عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - مروان ياسين

صفحات: [1]
1

كتاب «إيفين» للعراقي جورج منصور: عندما يكون الموت أمنية بعيدة المنال

مروان ياسين الدليمي


صدر في بغداد وبشكل مشترك بين داري الرواق والأهوار للنشر والتوزيع كتاب جديد للإعلامي العراقي جورج منصور تحت عنوان «إيفين.. حفر في الذاكرة» والإصدار من حيث التجنيس يدخل في باب كتب السيرة الذاتية. للوهلة الأولى يستدعي عنوان الكتاب «ايفين» صورا لأقبية وممرات وزنازين معتمة، تفوح منها رائحة العذاب الإنساني. تحت قهر السجانين ولذتهم أمام أنين المعتقلين. صور معبأة بالقسوة والوحشية عما يجري خلف جدران هذا السجن بسمعته السيئة. ولطالما كان إيفين يعد في نظر المنظمات الحقوقية أسوأ الأمكنة التي يحتجز فيها الإنسان، خاصة المنخرطين في عمل سياسي لا يتوافق مع النظام في طهران.

سرد مؤثر في مواجهة الرعب

جاء في تقديم الكتاب وبتوقيع الروائي زهير الجزائري: «تلمستُ جسدي مرات وأنا أقرأ هذه الشهادة التي تقول لنا نحن القراء على لسان الكاتب: كنت هناك. في هذا الجحيم الأرضي. وهذه شهادتي».
اعتمد منصور في تدوين مجريات حياته ووقائع تجربته الحافلة بالأحداث والمغامرات، لغة سردية أنيقة استبطن في مفرداتها عميق الهواجس والأفكار التي مرّت عليه خلال مراحل حياته. قاصدا في أسلوبه أن يكون مستندا إلى تقنيات السرد الروائي، في محاولة منه لإعادة تركيب اللحظات الدرامية التي عصفت به وهو يحاول الإمساك بحريته وحياته، في ظل أزمنة كانت تزداد قتامة. ويترشح منها الخوف والرعب والموت. بينما كان يتنقل بأسماء مستعارة بين بلدين تربطهما حدود مشتركة، ويخوضان حربا ضروسا امتدت لثمانية أعوام (1980 – 1988).

الأحلام في مواجهة الموت

وفي مدار استذكاره المشوِّق، يتوقف أمام موضوع الكتاب الرئيسي عندما قاده حظه العاثر ليسقط في أيدي رجال الأمن الإيرانيين. وهو يحاول اجتياز الحدود باتجاه الاتحاد السوفييتي. عند مدينة قوتشان التابعة لمحافظة خراسان رضوي الحدودية مع مدينة عشق آباد عاصمة تركمنستان السوفييتية. ليكون معتقلا في إيران للفترة من كانون الثاني/ يناير 1986 ولغاية شباط /فبراير1987، حيث قضى 240 يوما في سجن إيفين ومن ثم 125 يوما خلف جدران سجن قوجان. وهنا يقول منصور: «في سجن إيفين. وبينما أنا في عزلتي. صارت الأحلام مؤونتي الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. ولولاها لما تمكنت من الصمود، لكنني أستطيع القول إن حلمي المفضل آنذاك هو أن أمتلك قلما وقصاصات ورق. حتى أتمكن من تحصين الذاكرة لمواجهة العجز إذا ما اقترب من أسوارها حتى أنني دائما ما كنت أتساءل مع نفسي: هل سأخرج سالما من هذه المحنة؟».

العودة إلى الطفولة

قبل أن ينقلنا المؤلف إلى كوابيس تجربة السجن، يرتد عائدا إلى طفولته في مدينة كركوك العراقية، وهو يصغي إلى والده (1909 ـ 1998)الذي كان يحدثه عن انتسابهم إلى عائلة معمار باشي الموصلية المعروفة: «عشت حياة صعبة. فلا أتذكر والدي منصور بجو. لأنه توفي وعمري لا يتجاوز سبع سنين ولم أستوعب ما حدث» ثم يضيف والده: «لكني أتذكر والدتي شمّوني التي تنتمي لعائلة كوندا العنكاوية وصورتها لا تغيب عن بالي». ثم يأخذنا السارد إلى خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. ليتوقف عند العقد السبعيني، حيث بدأ الوعي إزاء الحياة يتشكل في ناحية عنكاوا في مدينة أربيل، التي انتقلت إليها العائلة بعد أن تقاعد والده من العمل في شركة النفط ipc. وهنا أخذت ذاته المتأججة باليقظة تتمرد على عسف السلطة، بعد أن رُفض قبوله في كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد لدراسة الإخراج المسرحي. لأن الدراسة كانت مقتصرة على البعثيين. فما كان منه إلاّ أن يعود إلى أربيل ليكمل تعليمه في معهد إعداد المعلمين ويتخرج منه عام 1974. ومن بعدها أخذ يتنقل متخفيا ما بين بغداد وكركوك، بعد أن رفض الالتحاق بالخدمة العسكرية. ويسرد سلسلة محاولات فاشلة محفوفة بالمخاطر للخروج من العراق بجواز سفر مزور، لكنه في آخر المطاف يتمكن من النفاذ بجلده ويصل إلى العاصمة السوفييتية موسكو، حيث بقي فيها ستة أعوام (1975 – 1981) بعد أن نال شهادة الماجستير في هندسة تكنولوجيا الطباعة، إضافة إلى دبلوم عال في الفلسفة. إلاّ أن قرار الحزب الشيوعي العراقي المفاجئ بوجوب مغادرة موسكو والالتحاق بحركة الأنصار المسلحة في جبال كردستان العراق. قطع عليه طريقه في إكمال دراسته لنيل شهادة الدكتوراه، وكان ذلك أيام الحرب التي كانت مشتعلة بين العراق وإيران.

    الفصل الثاني من الكتاب جاء مخصصا للحديث عن تجربته في تأسيس شبكة الإعلام العراقي، حيث تم تعيينه في الأول من آب/أغسطس 2003 مديرا لتلفزيون شبكة الإعلام العراقي. فيسرد لنا ما واجهه من تحديات ناجمة عن طبيعة ما أفرزته المرحلة الجديدة إعلاميا من متغيرات.

هروب مرة أخرى والوصول إلى كندا

ثم ينقلنا المؤلف إلى المرحلة التي عاشها في إيران بعد أن أُطلق سراحه من السجن ومن ثم زواجه من خطيبته الإيرانية وولادة طفله الأول. ومن ثم قراره بالهرب مرة أخرى من إيران في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1988 لأنه لم يكن يملك أوراقا ثبوتية رسمية تثبت شخصيته. وبعد مغامرة محفوفة بالمخاطر نجح في الوصول إلى مدينة تركمنستان السوفييتية ليوضع في مخيم للاجئين كان من بين أفراده معظم رفاقه من مقاتلي الأنصار. وبعد ثلاثة أشهر قضاها في المخيم تم تسفيره مع سبعة وخمسين من رفاقه في الثالث من كانون الثاني/يناير 1989 إلى العاصمة السورية دمشق وبعد محاولات وإجراءات عديدة حصلت الموافقة الرسمية على مغادرة زوجته وطفله إيران والتأم شمل العائلة في دمشق في الثاني عشر من شهر آذار/مارس عام 1989. وعلى الرغم من التأقلم مع حياتهم الجديدة في دمشق، إلاّ أنهم كانوا ينتظرون مصيرهم المرهون بيد السفارة الكندية، بعد أن قدموا طلبا اللجوء لدى مكتب مفوضية اللاجئين. وفي نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1989 تم قبولهم بصفة لاجئين مهاجرين إلى كندا وهنا يقول: «كان صباح الخامس عشر من شباط/فبراير 1990 غير عادي. كيف لا وهو اليوم الموعود الذي انتظرته طويلا كي نتخلص من حياتنا المؤقتة في العاصمة دمشق ونغادر إلى مدينة تورنتو الكندية، حيث آفاق المستقبل مشرعة أمامنا». وقبل أن يُنهي الفصل الأول من الكتاب يستعرض منصور طبيعة نشاطه الدؤوب في تأسيس ورئاسة الجمعية العراقية الكندية لحقوق الإنسان. وتحركاته خلال الفترة التي نال فيها الكرد الحماية الدولية في مناطقهم ومدنهم بعد غزو الكويت. وسعيه مع بقية القوى إلى تهدئة الصراع السياسي والعسكري الذي نشأ خلال منتصف تسعينيات القرن الماضي بين الحزبين الكرديين الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني.

تحديات إعلامية واغتيالات بعد عام 2003

الفصل الثاني من الكتاب جاء مخصصا للحديث عن تجربته في تأسيس شبكة الإعلام العراقي، حيث تم تعيينه في الأول من آب/أغسطس 2003 مديرا لتلفزيون شبكة الإعلام العراقي. فيسرد لنا ما واجهه من تحديات ناجمة عن طبيعة ما أفرزته المرحلة الجديدة إعلاميا من متغيرات. كلها اصطبغت بملامح الخلافات المذهبية بين القوى السنية والشيعية، لعل في مقدمتها عدم الاتفاق حول مسألة الأذان بين الطائفتين في الإعلام، إضافة إلى حالة الفوضى الأمنية التي كانت تسود العراق، وكان من نتيجتها أن تعرض عدد من العاملين إلى الخطف والاغتيال، في مقدمتهم المذيعة لقاء عبد الرزاق، كما تم اغتيال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة سرجيو دي ميليو عند تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد بتاريخ 19 أغسطس 2003. وتتالت عمليات الاغتيال لتطال زعماء دينيين مثل محمد باقر الحكيم بتاريخ 29 أغسطس 2003. وعقيلة الهاشمي عضو مجلس الحكم المؤقت في العاشر من شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه. ورغم ذلك فقد عمل على وضع دراسة لتنظيم الموارد البشرية والمادية والإدارية، وبعد أسبوع من العمل أصبحت ساعات البث عشرين ساعة يوميا. تضمنت برامج تعنى باهتمامات المشاهد العراقي، وهنا يوضح منصور وجهة نظره حول الإعلام: «لم تكن مهمة تأسيس إعلام عراقي حر ومستقل عملية سهلة. فقد تأسست الشبكة بقرار من الاحتلال. وحاولتُ جاهدا أن لا تتحول القناة إلى أداة دعائية لسلطة الإئتلاف. وأردتها أن تكون عراقية صرفة، إلا أن العوائق التي كانت تواجه عملنا ليست بسبب قلة الملاك المتخصص.. ولا الوضع الأمني المتردي.. والوضع المعيشي للملاكات، بل بسبب الحراس الأمنيين من شركة بلاك ووتر الأمريكية. إذ كانوا يتعاملون بخشونة غير معتادة وسلوك غير لائق ولا إنساني».
ويختتم سرده بالحديث عن دوره في تأسيس قناة «عشتار» الفضائية في النصف الثاني من عام 2005. كما أرفق في الصفحات الأخيرة مجموعة صورٍ ووثائق شملت أبرز المحطات التي سردها المؤلف. أما عن الغلاف الثاني لهذا الإصدار فقد تصدرته كلمة للروائي علي بدر جاء فيها: «هذه واحدة من أكثر السير بلاغة في التعبير عن الأحداث التاريخية العاصفة التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط».

كاتب عراقي

2
حفل توقيع كتاب "إيفين ..حفر في الذاكرة" للكاتب والأعلامي جورج منصور

مروان ياسين الدليمي
  بحضور نخبة من المثقفين والإعلاميين في إقليم كوردستان العراق أقام إتحاد الأدباء والكتاب السريان يوم الاربعاء 5 اكتوبر(تشرين الأول) 2022 حفل توقيع كتاب جديد بعنوان "إيفين ..حفرٌ في الذاكرة " للكاتب والإعلامي جورج منصور ، وقد جرت وقائع الحفل على قاعة المركز الأكاديمي الأجتماعي بمدينة عنكاوا في أربيل عاصمة إقليم كوردستان العراق ،  صدر الكتاب في بغداد خلال شهر أيلول سبتمر عام 2022 بالاشتراك بين داري نشر " الرواق والاهوار " ومن حيث التجنيس يعد ضمن كتب السيرة الذاتية ، حيث يسرد منصور تجربته المريرة التي مر بها في سجن إيفين الشهير في  إيران التي جرت وقائعها خلال النصف الثاني من  ثمانينات القرن المنصرم،بعد أن قضى  240 يوما في هذا السجن إضافة إلى  125 يوما في سجن قوتشان.
تخلل الجلسة التي تولى إدارتها الكاتب مروان ياسين الدليمي تقديم ورقتين نقديتين ساهم فيهما الروائي د. برهان الشاوي والناشط المدني عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي د. جاسم الحلفي، إذ تطرق الشاوي في ورقته إلى أهمية المغامرة السردية التي توغل فيها المؤلف،آخذا  الشاوي بنظر الاعتبار ندرة الكتابات التي تدخل ضمن كتب السيرة الذاتية في المكتبة العربية،لعدم توفر الجرأة لدى الكتاب في الكشف عن بعض التفاصيل التي تخص حياتهم ، ومن ناحيته فقد أضاء الحلفي في مشاركته جوانب كثيرة مما تناوله منصور في كتابه خاصة ما يتعلق بتجربة السجن والعمل المشترك ضمن صفوف حركة الأنصار المسلحة التي أسسها الحزب الشيوعي العراقي في ثمانينات القرن الماضي في إطار معارضته للنظام السابق  .
اعتمد منصور في تدوين مجريات حياته ووقائع تجربته الحافلة بالاحداث والمغامرات لغة سردية أنيقة إستبطن بمفرادتها عميق الهواجس والأفكار التي مرت عليه،قاصدا في أسلوبه أن يكون مستندا إلى تقنيات السرد الروائي،في محاولة منه لإعادة تركيب اللحظات الدرامية التي عصفت به وهو يحاول الإمساك بحريته وحياته في ظل أزمنة كانت تزداد قتامة ،ويترشح منها الخوف والرعب والموت،بينما كان يتنقل بأسماء مستعارة بين بلدين تربطهما حدود مشتركة،ويخوضان حربا ضروسا إمتدت لثمانية أعوام(1980 – 1988).
الروائي زهير الجزائري كتب كلمة التقديم لهذا الأصدار جاء فيها:"تلمستُ جسدي مرات وأنا أقرأ هذه الشهادة التي تقول لنا نحن القراء على لسان الكاتب: كنت هناك،في هذا الجحيم الأرضي،وهذه شهادتي، وهي شهادة الإنسان الذي يعزل وحيدا أمام حشد من الجلادين ، مهمتهم الوحيدة هي أن يُشعروا هذا الكائن الذي هو الأنسان في كل لحظة من حياته ، بأنه هش إزاء الألم المديد المتجدد الدورات والأشكال " .
أما الروائي علي بدر فقد كتب كلمة إزدان بها الغلاف الثاني جاء فيها:"يلتفت الكاتب خلفه ليرصد جانبا من حياة والديه وعائلته لنرى أن رحلة حياتهم كانت دائما مقرونة بالكدح والطموح والشقاء والألم " ويضيف بدر: " يتميز أسلوب الكاتب بلغة جزلة سلسة وعبارة رشيقة جاذبة مؤثرة ، مايجعل كتابه نفحة عذبة لاتنسى ".
ينقسم الكتاب إلى فصلين إضافة إلى المقدمة التي كتبها الجزائري ،شاء المؤلف في الفصل الأول أن يرتد الى منابع الطفولة في مدينة كركوك راسما صورة سردية عن طبيعة الحياة العائلية التي عاشها والديه في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي،ثم يتابع سرده مارا على فترة شبابه ومن ثم دراسته في موسكو ما بين 1975 – 1981 ،ثم الانتقال إلى صفوف حركة الأنصار في جبال كوردستان العراق،ومن بعدها تأتي تجربة  دخوله السجن في ايران إثر محاولة فاشلة لاجتياز الحدود باتجاه الاتحاد السوفييتي آنذاك .
الفصل الثاني تناول تجربته ودوره في تأسيس شبكة الاعلام العراقي وقناة العراقية بعد العام 2003 ،كذلك تأسيسه لقناة عشتار الفضائية عام 2005 .
شهد حفل التوقيع قبل ختامه مداخلات وأسئلة وتعقيبات طرحها الحضور ليجيب عليها منصور معبرا في ختام الجلسة عن تقديره لاتحاد الادباء والكتاب السريان للجهد الذي قدموه إحتفاء بكتسابه .

3
"ما تخيّله الحفيد" رواية جديدة للكاتب مروان ياسين الدليمي


ضمن الإصدارات الجديدة التي أعلنت عنها دار حكاية للنشر والتوزيع في المملكة العربية السعودية، رواية «ما تخيله الحفيد» للروائي  مروان ياسين الدليمي، وسيشهد معرض الرياض الدولي للكتاب في الأول من أكتوبر القادم 2022 بداية إطلاقها لتكون بين ايدي القراء ، وهذه الرواية هي الإصدار الثاني للمؤلف في إطار الكتابة السردية، بعد روايته الأولى «اكتشاف الحب» التي صدرت عن دار نينوى في دمشق، وتأتي التجربة الثانية لتعزز خيار المؤلف بالتصدي الفني للواقع، من خلال الاشتغال على تفكيكه وإعادة بنائه في منطقة التخييل السردي، وعبر بنية حكائية تدور أحداثها المركزية في سبعينيات القرن الماضي داخل مدينة الموصل العراقية، وأبطالها ينتمون إلى شريحة اجتماعية تنتمي في وعيها إلى الطبقة الوسطى، بكل حضورها الفاعل والمؤثر في مجتمع المدينة الزاخر بالجدل والصراعات السياسية.
من الناحية التقنية تتوالى على صياغة مسار الرواية السردي، وما يطرأ عليه من تحولات درامية مجموعة أصوات ساردة، ينطلق فعلها الارتدادي من الناحية الزمنية ابتداء من خمسينيات القرن الماضي، وينتهي عند السنوات الأولى التي أعقبت سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي عام 2003.
يطرح خطاب الرواية تساؤلات مغيّبة تتعلق بفترات زمنية ملتبسة من تاريخ العراق المعاصر، وتشكل النساء في هذا الإصدار الذي يتحرك في فضاء واقعي تخييلي العنصر الرئيس الذي تنتظم من خلاله حبكة الأحداث، حيث تتوزع أدوارهن المتنوعة في وظائفها ودلالاتها ما بين الجدة والزوجة والعشيقة، وهن يخضن صراعات تكتسب عناوينها من محركات اجتماعية وسياسية وعاطفية.
والرواية في بنائها الفني تعتمد على تقنية النص داخل النص، إذ يمنح المؤلف الأول الحرية للمؤلف الثاني، ممثلا بالحفيد، لينسج خيوط لعبته الزمنية، سعيا إلى إبراز شغف الإنسان بالحرية، رغم قساوة ما يحيطه من سلطات، لا تتردد في أن تمارس ضده أساليب مختلفة في القمع والتغييب عن الحياة.
الناقد العراقي حسن عبد الحميد كتب عن الرواية ما يلي: «لغة طيّعة وبارعة تماهت وتعالت بصحبة نسق سردي واضح وعميق، للحدّ الذي تعدى السارد فيها الكثير مما هو سائد في معماريّات الرواية التي درجنا على تلمس خيوطها، من دون الظفر بنتائجها على نحو يداني ملامسة شغاف اللهفة والإدهاش، بل التبّصر، حتى سيكون من المجحف أو المحرج – أيضاً- لو تناولنا هذه الرواية بمصفوفات أصواتها، وبراعة الصوت الواحد الذي هيّمن على الجو العام، بعد أن امتزج بالمخيلة وقدحات التوّقع، ولوامع الذكرى، التي رصفها السارد يونس وتاه في خضم مآسي هذه العائلة التي لم يرث منها – رغم صفاء ونقاء أفرادها- غير توالي النكبات. وكم كنتُ أتوق لو كان الروائي الحصيف قد منح الزمان ملكات البوح، شاهداً ونذيرا، ليقول ما أراد البوح به، كذلك الأمكنة التي ضاقت حدودها واقتصرت على جوانب من مآسي هذه العائلة، ليس فقط بسليمان وشكيب وغالب، والروح المقدّسة أمينة عبدالله، أعرف أن الحيّز ضيقاً جدا في تقييم عمل مروان ياسين الدليمي بهذا الخلط من الإشادة والإعجاب والحذر المضني من مس خوالج «ما تخيله الحفيد»، وما دار من حمم وتمنيات في دواخله، قد لا أكتفي ـ قطعاً ـ بما أوردتُ، فالعمل ناصع وكبير يستدعي وقفات، وبعض محاولات حصر الذهن، سعياً لقراءة ثانية».
سبق للمؤلف أن أصدر ثلاث مجموعات شعرية «رفات القطيعة» 1999، «سماء الخوف السابعة» 2010، «منعطف الوقت» 2015، إضافة إلى كتاب نقدي عن الرواية العربية بعنوان «تفكيك السرد» 2019، وكتاب عن السينما بعنوان «جاذبية الأفلام» 2022.

4
مقتل الفنان في غروره

 مروان ياسين الدليمي


 بدا المخرج غانم حميد في الجلسة النقدية التي نوقش فيها  العرض الذي قدمه في مهرجان المسرح العراقي المقام حاليا في بغداد والذي حمل عنوان ( the home ) في حالة غرور  لاتطاق ،حتى وصل به الحال الى ان وضع نفسه على درجة واحدة مع الانبياء ،وذلك عندما صرح وبطريقة منفعلة ( ستذكرون هذا العمل ، مثلما مازلتم تذكرون عملي الاسبق الهذيانات ، لانني نبي )
بتقديري ، هذا ادعاء ،وتطرف مبالغ به كثيرا ، يمكن قبوله من الساسة والجنرالات ومن على شاكلتهم من الموهومين بالعظمة، ولكن لايصح ابدا مع شخصية الفنان  .
ان اي مبدع في مجال عمله من الممكن ان يصيب بما يذهب اليه من افكار وتوقعات، ومن المكن ايضا  ان يكون بعيدا عن ملامسة الحقائق  ، حاله حال اي مفكر او باحث او محلل .
فأن يقارن غانم حميد  نفسه بالانبياء، هذا ليس فيه شيئ من الحكمة ابدا، ولن يضيف اليه بقدر ما ينتقص منه .
ويفهم من ادعائه النبوة، انه يسعى الى ان يسبغ على قناعاته صفة القداسة ، وكأنه يقول لنا : لن اسمح للاخرين ان يختلفوا معي او ينتقدوني ،فأنا فوق النقد والنقاد والجمهور .
وهنا يتحول الفنان الى دكتاتور صغير ، يمارس القمع على الاخرين بوعيه وارادته .
الفن ، مغامرة لاكتشاف العالم ، وقد تفشل هذه المغامرة او قد تصل بالفنان الى ماينشده من تطلعات جمالية وانسانية ،  والمهم في كلا الحالتين، ليس الفشل والنجاح، انما انجاز التجربة بذاتها .
عندما نستذكر اساتذتنا الكبار امثال سامي عبد الحميد الذي تقام هذه الدورة باسمه ، لم نسمع عنه يوما انه قال عن نفسه نبيا ، بل كان اول المنتقدين لنفسه ولتجاربه ، والشواهد على ذلك كثيرة .
 قبل ان يصيبنا الغرور ، يتوجب علينا ان نتذكر جيدا ، باننا مازلنا نعمل في الظل،رغم تجاربنا وتاريخنا الطويل، لاننا لم نقدم نظريات ولاتجارب يقتفيها المسرحيون في العالم المتقدم مسرحيا ،بل اننا مازلنا نقتفي ونقلد ونستنسخ ما يتم انتاجه في اوربا واميركا من عروض ونصوص وسينوكرافيا ، وبالامكان اكتشاف ذلك بضغطة زر في موقع اليوتب او في محرك البحث كوكل .
اما عن العرض الذي قدمه والذي اثار لغطا وموجة انتقاد شديدة ضده، لم يسلم منها ايضا (نص العرض) الذي كتبه علي عبد النبي الزيدي ، فعلى مايبدو ان الفنانة اقبال نعيم كانت محقة في منعه من العرض قبل عدة اعوام ، عندما كانت تتولى مسؤولية دائرة السينما والمسرح ، لانه شيطن محافظات بعينها وحمل مجتمعاتها مسؤولية الارهاب والموت الذي يجتاح العراق بعد العام ٢٠٠٣ .

5
كتاب نقدي جديد عن المسرح بعنوان( قيامة التأويل..التفكير الجمالي في الاخراج المسرحي) للكاتب مروان ياسين الدليمي .

الكتاب الجديد للناقد العراقي مروان ياسين الدليمي (قيامة التأويل..التفكير الجمالي في الاخراج المسرحي ) الصادر عن دار ماشكي للنشر والتوزيع في العراق ، يمكن عدُّه  دراسة تندرج في مسار البحث عن مناطق التجاوز والانفلات بعيدا  عن الاطر السائدة في فرادة التجربة المسرحية ، ومحاولات المبدعين في المشغل المسرحي الاخراجي ،خاصة في اوربا والعالم الغربي  عامة، تجاوز السائد في المفاهيم  سعيا لتأسيس علاقة جديدة مع المتلقي ،قائمة على الاختلاف والاشتراك في عملية الخلق اثناء التلقي .
 القسم الاول من الكتاب تناول موضوعات تتعلق باشكالية العلاقة بين المخرج والنص ، وانزياحاتها في المسرح المعاصر،ورمزية الجسد العاري في الرقص الادائي المعاصر ،وتماثل واختلاف العلاقة ما بين المسرح والاستديو .
اما في القسم الثاني من الكتاب فقد انشغل المؤلف في قراءة وتتبع اخفاق المسرح العراقي في ان يمأسس مشروعه التنويري ، وما قدمه المخرجون العراقيون الذين جاءوا بعد الرواد الاوائل في اطار نتاجهم المسرحي المحسوب على الاتجاهات الطليعية التي سادت في ستينات القرن الماضي .
اما في قسمه الثالث فقد تناول تجارب مسرحية محلية في بغداد ومدينة الموصل، متوقفا امام مجموعة من الاسماء التي حاولت ان تتجاوز قداسة المفاهيم الارسطية لدى الرواد الاوائل ، وبهذا السياق اخذنا في رحلة داخل الفضاءات التي اشتغلت عليها تلك الاسماء في محاولة منها لتحطيم قواعد اللغة القياسية في بناء التجربة المسرحية .
الكتاب في اطار دراسته  لموضوعة التجارب التي ارتبطت بالمسرح المحلي  توقف من الناحية الزمنية عند العام 2004 ، ولم يتجاوزها، وكان ذلك خياره المنهجي في تحديد عينة البحث .
جدير بالاشارة ان المؤلف قبل ان ينشغل في محترف الكتابة ، كان قد عمل طويلا في المختبر المسرحي مابين التمثيل والاخراج ، منذ النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي ، وفي العام 1984 نال شهادة البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد ، وفي اطار الكتابة الابداعية  سبق له ان اصدر ثلاث مجاميع شعرية (رفات القطيعة) 1999 ،(سماء الخوف السابعة) 2010 ، (منعطف الوقت) 2015 ، كما اصدر كتابا نقديا عن الرواية العربية بعنوان (تفكيك السرد ) 2020 ، ورواية سيرية بعنوان (اكتشاف الحب ) 2020 .

6

سبع سنوات على احتلال الموصل : تساؤلات الضحايا وأسرار لم تعد أسراراً
                                                           
مروان ياسين الدليمي


خلال الاشهر الخمسة الاخيرة من العام 2017 حرصت الحكومة العراقية على اقامة احتفالات رسمية بعد نهاية معركة الجانب الغربي(الأيمن)من مدينة الموصل ضد تنظيم دولة الخلافة (داعش )وخلف صورة الاحتفالات بالنصر ليس بإمكان الاطراف المشاركة في القتال إنكار أو اخفاء الادلة التي تؤكد على أن عملية ابادة جماعية قد ارتكبت بحق المدنيين،بسبب اخطاء كبيرة اقترفت اثناء تنفيذ عملية التحرير،وهناك شواهد كثيرة دامغة تشير اليها،ابرزها عشرات الجثث لضحايا مدنيين،جلهم من النساء والرجال والاطفال من سكان المدينة الاصليين،لم يكن لهم صلة بعناصر تنظيم داعش،تم التعامل معهم على انهم حواضن للتنظيم،بذريعة انهم لم يغادروا المدينة،بمعنى ان الحكم كان قد صدر عليهم مسبقا قبل البدء بعملية التحرير.
حكم مسبق
ان نظرة سريعة الى مواقع التواصل الاجتماعي قبل بدء عملية التحرير ستقدم لنا الكثيرمن الاصوات التي كانت تشيطن من تبقى من المدنيين في الموصل،ومن بين تلك الاصوات اسماء مؤثرة في الوسط السياسي الشيعي،بينهم من يرتدي عمامة رجل الدين،واخرين يتزعمون مليشيات، ولم يكن بعض القادة السياسيين والبرلمانين بمنأى عن هذه السياسة التي شيطنة الاف المختطفين المدنيين لدى تنظيم داعش ،حتى ان احد قادة الميليشيات قال بان"المعركة في الموصل ماهي الا معركة جيش الحسين مع احفاد قتلته " !!! ،وهنا يطرح سؤال :لماذا هذا الربط القسري التاريخي في قضية تحرير الموصل بكل تعقيداتها الدولية،مع حدث مضى عليه 1400 عام ؟
مايؤسف له في حينه انه لم يصدر اي رد فعل رافض من قبل الحكومة العراقية ازاء هذه التصريحات التي كانت تحشد البيئة الطائفية ضد الموصليين،وتحديدا ضد العرب السنة.
ملف مغلق
تحت ركام البيوت في مدينة الموصل القديمة مازالت جثث العديد من المدنيين مدفونة تنتظرمن ينتشلها ليدفنها رغم مرور خمسة اعوام على تحرير الموصل،( حيدر العبادي رئيس الوزراء الاسبق اعلن في 10 من تموز/يوليو 2017 عن تحرير مدينة الموصل بالكامل) يُلاحظ على الجهات الحكومية العليا في بغداد في تعاملها مع الملفات التي ترتبت عن تحرير المدينة - وهي كثيرة جدا -  كما لو انها لاتكتسب اهمية تتناسب مع حجم اضرارها المادية والاجتماعية والنفسية،وتبدو الجهات الرسمية المعنية قد ركنت ملف الموصل جانبا ما أن انتهى القتال فيها،وحتى الخطوات التي اتخذت في الفترة الاخيرة فهي تبدو خجولة بالقياس الى مايبنغي القيام به من مسؤوليات .
الابرز في هذا الملف انه ليس هناك من مؤشرات على ان الحكومة العراقية لديها النية او الاستعداد لأن تفتح ملف سقوط الموصل لمعرفة ملابسات هذه الكارثة،مع انها القضية الأهم، وربما لأن بين سطور الملف شخصيات رسمية عراقية عليها شبهات بتورطها في قضية سقوطها،سبق ان اشار اليها تقريرلجنة البرلمان العراقي التي شكلها،لمعرفة اسباب ماحدث،لكن التقرير تم غلقه،رغم ماجاء فيه من تشخيص لاسباب ونتائج السقوط.
قضايا تنتظر
هناك عديد القضايا الانسانية المهمة المتعلقة بموضوعة سقوط وتحرير الموصل وضعت في خانة النسيان،في مقدمتها ملف جثث المدنيين الذين مازالوا تحت الانقاض في المدينة القديمة اضافة الى ملفات اخرى مثل إعمار الابنية المدمرة،تعويض المتضررين بسبب الحرب،مئات النازحين في المخيمات،اضافة الى مئات المعتقلين من المدنيين العزل الذين تم اعتقالهم من قبل القوات الحكومية العراقية اثناء العمليات العسكرية،وبهذا السياق تشير المنظمات المعنية بحقوق الانسان الى ان عددهم يصل الى 3000 معتقل ولاأحد يعلم السجون التي تم ايداعهم فيها،خاصة وان الحكومة العراقية لم تقدم اجابة واضحة حول مصيرهم،رغم كثرة المطالبات التي وصلتها بهذا الخصوص من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية .
وراء تجاهل هذه الملفات هناك مصالح مشتركة بين اطراف محلية واقليمية ودولية،ولعل قضية الدمار "الممنهج" الذي تعرضت له المدينة في مقدمة هذه الملفات التي يتم تجاهلها،إذ تسعى هذه الاطراف الى التقليل من حجم الكارثة التي لم تشهد الموصل مثيلا لها منذ عشرات السنين،ولم تستطع الكوارث التي مرت عليها خلال عشرات السنين من فيضانات وغزوات واوبئة وجوع، أن تلحق بها ضررا كارثيا مثل الذي نتج عن الحرب الاخيرة لانها تسببت باختفاء عشرات المواقع التاريخية والحضارية والدينية عن الوجود من بعد ان تحولت الى انقاض . 
تبلغ مساحة  الجانب الأيمن من الموصل 40 % من المساحة الاجمالية للمدينة بجانبيها،ويضم اكثر من نصف الاحياء السكنية للمدينة،إذ يبلغ عددها 99 حيا ومنطقة سكنية من اصل 183 . 
احصائيات حول الكارثة
في منتصف شهر يوليو(تموز)  2017نشرت صحيفة الاندبندت البريطانية تقريرا لمراسلها في الموصل(باتريك كوبيرن) حول نتيجة العمليات العسكرية في الجانب الغربي(الايمن)والتي كانت قد بدأت بتاريخ الاحد 19 فبراير (شباط) 2017 وانتهت بتاريخ الاثنين 10 يوليو(تموز) 2017، وجاء في التقرير معلومات عن سقوط اكثر من 40 الف قتيل بين صفوف المدنيين العزل(نساء ورجال واطفال)واعتبرته الصحيفة "من بين اكثر حِصارات المدن في تاريخ العالم قتلى" كما وصَفَت في حينها صمت العالم تجاه ذلك بأنه "مخجِل " . ويمكن الاشارة بهذا السياق الى ان من مجموع  23الف وحدة سكنية تضمها المدينة القديمة تم تدمير 11 الف وحدة سكنية بشكل تام، وماتبقى لم يعد صالحا للسكن بسبب الدمار الكبير الذي لحق بها ، حسب ما اشارت تقارير ميدانية ،كانت قد اعدتها جهات رسمية عراقية اضافة الى منظمات دولية .
الاهمية التاريخية
في ما لو عدنا الى المصادر التاريخية لمعرفة الاهمية التي تختزنها هذه المساحة الجغرافية الصغيرة(مدينة الموصل القديمة)سنجد بانها كانت تضم على سبيل المثال اكثر من 50 مدرسة دينية ملحقة بالجوامع والمساجد ، اسسها تجار وعلماء وحكام الموصل ،على مدى قرون ،وكان ذلك مدعاة فخر لمن كان يتحمل مسؤولية تاسيس مدرسة،وقد استمر عمل المدارس ولم يتوقف حتى سقوط المدينة تحت سلطة داعش في 10 يونيو(حزيران)2017 ، وبعض تلك المدارس استمر بالعمل سرا حتى اثناء حكم داعش،وكان قسم منها يحظى بشهرة كبيرة بين اوساط الدارسين نظرا لما لعبته من  دور مهم في نهضة المدينة من الناحية الثقافية.وتشير المراجع التاريخية الى ان بعضها يعود تأسيسها الى القرن  الحادي العاشر الميلادي  مثل مدرسة(جامع العمرية)في محلة الشيخ محمد،حيث تم انشاءها عام 971 م من قبل قاسم العمري بن حسن ،الذي يعد جد الاسرة العمرية في الموصل. ومدرسة(جامع خزام) في محلة خزام بُنيت عام 1107 م وتولى في ما بعد الشيخ ابو الهدى الصيادي تحسينها في زمن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.وقد تخرج مئات الطلبة من هذه المدارس بعد ان تلقوا فيها دروسا في علوم الدين الاسلامي.ومما كانت تتسم به ايضا احتواءها على مكتبات ضمّت مؤلفات ومخطوطات نادرة في الطب والأدب والفلك والنحو.وعلى سبيل المثال فإن مكتبة الاوقاف العامة كانت تضم قبل تدميرها مئات المخطوطات النادرة التي لم تُحَقَّق بعد،ومعظم هذه المخطوطات كان اهالي الموصل قد اوقفوها في المكتبة.
شريان اقتصادي
من الناحية الاقتصادية فإن الموصل القديمة كانت المركز التجاري الذي تتواجد فيه العائلات الثرية المؤلفة من طبقة التجار وملاك الاراض الزراعية،ولهذا كانت بمثابة القلب الذي يمد بقية اعضاء الجسم بنسغ الحياة ليس لعموم محافظة نينوى فقط إنما لبقية مدن العراق الاخرى، إذ تتواجد فيها المخازن والاسواق الرئيسة لكبار التجار والتي كانت تحوي كافة المواد التي يحتاجها السكان من اغذية وملابس وادوية واجهزة كهربائية اضافة الى سوق الاوراق المالية والذهب والحديد والجلود والاخشاب،وهي على تلك الصورة كانت تعكس هويتها المحلية وخصوصيتها التي تنفرد بها عن بقية مدن العراق،ووصل عددها الى اكثر من30سوقا شهيرا ابرزها:سوق باب الطّوب،سوق هَرَج،سوق العطّارين،سوق باب الجسر، سوق العَتمَة(الظلمة)،سوق الكوَّازين..الخ.
اهمية هذه الاسواق تأتي من موقعها الجغرافي إذ تقع في وسط المدينة ، وحولها تتجمع معظم المؤسسات والدوائر الحكومية،من مصارف وبنوك، وقد اكتسبت اسمائها من اكثرية المهن التي تتواجد فيها.
من جانب آخر كان هذا الجزء من الموصل يحتوي على 20 مؤسسة حكومية،بضمنها سبع مستشفيات كبرى،في مقدمتها المستشفى العام والمستشفى الجمهوري مع 15 مركزا صحيا اضافة الى مبنى كلية طب جامعة الموصل،التي تعد من اعرق الكليات في العراق،ويعود تاريخ تاسيسها الى 14 يوليو(تموز) 1959.وفي ما لو اتيحت لإي زائر ان يتجول في هذه الاماكن بعد تحريرها سيصاب بصدمة،لأنه سيقف امام صورة مرعبة انتهى اليها هذا التاريخ الاجتماعي والحضاري ،ولم  يبق من تلك الصروح الدينية والعلمية والثقافية والصحية و التجارية مايشير الى انها كانت موجودة في يوم ما، نتيجة للقصف المدفعي والصاروخي العشوائي الذي كان ينهال عليها من قبل جميع الاطراف المتحاربة،حيث تشير تقارير سبق ان نشرتها مصادر رسمية لقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الاميركية الى ان عدد القذائف التي سقطت عليها وصل الى(29  )الف قذيفة،كان قد اطلقها الطيران الاميركي خلال معركة تحرير الموصل ،منها4))الاف قذيفة فقط سقطت على  الموصل القديمة .
استبعاد المنظمات الدولية
إنَّ ما يؤكد على أنَّ هناك جريمة ابادة جماعية قد ارتكبت في محيط الموصل القديمة هو اصرار حكومة العبادي ومن جاء بعده الى منصب رئاسة مجلس الوزراء على ان لاتوجِّه الدعوة الى المنظمات الدولية المختصة للمشاركة في عمليات رفع الانقاض وانتشال الجثث من تحتها، والاكتفاء بجهود فريق دفاع مدني محلي من داخل الموصل يفتقر في عمله الى المعدات الحديثة هذا اضافة الى نقص الخبرة لمثل هذه العمليات،مع ان حجم الدمار الهائل يقتضي ان تتظافر لاجله جهود دولية وان تخصص له اموال ومعدات تتناسب وحجم الكارثة.
اين حرب الشوارع ؟
ومع ان عناصر تنظيم دولة الخلافة الذين كانون قد تحصنوا في بيوت وازقة الموصل القديمة لم يتجاوز عددهم 500 مقاتل حسب تقديرات الخبراء والمراقبين للمعركة،إلاّ ان القيادة العسكرية العراقية لم تلجأ الى اسلوب حرب الشوارع كما فعلت قوات مكافحة الارهاب العراقية عندما باشرت في تحرير الجانب الأيسر(الشرقي)من الموصل بتاريخ 16اكتوبر (تشرين الاول) 2016،وبدلا عن ذلك لجأت الى تكثيف القصف الصاروخي والمدفعي العشوائي، قبل بدء عملية التحرير واثناءها، مضحية بحياة مئات المدنيين مقابل عدد محدود من العناصر الارهابية الذين كانوا يتواجدون فيها.
هناك الكثير من علامات التعجب التي توضع في معركة الموصل القديمة تتعلق باصرار من كان يدير المعركة على ان يفرض عليها طوقا عسكريا محكما،بما لايمنح عناصر تنظيم داعش فرصة الخروج وتسليم انفسهم، وهذا يعني توفر الاستعداد للتضحية بالمدينة وسكانها المحتجزين،في مقابل القضاء على انفار معدودين من الارهابيين .
بكل الاحوال فإن المنطق الانساني وكذلك العسكري لايمكن ان يقبل اية مبررات لشرعنة النتائج الكارثية التي دفع ثمنها مئات  المدنيين العزل.
تجريف المعالم المعمارية
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها اصحاب رؤوس الاموال من التجار واصحاب الاملاك في اعادة بناء جانبا مهما من الاسواق التقليدية في الموصل القديمة ،إلا انه من غير الممكن ان تعود الحياة اليها  كما كانت قبل تدميرها ، وحتى لو افترضنا توفر النية باعادة بناء المدينة من جديد ،فإنها لن تعود كما كانت عليه بنيتها الاقتصادية والمعمارية ،التي حافظ عليها اهلها لعشرات السنين من غير ان يكون لديهم الاستعداد لتحديثها، ذلك لانها كانت تمثل شخصيتهم المحلية،خاصة بعد ان ارتكب المحافظ الاسبق نوفل العاكوب(مسجون حاليا بتهم فساد مالي واداري) جريمة تجريف منطقة القليعات المطلة على نهر دجلة والتي كانت تمثل ابرز شاخص معماري في الموصل القديمة ،وهذه الرقعة الجغرافية الصغيرة من الجانب الايمن في مدينة الموصل كانت تمتاز بكثافة سكانية عالية تصل الى اكثر من 250الف نسمة،وعمرها يعود الى مئات السنين قبل الميلاد،إذ سبق أن اشار المؤرخ( زينوفون) لدى زيارته للمنطقة عام 401 ق.م. بوجود بلدة تحت اسم(مپسيلا)حسب اللفظ اليوناني في نفس موقع الموصل الحالي،إلاَّ ان هذه البلدة لم تعد اليوم موجودة بعد ان تحولت الى انقاض ودفنت معها اسرار سقوطها تحت سلطة تنظيم دولة الخلافة،ومن ثم تمت عملية ذبحها من الوريد الى الوريد  .

7
مسالخ الطب في العراق

مروان ياسين الدليمي

لفترة زمنية زادت عن خمسة اعوام ، اصبحت لي تجربة شخصية في مراجعة عيادات الاطباء الخاصة والمستشفيات الاهلية ، اضطررت اليها بعد ان تدهورت بشكل مرعب احوال المستشفيات الحكومية بعد العام ٢٠٠٣ . بامكاني ان اقول عنها ، من غير ان اتجنى على احد ، بانها تجربة تجرعت فيها طعم المرارة ، إذ تركت في داخلي افكارا سلبية ، اختلطت مع مشاعر الغضب والكراهية، ازاء ما اصبحت عليه مهنة الطب في العراق ، فقد تحولت هذه الاماكن في آليات عملها ومنهجها في التعامل مع المريض الى مايشبه المسلخ ، حيث لايسمع في اركان عياداتها وصيدلياتها ومختبراتها ، اي صدى للقسم الانساني العظيم الذي ردده جميع الاطباء يوم تخرجهم ، فأنت لن تجد فيها اثرا للرحمة والرافة ، في اجرة الاطباء وفي فواتير الادوية والمختبرات .
وسينعقد لسانك من اثر الصدمة ، وانت ترى الاحتيال ، قد نال من تفكير اغلبية الاطباء ، بدل المصداقية ، فالمهم بالنسبة لهم ، ان يرغموك على ان تراجعهم اكثر من مرة ، وان تجري جملة فحوصات مختبرية كلما راجعتهم ، وبذلك لن تفلت من قبضتهم ، الا بعد ان ينفضوا من جيوبك ما تحمله من مال ، كنت قد جمعته بشق الانفس .
اسمع قصصا كثيرة من اصدقائي الذين يعيشون في الغرب ( الكافر) ، واكاد لا اصدق ما اسمعه منهم ، حول عظم المسؤولية التي تتحملها الدولة في رعاية مواطنيها من الناحية الصحية ، فلا اجد نفسي إلا وانا اشعر بالغيرة مما يلقاه الانسان هناك من رعاية وتقدير لحياته ، وعندما اقارن ذلك ، بما نواجهه من مشاق ، اذا ما اصابنا مرض ،لا استطيع ان امنع نفسي من كيل سيل من اللعنات على تلك اللحظة القدرية التي جعلتني اولد في بلد يدعي متفاخرا في دستوره بانه بلد مسلم ، وكنت ارجو ان يحالفني الحظ، واولد في بلد محسوب من قبلنا "نحن الشعوب المؤمنة " في خانة الكفر والالحاد والسقوط الاخلاقي .
لن اكون مغاليا عندما اقول بان السنين التي سبقت سقوط الدولة عام ٢٠٠٣ ، كانت الدولة متكفلة بتقديم اغلب الخدمات لجميع المرضى ، وباجور رمزية ،لان كل المستشفيات كانت حكومية.كما حرصت الدولة على بناء المراكز الصحية والعيادات الشعبية في جميع المناطق السكنية ، في المدن والارياف.
اعلم جيدا ان البعض سيهز راسه ويضحك ،لانه قد اكتشف الدافع "الخفي والمسموم " لكلامي هذا ، وسيقول ملتفتا الى من يجلس الى جانبه :" واضح ان الأخ ، مضغوط طائفيا من النظام الجديد ، ومايزال يحن الى ايام البعث الكافر " .
بكل الاحوال لاجدوى من الرد على هؤلاء .
نقابة الاطباء والصيادلة ووزارة الصحة العراقية في بغداد وفي اقليم كوردستان ، هل ستبقى ملتزمة الصمت ، ازاء ماوصلت اليه الاوضاع من جشع لايليق بمهنة انسانية في شكلها وجوهرها ؟
الخلاصة ان بقاء الحال على ماهو عليه ، هذا يعني ان ملايين البشر من الفقراء اذا ما اصابهم مرض مزمن، عليهم ان ينتظروا ساعة موتهم في بيوتهم ، طالما فرصة العلاج متاحة للاغنياء فقط .
عندما انتهيت من كتابة افكاري" المسمومة " نظرت الى عقارب الساعة ،وكانت تشير الى ٤١ : ٥ صباحا .

8
يقظة الروح امام كوكب من الانقاض
مروان ياسين الدليمي
صديقي الرسام العراقي المغترب في مدينة لايبزك الالمانية" حسن حداد " لم تجعله انشغالاته الكثيرة لتاكيد حضوره الفني في المغترب الاوربي ، منقطعا عن صلات عميقة ، كانت قد جمعته بحيوات وامكنة  في موطنه الاول  ، ورغم انه من مواليد قضاء " بلد"  شمال بغداد، وقضى شطرا كبيرا من حياته في العاصمة العراقية اثناء وبعد دراسته للرسم الصناعي في كلية الفنون الجميلة ، الا ان علاقته مع مدينة الموصل اتسمت بقدر من الخصوصية ،  حيث دونت سطورها المؤثرة في ذاكرته ،صداقات قوية ارتبط بها مع عدد من  الفنانين الشباب القادمين من  مدينة الحدباء(ام الربيعين) وكان ذاك  ايام دراسته في كلية الفنون الجميلة بمنتصف ثمانينات القرن الماضي ، في مقدمتهم الفنان الراحل ريسان رشيد ، الذي كان الاقرب إليه ، نظرا لما كان يتمتع به من حضور شخصي آسر ، على المستوى الانساني ، فقد  كان يتسم بحس فطري عال في  اكتشاف المفارقات الكوميدية ، في مشاهد وشخصيات عابرة ، غالبا لاينتبه اليها اغلبنا،  كما يملك من المؤهلات التأليفية والتشخيصية ماتمكنه من اعادة صياغتها وسردها شفاهيا بطريقته الخاصة، فيضفي عليها لمسته المعبأة بروح السخرية ، من بعد ان يمنحها ملامح مغرقة بظرافة الروح، التي عادة ما تمتاز بها الشخصيات في المناطق الشعبية.
 ماجرى لمدينة الموصل من فصول تراجيدية،خلال الاعوام التي سقطت فيها تحت سلطة تنظيم الخلافة ( داعش)  تمكنت من ان تنتزع منها  تاج الجمال، الذي تربع على راسها  دونا عن بقية مدن العراق طيلة تاريخها الموغل في القدم ، وخلفت  في روح حسن حداد جرحا مؤلما ، من بعد ان ايقظت  في ذاكرته اياما جميلة قضاها في ربوعها ، بصحبة زملائه واصدقائه ( بولص آدم  وريسان رشيد  وعبدالرزاق ابراهيم ) لم تستطع سنوات الغربة ان تطمس ملامحها ، وحتى تلك التفاصيل التي شهدتها ساحات التدريب العسكري اثناء اداء الخدمة العسكرية الالزامية في معسكر الغزلاني، استحالت في  حواره معي عبر الواتس اب  قبل يومين ، الى شحنة مشبعة بالنوستالجيا، فذهبت به استذكاراته ، صوب ضفاف قصية ، امست بعيدة المنال ، تراصفت فيها موجات شفيفة  من الضحك والشوق ، لمشاهد تجلت فيها روح  السخرية ، ونزعة ميالة الى  التمرد والعبث ، في زمن موحش  ، كانت تعصف فيه الوشاية والاشاعات والحروب، وكانت تشحن من ساحات التدريب  قوافل الشباب الى خنادق القتال والموت .
ما كان ممكنا ان يستدير  صديقنا حسن حداد بوجهه عن الموصل ، من بعد ان استحال الجمال فيها الى خراب ،فإذا به يجد نفسه يعمل منذ وقت مبكر ، وبشكل متزامن مع دورة ماكان يجري في دروبها  من احداث قتالية عنيفة ، على انتاج مجموعة من اللوحات ،استوحى افكارها من نكبتها ، في اطار مشروع فني ، يسعى لانجازه في قابل الايام، يأمل ان يتوج  بمعرض خاص ، يلامس فيه وجعا دفينا  يرقد تحت انقاض بيوتات الموصل القديمة ، رغم انه لم يعش فيها ، لكنه ، مر بها ، وتأمل جدرانها ، واستظل بها ، وتلمس بانامله حيطانها الجصية ، وهذا يشير الى ان  السنين التي تراكمت في مسارات غربته ، لم تتمكن من ان  تمحو  ماكانت تلقطته اذناه من اصوات شجية بلكنتها الموصلية المميزة، عندما كان يقطع الازقة القديمة مع اصدقائه ، ايام كان الوطن كوكبا متخيلا ، من اوهام المحبة والوحدة والانسجام ، قبل ان تنهار كلها ، دفعة واحدة ، لنستيقظ على انفسنا ،ونحن نقف امام تل من الانقاض .

9

 النائب الاسبق جوزيف صليوه:هنالك جهات متنفذة تقف وراء محاولات هدم سور نينوى التاريخي
مروان ياسين الدليمي
وصف عضو مجلس النواب الاسبق جوزيف صليوه،عملية تجريف سور نينوى التاريخي بأنها “كارثة حقيقية وجريمة ترتكب بحق آثار نينوى”.وجاء ذلك  خلال مؤتمر صحفي عقده صباح يوم الاثنين 22 اذار/ مارس 2021 ،قرب سور نينوى الأثري، واضاف صليوه إن هناك محاولات لتغيير ديموغرافي تستهدف الموصل وأهلها،كذلك تستهدف تدمير آثار نينوى وتاريخها،وهنالك جهات متنفذة تقف وراء هذه القضية ،منها مجاميع مسلحة. ثم ناشد صليوه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بإيقاف ما يحدث من جرائم بحق آثار نينوى. اما في ما يتعلق بتعويض مالكي الأرض المجاورة للسور،والتي سبق ان اقامت عليها بلدية الموصل شارعا في مطلع ثمانينات القرن الماضي ، قال صليوه،إنه يمتلك وثائق تثبت أنهم استلموا التعويض وسيقدمها للجهات المعنية.وحذر الحكومة العراقية من تجاهل ما يحدث، مهدداً بأنه سيلجأ الى الجهات الدولية لمنع ما يجري.
يذكر أن دائرتي الآثار والبلدية قامتا بسحب الآليات من موقع التجريف إلى جهة مجهولة، قبيل وصول النائب السابق جوزيف صليوه إلى موقع السور .كما حاولت قوة أمنية منعه من ان يعقد مؤتمره في موقع السور .
يذكر بهذا السياق ان الاصوات تصاعدت في مواقع التواصل الاجتماعي خلال الايام القليلة الماضية ، مطالبة وزارة الثقافة العراقية بالتدخل لايقاف عمليات التجريف التي طالت سور نينوى التارخي الذي يعود الى الحضارة الاشورية، بعد ان اعلنت محافظة نينوى عن نيتها افتتاح شارع جديد بمحاذاة السور.
ومن جانبها اعلنت وزارة الثقافة والاثار والسياحة عن تشكيل لجنة تحقيقية عليا لتقصي الحقائق ، ومعرفة حقيقة ماجرى . وبناء على ذلك وبتكليف من وزير الثقافة د. حسن ناظم ، زار النائب الاسبق جوزيف صليوه مفتشية اثار نينوى الكائنة  في موقع السور ذاته،والتقى بنائب المدير وعدد من الموظفين ، واستمع الى مالديهم من معلومات حول القضية. بعدها تجول صليوه في الموقع للاطلاع ميدانا على حقيقة ما تم تداوله من اخبار وصور في مواقع التواصل الاجتماعي حول مايجري من حفريات عند السور، والاضرار التي لحقت به . ثم عقد مؤتمرا صحفيا ،بحضور عديد القنوات الفضائية ،وكشف صليوه عن ان الجهود الجماعية التي بُذلت من قبله بالتعاون مع عدد من ابناء المحافظة ، لمنع اي تجاوزات على الاثار،اثمرت كخطوة اولى عن تشكيل لجنة عليا من قبل وزارة الثقافة والاثار والسياحة العراقية ،وبايعاز من السيد وزير الثقافة بهدف كشف الحقائق، وايقاف اي عمليات قد تلحق ضررا باثار مدينة نينوى التاريخية ، وبموجب ذلك اصدر وزير الثقافة امرا الى الجهات الرسمية في محافظة نينوى،بايقاف كل الاعمال التي تجري بالقرب من السور ، بما في ذلك الشارع الجديد التي كانت محافظة نينوى عازمة على انشائه ، بديلا عن الشارع القديم الذي يبعد مسافة 25 مترا عن سور نينوى،بعد ان استطاعت  احدى العائلات ان تقدم اوراقا رسمية امام الجهات القانونية تثبت ملكيتها للارض التي اقيم عليها الشارع القديم. ولاجل ان تتجنب محافظة نينوى دفع ثمانية مليار دينار مبلغا تعويضيا،مقابل ان تتنازل العائلة عن الارض، فضلت ان تقيم شارعا جديدا محاذيا للسور،إلا ان ردود الافعال الغاضبة التي عكستها مواقع التواصل الاجتماعي ، للعديد من المثقفين والناشطين ، اضطرت الجهات الرسمية في محافظة نينوى ،الى ايقاف كافة عمليات الحفر التي تجري بجانب السور ، الى ان تخرج اللجنة التحقيقية بتقريرها النهائي .     



10
تساؤلات حول الوجود الانساني  في رواية"اكتشاف الحب "للكاتب مروان ياسين الدليمي


                                                             
بيات مرعي

"ليس شجاعة مني،بل هو شعور اقرب الى الانهيار كان قد دفعني الى ان امارس الخديعة ضد احساس مؤلم بات يسحلني الى حيثما يريد ، ما أنْ ظهرت زوجتي خارجة من غرفة الفحص الخاصة بجهاز السونار وهي تحمل بيدها الصورة الاشعاعية، لحظتها انتبهت الى شدة احمرار عينيها، وكأنها كانت تبكي طيلة يوم كامل وبدت عاجزة عن السير فاحتويت كتفيها بذراعي اليسرى وجعلتها تستند عليّ حتى تتمكن من السير ، ولمَّا سالتها عن النتيجة ردَّت بصوت واهن يقطعه صوت بكائها ـ يوجود ورم صغير جدا، ولكن لا يعرف ما إذا كان خبيثا ام حميداً وهذا ما سيحدده الطبيب المختص " .
استعادة الواقع
لا شك في أن(القدرة التخييلية)على استرجاع الواقعي تجرنا في بعض الأحيان إلى الإحساس بهذا الواقعي الذي ولَّى ومضى وكأنه حقيقة نراها الآن ونشعر بها ماثلة في أذهاننا، بينما هي في الحقيقة منطقة موجودة في اللاوعي تبدو وكأنها ذات قدرة على التشكل والتلون والظهور مرة أخرى بمظهر مغاير لما كان يدور في المخيلة وأن محاولة استعادتها مرة أخرى، ومعاودة استرجاع أحداثها التي مرت عليها سنوات طويلة، تجعل التلاحم بين الواقعي والمتخيل، مؤسساً لواقع جديد،هو لا شك واقع إبداعي آني له آليته الخاصة،قد يختلف عن الواقع الواقعي في أنه مشحون برؤية فردية أو جماعية خاضعة لقوانين المكان والزمان في شكلها الذي ينتسب إلى التجربة الروائية في كثير من الأحيان …
في رواية اكتشاف الحب الصادرة عام 2020 عن دار نينوى في دمشق ، هناك حزمة هائلة من الاحداث والمواقف يلملمها من ذاكرة متعبة ومثقلة برفوف الهم ، الكاتب مروان ياسين الدليمي يضعها أمام القارئ في بناء روائي متقن وسرد تفصيلي يجعل من متناولها قرائياً ليس بمقدوره التخلي عن سطر واحد ، ذلك البوح الذي طغى عليه حزن عميق وقلق وترقب يجعل من المتلقي مشدودا كل الشد لمتابعة حدث بعد الأخر ، مستعيناً الكاتب ومعتمداً في سرده للأحداث على الذاكرة، والذاكرة التي حاول مجتهداً من التركيز وإمساك بخيوط حبكته وعدم الانجرار خلف حالة النسيان والخلط التي ممكن ان تتعرض لها ومن المؤكد أن الذاكرة لا تنسى فقط، ولكنها قد تخدع أحياناً فتختلط الأسماء والأزمان والأماكن، منتهجاً سرد لا يخلو من واقعيته إلا أنه راح أيضاً باتجاه سرد خيالي صرف في أغلب الأحيان من خلال إسترجاعات عديدة ومتشعبة للزمان والمكان معاً، في تفحص للذات ومراجعتها ومساءلتها مع التركيز على واقعه الداخلي وواقع شخصياته …
ورغم ان الرواية جاءت وانطوت على الكثير من الوقائع والأحداث الذاتية الصريحة التي لا سبيل لإنكارها لتشكل علاقة من نوع خاص،تكشف عنها حتى عناوين فقرات الرواية بدءاً من عنوانها الرئيسي (اكتشاف الحب) فالحب هنا يشتغل بقوانين أخرى غير التي نعرفها وغير السائدة في العموم انما حالة استثنائية لها من الخصوصية الشيء الكثير حتى لو تشابهت في بعض مفاصلها مع حالات أخرى لكنها تبقى في خانة الإستثناء.
الشخصيات :
تحتل الشخصية مكانة مهمة في بنية الشكل الروائي، فهي من الجانب الموضوعي أداة ووسيلة الروائي للتعبير عن رؤيته، وهي من الوجهة الفنية بمثابة الطاقة الدافعة التي تتحلق حولها كل عناصر السرد، على اعتبار أنها تشكل المختبر للقيم الإنسانية التي يتم نقلها من الحياة، ومجادلتها أدبياً داخل النص، لدرجة أن بعض المهتمين بالشأن الروائي يميلون إلى القول بأن الرواية شخصية، بمعنى اعتبارها القيمة المهيمنة في الرواية، التي تتكفل بتدبير الأحداث، وتنظيم الأفعال، وإعطاء القصة بعدها الحكائي، بل هي المسؤولة عن نمو الخطاب داخل الراوية باختزاناته وتقاطعاته الزمانية والمكانية . في رواية(اكتشاف الحب) تمر على القارئ العشرات من الشخصيات ولكن تبقى الشخصيات المحورية المتمثلة بالراوي العليم والزوجة وما جاء معهما كان لهما مروراً استوجب حضورهم لتكملة أنساق الرواية وبذلك التركيز على الشخصيتين المحوريتين أعطى الرواية تماسكاً واضحاً في بينيتها وفي مسارات الأحداث وجعل شداً قرائياً لا يمكن الإفلات منه بسهولة …
وبما أن الرواية تهدف إلى تجسيد المعاني الإنسانية فمن الطبيعي أن تكون الشخصية هي محورها، فالرواية ليست حياة حقيقة بل حياة نصّية توازيها وتمثّلها، وبالتالي فإن الواقع شكل المصدر الأكبر للكاتب لالتقاط شخصياته الروائية وببراعة وبحرفية استطاع ان يجعل معادل موضوعي متوازن ومهم بين الحقيقة كشخصية وبين الكتابة عنها بما يتوازى معها ويمثلها … بمعنى تمديد الشخصيات تحت لمسات الروائي المضيئة لإعادة إنتاجها وفق مقتضيات العمل الروائي .
لقد قدم الكاتب شخصياته لتظهر في الرواية بوصفها علامات لها هويات وأبعاد تحددها الأدوار التي تقوم بها كل شخصية، بحيث تكون متناغمة في خطابها السردي الذي سيؤسس النص كاشفا عن تحوِّل الأفراد إلى ذوات أثناء الممارسة التأويلية لمفاهيم مثالية عديدة من الصبر والتفاني وقدرة تحمل والأمل … وظل الكاتب ممسكاً بخيوط لعبة الكتابة من وسط عصاه في تبني هذه الصفات وتناوبها بين الشخصيتين الرئيسيتين فكلما فكت خيوطها يد الشخصية الأولى نجد قد أمسكتها يد الشخصية الأخرى وهذا التجاوب جعل أنفاس الكاتب متجددة حتى آخر سطور الرواية . مع الحفاظ على المفهوم الأدبي والمعيار الجمالي .
الزمان والمكان :
يعد عنصرا الزمان والمكان من أهم تقنيات السرد التي تشكل فضاء الرواية، فعلى نبضات الزمن تسجل الأحداث وقائعها، وفي حيز المكان تتحرك الشخوص، وفي إطار اللغة ببعديها المكاني والزماني يتألف النص السردي.
لعب المكان في رواية(اكتشاف الحب)دوراً وظيفياً واضحاً وشغل حيزا بارزا في الرواية واتخذ معاني ودلالات ورموزاً متنوعة، ارتبطت بمراحل الصراع بين حاضر الشخصيات التي جعلت حالة الاضطرار ليعيشوا محنة التهجير بسبب الأوضاع السياسية الرديئة للبلاد لما تشهده الأحداث وتحديداً مدينة(الموصل)الموطن الأصلي للشخصيات المحورية في صعوده وهبوطه أثناء احتلال ما يسمى بتنظيم الدولة الاسلامية للمدينة وانقطاع سبل التواصل مع الداخل .
ويمكن القول إن ثنائية محورية أساسية هي(الأنا والآخر) كما تقوم الرواية على ثنائية الزمن المتمثلة في الحاضر البائس والماضي القريب المنقطع السبل للوصول اليه سوى عبر استذكاره في حضور مشهدي روائي يستحق الوقوف عند تفصيلاته ومقاربته،والتماهي مع دلالاتها والكشف عن جماليات سردها وأبعادها النفسية من خلال عنصرين مهمين من عناصر تشكيل رواية وهما الزمان والمكان …
ففي كثير من الأحيان تجري الاحداث على أرض تلك المدينة التي ما زالت حاضرة في وجدان الشخصيات ، قراها وشوارعها وأحيائها وبيوتها. والتي شكلت في مسار الأحداث أرضاً أخرى لا يستطيع الاقتراب منها إلا عن طريق فتح أبواب الذاكرة واسترجاع لماضي يشكل عمقاً للحنين له..هذا الاسترجاع مثل الخلفية المكانية التي أضفت على الشخصية حضوراً متميزاً كثيفاً وذا معنى من خلال تتابع بعض المقاطع الوصفية لفضاء المكان(مدينة الموصل)وما يشمله من أماكن فرعية وموضحا للواقع الاجتماعي البائس، والظروف الصعبة التي تعيشها المدينة و أبناء شعبها في تلك المرحلة،وهذا ما يدفع إلى بذل المزيد من الجهد والتضحية لتجاوز هذا الواقع. ولا تلبث تلك الصورة البائسة لفضاء المدينة أنْ تتبدّد بفعل الاساليب التي يبتكرها ابناء المدينة لغرض التواصل مع العالم الخارجي للمدينة
هذا التشكل المكاني والزماني الذي رسمه الكاتب بين فضائين المغلق داخل مدينة الموصل والمفتوح المتمثل بكل الأمكنة التي تدور فيها الأحداث داخل مدينة اربيل المدينة التي يسكنها وتهجر اليها منذ سنوات عدة وحتى الأمكنة الأخرى خارج العراق (لبنان)وعلى اختلاف المساحات من حيث تحرك الشخصيات إلا أنه جاء متقن ومدروس حيث أعطى توازن(زمكاني)مهم ورسم خريطة للبناء الديناميكي للأحداث …
لغة السرد
ان اللغة هي أساس الجمال في الإبداع الأدبي، بصفة عامة وهي الأساس المتين الذي تقوم عليه الرواية الحديثة ، وإن لغة الكتابة الأدبية لغة قلقة متحولة زئبقية الدلالة، قادرة على الانزياح وعليه يمكن القول مبدئيا أن لغة الرواية هي تلك اللغة الخاصة،التي يصطنعها الروائي،ويخرجها من المستوى الميكانيكي إلى المستوى الانزياحي، الذي يتيح له أن يسخر لغته لمعان جديدة كثيرة ..توسع دلالتها …
جاءت رواية(اكتشاف الحب) بلغة مقنعة كل الاقناع وحرص الكاتب مروان ياسين على أن يواجه القارئ بلغة أنيقة ، رقيقة النسج موحية تتوفر فيها كل الموصفات الروائية الفنية المطلوبة .
فهي لغة تتمتع بجمالها واللعب بها بمستوى ما يطلق عليه(باللغة الوسطى) المتكيفة مع الشخصيات،توفرت فيها سمات الفن والجمال، والإيحاء والشعرية والصورة …
لقد استطاع الكاتب بتمثيل سردي متنوّع لأحول شخصياته وقدم مداخلات اشتبكت مع الفكرة المحورية للرواية كاشف الغطاء عن العديد من الصراعات السياسية، والمذهبية، والعرقية التي تشهدها منطقة الأحداث بكل سخونتها ، بما في ذلك الهويات، والآمال، والحريات متجاوزاً الخط البياني العام ومعززاً للعديد من الافكار الفرعية والتي تصب بالنتيجة في الفكرة الاساسية للرواية هذا ما جعل مساحة الأحداث أكثر اتساعاً وشمولاً للعديد من القضايا التي تضمنتها الرواية لأنها ولدت في أحضان مجتمع مضطرب بكل جزئياته .. لتشكل الرواية أداة رصد ، يمكن بها استكشاف ليس للحب التقليدي فقط وانما للعالم القريب من تلك الشخصيات المحاصرة بملابسات واقعها المعقد والمركب والحاضر بكل تداعياته والإنسان ومعاناته ، على المستويين الشخصي والعام …
لقد جاءت رواية(اكتشاف الحب)ليس متكأه على بعدها الشخصي فقط وانما قدمت نموذجاً واضحاً للاضطهاد والضيق والعجز والانتظار القاتل والممل بالمقابل البحث عن بصيص أمل في محاولة لدخول من سم الخياط الى العالم الأخر …
بنية سينمائية
مروان ياسين كاتب الرواية ضليع بلغة الصورة واسرار زواياها وله القدرة الفائقة على جعل عينه عدسة كاميرة شديدة الحساسية في التقاط كل لحظة زمنية تمر امامه لقطة بلقطة وهو يعرف جيداً كيف يدير عمله الفني في الاضاءة والديكور اضف الى ذلك شغفه بالسينما والصورة وكيف يحدد مواقع وامكنة والجهات الفاعلة والزوايا الاكثر جمالا والتي تدله عليها مخيلته الثرية بالصور المتحركة ، كل تلك الصفات جاءت من اختصاصه الاكاديمي الدقيق كمخرج سينمائي وتلفزيوني ، ذلك جعله يجني فوائد عديدة في الاتجاه الفعال في كتابة الرواية واخراجها بأدق التفاصيل …
(اكتشاف الحب)ليست مجرد رواية تقرأ, أو نموذج كتابي , إنها مجموع من القيم والمثل العليا التي باتت تعيش عند البعض القليل والنادر بيننا بتوقع او من غيره أمام تحدي الاقدار لرسم خرائط وجودنا فيما هو إنساني فينا وحولنا .
نحن امام نص روائي يحرض على طرح تساؤلات أمام ضرورة استحقاقات وجودك الإنساني،مع الكشف عن جذر الخراب الذي تسببه الحروب وشظاياها وأوجاعها وألأمها وكيفية لملمت الواقع لنعيد بناء الإنسان باكتشاف الحب واسترداد قدرة الحلم …



11
بولص آدم في مجموعته القصصية "باصات أبو غريب":الزمن السردي وتعالقاته بين الواقع والمتخيّل

                                               
مروان ياسين الدليمي

في مجموعته القصصية الجديدة "باصات أبو غريب"الصادرة في مطلع شهر ايلول(سبتمبر) 2020 عن دار نينوى في دمشق، يضعنا القاص بولص آدم امام شخصيات تبدو كما لو ان رساما تعبيريا قد خطط ملامحها،بمعنى ان القارىء لن يكون بحاجة الى ان يبحث في هذه الملاح عن البعد الاخلاقي او الفكري،بقدر ما سيكون موزعا في قراءته مابين الاحساس بجمالية الاسلوب الرشيق في بنية السرد القصصي وبين حماقة العالم الخارجي الذي يحيط به كانسان وليس كمتلقي للعمل الفني،لانه قد تواطىء بصمته على استمرار هذه القسوة التي مورست ازاء الشخصيات في الواقع .
يندرج هذا الاصدار ضمن مشروعه الأدبي الذي اطلق عليه مفهوم"الواقعية الوحشية"،إذ سبق ان اصدر كتابين في سياق هذا المشروع الذي يحاول فيه ان يلملم شظايا العالم الواقعي الذي عاشه المؤلف لفترة تجاوزت العامين ونصف اثناء فترة اعتقاله داخل سجن ابي غريب في منتصف ثمانينات القرن الماضي .والكتاب عبارة عن 86 صفحة من القطع المتوسط،وقد ازدان غلافه بواحدة من لوحات الفنان العراقي الراحل لوثر إيشو.
جدير بالاشارة ان هذا الاصدار يأتي بعد ثلاثين عاما من أطلاق سراحه بعفو عام  شمل جميع السجناء الذي تم الحكم عليهم بسبب رفضهم المشاركة في الحرب..
عالم موحش
ما يُحسب لبولص،ان مخيلته الفنية قد استحضرت تفاصيل صغيرة وهامشية في حياة السجناء،واعاد خلقها من جديد دون رتوش تقليدية مبتذلةٍ عادةً ما ينساق اليها من يتصدى لمثل هذه الشخصيات،ولهذا نجدها قد تركت لدينا انطباعا اختلطت فيه خفة الكوميديا مع قسوة التراجيديا سواء على المستوى النفسي او التقني .وهذا الاستدعاء السردي الجميل،لعالم انساني موحش يقبع منزويا في المعتقلات،نادرا ما كُنَّا على تواصل معه عبر نصوص سردية تتفاعل مع واقعيته الحافلة بحيوات لم نصادفها في حياتنا اليومية،ربما لانها تنتمي الى قاع المجتمع،وحتى في ما لو صادفناها لن نلتفت اليها،لان بصيرتنا اصابها العمى،فنحن في هذه القصص امام شخصيات ليست سيئة،ولكنها كائنات افتقدت الى من يلمس امنياتها البسيطة ويصغي الى انينها.
من الصعب على اي واحد منَّا ان يلتقط الجوهر الانساني لهذه المخلوقات المنفية خارج الحياة،فقط من يملك في داخله فيضا من المحبة لاحدود لها، وبولص آدم لو لم يكن يحمل مثل هذا الحب لما حافظ على توازنه طيلة الفترة التي عاش فيها هذه التجربة القاسية،وهو بهذا الرصد السردي، لكائنات لم نكلِّف انفسنا عناء الاصغاء اليها او الاقتراب من حافات عوالمها الحاشدة بكل مايجمعنا معها كبشر،من امنيات واحزان ومشاعر،يعيدنا الى انفسنا لنتصالح معها.
لاشك في ان هناك الكثير ممن يمارسون الكتابة القصصية،إلاَّ ان قلِّة منهم يمتلكون مخيلة نظيفة عندما يعيدون بناء شظايا هذا العالم المتناثر،بكل قساوته ووحشته والامه المدفونة في صدور الرجال.
زمن اقصاه السرد
مايلفت الانتباه في هذه المجموعة ان شخوصها وزمكانية احداثها،مستوحات من بيئةٍ مازالت خام، إذ لم يقترب منها السرد العراقي بما يكفي او بما تستحقه من اهتمام، فبقيت مجهولة بقدر كبير لايتناسب مع تركيبتها المعقدة بمستويات اشكالها الانسانية وامتداداتها مع البيئة الاجتماعية في الخارج،اي مع الحياة الطبيعة بعيدا عن السجن،رغم ان المعتقلات كانت ومازالت تمثل زمنا موازيا للزمن الذي يعيشه العراقيون خارج اقبيتها واسوارها،وغالبا مايتداخل هذا الزمن بشكليه وصورتيه ليؤلف لنا تفاصيل مختلفة داخل اطار لوحة واحدة،كما في هذه القصص التي تحرَّكَ فيها الزمن السردي مابين الداخل والخارج،وبات من الصعب فك الاشتباك بينهما،فكان الجميع سجناء خطوط رسمت لهم حدود حياتهم وعدد نبضات قلوبهم،وماهو مسموح لهم به من احلام او من شهيق وزفير،ومع ذلك بقي هذا الزمن بكل كثافته محبوسا في عتمة السجن وفي زوايا ذاكرة من ذاق قسوة هذه التجربة،ولم يلامسه ضياء السرد وينفض عنه الغبار،رغم ما تخبئه هذه المادة الخام ،العراقية بامتياز ،من قصص تزخر بمحتواها الانساني،وما تكشف عنه من تنوع باشكال الصراعات القائمة التي يواجهها الانسان،والتي غالبا ما تتداخل فيها سرديات نسجتها عقائد وايدلوجيات وتصورات وخيالات وخرافات،الى الحد الذي سيكون متاحا امام  القاص اذا ما اقترب من هذا العالم فرصة ان يكتشف ممكنات فنية جديدة،قد تدفعه الى ان يتجاوز بمخياله ماهو مرئي ومحدود،ليدخل في رحلة تتيح له ان يقدم لنا شخصيات واقعية بغاية الغرابة ربما لن نعثرعلى ما يشبهها في الواقع وهنا تكمن المفارقة،وهذا ما اتاحته لنا هذه القصص.   
أُتيحت لي في اوقات سابقة أن أقرأ كل مانشره بولص من نصوص قصصية وكتابات سردية عن تجربته في سجن ابي غريب،سواء في كتابه المذهل" ضراوة الحياة اللامتوقعة" او " اللون يؤدي اليه " او قصص هذه المجموعة،واستطيع ان اسجل دهشتي واعجابي بما يمتلكه من مخيلة جامحة،وادوات تقنية يتفرد بها في سرد حكاياته،وقدرة لغوية مشبعة بالايحاء،تمنح بنيته القصصية متعة وسلاسة وتشويقا وحبكة تدفع البناء الى ان يكون متماسكاً ومشدوداً،بالشكل الذي لاينفرط اهتمام القارىء ويضعف في متابعة السّرد .
مشهد عام داخل مشهد خاص
مجمل ماكَتَبه القاص بولص آدم عن تجربة السجن،يُعد من وجهة نظري، من انضج ما انتَجه السرد العراقي بهذا الموضوع من الناحية الفنية،حيث توفرت فيه أهم ما ينبغي ان تكون عليه بنية السرد،ومايتوجب ان يتوفر فيها من عناصر مثل الايجاز والابتعاد عن الثرثرة،والاهتمام بالمحتوى الانساني،واقصاء تام لاي تخريجات ايدلوجية مسبّقة في الحكم على الشخصيات والاحداث والفترة التاريخية،هذا اضافة الى ارتقاء المعالجة الفنية من حيث اللغة وزاويا الرؤية للمبنى الحكائي، وانصهار جميع العناصر في هيكل تخييلي واحد،اضافة الى وضوح مايودُّ ايصاله في خطابه الفني الى القارىء من افكار،والأهم في هذا انه يرصد من خلال شخصيات هامشية وعادية مشهداً عاما كانت البلاد تختنق بين تفاصيله، وتكتسب عناوينها من دلالات الخنادق والملاجىء وقوافل القتلى الذين كانوا يَصِلون عتباتها يوميا من ساحة الحرب  العراقية الايرانية،في مقابل ذلك  كان السجناء يختنقون بامنياتهم واوجاعهم في زنزاناتهم،من غير ان يسمع او ينتبه اليهم العالم باسره خارج اسوار السجن .
اثر الخطاب السردي
من خلال قصص هذه المجموعة يشعر القارىء بالمرارة التي كان عليها بولص وهو يقبعُ سجينا لايام وليالي في دائرة ضيقة،محيطها تفاصيل موحشة،وشخصيات اقصي عنها النور والشمس والهواء،ولابد ان يطرح على نفسه هذه التساؤلات:
كيف تمكَّن من الصمود ! ؟
كيف حافظ على هذه الذاكرة من الخراب !؟
كم تحمَّل من الأسى ازاء هذه الكائنات وهو يعيد احيائها بقالب فني،ليرصد من خلاله ضعفها وقسوتها وانهيارها وسذاجتها ؟
كتب الناقد د. حسين سرمك مقدمة لهذا الاصدار جاء فيها"بالرغم من أن كثيراً من المبدعين العراقيين قد تعرّضوا لتجارب مريرة من السجن والتعذيب،إلا أن ما كُتب عن أدب السجون العراقي كان قليلاً جداً بصورة تثير الكثير من الغرابة والتساؤلات.التفاتة بولص آدم في هذه السلسلة من القصص القصيرة من أدب السجون العراقي المطبوعة بحرارة التجربة الذاتية،تسدّ نقصاً كبيراً في المكتبة السرديّة العراقية في هذا المجال."

"باصات ابو غريب " : المؤلف بولص آدم
اصدار دارنينوى للنشر والتوزيع في دمشق
الطبعة الاولى 2020
عدد الصفحات 86

12

ج 21 ( الأخير) اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                                     
مروان ياسين الدليمي

ليس هذيانا

لدينا اسباب عديدة تدفعنا لان نتمسك بالحياة،حتى وإن كان الامل ضعيفا في امتلاكنا مثل هذه الفرصة، فهناك الكثير مما يشدنا اليها وبقوة، ومن الصعب ان نتحمل فكرة افولنا عنها،ربما بعض اسبابنا تبدو خرقاء من وجهة نظر آخرين،وقد تثير السخرية لديهم،ولاتستحق ان تكون مسوغا لاستمرار تمسكنا بها،ولكن بالنسبة لي شخصيا هذا لايعنيني مطلقا، ولدي الاستعداد بأن ادفع فاتورة حسابي كاملة لما تبقى من عمري مهما كان الثمن، طالما كنت مقتنعا بما لدي من دوافع حتى لو كان طعمها مُرَّا مثل العلقم،لاننا نادرا ما نعثر على الشعور الحقيقي بالقناعة،فأنا اعرف الكثير من الاشخاص كانوا ناجحين في العمل،ولديهم اولاد واموال ووضعهم المعيشي بافضل ما يكون،لكن حسرة  في اعماقهم  كانت تداهمهم ما ان يختلوا بانفسهم،كما لو انها هوّة عميقة يموت فيها كل ما يبعث على السعادة في حياتهم،لانهم ورغم كل النجاحات التي حققوها لم يصلوا الى الشعور الحقيقي بالقناعة، بالتالي لم يتذوقوا معنى السعادة، حتى وإن كان الحزن لايظهر عليهم . فلماذا لا اتوق الى يوم جديد تشرق فيه الشمس على وجودي اذا كنت اشعر باكتمال حقيقتي كانسان مع من  اتشارك معها رحلة عمري ؟ .
اظن ان من سيقرأ هذا الكلام سيعتبر ذلك مثالية مفرطة . . ولكن هل ذلك يعنيني ؟  كلا  .  . لست معنيا اذا ما كان الاخرون يجدون في المنطق الذي اتحدث به اشبه بالهذيان،ولاصلة تجمعه مع الواقع،فما يهمني انني اعبِّر عن قناعتي،ومازلت مؤمنا بان الحب له صور مختلفة وليس صورة واحدة، ولكل واحد منَّا ذاكرته الخاصة التي يحتفظ فيها بصور الحب التي مربها واكتشف معانيها في حياته .   

القدر يرسم كل شيء

بعد مضي عام على انتهائها من العلاج بأشعة الليزر بدأت تتقاسم اللهفة مع الحياة في كل دقيقة كانت تمر عليها،وكنت اشعر بها وهي تحاول بكل مالديها من طاقة ايجابية ان تعيد ضبط ايقاع حكايتنا نحن الثلاثة،لتنسجم مع سطوع ابتسامتها التي اخذت تستعيد اشراقتها،فكانت تحتاج دائما الى ان تؤكد لنا بأنها استعادت عافيتها،لكي نقلل من شدة خوفنا عليها،وبدأت ترفع عنا شيئا فشيئا الواجبات المنزلية التي آثرنا ان نتحملها بدلا عنها طيلة العام الذي مضى،وايقنتُ من  ان انغمارها في تلك الواجبات قد جعلها تستعيد ذاتها وتتذوق طعم الانتصار على مرضها،حتى بدأتُ اشعر وكأن ما أصابها اشبه بعارض صحي لا أكثر وليس مرضا خطيرا،وعلى الرغم من انني كنت اتحمل مسؤولية شراء كل ما يحتاجه البيت من مواد غذائية إلاَّ انها طلبت مني ان تستعيد هذا الدور وتتكفل هي يوميا بالتسوق صباح كل يوم من السوبر الماركت القريب الى بيتنا،ونزولا عند رغبتها تركتُ لها ذلك.
لم اتوقع ان يكون لادارة شؤون المنزل ذلك التأثير الساحر على صحتها، حتى انني شعرت بعودة الدفء مُخيِّماً على كل لحظة في طقوسنا اليومية. ولكننا سنبقى جميعا نحن بني البشر متأرجحين في الفراغ،ولانعلم متى واين سنسقط ، طالما كان القدر يمسك بيده المفاتيح، وفي كثير من الاحيان يشاء ان يفتح او يغلق ما يحلو له من الابواب، وما علينا إلاّ ان نرضخ، ثم نمضي ونحن نئن من اعباء مزاجه وعبثه بنا، وهذا ما نالها منه، لأنها لم تهنأ سوى ايام معدودة حتى قذف بها في تجربة اخرى،إذ وقع لها حادث خارج البيت، وكاد أن يجعلها معاقة بقية حياتها،فبينما كانت تجتاز الشارع وفي نيتها دخول السوبر ماركت فإذا بسيارة تصدمها اثناء ما كان سائقها الشاب يرجع بها الى الخلف لكي يركنها الى جانب الرصيف،فسقطت على ارضية الشارع وهي تتأوه من ألم شديد في قدمها اليمنى،ولمّا حاولت النهوض لم تستطع الاستناد عليها،فأيقنت من ان كسرا قد اصابها. .في تلك الساعة كنت في مبنى القناة الفضائية احاول ان انهي عملي في غرفة المونتاج حتى لا اتأخر عن موعدي في مقهى مجكو الواقع تحت قلعة اربيل مع الدكتور وليد كاصد الزيدي الذي تربطني به صداقة قديمة تعود الى ايام دراستنا في اعدادية عمر بن الخطاب في الموصل،ومنذ ان تخرجنا ذهب كل واحد منّا في طريقه،فعاد مع اهله الى بغداد حيث مسقط راسهم هناك،ولم نلتق من بعدها، لكن الفيس بوك جمعنا مرة اخرى،وصادف ان كان في زيارة الى اربيل فاتصل بي عبر الهاتف في اليوم الذي سبق الحادث،مبديا رغبته في ان نلتقي ..اظنني كنت قد اوشكت على الانتهاء من عملي في غرفة المونتاج، وفي حينه نظرت الى ساعتي خشية ان يكون الوقت قد ادركني، وكانت الساعة تشير الى الواحدة من بعد الظهر،وهذا يعني إذا ما غادرت في تلك اللحظة ساصل المقهى في الوقت المحدد،فأنا لااحتمل فكرة ان أصل متأخرا عن الموعد،واعترف بأن طبيعتي هذه دائما ما كانت مدعاة لانتقادات مستمرة من قبل  زوجتي وابني،لانني عادة ما اكون قلقا ومستثارا ،وكأنني اتهيأ للدخول الى قاعة الامتحان،فكانا يعيبان علي ذلك،حتى ان ابني  في احدى المرات تقدم مني وأمسكني من كتفيّ وهو يضحك،ثم قرب وجهه من وجهي الى ان لامس انفه انفي وهو يقول لي" بابا...اهدأ. .إهدأ..إهدأ..ليست كل المواعيد مقدسة ، وحتى لو تأخرت خمس او عشر دقائق ،ماذا سيحصل في هذا الكون ؟ ...  اهدأ ارجوك  ".
 جمعت حاجياتي الشخصية مِن تلفون الى سماعة الهاتف الخارجية ودفتر الملاحظات ووضعتها في حقيبة اليد الجلدية الصغيرة التي لم تكن تفارقني،وبينما كنت احاول ان اتأكد من انني قد اطفأت حاسبة المونتاج ، فإذا بي اتلقى اتصالاهاتفيا،وكنت اتوقع ان صديقي دكتور وليد هو المتصل،لكني وجدت اسمها ظاهرا على شاشة الهاتف،وما ان فتحت الجهاز حتى جاءني صوت من يستغيث بي عبر الطرف الآخر من الهاتف ،ولم اكن متأكدا من انه صوتها، وظننت ان ابني محمد هو الذي  كان يصرخ متألما ويرجوني بأن احضر فورا لان سيارة قد صدَمَته.
 " ماذا !؟ " .
للوهلة الاولى لم استوعب ماسمعت، واظن ان عقلي كان رافضا تصديق ماالتقطته اذناي ، فبدا ذهني مشوشا ، وعلى الرغم من انني شعرت وكأن الارض باتت رخوة تحت قدمي،وأن مصيبة قد وقعت،إلاّ انني مازلت عاجزا عن  تمييز هوية صاحب الصوت،وفي خضم تلك الحالة التي كنت عليها من الارتباك والانفعال  سألت "هل انت محمد ؟"  انذاك جاءني ردها بانها هي التي صدمتها السيارة امام  السوبرماركت القريب من بيتنا،وشعرت من خلال نشيجها الى اي مدى كانت تتألم ، وسرعان ما أخذ جسمي كله يرتجف ولم اعد قادرا على ان اتمالك نفسي،وعجز لساني عن الكلام،لانني تخيلتها مطروحة الارض وهي تصرخ والناس يحيطون بها، وبدوت مذعورا مثل من يصحو على وقع صرخة قوية بعد ان اخترقت سمعه . في تلك الاثناء احاطني اغلب العاملين في قسم المونتاج بعد ان سمعوا صوتي لانه كان مرتفعا اثناء ما كنت اتحدث معها دون شعور مني،ولم استطع الرّد على اسئلتهم المتلاحقة التي كانت تستفسر عما اصابني،وبصعوبة بالغة اجبتهم بينما كنت اركض مندفعا الى خارج مبنى القناة .
اذكر انني فقدت القدرة على فهم ما كان يدور من حولي لشدة ماكنت مرتبكا ، حتى انني عندما وصلت الى مكان الحادث ووجدتها راقدة على المقعد الخلفي في السيارة التي صدمتها وهي تبكي، صرخت بوجه السائق الذي تسبب بالحادث وامرته بان ينطلق مسرعا الى مستشفى الطوارىء، ولانني ساعتها لم افكر إلاّ بايصالها باسرع مايمكن الى المستشفى لم انشغل بفكرة الهجوم عليه والانتقام منه، بل انني لم اكن ارى اي شيء امامي سواها، ولم اكن اسمع الا صوتها وهي تتوسل بي ان اساعدها لايقاف ما كانت تشعر به من ألم . .وما ان انطلق السائق بسيارته التفت ناحيتي وسالني عن اتجاه الطريق المؤدي الى المستشفى، وكانت المفاجأة انني لم اعد اذكر اي اتجاه ينبغي ان نسلك، مع انني دائما ما أمر من امام المستشفى كلما ذهبت الى السوق الرئيس في وسط مدينة اربيل ، وبقينا ندور تائهين بين الشوارع الفرعية ولم نفلح في الوصول الى الطريق المؤدي اليها الابعد ان طلبت منه ان يوقف السيارة لاسأل احد الاشخاص.

