية، وليغدو الدستور الجديد المختلف عليه أصلاً والمقرر إجراء تغييرات واسعة عليه، وكأنه قد أصبح في نظرهم القرآن الذي لا يمسه إلا المطهرون من القيادات الكردية القومية.
ولم تكتف قيادة البارزاني بكل ذلك بل أخذت ترفع من سقف مطاليبها ، وبالأخص حول محافظة كركوك، مدينة التعايش القومي والوطني، مهددة بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم يتم ضم كركوك إلى دولته ، ومعلناً في لقاء جرى معه في قناة الحرة الأمريكية بأن الحرب الأهلية الحقيقية ستندلع من هنا في كردستان إذا لم يتحقق ضم كركوك إلى دولته العتيدة، ولن تستطيع أية قوة الوقوف بوجه جيشه!!، حتى لكأنما الحرب الدائرة في البلاد اليوم ما هي إلا لعب عيال كما يقول المثل.
وفي الوقت الذي باتت المنطقة الكردية مستقلة بكل مقومات الاستقلال، ولن يعوزها سوى الإعلان الرسمي، والذي لولا خشية القيادة الكردية من التدخل التركي، وبقية دول الجوار من جهة، وخشيتها من فقدان حصتها من واردات العراق النفطية البالغة 17% ، لكانت اعلنت القيادة الكردية الاستقلال منذُ وقت طويل، فإن القيادة الكردية تحكم بغداد في واقع الأمر، فالطالباني رئيس الجمهورية بالإضافة ثمانية وزراء، ونائب رئيس الوزراء، ونائب رئيس مجلس النواب، ورئيس أركان الجيش وكلهم من الحزبين الكرديين، إلى جانب  حلفائهم أحزاب الإسلام السياسي الطائفي،المجلس الأعلى وحزب الدعوة ، وباتت الكتلة الكردية في الحكومة والبرلمان تمثل بيضة القبان في بقاء حكومة المالكي على سدة الحكم بعد انسحاب سائر الكتل الأخرى، مما عزز مركزها في اتخاذ القرارات التي تقرر مصير العراق المهدد بالتمزيق على أيديها.
أن العراق اليوم يواجه خطراً جسيماً يهدد مستقبله، وينذر بكوارث لا حدود لها مما يتطلب من كل القوى والعناصر الديمقراطية والعلمانية والليبرالية وسائر العناصر الوطنية الحريصة على مستقبل العراق أن تعي خطورة ما يحاك لمستقبل العراق، وأن تبادر وبأسرع ما يمكن لإقامة جبهة وطنية عريضة تعبئ جماهير الشعب العراقي، وتزجه في النضال من أجل إنقاذ العراق مما يحاك له ، وهذا يتطلب العمل من أجل إجراء تغييرات جذرية واسعة وشاملة في تركيب السلطة في البلاد بدأً من رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان والدستور الذي أصبح العكازة التي يتعكز عليها رواد تفتيت العراق، وتمزيق نسيجه الاجتماعي.
وإذا لم تشأ القيادة الكردية القبول بهذا التغيير فلتعلن استقلال منطقة كردستان العراق ، ومبروك لها دولتها العتيدة، وليرتاحوا ويريحوا.... ، فقد كفى العراق حروبا لم تهدأ منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى يومنا هذا.   
 

490
القيادة الكردية، وقرار مجلس الشيوخ
 وقميص عثمان!
حامد الحمداني     3/10/2007

بات واضحاً اليوم، وبصورة جلية، ما توقعناه منذ صدور قانون إدارة العراق في المرحلة الانتقالية، والذي أصدره الحاكم المدني الأمريكي سيئ الصيت بريمر عندما زرع بذرة تمزيق العراق باسم الفيدرالية، بناءً على طلب وإلحاح من جانب القيادة الكردية.
وجاءت الانتخابات التي جرت بموجب قانون أصدره بريمر هو الآخر، وبصورة متعجلة في وقت لم يكن الشعب العراقي قد مارس الديمقراطية، وقد خرج تواً من ذلك الجحيم لنظام صدام الدكتاتوري الفاشي الذي لم يشهد خلاله الشعب العراقي نسيماً للحرية والديمقراطية، بل قمعاً دمويا وحشياً لسائر القوى السياسية، لكي يبقَ حزب البعث السيد الأوحد في الساحة العراقية .
وفي ظل هذا الوضع البائس، وفي ظل الجرائم الإرهابية التي بدأت تمارسها العصابات البعثية الصدامية في مختلف مدن العراق، في محاولة لاستعادة السلطة من جديد، مستخدمة كل ما أُتيح لها من وسائل القتل والتدمير والتخريب من السيارات المفخخة، والأحزمة والعبوات الناسفة، والاغتيالات والخطف والذبح، وغير من صنوف الجرائم الوحشية، جرت الانتخابات النيابية تحت الشعارات الطائفية والقومية التي أفرزت فوز تكتل الأحزاب الشيعية في جنوب ووسط العراق، وفوز قائمة الأحزاب الكردية في منطقة كردستان العراق، وكان التصويت قد جرى في واقع الحال لهذه الأحزاب كرد فعل على النشاط الإجرامي للعصابات البعثية التي سامتهم العذاب خلال تلك الحقبة التي امتدت قرابة الأربعة عقود، والساعية لاستعادة السلطة من جديد. فالشيعة صوتوا لطائفتهم والأكراد صوتوا لقوميتهم،  وكانت كل الأجواء مهيأةً لهم .
أما القوى العلمانية، اليسارية منها والليبرالية، المقموعة فقد كانت تعاني من الضعف والتشتت، ولاسيما بعد رفض القيادات الكردية التحالف معها،وإصرارها على خوض الانتخابات منفردة، مما حال دون تحقيق نتائج مؤثرة في تلك الانتخابات، وبالتالي ضعف تأثيرها في تحديد مستقبل العراق.
وهكذا سارعت القيادات الكردية إلى التحالف مع قوى الإسلام السياسي الشيعي لتشكل الأكثرية في البرلمان، بعد أن وجدت أن مصالحها في ضمان تحقيق الفيدرالية تتفق مع مصالح المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، والمرتبط بوشائج عديدة مع نظام طهران كما هو معروف للجميع، وتخلت القيادات الكردية عن توجهها نحو الديمقراطية، وعن حليفها الحزب الشيوعي الذي وقف إلى جانب القضية الكردية طوال عقود طويلة، ونادى بالحكم الذاتي لكردستان العراق والديمقراطية للشعب، وتحمل من السلطة البعثية الكثير من الأذى جراء موقفه هذا، ودعمه لحقوق الشعب الكردي في الحكم الذاتي آنذاك.
واستطاع التحالف الكردستاني والتحالف الشيعي الهيمنة على قرارات مجلس النواب، وعلى صياغة وإقرار الدستور، الذي جاء في جوهره نسخة من قانون بريمر للمرحلة الانتقالية، ليثبّتْ طموحات هذا التآلف بتقسيم العراق، وتمزيقه إلى دويلات الطوائف، مما أجج الصراع في الساحة العراقية، وأعطى المبرر للقوى البعثية وحلفائها من عناصر القاعدة لتصعّد من جرائمها بحق الشعب والوطن .
ورغم كل المحاولات التي جرت، وما زالت تجري، للوصول إلى حل لهذا الوضع المأساوي الذي يلف العراق جراء هذا الصراع، عن طريق المصالحة الوطنية  إلا أن هذه المحاولات كانت وما تزال تصطدم بتمسك القيادات الكردية بقميص  عثمان، هذا الدستور الطائفي التقسيمي الذي لا يمكن أن يقود العراق إلى شاطئ السلام، ولا بد من أجراء تعديلات جذرية في بنوده بما يحفظ وحدة العراق أرضا وشعباًً، ويحقق العدالة الاجتماعية بين سائر مكونات الشعب بصرف النظر عن القومية أو الدين أو الطائفة.
وجاء قرار مجلس الشيوخ الأمريكي اللاقانوني، رغم كونه غير ملزم، بتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية، ليثير الخلافات، ويزيدها عمقاً في المجتمع العراقي، والذي نال تأييد ثلاثة أرباع أعضاء المجلس، أي أن نصف الأعضاء الجمهوريين قد صوتوا إلى جانب القرار الذي اعتمده الحزب الديمقراطي بزعامة جوزيف أيدن مرشح الرئاسة، مما يثير القلق في نفوس العراقيين مما تخبئه الإدارة الأمريكية الحالية والمقبلة لمستقبل العراق.
  وسارعت القيادة الكردية لتلقّف هذا القرار الجائر، وأعلنت عن تأييدها له ، معلنة أن هذا القرار يتفق مع الدستور العراقي على الرغم من علمها أن هذا الدستور مختلف عليه من قبل جانب كبير من الشعب العراقي، وقد جرى الاتفاق على إعادة النظر في العديد من بنوده لتحقيق المصالحة الوطنية.
 إن هذا الموقف المنفرد من جانب القيادة الكردية يستفز في واقع الأمر مشاعر الشعب، وبوجه خاص كل الحريصين على وحدة العراق وسلامته الإقليمية وحريته واستقلاله، ولم يجرأ حلفاء الكرد في قائمة التحالف الشيعي على التصريح بتأييده، بل لقد أثار القرار زوبعة في مجلس النواب، حيث رفضته سائر الكتل السياسية باستثناء الكتلة الكردية، وطالب النواب بإصدار قرار يمنع قبول تقسيم العراق.
إن القيادة الكردية تقترف خطأ جسيماً إذا استمرت في سيرها بهذا الطريق الخطر، الذي يمكن أن يهدد كل ما حققته من مكاسب خلال السنوات الماضية ،فالاحتلال الأمريكي لن يستمر إلى الأبد، لكن الشعب العراقي باق إلى الأبد، وعليها أن تعيد النظر في حساباتها إن هي أرادت مصلحة الشعب الكردي، وحقه في الفيدرالية التي ينبغي أن لا تمس وحدة العراق أرضا وشعباً، والكف عن إثارة النعرات العنصرية، وكراهية العرب، فنحن أبناء الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه وطوائفه نكن كل المحبة والمودة للشعب الكردي، ووقفنا إلى جانبه في أحلك الظروف، وتحملنا السجون والتعذيب والتضحيات الكبيرة من أجل أن ينال حقوقه المشروعة، لكن هذه الحقوق ينبغي أن لا تكون على حساب مكونات الشعب الأخرى، وفي مقدمتها الأغلبية العربية.
إن الطريق الصحيح المفضي لتحقيق طموحات الشعب العراقي بكل أطيافه هو طريق النضال من أجل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، لكي يعيش الجميع في هذا البيت الكبير كعائلة واحدة تغمرهم وشائج المحبة والتآخي القومي، وإبعاد الدين والطائفة عن السياسة، وتسخير الدين لتعميق أواصر الأخوة والمحبة بين سائر مكونات الشعب ، وأن سلوك أي طريق آخر لن يفضي إلا إلى الخراب والدمار وإراقة الدماء.     