ثلاثة كسور في القدم
اظهرت صورة الاشعة انها كانت مصابة بثلاثة كسورفي قدمها اليمنى، ولم يكن ممكنا اجراء عملية جراحية لها طالما مكان الاصابة مايزال متورما، وكان راي الطبيب ان ننتظر فترة لاتقل عن اسبوع، اي الى ما بعد عيد الاضحى حتى يخف الورم ومن بعدها يمكن اجراء العملية، ولهذا تم تجبيرها بمادة الجبس، ومن ناحيتي كان من الصعب علي ان اواجه الموقف لوحدي فاضطررت الى ان اتصل باهلها، لانه اصبح بامكانهم المجيء الى اربيل طالما  الموصل قد تحررت من سلطة تنظيم الخلافة قبل مايزيد عن الشهرين، وبات الطريق سالكا ما بين المدينتين بعد ان كان مغلقا لمدة ثلاثة اعوام . وما هي الا ساعتان من الزمن حتى كان معنا في المستشفى ثلاثة من اشقائها واثنتان من شقيقاتها. 
لم احتمل فكرة بقائها لمدة اسبوع على تلك الحالة لانني وجدتها مازالت تتألم بعد مرور يومين على الحادث، فاتخذت قرارا حاسما باجراء العملية في مستشفى بار الاهلي،دون ان اعير اهمية لارتفاع تكاليفها التي وصلت الى حدود 3000 دولار، لان الطبيب الجراح لجأ الى زرع أعمدة تثبيت داخلية من مادة التيتانيوم تبدأ من قدمها وحتى منتصف الساق،لاجل ان تكون العظام في الوضع الصحيح أثناء عملية الشفاء.
بقيَت لمدة ستة اشهر لاتستطيع السير على قدمها دون ان تستند على العكازات،حتى انني كنت اضعها على كرسي خاص بالمعاقين واذهب بها الى عيادة دكتور لقمان حسب المواعيد المثبتة في ملفها،لان مريض السرطان يجب ان يبقى تحت المراقبة الدورية طيلة حياته من قبل طبيبه الخاص.
 لامني الكثير من الاصدقاء والمعارف،لانني لم اشتك على السائق خاصة بعد ان اثبت نذالته،عندما اختفى عن الانظار بعد ان اطمأن من ان افادتي التي ادليت بها امام ضابط مركز الشرطة في المستشفى لم احمله فيها مسؤولية التسبب بالحادث،وادعيت بانها قد سقطت متدحرجة على الدرج في البيت،ولم يكن موقفي منه على تلك الصورة إلاَّ لانني لم استطع ان امنع نفسي من التعاطف معه بعد ان تأكدت من ان زواجه لم يمض عليه سوى يومين،وقد حل ضيفا على بيت خالته في اربيل قادما من كركوك ليقضي شهر العسل مع زوجته. وفي حقيقة الامر لم يكن يعنيني في تلك الساعة اي شيء سوى ان تنجو من الاعاقة،وتعود سالمة لتقف على قدميها،ولهذا كنت مستعدا ان اسامح حتى الشيطان.
رغم التجارب التي عشتها والكتب التي قرأتها اجد نفسي وبكل سهولة اقع احيانا فريسة مكر الاخرين،فأنا لااملك مايكفي من اساليب الخداع التي عادة ما تتوفر لدى غالبية البشر بالقدر الذي تعينهم على مواجهة مايحاك ضدهم من دسائس ويصد عنهم المكائد ، وهذا امر طبيعي جدا . وفي هذا الموضع لا اعرف كيف اجد توصيفا دقيقا لحالتي ، هل انا  ساذج ؟ ام شخص مستقيم ؟ ام رجل يتصف بالامانة ؟  ام ناقص خبرة ؟ ام انني اعاني من جهالة ؟  ،  لااعلم  .. ربما يصعب علي ان اجد كلمة مناسبة لتشخيص ما أقصده ،لانني احمل كل هذه الخصائص في طبيعتي ، ولكن ما استطيع ان اؤكده،انني احمل من القيم المثالية مايجعلني ابعد من ان اكون انسانا واقعيا، ولست حذرا بما يكفي حتى اتفادى حبائل الاخرين، وعلى مايبدو فإن هذه السمة لاتحتاج الى حذلقة حتى يكتشفها اغلب من تعامل معي،وعلى العكس منهم فأنا لم اكتشفها الا في وقت متأخر، وهذا خلل كبير في تفكيري قطع علي الطريق الصحيح في كيفية التعامل مع الناس والحياة، لاننا لسنا في زمن الفرسان،انما في عصر تحول فيه البشر الى تماسيح .

اكتملت دورة العلاج
بعد شهرين من الآن ستنتهي سنة 2020 ، وبنهايتها ستكتمل السنوات الخمس من مراحل علاجها التي كانت تتناول فيها يوميا حبة تاماكسوفين،دون ان تتهاون ابدا في الالتزام بمواعيد الادوية والعلاجات،وظلت تستند على جدار من الامل للخروج سالمة من هذه التجربة ،ودائما ما كان لديها اعتقاد راسخ بان الشفاء لن يتحقق عبر الادوية وحدها إذا لم يكن الانسان يحمل في داخله ايمانا راسخا بأن الله وحده يملك هذه المقدرة ،وكتَبَت بقوَّة ايمانها حكايتها مع قساوة هذه التجربة التي استطاعت ان تجتازها،وبذلك تكون قد اكملت الشطر الاكبر والأهم من دورة علاجها مع  كل ما احاطها من اطياف معتمة في مراحل معينة من مرضها وكادت ان تدفعها الى  اعماق سحيقة من الياس،وعلى الرغم من الاثار التي تركها المرض على  جسدها،إلاّ انها تمكنت  من ان تواجه ضعفها بارادة قوية احسدها عليها،ويوما بعد آخر بدأت تستعيد زمام حياتها الطبيعية،مع ان رحلتها مع بقية مراحل العلاج لم تنته بعد،حسب ما قال لها دكتور لقمان في اخر مرة التقينا به عندما راجعناه في عيادته قبل ثلاثة اشهر،حيث اكد لنا بان الادوية سترافقها طيلة حياتها،لكنها ستتغير بين فترة واخرى حسب ما تقتضيه حالتها،وستبقى تخضع للفحص الدوري على الاقل كل ستة اشهر للتأكد من سلامة وضعها الصحي.
ورغم انني لم افقد في اي لحظة ما كنت احمله بداخلي من اصرار على ان اقف معها الى ان تتوهج الحياة في عروقها من جديد، إلاّ انني  شعرت كما لو انني تقدمت في السن عشرين عاما خلال هذه التجربة .

                                    انتهت



كلمة ختام

تزامن العمل على كتابة هذه الاوراق مع بداية انتشار جائحة كورونا،فكان البقاء في البيت خضوعا لقرار حظر التجوال،فرصة كبيرة للاستغراق في الكتابة،وتذوق طعم الانتصار قبل ان تتحول العزلة الى احساس  بالمرارة،خاصة وانني فقدت عملي مثل الاف العامليين الذين فقدوا وظائفهم،ولولا ايمانها هي  شخصيا بان الحال لن يدوم على هذا السوء،لما استيقظ في داخلي اي شعور بالأمل،لاني دائما ما  كنت اقرب الى التشاؤم منه الى التفاؤل،وكلما نظرت اليها ولمست فيها تلك الثقة العالية بالنجاة،رغم ما اصابها من محن قاسية،كنت اجدني متحررا من ضعفي.


                                                    انتهت





13
ج 20  اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                                     
مروان ياسين الدليمي



ليست كباقي السنين
كانت سنة قميئة تمكَّنت من اعتقالنا تحت طبقات من العتمة، وكان وقعها بالغ القسوة علينا نحن الاثنين، مع اننا كنا نصارعها ولم نتدثر باغطية الاستسلام لمنعطفاتها الحادة، وافلحنا في ان نكسر ما كانت تخبئه لنا من اقدار ممسوسة لتدميرنا، وبقينا محتفظين بتوازننا، ولكنها لم تغادرنا إلا بعد ان زجتنا في زمن كان يتمدد من حولنا مثل سيل جارف وكاد يقتلع منا صبرنا.
لم تكن سنة عادية مثل بقية السنين التي عشناها ولربما حتى التي سنعيشها، لانها خلفت وراءها عبئا ثقيلا، وبسببها اكتظت الذاكرة بخارطة متشابكة من الوجل، وستبقى تشاطرنا ايامنا واحلامنا لفترة طويلة، حتى ان العلاقة معها باتت ملتصقة بنا مثل اسمائنا، وإذا ما حاولنا أن نغافلها في لحظة فرح، ونحن في ذروة احساسنا بنشوة عابرة فلن نستطيع ان نتجاهل سطوتها، فقد اصبحت مهيمنة علينا ما جعلها تملك القوة لتدفعنا الى دُهمَة ظلالها ونحن مستسلمين لها، وما كان امامنا من خيار حتى نشيح بوجهنا عنها، وحتى لو حاولنا ذلك ونجحنا ، فإن شبحها سيبقى شاخصا بما تركته من اثرعلى جسدها حتى بدت كما لو انها شبح امرأة، وكان علينا ان نستأذنها ونحن على حذر منها إذا ما شعرنا بلحظة حبور تومض لنا، او إذا ما تقدمنا بخطوة للخروج بعيدا عن قيود مناخاتها المكفهرة، فنحن ورغم ما ابديناه من اصرار على ان نحتفظ بنوافذنا مشرعة للامل إلا انه لم يعد ممكنا ان نغفل ما تركته فينا تلك السنة من حرقة موجعة تماهت مع كل تفصيلة في حياتنا .
اخر جرعة كيميائية
في تلك الايام كنتُ ارتحل حيثما يأخذني ضعفي، فأتخبط في تفكيري بسبب ماكان يدور في رأسي من افكار كامدة، ودائما ما وجدت نفسي  اسيرَ احساس لم يفارقني يقول لي بان انتكاسة صحية لربما ستقف عند خطوتها القادمة، ومثل هذا السهد كان يتراكم عندي بشكل مضاعف. .اما من ناحيتها فعلى الرغم من انها كانت تعيش تحت سطوة المرض والعلاج الكيمائي، الا انها كانت تتمتع بقدر كبير من البأس، لطالما حسدتها عليه، وتمكَّنت بما لديها من ايمان ان تندفع الى اقصى ما يمكن ان تفعله ارادتها لتوقف سهام اليأس من اصابة عزيمتها ، فكان ردها على ما ابتُليَت به ، انها تعاملت مع المرض باعتباره امتحانا، ولابد لها ان تحافظ على ذاكرتها حتى لاتفقد قدرتها على التركيز، وليصبح  بالتالي كل شيء في حياتها خاضعا للرصد والمتابعة ، فنظمت وقتها خلال اليوم الواحد مثل اي عسكري يقود معركة وتفرض عليه الحالة ان يكون يقظا، فبدا نظامها الغذائي محسوبا بدقة، ولم تتوقف عن ممارسة الرياضة في البيت، وهذا ما ساعد في ان صحتها لم تشهد انتكاسة، الى ان انتهت من تلقي اخر جرعة، وفي ذلك اليوم ابلغها دكتور لقمان بان تحضر بعد اسبوع الى المستشفى لكي تجري فحصا لدمها لمعرفة الى اين وصلت حالتها الصحية بعد ان انتهت من رحلة العلاج الكيميائي. .ولمَّا خرجنا من المستشفى كانت تبدو غارقة في حالة من الفرح الداخلي، لم اكن بغافل عن الاحساس بها وملاحظتها في ذلك البريق الذي كانت تبحر به عيناها ، حتى انني شعرت بها كما لو انها قد استعادت حيويها التي فقدتها خلال الاشهر الماضية ، مع انها بنفس الوقت لم تكن قد استوعبت بعد فكرة انها اصبحت قريبة جدا من لحظة عبورها الى ضفة الامان، وهذا ما اتضح لي عندما سالتني "هل فعلا لم اعد بحاجة الى ان اتلقى اي جرعة ؟ " .

العلاج بالليزر
بعد اسبوع ظهرت نتائج فحص الدم وكلها كانت تشير الى ان وضعها مطمئن، وليس هناك ما يبعث على القلق، فابلغها دكتور لقمان بانها ستأخذ فترة راحة لمدة شهر ومن بعدها ستبدأ مرحلة العلاج بالليزر، وما ان سمعت كلامه حتى ارتسمت على وجهها علامات الشعور بخيبة الامل، لانها كانت تعتقد بانها قد انتهت نهائيا من العلاج، بينما عكست الملامح الهادئة للدكتور لقمان بعد ان استوعب ردة فعلها بانه كان يتوقع ان تبدو مغتمة، ولاجل ان يخرجها من تلك الحالة التي سقطت فيها أردف قائلا " هل تدركين اهمية ما انجزناه عندما تمكنّا خلال المرحلة الماضية من السيطرة على المرض وايقاف تمدده والقضاء عليه، ولكن عليك ان تعلمي ايضا بأنه بغاية الخبث، ويحتاج الى حذر دائم، والتزام دقيق بمواصلة مراحل العلاج، وبذلك سوف نمنع عنه اي فرصة لكي يعاود مرة ثانية، فأنتِ امامك الآن احدى وعشرون جلسة علاج بالليز، حيث ستخضعين لجلسة واحدة في كل اسبوع ".
في مثل حالتها يتحول الماضي في بعض الاحيان الى اشباح تحوم حول الانسان، وتفسد عليه مايشعر به من رضا وانسجام مع نفسه ومع مايحيطه، وكم يحتاج الى قوة تشبه فعل الرصاصة حتى يطلقها عليه وينتهي منه. فبعد ان انهت الجرعات، واستعادت صحتها مثلما استعادت شعر راسها الذي نبت مرة اخرى وباتت تقف يوميا امام المرآة لتسريحه، كانت تظن بانها لم تعد تحتاج الى المزيد من شحنات الامل حتى تدشن ايامها القادمة، لكن كلام الدكتور اعادها مرة اخرى الى الركون في دائرة الحذر تحت ضغط ما ستفتحه اشعة الليز من نوافذ مفتوحة على الترقب بعد ان  تخترق جسدها في نفس موضع العملية الجراحية من خلال ثلاثة فتحات .كان طيفا من التوجس يغلف وجهها ، كما لو انها بدأت تشعر بان الوقت لم يحن بعد للاحتفال بالانتصار .
"وبعد ان انتهي من الليزر هل هناك ماينتظرني ايضا ؟ " ، كان باديا عليها اثناء ما طرحت سؤالها انها لم تعد تشعر بالاطمئنان ، ولهذا كانت كمن يدور حول نفسه باحثا عن امل حتى لو كان ضعيفا .
" اذا ما انتهينا من الليزر،عندها سأكتب لكِ حبوب تاماكسوفين، حيث يتوجب عليك ان تتناولي حبة واحدة كل يوم ، ولمدة خمسة اعوام " .
 لم يكن امامها اي فرصة لتأويل اجابة الدكتور بعيدا عما كانت تحمله من وضوح ودقة .
لاحظتُ بانها كانت تتهيأ لان تطرح سؤالا آخر قبل ان يتابع دكتور لقمان كلامه قائلا " المشكلة التي امامنا الان، هي ان جهاز الليزر الوحيد في مستشفى رزكاري عاطل عن العمل ، ودائما ما يتعرض الى عطلات بين فترة واخرى، وهذا ما يتسبب في تكدس اعداد من المرضى على قائمة المنتظرين في جدول مواعيد العلاج، وخلال ايام سيصل خبراء المان لاصلاح الجهاز، ولهذا يتوجب عليكِ ان تسجلي اسمك يوم غد في سجل المرضى الذين ينتظرون دورهم. ايضا عليكما ايجاد بديل في مكان آخر، فهناك جهاز موجود في محافظة السليمانية واخر في بغداد، لكن لابد ان تعلما بان قائمة المرضى الذين ينتظرون دورهم طويلة جدا، ولهذا لابد من ان تسجلي اسمك باسرع وقت حتى لاتتاخري عن موعد العلاج، لان التاخير فيه ضرر كبير على صحتك ".

البحث عن جهاز الليزر
كانت الايام تمضي بسرعة، ولم يكن ذلك لصالحنا بعد ان راجعنا مستشفى رزكاري مرتين وتأكدنا من ان جهاز الليزر مايزال عاطلا. ودائما ما كنا نتذكر تعليمات دكتور لقمان بضرورة ان تبدأ مرحلة العلاج في موعدها، وامام هذه المشكلة اتصلت باصدقاء يقيمون في السليمانية، واكدوا لي بانهم اذا سجلوا اسمها فإن موعدها سيكون بعد ثلاثة اشهر، وبذلك شطبنا على خيار السليمانية، ونفس الاجابة ايضا جاءتنا من بغداد ..وهذا مافرض علي ان اجري اتصالات عديدة مع صديقي الفلسطيني المقيم في الاردن المخرج المسرحي عصام سميح لاجل ان يحجز لنا موعدا في مستشفى الحسين لعلاج الامراض السرطانية في العاصمة الاردنية عمان، وبدأ فعلا في الاتصال بالمستشفى وحاول معرفة كافة التفاصيل المتعلقة بالحجز والتكاليف. وقبل ان ينتهي شهر الاستراحة باسبوع وصَلنا خبر تصليح الجهاز في مستشفى رزكاري في اربيل ، وعلى اثر سماعنا للخبر شعرنا براحة كبيرة لانه رفع عنا عبء السفر الى اماكن بعيدة ، خاصة وأن صحتها لا تسمح بذلك، هذا اضافة الى انه وفر علينا مبالغ كبيرة كان من الوارد ان تثقل كاهلنا، وماهي إلاَّ ايام  معدودة حتى بدأت تتلقى العلاج بالليزر لمدة واحد وعشرين اسبوعا وبمعدل جلسة واحدة في الاسبوع.
معلمة من الفلوجة
كان موعد وصولنا الى المستشفى يبدأ عند الساعة الثانية بعد الظهر وهو وقت مبكر جدا ، لكننا كنا نضطر الى ذلك لاجل ان تحظى بتسجيل اسمها في اول القائمة  حتى يتاح لها بالتالي  فرصة تلقي العلاج بوقت مبكر، لان عدد النساء اللواتي كن ينتظرن دورهن يتجاوز الثلاثين امرأة يوميا، وكل واحدة منهن عندما تدخل الى غرفة الليزر المحكمة الابواب كانت تستغرق وقتا يصل الى اكثر من نصف ساعة، وهذا ما كان يؤخرنا بالعودة الى البيت في كثير من الاحيان الى حدود الساعة الثامنة مساء. وامام ذلك الوقت الطويل الذي كنا نقضيه في صالة الانتظار والذي يصل الى حدود السبع ساعات كان من المنطقي ان تلجأ النساء الى تبادل الاحاديث في ما بينهن، ولم يكن غريبا ان نلتقي بنازحات من المدن التي تعرضت للاحتلال من قبل سلطة تنظيم الخلافة مثل الانبار والموصل وتكريت والحويجة. احداهن معلمة من مدينة الفلوجة، كانت ترافق شقيقتها الصغرى المصابة بسرطان القولون اضافة انها كانت مصابة بمتلازمة داون او البلاهة المنغولية وكانت في العاشرة من عمرها. . تلك المعلمة التي لم تبلغ الثلاثين من عمرها مازالت قصتها التي حكتها لزوجتي عالقة في ذاكرتي، اولا لانها كانت تتمتع بجمال لافت للنظر وشخصية قوية يكشف عنها اسلوبها الذي سردت به قصتها، وثانيا لانها رفضت كل عروض الزواج التي جاءتها، بعد ان قررت تكريس حياتها لرعاية شقيقتها، لانها لم تتحمل فكرة ان تتزوج وتتركها وحيدة مع والدتها الكبيرة في السن، خاصة وان صحتها قد تدهورت منذ ان فقدت ثلاثة من ابنائها عند نقطة سيطرة تابعة لاحدى الميليشيات المذهبية المدعومة من ايران، فبعد ان نجحت بالخروج سالمة مع بناتها واولادها من مدينة الفلوجة اثناء ماكان الجيش العراقي يحاصرها لتحريرها من سلطة تنظيم الخلافة، طلب عناصر النقطة بان تصعد النساء الى حافلة كانت تقف عند ناصية الشارع ليتم نقلهم الى المخيم المعد لاستقبال النازحين ،اما الشباب فقد تم اقتيادهم على شكل طابور طويل الى ارض خلاء ، بعيدا عن النقطة، بحجة التأكد من عدم وجود اسمائهم ضمن قائمة المشتبه بانتمائهم الى تنظيم الخلافة، واخبروا اهاليهم بان من كان موقفه سليما سيلتحق بعائلته في المخيم بعد ان ينتهي التحقيق معه الذي قد يستمر يومين او ثلاثة ايام . ومنذ ذلك اليوم لم ترَ المعلمة اشقاءها الثلاثة لانهم لم يرجعوا الى المخيم، واختفت اخبارهم مع مئات الرجال مثلهم، وعجز اهاليهم عن معرفة مصيرهم، ولهذا اتخذت المعلمة قرارها بشطب فكرة الزواج نهائيا، وانشغلت برعاية والدتها، وازدادت اصرارا على موقفها بعد ان نال السرطان من شقيقتها .
قوة الايمان
انا وهي كنا نتحسس انفسنا طيلة عام كامل ، لنتأكد من اننا مازلنا نحتفظ بوجودنا الادمي مثل بقية البشر الذين عادة ما كنا نلحظ السعادة في وجوههم من خلال نافذة السيارة وهم يمارسون حياتهم الاعتيادية، اثناء ذهابنا وايابنا الى المستشفى، خاصة وان رحلة العلاج كانت سلسلة متواصلة من الفزع، وكنا نترقب فيها ما ستسفر عنه من تداعيات، فكان امرا طبيعيا ان نستحيل الى اشلاء متناثرة طيلة فترة الانتظار ونحن نتقلَّب بافكارنا هنا وهناك، في محاولة منّا لاستبعاد الكوابيس التي باتت تلازم ظلمة ليالينا، وجُلَّ ما كنا نحرص عليه ان نحتفظ بما تبقى لدينا من ايمان يربطنا مع العالم ، وينأى بنا بعيدا عن السقوط في هوة افكار قد تأخذنا الى ناحية الحسد والغيرة من الاخرين لانهم يعيشون حياتهم الطبيعية بصحة وسعادة .
يتبع ..









14
ج 19  اكتشاف الحب:اوراق من مدونتي الشخصية


مروان ياسين الدليمي

                               

وتيرة ثابتة


لأني اصبحتُ مشدودًا الى مواعيد  ثابتة غيَّرَت اغلب الدروب التي اعتدت السير فيها، ولم يعد ممكنًا فك الارتباط  بها إلاَّ اذا تخليتُ عن مسؤوليتي الاخلاقية، كان لزاما علي ان اتحلى بقدر كبير من التبصُّر، لكي اتمكن من البقاء واقفًا على قدميّ، حتى اتفادى السقوط في كنف السقم، فنحن في آخر المطاف لسنا الا كُرة تتدحرج كما تشتهتي لها الاقدار، مها كان لدينا من ارادة تدفعنا بغواياتها للهجرة عما نحن فيه من ازمنة نالت الكهولة من جمال تفاصيلها، فالوتيرة التي نسجتها مراحل العلاج في دورة الذهاب والاياب من وإلى المستشفى باتت قانونا روتينيًّا فرض وجوده على ايقاع حياتنا اليومية انا وهي، وأنتظمت بناء عليه، فمن ناحيتي اصبحتُ على موعد ثابت اسبوعيا عصر كل يوم خميس، لزيارة دكتور جمال في عيادته بمركز ميديا لسحب السائل اللمفاوي ، وكان يتعين علي ايضا ان اذهب معها كل عشرين يوما الى مستشفى نانا كلي حتى تتلقى الجرعة الكيمائية ، ونظرا لان وقتًا طويلا جدا كان ينبغي علي ان اقضيه في المستشفى وأنا جالس على عتبة الانتظار، يبدأ من الساعة الثامنة صباحا حتى الرابعة عصرا، لذا هيأت نفسي للتحايل على الزمن الضائع، واجتياز ما قد يصيبني من ملل وانا اتأرجح ما بين موعد تلقيها للجرعة وموعد انتهائها منها، فما كان مني إلاَّ أن اشتري كرسيا خفيفا من النوع الذي يستخدم في السفرات الترويحية بين احضان الطبيعة، حتى يمكنني طيّه وحمله بيدي، والجلوس عليه في اي مكان شئت إذا لم اجد مكانا شاغرا على المصاطب الخشبية الموزعة في عدة اماكن داخل المستشفى، وكثيرا ما لجأت اليه، لان اعداد المرضى والمراجعين كانوا في تزايد مستمر، كما اقتنيت شاحنة خارجية للهاتف الجوال حتى اشحن بطاريته ما أن تهبط  درجة الشحن الى مستوى منخفض، لكثرة ما كنت استخدمه في عملية التصفح والقراءة، فمن غير الممكن بالنسبة لي ان اكتفي بالجلوس والتحديق في الفراغ ، او مراقبة حركة الداخلين والخارجين، كما كان يفعل اغلب الموجودين لتجاوز الاحساس بالوقت، فغالبا ما كان يطول بي المقام وانا انتظر الى اكثر من ثماني ساعات، بينما اكون فيها تائها في نفق طويل من الانتظار الى ان تنتهي من تلقي جرعتها، وكان ذلك الحال كافيا احيانا لان يطرد ماتبقى لدي من حكمة ويترك اعصابي وديعة في مرجل يغلي وتتصاعد منه ابخرة الجنون، وامام  تلك اللحظات التي تشبه حالة الجلوس امام عمل فني صاخب يعج باصوات متنافرة، كانت الدقائق تمر بي ثقيلة مثل سحابة رمادية اللون ، لذا كنت  اشتاق الى طيف اللحظات التي اكون فيها مختليا بنفسي مع طقوسي اليومية في البيت، وانا اسقي النباتات والزهور المزروعة في السنادين خارج نافذة غرفتي، او الى  تلك الساعات التي كنت احيل فيها الصمت الى مدن وغابات وحكايات مع كل رواية كنت اقرأها وامضي خلف سطورها. فلقد حاولت ان احتوي ما كنت اشعر به من لامنطقية ما يحدث لي ، وما أ صرخ به في داخلي من احساس بالقهر،وكأنني كنت انفذ عقوبة على خطأ ما اقترفته ، وليس هنالك من مدة محددة لانتهائها، ولولا فاعلية البقع المضيئة التي ايقظت فيَّ الوعي بتأثير القراءة المستمرة لبقيت اسيراً خلف قضبان التشاؤم.

اعادة ضبط الوقت
حاولت ان اجنّبَ نفسي السقوط  في  دائرة ما كان ينتابني من شعور بالجزع ، وأن لااقع تحت تأثيره، فتوصلت الى ان الحل للخروج من ذلك الشعور الثقيل بالخواء يكمن في اعادة ضبط الوقت وفقا لما ارتأيه انا ،وكأنني على موعد مهم ويتوجب علي ان لا أتأخر عنه، بالشكل الذي يفرض علي ان  اجعل  من ايقاع الزمن  في داخلي منفلتا عن ايقاعه البطي في الواقع، حتى ياخذ مسارا آخر يتوفر فيه مايشبه الاحساس بلحظات الاكتشاف التي قد يمر بها الانسان ، وكنت موقنا من ان ذلك لم يكن ممكنا الاَّ من خلال الدخول الى  العوالم التي تأخذني اليها الكلمات والحروف في الكتب التي كنت احرص على قراءتها عن طريق الهاتف الجوال، ولذا اصبح طقسا ثابتا لدي الخروج الى حديقة المستشفى والجلوس على احدى المصاطب الخشبية تحت ظل شجرة وارفة، ومن ثم البدء في رحلة البحث عن كتاب اجد فيه متعة من ضمن عشرات الكتب التي كنت قد خزنتها في ذاكرته بصيغة ملف pdf ، واحيانا اقرأ ما كان يُنشر من تقارير سياسية في الصحف العربية، خاصة ما كان يتعلق بتحركات المجتمع الدولي واستعدادات العراق للمعركة القادمة التي ستدور رحاها على ارض الموصل ضد تنظيم الخلافة، فالاخبار بوتيرتها المتسارعة كانت تتناصف معنا لقمة العيش التي نأكلها والاحلام التي تراودنا والكوابيس التي تجثم على صدورنا ، أما في الجهة الاخرى البعيدة عنا فقد كان الزمن على الارض يجري ثقيلا على اهلنا في الموصل، واحال حركتهم في ازقتها وشوارعها اشبه بمسيرة عميان في ارض موحلة، بعد ان اصبحوا قابعين تحت سماء تمطرخوفا وهم ينتظرون ساعة الخلاص .

اولئك الاطفال
ازاء ارتفاع درجات الحرارة وما كان ينتج عنه من احساس ذاتي وكأنني عالق في اللاجدوى ، استحالت القراءة السبيل الوحيد للقضاء على ذاك الزمن المتكدس في الفراغ ، كما ان الالتحام بعوالم خيالية توفرها الكتب كان بالنسبة لي افضل وسيلة انتشلتني من تفاصيل ذلك المشهد الذي كان يطاردني اينما التفت، لان منظر الاطفال الصغار المصابين بالسرطان، بدا بالنسبة لي الاشد قسوة، حتى انني عجزت تماما عن التعايش معه، وكلما رايت واحدا منهم شعرت كما لو ان جميع الاشياء اصبح لونها اسودا قاتما، ودائما ما كنت اصرخ في داخلي وانا اتوجه بنظري نحو السماء :
مامعنى هذا الامتحان العسير لهذه الكائنات الجميلة ؟
بإي منطق يمكن تبرير الوحشية في  ايذاء البراءة ؟
كيف للعالم ان يصبح مكانا آمنا اذا كان يتحمل وبكل برود هذه الخطايا ؟ 
لم يكن ممكنا للعقل ان يستريح ويركن الى ظلال باهتة من التفكير امام رؤية واحد من اولئك الاطفال، وبيني وبين نفسي كنت اردد " ينبغي لادمغتنا ان تتحول الى حاويات للنفايات إذا كانت قدراتها قد اقتنعت  بتلك النتيجة التي وصلت اليها انسانيتنا . . كل الاشياء التي نلهث وراءها مجرد ترهات . . لسنا سوى مخلوقات بشرية ذئبوية الدوافع" .
كانت اجسادهم الواهنة المستسلمة للوجع تشتت افكاري وتبعثرني الى اشلاء ،فالمشهد كان صادما بالنسبة لي، ولم استطع ان اعتاد عليه طيلة الاشهر التي كنت فيها احد شخوص ذلك المكان، وكثيرا ما لفت انتباهها هي ما كان يحصل من تغير في حالتي النفسية ما أن نصادف اي واحد منهم ، حيث الصمت يضربني بمعاوله ، حتى انها ما عادت تسالني عن السبب لانها ادركته بفطنتها ، ولكي اتفادى تبعات رؤيتهم كان علي ان ابذل المزيد من الجهد في تحفيز مخيلتي حتى تعمل بنشاط غير اعتيادي للخروج من حالة اليقظة التي كنت فيها والنأي بعيدا عنها. لكني لم استطع ان امحو من ذاكرتي  صورهم واحدا واحدا ، ومازالت تقبع فيها مثل الوشوم ، فمن الصعب نسيانهم برؤوسهم الحليقة واجسامهم النحيلة التي تكاد  تفلت منها عظامهم البارزة، ولون بشرتهم الاصفر الشاحب المائل الى السواد الذي احالهم الى كائنات ضعيفة بعد ان مسخ المرض طفولتهم ، ومن الممكن لحالتهم تلك ان تدفع اعتى المجرمين إذا ما شاهدوهم الى ان يشفقوا عليهم، فليس من المنطق ولامن  الطبيعة الانسانية ان لايتدفق الدم ساخنا في القلوب المتحجرة حتى إذا ما اجبرت على ان تنظر اليهم . واستطيع ان اقول بأن رؤيتهم كانت تملأني كراهية على ساسة البلاد، ولولا انني كنت ادفن راسي بين حروف الكتب لما استطعت البقاء داخل مبنى المستشفى طيلة فترة الانتظار.

رحيل عكس الزمن 
احيانا كان النعاس يغلبني فاضطجع على المصطبة لاخذ قسطا من النوم، فما كان يعنيني لحظتها هو ان اريح جسدي، ولا اعير اهمية لكل ما كان يدور من حولي، فأطفىء ضوء الشمس، واوعز للصمت ان يورق باغصانه، لارحل بعيدا في الزمن بعكس عقارب الساعة، الى حيث كانت تتوق اليه الروح في تلك اللحظات بالخلود في مكان قصي منفصل عن الارض لان ساعات الانتظار كانت تسبب لي ارهاقا نفسيا مع تيبس في مفاصلي، وبين فترة واخرى كنت اترك الحديقة خلفي واتجه الى داخل مبنى المستشفى لاتفقدها حيث كانت ترقد على السرير داخل الصالة، لأتأكَّد من انها في حالة جيدة، وإذا ما وجدتها مستلقية وهي تتجاذب اطراف الحديث مع المرأة التي ترقد على السرير المجاور لها، اعود ادراجي الى الحديقة. وقد اخطو الى خارج مبنى المستشفى احيانا تحت ضغط الشعور بما كان يصيب جسدي من تقاعس ، فاجتاز الشارع  لاحتسي مشروبا غازيا او قدحا من الشاي من كشك صغير يقع عند الجهة المقابلة لمبنى المستشفى ، ثم اعود بعد نصف ساعة الى الحديقة لاعاود القراءة، وهكذا كنت اقضي بقية الوقت الى ان اجدها خارجة من المبنى وهي تؤشر لي او تنادي علي، وكثيرا ما كانت توقظني إذا ما وجدتني اغط في نوم عميق، لنعود الى البيت بعد ان تكون اشعة الشمس قد مالت الى المغيب .
بقينا على هذا المنوال مدة عام كامل، حتى ان حياتنا تبرمجت على هذا النظام الصارم، وما كان امامنا اي خيارات اخرى بديلة، وبدأنا نجمع شتات انفسنا التي تبعثرت خلال الاشهر الماضية ، وحاولنا قدر مانستطيع ان نصل الى ما يجعلنا في حالة توازن بين ماكنا وما اصبحنا عليه، لاننا في النهاية لابد ان نمسك بخيط الحياة على قدر ما نملك في داخلنا من امل ، خاصة من جانبها هي ، لانها رغم الاوجاع التي كان من الممكن ان تكسر ارادتها إلا انها بما كان لديها من رصيد ايماني كبير بمشيئة الله لم تفقد السيطرة على لجام ادارة شؤون حياتنا ، وكأن نهر الحياة لديها لم يغير مجراه.

حكايات واصوات
تشكلت لدينا معارف بالعديد من المرضى ومع من كان يرافقهم، من النساء والرجال والاطفال، وكثيرا ما كنّا نجلس معا نرمي حمولتنا على بعضنا البعض، عندما نلتقي  بعد كل واحد وعشرين يوما لتلقي الجرعة الشهرية ، وكل واحد منَّا كان مطمئناً من انَّ ما يبوح به من اوجاع سيلقى اذانا صاغية، ربما لن يجد خارج ذلك المكان من يصغي اليها، فيكشف  كل واحد عن تفاصيل مطمورة من حكايات مرت به، فيمضي الوقت  بنا سريعا ويفيض عن حاجتنا اليه ، واغلب من تعرفنا عليهم كانوا عربا ومسيحيين نزحوا الى اقليم كوردستان هربا من العنف والارهاب الطائفي ، لذا كانت احاديثنا في اغلبها بمثابة مشاهد يجمعها سياق واحد في شريط سينمائي طويل تتحدث عن تغريبة النزوح العراقي ، وما رافق ذلك من خسارات عصفت بالمال والاولاد والممتلكات والاحلام ، فكنا نفتح خزائن الذاكرة لننفض الغبار عما تكتمه في صناديقها من قصص، وكأننا باستعادتها نريد ان نهرب منها وكلما اوغلنا بتفاصيلها اتسعت المسافة بيننا وبينها، ومازلت احتفظ بذاكرتي بالكثير مما سمعته من حكايات، بل حتى نبرة الأصوات، ولحظات الصمت، وملامح الاسى التي كانت تتارجح في الهواء وتفتح الجروح ثانية كلما استعاد اي واحد منهم  مامر به من بلايا.

مسيحيّتان من الموصل
ما زلت اذكر تلك الجلسة التي جمعتنا على مصطبة واحدة في الفناء الخارجي للمستشفى مع سيدتين توأم من مسيحي من الموصل، كان عمرهما قد تجاوز الستين عاما، وتبدو عليهما الاناقة في المظهر وفي طريقة حديثهما، احداهما كانت مديرة مدرسة ابتدائية، والثانية موظفة في بنك الرافدين، وكلتاهما لم يحالفهما الحظ بالزواج ، فكانتا تعيشان لوحدهما في بيتهما الذي ورثتاه عن والديهما في منطقة "دَكَّة بَرَكَة"التي تعد من الاحياء القديمة في الجانب الايمن(الغربي)من الموصل، ومازلت اشعر بسخونة تلك الحسرات عندما كانت تسرد لنا مديرة المدرسة اللحظات الاخيرة وهي  تتفقد كل ركن في بيتهما، قبل ان تغادر مع شقيقتها المدينة نهائيا بعد مرور شهرين على سيطرة تنظيم الخلافة عليها، ولمَّا عبّرتُ عن استغرابي من بقائهما طيلة تلك الفترة تحت سلطة التنظيم،كانت اجابتها بانهما لم يكن لديهما مثل الكثير من سكان المدينة اي فكرة واضحة عن الذين دخلوا بين ليلة وضحاها وسيطروا على المحافظة باسرها، لانهم كانوا غير معروفين كاشخاص،ولا الجهات التي ينتمون اليها، بل إن  المعلومات عنهم والتي كان الناس يتداولنها في ما بينهم كانت متضاربة، منها ما تشير الى انهم بعثيون واخرى تؤكد على انهم ثوار من العشائر، وما أبعد عنّا شبح الخوف منهم في الاسابيع الاربعة الاولى وجعلنا نتراخى ولم نتحسس الخطر القادم، انهم كانوا بغاية الدهاء،إذ لم يكشفوا عن حقيقتهم عندما دخلوا، بل على العكس صدر عنهم تجاه الناس جميعا تعاطفٌ ورأفة واحترام، بما في ذلك نحن المسيحيين، فوجد الناس قدرا كبيرا من الحرية كانوا قد افتقدوها خلال السنين التي اعقبت العام 2003  بسبب الاساليب القهرية التي كانت قوات الجيش والشرطة تتبعها مع المواطنين سواء في المداهمات التي عادة ما كانت تتم في ساعات الفجر الاولى او في عشرات الحواجز ونقاط السيطرات والتفتيش التي اقيمت في الشوارع الرئيسة والفرعية وعند مفترق الطرق في منتصف الاحياء السكنية، فغاب عنّا جميعا الاحساس بالامن بدل ان يحل فينا،على سبيل المثال كنت في الاوقات الاعتيادية اصل الى مدرستي خلال خمس دقائق، لكني وجدت نفسي لا استطيع الوصول اليها إلاَّ بعد ساعة من الزمن، بسبب وجود اكثر من عشرة حواجز تابعة للجيش بين الشوارع والافرع المؤدية الى المدرسة، وكان الناس يقفون مجبرين تحت الشمس الحارقة واثناء البرد والمطرعلى شكل طوابير طويلة ليجيبوا على اسئلة لامعنى لها، الهدف منها فقط اذلالهم، واحيانا كانت اذناي تلتقط عبارات طائفية تصدر من  بعض العناصر، وكان مشهدا مألوفا ان تجد شخصا يتعرض  للضرب حتى لو كانت معه زوجته واطفاله إذا ما شعروا بانه ممتعض من تلك الاجراءات.فانتهى الحال الى ان البعض بات يتمنى ان يحكمه الشيطان للخلاص مما كان عليه، لكن الذي حصل ان عناصر تنظيم الخلافة، فجأة ودون مقدمات، كشفوا عن وجههم البشع الذي نجحوا في اخفائه خلال الشهر الاول من سيطرتهم على المدينة، وانقلبت الامور رأسا على عقب، وبدأت جدران الكذب والتضليل الذي مارسوه في الايام الاولى تنهار تباعا في ممارساتهم اليومية التي بدأوا فيها في تدمير كل مظاهر الحياة المدنية، وبدأنا نستشعر الخطر يتقدم نحونا نحن المسيحيين ،عندما بدأوا يسحقون المسلمين قبل غيرهم من ابناء الطوائف الاخرى، أما جرس الانذار بالنسبة لنا فقد جاء في منتصف شهر تموز عندما استفقنا على صوت انفجار هائل ارتجت بسببه جدران بيتنا العتيق،وشعرنا ساعتها اننا سنقضي نحبنا تحت انقاضه من بعد ان ينهار علينا، فخرجت الى الزقاق وسمعت من الناس ما كانوا يتداولونه همسا في ما بينهم، وعرفت منهم ان مسلحي داعش قد فجروا جامع النبي يونس . .صدِّقني لااستطيع ان اصف لك ماذا حصل لنا ما أن سمعنا الخبر، وكأننا تلقينا صفعة قوية ايقظتنا من غفوتنا ، وبدأنا نرتعش من شدة الخوف ، احسسنا بحقيقة الخطر الذي اصبح على بعد خطوة منا، فدخلنا الى البيت وكنا في حالة ذعر لاتوصف ، واغلقنا الباب خلفنا وبقينا نحدق ببعضنا والهلع يسكننا ولانعرف ماذا نقول وكيف نتصرف، لاننا لم نكن نستوعب ما اقدم عليه هؤلاء، لان ما اقترفوه كان يعني بالنسبة لنا نحن المسيحيين قبل المسلمين حدثا كارثيا، بل استطيع ان اقول عنه بأنه اكبر فاجعة تلقتها المدينة منذ عشرات السنين، لان جامع النبي يونس  كان جزءا من تاريخ كل واحد من الاجيال التي عاشت في الموصل، فالمكان له علاقة بكل الموصليين وليس المسلمين وحدهم، ولهذا جاء تفجيره نقطة تحول في تفكيرنا، بعد ان وجدنا انفسنا وكأن غشاوة سميكة قد نزعت عن اعيننا، فأبصرنا الحقيقة واضحة دون رتوش، وادركنا ان بقاءنا يعني اننا ننتظر الساعة التي سيذبحوننا فيها، خاصة واننا كنا لوحدنا وما من رجل في البيت قد يحمينا، اضافة الى اننا مسيحيون، فقررنا الخروج بنفس اليوم دون تأخير،عندها طلبت من اختي ان تنادي على أم ادريس جيراننا، ولما جاءت، اخبرتها بما كنّا قد عزمنا عليه، وسلمتها مفاتيح الدار، وطلبت منها ان تكلف ابنها ادريس بان ينقلنا بسيارته الى ناحية كرمليس، واتذكر انني قبل الانفجار بنصف ساعة كنت قد تسوّقت، حيث ملأت الثلاجة بالفواكه والخضراوت اضافة الى انني اشتريت كيلوغرام واحد من اللحم، وبينما كنا في وسط فناء الدار نودع أم ادريس اخبرتها بان كل ما موجود من حبوب وبقوليات وسكر وشاي في السرداب وكذلك ما موجود في الثلاثجة والمجمدة من مواد غذائية حلال عليها وعلى اولادها، وقبل ان اخرج  استدرت ناحيتها وحمّلتها امانة بان تحافظ على البيت وان تحرص على ان تسقي النباتات والزهور، ثم غادرنا الموصل ونحن نحبس دموعنا ولم نأخذ معنا سوى ملابسنا فقط، وتركنا خلفنا كل شيء.
لم استوعب الى هذه اللحظة كيف يتم سحق الانسان بطرق مختلفة تتوغل بأدق تفاصيل حياته، وكأن كل واحد منّا ليس إلاّ مجرد فأر صغير في حقل تجارب ، تبدأ من الشارع والمدرسة ولتنتهي بكافة مفاصل الحياة ، مازلت لا أفهم لماذا الاصرار على ذلك، ولم تقنعني كل التحليلات التي قرأتها حول اسباب هذا القتل الممنهج .




يتبع..

15

ج 18 اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية -     
             

مروان ياسين الدليمي 



طبيعتي المُشاكِسة
لااستطيع ان انفي عن نفسي طبيعتها المشاكسة التي تعلن عن وجودها فجأة، وكأنَّ لها ردود افعال خاصة بها،ويصعب عليّ أحيانا ان أخنع اهتياجها عندما يُرتَكَبُ أمام نظري خطأ عن عَمد، قد يتسبب بضرر شديد للآخرين، وغالبا ما وجدتني في موقف لا احسد عليه، بسبب غضبي واعلان رأيي الصريح دون مواربة، وهذا ما كان يضعني في مواقف متشنجة ضد اخرين ، قد اتعرض بسببها الى مصادمات وتجريح، واحيانا اشعر بحالة نأي غير معلنة تتشكل ضدي من قبل زملاء ومعارف وحتى اصدقاء، ومع ذلك لم أكف، رغم انني في كثير من الاحيان امارس مع نفسي تقريعا ذاتيا شديدا، لانها كثيرا ما  تركمني بقضايا لاصلة شخصية تجمعني بها، ولكن على ما يبدو فإن الطبع يغلب على التطبع كما يقال، وهذا ما تكرر ايضا اثناء ماكنت منقطعا عن كل ماحولي ومنغمسا في رحلة علاجها لتلقي الجرعات الكيميائية. . فقد عزمت منذ زيارتي الاولى للمستشفى على ان التقط بعض الصور عن طريق كامرا الموبايل ولكن بطريقة خفية دون ان اثير انتباه احد ، لاجل ان ادعم بها الموضوع الصحفي الذي كنت انوي كتابته،بعد ان هالني حجم المعاناة التي كان المرضى يتحملون تبعاتها على صحتهم، بسبب عددهم الكبير وقلة الأسِرّة المتوفرة لاستقبالهم اثناء تلقيهم الجرعات الكيمائية، فليس اكثر قسوة من مشهد مريض بالسرطان ينتظر اربع او خمس ساعات حتى يحظى بسرير فارغ يستلقي عليه اثناء ما يتلقى جرعته، وبعضهم رغم تردّي حالته الصحية، كان مرغما على ان ياخذها وهو جالس لثلاث ساعات متواصلة على كرسي دون ان يكون قادرا على النهوض او الحركة، وربما يطول به الزمن الى اكثر من ذلك، بينما تقتضي حساسية الحالة الصحية وحراجتها لهؤلاء المرضى على وجه الخصوص ان يستلقوا على سرير ليكون جسدهم مسترخيا طيلة الوقت الذي يتلقون فيه الجرعة .
ما حفزني اكثر على تنفيذ الفكرة، انها في الاسبوع الماضي كادت على وشك ان تجلس على كرسي لتاخذ جرعتها، عندما طرحت عليها احد الممرضات هذا الخيار بعد ان لفتت انتباهها ووجدتها مرهَقة جدا بسبب طول ساعات الانتظار، لكنني رفضت، لان ذلك قد يتسبب في تدهور حالتها الصحية ولربما تصاب بالدوار وتسقط على الارض، وكان علي ان اقنعها بأنه ليس امرا هيِّنا ان تجلس لثلاث ساعات مزروعة على كرسي والكينونة في يدها واعصابها مشدودة.

فخ نصبته لنفسي
بعد يومين على تلقيها للجرعة الثانية كان لابد ان نتجه صباحا الى المستشفى لكي نجري فحصا لدمها، لمعرفة تطورات حالتها الصحية، وبدأتُ في تنفيذ فكرة التصوير ما أن اقتربنا من الممر الضيق الذي يؤدي الى غرفة الاطباء، والذي عادة ما يتزاحم فيه عدد كبير من المرضى كان كل واحد منهم ينتظر دوره، ليكشف عليه الطبيب المسؤول عن حالته.
الزمتُ نفسي بأن اكون على قدر كبير من الحذر حتى لاأثير انتباه احد ما، ولاجل ذلك كتمتُ خاصية الصوت في تقنية كامرا الهاتف الذي عادة ما يصدر اثناء عملية الالتقاط .
وبعد أن تأكدتُ من انها قد دوَّنَت اسمها في السجل الخاص بقائمة المنتظرين للكشف عليهم والذي كان موضوعا على منضدة حديدية صغيرة يجلس خلفها موظف شاب، ومن ثم إطمأنيتُ عليها لانها حظيت بكرسي اصبح فارغا بعد ان نهضت عنه احدى النساء ما أن  نودي على اسمها، عندها تخيَّرتُ ان ابتعد حتى نهاية الممر، وجلستُ على ثالث درجة من سلّمٍ حجري يؤدي الى الطابق الثاني من المبنى، لأنني وجدت في المكان الذي اخترته زواية متسعة تمكنني وبشكل خفي من التقاط بعض الصور التي  تظهر حجم الازدحام، ولكي ابدو للاخرين كما لو انني اتصفح المواقع في الهاتف، فأنا على عِلم مسبق بان التصوير ممنوع، وتأكدت من ذلك في زيارتي السابقة قبل شهر عندما لاحظتُ فريق عمل احدى القنوات التلفزيونية ورغم انتظارهم عند البوابة الخارجية للمستشفى لفترة تزيد عن الساعة رفضت الادارة ان تسمح لهم بالتصوير . . في لحظة ما شعرت بحركة جلبت انتباهي كانت قد صدرت عن  شاب لم يتجاوز العقد الثالث من عمره ، في حينه أومأ لي حدسي بانه كان يراقبني، فحاولت ان يكون رد فعلي طبيعيا كما لو انني  كنت مستغرقا في النظر الى شاشة الهاتف وقراءة موضوع ما، ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى جاءني شخصان من موظفي المستشفى وسألاني إذا ما كنت مريضا او مرافقا لمريض، ومن بعدها طلبا مني ان اسلمهما الهاتف، ولانني كنت حريصا على ان اتحاشى اثارة اي ضجة اثناء مجادلتي لهما، لذا طلبت منهما ان نذهب الى غرفة الادارة وهناك يمكن ان نتفاهم، ولما وصلنا بالقرب من غرفة الادارة طلب مني احدهما بان أسلمه الهاتف وإلاَّ سينادي على الشرطة، ولانني ادرك جيدا عدم جدوى الحوار في مثل هذه الحالات سلمته اياه وبدأ في عملية البحث عن الصور في استديو الهاتف وانا اقف الى جانبه، وما ان عثر عليها حتى اشار على كل صورة بعلامة صح، ثم ضغط على زر المسح لتختفي جميعها، لكنه بقي محتفظا بالهاتف ورفض ان يسلمني اياه لمّا مددت يدي نحوه، انذاك احسست بأن المسالة لم تنتهِ بعد ، وان هناك فصلا اخر ينتظرني، ولكني لم استطع تخمينه ، ولهذا استنفرتُ فطنتي استعدادا لكل الاحتمالات غير السارة، فأنت إذا ما وقعت في شرك من يمثلون الدولة، عليك ان تتوقع الاسوأ، لانك ستكون مضطرا أن تصمت وتتغاضى عما يمكن ان ينال منك شخصيا، هكذا تعودنا في منظومة حياتنا أن نخضع لكل ما يمثل السلطة الحكومية، وان تعبّر ردود افعالنا عن الخضوع، حتى لو لم نكن مخطئين، لاننا إن لم نفعل ذلك فهذا يعني اننا قد نلقى الفاظا لاتسرنا، وربما نوضع في موقف محرج لكرامتنا الشخصية، فكيف إذا كنا بحكم الغرباء، انذاك سنشعر بخوف مضاعف، وربما سنلعن الساعة التي ولِدنا فيها . .وفي محاولة مني للتغطية على ما كنت اشعر به من قلق، ليس ازاء نفسي ، انما تجاه زوجتي إذا ما علِمت بالموقف الذي سقطت فيه، اقدمتُ على ابراز الهوية التي تثبت بانني عضو عامل في نقابة الصحفيين، ودعمت تلك الحركة التي اشعرتني بشيء من الثقة بجملة حاولت فيها ان اثبط همَّتهما فقلت لهما بأن الصور ليست مهمة بالنسبة لي إذا ما اردت ان اكتب موضوعا صحفيا عن المستشفى، ولكي اخفف من حدة الموقف أكدت لهما بان ليس لدي اي ملاحظات سلبية على اداء جميع افراد الطاقم الذي يعمل فيها، ولا أحد يستطيع ان ينكر جهدهم الكبير والمضني في ادارتها، لكني بصدد كتابة موضوع حتى استعرضه في البرنامج التلفزيوني الذي اقدمه اسبوعيا على شاشة القناة التي اعمل فيها، وهدفي من ذلك ان اثير انتباه السادة المسؤولين الحكوميين حول المشاق التي يتحملها مرضى السرطان في رحلة علاجهم، ومن الضروري ان يزداد الاهتمام بهم وبماتحتاج اليه المستشفى من دعم حتى تستطيع ان تواجه العدد الكبير من المرضى .
وقبل ان انهي كلامي انهالت الاسئلة عليّ من قبلهما:"من انت ؟ ، ماذا تعمل ؟ ، اين تسكن ؟ ، من اي مدينة ؟ ، من اي طائفة ؟، من اي عشيرة ؟" . احدهما وهو الاصغر سناً، كانت نبرة صوته ترتفع بشكل مزعج اثناء ما كان يوجه الاسئلة، لذا طلبت منه ان يهدأ ولايرفع صوته، لان المسألة لاتستوجب ذلك، خاصة واننا داخل مستشفى . وظننت  بانني سانهي الجدل لصالحي عندما ثم اعلنت عن رغبتي بمقابلة المدير، لكن اجابة الموظف صاحب الصوت المرتفع افحمتني، لمّا قال لي بان المدير يعرف كل ما تريد ان تقوله له، وسيكون جوابه بان طاقة المستشفى الاستيعابية ستكبر بعد ان تنتهي اعمال التطوير والتوسيع بعد شهر. وقبل ان يسلماني الهاتف والهوية حذراني من الاقدام على التصوير مرة اخرى، لانني سأكون سببا في حرمان زوجتي من تلقي العلاج في المستشفى.

الحب خارج الحسابات
خرجت الى الباحة الخارجية وجلست على مصطبة في مقابل حديقة المستشفى لكي استعيد هدوئي، وبيني وبين نفسي حمدت الله بأن الذي جرى لم تكن تعلم به زوجتي، لانها لو كانت حاضرة في حينه لربما اصابتها انتكاسة صحية بسبب خوفها عليّ من ردود افعالي التي لا استطيع التحكم بها احيانا، خاصة إذا ما تعرضتُ الى موقف يستفز كرامتي الشخصية. وكانت تدور في راسي فكرة اننا احيانا نضطر الى ان نهادن الظروف التي تعبس بوجهنا، ولنا عذرنا في ذلك إذا ما وجدنا ان مسالة الثبات على الموقف اقرب الى ان تكون تعبيرًا عن الحماقة، لان اضرارها ستكون مؤذية لمن نؤثرهم على انفسنا، ومن الناحية المبدئية انا لست على استعداد ان اكون سببًا  في حرمانها من العلاج  تحت اي ظرف، وتساءلت مع نفسي هل ساستطيع ان اتحمّل ما سيواجهني به ضميري من حساب عسير إذا ما كنت مسؤولا عن اي تطورات سيئة في حالتها الصحية ؟ .
بقيت لساعة من الزمن مأخوذا بتلك الدوامة من الافكار، حتى انني لم اكن اعي ما كان يدور حولي، وازدادت قناعتي بان الألم الذي قد نسببه في لحظة ما لشخص نحبه لن يعادله اي ألم آخر، وأن مشاعر الحب التي نرتبط بها مع اناس يشكلون العالم الصغير الذي عادة ما نلجأ اليه ونحن مطمئنين من اننا سنجد فيه ما نبحث عنه من شعور بالامان والثقة والاطمئنان، هو القيمة الجوهرية الوحيدة في هذه الحياة، وغيره دائمًا ما يخضع لحسابات الربح والخسارة لانه مبني على المصالح والمنافع المتبادلة. ومن الصعب علينا ان نجد بديلا عن الانسان الذي نرتبط معه بعلاقة حب حقيقية، فكيف بعلاقة دامت ربع قرن تحت سقف واحد، فمن المنطقي انها لم تعد قابلة للمساومة تحت اي ظرف صحي قد تتعرض له، ومهما كانت الاعباء التي ساتحملها بسببها  . 
بعد ان انهت الفحص خَرَجت تبحث عني، رغم وضعها الصحي الذي لم يكن يسمح لها ان تبذل اي مجهود عضلي، وكانت تفتش بين جموع المرضى ومرافقيهم الذين كانوا يملأون ممرات المستشفى، ثم وجدتني جالسا على المصطبة في الباحة الخارجية، وكان القلق واضحا على ملامحها، لانها وحسب ما قالت لي في ما بعد، كانت قد لمحت  الموظفَين وهما يتحدثان معي، لكنها لم تستطع ان تلحق بي عندما خرجتُ برفقتهما، لانها كانت على وشك الدخول الى غرفة الدكتور لقمان بعد ان نادى باسمها الموظف المسؤول عن تنظيم دخول المرضى .

يتبع ...




16
المنبر الحر / الركض الى الجنة
« في: 19:00 05/11/2020  »
الركض الى الجنة

                                                         
مروان ياسين الدليمي



معبّأُ بما لم يرتكبه الانبياء من اخطاء   
ابحث عن دهشة طائر بين الكلمات
عن تأوّهات شجرة تتبعني
إذا ما  تناثر الأمل مثل غبار .

ليس غريبا إذا كان الفجرلايشبهني
لا لشيء إلاَّ لانَّهُ تعوَّد إن ينغمس في نومٍ قَصي 
خاوياً وجهه من التكُّهن
ومن غير ان يكون له تاريخ في الهواء مثل طائر النورس .

أُومىءُ لهمود القبلات في هذر الشوارع
ودائما ما اتساءل :
الى متى سيبقى الغسق مستلقيا على المرافىء
كلما نفضتني العزلة  خلف جدران من ضباب ؟ .


الجنون حاجتنا اليه لتبرير الأمل
واي محاولة للتشابه مع حكمة الاساطير
هي انعطافة بالفكرة بعيدا عن الشعور بالوحدة
يداي في شكلهما
لا اشك في انهما
اقرب مايكونا  الى قمر
كلما اصابه النحول 
يحنُّ الى الارض .

هل تود ان تتعلم الصمود سريعا
بين ذاكرة المتذمرين من التلصص على غيرهم  ؟
أم انك كنت تتخايل الانتعاش بمزاج ماكر
وانت تمكث مثل قطعة خزف عند حدود الارق ..؟
أم سترفع المواجهة بينك وبين ذاكرة النسيان الى الاصطدام ؟
اخشى  ما اخشاه
أن تمرق من بين الافكار المتحالفة على الوشاية بالموت . 

في موطن الركض الى الجنّة
لم تكن طارئا على العزلة في هذه الليلة
ولا ممتلئا بالخواء في ما مضى
انت مثل الريح
مُجبرٌ
على ان تكون غريبا
كثير التفاوت
ما بين الحضور والغياب .

 




17

ج 17 اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                                       
مروان ياسين الدليمي


لغةٌ مُلغَّزة عبر الهاتف

لم تكن الاتصالات عبر الموبايل مؤمَّنة بشكل متواصل مع الاهل في مدينة الموصل، وهذا ما اسقطنا في شرك افكار مختلطة كانت تتناوب علينا فتصيبنا بالعطب، لاننا كنا نعجز عن معرفة ما كان يدركهم خلف استار عزلتهم ، وباتت المكالمة الهاتفية بمثابة دخول غير آمن الى منطقة محفوفة بالمخاطر، وإذا ما كان هنالك اي شخص يجد نفسه مرغمًا على اجراء اتصال، فلابد له  أن يكون مرِنًا فيتواطأ مع قاموس جديد من المفردات الملساء الخاصة التي ينبغي عليه ان يبتكرها،  كما لو انها دائرة مغلقة من الشفرات اللغوية، لكي تنزلق الكلمة بسهولة، وتعبر الحواجز المنصوبة عبر شبكة الاثير، فلا تلتقط محتواها آذان الوشاة العابسين بوجه الحياة، ولاتقع في فخ تقاريرهم التكفيرية، وبامكان تلك المفردات ان تعيد تنظيم معاني افكار المتصلين في ما بينهم ولوحدهم، حتى لاتفضي بدلالاتها بشكل مباشر لكل من يسمعها إلاَّ من كان معنيا بها على الطرف الآخر، فالحديث لابد له  ان يبدو غير مترابط ، حتى لايمنح الفرصة لمن يتلصص عليه ان يمسك بالكلمات المحذوفة قصدًا من بين الجُمل، ويصطاد معانيها، ولهذا كنا نتحاشى انا وهي ان نجري اي اتصال مع اهالينا في الموصل إلاّ عند الضرورة القصوى، مع ان دواخلنا كانت تصطخب فيها الافكار والهواجس، لاننا كنا نتابع الاخبار ونستشعر ما سيحدث إذا ما اعلنت ساعة الصفر وأستُنفِر الرصاص.
بقيت مكالماتنا تكتب سيرتها الملغزة على فترات متباعدة من الزمن، ولم  نكن ندفع انفسنا اليها إلاَّ عندما يلسعنا الشوق الى الاهل والاصدقاء والاحبة خاصة من جانبها هي، لانها كانت بامَسّ الحاجة في بعض الاحيان الى ان تطوّح ما كان يعصف بها من لحظات كانت تقترب بها عند حافة الاحساس بالوهن. وعلى الرغم من صعوبة المهمة لدى عامة الناس وعلى وجه الخصوص البسطاء منهم ، ممن لايتقنون فنون التورية، إلاَّ ان القسوة التي كانت مسلطة عليهم استفزت فطرتهم، وايقظت فيهم ما كانوا بحاجة اليه من فطنة للتحايل على سلطة الموت التي كانت تتنصت عليهم ، وغالبًا ما كانت المكالمات تجرى خلال فترات متباعدة، حتى لاتستقر الاصوات في ذاكرة من كان يرصدها، ويضعها بالتالي تحت مقياس نصوصه الفقهية بكل مراوغاتها، فكان هذا الاسلوب الذي لجأ اليه القابعون تحت سماء مزججة بالحِراب نوعًا من المخاتلة، وكان لابد لهم ان يخضِعوا حذاقتهم لها حتى يتجنبوا الوقوع في دائرة الرصد الدائم، فالمهم ان لايكونوا داخل اطار الصورة التي كان يرسمها رجال الرعب بعد ان سيطروا على الاثير واصبح خاضعا لهم و لمزاجهم، فاشتدت مراقبتهم لشبكات الهاتف، حتى ان الاحاديث فقدت طعمها وحرارتها، ولم تعد تحمل مواعيد النداوة والانبساط ، ولهذا كان علينا نحن ايضا ان نخاتل بالغموض لنخفي ما نود ان نبوح به في لعبة نحاكي بها الطلاسم والحزورات، حتى اصبح الاتصال يشكل بالنسبة لنا هاجسًا مرعبًا يصيبنا بالشلل قبل ان نتفوه باي جملة، فالآذان المفتوحة خلف الجدران، دفعتنا الى ان نكون في حالة من الحذر الشديد مع كل مفردة نلتمس استعمالها اثناء حديثنا مع اهالينا، وكانت عقوبة الاعدام  تنتظر من يُشتبه باجرائه اتصالا خارجيًّا يشم من خلاله انه كان يسرِّب معلومات عما يجري في الداخل للعالم الكافر في الخارج، وهذا ما اشاع مناخًا من الرعب، فعمد الجميع الى أن يكتم مشاعره وافكاره حتى التي ليس لها علاقة  بالسياسة، خشية ان يتم تأويل دلالاتها والأخذ بها الى غير مقاصدها وبالتالي تنتهي حياتهم بالموت. ذاك الزمن الذي كان مثل شجرة يابسة، وطقسه مختنقا بروائح الوشاية، بات الهواء فيه  مسمَّما بالخوف والهلع.
ازاء ذلك اخذت المكالمات بينها وبين اهلها إذا ما تمَّت تُختَصَرُ باقل قدر من الوقت والكلمات، وما كان ممكنا ان  يتوسع الحديث الى ما يخطر بعفوية على البال، ولم يكن يتعدى حدود السؤال عن الصحة والاحوال الشخصية، فالجميع كانوا يراقبون انفسهم ويضبطون لسانهم بدقة وحرص بالغين كما هي حركة عقارب الساعة، حتى لايسترسلوا في الكلام ويقعوا في المحذور، لذا اصبحت المفردات اشبه بألغازٍ تحمل في داخلها معان يصعب البوح بها، لكنها كانت تصل بطريقة غير مباشرة للشخص المعني بالاتصال.
ومن ناحيتي كنت قد عاهدت نفسي على ان اطلعهم على حالتها في كل مرحلة من مراحل العلاج، طالما انهم غير قادرين على ان يكونوا الى جانبها، خاصة والدها الذي كان يحمل عاطفة قوية تجاه اولاده وبناته، ولهذا كنت قد ارسلتُ لهم مجموعة من صورها التي التقطتها لها منذ الايام الاولى لاصابتها، مرورا بكل التحولات التي شهدتها حالتها المرضية، وحتى تلك الصور التي كنا نظهر فيها ونحن نجلس في مطعم نأكل التبولة والشاورما في شارع الحمرا او عند ساحل البحر بمواجهة صخرة الروشة في بيروت، لانني اردت ان يكونوا على علم بكل التفاصيل .   

حديث وكامرا مفتوحة
في ثاني ايام عيد الفطر وبينما كان جميع افراد اهلها من الابناء والبنات والاحفاد مجتمعين في بيت العائلة فتحتُ كامرة الفديو بيننا، ولم اكن اتوقع ان تترك عليهم هيأتها الجديدة بشعرها الحليق ذاك الاثر الصادم، فقد ارتسمت على وجوههم  علامات الذهول مما كان قد اصابها من تغييرات طالت حالتها الصحية مثلما هو شكلها الذي تغير كثيرا، وبقي الجميع لثوان معدودة يغلفهم الصمت، وكانوا في حالة اشبه بمن لم يكن يصدق ما يراه بأم عينه، وعبَّرت نظراتهم عن الذي كان يدور في داخلهم من سعي حثيث لاختراق شاشة الهاتف واختزال الزمن والمسافات للبحث عنها بين تلك الملامح التي لم تكن تشبهها، فقد بدت لهم وكأنها ليست هي، بعد ان نال منها الشحوب والهزال بنفس القدر الذي كان رأسها الحليق قد غير من صورتها التي يعرفونها بها، فمن كانت تتحدث اليهم ظهرت امامهم اكبر عمرا من عمرها الحقيقي، وملامحها كانت اقرب الى ملامح امرأة دخلت مرحلة الكهولة، وهذا ما لايمكن ان تخطئه العين، حتى ان ايقاعها في الحديث كان بطيئا ولايعبر عما كانت تتسم به من تدفق وحيوية . ولربما البعض منهم كان يتصور قبل تلك المكالمة ان حالتها ليست على تلك الدرجة من السوء، واننا كنا في نظرهم نبالغ لاستدرار عطفهم، ولهذا كانت صدمتهم كبيرة، لكنهم وبعد ان استوعبوا الحقيقة الماثلة امامهم، وايقنوا  انها هي وليست غيرها، حاول كل واحد منهم ان يتحاشى التعبير عما كان يعصف به من ألم، وبدأ الجميع يحاول ان يشجعها ويرفع من معنوياتها،  وما أذكره جيدا في تلك المحادثة انني لاحظت والدها من بين جميع افراد العائلة كان يجلس متربعا على الارض ومستندا بظهره على الكنبة، وكان يبدو عليه سقوطه في دائرة من الكَمَد، ولااشكُّ ابدا في انها كانت تعتصر سنوات عمره التي تجاوزت السبعين عاما، وحتى الابتسامة الشفيفة التي اصطنعها على شفتيه لم تستطع ان تخفي ما كان ينزُّ في داخله من وجع ،ووجدت في دعواته التي توجه بها الى الله وهو يرفع يديه الى الاعلى بان يشفيها تعبيرا عما كان يحتبس  بين اضلعه من شوق لاحتظانها . أما شقيقتها الوسطى فلم تستطع ان  تتمالك نفسها، فانخرطت في نوبة بكاء جعلت صوتها يتهدج بينما اخذت تقسم باغلظ الايمان لو انها تستطيع الخروج من الموصل لزحفت على ركبتيها الى اربيل حتى تتولى رعايتها، لكن ماذا يمكنها ان تفعل وكل الابواب كانت مقفلة، والخروج من المدينة ما كان ممكنا ابدا، بعد ان  جثم الليل عليهم، وسحب منهم كل خيارات النجاة من المذبحة القادمة. 

ايام الهروب من الموصل
في تلك الايام المحشورة في لحظة مبهمة من التاريخ كانت مغامرة الهروب من مدينة الموصل اذا ما فشلت، فسيكون ثمنها فقدان الحياة تحت مقصلة الموت التي كانت منصوبة عند جميع مخارج المدينة، ومع ذلك لم يتردد عدد من سكانها ان يحاولوا النفاذ من بين اسلاك الغموض التي كانت تسوّر ما كان ينتظرهم في قادم الايام، فغامر الكثير منهم بالدخول الى الارض الحرام، فكانت بغداد واربيل ودهوك والحدود التركية تستدرج حلمهم بالوصول الى حيث الخلاص من المحرقة القادمة، لكن المخاطر كانت تنتظرهم في تلك الدروب القاحلة التي لم تكن تخطر على بالهم، ومع ذلك كان لابد من اللحاق بظلال المغامرة والاحتماء بفيئها حتى لو بدت سرابا ، فالمهم بالنسبة لهم هوالوصول الى عتبة الحرية، حتى وصل ثمن تهريب الشخص الواحد عن طريق مهربين يرتبطون بعلاقات  مع عناصر داعش الى عشرين مليون دينار عراقي، وكانت رحلة الهاربين تستغرق فترة زمنية قد تصل الى  اسبوعين حتى يتمكنوا من الوصول الى حدود محافظة دهوك في اقليم كوردستان، وفي ما لو سقطوا بايدي التنظيم عندها سيتم اعدامهم، وكثيرة هي العوائل التي انتهت حياة افرادها قبل ان يصلوا الى ماكانوا ينشدونه، فكان خلاصهم في موتهم . 

كيف لم تصب بالغثيان
عادة ما كانت تصاب بالغثيان في اليوم التالي على تناول الجرعة اضافة الى شعور عام بالانحلال وعدم القدرة على السير والوقوف، لكن  ماحدث في منتصف شهر تموز بعد ان تناولت الجرعة الثانية ان الاعراض  لم تظهر عليها باستثناء اسهال شديد استنزف قواها البدنية، فكان امرا غريبا عندما مضت ثلاثة ايام ولم تصب بالغثيان رغم ما كانت تعانيه من  صداع حاد، وهذا يعني ان هناك مشكلة صحية تستدعي المعاينة، لان ظهور الاعراض يشير الى انها في وضع طبيعي، وان جرعة الكيميائي قد اتت بمفعولها، والعكس صحيح، ولهذا كان لابد أن اذهب بها الى دكتور جمال غفوري في عيادته بمركز ميديا ليكشف عليها، وكما هو متوقع كان الازدحام شديدا في صالة الانتظار، لهذا اضطررنا للبقاء من الساعة الثالثة عصرا الى السابعة مساء حتى حان موعدنا، والحديث عن دكتور جمال لن يكتمل دون التوقف امام تلك الحفاوة التي كان يستقبل بها مرضاه، فبالاضافة الى خبرته الكبيرة في مجال اختصاصه التي تراكمت لديه نتيجة عمله لمدة تزيد على الثلاثين عاما في انكلترا فهو يمتلك اسلوبا في التفاعل الانساني مع المريض، وكان ذلك سببا رئيسا في حالة الاطمئنان التي كانت تشعر بها ما ان ينتهي من معاينتها. وبعد ان كشف عليها وسحب منها السائل اللمفاوي كتب لها وصفة فيتامينات حتى تستعيد قواها.
اذكر انني طيلة تلك الليلة بعد عودتنا من العيادة  كنت جالسا امام شاشة التلفزيون اتابع القنوات الفضائية التي كانت مشغولة بنقل مايجري من احداث سريعة ومتلاحقة في تركيا بعد انقلاب عسكري لم يكتب له النجاح، وعلى الرغم من ان العالم كله كانت انظاره مشدودة الى الشاشات وهو يتابع المواجهات العنيفة مابين الوحدات المتمردة من الجيش التركي وطيف من الشعب المؤيد لاردوغان إلاّ ان زوجتي لم تكن تعلم بما كان يجري حولها في تلك الساعات لانها كانت تغط في نوم عميق .
في اليوم التالي تحسنت حالتها واستعادة عافيتها بشكل واضح، حتى اني بعد ان عدت من العمل في الرابعة عصرا الى البيت وجدتها تقف وسط صالة الاستقبال وهي تؤدي بعض التمارين الرياضية الخفيفة .
 " انتِ جدا مستعجلة على بطولة الدوري " .علقتُ مازحا، فما كان منها إلاَّ أن بدأت تضحك، وكانت ضحكتها قد تركت انطباعًا في داخلي وكأنني سمعت صوتًا لطائر يصدح وهو يحلق في الفضاء، وهذا لانني ومنذ ان اصابها المرض كنت قد افتقدت فيها الاحساس الطبيعي بالفرح الذي وجدته باديًا عليها في ذلك اليوم، رغم انني كنت على علم بانها كانت قد عاودت ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بعد شهر من اجراء العملية الجراحية لكني ولاول مرة احظى بها وهي تمارسها .

الفتاة النمساوية
اي زوجين مضت بهما الحياة في دروبها، وهما ينقشان على منعطفاتها الحادة، لحن الوفاء الذي يفيض بعطر مايحملانه من مشاعر الحب لبعضهما، من الصعب عليهما ان يذعنا بعلاقتهما خلف ماتكدسه الايام امامهما من مسافات يعلوها الصقيع، مهما بدت الظروف شديدة عليهما في لحظة ما، فوهج الحب لاينطفىء حتى اذا ما اصبحت ذاكرة الزمن معطوبة بالاوجاع ، ومن ناحيتي كنت احاول ان لاادعها تستسلم الى تلك الاطياف التي كانت تحاول ان تستودع افكارها ومشاعرها في اعماق يستبد بها الخَوَر، ودائما ما كنت أذكِّرُها بأن  مرارة التجربة التي تمر بها ليست إلاَّ مجرد عتبة ستعبر منها الى حيث كنا طيلة ربع قرن نطوف معا بحكاياتنا بعيدا عن ضجة العالم، وماهي إلاَّ غمظة عين وسيزول من بعدها هذا الصدأ الذي تراكم فجأة في دفتر ذكرياتنا، فكنتُ حريصا على ان استدعي كل اشارة قد تمنحها جرعة أمل، وعندما لمحتها تمارس التمارين الرياضية كانت فرصة حتى اسقي نبتة الحياة فيها بعد ان وجدتها قد اينعت، ولم تكن المكالمة الهاتفية التي اجريتها في نفس ذلك اليوم مع صديقي الشاعر بولص آدم الذي يقيم في النمسا إلاَّ محاولة مني لكي استحث فيها روح التمسك بالرجاء، لان ثقتي به كبيرة، وكنت على يقين من انه يملك مايكفي من الفهم حتى يعينني على ان لاتنفد طاقتي من التفاؤل، ولانني كنت واثقا من انه سيُمسك بزمام الحديث الى الناحية التي كنت اتوخاها منه، بان يضع يده على الجرح ويرسم افقا من التيمُّن بما هو قادم، يقصي به اي صدى لافكار قد تنزلق بها الى حافة اليأس، فقد سبق له  ان مر بتجارب شديدة القسوة قبل ان يغادر العراق عام 1994 ولم تستطع السنوات التي قضاها في سجن ابي غريب منتصف ثمانينات القرن الماضي رغم مراراتها ان تكسر شوكة احلامه ورجولته، ولهذا عمدت على ان أفتح سماعة الهاتف وانا اتحدث اليه، لكي تسمع باذنيها ما سيفيض به عقله من افكار، خاصة بعد ان درس الفلسفة وعلم الجمال في النمسا، فاستفاض بحديثه معي عن تجارب شاهدها هناك تشبه حالتها، ومنها حالة أمرأة شابة بغاية الجمال حسب ما وصفها، كانت تسكن بالقرب من بيته في مدينة لينتز، ودائما ما كان يلتقي بها صباحا ويتبادل معها التحية اثناء ما كانا ينتظران الحافلة للذهاب الى العمل، وسبق لها ان مرّت بمرض سرطان الثدي، واجرت عملية جراحية لازالة الورم والثدي كاملا، ثم تساقط شعرها بعد ان بدأت تتلقى العلاج الكيميائي، وقد تفاجأ من شجاعتها التي لم تكن تشير اليها تلك النعومة التي كانت تطغي على اطلالتها الانثوية الصارخة، عندما وجدها صباح احد الايام بكامل اناقتها وهي تقف كعادتها في منطقة انتظار الحافلات، وترد على تحيته بابتسامتها المعهودة بكل اشراقتها، مع ان شعرها الاشقر الطويل الذي كان يأتلق مثل الذهب قد سقط نهائيا، ولم تلجأ الى تغطية راسها بقبعة او طاقية، وعندما استذكر تلك اللحظة قال:  لقد غمرني في حينه شعور من يرى فارسا يقف منتصرا في الميدان بعد معركة دامية، كما كنا نرى مثل هذا المشهد في الافلام السينمائية التي كانت تدور احداثها في زمن الرومان، وبقيت تلك الفتاة تمارس حياتها بشكل طبيعي، وكأن اي تغيير لم يحدث في شكلها وحياتها، مع انها لم تكن ابدا على تلك الصورة المتلألئة التي كانت عليها قبل مرضها، لكن ثقتها العالية بنفسها منحتها جمالا آخر يفوق ما كانت عليه من اطلالة قبل اصابتها، ومضت تشق طريقها في العمل والحياة والعلاج الى ان تماثلت للشفاء وعادت كما كانت من قبل واجمل .

يتبع ..












18
ج16 اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                       
مروان ياسين الدليمي


خياراتنا محدودة
كان عليَّ أن اكون شديداً مع نفسي فلا انهَدِن بسهولة،ولابد ان اتحمل ما اتجشمه من مشاق دون ان اتيح للاخرين ان يشعروا بذلك،واظنني قد افلحت الى حد كبير في ان احجب عنهم ما يدخل في باب الامور ذات الخصوصية الشخصية ، والتي لاشأن لهم بها ولاينبغي ان يطلعوا عليها،مهما كانت بسيطة، وهكذا كنت احتوي ذاتي بذاتي، بطوق من الكتمان، قاطعا بينها وبين الاخرين بمسافة، لكنني لم اكن اتخيّل ابدا ان تصطبغ حياتي برائحة المستشفيات وان تنغرس اقدامي بين ممرات عيادات الاطباء والمختبرات وغرف الاشعة، مدفوعا بمزيج من العواطف التي ازاحت بقوتها تلك المسافة بيني وبين الآخر،وهذا ما لم  أكن اتوقعه ان يكون على تلك الصورة من التسامي،وما يستدعي الغرابة انني وجدت نفسي مبتعدا عن حالة النفور التي لطالما لازمتني ازاء الاماكن التي يتواجد فيها المرضى، واصبحت موقِنَا  ان ضرورات الحياة تفرض على الانسان في اغلب الاحيان ان يغيّر من قناعاته، وبدا ذلك بالنسبة لي بمثابة قانون ازلي يسري عليه مثل دورة الليل والنهار، ولايستطيع الافلات منه مهما حاول، فالخيارات بقدر ما تبدو امامه كثيرة لكنه بالتالي سيكتشف انها محدودة جدا، وعليه ان يتعامل معها ويكيِّف حياته وفق هذا المسار المرسوم لها، فالمدى الواسع الذي كان يضعه  نصب عينيه في المراحل الاولى من شبابه ياخذ بالتضاؤل يوما بعد آخر، وتتحول تصوراته الجامحة الى افكار واقعية تتأقلم مع ماهو متاح وملموس، وهذا ما سيعمق من احساسه بمذاق الحياة، بالتالي سيزيد من ارتباطه بها، وبقدر ما يشكل هذا التغيير تقاطعًا مع ما كان يضعه في جعبته من احلام، إلاّ انه يحيله الى مرحلة من النضج، تجعله يعرف حقيقة قدراته وما يمكن ان يحققه من دور في هذه الحياة، فالشعور بالنصر والانجاز يتحقق عندما يصنع الانسان من اللاشيء شيئا، وبذلك يكون قد اختبر ذكاءه وقدراته بما هو متاح ورسم لنفسه طريقا من النجاح في ما لم يكن ممكنا تحقيقه .