491
الحزب الديمقراطي الأمريكي والقرار الخائب


  حامد الحمداني        29/9/2007
واهم من يعتقد أن الحزب الديمقراطي الأمريكي يختلف عن قرينه الحزب الجمهوري، وخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وكل ما ظهر ويظهر في هذا الوقت من تناقض بين الحزبين حول الموقف من الحرب الدائرة في العراق لا يعدو أن يكون جزء من الحملة الانتخابية التي ستجري بعد عام.
ويخطئ مرة أخرى من يعتقد أن الديمقراطيين سوف يسحبوا قواتهم ويخرجوا من العراق إذا ما انتصروا في الانتخابات الأمريكية، وهو أمر شبه مؤكد،وهم الذين صوتوا إلى جانب الجمهوريين، ودعموا الحرب على العراق.
ويخطئ مرة ثالثة من يعتقد أن الحرب التي شنها الرئيس بوش على العراق كانت حباً بالشعب العراقي ، وحرصاً على حريته وتحريره من عبودية الدكتاتور صدام حسين وحزبه الفاشي فكلاهما [ حزب البعث وصدام] صناعة أمريكية، فقد كان صدام وحزبه منذ انقلاب 8 شباط 1963 في خدمة المخططات الأمريكية، حارب إيران ثمانية أعوام بالنيابة عنها، تلك الحرب التي قال عنها هنري كيسنجر في مذكراته:
{ إنها أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة، ولا يخرج منها أحدٌ منتصراً}.
وكانت الولايات المتحدة تمد العراق وإيران بالمساعدات العسكرية والمعلوماتية حول تحرك قوات البلدين لكي تستمر الحرب التي خططت لها القيادة الأمريكية، ونفذها صدام حسين، تلك الحرب الكارثية المفجعة التي شنها الجلاد صدام ، والتي لا ناقة للشعب العراقي فيها ولا جمل، كما يقول المثل المشهور،ودفع خلالها الشعب العراقي ثمنا باهظاً جداً من دماء شبابه جاوز نصف مليون شهيد، ودمر الاقتصاد العراقي، واستنفذ كل مدّخرات العراق وموارده النفطية، وأغرقت العراق بالديون بأرقام فلكية، ودمرت البنية الاجتماعية العراقية ، وتركت تلك الحرب ملايين المعوقين واليتامى والأرامل.
ولم تقرر الولايات المتحدة وقف تلك الحرب إلا بعد أن تحولت إلى حرب الناقلات النفطية، وأصبح توريد النفط مهدداً، عند ذلك قدمت الإدارة الأمريكية مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو إلى وقف الحرب!!.
خرج العراق من تلك الحرب يمتلك جيشاً جراراً، وكميات هائلة من السلاح ، بما فيها أسلحة الدمار الشامل التي كانت الولايات المتحدة وحلفائها قد جهزوا صدام بها، ولكنه يمتلك اقتصاداً منهارا، وهنا بدأ صدام يتطلع إلى التعويض عن خسائره، ويحاول إعادة بناء الاقتصاد العراقي المدمر، وكانت عيناه تتجه نحو دول الخليج الغنية بالنفط، وفي المقدمة منها الكويت، عند ذلك أدرك قادة الولايات المتحدة خطر التطلعات الصدامية، وقرروا تجريد العراق من سلاحه ليس فقط أسلحة الدمار الشامل فحسب بل كل ما يمتلكه من أسلحة تقليدية ومصانعها التي كانت تديرها هيئة التصنيع العسكري،بل لقد تجاوزت الأهداف الأمريكية كل البنية الاقتصادية العراقية، فكان أن نصبت لصدام الفخ القاتل في الكويت، وشجعته بصورة غير مباشرة على غزوها، عندما أبلغته السفيرة الأمريكية كلاسبي بأن الولايات المتحدة لا تتدخل في المشاكل بين البلدان العربية، وأبلغت صدام بأنه يستطيع حل مشاكله مع الكويت بالطريقة التي يراها مناسبة.
 وابتلع صدام الطعم، ظناً منه أن كلاسبي قد أشعلت له الضوء الأخضر لغزو الكويت والسيطرة على نفطه وسائر مدخراته، وتوسيع نافذته على الخليج.
وهكذا وقع صدام وأوقع جيشه وبلده وشعبه في الفخ الأمريكي القاتل، فكانت الكارثة الكبرى التي حلت بالشعب العراقي ليس فقط جراء حرب الخليج الثانية، فحسب، بل جراء حرب أقسى وأشد وحشية، إنها حرب تجويع الشعب العراقي، تلك الحرب التي تعتبر افضع أنواع الحروب، الحرب التي امتدت ثلاثة عشر عاماً لم يعرف أي شعب من شعوب الأرض مثيلاً لها، والتي أتت على البنية الاجتماعية العراقية وخربتها شرَّ تخريب، وخلال تلك السنوات العجاف تداول السلطة كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ثم عاد الحزب الجمهوري إلى الحكم من جديد على عهد بوش الابن، وقد مارس الديمقراطيون نفس الأساليب العدوانية ضد العراق خلال سنوات حكمهم كما هو معروف للجميع.
إن كل ما حل في العراق منذ عام 1963 وحتى يومنا هذا تتحمل مسؤوليته الولايات  المتحدة وحزبيها الذين يمثلان وجهان لعملة واحدة، يتداولان السلطة بينهما، ويجمعهما هدف مشترك هو تأمين المصالح الإمبريالية للولايات المتحدة وشركاتها الاحتكارية الكبرى التي تتحكم في الاقتصاد العالمي، تنهب خيرات الشعوب .
واليوم طلعت علينا الأخبار الواردة من الولايات المتحدة بنبأ القرار الذي تبناه الحزب الديمقراطي في الكونكرس، والقاضي بتقسيم العراق إلى دويلات طوائف  دولة شيعية، ودولة سنية، ودولة عنصرية كردية، هذه هي الديمقراطية في مفهوم الحزب الديمقراطي الأمريكي !!، والتي يضحكون بواسطتها على ذقن الشعوب .
أنهم حريصون جداً على الشعب العراقي!!، وعلى الأمن والسلام في ربوع العراق!!، وحاشاهم أن يكونوا هم وقرينهم الحزب الجمهوري، وقادة الكونكرس ومجلس الشيوخ من أصحاب روؤس الأموال والشركات الاحتكارية الكبرى، والذين يتحكمون في الاقتصاد العالمي، من خططوا ودعموا إدارة الرئيس بوش لشن الحرب على العراق، وأوصلوه إلى هذه الكارثة التي فاقت بوحشيتها كل الكوارث السابقة، حيث أججوا النعرات الطائفية والعنصرية المقيتة في المجتمع العراقي، وأوصلوه إلى الحرب الأهلية الوحشية التي لم يعرف الشعب لها مثيلاً من قبل، ومزقوا نسيجه الاجتماعي.
وهم اليوم يبتغون من وراء مشروعهم الإمبريالي الخائب والبائس تعميق هذا الصراع، وصب الزيت على نار الحرب الطائفية، والصراع القومي بين مكونات الشعب العراقي باسم الفيدرالية، التي خرجت عن كل معانيها، وبات الهدف الحقيقي يرمي إلى تمزيق العراق، وخلق دويلات الطوائف، لكي يستمر الصراع  وتستمر الحرب الأهلية، فلا تقوم للعراق قائمة بعد ذلك.
إن من يعتقد أن تمزيق العراق وتقسيمه إلى دويلات طائفية وعرقية سوف ينهي الصراع الحالي الجاري في البلاد واهمٌ جداً، بل على العكس من ذلك سيجر العراق إلى حرب بين هذه الدويلات اشبه بحرب المئة عام المعروفة، فالعراق عزيز على قلوب العراقيين، وهذا الذي يجري اليوم على أرضه ليس من صنع الشعب، بل هو بكل تأكيد من صنع ملوك وأمراء الطائفيين والعنصريين الطامحين بالسلطة والثروة، حتى ولو كانت على أشلاء العراقيين، لكنني مؤمن أشد الأيمان إن مخططاتهم ومخططات أسيادهم الأمريكيين سوف تفشل في النهاية، فلا يصح إلا الصحيح.
إن كل من يدعم هذا المخطط الإمبريالي الأمريكي الجديد يقترف خيانة وطنية كبرى سوف لن يسامحه الشعب العراقي إلى الأبد، وسيبقى يحمل عار الخيانة المخزي، فليس هناك جريمة أكبر من الخيانة الوطنية. وسيعلم الذين يدفعون العراق وشعبه نحو الكارثة أي منقلب سينقلبون.

492
إلى متى يستمر هذا  الشلل في حكومة المالكي؟

   حامد الحمداني                                                       20 /9/2007 

منذُ اشهر عديدة وحكومة المالكي تعاني من صراعات عميقة، وتمزق بين إطرافها، فهذه الحكومة التي أطلق عليها حكومة الوحدة الوطنية، والتي لا تعدو عن كونها حكومة محاصصة طائفية بين قوى وأحزاب لا يجمعها أية أهداف وبرامج وطنية مشتركة، وجل هم هذه الجهات هو تحقيق المكاسب والمغانم لحسابها الخاص، دون الالتفات للمصالح الوطنية العليا، ودون الاهتمام بما يعانيه الشعب العراقي من أوضاع كارثية في كافة المجالات الأمنية والاجتماعية والصحية والثقافية والخدماتية.
 ونتيجة للصراعات المحتدمة بين هذه الأطراف، بسبب اختلاف المصالح واختلاف التوجهات، أخذت الانسحابات من الوزارة تتوالى من الحكومة، فقد انسحب منها حزب الفضيلة منذ بداية تشكيلها، وها قد تبعه انسحاب التيار الصدري، وجبهة التوافق، وجبهة الحوار، وأخيراً القائمة العراقية، ويدور الحديث عن نية حزب الدعوة [تنظيم العراقٍ] بالانسحاب ، وهكذا لم يبقَ في حكومة المالكي سوى طرفين فقط هما الائتلاف الشيعي الذي يضم المجلس الأعلى بزعامة الحكيم وحزب الدعوة بزعامة المالكي، والتحالف الكردستاني الذي يضم الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة  السيد مسعود البارزاني ، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني.
ونتيجة للصراعات المحتدمة بين أطراف التحالف الشيعي بدأت الانسحابات من هذا التحالف تتوالى، فقد كان قد انسحب حزب الفضيلة من قبل، وها قد لحق به التيار الصدري الذي سبق له أن انسحب من الوزارة، وتدور التكهنات عن قرب انسحاب كتلة إبراهيم الجعفري، وكتلة الرساليين، وهكذا يصبح مصير حكومة المالكي في مهب الريح، ولن يجدي نفعاً كل محاولات المالكي لترقيع الوزارة.
فمنذ اشهر عديدة والسيد نوري المالكي يصرح كل يوم عن قرب إملاء الشواغر في الوزارة بعد استقالة 17 وزيراً تارة ، وعن النية في تأليف وزارة تنكوقراط مصغرة من نفس القوى السياسية تارة أخرى. ويستمر المالكي بالتشبث بالسلطة رغم انفراط اغلب أطراف الحكومة. ودون أن يستطيع حتى ترقيع الوزارة .
ومما زاد في الطين بله الوضع المأساوي لما يسمى بالبرلمان العراقي  الذي عجز رئيسه السيد محمود المشهداني أن يجمع أعضائه لإكمال النصاب، فمعظم أعضاء المجلس يتواجدون خارج العراق، والبرلمان مشلول تماماً، شأنه شأن حكومة المالكي، وأوضاع العراق الأمنية تسير من سيئ إلى أسوأ ، والخدمات الضرورية لحياة المواطنين في أسوأ أحوالها، فلا كهرباء ولا ماء الشرب ولا وقود بمختلف أنواعه، حيث تسيطر عليه الميلشيات المعروفة، وتتحكم بأسعاره، ولا العناية بصحة المواطنين، بعد أن غادر أغلبية الأطباء الاختصاصيين والألوف من الأطباء الآخرين إلى خارج العراق هرباً من الموت ، بالإضافة إلى شحة الدواء، وصعوبة حصول المواطنين عليه، بعد الفساد الذي استشرى في كافة مرافق الدولة ، وصارت الأدوية تجارة رابحة خارج المستثفيات.
كما تتصاعد كل يوم ارقام العراقيين المغادرين للعراق هرباً من الحرب الطائفية التي يدعي السيد المالكي بأنه استطاع وقفها، لكن جثث الضحايا تستمر دون انقطاع ، وتستمر العصابات الميلشياوية باحتلال مساكن المواطنين بما فيها من أثاث دون أن تستطيع الحكومة أعادتها إلى أصحابها، ويعاني المهجرون داخل وخارج العراق ظروفا قاسية جداً دون أن تلقى أوضاعهم أي اهتمام.
إن حكومة هذه تركيبتها، وهذه توجهاتها وإجراءاتها لا يمكن أن تحل المليشيات، وتسحب منها السلاح، وتعيد الأمن والسلام في ربوع العراق، وتتوجه نحو معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية، وإعادة بناء البنية التحية المخربة، وإعادة المهجرين والمهاجرين إلى الوطن، واستعادة رؤوس الأموال الهاربة خارج الحدود، وتشجيع الاستثمار الأجنبي لإقامة مختلف المشاريع الصناعية والزراعية، ومعالجة مشكلة البطالة، المفرخة الأساسية لقوى الإرهاب، وهذا يتطلب قيام حكومة تنكوقراط مركزية قوية، من العناصر الوطنية النظيفة، بعيداً عن هيمنة القوى الطائفية والعرقية، ووقف العمل بالدستور، وحل البرلمان، ووقف العمل بالمجالس المحلية التي تتحكم فيها القوى الطائفية وميلشياتها المسلحة، ومنح الحكومة صلاحيات واسعة لمدة زمنية محددة لا تتجاوز ثلاث سنوات، ريثما يعود الأمن والسلام في البلاد، وتزول الميلشيات، وتتهيأ الظروف الطبيعية لإجراء انتخابات برلمانية جديدة، بعد سن قانون جديد للأحزاب لقيام حياة حزبية تؤمن بالديمقراطية بعيداً عن الطائفية الدينية والعرقية، وتشكيل لجنة من كبار أساتذة القانون الدستوري لوضع مسودة دستور علماني جديد للبلاد، يكرس الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية بين المواطنين بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم.   
أن أي طريق أخر لن يفضِ إلى السلام المنشود، وسيستمر الصراع والتناحر بين القوى الطائفية وميليشاتها، ويستمر نزيف الدم، ويستمر الخراب والدمار في كافة مرافق البلاد وتتدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتستمر الهجرة الاضطرارية، وتفريغ العراق من كوادره العلمية بمختلف اختصاصاتها، ويستمر تحكم قوى الظلام والفاشية الدينية في حياة المواطنين الذين يسعون لإقامة نظام طالباني جديد في العراق. 
حامد الحمداني
www.Hamid-Alhamdany.com