هي مرآتي

ربما كان من العسير علي ان اتقبل فكرة حلاقة راسي بالصورة التي ابدو فيها مثل الجنود المستجدين في صفوف الخدمة العسكرية، ودائما ماكنت اعتبر من يلجأ الى ذلك، عادة ما يكون شخصا مشغولا في العمل، ولايعير اهمية لشكله ومظهره امام المجتمع، خاصة اذا كان عمله بلاصلة تجمعه مع الصحافة او الفن او الادب لان من يعمل في هذه الحقول عادة مايرتفع منسوب النرجسية لديه، ودائما مايعشق ان يرى صورته بارزة في كل شيء ينجزه، بغض النظر عن قيمته من وجهة نظر الآخرين مع انه حتى يستميلهم اليه يتفنن في استعراض نفسه، بينما الامر يبدو معكوسا لدى غالبية البشر المنغمسين في الكفاح من اجل تدبير لقمة العيش لهم ولاطفالهم فمثل هؤلاء فان آخر ما يمكن ان يفكروا به هو ان يستعرضوا مظهرهم مع ما ينجزونه من اعمال لانه ليس من ضمن اولويات اهتماماتهم، وانا بطبيعة الحال بحكم مهنتي وعملي في مجال انتاج البرامج التلفزيونية والاعلام سأكون ممن يهتمون بمظهرهم بقدر ما يتطلب عملي، لكن هذه الفكرة غابت عني ولم تعد تعني شيئا لي، عندما نظرت صباح اليوم الثاني من عيد الفطر الى  شكلي في المرآة، وكانت جلدة راسي تلمع تحت ضوء النهار، وكأنني كنت على تلك الصورة منذ فترة طويلة، خاصة بعد أن وجدتُ زوجتي تغادر حالة الحزن التي كانت قد تلبستها اثناء ما كنتُ منشغلا بحلاقة شعرها في الليلة الفائتة، وما ان اصبحت اقرعا لم تعد تجد نفسها في وضع مختلف عنّي، بعد ان تشاركتُ معها التجربة، حينها شَعَرتْ بالاطمئنان مِن انها لم تعد وحدها، وان هناك من يشاركها ويقف معها ويسندها، فلاشيء يعادل قسوة الشعور بالوحدة إذا ما سيطر على الانسان، فمن الممكن ان يحيله الى مخلوق يشعر كما لو انه يعاني من جرح عميق في روحه ومن الصعب ان يندمل ، وغالبا ما تقتحمة هواجس وخيالات متشابكة تمنع عنه طريق الحكمة في التفكير، لانه دائما ما يشعر وكأنه يحارب ولوحده في معركة، ولا احد يقف الى جانبه، فتزداد الهوّة بينه وبين العالم الذي يحيطه، وانا شخصيا مررت بهذا الشعور، واستطيع ان اؤكد بانه كان ملازما لي لفترة طويلة من حياتي، لكنه بدأ ينحسر وهانت حدته بعد ان وجدت في حياتي الزوجية  كيانا انسانيا يحتويني بكل ما يسكنني من شعور بالوحدة والاغتراب لم اكن استطيع الخلاص منه، وإليها اعزي مسؤولية هذا التحول، لانها بطبيعتها  الفطرية تحمل بذاتها تصالحا مع نفسها ومع الحياة مهما بدت صروفها كثيفة السواد في بعض الاحايين وهذا ماكنت افتقده واسعى للتقارب منه، فكانت مرآتي التي ارى فيها حقيقتي الداخلية بوضوح شديد، بكل ما فيها من ضعف وقوة وقتامة وبراءة وقسوة ووهن وسذاجة، ومن هنا بدأتُ معركتي مع نفسي، للخروج بها الى حيث تتنفس الهواء وتشم عطر الحياة وترى مالم تكن تراه من جمال في الآخرين، ولهذا ظفرتُ بسعادة داخلية عندما رايتها برأسها الحليق وهي تبتسم ، وكان ذلك اشبه بسماع صوت فيروز في ذلك الصباح المشمس من يوم الخميس المصادف في السابع من شهر تموز 2016 بينما كنا قد عزمنا على ان نذهب الى مستشفى ويلفر في منطقة بختياري، لغرض سحب ماتجمع خلال اسبوع من السائل اللمفاوي في منطقة الصدر، وبات يشكل ثقلا عليها، فيعيق حركة يدها اليسرى، اضافة الى ما كان يسببه لها من ألم لاتستطيع تحمله . 
عيد الفطر في مستشفى بختياري
اتصلت في تمام الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر باستعلامات المستشفى لاجل ان يحددوا لي موعدا مع الطبيب محمد علي الذي سيتولى عملية سحب السائل، لان دكتور جمال غفوري وقبل ان يسافر الى لندن في اول يوم من رمضان لقضاء اجازته مع عائلته التي تقيم هناك،  كان قد اوصاه بان ينوب عنه في هذه المهمة، باعتباره احد طلبته، فابلغني موظف الاستعلامات بالحضور الى المستشفى في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرا، اي بعد ساعة من اجراء المكالمة .
امست قواها البدنية واهنة خلال الايام الماضية، وبدا واضحا انها كانت تمرُّ في مرحلة صحية غير مطمئنة، حتى انها اخبرتني بانها غير قادرة على ان تتحمل السير من باب البيت الى الشارع الرئيس حيث سنستأجر تاكسي ،رغم انها مسافة قصيرة لاتزيد عن مائة متر، ومما ضاعف من حالتها تلك ان درجات الحرارة كانت مرتفعة جدا ،ولهذا طلبت منها ان تنتظر حتى اذهب لاستأجر سيارة وآتي بها الى البيت ومن ثم نذهب الى المستشفى.
بدت الشوارع خالية تماما من السيارات والمارّة في تلك الظهيرة التموزية القائظة والتي يمكن ان تُشَّم فيها رائحة حرائق، نظرا لسخونة الهواء الذي كان يلفح وجهي قبل ان يطلب مني السائق ان اغلق النافذة حتى استقبل الهواء البارد الذي بدأ يهب من جهاز التبريد الخاص بها، ولمّا وصلنا الى مبنى المستشفى في منطقة بختياري كان الهدوء ايضا مخيِّماً على  صالة الانتظار التي كانت تخلو تماما من المراجعين، ولم نجد سوى موظف الاستعلامات جالسًا لوحده وهو يلهو بهاتفه الشخصي، وعلى ما يبدو انه كان يتبادل التهاني مع اصدقائه ومعارفه بمناسبة العيد . 
البحث عن اجابة
خلال فترة الانتظار كنت احاول بيني وبن نفسي ان اجد مبررًا يدفع الانسان الى ان لايصل مرحلة الجزع من الحياة، بعد ان يجد العيش فيها مثل من يقطع دهرا من عمره في رحلة محفوفة بالمتاعب والمشقات لاكتشاف اماكن جديدة ،لكنه وفي لحظة ما يكتشف بان حاله يشبه حال ذاك السجين الذي  كان يتحرك طوال فترة سجنه  في مساحة ضيقة ولم يتمكن من توسيعها مهما شطح به خياله بعيدا عنها، فما هي حقيقة هذه العلاقة التي ترغمه بان يتعالى على جراحه ويبقى صامدا، مع انه سيصل الى نتيجة واحدة ؟ . . لماذا هذا الهيام بالحياة مع اننا سنغادرها دون ان نحتفظ بذاكرتنا ؟  .. وما جدوى ان نرتبط باشياء واماكن واشخاص إذا كانت ستغيب عنا في اللحظة التي نصبح فيها في عالم الفناء ؟  . .  أليس الاجدى ان لاتكون لنا علاقة مع كل ماهو خارجنا حتى لا نتألم ؟  . . ولماذا ندفع انفسنا الى هذا الألم ؟  .
وصلت في تفكيري الى اللحظة التي بدأت احسد فيها الحجر والماء والاشجار والهواء والرمال، وكل شيء لايملك ذاكرة ، وبدأت اعتقد بان الفرح الحقيقي يكمن فيها، لانه ازلي، ولن يتغير أو يزول ، وليس  الفرح ما نصطنعه نحن ونقنع انفسنا به على انه شعور بالفرح .
هذه الافكار التي كانت تدور مثل حجر الرحى في راسي ليس دافعها انني كنت احاول الهروب من الحال الذي اصبحتُ عليه، بعد ان ايقنت من ان رحلة علاجها ستمتد طويلا وربما ستطحن ماتبقى من سنوات عمري، ابدا ، فهذه العاصفة من الاسئلة دائما ما كانت تعاودني خلال مراحل كثيرة من حياتي، ولم اكن اصل فيها الى اجابات تملأ الفراغ الذي يهجع في روحي . بل على النقيض من ذلك كانت تجربة مرضها بكل مافيها من تبعات تحتاج مني الى صبر وحكمة وجلد ، بالتالي دفعتني الى ان أُنحّي جانبا كل الافكار التي كنت اتناغم معها لانها كانت تنتظم عند الدروب المعتمة والنوافذ المغلقة .
طبيب كوردي ولغة عربية
انتظرنا خمس عشرة دقيقة الى ان جاء الطبيب، وكان شابا متوسط القامة في الثلاثين من عمره، وبلحية سوداء كثة، وبعد ان سلم علينا اشار لنا بان نتبعه ونتجه الى غرفته في نهاية ممر طويل يبدأ من صالة الانتظار، واخبرنا بلغة عربية سليمة ونحن  نسير خلفه بانه قد حضر من البيت خصيصا لاجلنا، رغم انه كان يستمتع باجازة العيد، ولفتت انتباهنا سلامة لغته العربية  بدرجة كبيرة رغم انه كوردي، وهذا مما زاد اعجابنا به، لانه على الاقل افضل منا لاننا لم نكن نتقن الحديث باللغة الكوردية، ثم استدرك قائلا "ارجو ان لاتفهماني بشكل خاطىء،فأنا ادين بالفضل لاستاذي الدكتور جمال، كما انني اعتبر مجيئي في مثل هذه الساعة جزءا من مسؤوليتي المهنية والانسانية " . كان واضحا بالنسبة لي ان ما دفعه الى ان يقول ذلك خشيته  من اننا لربما قد فهمنا كلامه على غير ما كان يقصد ، لذا اراد ان يؤكد لنا بانه لم يكن يعني ابدا ان يجعلنا نشعر بفضله علينا، ومن جانبنا عبَّرنا له عن شكرنا وتقديرنا لموقفه، وقدمنا له التهنئة بمناسبة العيد. وكان من السهولة لمن يراه ان يدرك مدى الالتزام الديني في سلوكه، وهذا ما كانت تشير اليه تلك العلامة في وسط جبهته، بملمسها الخشن ولونها الداكن والتي عادة ما تبرز لدى المصلين الذين يكثرون من السجود. .وبعد ان هيأ السرنجة، طلب منها ان تستلقي على السرير، وبدأ في عملية سحب السائل اللمفاوي، وانتبهتُ الى انها هذه المرة كانت تشعر بألم شديد لم يسبق ان بدا عليها عندما كان دكتور جمال غفوري يتولى عملية السحب في عيادته في الاسابيع الماضية قبل سفره، فَعَمَدَت على ان  تكتم صرخاتها بأن ادخلت قبضة كفها الايمن في داخل فمهما، وبدأت تضغط عليها باسنانها، في جميع المرات التي كان يغرز فيها الابرة بصدرها، ومن ثم يبدأ بسحب السائل ومن بعدها  يفرغه في المغسلة. في تلك اللحظات حاولت ان اطوّق سمعي بعوازل وهمية من الاصوات التي حاولت ان اتخيلها حتى ابتعد عن الوجود المادي المحيط بي، لانني لم اعد احتمل ما كانت تشعر به من ألم، خاصة وان قوتها البدنية قد ذبلت بشكل كبير، بعد ان تناقص وزنها بما يزيد عن عشرة كغم خلال شهر واحد فقط ، ولمَّا لم افلح في ان ارتحل بمخيلتي عن محيط الغرفة، اضطررت الى ان اضع سماعة الهاتف في اذنيّ وأبدأ بتشغيل مقطوعة للموسيقار المصري ياسر عبد الرحمن من ضمن مجموعة قطع موسيقية كنت قد خزنتها في هاتفي، لكنني شعرت بضميري يؤنبني لانني تركتها لوحدها تعاني، ولم اشاركها تلك اللحظات التي كانت تتقلص فيها عضلات فكيها كلما كانت الابرة تنغرس في مكان العملية، فما كان مني إلاَّ ان رفعتُ السماعتين عن اذنيّ، واعدتهما الى جيبي في البنطال من بعد ان اطفأت الهاتف.
"عفوا دكتور، متى يمكن ان ينشف السائل اللمفاوي، فقد مضى اكثر من شهر على اجراء العملية ومازال يتجمع ما ان يمضي يومان على سحبه ؟". كنت اتوخى بسؤالي ان اصل الى اجابة تدعني اتأمل ان ينتهي هذا العذاب الذي كان يحصد اسبوعيا ماتبقى لديها من لياقة بدنية .
"هذا يتبع حالة جسم المريض من حيث البدانة وعوامل اخرى، وهنالك حالات ينشف فيها السائل بعد عمليتي سحب . "
اجابني الطبيب اثناء ما كان منشغلا بعمله، إذ لم يكن قد انتهى بعد، ثم استدرك قائلا"عندما يعود الطبيب جمال غفوري بعد العيد، ينبغي ان تراجعوه في عيادته وتسألاه حول ذلك، لانه هو من اجرى العملية واعرَفُ من غيره بحالتها " . 
"هل يمكن ان اتناول مضادات حيوية لتخفيف درجات الحرارة لان حرارتي مازالت مرتفعة منذ يوم امس". سَألتَه بينما كانت تحاول ان تستعدل بجذعها قبل ان تتهيأ للنزول .
"لابأس ان تتناولي اربع كبسولات، فليس هنالك من ضرر" . اجابها الطبيب بينما كان يقذف بالسرنجة في سلة المهملات، ثم اخذ ينزع عن يديه كفين من النايلون، واتجه الى المغسلة وفتح صنبور الماء وبدأ في تطهير وغسل يديه بمادة معقمة.
بدا عليها التعب واضحا عندما اعتدلت بجسمها على السرير وانزلت قدميها على الارض ثم انتعلت حذائها.اما الطبيب فقد رفض ان يأخذ اجرته، وأصرَ على انها هديته لنا بمناسبة العيد، فشكرناه وغادرنا مبنى المستشفى.
 ارتأينا ان نعبر الشارع باتجاه الرصيف المقابل حيث دخلنا سوبر ماركت وتبضعنا سلعا غذائية ضرورية، لان معظم الاسواق كانت مقفلة في المنطقة التي نسكنها ، ثم عدنا الى البيت بعد ان استقلينا سيارة اجرة .
يتبع ..


19
موفق

ج15  اكتشاف الحب:اوراق من مدونتي الشخصية

                         
مروان ياسين الدليمي


مراجيح الاميركان في شقق اليرموك   
كنت مطمئنا في تلك الساعة من انها لم تعد تخضع للقلق الذي كان يساورها في الايام الماضية،بينما كنّا ننتظر الى ان يحين دورها لاخذ الجرعة الاولى، لانها بطبيعتها لديها ميل لتطبيق تعليمات الاطباء بحرص شديد، وهذا لانها تحمل شهادة بكالوريوس في الكيمياء من جامعة الموصل،رغم انها لم تنخرط في عالم الوظيفة، لكن اختصاصها العلمي الذي اختارته عن قناعة منحها القدرة على فهم تركيبة الادوية ومعرفة فوائدها ومضارها، حتى انني ذكَّرتُها بذلك اثناء ماكنَّتُ اختلق الاحاديث باية صيغة حتى لاتشعر ببطىء جريان الوقت الى ان يحين دورها، إذ يتوجب علينا ان نكون صبورين لان هناك عشرين امرأة يسبقنها في الترتيب، لذا حاولت  قدر ما استطيع ان الاطف الوقت بمنعطفات تبعث المسرة وتخفف العبء عن الروح المتعبة كي لا نبقى اسرى تلك اللحظات الثقيلة التي امسك بها الزمن بقبضته، فما كان علي الاَّ ان احرِّض ذاكرتها على ان تنتقل معي على اجنحة الكلمات بين ازمنة عَدَّت علينا بحلوها ومُرِّها، وبعد ان اصبحت مطوية في عهدة الماضي، كانت بعض تفاصيلها تأبى ملامحها ان تضمحل  وبقيت تتراقص في مخيلتنا مثل نافورة يعلو فيها الماء وينخفض، فاستدعينا احداثا مرت بنا، خاصة عندما كنا نسكن في شقتنا بمنطقة اليرموك بمدينة الموصل، حيث كانت النساء في العمارة التي فيها شقتنا دائما ما يلجأن اليها لتقرأ لهن مامكتوب باللغة الانكليزية على المصلقات الورقية التي عادة ما يتم بها تغليف علب الادوية، ولم تكن تتثاقل من كثرة الطلبات، بل كانت تشرح لهن مامكتوب فيها من تعليمات تتعلق بفوائد ومضار الدواء، وتطور الامر بعد ان وصلت في الايام الاولى التي اعقبت سقوط بغداد وحدة عسكرية اميركية الى ارض خالية من البناء، كانت تقع في مواجهة العمارة السكنية التي نقيم فيها، ونزل  الجنود من الهمرات وانتشروا بكامل اسلحتهم واخذوا يستطلعونها، ثم بدأوا يرسمون عليها خطوطا بيضاء على شكل مربعات ومستطيلات، وفي فترة الظهيرة جاءت شاحنتان وافرغتا ما تحملانه من اعمدة خشبية وقضبان حديدية، اعقبتها ثلاث سيارات حمل من نوع القلابات محملة بالرمل، وبدأوا باعمال تقطيع الخشب والحديد، وهذا ما دفع سكان الشقق الى ان يتجمهروا على الشرفات والنوافذ واخذوا يراقبون مايجري امامهم ويتساءلون في ما بينهم ولايصلون الى جواب، وجل ماكانوا يخشونه ان يقيم الاميركان قاعدة عسكرية لهم على تلك الارض، فما كان امامهم الا ان يستنجدوا بها حتى تتحدث معهم وتفهم منهم الغرض من هذه الاعمال. وبينما هي تستوضح من العسكري الامريكي عن الغرض مما يجري التف حولهما جمع كبير من النساء،وعدد من الاطفال كانوا قد حشروا اجسادهم الغضة بين النساء ومدوا رؤوسهم نحو الاعلى وكأنهم  كانوا يتابعون امام شاشة التلفزيون فيلما من افلام الرسوم المتحركة باهتمام وشغف،واخذت تترجم لهن ماكان يتحدث به الجندي اجابة على اسئلتها وعلامات الدهشة والابتسامة كانت تعلو وجوههن، لكن دهشتهن لم تكن توازي دهشة الجندي الاميركي عندما وجدها ترتدي العباءة العراقية السوداء التقليدية وتتحدث معه الانكليزية بطلاقة، وتفاجأ اكثر ما أن علم منها بانها ربة بيت وليست موظفة مع انها تحمل شهادة جامعية، ولمّا اخبرتهن بان الاميركان عازمون على ان يقيموا متنزها يضم العابا ومراجيح للاطفال بدل ان تبقى الساحة مكبا للنفايات، ارتفع صوت الصفير والتصفيق من قبل الاطفال، واخذوا يتنططون ويدورون حول الجندي الاميركي وهم يرقصون ويصرخون باصوات عالية " كوود اميركا " وانساق معهم الجندي وهو يردد معهم "كوود اميركا " ولم يترك الفرصة تضيع منه واخذ يرقص معهم، بينما انبطح  بعضهم على الارض وهم يغصّون من الضحك ويؤشرون بايديهم على الجندي.
خلال ثلاثة ايام كان الاميركان يعملون طيلة ساعات النهار مثل خلية نحل، فتمكنوا من اقامة متنزه جميل احتوى على  كل ما يحلم به الاطفال من مراجيح ودولايب دوارة ومزحلقات، في منطقة شعبية تكاد  تكون منسية من قبل السلطة المحلية، كما زرعوا اشجارا بشكل متناسق  حول المتنزه وعلى طول الجزر الوسطية التي كانت تمتد وتقسّم الشوارع الداخلية ما بين العمارات السكنية.
في صباح اليوم الرابع خرجت الى الشرفة كعادتي ولاستمتع بمنظر المتنزه لكني تفاجأت باختفاء الاشجار والمراجيح، ولم يبق سوى القضبان الحديدية المثبتة في الارض، وما ان حل المساء فإذا بالمراجيح يحملها الاطفال وهم يخرجون بها من هذه الشقة وتلك، ويعلقونها بالكلابات المثبته في القضبان ، وبدأوا في التمرجح فيها حتى ساعات متاخرة من الليل وسط صخبهم وغنائهم، وقبل ان يغادروا المتنزه رفعوها من مكانها واخذوها معهم.
وبعد ايام عاد المتنزه الى سابق عهده ليكون مكبّا للنفايات .

الجرعة الاولى
مضت  ثلاث ساعات ولم يتبق الا خمس نساء كن ينتظرن دورهن،عندما نادى باسمها الموظف المسؤول عن تنظيم جدول دخول النساء الى الصالتين المخصصتين لتلقي الجرعات، وكانت الصالة الاولى تستوعب ستة اسرّة، والثانية اثني عشر سريرا. وبينما كانت تستعد للاستلقاء على السرير تذكَّرتْ ما كان قد  حذرها منه الطبيب جمال غفوري بان تتجنب اخذ اي حقنة في ذراعها الايسر حتى لاتتعرض لاي مضاعفات طالما ان العملية كانت في الجانب الايسر من صدرها، فكشفت عن ساعدها الايمن ليتم حقنها اولا وعبر الوريد بسائل لونه يشبه لون الماء كان معبأ بكيس ومعلقًا على حامل حديدي، الغرض منه خلق مناعة دفاعية لديها حتى لاتتقيأ بعد ان تتلقى الجرعة، وبعد ساعة من الزمن نفد ما بداخل الكيس، عندها استدعيتُ الممرضة من غرفة مجاورة فجاءت واستبدلت الكيس الفارغ بكيس آخر معبا بالمادة الكيمائية وكان لونها يشبه لون الدم، وكان يتوجب عليها ان تبقى راقدة في السرير وقتا لايقل عن ثلاث ساعات الى ان ينفد ما بداخل الكيس.
يوسف حنَّا الطفل العملاق
جميع المرضى في الصالة كنَّ من النساء،والى جانبهن تجلس نساء وفتيات يرافقنهن، لذا وجدتني في حالة حرج شديد، وهذا ما منعني من الجلوس بالقرب منها على السرير، وآثرت البقاء حيث كنت اجلس في صالة الانتظار على كرسي بمواجهة باب الصالة المفتوح وفي مقابل السرير الذي كانت ترقد عليه زوجتي، ولاحظت امرأة غير محجبة في العقد السادس من عمرها ترقد على السرير المجاور لها، مصابة بسرطان القولون، ومعها ابنتها التي لم تكن تتجاوز العشرين من عمرها. وكان بامكاني ان اسمع ما كان يدور بينهن من احاديث، فعرفت بانها امرأة مسيحية من الموصل لكنها تقيم منذ ثلاثة اعوام في ناحية عنكاوا التي تقطنها اغلبية مسيحية، وانها على صلة قرابة بعائلة ام يوسف المسيحية التي كانت تقيم مع زوجها وابنيها يوسف وداؤود في شقة مجاورة لنا في نفس العمارة السكنية التي كنا نقيم فيها في منطقة اليرموك، وكانت صلتنا مع عائلة ام يوسف قد إتسمت بالمودة والالفة، ولازلت اذكر ابنهم الاكبر يوسف الذي كان مصابا بمرض السكري ، وغالبًا ما يقضي ساعات النهار في شقتنا يلهو مع ولدي محمد وكان بعمر ستة اعوام، وعلى الرغم من ان يوسف لم يتجاوز السابعة من عمره الا ان ضخامة جسمه مع طول قامته مقارنة باقرانه كان  كافيا حتى يبدو في سن الخامسة عشرة، ودائما ما كان يتعرض للتنمر بشكل وحشي من قبل الاطفال نظرا لتأخره منذ الولادة في النطق حتى انه كان يلفظ الكلمات بشكل غير مفهوم كما لوانه في طفل صغير بعمر ثلاث سنين،وكم من مرة تحايلوا عليه عند خروجهم من المدرسة بحجة اللعب معه ليسقطوه بالتالي في بركة آسنة تقع على الطريق المؤدي الى العمارة السكنية، ورغم كل الجهود التي بذلتها عائلته لمعالجته من مرضه الا انها لم تستطع ان تنقذه من الموت الذي اختطفه مبكرا، وشكل غيابه صدمة قاسية لنا بقدر ماترك اثرًا موجعًا على والديه، فتشابكت الاحداث مع بعضها وابتلعت منّا الشعور بالامان بعد ان شاعت الفوضى في الموصل وبرزت الجماعات المسلحة التي بدأت تنتشر بشكل كبير في منطقة اليرموك بعد العام 2003  فقررت عائلة ام يوسف بيع الشقة بما فيها من اثاث، خوفًا على حياة عائلتها بعد ان انفتحت قروح العنف الديني بكل مايفرزه من كراهية، وغادرت المدينة ولم نعد نعرف عنها اي اخبار، الى ان سمعنا من المرأة المسيحية التي كانت ترقد على السرير بانهم قد وصلوا الى السويد، وان ابنهم الثاني ديفيد الذي كان ايضا مصابا بنفس مرض اخيه قد تمكن الاطباء هناك من معالجته واصبح الان طالبا جامعيا يدرس الهندسة وفي السنة الاخيرة.
نكهة رمضان المفقودة
ونحن نخرج من بوابة المستشفى بحدود الساعة الرابعة عصرا لاحظتُ ان وجهها كان شاحبا جدا، ولما سالتها إذا ما كانت  تشكو من اية اوجاع ،اكدت لي بانها طبيعية جدا، بل اخبرتني بانها تفاجأت لانها لم تشعر بشيء طيلة الثلاث الساعات التي كانت تتلقى فيها الجرعة، بينما كانت قد هيأت نفسها الى انها ستواجه آلامًا ربما لن تستطيع تحمّلها، وما عزز من كلامها انها ما ان دخلنا الى البيت حتى غيرت ملابسها واتجهت مباشرة الى المطبخ لاجل ان تهيء لنا وجبة من الغداء، لانني بقيت طيلة ساعات النهار معتمدا على ماتناولته في وجبة الفطور فقط، واما هي فما كانت قد تناولت حتى وجبة الفطور التزاما بتعليمات الدكتورلقمان الذي كان قد اوصاها بان تمتنع عن الاكل نهائيا في اليوم الذي تتلقى فيه الجرعة،ولما طلبت منها ان تستريح وساتكفل انا بالطبخ رفضت،واعادت على مسامعي مرة اخرى بانها لا تشكو من اعراض ولاشيء يدعو الى القلق.
في اليوم التالي على تناولها للجرعة لم يتبقَّ على انتهاء شهر رمضان سوى خمسة ايام، وكنا قد افتقدنا نكهته الخاصة التي اعتدنا عليها، حيث لم يكن  حضوره في ذاك العام كبقية الاعوام الماضية، بعد ان احاطت بنا الهموم حتى اننا افتقدنا تلك اللحظات التي كانت تظللنا بسحر طقوسها عندما كانت تحين ساعة الافطار، لان الطبيب منعها نهائيا من الصوم واكد عليها بضرورة الاهتمام بنوعية الاكل الذي ينبغي عليها ان تتناوله والاطعمة التي ينبغي ان تتجنبها، إذ يتوجب عليها ان تتناول يوميا انواعا مختلفة من الخضروات والفواكه، وان لاتقترب نهائيا من كافة انواع الحلويات.
 شعرها بدأ يتساقط
كانت تعلم بان شعرها سوف يبدأ بالتساقط في اقرب فرصة، ولكنها في صباح اليوم التالي الذي اعقب تناول الجرعة الاولى كانت قد نسيت ذلك تماما عندما دخلت الى الحمّام، وما ان اخذت تمشط شعرها فإذا بها تنتبه الى ان خصلات كثيفة قد تجمعت بين اسنان المشط ، كما انسلّت من فروة راسها خصلات اخرى وتساقطت على الارض، ولما اعادت تكرار تمشيط شعرها استمر التساقط بشكل كبير، انذاك توقفت عن الحركة، وجمدت في مكانها وهي  تنظر الى الخصلات المتناثرة عند قدميها، ولم تستطع ان تتمالك نفسها، حتى ان دمعة انسابت على خدها، ومن ثم شعرت بتشنجات قوية في معدتها كما لو انها كانت تتمزق، فسقطت مسحوقة تحت احساس عنيف من الالم لم تستطع ان تفلت منه، رغم انها كانت تعد نفسها منذ فترة زمنية لمواجة هذا الموقف باللامبالاة، باعتباره امرًا ثانويًّا ازاء مسالة استجابتها التامة لكل ما تفرضه وصايا العلاج حتى تتماثل للشفاء، كما انها كانت تردِّدُ امامي بان مسالة الشعر اخر ما يمكن ان تضعه في جدول اولوياتها، على الاقل في هذه المرحلة من حياتها، خاصة وانها امرأة محجبة ، لذا لم يكن الشعر ياخذ اي حيز من الوقت  في جدول اهتماماتها الشخصية مثل غالبية النساء، حتى انها رفضت مقترحي قبل ثلاث سنوات بأن تصبغه عندما غزاه الشيب، ولهذا اكدت لي من انها على ثقة تامة بان لا احد سوف ينتبه إذا ما تساقط شعرها، لكن بعد ان وقع الامر، بات من الصعب عليها ان تحظى بلحظة حياد نفسيّة تتحصن خلفها لتتفادى السقوط بتلك الهوة من الاحاسيس المفرطة بالقسوة، لان عقلها الذي دائما ما كانت تراهن عليه في التحكم بقراراتها وانفعالاتها عجز عن اسعافها بالحياد، فادركت انه ليس بوسع المرء ان يتعامل مع انفعالاته مثلما يتعامل مع ازرار المصابيح الكهربائية متى ماشاء ضغط عليها ليتحكم بالظلمة والنور، ولا يستطيع ان يعزل نفسه عما يشعر به في لحظة ما حسب ما يخطط لمشاعره بالصورة التي ينبغي ان تكون عليها كما يشتهي هو ، مهما ارتفع مستوى وعيه بالمشكلة التي يعاني منها، وانحيازه للمنطق والعقل في التفاعل مع مايواجهه من مواقف، ولربما ينجح في الاستعداد مبكرا للمواقف التي يتوقع حدوثها، ويضع خططا مسبقة تجنبه الوقوع في شراك نتائجها، لكنه غير قادر على ان يتحكم بنفسه ما أن تحين ساعة القدر، والأهم من كل هذا ان يمنح نفسه فرصة ان يتسلح بارادة قوية تمكنه من ان لاينجرف ويسقط في دائرة من الاوهام والشكوك والهواجس التي قد تحطم ما لديه من ايمان بامكانية الشفاء او الخلاص من المحنة.

تفكير عميق قبل التنفيذ
في ذلك اليوم نفسه وبعد ان انتهينا من تناول العشاء، وبينما كنا نحتسي الشاي، خيم علينا صمت غريب على غير عادتنا، إذ لم  يحدث ان كانت بيننا مسافات من الصمت المطبق، وكاننا غرباء نجلس في محطة انتظار لانعرف بعضنا، فقد تعودنا على ان تكون لقاءاتنا عند المائدة فرصة ليس لتناول الطعام فقط انما مناسبة لتعميق اواصر المحبة بيننا نحن الثلاثة، ومنح تفاصيل حياتنا ماتستحقه من احتفاء بعفوية مطلقة لانصطنعها ، لاننا عادة لانلتقي معا الاَّ عندما نجتمع لنتناول وجبتي الفطور والعشاء، واحيانا في فترات متباعدة وقت الغداء، اما بقية ساعات النهار فكل واحد منا سيكون مشغولا باعماله واهتماماته، انا منغمس بعملي في القناة الفضائية، وهي في اعمال الشطف والطبخ والتنظيف في البيت، ومحمد في المدرسة، ولهذا شعرتُ بان ثمة امراً ما كان يدور في بالها، وكانت تصارع نفسها بين ان تبوح به او تؤجله لوقت آخر، وما كان صعبا علي ان استشف ذلك، فالعشرة الطويلة التي جمعتنا تكفلت برفع الحواجز التي كانت تفصل بيننا، واصبح كل واحد منا يفهم ما يفكر به الاخر من غير ان تكون هناك حاجة لكي يبوح به، فالنظرة العابرة كانت كافية لان تفك شفرة الايماءة، لكنها في ذلك اليوم كانت تبدو مغلفة بغلالة سميكة من الحيرة جعلتها عاجزة عن الانسياق وراء عفويتها، وقبل ان اسالها استدارت ناحيتي وطلبت مني بأن أحلِق لها شعرها بماكنة الحلاقة وبدرجة صفر مثل حلاقة الجنود المستجدين. ولاني كنت على معرفة مسبقة بمجيء مثل هذه اللحظة، لذا كنت مستعدا لها اكثر منها، ولهذا لم اسالها لماذا، واكتفيت فقط  بان اجبتها بكلمة" حاضر" ولمْ ازد عليها كلمة اخرى، خاصة وانني انتبهت الى انها كانت تبدو مثل شجرة كسرتها ريح عاتية فمالت بجذعها ولامست اغصانها التي مازالت يانعة الارض، فما كان مني الاَّ ان التزم الصمت في محاولة منّي ان يبدو تصرفي طبيعيا، كما لو ان لاشيء يدعوني الى التعجب، لاني كنت مقتنعا في ما اذا حاولت ان اواسيها في تلك اللحظة فإن من الممكن ان ادفعها الى حافة الانهيار والسقوط في نوبة من البكاء، وهذا ما قد يفجر فيها ألمَاً دفينا كانت تسعى طيلة الايام الماضية الى  تجاهله والتهرب منه لعلها بذلك تتغلب عليه، سواء كان ذلك بالصلاة او التسلح بالشجاعة او الايمان بما كتبه الله لها، وربما يتسبب ذلك ايضا في تدهور حالتها الصحية،لان دكتور جمال غفوري كان قد اوصاني بضرورة ان نجنبها اي مؤثرات قد تسبب لها الحزن او الغضب، ويتوجب علينا ابعادها عن اية اجواء قد تولّد في داخلها  انفعالات سلبية، لانها كفيلة بان تمنح السرطان فرصة ان ينتعش مرة ثانية ويبدأ في التمدد من جديد، فليس مثل الحزن ما يمهد الطريق لخيانة جسد الانسان المريض والمساهمة في تدميره خاصة في مثل حالتها، ولهذا كنت شديد الحذر عندما طلبت مني ان احلق شعرها، فتعاملت مع الموضوع باعتباره مسالة طبيعية، لاتستدعي  الاستفسار اوالمناقشة، وكانني لم اسمع امرا مهمًّا يدعوني الى التوقف عنده .

شَعرٌ ومرآة وماكنة حلاقة 
بعد مضي نصف ساعة كانت بيدها مرآة صغيرة وهي جالسة على كرسي وسط صالة الاستراحة في البيت، بينما كنت امسك بيدي ماكنة حلاقة كهربائية، وما أن بدأت في  تشغيلها والبدء بتحريكها عند اسفل مؤخرة راسها حتى طلبت مني أن احلقه تدريجيا وعلى مراحل وليس دفعة واحدة ،لانها لاتستطيع تحمل رؤية نفسها فجأة وقد تحولت الى قرعاء.
تراكمت خصلات شعرها بلونه الكستنائي على الارض، وكأنها كانت تعكس سنوات حياتنا المشتركة التي عشناها معا  لمدة اثنين وعشرين عاما وكانت مشاعر الحب والالفة والاحترام قد منحتها نكهتها وحلاوتها التي جعلتنا لانسقط في دائرة التذمر مما كان يصادفنا في حياتنا من عوز ومشقات وصعوبات في العيش، فكانت المحبة بمثابة الترياق لمواجهة السموم التي ترغمنا الدنيا على تجرعها حتى نستمر في البقاء، ولولاها لما صمدت حياتنا الزوجية كل تلك السنين، دون ان يعكرها شيء سوى خلافات صغيرة عادة ما تنشأ بين اي زوجين بينهما تفاهم كبير، وسرعان ماتنتهي بعد لحظات وكأن شيئا لم يكن، بفعل السحر الذي يمارسه الحب على عقول المحبين قبل عواطفهم ، حتى انه يدفعهم الى ان لايجدوا في الاعتذار لبعضهما تنازلا اواهانة للكرامة الشخصية اذا ما أخطأ احدهما بحق الاخر في لحظة غضب، فالرجل يبقى رجلا في مكانته وحضور هيبته وشخصيته والمراة تبقى محتفظة بانوثتها وجمالها وادميتها وكرامتها، ولن يحدث اي خدش في روح وجوهر علاقتهما ، وبدافع الحب ايضا لايضعان في اعتبارهما ان تخرج اي خلافات قد تحصل بينهما خارج حدود  السقف الذي يجمعها، فلا الاهل ولا الاقارب ولا الاصدقاء يمكنهم ان يلعبوا دورا في حياتهما اكثر من الدور الذي يلعبانه في الحفاظ على حياتهما الزوجية، لان الحب ولوحده يمنحهما طاقة لاحدود لها تجعلهما يستوعبان بعضهما في شتى الازمات النفسية التي قد يمر بها احدهما.
كان ولدي محمد يجلس على الكنبة وهو يراقب المشهد ولم يكن مستوعبا ان يرى امه تفقد شعرها نهائيا، وان تظهر على غير الصورة التي عرفها بها. ولهذا وجدته منزويا في مكانه يراقب مايجري امامه محاولا استيعابه ولم يكن يبدو عليه انه كان مرتاحا .
"ياأمي، لماذا هذا الاستعجال، لربما العلاج الكيميائي لن يؤثر على تساقطه؟".
"لستُ مستعجلة ، انما اريد له ان ينمو بشكل متساوٍ .. لانه صباح هذا اليوم تساقطت الكثير من الخصلات في الحمّام " .
ثم اتى بحركة طريفة بأن غطى وجهه بكفه رغبة منه  في عدم رؤيتها وهي تبدو على هيئتها الجديدة .
بالنسبة لي وجدتها في شكلها الجديد تبدو جميلة جدا ، لانني احب شعر المرأة عندما يكون قصيرا، وكنت قد  طلبت منها مرارا ان تغير من تسريحة شعرها الذي كانت تحرص دائما على ان يكون طويلا .
"صدقيني ، انت الآن بهذه الشكل تبدين اجمل بكثير مما كنت عليه" . 
"انت تجاملني وتحاول ان تخفف عني بهذا الكلام ".
بدت متأثرة من شكلها الجديد، بينما كانت تنظر في المرآة الكبيرة المعلقة على الجدار فوق المغسلة الى رأسها الحليق تماما من الشعر ، ثم مرَّرَت كفها على فروة رأسها  اكثر من مرة تتحسس شعرها الذي اختفى نهائيا .
"انتِ الآن تشبهين المطربة الفلسطينية ريم البنّا التي اصيبت هي الاخرى بهذا المرض، فما كان منها الا ان حلقت شعرها كما انت الان، وظهرت على شاشة التلفاز في عدد من اللقاءات والثقة تملأ نفسها" .
" انا اعلم بانك تحاول ان ترفع من معنوياتي"  .
"ابدا ، هذا الكلام ليس من باب المجاملة ورفع المعنويات، لانك تذكرين جيدا بانني كنت  دائما اعبر لك عن عدم اعجابي بالشعر الطويل ، ودائما ماكنت اقول لك بأنه يذكرني بشعر الغجريات اللواتي يظهرن على شاشة التلفزيون وهن يرقصن متباهيات بشعرهن ". 
اذكر انني وبينما كنت احلق شعرها ،انتبهت الى انها اصبحت تشبه والدها كثيرا ، حتى ان احدى شقيقاتها عندما اتصلت بها في صباح اليوم التالي عبر الهاتف من الموصل ومن خلال خدمة الماسنجر الفديوية قالت لها " انت الان تشبهين بابا كثيرا " . 
لم استغرق وقتا في التفكير عندما وقفت امام المرآة ونظرت لثواني معدودة  الى صورتي المنعكسة عليها ، ثم شغلت الماكنة وبدأت بحلاقة شعري حتى بانت جلدة راسي،بينما كانت الدهشة تعلو وجه ابني وهو ينادي علي"لماذا؟" . اما هي فما كان منها الا ان تمسح دمعة بكفها كانت قد انزلقت على خدها ، ثم تقدمت نحوي وامسكت بكفي ورفعتها الى الاعلى وقبلتها .
                             
 بعد يومين اعتادت على شكلها الجديد،وصارت تتحرك في البيت من غير ان تذهب الى المرآة لتنظر الى رأسها كما كانت تفعل في اول يوم .

انتكاسة في العيد
انتهى شهر رمضان وحل عيد الفطر، وكان صباح اليوم الاول منه مشمسا كبقية ايام الصيف في العراق ، مع ارتفاع كبير في درجة الحرارة وصلت الى مافوق الاربعين. واجتمعنا ثلاثتنا عند مائدة الفطور الصباحي، وكانت تبدو صحتها طبيعية وما من شيء يدل على انها ستنتكس بعد الساعة الثالثة من عصر ذلك اليوم ، حيث بدأت تشعر بالبرد الشديد وجسدها يرتعش اثناء ما  كنا جالسين امام شاشة التلفزيون .
كان من المفروض ان تتناول الجرعة الثانية في الليلة التي تسبق العيد  ،لكن الدكتور لقمان كان قد اجَّل  تناولها الى ما بعد العيد على اعتبار ان لاأحد من الاطباء سيتواجد في المستشفى ابتدأ من ليلة العيد وحتى نهايته، لذلك كنت اخشى ان يكون سبب تراجع وضعها الصحي نتيجة التأخر عن موعد تناول الجرعة،والمفارقة ان حرارتها كانت مرتفعة لكنها كانت تشعر بالبرد. طلبت منها ان تدخل الى غرفتها وتتمدد على السرير، وبدأ محمد يضع كمادات على جبهتها حتى تنخفض درجة حرارتها التي بقيت مرتفعة حتى ساعة نومها في تمام العاشرة ليلا.
"ابي لم لاتأخذها الى الطبيب ؟"
"كان بودي ان آخذها، لكن لاأحد من الاطباء موجود في عيادته الى ان ينتهي عيد الفطر" .
ما كان مني ألاّ أن استسلم للأمر الواقع، لذا عدت الى غرفتي وعاودت قراءة كتاب"قيام وسقوط الرايخ الثالث ونهاية دكتاتور" الذي كنت قد بدأت بقراءته قبل عدة اسابيع لكنني لم استطع ان انتهي منه بسبب انشغالي بمتابعة حالة زوجتي المرضية مابين البيت والمستشفى . 

يتبع ..

20
ج14 – اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                           
مروان ياسين الدليمي


 نوستالجيا

قبل ان يحين موعد اقلاع الطائرة التي سنعود على متنها الى اربيل احالنا الانتظار الطويل الى الشعور بحالة من الارهاق والضجر، ولكن الذي  خفف عنا هذا الشعورتلك الاحاديث التي فتحت ابواب الحنين على مصراعيها، مع عائلة مسيحية اصولها من محلة السّاعة في مدينة الموصل القديمة، صادف ان جلست بالقرب منا، فاستحال الوقت معها الى حيوات وامكنة استعدنا صدى تراتيلها وانغامها من انفاق الزمن، بعد ان نفضنا عنها تراب النسيان، وما اصاب ملامحها الوديعة من خدوش وتشويه خلال العقدين الاخيرين، فاشرقت بدفء ايامها واخذتنا معها الى مباهج عفوية لم تعد الحياة تلتفت اليها .
كانت العائلة مكونة من أب وأم تجاوزا العقد السادس من عمرهما، وبرفقتهما ابنتاهما اللتان كانتا في سن المراهقة، اضافة الى ابنهما الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، وبسبب قسوة سنين الحصار الدولي على العراق في  تسعينات القرن الماضي اختارت الهجرة الى الولايات المتحدة الاميركية، وهي في ذاك اليوم كانت تروم السفر الى اربيل لزيارة الاهل والاقارب للاطمئنان عليهم بعد ان اضطروا للنزوح الى اقليم كوردستان اثر احتلال الموصل من قبل تنظيم الخلافة.
تأملنا معا سجل ذكرياتنا الموصلية المشتركة وما يضمه من صور بقيت عصية على النسيان رغم تراكم الغبار على جمال لحظاتها، ومازالت كلما احتجنا الى ايقاظها تبعث فينا القشعريرة ما ان تتسلل رائحتها العطرة الى ستائر الذاكرة، وكل واحدة من تلك الصور كانت تشير الى حكايات  محمّلة بنسمات ربيع موصلي لم نجد مثيلا له في اي مكان وصلنا اليه في غربتنا ،وما ان تمس شغاف القلب حتى تُشعِل فيه اللوعة.
حكايات تضم بين تفاصيلها وشخوصها وازمنتها مساحًة من الطمأنينة  لاحدود لأفاقها، وما عاد عالمنا اليوم  قادرًا على ان يشيعها بين سكانه، بينما كانت ازقة الموصل القديمة وشوارعها تمنحها دون شروط مسبقة.
تدفق الحديث متوهجا بمذاق اللهفة والحنين، وكأنَّ الذي بيننا وبينهم عِشرة تمتد الى سنين طويلة وليس لقاءً عابرًا جمعتنا به الصدفة في محطة انتظار ببلد غريب، ولاأدري كيف مضى بنا الوقت سريعا مثل سرعة الضوء، ونحن نحلق بمتعة اخيلتنا بعيدا عن  حركة خطوط الملاحة الجوية ضاربين عرض الحائط  قوانين الجاذبية الارضية، فحطت بنا اجنحة الذكريات عند عتبات تشتاق اليها العيون قبل الافئدة، لكنها مضت بافراحها وبراءتها الى غير رجعة، وفقدنا الطريق الذي يؤدي اليها  بعد ان استحال الفجر الجديد الذي وعدتنا به افانين السياسة الى ليل طويل يخشاه الحالمون والعشاق والشرفاء.
الهروب نحو الماضي في احاديثنا كان شعوراً مثقلا باليأس، ما انفك ينأى بنا مسافات بعيدة ونحن نرى  نداءات الحياة وهي تنطفي في مدينتنا التي كانت في ما مضى مملكة متوجة بانسجام الوانها المتنوعة، فكتبنا في صالة الانتظار ونحن نقرض الوقت، قصائد شوق لسماء كانت تمطر امالاً، فتستحيل المتاهات في دروب المحبين الى فراديس. 
آوينا الى الصمت في ما تبقى من الوقت ونحن ننتظر موعد الاقلاع عن الارض والتحليق في الفضاء بعد ان تعبت مخيلتنا من لملمة شظايا مرآتنا المكسورة في الواقع، بينما كانت شاشة تلفزيونية كبيرة معلقة على جدار في صالة الانتظارتعرض وعبر نقل مباشر من قِبَلِ قناة الميادين موكبا حاشدا للشيعة وهم يؤدون طقوسهم الخاصة التي عادة ما يفيض منها البكاء واللطم اثناء احيائهم لذكرى مقتل الحسين، وتساءلت مع نفسي وانا اراقب مايجري في تفاصيل المشهد الكربلائي: على من تبكي هذه الجموع، على نفسها أم على الحسين؟

اذا ما سهونا
في اللحظة التي خرجنا فيها من مطار اربيل واستقلينا سيارة اجرة ونحن نروم العودة الى البيت ، غمرني احساس غريب  من غير ان يكون بيني وبينه موعد مسبق، ولم اكن اتوقع ان يخطفني على تلك الصورة المحمَّلة بالشوق، ويكشف عما كان مخبوءًا من مشاعر حب ازاء علاقتي بهذه المدينة، مع انني غريب عنها وعن اهلها، ولم اختر العيش فيها بارادتي لتكون الوسادة التي اسند اليها راسي حتى انام مطمئنا، بعد ان امست حياتي قبل اكثر من ثلاثة عشر عاما في مدينة الموصل على حافة الخطر.
عندما خرجت بنا السيارة من محيط المطار ودخلنا الشارع الطويل الذي يمر بمحاذاة  شقق زكريا، انتبهت الى ان حيويتي عادت لي، كما لو اني قد عثرت على شيء ثمين كنت قد فقدته، فأيقنت بان هذه المدينة كانت تمكث معي دون ان تعلن عن نفسها، وانني لااستطيع الافلات من اغوائها رغم اني لااتقن لغة اهلها، ففي بعض الاحيان قد ينال السهو منّا، فيسبب ضررًا في ذاكرتنا، عندها تنسدل غشاوة على اعيينا وتسقط في دائرة النسيان علاقة وثيقة تمثل جانبًا من حقيقتنا، كانت تربطنا بشخص او مكان او مدينة او شيء ما . 
كنت مندهشًا منيّ، لاني كنتُ متعجِّلا  بشكل لافت لاستعادة الرائحة الخاصة للمدينة التي آوتني عقدا ونيف من الزمان بعد ان البستني ثوب الامان، اخترقني هواؤها ونفذ الى كل خلية من جسدي، وكأني استعدت نفسي،  وشعرت بقوة داخلية تحرضني على ان استعين ببراءة الطفولة لامد يدي الى الخارج حتى المس روحها في الهواء الساخن، وجدران الابنية وسيقان الاشجار المزروعة على الارصفة وفي كل ما كان يمر امامي سريعا وانا اتطلع اليها من خلف زجاج نافذة التاكسي. في تلك الظهيرة الحزيرانية التي وصلنا فيها الى البيت كانت المدينة وتحت ثقل القيظ تركن الى هدوء عجيب، لم يبدده الا فرحنا بلقاء ولدنا الذي استقبلنا بشكل طبيعي وهو ينزل الدرج من الطابق الاول وعيناه شبه مغمضتين من اثر النوم، كما لو اننا لم نغب عنه خمسة ايام . وكم شعرت بالامتنان للصديقين اكرم اسوفي ومحمد خيون، بعد ان اخبرني بانهما كانا على اتصال دائم به للاطمئنان عليه اثناء غيابنا. 
بعودتنا الى اربيل فإن اربعة اسابيع تكون قد انقضت من هذه التجربة التي احالت حياتنا الى مايشبه الكابوس، حيث وجدنا انفسنا نقاتل ولوحدنا في معركة لم يكن متاحًا لنا فيها ان نخلد الى الراحة، حتى ان ايامنا بلياليها وصباحاتها بدت مبعثرة على دكة الارتداد الى الخلف مهما حاولنا ان نمسك بالزمن لعلنا نستفيق من الغيبوبة التي قلّمَت اغصان امنياتنا.
ما مضى كان المحطة الاولى وليست الاخيرة في هذه الرحلة المعبأة بالقلق، ولاشك في اننا تمكنا فيها من انتزاع الحياة قبل ان تسقط بين انياب القدر المحتوم، والتقطناها باسنانا واظافرنا مع ان هواجس مرعبة كانت تتسلل الينا ما أن  تنفرد الذات بذاتها، واظهرت هي شخصيًّا قدرة غير متوقعة على ان تقف في مواجهة الرعب الذي كان يحيط بها في كل ثانية، خاصة عندما كانت تختلي بنفسها، وتبدأ محاولاتها في تحطيم حواجز الغيب التي كانت تفصل بينها وبين ما يخبئه الغد من مفاجاءات، وغالبًا ماكانت تقطع في هذه الرحلة المتخيلة مسافة طويلة من الافتراضات التي عادة ما كانت تنطفىء وتشتعل فيها الروح دون ان تصل الى ضفة الامان، ومع ذلك لم اجدها ترفع الراية البيضاء رغم ما كان يصيب دفاعاتها من اضرار.
ابتدأ من اليوم الذي اعقب عودتنا من بيروت كان عليها ان تقف عند خط البداية لتبدأ ماراثونها مع العلاج الكيمائي، وما جمعناه من معلومات عن هذه المرحلة فرض عليها ان تتسلح بالشجاعة القصوى لانها ادركت حجم ما ستكابده من اوجاع، وستكون امام صفحة جديدة ستترك عليها اثارًا نفسية ستلازمها فترة طويلة قبل ان تتجاوزها وتصبح في اضبارة ارشيفها من هذا المرض إذا ما حالفها الحظ .

 رحلة بلا جدوى
عصر اليوم التالي كنا على موعد مع دكتور لقمان في عيادته بمركز ميديا، وكما اعتدنا في زياراتنا السابقة كانت صالة الانتظار مزدحمة بالنساء، حتى بدا المشهد على تلك الصورة روتينيا ، ولم يعد يشكل صدمة لي رغم ما يحمل بين تفاصيله من اشارات غير مطمئنة، كلها تؤكد على انتشار مرض سرطان الثدي بشكل مخيف  بين نساء العراق . ومع ذلك كان من الصعب ان اتقبله باعتباره امرأ مألوفًا، لان من غير الممكن ان يقبله العقل ولكنه سيبقى هكذا على مايبدو، طالما كانت ابواب البلاد مشرعة امام متاهة الفساد . وبعد انتظار زاد عن ساعة من الزمن حان موعدنا مع دكتور لقمان، الذي لم يكن يتخلى ابدا عن صرامته التي تتناسب مع نحافته الشديدة وطوله الفارع وهيئته التي لايظهر منها اي ملامح تعاطف مع المريض، رغم انه في حقيقته على العكس مما يبدو عليه، فقد كان يملك ارادة قوية تجعله يتحمل ساعات طويلة من العمل دون ان يبدر منه اي انفعال مع انه عادة مايكون محاطًا بالعديد من المرضى الذين لايتمتعون باي قدر من الامل، وغالبًا ما يخضعون لسطوة احساسهم باقتراب نهايتهم، وان فرصتهم في اقتناص يوم جديد قبل ان يأتي اجلهم المحتوم لاسبيل الى تاكيدها، ولعل اكثر ما يلفت الانتباه اليهم ، ان الصمت الذي كان يغلفهم قد استحال الى عالم يحيط بهم ، واصبح جزءا من حياتهم، وكأنه تعبير عن شعور بالاستسلام لمشيئة القدر.
قدمنا له مغلفا ورقيا يحتوي على نتائج الفحوصات التي اجريناها في لبنان، وقبل ان يفتح المغلف ارتسمت على وجهه ابتسامة شحيحة، ثم توجه بالسؤال الى زوجتي ليطمئن على صحتها، بعدها فتح المغلف وبدأ في قراءة التقارير الخاصة بالفحص، فإذا به يرفع راسه عن ما كان بيده واخذ ينظر الينا، ثم هز راسه بحركة موضعية خفيفة  كمن تفاجأ بامر لم يكن يتوقعه، عندها وجدت زوجتي تنظر نحوي وكانها كانت تستنجد بي، في محاولة منها لفهم ما صدر عنه من ردة فعل عبّرت عن صدمته مما قرأه، خاصة عندما رفع يديه الى الاعلى فاتحا كفيه، وكأنَّ لسان حاله يقول لنا : " ماهذا ؟ " .
وقعنا في حيرة من امرنا بعد ان رجع بكرسيه الى الخلف، وبقي يوزع نظراته بيننا ، وبدا واضحًا انه كان مستاءً بقدر ما كانت تعلو ملامحه علامات الاستغراب، لكنه تصرف في تلك اللحظات كمن يخاتل استياءه وغضبه، حتى لا يتسبب باي اذى نفسي لمريضه، ولهذا رسم ابتسامة مبتسرة على وجهه، ولم يكن من الصعب ملاحظة ما حصل من تغير في مزاجه، وما كان يشعر به من اسفٍ، عندما اخذ يهز راسه اكثر من مرة وهو يزم شفتيه .
لم نفهم الحالة العبثية التي وجدنا انفسنا فيها، ولانه لم يكن يسعى الى ان يضعنا في دائرة مقفلة من الحيرة، قطع علينا تساؤلاتنا الداخلية وقال لنا " للاسف، لم يكن هناك اي جدوى من رحلتكم الى لبنان " .
" لماذا ؟"  سالتُه بعد ان  شعرت وكأنني قد سقطت فجأة في بقعة مظلمة واحاول ان اتشبث باي شيء حتى اخرج الى النور .
" لان الفحص لم يكن بجهاز ال pet scan   الذي اوصيت به في التقرير انما تم بجهاز ال cet scan وهو نفس الجهاز الموجود لدينا في المركز والذي يعمل عليه الطبيب الهندي " .
"كان لدي احساس في حينه، بان هناك خطأ ما قد حصل، حتى انني تحدثت معي زوجي حول ذلك "  استدركت زوجتي باجابتها في محاولة منها لترميم الخطأ الذي وقعنا فيه والذي لم يعد ممكنا تصليحه، وهذا ماعبّر عنه الدكتور ايضا حين حسم الامر بسرعة وقال "لنطوِ هذه الصفحة الآن، وعلينا ان نبدأ بالعلاج الكيمائي باسرع وقت " ثم وجه كلامه اليها " يتوجب عليكِ ان تراجعي مستشفى نانا كلي صباح يوم غد الثلاثاء، وساكون موجودا هناك، حتى نفتح ملفا باسمك ويخصص له رقمًا " .
كانت صدمتنا كبيرة بعد ان واجهَنا الدكتور بما وقَعنا به من خطأ في لبنان ،خاصة وان اي وسيلة لمعالجته كانت غير ممكنة بل ليست مجدية، لان الوقت لم يكن يمضي لصالحنا ابدا، وهذا ما اكد عليه اكثر من مرة واعاده على مسامعنا، حتى اننا وبعد ان عدنا الى البيت في ذلك المساء لم نستطع ان نتناول العشاء، وبقينا لفترة من الوقت نتداول ما اوقعنا انفسنا فيه من إشكال، فكنّا مرّة نلقي باللائمة على انفسنا واخرى نبرؤها، وظل الشعور بأننا قد خدعنا مسيطرا علينا، ولم نستطع ان نتخلص منه، فضلا عن اننا في رحلتنا كنا قد تحملنا خطورة السفر ومشاقه، اضافة الى ان مجموع تكاليف الرحلة التي وصلت الى 2200 دولار ذهبت كلها هباء منثورا، وبقدر ما شعرنا باننا نتحمل المسؤولية عن الخطأ، لاننا لم نسال ولم نستفسر بما يكفي خاصة عندما شكَّت زوجتي بالامر قبل وبعد الفحص، إلاَّ اننا ولاجل تخفيف العب عن كاهلنا حمّلنا الموظفتين الشابتين في مستشفى الجامعة الاميركية كامل المسؤولية ، بسبب استهتارهما اثناء العمل، ولكن بعد كل مداولة جرت بيننا حول الموضوع كنا نعود لنصل الى نتيجة واحدة بقينا نرددها مع انفسنا "ما فائدة الشكوى ؟ " .   


العثور على مستشفى نانا كلي

رغم عمليات البحث التي اجريتها عبر شبكة الانترنت الا انني لم اعثر على  صورة واحدة للشخص الذي تبرع باقامة مشروع  مستشفى نانا كلي الخاص بمعالحة مرضى السرطان، حتى اسعفني سائق التاكسي الذي سألته صباح يوم الثلاثاء إذا ما كان يعرف مكان المستشفى حتى يوصلنا اليها، فبادر بالحديث ما ان تحركت بنا السيارة، واخبرنا بان احدى قريباته تعمل فيها بصفة ممرضة، ومن خلالها اصبح لديه معلومة  مؤكدة بان تاجرا كورديا اسمه احمد اسماعيل نانا كلي كان قد تبرع بالارض وتكفل ببناء المستشفى وتجهيزها بكافة المعدات، وتم افتتاحها عام 2004 ، كما خصص راتبا شهريا لجميع العاملين فيها قيمته مائة الف دينار يضاف الى راتبهم الشهري الذي يستلمونه من حكومة الاقليم باعتبارهم موظفين على الملاك الحكومي. وطيلة الطريق كان السائق يستعيد المواقف النبيلة التي اقدم عليها هذا التاجر لدعم المحتاجين فذكر لنا بانه خصص رواتب شهرية لعوائل كثيرة في كوردستان ليس لديها من يعيلها، وظل يؤكد على ان الرجل لاعلاقة له بالسياسة ابدا، كما انه يقيم في اغلب الاوقات في الاردن حيث يدير اعماله التجارية من هناك.
ادركت بعد سماعي لهذه المعلومات ان من الممكن للامنيات البسيطة التي عادة ما تراود عموم الناس في العلاج والرعاية الانسانية والحياة الكريمة ان تتحول الى حقائق ملموسة إذا ما ابدى الاغنياء القليل من الاهتمام ببلدهم.
انسابت في الروح نغمات تتدفق عذوبة، جعلتها ترفرف على ايقاع ينهمر منه فرح شفيف، رغم ما كان يثقل عليها من توجس ازاء ماينتظرها في قادم الايام، فقد كان لحديث السائق صدى عميق تناغم بسهولة مع ما احمله من رغبة في التشبث بخيوط الحلم، وكأن القدر بعث لنا اشارة عابرة يدعونا فيها الى ان نستعيد مالدينا من طاقة حتى نتمسك بقدرتنا على مواجهة الانهيار، وليس بغريب على الحياة ان يرتفع صوت النهار فيها من اعشاب يابسة، وان تنمو البذار بين صخور صلدة، ويتفتح الجمال وسط الخراب. وبكل الاحوال كان علينا ان نضبط ايقاع وجودنا على هذه الارض حتى نستعيد الاحساس برعشتنا ما أن يلمس ضوء الشمس اصابعنا، فنحن شئنا ام ابينا علينا ان ننال كفايتنا من العيش مهما نالت منا المقادير .
عندما دخلنا المستشفى تفاجأت بمساحتها الكبيرة، فالمبنى مؤلف من ثلاثة طوابق، كان الطابق الارضي مخصصا للادارة وعيادات الاطباء والمختبرات وقاعات مجهزة باسرة يستلقي عليها المرض عندما يتلقون العلاج الكيميائي، اضافة الى صيدلية توفر العلاج باسعار رمزية بل اقرب الى ان تكون مجانا، كما توجد تحت الارض غرف خاصة تتوفر فيها اجهزة سونار واشعة، والطابق الاول كان للنساء ويضم قاعات مجهزة باسرّة ومعدات واجهزة طبية، اما الطابق الثاني فقد تم تخصيصه للاطفال. ولفت انتباهي وجود عمليات بناء وتوسع لثلاث قاعات كبيرة على مساحة خالية داخل حدود المستشفى .

امرأة تنتظر 
ما كان يخطر على بالي ابدًا ان اجد هذا العدد الكبير من المرضى، خاصة من النساء والاطفال،  وكان امرا مفاجئأ لي عندما وجدت جميع العاملين على درجة عالية من الانضباط في التعامل مع المرض ومرافقيهم، وبما اننا قد تعودنا على غياب حسن الاستقبال في سلوك معظم الموظفين الحكوميين، لهذا كنت في كثير من الاحيان احسد المخلوقات الاخرى الهائمة في البرية  لانها ليست من فصيلة البشر، وهي في غنى عن مراجعة المستشفيات اذا ما اصابها مرض.
كان من الصعب على زوجتي ان تتحمل الوقوف فترة طويلة في ظل مناخ ترتفع فيه درجة الحرارة بشكل كبير، ولكي ان لايكون الانتظار سببا في تدهور صحتها كنت قد اقترحت عليها ان تذهب لتستريح في اي مكان  بعيد عن اشعة الشمس الى ان انتهي من اجراءات فتح الملف .
بعد فترة قصيرة شاهدتها تجلس الى جانب امرأة في الثلاثين من عمرها على مسطبة تحت ظل شجرة في حديقة المستشفى، واخبرتني في ما بعد ان تلك المرأة مصابة بسرطان القولون، وتتعالج منذ اكثر من تسعة اشهر، وحدَّثَتها عن تجربتها مع اول جرعة كيميائي اخذتها وعلِمت منها بانها لم تجد في تساقط شعرها مايدعوها الى الشعور بالالم، بل ان اكثر ما كان يؤلمها التفكير بمصير زوجها واطفالها الاربعة الصغار إذا ما صرعها المرض في وقت مبكر، انذاك من سيعتني بهم وكيف سيكون حالهم، خاصة وانهم يعيشون في مخيم للنازحين يقع في ناحية بحركا عند اطراف مدينة اربيل، كانوا قد لجأوا اليه بعد ان اجبرتهم ظروف الحرب الطائفية الى النزوح من مدينة بعقوبة في محافظة ديالى، بعد ان  اختطف ابنهم الكبير الذي لم يتجاوز السنة العاشرة من عمره، ولانهم عجزوا عن توفير مبلغ الفدية مقابل اطلاق سراحه، وجدوه مقتولا على مسافة قريبة من بيتهم، وعلى اثر ذلك اصابها السرطان، وهم اليوم يتحملون ظروفًا معيشية بالغة  القسوة داخل المخيم، وليس لديهم سوى سيارة قديمة لاتصلح ان تكون تاكسي، ولهذا يعمل عليها زوجها في نقل حاجيات الناس في المنطقة القريبة من المخيم، فيوفر من خلالها الحدود الدنيا من العيش الادمي.


رقم وملف

في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً اكتملت اجراءات فتح الملف وتم تسليمنا اياه مع الرقم الخاص به الذي كان مطبوعا على قطعة كارتون صغيرة صفراء اللون  بحجم هوية الاحوال المدنية. وتم التأكيد من قبل الموظف الذي كان مكلفا بفتح الملفات على ضرورة ان نحتفظ بالرقم ونبرزه في كل مراحعة نقوم بها للمستشفى حتى يتم تسليمنا الملف ليدوِّنَ فيه الطبيب تطور الحالة المرضية ومراحل العلاج ، وبعد ان ننتهي من المراجعة نستعيد الرقم بعد ان نسلم الملف.
توجهنا على الفور الى غرفة الدكتور لقمان في الطابق الارضي، ونظرا لان عدد المرضى الذين كانوا ينتظرون في صالة الانتظار قد تجاوز الخمسين مريضا اغلبهم من النساء، كان لابد من ان ادون اسمها في سجل يتضمن حقلا خاصا  بتسلسل المراجعين. وبعد انتظار دام  ساعتين من الزمن حان موعدنا مع دكتورلقمان الذي لم يستغرق سوى دقائق معدودة ، إذ اكتفى بكتابة عدد من الاسطر باللغة الانكليزية في اول صفحة من الملف ووقع تحتها، ثم التفت ناحيتها وقال " ستاخذين ست عشرة جرعة كيمائية على مدى ستة عشر شهرا وفي نفس الموعد من كل شهر، وابتدأ من اليوم  ستاخذين الجرعة الاولى " .
" الان ! " ..استغربت زوجتي وانا معها ايضا، لاننا لم نكن نتوقع ان يكون الامربهذه السرعة.
"هل انت غير مستعدة  ؟ "  سالها الدكتور لمّا وجدها قد تفاجأت .
" بالعكس انا  مستعدة " اجابته بثقة ودون تردد، ثم اضافت "انا لست خائفة، ولكن لم اكن اتوقع ان يكون اليوم موعدنا مع الجرعة الاولى".

يتبع ...

21
ج 13 – اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                               
مروان ياسين الدليمي


تحديق في الفراغ


ما ارهقها وحرمها من الاحساس بطعم الاشياء انها لم تستطع ان تتخلص من مخاوفها،حتى انها بدأت تفقد القدرة على التركيز،واخذ النسيان يستعرض حضوره في ذاكرتها بشكل لافت،لانها لم تكن قادرة على ان تنشغل باي موضوع لربما قد يساعدها على ان تتحاشى التفكير الدائم بتلك النقاط السوداء على الكبد والرئتين،ولهذا كانت في اغلب الاوقات اشبه بشخص تائه يراوح في مكانه ولايعرف الى اي اتجاه يمكن ان يتحرك،فمن النادر ان لااجدها ساهمة في فراغ رمادي لاحدود له،تحدق مستغرقة في نقطة ثابتة لاتحيد عنها،خاضعة تحت سلطة صمت يمتد بها لفترات طويلة من الوقت .
كان راسها اشبه بملعب تشتبك فيه الاسئلة ،دون ان تعثر في اعماقها على اجابة تطمئنها وتخرجها من عتمة كانت تطبق عليها،فما كان منها في بعض الاحيان الا ان تمسك راسها بكفيها،وتضغط برؤوس اصابعها عليه بكل ما تبقى لديها من قوة،لعلها تخفف من شدة الالم الذي كانت تشكو منه بسبب الافراط بالتفكير،فهي في قرارة نفسها كانت تدرك جيدا بان السقوط في هذه الحلقة من دوامة الافكار سيمتص رحيق الخضرة من اغصان روحها،هذا ما افصحت عنه قبل ان نغادر الفندق باتجاه المستشفى،ولم افلح في طمئنتها،رغم تأكيدي مرة واخرى على اهمية كلام الطبيب الهندي عندما تحدث للدكتور جمال غفوري عبر الهاتف في مركز ميديا وقبل اجراء العملية الجراحية بان النقاط السوداء على الكبد والرئتين مجرد ذرات من الغبار.
امضيت الطريق كله ما أن خرجنا من الفندق وانا استعين بكل مايخطر على بالي من افكار وحكم وامثال وحكايات اجدها مناسبة حتى اغير مما رسخ في عقلها من وساوس،وجعلها في حالة مواجهة مع نفسها،الامر الذي اخذ الكثير من صحتها،حتى انها لم تعد تعرف معنى الابتسامة،فاستحالت الى صندوق مقفل مفتاحه كان مفقودا،ومع ذلك لم ادع اليأس يجد وسيلة للوصول الى الموضع الذي كنتُ عليه،وبقيت متعلقا بامل ضعيف لاخراجها من هذه الهوّة التي سقطت فيها ولاتسعى الى الخروج منها،فقد كان من الصعب علي ان اجدها تمضي في ذاك الاستغراق البعيد عن طبيعتها العفوية وروحها المرحة والمتفائلة التي وسمت شخصيتها في جميع الظروف.
كانت تسير الى جانبي،لكنها ابعد ماتكون عني وعما حولها،ونحن نروم الوصول الى مستشفى الجامعة الاميركية التي بدت واضحة في نهاية الشارع عندما نظرت باتجاهها ولمحت القطعة الاعلانية الكبيرة على واجهة المبنى الكبير مشيرة اليها،ولم تكن تبعد عنا سوى مسافة لاتتجاوز خمس دقائق سيرا على الاقدام.
سرعان ما وجدتها تتخلف عني بمسافة لاتزيد عن بضع  خطوات،وهذا ما كنت قد تآلفتُ  معه منذ اكثر من خمسة اعوام،ولم اعد اتضايق منه،لذا دائما ما اكون مضطرا الى ان اتوقف حتى تلحق بي ثم نعاود السير جنبا الى جنب،وكثيرا ما كنت اتأمل حالتها وهي تمشي ببطىء وتثاقل واضحين فينتابني شعور بالالم ازاء ما وصلت اليه صحتها بسبب الروماتزم ومن ثم سرطان الثدي بعد ان هجم عليها ليضعها في خضم معركة شرسة اكبر مما يمكن ان يحتمله جسدها،حتى انها كانت تبدو امرأة في الثمانين من عمرها وليس في الاربعين إذا ما تابعها من الخلف اي شخص وهي تمشي،فمن غير الممكن ان تسير بشكل طبيعي بعد ان نال الاعوجاج من  قدمها اليمنى واخذت تعرج بسبب مضاعفات الروماتزم،ولهذا كان من الصعب عليها ان تجاريني في مشيتي الطبيعية او ان تسرع في حركة اقدامها.

تنمُّر

اكثر ما يستفزني في ما يتعلق بحالتها عندما اجد نظرات الاخرين تلاحقها وخاصة النساء،وكانهن لم يسبق لهن ان رأين امرأة تعاني من عوق في  قدمها،ولم اجد سببا مقنعا يدعوهن الى التحديق فيها على تلك الصورة المستفزة كما لو انهن يتفحصن شيئا غريبا لم يسبق  لهن ان شاهدنه،والغريب في الامر انهن يتصرفن كما لو ان ردة فعلهن بغاية البساطة والطبيعية،ولايدعو الى الاستهجان،ودائما ما اتساءل:لماذا لايبدو عليهن ما يشير الى انهن يراعين حالتها النفسية ويتجنبن الانسياق وراء اي فعل قد يسبب لها الحرج او جرحا في كرامتها ؟ رغم انها لم تكن تعير اهمية لما يجري من حولها بشكل مطلق،إذ ليس من طبيعتها ان تراقب الاخرين،ولم اجدها مستفزة في يوم ما من تلك الوقاحة التي يظهرنهاعديد النساء ازاء مشيتها،وعلى العكس من ذلك دائما ما كنتُ هدفا لسهام نقدها ،فهي تعيب علي بأني اتمعن في متابعة ما يدور حولي من نماذج بشرية،والتقاط ما يميزها سواء في شكلها او هندامها او طريقة مشيها او اسلوبها في الكلام.وتجد في ذلك امعانا في معصية ما يأمرنا به الله،مع اني لم اكن اقصد الاساءة بقدر ما اود الاحتفاظ بمثل تلك الانطباعات في ذاكرتي،لربما تعينني في عملي سواء في الكتابة او في البرامج التلفزيونية التي اتولى اعدادها واخراجها،إلا انها لم تكن تقتنع بمثل هذه التبريرات،لان سلوكي من وجهة نظرها يتقاطع مع تعاليم الاسلام التي تحض المرء على ان يكف نظره عن الاخرين،وتزيد على ذلك فتقول بان استمراري بهذه التصرفات يجعلني اتحمل خطاياهم وذنوبهم .
اذكر انني في يوم ما،وبينما كنّا في احد مولات اربيل نتسوق حاجيات منزلية،وجدت نفسي في موقف لا احسد عليه،جعلني موزعا بين مشاعر مضطربة توزعت ما بين الشعور بالحنق والاهانة والغضب،بعد ان فقدتُ القدرة على التغاضي وتحمّل ما اعتبرته سلوكا مهينا يكشف عن تنمر صدَر عن زوجة شابة، بعد ان لفت انتباهها الطريقة التي كانت تمشي بها زوجتي،ولم تكتف بذلك بل همست في اذن زوجها وبدأ الاثنان يكركران بضحكهما وهما يتابعان سيرها وهي تعرج في مشيتها اثناء ما كانت تتجول في المول وتنتقي مانحتاجه من سلع غذائية ثم تضعها في العربة الصغيرة التي كانت تدفعها امامها.حاولت ان اجد سببا مقنعا لموقفهما،لكني لم اجد اي دافع منطقي ومقبول سوى ان هذا السلوك يعبر عن انحراف في الوعي والاخلاق لدى الانسان إذا ما استمتع بتوجيه الاساءة والانتقاص للاخرين لمجرد ان فيهم عوق جسدي،ولاينساق الى هذا المنزلق  إلاَّ عندما يكون مغترا بهيئته ويجدها خالية من العيوب والنواقص، فيدفعه هذا التوهم بكماله وجماله الى ان يرى في نفسه ما ليس فيها،فيعجز عن رؤية حقيقتها الداخلية بما تخبئه من  بشاعة وغرائز ربما يتساوى فيها الشخص مع الحيوان بتوحشه،وبينما كانت زوجتي قد ابتعدت عني مسافة عدة امتار لتستطلع اسعار الحاجيات التي تنوي شرائها،كنت اقف بعيدا عنها اتطلع الى الاجهزة الالكترونية، في حينه اصابتني حالة من التوتر لانني شعرت بجرح في كرامتي،رغم انها لم تكن منتبهة لسلوكهما وكانت منشغلة تماما بالبحث عما نحتاجه من سلع،وقررت ان اتجه اليهما وأنا معبأ بطاقة من الغضب لم استطع كبتها ومداراتها، لكني انتبهت على صوتها وهي تناديني، فتوقفت عما كنت عازما عليه.
لااستطيع ان انسى حالة الشعور بالقرف التي تلبستني في ذلك الموقف بعد ان اكتشف مدى مايحمله الانسان من قسوة ازاء اخيه الانسان خاصة إذا ما كان في حالة تشوّه او ضعف خلقي .


خلل اخلاقي 
كثيرة هي المواقف التي نواجهها في حياتنا اليومية وتكشف عن عمق الخلل الاخلاقي الرازح فينا والمستتر تحت طبقات من الرياء امام المجتمع،لكن ردود افعال الناس ازاء بعضهم البعض وفي مواقف مختلفة تفضحها وتعريها،بما في ذلك حالات التنمّر،خاصة عندما يتعلق الامر باولئك الذين يعانون من عيب خَلقي،ومن ناحيتي حاولت قدر المستطاع ان استوعب ردود الافعال التي تعبر عن تنمر خاصة عندما نتواجد في اماكن عامة،وارغمت نفسي بمرور الايام كلما خرجنا معا في مشوار على ان اعتاد على مثل هذه الافعال التي تفتح جرحا في كرامة الانسان المعاق ،ومما ساعدني على ذلك انها لم تكن تولي اهمية لهذا الموضوع،لانها دائما ترى نفسها رابحة في هذه المعركة غير المتكافئة بين من هو معاق ومن يجد نفسه كاملا ،وقناعتها التي ما تنفك ترددها بان ضعف ايمان الاخرين  بالله هو الذي يدفعهم الى ارتكاب الخطأ بحق غيرهم،كما انها لاتستطيع ان تعترض على ماكتبه الله لها،فالعوق الذي اصابها لايشكل بالنسبة لها عقدة نفسية او عقوبة بقدر ما تعتبره امتحانا لايمانها،واستطيع ان اجزم بانها استطاعت ان تجتاز اصعب السنين في هذه التجربة،فمنذ العام 2000 كان الروماتزم قد بدأ يرسخ حضوره بمفاصلها بصمت خفي ويستنزف طاقتها مخلفا وراءه يوما بعد اخر تدميرا داخليا في بنية عظامها،ولم تكن تتكشف اثاره بشكل واضح وسريع، انما كان يتوسع ويتمدد شيئا فشيئا من غير ان يثير الانتباه،وهنا لافرق بينه وبين السرطان في خبثه،وهذا ما جعل عظامها تتيبس وتصبح هشة،فاصبحت حركتها بالتالي ابعد ماتكون عن حركة الانسان في حالته الطبيعية.حتى انها ومنذ عدة اعوام لم تعد لديها الرغبة في ان نرفِّه عن انفسنا بالخروج من البيت والتوجه الى المتنزهات العامة،لانها كانت تعاني كثيرا في سيرها،ويزداد وجع قدميها ما ان نعود الى البيت.ولهذا لم اكن مستغربا عندما وجدتها على تلك الحالة التي بدت فيها غير مبالية بما كان عليه الطقس في بيروت من اعتدال ونحن في شهر حزيران،فنحن  في العراق لم نعتد في صباحاتنا الصيفية على ان نستقبل نفحات من الهواء البارد خاصة بعد ان تهجم علينا اشعة الشمس بوقت مبكر مثل اي ضيف ثقيل يأتي دون سابق موعد،فرائحة البحر وماتمنحه من طراوة على ملامح الناس والاشياء وحركة الحياة لايمكن للغريب القادم من مدن القيظ الاَّ ان تتسلل اليه وتعلق بحواسه،ورغم ان اشعة الشمس كانت تحاول ان تؤكد حضورها إلا انني كنت اشعر بحرارتها اشبه بهفهفة ريح ناعمة،فكان من الطبيعي ان يغمرني احساس شفيف بحلاوة اللحظة التي كنت اعيشها،خاصة وان مدننا في العراق كانت تستيقظ في مثل تلك الايام على لفحات ساخنة من هواء مشبع بذرات من الرمال قادمة من قلب الصحراء،ولما سالتها عن رأيها بطبيعة المناخ اكتفت بكلمة واحدة "لطيف" ولم تزد عليها كلمة اخرى،لانها كانت منفصلة عما يحيطها،في محاولة منها ان تستجمع مشاعرها المضطربة التي كانت تتشظى كلما اقتربنا من المستشفى التي باتت تبعد عنا مسافة تقل عن خمسين مترا.

محطات انتظار 
نولد ونموت عشرات المرات في مسيرة حياتنا،وبين الموت والميلاد هناك لحظات نتحرك فيها ونحن نحترق بغيوم داكنة سوداء تضلل كل خطوة نخطوها،احيانا ننجح في استرجاع اشلائنا ونعيد اليها صوتنا،ونفلح في ان لانستسلم للروائح المتعفنة التي تسد علينا سبل الخروج من محطات الانتظار،نحن هكذا ما أن تضرب اقدامنا الارض ونستفيق من سماء طفولتنا البريئة،حتى نجد انفسنا في غيبوبة ابدية لانصحو منها الا عندما يوشك ناقوس النهاية ان يُقرع.
لم استطع ان اقفز من ارجوحة التفكير التي اخذتني من حيث كنت اجلس معها داخل المستشفى ننتظر نتيجة فحص الدم،فقد طُلِبَ منها ذلك قبل ان  تدخل الى غرفة جهاز الفحص الاشعاعي "PTE SCAN " وخلال فترة الانتظار لفت انتباهي وجود الكثير من المراجعين العراقيين الذين جاءوا من بلد النفط والخيرات ليتلقوا العلاج في لبنان،فمن نجا منهم بحياته من نيران الحروب اصطاده السرطان،فقد تحول العراق الى لعنة سرطانية تطارد الجميع.
انتابتني رغبة كبيرة في ان اصرخ لعلّي استطيع ان احدث شرخا في هذا التآكل الذي اصابنا،حتى اننا لم نعد نوقن بامكانية الخلاص.
بقيت انظارنا خلال ساعة من الزمن ترنو الى الشاشة المعلقة على الجدار والتي كانت تعرض ارقام من ينتظرون استلام نتيجة فحص دمهم.واثناء ذلك مالت ناحيتي وهمست في اذني بان الدم والسوائل قد تجمعت في مكان العملية الجراحية،ولابد من سحبها اليوم،لانها بدأت تشعر بثقل يدها اليسرى ولم تعد تستطيع ان ترفعها او تحركها بسهولة.
"هل تستطيعين ان تتحملي الى ان تنتهين من اخذ الاشعة ؟ "سالتها لاتأكد فقط من قدرتها على التحمل .
" نعم استطيع " .


شكوك       
استلمنا النتيجة بعد ساعة من الانتظار،واتجهنا الى موظفي الاستعلامات لنسألهم عن كيفية الوصول الى غرفة الفحص بجهاز"PTE SCAN"وعلِمنا منهم بانها توجد في الطابق الذي يقع تحت الارض.وبعد بحث واستفسار بين الممرات الطويلة التي تشبه الملاجىء المحصنة في الحرب العالمية الثانية وصلنا الى غرفة الفحص وسلمنا البيانات الى فتاتين تديران مكتب الاستعلامات الخاص بجهاز الفحص،واحدة كانت محجبة والاخرى سافرة،وكان من ضمن البيانات التي سلمناها رسالة من الدكتور لقمان الذي سيشرف على علاجها الكيميائي ما أن نعود الى العراق مباشرة،كانت موجهة الى ادارة المستشفى يؤكد لهم فيها على اجراء الفحص بجهاز"pte scan"اكملت الفتاة المحجبة تسجيل المعلومات في الكومبيوتر استنادا على الرسالة ونتيجة فحص الدم وبقية البيانات الاخرى التي جلبناها معنا من العراق،ثم طلبت مني ان اذهب الى قسم الحسابات حتى اسدد مبلغا بقيمة 650 دولار ثمن الفحص،ومن ثم العودة والانتظار الى ان يحين موعدنا.
جلسنا على مصطبة مقابل غرفة الفحص لفترة من الزمن تصل الى اكثر من نصف ساعة،وكان من المفروض ان نجد التزاما وانضباطا في السلوك ما يعزز الثقة من اننا في مكان يليق باسم الجامعة الاميركية،ولكن ما مَثُل امامنا من مزاح بين الموظفتين الشابتين لم يكن الا شكلا من اشكال الاستهتارالذي لاينسجم مع وظيفة المكان،انذاك تعززت لدي  قناعة لم استطع ان استبعادها ،بان لبنان والعراق اقرب شبها بالفتاتين في  تارجحهما بين الحداثة والتقليد.
كان باب غرفة الفحص مواربا ويقع على مسافة قريبة منا،لذا كان من السهولة ان نرى جانبا من جهاز الفحص،وبقيت زوجتي تمد رأسها الى الامام حتى تتمكن من ان تعاينه بشكل جيد، فإذا بها ترفع حاجبيها الى الاعلى وتظهر عليها ملامح الاستغراب بينما كانت تهز راسها وكانها ليست مصدقة ما كانت تراه . 
التفت ناحيتي وقالت"هذا الذي اراه امامي ماهو الا صورة طبق الاصل عن جهاز ال CTE SCAN الموجود في اربيل،والذي سبق ان فحصني به الطبيب الهندي،فهل هذا معقول !؟".
"ولم لا  ؟ ربما التشابه بينهما من حيث التصميم،بينما من حيث الوظيفة يختلفان " .
نادت عليها الفتاة غير المحجبة وطلبت منها التوجه الى غرفة الفحص .


في غرفة الفحص       
منذ ان اصيبت في نهاية شهر ايار حاولت قدر المستطاع ان  اخفي عنها كل ما كنت احمله من قناعات متشائمة،وبدلا عن ذلك بدأت امضي في طريق آخر يخلو من النبوءات التي تجعل النهايات لاتبعث على التفاؤل خاصة ما يتعلق بالحياة في العراق ،حتى انني عملت على شطب القنوات الاخبارية من قائمة اهتمامتي،كل ذلك في محاولة مني لاشاعة مناخ من الهدوء في البيت،لانني اعلم جيدا ان متابعة الاخبار السياسية اكثر ما سمَّم حياتي،وفتحت قروحا في مسامات وجداني،وجعلتني اهدر الكثير من الجهد والوقت دون جدوى،فالتغيير في هذه البقعة من الكرة الارضية عبارة عن خرقة يمسح بها الساسة احذيتهم.
ايقنت من ان علاقتي بها بدات تخطو نحو منطقة عاطفية اكثر عمقا،لاعلاقة لها بالاشفاق عليها لانها مريضة،بقدر ما اكتشفت بان ما يبقى من المسيرة الحياتية هي الروابط الاسرية التي يؤسسها الانسان،ولن تجدي نفعا كل النجاحات المهنية التي من الممكن ان يحققها إذا لم يفلح في بناء اسرة متماسكة يسودها الحب.
عندما خَرجَت من غرفة الفحص بعد نصف ساعة بدت علامات الاستغراب على وجهها اشد وضوحا،فبادرت هي بالحديث" ليس هناك اي فرق بين هذا الجهاز وجهاز الفحص  cte scan الموجود في اربيل،اكثر ما اخشاه ان يكون هناك خطأ ؟ " .
"لا اعتقد،لان التقرير الذي كتبه د. لقمان كان واضحا " .
على مايبدو فأنني قد  تطوعت من ذاتي لتبديد وساوسها،مع اني لم اكن متأكدا في ما إذا كان هناك خطأ في الموضوع،ولاادري لماذا لم نحاول في حينه ان نستفسر من الطبيب نفسه الذي كان يعمل على الجهاز،على الاقل حتى نقطع الشك باليقين.وبينما كنا نتجادل حول موضوع الجهاز نادت علينا الفتاة المحجبة وابلغتنا بان النتيجة ستظهر بعد ثلاثة ايام،ولما اعترضت على طول الفترة،اجابتني بان من الممكن ان اتحدث مع الطبيبة المسؤولة عن القسم ،واشارت الى غرفة قريبة منّا.
وبعد جهد بذلته مع الطبيبة المسؤولة عن تسليم التقاريراستطعت ان اقنعها باننا لانستطيع الانتظار،ولابد ان نستلمه في اليوم التالي ووعدتني بانها ستبذل جهدها حتى نتمكن من استلامه في تمام الرابعة عصرا .

سَحبُ الدَّم
بقي لدينا فائض من الوقت ذاك النهار،وكانت الساعة تشير الى الحادية عشرة صباحا عندما نظرت اليها ووجدتها متعبة فكان لابد من اجراء عملية سحب للدم والسوائل،وسرعان ما تمكنا من الوصول الى الطبيب هاشم معتوق حتى يتولى عملية السحب. كانت عيادته تقع في مبنى كبير ملحق بالمستشفى.وبعد ان اطلع على مكان العملية،سالنا عن اسم  الجراح العراقي الذي تولى اجرائها،وابدى اعجابه الشديد بدقة عمله،ثم رفع سماعة الهاتف الموضوع على مكتبه واجرى اتصالا هاتفيا،وعاد مرة اخرى يستفسر منها عن صحتها وفي ما اذا كانت تعاني من اية مشاكل وفي تلك الاثناء دخل شاب الى الغرفة يرتدي رداء ابيض  خاص بالاطباء، طلب منه الطبيب معتوق ان يتولى بنفسه عملية سحب الدم.ثم استدار ناحيتنا ليطمئننا مشيدا بكفاءة الطبيب الشاب خاصة وانه يشرف شخصيا على رسالة الماجستير التي يواصل التحضير لها .

باتجاه البحر 
عندما خرجنا قاصدين البحر مشيا على الاقدام كان جبين الشمس يلوح من نافذة الغرفة في الفندق معلنا اقتراب فترة العصر على الافول .اخبرنا عامل الاستعلامات بان من الممكن ان نصل الى الكورنيش من غير ان نستعين بسيارة اجرة لانه يبعد مسافة لاتزيد عن عشر دقائق.
دائما ما كنت اعتقد بان العلاقة بين الانسان والمكان ليس من السهولة ان تتشكل ويكتمل حضورها في طبيعته وثقافته وردود افعاله،فهي تحتاج الى مشاركة وتفاعل وجداني اكثر مما تحتاج الى سنوات طويلة من الاقامة،ومن الممكن هنا الحديث عن انطباعاتي الشخصية حول هذه المدينة التي كنت ازورها للمرة الاولى، ومع ذلك فإن قناعتي لايتوفر فيها قدر كبير من المصداقية، لانني لمستُ المدينة من السطح، ولم تتكامل الظروف بعد حتى تنبسط العلاقة بيني وبينها،ولتنشأ بيننا لغة عفوية في التعامل، فأنا بالكاد تعرفت اليها وجها لوجه منذ ساعات،رغم انني اعرف عن تاريخها الكثير،ولكني لااستطيع ان انكر بانني لم استلم اي اشارة حب تجاه هذه المدينة التي كانت في يوم ما الملاذ الذي كنت اتمنى ان ابدا منه حياة جديدة،إذا ما غادرت العراق ،وهذا ما صدمني منذ ان وطأتُ ارضها قبل يومين.
طيلة الطريق الطويل المؤدي الى البحر لم اجد فيها ما يدفعني الى ان اندهش، فليس فيها من ابنية معمارية تمنحني الشعور بانني في مكان لن اجد ما يشبهه في مدينة اخرى،انها نسخة من مدن كثيرة منتشرة في هذا العالم،فهي ليست مثل صنعاء على سبيل المثال المدينة اليمنية التي تفرض حضورها بخصوصية طرازها المعماري الذي يعود الى مئات السنين او ايطاليا التي لاتستطيع فيها الا ان تستنشق رائحة عصر النهضة بكل فخامته في النصب والتماثيل التي تواجهك اينما استقرت عيناك في الشوارع والساحات العامة. اما بيروت فلن ترى فيها اكثر مما تراه من تصحر في المدن العربية الاخرى، فخلف تلك الابنية والعمارات الحديثة لن تعثر على قصص تفتح الافاق امامك نحو المستقبل.
البحر هو الشيء الوحيد الذي جعلني استسلم لجاذبيته ما أن رايت اشعة الشمس بلونها الذهبي وهي تنعكس على امواجه،فكان الماء بذاك المدى الشاسع قد شكل مساحة حرة من المشاعر الناعمة مثل نعومة الرذاذ الذي ترسله الامواج ما ان تصطدم بالصخور الراسخة عند الشاطىء، وخلال لحظات ازاحت رائحة البحر الحواجز النفسية التي احالت بيني وبين بيروت.
وقفت مسحورا امام صخرة الروشة،ورحلتُ بمخيلتي معها الى سنين بعيدة من التاريخ مرت بها هذه المدينة التي كانت في ما مضى بوابة العبور نحو العالم المتمدن ،ولطالما بقيت ابوابها مفتوحة امام المغامرين والحالمين بعالم افضل . اطلتُ النظر طويلا وانا اتأمل الصخرة وهي تقف شامخة وسط الماء مثل كائن اسطوري عملاق ،غير عابئة بالامواج ، وكانت بمثابة شاهد على التاريخ ،إلا ان متعتنا افسدتها إمرأة بدينة ملحاحة بينما كنا نتكىء باذرعنا على السياج الحديدي نتأمل البحر،فما أن لمحتنا حتى اقتحمتنا ونحن نحلق بمخيلتنا مع سحر المكان،فانتزعتنا من صفاء تلك اللحظة الآسرة وهبطت بنا على الارض الى حيث الكورنيش الذي كان يعج بحركة الناس.بدت المرأة في لون بشرتها المائل الى سمرة داكنة اقرب ماتكون الى الغجر،وماعزز ذلك الاحساس تلك الوشوم التي كانت تزين ذقنها وكفيها اضافة الى سِنِّها الذهبي الذي كان يلمع بين بقية اسنانها الاخرى. ظلت تحوم حولنا لاقناعنا بقدرتها على قراءة الكف،ولكننا لم نعرها اهتماما،إلا ان زوجتي اشارت بحركة من راسها بان امنحها اي مبلغ بسيط ،لكني رفضت،لقناعتي بانها امرأة تحترف الشحاذة مثلما هي تحترف النصب والاحتيال،ولم نفلح بالخلاص منها الا بعد ان ابتعدنا عنها وغادرنا المكان .

شعور بالارتياح   
قبل موعد عودتنا الى اربيل بيوم واحد،قررت ان نذهب الى الطبيب الذي سبق ان اجرى العملية الجراحية لزميلتي المهندسة في القناة الفضائية والتي سبق ان زودتني برقم هاتفه وعنوانه.
احيانا لاتحتاج الى وقت طويل حتى تكتشف حقيقة بعض الاشخاص،ومن الممكن ان تصل الى اعماقهم بكل سهولة ما أن تلتقيهم اول مرة،وكانك تعرفهم منذ فترة طويلة،وهذا ما حصل مع الطبيب رضا الطفيلي ما ان التقينا به في عيادته،فما أن علِم باننا من مدينة الموصل ابدى تعاطفه معنا،ولم يكن يحتاج الى ان يجاملنا،خاصة بعد ان وجدته يحمل ذاكرة عاطفية تطغي عليها مشاعر المحبة ازاء العراق،حيث سبق له ان زار النجف وكربلاء اكثر من مرة ،وبعد ان اطلع على التقرير الخاص بالفحص الذي اجريناه يوم امس اكد لنا بعدم وجود اي اشارة على ان النقاط السوداء هي عقد سرطانية،وبذلك تطابق رايه مع راي الطبيب الهندي في اربيل. انذاك استوت في جلستها،وكان من السهولة ملاحظة البريق الذي بدأ يشع من عينيها.

 يتبع ..


22
.ج  12 – اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                                   
مروان ياسين الدليمي


                                      يوم الهروب
عليك ان تختار، إما ان تمضي للامام غير عابىء بالمخاوف او تنجرف الى فكرة الصمت، باعتبارها اضعف وسيلة لمعاندة جريان الزمن، فأنت في كلا الحالتين ستغادر الامنيات والاحلام في آخر المطاف، لتغتسل روحك بعد أن ينطفىء الجسد في اعماق الارض، ولن تتاح لك فرصة ان تودع المخاوف والمباهج ، ولا أن تمسح عينيك بتراب الاماكن التي دائما ما  تحتفظ برائحتها تحت جفنيك.
فلماذا اذن تنتظر وصول المعجزات، طالما لن تهبط عليك بالمظلات، ولن تعرف طريقها اليك لترتمي بين احضانك؟.
حتى وانا في بيروت، لم استطع ان اتجاهل في فجر اليوم الاول روتين النهوض الصباحي، الذي اعتدت عليه مذ وصلنا هاربين الى ناحية عنكاوا في اربيل مطلع العام 2007، قبل اكثر من ثلاثة عشرعاما، بعد ان حالفني الحظ  في انقاذ نفسي وعائلتي من خطر الاغتيال في الموصل من قبل تنظيم القاعدة.
مذ ذاك اليوم وانا بغاية الحرص على ان تنتعش علاقتي مع الزمن، فلم ابخل على نفسي متعة ان اناجي الغيم والاشجار، وألامس الضوء وهو يتغلغل في زوايا العتمة.
ما زلت اذكر تفاصيل ذلك اليوم ، خاصة عندما اجتازت الشاحنة التي اقلتنا حدود مركز مدينة الموصل مع الاثاث البسيط لشقتنا الذي استطعنا نقله فيها، ووصلت بحدود التاسعة صباحًا عند اول حاجز لقوات البيشمركة الكوردية، بالقرب من بلدة برطلة، حتى وجدتني مشبعًا باحساس من يُكتَبُ له عمر جديد، فتنفست الهواء بعمق، مثل سجين يخرج الى النور بعد ان كان محكومًا بالاعدام فيسعى بكل مايحمله من شهوة للحياة الى ان يعانق كل ذرة في الفضاء، ويمتص ما فيها من رحيق، حتى ان السائق الذي كنت اجلس الى جانبه في قمرة القيادة شعر بما كان يصدح في روحي من اغاني، وما كان يتوهج فيها من فرح مفاجىء احال القمرة الى سفينة هائلة تشق عباب البحر، فالتفتَ ناحيتي وقال لي" اطمئن، الآن عبرنا مرحلة الخطر" .

                                     مكالمة هاتفية اخيرة
 لم اجد نفسي إلاَّ وانا احتضن ولدى الذي كان يجلس بيني وبين زوجتي، فقبلته من خدّيه مثل من يقبِّل غريقا ليمنحه الحياة، ثم مددت يدي وامسكت بكف زوجتي التي كانت تجلس صامتة الى جانب النافذة معزولة عما حولها من صخب، تفكر بما ينتظر حياتنا القادمة، وما ستشهده من تحوّلٍ، فبدت كما لو انها كانت ضائعة في غابة من الحيرة، لانها لم تستطع ان تفتح نافذة في تلك العتمة التي كانت تغلف الافق امامها، لتستشف الصورة  التي سنكون عليها في اليوم القادم، وكما حكت لي في ما بعد فإن مشاعر الحسرة كانت تتناهبها لانها ستفارق اهلها وربما لن تراهم لفترة طويلة، وما كانت تبصر في داخلها اي علامة تشير الى ان ما ينتظرها في جوف المجهول سيبعث فيها الاطمئنان، خاصة وانها مازالت تحت تأثير المكالمة الهاتفية التي جرت بينها وبين شقيقها الاكبر اثناء ما كانت الشاحنة تقطع الطريق المحتقن بصمته الموحش والمعبأ بالمجازفات ما بين دورة اليرموك والجسر الثالث الذي سيفضي بنا من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي من الموصل، حتى انها لم تستطع حبس دموعها بينما كانت تتحدث معه عبر الهاتف وتخبره بصوت خافت بما اقدمنا عليه من خطوة بالرحيل عن المدينة والتوجه الى اربيل، ولم تنس ان تحمِّله امانة ان ينقل سلامها ومحبتها لوالديها، وان يدعو لنا بالسلامة والنجاة، وبسبب ضعف الاشارة وتقطّع الصوت لم تستطع ان تسمعه بشكل واضح وهو يتحدث اليها، لكنها شعرت بالصدمة التي نالت منه وكان  تاثيرها واضحا في صوته الذي اخذ يتكسر مثل عشب يابس وهو يحاول ان يسيطرعلى مشاعره التي ارتفعت درجة حرارتها قبل ان ينقطع الاتصال الهاتفي بينهما، وما أن انقطع الاتصال حتى حامت غمامة من الحزن على وجهها، وبصعوبة واضحة ابتلعت ريقها بعد ان احسّت حلقها وقد نشف تماما من اللعاب.
ضغطتُّ على كفها بكل ما لديّ من قوةٍ اظنها كانت توازي ماكنتُ اشعر به من خوف على سلامة حياتنا طوال الطريق منذ ان انطلقت بنا الشاحنة بحدود الساعة السادسة صباحا من امام العمارة السكنية الكائنة في مجمع شقق اليرموك، لاننا كنّا بغاية الحرص على ان ننتهي من تحميل ما لدينا من حاجيات واغراض دون ان نثير اي جلبة، ومن ثم الانطلاق قبل ان يصحو سكان العمارة ، حيث كانت شقتنا تقع في الطابق الثالث منها، نظراً لان الوشاية كانت قد نقضت العهد مع الاخلاق نهائيا واحكمت قبضتها على طباع البشر، وتبددت الطمانينة مع الجار والصديق والاقارب بشكل مرعب، ولم يعد ممكنا ان نجني الثقة في زمن ارتبكت فيه القيم فأمست المسافة مابين الفرد والآخر ارضا قاحلة تنمو فيها الدسائس والاكاذيب التي كان كثير من العراقيين يتبرعون بها للجماعات المسلحة تعبيرا عن احقاد شخصية .
                                   دورة اليرموك وشارع بغداد
ازدحمت في راسي الذكريات مثل حقل من الزهور العطرة، فكانت  تفيض برائحتها مع  كل ركن من اركان مدينتي التي كنت اودعها بصمت من خلف زجاج النافذة الامامية للشاحنة، لكنها سرعان ما تختلط مع هاجس الخوف كلما كانت تتقدم باتجاه مبنى بدالة ابي تمام للاتصالات التي تطل على شارع بغداد، فهناك الكثير من قصص الموت والرعب المرتبطة بهذا الشارع، الذي يمتد بشكل مستقيم لمسافة طويلة تبدأ من دورة اليرموك وتنتهي عند بوابة مدينة الموصل التي تفضي الى الطريق المؤدي باتجاه العاصمة بغداد، فبين ليلة وضحاها امسى  مسرحا مفتوحا لمواجهات دموية مسلحة، دائما ما كانت تقع ما بين تنظيم القاعدة والقوات الاميركية، حتى ان الناس بدأوا يطلقون عليه شارع الموت، فكان الوقت يمر في زواياه معبأً بالترقب ومشحونا باشعاعات الهلع وهي تحبس انفاس الناس في التاكسيات وباصات النقل الخاص عندما يذهبون صباحا الى عملهم ويعودون مساء الى بيوتهم.
تحوّل الشارع الى لحظة زمنية داكنة انتظمت فيها انفاس الانسان على ايقاع الرصاص الذي كان يغترف من ابارٍ معبأة بمشاعر الحرمان والكراهية والتكفير، وتفشَّت فيه صور الموت مختلطة مع رائحة البارود، فنقشت الحرب ملامحها القاسية بكل بشاعتها على واجهات البيوت والابنية الحكومية مثل دائرة الماء والبلدية والبنك، وانزاحت عنها ظلال الاشجار المزروعة في الجزرة الوسطية التي كانت تمتد على طوله، ولم تعد الحياة تجرؤ على نثر خصلات شعرها خلف النوافذ ولاان تطلق ضحكتها امام واجهات المطاعم والمقاهي التي امست ملاذا للقطط والكلاب السائبة وجثث القتلى، مِن المدنيين ومنتسبي القوات العسكرية والشرطة، فغدا اشبه بمقبرة تسكنها الاشباح  بعد ان كانت الحياة تضج في اركانه طيلة ساعات الليل والنهار، لانه كان المحطة الرئيسة التي تنتهي فيها رحلة شاحنات النقل القادمة من تركيا وسوريا وهي محملة بالبضائع، قبل ان يتم تفريغها بشاحنات عراقية لتنطلق في ما بعد الى بغداد ومدن العراق.

                                       معانقة الحياة
ما ان استقر بي المقام في عنكاوا حتى اندفعت بكل ما لدي من حماس لتجاوز الشروخ التي اصابت حياتي واتلفَت ما كان لدي من احلام، فبعد ان استأجرت شقة وجهزتها بالمستلزمات المنزلية الاساسية، من طباخ غازي وثلاجة وجهاز تلفزيون، لم يكن يدور في بالي سوى ان استوعب نِعَمَ الوجود بملء روحي وعقلي، ولاجل ذلك كنت مستعدًّا ان يكون مسكني خاليا من اي صورة للترف، فما عاد يهمني ان تكون شقتي خالية من الاثاث، ولهذا اكتفيت كما هي عاداتنا في بيوتنا القديمة بان افرش ارضية غرفة الاستقبال  بمجموعة من البسط السميكة التي اشتريتها من سوق الاغراض المستعملة.
حاولت ان اعوض مافاتني في ايام الرعب التي عشتها في الموصل، وبدأت استمتع بكل ثانية بنسيم الهواء وحرارة الشمس وصوت العصافير وخفقة اجنحة الفراشات، فكنت حريصا على ان استيقظ مبكرا كل يوم لتستفيق روحي على ضوء الفجر وهو يلامس كل ما هو كائن على الارض. ولهذا كان امرا طبيعيا بعد اول ليلة في الفندق ان ادفع الغطاء عني في تمام الساعة السادسة صباحا دون ان احتاج الى منبه  يوقظني، وإن كانت الاصوات الخفيفة القادمة من الكشك  كافية  لتشعرني بان الحياة بدأت تدب في الخارج ، وتذكرت بانني سوف لن يكون باستطاعتي ان امارس الهرولة لساعة من الزمن خلال الايام القليلة التي سنقضيها في بيروت كما اعتدت ان افعل يوميا في المتنزه الذي يقع قبالة بيتي في اربيل، وفكرت ان اعوّض عن ذلك بان اؤدي تمارين رياضية خفيفة داخل الغرفة، فالمهم ان لاانقطع عن ممارسة الطقس الذي سبق ان عاهدت نفسي الالتزام به بعد ان تمكنت من انقاص وزني خمسة عشر كغم واصبح خمسة وثمانين، وإنْ كانت العملية قد استغرقت وقتا طويلا جدا لم يكن يتناسب مع ما فقدته من وزن.

                                       لاوقت للمزاح
ما أن هممت بمغادرة السرير حتى اثار انتباهي جلوسها ساكنة على الكرسي بالقرب من خزانة الملابس، ولم يكن يصدر عنها اي صوت، وفي الواقع ما كان لي ان اتفاجأ إذا ما وجدتها قد سبقتني في الاستيقاظ، لانني ادرك مدى حرصها على ان تؤدي صلاة الفجر قبل ان تشرق الشمس. شعرت كما لو انها كانت تفكر بامر كان يثقل عليها، او انها كانت تشكو من ألم، وربما لم تكن ترغب في ان تنتزعني من النوم حرصًا منها على ان لاتبدد الراحة التي كنت اتدثر بها بعد ان نال مني التعب بسبب مشاق السفر، لكنها ما ان شعرت باني قد استيقظت حتى بادرتني بسؤال لم يكن يخطر في بالي ابدا.
" في اي اتجاه  تتوقع ان تكون القِبلة ؟ "
لم تترك لي فرصة ان اعبر عن دهشتي وانا انظر اليها، عندما وجدتها تعيد طرح السؤال عليَّ اكثر من مرة، فما كان مني الا ان اقاطعها لاذكرها فقط بانني لا اعرف اكثر مما هي تعرف، فليس من المعقول ان تستعين بي لمعرفة اتجاه القِبلة ! 
عندها حركت راسها لتقول لي بان لاوقت للمزاح ، ومن الضروري ان اساعدها في تحديد الاتجاه.
"ومالضير اذا ما صليتِ باي اتجاه؟ فالمهم نيّة الانسان، وليس الشكليات ".
بطبيعة الحال لم يعجبها كلامي، ولانها كانت في وضع صحي لايسمح لها بالانفعال، اكتفت قائلة "ارجوك ، الموضوع لايحتمل المزاح " .
ولاني على يقين من انها دائما ما تأخذ الامر على محمل الجد في مثل هذه الموضوعات التي تتعلق بشؤون العبادة والدين، ولن تتسامح ابدًا مع اي صيغة لا تُعلي من شأن الالتزام الجاد بها، لذا كان لابد ان اؤكد لها بانني لم اكن امزح، وان عليها تفويض امرها الى الله طالما هي في بلد غريب، واوضحت لها بأنه ليس من المعقول ان اتصل بالاستعلامات في مثل هذا الوقت لمعرفة اتجاه القِبلة، وعليها ان تتوقع بان لايكون جميع العاملين في الفندق مسلمين، فنحن في لبنان، وليس في مكان آخر من ديار المسلمين.
انذاك وجدتها كما لو انها قد اقتنعت من انني لم اكن امزح معها، وما من خيار امامها إلاَّ ان تصلي وباي اتجاه .
وقبل ان تبدأ في الصلاة اتجهت الى خزانة الملابس وبدأت تفتش فيها ولانها كانت شبه فارغة باستثناء ثيابنا التي علقنا بعضها بداخلها والقسم الاخر رتبناها على الرفوف لم تستغرق عملية البحث سوى ثوان معدودة .
 "ليس من المعقول عدم وجود سجادة في الغرفة !" كان يبدو عليها الانفعال عندما استدارتُ وخاطبتـني بهذه الجملة.
 " لسنا في زيارة للسعودية ، نحن في لبنان ، في لبنان ياعزيزتي ،هل نسيت ذلك ؟ " باجابتي هذه ،لم تستطع ان تمنع نفسها من ان تبتسم وتهز راسها وهي تردد مع نفسها.
" لا أمل يرتجى منك " .
ثم سَحَبَتْ من الخزانة القميص الذي كنت ارتديه اثناء الرحلة، وفرشته امامها على الارض، وبدأت في الاستعداد للصلاة. وقبل ان تبدأ التفتت ناحيتي وكانها تذكَّرت امرا ما ، فخاطبتني "وانتْ..ألا تصلي ؟  لعل الله يسهل علينا امرنا، خاصة واننا في بلد غريب " .
ولانني لست متعنتا في هذا الموضوع، وليس لدي مشكلة في ان اصلي ،اجبتها بانني ساصلي بعدما تنتهي هي. فإذا بها ترفع يديها باتجاه سقف الغرفة بشكل مبالغ به وهي تردد " الحمد لله ، اللهم اهدهِ يارب العالمين "
عندها لم اجد نفسي إلاّ وانا  اطلق ضحكة خفيفة، بينما كنت اتجه ناحية شرفة المطبخ .
"من يسمع هذا الكلام، سوف يعتقد بانني شخص بلا ايمان" .
" ومالذي سيحصل، حتى لو سمعك اللبنانيون كلهم ، ألسنا في لبنان  ؟  "
لم اتمالك نفسي من الضحك، وعدت ادراجي والقيت بنفسي على السرير. 
بينما هي بدأت في الصلاة ورفعت من صوتها وهي تردد "الله اكبر". وكانت بمثابة اشارة واضحة منها بان اكف عن الضحك احترامًا واجلالا لطقس التعبّد. فما كان مني الا ان اكتم ضحكتي وانهض معتدلا بجسمي، واعود من حيث اتيت متجها الى شرفة المطبخ، بعد ان جذبتني رائحة الماكولات اللبنانية التي كانت تنبعث من الكشك .

                                  تشابه النهارات
عشت لحظة ترف حقيقية لدقائق معدودة، انفصلت فيها عن هجير ايامي، شعرتُ بها وهي تنهمر في كياني كله،ب ينما كنت استمتع بنسمة هواء باردة كانت تتهادى في الفضاء، مع اننا في منتصف شهر حزيران، فوجدت نفسي هائما بالفة الاشياء التي كانت تلتقطها عيناي وهي تغرق في صمت المكان. شرعت في  التقاط عدد من الصور الفوتوغرافية بكامرا هاتفي الجوال للعمارات الشاهقة التي كانت تواجهني وانا اطل عليها من خلال الشرفة، والتقطت صورًا اخرى للشارع الفرعي الذي كان يقبع فيه الفندق بعد ان لفتت انتباهي اناقة الحدائق المنزلية  للبيوت الصغيرة التي كانت تتراصف على جانبيه، ولعل الوان الزهور المتنوعة التي كانت مزروعة في سنادين تنتظم على شرفاتها الحديدية اكثر ما استوقفني في ذلك المنظر.
حاولت ان امضي بعيدا بمخيلتي، مجتازا المسافة التي كانت تفصلني عن ولدي الذي كان يغط في نوم عميق في مثل تلك الساعة، لانه اعتاد ان يسهر في ايام العطلة الصيفية الى ساعات متأخرة من الليل وهو يلهو مع اصدقائه بالعاب الكترونية عبر الانترنت، ولهذا كان  يصحو في اغلب الايام بعد الساعة الواحدة بعد الظهر. ويمكنني ان اؤكد بانني لم اكن اشعر بالسنين وهي تزحف متسللة الى خلايا جسمي الا بعد ان وجدته فجأة ينهي دراسته الاعدادية، انذاك تقوست الاشياء امامي، لانني كنت اتجاهل الزمن واحرمه متعة النيل مني، رغم الخراب الذي صادفني، خاصة بعد ان انتهيت من اداء الخدمة العسكرية مطلع تسعينات القرن الماضي بعد حرب الخليج الثانية. فبعد ان نزعت ملابسي العسكرية، ورميتها في التنور الطيني الذي اعتادت جدتي ان تخبز به، وجدت نفسي وسط فضاء عارٍ، لا سماء تستره ولاارض تحميه من السقوط ، لم يكن يشبه ما كنت قد حلمت به قبل دخولي كلية الفنون الجميلة، كل شيء وجدته يتبخر من حولي بشكل متسارع، وبدأت النهارات تتشابه مع عتمة الطريق الذي كانت تمضي اليه البلاد، وتراكمت السنين على كتفيّ مثل الاتربة، وما من شيء كان يربطها الى بعضها الا حكايات لايمس الموج اقدام ابطالها ولا الحمام يميل بهديله اليها ولاضوء القمر ينهمر على نوافذها. كانت حكايات لاتصلح لكي يغفو الاطفال على وقع كلماتها، ومع ذلك لم تشتبه عليَّ الحياة، وظل الزمن يقفز خارج تقويمي الشخصي، الاَّ بعد ان إرتأى  ابني البقاء في البيت، وفَضَّلَ عدم مرافقتنا الى بيروت، وكانت تلك اشارة على انه قد اصبح قادرا على التحليق والطيران لوحده، ولم اعد استطيع  اللحاق به ، وعلي ان استعد لمواجهة صورتي في مرآة الزمن والاقتناع بالاخاديد التي حفرها على ملامحي .
شعرت بالحاجة الى ان اسمع صوته بينما كانت امه ترتب الاغطية على السريرقبل ان تستعد لتبديل ثيابها، لان موعد الذهاب الى مستشفى الجامعة الاميركية لم يحن بعد، فالساعة مازالت تشير الى الثامنة صباحا، اي اننا امامنا ساعة من الزمن، ولكني تراجعت عن فكرة الاتصال به بعد ان تذكرت بانه مايزال نائما. فاستثمرت الوقت المتبقي وغادرت الغرفة لكي اشتري فطورا صباحيا من الكشك الذي يقع مقابل الفندق، مع انها ما كانت تريد ان تفطر، لان ذاك اليوم صادف الاول من شهر رمضان، لكني ارغمتها على ان لاتصوم ، لان حالتها الصحية قد تتدهور اذا ما اصرت على رأيها  .
لم اكن خائفا على ولدي بعد ان تركناه لوحده  في البيت ، لان المنطقة التي نسكن فيها في اربيل كانت تجاور مبنىً حكوميا، لذا كان الحي يخضع لمراقبة دائمة عبر الكامرات، ولزيادة الاطمئنان عليه اتصلت عبر الهاتف باثنين من اصدقائي، اكرم اسوفي ومحمد خيّون، واخبرت كل واحد منهما بموضوع سفرنا، وطلبت منهما ان يبقيا على اتصال دائم به اثناء فترة غيابنا، تلافيا لاي مفاجاءات قد تحدث، ولربما قد يحتاج الى مساعدة بامر ما.
بعد ان اتهينا من تناول الفطور كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا، طلبت منها ان تتأكد من كل البيانات الخاصة بحالتها المرضية قبل ان نتوجه الى المستشفى .

يتبع ..

23
ج 11  اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                           
مروان ياسين الدليمي


                                     اقرب ماتكون اليه

بَدَت في دهشتها التي استيقظت على وجهها الشاحب،كما لو انها طفلة تكتشف الاشياء لاول مرة،بينما كانت تتابع الفضاء الشاسع الذي يمتد بلانهاية امام عينيها،في اول رحلة لها بالطائرة،فارتسمت على وجهها بهجة،مثل شعاع ينبثق من داخلها،كانت كافية لان تبدد التعاسة التي كنا نرزح تحتها منذ عدة ايام وتمنح من يراها شعورا قويا بالطمأنينة بان الحياة تستحق الاحتفاء بها،رغم مانمر فيها احيانا من انتكاسات حادة،حتى انها قالت متعجبة ان بامكانها ان تلمس الغيم باصابعها،لولا النافذة الزجاجية التي كانت تحول دون ذلك. فما كانت تتخيل في يوم ما ان تتأمل مشهدا كهذا بتلك المساحة الهائلة من البياض الناصع ،فحسدت نفسها لان الفرصة واتتها لتعيش مثل هذه التجربة بكل سحرها،خاصة وانها كانت معلقة على ذاك  الارتفاع الذي جعلها تشعر كما لو انها اقرب ماتكون الى الله ،وقد تبدى لها وجهه،بنوره الآسر في يقظة تلك الآيات التي كان بصرها يقتنصها،بكل ماتحمله من صفاء مبهر تجلى بحضوره النادر في زاوية قصية من هذا الكون.
دائما ما كانت امالها تنأى بها بعيدا عن هوس البشر في المشهد الارضي بكل ما يحمله من توحش غرائزي،وتمضي بكل جوارحها الى حكايات غامضة مرتبطة بالسماء وما يقف ورائها من قوة خفية تمسك بأسرار هذا الكون،ودفاعا عن نفسها عندما كنت اوجِّهُ انتقادا لها باختيارها الهروب من الحقائق الواقعية الملموسة بالالتجاء الى الغيبيات،كان جوابها الذي تعيده على مسامعي مرارا وتحتفظ  في محتواه بكل مالديها من اصرار،بان موقفها يعبر عن ايمانها،وعن احساس عميق لديها لاتستطيع ان تتجاهله،وهو اقوى بالنسبة لها مما تراه وتلمسه في الحياة من صور وظواهر اعتبرها انا ادلة مادية ومنطقية،وهذا ما يدفعها الى ان تبني امالها بعيدا عن اضطرابات النفس الانسانية ونوازعها وهوسها بما هو حسي وملموس.


                                  شرود عن العالم
لم يكن هذا الموقف قد تولد في داخلها بعد ان مرت بتجربة مرض الروماتزم الذي انهكها منذ العام 1999 ولا بعد ان دخلت تجربة سرطان الثدي، اظن بان انفتاحها على هذا العالم المشبع بصمت السماء وغموضها يعود الى سني طفولتها الاولى والى المحيط الاجتماعي الذي شحذ خيالاتها بماهو ابعد من الواقع،فهي لم تكن تأبه بالفرص التي يمكن ان تضعها في طريقها خيارات الدنيا بكل مافيها من مغريات ومباهج،وهنا تحديدا يكمن جانب مهم من الافتراق بيني وبينها،فأنا لا احب التحليق بعيدا عن المحسوسات،بينما هي في كل عمل تُقدِم عليه كانت تبحث عن ممر روحي يفصلها عن الواقع املا في ان تشعر بالاطمئنان الداخلي.فكثيرا ما تنفرد مع نفسها في حالة من الشرود والتيه عما حولها،وتمضي على هذه الحال ساعة من الزمن،تبتعد فيها عن ذاتها لتقترب منها اكثر،وهي غارقة في حالة من التوحد معها،وحينما اجدها على هذه الصورة بعد كل صلاة تؤديها،اغض النظر عنها،ولا احاول ان اثير اي جلبة في البيت،حتى لو كنت اود ان استفسر منها عن شيء ما لحاجتي الماسة اليه.فأنا لست معنيا بما يؤمن به الاخرون،ولااسمح لنفسي ان اشتبك في جدل معهم حول ما إذا كانوا يلوذون بمكان صحيح أو خطأ، فالمهم بالنسبة لي في ما يتعلق بقناعات البشرأن يشعروا باطمئنان داخلي في خياراتهم الذاتية،طالما لايتسببون لي وللاخرين باذى،واكثر ما يشعرني بعدم الاطمئنان عندما اجد من يحاول استنساخ الاخرين على هوى ما يطئمن هو إليه من قناعات، خاصة عندما يغلفها باطر عقائدية،ولم اصل الى هذه الدرجة من الاستيعاب الا بعد تجارب مريرة مع اخرين، وحتى اصل الى ماوصلت اليه من فهم استغرقتُ وقتا طويلا.

                                    مصدر الاسرار
مذ كانت طفلة في مرحلة الدراسة الابتدائية لاتتذكر ابدا انها قد تخلفت عن ان ترفع نظرها نحوها الاعلى في الاوقات الخمسة للصلاة،هذا ماسبق ان قالته لي،لانها كانت ترى مصدر الالهام والاسرار لكل ما هو موجود على الارض يكمن هناك،فإذا ما شاء الانسان ان ينأى بنفسه عن الموجودات التي تحيط به في حياته المادية والتي عادة ما تاكل من جرف روحه ينبغي عليه ان يتوجه بوجدانه الى حيث ما يكون الله حاضرا،وإذا ما شعر بالقهر والجور قد لحقا به فلابد من ان يمد يديه نحوه طالبا منه العدل والانصاف وليس من غيره،وإذا ما نال مبتغاه فلاينبغي ان يتردد في ان يعبَّر له عن شعوره بالامتنان.
"اشعر بنبضي يتسارع كما لو ان قلبي سيطفر من مكانه"
هذا ما قالته وهي ترحل بعيدا في نظرها من خلف زجاج النافذة،كما لو ان المسافة بينها وبين الله باتت اقرب مما كانت تحلم به،ولفرط سعادتها بدأت تردد ادعية وصلوات وتسابيح مع نفسها،واسرّت لي بانها لم تكن تحتفظ في قلبها في تلك اللحظات الا بمطلب واحد "ان ألمس اشارة في روحي تجعلني أطمئن من ان الله راض عني" . هذا ما افصحت عنه لما سألتها بماذا كانت تهمس بينها وبين نفسها.
"ربما لديكِ هذا الشعور لانك اول مرة تركبين الطائرة وتكوني على هذا المستوى من الارتفاع "
بهذه الجملة حاولتُ ان اخرجها من هذا الافراط في التخيل والتحليق بعيدا عن الواقع،وان تتعامل مع ماتراه ليس باعتباره تجربة خارقة لن تتكرر،وذكَّرتها بان هناك ملايين من البشر مثلها ربما يكونوا الان على نفس الارتفاع لكنهم لايجدون انفسهم قد اصبحوا اقرب مسافة الى الله ، ولايعدون ما يمرون به تجربة روحية،انما هو مجرد انتقال في المكان مثلما يركبون سيارة او قطار او باخرة اثناء سفرهم من مكان إلى آخر، فلماذا هذا التوغل العميق في التخيل بما لايستحق كل هذا الجنوح والشطط في الافكار والتأملات التي ابعد من ان تكون منطقية  ! ؟
" احتفظ بارائك لنفسك ،لان ايمانك ضعيف اصلاً " 
كنت مدركا من ان اجابتها ستكون بهذا المعنى،ولم يكن ممكنا ان انجح في اقناعها ابدا ،فالمسافة التي نختلف فيها كانت تبدو واضحة بيننا طيلة الاعوام التي عشناها معا ،فكيف بها ونحن على مثل ذاك الارتفاع الشاهق الذي كنا عليه،وغالبا ما كانت علاقتنا تشهد عواصف من الجدل خاصة إذا ما نشأ نقاش حول هذه الموضوعات،ولهذا كنتُ اتحاشى اي محاولة لتقليص المسافة الفكرية بيننا،لانني على يقين من ان المهمة ستكون مستحيلة،لانها من غير الممكن ان  تغير موضعها للدفاع عن قناعتها، وستبقى تتمسك بما لديها من ثوابت لاتقبل ان يصل الجدل الى حدودها،بل لديها الاستعداد في ان تفرط باي شيء بما في ذلك علاقتنا الزوجية ولا تتخلى عما تؤمن به ،فالعلاقة بينها وبين الله لاتقبل النقاش باي صورة،ولن تقبل في ان نُدخِلَها في النقاش تحت عناوين مثل حرية الرأي وتبادل الافكار وتحت اي ظرف، فهذه منطقة محرمة،وغير مسموح بالوصول اليها من وجهة نظرها، ولاعلاقة يمكن ان تجمعها باي حوار مهما كانت صيغته،ثقافية او دينية،او اي محاولة للفهم عبر فك طلاسمها،بل تعد الخوض فيها يحمل معنى  الاستعداد للتأرجح مابين الايمان والكفر،والخروج من دائرة الرضا والقبول الى دوامة من الشعور بالفراغ الروحي والسقوط في هاوية الشك،فالمسالة إذن بالنسبة لها أشبه بالسؤال الشكسبيري الذي جاء على لسان هاملت"ان تكون او لاتكون تلك هي المسألة " فإما ان تكون مؤمنا دون نقاش ودون الدخول في معمعة الاسئلة او انك ستضع نفسك في حاضنة اللاإيمان مهما كانت نواياك طيبة،فهي  شخصيا قد وجدت نفسها بوقت مبكر في المكان الذي تبحث عنه،دون ان تتعب عقلها بالتقصي عن حقيقة وجوده من عدمه،انه مكان اكتملت فيه الحقيقة طالما وجدت نفسها فيه مستيقظة بعقلها وحواسها،ولن تفلح مراوغات الدنيا بنعمتها ونعومتها وسحرها من تخديرها والنأي بها عنه،فكانت متصلبة جدا خلف قناع من الافكار التي تستلهم منها حقيقة وجودها،وهي مكتفية بها،ولاني بطبيعتي لااقف طويلا امام هذه الموضوعات ولا انشغل بمثل هذا الجدل الفلسفي ،ليس لاني لااملك قدرة على فهمها واستيعابها انما لاني لاأجد في استمرار النقاش فيها اي جدوى،لهذا لم يحصل ان تدهورت علاقتنا بسبب اختلافنا،بل لاننا احتفظنا بهذه المسافة بيننا واضحة وآمنة،تمكنَّا من ان نبعد التصدع عن  حياتنا الزوجية .
التقطتُ لها عددا من الصور بجهاز الهاتف دون ان تنتبه وكانت تبدو بغاية السعادة وهي تنظر من خلف النافذة وتضع كفها على فمها وعيناها مفتوحتان على وسعهما علامة على ماتشعر به من ارتباك وامتنان امام آية من ايات الخلق في هذا الكون العجيب،ثم تهز راسها يمينا وشمالا بحركة موضعية خفيفة تعبيرا عن هذا الشعور الذي كان يتلبسها،ولما انتبَهتْ الى انني كنت التقط صورا لها،ارتسمت  ابتسامة عريضة على وجنتيها عكست شعورا عميقا بالفرح لم اره يتجلى فيها منذ ان شخَّص الطبيب اصابتها وخيم القلق والحزن علينا ثلاثتنا. 

                                    هذه ليست بيروت
وصلنا مطار رفيق الحريري في تمام الساعة السابعة والنصف مساء ،وتفاجأت بانه مطار صغير جدا مقارنة بمطار اتاتورك في اسطنبول الذي سبق ان مررت به مرتين . 
بعد ان انتهينا من اتمام اجراءات الوصول،استأجرنا سيارة تاكسي لتوصِلنا الى فندق "كوين سويت" الذي يقع في شارع الحمراء وعلى بعد مسافة لاتتجاوز خمس دقائق عن مستشفى الجامعة الاميركية .
صُدمت من كثافة العمران في بيروت،حتى انني وجدتها مدينة موحشة، واعترف بانها خلَّفت في داخلي شعورا بالخوف منها،ولم استطع ان استبعد الاحساس بان ما فيها من حيوات كانت تئن تحت وطأة الازدحام الكثيف بالابنية والعمارات الى حد الاختناق وفي مساحات ضيقة جدا، انها مدينة ليس فيها فضاءات مفتوحة تبعث على الشعور بالهدوء والاستقرار، كان مظهرها القاسي مفاجأ ً لي،لم ار سوى مدينة تذبل فيها المشاعر الانسانية امام هذه الشراسة في البنيان،وميلا مفضوحا الى تدمير اي فرصة للتخيل وذلك بجعل الانسان ينزوي  محشورا وراء كتل كونكريتة لا تعبّر عن ميل للتباهي بالثراء فقط ،بقدر ما تعكس جشعا طبقيا يتعاظم حضوره في سلوك ومواقف اصحابه،مثل امرأة لاتكتفي بجمالها الذي خُلقت عليه فتصر على ان تمشي عارية لتستعرضه امام  الملأ .
بيروت المدينة، لم تعد تصلح ان تكون ملاذا للروح الهائمة بالتحليق في فضاء الحرية،ومن تسنى له فرصة العيش فيها فهذا يعني انه قادر على ان يسحق عظام من  يقف امامه،انها اشبه بحلبة دموية يتصارع فيها المتنافسون بكل ضراوة وعبثية حتى يعيش احدهما من بعد ان يموت الآخر، فلامكان فيها للضعفاء الذين يتحاشون اللعب مع الموت،وعلى الرغم من انها تبدو رقيقة في الصور المتخيلة التي ترسمها الاغاني الا انها في حقيقتها الواقعية غليظة وخشنة في ملمسها،انها نموذج للعواصم العربية الكبرى التي اختفت منها المدنيّة،مثل بغداد وصنعاء وطرابلس ودمشق والقاهرة،فتحولت الى كيانات عشوائية لم تعد تنبعث  منها رائحة الازهار بعد ان تلوث هوائها بضغائن تجارالسياسة .
هي مدينة ضاقت الحياة فيها بابنائها،من الشعراء والفلاسفة والادباء والفنانين،ولم تعد تمد ذراعيها لهم لتحتويهم . فهل بيروت اليوم هي ذاتها التي كانت قبل نصف قرن وهي تحمل رائحة المراكب والسفن التي كانت تأتي اليها وتنطلق منها الى كل جهات الارض ؟
لم اجدها تلك المدينة المعبأة بالتفرد الحضاري،كما كانت في مخيلتي،ولم تمنحني الاحساس بانها مثل حورية البحر،وهذا الشعور تولد في داخلي بينما كنت اصغي لسائق التاكسي الشاب،وهو يوجز لي تاريخ الاماكن التي كنا نمر بها والشخصيات التي كانت جزءا من ذاكرتها،وما إن انتبهت الى وجه حسن نصرالله موشوما على ساعده الايسر،لم اعد معنيا بما يقوله،والتزمت الصمت،وتركت له فرصة الاستمتاع لوحده بالحديث ،مكتفيا بتوزيع نظري على جانبي الطريق . 
وبينما كنت اتطلع من خلال السيارة الى المدينة التي كانت في يوم ما غاية ما كنت احلم بالوصول اليه،تساءلت مع نفسي: إين الجمال في مثل هذه المدينة ؟  وكيف يحتمل الناس العيش فيها !  انها تعبير صارخ عن حقيقة المدن العصرية التي تسلب من الانسان شعوره بالحرية ،وتقذف به الى لحظة زمنية من الاهتياج والتوتر،كما لو انه يعود الى الغابة،بكل الوحشة التي تصاحبه فيهاعندما يكون بداخلها،فصمت الغابة معادل لضجيج وزعيق الاصوات في مدينة مثل بيروت،وذهبت مخيلتي  بعيدا عنها الى مدينتي العراقية التي ولدتُ فيها واجريت مقارنة بينهما،بينما كان السائق مايزال يثرثر بالتاريخ من وجهة نظره،واحتفظت بيني وبين نفسي بافضلية ما تفيض به مدينتي من مجازات طويلة يتردد فيها صوت الحياة،مثلما يجري ماء دجلة في شرايين شوارعها وفصولها من غير ان يحدث فيها ضجيجا،وبامكانك وانت الغريب ان تعثر على الراحة فيها،ولن تتأخر هي ايضا في ان تشعرك بالدفء والحنين اليها اذا ما ابتعدت عنها،مع انها مدينة ليس لها تاريخ سري في المتعة مثل بيروت،وايقاع حياتها ينضبط على توقيتات الاذان  .
                                  انطباع آخر مختلف
السفر يسبب الارهاق،حتى لو استغرقت الرحلة زمنا قصيرا،ولهذا ما ان وصلنا الى الفندق حتى اغتسلنا،وتمددنا على السرير لنستريح، لكننا وبسبب التعب دخلنا في نوم عميق،ولم نصحو منه الا بعد ساعتين.
اتصلت عبر الهاتف بموظف الاستقبال وطلبت منه  ان يرسل لنا وجبة عشاء خفيفة.واثناء ماكنا ننتظر وصول عامل الخدمة،تقدمتُ نحو نافذة المطبخ المطلة على الشارع الجانبي الذي يقع فيه الفندق . كان الليل قد اسدل ستارة خفيفة من العتمة على المدينة ولم يكن ينفذ منها الا خيوطا من الضوء تصدر من مصابيح معلقة على اعمدة الكهرباء ومن نوافذ الشقق السكنية في عمارات متلاصقة الى بعضها البعض حد الاختناق،ولم يأسرني في تفاصيل هذا المشهد سوى  حالة الهدوء التي كانت  تعم ارجاء المكان ،باستثناء أصوات رجالية كانت تخترقه قادمة من كشك صغير يقع مقابل باب الفندق،يقدم للزبائن اكلات لبنانية خفيفة مثل بابا غنوج،فتة،حمص بطحينة،كبة محشية. ولم يكن في الكشك سوى عاملين يقدمان الطلبات لثلاثة او اربعة زبائن يجلسون حول منضدتين صغيرتين.
بقيت اتأمل المنظر من الاعلى،ووجدته يعكس وجها اخر للمدينة التي كنت قد شعرت بالنفورمنها قبل ساعات،حيث كانت تبدو حميمية من خلاله، ولا اشك في ان مثل هذه اللحظات غالبا ما تبعث فيّ شعورا بالتواصل والألفة مع المكان حتى لو كان اجنبيا،ولايتوغل التوجس بيننا اذا ما وجدتني فيه لاول مرة،حتى انني اشعر بان الزمن في مثل هذه الاماكن يبدو الاقرب الى الحياة ببساطتها ويتخلى عن اقنعته التي يرتديها في الاماكن الاخرى التي تنحجب فيها الرؤية ويسودها العمى،بفعل الضوء الساطع المنعكس على واجهات مبانيها الشاهقة، بينما هنا،عند هذا الكشك يميل الزمن الى ان يطوق بذراعيه  كل الحيوات الموجودة ويبعث فيها دفئا،لتكتسب حضورا انسانيا اليفا يستيقظ  منها بهدوء،وهو ينساب في ملامح من يشكلون تفاصيل المشهد الانساني.ومثل هذه الامكنة التي تكتب حضورها ببساطتها تشبه ماكنا قد تآلفنا معه من لذائذ العيش البسيط في بيوتنا وازقتنا وشوارعنا واسواقنا في الموصل القديمة والتي اجهزت عليها حرب التحرير في ما بعد ،لان السيناريو المُعَد مُسبقا كان يقتضي ان ترصد عدسات الفضائيات محوها من الوجود،وقطع ظفيرة الشعر الطويلة التي كانت تنسدل على ظهور فتيات المدينة وهن يفتحن اذرعهن لنسمات الربيع،واحتضار الشقوق في الجدران التي تآخى الزمن معها وغفا عند عتبات بيوتها، لتنسل منها الاغاني صامتة ولترقد تحت الاحجار رقدتها الاخيرة .
كان ممكنا ان ابقى هناك في ما كنت غارقا فيه من تأمل لولا الطرقة الخفيفة على باب الغرفة . فتحت الباب واستلمت وجبة العشاء من عامل الخدمة.

يتبع ....

24
ج 10  - اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                           
مروان ياسين الدليمي

                               
                            ولادة جديدة بعد منتصف الليل

هذه هي المرة الاولى التي نتركه وحيدا في البيت بينما نغادر الى خارج العراق . لم يخطر على بالنا في يوم ما ان نمتلك الشجاعة على تحمل مثل هذه الخطوة،فقد اعتدنا منذ خمسة عشر عاما على ان نكون ثلاثتنا معا، اشبه بمثلث لايكتمل وجوده وشكله الاَّ اذا التقت اظلاعه الثلاثة واستندت رؤوسها الى بعضها،فحضوره كان بمثابة لمسة رمزية من السماء مسحت بدفئها كل الاوقات التي لم تكن تغمض فيها اجفاننا الاَّ بعد ان يثقلها السهر من كثرة التفكير.
انه خيط المحبة المتين الذي اعاد الحياة الى علاقتنا التي كادت اوراق اغصانها الخضراء ان تجف،فكتب بميلاده بداية جديدة لها،ومع اشراقة اطلالته الى الدنيا شَعَر كلانا كما لو اننا استعدنا دهشتنا الاولى امام نور الشمس واخضرار العشب ونسمة الهواء،وكل الاشياء التي تحيط بنا من سماء ونجوم وضياء وجبال وبشر واشجار وحجر واصوات،كل شيء من حولنا اصبح بيننا وبينه لغة سرية نتواصل بها،ومن خلالها نتبادل مشاعر المحبة دون شروط،ولم يعد في هذا الكون ما يبعث على القلق،وبهدوء تام انتظمت حركة الموجودات من غير ان يكون بينها تنافس واحقاد، هكذا بدا العالم ما ان اطلق صرخته الاولى وهو مغمض العينين معلنا قدومه في الخامس والعشرين من شهر كانون الاول 1999 في مستشفى الخنساء للولادة بمدينة الموصل،مِن بعد ان كنّا قد افتقدنا لهذا الاحساس المدهش بجماله طيلة السنين التي كنا ننتظر فيها ان تهبط علينا اشارة تحف حياتنا بنور الطفولة وأن تُكتَب للجنين القادم فرصة الحياة،وأن لا تنطفىء الروح فيه قبل ان يخرج الى نورها مثلما حدث في المرتين السابقتين .
لن انسى ابدا كيف ضج قلبي بفرح طاخ لاشبيه له في تمام الساعة الواحدة والنصف من بعد منتصف ليلة الخامس والعشرين من شهر كانون الاول عندما كنت مع عاصم زوج اختي غير الشقيقة جالسَين في سيارته بينما كنا ننتظر خارج مبنى المستشفى،ورغم انخفاض درجة الحرارة في تلك الليلة شعرت بدفء الحياة ما أن نَقَرت والدتي بسبابة كفها على زجاج نافذة السيارة ، ولما التفتنا ناحيتها وجدناها تبتسم، لحظتها كان بي شوق عظيم لمعرفة الخبر الذي جاءتنا به ، خاصة وان علامات السرور كانت قد جعلت وجهها مشرقا في تلك الساعة ، حيث كان  الظلام مخيّما ًعلى الشارع الطويل الموازي لمبنى المستشفى إلاّ من خيوط ضوء واهنة كانت تهمي من مصباح معلق في نهاية عمود كهرباء يبعد عنا مسافة عشرين مترا .
"مبروك رزقك الله  بولد " قالتها لي والدتي ولم تنتظر حتى افتح باب السيارة ،حينها شعرت بالدم يجري في عروقي،وإذا بي اذرف دمعة ساخنة واعجز عن النهوض من على المقعد،عندها ربَت زوج اختي على كتفي وقال" واخيرا ساناديك ابو محمد " .

                                 اصبحا من طيور الجنَّة
لم يكن مجيئه سهلاً بعد ان طال انتظاره اربعة اعوام بايامها وليالها،كانت انفاسنا فيها تتقطع بسكاكين الياس ونحن معلَّقَين بحبل واهن من الرجاء،في زمن كانت فيه الحياة داخل العراق تئن من وطأة الجوع الذي بات يفتك  باحلامنا بسبب الحصارالدولي،ولن اشكّ ابدا في ان الكثير منّا كان يتمنى في بعض الاوقات ان يودع الدنيا على ان يستمر الحال مرهونا في غياهب المجهول .
مع مرور الوقت بدأ املنا يضعف شيئا فشيئا بامكانية حصول الحمل،مثلما يضعف نظر الانسان كلما تقدم به العمر وتتوغل في جسده الشيخوخة،ولن يكون امامه الاَّ ان يمضي طائعا بهدوء الى اخر رحلةٍ في سفر الجسد،ومن غير ان يكون امامه اي فرصة للرجوع الى الوراء.
كم حاولنا ان نحتمي بجدار الامل،في زمن غاب عنه الامل حتى لاننهار من قسوة الشعور بالألم.ومن جانبها هي لم تكن تحتاج الى من يرشدها للاستعانة بالله ،لانها دائما ما كانت تشعر بوجوده معها في كل لحظة ،وغالبا ما كنت اصحو في عُقبى الليل وقبل ان يطوي رداءه وينسل بنعومة فاسحا الطريق لرائحة الفجر،لأجدها مقرفصة على ارضية غرفة النوم تقرأ القرآن،الى ان تسمع آذن الفجر،عندها تتوقف عن القراءة،ثم تطبق دفتي القرآن وترفعه قليلا لتقبله،ثم ترفعه درجة اعلى حتى  يلامس جبهتها،كما لو انها تلتمس من الله بهذه الحركة ان يحقق لها مرادها ويمسح عنها اوجاعها.
اما من ناحيتي،فقد تسمّر الزمن في مكانه مُعلّقَا مثل صورة فوتوغرافية على جدار،حتى انني وصلتُ الى مرحلة تهاوت فيها الظلال التي كنت احتمي بها في جبهة الحياة،وبدأت اسمع صوتا في داخلي يهمس لي بأنَّ القدر لم يعد يلتفت الينا واشاح بوجههه عنا،رغم ان الفرصة كانت انذاك لم تزل مؤاتية،إذ كان عمرها واحد وثلاثون عاما،وانا لم اتجاوز الواحد والاربعين،فإذا بالحلم الذي تمسَّكتُ به سنين طويلة وكنت عازما على ان ابعث فيه الحياة وذلك بانجاب نصف دزينة من الاطفال قد تحول الى مايشبه سحابة من دخان بعد ان تكرر الاسقاط مرتين متتاليتين،ولم يكن بين الاولى والثانية إلاّ فترة زمنية لم تتجاوز الستة اشهر،وهذا ما اثبت لنا وللاطباء بأن لايوجد اي سبب يمنع الحمل للاعوام الاربعة الماضية .
 قضية الاسقاط المتكرر جعلتنا نرتمي في بؤرة من الحيرة لم نستطع الخروج منها،واكثر ما احزنني شخصيا ان ملامحهما كانت قد بانت، ومن السهولة ملاحظة الشبه الواضح بيني وبينهما، فقط الاختلاف كان في لون بشرتهما التي بدت ابعد ماتكون عن لون بشرتي السمراء،واقرب ماتكون الى بشرة اخوالهما التي تميل الى البياض.واذكر جيدا انني في المرتين شعرت بقواي تنسل مني ،وعروقي تتيبس، وراسي يكاد ان ينفجر من شدة الاحساس بقسوة اللحظة،حتى انني لم امتلك مايكفي من الشجاعة حتى القي عليهما النظرة الاولى والاخيرة إلاّ لثوان معدودة،بينما جسدي كله كان يرتعش وأنا اتقدم نحوهما لأقبّلُ وجنتيها قبل ان يتولى اخواي"غير الشقيقين"غسان وخالد،مسؤولية غسلهما وتكفينهما،ومن ثم الذهاب بجثتيهما بسيارة غسان لدفنهما في مقبرة وادي عكاب التي تقع في الشمال الغربي من مدينة الموصل.وفي المرتين كانت والدتي تقول لي نفس الجملة " لا تحزن ولاتجزع ،لان اي طفل يموت فهذا يعني ان الله قد اصطفاه من بين البشر ليكون من طيور الجنة ،وسيشفع لوالديه يوم القيامه ".
 
                                      حيرة الاطباء
لم نستطع ايقاف نزيف الاسئلة التي بقيت بلا اجوبة،ولم يستطع جميع الاطباء الذين راجعناهم ان يجدوا تفسيرا مقنعا لاسباب عدم حصول الحمل لمدة اربعة اعوام بعد الاسقاط الثاني،وكل واحد منهم كان يقدم لنا فرضية تختلف عن فرضية الاخر،ومع كل راي لطبيب كانت الادوية تتراكم في الثلاجة حتى تحولت الى صيدلية مصغَّرة.
في لحظة ما شعرنا بأن لاجدوى من الدوران في هذه الحلقة المفرغة ونحن نطرق ابواب عيادات الاطباء،ولهذا اقترحت عليها ان  نكف نهائيا عن مراجعتهم،فإنا شخصيا لم اعد قادرا على ان اواصل التشبث باطراف حلم امسى وقعه قاسيا عليّ كلما تعلقت به،رغم ادراكي التام بان الفراغ الذي تشعر به كان قاتلا طالما هي تبقى وحيدة في البيت طيلة ساعات النهاراثناء ما اكون في العمل ، فما من شيء يمكن ان يملأ حياة المرأة سعادة وبهجة مثل الاطفال،وبوجودهم تشعر بكيانها الانساني كانثى،ويتعزز حضورها الاجتماعي. فالاطفال بالنسبة لها بمثابة السقف العاطفي الذي تحتمي به دون تحفُّظ او شروط تخضع لها، ومن خلالهم تستمد طاقة سرية تدفعها لان تتحمل كافة الصعوبات التي قد تواجهها في حياتها الزوجية، فهم الشريان الذي يمدّها بنسغ الحياة ولن تستطيع اي علاقة مهما كانت قوية في عواطفها الصادقة ان تحل بدلا عن علاقتها باطفالها، حتى الزوج غير قادر على ان ينافس هذا الحب الفطري بين الأم واولادها مهما كان يحمل لها من آيات المحبة .
احاطت بنا افكار غريبة في مرحلة ما من الانتظار ، لم نكن نقتنع بها سابقا خاصة من ناحيتي، فأصبحنا نؤمن مثل غيرنا باننا قد وقعنا تحت سلطة الحَسَد،ربما من اقاربي او من اقاربها او من الجيران،هكذا غدونا نذهب في تفكيرنا الى مناطق هشَّة لن تصمد امام المنطق من بعد ان عجز المنطق نفسه عن ان يقدم لنا مايشفي غليلنا، فتحولت حياتنا الى دوامة تنهل من الغيبيات،وبصعوبة بالغة كنت اتقبل الدخول في شراك هذه الغيبوبة العقلية والدخول في دهاليز العقل الجمعي بكل ما فيه من خرافات،لكن ليس باليد حيلة احيانا، ولم استطع الهروب من هذه الدائرة المغلقة في وقت من الاوقات،خاصة بعد ان دخلنا في مرحلة اوشك فيها الاطباء على رفع الراية البيضاء،فما كان امامي الاَّ ان استجيب لرغبتها في اللجوء الى بعض الشيوخ المعروفين في الموصل ممن يقرأون التعازيم ويقصدهم الناس لاسباب شتى مثل سيّد توحي،ورغم ذلك لم نتلقى اي علامة تشير الى ان الفرصة قادمة. لذا طلبت منها ان تسلم امرها لله ،عندها تقبلت الامر ولم تقل سوى جملة واحدة " الحمد لله على كل شيء " .

                                      هل يعقل هذا !
الغريب في مصادفات ماواجهناه ان هذا الشعور بالاذعان والاستسلام لم يدم فترة طويلة،وهنا كانت المفاجئة التي ضربت عرض الحائط بكل تخمينات الاطباء،ودفعتنا الى تنظيف الثلاجة من جميع الادوية ورميها في برميل الزبالة،وفعلا جاءت نتيجة الفحص في المختبر بعد شهرين من انقطاعنا عن مراجعة الاطباء لتوكد لنا بان الامل بمجيء محمد الى الحياة قد اصبح حقيقة.وبقينا في حالة من الشده ،وبينما كان ينظر احدنا ألى الاخر ولسان حاله يقول في داخله" هل يعقل هذا ! " حينها ايقنت بأن لعبة الحياة والموت ليس لنا فيها اي ارادة،ولايمكن للانسان ان يتدخل فيها حتى وإن فعل ذلك،فهي امر لايعيه ولايدركه مهما بلغ به العلم والمعرفة شوطا بعيدا،وسيبقى عند حد معين يتخبط بافكاره مثل من يدخل دهليزا معتما يسير في ظلماته ولن يصل الى جواب عن اسئلته التي دائما ما يكررها :  لماذا ؟ وكيف ؟  ومتى ؟
                            وماذا لو بقي وحيدا في البيت ؟
لكل هذه الاسباب كان قلقنا ازاء محمد من الصعب على الكلمات ان تصفه ونحن نتركه وحيدا في البيت،دون ان نعرف ماذا يخبىء لنا القدر في رحلتنا الى بيروت خاصة من ناحية والدته،لانها كانت في وضع صحي ونفسي لايسمحان  لها ان تفكر باي شيء سوى البحث عن اشارة امل تطمئنها بالشفاء.
كنَّا على يقين من ان الوقت مازال مبكرا جدا حتى يتحمل مسؤولية البقاء لوحده،فهو في نظرنا لم يتعد مرحلة الطفولة ومايزال يعتمد علينا في اكله وشربه وفي كل صغيرة وكبيرة من حياته الشخصية،بل اننا لم نكن نسمح له ما ان يعود من المدرسة يوميا ان يغادر البيت الى اي مكان برفقة اصدقائه،وبنفس الوقت لم يكن هو الآخر يشعرنا بانه متضايق من هذا الاهتمام المفرط ابدا،بل كان حريصا على طاعتنا واظهار مشاعر المحبة لنا،واظنه يوما بعد آخر اصبح منسجا مع هذا النظام، رغم انه كان يتصل باصدقائه عبر الهاتف ويتفق معهم على اللقاء في احدى صالات العرض السينمائي في"فاملي مول" إذا ما تم الاعلان عن البدء بعرض فيلم جديد،ولكنه لم يكن حريصا على الخروج من البيت دائما،وجل وقته كان يقضيه باللعب عبر الانترنت مع اصدقائه،ولهذا لم يشكل سفرنا مشكلة بالنسبة له،ولن يشعر بالفراغ او الوحشة.
ولكي يطمئننا اصرَّ على انه لم يعد طفلا،خاصة بعد أن نجح في امتحانات البكالوريا واستلم النتيجة،رغم انها لم تكن بعلامات جيدة تتناسب مع قدراته العقلية ومستواه العلمي الذي كان عليه طيلة مراحل الدراسة،ولكنني اعلم جيدا بان سبب تراجع مستواه يعود الى ارتباك حالته النفسية بعد ان اصيبت والدته اثناء ما كان يستعد لاداء الامتحانات النهائية.
ركبنا سيارة اجرة من امام باب البيت في الليلة التي سبقت اول ايام شهر رمضان عام 2016 متجهَين  الى مطار اربيل،وما ان تحركت السيارة حتى استدار محمد الذي كان يقف عند عتبة الدار لتوديعنا ،ودخل من بعد ان اغلق الباب الخارجي  خلفه،ولم ينتظر الى ان تختفي السيارة بعد ان تنحرف في اتجاهها وتدخل الفرع المؤدي الى الشارع العام .

                                الحنين وبلبل الحدباء

الاحساس بالغربة لاينتظر منك ان تفتح له الباب حتى يدخل اليك،إذ سرعان ما تجده يقتحم كيانك وانت مذهول وعاجز عن مقاومته،فيستولي عليك الصمت لان الشعور به ينبثق ويتمدد في خلاياك وفي شرايينك،فتشعر كما لوانك معتقل وتخضع لسيل متلاحق من الاسئلة التي تحشرك في دائرة من الاتهامات وانت لاتعرف بماذا انت متهم،ودون ان يتيح لك فرصة الاجابة، فيفتح عليك نيران اسئلته، وانت  تبدو تائها وهائما في دروب بعيدة كما لوانك خاضع لحالة من الخدر.
لااظن ان هناك ما هو اصعب من الشعور بالغربة عندما يستولي على الانسان وينال منه،عندها ينكمش على ذاته ويحتبس في داخله الصوت، فلايقوى على ان يبوح بما في داخله،وحتى لو صرخ بصوت عالي فلن يسمعه احد،انها صرخة في وادي عميق،سيرتد صداها ولكن لااحد سيسمع الصدى سواه  .
 في تلك الساعة ونحن في السيارة نتجه الى المطار تلبسني الشعور بالغربة وتوغل عميقا في مديات الروح،بعد ان هبط علي بشكل غامض ما أن صفع وجهي الهواء الساخن الذي كان يندفع من خلال النافذة المفتوحة على يميني بينما ذراعي كانت تتكىء عليها،لم اصل سابقا الى قوة الاحساس بمثل هذا الشعور كما في تلك اللحظة،مع انني اعيش غريبا منذ ثلاثة عشر عاما،اي انني المفروض قد اعتدت على ان اكون بعيدا عن الاهل والاقارب والمعارف منذ فترة زمنية طويلة ولم يعد وجودي الاغترابي وسط بيئة ليست بيني وبينها تاريخ اجتماعي،وليس بيني وبين من يجاورني من الناس في المنطقة التي اسكن فيها اي صلة،حتى ان اللغة الكوردية التي لم استطع ان اتعلمها ربما بسبب التقدم في العمر ماكانت عائقا ابدا في التواصل مع الاخرين،لان معظم الكورد يتقنون التحدث باللغة العربية،ولهذا لم اشعر بالغربة طيلة السنين التي قضيتها في اربيل.
احيانا كان الحنين يجتاحني مثل طوفان بين فترات متباعدة،إذا ما صادف ان سمعت اغنية عراقية،خاصة عندما استمع الى صوت المطرب الموصلي محمد حسين مرعي وهو يغني"عايل يالسمر عايل ، صَبَّح ضعنكم شايل " ولهذه الاغنية بلحنها وكلماتها وطريقة ادائها ارتباط سري وعجيب بوجداننا الجمعي نحن ابناء مدينة الموصل،ومايزال صوت "بلبل الحدباء "كما يحلو للموصليين ان يطلقوا على المطرب محمد مرعي، قادرا على أن يفجر في داخلي حنينا خطرا بعذوبته الى كل الاشياء التي احببتها في حياتي والتي قطفها الزمن من شجرة الحياة اليانعة وامست راقدة في صفحاته المطوية :ابي الذي لم تره عيني،جدتي العظيمة "فهدو"التي ربتني،خالي محمد ايوب الدليمي الذي كان مثل طائر يغرد في صحراء قاحلة الى ان اعدمته السلطة عام 1993 بذريعة التأمر على قلب نظام الحكم،اصدقائي الذين غادروا الحياة عبدالرزاق ابراهيم وفريد عبد الطيف ، شوارع وازقة الموصل القديمة التي استحالت في مابعد وتحت عنوان تحرير المدينة من سلطة الخلافة الى كومة انقاض تئن تحتها ضحكاتنا وامانينا واعوامنا التي ارتوت من مياه المحبة،الساعات الطويلة التي كنا نقضيها في قاعة الربيع ونحن نتمرن على عروض مسرحية،سنوات المراهقة الجميلة ايام الدراسة الاعدادية بكل مافيها من عبث وتمرد وتقليد لموجة الهيبيز في الشَّعر والثياب،ليالي السهر الطويلة على ضفاف نهر دجلة برفقة الاصدقاء من المسرحيين والشعراء .
غالبا ما يتكفل الدمع بغسل جدران الروح مما علق بها من مشاعر الاسى،ثم ينتهي كل شيء بعد ثوان معدودة ونعود الى طبيعتنا فنمارس حياتنا وكأن شيئا لم يكن،وعلى الرغم من قسوة المشاعر التي يفجرها الحنين الا انه لايترك فينا جروحا عميقة،وكأنَّ له لمسة سحرية يداوي بها ما اصاب براءتنا بفعل وقاحة الزمن،بينما مشاعر الغربة تترك فينا احساسا بالعجز رغم الجحيم الذي يسكننا.

                              نصيحة من السائق الكوردي

في طريقنا الى المطار لااتذكر الان  كيف بدأ الحديث بيني وبين السائق الكوردي، بالشكل الذي رسم الطريق امامي واضحا لكي افصح  له عن سبب سفرنا الى لبنان،مع ان الامر لايبدو مستغربا،فعادة ما تنفتح الاحاديث مع سائقي التاكسيات دون تحضير مسبق،وتنزاح الحواجز معهم شيئا فشيئا،ربما لأنني كنت مهموما وبحاجة ملحة لكي افضفض عما يرقد بداخلي من هواجس لاي شخص كان إذا ما وجدته مصغيا لي،خاصة وان الايام الماضية التي رافقت فيها زوجتي كنت وحيدا ولم يكن معي اي شخص حتى اقاسمه الهموم،فكان الشعور بالغربة يجرحني بقسوة،والمهمة التي كان علي ان اتحملها بدأت تكبر،مع انني مدرك تماما بان المسؤولية اولا وآخرا تقع على عاتقي شخصيا ولاينبغي ان انتظر مساندة تهبط علي من هنا او من هناك ،وكل الخيارات كانت مغلقة امامنا،ولم يكن ممكنا ان يحضر اي شخص من الاهل او الاقارب من الموصل ليكون الى جانبنا،بعد ان سقطت المدينة تحت سلطة تنظيم داعش،وكانت اخبار العنف التي يتعامل بها التنظيم مع الناس تشي بحالة الرعب الذي امست عليها حياتهم،ومما عمق هذا الشعور اشرطة الفديو المتقنة الصنع التي كان التنظيم يحرص على ان يبثها عبر موقع اليوتب بين فترة واخرى مستعرضا فيها عمليات اعدام لمواطنين من سكان الموصل لمجرد خالفوا تعاليماته،حتى انه في يوم 7 / 8 / 2015 علّق على جدار مبنى الطب العدلي قائمة باسماء 2072 شخصا معظمهم من العرب السنَّة اقدم على اعدامهم،مثلما فعل مع البقية من اتباع الاديان والمذاهب والقوميات الاخرى، ولم يكتف بأعدامهم بل رمى بجثثهم في حفرة عميقة تسمى"الخسفة" تقع بالقرب من ناحية حمام العليل التي تبعد 27 كم جنوب شرق مدينة الموصل،وكانت تلك المقاطع الفديوية بمثابة رسائل انذار بالغة الوحشية حطمت اي امل بنجاة اكثر من ثلاثة ملايين نسمة كانوا يرزحون تحت سلطة الرعب  .
أبدى السائق تعاطفه معنا بينما كنت استعرض له ماجرى لنا خلال الايام القليلة الماضية،فنصحنا بمراجعة مستشفى(نانا كلي)في اربيل بعد عودتنا من السفر،وقال لي بأنه مستشفى حكومي خاص بامراض السرطان، وستجدون فيه رعاية جيدة،وكل ما تحتاجونه من ادوية  وعلاجات.
اقتربنا من نقطة سيطرة تابعة للمطار،فتوقفت السيارة بانتظار ان يصلنا الدور بعد ان يتم تفتيش عدد من السيارات التي كانت امامنا .
نزلنا من السيارة عندما طلب منا الشرطي المسؤول عن التفتيش،وطلب من زوجتي ان تتجه الى كرافان خاص لتفتيش النساء يقع على بعد مسافة عشرين مترا من نقطة السيطرة  .

                                      فتاة الآيباد
بعد انتظار لم يدم سوى دقائق معدودة اصبحنا داخل صالة المطار في  الباحة المؤدية الى مكاتب تدقيق الجوازات ووزن الحقائب ،وقبل ان يصلنا الدور لم يخامرني الشك في اننا سنحتفظ بالحقيبتين لتكونا معنا في الطائرة ولن يتم شحنهما مع الحقائب الثقيلة للمسافرين لان وزن كل واحدة منهما لم يتجاوز العشرة كغم .
رفعتُ الحقيبتين عن الارض وتكفلت بحملهما ،ولم اسمح لها عندما حاولت ان تساعدني في حمل واحدة منهما،ثم اتجهنا الى البوابة رقم 2 المخصصة للرحلة رقم 325 .
 تم تفتيشنا بشكل دقيق،ثم استلمنا حقائبنا واتجهنا الى صالة الانتظار حيث كان يتوجب علينا الجلوس فيها قبل نصف ساعة من موعد اقلاع الطائرة . ولأنها لم تتعود ان تجلس على كرسي لفترة طويلة من الوقت بسبب مرض الروماتزم،طلبتُ منها ان تمدَّ ساقيها للامام وترفعهما قليلا ليستقرا فوق حقيبتي السفر بعد ان كنتُ قد وضعتُهما على الارض واحدة فوق الاخرى لتكونا بمستوى ارتفاع الكراسي التي نجلس عليها.
على الرغم من ان صحتها لم تكن تحتمل الحركة لانها تسبب لها الارهاق الا انني لاحظت على محياها ملامح تعبرعن شعور بالراحة وهي تتواجد في مكان جديد غير مألوف لديها،لم يسبق لها ان مرت به من قبل ، وهذا ما انتبهتُ اليه مذ دخلنا المطار الى ان جلسنا في صالة الانتظار، حيث وجدتها تراقب كل شيء حولها بعينين يلتمع فيهما بريق الدهشة،وتحاول ان تستوعب تفاصيل المكان الفخم والانيق الذي بدا عليه مطار اربيل وما يسوده من انتظام دقيق في الاجراءات . في تلك الاثناء لفت انتباهي سلوك غير مريح عبَّرت عنه  شابة محجبة لم تبلغ العشرين من عمرها كانت تجلس قبالتنا وعلى مسافة ليست بعيدة عنا برفقة والديها واخيها الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من العمر،فعلى الرغم من انها كانت تتباهى بجهاز الايباد الذي كانت تحمله بيديها بطريقة استعراضية إلاّ انها بين لحظة واخرى  كانت تسترق النظر الينا بطرف عينيها وتبتسم بطريقة ساخرة ثم تهمس في اذن شقيقها الذي بدوره يبدأ بالنظر ناحيتنا ومن ثم يشاركها الابتسامة بنفس طريقتها.لربما كانت تعتقد بان سلوك زوجتي وهي تمد ساقيها على الحقيبتين ينم عن تخلف،هكذا بدا الامر لي،فازعجني سلوكها واستفزني ،لكني وتلافيا لاي رد فعل لربما قد يصدر عني لايحتمله الظرف المكاني الذي كنا نتواجد فيه ،حاولت قدر المستطاع ان اتجاهلها،وان لا ادع زوجتي تنتبه اليها، ولهذا عملت على ان اشغل انتباهها بالحديث عن المطار الذي كنا نتواجد فيه وسرعة انجازه بعد العام 2003 بفترة قياسية وليكون بنفس المواصفات التي نجدها في مطارات الدول المتقدمة واسهبت بالحديث في محاولة لابقاء انتباهها مشدودا ناحيتي الى ان يحين موعد السفر.
ولمّا وجّهت الاذاعة الداخلية للمطار ندائها الى مسافري الرحلة رقم 325 وطلبت منهم التوجه الى البوابة المؤدية الى الطائرة المتوجهة الى بيروت ،حملت الحقيبتين،وساعدت زوجتي بالنهوض ،وبدأنا بالتحرك نحو البوابة ،ثم دفعني الفضول الى ان استدير براسي للخلف واتجه بنظري الى ناحية الفتاة لارى في ما إذا كان حدسي مصيبا أم لا ، ومثلما توقعت ، فالمفاجأة كانت قد لجمت ابتسامتها الساخرة،كما لو انها قد تلقت صفعة لم تكن تتوقعها، لمَّا رأت زوجتي تضع يدها على كتفي للاستناد عليه،وكان من الواضح لكل من يراها انها كانت تغالب نفسها،لانها تجد مشقة بالغة في تحريك  قدميها. 
يتبع ..



25
ج9 -  اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

   
                                   
مروان ياسين الدليمي




                        البحث عن مستشفى الجامعة الاميركية

كنت مشوش الذهن قبل يومين من موعد سفرنا الى بيروت،لاني لم اكن املك اي معلومات كافية عن مستشفى الجامعة الاميركية تزيح عني الشك بمصداقيتها وتجعلني لا احسبها ضمن عديد المؤسسات الصحية في المنطقة العربية التي اصبحت مجرد اسفنجة لامتصاص اموال الناس المرضى،رغم اني على دراية تامة بان علاقتنا بها لن تتعدى جهاز الفحص (PET SCAN) ، إذن لماذا هذا الافراط في التفكير والوساوس من جانبي !، ربما يعود ذاك القلق الى انني عندما اكون مرتبطا بموعد سفر عادة ما اسقط في اعماق حالة غير طبيعية من انعدام الوزن، سببها الانتظار، حيث ابدو فيها غير مهيأ لاتخاذ اي قرار،وفكرة السفر لوحدها دائما ما تسبب لي ارباكا شديدا لااستطيع الافلات منه،تفقدني القدرة على التركيز باي موضوع،ولا استطيع ان انشغل حتى بالاشياء المهة التي عادة ما اكون على ارتباط يومي بها، فمثلا اذا ما حاولت القراءة فسأبقى ساعات اقرأ نفس الاسطر من غير ان افهم منها جملة واحدة،كل شيء يبدو معلقا في الفراغ،فكيف الحال اذا كان السفر مرتبطا بقضية لاتبعث في النفس اي شعور بالفرح،وكأن الرحلة ليست الى بيروت انما الى ارض مقفرة سأقف فيها وحيدا تصفعني الرياح ؟ ، ومنذ ان طلب منا دكتور لقمان اعادة الفحص للتأكد من النقاط السوداء حتى بدأ كلانا يخمن اسوأ الاحتمالات،فليس هناك من برهان بين ايدينا يفندها،وإلاَّ لماذا هذا الاصرار من قِبله على اعادة الفحص لو لم يكن هناك لديه مايبعث على الشك ؟
أوغَلَ كلانا في تخمينات مبتورة تبحث عن اجابات، كل واحد منّا على انفراد ،وتوارينا خلف شطحات مخيلتنا دون ان نصل الى باب مفتوح .
اغلب  الاطباء لهم عالمهم الذي لانستطيع ان نفهمه،ولا يسمحون لنا ان نفهم مايدور في راسهم من افكار،فنحن دائما تحت رحمتهم،شئنا ذلك ام ابينا،وعلينا ان نسلم بما يقولونه،لاننا لانفهم ما يفهمونه،ولانقوى على مجادلتهم،لانهم يعروفون عنّا اكثر بكثير مما نعرف عن اجسادنا،ويرون ما لانراه ولاندركه،واحيانا لديهم مايكفي من العلم لتخمين الفترة المتبقية لنا على هذه الارض.فالاجهزة التي يتعاملون معها اصبحت قادرة على ان تحدد لنا ماينبغي علينا ان نفعله وما لانفعله في ايامنا القادمة،لذا علينا ان نطيعهم وننفذ ما يأمروننا به،وإذا ما عاندنا مايطلبونه منا فسنبقى تحت طائلة الخوف لاننا لم نلتزم بارشاداتهم.
محاولة إبعاد مثل هذه الهواجس عن تفكيري شغلتني كثيرا،لانها على وشك ان تكبلني بحبالها المشدودة الى بؤرة من المخاوف،بينما بيروت لديها كلام الفصل،وهي لاتبعد سوى مسافة ساعتين من الطيران المتواصل وعندها سينتهي هذا الدّوي في الرأس،وتصبح كل الاشياء واضحة،ولم يعد هناك من خلل في نظام الكون ، ولكن لاجدوى، فالهروب من غلبة الوساوس غير مجد ٍ احيانا خاصة اذا كانت متعلقة بحياة انسان بينك وبينه ذرات هواء تتنفسانها معاً.وكلما حاولتُ ان اطردها من ذهني واتعلق بفكرة متفائلة افشل في محاولتي،كما لو انها لعبة الافعى والدرج،ولم اجد سبيلا للخروج من هذه الوساوس سوى الاتصال بالزميلة المهندسة التي سبق ان اصيبت بنفس المرض وذهَبَت الى لبنان للعلاج قبل عدة اعوام،وهي الان حسب ما وصلني من معلومات في حالة صحية مستقرة.
وقبل ان اشرع في الاتصال بها،بينما كنت جالسا في صالة الاستقبال على الكنبة،رفعت راسي قليلا ونظرت الى الساعة المعلقة على الجدار،وكانت تشير الى السابعة مساء،عندها وجدت  بان الوقت امسى ملائما لاجراء مكالمة هاتفية،فاغلب العراقيين في اشهر الصيف يحرصون على ان يأخذوا قسطا من النوم عندما تشتد الحرارة بعد الظهر،ونحن الان في الايام الاولى من شهر حزيران وعادة ما يستيقظ النائمون في مثل هذه الساعة،ويكونوا بامس الحاجة لاحتساء قدح من الشاي حتى يفيقوا من سطوة النوم الثقيل الذي عادة مايكبس على الانسان في هذا الوقت من النهار. وقبل ان اتصل بها كنت ارجو في داخلي ان اسمع منها كلاما يبعث على الاطمئنان،لانني لم اكن اتحمل سماع المزيد من الاخبار المتعبة.
                          الاتصال بزميلة ناجية من المرض
بحثت عن اسمها بين عشرات الاسماء المخزونة في ذاكرة الهاتف،وكنت اخشى بيني وبين نفسي من ان لاترد على المكالمة،فهذه اول مرة اتصل بها بعد ان اخذت اجازة مفتوحة من القناة الفضائية قبل ثمانية اعوام على اثر اصابتها بالمرض وغادرت اربيل عائدة الى مسقط راسها  في قرية تابعة لمدينة دهوك.
ومثلما توقَّعت بقيت نغمة الهاتف ترن وانا انتظر الرد ولكن ما من  رد،عندها وجدت ان من الافضل ان اكتب لها رسالة نصيّة لكي تطمئن من بعد ان تتعرف على اسمي وعلى سبب الاتصال،فكتبت لها "ارجو ان تكوني بخير ، انا المخرج مروان ياسين زميلك في العمل،قبل قليل اتصلت بكِ،لاني اود ان احصل على بعض المعلومات المهمة عن المستشفى الخاص بالجامعة الاميركية،لانك حسبما افترض قد وصلتك معلومة من الزميلة فرقد ملكو بأن زوجتي قد اصيبت بنفس الحالة التي سبق ان مررتِ بها ،واننا نعتزم السفر الى بيروت بعد غد على الاكثر، لذا احيطك علما باني ساتصل بك بعد قليل للاستفسار عن  بعض المعلومات " . ثم ضغطت على اشارة الارسال . 
ساد صمت للحظات،قبل ان ترن نغمة هاتفي الجوال،نظرت الى الشاشة ،فوجدت اسمها.
لم تبخل علي باي معلومات،وقدَّمت شرحا وافيا عن مستوى الخدمات الممتازة في المستشفى إلاَّ انها اقرت بانها مكلفة جدا، وليس بامكان جميع الناس ان يتحملوها،ولكن ليس باليد حيلة طالما لم يكن العلاج في  حينه متوفرا في اربيل والعراق عامة ،فلا الكيميائي متوفر ولا اشعة الليزر،واقترحت عليَّ بان اراجع نفس الطبيب الذي سبق ان عالجها هناك،وعلمت منها بانها بعد اسبوع من اجراء العملية الجراحية في اربيل،كانت قد سافرت الى بيروت وبقيت هناك لمدة تزيد عن  سنة كاملة وستة اشهر،لانها كانت مضطرة على ان تكمل جلسات العلاج الكيميائي وعددها اثنتا عشرة جلسة،توزعت على عدد اشهر السنة،ومن بعدها احدى وعشرين جلسة علاج باشعة الليزر،في كل اسبوع جلسة واحدة.واستجابة لنصيحة الطبيب اضطرت للبقاء لمدة ثلاثة اشهر بعد العلاج لاجل ان تحظى بالراحة والهدوء،فقد اوصاها بان تحاول السير يوميا لمدة لاتقل عن ساعة من الزمن على شاطىء البحر،وان تمارس التمارين الخفيفة حتى تستعيد لياقتها وقواها الطبيعية،ثم عادت واكدت لي لو كان العلاج متوفرا مثلما هو اليوم في اربيل لما اختارت البقاء في بيروت وتحملت اعباء مالية كبيرة.
شعَرت زوجتي باطمئنان كبير على اثر المكالمة التلفونية،وانا ايضا خرجت من هوّة ماكنتُ عليه من افكار اخذت بي الى منحدر لانهاية له،خاصة بعد ان وجدنا ان الحالة النفسية التي كانت عليها الزميلة المهندسة لاتشير الى انها كانت تعاني من اي اثار سلبية نتيجة للمرض او العلاج،فصوتها وحيويتها اثنا حديثها  كانا يبعثان على الاحساس بالتدفق وبانها كانت مغمورة بسعادة حقيقية،فقد مضى عليها اكثر من ثمان سنوات بعد اصابتها واجرائها للعملية الجراحية،ومما عمق لدينا الاحساس بهذا الشعور عندما اكدت لنا بانها قد انهت كافة مراحل العلاج،بما في ذلك حبوب التوماكسوفين التي بقيت تتناولها لمدة خمسة اعوام يوميا،وبين فترة واخرى تحرص على ان تجري فحوصات دورية،وكلها اشارت الى ان وضعها بات  طبيعياومطمئنا.
بعد انتهاء المكالمة تنهدت زوجتي تعبيرا عن شعورها بالراحة،لانني كنت قد تعمّدت ان افتح سماعة الهاتف حتى تستمع بنفسها،ولايبقى لديها شك من ان الشفاء ممكن جدا وليس امرا بعيد المنال.

                                       للكلمة سحرها
يحتاج الانسان الى قشة يتعلق بها ليخرج من عتمة الشعور بالياس إذا ما احاطه من كل الجهات وسد عليه منافذ النور،وربما كلمة يلتقطها بشكل عابر وهو يسير سادرا في لجّة الاصوات التي تحاصره،وتمنعه من سماع ما يشعر به في اعماق روحه،فيكون لهذه الكلمة فعل السحر الذي يعجز عنه الحكماء،وربما تصدر عن  شخص لايخطر على البال،وليس بالضرورة ان يكون هذا الشخص متعلما او ذو مكانة،وربما لم يقصدها هو ايضا،لكنها صدرت عنه في لحظة عفوية ،وقد يستهلك طالب علم ومعرفة سنين طويلة في التأمل ولن يصل الى جوهر ما توصل اليه من حكمة انسان يعيش على هامش الحياة .فإذا ما اردنا ان نتجتازعتمة الجهل بالاشياءونخرج من هلوسات الافكار الهشة والضبابية نحتاج الى ان نفتح نوافذ عقولنا ونبقيها مشرعة على جميع الجهات،فالوصول الى شاطىء الامان لايمر عبر طريق واحد .