493
من المسؤول عن الأحداث الدامية في كربلاء؟

حامد الحمداني 30 آب 2007

تتدهور الأوضاع الأمنية في البلاد بوتائر متصاعدة تهدد بكارثة كبرى، جراء الصراع المحتدم بين أطراف القوى التي تتحكم بالساحة العراقية اليوم، والمتمثلة بأحزاب الإسلام السياسي، وميليشياتها المدججة بالسلاح الحديث كماً ونوعاً، حتى بات يفوق قدرة الجيش العراقي وسائر الأجهزة الأمنية ، ولم يعد يمر علينا يوم دون أن نشهد لعلعة السلاح الانفجارات وسقوط الضحايا الأبرياء على مذبح المصالح الأنانية لقادة الأحزاب الدينية .

وعندما كتبنا ونبهنا مرارا في العديد من المقالات السابقة أن ما يجري على الساحة العراقية ليس صراعاً طائفياً دينياً ، بل هو في واقع الحال صراع من أجل السلطة والثروة، وأن المتصارعين قد اتخذوا من الدين والطائفة وسيلة لخداع المواطنين البسطاء والجهلة والعاطلين عن العمل، ودفعهم لحمل السلاح والقتال ضد ابناء جلدتهم ، وليسقط من يسقط في هذه الحرب المجنونة،  من أجل أن يحكم ويستأثر بثروة البلاد فئة من الرجال الذين تستروا بجلباب الدين، والذين لا يهمهم مصلحة العراق وشعبه.

وهكذا أكدت الأحداث التي جرت هذا الأسبوع في مدينة كربلاء مرة أخرى أن الصراع ليس بين الطائفتين الشيعية والسنية، وهو بالتالي ليس صراعاً دينياً ، بل هو ابعد ما يكون عن الدين، حيث بات الشيعي يقتل أخاه الشيعي، دون أن يحقق أي مصلحة لنفسه، أو لوطنه وشعبه .
* كيف تسنى لهذه الزعامات السياسية الطائفية أن تنظم وتدرب وتسلح ميليشياتها التي تقدر بعشرات الألوف من المقاتلين المجهزين بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً؟
* كيف جرى ويجري تمويل هذه الميليشيات ودفع رواتب أفرادها، وكيف يتم تجهيزها بالسلاح ؟
* لماذا جرى التغاضي من قبل الإدارة الأمريكية وقوات الاحتلال عن بناء هذه الميليشيات المسلحة كمنظمة بدر وجيش المهدي، وكافة الميلشيات الأخرى لتكون سيفاً مسلطاً على رقاب ابناء الشعب تصول وتجول في سائر المدن العراقية ، وتتحكم في حياة المواطنين وحرياتهم الشخصية ، بل وحتى ملبسهم ومأكلهم وسائر شؤونهم الخاصة، وفرض الحجاب ليس فقط على المسلمين منهم بل تعدى ذلك إلى ابناء الطوائف الأخرى، المسيحيين والمندائيين والأيزيديين ، والويل كل الويل لمن يخالف مشيئة هذه العصابات الفاشية المتوحشة والسادية في أساليب التعذيب والقتل، ورمي جثث المواطنين الأبرياء في الطرقات والمزابل طعاماَ للكلاب السائبة ؟
* لماذا تركت قوات الاحتلال أسلحة الجيش العراقي الذي حلته دون حماية لتتلقفه أيدي العصابات الصدامية، وميليشيات أحزاب الإسلام السياسي ليشعلوا نيران الحرب الأهلية في البلاد ؟
* لماذا تركت قوات الاحتلال حدود العراق مفتوحة لتهريب السلاح من دول الجوار ، وبوجه خاص من إيران وسوريا، وسمحت للعصابات الصدامية، وعصابات ابن لادن والسلفيين المتخلفين المغسولي الأدمغة لينفذوا جرائمهم الوحشية ضد المواطنين العراقيين الأبرياء عبر السيارات المفخخة والأحزمة والعبوات الناسفة؟
* لماذا سلمت الإدارة الأمريكية السلطة لأحزاب الإسلام السياسي، وهي التي كانت تنادي كما أعلن الرئيس بوش غداة حرب الخليج الثالثة بإقامة نظام ديمقراطي في العراق ، وتحرير شعبه من عبودية النظام الصدامي؟
* هل يعقل أن الإدارة الأمريكية لا تدرك أن أحزاب الإسلام السياسي لا يمكن أن تؤمن بالديمقراطية ، وإنما اتخذت الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة عبر تلك الانتخابات المتعجلة، والتي استخدم فيها الدين وسيلة ضغط وترهيب لتحقيق تلك النتائج التي حصلت عليها في الانتخابات، كي تشيع فاشية دينية في البلاد هي أكثر وأشد حشية وسادية من الفاشية القومية للنظام الصدامي المقبور؟

* هل أن الإدارة الأمريكية وقوات الاحتلال واقعة اليوم في مأزق ؟ أم أن ما جرى ويجري  في العراق كان قد  جرى التخطيط له مسبقاًً، وعن سابق تصميم ؟

إن كل الأحداث التي جرت وتجري على ارض الواقع تؤكد بما لا يقبل الشك أن الإدارة الأمريكية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن كل ما يجري في العراق من خراب ودمار وقتل وتشريد، ومن بؤس وفاقة وأمراض وتدمير للبنية الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية للمجتمع العراقي، وأن الولايات المتحدة لم تكن جادة يوماً في إقامة وترسيخ نظام ديمقراطي علماني حقيقي في البلاد، وهي التي سعت إلى تهميش القوى الديمقراطية منذ احتلالها للعراق، وتشكيل مجلس الحكم والحكومات المتعاقبة على أسس طائفية وعرقية تتناقض تناقضاً صارخاً مع المبادئ الديمقراطية .

وعندما نركز على مسؤولية الإدارة الأمريكية في ما جرى ويجري في العراق الجريح، وعلى الرغم من فقدان الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم منذ الاحتلال وحتى يومنا هذا السلطة الحقيقية، حيث تمسك بها الإدارة الأمريكية وقوات احتلالها، لكن هذه الحكومات وبوجه خاص حكومة السيد نوري المالكي تتحمل مسؤولية ما جرى ويجري حالياً من تدهور امني وصراع كارثي بين أطراف قوى الإسلام السياسي، حيث أنها هي بالأساس قد جرى تشكيلها على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية التي جاءت بوزراء لا يفقهون من واجبات وزاراتهم سوى خدمة أحزابهم ومناصريهم  وملئ جيوبهم بالدولارات الأمريكية ، وليذهب شعب العراق إلى الجحيم.
لقد أثبتت تجربة السنوات التي اعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق الفشل الذريع لأحزاب الإسلام السياسي في قيادة العملية السياسية في البلاد ، وأوصلت الشعب إلى كارثة الحرب الأهلية، وهي تسعى اليوم إلى تمزيق وحدة العراق أرضا وشعباً من خلال مشروع الفيدراليات البريمري المشبوه .

إن على أحزاب الإسلام السياسي أن تعلن إفلاسها، وتنسحب إلى حسينياتها وجوامعها، وتؤدي فرائض دينها بكل تجرد من المصالح الشخصية والحزبية الأنانية، رحمة بهذا الشعب المنكوب بحكامه القدامى والجدد، فقد كفاه ما أوصلوه إليه من قتل على الهوية ومن بؤس وحرمان في كل مجالات حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والصحية والخدماتية.

وعلى الإدارة الأمريكية الممسكة الحقيقية بحكم البلاد أن تعيد النظر في سياستها الكارثية من خلال تسليم السلطة إلى قوات تابعة للأمم المتحدة، والانسحاب من العراق وإناطة الأمم المتحدة مسؤولية إقامة نظام حكم ديمقراطي علماني يحترم إرادة الشعب وحقوقه وحرياته الشخصية والعامة ، ومن خلال فصل الدين عن الدولة بشكل نهائي، وإعادة النظر جذرياً في الدستور الطائفي الذي طبخته على عجل، والذي وضع اللبنات الأساسية لتمزيق العراق أرضا وشعباً.

أما إذا ما استمرت الإدارة الأمريكية في سياستها الكارثية هذه فسيصبح العراق أكبر قاعدة للإرهاب ذات تمويل هائل، ليس فقط يهدد الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط والخليج فحسب بل في العالم اجمع، وستندم الإدارة الأمريكية اشد الندم على ما صنعته أيديها في العراق في وقت لن يفيد فيه الندم ، وستدفع ويدفع معها العالم اجمع ثمناً باهظاً لهذه السياسة الخرقاء.