                                  ولَدي اصبح رجلاً

في صباح اليوم التالي  نهضتُ مبكراً واخرجت جوازات السفرالخاصة بنا نحن الثلاثة من الخزانة حتى اضعها  في داخل حقيبة جلدية صغيرة،لاني عزمت على ان اتجه الى  مكتب لحجز تذاكر الطيران يقع في ناحية عنكاوا،ومن ثم اذهب من بعدها الى عملي في القناة.
بعد ان انتهيت من تناول الفطور على عجل،اتجهت الى غرفة النوم حتى اغير ملابسي،فإذا بولدي  يقف عند الباب ويخبرني بانه لن ياتي معنا الى لبنان،وانه يفضل البقاء في  البيت،ولمَّا طلبت منه ان يوضح لي الاسباب كان جوابه واضحا "انتما ذاهبان لغرض العلاج،وبحاجة ماسة الى اصغر عملة نقدية بسبب ارتفاع تكاليف العلاج،لذا ليس هناك سبب معقول يرغمني على السفر معكما،كما انني سأبقى هنا لحراسة البيت" .
فشلت كل محاولاتي معه لكي يعدل عن موقفه،لاننا ماكنا نريد ان نبقى مشغولي البال عليه بينما هو باق لوحده في البيت،وبقدر ما احالني موقفه الى ان اكون في حيرة من امري الاَّ انني في اعماقي شعرت بشيء من الفخر ،إذ لم اكن اتوقع ان ترتفع لديه روح المسؤولية الى هذه الدرجة،رغم انه لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وكان قد انتهى توا من امتحانات البكالوريا،حينها ادركت بان السنين تحرق اعمارنا ونحن غافلون عنها،وعلى مايبدو فأنني قد وصلت الى المحطة التي لم تكن تخطر على بالي اني ساصلها بوقت مبكر، فقد اصبح ولدي رجلا يعبر عن رايه ويتمسك به بينما في نظري مايزال طفلا يحبو،وهذا ما يدفعني الى ان اقاضي رايه بالامتثال له طائعا،ورغم اني ما كنت مرتاحا لبقائه وحده في البيت إذا ما سافرنا،إلا ان سعادتي به كانت كبيرة بعد ان وجدته وقد اصبح على اعتاب ان يصبح رجلا يُعتمد عليه في تحمل المسؤولية.
هاهي اذن علامات الزمن تفرض حضورها واضحة مثل بقية الاشياء التي اواجهها يوميا،وما من مجال لتفادي هذا التغيير،مثلما من غير الممكن ان لااسمع صوت الباعة الجوالين وهم ينادون على بضائعهم يوميا او ان تتفادى انسكاب خيوط الشمس الساخنة وانا امشي في شوارع  العراق.
هكذا تصر الحياة على ان تذكرنا بين فترة واخرى عبر اشارة منها باننا قد استهلكنا سنينا من اعمارنا التي باتت تتراصف خلفنا في دفتر الذكريات،بينما مازلنا في داخلنا نشعر وكأننا لم نغادر اجمل فترة من اعمارنا،ونعاند انفسنا ،فلانريد لها ان تُطوى،ربما لان اغلبنا لم يعش حياته كما كان يحلم،ومازال الكثير من احلامه ينبثق مثل ينبوع في داخله يغذي عطشه الى الحياة رغم انكشاف البياض في  شعر رأسه .

                                  في مكتب الحجز للطيران
وصلت مبكرا صباح يوم الاحد الى مكتب الحجز الانيق الذي يقع في الشارع الرئيس لناحية عنكاوا على الطريق المؤدي الى مقر عملي في القناة الفضائية،ولم يكن اختياري له عن طريق  الصدفة،انما كنت قاصدا التعامل معه لان صاحب المكتب سبق له ان عمل معنا محررا للاخبار قبل ان يستقيل ويفتتح هذا المشروع. وما أن دخلت سألت عنه الموظفة الشابة التي كانت لوحدها جالسة خلف مكتبها، فاخبرتني بانه قد سافر الى  بودابست في رحلة عمل لعدة ايام.
جلست على كرسي الى جانب مكتبها وطلبت منها ان تحجز لي تذكرتين، ذهابا وايابا الى بيروت يوم الثلاثاء القادم،مع حجز بفندق قريب جدا من مستشفى الجامعة الاميركية.عندها اطلعتني عبر الانترنت على خارطة الفنادق التي تقع في المنطقة المحيطة بالمستشفى واشارت الى واحد منها،وكان الاقرب الى مبنى المستشفى . وبعد ان أنتهيت من الحجز حتى اتجهت الى مبنى القناة الفضائية،الذي يبعد مسافة خمس دقائق مشيا على الاقدام، لاجل ان احيط الادارة علما بموضوع السفر واقدِّم بناء على ذلك طلبا رسميا للموافقة على منحي اجازة لمدة اسبوعين حتى لو بدون راتب إذا كان هناك مايمنع ذلك .
كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحا وشمس حزيران مصرة على ان تنزل مثل السياط على الرأس رغم ان الوقت مايزال مبكرا قبل ان تحل ساعات الظهيرة،حيث حرارتها تدفعنا الى ان نغمض اعيننا تلافيا لانعكاس اشعتها الساطعة وهي  تسقط على الارض. وبينما كنت اسير على الرصيف مختنقا من ندرة الهواء وانا احاول الاحتماء باي ظل لجدار يصادفني، كنت على يقين من ان اي شخص عابر لايعرفني إذا ما صادف ان انتبه الى وجودي فمن المرجح انه إذا ما خطر في باله ان يخمن عمري فسيضيف اليه عشرين عاما فوق  الرقم الحقيقي،بناء على ما كان يثقل راسي من افكار في تلك اللحظات .

                                خَمَدت جذوة الحب لبيروت
 موعد اقلاع الطائرة في تمام الساعة الخامسة عصرا من يوم الثلاثاء القادم ،أي بعد يومين،وإلى ان يحين هذا الموعد كانت الدقائق تمضي ثقيلة بالنسبة لي وكأنها قد  حُقنت بمخدر ولم تعد تقوى على الجريان،وكم كنت ارجو ان ينقضي الوقت سريعا مثل رمشة عين ليحين موعد السفر،ليس لاني كنت متلهفا وسعيدا بهذه الرحلة،انما لاني كنت خاضعا لسطوة الافكار التي كانت تتناهبني حول النقاط السوداء والتي لن يُكتب لها ان تغيب عن تفكيري الاّ بعد ان يحسِم حقيقتها جهاز(PET SCAN) ، ربما لو كانت الرحلة  في ظرف آخر،لتداخلت فيها مشاعر الفرح والبهجة،لانني سارى بيروت التي كنت احلم برؤيتها،مذ كنت شابا مراهقا في منتصف سبعينات القرن الماضي اتابع اخبارها عبر مايصل من لبنان يوميا من مطبوعات واصدارات حديثة الى شارع النجفي في مدينتي الموصل،حيث مكتباته العامرة بالصحف والمجلات والكتب،وكنت اجمع الفلس فوق الفلس حتى اتمكن في نهاية الاسبوع من شراء مجلة او صحيفة لبنانية لانني كنت مندهشا من انفتاح الحياة البيروتية وحداثتها وارتفاع سقف التعبير عن الحرية فيها وخاصة في الصحافة السياسية،بينما كنا نحن نعيش عصراً آخر لايتسنى للنَفَس ان يخرج منّا إلا بعد ان نتلفت يمينا و يسارا خشية ان يرصدنا المخبرون.فلم اتوقف عن شغفي برؤية البحر وشارع الحمرا والكثير من احيائها ومعالمها ومسارحها وفنانيها،حتى انني عرفت عنها اكثر مما كنت اعرفه عن بغداد،ودائما ماكنت اتسائل،هل سيُكتب لي في يوم قريب ان اقف مقابل صخرة الروشة؟ ولكن في الآخر لنا كأسنا وللدنيا كأسها،وبكل الاحوال الغلبة لها في هذا الشرق المهووس بغلق النوافذ والمنافذ والابواب. ومرت السنوات عجافا وابتلعتنا دروب الحياة وكانت كلها تؤدي الى محرقة الحروب وليس الى بيروت، ثم جاءت سنوات الحصار فإذا بنا ندور في حلقة مفرغة باتت تكبر يوما بعد آخر، الى ان حفر الزمن بمعاوله اثارا واضحة علينا،والقى بنا على رمال ساخنة اكتوت بها ارواحنا قبل اجسادنا،ولم نعد نمتلك مايكفي من العمر ولا الفضول للوصول الى ماكنا نحلم به من مدن وافاق . بدا الامر لي هكذا بينما كنت اتفقد مافي داخل الحقيبتين من ملابس وحاجات شخصية سنحتاجها خلال اقامتنا القصيرة في بيروت لمدة لاتزيد عن اسبوع،ولهذا لم اكن على تلك الحماسة التي كنت عليها قبل اربعين عاما،فقد ذوت جذوة الحب لهذه المدينة التي كانت حلما جميلا ظل يسكنني،ولم يتبق منه ما قد يبعث على الاحساس به ،كما ان بيروت لم تعد بيروت ،فقد تلفعت هي الاخرى بثياب سوداء وباتت مثل اي مدينة شرقية تدفن راسها في رمال التاريخ .

                                      لحظة وداع قبل السفر
كان يتوجب علينا الوصول الى مطار اربيل قبل موعد انطلاق الطائرة بساعتين على الاقل،وما أن حانت الساعة الثانية بعد الظهر حتى بدأنا في الاستعداد لمغادرة البيت،وقبل ان نحمل الحقائب شعرت وكأني بدأت افقد السيطرة على مشاعري بينما كنت احاول ان اجد كلمات مناسبة اوصي بها ولدي للحفاظ على سلامته وسلامة البيت اثناء فترة غيابنا،وضرورة ان يبقي هاتفه مفتوحا دائما. أمّا والدته فلم تستطع ان تتمالك نفسها،وانفرطت دموعها وهي تحتضنه،فاعادني هذا المشهد الى نفس اللحظات قبل شهر ،عندما كنّا نعتزم التوجه الى المستشفى لكي تجرى لها العملية الجراحية،ولكن الاختلاف بين المشهدين،ان محمد ولاول مرة سيكون بعيدا عنّا مئات الكيلومترات وهذا مالم تكن تحتمله هي مقارنة بي . وأنا اجد لها العذر اذا ما كانت تحمل له هذه العاطفة بقدر اكثر مني،فهي لاتستطيع ان تحتمل غيابه عنها إذا ما تاخر ربع ساعة عن موعد وصوله الى البيت بعد خروجه من المدرسة يوميا،لانها عانت الكثير قبل ان يُكتَبَ له الحياة من بعد ان تعرضت مرتين وبشكل متتابع لعملية اسقاط ،ومن جرائها  فَقَدْنا ما كنا ننتظره بفارغ الصبر،ففي الاسقاط الاول كان عمر الجنين قد وصل الى خمسة اشهر وفي الثاني الى اربعة اشهر،ثم شاءت ظروف غامضة لم يحصل فيها حمل لمدة اربعة اعوام،اجتهد في تفسير اسبابها عدد من الاطباء الذين راجعناهم ولكنهم لم يصلوا الى نتيجة تفضي لعلاجها،وكل واحد منهم كان له تشخيصه وتحليله ووصفاته العلاجية ولكن دون جدوى ،الى ان أطلَّ محمد متدفقا بحيوته ونشاطه فاشاع البهجة في اركان البيت،وبعث فيها الامل والاحساس بالحياة من بعد ان عبست بوجهها طيلة اربعة اعوام ولم تجد إلاّ في الدعاء والصلاة وقرأة القرآن عزاء لها،لكنها ورغم الحسرة التي كانت تكبتها في داخلها ما أن  ترى اطفالا يمرحون، لم يكن يصدر عنها اي نأمة بما يشير الى انها كانت غير راضية عن ما كتبه لها الله من قسمة،رغم انني شخصيا كنت عازما على ان يكون لي نصف دزينة من الاولاد،وبقيت محافظة على اتزانها وحكمتها وهذا ما كنت افتقده انا شخصيا،وبتلك التجربة التي عاشتها ولم تدفع ايمانها للاهتزاز،اكتشفتُ ما بيننا من فروقات في الطباع والافكار،فهي امرأة قنوعة ولايُشمُّ منها رائحة تذمر مهما ضاقت عليها صروف الدهر،بينما انا رجل جزوع ملول،وإذا ما وجَدَتني اعبِّرُ عن سخطي ازاء ما قد يصادفني من عقبات،كانت ترجوني ان اكف عن ذلك وان احمد الله على كل شيء.ومازلت حتى هذه اللحظة احسدها على هذه القناعة التي تملكها،رغم ما مرت به من اوجاع اخذت منها الكثير من صحتها،فقبل ان تصاب بسرطان الثدي كان قد داهمها فجأة مرض الروماتزم الرثوي واصاب جميع مفاصلها،ولم تكن تستطيع ان تقف على قدميها لفترة لاتزيد عن عشر دقائق،إذ كانتا تتورمان وتصبحان مثل اقدام الفيل وبقيت على هذه الحال لمدة عام كامل،وفشلت كل الادوية في الحد من تمدده،الا بعد ان لجأنا الى الطب البديل، فاعتمدنا طريقة الحجامة لمدة عام كامل،حيث واصلت عليها في ايامٍ واشهرٍ معينة من السنة، ولمَّا خفَّت اوجاعها بنسبة كبيرة جدا وباتت تستطيع ان تمارس عملها في البيت بشكل طبيعي،ارتأت ان تجري فحصا في المختبر لقياس نسبة الروماتزم في جسمها،فكانت المفاجأة عندما وجدناها قد تراجعت الى 21 % وهي النسبة الطبيعية للانسان بعد ان كانت 56 %  لكن الروماتزم لم يشأ إلاَّ ان يترك اثرا في اصابع يديها اذ انحرفت قليلا عن استقامتها،كذلك قدمها اليمنى بدا عليها شيء من الاعوجاج،حتى انها لم تعد تسير بشكل طبيعي،وهذا مايشكو منه معظم المصابين به،ولازلت أذكر ان اصابتها بهذا المرض كانت عام 1999 بعد ولادة محمد بستة اشهر،ونتيجة للادوية التي كانت مُلزَمَةً بتناولها،نصحها الطبيب محمد طاهر رسول ،وهو اشهر الاطباء المختصين بهذا المرض في الموصل،بان لاتفكر نهائيا بالانجاب مرة اخرى.وخيّرني انا شخصيا ما بين الحفاظ على حياتها او التفكير بطفل آخر،فأخترتها هي .

يتبع ..

26

ج 8 اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية


                                             
مروان ياسين الدليمي


غالبا ما أحدقُ في المرآة،لعلّي أعثر على برهانٍ يؤكد وجودي في الهواء الحاضر خارج كوابيس الواقع ، لكني لم أجد غير مسافة تنأى ما بين شهيق الليل وزفير النهار.
فمن غير الممكن ان تختلف الصورة بهذه السرعة الخاطفة¬ ! 
ماجرى في ايامنا الاخيرة اشبه بتركيبة مفاجئِة،هيّأتها مقادير الحياة على غير ما كنتُ أتوقعه،بل ابعد بكثير مما يمكن ان اتخيله.
ففي كل يوم اخذت سيول الخوف تنحدرالى اشناتك،وبدأتَ تخشى ان تتصدع جدران العائلة،وينهار احد اركانها .
احيانا اتساءل مع نفسي:ماهذا الذي اكتبه يوميا،قبل ان اخلد الى النوم ؟ مامعناه ؟   بل  ما جدواه ؟
لا استطيع ان اختزل مايدفعني الى ذلك باجابة واحدة،فهناك الكثير من المشاعر مما لاتستوفيها الكلمات،وانا شخصيا لا املك المقدرة على تفسيرها وفهمها احيانا،لان العلاقة بيننا وبكل قداستها كانت مفتوحة على دورة الايام والليالي والسنين التي مرت علينا،ولولاها لما عرفتُ معنى الخوف،وهو يعني الحب بالنسبة لي .
فإذا  لم تَخَفْ على من يشعرك بالاكتفاء في هذه الحياة الجشعة، فإنك لم تعرف حتى القليل من الحب ازاء الاشياء الاخرى .
عند محطة فاصلة توقفت الرحلة لتبدأ اخرى،ربما اكثر مشقة من التي سبقتها، ومن بعد ان تجاوزتَ هول الصدمة وما احدثته فيك من ارتباك،اصبحتَ مثل السمكة وهي تبتلع الطعم،لكنك وانت قابع في الفخ مازلت تحاول عبر الكلمات ان تستيقظ على مناخ حياتك التي ابتكرت تفاصيلها معها،من بعد ان توقفتَ تماما عمَّا اعتدت عليه من طقوس يومية،لانك ما عُدتَ تستوعب ما يحدث من تغيير.
ما مضى قد مضى وليس لديك الا ان تحاول الخروج من هذا الظهور المختلف الذي ترى نفسك فيه،ولاسبيل الا ان تقتنع بما اصبحت عليه الان،ولكن اياك ان تفرط بالشكوى،واحتفي بما لديك من غبطة ازاء الشمس والنسيم والغسق، فما من جدوى إذا ما عدت الى الوراء،وحاذر من الركون الى دائرة الشجون، أوالخوض في متحف الحكايات المعلقة بين ظلال الامس.
فأنت انت الان في سباق مع الزمن لاجل ان تستعيد ذاتك معها،فتحاشى الانفصال عما يطفيء جذوة الروح فيك وفيها، او السقوط في سفسطات اليأس فتحيلك الى وحشة الاضطراب  في هذه الولادة المتعسرة لاستعادة الانفاس.
ازعم باني لم استطع ان اتحاشى هذه الهواجس التي باتت تتحرك مع كل عضلة من عضلات جسمي،وتفتح سجالا طويلا من الافكار الصاخبة في راسي ،حتى عندما عدتُ وانتظمت بعملي في القناة ،من بعد ان انقطعت عن الدوام  خلال الايام القلية الماضية لكي أُنجِزَ ما تاخّر بعهدتي من برامج ،ولأعود مبكرا الى البيت بفائض من الوقت لاتولى رعايتها .

                                            مأزق
بعد مضى ثلاثة اسابيع على اجراء العملية لم يخطر في بالنا ان الطبيب المختص بالعلاج الكيميائي عندما راجعناه اول مرة ان يطلب منّا اعادة الفحص مرة اخرى،وكأننا عدنا الى  نقطة البداية بما كنَّا عليه من حيرة وقلق:"من الضروري وقبل ان نبدأ العلاج الكيميائي لابد من اعادة الفحص،لنتأكد من حقيقة النقاط السوداء التي كانت قد اظهرتها اشعة الميموغرام في الكبد والرئتين قبل ان تجري العملية " . بهذه الجملة قطع الدكتور لقمان الصمت الذي كان يغلفنا ونحن ننتظر ما سيقوله،من بعد ان انتهى من مراجعة ملفها الذي يضم الاشعة والبيانات المتعلقة بوضعها الصحي قبل وبعد العملية، اضافة الى  التقرير النهائي الموجه اليه من قبل  الدكتور جمال غفوري.
"ولكن يادكتور سبق للطبيب الهندي الذي التقط لها الصورة باشعة الماموغرام ان ازال الشك نهائيا عن النقاط السوداء واكد للدكتور جمال عبر مكالمة هاتفية،بانها مجرد ذرات من الغبار" . حالما خرجت مني هذه الجملة بشكل عفوي ومن دون ان افكر بما يمكن ان يكون عليه رد فعل دكتور لقمان،فإذا بعلامات عدم الارتياح ترتسم  واضحة على وجهه،واظن ان جملة عدم الارتياح ليست دقيقة في وصف رد فعله. ولاضير من اعترف بانها كانت محاولة فاشلة مني في القبض على حقيقة الصورة التي بدا عليها،والاصح انه كان غاضبا،إلاَّ انه امسك بغضبه في محاولة منه للحفاظ على صورته الرصينة امامنا،فحاول ان يُظهِر لنا فقط مايشير الى انه فاتر الشعور وبارد العاطفة بعد ان استفزه كلامي . حينها شعرت بان ثمة هفوة قد صدرت مني بحق مكانته كطبيب دون قصد،لانني تحدثت بشأن مسالة طبية اجهلها وليست لدي اي فكرة علمية عنها،فبدوت امامه بصورة من لايعير اهمية لخبرته ومكانته،وهذا ما جعله يرتد الى الخلف قليلا في مقعده.
كان من الواضح بانه قد شعر كما لو انني لم اضع بعين الاعتبار اختصاصه الدقيق بالعلاج الكيميائي الذي ناله من السويد فاقدمت بما يشبه التشكيك بخبرته عندما اشرت الى ما كان قد اكده الطبيب الهندي. فما كان منه إلاَّ ان ضغط بقوة على شفتيه ورفع راسه الى ناحية سقف الغرفة لثواني معدودة ،بعدها شد كتفيه الى الاعلى وهو ينظر نحوي،ثم اعاد اوراق الفحوصات والاشعة الى داخل المظروف ومد يده ليسلمني اياه:"خلاص ، المسالة تعود اليكما ، وليس لدي اكثر مما قلته " .
اكتفى بهذه الجملة التي اراد من خلالها ان يَعتِقَ نفسه من الجلسة، ولم اكن احتاج الى وقت طويل حتى استوعب الشرخ الذي تسببتُ به،إذ  ما كان يصح ابدا ان اذكِّرَ الدكتور بما قاله الطبيب الهندي،لان التقرير النهائي الذي كتبه دكتور جمال كان قد اورد فيه كل ما يتعلق بتفاصيل حالتها قبل وبعد العملية بما في ذلك موضوع النقاط السوداء،ولكن ما لعمل والخطأ قد حصل وانتهى الامر الى ماهو عليه من توتر،واصبح الدليل واضحا امامنا بان الدكتور لقمان قد تضايق كثيرا من ملاحظتي،وأن صبره قد نفد بسرعة غير متوقعة، وهذا ما لم يستطع وجهه الذي كان متجهما ان يخفيه. وربما لم تعجبه طريقتي في الكلام وليس ملاحظتي التي تفوهت بها،وعلى الاكثر انني وتحت تأثير الضغط النفسي كنت منفعلا  الى حد ما ولم اكن منتبها الى ذلك،وارجِّحُ ان هذا هو الذي لم يستسيغه . 
شعرنا بعدم رغبته في الاستمرار بالحديث عندما التزم الصمت ولم يصدر عنه اي حركة وهو جالس خلف مكتبه،وكان ذلك اشارة كافية على انه ينتظر منّا ان ننهض ونغادر،فبلغ مني الحرج مبلغا كبيرا ،عند هذا الحد علا الذهول وجهينا انا وهي، ومن ناحيتي كنت كمن استيقظ مصدوما على اثر صوت مفاجىء،وفي اللحظة التي استَرَقتُ فيها النظر اليها،لمحتُ نظرة عتاب شديدة تعلو ملامحها،وبدت كما لو انها كانت  مصعوقة من سرعة ماحدث امامها،حتى ان  لسانها انعقد بينما نظرتها كانت تلتمس مني ان اتدارك الموقف باي طريقة،فلامجال لاضاعة الوقت.
لفتت انتباهي الصفرة الشاحبة التي كانت تعلو وجهها وهذا ما جعلني اشفق عليها كثيرا،وامام هذا التطور المفاجىء الذي كاد ان يُنهي اللقاء الاول مع دكتور لقمان  بتلك  السرعة الخاطفة،عقدتُ النية على ان اصحح الموقف،إذ لاخيار امامي سوى ان اعيد الثقة التي انعدمت بيننا ربما بسبب سوء فهم من قبلي او من قبله هو ايضا، فثمة اشياء لانستطيع ادراكها ساعة نُقدِم عليها وربما تسوقنا الى ذلك دوافع نجهلها،والاهم بالنسبة لي في تلك اللحظة ان تفكيري انشغل فقط في كيفية تبديد الخوف الذي استحوذ عليها وزاد من شحوبها بعد ان وجَدَتْ نفسها وسط مشهد مرتجل بشكل سيء من ناحيتي،وهذا مما ادى الى ان تتوتر الاجواء،خاصة وأن الدكتور بدت عليه علامات الحنق الشديد ولم يستطع ان يخفيها رغم التزامه الصمت وارتكانه الى الهدوء،فما كان مني إلا ان اتقدم بخطوة لمعالجة المأزق:"عذرا دكتور،ربما لم احسن صياغة الجملة عمَّا اردت ان اقوله فذهب الكلام الى غير محله ". ثم تابعت الحديث واصبغت عبارات التقدير والتعظيم لشخصه ومكانته،علَّني ارمِّمَ ما تسببتُ به من إشكال،فأعدّتُ على مسامعه ما كان قد اسبغه عليه دكتور جمال من صفات رائعة جعلته يبدو امامنا افضل طبيب مختص بالعلاج الكيميائي،وهذا مادفعنا الى ان نتمسك به ولم نراجع طبيبا آخر غيره،وارفقت ذلك باعتذارعن الهفوة التي صدرت عني، ثم حاولت توضيح اسباب الالتباس الذي حصل واكدت له بان ما اردت ايصاله كان القصد منه ان انقل معلومة كنت اتوقع بانها لم ترد في التقرير وتتعلق بما جرى من حديث عبر الهاتف بين الدكتور جمال والطبيب الهندي حول النقاط السوداء لا أكثر ولا اقل. انذاك اعتدل دكتور لقمان في جلسته ومال بجسمه الى الامام . عندها شعرت بشيء من الابتهاج الداخلي بعد ان تيقنت من انني قد افلحت في ازاحة ما كان يشعر به من انزعاج بعد ان لاحظت ارتخاء عضلات وجهه واستعادته لهدوئه، وتاكدت من صدق ما توصلت اليه ما إن  فتح المظروف واخرج منه البيانات ورصفها امامه،وبعد ان القى نظرة عليها قال لي :"اخي العزيز،الان امامنا مشكلة جديدة،لابد من ايجاد حل لها،والمشكلة لاتتعلق بوضعها الصحي،انما بجهازالفحص(scan pet) الذي  بواسطته سوف نتأكد من حقيقة النقاط السوداء الموزعة على الكبد والرئتين،فهذا الجهاز لايوجد في العراق نهائيا،فقط موجود في تركيا والاردن ولبنان وايران،وإذا كنتم  تمتلكون الامكانية المادية فعليكم ان تسافروا اليوم قبل الغد الى واحد من هذه البلدان لاجراء الفحص".
لم يكن امامنا اي عقبة قد تعيقنا عن السفر،لكني احببت ان اعرف من الدكتور تكاليف الفحص بجهاز(pet scan) حتى لا اكون في موقف محرج من الناحية المادية،خاصة وانني اسمع كثيرا من الذين يسافرون للعلاج خارج العراق عن ارتفاع الاجور في بلدان مثل الاردن ولبنان وتركيا.
" تتراوح تكاليف العلاج مابين 800 الى 1200 دولار في لبنان وتركيا والاردن ".
هذا ما اخبرني به،ولكن من غير ان يحسب النفقات الاخرى المتعلقة بتذكرتي الطيران والاقامة في الفندي لمدة لاتقل عن اسبوع والتي لاتقل عن 2000 دولار،بذلك يتوجب علينا ان نضع في حسابنا ان الرحلة ستكلفنا بحدود 3000 دولار إن لم يكن اكثر من ذلك . 

                                        لستَ انت !
هكذا ببساطة شديدة وفي ايام معدودة تستيقظُ من تجليات حياة كانت تشبه بحيرة يسودها الهدوء،فإذا بك وانت تصحو على نفخة ريح عاتية،وانتَ كما انت،مازلت مستغرقا في لجّة التامل،ولم تعرف طريقا الى العبث في حقولٍ كنت دائما ما تسير اليها وتغمض جفنيك عليها.
تنظر الى صورتك في المرآة فلا ترى ذات الشخص الذي كنت تعرفه.
هناك انقطاع حاد في الزمن يفصل بينك وبين الذي يومىء اليك في المرآة،اشبه بارتجال فنان في لحظة الهام.
انقطاعٌ افترقت فيه الاحداث والاحاديث،وباتت الصورة مكتظة باحتمالات مودّعة في خزانة خيار وحيد،وليس امامك من خيارات اخرى قد تصل اليها سوى ان تتسلق جدار الامل وتتسلح بالحرية وانت تسترجع في ذهنك ما جرى ، وتكتب عمّا لايمكن للكتابة ان تستوعبه بكلمات وجمل محددة، فأنت تلاحق اشبه مايكون بالظلال،ومهما حاولت الامساك بها فلن تقوى على ذلك.

                                    الاشكالية في اسمي
في موضوعة السفر لم اضع ايران في حساباتي،فقد استبعدتها تماما من تفكيري،رغم انخفاض تكاليف العلاج فيها بشكل كبير مقارنة ببقية البلدان الاخرى،لاني لم اكن بحاجة الى ان اضع نفسي في مواقف حساسة بسبب اسمي الذي قد يسبب لي اشكالات معقدة قد تواجهني ابتدأ من وصولي الى مطار طهران،واحسب اني على عِلم بان اسم مروان لن يوفر لي الامان والحماية مثل اسماء اخرى يفضلها الايرانيون على غيرها،بينما اسمي لا اشك ابدا في انه من الاسماء المكروهة جدا من الناحية الطائفية،على الاقل لدى جمهور المتعصبين والمتطرفين ممن يحملون كراهية تاريخية للامويين،فقد اصبح في الذاكرة المذهبية مرهونا بهم وبفترة حكمهم،طالما ارتبط  باكثر من خليفة تربع على عرش الخلافة الاموية،وبذلك تم تجريد الاسم من دلالاته المعجمية وانحشر في زاوية ضيقة من التوظيف المذهبي مثل اسماء اخرى،ولم يعد هناك اي فرصة لتفادي هذا التوظيف وتبعاته الحساسة في بيئة اجتماعية تكاد ان تنسدُّ فيها كل منافذ البراءة وتنعدم العفوية في المواقف الانسانية خاصة إذا ما أخطأ من يحمل هذا الاسم وانزلقت قدماه واخذته الى الضفة الاخرى،حتى انني وتلافيا لكل ما يمكن توقعه من ردود افعال مسرفة في سلبيتها لربما ينجرف اليها البعض من الموتورين طائفيا،لم أتجرأ على زيارة بغداد منذ العام 2003 خشية ان لا يستفز اسمي البعض من المتطرفين من الذين قد يصادف وجودهم  هنا وهناك،خاصة بين العناصر المسلحة التي عادة ما تقف في السيطرات الكثيرة المتواجدة على طول الطريق مابين الموصل وبغداد،ولا يُعرف إذا ماكانوا ينتمون الى مؤسسة الجيش العراقي ام الى ميليشيات مذهبية،وكثيرة هي الحوادث التي ذهب ضحيتها اناس ابرياء كانت اسمائهم هي السبب في النهاية المأساوية التي انتهت بها حياتهم،إذ يكفي ان يكون اسمك  دليلا كافيا على انك مدان بجريمة تاريخية وقعت قبل اكثر من  1400 عام.وانت لاناقة لك فيها ولاجمل كما يقال،ولهذا امتنعت نهائيا عن السفر الى العاصمة،رغم اني عشت فيها مدة تزيد على العشرة اعوام،اثناء ما كنت ادرس في كلية الفنون الجميلة ومن بعدها الفترة التي كنت فيها اقضي فترة خدمتي العسكرية وكانت من اجمل السنين .
                       
                                   ملاذ آمن
غالبا ما يصعب على المرء ان يشطح به خياله بعيدا،ليصل به الى اكتناه ما ينتظره في الاقاصي البعيدة،مهما انصاع الى صمته وغرق في معبد ذاته متأملا ذاته، فسرعان ما يتيه القارب الذي يقوده في ضباب الرحلة ويغرق في لجة مايتنازعه من صور متخيلة.ورغم اني قد افلحت في الافلات من هشاشة خُطى مدينتي قبل اكثر من عشرة اعوام حيث كانت قد انعطفت بها ايامها الى عتمة سحيقة اغرقتها في دوامة من الموت العبثي،واستطعت الوصول الى ملاذ آمنٍ بعيدا عن  فوضى الرايات التي كانت تخنق سمائها ،إلاّ ان مخيلتي بكل جنوحها لم تفلح في ان تقود حدسي الى ما سأصل اليه من تخوم تستلقي عليها رياح مشبعة بالغبار. ولم يخطر على بالي ابدا انني كنت اسير على اطراف طريق معبد بالوساس والارق،مثل الذي يسير في يقظته الى فردوس احلامه بينما عيناه معصوبة بضمادة من اوهام .

                                    لاطريق الى تركيا 
علمت من احد زملائي في العمل ان السفر الى لبنان لايحتاج الى  تأشيرة دخول،إذ يكفي فقط ان نقطع تذاكر من اي مكتب طيران،وما أن تهبط الطائرة على المدرج ونضع اقدامنا على ارض مطار رفيق الحريري حتى تُختَم جوازاتنا بتأشيرة الدخول مقابل مبلغ لا يتجاوز 75 دولارا،لذا قررنا ان نسافر الى لبنان ونجري الفحص في المركز الطبي التابع للجامعة الاميركية بدل ان نسافر الى تركيا التي كانت خيارنا الاول في البداية،لكني اضطررت لاستبعادها بعد ان راجعتُ مبنى القنصلية التركية في اربيل،واتضح لي بانها قد توقفت عن منح العراقيين تأشيرات دخول منذ مايقرب الثلاثة اشهر،بسبب الانتقادات الشديدة التي تعرضت لها حكومة انقرة من قبل الاتحاد الاوربي،والضغوطات التي مورست عليها على اثر افواج اللاجئين الذين سمحت لهم بالعبور من شواطئها وبشكل غير شرعي الى جزيرة ليسبوس اليونانية منذ منتصف العام 2015،ومن ثم اكملوا رحلتهم مشيا على الاقدام باتجاه الدول الاوربية،فكان حدثا ملحميا لم يسبق للعالم الغربي ان واجهه،وهذا المشهد بصوره الصادمة كشف ستر الانظمة العربية وعرّاها،وسلط ضوءا ساطعا على حقيقة البؤس الذي يرزح الانسان تحت مخالبه في عدد من بلدان المنطقة العربية والاسلامية مثل سوريا والعراق وافغانستان وايران.وإلا ّ ما معنى ان يغامر مئات الالاف بحياتهم، نساء واطفال وشباب وشيوخ،ويقذفوا بانفسهم في عرض البحر،تاركين اوطانهم خلف ظهورهم ؟
تشير ارقام الامم المتحدة عام 2018 الى ان( 70 )مليون شخص شردوا  من اوطانهم في جميع انحاء العالم بسبب القمع والصراعات السياسية .
انا شخصيا كنت انتظر مثل هذه الفرصة،والتي ربما لن تتكرر كل مائة عام ،لكنها وللاسف جاءتني في الوقت الضائع.

                                    المرأة سفينة انقاذ
النساء عالم غريب مثل قارة مجهولة يصعب على الرجال سبر اغواره،وكم سيصبح العالم موحشا ورهيبا إذا ما غابت عنه المرأة ،بل سيتوارى  تماما عن الوجود،وإذا ما تنازلنا نحن الذكور عن كبريائنا قليلا  ساعتها نستطيع الاقرار بأنهن مساحة مجهولة من الاسرار،لاتختزلها خصلات الشعر المتطايرة في الهواء،ولا سحر العيون السود،ولا الجسد الجميل وهو يبعث الضوء في عتمة الليل . وبقدر ما تُشعل فينا انوثة المرأة صورالدهشة والجمال والرقة، بقدر ما تحمل  في ضعفها البدني قوة داخلية تتفوق بها على قوة الرجل العضلية،ومهما حاول ان يستخدم دهائه فلن يستطيع احتواء غابات هذا العالم،فلاغرابة ان تكون الافعى ومنذ القِدَم بملمسها الناعم ولدغتها القاتلة صورة رمزية عن هذه الثنائية،في معنى وقوة حضورها ،ويكفيها سحرها الخاص وهي تنثر الدفء في اي مكان تهب عليه نسائمها،ولعل الابرز في سماتها انها دائما ما تكون مشغولة في كيفية التعبير عن عطائها الانساني لبيتها وزوجها واولادها وكل الذين ترتبط معهم بصلة ما.
انا شخصيا ومن ناحيتي استطاعت شريكة حياتي بحنكتها وحسن تدبيرها،وهذا ما تتميز به عني،ان توفر مبلغا من المال لابأس بقيمته،كانت تستقطعه من راتبي الشهري،مع انه بالكاد يكفيني للإيفاء بمتطلبات العيش في مدينة مثل اربيل ترتفع فيها تكاليف المعيشة الى درجة كبيرة،حتى ان احد اصدقائي المغتربين في اوربا عندما زارها،قال لي بان الغلاء فيها لايفرق شيئا عن الغلاء في بريطانيا.
المبلغ الذي إدَّخَرَته كان بمثابة سفينة انقاذ لنا،وينطبق عليه المثل الشائع"الفلس الابيض ينفع في اليوم الاسود" . وقبل ان ينال منها المرض لم يكن ضمن ماكنا نخطط له أن يكون هذا المبلغ سبيلا لمواجهة الحالات الطارئة التي قد نتعرض لها في المستقبل،انما كان هدفنا منه تغطية نفقات ابننا الوحيد لاكمال دراسته الجامعية خارج العراق من بعد أن ينهي دراسته الاعدادية في السنة القادمة 2017 ،وفي الحقيقة لم نضع في حساباتنا فكرة ان يدرس خارج العراق ابداً،إلاَّ بعد ان وجدنا امكانية قبوله في الكليات الحكومية في اقليم كوردستان غير واردة في تلك الايام،باعتبارنا كنّا نازحين ولسنا من سكان الاقليم،ولنا في سجل دائرة النازحين والمهجرين صفحة ورقم منذ العام 2007 ، ففي يوم ما من العام الدراسي 2014 اخبرني ولدي بان معاون المدير قد اجمتع بهم في ساحة المدرسة،وقال لهم  بان القوانين حتى هذه اللحظة لاتتيح قبولهم في الكليات الحكومية داخل الاقليم عندما ينتهون من دراستهم في المرحلة الاعدادية،ولن يكون امامهم سوى خيار الانتساب الى الكليات الاهلية او ان يكملوا دراستهم خارج العراق.
لوهلة شقَّ عليَّ ان استوعب كلام المعاون،لذا قررت ان اذهب بنفسي في اليوم التالي الى المدرسة لمقابلته والاستفسار منه شخصيا،إلاَّ انني سرعان ما تراجعت عن نيتي،استجابة لمشورة زوجتي،بعد ان طلبت مني التريث قليلا " لماذا تستبق الامور! ، فمايزال امامه ثلاثة اعوام حتى ينهي دراسته للمرحلة الثانوية،ومن الممكن ان يتغير هذا القانون بين ليلة وضحاها خاصة مع ازدياد اعداد العوائل العربية النازحة الى الاقليم بعد ان احتل تنظيم داعش مدن الموصل وصلاح الدين والانبار والحويجة، فالوقت مايزال مبكرا للتفكير بموضوع الكلية،وربما قد يكمل دراسته الجامعية في الموصل اذا ما تحررت،فلا احد ياعزيزي بامكانه ان يتكهن بما تخبئه سماء العراق من مفاجاءات،وربما قد يمر العراق بظروف قاهرة في الاعوام القادمة ،لاسامح الله ،ترغمنا مع اخرين على مغادرة العراق نهائيا " .
يتبع ..






27

ج7 - اكتشاف الحب :اوراق من مدونتي الشخصية

                                                 
مروان ياسين الدليمي

نحن مثل بقية الاشياء،مثل ورق الاشجار،او طائر يحلق في الفضاء،مثل قطرة ماء وذرة هواء ،نحن جزء من هذا الحضور اللامتناهي، يجمعنا ويحركنا شيء غامض،مكانه ليس ببعيد عنا،انه كامِن بداخلنا،ومع ذلك فأنا  اجهل اين يكون،هل في اصابعنا ام في اضلعنا ام في رؤوسنا ام في شرايينا ، ام ... ؟ دائما ما افكر في كيفية الوصول إليه ،وهو اشبه بشعاع من نور يرسل طاقة الحياة فينا،مع ان العتمة شديدة حولنا.
وفي ما يتعلق بها،هي ايضا تعيش حياتها مثلي تحت سطوة هذا الغياب الذي يقلقني، لكنها ابعد ما تكون من ان تشبهني،لان غيابه يعني حضوره كاملا فيها،وفي كل ثانية تمر عليها تشعر به وتسبِّحُ باسمه،فلا يقلقها اين يكون،طالما هو كائن في كل شيء،لانها تعرفه في غيابه اكثر مما تعرفه في حضوره . . فهل احسدها ؟

                               فوضوي واقتراح عبقري

لم تنقطع عن اداء واجباتها المنزلية التي اعتادت عليها،رغم ما كانت تعانيه من متاعب صحية والضعف الذي بدا واضحا في قدرتها البدنية،اضافة الى ما كانت تسببه لها من ازعاج،العلبة البلاستيكية التي كانت تتدلى من تحت ثيابها وتتأرجح امام قدميها فترتطم بها اثناء قيامها بإي حركة،خاصة عندما تمتلىء بالدم والسوائل اللزجة،وفشلت كل محاولاتنا لاقناعها بأن تجلس على الكنبة وتستريح،وسنتحمل بدلا عنها،انا وابني محمد،انجاز ما يحتاجه البيت من اشغال،بما في ذلك التنظيف والطبخ الى ان يتم رفع الانابيب والعلبة عنها في نهاية الاسبوع،وما عليها سوى ان توجِّهنا فقط . كانت تنظر الينا بزاوية من عينيها ثم تكتفي بابتسامة خفيفة ساخرة ترسمها على شفتيها ثم تقول"اقتراح عبقري"وتتبعها بجملة قصيرة دائما ما كانت ترددها " في هذه المسالة لافائدة منكما،لانكما تخربّان المعمور" ثم تمضي الى المطبخ بحركة بطيئة فيها حرص شديد على ان لاترتطم  قدمها اليسرى بالعلبة،ومن دون ان تلتفت الينا بعد ان اخذتَنا نوبة من الضحك .
لا اذكر في يوم ما انني دخلت المطبخ ووقفت الى جانبها لاجل ان اساعدها  او أتعلم منها،فعالم الطبخ بالنسبة لي اعقد من عالم الرياضيات،ومن ناحيتها فهي على يقين من انني إذا ما اقتحمته فساحيله الى فوضى،فما من شيء سيبقى في مكانه،لا علب بهارات ولاقنينة زيت الزيتون ولاكيس فانيلا،وستصاب بالذهول وتفقد اعصابها قبل ان تعيد كل شيء الى مكانه المعتاد،ولاجل ان يبقى النظام فيه سائدا وفق ما تشاء وترغب،اقتصرت مهمتي على ان استلم ورقة صغيرة بين يوم وآخر مكتوبا عليها قائمة بالمشتريات الغذائية ويتوجب علي شرائها من سوق شيخ الله وسط مدينة اربيل.ولهذا لم اجد غرابة في اصرارها على ان تبقى تمارس دورها التقليدي باعتبارها ربة المنزل والمسؤولة عن رعايته ورعايتنا رغم مرضها ووزنها الذي تناقص بشكل واضح خلال اسبوع واحد بعد العملية الجراحية،وحتى عندما كانت تتأفف وتبدي تذمرا لم يكن لدي ادنى شك من ان ذلك لم يكن بسبب تقاعسها عن العمل،انما لان جرح العملية لم يندمل بعد ،وقواها مازالت ضعيفة،فكانت تجد صعوبة في اتمام عملها،وهذا ما كان يزعجها.
لا استطيع ان انكر بان ضميري بات يؤنبني،عندما  كنت اتابعها وهي تتحرك ببطىء وتثاقل واضحين بينما هي تتنقل بين اركان البيت لاجل ان تحافظ عليه نظيفا ولاتسوده الفوضى . وماكان امامنا الا ان نرضخ لارادتها وننساق مع رغباتها مراعاة لحالتها النفسية،بعد ان وجدناها تستعيد شيئا من حيوتها ويختفي توترها ما أن تكون مشغولة بالعمل،ولهذا لم نعد نحاول ثنيها عن الاستمرار باعمال الطبخ والتنظيف،وبدأنا نبذل جهدا في مساعدتها،ومع ذلك لم تنقطع سخريتها منّا ازاء ما ننجزه من اعمال،وفي الواقع اننا كنا نتعمَّد انا ومحمد في ارتكاب بعض الهفوات الصغيرةعندما نساعدها في غسل اواني الطعام ،مثل ان نترك اثرا بسيطا من بقايا الاكل في واحد من الاواني لاننا نعلم جيدا بانها ستبدأ في اطلاق سيل من تعليقاتها الساخرة باعتبارنا لانصلح للقيام باي عمل. وكان هدفنا من ذلك ان تشعر كما لوانها تمارس حياتها بشكل طبيعي فتنسى مرضها،ولهذا حرصنا على ان نفتعل القليل من المرح الذي افتقدناه،فكانت المفارقة في هذه اللعبة تكمن في فوضويتي لانها تتقاطع تماما مع صرامة تعليماتها ازاء ماينبغي ان يكون عليه البيت من تنظيم ونظافة،وهي بذلك تتشابه مع معظم نساء الموصل في حرصهن على  ادارة شؤون المنزل باكمل صورة.ومما زاد في وتيرة انتقاداتها انني اورثتُ ولدي جزءا من فوضويتي،وإنْ كان لايصل الى ما انا عليه من مستوى متقدم . 

                                     تباين وانسجام
طيلة اكثر من ربع قرن كان التباين بيننا قد بدأ يتضح يوما بعد آخر،وحاول كل واحد منا ان يبقى متحصنا وراء ما يؤمن به من افكار دون ان يتزحزح عن موقعه،ساعيا بنفس الوقت لسحب الآخر الى جهته اخذا به الى حيث خياره الداخلي،ولكن لم يفلح كلانا بهذا المسعى،ولم يكن من السهل علينا نحن الاثنان ان نستدير عمّا يملؤنا من افكار نهتدي بها في تحديد هويتنا التي نطل من خلالها على الحياة،ورغم بقائنا على ماتغفو عليه جفوننا وتنفتح عليه شرفات عقولنا من آيات الاطمئنان إلاَّ ان ذلك لم يحدث خدشا في علاقتنا مع بعضنا،ولم يتمكن الصقيع من ان يحقن برودته في حقل مودتنا،فالحياة بين اثنين يعيشان تحت سقف واحد لفترة طويلة لاتعني ان يكونا نسخة طبق الاصل عن بعضهما،كما لو ان احدهما ينظر الى نفسه في المرآة،ودائما ما كنتُ اعتقد ان هذا النمط من العلاقة بين زوجين اذا ما وجِد فانني لااشك ابدا في انه يعكس حالة من القمع يمارسها احدهما ضد شريكه الاخر وعادة مايكون الرجل،مستثمرا تواطوء الواقع معه، بفعل عوامل عديدة ومختلفة،عادة ما تستمد قوتها من الموروث،الذي يملأ شرايين الفرد بثوابته ويمنحه القوة ويحميه من اي تبعات تدينه،لِما له من قداسة،ومن جانبي ارى السبب الرئيس في هذا الاختلال يعود الى ضعف كبير في شخصية واحد منهما،ودائما ماتكون المرأة ،وهذا ما يدفعها الى ان تتنازل عن ذاتها كليا لصالح شريكها،ربما بسبب الحب احيانا، وليس بسبب سلطة الخوف الاجتماعي،وغالبا مايكون الخوف هو السبب لان سطوته كبيرة وقادرة على ان تسد منافذ الهواء امام المرأة وتكسر اجنحتها،بالتالي سيبدو الانسجام قائما بينهما امام الاخرين،ولكنه انسجام مزيف،لانهما يفتقدانه،طالما علاقتهما قائمة على مبدأ الاستحواذ الذكوري الذي شرعنَتهُ تمائم واعراف مخزونة في شقوق جدران متهالكة،أجازت للرجل ان يحيل  المرأة الى ظل باهت يتبعه،فلاغرابة ان ينهار السقف عليهما في اية لحظة اذا ما نال الطرف المقموع حريته او استيقظ هذا الظل في لحظة ما من غفوته.وهذا ما لاحظته مع كثير من اصدقائي الذين هاجروا الى اوربا،إذ تفاجأت بأن اغلبهم يعيشون منفصلين عن  زوجاتهم،وفي معظم الحالات كانت الزوجة هي التي تطلب الطلاق،بعد أن وجدت قوانين بلد اللجوء تنصفها ،وتمنحها ما كانت محرومة منه في بلدها .
من ناحيتي لم اتوقف امام ما كنا نختلف عليه،خاصة في ما يتعلق بالشكليات  الذي نعبِّر من خلالها عن قناعاتنا الروحية،وإن كانت مسالة الحفاظ على التوازن في هذا الاختلاف لن تمر في مسالك معبَّدةٍ لفترة طويلة من الزمن من دون ان تنفجر فيها انفعالات وخلافات ربما لاسباب تافهة،وهذا ما مررنا به،وهو امر طبيعي جدا في حياة مشتركة بين اثنين تجمعهما رابطة قدَّستها قوانين السماء والارض،وسيكون امرا طبيعيا ان تعصف بهما الخلافات احيانا،فمسالة الانسجام ليست بتلك البساطة،انما هي بغاية الصعوبة اذا لم يكن الاثنان يحملان قدرا ادنى من الاستعداد لاحترام حرية الاخر في قناعاته،واظننا بمرور السنين ادركنا ذلك فتعاملنا مع مانختلف عليه باعتباره مسألة لاخلاف فيها ولاعليها .

                                     وصايا الدكتور
بعد ان رفع الدكتور جمال الانبوبين من مكان العملية،لم يعد هناك ضرورة للعلبة ايضا،ولهذا بات لزاما علينا ان نتهيأ في تمام الساعة الرابعة عصرا لمغادرة البيت يوميا ولمدة اسبوعين،ونتوجه عبر سيارة اجرة الى عيادته حتى يتولى بنفسه سحب السوائل ،إذ بدأت تشكو من صعوبة في تحريك ذراعها ما ان تتجمع تحت ابطها الايسر.وكان لتلك المراجعات اثر كبير في رفع معنوياتها التي كانت قد بدأت تهرم تحت سطوة الظنون والهواجس المسكونة بالخوف،فأخذت تنزاح عنها مشاعر القلق بعد كل جلسة كانت تجمعنا معه، فمارس دوره كطبيب على اكمل صورة وهو يسدي اليها النصائح ويفتح امامها نوافذ الامل،وبدأت وساوس الخنوع والخضوع تحت سلطة اليأس تبتعد عن تفكيرها،وارتفعت عاليا اشرعة الثقة بنفسها،واطلت في داخلها امكانية عودة الشمس لتعانق الظلال المعتمة التي ركنت اليها في الايام الماضية،وبذلك يعود اليه الفضل في انها بدأت  تشعر بالاطمئنان على وضعها الصحي،وأن من الممكن ان تطوى هذه الصفحة من حياتها نهائيا وتصبح مجرد ذكرى إذا ما استمرت على تكملة مراحل علاجها والتزمت بوصاياه حرفيا، خاصة في ما يتعلق بالغذاء،فقد حذرها من تناول السكريات نهائيا،واذكر انني  ابتسمت بعد ان خطفتُ نظرة سريعة ناحيتها عندما وجدته يطلب منها ان لاتقترب نهائيا من كل انواع الحلويات،وبفطنته ادرك سبب ابتسامتي،فاعاد عليها وصيته محذرا اياها من تناولها،كما اوصاها بالابتعاد عن احتساء المشروبات الغازية وانواع الاطعمة المعلبة،والوجبات الغذائية التي تزيد فيها نسبة الدهون عن 30 % وان تحرص على التقليل من تناول اللحوم الحمراء.في المقابل اكَّدَ عليها بأن تكثر من تناول الخضروات مثل الكرنب والقرنبيط والبروكلي والفجل واللفت والملفوف الأحمر مرّة أو مرّتين أسبوعيا ،والأفضل ان تتناولها خلال وجبة الغداء ،لانها تحمي خلايا الجسد من السرطان،نظرا لما تحتويه من كيميائيات نباتية تحفز على إنتاج الإنزيمات وتوقف الضرر الناجم عن المسرطنات، ،وكلما قل طهيها كلما احتفظت بخصائصها الغذائية،اضافة الى تناول الثوم والبصل لانهما تحتويان على مواد مضادة للأكسدة والالتهاب والميكروبات،ومن الضروري ايضا ان تكون بعض الخضروات مثل الطماطم والقرع والبنجر(الشمندر)وكذلك الجزر مادة اساسية في وجباتها الغذائية لانها غنية بمضادات الأكسدة التي تقي الخلايا من الشيخوخة،بالاضافة الى الحمضيات مثل البرتقال واليوسفي والليمون والكيوي والأناناس لان هذه الفواكه عادة ما تكون غنية بفيتامين "ج" فتقاوم أنواع العدوى وتحمي الأوعية الدموية.

                                       اتصال هاتفي
قبل منتصف الليل تمكنت شقيقتها الوسطى من الاتصال بها عبر الموبايل من الموصل،بعد اكثر من محاولة فاشلة لان الاشارة كانت ضعيفة،فبدا صوتها متقطعا وبالكاد ان يُسمع،وهذا ماضطرها الى ان تصعد السلالم لتكون فوق سطح الدار واختارت زاوية وقرفصت فيها،فعبّرت لها عن المها الشديد لما اصابها،وتمنّت ان تكون الى جانبها لترعاها وتخدمها،ولكن ذلك غير ممكن مع بقاء المدينة تحت سلطة تنظيم الخلافة،واخبرتها بما تعرضت له قبل بضعة ايام من موقف زرع في داخلها الخوف من قبل اثنين  ينتميان الى مايسمى بهيئة الحَسبة التابعة لتنظيم الخلافة،فبينما كانت متوجهة مع ابنتها الصغرى التي لم تتجاوز الستة اعوام الى الاسواق القريبة من البيت فإذا باحدهما ينادي عليها بصوت عالي، ولما انتبهت الى انها كانت هي المقصودة،التفت الى ناحية الصوت، فإذا بهما  ينهالان عليها بسيل من كلمات التوبيخ والتقريع والتخويف لان ابنتها لم تكن ترتدي الحجاب، واجبراها على ان تعود مع ابنتها الى البيت وتضع على راسها الحجاب . واخذت تدعو من الله ان يرفع عنهم هذه البلوى ، ثم عادت لتطمئن على صحتها ولتعيد عليها هذا السؤال اكثر من مرة وكأنها تريد ان تؤكد لنفسها بان موضوع مرضها ليس خطيرا،وبدا عليها الوقوع تحت تاثير ما كانت تعانيه شقيقتها من  احساس بالشوق اليها والى جميع اهلها اكثر مما كانت تعانيه بسبب المرض  فاحتبس صوتها وتوقفت اكثر من مرة عن اكمال ما كانت تتحدث به معها واخذت تتنهد،فإذا بها بدأت تبكي ما أن قالت لها بانها يوميا مع اولادها وزوجها لايضعون الاكل في فمهم إلاّ بعد ان يرفعوا ايديهم نحو السماء ويدعون لها بالشفاء التام ،ثم انفرطت بنوبة نحيب مكتوم ٍ خشية ان يسمعها الجيران،ويصل بالتالي امرالمكالمة الى عناصر امن الخلافة.

                                      قوائم انتظار
خلال مراجعتنا اليومية للعيادة كنّا مرغمين على ان ننتظر لفترة زمنية تزيد عن الثلاث ساعات قبل ان يحين موعدنا،لكثرة النساء  المصابات بمرض سرطان الثدي فالعدد يوميا يتجاوز الخمسين امرأة كانت تنتظر دورها وعلامات الشحوب بادية على وجوههن جميعا،فاصابنا بالهلع إذ لم نكن نتوقع ان نجد مثل هذا العدد مسجلا على قائمة انتظار الامل في عيادة دكتور واحد فقط،فماذا عن بقية النساء المنتظرات في قوائم الاطباء الاخرين ؟ عند هذا التساؤل الذي داهمني وانا معلق على مشجب الانتظار تشكلت في راسي صورة قاتمة عن التركة الثقيلة التي خلفتها الحروب في هذه البلاد التعيسة والتي ستعاني منها الاجيال القادمة ايضا .
كانت الصالة تضيق بالنساء ومن جميع مدن العراق،خاصة تلك التي سقطت تحت سلطة تنظيم الخلافة،ومازالت ترزح تحت مخالبه مثل الموصل والانبار وتكريت.ودائما ماكانت هناك وجوه جديدة نلاحظها تضاف يوميا على قائمة الانتظار. دفعني هذا المنظر الذي اعتدت على رؤيته خلال اسبوعين الى رسم صورة مرعبة في مخيلتي عن حقيقة تفشي هذا المرض،إذ لم يكن لدينا اي تصور عنه مهما حاولنا ان نتخيله،فاصبحت على يقين من ان ما يطفو على السطح من حقائق اقل بكثير مما يسكن في العمق ويضرب في عظام المجتمع.وتمكنت من الحصول على مجموعة بيانات كان قد اصدرها مجلس السرطان في العراق تشير الى تزايد حالات الاصابة بالسرطان في العراق مابين عامي(1991 – 2016 )وكانت عدد الاصابات(5,720 )وبمعدل(%31,05 )عام (1991 )في حين ارتفع عدد الاصابات ليصل الى(25,556 )وبمعدل(%67.4 )عام (2016 )لكل (100,000)نسمة .

                                      حكايات منسيّة
بدأت تتكشف امامنا حكايات كثيرة،التقطتها مسامعنا من افواه النساء بعد ثلاثة ايام من مراجعتنا لعيادة دكتور جمال،كلها كانت تعكس جوانب اخرى من العذاب الذي يعاني منه المصابون بمرض السرطان،لم يكن يلتفت اليها احد ،طالما كانت تنبت مثل الصبار في ارض قاحلة،لتكمل بقسوة تفاصيلها ما كنا نراه ونسمعه من حكايات في عيادات الاطباء وممرات المستشفيات . انها حكايات منسية مع سبق اصرار وتعمد حكومي،تختفي بين سطورها مخلوقات ادمية تنزوي بألامها في بيوتٍ خزائنها فارغة مثل بطون اصحابها،ونوافذها مفتوحة على غموض ايامها القادمة،فالواقع موحش جدا ولايبعث على الامل بسبب ارتفاع نفقات العلاج،فالعملية الجراحية تصل تكلفتها الى خمسة الاف دولار وكل جلسة من جلسات العلاج الكيمائي تصل تكلفتها الى مئتي دولار،ومثلها جلسات  العلاج بالليزر،وعادة ما يحتاج المصاب الى  عِدَّة جلسات وليس الى جلسة واحدة وعلى الاكثر تصل الى ست عشرة جلسة في مرحلة العلاج الكيمائي ومثلها عند العلاج باشعة الليزر،وعلى ذلك سيكون من الصعب على الفقراء ان يخرجوا من براثن هذا المرض اذا ما نال منهم،ومن لايملك المال عليه ان يستسلم للقدر،لان المستشفيات الحكومية في جميع مدن العراق بعد العام 2003 تفتقر الى الادوية واجهزة الفحص والى ابسط الخدمات العلاجية.

                                       نموذج واقعي
اذكرُ ان احدى النساء كانت قد جلست هي وزوجها الى جانبنا اثناء ما كنا ننتظر دورنا في العيادة،وأكثر ما لفت انتباهنا ذاك الشحوب الذي كان يصبغ لون بشرتها اضافة الى بنيتها الضامرة بشكل مخيف،واثناء ما كانت تتحدث معها زوجتي وتستفسر منها عن حالتها اخبرتها بانها لولا تبرعات الجيران والاقارب لما تمكنت من اجراء العملية الجراحية لازالة الثدي،لانهم فقدوا بيتهم ومزرعتهم وكل ما يملكونه عندما سيطر تنظيم الخلافة على محافظة نينوى،وهذا ما اضطرهم الى الهرب بجلدهم من قريتهم الكائنة في منطقة برطلة عند اطراف مدينة الموصل،لان تنظيم الخلافة اعتبر ابناء اقليتها الشَّبكية كفَرة،ويستحقون الموت حالهم حال ابناء الطائفة الايزيدية،فما كان امامهم سوى خيار النجاة بانفسهم،ولينتهي بهم الحال في مبنى خاص بالنازحين بمدينة اربيل،ويعتمدون في معيشتهم على ماتقدمه لهم المنظمات الدولية من مساعدات غذائية.

                                 الجرَّاح يستعد للسفر
بعد ان واظبنا على مراجعته يوميا لسحب السوائل ابلغنا الدكتور جمال في نهاية الاسبوع بانه سيسافر بعد يومين الى انكلترا ليستمتع باجازته السنوية حيث سيبقى لمدة ثلاثين يوما الى جانب عائلته التي تقيم هناك،وابلغنا بانه قد كلف احد تلامذته من الاطباء في مستشفى ويلفر بان يتولى عملية سحب السائل بدلا عنه اذا ما تجمع خلال الايام القادمة،كما اوصانا بضرورة ان لانتأخر خلال اليومين القادمين  في مراجعة الدكتور لقمان نانا كلي المختص بالعلاج الكيميائي في عيادته الكائنة  في نفس الطابق ونفس المبنى الذي تقع فيه عيادته،واكد لنا بانه من افضل الاطباء المختصين العلاج الكيميائي. 

                         
                                    الخروج من الأوهام
قادتني رحلة العلاج في اولى مراحلها الى اكتشاف الوجه الآخر للحياة بينما كنا نتسابق مع الزمن،في محاولة منا لتفادي عبوسها ولسعاتها القارسة،علَّنا نعثر على ظل نحتمي به من غلاظة مشاعرها،ونسترد القليل من انفاسنا المتقطعة.
لم استطع الافلات  من كابوس الافكار التي باتت تلاحقني،من بعد ان وجدت نفسي اشبه بمن يدخل صدفة الى ممر طويل يؤدي به الى عالم سفلي يختفي تحت زيف عالمنا الواقعي. فكنت اصبُّ اللعنات على الحروب وعلى من تسبب بها ويدعو اليها كلما استعيد صور الاعداد الكبيرة من المصابين بمرض السرطان من النساء والاطفال والرجال الذين كنت التقيهم في عيادة دكتور جمال وفي ممرات المستشفى،وبقدر ما قد قادتني هذه الرحلة الى داخل نفق معتم إلاّ انها اخرجتني من غابة اوهام كانت تسكنني .

يتبع ..
   









28
ج6  اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية


                                               
مروان ياسين الدليمي

خيط رفيع نعجز عن الاحساس به يفصلنا عن معنى وجودنا،وعلى سرير المرض غالبا ما نتوصل الى اكتشافه،من بعد ان نواجه حقيقتنا عارية ،وندرك مدى هشاشتنا امام غطرسة الزمن،فتتبدد اوهامنا المثقلة ببريق من الخواء،تلك التي قادتنا الى ازمنةٍ من قش،لكنَّا وجَدْنا فيها ماكُنّا نعتقد انها ذخائرنا التي ستُفتَحُ امامها نوافذ وابواب وتنحسر تحت بريقها الحسرات . كنَّا على موعد مع متغيراتٍ غير مُنتَظَرةٍ،وستجرف رياح الانتظار الكثير من تفاصيل حياتنا من  بعد ان نغادر المستشفى ونعود الى البيت. فما ان اوشك الدكتور جمال على الانتهاء من  معاينتها حتى اتى بحركة خفيفة من راسه اشارةً منه بان الحَقَ به،وكان حريصا على ان لايثيرانتباهها،فتبعته كما لو اني اتصرف بشكل طبيعي من باب اللياقة والاحترام لمكانته. ولمّا اصبحنا في الممر بعيدا عن الغرفة بدأ حديثه معي مؤكدا على ان اهتَمَّ بما سيقوله،لانه مرتبط بما ينتظرها في مراحل علاجها المقبلة.
ابتِدأً حذَّرني من مغبة الانزعاج ازاء ما قد يطرأ عليها من تحوّلٍ ملموس في ردود افعالها،لانها ستكون عرضة لخليط من مشاعر التوتر والاحباط والياس والاكتئاب،وأعتَبَر ذلك امرا طبيعيا رغم ما أبدَتُه من إرادة قوية اثناء وبعد العملية،إلا ان المتغيرات في حالتها النفسية من الممكن ان تصبح عائقا امام شفائها،عندما ستخضع لجلسات العلاج الكيميائي واشعة الليزر في المراحل القادمة إذا لم نحسن استيعابها،ولهذا اوصاني بان يتقبَّلها الموجودين في البيت لانها ستكون تحت ضغط نفسي واجتماعي  في آن .

لم اسقط في دائرة من الخوف وانا اصغي لكلام الدكتور،لاني خلال الايام القليلة الماضية كنت قد بدأتُ بجمع اي معلومة تتعلق بسرطان الثدي داخل ملف خاص خزنتُهُ في حاسوبي،فكنت حريصا على ان اقطع مسار الوقت الذي يجري بسرعة وانا اقلب المواقع الالكترونية عبر هاتفي الشخصي لاجتياز حدود الجهل الذي يحيط بي ازاء هذا المرض،لكن الجديد الذي اثارني في حديث الدكتور انه ايقظني امام ما ينتظرني من مهمات،فقد وضعني امام مسؤولية كبيرة ستجعلني ابدو كَمَن يصعد سلالم ناطحة سحاب معتمدا على قدميه حتى يصل الى اخر طابق،وهذا يعني ان يقسِّم جهده  ليحتفظ بلياقته.ولما اخبرته بان لاأحد من افراد عائلتَينا يسكن معنا او بالقرب منّا،لان جميعهم يقيمون الموصل،عندها قال لي "هذا الوضع ربما يبدو افضل بالنسبة لها على الرغم صعوبته عليك انت شخصيا،لانك ستتحمل ولوحدك مسؤولياتها التي كانت تتولاها في ادارة البيت" . من الواضح انه لم يكن ينتظر اجابة مني،لان حدسه كان يقوده بسهولة الى توقع ماسيصدر في مثل هذه الحالات من ردود افعال،باعتباره قد تعامل مع مئات النماذج الانسانية التي خبِرها مثلما خَبِر انسجة وشرايين الجسد الانساني وعرف كيف يصل اليها بمشرطه،ولهذا استَبَقَني قائلا."ليس امامك من خيار آخر " .  وفي محاولة منه لفتحِ نافذة من الأمل لمَّا وجدني لم اعلِّق على ماقاله واكتفيت بأن استدرت بوجهي ناحية النافذة الواسعة المطلة على الشارع تابع حديثه قائلا "ارجو ان لاتبتئس،لان الوضع الذي انتم عليه في البيت بتقديري هو الافضل بالنسبة لها،وسوف يساهم كثيرا في توفير بيئة هادئة هي بأمس الحاجة اليها،طالما ليس هناك فوضى قد يتسبب بها اطفال في ما لو كان هناك اخرين يشاركونكم المسكن" . ثم كرر على مسامعي وصاياه ."من المهم السير على السياق الذي يوفر لها الدعم النفسي في البيت،لانه يمثل نصف الشوط في معركة مواجهة المرض بينما النصف الاخر ستتكفل به الادوية التي ستتناولها" .

تفاصيل كثيرة داخل لوحة حياتي الشخصية ستخضع هي الاخرى الى التاجيل حتى اشعار آخر بعيدا عن سياق طقوسي اليومية التي اعتدت الركون الى تناسقها،فكان لابد من ان اتحمَّل يوميا ولمدة اسبوع مسؤولية تفريغ علبة بلاستيكية بحجم الكف ما ان تمتلىء بخليط  لزج من الدم والماء كان ينسكب فيها من خلال انبوبي بلاستيك رفيعين طولهما بحدود 70 سنتم ينفذان الى داخل العلبة عبر فتحتين ضيقتين تمنعان تسرّب السوائل خارجها،وينتهي الانبوبان من الجهة الاخرى في فتحتين صغيرتين جدا داخل جسدها،الفتحة الاولى تحت الابط الايسر حيث المكان الذي ازيلت منه سبع وعشرون غدّةً لمفاوية،والثانية في منطقة الصدر من الجهة اليسرى ايضا،وفي نفس مكان الثدي الذي تم ازالته نهائيا ولم يبق منه سوى قطعة جلدية تمت خياطتها على شكل خط افقي متعرج.


للتخفيف مما كنت اشعر به من ضغط نفسي شديد،شعرت برغبة قوية للخروج من البيت والقيام بجولة قصيرة في المتنزه الذي لايبعد عن بيتي سوى خطوات معدودة. كنت بحاجة الى ان اكون وحدي اكثر من اي وقت آخر . ولم اغادر الا بعد ان تأكدت من انها قد خلدت الى النوم،ثم ناديت على ولدي الذي كان يراجع دورسه في غرفته الكائنة في الطابق الاول وطلبت منه ان يتصل بي إذا ما شعر بانها ليست على مايرام . في المتنزه انتبهت على اسناني التي كانت تصطك بعنف بينما كنت اتساءل مع نفسي لماذا عاقبني القدر على هذه الصورة وكانه عقاب إلهي على خطا ارتكبته متعمدا ؟ . في حينه بدأت انساق في دوامة تفكيري الى نفس الدائرة المغلقة التي اعتاد عامة البشر ان يُرجِعوا الاسباب اليها اذا ماوقع عليهم خطب ما،لكني سرعان ما تراجعت عن هذه الفرضية الغيبية،على الرغم من انها تبدو واقعية لكثير من الاشخاص الذين سبق لهم ان ارتكبوا جرائم بحق الاخرين،وبقدر تعلقها بي فهي تبدو ابعد من ان تكون منطقية، لاني لم ارتكب جرما حتى اتلقى عقابا ؟  . نعم ، قد اكون لامباليا الى حد ما،مقارنة مع اخرين،رغم انني شديد التعاطف مع من يقع في محنة، لكني لاابذل مايكفي من الجهد لمساعدتهم،ولاأظن ذلك يستوجب هذه العقوبة ، لكن لا ، من غير المعقول ان يصل بي التفكير الى هذا المستوى من السذاجة كما لو انني شخص غير متعلم.ربما التفسير الاكثر واقعية لهذه التجربة اننا ندفع ثمنا باهظا جراء تلك الاسلحة المحرمة دوليا التي جربها علينا الاميركان بعد غزو الكويت وفي الحرب التي تلتها عام 2003 . وهل من المعقول ان ارفع اثم الخطيئة عن كاهل من ارتكبها والقيها على كاهل الضحية ! ثم  مَن اكون انا وبكل اخطائي،امام اولئك الذين تسببوا في قتل ملايين البشر؟


صباح  اليوم الثالث من بعد عودتنا الى البيت وبينما كنت قد انتهيت من اعداد مائدة الفطور لاحظتُ تغيَّرا في مزاجها،وبدا ذلك واضحا في التزامها الصمت لفترة طويلة،وظلت ساهمة،كما لو انها منفصلة تماما عمّا يدور حولها.كانت مستغرقة في عالم آخر،وارتسمت على وجهها علامات توحي بسقوطها في حالة من القنوط جعلتها اشبه بجزيرة معزولة بمياه عميقة عما يحيطها من كل الجهات،حتى انها لم تفتح التلفزيون ولم تعد مهتمة بمتابعة القنوات الفضائية المختصة بفنون الطبخ التي كانت قد وضعتها في مقدمة القائمة المفضلة لديها. حاولتُ ان اخرجها من الحالة التي كانت عليها من غير ان يبدو ذلك مقصودا. فتحتُ التلفزيون وبحثتُ عن قنوات الطبخ وتوقفت عندها،ثم ناولتها الريمونت كنترول،فأتت باشارة من يدها تعني بانها لاترغب بذلك،وبقيت تعابير وجهها كما هي دون تغيير،ولانني كنتُ مستعدا لاي رد فعل قد يصدر عنها، فما كان مني الا ان اخفضت صوت التلفزيون ثم التفتُ اليها لاستفسر منها عما إذا كانت تشعر بألم ؟ لم تكلف نفسها بالرد عليَّ واكتفت بان هزَّت راسها هزة خفيفة دون ان تنظر الى ناحيتي ، ومضت على هذا الحال بقية اليوم.



قبل ان تميل الشمس الى الغروب نهَضَت لكي تتوظأ بعد ان انتبَهتْ الى صوت المؤذن يدعو الى صلاة العصر اتياً من الجامع القريب الى بيتنا، وبدا عليها الشعور بالانزعاج،فاخذت تتأفف،ثم اطلقت زفرة قوية وهي تنظر الى العلبة التي كانت تتدلى من تحت ثيابها،فقد كانت تعيقها كثيرا وتحد من حركتها خاصة اثناء النوم وعندما تعتزم الدخول الى  الحمَّام،لانها تصبح ثقيلة ما ان تقترب من الامتلاء،ولهذا عمِلتُ على تغليفها بشكل محكم بكيس من النايلون ثم ربطتُّها بحبل رفيع وطويل من الجانبين حتى يسهل تعليقها من جهة الكتف الايمن لتبقى متهدلة ومستقرة على الجانب الايسر من جذعها وتحت ملابسها وهذا ما سيجعل وزنها خفيفا،وكنت حريصا على معاينتها بين فترة واخرى للتأكد منها في ما إذا كانت قد امتلأت حتى افصلها عن الانبوين،واذهب بها الى الحمّام لتفريغها وتنظيفها،ومن ثم اعادة ربطها من جديد. وهذا ما اوصاني َ به الدكتور مِن بعد ان طمأنني بان عملية افراز هذا الخليط امر طبيعي جدا،وسيتولى هو بنفسه رفع الانابيب والعلبة في نهاية الاسبوع عندما نراجعه في عيادته ولن تعود بحاجة اليها،وشدد على ضرورة ان لاتشعر بالخوف إذا ما وجدت انتفاخا في نفس  مكان العملية بعد رفع الانابيب لان الانتفاخ يعني ان السائل الذي كان يفرزه الجسم والذي عادة ما كانت تستقبله الغدد اللمفاموية  قبل العملية قد بدأ يتجمع تحت الجلد طالما لم يعد لديها غدد لمفاوية لتستقبله،وسيكون حجم الانتفاخ حسب  كمية السائل،وبعد مدة زمنية تتراوح ما بين شهر او شهرين سيتوقف الافراز نهائيا. 


بقدر ما كنتُ واثقا من معرفتي بادق التفاصيل المتعلقة بشخصيتها،خاصة ما يتعلق بطبيعتها النفسية،الا اني بعد خروجها من المستشفى وجدتني في كثير من اللحظات وكأني امام امرأة اخرى اجهل ردود افعالها،وعليّ ان ابذل جهدا حتى استوعبها واتقبَّل مزاجها. ازاء هذا الحال اصبحت  امام خيار مزدوج،فمن جهة كان علي ان اراعي وضعها المعقد ومن جهة ثانية كان لابد من ادلف الى داخلي واشرع في تثليم مزاجي الذي يتسم بالحِدّة،خاصة عندما اتعرض لضغط ما.


لم افكر بالتراجع عن مسؤوليتي تجاهها ولو بخطوة واحدة الى الوراء،بل ازددتُ اصرارا على المضي فيها حتى آخر الشوط، رغم ادراكي لثقلها.وبدأت احاسب نفسي اذا ما داخلني اي شعور بالانزعاج كلما نظرت اليها ووجدتها مثل زهرة قد مالت اوراقها الى الذبول،بعد ان كانت تفيض صحة وحيوية وهي تعمل طيلة ساعات النهار حتى يكون بيتنا واحة آمنة نلوذ بها بعد مشاق العمل، فعاهدت نفسي على ان اكون حذرا في تعاملي معها حتى لا أُسبِب َ لها آلامَاً جديدة فوق الآلام التي تتحملها.وازاء ذلك كان عليَّ ان اخوض معركة مع نفسي حتى اتمكن من هزيمة نزقي لاستيعاب اي صدمات قد تواجهني في  دوران الايام القادمة وحمولاتها المعبّقة برائحة المطهرات والكيميائي واشعة الليزر وهي تحاول اجتياز محنتها،وإلاّ ستضعني التجربة امام عجلاتها وتسحقني اذا لم اكن معها في كل خطوة وعلى قدر كبير من ضبط النفس.


هناك حدود لكل شيء،ومن غير المعقول ان تكون الاشياء سائبة في الفراغ بما في ذلك مشاعر واحاسيس الانسان،وما يشعر به من تحولات نفسية نتيجة ما يواجهه من مؤثرات،والتي ستجعل حضوره الانساني  يتخذ شكلا معروفا به،ولكن هذا الشكل لن يبقى ثابتا طالما يتعرض لضغوطات،فإذا به يخرج عن صورته المعتادة ويصبح شخصا آخر،حتى انك تفقد كل وسائل التواصل معه وتعجز عن مساعدته ليستعيد نمطية شكله الذي يعبِّر عن حقيقته الجوهرية،هذا ما اصبَحَتْ عليه بعد يومين من عودتها الى البيت،حيث بدت متوترة واخذت اعصابها تنفلت لابسط الاسباب. أذكُر انها بينما كانت تجلس صامتة على الكنبة في صالة الاستقبال انتبهتُ الى انها مدَّت يدها ناحية العلبة وهي تتدلى من تحت ثيابها وكانها تعتزم انتزاعها " ماذا تفعلين ؟ " سالتها بعد ان نهضتُ من مكاني واصبحت قريبا جدا منها وامسكتُ بيدها " لم اعد احتمل هذه العلبة والانابيب " كانت نبرتها تشير الى انها كانت تشعرُ بجزع كبير، فما كان مني إلا ان اعيدها برفق الى مكانها حيث كانت تجلس ." اين ذاك الصبر،واين الايمان الذي كنت احسدك عليه  واين هي الحكمة ؟ ". وكأنها لم تسمعني فإذا بها تحاول مرة اخرى ان تمد يدها لتنتزع الانبوبين من العلبة،لذا كان لابد من ابذل جهدا كبيرا وانا احاول اقناعها بخطورة ذلك،معيدا عليها كلام الدكتور بان هذه  الانابيب مع العلبة سيتم التخلي عنها نهائيا في نهاية هذا الاسبوع ،ومن بعدها سيتولى الدكتور بنفسه سحب السائل المتجمع بواسطة سرنجة خاصة كل يوم اويومين.ومع ذلك عجزتُ عن اقناعها،ولما وصلتُ معها الى طريق مسدود،وخشيةً من ان ترتكِبَ خطأ ما بسبب مزاجها الذي امسى متعكراً ولربما يؤدي بها الى انتكاسة صحية،كان لابد من اللجوء الى حل واقعي آخر،فاضطررت الى الاتصال بشقيقها الاكبر عبر الهاتف مستنجدا به،لعله ينجح في ان يطمئنها،نظرا للعلاقة القوية التي تربطهما معا.


لاتعادل ثقل تجربتي مع مرضها سوى الفترة التي استُدعِيتُ فيها لاداء الخدمة العسكرية في ذروة ايام الحرب العراقية الايرانية،فما أن تخرجت من الكلية فإذا بي وجها لوجه امام عربَدتها وعبثها وسخريتها،وبسببها عشت ظروفا لم اكن اتخيل ان اعيشها،ومنها ما كانت استثنائية عنها لظرافتها،فمازلت اذكر اول يوم لي في الجيش،عندما سلمني النائب ضابط المسؤول عن المذخر،ملابس عسكرية جديدة مغلفة بكيس من النايلون مع بسطال،فعدت بها الى غرفتي في الفندق الذي اقمت فيه مؤقتا في العاصمة بغداد،وكان يتوجب علي ان انهض في تمام الساعة الرابعة صباحا لاستقل الباص من ساحة الميدان حتى اصل معسكرالتاجي في الخامسة ولا أتأخرعن التعداد الصباحي في ساحة العرضات.ولما استيقظت من النوم وارتديت ملابسي العسكرية لم اتمكن من معرفة الطريقة الصحيحة لربط الشريط الخاص بالبسطال،وبقيت في حيرة من امري،فما كان مني إلاّ ان اطرق باب الغرفة المجاورة التي كان يقيم  فيها صديقا قديما من ابناء مدينتي كان قد سبقني بعام واحد في اداء الخدمة العسكرية،فطلبت منه ان يعلّمني كيفية ربط الشريط . للوهلة الاولى بدا طلبي بالنسبة له مزاحا سمجا في تلك الساعة المبكرة، حيث الظلام مايزال يخيم على بغداد،ولمَّا اكدت له باني حقيقة لااعرف،اطلق ضحكة بصوت عالٍ،وما ان انتبه الى ان معظم رواد الفندق مازالوا يغطون في النوم حتى كتمها بسرعة بعد ان ضغط بكفه على فمه،ثم مدَّ يده وامسك بفردتي البسطال وقال لي"تنقصك الكثير من الخبرة في الحياة،وستواجه اياما صعبة طالما لاتعرف كيف تربط شريط البسطال".


يتبع ..

29
ج 4  -  اكتشاف الحب:اوراق من مدونتي الشخصية



مروان ياسين الدليمي


إستيقظتُ في تمام الساعة السابعة صباحا،وفي الحقيقة لم يغمظ لي جفن حتى بانت اولى خيوط الفجر من خلف زجاج النافذة في غرفة النوم،وعلى الاكثر لم انم سوى سويعات من الزمن قبل ان يطوي الغسق بساطه ويرحل بهدوء مثل بقية الايام بعد ان سقطتُّ صريع الاعياء من دوامة التفكير بالعملية الجراحية التي ستجرى يوم غد.اذكرُ جيدا كم بذلت من جهد ذهنيٍّ ونفسيٍّ وأنا أحاول استمالة النوم الى جانبي علَّه ياخذني معه في رحلة بعيدة استسلم فيها الى حالة من الخَدَر والانفصال عما انا فيه من اكتواء داخلي لكن محاولاتي فشلت،وبقي الارق والقلق يستهزئان بي ويسامراني رغما عني ويطردان النعاس عن جفني،حتى اني استعنت بكل الالعاب التي سبق ان تعلمناها في طفولتنا إذا ما ارغمَنَا اهلنا على ان نأوي الى اسِرَّتنا حتى ننام،مثل ان نعدَّ قطيعا من الخراف،ولن انسى في تلك الليلة انني اخطأت في العدِّ اكثر من مرَّةٍ،فكررت المحاولة من جديد ولكن دون جدوى،حتى ان الخراف خلدت للنوم بينما بقيت انا صاحيا،وماانفكت الافكار تداهمني مثل اشباح وهي تعبث بي في ظلمة الليل،كانت تدور في رأسي عابثة بي،وعجزتُ عن طردها بعيدا عني حتى شعرت برأسي يكاد ان ينفجر وانا اتارجح مابين حقول تبعث على التفاؤل وبِركٍ رمادية من هواجس اخذت دائراتها تضيّق شيئا فشيئا من حولي.احسست وكأني قد انشطرت الى نسخٍ طبق الاصل عنّي،كل نسخة تتحرك باتجاهات مختلفة وتتقاطع في ما بينها فتصطدم مع الاخرى،فإذا بي اقع فريسة دوامة من المشاعر المتضارية تحت ضغط  تخيلات موجعة كانت قد فتحت في روحي ممرَّاً نحو المجهول ولهذا غادرت السرير مرتين في محاولة للتحايل عليها،في المرة الاولى جلستُ في غرفة الاستقبال وفتحت جهاز الموبايل وبدأت اتصفح المواقع الالكترونية ثم مررت على صفحتي في موقع الفيس بوك وتويتر ولكني لم اعِ  ما افعل،لاني كنت شارد الذهن تماما عن الصور والتعليقات التي امررها امامي بطرف سبابتي بشكل آلي على شاشة الموبيل فكانت تنزلق تباعا دون ان اتوقف امامها او اميزها او افهم مافيها.لم يستغرق ذلك سوى دقائق معدودة حتى اغلقت الجهاز وعدت الى السرير،وفي المرة الثانية خرجت الى المرآب ثم فتحت الباب الخارجي ووقفت عند عتبة الدار،كانت البيوت وهي تتراصف بشكل منتظم على جانبي الزقاق تغرق في سكون ناعم ترسمه أضاءة شفيفة تهمي عليها من اعمدة النور المنتصبة بين مسافات محسوبة على طول امتداد الحي السكني،ولغة الصمت تحتوي الفضاء بحنان،مثل موسيقار يحتضن آلة العود بينما يعزف لحنا صوفيا،ولم يخدش هذا الانسجام الروحي بين تلك العناصر سوى اصوات كلاب كانت تنبح في مكان بعيد،بالكاد يصل نباحها الى مسامعي،تطلعتُ الى النجوم في السماء وحاولت ان اميَّز واحدة عن الاخرى،وتساءلت بيني وبين نفسي كيف كان لجدادنا ان يعرفوا اسماء بعضها وسط هذه الاعداد الهائلة وهي ترصِّعُ قبة السماء؟ ومع اني استغرقت طويلا في تأمل النجوم، لكن لم استطع الافلات من حالة الجزع التي كانت قد تلبستني بسبب عدم قدرتي على النوم،فعدت مرة اخرى الى السرير وقبل ان اغلق باب الغرفة خلفي،استيقَظَتْ زوجتي وسألتني في ما إذا كنتُ اشكو من ألمٍ أو شيءٍ ما،فأجبتها بان ليس هناك مايدعو للقلق،فقط كنت بحاجة للذهاب الى الحَمَّام.ولانها اذكى من ان يقنعها مثل هذا التبرير ردَّت عليّ بما يعني انها تعلم ماهي مشكلتي "تعوّذ من الشيطان واستغفر ربك اكثر مرة،واترك الباقي على الله،فهو ارحم الراحمين". 
غالبا ما فشلت في تمريراكاذيب بيضاء عليها،بعد ان اصبحتُ مثل كتاب مفتوح امامها،فلم تكن تجد اي صعوبة في قراءة ما بين سطوره من كلمات وجُمَلٍ لاتظهر لمن يتمعن فيها،وكم من مرِّة حاولت ان اخفيها عنها على سبيل المزاح،واظن ان هذه الخاصية تنفرد بها النساء عامة عن الرجال،لذلك هي لم  تكن بحاجة الى ان تسمع اجابتي لتعرف بماذا كنت افكر وماذا يشغلني،فالعشرة الطويلة التي بيننا كانت بمثابة مختبر خضعنا فيه لضغوطات وظروف مختلفة،فأنكشفنا لبعضنا البعض،وما عاد هناك من شيء نتستر عليه في ما بيننا،بما في ذلك مشاعرنا وانفعالاتنا الداخلية،وما عاد ممكنا ان نخفيها او نتحايل عليها،حتى اصبح كل واحد منا مرآة للآخر يرى فيه عيوبه واخطاءه ومايحمل في داخله من هواجس واحاسيس مدفونة في اعماقه،ولدي قناعة بما كنت قد سمعته اوقراته لربما في كتاب او مقال من ان العلاقة الزوجية اذا كانت مبنية على المحبة تجعل ملامح الوجه بين الزوجين فيها تشابه كبير حسب ما يترأى للناس وكأنهما توأم.
كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا لمَّا حان وقت مغادرة البيت والتوجه الى مستشفى "ويلفر" في منطق  بختياري،وكان القيظ يتسلل الى مدينة اربيل ليطبق عليها مع الارتفاع الملحوظ في درجة الحرارة. وبينما كانت زوجتي تهمُّ برفع  حقيبة صغيرة عن الارض وضعت بداخلها منشفة وشرشفا خفيفا ومُعطِّرا للجسم ومستلزمات شخصية  اخرى قد نحتاجها خلال اقامتنا القصيرة في المستشفى والتي لن تتجاوز ثلاثة ايام بعد اجراء العملية،تقدَم منها ولدي وقبَّل راسها ويديها وتمنى لها ان تنهض سالمة وتعود بكامل صحتها،وبدورها هي ايضا قبلته من وجنتيه واحتظنته بقوة ولم تستطع ان تحبس دمعة انزلقت على خدها وهي تدعو له بالنجاح وان يطول بها العمر حتى تفرح بزواجه وتحمل ابنه بين ذراعيها،ولاجل ان احتوي الموقف من الانفلات والسقوط في مشاعر عاطفية ملتهبة قد ننجرف اليها ثلاثتنا في تلك اللحظة ونحن في غنى عنها،سحبت ولدي جانبا وطلبت منه ان يبقي هاتفه مفتوحا لربما اتصل به في اية لحظة اذا ما احتجت الى شيء ما من البيت،ولاطمئنه على صحة والدته بعد خروجها من صالة العمليات،ولم انس ان اذكِّرهُ بضرورة ان يستثمر الوقت بمراجعة دروسه وان لاينشغل باي شيء،وان يدعو لوالدته بالسلامة.   
لا أعرف إذا ماكنتُ قد ارتكبتُ خطأ كبيرا بحق ولدي عندما منحته حرية مطلقة ولم ارغمه ابدا على مرافقتنا انا ووالدته كلما كنا نتوجه لزيارة اهلنا  في مدينة الموصل بين فترات متباعدة بعد ان استقرينا في مدينة اربيل عام 2007 ، ولم يكن خروجنا منها الا بعد ان مالت الحياة بكل زاوية فيها  الى فقدان الامن والامان وبات الانسان فيها يسيرعلى حافة السكين،ففي كل ثانية كانت اوضاعها تقترب سريعا من حافة الجحيم لتبتلع كل شيء جميل كان ينادينا في صباحاتها واماسيها،ولتحل بدلا عنه صور الخوف والتوحش،فتحولت المدينة الى نقطة جذب تستثمرها  المحطات ووكالات الانباء يوميا لصناعة اخبار ساخنة عن حوادث اختطاف المدنيين وتفجير السيارات واغتيال العاملين في الصحافة والاعلام من قبل تنظيم القاعدة وجماعات اخرى لا احد يعرف هويتها.
ثلاثة عشر عاما من الغياب القسري زمن طويل،لم يخطر في ذهني ابدا ان ابتعادي عن المدينة سيمتد بي كل هذه الفترة،وان مشاعر الشوق والحنين اليها ستكبر فيَّ وتنال مني في موضع لم اكن قد وضعته في حساباتي،فقد وصلت العلاقة بين ابني وبين الموصل الى مرحلة الاغتراب الكامل،ولم يعد يجمعه معها سوى خيط واهن،ربما اشبه بقطرة ماء ما ان تلوحها اشعة الشمس حتى تختفي ولاتترك خلفها اي اثر يشير اليها،فهو لايعرف عنها اي شيء،ولايرتبط مع شوراعها وازقتها ومعالمها البارزة باي عاطفة،لانه لم يزرها ويتعايش معها ولااشك ابدا في انها لا تخطر على باله مطلقا لولا انه دائما ما يجدها ترد على لساني بشكل عفوي من غير قصد مني،فأنا من غير الممكن ان اتحدث عن نفسي وتجاربي في الحياة دون ان اذكرها،لان طفولتي وشبابي والشطر الاكبر من حياتي قد انسابت اليها ملامح هذه المدينة  في كل تفصيلة،فلا استطيع ان اتخلى عنها بارادتي او بغيرها،ومن غير المكن ان يتخلى الانسان عن دمه وجلده وذاكرته،وكم اشعر بالحزن عندما اجده لايذكر منها سوى صور باهتة تعود الى السنة الاولى والثانية من دراسته في المرحلة الابتدائية انمحت الكثير من تفاصيلها مع تقادم السنين.
كلما خلوت الى نفسي دائما ما اتمنى ان تعطب شرايين ذاكرتي وتتوقف تماما عن ضخ الحكايات من ينابيع ماضيِّ الذي تركته خلفي،فلامهرب لي منها ومن شبحها الذي يطارني مثل ظلي،وما ان ترصدني احيد عن  يقظتي وعما اراه واتفاعل معه في حياتي اليومية  من موجودات وحيوات واشياء حتى تقفز وراء المقود وتتحكم بدوران عجلة الزمن،وهكذا فَعَلَت ما ان استقلينا سيارة الاجرة وانطلقت بنا نحو المستشفى فشرَعَت تطلق سيولا من الامطار تنهال على روحي من سحب الامس ونسج حكايات  بخيوط الماضي لها رائحة المرمر الموصلي في حياتي العائلية.لكني لم ارد لها ان تستمر في لعبتها العاطفية التي تشبه عملية جلد الذات،فالوقت الحرج الذي أمرُّ  بِهِ لامجال فيه للانفتاح على اوراق الماضي الجميل وتصفحها،ولهذا راهنتُ على هزيمتها بالثرثرةِ،بسؤال السائق مثلا عن اسباب ارتفاع اسعار السيارات ؟او هل كانت  في العقود الماضية محطة للقطارفي مدينة اربيل ؟ فالمهم ان نتحدث وليس مهما عن ماذا نتحدث،وما إذا كان حديثا جادا ام مضيعة للوقت،بل المهم ان افلح في اعتقال الذاكرة ونفيها بعيدا عني في تلك الساعة .   

فتحتُ باب الغرفة التي خُصصت لنا في المستشفى وكان الى جانبي اثنان من زملائي يعملان معي في القناة الفضائية "محمد خيون وهلو جباري" اصرّا على ان يتواجدا معنا ويقفا الى جانبنا اثناء اجراء العملية،لانهما كانا على علم بأن ليس لدينا اقارب يسكنون في اربيل،ومازال اهل زوجتي واهلي يقيمون في مدينة الموصل،ولن يتمكن اي واحد منهم  من مغادرتها بعد ان سقطت تحت سلطة تنظيم الخلافة وهذا ما ضاعف لدي الاحساس بالوحدة والاغتراب في تلك الساعة،وليس اقسى من ان يجد الانسان نفسه وحيدا في محنته خاصة عندما تضعه الظروف رغما عن ارادته في موضع الغريب فلايجد احدا يحيطه من اهله واقربائه واصحابه مع انهم على بعد خطوات منه،فكيف به اذا كانت اعز اماله معلقة بين الحياة والموت. لم استطع ان ازيح نظري عنها وهي تجلس على حافة السرير مستسلمة لقدرها،وبين هنيهة واخرى كانت تغمض عينيها وتصدر حركة موضعية خفيفة عن شفتيها المطبقتين،فكُنتُ على يقين من انها  تُردِّدُ بينها وبين نفسها ادعية أوتقرأ ايات من القران، مثلما اعتادت ان تفعل دائما،ومن ناحيتي ترسخ لدي يقين بان الايمان باعتباره قيمة روحية داخلية هو بمثابة ذاكرة الانسان الحقيقية التي لاتشيخ،ولن يقوى الزمن على تدميرها،وهي التي تؤكد حضوره الانساني،وبغيابها لاوجود له،وكم تمنيت ان يلمسني مثل هذا الايمان،وان اقضي حياتي سائرا في طريق واحد لا احيد عنه طالما يحقق لي اطمئنانا داخليا وشعوراً بالاكتفاء من هذه الدنيا،ويشعرني بالسعادة والرضا مهما تبدلت الاحوال وضاقت السبل وشح الرزق وقد ايقنت من ذلك من خلال اصرارها على ان تستيقظ يوميا في تمام الساعة الرابعة صباحا منذ ان تزوجنا قبل ربع قرن ثم تبدأ بقراءة القرآن مدة لاتقل عن ساعة من الزمن قبل ان تؤدي صلاة الفجر لتعود بعدها الى النوم.ولااعرف حتى الان لماذا لم احاول ان ادخل هذه التجربة لاكتشفها واعيش رعشتها الروحية ؟ ربما لان قناعتي بمسالة الايمان الروحي اكبر من ان تُختَزل بطقوس وشعائر،فالمهم بالنسبة لي ان يشعر بها الانسان من الداخل باعتبارها شعورا ذاتيا وليس مجرد تواصل مع قوة  فوقية خارجية،لانه إذا ما غاب الداخل فلن يشعر الانسان بالاطمئنان الروحي والانسجام خارج ذاته،وسيداهمه الشعور بالوحدة اينما كان،سواء كان بين جموع المتعبدين او بين اهله واصحابه.وبينما كنت ارصدها وهي مازالت تغمض عينيها وتطبق شفتيها وتردد مع نفسها ما يعزز في داخلها الشعور بالقوة ازاء الضعف الجسدي الذي بات يقتات منها،كنت اقلب الافكار مع نفسي وانا احاول ان احطم مصداقية ما توصلتُ اليه واؤكد عجزه عن الثبات امام الجسد ساعة يسقط  في ضعفه،وهذا ما جعلني اشعر بان مسؤوليتي باتت  اكبر حتى لاينتصر الجسد بضعفه على الروح السامية.
فُتح باب الغرفة من قبل اثنان من العمال اظنهما يحملان الجنسية البنغلاديشية ثم دفعا بهدوء الى وسطها سريرا يتحرك على عجلات،واستأذنا من زوجتي ان تستلقي عليه وان نغطيها بالبطانية التي جلبناها معنا من البيت وكانت قد وضعتها الى جانبها على السرير في الغرفة،وهذا يعني ان موعد العملية قد حان.فلم استطع لحظتها السيطرة على مشاعري وعجزت عن لملمت ما تبقى لدي من قوة لضبطها،فخنقتني عبرة بذلت جهدا حتى اتحكم فيها،ولم اجد نفسي إلاَّ وانا اتقدم نحوها واقبل راسها وادعو لها ان تنال العافية،بينما هي بقيت هادئة مستسلمة ولم يصدر عنها اي اشارة على انها كانت خائفة،واكتفت بان امسَكَت كفي وضغطت عليها بقوة،ثم سمعتها تردد بصوت خافت احمد الله على كل مايكتبه،والى ان وصلنا باب المصعد حيث سينزلونها الى صالة العلمليات الكائنة تحت الطابق الارضي كنت ممسكا بكفها،وبعد ان دفعا العاملان بالسرير الى داخل المصعد،انتبه احدهما الى اني تحركت خطوة للامام في اشارة على انني كنت عازما على مرافقتهم فأتى بحركة من يده بمعنى انه لايُسمح لي وان علي ان الانتظار حتى الانتهاء من العملية .   

بعض الاحداث التي نمر بها ونكون طرفا فيها او احد شخوصها الرئيسة سرعان ما تتحول الى قصص تحمل بين طياتها دلالات لم ننتبه اليها عند وقوعها،وقد لانلتفت ابدا الى اهميتها،ونتعامل معها كما لو انها ليست الا ضمن ما يمر بنا في نهر الحياة اليومية من احداث كثيرة عابرة،فإذا بها قد استحالت الى تجربة مثيرة ما ان تصبح جزءا من الامس،فيحلو لنا ان نستعيدها رغم اننا عشناها وكنا خاضعين تحت ضغط مشاعر تتوزع مابين القلق او الخوف او الشعور باننا قد اقتربنا من حافة الهزيمة،وكان حرصنا شديدا على ان نخفي عن الاخرين كل مايدور ساعتها في دواخلنا من افكار وهواجس،لكنها بعد ان تطوى وتصبح تلك الاحداث رهينة الماضي فإذا بنا نكتشفها من جديد كما لو انها شريط سينمائي مؤثر نتابعه بشغف ونحن مشدودين اليه بكل حواسنا،نتابع نمو احداثه وتطورها وما تواجهه الشخصية الرئيسة من تحولات في مسار حياتها،ومن الغريب ان  يسري في داخلنا احساس اخر غير الذي كنا قد مررنا به لما كانت التجربة تلقي بنا في مرجلها، فيحلو لنا ان نسرد ما مررنا به امام الاخرين بينما لم نكن نشعر بالمتعة عندما كنا جزءا من الحدث ساعة وقوعه،هذا ما خطر في بالي وانا استعيد ماكنت عليه خلال ثلاث ساعات بينما كنا جالسين في الغرفة ننتظر انتهاء العملية الجراحية،مع ان الطبيب الجراح جمال غفوري لما سالته عن الوقت الذي سوف تستغرقه اخبرني بانها لن تتجاوز اكثر من ساعة ونصف من الزمن،فما كان امامي من حل للخروج من حالة القلق الا ان الجأ لاستهلاك الزمن بالحديث والدردشة مع زميليَّ المصور محمد خيون ومقدم البرامج هلو جباري،ولكن دون جدوى،فقد كانت مخيلتي تهرب بعيدا عن الغرفة وتجتاز الجدران والطوابق الاربعة لمبنى مستشفى ويلفر ولم تكن تحتاج الى ان تستعين بالمصعد للنزول الى صالة العمليات القابعة تحت الارض،ورغم جنوحها الا انها عجَزَت في ان تستحضر وقائع ما يجري هناك لاني لم اكن امتلك الجرأة على رؤية الدم،فكيف اذا كان المشرط يتوغل في جسد شريكتي الوحيدة في الحياة .كانت عقارب ساعتي اليدوية كلما نظرت اليها اجدها ثابتة في مكانها ولاتتحرك، بقيت مشغولا عن احاديثهما وانا خاضع تحت سطوة ذاكرتي التي كانت تنشط في عملها على غير عادتها وفَتَحَتْ صناديق معبأة بمشاهد وانفعالات وهدايا تبادلناها في مناسبات مختلفة وتفاصيل كثيرة مرت في حياتنا الزوجية ،بدأت بالبونط الابيض الذي رأيته اول مرة وهو يطوق شعر راسها،ولم تنتهي الذاكرة من لعبها العبثي الاّ وقد انهكها التعب وهي تنبش ما كانت تخبئه في خزائنها التي لاتنضب محتوياتها. فجأة فُتح باب الغرفة فإذا بالعامل البنغلاديشي،ويالها من لحظة انبثق فيها الخوف ومد اذرعه ليرسم وجهه الثقيل على ذرات الهواء فضاقت الغرفة عليّ رغم سعتها حتى كدّتُ ان اختنق،ولكن ما أن رسم على وجهه ابتسامة خفيفة وهو يردد"الهمد لله "حتى  استعدت قواي التي كانت قد تراخت قبل لحظات وما كانت قدماي قادرة على ان تحملني،ثم اشار لنا ان نتبعه فخرجنا خلفه مسرعين الى الممر باتجاه باب المصعد الذي كان مفتوحا بينما كانت ترقد ممددة على السريرالمتحرك ومغطاة ببطانية حتى كتفيها،وترآى وجهها لي شاحبا بعد ان فقد نضارته تماما،وما أن لمحتني حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة واهنة وكأنها حاولت ان إنتزاعها بمشقة بما تبقى لديها من قوة، ورافقتها هزة خفيفة من راسها اشارة على انها قد اجتازت اول عتبة في محنتها. تعاونّا جميعا في رفعها من على السرير المتحرك بعد ان أمسكنا بالاطراف الاربعة للبطانية التي كانت تحتها ونقلناها على سريرها في الغرفة،واثناء عملية رفعها وجدتها تنظر لي  بعينين مجهدتين،كان لدي احساس لايخطىء بما يدور داخل راسها من افكار،وايقنت بانها تريد ان تقول لي  نفس الجملة التي طالما كانت ترددها امامي منذ أن اصيبت عام 1999 بمرض الروماتزم بعد ستة اشهر من ولادة ابني محمد الطيب " يامروان،مالذي يُجبرك على الاستمرار مع امرأة مريضة بالكاد تمشي على قدميها من شدة المرض،وها هي اليوم بعد العملية الجراحية قد اصبحت نصف امرأة  ؟" .   
 تابع . .

30
ج3   اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

                                         
مروان ياسين الدليمي

مالذي يدفعنا الى ان نقتسم مع الاخرين عذاباتهم بمحض ارادتنا ؟
ونحن نغادر عيادة الدكتور كاروان اقتحمني هذا السؤال على حين غفلة،دون ان يطرق الابواب التي يتحصن خلفها ذهني،كانت محاولة يائسة لاستدراج الحكمة الى عتبة تفكيري الذي هيمن عليه التشوش ، علَّها تكشف ببلاغة اختزالها للتجارب،ماتخبئه الحياة بين سطورها من اجابة تطمئن ذاتاً امست اسيرة مساحة ضيقة جدا رسمها القدر كعادته،دون ان يمهد لها بانذار مبكِّر،ذاتٌ كان الامل يتصارع ببسالة في داخلها ضد مشاعر الخوف والقلق،فما كان منها إلا أن تلجأ الى الاستغراق في داخلها،لعلها تتلمس في ضباب الطريق بزوغ روحها،من بعد ان مالت اوراقها الى اليباس،ومع اني بحثت في ذهني عن اجابة غير متكلفة بين قصائد لشعراء مثل ويتمان وييتس،اضافة الى روائيين يتقنون الكشف عن مشاعر الحب مثل ايزابيل اليندي واليف شفق إلاَّ اني في ذات اللحظة كنت مشغولا بحماية العلبة الزجاجية التي كانت تحوي بداخلها خزعة الانسجة التي انتزعها الدكتور كاروان،وكان من العبث ان اسمح لخيالاتي ان تذهب الى ابعد من الاهتمام بها،لذا احتويتها بذراعي اليمنى واسندتها الى صدري حتى اتفادى سقوطها على الارض،رغم ان وزنها ثقيل الى حد ما،لانها كانت معبأة بمحلول خاص للحفاظ على العيِّنة من التلف لاجل ان نصل بها على وجه السرعة الى المختبرالذي يبعد مسافة لاتزيد عن خمس دقائق بالسيارة،ولزيادة الحفاظ عليها تم احاطتها بمادة سميكة من الفلين ثم غُلِّفت بطبقة من ورق الالمنيوم الخفيف. لذا ايقظتُ كل حواسي لتفادي اي احتمالات مفاجئة قد تصادفني دون انتباه مني خاصة وانني كنت خاضعا بكل كياني تحت تأثير الحدث الذي اخرجنَا عنوة انا وزوجتي وابني عن سياق حياتنا العائلية البسيطة،فكنت حذرا من أتعثَّر أو اصطدم بشخص او شيء ما اثناء مسيرنا،لذا لم أبال بالألم الذي بدأ يزحف على ذراعي اليمنى نتيجة ما اصابها من تشنج وانا احمل العلبة بحرص شديد،ولم اكن قادرا على تحويلها الى ذراعي الاخرى لانها لم تكن طليقة بل كانت ممدودة بشكل افقي لتحيط بكتفي زوجتي التي مازالت تشعر بالاعياء،وبسبب ذلك لم تكن قادرة على السير بمفردها دون ان تتخذني سندا لها.

ما أن خرجنا من العيادة واصبحنا بمواجهة الشارع العام الذي كان مزدحما بحركة السيارات المسرعة ذهابا وايابا انزاحت غيمة السؤال بعيدا عن ذهني وتوقفت دوامة التنقيب في ارشيف الذاكرة بحثا عن اجابة شافية لسؤالي الداخلي .
انتبهتُ الى سيارة اجرة اخذت تبطىء في حركتها وهي تتجه نحونا حيث وقفنا عند حافة الرصيف،وما ان احنيت جذعي وممددت راسي باتجاه نافذتها لأدلَّ السائق على المكان الذي ينبغي ان يتوجه بنا اليه، بدا الرجل وراء المقود بشعرِ راسه الابيض القصير بحدود العقد الخامس من عمره . وضعتُ العلبة الزجاجية بحرص شديد على المقعد المجاور له واستأذنته بأن يتكرّمَ ويضع يده عليها باحكام حتى لاتتزحزح عن مكانها وتنقلب،ثم استدرت لاساعد زوجتي حتى تجلس في المقعد الخلفي،ثم عدت لاجلس الى جانبه بعد ان رفعتُ العلبة عن المقعد ووضعتها في حضني ثم طوقتها بكفيَّ .

في طريقنا الى المختبر حاولت ان اشحذ مخيلتي لتسعفني بوسيلة ما لربما تعينني ولو بالايحاء على ان اتمكن من ارسال طاقة ايجابية عبر الكلام تخفف عن زوجتي قليلا من وجعها،ولم اجد سوى الثرثرة انجع وسيلة لطرد السحابة الثقيلة التي كانت تخيم علينا داخل السيارة فطرحت على السائق سؤالي الذي لم استطع ازاحته عن ذهني “ما الذي يدفعنا لان نتقاسم مع الاخرين عذاباتهم ؟”.

كانت مفاجأة له ان يُطرح عليه مثل هذا السؤال. وخلال ثوان وجدته يستعيد طبيعته بسلاسة،فقد تعوّد على التعامل مع انواع مختلفة من طبائع البشربحكم مهنته،لكنه بدا سارحا مثلما يتهيأ عادة اي سائق قبل ان يعالج عطلا ما في ماكنة سيارته،وإذا به يرد على سؤالي باسلوب هادىء يشير الى رجل قد عجنته الحياة بمعجم احداثها “والله يا أخي هذه من طبيعة الانسان..لأنه سبحانه وتعالى قد خلق المحبة اصيلة في داخل كل واحد منا،ولولاها لما كانت هناك حياة على هذه الارض،ولاصبحنا جميعا وحوش،لااحد يرحم احد،ولا احد يقف الى جانب احد “.

لم اعد بحاجة الى اكثر من هذه الاجابة العميقة رغم بساطتها والتي جعلتني استعيد ماكان يردده صديقي الممثل المسرحي فريد عبد اللطيف قبل ان يفقد صوته ويغادر الحياة،كان يقول لي اثناء تجوالنا في شوارع الموصل القديمة بعد ان افضفض امامه عن قرفي من الحياة في العراق ورغبتي بالخروج بعيدا عنه “يا ابو الطيّب ما معنى ان نتوق الى النزوح نحو اماكن بعيدة عن صباحات تعودنا ان نستقبل بها الحياة في ازقتنا القديمة،برائحة حيطانها الجصّية التي تذكرنا دائما بجذورنا واحبتها واغانينا وطفولتنا ؟ ما معنى ان تقذف بنفسك في اماكن واسعة بعماراتها الشاهقة وجسورها العملاقة وهي تبدو مثل متاهة اذا كانت المساحة الصغيرة التي وجدتَّ نفسك تتحرك ضمن حدودها مُذ ابصرتَ نور الحياة قد منحتك السعادة التي دائما ما يرجوها الانسان ؟ “. ثم يتوقف هنيهة ليشعل سيكارته ويعاود استرساله . “صديقي ابو الطيّب،نحن نبتة لاتعيش خارج هذا المكان الصغير والجميل،وهذه الارض منحتنا روحها فكيف لنا ان نبتعد عنها ؟ كما اننا انسجمنا معها ومع العالم المحيط بنا،مِن اهل واقارب واصدقاء وجيران ووجوه كثيرة اخرى لانعرفها،لكننا تعودنا على رؤيتها في شوارعها ومقاهيها وازقتها ومكتباتها ومسارحها وصالات السينما فيها،في منطقة الميدان وشهر سوق وشارع فاروق والدواسة والسرجخانة وباب البيض وباب لكش وسوق العطارين واصبحت كل هذه التفاصيل والاماكن جزءا منَّا لانستطيع الانفكاك عنها،وسبب جوهري في عشقنا للحياة”.

داخلني شعور لطيف كنت بحاجة اليه بعد ان جعلتني إجابة السائق استعيد جانبا مهما من ذاكرتي مع صديقي فريد التي يسعى الزمن الى محوها،وما اعجبني من حكمة السائق انها انسابت بسهولة على لسانه بينما كانت يده اليمنى تمسك بالمقود والثانية تستقر على حافة الباب وعيناه تراقبان حركة السيارات على جانبي الشارع عبر المرآة،مع ان عبارته قد اختزنت ببساطة مفرداتها،الحقيقة التي نلهث خلفها ونستهلك اعمارنا للامساك بها،لكنها غالبا ما تنساب بسلاسة على لسان بسطاء الناس ممن لاتربطهم اي صلة بعالم الكُتب،فالحياة بكل تعقيداتها وما يطرحه ازاءها الفلاسفة والمفكرون والشعراء من اسئلة مُربكة،بالنسبة لهؤلاء تبدو مجرد اخذ وعطاء متبادل بين البشر انفسهم،وبينهم وبين الطبيعة وبقية المخلوقات من شجر وماء وتراب وحيوانات،وليس في كل هذا التكوين والموجودات مايدعوهم الى الشعور بالوحشة والاغتراب رغم مايكابدونه من اجل توفير لقمة العيش لهم ولاطفالهم،وهم ليسوا بحاجة الى ان يتقنوا حرفة التلاعب بالكلمات حتى يعبِّروا عما يشعرون به،لان الكلمة عندهم مقارنة مع الفعل اعجز من ان تقوم بدور الوسيط في ما بينهم.

تفحصت جيدا ملامح السائق،وهو ينظر بحذر الى الامام ويراقب بزاوية عينيه عبر المرآتين الجانبيتين حركة السيارات،كانت التجاعيد في وجهه وجبهته اشبه بحكايات مفتوحة على ايام وليالي طويلة تمخضت عن دأبه اليومي وهو يدور في طرقات المدينة بحثا عن الرزق المدفون في شرايينها،وفي لعبة هي اقرب الى الحظ منها الى السعي والاجتهاد كانت تقذف له باصناف من البشر،بينهم قتلة ومحتالون وشرفاء وضعفاء وعاجزون وناقمون ومرتشون وسماسرة ومعارضون للسلطة وخبثاء،وكل واحد منهم له خزين من الحكايات التي يحتمي باسرارها ويحتفي بها،وما أن يجلس في السيارة حتى يسرد منها ما يشاء،ساعة يكون فرِحا او ممتعضا او مخمورا،وقد يحاول البعض منهم من خلالها استدراج الاخرين للايقاع بهم .

ابلغني الموظف المسؤول في مختبر زرع العينات بعد أن سلَمتُه العينة التي تحتويها العلبة الزجاجية بان التقرير سيكون جاهزا لاستلامه بعد يومين،اي في مساء يوم الاربعاء الذي يسبق يوم اجراء العملية،ولما همست له بان هناك توصية تخصنا من قِبلِ الدكتور جمال غفوري،اخبرني بانه يعلم بذلك لان الدكتور قد اتصل بنفسه قبل قليل عبر الهاتف بالدكتورة امل المفتي مديرة المختبر وذكر لها الاسم الثلاثي لمريضتكم وأكد على ضرورة ان يصل تقرير فحص عيِّنَتِها قبل موعد العملية،لان اي تاخير سيتسبب بتاجيلها،وهذا غير ممكن لانه ليس بصالحها .

كانت الساعة تشير الى الثامنة مساء والليل القى بغلالته السوداء على نهار المدينة بينما كنَّا في طريق عودتا الى البيت.اما سائق التأكسي فقد رفض ان اجلس في المقعد الخلفي الى جانب زوجتي وطلب مني ان اجلس في المقعد الامامي الى جانبه،في حينه لم اطل الجدال معه،لاني اعلم بأن هذا عرف راسخ لدى كافة سائقي سيارات الاجرة في العراق،ومن الصعوبة بمكان تغييره،ومراعاة للحالة النفسية التي كانت عليها زوجتي لم اتورط معه في جدال،ولكني بعد ان جلست على المقعد الى جانبه،قررت ان اجس نبضه وأخرمش باظافر الحوار وجه الاعراف،لاني كنت بحاجة الى ان افضفض عن امتعاضي من هذا السلوك القمعي التي اعتاد السائقون فرضه على الركاب،وفي حقيقة الامر كنت ابحث عن وسيلة لتفريغ ما تكدس بداخلي من مشاعر اختلط فيها الالم والغضب والوجع خلال الساعات الماضية.وما ان وجدتُ السيارة تقطع مسافة قصيرة من الطريق التفتُ اليه ووجهت له سؤالا عبأت فيه ما احمله في داخلي من غضب”لماذا ترفضون ان يجلس الراكب في المقعد الخلفي،حتى لو كانت معه امه او شقيقته او زوجته المريضة التي ربما تحتاج الى ان يكون الى جانبهاوتصرون على ان يجلس في المقعد الامامي الى جانبكم ؟ .

وإذا ما اردت ان اكون صريحا فإن سؤالي لم يكن الا قِناعا،احتميت به حتى لاينفرط عقد مشاعري ويفتضح ما كنت اقصده من وراء طرحه على السائق المسكين،فكل ما اردته بهذه المرافعة الخبيثة ان افتح ثغرة أُلقي بحمولتي الثقيلة من خلالها الى خارج روحي وبعيدا عني،حتى يتناثر بين ذرات الهواء ميراثٌ مُتعب، خَلَّفَته لنا هذه الحياة. كنتُ بحاجة الى الاسترخاء،الى العودة بمشاعري الى تلك اللحظات القصيرة والجميلة من اعمارنا،حيث نحتكم فيها الى محبتنا وصفاء سريرتنا،ونستدعيها متى ما نشاء،ونصغي عبرها الى اصواتنا وهي تَنفضُ مثل حبات البَرَد فرحنا الطفولي الذي تعادل اي لحظة منه الوجود كله،ويمكن لنا ان نتخلى عن اي شيء يعود الى حطام هذه الدنيا مقابل ان نستعد تلك اللحظات البريئة من اعمارنا.

لم ينتظر السائق فترة طويلة قبل ان يرد على سؤالي فالاجابة كانت جاهزة لديه.ودون ان يلتفت ناحيتي قال لي بان هذا السلوك يُعدُّ عيبا اجتماعيا،ويحمل انتقاصا من كرامة السائق.! .

كنت متوقعا مثل هذه الاجابة،لذا اردت ان اخذ الحديث الى ناحية اعمق حتى ابتعد به عما هو متداول من مفاهيم، فأجبته بأن المسالة تبدو لي على العكس مما يرى،فأنا اعد ذلك انتقاصا من كرامة الراكب،لانه يملك الحرية في اختيار المكان الذي يجلس فيه طالما يدفع ثمن الخدمة التي تقدمها له،ثم لماذا يا أخي هذا الربط القسري بين الكرامة الشخصية والجلوس في المقعد الخلفي ! ؟ . عند هذه الملاحظة انتهى الجدل بيننا.فقد اكتفى السائق بالالتفات ناحيتي وكانت عيناه تحمل اشارة سخرية مما سمِع ،ثم عاد لينظر امامه مكتفيا بالصمت،ولعلي خمَّنتُ ساعتها مايدور في راسه من افكار، وأظن لو لم تكن معي زوجتي لأسمَعني كلاما مزعجا،ولربما يوقف سيارته فجأة ليأمرني بالنزول منها لينطلق بها من دوني وهو ممتعض،ولهذا ارتأى الركون الى الصمت بدل ان يرد عليّ.

في العراق للحرية مفهوم خاص دائما ما تتولى السلطة انتاجه،السلطة بمعناها الديني والاجتماعي والسياسي،وهي حرية مزيفة بكل معانيها وصورها،لانها مغلفة باعراف وممنوعات ومحرمات تصل بها حد القداسة،ورغم ما يتكدس على هذا المفهوم من غبار واساطير يتوجب عليك ان تخضع له وتتبارك به شئت ذلك أم ابيت.

في الليلة التي سبقت موعد اجراء العملية الجراحية،جلست لوحدي في غرفتي الخاصة التي ليس فيها ما يميزها من اثاث سوى الكتب المرصوفة على الرفوف الخشبية التي صنعتها بنفسي من باب الهواية لحرفة النجارة . طالت فترة جلوسي الى ساعة متأخرة من الليل،ورغم ماكنت اشعر به من تعب جسدي وحاجة شديدة الى الراحة الا اني قاومت رغبتي في النوم،فتخيّلت نفسي اسير وحيدا في غابة صفراء تخيّم عليها عتمة شديدة ولايسمع فيها اي صوت،ومع ذلك لم اكن اشعر بالخوف،مع ان كل شيء فيها يبدوخياليا،الوانها،اشجارها،والحشائش التي كانت تسحقها قدماي،وحتى القمر لم يكن شكله دائريا بل اشبه بنافذة مستطيلة يخرج منها ضياء بلون اخضر،والحقيقة الوحيدة في هذا المشهد انني كنت ارتدي بنطالا لونه بني وقيمصا ناصع البياض،سبق لي ان ارتديتهما كثيرا وانا ذاهب الى المدرسة عندما كنت طفلا ،لكني اضطررت للتخلي عن البنطال بعد ان تمزّق من عند الركبة على اثر سقوطي على الارض اثناء ما كنت امارس لعبة كرة القدم مع اطفال الحي.
انتبهت على صوت زوجتي الواهن وهي تناديني بينما كانت تقف عند المغسلة تنظف اسنانها بالفرشاة،وتعيد عليَّ وصيتها بان احاول الاتصال باهلها في مدينة الموصل واخبرهم عن موعد العملية يوم غد وبقية التفاصيل المتعلقة بالمرض،لانني سبق ان حاولت الاتصال بهم عبر الموبايل قبل ساعة ولم يتحقق الاتصال بسبب ضعف اشارة الشبكة من بعد ان سيطر تنظيم الخلافة الاسلامية على المدينة،كما ان التنظيم فرض عقوبة صارمة على من يتم ضبطه وهو يحمل هاتفا في جيبه تصل الى حد الاعدام بدعوى انه يتخابر مع حكومة بغداد التي يصفها بالمرتدة عن الاسلام .

كان علي ان امنح جسدي قليلا من الراحة وأن لا اطيل من سَهَري لاننا لابد ان نصحو مبكرا حتى لانتاخر عن موعد اجراء العملية.
وقبل ان انهض استعدادا للنوم دخل ولدي الى الغرفة،وطرح علي سؤالا مفاجئا”ستبدأ بعد يوم غد امتحانات البكالوريا،فهل استطيع ان اؤجلها الى الدور الثاني ؟” . سرعان ما ادركت الدافع وراء هذه الرغبة،فالحدث الذي نمر به قد ادخل حياتنا في منعطف حاد،سرعان ما وضعنا امام لحظة بَدَونا فيها كما لو اننا نواجه عاصفة رملية تمنعنا من الرؤية بشكل واضح رغم اننا مازلنا قادرين على السير،ومن الطبيعي ان ينغمس ولدي بهذا الجو المشحون بالقلق والتوجس وهو يرى امه وقد اعياها الخوف،لذا كان من الصعب عليه ان يحافظ على ذهنه صافيا وهو يستعد للامتحانات النهائية،وسرعان ما سيجد نفسه عاجزا عن التركيز اثناء ادائها،بالتالي لن يحصل على المعدل الذي يتيح له دراسة الحاسوب حسب ما كان يرغب. اصبح واضحا اننا فقدنا نهائيا السياق الروتيني الذي كانت بموجبه تنتظم حياتنا العائلية وفق مسار معلوم منذ سنين عديدة وهو الذي كان يمنحها مذاقها الخاص وايقاعها الهادىء رغم الفوضى التي كانت تعصف بالعالم الخارجي وتهز جدرانه وتصيبها بالتصدعات،لذا كان علينا ان نواجه هذه الانعطافة الحادة التي اصابت كيان اسرتنا وان نتفادى نتائجها ونخرج منها باقل الخسائر،ولكي يستوعب ولدي المكان الذي امسينا نقف فيه،وجدت من الاجدى ان اتحدث اليه باعتباره رجلا،حتى أُعيد اليه تماسكه لكن من بعد ان اجعله مطمئنا على صحة والدته،وأن امامها فرصة كبيرة جدا للشفاء بعد اجراء العملية،وان مرضها ليس خطيرا كما يظُن،خاصة وان هناك العشرات من النساء قد مررن بنفس التجربة وخرجن منها سالمات معافات وعدن الى حياتهن الطبيعية والى مزاولة عملهن مثل بقية النساء،فحاولت ان اقنعه بان كل شيء سيكون على مايرام،ولاينبغي ان تذهب به ظنونه الى مخاوف غير واقعية،بل يتوجب عليه ان لايتخلى عن احلامه ولاينشغل باي شيء يعيقه عن تحقيقها طالما مازلنا نشم الهواء ونمد بساط امالنا في امتدادات الحياة الواسعة،فالمشقات من الممكن ان تفاجئنا في اي لحظة،وعلينا ان نتعلم كيفية التعامل معها ومواجهتها والاحتيال عليها احيانا للتقليل من اضرارها هذا إذا لم نستطع قهرها.
وما أن شَعَرَ بانّي قد استوفيتُ ما اردت قوله،تقدم منّي وامسك كفي وقبّلها،ثم قبّل راسي مثلما اعتاد ان يفعل كل ليلة قبل ان ينام .

تابع ..

31

ج2  اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية


                                                               
مروان ياسين الدليمي

يمضي الوقت مثل سيف مسلَّط على رأسَينَا،ولم يكن امامنا انا وزوجتي ثمة متسع من خيارات نحتمي بسواحلها،لان كل الابواب المعبأة برائحة الامل قد أُغلقت،وما عاد هناك من اطلالة ولو كاذبة تحمل لذة الحياة،فما كان لنا الا دخول تجربة الجراحة وازالة الورم السرطاني،بعد ان انعدمت كل الخيارات،وهذا سيفرض علينا ان نتسلح بما تبقى لدينا من قوة منبعها رابطة الحب التي تجمعنا لمواجهة التحولات التي ستصيب حياتنا وتترك اثارها عليها،فبدأنا نُهيءّ انفسنا  لخوض معركة طويلة مع عدو شرس لاينهزم بسهولة،ولن تكون العملية الجراحية خطوتنا الاولى والاخيرة للعبور الى ضفة الامان بقدر ما ستكون عنوانا لرحلة طويلة سنعبر فيها محطات تزدحم فيها الاوجاع والاعراض وبدايتها مع جلسات العلاج الكيميائي الاسبوعية ومن بعدها مرحلة العلاج باشعة الليزر ومن ثم الاستمرار على تناول حبوب التاماكسوفين لمدة لاتقل عن خمسة اعوام .كل هذه المعلومات استطعت ان احصل عليها واخزنها في ذاكرتي من مواقع الكترونية وانا ابحث عن كل ما يتعلق بمرض سرطان الثدي في محرك البحث كوكل،كل ثانية حاولت ان استثمرها لمعرفة اسرار هذا المرض ومايجب علينا ان نفعله حتى لانمنحه فرصة ان يتمدد اكثر،مع انني مدرك تماما بان زوجتى ليس لديها مساحة من الشك  بما يكتبه لها الله،فهي مقتنعة بكل جوارحها ومنصهرة بايمانها مع ارادة الخالق،ولاتسمح لنفسها في ان تنقطع ولو لثانية عن التسليم بهذه المشيئة القدرية،وعلى العكس منها كنت جزعا من نفسي لاني لااملك مثلها هذا الاستشعار العميق بما يمكن ان تمده السما من رحمة ورأفة،واصبحت على يقين بانها ورغم ما ستكابده من آلام لكنها ستتمكن من الوقوف على قدميها. في مقابل ذلك تولدت في داخلي قناعة راسخة بان الانسان يولد مصابا بالعمى ولن يبصر مابين يديه من ايات الحب والجمال في هذا الكون الا بعد ان يحاصره الحزن على فقدان الحياة،انذاك تستيقظ حواسه ليكتشف حقيقة الفرح الذي كان يحيط به.
مهمة العثور على  طبيب جراح يملك خبرة كبيرة تقطع الطريق امام الخوف في ان يعاودنا مرة ثانية ويبعث فينا الاطمئنان امست متاهة تجرفني انا شخصيا وتاخذني بكل الاتجاهات،كنت مثل شخص تائه في درورب مقفلة تتسارع فيها خطوات الزمن ولايبرق منها بصيص امل،فقد رافقني شعور بعدم الارتياح من امكانات الطبيب الذي شخَّص الحالة في ما لو اجرى  بنفسه العملية الجراحية رغم انه طبيب جراح،وهذا الشعور الذي كان اشبه باليقين لم يكن مبنيا على معرفة بامكاناته لكنه نابع من احساس داخلي فرض سطوته علي منذ ان كنا في العيادة،وتعمَّق هذا الاحساس لان اسمه لم يكن مشهورا ولامتداولا بين عامة الناس،اضافة الى اننا في القناة الفضائية التي اعمل فيها كنَّا قد استضفنا العشرات من الاطباء والكثير منهم تحدثوا عن مرض سرطان الثدي واشاروا في معرض احاديثهم الى اسماء معينة من الجراحين من ذوي الخبرة ولم يكن هو من بينهم،فأن تضع حياة شخص عزيز عليك تحت رحمة شخص آخر وبكامل اراداتك فهذا يعني انك سوف تتحمل مسؤولية النتائج،هذه الفكرة لوحدها ارعبتني،واعطبت اخر الخلايا في رأسي عن العمل.
بات الوقت خصمي اللدود،إذ لم يترك لي خيار ترتيب الفوضى التي اصبحت عليها حياتي،وقطع الطريق امام اي فرصة لالتقاط الانفاس،فكرتُ كثيرا بقضية اختيار الجَرَّاح الكفوء طيلة الليلة الماضية بعد ان عُدنا من عيادة الطبيب.
ورغم الارهاق الذي اصابني نتيجة التفكير وعدم استطاعتي النوم الا انني تذكرت زميلة لي كانت تعمل مهندسة بث في القناة الفضائية التي اعمل فيها،اصيبت هي الاخرى قبل خمسة اعوام بسرطان الثدي،واجرَت عملية جراحية ناجحة وهي الان تتمتع بصحة جيدة لكنها تركت العمل في القناة، فكان لابد من العثور على رقم هاتفها ومحاولة الاتصال بها،ومشكلتي انني لا املك وسيلة للتواصل معها.
تملكني احساس يشبه احساس الغريق ما أن يتفاجأ بيدٍ تمتد اليه لانقاذه بعد ان تذكرت زميلتي في العمل مقدمة البرامج فرقد ملكو التي كانت من اقرب صديقات المهندسة، وَلَدَيَّ معلومات عرفتُها منها قبل عدة اشهر تؤكد لي بانها مازالت على تواصل معها وتزورها بشكل مستمر في بيتها ومن الممكن ان ترشدنا على عيادة الطبيب الذي اجرى لها العملية. لم اعد احتمل بطىء دوران عقارب الساعة المعلقة على جدار غرفة النوم وكانت تشير الى الخامسة صباحا،فرجوت بيني وبين نفسي ان تدور باقصى سرعة  لتصل الى التاسعة حتى اجري اتصالا هاتفيا مع المذيعة فرقد .
في السنوات الاولى من حياتي الزوجية التي ابتدأت في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي،وتحت ضغط الحصار الاممي الذي فُرِض على العراق تناسيت مُكرَهاً التلصص على ما تحتويه الكتب من فضاءات معرفية وادبية كانت بتجانسها مع  تطلعاتي تحتويني وتقودني  لاكتشاف عوالم جديدة،كنت منزعجا من هذا الاكراه الذي خَضَعتُ له،تحت عبء ضغوطات البحث عن مصدر للرزق والخوف من السقوط تحت رحمة الحاجة الى الاخرين وطلب العون منهم لمواجهة الجوع،فهبطتُ الى قاع الحياة الى حيث المواجهة مع قسماتها الحادة بكل توحشها بما امتلكه من قوة بدنية متواضعة لاني اعاني منذ ولادتي من اصابتي بمرض فقر الدم،وهذا ما جعلني لااملك الحيوية الجسدية الكافية مقارنة باترابي،إذ سرعان ما تهبط لياقتي مع اي مجهود بدني ابذله،فتحاملت على ما انا عليه من ضعف وطويت عقلي الذي هو رأسمالي الوحيد الذي افتخر به والجَمتُ منابع التفكير فيه الى اشعار آخر،وحشرت نفسي مع القطيع ادور في الدوامة اليومية التي يدور في فلكها العمال والكادحون،وطيلة السنين التي كنت اعمل اجيرا مثلهم  لم يداخلهم الشك في اني لست واحدا منهم،بعد ان اتقنت معجم ولائمهم في التخاطب والتودد والشتائم والعراك،وطيلة وجودي معهم تناسيت نفسي التي اعرفها،وقطعت صلتي بشكل مؤقت مع الحروف والافكار والاسئلة التي كان وجداني يرتوي منها إلاّ اني حافظت على عقلي من الاعوجاج امام خبث المال واساليبه التي تقود النفس الى الاذلال،وكم افزعني ان اخرج من حقيقيتي الجوهري التي كنتُ قد صيَّرتُها بفضولي الدائم الى المعرفة لادخل مُرغما في ما صيرتني عليه الايام،ولتنقلب حياتي وتتداعى خارج عاداتي التي كنت قد عززتُ فيها قناعة راسخة بأن الانسان ليس مجرد خيال عابر بل هو معجزة هذا الكون .
في تمام الساعة الرابعة من عصر يوم  السبت  22 / 5 / 2016 كنّا نجلس انا وزوجتي في عيادة الجراح جمال غفوري في مركز ميديا الخاص بالاورام الخبيثة وسرطان الثدي الكائنة في وسط مدينة اربيل،وهو نفس الجراح الذي سبق ان اجرى العملية لمهندسة البث التلفزيوني.استدار ناحيتنا بعد أن اطال النظر والتدقيق في مجموعة صور اشعة المميوغرام للمنطقة المصابة من الصدر،وهذه الاشعة كانت اجراء اساسي اوصى به الدكتور غفوري قبل ان يبدأ بالكشف والمعاينة لانه سيعتمد عليها في اتخاذ قراره النهائي،فإمَّا ان يجري العملية او سيعتمد اجراء آخر.
كنا في حالة قلق وترقب شديدين بانتظار ما سيقوله،ورجوت من الله في داخلي ان يبشرنا بخبر يبعث فينا ولو شعاع امل بسيط  يؤكد لنا مثلا ان الاشعة خالية من اية اشارة على انها مصابة بالمرض،مع انني كنت مقتنعاً ان هذا مجرد حلم بعيد المنال،إلا انني حاولت ان اقاوم مخاوفي بالتمسك باية ذريعة حتى لو كانت وهماً لاخفف مما اشعر به من مواجع،ولو سألني شخص ما عن حقيقة ما اشعربه في تلك اللحظات لاجبته باني اشبِّهُ نفسي بقصر فخم تحول الى خربة مهجورة . 
كلانا لم نتوقف عن مراقبة حركة يده وهي تُمسك بالقلم وتتحرك على سطور التقرير الذي كتبه طبيب هندي يعمل في نفس المركز مختص بجهاز المميموغرام،وكلما توقَّفَتْ يده اثناء القراءة ليسحب خطاً تحت احدى الكلمات كنت اشعر بأنه قد عثر على معلومة  لاتدعو الى الاطمئنان .
تضاعف شعوري بالخوف ما ان رفع سماعة الهاتف واتصل بالطبيب الهندي وبدأ بالحديث معه باللغة الانكليزية،وفهمت من المكالمة انه يستفسر منه عن كلمة وردت في تقريره.لكنه بعد ان انهى المكالمة الهاتفية نظر الينا وهو مايزال ممسكا بالقلم الجاف..مضت ثوان معدودة بدا فيها منفصلا عما حوله كَمَنْ يحاول ان يُرتب افكاره ليصيغها بجملة واضحة ودقيقة مثل حدة مبضعه الذي يتعامل معه بحذر شديد منذ اربعين عاما اثناء اجرائه للعمليات الجراحية،ثلاثون منها كانت في مستشفيات بريطانية،لانه  ما ان تخرج من كلية الطب بجامعة الموصل حتى سافر الى المملكة المتحدة فاكمل تعليمه وبقي فيها يمارس اختصاصه كطبيب جراح الى ان عاد بعد العام 2003 الى اربيل المدينة التي ينتمي اليها وولد فيها وافتتح مع اطباء اخرين هذا المركز المتخصص لعلاج امراض سرطان الثدي بعد ان وفروا له احدث الاجهزة والمعدات الطبية  .
شعرتُ بشيء من الاضطراب والقلق ما أن وجدته يضع القلم بهدوء على تقرير الطبيب الهندي الموضوع امامه على المكتب،بدت تلك الحركة بالنسبة لي مثل من يريد ان يتخلص من شيء ما ،بعد ان وجد دوره قد انتهى ولم تعد اي فائدة ترجى منه،لكنه سرعان ما بدد خطأ هواجسي لمَّا رسم ابتسامة بانت على جميع ملامح وجهه،واعقب ذلك بجملة وجهها إلينا " اردتُ فقط ان أتأكد من نقاط سوداء صغيرة جدا، كنتُ قد لاحظتها في صورة الاشعة موزعة على الرئتين والكبد،وهذا ما اقلقني،لانها فيما لو كانت خلايا سرطانية سوف تجعلنا نؤجل اجراء العملية الجراحية لإزالة الغدد اللمفاوية والثدي ولنبدأ بدلا عن ذلك في العلاج الكيميائي لإيقاف زحف وتوسع هذه الخلايا الصغيرة،ومن بعد ان نقطع شوطا في ايقافها والقضاء عليها انذاك سنتمكن من اجراء العملية الجراحية،وبما ان الطبيب الهندي قد اكد لي بأن هذه النقاط ليست خلايا سرطانية انما هي حالة شائعة لدى العراقيين نتيجة تلوث الجو بالغبار والاتربة لذلك سنجري العملية بعد ثلاثة ايام،اي  يوم الاربعاء القادم  26 / 5 / 2016 ".
الغبطة سرت في روحي وجسدي وشعرت لحظتها وكأني اطير واحلِّقُ في السماء،ودون تفكير مسبق نهضت من مكاني وأمسكت بكف الطبيب وقبلتها،وفشلتُ في أن احبس دموع الفرح التي غلبتني خاصة بعد ان التفتُ الى زوجتي ووجدتها قد غطت وجهها بكفيها وهي تبكي.فاتجهت اليها واحتضنتها محاولا تهدئتها .كان من الممكن ان تستمر هذه اللحظة المشحونة بعواطف يختلط فيها البكاء مع الفرح  لولا ان طلب منا الطبيب ان نهدأ قليلا لان الوقت ضيق امامنا وهناك عمل لابد ان ننجزه على وجه السرعة خلال اليومين القادمين،واضاف "الخطوة الاولى ستبدأ من الان،إذ يتوجب عليكما الاتجاه فورا  الى عيادة الطبيب كاروان،وهو ليس ببعيد عن عيادتي،وسادلكم على عنوانه،حيث سيعمل على انتزاع عيِّنة صغيرة من انسجة الثدي،ثم تاخذانها مباشرة الى مختبر الدكتورة أمل المفتي وهو قريب ايضا من عيادته لاجل ان يتم زرع العينة لمعرفة طبيعة الورم حتى نقطع الشك باليقين،ونتأكد فيما إذا كان خبيثا أم حميدا قبل البدء بالعملية الجراحية ،ومن ناحيتي ساتصل بالمختبر لكي تصلني النتيجة في صباح اليوم الذي سنجري فيه العملية " .
على وجه السرعة خرجنا من العيادة وكانت عقارب ساعتي اليدوية  تشير الى الخامسة عصرا فاستقبلتنا اشعة شمس  شهر ايار وهي تودع ايامه الاخيرة،وتُذكِّرُنا بما سنشهده في الايام والاشهر القادمة من ارتفاع شديد في درجاتها كما عودنا على ذلك صيف العراق الذي لايشبه في جحيمه صيفا اخر ربما في اي بقعة اخرى من  الكرة الارضية،ومع  كارثة الانقطاعات المستمرة في التيار الكهربائي منذ مايزيد على العقدين من الزمان يتوجب على اي واحد منا ان يعد العدة لمواجهة برمجة حياته واحلامه ومشاريعه طيلة ساعات النهار وفقا لمزاج من يضع خطة تنظيم قطوعات التيار الكهربائي،فهو الذي يحدد لك متى تنام وتصحو ومتى تقرأ وتعمل وتكتب ومتى تلهو وتغتسل،ومتى تشاهد التلفاز،فلاخيار لديك في هذا العراق ان تقرر ابسط الاشياء واهمها وفقا لما تراه انت .
الى حد ما غمرني احساس من يجد نفسه قد خرج توا الى النور بعد ان كان محتجزا في غرفة تسودها عتمة شديدة،ورغم الشحوب الذي اسبغ حضوره وبقوة على ملامح زوجتي خلال الساعات الماضية إلا انني وجدتها قد استعادت شيئا من حيويتها وانقشعت عنها حالة التشنج التي كانت قد امسكت بها وجعلتها على غير طبيعتها الهادئة .
اتجه بنا سائق سيارة الاجرة الى عيادة الطبيب كاروان.وبعد انتظار في صالة المراجعين استغرق اكثر من نصف ساعة أذنت لنا السكرتيرة بالدخول الى داخل العيادة،وما لفت انتباهي اول وهلة هيئته البدينة بشكل مفرط لدرجة لم أكن اتوقع ان ارى طبيبا شابا على تلك الصورة التي لاتنسجم مع مهنته،ولكن رغم وزنه المرتفع كان نشيطا في حركته،كما ان شخصيته تبعث على الحيوية وعلى الانسجام مع المكان رغم رائحة المعقمات والمطهرات التي تشبَّع بها الهواء وكل مافي العيادة من اثاث وموجودات،اضافة الى  قسوة العمل الذي ينجزه والذي يتطلب منه ان يكون على قدر كبير من الجَلَد والصبر نظرا للالم الشديد الذي يشعر به المريض لحظة انتزاع عينة من انسجته بسرنجة خاصة اكبر حجما من تلك التي تستخدم في زرق الابر في الحالات الطبيعية حتى ان المريض لايستطيع ابدا ان يكتم صرخته.
طلبَتْ مُساعِدة الطبيب من زوجتي ان تستلقي على السرير الخاص باجراء العمليات،ثم حقنتها بابرة مخدِّر،بدا الطبيب كاروان يمتلك مهارة كبيرة في عمله وانا اتابعه في كل تفصيلة من التحضيرات التي كان يجريها قبل بدء العملية الى ان يسري مفعول المخدِّر،ثم تقدم نحوها لمعاينتها. وبعد ان تأكد من دخولها حالة الخدر والغيبوبة وانها لم تعد قادرة على ان تعي بما يدور من حولها،غرز الابرة في وسط ثديها وبدأ بسحب عينة من نسيجه بهدوء لكن مفعول التخدير تلاشى ولم يعد له اي تأثير عندما انكسر الصمت الذي كان متراصا مثل قطعة فخار وقعت على الارض،ما ان أطلقت زوجتي صرخة موجعة،ومن المؤكد ان كل الذين كانوا ينتظرون دَورَهم في صالة الانتظار قد سمعوها،فما كان مني الا ان انهض فزِعا واتجه نحوها لامسك بيدها اليسرى وامسد على جبتها وانا اردد على مسمعها بان كل شيء مضى على خير،في  محاولة مني لكي اخفف عنها المها.
الشحوب الذي بصم حضوره القوي على وجهها جعلني اتيقن بان طاقتها قد نفدت منها.فامسكت بكتفيها من الخلف لاساعدها على ان تعتدل بجسدها وتجلس على حافة السرير،طلبت مني ان اساعدها على تعديل غطاء الرأس الذي انزاح الى الخلف. وبعد ان استراحت لبضع دقائق استنَدتْ على ذراعي ونزلت عن السرير وحطت قدميها على الارض بهدوء ،بدت لي وكأنها تقدمت  في السن عشرون عاما فوق عمرها الذي لم يتجاوز العقد الرابع،لم تستطع الوقوف الا بعد ان بذلت جهدا ملحوظا لانها مازالت تحت تاثير المخدر،حتى انها عجزت عن السير بشكل طبيعي،ومن الواضح انها لم تكن قادرة على ان تحافظ على توازنها اثناء سيرها،لذا رَمت بكل ثقل جسدها عليّ.
ولما مررنا بصالة الانتظار قرأتُ سؤالا مُلِحاً في وجوه المرضى ومرافقيهم،كانوا يبحثون فيه عن الاسباب التي جعلتها تصرخ على تلك الصورة المفزعة التي كانت تشي بها عيونههم وهي تتابع سيرنا باتجاه باب العيادة الخارجي .
يتبع ...


32
ج1  اكتشاف الحب:اوراق من مدونتي الشخصية
 
                                                                                   
                                               
مروان ياسين الدليمي 


 
 "لاتكوني على هذه الدرجة من القلق،ومع ذلك،ارجو ان تطمئني بان يوم غد سيكون لنا موعد مع الطبيب".
كانت تلك الاجابة بغاية السخف وبعيدة تماما عما كانت تنتظره وهي على  ماهي عليه من حالة الهلع التي اصابتها حتى بدا وجهها شاحبا وجسدها يرتعش،ولهذا ارتفعت درجة عصبيتها،وبَانَ ذلك في حدة صوتها وهي تُصِر على ان نذهب عصر نفس اليوم الى طبيب مختص،وليس في اليوم التالي مثلما كنت ارغب.
عِشرتنا الطويلة التي تمتد الى ما يقرب من ربع قرن اضافة الى ذكائها كان ذلك كافيا لأن يمنحها ميزة قراءة مايدور في راسي من افكار من غير ان انطق بحرف واحد،حتى لو  تسترتُ باقنعة لاتعكس ما يدور في داخلي من هواجس ومشاعر،فأنا امامها ممثل فاشل لايستطيع ان يتقمص شخصية اخرى،مع انني احتفظ بتاريخ مشرق في عالم التمثيل يحسدني عليه كثير من الممثلين،بعد ان نجحت في تقديم ادوار مُركَّبة مثلتها طيلة فترة الشباب وصولا الى المرحلة التي تألقت فيها بعدد من العروض المسرحية اثناء دراستي للمسرح في  كلية الفنون الجميلة،ولهذا كنتُ على يقين من انها قد ادركت باني لمْ استوعب حقيقة مخاوفها ولم ينل مني حديثها ما يستحقه من اهتمام. ورغم ثقل الهم الذي اصابني فجأة،حاولت بكل ما استطيع ان اتحايل على مشاعري المضطربة حتى ابدو هادئا امامها ما أنْ افصَحتْ عن سبب قلقها،حيث اكتشَفَتْ بنفسها قبل ثلاثة ايام وجود انتفاخ صغير في ثديها الايسر بحجم حبة العدس،وفي حديثها معي الذي كان اقرب الى الهمس،اخبرتني عن فشل المضادات الحيوية التي تناولتها لغرض معالجته،ولهذا اصرّت على ان آخذها الى طبيب مختص بالاورام والغدد اللمفاوية.
انتظرتُ مايقرب ساعة من الزمن قبل ان تنتهي طبيبة السونار من الفحص،كنت خلالها جالسا في صالة انتظار المراجعين وشعور بالاستسلام قد تلبَّسني تماما مثل سجين اقترف جرما وينتظر صدور الحكم عليه ليقضي ما تبقى من حياته خلف القضبان.اخذتني دوامة من الافكار المشوّشة الى مناطق بعيدة من الذاكرة تنقلت فيها بشكل عشوائي في ازمنة مختلفة من حياتي،واحتفَظَتْ بعض المشاهد المُستعادة بقدرتها على المناورة،فكانت تختفي ثم تعاود الظهور مرة اخرى،مثل رؤيتي لها اول مرة في بيتهم عندما تقدمت للزواج منها،وحديث صديقي فريد عن ضرورة الزواج بعد ان تعديت العقد الثالث من عمري،وانها قادرة على ان تمنحني الاستقرار والاطمئنان اللذان ابحث عنهما،لانها من عائلة محافظة،وستجعلني قادرا على ان استعيد توازنني النفسي وتطرد ما تراكم في نفسيتي من بقع موحشة بسبب الشعور بالوحدة والتقدم في العمر،ومثل هذه الانعكاسات المشعة لمشاهد من حياتي الماضية تؤكد لي على ان بعض الذكريات من الصعب ان تفقد بريقها أو تمحى تفاصيلها مهما ابتعدت بنا عجلة الايام واخذتنا مع غبارها الى محطاتها المتناثرة في صحراء الحياة . لفت انتباهي وجود عديد من النساء ينتظرن موعد دخولهن للفحص،ولم يكن من الصعب على شخص مثلي حين ينظر في وجوههن أن لايكتشف ملامح قهرحادة التفاصيل لاعلاقة لها بما يعانين منه من امراض،بل كانت تشي تلك الملامح بقصص مرعبة. لم يخطر على بالي ان اتعمَّد استراق السمع لما يتحدثن به في ما بينهن،لكن مادفعني الى محاولة معرفة فحوى حديثهما ان احداهن توقفت عن الكلام بعد ان غلبتها دموعها التي فاضت بها عيناها،في البدء لم اتأكد بالضبط من اي مدينة قد جئن منها،لكني تيقنت من خلال لهجتيهما ان المرأة الشابة التي بكت من مدينة الفلوجة،اما الاخرى فقد سمعتها تقول انها من قضاء الدُّور التابع لمدينة تكريت.وبينما هنّ مستمرات في  تبادل الذكريات بشكل متقطع وبايقاع بطىء كنتُ احاول احالة كلماتهن الى مخليتي لتعيد تركيب وترتيب الاحداث التي مرت بهن بعد أن استولى تنظيم داعش على المدن التي جئن منها،مع تركيز شديد اثناء عملية التخيّل على ان تكون صور العنف والقتل التي احاطت بهن واقعية دون مبالغة او تعديل في وحشيتها.
ليس شجاعة مني،بل هو شعور اقرب الى الانهيار كان قد دفعني الى ان امارس الخديعة ضد احساس مؤلم بات يسحلني الى حيثما يريد ما أنْ  ظهرت زوجتي خارجة من غرفة الفحص الخاصة بجهاز السونار وهي تحمل بيدها الصورة الاشعاعية،لحظتها انتبهت الى شدة احمرار عينيها،وكأنها كانت تبكي طيلة يوم كامل،وبدت عاجزة عن السير فاحتويت كتفيها بذراعي اليسرى وجعلتها تستند عليّ حتى تتمكن من السير،ولمَّا سالتها عن النتيجة ردَّت بصوت واهن يقطعه صوت بكائها "يوجود ورم صغير جدا،ولكن لايعرف ما إذا كان خبيثا ام حميدا وهذا ماسيحدده الطبيب المختص" حاولت ان اخفف عنها وارفع من معنوياتها التي انخفضت الى درجة الصفر وقلت لها بان من الممكن ان يكون الورم حميدا،ولابد ان تتفائلي،  ولم تكن عيادة الطبيب المختص تبعد سوى بضعة امتار عن عيادة السونار .
خيم صمت ثقيل على ارجاء عيادة الطبيب،حتى انني شعرت بانحسار الهواء منها. حاولت ان انتزع من ملامحه اجابة ترضيني وتبدد ما اشعر به من قلق بعد أن انتبهت الى انه لم يعد محتفظا بتلك البشاشة التي كانت ترتسم على وجهه عند دخولنا عيادته. لم يكن من الصعب أن الاحظ مدى الجهد الذي بذله حتى يجد كلمات مناسبة ليس لها وقع قاس على كلينا.  اعاد النظر مرة اخرى في الصورة الاشعاعية الموضوعة امامه على مكتبه. فبدا شبه تائه لايعرف من اين يبدأ. طيلة الاعوام العشرين الماضية من حياتي الزوجية كنت احسد نفسي على ما اشعربه من احساس قوي بالسعادة رغم ادراكي بان مستواي المعيشي اقرب الى الفقر منه الى حالة الاكتفاء،إلاّ ان هذه الحياة بايقاعها الهادىء اهتزت فجأة مثل غصن يابس امام ريح عاتية. كان الزمن يجري سريعا مثل قطيع  خيول هائجة وهي تركض بقوة هائلة ناهبة الارض بحوافرها،بينما انا كنتُ اقف على ارض رخوة وقدماي تنغرسان في رملها الذي تزداد حركته نحو الاسفل كلما حاولت  الخروج من هذا المأزق قبل ان تصل الخيول وتسحقني . بعد مضي عدد من الثواني لم يجد الطبيب مفرا من أن يرفع رأسه وينظر نحونا،حينها وجدت نفسي كما لو أنني اجلس امام شخص يخرج من تحت الانقاض بهيئة موحشة. خاطبنا بصوت خفيض يحمل نبرة مواساة وتشجيع في آن"من خلال الاشعة،واضح انكِ في المراحل الاولى من المرض " . زوجتي التي تجلس على كرسي بجانبي،بعد أن كانت قد غادرت سرير المعاينة الموجود خلف ستارة بيضاء،ما أنْ سمعت ماقاله وجدتُها تحني رأسها الى الاسفل. لم تستطع ان تمنع نفسها من البكاء بصمت،لكني شعرتُ به اشبه بنحيب حارق يتردد صداه في ارجاء العالم كله .
في ايامي التالية بلياليها،شعرتُ وكأن سكينا تنغرس في صدري بعد أن وجدتُ كل خيارات النجاة قد تلاشت من امامي.وهذا الاحساس كان يتصاعد حِدَّة كلما رأيت ابني جالسا لوحده وهو يحدق في نقطة بعيدة جدا تستقر عند فراغ لاحدود له،يبدو فيها كما لو انه يحاول ان يستجلي ما تخبئه الايام القادمة من احداث ومفاجاءات،وانا ادرك تماما قسوة التجربة عليه ربما اكثر مني لانه لم يزل صغيرا حيث لم يتجاوز السنة الخامسة عشر من عمره،اضافة الى انه الابن الوحيد،والعلاقة بيننا نحن الثلاثة كانت تحمل بين تفاصيلها ينابيع من مشاعرالالفة والمحبة والتلاحم ماجعلت حياتنا في العراق خارج مدار الخوف الذي يفرغ وحشته في كل زاوية منها خاصة بعد العام 2003 .
جثوت على ركبتيّ اكثر من مرّة ووجهي نحو السماء،اناشد الله ان يحتويني برحمته الواسعة،رغم اني لم اكن في يوم ما ملتزما بشعائر الصلاة،ولكن الضعف الذي يشعر به الانسان في ساعة المحنة يقوده في اغلب الاحيان الى طلب الرأفة من الله بعد ان يتمكن منه القنوط .اعترف باني لاأملك قوة داخلية كافية تجعلني قادرا على أن أحتمل رؤية انسان يتألم،فأنا هش جدا في هذه الناحية،فكيف بي وأنا أمام رفيقة عمري ؟ .
كان الوقت مساء عندما غادرنا عيادة الطبيب واستقلينا سيارة اجرة،ونحن في طريق عودتنا الى البيت .بدَت شوارع اربيل طافحة بحياة ناعمة،توّجَتْها اضوية ملونة كانت تصدرمن محلاتها العامرة بالبضائع وبحركة الناس،بينما خيم صمت ثقيل علينا،حتى ان السائق بفطنته المهنية انتبه الى ذلك،فما كان منه إلاّ ان مدَّ يَده وأطفأ جهاز التسجيل الذي كانت تنبعث منه اغنية كوردية لم أستطع فك شفرات مفرادتها إلاّ ان احساسا قويا تولّد في داخلي جعلني اتيقن من أن كلماتها تتحدَّث عن الحب واللوعة والفراق بين المحبين.ورغم جلوسي في المقعد الامامي الى جانب السائق إلاّ اني  كنت اشعر بسخونة الدمع وهو يسيل على خديها بينما هي تجلس في المقعد الخلفي للسيارة .
في تلك الليلة،لم يغمض لنا جفن،كنّاننتظر الفجر لعله يوقظنا من هذا الكابوس الذي جثم علينا فجأة. استعدتُ مشاهد كثيرة من حياتي وانا انظر الى سقف الغرفة وسط الظلمة،واكتشفت بأن حبي لزوجتي كان ينمو ويكبر مع مرور الايام والاعوام،لأني تزوجتها بطريقة تقليدية،ولم تكن بيننا علاقة حب،ولاتربطني بها صلة قربى،وليس بيني وبينها سابق معرفة،لكن القدر شاء أن نرتبط معا،ومازلت اذكر جيدا اليوم الذي ذهبتُ فيه لخطبتها بصحبة امي وخالتي الصغرى،حينها شعرت بالاطمئنان ناحيتها ما ان دخلتْ الى غرفة الضيوف بعد أن نادت عليها والدتها أكثر من مرة،فجلست قبالتي الى جانب والدتها،ومن شدة حيائها لم ترفع راسها طيلة فترة جلوسها. واستطيع القول وللمرة الألف وهذا ما اكدته لها مرارا وتكرارا اثناء احاديثنا ونحن نستعيد تفاصيل اليوم الذي تمت فيه خطوبتنا بأن "البونط الابيض"اول ما لفت انتباهي اليها،ولم يكن سوى شريط من القماش القطني كانت تربط به شعرها بما يشبه الطوق،ولربما ما كان ممكنا ان يحصل النصيب ونجتمع معا تحت سقف واحد،لو لم يكن البونط يربط شعرها انذاك ويُظهر لي وبوضوح ما تحمله في طبعها من رقة وهدوء وصبروحكمة.
احيانا تقودك مشاعرك في لحظة ما الى اكتشاف جوهر الاشياء من غير ان تخوض تجربة فعليّة لمعرفة حقيقتها،وغالبا ما يحدث العكس في هذه الحياة إذ تتسبب بسقوطك في تجارب قاسية مع اشخاص اوهمَتك مشاعرك في معرفة حقيقتهم وظننتهم اصدقاء،ليتضح في ما بعد انهم اعداء،ويضمرون لك من الكراهية ما تعجز عن تفسير اسبابها.انا شخصيا مررت بكلا التجربتين،إلا ان الصدمات والمفاجاءات الغير سارة كانت هي الاكثر حضورا،ومازلت غير قادر على معرفة الدوافع التي تجعل البعض ممن كنت احسبهم اصدقاء يضمرون في داخلهم مشاعر حقد تجاهي،مع اني لم اتورط في يوم ما باي عمل القصد منه الاساءة لاي انسان او تشويه سمعته امام الاخرين،وهذا لايعني تنزيها مطلقا لشخصي حتى ابدو مثل الملاك،فأنا مثل غيري من البشر دخلت في خلافات مع اخرين،بينهم اقارب ومعارف واصدقاء وزملاء عمل،ووصل الخلاف في بعض الحالات الى الاشتباك بالايدي،لكني لم الجأ ابدا الى الطعن في سمعة من تقاطعت معهم او الايقاع بهم. اكثر ما اتعبني في حياتي ان ملامحي كانت دائما ما تدفع من لايعرفني عندما يلتقيني اول مرة الى ان يتشكل لديه انطباع بانه يقف امام شخص لايبعث على الثقة والاطمئنان،وعلى الاغلب ابدو لئيما وحقيرا وغير مؤتمن،وهذا ما اكده لي عدد لاباس به من الاشخاص الذين تعرفت عليهم واصبحوا في ما بعد من اصدقائي المقربين،معظمهم اتفق في رايه على ان طبيعتي التي تميل الى التزام الصمت وعدم الثرثرة تُشعر الاخرين باني شخص غامض،يبعث على الالتباس،فتزداد المسافة بعدا بينهم وبيني،وكم ساءني هذا الانطباع الخاطىء عني،وافقدني الكثير من فرص العمل والعلاقات مع اشخاص كنت ارجو ان يكونوا ضمن قائمة اصدقائي،ولا اعرف في ما إذا كان هناك الكثير من الاشخاص قد مروا بنفس تجربتي . 
زميلي وصديقي المدرس في معهد الفنون الجميلة فريد الذي كان يسكن في نفس الحي الذي تسكن فيه عائلة على صلة قربى وثيقة بعائلة زوجتي،بقيتُ احمل له في داخلي مشاعر الامتنان،لانه كان سببا في زواجي منها،فهو الذي اقترح عليّ بان اتقدم لخطبتها من بعد أن اثنى عليها وعلى سمعة عائلتها،ولكي يُطمئنني اكثر قال لي بأنها فتاة متعلمة وتحمل شهادة جامعية،رغم انها لم تلتحق بوظيفتها كمدرِّسة لان تعيينها قد صدر في احدى القرى البعيدة التابعة لقضاء سنجار التابع اداريا لمحافظة نينوى.وكنت الاحظ على صديقي فريد مدى الراحة التي يشعر بها ما أن يسالني عن احوالي العائلية بعد الزواج خاصة عندما اؤكد له بانني مرتاح وبغاية السعادة،لكني بدأت اشعر في الفترة الاخيرة بتغير احواله الصحية بعد ان بدأ الضعف ينحدر الى صوته الرخيم الذي يتميز به وبشكل متسارع لايدعو الى الاطمئنان،ولمَّا سالته عن ذلك اخبرني بانه قد راجع اكثر من طبيب واجرى فحوصات كثيرة،وان جميعهم قد اكدوا له بان لاشيء يدعو للقلق،وان هذه الاعراض في الصوت ماهي الا بسبب مايُدعى في المتداول الشعبي "حبَّة بغداد" التي عادة ما تنبت في اعلى الحلق او في نهاية اللسان،إلاَّ ان حالته الصحية اخذت تتدهور بشكل لافت،واصبح صوته يميل الى الحشرجة والوهن يوما بعد آخر. وتحت الحاح زوجته اضطر للسفر لغرض العلاج في مستشفيات دمشق واعاد هناك اجراء الفحوصات،واسفرت نتيجتها عن اصابته بسرطان الحنجرة حسب ما اكد له الاطباء المختصون،فاجريت له عملية جراحية على وجه السرعة،ثم عاد الى العراق بعد ان امضى هناك ما يقرب الشهر،لكن حالته الصحية لم تتحسن،واخذت تتدهورت بشكل سريع،ولم يعد العلاج الكيميائي يجدي نفعا. وفي زيارتي الثانية له عام 2004 بعد عودته من سوريا لم اكن اتوقع ان اراه على تلك الصورة،حاولت ان اخفي صدمتي وان لااظهر امامه مشاعر الالم التي اعتصرتني بعد ان وجدته جالسا على كرسي خاص بالمعوقين،وجسده قد تضاءل بشكل كبير،وبدا ووجهه بلون اصفر شاحب،ورقبته كانت ملفوفة بضمادات،كذلك راسه،حتى أن عجزه الجسدي لم يساعده على ان يرفع يده ليرد عليَّ السلام ساعة دخولي الى غرفة الاستقبال.وطيلة فترة جلوسي معه بحضور زوجته وابنه وبناته الثلاث لم يتمكن من الحديث،مكتفيا بهز راسه اشارة على تواصله معي.وبعد ثلاثة ايام على هذه الزيارة ودَّع الحياة.
حاولت ان استعيد ابتسامته الدائمة التي كانت ترتسم على وجهه كلما كنا نلتقي طيلة اكثر من ثلاثين عاما من صداقتنا،واكتفيت بالقاء نظرة اخيرة على جسده الملفوف بالكفن الابيض قبل ان يوارى الثرى في مقبرة حي الكرامة،ولما وجدت نفسي غير قادر على ان اسيطر على مشاعري تنحيت جانبا وابتعدت عن المشيعيين وانا اذرف الدمع حزنا على فقدان صديق مخلص.
يتبع ..

33
ادارة قناة عشتار الفضائية مابين الخبرة وغيابها

                                   
مروان ياسين الدليمي


مدخل

علاقتي مع قناة عشتار امتدت 14 عاما وهذا المسيرة الطويلة تمنحني الحق في مراجعة هذه التجربة وتقييمها،والاشارة الى مافيها من مفارقات وتفاصيل، لعل البعض يجد فيها درسا مفيدا،وليس الهدف من هذه المراجعة الاساءة الشخصية لاي اسم يطاله النقد،بقدر ما يتعلق النقد،بالجانب المهني البحت،فمشروع قناة عشتار،طالما قد انطلق على الفضاء العام في النصف الثاني من العام 2005، فقد اصبح من حق اي شخص ان يضعه في مرصد التقييم والنقد الموضوعي،ومن ارتبط بهذا المشروع سيكون من باب اولى الاضطلاع بمسؤولية نقد التجربة لانه على معرفة بكل تفاصيلها. 
جورج منصور صاحب الرؤية الاعلامية
ثمة مفارقة غربية في حكاية قناة عشتار الفضائية تستدعي التفكير فيها،تتعلق بمنصب مدير القناة،ففي بداية التاسيس كان يقودها الاعلامي جورج منصور منذ لحظة وضع حجر الاساس،وهو رجل يمتلك مجموعة مؤهلات شخصية ومهنية تجعله قادرا على ان يصل في اي مشروع اعلامي يتولى ادارته الى ضفة النجاح،فمن الناحية الشخصية،يتمتع منصور بحضور مؤثر،يرفعه الى المستوى الذي لايختلف فيه اثنان على انه شخص يمتلك مزايا قيادية،وهذه المزايا تتجلى في فاعلية دوره في كافة حلقات الانتاج داخل القناة،وهذا الاسهام وصل به الى ان يكون متابعا لجهد جميع العاملين في كافة مفاصل الانتاج،ولانه يمتلك رؤية واضحة واستراتيجية نظرية في رسم افاق عمل القناة الى جانب الخبرة العملية،فقد حول متابعته الى ملاحظات مستمرة ويومية تنير جوانب كثيرة قد يغفل عنها اي شخص منتج داخل القناة،ومن سماته انه كان حاضرا في تقييم الاعمال حتى يتوفر فيها التكامل والنضج،ولاجل ان تكون متابعته تاخذ مسارا جديا ومؤثرا بدا بغاية الحرص على تكريم المثابرين والمجتهدين،وتنبيه الاخرين الذين يتلكـأون في اداء عملهم.وبذلك اوجد نظاما واضحا في العمل قائما على اعلاء شأن المنتجين واقصاء من لاتتوفر فيه صفات الاخلاص والمثابرة. فكانت قناة عشتار خلال الفترة التي عاصرته فيها نموذجا للمؤسسات الاعلامية التي لاتختلف في التزام عامليها بالمواعيد والعمل والانتاج والاحترافية عن اية مؤسسة اعلامية في بلدان العالم المتقدمة .
المسالة الاهم في شخصية جورج منصور انه كان يمتلك خزينا معرفيا وثقافيا مكنه من ان يرسم ستراتيجية للخطاب الاعلامي الذي انتهجته قناة عشتار في عهده الذي لم يتجاوز العامين،وجوهر هذه الاستراتيجية يتمحور في تأكيده على ان القناة ليست دينية،وليست ذات خطاب فئوي،بل عزز حضورها العراقي وبقوة،وانفتح مجال خطاب القناة على جغرافيا العراق بمحتوى يخلو من اية نبرة انعزالية تبعد المسيحيين عن الفضاء المجتمعي العراقي،وهذا ما جعلها تكرس انطباعا مشرقا لدى متابعيها على اختلاف هوياتهم،ولعل ابرز ما يعبر عن ذلك ما كان يجسده محتوى نشرات الاخبار التي كانت تنجز من الالف الى الياء في غرفة اخبار القناة،فهناك متابعة تفصيلية لكل تطورات الاحداث يرافقها حوارات مباشرة عبر النشرة الاخبارية مع ساسة ومحللين عراقيين،فالانفتاح على الشأن المحلي العراقي شكل ركنا اساسيا في نشرات الاخبار الى جانب شؤون المسيحيين العراقيين،وهكذا الحال مع بقية البرامج بكل انواعها الوثائقية والترفيهية ،حيث كانت تنطلق من سعة رؤية جورج منصور نفسه،وثقافته وخبرته الاعلامية،ومن المنطقي جدا وفق هذه الرؤية ان يصل صوت المسيحيين العراقيين الى كل بيت عراقي يصله بث القناة داخل وخارج العراق،طالما خطابها يعكس محتوى فكريا منفتحا على جميع مكونات المجتمع العراقي.
الفرق بين منصور ومراديان
لااحد يستطيع ان يسجل على الفترة القصيرة التي ادار بها جورج منصور قناة عشتار اية ملاحظات سلبية،واتضح اهمية دوره وما انجزه بعد ان غادر منصب المدير ليتولى منصبا رفيعا في حكومة اقليم كوردستان،فتولى من بعد ادارة القناة رازميك مراديان،ومن لحظة مجيئه الى منصب المدير اتضح مدى الفوارق الكبيرة بين الاثنين،على مستوى الادارة والشخصية والثقافة،إذ لم يكن للمدير الجديد اي صلة في صناعة الخطاب الاعلامي،لان الرجل ليس له اي خلفية ثقافية،فمع احترامنا لشخصه إلا انه لم يكن في يوم ما صحفيا ولاكاتبا ولاشاعرا ولاعاملا في ميدان الثقافة مثل جورج منصور،وكل هذه المؤهلات ينبغي ان تتوفر في اي شخص يتولى مسؤولية ادارة قناة فضائية،فكيف إذن تمت ترقيته الى هذا المنصب ! ؟ وهذا يعني ان هذا المشروع الاعلامي بعد مجيئه قد اصبح امام مفترق طرق كلها ستؤدي الى تراجع مستوى اداء القناة وانتكاس مسيرتها،وهذا ماحصل فعلا ، فعلى مدى 13 عاما تولى فيها ادارة القناة، لم يكن حريصا على عقد اجتماعات مع العاملين في القناة لغرض مراجعة ماتم تقديمه من محتوى في البرامج المنتجة، وجل اهتمامه كان منصبا على عقد اجتماع سنوي في نهاية الشهر الحادي عشر لاجل الاستعداد لاقامة الاحتفال السنوي بذكرى تأسيس القناة،وطيلة السنوات التي عقد فيها هذا الاجتماع السنوي لم يكن يحتوي على اي افكار جديدة ، فالافكار نفسها كانت تعاد سنويا،دون اي تغيرات .
لاصلة تجمع الهندسي بالاعلامي
في واقع الامر السيد رازميك كان رجلا بسيطا جدا في ثقافته،لان طبيعة عمله الاساسي طيلة اربعين عاما قضاها في تلفزيون بغداد والبصرة كان هندسيا فقط ،إذ ليس له اي صلة في ادارة وتخطيط البرامج وتحديد محتواها،وكانت مسؤوليته المهنية تنحصر في معالجة الاخطاء التي قد تحدث في البث،واصلاح اي عطل في الاجهزة والكامرات والفديوات،ومن غير الممكن ان ينجح رجل هندسي في ادارة مشروع اعلامي،ومن المكن جدا ان يتفرغ للعمل الهندسي في المشرع وينجح فيه لكنه ابعد مايكون عن رسم محتوى الخطاب الثقافي والاعلامي للقناة الفضائية،خاصة إذا ما اتسعت المسافة كثيرا بينه وبين عالم الصحافة والاعلام والثقافة وكانت اقرب الى علاقة اغتراب وعدم تواصل في اسس ومفاتيح هذه الحقول المهنية بجوانبها الابداعية والثقافية والحرفية،ولهذا كان يحاول السيد رازميك قدر المستطاع عدم عقد اي اجتماع لاجل وضع خطط لتطوير خطاب القناة وبرامجها،وحتى عندما يصادف ان يعقد اجتماعا يتيما بين فترات طويلة ومتباعدة جدا،لم يكن يطرح معالجات فكرية تحث العاملين على تطوير مالديهم من افكار،ودائما ماكان يكتفي في ادارة الجلسة فقط، من دون مشاركة ايجابية تتمثل في اثراءها بمقترحات وخطط،وهذا ابسط دور ينبغي على مدير اي محطة فضائية ان ينهض به.لذا كان الاجتماع اذا ما عُقد يبعث على الملل،على العكس منه المدير الاسبق جورج منصور حيث كان يمارس دورا مركزيا في ادارة الاجتماعات،فيقترح على العاملين افكارا ويطلب منهم تطويرها،ويعدل من الافكار التي يطرحونها،بمعنى ان حضوره كان يثري الجلسة لما يقدمه من افكار ومشاريع للدورات البرامجية القادمة،ولهذا كان حريصا على ان يعقد اسبوعيا اجتماعا مع رؤوساء الاقسام ،للاطلاع على سير العمل،وتقييم ما تم انجازه،اضافة الى اجتماع شهري مع العاملين،وعدد من الاجتماعات الاخرى لرسم خطة متكاملة للدورة البرامجية القادمة.كل هذه التقاليد توقفت تماما مع مجيء السيد رازميك مراديان،والسبب في ذلك لانه لايملك مايكفي من الخبرة الاعلامية والثقافية لرسم تصور عمّا يمكن ان يكون عليه طبيعة عمل القناة ومحتوى برامجها شكلا ومضمونا،والمسؤولية هنا لاتقع عليه بل تقع على من حمله مسؤولية ادارة القناة وابقاه لمدة 13 عام ، بينما كان الخط البياني لمستوى القناة بكل محتوى برامجها في تراجع مستمر .بل انه حولها الى قناة مختصة فقط في نقل القداديس،وتحولت من قناة عراقية الى قناة دينية ،وهذا ما جعلها موضع انتقاد الكثير من متابعيها المسيحيين .
وماذا عن المثقفين والاعلاميين السريان
كان ينبغي على مالك القناة سركيس اغاجان ان يختار احد المثقفين او الاعلاميين المسيحيين،ممن لهم اسم رصين في عالم الصحافة او الاعلام او الثقافة او احد الاكادييميين،وهناك العديد منهم في الثقافة السريانية مؤهلون لان يشغلوا هذا المنصب بكفاءة،مثلما كان السيد جورج منصور ناجحا في ادارتها،ولانعلم لماذا تم استبعاد العديد من الاسماء الفاعلة في الثقافة السريانية عن ادارة هذا المشروع الاعلامي المهم للمسيحيين العراقيين،فهناك اكاديميون وشعراء وكتاب وصحفيون على درجة عالية من الحضور الفاعل في الثقافة السريانية والعراقية كان ينبغي الانفتاح عليهم ودمجهم في سياق عمل القناة لاجل ان يبقى خطابها على درجة مهمة من النضج ويصل بالتالي الى ابعد تأثير في الساحة المحلية والاقليمية.