494
التحالف الطائفي القومي لن يُوصل العراق إلى شاطئ السلام


حامد الحمداني   19/8/2007

الأزمة العراقية السياسية والأمنية المستحكمة تدخل في عنق الزجاجة من جديد، بعد أن تمخض اجتماع قادة الأحزاب الدينية الشيعية الطائفية مع قادة الأحزاب الكردية القومية عن تشكيل ما دعته هذه القيادات بتشكيل جبهة المعتدلين!! ، بغية إنقاذ حكومة الشراكة القائمة حاليا، هذه الجبهة التي هي في واقع الحال ليست جديدة كما يدعون، بل هي قائمة منذ إعلان نتائج الانتخابات الأولى التي جرت في البلاد ، والتي أفرزت كما هو معروف للجميع استقطاب ديني شيعي طائفي ترتبط معظم أطرافه بوشائج متعددة مع النظام الإيراني، واستقطاب طائفي سني ضم حوله عناصر مرتبطة بالنظام السابق،يرتبط بروابط مع النظام السعودي أو السوري، ويحتضن جانب منه عناصر القاعدة الإرهابية المجرمة،  واستقطاب قومي كردي بقيادة الحزبين المهيمنين على الوضع في كردستان العراق منذ نهاية حرب الخليج الثانية عام 1991 ، وقرار الولايات المتحدة وبريطانيا بتأمين الحماية الجوية لمنطقة كردستان، وتمكين القيادات القومية الكردية من إدارة شؤون الحكم فيها، ومن المعروف لكل المتتبعين لتطورات الوضع السياسي في العراق أن المحافظات ذات الأغلبية السنية قد قاطع جانب كبير من أهلها تلك الانتخابات خوفاً من سطوة الميلشيات والعصابات الإرهابية المرتبطة بالنظام الصدامي التي كانت وما تزال تمارس جرائم التدمير والقتل في مختلف المدن العراقية، باستثناء منطقة كردستان، في محاولة لها لاستعادة السلطة من جديد بعد أن فقدت امتيازاتها بسقوط نظام البعث بقيادة الدكتاتور صدام حسين .
لقد استخدم ائتلاف قوى الإسلام الطائفي الشيعي خلال الانتخابات عوامل التأثير الديني والطائفي والمرجعية الدينية، وما دعته بمظلومية الطائفة الشيعية، وكأنما اقتصر ظلم صدام ونظامه على طائفة بذاتها أو قومية بذاتها،  كما استغلت التخلف الخطير الذي خلفه نظام البعث خلال أربعة عقود سوداء في المجتمع العراقي لتحقيق تلك النتيجة، حيث حصلت على ما يقرب من نصف مقاعد البرلمان .
وعلى الجانب الثاني في التحالف الذي ضم الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البارزاني، والإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني، اللذان تقاسما مقاعد البرلمان على الرغم من شمول التحالف الكردستاني على العديد من الأحزاب الكردية الأخرى التي لم تحصل إلا على الفتات في تلك القسمة المعروفة. وقد حصل التحالف على أكثر من سبعين مقعداً، وبذلك وجد قادة التحالف الكردستاني أن مصالحهم تقتضي التحالف مع قوى الإسلام الطائفي الشيعي حيث يشكلان معاً أغلبية في البرلمان المنتخب، وبالتالي يستطيع التحالف الكردستاني فرض شروطه، وتحقيق أجندته من خلال استئثار التحالف الشيعي الكردي بالسلطة، وتقاسم المراكز السياسية القيادية في الدولة، وسائر الأجهزة الأخرى، ومن ثم تنفيذ أجندتهما المتمثلة بتقسيم العراق، وتقاسم ثروته النفطية بموجب ما يسمى بالفيدراليات التي نص عليها دستور بريمر السيئ الصيت،  وثبتها الدستور الجديد الذي تم وضعه من قبلهم، بعد أن جرى اتخاذ دستور بريمر أساسا للدستور الجديد، مع إضافات طائفية فرضها التحالف الطائفي الشيعي ، وكذلك من خلال تنفيذ قانون النفط والغاز، وكانت النتيجة تعميق الشرخ الذي أصاب المجتمع العراقي في الصميم ، ورفع من مستوى العنف والنشاط الإرهابي في البلاد ، والذي حول حياة المواطن العراقي إلى جحيم لا يطاق، وشرد أربعة ملايين مواطن من ديارهم هرباً من بطش القوى الإرهابية وميليشياتها ، وإفراغ العراق من كوادره الطبية والتعليمية ، وهروب رأس المال العراقي إلى دول الجوار، وتدهور كافة الخدمات المدنية والصحية والتعليمية وانهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
ورغم الضغوطات التي مارستها الإدارة الأمريكية على جانبي التحالف لإشراك قوى الإسلام الطائفي السني في العملية السياسية، والوعود بتعديل مواد الدستور المتعلقة بموضوع الفيدراليات، وقانون النفط والغاز،واجتثاث البعث، وحل كافة المليشيات ،وموضوع المشاركة الفعلية في السلطة وإدارة شؤون البلاد، لكن إي إجراء من هذا القبيل لم يرَ النور ، بل على العكس من ذلك مارست القيادة الكردية أساليب التهديد والوعيد بشن الحرب الأهلية [الحقيقية] إذا لم تنفذ المادة 140 من الدستور المتعلقة بمحافظة كركوك ، كما يسعى المجلس الأعلى بزعامة الحكيم إلى تثبيت واقع على الأرض في مناطق جنوب ووسط العراق لتحقيق أجندته بفرض الفيدرالية المشبوهة .   
وجاءت الجريمة الكبرى التي اقترفتها قوى الإرهاب الفاشية بتفجير مرقد الإمامين العسكري في سامراء لكي تدفع قيادة الإسلام الطائفي الشيعي ميليشياتها ومناصريها لشن حملة قتل وتهجير لم يسبق لها مثيل ضد ابناء الطائفة السنية، واستهدفت في الأساس تفريغ العاصمة بغداد من العناصر السنية ، وهكذا قادت هذه الأحزاب العراق نحو حرب طائفية وحشية ليست فقط سنية شيعية ، بل تعدتها إلى الأقليات المسيحية والصابئية والأيزيدية ، وكان أخرها الهجوم الوحشي بخمس شاحنات مفخخة ضد ابناء الطائفة الأيزيدية المسالمين حيث ذهب ضحيتها أكثر من 500 مواطن أيزيدي وجرح أكثر من هذا العدد غالبيتهم من الأطفال والنساء مستهدفين من فعلتهم المشينة تهجير ابناء الطائفة من موطنهم الأصلي .
لقد اوصلت الحكومة الحالية العراق إلى هذا المأزق الحرج الذي أدى إلى خروج العديد من القوى الممثلة في الحكومة كان أولها حزب الفضيلة ثم أعقبه بعد ذلك التيار الصدري فكتلة التضامن السنية وأخير قائمة العراقية بزعامة الدكتور أياد علاوي ، ويجري السيد إبراهيم الجعفري نشاطات واسعة لتأليف جبهة جديد بعد شق حزب الدعوة الإسلامية .
وهكذا أصبحت حكومة المالكي في حكم المستقيلة دستورياً بعد أن غادرها 17 وزيراً ، ويحاول المالكي وشركائه الكرد التشبث ببقاء الحكومة من خلال عدم قبول استقالة الوزراء على الرغم من إصرارهم على الاستقالة ، وتركهم مهام إدارة وزاراتهم.
إن هذا التثبث ببقاء الحكومة الحالية ، وتشكيل ما دعوه بجبهة المعتدلين !! ما هو إلا محاولة يائسة لبقاء المتحالفين في السلطة من أجل أنجاز أهدافهم المشتركة ، والمعروفة لسائر ابناء الشعب العراقي بتحقيق الفيدراليات ، وتقاسم الثروة النفطية، مما ينذر بتعميق الأزمة العراقية، وصب المزيد من الزيت على نيران الحرب الطائفة والصراع على السلطة والثروة .
لقد كنا ولا نزال وسنبقى مع أن يتمتع الشعب الكردي الشقيق بكامل حقوقه المشروعة ، ودعونا من أجل إقامة الفيدرالية في كردستان شرط المحافظة على وحدة العراق أرضا وشعباً، لكن الذي جرى ويجري الآن قد تعدى حدود هذه الفيدرالية، وباتت كردستان العراق دولة مستقلة لها حدوها وجيشها وعلمها ودستورها وبرلمانها وحكومتها وأصبح النفط في المنطقة ملكها، ولم يبقَ لمقومات الدولة سوى الإعلان الرسمي لقيامها الذي يؤخره جملة من الظروف والأسباب المعروفة، والتي لا مجال للدخول في تفاصيلها بهذا المقال، وعلى الرغم من وجود السيد الطالباني على قمة السلطة في العراق [ رئيس الجمهورية] مع ثمانية وزارات بينها وزارات سيادية ، بالإضافة إلى منصب نائب رئيس الوزراء ، ورئاسة أركان الجيش وتقاسم السفارات العراقية بين الشركاء ، وغيرها من المناصب الأخرى .
من هنا جاء تلاقي المصالح بين قوى الإسلام السياسي الشيعي بقيادة الحكيم الطامح في تكوين فيدرالية الجنوب والوسط ، وفيدرالية الأحزاب القومية الكردية بزعامة البرزاني والطالباني .
إن هذا التوجه الخطر للأحزاب الأربعة المتحالفة على تقسيم العراق، وتقاسم ثروته الوطنية، والتي هي ملك الشعب العراقي جميعاً دون استثناء، ومحاولات التمسك والاستئثار بالسلطة لن يقود العراق إلى شاطئ السلام والأمن والحرية والديمقراطية، بل سيزيد نيران الحرب الأهلية اشتعالاً ليوصلها إلى المرحلة التي يصبح الخروج منها أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً ، وستستمر هذه الحرب حتى ينتصر احد أطرافها على الطرف الآخر ولكن بعد خراب العراق وتقتيل وتشريد الملايين من أبنائه ، ويخطئ من يتصور انه سيكون بمعزل عن نيران الحرب التي ستحرق جميع مشعليها .
ليس هناك من حل سوى العودة نحو الوطنية العراقية الصادقة والنأي عن الولاء لدول الجوار، ومحاولة تمزيق العراق، هذا البلد الغني الكبير هو الحاضنة الحقيقية التي تتسع لكل أبنائه بكل قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، وهو يمتلك من الثروات الهائلة ما يمكن أن يحقق للجميع ارقي مستوى من الرفاهية والعيش الرغيد، في ظل نظام ديمقراطي علماني بعيداً عن التعصب القومي والديني والطائفي الذي لا يجلب للعراق وشعبه سوى الويلات والخراب والدماء ، وندائي ونداء كل الوطنيين المحبين للعراق العظيم :
أيها القادة ، أيها السياسيون ، أيها المتقاتلون عودوا إلى عراقيتكم ، وضعوا مصلحة الوطن والشعب فوق مصالحكم الذاتية الأنانية فهذا هو الطريق الوحيد لخير وسعادة وسلامة الجميع ، ولا طريق آخر غيره.           

495
بأي دين يدين هؤلاء القتلة المجرمين؟

حامد الحمداني  16/8/2007

الجريمة الوحشية البشعة التي اقترفها المتوحشون الساديون بحق المواطنين الأيزيديين الأبرياء المسالمين هزت بعنف ضمير كل انسان يحمل ذرة من الشعور الإنساني ، وأحدثت جرحاً عميقاً في نفوسهم، ونفوس ابناء هذه الطائفة المسالمة لا يمكن أن يندمل لسنوات طويلة . أنها فاقت ببشاعتها جميع الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون في العراق منذ سقوط نظام الطاغية صدام حسين وحتى يومنا هذا، حيث كان هدف هؤلاء القتلة المجرمين إيقاع اكبر عدد من الخسائر البشرية، وأشد التدمير للقرى المستهدفة بقصد تهجير المواطنين الأيزيديين من ديارهم .
لقد اقترف المتوحشون الهمج مجزرة كبرى حيث تجاوز عدد الشهداء 250 فردا، والعدد مرشح للازدياد بسبب الأعداد الكبيرة من الجرحى المصابين بجروح خطيرة ، بالإضافة إلى الجثث المطمورة تحت أنقاض مساكنهم المهدمة على رؤوسهم.
إن المشاهد التي عرضتها القنوات الفضائية المختلفة للمصابين من الأطفال والنساء والرجال تثير اشد الحنق والاحتقار لأولئك السفاكين المتوحشين، الذين ارتكبوا جريمتهم باسم الدين. ونطالب الحكومة القيام بواجبها الأساسي في توفير الأمن والسلام للمواطنين  وكشف وملاحقة العناصر المجرمة ، وتقديمها للمحاكمة لتنال جزائها العادل، والعمل الجدي والسريع لمعالجة الجرحى، وتأمين السكن لكل العوائل التي فقدت مساكنها، وتأمين مستلزمات العائلة المادية .
أي دين هذا الذي يدين به هؤلاء القتلة السفاكون لدماء الأطفال والنساء والرجال؟
أي مدرسة دينية تلك خرجتهم وأرسلتهم لتنفيذ عملية قتل جماعي بشعة؟
أي دولة هذه التي تسمح لهذه المدارس الدينية بغسل أدمغة هؤلاء الجهلة المتخلفين ، وتعدهم بالجنة، والحور الحسان، والغلمان المخلدين، وأنهار العسل والخمور، ليندفعوا نحو الانتحار وقتل الناس الأبرياء الذين لم يقترفوا جرماً بحق أحد، وبالجملة،  دون وازع من ضمير أو أخلاق .
هل هذا هو الدين الذي جاء به محمد ؟
لقد بات من المخجل أن يقف المسلم أمام شعوب العالم مرفوع الرأس، فقد أصبح الإرهاب والقتل من سمة الإسلام والمسلمين في عصرنا اليوم، ونحن في مقتبل القرن الحادي والعشرين، فأي تخلف ونكوص للمجتمعات الإسلامية في مشرق الأرض ومغربها ؟ لقد عادت هذه المجتمعات القهقرة عشرات بل مئات السنين، إلى عصر الهمجية والوحشية ، وانفلات الغرائز البشرية في جوانبها السلبية .
هذا الذي جرى ولايزال يجري في العراق ومصر والجزائر والمغرب والسودان واندونيسيا وباكستان وأفغانستان وتايلاند والفلبين واسبانيا وبريطانيا وفرنسا والشيشان وكوسوفو والبوسنة وسائر البلدان الإسلامية الأخرى من قتل وتدمير وتخريب أساء للإسلام في نظر الشعوب ، وباتت تلك الشعوب تنظر إلى كل مسلم بعين الشك والريبة حول صلته بالإرهاب .
لقد باتت المدارس الدينية في السعودية وباكستان وإيران وأفغانستات تشكل أعظم الأخطار على مستقبل البشرية، وأصبح من الضروري غلقها والاكتفاء بدروس الدين في المدارس الرسمية، وفق منهج محدد خالي من أية دعوة للعنف والقتل باسم الجهاد ، والحض على ترسيخ القيم الإنسانية النبيلة في نفوس الناشئة، ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان  بصرف النظر عن الدين والقومية والطائفة .
إن التعصب الديني والقومي والطائفي يمثل أخطر داء في القرن الحادي والعشرين، والذي أخذ بالانتشار والتصاعد بوتيرة مرعبة بسبب الفقر الذي يسود المجتمعات الاسلامية، والبطالة وفقدان اسباب الحياة الكريمة من مأكل وملبس وسكن، وحرمان الأجيال الناشئة من فرص تلقي العلم لحقيق مستقبل يليق بالإنسان .
ولا شك أن الدول الغنية تتحمل مسؤولية مكافحة الفقر في العالم اجمع إن هي أرادت مكافحة الإرهاب والجريمة، فالقوة وحدها لا يمكن أن توقف الإرهاب إذا لم تعالج هذه الدول مشكلة الفقر والبطالة والأمراض، والجهل الضارب أطنابه في سائر بلدان العالم الثالث، ولا شك أن الأمم المتحدة هي التي ينبغي أن تتولى مسؤولية تنظيم وإدارة برنامج واسع يعده متخصصون لمكافحة الفقر والبطالة، وتلتزم به الدول كافة، وفي مقدمتها الدول الغنية،  لتجفيف مصادر الإرهاب والإرهابيين .
الخلود لضحايا الإرهاب مسلمين ومسيحيين وأيزيدين وصابئة ،والصبر والسلوان للعوائل المنكوبة،  والخزي والعار للقتلة المجرمين، يلاحقهم ابد الآبدين.

496
في الذكرى التاسعة لرحيل فنانة الشعب العراقي زينب

حامد الحمداني 12/8/2007

يوم غد الثالث عشر من آب يصادف الذكرى التاسعة لرحيل فنانة الشعب العراقي والمناضلة الكبيرة زينب تلك الشخصية الوطنية الفذة التي أوقفت حياتها ، وفنها لخدمة قضية الشعب والوطن منذ صباها وحتى آخر يوم من حياتها المليئة بالعطاء ،على الرغم من كل المصاعب والظروف القاسية التي جابهتها، من فصل وتشريد واختفاء واغتراب عن الوطن، وأخير ذلك المرض الخبيث الذي خطفها منا بعد أشهر عديد كانت تصارع خلالها المرض دون أن يقعدها عن مواصلة النضال يوماً واحداً.
من منا لا يتذكر زينب وأدوارها في مسرحيات [النخلة والجيران ] و[ أني أمك يا شاكر ] و [ تموز يقرع الناقوس ] و [الخرابة] و[ نفوس ] و [ الخان ] و[دون جوان ] والعديد من المسرحيات الأخرى، والتي أعطت فيها كل ما تستطيع، مؤمنة برسالة الفنان الملتزم بقضايا شعبه ووطنه وقضايا الإنسانية جمعاء .
ولم يقتصر دور الفقيدة زينب على المسرح فقط ،بل كان لها دور ريادي في السينما منذ الخمسينات، حيث شاركت بأدوار مهمة في أفلام [ سعيد أفندي ] و[ أبو هيلة ] بالاشتراك مع الفنان الكبير يوسف العاني ،كما قامت بدور البطولة في فلم [ الحارس ] الذي أخرجه الفنان خليل شوقي، والذي نال جائزة مهرجان قرطاج الذهبية .
وبالإضافة الى إنتاجها المسرحي والسينمائي، فقد كتبت العديد من المسرحيات للإذاعة والتلفزيون كان منها [ ليطه ] و[ الربح والحب ] و[ تحقيق مع أم حميد بائعة الأحذية ] والعديد غيرها .
لم يقتصر دور الفقيدة زينب على الجانب الفني في حياتها ،بل كان لها جانب هام آخر نذرت نفسها له طوال حياتها، ذلك هو النضال السياسي مع أبناء شعبها في مقارعة الطغيان والاستبداد، وقد وجدت طريقها في الانتماء الى الحزب الشيوعي الذي كان في طليعة القوى الوطنية المناضلة من أجل حرية الوطن، ومن أجل الديمقراطية والحياة الكريمة للشعب، واستمرت في نضالها هذا حتى آخر يوم من حياتها، وكانت مثال المناضلة الملتزمة، شاركت بكل اندفاع وجرأة في كل جولات الشعب، بدءً من وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948 ، فوثبة تشرين المجيدة عام 1952 ،وانتفاضة عام 1956 ،أبان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة، وتوجت نضالها في ثورة 14 تموز 1958، حيث كانت في مقدمة الجماهير الشعبية التي اندفعت في صبيحة ذلك اليوم لدعم الثورة الوليدة .
وعندما وقع انقلاب 8 شباط السود عام 1963 ،اندفعت الفقيدة زينب مع الألوف من جماهير الشعب العراقي في تصديها للانقلابيين، وفي النهاية اضطرت الفقيدة زينب الى مغادرة العراق إثر الحملة الفاشية التي شنها البعثيون ضد الوطنيين المناهضين للحكم الدكتاتوري الفاشي، فقضت فترات طويلة من حياتها في المنافي بدءً باليمن ثم سوريا وأخيراً استقر بها المطاف في السويد حتى وافاها الأجل. ولقد استمر عطاءها الفني في بلدان الغربة ،ومآثرها الجمة في الميدانين الوطني والفني حيث ساهمت في تشكيل  [فرقة الصداقة في عدن ] و [ فرقة بابل في سوريا ] و[ فرقة سومر في السويد ] بالتعاون مع شريك حياتها المخرج الرائع [ لطيف صالح ] ورفاقها الفنانين المبدعين [صلاح الصكر ] و [ سلام الصكر ] و[ رياض محمد و[ صباح مندلاوي ] و[ اسماعيل خليل ] و [ أنوار البياتي ] و [ روناك شوقي ] و[ سهام حسين ] ، وقد قدمت هذه المجموعة الكبيرة من الفنانين والفنانات أعمال هامة كان منها [ مسرحية الحصار ] و [ ثورة الموتى]و[ القسمة والحلم ] و [ المملكة السوداء ] و[ رأس المملوك جابر ] و  [الأم ] و [ سالفة أم مطشر ] و [ خماسية الحوذي ـ الوحشة ] ويطول الحديث عن سرد مآثرها ، مما لا يتسع المجال لسرده بهذه العجالة .
 المجد والخلود لفقيدة الشعب والوطن زينب ، وستبقى ذكرىأم تأميم خالدة لا تغيب عن أذهان رفاقها ومحبيها الذين يتذكرون على الدوام ما قدمته من مآثر لا يمكن نسيانها . 

497
من أجل تدارك المخاطر الكارثية المحدقة بالعراق
قبل فوات الأوان


حامد الحمداني  8 /8/2007 
تتصاعد المخاطر المحدقة بالعراق بشكل متسارع في ظل الأزمة السياسة الراهنة التي بدأت تعصف بحكومة السيد نوري المالكي من كل الجهات، فالكتلة الصدرية سحبت وزرائها الستة من الحكومة ، ثم تبعتها كتلة الحوار السنية بسحب وزرائها الستة قبل يومين ، واليوم التحق بالمنسحبين وزراء الكتلة العراقية الخمسة  بزعامة الدكتور أياد علاوي من الحكومة هي الأخرى، وبذلك أصبحت حكومة السيد نوري المالكي في مهب الريح آهلة للسقوط في أية لحظة، وهي من الناحية الدستورية                 
تعتبر بحكم المستقيلة إذا استقال ثلث أعضائها.
إن الأزمة العراقية الراهنة قد وصلت إلى الحد الذي لا ينفع معها ترقيع الحكومة الحاضرة، وإن عوامل فشلها كامن في تركيبتها التي جمعت النقيض ونقيضه من القوى الطائفية الشيعية والسنية المتصارعة، والقوى القومية التي تخلت في واقع الحال عن عراقيتها، وأصبح همها الوحيد كيف تبني دولتها الكردية على أشلاء العراق الذي بات كسفينة في بحر متلاطم الأمواج على وشك الغرق، وكل فريق في هذه الحكومة قد تجرد من وطنيته العراقية، ولم يعد يفكر إلا في الحصول على ما يستطيع من الغنائم قبل غرق السفينة.
ومما عمق وعقد الأزمة العراقية الراهنة هو التدخل الإقليمي الذي بات مكشوفاً لا يخفى على أحد، فحكام إيران وأجندتهم وأدواتهم المعروفة من جهة، وحكام السعودية وأجندتهم وأدواتهم من جهة ثانية، وحكام سوريا وأجندتهم وأدواتهم من جهة ثالثة، وحكام تركيا وأجندتهم وأدواتهم من جهة رابعة، ناهيك عن الدور الأمريكي وقوات الاحتلال الممسكة بمقدرات العراق، وكل الجهات تنفذ أجندتها بقوة السلاح، ميليشيات طائفية تغدق عليها دول الجوار كل ما يلزمها من أسلحة وأموال،  وجيوش نظامية للولايات المتحدة وحلفائها فيما يدعى بقوت التحالف، ولكل من هذه الأطراف دور ونصيب فيما يجري في البلاد من قتل وتخريب وتدمير لم يعرف له الشعب العراقي مثيلاً من قبل.
 إن الوضع الأمني المتدهور جراء النشاط الإرهابي لقوى الفاشية والطائفية الظلامية، والذي يعصف بالبلاد ويزهق أرواح المواطنين بالجملة كل يوم، والفساد المستشري في جهاز الدولة من القمة حتى القاعدة، والفقر والبطالة وتردي الحالة المعيشية للشعب، والوباء الذي يتمثل بالمليشيات المختلفة التي تعيث بالبلاد حيث الاغتيالات والاعتقالات والتعذيب والسجون خارج السلطة والقانون، وقوات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى المخترقة من قبل عناصر هذه المليشيات ، والتي باتت لا تمثل السلطة الرسمية بقدر ما تمثل الأحزاب المنتمية لها، وقوات الاحتلال الأنكلو أمريكية المهيمنة على مقدرات العراق، والتي تخطط لحكم العراق إلى أمد طويل من وراء الستار، كل هذه الأمور أدخلت العراق وشعبه في مأزق خطير ينذر بكارثة كبرى باتت تهدد وبشكل جدي مصير ومستقبل العراق وشعبه            .                                                         
إن الطائفية التي مهد لها الدكتاتور صدام حسين بحملته الإيمانية المزيفة ، والتي اعتمدها الحاكم الأمريكي بريمر في تشكيله مجلس الحكم ، وتشكيل الحكومة المؤقتة فيما بعد، والانتخابات السابقة واللاحقة كلها تمثل عاملاً حاسماً ترسيخ جذورها وتعميق مخاطرها على مستقبل العراق                                                         .
كما أن التعصب القومي الشوفيني، والكراهية أخذت بالتصاعد بوتائر متسارعة بين مكونات الشعب العراقي بحيث غدا المواطن السني يكره الشيعي، والشيعي يكره السني،الكردي يكره العربي والعربي يكره الكردي، والتركماني يكره الكردي والكردي يكره التركماني ، دعك عن القلق الشديد الذي ينتاب الطوائف الأخرى من المسيحيين والصابئة والأيزيدية جراء تنامي الطائفية البغيضة والشوفينية القومية المتعصبة والخطيرة، ومحاولات البعض فرض أجندتهم المتخلفة على الآخرين بالقوة والترهيب، بل لقد تجاوزت ذلك إلى حد الاغتيال ونسف محلات بيع المشروبات الروحية، ومحلات الحلاقين الرجالية منها والنسائية، وفرض الحجاب على المرأة والعودة بها القهقرى إلى العصور القديمة بحجة مخالفة الشريعة!! .            .
وبدأت النغمات تتصاعد بالدعوة إلى استقلال كردستان تارة، والجنوب والفرات الأوسط تارة أخرى، وكأنما العراق أصبح فريسة لكل من يملك القوة والمليشيات المسلحة ليحقق طموحاته في تمزيق العراق، وإشعال نيران الحرب الأهلية التي تنذر بالدمار والخراب وإغراق العراق بالدماء، وجراء هذه المخاطر المحدقة بالشعب                                               
 والوطن فإن الوضع الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات حاسمة، وعلى وجه السرعة قبل فوات الأوان إذا أردنا إنقاذ العراق، وصيانة الوحدة الوطنية، والقضاء على الإرهاب والإرهابيين، وعودة الأمن والسلام في ربوع العراق، وإنقاذه من الكارثة التي باتت محدقة به وهذا يتطلب الإجراءات التالية:                                           .                                                                                                               
* إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما سحب قواتهم من العراق خلال ستة أشهر،إذا كانت هاتان الدولتان تحملان نوايا صداقة تجاه العراق والحرص على سيادته واستقلاله كما تدعيان ، على أن تستبدل بقوات عربية ومن دول محايدة من الأمم المتحدة تتولى صيانة الأمن والنظام العام، والعمل على بناء جيش وأجهزة أمنية جديدة قادرة على حفظ الأمن والنظام بعد خروج قوات الأمم المتحدة                                   على أن تتولى الأمم المتحدة اختيار رئيس للجمهورية من العناصر المستقلة والمؤمنة حقاً وصدقاً بوحدة العراق أرضاً وشعباً، وتشكيل حكومة تكنوقراط من العناصر المستقلة غير المنتمية للأحزاب السياسية في الوقت الحاضر، وليست لها أي ارتباط بالنظام الصدامي المقبور، ومن المشهود لها بالكفاءة، ونظافة اليد، والأمانة على مصلحة الشعب والوطن تتولى السلطة خلال فترة انتقالية أمدها ثلاث سنوات.                .                       
* تتولى القيادة الجديدة للعراق حل البرلمان الحالي، وتشكيل برلمان استشاري مؤقت يضم 150 شخصية عراقية من مختلف المناطق العراقية على أساس الكفاءة والنزاهة، والحرص على صيانة الوحدة الوطنية، ووحدة العراق أرضاً وشعباً، وإعادة الأمن السلام في ربوع العراق، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، وتجفيف مصادر تجنيدهم، ليس من خلال القوة وحدها، بل من خلال معالجة فعّالة وسريعة لقضية البطالة ، وتأمين الخدمات الأساسية والضرورية للمواطنين من ماء وكهرباء وخدمات صحية وضمان اجتماعي يؤمن الحد اللائق لحياة المواطنين، والعمل الجاد والفعّال لبناء المؤسسات الديمقراطية التي تضمن حقوق وحريات المواطنين العامة منها والخاصة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين سائر المواطنين بصرف النظر عن انتمائهم العرقي والديني والطائفي، واتخاذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم المتحدة أساسا لنظامنا الديمقراطي المنشود.                             .