34
لم يعد ينقصنا سوى الاغبياء

مروان ياسين الدليمي


في ما لو تم تطبيق قرار دونالد ترامب"المهارة قبل الشهادة في التوظيف" في العراق، ماذا سيكون مصير العشرات من اصحاب البدلات والاربطة،ممن يحملون شهادات عليا،ماجستير ودكتوراه ،خاصة في كليات الفنون الجميلة،فهناك العديد منهم يُدرِّسُ فن التمثيل واسس الاخراج المسرحي،بينما مسيرته خالية من اي مشاركة في عروض مسرحية،اي انه يفتقد المهارة والخبرة المتراكة نتيجة الاستمرار في العمل،ومن الطبيعي سيفتقد القدرة والامكانية التي تؤهله للوقوف على خشبة المسرح .ومثلهم في قسم السينما ايضا،حيث لاتجد في ارشيفه اي عمل سينمائي،وإذا ما وجِد ،فلا يستحق ان يصنَّف ضمن خانة الفيلم.وهكذا الحال مع بقية الاختصاصات.
انا شخصيا اعرف نماذج من هؤلاء، لم يكن لهم اي مشاركة وحضور في النتاجات المسرحية والسينمائية طيلة فترة دراستهم في الكلية،لكنهم اليوم يحملون شهادات عليا ويتخرج مئات الطلبة من تحت ايديهم.فلاغرابة اذا ما وصل حال الانتاج الدرامي في العراقي الى ما هو عليه من ضعف .
كيف لاستاذ اكاديمي ان يقف في قاعة الدرس ويلقي محاضرة على طلبة يدرسون الفن من غير ان يكون له خزين من التجارب العملية التي خاضها بنفسه ، وخرج منها باستنتاجات ذاتية لن يعثر عليها الطلبة في اي كتاب ، لانها،خاصة به ومن وحي خبرته التي تشكلت عبر مخاض تلاقحت فيه الفكرة النظرية مع الفعل،ولايمكن باي حال من الاحوال مقارنتها مع اي معلومة قد يحصل عليها الشخص من كتاب او مقال وقع تحت يديه،فالعبرة دائما في التلاحم المباشر مع الحياة،فكيف اذا كان هذا الالتحام سيشكل جوهر الشخصية الاكاديمية ؟  من المؤكد ستكون الفرادة في الحضور والفاعلية هي النتيجة التي ستتمخض عنها .
 
في منتصف ثمانيات القرن الماضي كنّا نقف الى جانب الاستاذ "جعفر علي" رئيس قسم السينما في كلية الفنون الجميلة، فإذا بواحد من اولئك الطلبة بعد ان تخرج ونال شهادة البكالوريوس وكان معروفا عنه مع شقيقته باعتبارهما اشهر ثنائي غنائي في تلفزيون العراق يقدمان الاغاني التي تروج لسياسات النظام انذاك،ومازلت اذكر جيدا ان قبول هذا الطالب في قسم السينما في مرحلة البكالوريوس لم يكن بناء على رغبة قوية في داخله هي التي دفعته لدراسة الفن السينمائي انما لانه لم يأت بمعدل في امتحانات البكالوريا يؤهله لدخول اي كلية،فجاء قبوله بقرار من صدام حسين شخصيا،مثل اخرين تم قبولهم ولنفس السبب في كليات اخرى ليسوا مؤهلين للدراسة فيها.فتخرجوا منها واصبحوا في مراكز وظيفية،وبعضهم اصبح معيدا في نفس الكلية .
وبعد ان القى التحية علينا،توجه بحديثه الى الاستاذ جعفر مستفسرا عن امكانية اكمال دراسته العليا في قسم السينما،عندها ابتسم استاذنا رحمه الله،وبما عُرف عنه من اسلوب ساخر في التعليق على الاحداث،ردَّ عليه قائلا:" لم يعد ينقص قسم السينما سوى الاغبياء " .
مرت الايام والسنوات،فإذا بالمطرب الشاب وشقيقته بعد العام 2003 يظهران في برنامج تلفزيوني لاحدى القنوات العراقية،بضيافة احد اشهر المحاورين،وفي اسفل الشاشة قرأت cg التعريف بهما، فوجدته يشير الى انه يحمل شهادة دكتوراه في الاخراج السينمائي.ساعتها تذكرت تلك الابتسامة الساخرة التي ارتسمت على ملامح الاستاذ جعفر علي،وعبارته التي لازلت اذكرها " لم يعد ينقص قسم السينما سوى الاغبياء " . 


35
لن اكون عنصرياً مثلك ياجناب المدير

                                             
مروان ياسين الدليمي

ليست المفاجأة عندما تكتشف بانك كنت مخدوعا،بل المفاجأة في انَّ من كنتَ تثق به هو الذي خدعك وليس الذي كنت لاتثق به.
المرارة التي ستشعر بها اليوم ليس لها حدود،ولن تقوى الكلمات على وصفها،بغض النظر عن حجم الخسارة المادية،والاعوام التي ضاعت هدرا ،فليس مهمَّاً ما خسرته مِن مال،فهذا شأن بسيط لاقيمة له،طالما انك لن تأخذ معك الى القبر سوى حفنة تراب ،ويمكنك وببساطة شديدة ان تعوض ماخسرته من مال غدا او بعد غد .
 الخسارة الحقيقية في انك خسرت ثقتك بنفسك اولا، قبل ان تخسر الثقة بالاخر الذي خدعك.
من الصعب عليك ان تكتشف كم انتَ ساذج ،وكم انتَ غبي رغم ما تحمله من  عِلم ومعرفة وثقافة وذكاء .
من الصعب ان تكتشف الحماقة في الحكمة التي كان الاخرون يشيرون بها اليك،فتتباهى بها بينك وبين نفسك .
قاسية جدا هذه النتائج عندما تكتشفها متاخرا جدا.
والاقسى منها،انك  ما كان ممكنا ان  تكتشفها،لولا انك وقعت في الفخ، الذي نصبه لك،من كُنتَ تظنه اهلاً  للثقة، فراهنت عليه دون غيره من الاخرين،وفضَّلته حتى على  ابناء جلدتك،لانك توهمت كثيرا بما يحمله من قيم لها طابع انساني،لذا كنتَ منسجما معه،ومؤمنا به.
لكنك اكتشفت متأخرا جدا بانه مرواغ ومحتال،ويضمر في قلبه كراهية لاحدود لها،ولم تكن تتصور ابدا انه يملك من افانين الاحتيال،ما جعلك لاترى حجم السواد الذي يملأ قلبه .
لكن الندم ماعاد يجدي نفعا على السنين التي ضاعت وعلى الجهد والاخلاص اللذان تبددا.
ماخرجتَ به من هذه التجربة: انك لم تعد تثق بمن يدعي البراءة والنظافة والوداعة.
اصبحت تشكُّ بالجميع،دون استثناء،واقرب الناس باتوا موضع شكِّ لديك. فالتجربة كانت من القسوة في ان تمنحك العذر والحجة بان لا تكون بعد اليوم طيبا على ما جُبلت عليه من فطرة .
وان لا تسيء الظن بالاخرين ابدا،مثلما اوصاك اهلك وعلموك مُذ وعيت الدنيا وادركت الحياة . 
كان عليك ان تصحو من هذه الغفوة طالما الفرصة كانت قد جاءتك مبكرا  في حينه،عندما لم يزرك في البيت ايَاً من اولئك الذين عملت معهم ولاجلهم،حينما سَقطت زوجتك بمرض السرطان،وأجريت لها العملية الجراحية،وبَقِيتَ تنتظر قدومهم ليزورنك في البيت،ولم يأت منهم احد،اي واحد منهم  لم يات،لا المدير،ولا من هو اقل منه درجة،ولا بقية اعضاء ادارة المؤسسة،ولا شقيق صاحب المؤسسة،ولا اي زميل في العمل..!
شعرتَ بالخجل الشديد امام نفسك،وكان عليك ان تهرب من قسوة العتاب الذي كنتَ تقرأه في وجه زوجتك الشاحب اثر العملية الجراحية.فأختلقتَ الاعذار كلما وجَّهت اليك السؤال:" لماذا لم يزرنا احد في البيت !؟" 
كنت تكذب عليها،لتخفف عنها وعنك ألمَ هذا النُّكران والجحود.ومرَّت الايام،ولم يقدموا اعتذارا عن عدم ادائهم الواجب،ولم تسمع منهم كلمة مواساة ودعم حقيقية. وكان الكلام يجري عابرا اذا ما صادفوك في ممرات المؤسسة "صباح الخير ، صباح النور ، مرحبا ، شلونك " . فهذا يكفي بالنسبة لهم،يكفيهم كلاما عابرا روتينيا،لمداواة الالم الذي كنت تعاني منه وانت تقضي الساعات مع شريكة حياتك حتى تنتهي من اخذ  جرعات الكيمياوي والليزر لمدة عامين .
من وجهة نظرهم،ومن وحي احاسيسهم الباردة،بدا العالم الذي كنت تعيشه طبيعيا جدا،وكأن لاشيء قد جرى عليك،وعلى اغلى انسان في حياتك،وانت الغريب في ارض غريبة،وما من احد الى جانبك من الاهل والاقارب لانهم هناك،في المدينة التي استباحتها السلطة بطائفيتها قبل ان يستبيحها الارهابيون الدواعش.
وحتى عندما تعرضت زوجتك للدهس بسيارة من قبل سائق مستهتر،لانه موظف بجهاز امني،بعد عامين من علاجها المستمر للشفاء من السرطان،لم يطرقوا باب بيتك ايضا،سوى انهم همسوا في اذنيك بكلام عابر في ما إذا كنت تحتاج الى مال او مساعدة، فعلوا ذلك مثلما يفعل اي غريب قد يصادف وجوده ساعة تتَعثر وانت تمشي على الرصيف،فتسقط على الارض،لترد عليه " شكرا اخي" فيغادر الى حيث سبيله. فكانوا هم ايضا غرباء عنك، وكنت انت غريبا عنهم، فقط ثلاثة من الزملاء كانوا معك،وستبقى مدينا لهم،ولو لم تكن تعلم جيدا ان هؤلاء الثلاثة يرفضون ان تذكر اسمائهم لذكرتها الان،لكنك ستكتفي بالحروف الاولى ( ه ، م ، ي).   
بينما في المقابل تتذكر جيدا  كيف كان الموظفون الكبار في المؤسسة،وفي المقدمة منهم المدير،يتسابقون لاداء الواجب اذا ما تمرض اي زميل..كان الكل حريصا على ان يذهب الى بيته حتى يقدم له الدعم النفسي والمعنوي والمادي ،ولم يكن السيد المدير يذهب لاداء الزيارة الا ويأخذ معه اغلب الزملاء.
واحتراما لكرامتك الشخصية،اقسمت على ان لاتؤدي الزيارة لاي شخص منهم مهما مرت عليهم مصائب او افراح ،ابتدأ من كبيرهم الى صغيرهم،بعد ان وجدت في سلوكهم معك،مساحة شاسعة من التمييز لم تجد لها اي تبرير مقنع،لانك لم تعبّر طيلة وجودك معهم إلا عن احترامك لهم،ولم تكن منتبها على اية فوارق بينك وبينهم،ولم تكن تخطرعلى بالك فكرة انهم يجدوك غريبا عنهم،لانك لم تعتد على مثل هذه الافكار العنصرية،فأنت عشت طوال حياتك في بيت يقدِّر تنوع الهويات والمسميات،ولم تكن البيئة الاجتماعية الشعبية التي ترعرعت فيها غريبة عما يحمله اهلك من قناعات انسانية معتدلة،لذا لم تعرف انت شخصيا معنى التمييز .
فاتخذت قرارك مرغما بان تبقى وحيدا بارادتك،لابارادة الغير.
وبقي السؤال حتى هذه الساعة :لماذا المدير كان على هذه العنصرية معك ؟
لماذا لم يكن شجاعا ويقول لك مبكرا لسنا بحاجة اليك،فأنت لست منّا ؟
لاجواب سوى انه لم يكن شجاعا،وانه كان بحاجة اليك،والى خدماتك فقط، فتحمَّل وجودك مرغما،حتى استنفد كل ما يرجوه من عقلك وفكرك وطاقتك،فأعتصر اخلاصك مثل ليمونة ثم رماها .   
نعم انا نادم على كل لحظة مرَّت كنتُ فيها مغفلا بالحب والثقة. 
لم يخدعني من كان يمارس كراهيته ضدي علنا
لم يخدعني من كان يقول لي بانه لايطيق رؤية وجهي
لم يخدعني من كان ينكر وجودي صراحة
لم يخدعني من لم يعترف بي 
لم يخدعني من ارغمني على ان اهرب من مدينتي لانه كان يريد قتلي
لم يخدعني ذاك الذي احتقرني عندما لامني وبقسوة لاني ارتضيت ان اعمل مع من هم ليسوا من ابناء جلدتي
بل خدعني من ظننت انه لن يخدعني
خدعني من كان يمد يده اليمنى ليعطيني بينما يطعنني خفية بيده اليسرى.
خدعني من كان يتظاهر بالطيبة
خدعني من كان يمثل دور الضحية
ولم يخدعني من كان يفتخر بانه قاتل .
ورغم ذلك ، فأنا لست نادما لاني لم اكن في يوم ما عنصريا، ولن اكون .


36
المنبر الحر / س من الناس
« في: 23:09 20/06/2020  »
س من الناس

                                                           
مروان ياسين الدليمي

لم يجد “ط”اي وسيلة تحت يديه يمكن ان تتيح له فرصة النيل من كفاءة“س“ المهنية واخلاصه في العمل،حينها لجأ الى اضعف واوسخ السبل ، كما هي الطبيعة السيئة للفشلة والعاجزين ، فأخذ يردد همسا بين العاملين:“ انا سأصاب بالجنون ياناس..كيف سَمح مجلس ادارة المؤسسة لنفسه ان يمنح شخصا ليس على ديننا،فرصة ان يكون رئيس قسم علينا ! ؟ “ . لكن كلماته ارتدَّت عليه وصفعت عنصريته،عندما لم يجد بين جميع من كان يراهن عليهم من زملاء المهنة اذنا صاغية،ولم يكتفوا بذلك،بل زادوا عليه وجعه،عندما اثنوا على حسن اخلاق “ س “ وحرصه ومثابرته في العمل، واصراره على ان يكون متميزا في نتاجه،فتحطم القليل مِمَّا كان يملكه من كرامة وكبرياء،لكنه لم يتراجع ولم يراجع نفسه،بعد ان كان يتلقى الدعم والتحريض بالاستمرار على النيل من“ س“من قبل زوجته التي تشبه”ليدي مكبث“ في مسرحية شكسبير بقسوتها وسواد قلبها،الى ان وجد ضالته في شخص المدير “ ر “ لانه يشبهه تماما بتفاهته،وغيرته مِن اي شخص كفوء قد يجده بين الموظفين،خشية ان يحظى باهتمام مالك المؤسسة ،فيحل محله بمنصب المدير .
هذا المخلوق “ ر “ مثل كثيرين غيره الذين بدأوا يطفحون على سطح المشهد العام في زمن انتعاش الطائفية بعد العام 2003 خدمه الظرف افضل خدمة،عندما أُطيح بالمدير الاسبق “ج “ لانه كان مهنيا ويتمتع بشخصية قوية فجعلته هذه الخصال،مبادرا في خطواته لتطوير العمل،ولايخضع لمالك المؤسسة الذي لاتجمعه اي صفة مهنية بعملها سوى مايملكه من مال ،فكان ذلك سببا جوهريا للاطاحة به .
وبضربة حظ لم تخطر على باله،حتى ولو في الحلم،وجد “ ر “ نفسه، متربعا على كرسي المدير،مستمتعا بامتيازات المنصب،من مرتب شهري عالي وقصر فخم،وسيارة حديثة،اضافة الى الدعوات الرسمية والحفلات الليلية،ونفاق البعض من الموظفين وتزلفهم اليه، وووووووووووووو....الخ ، مِن بعد ان كان حافيا اذا جاز التعبير لمدة اربعين عاما،طيلة فترة عمله في الوظيفة الحكومية .
ولااظن ان الذين يملكون ولو قدرا قليلا من الذكاء والنباهة لقراءة مابين السطور،سيحتاجون الى المزيد من الاسطر،لمعرفة ما اصبح عليه حال الموظف “ س “ بعد ان تواطىء المدير “ ر” بملمسه الناعم وطائفيته الدفينة ، مع عنصرية “ ط “ العلنية .
فكَم مِن “ ط “  و  “ ر “ ارتكبوا جرائم بحق اشخاص مثل “ س “ .... ؟

* رموز الاشخاص التي جاءت بصيغةحروف ، ليس لها صلة باشخاص واقعيين .

37
المنبر الحر / الحقوق ديون ثقيلة
« في: 15:29 13/06/2020  »
الحقوق ديون ثقيلة


مروان ياسين الدليمي

خصمُك الذي سرق منك اثمن مالديك،وليكن جهدك،او فكرك،او احلامك، وترك في داخلك جرحا عميقا.
هذا الخصم الذي لايستحق ان يكون خصمك،إذا ما لجأ الى التزام السكوت المطبق،بعد ان  تواجهه علنا،وعلى المَلأ،وبصريح العبارة وبالادلة والحقائق التي تثبت ما ارتكبه من اجحاف كبير نال منك،ومن حقوقك في الحياة،ومن ثم ابتلعها،هكذا بهدوء وبدفعة واحدة الى داخل بطنه،من غير ان يشبع منها ولا بغيرها،من بعد ان سلب منك جهداً وعمراً وفكراً واستثمره لصالحه الشخصي.
عليك ان تعلم بانَّه لم يتخذ مثل هذا الموقف إلاَّ  لانَّه يحمل في داخله ايمانا مزيَّفا بانه مخلوق من الله،وانت بنظره لست سوى مخلوق من الشيطان.
أو لانَّه يملك سلطة،واطمئنانا مِن انَّ لا وجود لقانون يُمكن ان يَخضعَ له،ويحاسبه على ما لَهُ وما عليه من حقوق وواجبات ازاء الاخرين،وفي مقدمتهم من سرق حقهم .
وبعيداً عن سلطة القانون الغائب أو المُغيَّب
وبعيداً عن الجَّاه ، والمال ، والغرور ، والتكبر ،
فإن حقوق الناس المهضومة ماهي إلاَّ ديون،احمالها ثقيلة جدا على اصحاب الضمائر،لن يقوى البشر على حملها فترة طويلة،مهما توهموا بقوتهم،وقادهم جهلهم لاستحقار الناس،واعمتهم بصيرتهم.
الحقوق،سيدفعها مِن صحَّتِه مَنْ كانت بذمَّتهِ،
وسيدفعها مِن صحَّة اولاده وبناته واحفاده الى ان تستوفى كاملة.
سيدفعها،قَلقاً وتفكيراً وضميراً موجِعاً،لن يتوقف عن جَلدِه بسياط التانيب والتحقير والذَّم،الى ان تحين ساعة الحساب في يوم الحساب،فيودِّع الدنيا نادمِاً نادباً ، ولكن ، بعد فوات الاوان .
الحقوق لن تضيع، طالما الجباهُ النظيفةُ عَرَقَتْ من اجلها،
والعقول النيِّرة فكَّرت بها.
لن تضيع،حتى لو مات اصحابها وودَّعوا الدنيا مقهورين مغمومين.
لن تضيع،طالما اولادهم وزوجاتهم قد ورثوا عنهم حزنهم،وألمَهم،
طالما دعواتهم التي لهجوا بها كل فجرٍ في قلوبهم،وهم يرفعون ايديهم الى السَّماء مُخاطبين صاحب العدل الذي لا اعدلَ منهُ.
قد يكون الانسان صاحب الحق عاجزاً عن استراد حقه،ربما لانَّ القانون ضعيف امام السلطة،والضعيف دائما ما كانت السلطة تحتقره لتنصف القوي المتغطرس..ولربما لانَّ القوي المغتصب لحقوق الناس اعمى البصيرة،لايرى الاشياء على حقيقتها،فتخونه بصيرته،ويخدعه بصره في تمييز الابيض عن الاسود،والحق عن الباطل،والاحمق عن الشريف،والمقامر في خمارات الليل عن المغامر الشجاع،والثمرة الناضجة عن العفِنة.لكنه بالتالي سيسقط على وجهه في منتصف الطريق،متعثرا باذياله،وستتلطخ جبهته بما خلَّفته اقدام العُمال العابرين الساعين الى رزقهم ورزق اطفالهم .

38
    14   عام  من العمل المثمر في قناة عشتار الفضائية  .. انتهت . .    !
           

مروان ياسين الدليمي
 

إشارة لابد منها
لاجل ان يكون كلامي في هذه السطورعلى قدر معقول من المصداقية والكياسة،ساتناول تاريخ علاقتي الجميلة مع قناة عشتار،وما ترتب على هذه العلاقة من نتائج،الكثير منها، انا فخور به،لانه منحني فرصة تحقيق بعض احلامي واكتساب المزيد من الخبرات المهنية والانسانية مع مجموعة من العاملين،ربطتني بهم صلات اكبر من صفة الزمالة اوالصداقة، لم تقف امام استمرارها ايّة حواجز عرقية او دينية،لكن قرار الاستغناء عن خدماتنا المفاجىء في منتصف شهر تشرين الثاني 2019 ، انهى هذه الرحلة الحافلة بكل ماهو جميل،وحشرني انا شخصيا  في الزاوية الحرجة وفي الوقت الحرج .
لن اناقش اسباب ايقاف البث الفضائي للقناة ،فهذا ليس من شأني ولا من صلاحيتي.وسيقتصر حديثي حول علاقتي الطويلة مع قناة عشتار التي استمرت 14 عام ، بدأت منذ الشهر الاول من العام 2006 وحتى نهاية العام 2019 .

وارجو ان تتفهم ادارة القناة ماسطِّرته هنا من افكار وهموم وملاحظات، فنحن اولا واخرا بشر،نواجه في الحياة مواقف مختلفة،وينبغي ان يكون لنا منها رأي صريح،وموقف واضح،دون مجاملة،مع محافظتنا على احترام وتقدير من نختلف معه في الرأي والموقف.أما ان يطلب منّا البعض ان نلتزم الصمت(لاسباب مختلفة)رغم قسوة ما وقع علينا،وكان من نتيجته ان عوائلنا هي التي تدفع الثمن الباهظ في مثل هذه الظروف الصعبة التي تسببت بها جائحة كورونا،فهذا امر لا أظنه يُصح مع اي انسان تتوفر في شخصيته ولو درجة بسيطة من المسؤولية تجاه نفسه وتجاه الاخرين،فكيف اذا كان مثقفا ومتعلما ويحمل شهادة جامعية،واسما معروفا ويكتب الشعر والنقد في كبريات الصحف والمجلات العراقية والعربية !
اظن ان الهدف من هذه السطور اصبح واضحا،ليس الغرض منه الاساءة لاي شخص او جهة،فهذا ابعد ما نفكر فيه،بقدر ما نسعى للحديث عن تجربة شخصية مررنا بها،وكان وقعها علينا بغاية الصعوبة،ونحتاج الى ان نُخرِج ما خلفته فينا من مشاعر وافكار اقلقتنا واتعبتنا اياما وليالي.

قصتي مع عشتار
في عام 2004 بداتُ العمل بصفة مُحاضِر،في قسم الفنون المسرحية بمعهد الفنون الجميلة في مدينة  الموصل،ونظرا لحاجة القسم الى خدماتي ارسَلَت ادارة المعهد كتابا الى وزارة التربية تطلب بموجبه تعييني على الملاك الدائم،ومن الطبيعي ستأخذ اجابة الوزارة وقتا طويلا، وربما  يستغرق عدة اشهر،بسبب اجراءات الروتين المتبعة في المؤسسات الحكومية،وبعد فترة من الزمن عملت مسؤولا لمكتب قناة عشتار الفضائية في مركز مدينة الموصل وكان ذلك في مطلع العام( 2006 )،فكنت حريصا على ان اوفِّق مابين عملي كمحاضر في المعهد وعملي في قناة عشتار.

العمل في مدينة يسودها الارهاب 
اقتضى عملي بمكتب قناة عشتار في الموصل طيلة العام 2006 ان اتولى اعداد واخراج عدد من البرامج الوثائقية حول الكنائس في الموصل وهي كثيرة جدا،وشرعنا انا وزميلي المصور ثائر خضوري بالعمل،وانجزنا مهمتنا مابين مطلع الشهر الاول من العام( 2006 )الى نهاية ذاك العام، والحصيلة  كانت بغاية الاهمية.

هنا لابد ان اشير الى ان معظم الكنائس التي قمنا بتصويرها في تلك السنة تعرضت في السنوات اللاحقة الى التدمير من قبل تنظيم الخلافة (داعش ) عندما احتل مدينة الموصل عام 2014 ،وبذلك اصبح لقناة عشتار ارشيفا صوريا بغاية الاهمية يتعلق بجميع كنائس الموصل التاريخية.والى جانب هذه  البرامج كنا نعمل على انتاج تقارير يومية لقسم الاخبار،وهذا العمل فرض علينا التواجد يوميا في الشوارع والاماكن العامة والمؤسسات الحكومية،وان نرسل التقارير بشكل يومي من الموصل الى مركز القناة في اربيل،وتطلب منا هذا العمل الحضور الى "مرآب الشمال" لكي نسلم التقارير الى احد سائقي التاكسيات الذين ينقلون المسافرين مابين الموصل واربيل.
يَعلَم جيدا سكان مدينة الموصل انذاك، خطورة التواجد في مرآب الشمال خلال الاعوام(2006- 2007 )والاعوام التي تلتها ، الى  لحظة سقوط المدينة تحت سلطة داعش عام 2014 ، فقد كان عناصر تنظيم القاعدة في حينه يتخفون بين رواد المقاهي المنتشرة داخل المرآب،  لمراقبة المسافرين،وهذا يعني ان اي يشخص يسافر الى الاقليم سيكون تحت مراقبتهم، ومحاسبتهم في ما بعد ، فكيف اذا كان المسافر اعلاميا،فمن الطبيعي سيكون صيدا ثمينا للتصفية. 
عندما تكون محاطا بالارهابيين 
لم يكن من السهل علينا ان نحمل اجهزة التصوير ونتجه الى وسط المدينة لانها كانت تخضع فعليا لسلطة تنظيم القاعدة(ففي تلك السنوات لم يكن تنظيم داعش قد ظهر بعد) حتى ان معظم سكانها كانوا يدفعون الاتاوات لعناصر التنظيم تحت قوة التهديد بالقتل،خاصة التجار والاغنياء ومسؤولي المؤسسات الحكومية والاطباء والصيادلة واصحاب الشاحنات ومحطات الوقود،ووصل الحال الى ان القوى الامنية والعسكرية كانت تقاضي حياتها بدفع الرشى لعناصر القاعدة ومن لايدفع سيكون مصيره الموت لامحالة ،ودائما ما كنا نصحو لنجد جثثا ملقاة على ارصفة الشوارع او عند ابواب المساجد لمواطنين مدنيين رفضوا الخضوع لابتزاز القاعدة او لعناصر من الجيش والشرطة، فجانبهم الحظ ليسقطوا في كمين لها.
تهمة الارتداد عن الاسلام
في ظل هذا المناخ المرعب بين عامي( 2006 - 2007 ) غامرنا بحياتنا لاجل ان ننجز عملنا فكنا نتجول في شوارع وازقة المدينة ونحن نحمل عدّة التصوير.ومما ضاعف من خطورة الاوضاع المتعلقة بي شخصيا، انني كنت في نظر طيف واسع من الناس المتشددين وفي مقدمتهم اولئك الذين ينتمون للقاعدة اعمل لصالح قناة"مسيحية"بينما انا "مسلم"،وهذا لوحده كان سببا كافيا لعناصر القاعدة حتى يتعاملوا معي باعتباري" مُرتدا "عن الدين الاسلامي .
 
حياتنا اصبحت في خطر
الاجواء في المدينة كانت تميل الى التدهور من الناحية  الامنية، فتكدست مشاعر الخوف بين اغلب السكان ،وباتوا يشعرون بأن كل يوم قادم سيكون اشد رعبا وقسوة من اليوم الذي مضى.
من جانبنا انا وزميلي المصور بدانا نستشعر اقتراب الخطر على حياتنا،وتأكدنا من ذلك باكثر من دليل،ربما اول الادلة  الشعور بأن ثمة من يراقبنا عن بعد، لكننا لم نكن نستطيع تمييزهم من بين عشرات الاشخاص المتواجدين في الشوارع،لان هناك عديد المواطنين العاديين اعتدنا ان نجدهم يلاحقوننا اثناء العمل وبدافع الفضول يحيطون بنا،اينما كنا نصوّر في الميادين العامة،لكننا اصبحنا امام دليل من الصعب التشكيك بمصداقيته بعدما ابلغني احد الاصدقاء وكان يعمل في ما مضى من السنين مصورا في تلفزيون الموصل قبل ان يحال الى التقاعد،وسارمز له بالحرفين(س . ص ) حرصا على حياته،هذا الصديق ابلغني هَمساً،بان لديه معلومة اوصلها له احد معارفه بان عناصر من تنظيم القاعدة كانوا يتابعوني انا وزميلي المصور ثائر.
وهنا لابد ان اضيف معلومة مهمة،تشير الى ان مسلسل قتل الصحفيين والاعلاميين لم يكن قد بدأ بعد في الموصل عام 2006،إذ اخذ يتصاعد مع مطلع العام 2007 حتى  وصل عدد الذين قتلوا  اكثر من 60 صحفيا واعلاميا الى ساعة سقوطها الموصل تحت سلطة داعش عام 2014 .

الارهاب يغتالُ مَن حذَّرني 
لم اعر  اهمية لرسالة التحذير التي همس بها في اذني صديقي(س . ص ) والى ما تضمنته من تهديد مبطن لحياتي من قبل تنظيم القاعدة،ولم اقدِّر مدى جديّة ماتحمله من خطورة،ولهذا لم نتوقف عن العمل.
وبعد مدة ربما لاتزيد عن ثلاثة اشهرالتقيت بصديقي آخر اسمه(محمد البان) كان يعمل مصورا ومراسلا لدى قناة الشرقية في الموصل،وفاجأني عندما اعاد همسا على مسامعي نفس التحذير الذي سبق ان وصلني من(س،ص ) .
ثم حدثت المفارقة التي لم تكن في حسباني، ثم غيرت مسار حياتي،وجعلتني اؤمن  بجدية التهديد التي كانت تستهدفني وذلك عندما تم اغتيال صديقي المصور"محمد البان" امام بيته،بعد ايام من لقائي به،وقد اعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عن هذه الجريمة، واقر بيان اصدره بتبعية المسلحين الذين اجهزوا على حياة المصور محمد البان.
وباغتياله بدأت اول صفحة في المسلسل الدموي الذي طال اكثر من (60) صحفييا واعلاميا في مدينة  الموصل.
الهروب من الموصل
وما أن سمعت خبر الاغتيال حتى وجدت نفسي اغادر المدينة صباح اليوم التالي متوجها الى اربيل، لكي اضع ادارة القناة امام حقيقة الوضع الذي اصبحنا عليه انا وزميلي المصور،وكان موقف مدير القناة الاسبق السيد( ج .م )بأن نترك المدينة فورا، والبدء بالعمل في مقر القناة في اربيل، حرصا منه على حياتنا.
وبعد ايام معدودة من مغادرة الموصل ابلغني احد اقربائي عبر الهاتف،بان ثلاثة افراد ملتحين يلبسون داشاديش قصيرة ، كانوا قد قصدوا بيته وابلغوه بأنهم سيعتبرونني "مرتدا" عن الاسلام اذا لم اترك العمل في القناة "المسيحية" واعود الى الموصل .

الاقامة في اربيل
قررت البقاء في اربيل، وعدم العودة الى الموصل ،وليس لانني بطل او شجاع انما ادراكا من ناحيتي  بان  الجماعات الدينية المسلحة مثل القاعدة لن تتسامح ابدا مع اي شخص تجده مخالفا لمنهجها،ولن تتراجع عن تصفيته جسديا.
وبناء على ذلك استأجرت بيتا في اربيل،وتمكنت من اخراج عائلتي من الموصل بشكل خفي على وجه السرعة،خشية ان تتعرض عائلتي(زوجتي وابني الذي لم يكن قد تجاوز السن السابعة من عمره)الى الاستهداف بالقتل بدلا عني،مثلما حصل لاخرين .
وبعد شهرين من انتقالنا الى اربيل اوكلت احد اصدقائي بان يتولى سرا بيع الشقة التي كنت املكها في الموصل،بالشكل الذي لايثير انتباه الجيران في الشقق المجاورة،وتمكن من ان يبيعها مع الاثاث بثمن لايعادل نصف ثمنها،خشية ان يداهمنا الوقت فينتبه الوشاة والمخبرين لتنظيم القاعدة ،انذاك سيكون من الصعب بيعها،هذا إذا لم يضعوا ايديهم عليها،لتكون تحت تصرفهم ،فما من سلطة قادرة على ان تنتزعها منهم،حتى لوشاءوا ان يفجروها .

امر وزاري بتعييني ولكن ..
في  مطلع شهرشباط (فبراير)من العام 2007 وصلتني رسالة من الاستاذ شفوية من (أ ، د) مدير معهد الفنون الجميلة في الموصل عبر احد الطلبة المسيحيين من ابناء قضاء قره قوش وكان يعمل ايضا مصورا في القضاء،   حيث ابلغني بان كتابا صادرا من وزارة التربية وبتوقيع الوزير"خضير الخزاعي"قد وصل الى ادارة المعهد  يتضمن أمرا وزاريا بتعييني بصفة مدرس على ملاك المعهد(مرفق في نهاية المقال صورة من كتاب التعيين) وابلغني بضرورة الحضور الى مبنى المعهد  لغرض استلام امر التعيين والبدء بالمباشرة في الدوام،فكانت تلك اللحظة من اصعب اللحظات التي مرّت عليّ،حتى انني بدأت اضحك دون وعي منّي،بعد ان وجدت نفسي في حيرة من امري،مابين العودة الى الموصل ومواجهة خطر القتل على يد تنظيم القاعدة وبين البقاء في اربيل والحفاظ على حياتي وخسران الوظيفة التي كنت انتظرها منذ ان العام 1992 عندما انهيت خدمة الاحتياط في الجيش.. مضت ايام وليالي وانا اتارجح في حالة من القلق والتفكير بما يمكن ان اتخذه من قرار، في مقابل ذلك حاولت التوسط عبر عدد من الاشخاص المسؤولين لاجل ان انقل امر تعييني الى اقليم كوردستان لكن جميع المحاولات فشلت فاستسلمت اخيرا لما كتبه القدر. 
فشل جهود الوساطة
ما أن تحررت محافظة نينوى من تنظيم داعش عام 2017  اتصلت بوزير التربية(د. محمد اقبال الصيدلي)عبر صفحته في موقع  تويتر،وشرحت له قضيتي بالتفصيل،لكنه اخبرني بعدم قدرته على ايجاد حل لقضيتي،لان التعيينات حسبما قال لي قد توقفت قبل سنتين من قبل رئيس الوزراء حيدر العبادي.
تبخَّر الحلم بالوظيفة
علما بان جهودي لم تتوقف عند هذا الحد واتصلت بعدد من نواب البرلمان مثل عبد الرحمن اللويزي،عادل شرشاب وزهير الجلبي مسؤول لجنة اسناد نينوى، ولكن لم اتلقى منهم سوى وعود او تبريرات بعدم قدرتهم على عمل اي شيء بخصوص قضيتي،وانا على يقين بأن اعادة تفعيل كتاب تعييني كان امرا سهلا جدا، لو كنت مرتبطا باي حزب من الاحزاب الفاعلة في العملية السياسية ، ونظرا لاني مستقل ،وغير منتمي لاي حزب مضت الاحوال معي في طريقها الاصعب .
وهكذا تبخر الحلم البسيط ، وضاعت سنوات الدراسة الاكاديمية ومعها ضاعت الوظيفة التي انتظرتها طويلا .
بناء على ذلك لم يكن امامي سوى الاستمرار بالعمل في قناة عشتار،فقد اصبحت الخيار الذي لاخيار غيره ،خاصة بعد ان اصبحت مسؤولا عن متابعة علاج زوجتي التي اصيبت بسرطان الثدي منذ منتصف العام 2015.
وخلال 14 عام من العمل في قناة عشتار  قدمت مايزيد على(1000 )ساعة تلفزيونية مابين اعداد وتقديم واخراج،ستجدونها مرفقة في نهاية حديثي ، ويمكن العثور على روابطها في قناتي الشخصية في موقع اليوتب . 

قرار مفاجىء
جاءت المفاجأة،عندما ابلغتنا ادارة قناة عشتار ودون سابق انذار وتنبيه في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 2019  بايقاف خدمات العاملين فيها،لانها  عازمة على تحديث اجهزة البث والارسال،والانتقال الى مبنى جديد آخر،وقد تستغرق هذه الاجراءات مدة مابين ستة شهور الى سنة ونصف،وهذا يعني بقائنا بلاعمل طيلة هذه الفترة،إذا لم نتمكن من الحصول على فرصة اخرى  في مكان اخر،ومثل هذا الحال سيكون بغاية الصعوبة على بعض العاملين، خاصة من ليس لديه عمل وظيفي اخر،وليس له وارد مادي غير الاجر الشهري الذي كان يتقاضاه من القناة ،وانا منهم.بينما اغلبية العاملين كانوا موظفين في مؤسسات حكومية .
بالتالي خرجت دون اي تعويض يوازي هذه الرحلة الطويلة،ومايؤلم أن ستة اشهر مضت،ولم يتصل بي اي مسؤول  من ادارة القناة للاطمئنان على احوالي،وكان يكفي اتصالا هاتفيا ولو من باب المجاملة،حتى يشعر المرء بأن سنين العمل المحمّلة بالمحبة والاخلاص والمودة لم تذهب هدرا   .
جائحة كورونا وضعتنا امام الحقيقة،فاكتشفنا ان حياتنا ومعيشتنا وارزاقنا ليس لها غطاء قانوني يحميها في العراق،وكأننا مازلنا نعيش في عصر ماقبل الدولة، فتشابه حالنا مع حال من يعمل كاسبا او بالاجرة اليومية مثل عمال البناء والبسطات،مع اننا نعد من فصيلة الاعلاميين والفنيين الذين يعملون بعقولهم وليس باجسادهم.
اعترف بان عام 2020 وضعني في اقسى  تجربة مررت بها في حياتي، رغم انني عشت طوال عمري في حالة عمل مستمر وصادفت مشقات كثيرة،لكن تجربتي بعد قرار الاستغناء كانت هي الاقسى،اولا لانني لم اعد شابا وبمسؤوليتي عائلة،وثانيا لاني كنت احمل الكثير من المشاريع المهمة التي كنت قد بدأت بانجاز جزء منها،ابرزها المشروع التلفزيوني الوثائقي(مسيحيو العراق )الذي انجزت منه 13 ساعة تلفزيونية،تم عرضها جميعها،والصدفة الغريبة ان اخر حلقة عرضت في اخر اسبوع لي في القناة ،اي قبل قرار ايقاف بث القناة بيومين،وكنت قبل قرار الاستغناء استعد للاستمرار بتكملة هذه السلسة الوثائقية،بعد ان تلقيت دعما وترحيبا ومساندة من قبل العديد من الاصدقاء المثقفين،من بينَهم سريان وعرب وكورد،مسيحيين ومسلمين وايزيدية،وكان جميعهم قد تابعو الحلقات اثناء عرضها اسبوعيا، واتصل بي بعضهم عبر الهاتف،وابدى تقديره للجهد المبذول فيها،وسجل ملاحظاته،كما ابدى البعض استعداده للتعاون معي للعمل على انجاز مشاريع وثائقية اخرى تخص جوانب مختلفة من الوجود المسحيي في العراق، بمجمل ميراثه الثقافي والانساني،ومعلوم لدى العارفين في مجال البحث العلمي وكذلك من يعمل في الافلام والبرامج الوثائقية ان مثل هذه البرامج تتطلب قدرا مهما من الجهد العلمي والبحثي اضافة الى الاستعداد الفني والتقني اثناء التنفيذ داخل الاستديو وخارجه وفي غرفة المونتاج،علما ان سلسة (مسيحيو العراق ) اخذت مني عملا مستمرا مابين البحث والكتابة والتنفيذ استغرق وقتا يصل الى عام كامل،لاجل ان يخرج بالشكل الفني الرصين،بما يجعله صالحا للعرض في اي وقت،أو في ما إذا شاءت اي قناة فضائية ان تشتريه من عشتار وتعرضه على شاشتها في السنوات اللاحقة،واظنني وضعت في هذا العمل الوثائقي،كل ما املكه من خبرة وذائقة فنية متراكمة،بشهادة المنصفين،وكنت حريصا على ان احافظ على موضوعية الطرح وجمال المعالجة الفنية،ولم اكن انتظر من عملي هذا سوى كلمة شكر فقط ،لا اكثر ولا أقل .
قبل ان اختتم حديثي ، استذكر بهذا السياق بعض ما نشرته الصحف العالمية من اخبار خلال الاشهر الماضية بعد استفحال فيروس كورونا الذي اجتاح العالم ، ففي شهر اذار(مارس )من العام 2020 تبرع لاعب كرة سلة يوناني بمبلغ (000 100 ) مائة الف دولار، انطلاقا من شعوره بالتضامن والدعم لكل شخص من عمال الخدمة  في ملعب النادي الرياضي الذي ينتمي له، لانهم اجبروا على التخلي عن عملهم،بعد ان تم ايقاف الدوري المحلي،نتيجة فرض حظر الانشطة العامة في اليونان وقاية من فيروس كورنا.
وفي مكان آخر من الولايات المتحدة الاميركية،منح صاحب شركة  جميع العاملين فيها هدية نقدية ثمينة،عبارة عن مبلغ نقدي قيمته(مليون دولار) لكل موظف من العاملين في شركته،مكافاة لهم،ولجهدهم،لانهم كانوا سببا بما حققه من نجاح .
اخيرا اقول:إن الذي يحفظ  كرامة الانسان،حصوله على مايستحقه في الحياة،والعكس صحيح.
السادة المحترمون في ادارة قناة عشتار الفضائية :انا تحدثت باسمي شخصيا ،وليس نيابة عن احد .
* مرفقات :
1- سيرتي الانتاجية في قناة عشتار. 
2- صورة طبق الاصل عن كتاب تعييني بصفة مدرس في معهد الفنون في مدينة الموصل بتاريخ 15 / 10 / 2006.
سيرتي الانتاجية في قناة عشتار :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                  برامج وثائقية :
1-   يوميات قرية                                    12  ح
2-   اصوات                                          فيلم وثائقي   
3-   مسيحو العراق                                 13 ح
4-   مواقع اثرية                                     12 ح
5-   الكلمة كانت هنا                                فيلم وثائقي
6-   دير بيث عابي                                 فيلم وثائقي
7-   كمب الارمن                                  3 ح
8-   مهجرون في الوطن                         فيلم وثائقي
9-   حكاية عمر:                                   8 ح
(الصحفي فائق بطي،الممثلة زكية خليفة،المؤرخ البير ابونا،الموسيقار رائد جورج)
 
     برنامج مواقع اثرية : 12 حلقة – وثائقي
1-   مذبحة صوريا
2-   العدة الى جنة اسمها خنس
3-   كنيسة الساعة
4-   منارة الحدباء وجامع النوري
5-   جامع النبي شيت
6-   القناطر في الموصل
7-   الخانات في الموصل
8-   شارع النجفي في الموصل
9-   مرقد الامام يحيى ابو القاسم
10-   قلعة باشطابيا
11-   قره سراي
12-   سور نينوى الاشوري
برامج ثقافية
ـــــــــــــــــــــــــــ
1-   سينوكرافيا          48 ح
2-   تواصل              96 ح
3-   المشهد الثقافي     645 ح
4-   رواق الثقافة       200 ح
5-   كلام طيب          50 ح
برنامج رموز  : 12 حلقة – ثقافي وثائقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نجيب يونس                   رسام
هشام سيدان                    نحات
جلال الحسيني                موسيقي
منهل الدباغ                   رسام
شفاء العمري                 مخرج مسرحي
لوثر ايشو                     رسام
عباس الخطاط               خطاط
فريد عبد اللطيف            ممثل
عصام سميح                 مخرج مسرحي
عبد الرزاق ابراهيم         مخرج مسرحي
سامي لالو                    فنان تشكيلي
شابا عطاالله                  فنان سيراميك
 
 

39
انَّها مسؤولية المدير أولاً وأخيراً

                                                         
مروان ياسين الدليمي

ادارة اي مشروع ينتظم في صفوفه جيش من العاملين ليست بالعملية السهلة بل في غاية الصعوبة،ولافرق هنا بين مشروع لصنع الاحذية او المنظفات المنزلية عن مشروع ثقافي او اعلامي،فإلى جانب رأس المال رغم اهميته القصوى،فالمسألة تقتضي وجود شخص يمسك بزمام الادارة تتوفر فيه جملة  خصائص،فبالاضافة الى الخبرة والثقافة والمعرفة وسعة الاطلاع،ينبغي ان تكون شخصيته على قدر كبير من الثقة بالنفس والقدرة على التفاعل مع العاملين من الناحية الانسانية،وان لايعاني من شعور بالاحباط والنقص والغيرة من الاخرين،لأن كل ذلك سوف ينعكس على اداء العنصر البشري في المؤسسة،ويطبع مناخها العام بطبع مديرها.
وعلى ذلك لايمكن ان توكل ممهمة المدير الى اي شخص لمجرد انه يحمل شهادة علمية لها ارتباط باختصاص المؤسسة،المسالة تتجاوز ذلك بكثير،لان علم الادارة يعد من احد اهم العلوم الانسانية التي تطورت كثيرا منذ نهاية القرن التاسع عشر مع النمو الاقتصادي السريع للعالم مع مطلع القرن العشرين،ومن هنا ظهرت مناهج مختلفة حول مفهوم الادارة ابرزها : المنهج الكلاسيكي ، المنهج السلوكي ، المنهج الحديث.
اجمالا كل المناهج اهتمت بالطريقة المثلى لانجاز الأعمال في المؤسسات. بمعنى انها اعتمدت مجموعة قواعد ومبادئ علمية غايتها الاساسية تتمحور  في كيفية استخدام الموارد بشكل انسب وافضل لاجل الوصول الى اهداف المؤسسة باقل وقتٍ وجهدٍ وكلفة.
بطبيعة الحال جميع المناهج الخاصة بعلم الإدارة قد اجتهد فيها منظروها كل حسب فلسفته،وهذا يعني ان الإدارة ليست قوالب جامدة،انما متجددة في مناهجها واساليبها وتطبيقاتها،خاصة وانها تعتمد على العنصر البشري ، بمعنى ان الادارة حسب مايتفق العاملون في هذا المجال انها "فن  إنجاز الأعمال من خلال الآخرين" وهذا يستوجب من  صاحب رأس المال ان يفكر طويلا قبل ان يوكل مهمة ادارة مشروعه الى اي شخص،وان يضع في حساباته عدد من النقاط ينبغي ان تتوفر بالشخص الذي سيستلم منصب المدير طالما انه جوهر عمله يتلخص في كيفية استثمار قدرات الاخرين ومهاراتهم لانجاح المشروع،وسيكون مصير هذه المؤسسة الفشل اذا ما كان المدير لاتتوفر فيه الشروط الاتية  :
 -عندما لايملك اي طموح شخصي لتطوير عمل مؤسسته،ويكتفي فقط بما هو قائم من امكانات .
-عندما لايضع خططا جديدة مع نهاية كل مرحلة من مراحل عمل المؤسسة .
-عندما يتحول العمل في المؤسسة الى روتين،بسبب غياب المتابعة والتشجيع على المبادرة من قبل المدير .
-عندما يكون المدير بعيدا عن العاملين في المؤسسة،ولايتقرب منهم لمعرفة الصعوبات التي يواجهونها في عملهم يوميا،ولايسعى لتذليلها .
-عندما لايحرص على عقد اجتماعات دورية ثابتة المواعيد مع رؤساء الاقسام خلال ايام الاسبوع لمتابعة العمل وسيره .
-عندما لايعير اهمية للاجتماعات الدورية (اليومية والاسبوعية والشهرية) مع رؤساء الاقسام ،باعتبارها واحدة من الادوات الناجحة لمعرفة اوضاع المؤسسة وتطوير اليات وبرامج عملها .
-عندما يفتقر الى المخيلة والمبادرة في تقديم اية افكار وبرامج لتطوير عمل المؤسسة وبرامجها،ويكتفي فقط بالسماع .
-عندما لايتابع العاملين الذين يمتازون بالنشاط والمثابرة ولايثني على جهدهم ولايكافأهم .
-عندما ينحصر كل تفكيره في  ان يحسب كل انجاز تحققه المؤسسة لصالحه الشخصي،ويستثمره لتحقيق مكاسب تعود بالنفع له وحده .
-عندما يصر على الغاء دور المستشارين ورؤوساء الاقسام ويحتكر بشخصه مسؤولية ادارة المؤسسة .
-عندما لايمتلك اية مؤهلات ثقافية لادارة المؤسسة من حيث التخطيط والتفكير والتنفيذ ،وهنا لن يجدي نفعا اذا كان يمتلك خبرة تقنية ولايملك وعيا وثقافة تساعده في ان يكون الدماغ الذي يرسم مستقبل المؤسسة .
-عندما يكون المدير منشغلا ومهووسا برغباته وهواياته الشخصية اكثر من  ان يفكر في تطوير المؤسسة التي يديرها .
-عندما يقرِّب الى جانبه موظفين فاشلين في عملهم،ولايمتلكون مؤهلات سوى انهم يرفهون عنه .
-عندما يصغي المدير الى وشاية موظفين محدودي الذكاء والمؤهلات بحق زملائهم .
-عندما لايكافىء العاملين الذين يبذلون جهدا مميزا انذاك سيحطم روح المنافسة والمبادرة بينهم ،ويمنح الفرصة للفشلة في ان يكونوا هم النموذج الذي يحتذى به .
هذه الملاحظات اذا ما اجتمعت في شخص من يدير اية مؤسسة فلن يكون مصيرها الا الفشل والانهيار والافلاس،بمعنى ان نجاح اي مشروع يعتمد على شخصية المدير اولا وآخرا ، والعكس صحيح .
وإذا ما دققنا في اسباب فشل معظم المؤسسات سنجد ان الامر يعود برمته الى شخصية المدير،ولايتحمل العاملين اية مسؤولية من جانبهم ، لانهم ليسوا اصحاب قرار في ادارة المشروع ، وبكل الاحوال هم ينفذون سياسة المدير،خاصة اذا لم يكن هناك مجلس استشاري للمؤسسسة،اويكون المجلس موجودا ولكنه معطل من قبل السيد المدير .
ولكي لاتنجرف سفينة المؤسسة الى الغرق في بحر الفشل يجب العمل على ان لايترك المدير مطلق اليد في ادارة المشروع ،وان تحدد صلاحياته، بصلاحيات هيئة او مجلس استشاري يتشكل اعضائه من خبراء وان تعطى الصلاحيات لرؤساء الاقسام من اجل ادارة اقسامهم .
لعل الإدارة اليابانية تعتبر من ابرز واهم المناهج الحديثة في الادارة،إذ تميزت بما يسمى "حلقات الجودة" حيث يشارك جميع الموظفين في حل المشكلات وتقديم المقترحات التي تساعد المؤسسة.وأثبتت المدرسة اليابانية تفوقها على غيرها من المناهج ويعزى اليها نجاح  الشركات اليابانية في تحقيق إنتاجية اعلى  من الشركات والمؤسسات في اي بلد آخر  ولهذا اعتمدتها اغلب الشركات الاميركية .
من المؤكد ان اصحاب رؤوس الاموال يطمحون جميعا الى ان تنجح مشاريعهم ولايخسروا اموالهم واحلامهم ولايتسببوا بكوارث للعاملين المخرطين معهم،وسيكون من المنطقي ان يتأنوا كثيرا في اختيار المدير الذي سيكون مسؤولا عن اموالهم ونجاح احلامهم ومصيرمستخدميكم وعوائلهم .

40
بيان من فناني نينوى النازحين في اقليم كوردستان

إنَّ شعورا جمعيا يكاد أنْ يكون قاسما مشتركا يجمع فنانين ومثقفين ينتمون لمدينة الموصل ــ من النازحين الى اقليم كوردستان ــ بأن الوقت قد حان من اجل ان يعلنوا صوتهم،ويكون لهم حضور واضح وفاعل في المشهد العام بما هو كائن وماسيكون،ايمانا منهم بأن مدينتهم تستحق أن يُقدّم لها ابناءها الكثير من جهدهم،خاصة وأن محنتها قد طالت كثيرا من بعد ان سيطر عليها تنظيم داعش في 10 / 6 / 2014 ،فأصبحت المدينة مع اهلها آمام خيار واحد لابديل عنه: إما الحياة أو الحياة،وإلا لن يكون الموت دونها سوى أمر عابر لاقيمة له.
والفنانون الموصليون رغم انهم يعانون مرارة حياة النزوح والتشرد بكل ما تحمله هذه الحياة من صور المذلة والمهانة،إلاّ أنهم لن يرتضوا لأنفسهم في ان يتركوا مدينتهم وحيدة لامعين لها،بعد أن تخلى عنها الجميع وفي المقدمة منهم بغداد،التي لم تلتفت اليها منذ عام ونصف وتركت شعبها تحت رحمة حفنة مجرمين وقتلة ،وكأنها بذلك قد شطبت نينوى، ثاني اكبر مدن العراق بعد العاصمة بغداد من خارطة العراق بكل تراثها الحضاري والانساني .
وبناء على ذلك اجريت عدة لقاءات بين عدد من الفنانين الموصليين في مدينتي اربيل ودهوك منذ فترة ليست بالقصيرة استعدادا وتهيئة لما ينبغي عمله في الفترة القريبة القادمة،وتم الاتفاق على ضرورة التحرك باتجاه الهيئات الرسمية وغير الرسمية ومنظمات المجتمع المدني من اجل الحصول على ابسط مستلزمات الدعم لاجل العمل باتجاه إشاعة روح التفاؤل بين اوساط النازحين في المخيمات،لأنهم احوج مايكونوا الى أن يشعروا بوجودهم الانساني وان لهم وطنا ينتظرهم ولن يتخلى عنهم مهما اشتدت الصعوبات.
من هنا التقى الفنانون يوم امس الاثنين 25 / 1 / 2016 في مبنى مجلس محافظة نينوى البديل في محافظة اربيل بالسيد بشار الكيكي رئيس مجلس المحافظة تلبية لدعوته الكريمة التي وجهها لهم .
وقد حضر اللقاء جمع كبير من الفنانين والادباء والصحفيين والاعلاميين يمثلون مركز المدينة واطرافها اضافة الى سهل نينوى، وقد تم الاتفاق في هذا اللقاء على تشكيل لجنة استشارية مؤلفة من ستة فنانين بكافة الاختصاصات الفنية تتولى ايصال الافكار والطروحات والمشاريع الى الجهات الداعمة والمساندة،بِدأً من مجلس محافظة نينوى وبقية المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية .
ومن جانبه ابدى السيد بشار الكيكي استعداد تاما لتقديم الدعم والمساندة وكل مامن شأنه أن يساهم في نجاح عمل الفنانين وتنفيذ تطلعاتهم النبيلة خدمة لمدينتهم،خاصة وأن مااجتمع عليه الفنانون في هذا اللقاء ــ بكل انتماءاتهم القومية والدينية ــ كان قد تمحور حول اشاعة روح التفاؤل والأمل بين النازحين،والعمل على اشاعة مفاهيم التعايش والاخوة والتسامح بين ابناء المدينة،كمقدمة اولى تسبق خطوات اكبر تنتظرهم في هذا الاطار القيمي بعد تحريرها،ادراكا منهم بأن مرحلة مابعد التحرير هي اصعب بكثير من تحريرها،لأن ماسيخلفه تنظيم داعش من حواضن ورواسب فكرية تحتاج الى جهد وعمل فكري هو اكبر بكثير من اي جهد عسكري تفرضه معركة التحرير .



                                             الهيئة العامة لنقابة فناني نينوى
                                              النازحين في اقليم كوردستان
                                                   27 / 1 / 2016


41
لاسَماء تستَظلُّ بِفيئِها

                                                   
مروان ياسين الدليمي
مَن يُراقب عَن كثب المشهد التراجيدي في سيرك السياسة العراقية يُدرك جيداً،بأن الابطالَ الذين يتصدرون الواجهة ليسوا هم الابطال الحقيقون،فهؤلاء لاتأثير لهم على تطور الاحداث ونموّها.
وحقيقة البِناء الدرامي لهذا المشهد يشيرُ إلى أنَّهم مُجرّد اقنعةٍ تختفي خلفها شخصياتٌ تُمسك بمفاتيح اللعبة المسرحية في إطارها العام وفي أدق تفاصيلها أيضا.
كانت حكومة السيد العبادي قد إكتشفت بعد الايام الاولى من توليها أنها أعجز من أنْ تواصل حَربها على الفساد والجنود الفضائيين الذين ماان كَشَفتْ عن مجموعة صغيرة  منهم قوامها 50000 جندياً حتى توقفت نهائيا عن الاستمرار في عملية الكَشف والتَّعرية ولمْ تعُد تُريد أنْ تتذكر بأنها قد تناولت مثل هكذا  قضية في يوم ما! 
مازالَ  المالكي هو اللاعب الرئيس في هذا المشهد المُعبّد بالدّم والخراب،فهو الذي يملك القوة والتأثير على معظم المليشيات الشيعية المسلحة،اضافة الى الحشد الشعبي ،الذي جاء تشكيله بناء على مقترحٍ منه قبل مغادرته للسلطة .
فإذا ما أردنا ان نوجِّه رسالة نعبر فيها عن موقفنا ونُخاطبَ بها شخصية نعتقد بأنها تتحملُ مسؤولية سقوط الموصل تحت سلطة دولة الخلافةوماجرى فيها بعد ذلك من عملية تدمير وذبح لسكانها فعلينا أنْ نوجهها الى المالكي شخصيا،لأنّه يتحمل وحدهُ ماجَرى ومايجري فيها من انتهاكات ضد سكانها،قبل أنْ نحمّلَ القادة مِن عسكريين ومدنيين الذين هربوا منها ولم يقاتلوا دفاعا عنها .
إلى نوري المالكي ..
إعلمْ،بأنَّ الشعوب الحيَّة لنْ تموتْ،وأَّنَّ ألاكاذيب لنْ تصنعَ أبطالاً ولاتاريخاً ولامجداً..ومَن يُراهن على أنْ يُسقِطَ مَدينة مِن ذاكرة الإنسانية بالاكاذيب،لنْ ينجح .
واعلَمْ،بأنَّ الأيامَ كتابٌ مفتوح ستقرأ الاجيال القادمة بين سطوره قصَّةَ مدينةٍ ــ إسمها الموصل ــ طُعنَت في ظهرِها بأكثر مِن سكينٍ وأكثر من يَدٍ،وكَمْ كابَدت في محنتها،ثم انتصرتْ ــ بعد مائة عَام  ــ لشرفها.
اليوم تُقدِّم الموصل كوكبة أخرى مِن الشهداء مَنَحت دمَها قرباناً لكرامة مدينتهم، وانتماءً لوطنهم العراق وليس لوطنٍ وعنوانٍ آخر..
أرجو أنْ تفهَم هذا الدَّرس،لأني أُقدِّرُ وضعكَ تماماً،في أنّك بطىءٌ جداً في الفَهَمْ ،فحاول أن تفهم،فماتبقى من الوقت شحيح جداً .
الذين أعدَمَهم تنظيم دولة الخلافة في أواخر شهر حزيران الحالي المصادف في شهر رمضان وعددهم اكثر من 25 شابا بدعوى تورطهم بالتجسس على دولة الخلافة،تفنن في اساليب قتلِهم بطرق وحشية لم تعهدها البشرية في تاريخها،لم يتوصل اليها أعتى المجرمين.
هؤلاء لم يرفعوا راية يَزيد،ولاتوسَّلوا بمعاوية أنْ ينقذهم قبل أنْ يلفظوا أنفاسهم..
هم نطقوا بالشهادة،مثلما نطقها الحسين،والجندي الآسيرمصطفى هاني ابن مدينة الثورة الذي أعدمه تنظيم الخلافة قبل شهر من الآن في الفلوجة .
تذكَّر هذا جيداً،لأنك كُنتَ ومَازلتَ مُصرَّا على أنْ توصِم مَن يختلف مَعك من أتباع الطائفة السنية على أنَّه من جيش يَزيد،وهذا يعني بأنك تطلب الثأر من كل الذين  ينتمون الى هذه الطائفة أينما كانوا،وهُمْ يعدّون بالملايين،فهل ستُحمِّلَ هذه الملايين الموزعة على الكرة الارضية والتي تنتمي لجنسيات وقوميات مختلفة جريمة لم يرتكبوها ؟ .
هل ستمضي بهذا الشوط الدامي حتى النهاية ؟..وماالنقطة التي ستجعلك تقف مكتفياً بما سَال مِن دَم لتأمر زحفك الثأري بأنْ يكُفَّ عن الاستمرار بالقتل ثأراً للحسين ؟ كم من الارواح ستُزهَق من أجل أنْ تبدوــ  أنتْ ــ بالصورة التي ترغب فيها أنْ تكون أمَامَ اتباعك،مُخلِصَاً في الثأر للحسين ؟..كم من الرؤؤس ستسقط في سفر هذا الدَّم لأجل أنْ تبقى في نظر مُريديك مُختار العَصر كما تُحب أن يُطلقَ أن عليك ؟. . كَمْ مِنْ مدينة ستسقط  بعد الموصل؟..كم مِنْ عائلة ستُهجَّر ؟.. كم مِنْ شيخ سيموت مِنَ الحزن ؟..كم مِنْ إمرأة ستضيع ؟.. كم مِنْ طفل سيمتلىء قلبه بالحقد ؟..كم مِنْ جيلٍ سيُسحقُ في هذه المحرقة  بدعوى الثأر للحسين ؟.
أنتَ تعلمُ جيدا أنْ لاأحد من اتباع الطائفة السنية ــ من الاجيال التي جاءت بعد تلك الجريمة التي وقعت بحق الحسين وأهله ــ مسؤولا عنها،وهم أول مَن يتبرأ منها ومِنَ الذين كانوا وراء ارتكابها،ولنْ تستطيع أنتَ ولا أي واحدٍ آخر أنْ يلوي عنق الحقيقة مهما اتَّكأ على مخيلة شعبية مُلِئتْ بها رؤوس البسطاء الأميين من الطائفة الشيعية عبر عشرات السنين،فكان نتيجتها أن ضاع بسببها جوهر الدين القائم على السماحة،وبدلا عنه صار قتل المُسلم لأخيه المُسلم طاعةً وتقرباً لله !.
أنا لاأشك أبداً بأنك تدرك جيدا ماذا تفعل،ولاأشك أبداً في أنك مؤمن بما تفعل ،ولاأشك أبداً في أنَّ لديك ايمانٌ عميق على أنك مُسلم طاهر في نواياكْ،وعلى أنك تتقرب بما تفعل الى الله،ولايداخلك شعور بالندم على مافعلت فيما مضى وماستفعل، ولاأشكُّ أبداً في أنك لست وحدك على هذه الصورة من الايمان،فمثلك آخرين من بين اعضاء حزبك ــ حزب الدعوة ــ يحيطون بك،ومثلهم آخرين يقفون على بعد خطوة منك،ينتظرون الفرصة أنْ تأتيهم ليأتوا بما أتيتَ أنتَ وأكثر،ومِنْ بين هؤلاء مَنْ يحمل إيمانا عميقا مثلما أنت عليه من إيمان بهذه المعركة التي تخوضها انت،ومِنهم من هو ليس بمؤمِن لكنه يؤمن بما أنت مؤمن به .
أنا على يقين بأنك لاتنتمي إلى زمننا هذا،وتعيش زمناً خاصاً لاعلاقة له بِنَا، ولابواقعنا ولابالحقائق التي نتعايش معها ولابالمنطق الذي يحكم افعالنا..فمالديك ومايحتويك وتحتويه ماهو إلاّ زمنٌ افتراضي،أجدك قد استعرته من مُخيلة جامحة تناوبَ على نسج حكاياتها،كهنةٌ ورجالُ دين وساسة،أتقنوا النَّسج افضل إتقان،بعيداً عن تفاصيل الحكاية التاريخية،وبعيدا جداً عن الواقع والواقعة،وقريبا جداًمن الرغبات والنوايا والمطامع والمطامح السياسية.
لن أطيل عليك..وسأختصر فيما اريد أنْ اقوله لك، قبل نفاذ الوقت ونفاذ الصبر .
المِحنة تتسعُ يوماً بعد آخر،والجُرح عميقاً جداً يغورُ في الرّوح،وأرقام الضحايا ستصبح أكبر مما يمكن أن تتخيله أنتْ،وشظايا المِحنة ستطال الكُل،بما فيهم أنتْ،ولن تأمَن شرَّها مِلّة ولاطائفة..عندها ستختفي شيئا فشيئا صور المتورطين بأسبابها،إلاَّ صورتكَ أنتْ ستبقى من بين جميع الصور،ولنْ تمحوها السنين .
وحدك مَنْ سيبقى في الصورة،ومَنْ سيتحمل مسؤولية ماجرى للعراق،وماجرى لأتباع الحسين.
سيتخلى عنك جميع من صفقوا لك وأقنعوك بأنك مختار العصر..ستجد نفسك وحيداًبلاأتباع ولامُريدين ولاأعوان ولاأصحاب..لاأرض تحتويك في شرق البلاد ولاسماء في غربها تستظل بفيئها..
ستنتهي كما انتهى قبلك حُكّاما،غابت الحِكمة عنهم،فحكموا على انفسِهم قبل أنْ يحكم عليهم الدّهر .

42
حِلفُ  الصَّامتين ..

                                                   
مروان ياسين الدليمي
صَوتُكم ــ الحُرْ  ــ يستحق التأييد والاحترام والتقدير وهو يُعلن إدانته الشديدة لجريمة سبايكر، وسبي النساءالايزيديات،وتهجير المسيحيين .
إلاّ أننا نضعُ أكثر مِن علامة استفهام وتعجب،أمَام صَمتكم  ـ الحُرْ ـ على مشهد الأنباريين وهم يقفون يائسين على جسر بزيبز،ينتظرون السماح لهم بأن يدخلوا بغداد..!!!؟؟؟؟؟
فهل صمتكم يعني أنكم تؤيدون أنْ يبقوا في العَراء ينتظرون موتهم البطيء تحت حرارة الشمس  ؟
أم تجدون في موت النساء والاطفال والشيوخ المدنيين أمرا طبيعيا بعد أن تآلفتم مع صور الموت اليومي طيلة الاعوام العشرة الماضية ؟
أم أن الموضوع برمَّته لايعنيكم أصلاً طالما ــ هؤلاء ــ على غير مِلتكم وديِنكم وطائفتكم ؟
أم لأنكم تؤمنون بأن الموتَ حَقٌ في العراق ــ بسبب وبدون سبب ــ ومامِن قوَّة تستطيع أن تقف بوجهه  ؟
أم أن حَالكم المُزري قد وصل بكم الى درجة من اليأس والعجز بالشكل الذي اصبحتم تجدون فيه أنْ لاجدوى ولامعنى من الاحتجاج السلمي على قرارات سلطةٍ جائرة،طالما لاتصغي ولاتستجيب ولاتُعر اهمية لأي صوت قد يحتج أو يستهجن او يدين  ممارسات اجهزتها الامنية والعسكرية ضد المواطن ؟
أم أن الخوف بات يداخلكم ويحذركم في أنكم ستنتهون بنفس الطريقة إلتي أنتهى إليها الفنان هادي المهدي والمدرب محمد عباس والاعلامي رعد الجبوري والشيخ قاسم الجنابي إذا ما اعلنتم احتجاجكم ؟
أم أنكم تخشون بأن تتهموا بدعمِكم لِمَنْ تتهمهم السلطة على أنَّهم كانوا ومازالوا حاضنة للأرهاب والارهابيين ؟
أم لأنَّكم في قرارة صَمتكم ــ الاستراتيجي العميق ــ تتأملون بأن تُصرَّ السلطة على موقفها هذا،وأن لاتسمح للأنباريين ابدا بدخول بغداد،لكي تزداد مشاعر الكراهية والحقد بين الطرفين،فتتسع بذلك المسافة بينهما،إلى الحد الذي يصبح العيش المشترك على ارض واحدة ووطن وواحد أمرا مستحيلاً،وصولا الى أن يصبح قرار التقسيم امرا واقعا ومقبولا من قبل الجميع ؟
أم لأنكم وصلتم الى مرحلة مِن الغيبوبة ــ لكثرة الصدمات والنكبات والطعنات ــ إلى الحد الذي اصبحتم فيها غير قادرين على التفكير والتمييز والتحليل والتقدير،فسلمتم أمَركم وحالكم ومستقبلكم ومصيركم ووجودكم ــ المُشترك الديموقراطي الاتحادي ــ إلى أولي الأمر منكم،في أن يقرروا وينفذوا نيابة عنكم،وماعليكم إلاَّ أن تؤيدوا أو تصمتوا ؟
هذه الاسئلة،لن تنتظر اجابة منكم،فالوقت كفيل بالرد عليها بشكل واضح وصريح،والاجابة ــ حسب ظنّي ــ ستكون قاسية لِمن آثَرَ الصمت ولم يشارك الآخرين محنتهم ــ قولاً وفعلاً ــ حتى وإنْ كانوا من غير ابناء جلدته .
وعذره لن يكون مقبولا،فيما لو أقَرَّ بأنَّه لَمْ يَجد ما يستوجب الاهتمام بمصائب الآخرين ــ حتى لو كانوا شركاءه في الوطن ــ لعِظم المصيبة التي كانت عليها مِللتهُ.
كلنا في مركب واحد،ولن يكون أمامنا إلاّ خيار وحيد يفرض علينا بأن نتشارك معا في أختيار وجهة ومسار الرحلة،وأن لانترك مصيرنا مرهونا بقرار يتخذه فرد واحد او حزب واحد او طائفة واحدة،وإلاَّسنكون حمقى بامتياز،لانملك ذاكرة حية تحمينا من الوقوع في المحنة مرَّة وأخرى .

43


النَّقد يُقصي شُعراءَ الموصل
                                             
مروان ياسين الدليمي

هل بدأنا نشهد تخندقا مناطقيا و طائفيا في إطار الفعل الثقافي مثلما هو حال المشهد السياسي العراقي  بعد العام 2003 ؟
هل بدأنا نؤكد في ممارستنا الثقافية على أننا لمْ نعُد نَخجَل،ولمْ نعُد نتلعثم في الإفصاح عن انحيازانا المناطقي والطائفي ؟
وكأننا قد أصبحنا في تصالحٍ ووئامٍ تام مع ماكُنّا نعدهُ خطيئة قبل أنْ يكون خطأً..مع ماكُنّا نَربأُ بأنفسنا عنه مِنْ توصيفات ومصطلحات وعناوين لاترتبط بأيّة صلة بالمنجز الثقافي،بقدر صلتها بماينتمي الى ماهو متخلف من الموروث القَبَلي بكل اشكاله؟
هذا مايبدو لنا في ظاهر صورةٍ إختفى عنها تعدد الألوان،ليتَسيّدَها اللونان الاسود والابيض..صورةٌ شاحبةٌ مُظلِلَة يقف خلف تصديرها مثقفون يفتقرون الى أدنى مستوى من الشعور بقيمة الهوية الوطنية قبل أن تدركهم شؤون المعرفة والثقافة والانصاف بالقول والتفكير .
صورةٌ بات يعكسها مشهد ثقافي ــ عراقي بامتياز ــ طالته شظايا واقعٍ مُلتَبسٍ ومُتلبَّسٍ  بتناحرٍ وتجاهلٍ وتغافلٍ مناطقي وطائفي،إستعار أدواته من واقع سياسي مُشوَّهٍ ومشوِّهٍ جاء نتيجة طبيعية لما فرضه المحتل الاميركي عام 2003 من مفاهيم،كان الهدف منها تدمير القيم والمثل الانسانية التي كانت تجمع الناس على العيش والتعايش المشترك بشتى مِللِهم ونحلهم وفرقهم،إلى الحد الذي لايرى أيّا منهم إلاّ نفسه وطائفته وعشيرته،وكل ماعدا ذلك لاوجود له.وإلاَّ مامعنى أن يٌشطَب شعراء الموصل ــ جميعهم ــ في اصدار ادبي يدََعي توثيق الأسماء الشعرية ــ مع نماذج من نصوصها ـــ التي ظهرت في العراق خلال الاربعين عاما الماضية ؟   
وكأن الموصل وفق هذا الاصدار لم تعرف الشَّعر،ولم تكتب الشَّعر،ولم تحتف بالشَّعر،ولم تنجب شعراء ! وهذا مالايتفق مع السياق العام للثقافة العراقية التي كان الشعر علامتها الفارقة،ولم تكن تخلو اية مدينة ولاقرية عراقية من شاعر ينتمي لها،فكيف الحال بالموصل وهي واحدة من ثلاث مدن عراقية ــ بغداد البصرة النجف ــ كانت منذ العهد العباسي والاموي رافداً حيويا في مسار الثقافة العربية، وكان الشعر أحد أوجهها.
اليست الموصل في طليعة مدن العراق التي احتفت واحتضنت أولى علامات الحداثة والتحديث في المجتمع العراقي ابتدأ من منتصف القرن التاسع عشر؟
اليست لها الريادة الاولى في تأسيس أول مدرسة وأول مشفى وأول مطبعة وأول عرض مسرحي ؟ 
المدينة التي يكون سياق مسارها الحضاري على هذه الصورة لابد أن يولد فيها الشعر بالفطرة على لسان ابنائها وليس العكس هو الصحيح .
لم تكن الموصل مدينة تقبع في مجاهل الصحراء ولامدينة من رمال،وهي المدينة التي يأبى فصل الربيع إلاّ أن يزورها مرتين خلال العام الواحد،ولهذاتكنى بأم الربيعين،فكيف لايولد من ربيعها شعراء .
أن قائمة المطبوعات الشعرية التي صدرت عن شعرائها خلال العقود الاربعة الماضية يطول ذكرها،وفاز عدد من تلك الاصدارات بجوائز عربية ودولية،وقائمة المهرجانات الشعرية التي نظمها شعراء المدينة من الأهمية بمكان أن دفعت معظم شعراء العراق والعرب المشاركة فيها،كما هو الحال في مهرجان ابي تمام بدوراته الاربع(دورته الاولى عام 1971 ودورته الاخيرة عام 2010 ).وكان لبعض شعراء المدينة حضورا متميزا في مهرجانات الشعر العربية كما هو الحال مع وليد الصرَّاف وعمر العناز اللذان كانا من ابرز المشاركين في مسابقة امير الشعراء في ابوظبي،وقد اكتشف الصرَّاف عندما شارك قبل عامين بمهرجان شعري في موريتانيا ــ بلد المليون شاعر ـــ ان اغلب الحاضرين يحفظون اشعاره ويتغنون بها.   
مادفعني الى هذه المقدمة  ــ التي تحمل رسالة احتجاج اكثر مما تشير الى خلل في عجلة الثقافة العراقية ــ قراءتي لكتاب يحمل عنون(القيثارة والقربان..الشعر العراقي منذ السبعينات وحتى اليوم) الصادر بطبعته الاولى عام 2013 عن دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع (553 صفحة ) وقد تولى تحريره وتقديمه سهيل نجم،كما كتب مقدمة مطوّلة له الشاعر شوقي عبد الامير .
كما يبدو فإن  هذا الاصدار قد جاء ليكون مصدرا  للدارسين والباحثين،  يسهل عليهم معرفة خارطة الشعر العراقي خلال اربعة عقود مضت،اسماءً ونصوصاً .
الملاحظة الجوهرية التي تسجل على هذا المطبوع إغفاله ــ التَّام  ــ لكل الاسماء التي كَتبت الشعر في مدينة الموصل خلال الفترة التي رصدها وارشفها،مع ان الذين كتبوا الشعر خلال الاربعين عام الماضية في مدينة الموصل كان لهم حضورهم المؤثر خلال هذه الفترة،نذكر بعضا منهم على سبيل المثال لاالحصر:معد الجبوري،عبد الوهاب اسماعيل،سالم الخباز، ذوالنون  الاطرقجي،مزاحم علاوي،حيدر محمود،امجد محمد سعيد،يونس صدّيق،رعد فاضل،نامق سلطان،إياد العبّار،محمد صابر عبيد،كرم الاعرجي،كمال عبد الرحمن،كامل النعيمي،زهير بردى،اوس الفتيحات،عبد المنعم الامير،وليد الصراف،عمر العناز،هشام عبد الكريم،محمود الدليمي،ماجد حامد محمد، حاتم حسام الدين،باسل كلاوي،جلال الصائغ،علي حيدر ،مروان ياسين الدليمي،امير بولص وعد الله ايليا،وآخرين.
في المقدمة التي تصدَّرت المطبوع يقول محرر الكتاب سهيل نجم إن:" القارىء سيجد هنا قعقعة اصوات الحروب والآمها وسرفات الدبابات ونداءات وتذمرات،فضلا عن الاصوات الداخلية التي تشتكي العزلة والوحدة ومصارعة وحش الغربة الممضة " .
ويبدو أن سهيل نجم ولا عبد الامير لم يجدا في نصوص شعراء الموصل" قعقعة اصوات الحروب والآمها وسرفات الدبابات ونداءات وتذمرات،فضلا عن الاصوات الداخلية التي تشتكي العزلة والوحدة ومصارعة وحش الغربة الممضة". ولربما وجدوهم قد انصرفوا الى عوالم اخرى لاصلة لها بهموم الشعر العراقي التراجيدية،ولهذ لم يحتف الكتاب بهم .
اي متابع للشعر العراقي المنتج خلال العقود الاربعة الماضية لايستطيع ابدا أن يتجاهل صوتا شعريا مثل مَعَد الجبوري أو رعد فاضل على سبيل المثال .
بنفس الوقت نجد عديد من الاسماء العراقية التي وردت في هذا الاصدار لايمكن مقارنة منتوجها الشعري ــ من الناحية الفنية ــ بمايكتبه الجبوري وفاضل،بما تحمله اشعارهما من  دلالات تشير الى أنهما كانا في تفكير دائم بانتاج نص شعري يحمل علامات التجديد والتفرد  في بنية النص الفنية .
هذا التجاهل  ــ سواء كان مقصودا أم غير مقصود ــ يحمل بين طياته  اجحافا كبيرا بحق شعراء مدينة الموصل،قبل أن يكون تنصُّلاً عن شرف الأمانة العلمية التي يتوجب على الباحث أن يتمسك بها،وهذا ما يفرض علينا أن نطرح سؤالا جوهريا على محرر الكتاب: لماذا تعامَلَ بهذه الطريقة ــ التي اقل مايقال عنها انها تفتقد الى العلمية والموضوعية والأنصاف ــ  مع شعراء الموصل،مع أن المدينة لم تكن طارئة بين المدن العراقية،سواء في وجودهاالتاريخي أوفي حضورها الشعري،بل على العكس من ذلك كانت دائما حاضرة وفاعلة طيلة وجودها الذي يمتد لمئات السنين في الثقافة العراقية والعربية ؟
أجد أن السيد محرر الكتاب سهيل نجم والشاعر شوقي عبد الامير الذي كتب المقدمة له،قد وضعا نفسيهما في زاوية حرجة أمام الباحثين والنقاد والمبدعين المنصفين ــ الذين سينصفونهما جيدا ــ  عندما سيطرحون عليهما اسئلة  محددة بلا أدنى شك : لماذا هذا التجاهل ؟ هل كان القصد منه مدينة الموصل أم شعراءها ؟
جوابهما في كلا الحالتين سيزيد الطين بِلة،فالموصل لايستطيع أن يتجاهلها أحد، مهما كان وأيّا كان ،ولاحتى شعراءها .
ختاما نرجو ان يكون النسيان، وليس أمراً آخر، وراء هذا النسيان  .


44
رواية سقوط سرداب .. للكاتب العراقي .. نوزت شمدين   
           تنوع الوحدات الأسلوبية في  البناء السردي

                         
                                                                  مروان ياسين الدليمي
الناشر/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الطبعة الاولى .
تناوب الرؤى
نَسَجت مخيلة نَوزتْ شَمْدينْ السردية علاقة فنية مُركَّبة في رواية سقوط سرداب،مِن خلالها حَاول أنْ يؤسس عَالما سردياً يكشف أوجاع الانسان في أزمنة يواجه فيها عالما واقعيا تتمدد فيه سلطة الخوف والتقارير السرية ومفارز الأمن والاستخبارات   وهي تقتحم النفوس قبل أن تقتحم البيوت..علاقة في متنها الحكائي يجمعُ المؤلف تداخلات المتخيّل السردي مع الحدث الواقعي في تركيبة تتأرجح مابين:رؤية داخلية، اضطلعت بهاالشخصيةالرئيسة/الساردةللأحداث(ثائر)ورؤيةخارجية/تقريرية اضطلع بها الراوي العليم بكل شيء.
خارطة هذه العلائق الفنية تكشّفت خطوطها في بنية الرواية،متواشجة مابين سلطتي الزمان والمكان،خاصة وان السّرداب ــ باعتباره حيزا مكانيا ــ يشكل بؤرة مركزية محدودة ومنغلقة على شخصية واحدة داخل سلطة زمن ساكن محدود،إلاّ أن شمدين جعل من هذا الحيز المكاني منطلقا لرؤية ذاتية نحو مديات زمنية أوسع ــ زمانا ومكانا ــ  ازاء احداث  وشخصيات عديدة تتوزع في ازمنة وامكنة بعيدة تمتد من مطلع القرن العشرين حتى العام 2003 حيث سقطت الدولة العراقية مع سقوط نظام صدام عندما استباحت البلاد قوات الاحتلال الاميركي وليسقط معها السرداب الذي احتمت فيه الشخصية الرئيسة (ثائر)بعد أن هرب من الجيش .
تكشف بنية المتن الحكائي في مسار الرواية السردي خروجه عن نظام التتابع الزمني في اطاره العام ونهوضه متهيكلاً على اسس علاقة فنية ينتظم فيها شكل الزمن في المتن الحكائي ضمن مستويات متراكبة مابين  التوازي والتداخل والاستباق والارتداد داخل المتن الحكائي .
هذا التجاور والحضور لأنظمة  سردية في صياغة زمن مكونات المتن الحكائي المسرود يشيرُ إلى ان البنية الفنية التي ارتكز عليها شمدين في تكوين منظومة تقانات خطابه السردي قائمة على تقديم العلاقات السردية التي تحتفي بها نماذج رواية مابعد الحداثة،مُستبعدا بذلك العلاقات السببية التي عادة ماتنتظم فيها مقدمات الرواية التقليدية في استباقها للنتائج .
اختيار هذا الاجتراح التقناتي الذي انتظمت فيه نظم الصَّوغ،منح القارىء فرصة كي يعيد تفكيك وتنظيم هذا الزمن المتناثر في المادة الحكائية،ليتولى بنفسه اعادة ترتيبها من جديد،بذلك يكون شمدين ـــ وفق هذه الرؤية ـــ قد إستخدم تقانات وحدات اسلوبية متنوعة في بناء حبكته الروائية،سواء في استثمار صيغة التقارير الصحفية التي عثرعليها في السرداب الذي تختبىء فيه الشخصية الرئيسة،او النشرات الإخبارية الاذاعية عبر المذياع الصغير الذي رافقه طيلة 12 عام في عزلته ،اوالمعلومة المستلة من ركام الوثائق التي تركها جده الذي كان حريصا على ان يؤرخ الاحداث العامة،او ماتبوح به المخطوطات الشخصية التي خطها والده العميد في الجيش العراقي وهو يكشف من خلالها حقيقة التزييف الذي طال سيرته الوطنية.
يمكننا القول بأن شمدين قد انشأ مفتتحا سرديا ــ يحسب له ــ في مسار تجربة الكتابة الروائية داخل مدينة الموصل ــ تحديدا ــ التي لم يشهد تاريخها الثقافي أهتماما واضحا في الكتابة الروائية إلاّ عدد محدود من  المحاولات،اغلبها لم ترتهن التجربة فيها ــ في اطارها الفني ــ الى تأكيد حضورها الخاص،وفقا لما تفرضه الكتابة الروائية من ضرورة الدخول في مساحات الكشف والاجتراح الشكلاني وذلك من خلال مَركَزَة الاسلوب السردي ،المنطلق من عتبة وجهة النظرالذاتية أو التبئير حسب مصطلح الناقد جيرار جينت،والتي يقول عنها د.عبد الله ابراهيم في كتابه المعنون(المتخيل السردي): " الرؤية ،تقدم عالما فنيا، تقوم بتكوينه أونقله، عن رؤية أخرى" . وبقيت كثير من التجارب ــ الموصلية ــ في اطار ارهاصات الكتابة الروائية التي لم تتخلص من الموروث التقليدي ولم تكشف عن هوية واضحة  .
إضافة إلى ذلك فان المؤلف قد تناول في عمله هذا وقائع تاريخية معاصرة لازالت تداعيات بعض فصولها تلقي بظلالها الثقيلة على الحاضر والمستقبل،حاول من خلالها أن يعكس رؤية ذاتية تأتي من خارج اطار منظومة الكتابات التي عودتنا عليها الاقلام في مدينة الموصل والتي غالبا ماتتسم بالمحافظة وعدم التوغل بعيدا في مناطق حساسة من التاريخ، سواء البعيد منه أو القريب .
المتن الحكائي
إن المادة الحكائية كمايقول د. عبد الله ابراهيم في كتابه المتخيل السردي:"ماهي إلا متن مصاغ صوغا سرديا،وهذا المتن إنما هو خلاصة تماهي العناصر الفنية الاساسية وهي الحدث والشخصية والخلفية الزمانية – المكانية،بالوسائل السردية التي نهضت بمهمة نسجها وصياغتها ".
وهنا في هذه الرواية تبدأالمادة الحكائية من شخصية أحلام،ارملة الشهيد سالم جميل ابو درع،الذي كان يحمل رتبة عميد ركن في الحرس الجمهوري ايام الحرب العراقية الايرانية،قبل أن يقرر الهرب من ساحة المعركة تاركا خلف ظهره سيرة ذاتية متوّجة بانواط الشجاعة كان قد قلده اياها رئيس الجمهورية صدام حسين نتيجة بطولاته وحسن ادارته لصنف الدروع الذي كان يقوده.ويأتي قراره بالهرب متجها الى محافظة السليمانية في شمال العراق ملتجئا عند الاكراد بعد أن اكتشف ماكان قد دبَّرَهُ له عدد من رفاقه الضباط من مكيدة ــ نتيجة عدم اتفاقه معهم على ماكانوا يقدمونه من تقارير مزيفة الى القيادة العليا حول معارك وبطولات وهميةلاوجود لها على ارض الواقع ـــ فما كان منهم إلاّ أن يتآمروا ضده ويرفعوا تقريرا الى المراجع العسكرية العليا،يفيد بسرقته لعدد من قطع السلاح،وهذا يعني ان عقوبة شديدة ستطاله فتوصمه هو وعائلته بعار الخيانة وقد يتعرض بسببها الى الاعدام،وقبل ان يهرب كان اتفق مع احد الجنود على ان يروّج قصَّة مقتله في ساحة المعركة، وانَّ جسده قد تناثر الى شظايا نتيجة قذيفة سقطت عليه.وبناء على افادة الجندي تحصل عائلته على كل المزايا والمكرمات التي تنالها عائلة الشهيد،إلاّ أن الجندي  يتراجع عن شهادته فيما بعد ليكشف قصة هروبه من ساحة المعركة،فيتم تجريد عائلة العميد من جميع الحقوق وتصادر كل الاملاك المسجلة بأسمه وليلحقها عار الخيانة.إلا ان العميد سالم شاء أن يعود سرا من شمال العراق ليختفي في سرداب بيته حتى يموت ويدفن داخله .
تبدو لنا شخصية احلام،إمرأة خائفة جدا على ابنها(ثائر)وهو الولد الوحيد بين خمس بنات،فقبل أن ينهي دراسته للحقوق ويلتحق في الخدمة العسكرية،يدفعها خوفها عليه من أن تخطفه الحرب، بأن تضع خطة محكمة لانقاذه من هذا المصير،وتبدأ بتنفيذها ماأن يعود ثائر الى البيت في احدى اجازاته الدورية،لتخفيه في سرداب عميق داخل البيت،مانعة ايّاً من افراد العائلة الاقتراب منه،كما تقرأ على مسمع ابناء الحارة ورجال الحزب الحاكم ــ المسؤولين عن مراقبة الحي ـــ رسالة مزيَّفة من ابنها الهارب الى اليونان،يخبر والدته فيها قصة هروبه من الجيش وسرقته مدخرات العائلة واعتذاره لوالدته عن هذا الفعل،فتتبرأ منه علنا ــ كما هو متفق عليه مع ابنها ــ وليبقى متخفيا داخل السرداب 12 عاما،وشهرين،وثمانية وعشرين يوما،واثنين وعشرين ساعة،وسبع دقائق.فالرحلة الطويلة في عالم الظلمة والوحدة ــ بعيدا عن العالم الخارجي ـــ تبدأ في تمام الساعة الواحدة وثمانية عشر دقيقة من ظهر يوم الجمعة 11 كانون الثاني 1991 عندما هبط مع والدته درجات السرداب التسع.وقبل ان تبدأ هذه الرحلة ومن اجل بعث روح العزيمة في نفسه ودفعه الى بذل المزيد من الجهد في تعلم فن المكوث مثل بومة في العتمة " تناوبت الام والجدة على تعليمه العيش في الظلام ماأن اصبح طالبا جامعيا في كلية القانون،فكان يُجبَر على تلقي فروض اضافية كل يوم جمعة وهو نصف عار ومعصوب العينين في ملجأ كونكريتي مشيد ضمن حديقة البيت الخلفية.كان بمثابة معسكرا تدريبيا اسبوعيا تجري تفاصيله فجرا بعيدا عن اعين شقيقاته ".
كانت فترة العزلة الذاتية عن العالم الخارجي بمثابة معادل سردي عن عزلة العراق وانكفائه على نفسه بعيدا عن العالم الخارجي طيلة فترة الحصار الدولي الذي فرض عليه بعد غزوه للكويت عام 1991حتى سقوط النظام عام 2003.هذه الفترة شهد الاثنان فيها ــ ثائر والعراق ــ مشاهد دراماتيكية كانت نتيجتها تحولات جذرية لكليهما اخذتهما الى مَالم يكن متوقعا من متغيرات وتحولات.