* تتولى القيادة العراقية المنشودة معالجة قضية الفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة، وهذا يتطلب بادئ ذي بدء أن يقوم أعضاء الحكومة والبرلمان الاستشاري المؤقت بتقديم جرد لممتلكاتهم وممتلكات زوجاتهم وأولادهم وبناتهم قبل مباشرتهم المسؤولية، وبعد انتهاء مهامهم مباشرة، وإعادة تشكيل هيئة الرقابة المالية من العناصر الكفوءة والمشهود لها بالنزاهة ونظافة اليد، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة السراق والمرتشين، وناهبي أموال الشعب وكشف هذه الجرائم ومرتكبيها أمام الرأي العام العراقي، وتقديمهم إلى المحاكم الخاصة بهذه الجرائم لينالوا عقابهم الصارم الذي يستحقونه، واستعادة كل ما سرق إلى خزينة الدولة، ومنع مرتكبيها من ممارسة أي نشاط سياسي داخل وخارج السلطة لمدة عشر سنوات على الأقل.                                 

* إلغاء  الدستور الحالي المختلف عليه والذي يتضمن ثغرات دستورية خطيرة تتعلق بمستقبل العراق ووحدة أراضيه، ووحدة شعبه الوطنية، فالدستور بشكله الحالي يحمل بذور الحرب الأهلية الطائفية، واتخاذ دستور مؤقت لحين إعادة الأمن والسلام في البلاد وتهيئة الأجواء لأجراء انتخابات برلمانية على أساس الدائرة الوحدة، وليس على أساس القوائم كما جرى من قبل، وتكليف عناصر خبيرة في القانون الدستوري مشهود لها بالكفاءة، والوطنية الصادقة، مع الاستعانة بمساعدة الأمم المتحدة لوضع دستور ديمقراطي علماني يضمن التطور الديمقراطي الحقيقي بعيداً عن الطائفية المقيتة والشوفينية القومية، والتخلف والتعصب والاضطهاد العنصري أو الطائفي، ومحاولات تمزيق العراق باسم الفيدرالية، دستور يوحد العراقيين ويصون حقوقهم وحرياتهم بصورة كاملة غير منقوصة، وذلك حسب ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويتم عرضه على البرلمان المنتخبللمصادقة عليه.                   

 * حل كافة الميلشيات المسلحة دون استثناء، والعمل على سحب السلاح منها، وإصدار قانون بتحريم حمل أو امتلاك السلاح لغير أجهزة السلطة المركزية العسكرية والأمنية، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف القانون                      .

* تشكيل لجنة من العناصر العسكرية المستقلة تأخذ على عاتقها تطهير الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية من عناصر المليشيات المنتمية للأحزاب السياسية، والحرص على أن يبقى ولاء الجيش والأجهزة الأمنية للعراق وشعبه وسلطته الوطنية، ولا يجوز ممارسة النشاط الحزبي في صفوفها بأي شكل كان، وتثقيف أفراد القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بالفكر الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، والحرص على سيادة واستقلال العراق .                                    .

* إصدار قانون جديد ينظم عمل الأحزاب السياسية بما يضمن المسيرة الديمقراطية ، ومنع نشاط كافة الأحزاب القائمة على أساس ديني أو طائفي شيعياً كان أم سنياً،أو قومي شوفيني متطرف عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً أو أية قومية أخرى، وأن يكون الشرط الأساسي لقيام الأحزاب السياسية هو الإيمان قولاً وعملاً بالديمقراطية، والالتزام التام بوحدة العراق أرضاً وشعباً.                              .

* مكافحة الفكر البعثي الفاشي، وإحالة كل العناصر التي مارست الجرائم بحق الشعب، والتي سطرت التقارير عن المواطنين للأجهزة الأمنية وسببت إعدام الألوف منهم إلى المحاكم لينال كل مجرم العقاب الذي يستحقه ، والعمل على احتواء العناصر التي لم تمارس الإجرام وإعادة تثقيفها بالفكر الديمقراطي وإعادة تأهيلها لتأخذ دورها في بناء العراق الديمقراطي المتحرر                               .                               
 
* إن كلّ الثروة الوطنية في العراق، ما كان منها في باطن الأرض أو على الأرض، ملك للشعب العراقي دون استثناء،وتحت تصرف حكومة مركزية ديمقراطية ، ولا يحق لأي حزب أو فئة أو قومية أو طائفة التصرف في أي جزء منها بأي شكل من الأشكال، وعلى السلطة المركزية أن تخصص من عائدات هذه الثروة إلى المناطق العراقية حسب الكثافة السكانية وبشكل عادل ، مع مراعات المناطق التي كانت أكثر تضرراً والتي تحتاج إلى رعاية خاصة ترفع المعانات القاسية عن أهلها.
وينبغي أن ينص الدستور القادم على ضرورة أن يكون استثمار المكامن النفطية تحت سيطرة الدولة وشركة النفط الوطنية التي انشأها الزعيم الراحل الشهيد عبد الكريم قاسم ، وتشجيع الاستثمار في هذا المجال بما يضمن الحرص على ثورة البلاد من هيمنة الشركات الاحتكارية من جهة، وتطوير الدخل الوطني اللازم لإعادة بناء البنية التحية المدمرة للعراق ، وتأمين الحياة اللائقة للشعب الذي عانى الكثير من الحرمان والجوع والفقر والأمراض والقهر والعبودية خلال العقود السابقة.                           
* تطبيق الفيدرالية في كردستان العراق بعد الفترة الانتقالية بما يضمن وحدة العراق أرضاً وشعباً، مع العمل على تعزيز الأخوة العربية الكردية، وسائر القوميات الأخرى  ومكافحة الميول الشوفينية والعنصرية لدى سائر أطياف ومكونات الشعب العراقي، وضمان مشاركة الجميع في بناء العراق الديمقراطي الحر المستقل والموحد والمشاركة الفعّالة في السلطة بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الديني أو الطائفي وعلى قدم المساواة.                                        .

إن أي محاولة من جانب أي قوى قومية أو دينية طائفية لتمزيق وحدة البلاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب العراقي خيانة وطنية عظمى لا يمكن السكوت عليها، وإن محاولة اتخاذ جرائم النظام الصدامي كقميص عثمان واستغلالها لتبرير فرض الفيدراليات الهادفة لتمزيق العراق أمر خطير لا ينبغي السكوت عنه، بل تقتضي مقاومته بكل الوسائل والسبل، وسيتحمل كل من يسعى في هذا السبيل الخطر مسؤولية كبرى لما سيحدث من صراع طائفي أو قومي شوفيني والذي لن يخرج أحد منه منتصراً، بل ستحل الكارثة الكبرى بالجميع دون استثناء.

498
حذار!!
الطائفية الدينية والقومية الشوفينية تقود العراق نحو كارثة كبرى

حامد الحمداني   3 /8 / 2007

تتصاعد الأزمة العراقية المستعصية يوماً بعد يوم عمقاً واتساعاً، على الجانبين السياسي والأمني، جراء الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الأمريكي، والرجل الذي أوكله الرئيس بوش لحكم العراق[ بول بريمر]، وهو الذي كان يجهل كل شيء عن العراق وشعبه ، ولم يسبق له حتى زيارة هذا البلد من قبل، فكان أن اتخذ قرارات خطيرة كانت لها نتائج كارثية على الجانبين السياسي والأمني، من خلال إقامة نظام حكم طائفي في البلاد ،أوصل العراق إلى هذا الجحيم الذي نشهده اليوم ، والذي بات الخروج منه يصل إلى حد المعجزة، إن كانت هناك معجزات حقاً في علم السياسة وإدارة الأزمات .
لقد أوصلت تلك السياسة الرعناء للإدارة الأمريكية إلى ما دعته بـ [الفوضى الخلاقة] كما يتحدث الممسكون بالملف العراقي في البيت الأبيض والبنتاكون ووزارة الخارجية ، ولا أدري هل في قواميس اللغة ما يشير إلى الفوضى ، أية فوضى بكونها خلاقة !!
أنها في واقع الحال الفوضى المخربة والمدمرة، والمستنقع الذي وقع فيه ليس الشعب العراقي فحسب ، بل قوات الاحتلال للدولة العظمى في العالم ذاتها، والتي باتت لا تعرف كيف تخرج من هذا المستنقع ، ولا تستطيع تحديد النتائج الكارثية للخروج منه ليس على قواتها العسكرية فحسب بل على منطقة الخليج والشرق الأوسط خاصة ، والعالم بصورة عامة، فقد يقع العراق فريسة أما بأيدي القاعدة وحلفائها أيتام صدام ، أو بأيدي ملالي طهران وحلفائها قوى الإسلام السياسي الشيعي المعروفة ، ولا شك أن الإدارة الأمريكية تدرك تمام الإدراك نتائج هذا المصير المفزع على العراق والعالم أجمع.
إن العراق اليوم تتحكم فيه قوى الإسلام الطائفي بشقيه الشيعي والسني بما تحمله من فكر ديني متخلف عفا عليه الزمن، لتستخدمه سلاحاً فعالاً لتحقيق أجندتها السياسية الهادفة لامتلاك السلطة والثروة ، مستخدمة كل وسائل العنف والتدمير والقتل على الهوية ، ومستغلة الجهل والتخلف الذي حل بالمجتمع العراقي خلال أربعة عقود من حكم البعث القومي الفاشي، ولاسيما أبان حكم طاغية العراق صدام حسين ونظامه القمعي الشمولي، والذي ركب نفس المركب الذي يركبه اليوم رجال الدين المتسيسون، من خلال حملته الدينية المشعوذة ، وهو الذي ارتكب من المجازر بحق شعبه وشعوب جيرانه ما يعجز خبراء الإحصاء عن تحديد حجمها وعددها، وبذلك هيأ صدام حسين الظروف الموضوعية لرجال الإسلام السياسي ليحققوا أحلامهم في الاستئثار بالسلطة والثروة ، وهذا ما يجري اليوم في البلاد حيث انتشر الفساد في كل مرافق البلاد وكل الأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية، بل والأجهزة التربوية والتعليمية والصحية والخدمية .
إن قوى الإسلام السياسي لا يهمها من أمر الدين شيئاً، وهي التي باعت مبادئها بثمن بخس للمحتلين، وتعاونت مع الإدارة الأمريكية في سعيها لاحتلال العراق ، وعادت من منفاها وراء دباباتها لتتولى السلطة في البلاد.
ومن المؤسف أن تتخذ قيادات الأحزاب القومية الكردية نفس السبيل الذي اتخذته أحزاب الإسلام السياسي ، واضعة أيديها بيد الولايات المتحدة وجيش الاحتلال ، بل لقد ذهبت في سياستها بعيداً عندما تخلت عن اقرب واصدق حلفاء الشعب الكردي من القوى الديمقراطية والعلمانية ، وتحالفت مع قوى الإسلام السياسي وهي تدرك حق الإدراك أن هذه القوى لا تؤمن حقاً وصدقاً بحقوق الشعب الكردي المشروعة، يحدوها نفس الأمل لقوى الإسلام السياسي بالاستحواذ على السلطة والثروة ، واستطاعت القيادة الكردية إقناع الإدارة الأمريكية بفرض مادة في قانون إدارة الدولة في المرحلة الانتقالية فيما يخص إقامة نظام الفيدرالية للعراق ، وهذا ما شجع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على العمل لتضمين الدستور هذا النظام المشبوه، ومطالبتهم في إقامة فيدرالية الجنوب والوسط الذي يرمي إلى تمزيق وحدة العراق إن لم يكن اليوم ففي القادم من الأيام ، وهذا هو سر التحالف بين أحزاب الإسلام السياسي الشيعي وأحزاب القومية الكردية.
لقد نادت القوى الديمقراطية والعلمانية ومنذ أمد طويل بتحقيق أماني الشعب الكردي، وجرى الاتفاق على صيغة الفيدرالية للمنطقة الكردية بما يحقق وحدة العراق أرضاً وشعباً، فقد عاش الشعبان العربي والكردي إخوة متحابين ، وخاضوا معا النضال ضد سلطة البعث الفاشية التي نكلت بالشعب الكردي، تماماً كما نكلت بالشعب العربي، وبسائر القوميات الأخرى من تركمان وآشوريين وأيزيدية ومندائيين.
ومن المؤسف جداً أن ينبري السيد مسعود البرزاني عبر قناة الحرة الأمريكية بالحديث بأسلوب التهديد والوعيد بإشعال الحرب الأهلية التي سماها بـ [الحقيقية] ، إذا لم تعد كركوك إلى أحضان دولته القائمة فعلاً، وكأنما هذه الحرب الأهلية التي يشهدها العراق اليوم بكل ويلاتها ومآسيها لم تعد تكفي ، ولم تصل [المستوى الحقيقي !! ]، وأنه سيشن الحرب الأهلية الحقيقية إذا لم تنفذ المادة 140 من الدستور الذي وضع أسسه الاحتلال الأمريكي، ووكيله بريمر تحت ظل جيوش الاحتلال.
إن السيد مسعود البارزاني يضع نفسه وشعبه في مأزق خطير إذا ما أقدم على السير في هذا الطريق ، وهو يدرك أن الاستعانة بالحماية الأمريكية لن تدوم مدى الدهر ، وهو إن أقدم على إشعال حرب كردية عربية فسوف يقع في خطأ جسيم لا يمكن إصلاحه ، وربما يؤدي إلى انقلاب قوى الإسلام السياسي الشيعي عليه، وتضع أيديها  بيد قوى الإسلام السياسي السني في معركة المصير، ولعمري إن هذا لا يعني سوى اللعب بالنار التي ستأتي على الأخضر واليابس ، وسيكتوي الجميع بنيران الحرب التي يبشرنا بها السيد مسعود البارزاني ، وسيكون الشعب الكردي الخاسر الأكبر في هذه الحرب إن وقعت لا محالة .
أتمنى من صميم قلبي أن تتصرف القيادة الكردية بحكمة بعد أن حققت كل هذه المكاسب التي حصلت عليها ، والتفرغ لخدمة الشعب الكردي والنهوض بمستوى معيشته ورفاهه،  لا التضحية بكل هذه المكاسب ، فهذه السياسة لن تجلب الخير للشعب الكردي على أية حال، وعليه أن يدرك أن السياسة هي فن الممكن ، وتتحكم الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية والدولية في مساراتها ، وإن سياسة حرق المراحل قد تفقد الشعب الكردي كل ما حصل عليه من حقوق ، والعودة به إلى الوراء عشرات السنين .
إن مدينة كركوك هي مدينة التعايش الوطني لكل فئات الشعب بكل قومياته وأديانه وطوائفه ، وإن فرض أي حل بالقوة لمشكلة كركوك التي تمثل اليوم برميل بارود كبير وخطير يمكن أن يحرق العراق من البصرة حتى زاخو، فلا تقامروا بمصير العراق وشعبه ، فتتحملوا وزر الكارثة التي ستحل بالعراق ، و سيحاسب التاريخ كل من سعى لتخريب وتدمير العراق وقتل أبنائه حساباً عسيرا.

499
أمس زلزلت حناجر الأغلبية الصامتة الأرض تحت أقدام
الارهابيين الفاشيين والطائفيين
حامد الحمداني   30 تموز2007
يوم أمس كان عرساً كبيراً دوت أصداؤه في الوطن وكافة أرجاء المعمورة، حيث ينتشر المهجرون والمهاجرون في بلدان اللجوء هربا من طغيان قوى الظلام والفاشية السوداء، فكان النصر الكبير الذي حققه الفريق الوطني لكرة القدم في دورة أسيا ، وانتزاع الكأس الذي احتفظ به الفريق السعودي لثلاث دورات ، واستحقوا بجدارة لقب اسود الرافدين الأشاوس ، هذا الفريق الرياضي  الذي يمثل كل أطياف العراق الحبيب شيعة وسنة عرباً وكرداً  وسائر القوميات الأخرى، جمعهم وحفزهم حب العراق ليحققوا هذا النصر الكبير، ويرفعوا أسم العراق عالياً رغم الجراح العميقة التي سببها الاحتلال من جهة، وعصابات الفاشية السوداء، وقوى الإسلام الطائفي، في سعيها المحموم لامتلاك السلطة والثروة الوطنية، ولم تتوانَ عن استخدام الدين وكل وسائل القتل الوحشية التي تفننوا فيها لكي تنزل أقصى ما تستطيع من الخسائر في الأرواح والممتلكات العامة والخاصة     
 لكن الأغلبية الصامتة من أبناء الشعب العراقي العظيم ، على الرغم من كل المخاطر المحدقة بهم ، وعلى الرغم من قرار منع التجول، خرجت جموعهم الغفيرة ليس فقط لتحتفل بهذا النصر الكبير الذي حققه فريقنا الوطني ، بل لتتخذ من هذه المناسبة التي أسعدت العراقيين، وكل من أحب العراق وشعبه في كل أقطار الدنيا، لتعبر هذه الجموع الهادرة في داخل الوطن، وسائر بلدان اللجوء عن حبها العميق للعراق ، والتمسك بالوحدة الوطنية بين ابناء الوطن الواحد شيعة وسنة ، عرباً وأكرداً وتركمان وكلدوآشوريين وأيزيدين وصابئة مندائيين، وكانت حناجر تلك الجموع تصدح بأعلى صوتها [متحالفين سنة وشيعة  هذا الوطن ما نبيعه] هذا الشعار الذي زلزل الأرض تحت أقدام أعداء العراق من قوى الإرهاب الفاشي والطائفي، وأفشل مخططاتهم الإجرامية في ترسيخ الصراع الطائفي، وسعي القوى الفاشية للوثوب إلى السلطة من جديد، وعودة عقارب الساعة إلى الوراء، بعد أن تخلص الشعب من حكمهم الوحشي البشع طيلة أربعة عقود كالحة السواد .
يوم امس شهدنا وشهد العالم اجمع عبر وسائل الأعلام المرئية الوجه الحقيقي للشعب العراقي المؤمن حقاً وصدقاً بتآخي أبنائه بمختلف قومياتهم وطوائفهم وأديانهم في مشهد لم يكن الأعداء يتوقعونه ، لدرجة أن الجموع لم تتمالك حبس دموع الفرح في مآقيها المشرئبة إلى عودة السلام والوئام في ربوع الوطن الغالي ، ولكي يتجاوز الجميع المحنة التي اثقلت كاهل الشعب خلال السنوات الأربع التي تلت سقوط نظام طاغية العراق صدام حسين وحزبه الفاشي ، يحدوهم الأمل الكبير بعودة العراق حراً عزيزا ، وسيعود المهجرون والمهاجرون إلى الوطن وسيشمر المواطنون جميعاً عن سواعدهم القوية، وعقولهم الخلاقة لأعادة بناء العراق الجديد  وتحقيق الحياة المرفهة والآمنة ، فكل مقومات الحياة المرجوة لشعبنا يمتلكها العراق حيث الثروات الهائلة، والكفاءات العلمية النيرة، قادرة على خلق المعجزات .               
ستنتهي محنة العراقيين لا محالة، وسيعم للسلام في وطني، وسيعانق المواطنون بعضهم بعضاً ، ويعتذر الناس لبعضهم البعض حول كل ما جرى وحناجرهم تغني:         
إذا تعانقت الشعوب   
 ومزقت حجب الظلام 
فأي دربٍ يسلكون؟   
وإذا تشابكت الأكف 
فأي كـف يقطعون؟   

500
  الأسرة وأهمية دورها التربوي في إعداد أجيالنا 


حامد الحمداني    22 تموز 2007                                         
مما لا شك فيه أن الدور التربوي الذي تؤديه الأسرة تجاه أبنائها يختلف من أسرة إلى أخرى تبعاً للحالة السائدة داخل الأسرة من حيث المستوى الثقافي، والاجتماعي،والاقتصادي، ومن حيث العلاقات السائدة بين الزوج والزوجة من جهة ، وأسلوب تعاملهما مع الأبناء من جهة أخرى.
فهناك أسرٌ يسودها الانسجام التام، والاحترام المتبادل بين الوالدين وسائر الأبناء، ولا يعانون من أية مشكلات سلوكية بين أعضائها الذين يشتركون جميعاً في الالتزام بالقيم السامية التي تحافظ على بناء وتماسك الأسرة، وتستطيع هذه الأسر تذليل جميع المشاكل والصعوبات والتوترات الداخلية التي تجابههم بالحكمة والتعقل وبالمحبة والتعاطف والاحترام العميق لمشاعر الجميع صغاراً وكباراً . ذلك إن الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة، وخاصة بين الوالدين هو من أهم مقومات الاستقرار والثبات في حياتها، ومتى ما كانت الأسرة يسودها الاستقرار والثبات فإن تأثير ذلك سينعكس بكل تأكيد بشكل إيجابي على تربية الأطفال ونشأتهم .
لكن هناك أسرٌ يسودها الانشقاق والتمزق والتناحر وعدم الانسجام، وتفتقد إلى الاحترام المتبادل بين الوالدين، ويمارس أحدهما سلوكاً لا يتناسب مع جنسه ولا يتلاءم معه، وغير مقبول اجتماعياً، وفي هذه الحال يفتقد الأطفال القدوة الضرورية التي يتعلم منها العادات والقيم والسلوكيات الحميدة، وقد يلجأ الأطفال إلى البحث عن قرين لهذه القدوة غير كفء من خارج الأسرة، غير أن هذه النماذج تفتقر إلى عمق الشخصية، ولا يمكن التعرف عليها بنفس الدرجة التي يتعرف بها الأبناء على الوالدين  .
إن عدم الانسجام بين الوالدين يؤدي إلى صراع حاد داخل الأسرة، وقد يطفو هذا الصراع على السطح، وقد تشتعل حرب باردة بين الوالدين، وقد يترك الأب الضعيف الشخصية المسؤولية العائلية للأم، وقد تحاول الأم تشويه صورة زوجها أمام الأبناء وتستهزئ به، مما يؤدي إلى شعور الأبناء بعدم الاحترام لأبيهم الضعيف والمسلوب الإرادة .
وهناك الكثير من الآباء المتسلطين على بقية أفراد العائلة، ولجوئهم إلى أساليب العنف والقسوة في التعامل مع الزوجة ومع الأبناء، وخاصة المدمنين منهم على الكحول أو المخدرات ولعب القمار، مما يحوّل الحياة داخل الأسرة إلى جحيم لا يطاق، وقد يتوسع الصراع بين الوالدين ليشمل الأبناء، حيث يحاول كل طرف تجنيد الأبناء في صالحه، مما يسبب لهم عواقب وخيمة، حيث يصبحون كبش فداء لذلك الصراع ويتعرضون للتوتر الدائم والغضب والقلق ،والانطواء ، وحب والسيطرة ،والعدوانية، ويتفق علماء التربية على أن المشكلات الأخلاقية التي يتعرض لها الأبناء غالباً ما تكون لدى الأسر التي يسودها التوتر، وعدم الانسجام، والصراع .
ويعتقد الباحثون التربيون، نتيجة الدراسات التي أجروها، أن تأثيرات الصراع والشقاق الزوجي المستمر غالباً ما يكون أشد تأثيراً على تربية وتنشأة الأبناء من الانفصال أو الطلاق، على الرغم من أن الانفصال أو الطلاق ليس بالضرورة يمكن أن ينهي العداء والكراهية بين الوالدين، فقد ينتقل الصراع بينهما إلى مسألة حضانة الأطفال ،ونفقة معيشتهم.
إن الأسر التي جرى فيها انفصال الوالدين عن بعضهما نتيجة للشقاق والصراع المستمر بينهما جعل استمرار الحياة المشتركة صعباً جداً، إن لم يكن مستحيلاً، ورغم أن الانفصال أو الطلاق قد يحل جانباً كبيراً من المشاكل التي تعاني منها الأسرة، إلا أن مشاكل أخرى تبرز على السطح من جديد تتعلق بحضانة الأطفال ونفقتهم، وقد يستطيع الوالدان المنفصلان التوصل إلى حل عن طريق التفاهم، وقد يتعذر ذلك، ويلجا الطرفان أو أحدهما إلى المحاكم للبت في ذلك، مما يزيد من حدة الصراع بينهما، والذي ينعكس سلباً على أبناهما.
وفي الغالب قد تتولى الأم حضانة أطفالها، وقد يتولى الوالد الحضانة، وقد يتولى الاثنان الحضانة بالتناوب حرصاً على مصلحة الأبناء، وعدم انقطاع الصلة بين الوالدين وأبنائهما. لكن الآثار السلبية لانفصال الوالدين على الأبناء تبقى كبيرة خاصة مع استمرار الكراهية والعداء بين الزوجين المنفصلين، ونقل ذلك الصراع بينهما إلى الأبناء، وما يسببه ذلك من مشاكل واضطرابات نفسية لهم، فقد اعتبرت الباحثة المعروفة [مافيس هيرثنكتون] الطلاق بأنه مرحلة من التردي في حياة الأسرة، وليس مجرد حدث فردي قائم بذاته.
إن التأثير الناجم عن حضانة الأبناء من قبل أحد الطرفين يمكن أن يخلق مشاكل جديدة للأطفال، فقد تتزوج الأم التي تتولى حضانة أبنائها، ويعيش الأبناء في ظل زوج الأم، وقد يكون للزوج الجديد طفل أو أكثر، وقد يتزوج الأب الذي يتولى حضانة الأطفال الذين سيعيشون في ظل زوجة أبيهم، وقد يكون لزوجة الأب طفل أو أكثر، وفي كلتا الحالتين تستجد الكثير من المشاكل، فقد لا ينسجم الأطفال مع زوج الأم، وقد لا ينسجموا مع زوجة الأب، وقد لا ينسجموا مع أطفال زوجة الأب أو أطفال زوج الأم، وخاصة عندما يكون هناك تمييزاً في أسلوب التعامل مع الأطفال، مما ينعكس سلبياً على سلوكهم وتصرفاتهم، ونفسيتهم، وخاصة البنات وقد يؤدي بهم إلى الشعور بالضيق، والقلق والإحباط والخوف والشعور بالحرمان، والحنين والحزن، وهبوط المستوى الدراسي، والهروب من المدرسة، وربما من البيت كذلك، مما يهدد باكتساب الأطفال لسلوكيات ضارة كالتدخين والمخدرات  والسرقة والكذب والعدوانية، وغيرها من السلوكيات المنحرفة والمخالفة للقانون. لكن الخطر الأكبر الذي يجابه الأطفال الذين يعيشون في كنف زوج الأم هو احتمال تعرضهم للاعتداء الجنسي من قبله، مما يتسبب في مشاكل نفسية معقدة وخطيرة للطفل تلازمه مدى الحياة.
إن من المؤسف جداً أن تتصاعد نسبة الأسر المطلقة بوتائر عالية، وخاصة في المجتمعات الغربية،  حيث تشير الإحصاءات على سبيل المثال إلى أن نسبة الأسر المطلقة في السويد  تصل إلى الثلث.
كما أن هناك أسر فقدت أحد الوالدين نتيجة الوفاة بسبب المرض، أو وقوع حادث، ومن الطبيعي إن فقدان أحد الوالدين يؤثر تأثيراً بالغاً على نفسية الأبناء، وخصوصاً إذا ما كانت العلاقة التي تسود الأسرة تتميز بالاستقرار والثبات، ويسودها الانسجام والمحبة والوئام والاحترام المتبادل، وقد يتزوج الطرف الباقي على قيد الحياة ليدخل حياة الأبناء زوج أم، أو زوجة أب، وما يمكن أن يحمله لهم ذلك من مشاكل نفسية يصعب تجاوزها، وخاصة إذا ما كان تعامل العضو الجديد في الأسرة مع الأطفال لا يتسم بالمحبة والعطف والحنان الذي كانوا يلقونه من الأم المفقودة، أو الأب المفقود .
و هناك أسر تعمل فيها الأم بالإضافة إلى الأب، ومن الطبيعي أن الأم العاملة تترك أطفالها في رعاية الآخرين، سواء أكان ذلك في دور الحضانة، ورياض الأطفال، أو تركهم لدى الأقارب مثل الجد والجدة، وحيث أن أكثر من نصف الأمهات قد دخلن سوق العمل، فإن النتيجة التي يمكن الخروج بها هي أن أكثر من 50% من الأطفال يقضون فترة زمنية طويلة من النهار في رعاية شخص آخر من غير الوالدين سواء داخل الأسرة أو خارجها .
 ولقد أوضحت الإحصائيات التي أجراها مكتب الإحصاء المركزي في الولايات المتحدة أن 54% من الأطفال دون الثامنة عشرة من العمر ينتمون لأمهات عاملات، بينما تبلغ النسبة 45% بالنسبة للأطفال دون السادسة من العمر،  وطبيعي أن هذا النموذج هو السائد في المجتمعات المتقدمة على وجه الخصوص كالمجتمع الأوربي .
ورغم عدم توفر الأدلة على مدى التأثيرات السلبية والإيجابية على أبناء الأمهات العاملات، إلا أن مما لاشك فيه أن الكثير منهن يعانين نوعاً من الصراع، والشعور بالذنب بسبب العمل، وترك أطفالهن في رعاية الآخرين، وخاصة عند ما يتعرض الأطفال لمشكلات صحية أو انفعالية، وتحاول العديد من الأمهات التعويض عن ذلك بتدليل أطفالهن وتلبية مطالبهم. ورغم الجوانب السلبية لعمل الأم فإن هناك جانب إيجابي ومفيد للأطفال، حيث يوفر عمل الأم المناخ الذي يساعدهم على الاستقلالية، والاعتماد على النفس في كثير من الأمور .
وهناك أسر لديها طفل واحد يغمره الوالدان بالدلال المفرط ، والرعاية المبالغ فيها والحرص الشديد، مما يؤثر تأثيراً سلبياً على سلوكه وشخصيته. فالدلال الزائد للطفل يجعله غير مطيع لتوجيهات والديه، وتكثر مطالبه غير الواقعية، ويميل إلى الاستبداد في المنزل، والميل إلى الغضب والتمرد لأتفه الأسباب، وفي حالات كثيرة يتصف الطفل المدلل بالجبن والخوف والانطواء، سواء داخل المدرسة أو في أوقات اللعب، وبضعف الشخصية، أو قد يتسم في أحيان كثيرة بالعدوانية، والغرور والأنانية . إن المصلحة الحقيقة للطفل تتطلب من الوالدين أن يمنحاه الحب والعطف والرعاية اللازمة من دون مبالغة في ذلك، لكي يضمنا النمو الطبيعي له، والخالي من كل التأثيرات السلبية.
 أما الأسر التي لديها أكثر من طفل واحد فإنها تجابه العديد من المشاكل والصعاب في تربية أبنائها، فقد يتعرض الأطفال إلى نوع من التمييز من قبل الوالدين ، فهناك أسر تميل إلى البنين وتحيطهم بالرعاية والاهتمام أكثر من البنات، وقد يحدث العكس، في بعض الأحيان. كما أن الطفل الأول يشعر بأن شقيقه الثاني قد أخذ منه جانبا كبيراً من الحنان والحب والرعاية، مما يسبب له الشعور بالغيرة وما تسببه من مشاكل تتطلب من الوالدين الحكمة والتبصر في معالجتها، فالغيرة هي أحد العوامل الهامة في كثير من المشاكل، والتي قد تدفع الطفل إلى التخريب، والغضب والنزعات العدوانية، والتبول اللاإرادي، وضعف الثقة بالنفس.
ومن المعلوم أن الغيرة ليست سلوكاً ظاهرياً، وإنما هي حالة انفعالية يشعر بها الطفل، ولها مظاهر خارجية يمكن الاستدلال منها أحياناً على الشعور الداخلي، لكن هذا ليس بالأمر السهل، حيث يحاول الطفل إخفاء الغيرة بإخفاء مظاهرها الخارجية قدر إمكانه.
 ومن الجدير بالذكر أن الغيرة يمكن أن نراها مع الإنسان حتى في الكبر ، فقد يشعر الفرد بالغيرة من زميل له حصل على منصب أعلى منه، أو يتمتع بثروة أكثر منه، ولا يعترف الفرد عادة بالغيرة بسبب ما تتضمنه من الشعور بالنقص الناتج عن الإخفاق. إن الواجب يتطلب من الوالدين عدم إظهار العطف والحب والرعاية الزائدة للطفل الصغير أمام أخيه الكبير، ومحاولة خلق علاقة من المحبة والتعاطف والتعاون بينهما، والابتعاد عن التمييز في التعامل مع الأبناء.
كما أن الطفل الأخير يحظى دائماً بنوع خاص من الرعاية والحب والحنان والعطف، من قبل الوالدين الذين يعاملانه لمدة أطول من المدة التي عومل فيها من سبقه من الأخوة والأخوات على أنه طفل وتحيطهم بالرعاية والاهتمام، وغالباً ما يشعر الطفل الأخير بأنه أقل قوة  ونموا، واقل قدرة على التمتع بالحرية، والثقة من بقية إخوته الأكبر منه سناً، وعلى الوالدين الانتباه والحذر في أسلوب التعامل معه، وإشعاره بأنه لا يقل قدرة أو نضوجاً من سائر إخوانه .

صفحات: [1] 2