ثناية الداخل والخارج
ثائر ينتمي الى عائلة ذات اصول طبقية برجوازية،في رصيدها عقارات ومزارع تدر عليها مالا وفيرا جعلها تعيش في بحبوحة من العيش حتى في اصعب الظروف التي كان الناس فيها يعانون من الجوع جراء قسوة الحصار .ولم يكن قبل الدخول في تجربة التخفي سوى  شاب مدلل خجول يتأتىء ويتلعثم في الكلام،وغالبا ماتعرض بسبب ذلك الى السخرية مذ كان طفلا،وحتى في السنوات التي قضاها في كلية الحقوق لم يكن يجروء على التعبير عن عاطفة الحب العنيفة التي كان يشعر بها تجاه زميلته ياسمين التي كان يعشقها عن بعد لمدة اربعة اعوام .
طيلة فترة العزلة داخل السرداب ــ باستثناء العلاقة التي كونها مع الفئران والقطط والصراصيرــ  كانت صلة ثائر بالعالم الخارجي مقطوعة تماما،ولم يكن من شيء يربطه به سوى راديو ترانزستر صغير ينقل له مايجري ويدور خارج جدران السرداب،إضافة الى ماكانت تنقله والدته من اخبار اثناء زياراتها الشهرية له .
وعلى العكس من ذلك فإن  صلته بعالمه الداخلي بدأت تأخذ مسارا آخر غير المسار الذي كانت عليه وهو يعيش على سطح العالم الخارجي،فقد انفتحت ذاته على ذاته  بعد أن كانت الابواب مقفلة بينهما بنفس الوقت الذي انفتحت فيها ذاته  على العالم الخارجي من خلال عالم المعرفة التي طاف فيه بعد اطلاعه  وقراءته للكتب والمخطوطات والوثائق الشخصية التي عثر عليها مكدسة في السرداب داخل صناديق وحقائب من حديد وخشب،تعود لجده المؤرخ ووالده.من هنا يرصد شمدين حالة التحول العميق في وعي الشخصية بعد أن تأتي الفرصة للخروج من عتمة الاسفل ـ السرداب ـ والصعود الى الاعلى ومواجهة العالم الخارجي بعد سقوط النظام.
وبعد أن يكتشف حقيقةعمق الخراب الذي اصاب النفوس قبل أن يصيب العمران لعالم فارقه 12 عاما،وهو يدور في شوارع المدينة ويرى الناس تمارس اعمال النهب والسلب للأموال والمؤسسات العامة بعد أن سقط النظام وغابت سلطة الدولة والقانون،يعود مرة أخرى الى داخل السرداب لكن هذه المرة بإرادته الشخصية وبكامل وعيه،وهو يحمل في ذاته ياسا يجعله غير قادر على البقاء خارج السردب  وأن لاسبيل إلاّ في العودة إليه  مرة اخرى.
" فهبطت الدركة الأولى والثانية توقفت في الثالثة والتفت إلى أمي المتسمرة خلفي مع أخواتي،أزحت الشعر عن وجهي قليلاِ وقلت لها بصوت فيه غلظة:   
-   أغلقيه ورائي."
قبل دخوله الى السرداب كان العالم الخارجي مغلقا امامه،ولم يتجرأ تجربة التواصل معه وأكتشافه بنفسه.فكان نزوله الى العالم السفلي المحشور في سرداب تحت الارض ــ والذي يذكرنا بعوالم كافكا  ــ بمثابة محاولة اكتشاف للعالم الخارجي بعد أن كان مغلقا امامه حتى ساعة مغادرته له ونزوله الى العالم السفلي.
هذه البنية الفنية المركبة الحلزونية في تكوين العلاقة الثنائية المعقدة مابين الذات والعالم الخارجي صاغها شمدين في معمارية زمنكانية يتقابل فيها(الخارج والداخل ،الاعلى والاسفل،النور والظلمة،المجموع والفرد،الصوت والصمت،الانسان والحيوان،الموت والحياة ،الحلم والواقع)فكانت مخاضا فنيا نسج فيه مادة روائية توفرت فيها شخصيات واحداث وازمنة وامكنة،جاءت داخل بنية فنية لم يتوان المؤلف في استثمار آليات سرد متنوعة في تشكيلها .

45
حماقاتُنا ساعة النَّصر

مروان ياسين الدليمي

يبدو أن سِمة الاعتدال في التفكيروالسلوك هي ابعد ماتكون عن العراقيين، حتى ان البعض منّا بات شبه مقتنع على اننا اقرب بكثير الى السلوك المتطرف منه الى الاعتدال.
البعض يرجع سبب ذلك الى التكوين الخَلقي،وكأن اصحاب هذا الرأي يقولون لنا بأن المسألة قدرية،ولاسبيل للخلاص منها،مهما مضت  سفينة الحياة بالعراقيين وشقت بهم وبجهودهم عباب التخلف .
احيانا يداخلنا الشك فنضعف امام هذه الرأي عندما نجد المواقف المتطرفة يتكرر انتاجها،فتكشف عن بشاعتها جموع غفيرة من العراقيين وهم يعيدون  انتاج مشهد تاريخي مازال مُختزَنا في ذاكرتهم الجمعية يبعث فيهم مشاعر الآسى والأسف والندم كلما استذكروه،فالمشهدُ يعاد انتاجه بنفس الصورة والتفاصيل والالوان،مشهد يحمل الينا الكثير من  هواجس الفزع والخوف، ولايترك فينا ـــ ولو خيطا ضئيلا ـــ اي شعور بالاطمئنان على ماسيأتي في قادم الايام .
وانت تدقق في انفعالات ابطال المشهد،وهم يتوزعون في مساحة الصورة، يحيطون باجساد القتلى،ستجدهم يحملون التعابير ذاتها،والاشارات ذاتها، وستجد أمامك وجوهاً تشعر بفرح غامر وهي تقتل وتحرق وتنهب،وكأن الصورة نفسها تتكرر منذ عشرات السنين،بنفس المشهد والوجوه،ورغم أن القتلى غير القتلى،لكن لافرق هنا بين ملك قتيل مضرج بدمائه في باحة قصر الزهور لم يكن يحمل سلاحا بيده،وبين شيخ حافٍ طاعن في السن مضرج بدمائه على رصيف في مدينة تكريت ـــ لم يكن هو الآخر يحمل سلاحا بيده ــ طاله رصاص المُحرِرِين بعد أن تقطعت به السبل،فلم يستطع النفاذ بجلده من ساحة المعركة فما كان إلاّ أن يُحسبَ في عداد الاعداء والخصوم المتطرفين !.
في ساعة الانتصار،وفي اللحظة التي ينبغي أن يكون فيها العراقيون اقوياء،مالذي يدعو الى أن تصيب الغيبوبة عقولهم،فتجدهم في لحظة ضعف تسحق فيهم انسانيتهم وتسرق منهم ثمرة نصرهم ومابذلوه من جهد وعرق ودم !؟
مالذي يدفعهم الى أن يعيدوا انتاج ماهو  مُخزٍ  من الافعال سبقهم إلى ارتكابها بعض اسلافهم،وهي افعال اقل مايقال عنها بأنها وحشية وبربرية ـــ مثلما حصل في ديالى والحويجة وتكريت ــ كالتمثيل بجثث القتلى وحرقها ونهب البيوت والممتلكات العامة والخاصة ؟
الاشد قسوة هنا،عندما تصدر هذه الافعال من قوات عسكرية حكومية اوميليشيا مدعومة من الدولة ترفع شعارات الدفاع عن الوطن والمواطن وهي تخوض معارك تحرير المدن من المتطرفين والارهابيين !  .
 مالذي يجعلهم يرتكبون ــ ساعة انتصارهم على خصمهم ـــ حماقات لاتليق بطبعهم المتسم ــ في الظروف الطبيعية ـــ بالبساطة والطيبة والعفوية ؟
إلى متى  سنبقى ندور في هذه الدائرة المغلقة،وكأننا محكوم علينا بأن نخلع الاعتدال من طبيعتنا البشرية  لنستحيل وحوشاً حتى مع من هم ابناء جلدتنا ووطننا  ؟


46

تبادلية العلاقة مابين الواقع والخيال في الفن السينمائي .

                                                           
                                                                                مروان ياسين الدليمي
مابين الفن والعلم
هنالك علاقة وثيقة وجوهرية تربط الواقع بالخيال في كل الفنون الابداعية رغم التقاطع الحاد مابين هذين العالمين.
الواقع بما تُشكِّل فيه الصور والاشياء حقائق ملموسة،والخيال الذي يكون مُنطلقهُ مُخيلة الانسان،بما تملكه المخيلة من مساحة واسعة في بناء صورةِ لعلاقات متخيلةٍ تبتعد تماما في تكوينها عن المنطق والسببية،حتى فيما لو إستعارت مفردات تلك الصورة وعناصرها من الواقع.
الفنون لوحدها فقط تمتلك مساحة واسعة  ــ العلم لايمتلكها مطلقا ــ تجمع النقائض التي تتشكل من : 1- صور الواقع 2-  شطحات المخيلة.
من خلال هذه المساحة  يُبنى عالما جديدا مُفتَرضا تنتجه مخيلة المبدع،هذا العالم الواقعي المُتخيَّل،تتم فيه ومن خلاله مُحاكاتُ أو تخاطرُ أوهَدمُ وإعادةُ بناءِ الواقع باساليب فنية متنوعة ومختلفة،مَرَّة يختارُ فيها المبدع أنْ يكون واقعيا أو تجريديا أو سرياليا أو انطباعيا او تعبيريا ... الخ من الاساليب والمدارس الفنية التي تراكمت في تاريخ الفنون،بينما في المقابل تعجز العلوم عن ذلك،لانَّ جوهرها قائم على عمليات حسابية دقيقة لاتقبل الخطأ،ولامكان للخيال فيها مطلقاً .
تبادل الادوار
طيلة المسار التاريخي للفنون بقيت هذه العلاقة مابين الواقع والخيال قائمة،ولم يخفت توهجها،وكلاهما تبادلا الأدوار فيما بينهما حسب ما يشاء الفنان،مرة ينهض الواقع ليلعب دوره كاملا انطلاقا من ساحة الخيال،وأخرى يلعب الخيال دوره كاملا انطلاقا من ساحة الواقع،وينعكس ذلك واضحا في طبيعة الصورة النهائية التي ينتجها الفنان بما تحمله رؤيته للموضوع من ادوات واساليب في التناول.
وحرية التنقل من الواقع الى الخيال لن تقتصر على فنون معينة لتنحسر أو تختفي في فنون أخرى،إنما تشترك في ذلك كل الفنون السمعية منها والمرئية .
أما فيما يتعلق بمدى منطقية مايُطرح من علاقات واقعية في العمل الفني الذي يتأسس على الخيال بدرجة أساسية،أو منطقية العلاقات الخيالية في العمل الذي يتأسس على الواقع،فيبقى أمر ذلك مرهوناً بقدرة الفنان وموهبته في استثمار ادواته بالشكل الذي يتمكن من خلال معالجته ورؤيته الفنية على تحقيق التأثيرالذي ينشده،سواء كان تأثيرا عاطفيا أو فلسفيا ،لايصال خطابه الفني .
في الفن السينمائي
لو عدنا بالذاكرة إلى الوراء لكي نتأمل بعمق بدايات الفن السينمائي،في اللحظة التي شرعت فيها عتلات كاميرات السينما تدور لأول مرة،حينما صور المهندسان الفرنسيان الاخوين لومير(اوجست ماري لوي نيقولا 19 اكتوبر 1862 – 10 ابريل 1954 )ولويس جان( 5 اكتوبر 1864 – 6 يونيو 1948 )أول الاشرطة السينمائية عام 1869،وكان زمن عرض الشريط لايستغرق سوى 46 ثانية،وقد تم تصنيف الفلم من قبل النقاد على أنَّهُ أول فلم وثائقي،وذلك لأنه يتابع حركة وصول قطار ونزول المسافرين منه على أرض المحطة .
عند مشاهدتنا للفلم سنكتشف أنَّ(الاخوين لومير)حاولا أن ينقلا حركة الاشياء كما تجري في الواقع دون أن يتدخلا في إعادة تركيبها فنيا وفقا لخيالهما،بل اكتفيا بعملية تسجيل الحركة على الشريط السينمائي،كما تجري بتفاصيلها الواقعية.وسبب ذلك يعود الى أنَّ الهدف من عملهما لم يكن صناعة فلم سينمائي،ذلك لأنَّ الفن السينمائي حتى تلك الساعة لم يكن موجودا،والخطوة التي أقدما عليها تعد هي اللبنة الاولى في  بناء طريق اكتشاف اسرارهذا الفن من غير أن يدركا ذلك.
مِن البديهي أن الاشياء في لحظة خَلقها تكون بداياتها بسيطة وتفتقر الى القواعد الواضحة المحسوبة والمُدَرَكة التي تحكم بنائها،ولكن بتوالي التجارب تنضج وتتطور إلى أن تكتمل وهكذا الاساليب والقواعد يتم التوصل اليها حتى تصبح فيما بعد منطلقا لأي عمل فني .
وفيما يتعلق بفلم الأخوة لومير لانستطيع أن نجزم بشكل قاطع غياب الخيال عن عملهما،خاصة إذا ماعلمنا أن عدد من مؤرّخي تطور الفن السينمائي يؤكدون في مؤلفاتهم بأن جميع ركاب القطار كانوا من أصدقاء الاخوين لومير وقد تمت دعوتهم لكي يؤدوا أدوارهم باعتبارهم ركابا يستقلون القطار،هنا بالضبط يَكمنُ هامش الخيال البسيط الذي تحرَّك فيه الاخوين لومير ولكن بلا أدنى شك رغم بساطته كان  له أهميته التاريخية.
بعد هذه التجربة توالت تجارب اخرى يعرفها دارسو الفن السينمائي كانت جميعها تنسج على منوال ماسبقها،مع اضافات صغيرة هنا وهناك،إلى أن نضجت جُملة من القواعد باتت تحكُم وتوجِّه أي واحدٍ يحاول أن يخرج فلما سينمائيا،ومع نضج هذه القواعد واتضاح صورتها ومدى تأثيرها في بناء الفلم،كانت مساحة الخيال تتسع هي الاخرى،لتصبح أهميتها في البناء الفلمي موازية للواقع،وباتت تتبادل معه الادوار والمساحة .
المُنطلَق في المونتاج
إن الخطوة الأهم  ــ بتقديرنا ــ في قضية توسُّع مساحة العلاقة التبادلية مابين الواقع والخيال في الفن السينمائي،جاءت بشكل جوهري من خلال فن المونتاج السينمائي ،الذي لم يكن قد تشكلت ملامحه واسسه حتى العام 1903 عندما أخرج(إدوين إس بورتر) فلمه (سرقة القطار الكبرى)وأهمية هذا الفلم لاتكمن في قيمته الفنية،بقدر ما تأتي أهميته مِن حدث صغير لاعلاقة له بالشريط المصور ومحتواه،وذلك عندما جاءت ساعة عرض الفلم،حينها أعطى المخرج تعليماته للعامل المسؤول عن عرض الفلم بأنَّ له الحرية في أنْ يعرض لقطة عامة كانت من ضمن لقطات الفلم إما يعرضها في بدايته أو في  نهايته حسب ذوقه الشخصي،هذا الموقف الذي تُرِك فيه للعامل أنْ يتحكَّم في موضع اللقطة العامة وحسب(ذوقه الشخصي)لم يكن في حُسبان المخرج سيكون له تأثير ثوري في نضج الوعي الفني لدى العاملين في نطاق الفن السينمائي،ليمنحهم فيما بعد نقطة انطلاق تاريخية وفنية في آن واحد، يكونُ لهم فيها حرية مطلقة في إعادة تركيب الواقع الذي يصورنه في مرحلة المونتاج،وتكون لمخيلتهم الحرية في تقطيع المشهد الواحد وتركيب لقطاته بأكثر من خيار،وفي كل واحد من تلك الخيارات يتم الوصول الى نتائج فنية مختلفة ومتنوعة،من حيث الفكرة والاسلوب والانطباع الحسي لدى المتلقي.
أهميّة المخرج غريفث
ثم جاء  المخرج الاميركي وورك غريفث الذي أحدث تحولا عميقا وجوهريا في بناء الفلم السينمائي بعد أن أخرج خلال الفترة مابين 1908 – 1913  عدد من الافلام القصيرة قبل أن يبدأ في إخراج فلمه الشهير(مولد أمّة)عام 1915.وتوصل في تلك التجارب الاولى الى نتائج هامة جدا،وضعت العناصر الفنية التي تنهض عليها بنية الفن السينمائي،ومازالت تلك العناصر محافظة على أهميتها وحضورها في البناء الفلمي،ولعل أهم ماتوصل اليه كريفث أنْ:يُقسِّم المشهد الواحد الذي يروي حدثا واحداً الى عدة لقطات اثناء التصوير مِن غير أنْ يتم تصوير المشهد دفعة واحدة،وبلا أدنى شك كانت ومازالت هذه القاعدة تشكل جوهر آلية العمل في الفلم السينمائي حتى هذه اللحظة.
إن اكتشافات غريفث لم يتوصل إليها وهو في حالة تأملٍ وعزلة دونما عمل،بقدر ما تفاعلت فيها التجربة العملية والتفكير المستمر في عمله وماكان يتوصل اليه من نتائج.
كريفث لم يكن إلاّ فنانا مغامراً،إعتمد على ذاته وحدسه ومخيلته في التجريب والتقصّي والاكتشاف،وهو ينطلق في حقل فني بكر لتحقيق احلامه مستعينا بمخيلة فذَّة واستثنائية،وعندما أخرج فلمه الطويل (مَولدُ أُمَّةٍ)كانت قد تراكم في ذاكرته الفنية مخزونا معرفيا وقيميا من المفاهيم الفنية إستنتجها بفعل تجاربه الذاتية في افلامه السابقة،فوضع في هذا الفلم كل جهده وخبراته،وجعله ميدانا رحبا لاستعراض ماكان قد توصل اليه من عناصر فنية واساليب في بناء الفلم،والتي اصبحت فيما بعد قيما فنية اساسية لاغنى عنها لأي مخرج وهو يفكر في اخراج مشروعه السينمائي.
هنا لابد أن نذكربعض العناصر الفنية التي أرساها كريفث:لقطة لعين إنسان وهي تنظر من ثقب الباب،لقطات واسعة تستعرض مساحات من الريف،كامير متحركة، قطع متوازي للقطات من مشهدين في زمن واحد،لقطات قريبة ومتوسطة لكسب تعاطف المشاهدين تجاه الشخصية،الى غير ذلك من الاساليب التي تعكس إتساع مساحة الخيال في اعادة تركيب الواقع على الشاشة وخلق واقع آخر موازي له انطلاقا من المخيلة أمست بعد ذلك بؤرة يعتمد عليه المخرج في تشكيل رؤيته الفنية وهو يعالج موضوعات الواقع،وهكذا توالت جهود مخرجين عظام آخرين من بعد غريفث أكملوا ماكان قد بدأه مثل :سيرجي إيزنشتاين وبودفكين .
من هذا السياق الموجز،يتتضح لنا دور واهمية الواقع ووالخيال،باعتبارهما قوَّتان رئيستان في بناء الفلم السينمائي.

47
رواية طابق 99
للكاتبة جنى فواز الحسن

تداعيات الماضي بحثاً عن الذات والوطن والهوية
[/color]

 
مروان ياسين الدليمي



منشورات ضفاف /منشورات الاختلاف
الطبعة الاولى 2014
رواية مرشحة عن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية


عتبة المدخل
"ربما ليس الوطن مكانا ولكن شرطا لايمكن انكاره" جيمس بالدوين .
اختارت جنى الحسن هذه الجملة لتكون عتبة اولى قبل الدخول الى عالم روايتها،مما يفرض على القارىء ان يتوقف عندها،لتكون بمثابة مفتاح دخول الى عالمها السردي .
ماذا يعني الوطن ؟ . .سؤال جوهري يحاصر الشخصيات الرئيسة،كل واحد منهم يسعى من خلال طرحه على نفسه الوصول الى معنى مطمئن يوقف دوامة قلقه وبحثه وهو يمضي في  ترحال بعيد يأخذه إلى خفايا الذات والماضي والأمكنة بحثا عن حقيقة الوطن الذي ينتمون  إليه،فالوطن هو الحضور الطاغي الذي يسكننا،وهو الذي نهجره،ونهاجر اليه،ونعشقه،ونلعنه،وهو الماثل فينا،والغائب عنا .

بنية الزمن السردي

يقول بول ريكور في كتابه الزمان والسرد"يصير الزمن انسانيا مادام ينتظم وفقا لانتظام نمط السرد،وان السرد بدوره يكون ذا معنى مادام يصور ملامح التجربة الزمانية". وبماأن الزمن يشكل وعاء تُبنى الاحداث بين تفاصيله،لذا لايمكن الفصل مابين الزمان والسرد سواء في إطار البناء لدى المؤلف او في اطار تفكيك هذا البناء وتأويله ضمن مسار النقد،فالتلازم يبقى شرطا قائما مابين رواية قصة والطبيعة الزمنية للتجربة الانسانية ــ حسب بول ريكور ــ وعندما نقترب من تفكيك شبكة العمليات التقنية في حركية الحبكة التي ينهض عليها نص هذه الرواية والتي تؤطر جوانب انسانية تحت اقنعتها،فاننا نجد جنى الحسن قد ارتأت ان يكون شكل بناء الزمن ــ الذي سوّغت من خلاله نمو وتطور الاحداث حتى يبدو انسانيا ــ يتحرك مابين الارتداد والاستباق في تداعي الاستذكارات الذاتية للشخصيتين الرئيستين (مجد وهيلدا) وهما تتنقلان خلال الفصول الاربعة للرواية مابين مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 وبين عام  2000 وكأن الزمن توقف لديهما مابين هذين التاريخين ولم يتحرك. فمَجد كان قد ارتقى بعمله ووجوده ونجاحه حتى أن مكتبه الفخم والانيق يربض في الطابق 99 من احدى ناطحات سحاب مدينة نيويورك وهي علامة على ماوصل اليه من نجاح ومكانة وقوة،كذلك هيلدا،هي الاخرى تعمل في مكتب للأزياء في نفس المبنى،اضافة الى احترافها لفن الرقص الحديث .وكأن أميركا لم تستطع بكل فضاءاتها وحيوتها والفرص الهائلة التي منحتها للدخول الى افاق الحاضر والمستقبل من أن تجعلهما قادران على مغادرة الماضي،ليبقى يلاحقهما ويفرض سطوته على بهجة ونشوة الحب الذي جمعها،بل إن الماضي قد تمكن إلى حد كبير في ان يضع حواجزه واسلاكه ونقاط سيطرته بين مشاعرهما المتدفقة الى حين .
من هنا يأخذالزمن السردي معماريته السيمائية في تشكيل مسار الاحداث عندما يبدأ من نقطة الحاضر ليعود الى الماضي ومن ثم يعود مرة اخرى الى الحاضر،وهكذا تبدو لنا هذه المناورة في هيكلية التصميم لخريط بناء الزمن السردي ،ومحاولة من المؤلفة وهي محاولة لإيجاد معادل شكلي يوحي بما تعيشه الشخصيتان الرئيستان/ الساردتان للاحداث ــ مجد وهيلدا ــ من صراع دائم مع ذاتهما ومع بعضهما ازاء الماضي والحاضر، من هنا كان حضور صوتيهما يتعاقب في بوح متبادل  بينهما او مع اصدقائهما ، ليعكس هذا التناوب صورة جيل آخر يقف حائرا ،غاضبا ،متسائلا ،مشككا ، بما ورثه من ماضي .
هذا السياق الفني الذي اعطى بنية السرد خاصيتها على هذه الصورة جاء مستعارا من تقنية المونتاج المتوازي في بناء الفيلم السينمائي "القت بجسدها على فراشها الأول،وأغمضت عينيها للحظات.كان مجد في سريره ايضا،مغمض العينين يحاول أن يجتاز المسافة ليتوحد بها،سريران منفصلان،ورجل وامرأة وحلم.ماعجز عن قوله لها هو كم أحبَّها،ومالم تقله له،هو أنها ستشعر بأن المكان يضيق من دونه،بأنها ستمد أصابعها في الفضاء لتلتقطه وتشده إليها،ولن تجده" .
المتن الحكائي
عام 84 يصل الصبي الفلسطيني مَجد الى اميركا برفقة والده بعد رحلة هروب من جحيم مجزرة صبرا وشاتيلا التي حدثت عام 82 في لبنان ضد اللاجئين الفلسطينين المقيمين بهذين المخيمين.ثم تلعب الصدفة دورها في أن تنشأ علاقة حب حميمة في  منتصف تسعينات القرن الماضي بين مجد الذي اصبح شابا في منتصف العشرين من عمره،وهيلدا الشابة المسيحية اللبنانية،عندما سمعها تتحدث بالهاتف في مدخل المبنى الذي يتمركز فيه مكتبه في الطابق 99 لصنع العاب الفديو وهذا ماشجعه على الاقتراب منها ليسألها من اين اتت ؟ وليعرف انها لبنانية ولتعرف انه فلسطيني " لم أكن مُعتادا على الحفاوة التي كلمتني بها،ولاأعرف لماذا فعلتْ ذلك،شجعني الأمر على دعوتها لارتشاف القهوة ".هذه العلاقة لن يعكر صفوها سوى التاريخ،سوى الماضي،بحروبه،بعبثيته،بتداعيات مآسيه التي تحملها ذاكرتهما عن الحرب اللبنانية التي كانت قد ابتدأت في منتصف سبعينات القرن الماضي،والتي استمرت اكثر من 15 عاما،خاض فيها حزب الكتائب مواجهة عسكرية شرسة ضد الفلسطينين،لانهم وحسب قناعة الحزب الذي تنتمي له عائلة هيلدا يتحملون جزءا كبيرا من مسؤولية ماجرى من دمار في لبنان .
وتحت تأثير الماضي على هذه العلاقة،يتشكل في داخلهما دافع قوي لإ عادة التفكير والبحث في ماهية العلاقة التي تربطهما مع الماضي والحاضر،مع اميركا،مع الوطن .
مجد:"أعتَرفْ بأني لمْ أشعر بحنين جارف إلى موطني سوى بعد تعرفي بهيلدا، وجدتُ نفسي أروي لها تفاصيل كنتُ أنا نفسي غير مدرك لوجودها في ذهني  ..كنت استرجع زوايا والوانا ظننت انني دفنتها الى غير رجعة،ولكن حتى لون ثوب خالتي الاسود،ووشاحها الابيض كنت استطيع أن ارى قماشه كأن الزمن لايزال هناك " .
مواجهة الماضي
ورغم ألنفوذ الكبير الاجتماعي والسياسي الذي تتمتع به عائلة هيلدا حتى ان والدها يتم ترشيحه لمنصب وزاري،إلاّ أنها اختارت ان تكون حرة في خياراتها،المرّة الاولى عندما تغادر لبنان  بارادتها الى اميركا بحثا عن ذاتها في عالم الرقص الذي ستدرسه هناك.والثانية عندما تعود الى لبنان بحثا عن ذاتها بين ركام الاحداث والحكايات المكدسة في ذاكرة المكان والشخصيات التي كانت جزءا من الماضي الذي يمشي ورائها وكأنه ظلها،والثالثة عندما تقرر مغادرة لبنان للمرة الاخيرة والعودة مرة أخرى الى اميركابعد أن ادارت ظهرها للماضي بكل اكاذيبه عائدة الى حبيبها ،إلى من اختارته أن يكون حاضرها ومستقبلها .
هيلدا :"عندما تقرر أن تدوس الأرض،التي ولدت فيها،بعد غياب طويل،يتطلب الأمر شجاعة قصوى.انت لاتعود إلى ذاكراتك فحسب،بل تنبشهابحثا عن الصواب والخطأ فيها.كانت تلك علّتي طوال عمري،عدم قدرتي على التسليم للأشياء كما هي .ربما لو استطعت أن اكون هذه الأنا المُفترض أنْ أكونها،لكانت الأمور أسهل بكثير .ولكن أقول مُجددا ربما ".
الكراهية ضد الفلسطينين، تلك التي زرعها والد هيلدا في ابنته مُذ كانت طفلة لم يكن من السهل محوها رغم ابتعادها عن العائلة واقامتها لمدة سبعة اعوام في اميركا،لذا كان عليها ان تبذل جهدا حتى تزيح ماضٍ ثقيل عبَّأه عندما كان والدها يسرد لها قصص معاركه وبطولاته برفقة عمها جورج وهم يقاتلون الفلسطينين،الذين سيكونون سببا في انتحار عمها ــــ  حسب مايزعُم والدها في تفسير قرار الانتحار ــــ بعد أن كانوا قد اعتقلوه عند احد الحواجز وحاولوا ان ينتزعوا منه سلاحه،إلاَّ انه رفض ذلك لأن سلاح المقاتل شرفه فقاومهم وتمكن من قتلهم، ،وعندما عاد الى البيت قرر الانتحار،لانَّه لم يتحمل فكرة ان يكون قاتلا  ! !
لم يكن أمام هيلدا من طريقة مُجدية لتصفية حسابها مع ماضٍ ثقيل يطارد علاقتها بمن تعشقه سوى المواجهة معه،هذا إضافة إلى مايضعه الماضي من جدار عال يفصل مابينهما بحجة الدين والهوية الوطنية التي تميزهما عن بعضهما،والمواجهة مع الماضي لن تتم وتكتمل بكل شروطها إلاّ بالعودة الى لبنان،إلى المكان الذي شهد تفاصيل هذا الزمن الذي يسكنها مؤثثا بالدم والرعب..
فالعودة الى المكان/الماضي ماهي إلاّ إعادة اكتشافه من جديد " إريد ان اعرف لماذا غادرتْ،وهل ستكون يوما عودتي النهائية الى هذه الارض مستحيلة ؟ ".فالعودة كانت بهدف اكتشاف حقيقة الحب العميق الذي يجمعها مع قاتل/ فلسطيني ـــ حسب قناعة والدها ـــ وستكون فرصة لتعرف تماما من هو القاتل؟  ومن هو القتيل؟ ومن هوالجاني ؟ ومن هو المجني عليه؟ .
هيلدا:"كنتُ هنا بسببك يامَجد.كنتُ اريد ان اعرف إن احببتك بسبب جراحك،لأثبت أنّي امرأة حنون ومعطاء،أو إن كنتُ قد أحببتكَ لأننا نحب هكذا من دون أن نفهم السبب.عدتُ ايضا لأنك كنت خائفا من عودتي،لأقول لك انك إنْ قررتَ أن تأخذني مجتزأة،ستكرر السبب الذي جعلني أرحل من هنا في الأساس ".
مَجد لم يكُن واثقا من عودة هيلدا اليه مَرّة اخرى بعد ان اتخذت قرار السفر الى لبنان،كان يشعر بالخوف من هذه الرحلة،لانه كان يدرك مدى الصعوبة التي وضع نفسه فيها عندما ارتبط بعلاقة حميمة مع امرأة مسيحية تنتمي عائلتها الى حزب كان بينه وبين الفلسطينين علاقة عداء معمدة بالدم،وهيلدا كانت "جزءاً من منظومة تنتمي الى السلطة،من قوم عاشوا في مَجدِ العائلة والحزب" فليس من السهل ان تُغتَفَر هذه العلاقة من قبل عائلتها،لذا كان يشعر ان عودتها الى لبنان يعني عودتها الى خندق الاعداء الذين لايمكن لهم ان يتسامحوا مع ابنتهم فيما لو واجهتهم بهذه العلاقة.ولم يكن مَجدْ مدركا أن قرار عودتها الى لبنان كان فرصته هو الآخر لكي تخرج روحه الجريحة من اسر جسد منهك بشظايا حرب مجنونة مازالت تدور رحاها بين النفس والمشاعر والاحاسيس.
" إن الدودة لا تتحول إلى فراشة إلاّ عندما تخترق شرنقتها " هذا ماكانت تقوله هيلدا دائما امام مجد ،لذا كانت عودتها بمثابة اكتشاف للذات مثلما هي اكتشاف لحقائق الماضي والتاريخ،وذلك بالتعرف على ماهو مخبوء من حقائق تحت حكايات متوارثة ظلت تتردد على شفاه المتقاتلين،وهذا ما يحصل فعلا عندما تكتشف هيلدا زيف الكثير من تلك القصص التي كان يحرص والدها على ان يعيد سردها على مسامعها،كما هي قصة انتحار عمها،لذا ما كان عليها إلاَّ أن تدير ظهرها لماضي ظل يلاحق عواطفها تجاه من احبته،وبعد أن تكون قد انتهت من تصفية حسابها معه تعود مرة اخرى الى اميركا .
مجد هو الآخر كان اسير ماضٍ حمله معه على شكل ندبة ظاهرة في وجهه،وعوَقا في قدمه عندما كان طفلا ،بعد ان اصيب بشظايا قذيفة سقطتت امام بيتهم في المخيم عام 82 قبل بدء المجزرة بدقائق،فما كان من والده إلاَّ أن يحمله ويركض به الى المستشفى تاركا خلفه زوجته الحامل التي لم يرها من بعد ذلك اليوم،لانها قُتلت من ضمن مئات المدنيين الذين حوصروا وقتلوا بدم بارد في المخيم .
والد مجد كان مدرسا في منظمة الاونروا المسؤولة عن اغاثة اللاجئين الفلسطينيين ،إلا انه اختار ان يتخلى عن الوجاهة التي كان يتمتع بها لكونه يعمل مدرسا،ليرتدي ثياب المقاتل بدلا عن اناقة المدرس،وبعد حصول المجزرة وفقدانه لزوجته والجنين الذي كانت تحمله في بطنها،يصاب بالياس والعجز:"كان أبي قد فقد حماسته للقتال ،واينما مشى بدا وكأنه يجر الخيبة وراءه،كأنه هرم في يوم واحد،وازداد عمره اضعاف السنوات بين ليلة وضحاها فيقرر والد مجد التوقف عن القتال،وبات مقتنعا بأن من يقاتل خارج ارضه "مثل اللي عمَّال يفلح ترابات غيره ". لذا يقرر الهجرة بعيدا عن لبنان متجها الى اميركا من اجل ان يحيا مع ولده في بقعة آمنة بعيدا عن الموت والقتال الذي لم يعد يجد فيه املا بالنصر او العودة الى فلسطين،وبعد أن يطمئن على نجاح ابنه في اميركا الذي اجتاز فيها الدراسة الجامعية بنجاح واسس له شركة لتصنيع العاب الفديو،يموت هناك مِن بعد أنْ يحمِّلَ ولدهُ مَجد وصيته بأنْ يعود في يوم ما إلى الوطن ليطمئن على والدته،وكأنها في قناعته لم تمت،ومازالت حية تنتظره،وهي اشارة واضحة الى أن الوطن المُستلب لن يموت في الذاكرة .




48
  التَّفكير في مواجهة التَّكفير
حول معركة د. اسلام بحيري دفاعا عن رؤيته 

مروان ياسين الدليمي

لايبدو أن هنالك اية علامات واضحة في افقِ ترتفع فيه رايات سوداء تشير بما لايقبل الشك على أن هنالك نيّة جادة لاعادة النظر في كتب التراث الفقهي لدى مؤسسات علمية تدرِّس علوم الدين الاسلامي ويتخرج منها مئات من الطلبة سنويا ليصبحوا فقهاء وخطباء ودعاة وائمة يصغي لهم المجتمع وينصاع لِما يصدر عنهم من احكام،بينما نجد بين طيات  المشهد العام عنفا وتكفيرا وقتلا مستندا الى فتاوى فقهيّة،وهو أمرٌ يبعث رسالة تهديد واضحة للعالم اجمع،فالخطر هنا لم يعد مقتصرا على العالم الاسلامي.
وسط اجواء مثل هذه مظللة بالتشدد والتطرف والتكفير تقمع اي صوت يحاول ان يخرج برؤية مختلفة ــ إنْ لم تكن مخالفة ـــ لرؤية اولئك الذين كانوا قد اغلقوا باب التفكير لمن سيأتي بعدهم،كان لابد أن تختمر بيئة تتوفر فيها كل الشروط لاحتواء قطاع كبير من السذج والجهلة والأميين والعاطلين عن العمل والمهمشين،يتم فيها تعبئة ادمغتهم بخطب واحاديث وفتاوى تبيح لهم قتل كل شخص اعتقدوا باساءته للدين او خروجه عنه او مخالفته لشريعته واحكامه.
من هنا يمكن تعليل الاسباب والدوافع التي كانت مقدمة لأنْ يرتكب محمد بويري جريمة اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان غوخ في 2 نوفمبر 2004 ،وانْ يتم اغتيال عدد من صحفيي جريدة شارل ايبدو الفرنسية في 7 يناير/كانون الثاني 2015 من قبل الاخوين سعيد وشريف كواشي،وأنْ يُقتل 132 طفلا  باكستانيا من قبل حركة طالبان في شهر ديسمبر 2014،وأنْ تختطف جماعة بوكو حرام الاسلاموية  200 طالبة نيجرية في منتصف نيسان 2014 . 
سبقت هذه الجرائم التي وسمتها الجماعات الاسلاموية ببصمتها الدموية دفاعا عن الاسلام ــ حسب ماتؤمن وتعتقد وتدّعي ـــ سلسلة اغتيالات شهدتها المنطقة العربية في منتصف ثمانينات القرن الماضي،ابتدأت بجريمة اغتيال المفكر وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني د. حسين مروة في17 شباط 1987 في لبنان، والرئيس المصري انور السادات في 6 اكتوبر 1981،ومحاولة اغتيال الروائي المصري نجيب محفوظ في 5 اكنوبر 1995،واغتيال المفكر المصري فرج فودة في 8 يونيو /حزيران  1992 .
إن قائمة الاسماء التي سقطت من النخب المثقفة بفعل الجماعات الاسلاموية طويلة ولايسعنا هنا استعراضها كلها،وهي علامات  دالة على تحولات باتت تشهدها المجتمعات العربية الاسلامية،منذ أكثر من ثلاثة عقود  تشير الى شيوع ظاهرة القتل لدى الجماعات الاسلامية باعتباره وسيلة لاسكات صوت المفكرين والمثقفين ممن يعتقدونهم  يروّجون للكفر والالحاد،وبذلك يعدونهم بحسب منهجهم قد خرجوا عن ملّة الاسلام واصبحوا بحكم المرتدين،والمرتد مهدور الدَّم . 
الصورة على هذا الشكل ــ تبدو الآن ــ كما كانت عليه منذ عشرات السنين:فقهاء لايتجاوزعددهم اصابع اليد الواحدة،مازالوا يهيمنون منذ عشرات السنين على عقول جموع المسلمين،الى درجة تصل حد التقديس من قبل  دارسين ومُدرِّسين إضافة إلى عموم الناس.
في جوهر هذه الصورة يُعدُّ كل ماجاء به اولئك الفقهاء قبل اكثر من الف عام من فتاوى وتفسيرات وتأويلات،انطلاقا من فهمهم  للنص المقدس او للسنة النبوية،ثابت ومُلزِم طاعته وتنفيذه من قبل جميع المسلمين،بغض النظر عن حسابات الزمان والمكان واشتراطاتهما.
ووفق هذه الصورة بكل تلافيفها والتباساتها وتعقيداتها بات من غير الممكن بإي حال من الاحوال وتحت اي ظرف،القبول بفكرة إعادة النظر أو تجديد الخطاب، والتي يمكن أن تُطرح هنا او هناك من قِبل هذا المُفكر أو ذاك،انطلاقا من  ضرورة مراجعة تراث انتجته تأويلات بشرية،وإعادة قراءته وفق رؤية أخرى مغايرة عن قراءة تلك الاسماء ورفض المراجعة ــ هنا ــ قاطع وحاسم ولاتراجع عنه حتى لو كان الدافع الى ذلك ماتقتضيه ضرورات الواقع وماافرزته من خلط وتحريف وتشويه أصاب شكل وجوهر الدين بخدوش عميقة،خاصة مايتعلق منها بالمفاهيم الانسانية التي تشكل جوهر النص المقدس وهو يتوجه الى تنظيم حياة البشر .
كان لظهور حركات الاسلام السياسي وتنظيماتها المسلحة السبب الرئيس في تشكيل هذه الصورة المعتمة للمشهد الفكري،وقدعبرت تلك الحركات عن حضور قوي لوجودها في مطلع ثمانيات القرن الماضي ايام الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وماتبع ذلك من تداعيات في عموم العالم وخاصة الدول العربية والاسلامية،حينها بدأنا نشهد مظاهر التكفير والعنف والقتل تطفو على سطح المجتمع،وباتت تمارسها تلك الجماعات الاسلاموية ضد كل من يختلف معها في الرؤية والمنهج والتفكير.
الأخطر في هذه الظاهرة أن تلك الجماعات لم تعد تمارس اعمال  القتل والتفجير والتهديد والتكفير بشكل سرّي،ولم تعد بحاجة الى ان تخفي مسؤوليتها عنها،كما كانت عليه اساليبها حتى مطلع العقد الثامن من القرن العشرين،بل على العكس من ذلك بدأت تتتفاخر بها علنا،وتعتبرها جزءا اساسيا من تأكيد نيّتها في تحقيق مشروعها لاقامة دولة الخلافة الاسلامية على انقاض الدولة المدنية الكافرة.
الملفت للنظر بهذا الصدد،ان هذه الجماعات بدلا من أن تلقى رفضا مجتمعيا امست تحظى  بمصداقية كبيرة،وتكسب الكثير من الاصوات المؤيدة والمدافعة عنها بين قطاعات واسعة من المجتمع ابتدأ من الطبقات السفلى وصعودا الى نخب تحمل شهادات علمية،وهذا مايعكس خطورة مايجري وما يحدث من متغيرات اصبحت فيه المجتمعات الاسلامية بيئة حاضنة للفكر الاسلاموي المتطرف على حساب التيارات العلمانية واليسارية والقومية التي اخذ وجودها ينحسر بشكل كبير خاصة بين اوساط طلبة الجامعات،بعد أن كانت هذه المؤسسات العلمية ميدانا رحبا لتصارع وتعايش الافكار بكل الوانها واطيافها،لتصبح منذ ثمانيات القرن الماضي ملعبا لايتسع إلا للفكر الاسلاموي المتشدد ويضيق امام الافكار الاخرى.
ضمن هذا المناخ المعبأ بالتشنج والتشدد تجيء هذه الايام قضية د.اسلام بحيري نموذجا لمحنة المفكر الذي يحتكم الى سلطة العقل في مجتمع تحكمه سلطة كهنوتية ترفض بشكل قاطع مشروعية التفكير ــ مجرد التفكير ــ بعيدا عن منظومتها وآلياتها إيمانا وأعتقادا راسخا منها على انه حكر عليها بذاتها ولذاتها،ولايجوز مطلقا لِمَن لمْ يتخرج من مؤسساتها كما هو الحال مع البحيري الذي يحمل شهادة دكتوراه من المملكة المتحدة،عن اطروحته التي حملت عنوان(تجديد مناهج الفكر الاسلامي)، ومن هذه الزاوية تحديدا بات البحيري يتعرض الى حملة تسقيط وتكفير من قبل هذه المؤسسات،بدلا من مناقشته ومجادلته حجة بحجة،كما يطالب هو بذلك منذ اكثر من عام عبر برنامجه التلفزيوني الشهير(مع اسلام )الذي يبث من على شاشة القاهرة والناس الفضائية،ولم يستجب لدعوته اي شخص يمثل تلك المؤسسات بل استنكفوا الجلوس معه ومجادلته،أولاً لأنه لم يتخرج من هذه المؤسسات التقليدية،وثانيا لأنهم يرفضون من حيث المبدأ فكرة اعادة قراءة التراث برؤية جديدة تزيح عنه ماهو ملتبس ومتقاطع مع السياق العام للنص المقدس والسنة النبوية كما هو منهج البحيري  .
هذه الحرب التي تشن ضده بهذه الطريقة تذكرنا بماسبق ان وقع في مصر ايضا قبل عقدين من السنين مع د.فرج فودة،ود.نصر حامد ابوزيد،ود. سيد القمني،وتعني في دلالتها أنَّ المحنة التي يعيشها العالم الاسلامي مابين سلطة رجال الدين ــ وليس الدين ــ ورجال الفكر منذ مئات السنين،مازالت تدور بنفس الآلية وبنفس الادواة القائمة على التسقيط والتكفير والقتل.
انها  حرب عبثية،قد تكون هذه الجملة تشخيص بسيط  لما يمكن قوله بهذا الصدد عندما نجد انفسنا أمام حالة انتاج متكرر لهذه الحرب من قبل أحد طرفي الصراع ،بنفس اليات الدفاع والهجوم،طالما الطرف المعني لم  يغادر منظومة اسلحته القديمة في مواجهة من يختلف معه في التأويل والتفسير،وهي اسلحة تُسقط من حساباتها امكانات العقل الانساني،وتضعه في خانة التحريم والتجريم،وبذلك ستبقى المجتمعات الاسلامية معزولة عن دينها بصورته الانسانية الناصعة،ومعزولة عن حاضرها ومستقبلها،لتبقى قابعة في كهوف واقبية التاريخ البعيد .
الوسط الثقافي والعلمي بمؤسساته ونخبه يدرك جيدا محنة هذا الرجل،وماستؤول اليه نتيجة هذه المعركة التي يخوضها دفاعا عن منهجه في التفكير واهدافه التي اختصرها بالعمل على تنقية التراث من كل الفتاوى  التي تسيء الى الدين والسنة النبوية وتحتقر القيم الانسانية التي كرَّمها الدين بنصوصه المقدسة التي تدعو  صراحة الى احترام حياة الانسان وخياراته في المعتقد.
معركة البحيري محكوم عليها سلفا بالشكل والمحتوى الذي انتهت به مع فودة وابوزيد وقبلهما الحلاج وابن المقفع الخ الخ الخ ،طالما كانت قوى المجتمع المدني وفعالياته الثقافية والحقوقية لاتملك شجاعة كافية للدفاع عن حرية المجتمع في تحديد خياراته في العيش والحياة والتفكير .


49
المنبر الحر / خداعُ القارىء
« في: 13:23 06/04/2015  »
خداعُ القارىء

 مروان ياسين الدليمي


لمْ أجد في اصدارات الكتَّاب الكبار الذين قرأنا ومازلنا نقرأ لهم اي اهتمام لديهم في أن يذكروا سيرتهم الذاتية بنهاية كتبهم،وحتى فيما لو اضطروا إلى ذلك تحت ضغط الناشر الذي يتولى اصدار مؤلفاتهم فإنهم يكتفون بعدة اسطر تشير الى ما يستحق تثبيته في الاصدار الجديد،هذا لانهم يحترمون القارى الى حد كبير ويحسبون الف حساب لوعيه وذكائه ممايجعلهم على درجة عالية  من الحذر والحرص في التعامل معه،ولأنهم مع كل اصدار جديد ينطلقون الى القارىء بتجربة ابداعية جديدة لاتستمد قيمتها واهميتها وخصوصيتها من تجارب ابداعية سبق أن انتجوها،فالقيمة الفنية للعمل الجديد كما يفهمها هؤلاء الكبار تبقى مكتفية بذات العمل نفسه وليس من مسيرته الادبية وسيرته الذاتية،ذلك لان العمل الابداعي قيمته لاتأتي من خلال علاقة  تراكمية قوامها أرشيف وتاريخ الكاتب،بقدر ماهي علاقة مشروطة بالعمل من داخله وليس من علاقة خارجة عنه.
في مقابل ذلك نجد في واقعنا الثقافي عدد كبير من كتابنا،يمتلكه حرص شديد في أن يضع قائمة طويلة لانشطة شارك فيها مع كل اصدار جديد له في سيرته الذاتيةلايفتأ أن يذكر فيها كل شاردة وواردة من تلك الانشطة،إبتدأً من المؤتمرات والندوات والمهرجانات والحفلات والشهادات وهدايا التكريم من دروع وسيوف وخناجر،ولن يبقى أمامه إلاّ أن يذكر رقم حذائه،وغذائه المفضل،واسماء اولاده واحفاده ونسبائه ورقم داره وعنوان بيته والزقاق الذي يقع فيه ...!
وكأننا هنا،أمام وثيقة أمنيّة من تلك الوثائق التي عادة ما تفرض علينا في بلدان الشرق المتوسط ــ حسب رواية عبد الرحمن منيف ــ لكي نجيب على مافيها من اسئلة واستجوابات عندما نتقدم بطلب رسمي للحصول على وظيفة أو جواز سفر أو حتى طلبا للزواج من ابنة حلال،فقد اعتدنا في هذه البلدان التي عادة مايحكمها عسكر أو زعماء ميليشيا أوزعران،أن نجيب على اسئلة صغيرة وكبيرة تتعلق بكل شؤون حياتنا وحياة اهلنا واقربائنا من الدرجة الاولى وحتى الدرجة العاشرة.
يبدو لي ان هذا السلوك وهذا التقليد للعديد من ادعياء الثقافة والأدب هذه الأيام لاعلاقة له بالتوثيق ولابالأرشفة التي يدَّعونها،إنما محاولة ساذجة منهم لخداع البسطاء من القراء،لإيهامهم على أنهم يقفون أمام كتَّاب كبار يملكون تاريخا حافلا من الانجازات المتوَّجة بالدروع والشهادات والتكريمات والمشاركات، وفي حقيقة الأمر هذا النهج الساذج ماهو إلاَّ سلوك بائس لسد نقص كبير في المحتوى الادبي والشخصي.
و بعيدا عن أصدقاء وحاشية هذا النَّمط من الكتّاب ممن يحسبون ايضا على الوسط الادبي والثقافي،ليس هنالك من قارىء واحد من عامة الناس نجده يعرف اسما واحدا منهم،وما من قارىء يمكن أن يتملَّكه حرص شديد على قراءة ولو اصدار واحد لكاتب(جهبذ سامق)من هؤلاء،لأنه وببساطة لاأحد يعرفه أو سمع بأسمه ! 
في مقابل هذه الصورة الهزيلة لصناعة مجد اجتماعي زائف،مازلنا نجد حرصا لدى عديد من القراء ومن مختلف الاعمار والاجيال على قراءة مؤلفات علي الوردي أو نجيب محفوظ أواشعار محمود درويش،وأسماء اخرى كثيرة،غابت عنا جسدا لكنها مازالت تملك حضورا وتأثيرا في حاضر ثقافتنا ووعينا واهتمامتنا رغم ماحصل من متغيرات في اساليب ومناهج تقنيات الكتابة، ورغم عشرات الاسماء التي جاءت بعدها ورحلت دون ان تترك اثراً يذكر .

50


القاص محمدعلوان جبر،في مجموعته القصصية الجديدة،تراتيل العكاز الاخير*
حساسية واضحة في تناول الحرب وتنوع الصيغ التي جاءت بها شخصية السارد .




مروان ياسين الدليمي

اصدار :دار ومكتبة عدنان     
الطبعة الاولى 2015   
             
يبدو وكأن محمد علوان جبر وهو يتصدى لكتابة مجموعته القصصية الاخيرة(العكاز الاخير)كان ذهنه مشغولاً في أن يبني فضاءً قصصيا مَحمولاً من ذخيرة الحروب التي عاشها العراقي طيلة عقود طويلة مضت عليه،فالقصص تنفتح في حساسيتها السيميائية على ماتفرضه موضوعة الحرب من ازمنة ثقيلة لاتنتج إلاّ مشاعر القهر والكبت والحرمان.
ورغم أن معظم الشخصيات قد تركت الحرب فيها وعليها وشمها واضحا وعميقا ــ نفسيا وجسديا ــ إلاَ اننا نقف امام اصرارها على ان تتنفس الحياة بعمق وسرعة رغم مرارة الحزن الذي يترسب في اعماقها كما هي شخصية صاحب المقهى في القصة المعنونة العكاز الاخير:"سيدتي أنا أُدير مقهى صغيرة تحت ظلال شجرة سدر عملاقة،تماما تحت اليافطة التي كانت تحمل اسم المكان الذي كنا نستلم منه اطرافنا الصناعية .. نكوم السيقان والاذرع الصناعية تحت الشجرة ..نعرضها تحت الضوء،نجلس حولها نحدثها وتحدثنا..ربما كان البعض الآخر. .اقول ربما..لاتستغربي ،ولاتقولي إنني مجنون ...! " .
والتجانس يبدو واضحا جدا في هذه المجموعة القصصية خاصة وأن الحرب تشكل تاريخا شخصيا لمعظم شخصيات المجموعة القصصية .
وفيما يتعلق بتجربة الكتابة القصصية فإن علوان يمتلك خبرة متراكمة تجعله مُمْسكا بأدواته الفنية بحرفية عالية وهو يتصدى لمثل هذه الموضوعة على ماتختزنه من عوالم داخلية شديدة العتمة داخل مغاور الذات الانسانية.
الموضوعة الانسانية
في مشغله الفني بدا واضحا ان علوان قد ابتعد في رؤيته الفنية بدرجة ما عن الانشغال المتقصد بخداع القارىء بمقولات فنية تسعى لتأطير النص ضمن مقاربات اسلوبية تجعله متحركا في حدود المعالجات المتمظهرة في نطاق انشغالات الهموم التجريبية التي تتحرك فيها القصة الحديثة،سواء في استعراض اللغة أو في المعالجة الشكلية التي عادة مايمارسها كثير من كتاب القصة القصيرة الذين عادة مايفتقرون في نصوصهم القصصية الى موضوعة انسانية تتسم بالعمق والاهمية،لذا يتكئون على ارهاصات تجريبية عادة مانجدها في كتابات قصصية تحاول أن  تستظل بتجارب جاءت بها الحداثة ومابعدها.
فتجربة الكتابة لدى علوان تبقى في حدود حرصه الفني على أن تتمظهر رؤيته الموضوعية داخل قصصه ضمن تداولية النص لدى القارىء ومدى القدرة على تحقيق تواصل عميق بينهما.
واللغة لديه اضافة إلى رشاقتها وجمالها تبقى مشروطة بحضور ارسالها الفني داخل إطار وظيفتها السردية، دون أن تخرج  الى ما هو جمالي/شكلاني صرف لاتأثيرله على نمو وتطور البناء .
أقنعة الحرب
ليس للحرب من ذكريات تبعث البهجة في الذات الانسانية،بقدر ما يشكل الاسى قاسما مشتركا بين الجميع،وليس بالضرورة هنا ان تعيش شخصيات علوان حالة الحرب بين الخنادق وتحت القصف،كما في قصة "ضوء ازرق اسفل الوادي".وتبدو لنا هذه القصة من اجمل وانضج قصص المجموعة من الناحية الفنية وهي تتصدى لموضوعة الحرب،بل عمد علوان إلى ان تمتد سلطة الحرب بعيدا عن الخنادق الى ازمنة تأخذ الشخصيات في دوامة الحياة،لتحيط بها وترسم تفاصيل حياتها ومصيرها المأساوي،كما في قصة "ملاذات طالب العجيبة" بعد أن كانت الحرب قد اقتصَّت منه ومن رمز فحولته، فاحالت حياته الاسرية والنفسية الى حطام .
الحروب تبقى تطارد الشخصيات بتفاصيل آخرى،في البيوت والشوارع والمقاهي والازقة التي تنتقل اليها بعد أن تغادر الخنادق،تطاردها في طفولتها كما في قصة(انقلاب)وفي احلامها كما في قصة(مطر بلون الرثاء)وفي لحظات السعادة الشحيحة التي تعيشها كما في قصة (غبار حلم آخر) .
ولافرق هنا فيما لو جاءت الحرب بوجه آخر غير الوجه المتكدس عنها في الذاكرة الجمعية،وذلك عندما تجيء وهي تلبس قناع الرعب السلطوي لتستبيح الحياة الانسانية،كما في قصتي "الاوبتيما الزرقاء " و"انقلاب " .
اختزنت ذاكرة علوان الكثير من التفاصيل الانسانية التي عاشتها الشخصية العراقية في مسارها التراجيدي خلال اكثر من نصف قرن،كانت الحرب والانظمة القمعية يقفان خلفها،ليشكلا علاماتها الفارقة التي وسمت ملامحها،وتركت فيها ندوبا تختلط فيها مشاعر الاسى والخوف والوحدة،كما في قصة "صهيل العربة الفارغة ".
قد تكون هذه العوالم النفسية الحادة هي الأقرب الى مشغل القصة القصيرة،التي تصبح فيها الشخصية الانسانية بؤرة مركزية داخل بنيتها الفنية وهي في حالة من الانشداد والتأزم ضمن قالب زمني مضغوط،يشكل جوهر خيارات تركيبتها البنائية .
إن علوان يدرك جيدا في مجموعته هذه الكيفية التي يبدو فيها امام القارىء مقنعا ومشوَّقا في سرده الفني،خاصة ان لديه مايريد أن يوصله من افكار الى القارىء،بذلك هو غير منشغل  مثل غيره باستعراض مهارته الفنية ككاتب للقصة القصيرة يملك قدرة الامساك بانتباه القارىء الى النهاية حتى لو لم يكن هنالك في القصة مالايستحق قوله من افكار.بقدر ما يكون الأمر المهم لديه بأن يمد القارىء بتجربة انسانية تشير الى عمق الجروح التي تتركها الحروب في روح الانسان،وليس من السهل أن يمحوها الزمن،وذلك من خلال تجربة فنية تستحق القراءة والتأمل.
من هنا لانجده يلجأ الى الحشو والثرثرة اللغوية وهو يؤثث معمار قصصه،بقدر ما نجده يبدأ سريعا في الدخول الى مرحلة العرض وهو ينسج خيوط قصته،لتنمو متدفقة سريعة كما في مفتتح قصتة المعنونة (حفاروا الخنادق):"كنا عشرة،قبل أن نصل إلى وحدتنا الجديدة سقط واحد منا،نقلته سيارة الاسعاف ولم نسمع عنه خبرا " .
القصة القصيرة التي يكتبها علوان تنفتح فضاءات اشتغالاتها على ما يتمظهر فيه السياق العام لاشتغالات القصة القصيرة بكل تداوليتها التي افرزتها تجارب الحداثة ومابعدها،وذلك بالاهتمام بالصنعة واللغة القصصية دونما اسراف،وهذا يندرج ضمن ماتحظى به فنية القصة القصيرة من محاولات حثيثة في الانزياح عن التقاليد والتقليدية في البناء.
لذا يمكن قراءة الحساسية التي اشتغل عليها علوان في بناء قصص المجموعة بما انطوت عليه من تنوع واضح في شخصية السارد،كذلك في تنوع صيغ الضمائر التي جاءت بها،مما يعني ارتهان سياقه السردي ـــ في تعددية صيغه ــ الى طبقات المعنى المحمول في علامات السارد.
* تتألف هذه المجموعة القصصية من ثلاث عشرة قصة قصيرة،وقد حملت عنوان احدى هذه القصص، وسبق للمؤلف أن اصدر مجاميع قصصية بالعناوين الاتية:تماثيل تمضي تماثيل تعود،تفاحة سقراط، شرق بعيد . كما اصدر رواية بعنوان ذاكرة ارانجا.

51
صناعةُ السينما في العراق،حكايتُها أكثرُ إثارةً وتشويقاً من افلامِها



       
                                         
مروان ياسين الدليمي

الحديث عن الانتاج السينمائي في العراق يسحبُك عنوة دون أن تقصد الى ظلال المشهد السياسي،رغم أنك تحاول جاهدا أن تنآى بنفسك عن مستنقعاته الآسنة،لانه صورة مستنسخة عن بقعه الداكنة،بكل تشوهاته وعقده وامراضه العضال،وبكل مايفرزه من متاهات وتواطئات ومجاملات وصفقات مشبوهة تأتي في محصلتها النهائية على حساب القيم والثوابت الاخلاقية والانسانية.
إذن الحديث عن السينما ـــ لايوجد سينما في العراق ـــ سيكون موجعا،تتشابك فيه خطوط حكاياته،بعيداً عن جماليات الصورة والايقاع والاحاسيس،منزلقة الى كواليس خلفية،ابطالها اداريون وموظفون يرتدون بدلات واربطة ،ويجلسون خلف مكاتب انيقة،يتجولون كالطواويس،يحيط بهم حفنة فنانين يعرفون جيدا من اين تؤكل الكتف،ولم تعد تجدي نفعا صبغة الشعر  في أن تعيد الشباب اليهم،حكاية صنع السينما في العراق مشوقة أكثر من افلامها تبدو وكأنها  فصل  جديد ومثير من حكاية علي بابا والاربعين حرامي.
نفخ في قربة مثقوبة
 هل أمسى الحديث عن الفن الجميل يخلو من الجمال،ولاجدوى منه؟ هل نبدو وكأننا ننفخ في قربةٍ ولاندري بأنها مثقوبة؟مع اننا نعلم جيدا بأن كل العيون ترى،لكن مامن اذان تصغي لما يُقال و يُكتب من ملاحظات تهدف إلى تشخيص عللٍ تقف حجر عثرة امام نشوء انتاج سينمائي عراقي ينهض على اسس سليمة  ؟
ومايعكس هذه الحقيقة بكل غرائبيتها،استمرار الواقع السينمائي على صورته هذه،بكل هشاشته وضبابيته وسوداويته،حتى أن شعورا بات يتسلل الى جميع الحالمين والطامحين والموهوبين،بأن لاأمل يبدو في الافق،وترسخ هذا الشعور مع هذا الكم من الافلام التي لاتصلح للعرض تولت وزارة الثقافة العراقية انتاجه خلال العامين الاخيرين 2013 – 2014 وقد وصل عدد الافلام الى 38 فلما،منها  14 فلما روائيا طويلا،و16 فلما روائيا قصيرا، إضافة الى عدد آخر من الافلام الوثائقية،حسب ماذكره مدير عام السينما والمسرح د. نوفل ابو رغيف في ندوة تلفزيونية كانت قد اجرتها معه قناة الحرة عراق الفضائية في نهاية شهر كانون الثاني من هذا العام 2015 وشاركه في الحديث  عدد من المخرجين العراقيين. 
غياب الاشتراطات الفنية
الانتاج العراقي منذ انطلاقته الاولى في فيلم(فتنة وحسن)للمخرج العراقي حيدر العمر عام  1955 ،بقي عاجزا عن تقديم فلم  تتوفر فيه على الاقل الحدود الدنيا من الاشتراطات الفنية التي ينبغي أن يكون عليها الشريط السينمائي،ابتدأً من السيناريو المحكم البناء،والمعالجة السينمائية التي تشتغل بأدواة السينما إعتمادا على رمزية الصورة وماتختزنه من دلالات يتم ايصالها بالايحاء وليس بمفردات العُدَّة المسرحية التي عادة ما يعمل بها معظم المخرجين العراقيين،لان جلَّهم جاء إلى السينما عن طريق خشبة المسرح،وبتقديرنا أن جزءاً كبيرا من الخلل ــ الفني ــ  يكمن هنا،وقد صاحب هذا الخلل مسار السينما العراقية طيلة العقود الماضية إلى أن جاء  العام 2003،حينها بدأنا نشهد تحولا نوعيا في الفهم والعمل والنتائج،جاءناعن طريق مجموعة من الشباب معظمهم عاش شطرا مهما من حياته في اوربا ودرس الفن السينمائي خارج العراق،على سبيل المثال لا الحصر(عدي رشيد ومحمد الدراجي)فقدموا لنا اعمالا سينمائية توفرت فيها جملة من العناصر الاساسية في بناء الفلم،تجاورت في جمالياتها ولغتها وتطلعاتها الفنية مع مايطرح من اعمال سينمائية في العالم المتقدم،وهذا مااعطى لأفلامهم فرصة أن تحظى ببطاقة دخول الى عدد من المهرجانات الاقليمية والدولية،بل إن بعضها ترشح لنيل جوائز رصينة،كما هو الحال في فلم(ابن بابل)للمخرج محمد الدراجي الذي نال أكثر من جائزة في أكثر من مهرجان دولي.
ومضات سينمائية مبعثرة
لو حاولنا الآن أنْ نعيد قراءة بعض الومضات البعيدة في مسار الانتاج السينمائي العراقي التي جاءت  مبعثرة في مسار بعض الاشرطة التي انتجت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي،والتي اشعرتنا في حينها بالأمل،كما في فلم(الحارس 1967)خليل شوقي،(المنعطف 1974)جعفر علي،(بيوت في ذلك الزقاق 1977)قاسم حول،(الاسوار 1977)محمد شكري جميل،فإننا سنجد انفسنا وكأننا كُنّا نعيش وهما كبيراً،وأننا تجاوزنا بوهمنا حدود التفاؤل.
ومثلما تعودنا أن نتغاضى عن اخطاء قادة وزعماء كنا مؤمنين بوطنيتهم، تغاضينا أيضاعن هنّاتٍ حفلت بها تلك النتاجات(الومضات)تدفعنا الى ذلك مشاعر احتفاء ودعم للإنتاج السينمائي العراقي،وياليتنا ماتغاضينا عن أخطاء القادة والمخرجين معاً،لأن البلوى واحدة وإن اختلفت المسميات .
وفيما لو تمت مقارنة تلك(الومضات)مع ماتمَّ تقديمه من اعمال سينمائية انتجت في مصر أو سوريا أو تونس أو الجزائر في نفس فترة انتاجها ،لخرجنا بنتائج ليست في صالح ومضاتنا .
هيمنة الايدولوجيا
إن النتاج السينمائي في العراق ظل يعاني من معضلة رئيسة تتلخص في خضوعه المعيب لايدولوجيا النظام الحاكم،خاصة ذلك النتاج الذي تتولى تمويله دائرة السينما والمسرح،وهو الأكثر حضورا وهيمنة من حيث الكم،وهذا ماأسبغ  عليه صبغة دعائية،ليجرده من فرصة أن تكون أدواته عالية الحرفية إحتراما لذكاء المتلقي ــ وليس احتقارا له كما هو حاصل ــ ولكي يتفاعل معه الجمهور باعتباره عملا فنيا خالصا،يتم التعامل معه نقديا وفق اشتراطات العمل الفني،وليس باعتباره جزءا من اجندة دعائية.
من هنا بقي النتاج السينمائي في العراق محشورا في زاوية الفنون الدعائية التي يتسم خطابها بالمباشرة والسطحية والسذاجة،ولاتحتاج الى وقت طويل لتأملها وقراءتها وتفكيك دلالاتها ورموزها وشفراتها كما هو الأمر في الفلم السينمائي الذي يقدمه الفنان بعيدا عن هيمنة خطاب السلطة.
النتاج العراقي بقي مفتقدا لجوهر مايسعى الى تحقيقه الفن السينمائي :الانتماء للأنسان وإنصاف قضاياه العادلة،بمعزل عن تخريجات خطاب السلطة،بشكله السياسي والاجتماعي،بكل مايحمله من  تزيييف للحقائق،وأنزوى بعيداعن الحياة وماتضج به من دراما انسانية تحفل بالكثير من القصص البَكر التي لم تصلها عدسة السينما،هذااضافة الى مايطرحه الواقع بكل مايشهده من تحولات واحتدامات من قصص جديدة، مكتفيا بإعادة انتاج ماهو شائع ومكرر ،وهذا مايتناقض جوهريا مع وظيفة وضرورة الفن في أن يكون جدليا في رؤيته للواقع وليس تزويقيا وسياحيا إن لم يكن مزوراً في اغلب الاحيان .
وحتى لو صادف أن اقترب المخرج السينمائي العراقي من هذه الرؤية الجدلية فأنه سيلامسها على استحياء وحذر شديدين،كما هو الحال في افلام عبد الهادي الرواي(البيت،افرض نفسك سعيدا،حب في بغداد)الذي لاتنقصه الموهبة ولا الوعي السينمائي،لكنه لم ينصف موهبته بما تستحق،مع تقديرنا  لثقل الظرف السياسي الذي كان يحيط به ــ لكونه شيوعيا ــ وكان سببا في حرمانه من العمل لسنين طويلة قبل أن تعطى له الفرصة ولكن تحت شروط وضوابط صارمة حاول على قدر مايستطيع أن يستغفل الرقيب ليمرر رسالته الذاتية،لكنها وصلت متلعثمة.   
يمكننا القول بأن الافلام التي اقتربت من نبض الحياة بحرارة وجمالية تكاد تكون نادرة في تاريخ السينما العراقية،ويمكن اعتبار فلم المخرج  قاسم حول (بيوت في ذلك الزقاق  1977)ضمن هذا الاطار.لذلك كان تعامل الرقيب انذاك مع الفلم قاسيا جدا،الى الحد الذي تم تغيير مشهده الاخير بنهاية أخرى غير التي وضعهاالمخرج،بشكل ينسجم مع ايدولوجيا النظام القائم،وكان ذلك من الاسباب الجوهرية التي دفعت بالمخرج إلى أن يغادر العراق قبل عرضه خوفا من الاعتقال خاصة وان عرضه قد تزامن مع بدء حملة الاعتقالات التي طالت اعضاء الحزب الشيوعي العراقي . 
إن دائرة السينما عكفت خلال فترة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي على العودة الدائمة الى الوراء،إلى التاريخ ـــ وهذا مايفعله النظام الحالي ايضا ـــ لتقديم اعمال سينمائية ذات كلفة انتاجية عالية جدا إستلهمت فيها من الماضي البعيد قصصا وحكايات تمت معالجتها بشكل يخدم ايدولوجية الحزب،دون أن يكون هنالك اي قدر من الاهتمام بالجانب الجمالي أو المضمون الانساني،بما يشكل هذان العاملان من اهمية فيما لوعرض الفلم في إي مكان وإي زمان،مثال على ذلك فيلم(القادسية)1981من اخراج المصري صلاح ابوسيف،وفيلم(المسألة الكبرى)1982من اخراج محمد شكري جميل،ورغم الاموال الطائلة التي صرفت على تلك الاعمال إلاَّ انها لم تضف شيئا مهما ــ ضمن الاطار الجمالي ــ  للإنتاج السينمائي العراقي،وذهبت في طريقها إلى النسيان بدلا من أن تستقر في ذاكرة الفن السينمائي . 
وهنا ينبغي التوقف أمام رسالة الفنان عند تقديمه لاي تجربة فنية،وتمثل هذه المسألة جوهر العمل الفني وسر حضوره المشرق وديمومته،فالقيمة الاساسية لأي عمل لاتكمن في كونه يعالج الماضي او الحاضر،إنما قيمته تكمن في أن لاتكون رسالته جزءا من منظومة ايدلوجية هدفها تزييف اوتلميع اوترقيع الحقائق.فمهمة الفنان أن يرسم صورة جديدة للغد،لاأن يعيد انتاج صورة قديمة من الماضي حتى لو كانت مشرقة،فكيف الحال إذا كانت تلك الصورة مُزيَّفة ومُزيِّفةبنفس الوقت.
لاجديد في الاشرطة الجديدة
بعد انتظار طويل دام اكثر من عامين كان الجمهور العراقي ينتظر بشوق ــ كعادته ــ ماستفصح عنه مجموعة الافلام التي موَّلتها وزارة الثقافة خلال العاميين الماضيين،اقيم للفترة من 21  كانون الثاني (يناير)ولغاية 11 شباط (فبراير) مهرجانا لهذه الافلام،وبطبيعة الحال،وكما هو متوقع لدى كل من يُعنى بالفن السينمائي من نقاد ومثقفين،كانت النتيجة مخيَّبة،فالضعف في المستوى الفني قد شمل معظم الافلام بإستثناء فلم(صمت الراعي)للمخرج رعد مشتت،وبدرجة اقل فلم(بحيرة الوجع )للمخرج جلال كامل،هذه النتيجة انعكست بالتالي على نسبة حضور الجمهور المتابع للمهرجان،فأخذت تتناقص أعداده بشكل كبير من بعد اليوم الاول لافتتاح المهرجان .
من المعلوم ان هذه الافلام قد خصص لها اكثر من 20 مليار دينار عراقي ووصلت ميزانية بعضها الى مليون ونصف دولار لكل فلم،وهكذا يصبح الرقم تنازليا مع بقية الافلام الاخرى .
ماتم تسجيله من ملاحظات سلبية ضد خطة الوزارة يتلخص أولا في هذا الكم الكبير من الافلام التي تم انتاجها،وكان ينبغي بدلا من هذا العدد ــ  38 فلما ــ أن يقتصر الانتاج على عدد محدود،لايتعدى عشرة افلام،يتم اختيارها بدقة وعناية،ابتدأ من السيناريو وانتهاء ببقية طاقم الانتاج .
ايضا كان يتوجب على وزارة الثقافة ان تعطي الفرصة للمخرجين الشباب الذين اثبتوا كفاءة وحضورا في الافلام التي قدموها خلال الاعوام الاخيرة،وعلى العكس من ذلك  تم استبعاد معظمهم من  خطة الوزارة، لتستولي على الحصة الاكبر من خطة الانتاج بدلا عنهم اسماء مخضرمة دائما ما كانت لها الحظوة في اقتناص الفرص طيلة العقود الماضية لكنها لم تقدم شيئا مهما،لاسابقا ولا لاحقا .
ومن الاسباب الاخرى التي تقف وراء ضعف الافلام المنتجة:عدم كفاءة اللجنة التي تولت قراءة واجازة السيناريوهات المقدمة للانتاج،فقد بدا الضعف واضحا في معظمها،بل أن اغلبها يصلح ان يكون مادة للتلفزيون ولايصلح ان يكون مادة سينمائية،لما حفلت به من ثرثرة في الحوار،وغياب الموضوعة الانسانية التي يراهن عليها في مخاطبة الجمهور العالمي في ايّما مكان وإيّما زمان.

52

رواية ملوك الرمال
للكاتب العراقي  علي بدر
                                     
       التخييل يحلّقُ بالسَّرد ليزيح المؤرخ مِن أمامه
                                                             مروان ياسين الدليمي

لم يكن المؤلف علي بدر يقصد من خلال روايته ملوك الرمال أن يلعب دور مؤرخٍ شاهدٍ على أحداث وقعتْ،بقدر ماكان دوره روائيا بامتياز،اطلق العنان لمخيلته السردية في بناء عالم روائي متخيل لاصلة له بالكيفية التي يُمكن أنْ يتعامل بها مؤرخ مع أحداث التاريخ،مِن هنا لامس في هذه التجربة مشاعر وهواجس شخصيات انسانية إفترَض وجودها عند حافة تحولات عميقةٍ،وجدت نفسها في لحظة زمنية يفصل فيها خيط واهٍ مابين عالم الحرب والسلام،الماء والعطش،الصحراء والمدينة،الموت والحياة .
ارسطو وهو يقارن مابين التاريخ والادب يقول:" إن السرد التخييلي أكثر فلسفية وعلمية من التاريخ لأنه يتعلق بالحقائق العامة،فهو يعالج مايحدث عادة،لامايحدث فعلا ". ( 1 )
من هنا يذهب البناء السردي لهذه الرواية عبر مسار تخييلي  للتاريخ،وفيما يبدو لنا هو تاريخ ليس ببعيد عن المؤلف،حتى وإنْ لم يكتو بأحداثه بشكل مباشر عشية حرب الخليج الثانية 1991.وكان تقسيم الرواية الى جزئين كل منهما يحمل عنوان وهي علامة أولى على تحديد التصنيف الاجناسي لنمط الكتابة،اضافة الى كونها استعارة من تقانات الرواية السير ذاتية،مع أن الرواية تعاملت بكل محمولات خطابها مع حدث تاريخي :" كانت هنالك أسراب من الطائرات المتجهة نحو الشمال،بُهِتُّ أول الأمر،ثم أدركتُ أنْ الحرب قد بدأت،وهذه الطائرات هي طائرات الحلفاء المتجهة لقصف بغداد، كانت هنالك مجاميع أخرى تأخذ الاتجاه ذاته ".
المتن الحكائي
عشية الاستعدادات المحمومة للبدء بحرب الخليج الثانية وتحديدا في شهر يناير كانون الثاني من العام 1991 يتم تشكيل فصيل من كتيبة مغاوير الفرقة الثالثة والعشرين يتألف من تسعة جنود ونقيب،لتنفيذ مهمة قتاليةٍ أطلق عليها"غارة الصحراء "لملاحقة مجموعة من البدو تنتمي لقبيلة جَدلة في مقدمتهم شخص يدعى جسَّاس لأنّهم تورطوا بذبح ثلاثة من ضباط استخبارات الكتيبة كانوا في مهمة استطلاعية داخل الصحراء في جنوب غربي العراق،والأوامر العسكرية العليا كانت تقضي،إمَّا بأسْرَهُم أو قَتلَهُم.أفراد الفصيل الذي تم تشكيله لم يستعدوا لهذه المهمة إلاَّ بما تحتاجه "بندقية رشاشة،وفائضا من الذخيرة الحية،والحربة المسمومة مع عدة ميدان المعركة وكيس التموين الذي يحتوي على الارزاق الجافة مع الخارطة المفصلة والنطاق العريض والبسطار الخاص بالمعارك التي تشن في الصحراء ". من هنا يبدأ مسار رحلة الصراع مع عدو يمتلك قدرة على التآلف والتماهي مع الصحراء،حتى لكأنه يبدو صورة منها، بغموضها، وقسوتها، ومفاجاءاتها،وجمالها. الفصيل يفشل في مهمته ويتمكن جساس المُتهم بقتل الضباط الثلاثة أنْ يقضي على جميع افراد الفصيل الذي يطارده،ولم ينجو منهم إلاَّ جنديا واحداً،يتمكن فيما بعد بمساعدة قبيلة(بني جابر)التي ترتبط بصلة تعاون وثيقة مع الحكومة العراقية من القبض عليه وأقتياده مقيدا إلاّ أنه يُطلق سراحه ماأن يمر بالمدينة وهو متجه به الى وحدته العسكرية لتسليمه عندما يجد أن قوات التحالف الدولية قد تمكنت طائراتها من تدمير الجيش العراقي،وأنَّ حالة من الفوضى والانهيار تسود البلاد .
بدا لنا اختيارعلي بدر تقانة الرواية السيرذاتية صائبا في بناء عمله.من هنا جاء استعمال ضمير المتكلم بصيغة الماضي للسارد/ الشخصية الرئيسة،وكان اختيار سترايجية نمط الرواية السيرذاتية بما تحمله من آليات،قد منحه فرصة تحريك واستثمار مخزونات الذاكرة التي تعني "انسياب حركة الزمن من الماضي إلى الحاضر الذي يتوغل مع المستقبل عبر جدلية التطور وديناميكية التفاعل على صعيد الحياة والأدب " ( 2 ). مع أن خيار الرواية السير ذاتية  يضع القارى في موقف يحاول فيه أن يفك الاشتباك مابين  المؤلف والمؤلف الضمني السارد.وهنا يتردد  سؤال لدى القارىء:هل نستطيع أن نفصل مابين الشخصية الرئيسة والمؤلف طالما نحن ازاء بنية سردية تتحرك في ستراتيجية سيرذاتية ليس من السهل في تركيبتها فك الارتباط ما بينهما ؟.فالسارد مؤلف ضمني،يستعيد تجربة مر بها،والمؤلف إستعار قناع المؤلف الضمني لكي ينزوي بعيدا وهو يحرك الاحداث من خلاله.تبدو الاجابة القاطعة مغالطة،مهما كانت،سواءبالنفي أو الايجاب،وهي في الحالتين تحمل رؤية قاصرة لمحمولات الكتابة السردية من الناحية الفنية.
بنفس الوقت هنالك عدد من الاسئلة الازلية رافقت الأنسان في رحلته السرمدية ودائما مايطرحها على نفسه مُذ أدرك حضوره وهو يواجه الموت والقتل في الحروب،اعاد علي بدر طرحها على لسان الشخصية الساردة/الشخصية المحورية بشكل آخر يعكس معطيات عصره الذي تداخل فيه الواقع والخيال من حيث التأثير المتبادل،إذ لم يعد هنالك من حد فاصل بينهما يمكن الامساك به:" ماهي الحرب؟ كنت أسأل نفسي وأنا أرى كل هذه التحضيرات،كما لو كانت في فيلم سينمائي،من تعلم مِنْ مَن؟الفن من الحرب أم الحرب من الفن ؟ " .
الصوت السارد
يأتي فعل السرد من وجهة نظر الجندي الوحيد الذي ينجو من هذه المهمة  لتتكشف أمامنا شخصية على قدر معقول من الثقافة كونها قد انحدرت من بيئة مدنيَّة،إلاَّ أن المؤلف لم يتوقف عندها طويلاً " فكرت في نفسي:الأحلام بعيدة عني ذلك اليوم، والحرب قريبة جدا،وما من ماض لي أفكر به الآن،ففي الحرب لامعنى للماضي أبدا،ذلك لأن الحاضر وحده الذي يهيمن على تيار الزمن،فاللحظة القادمة مجهولة، والماضي منسي ومتقهقر،والحاضر هو الزمن الأكثر كثافة وواقعية في تيار الزمان".وقد اكتفى علي بدر  باشاراتٍ عابرةٍ عن ماضي الشخصية المحورية/الساردة،ووجد ذلك  كافيا لتحديد مرجعيتها الأنسانيةوماستواجه من صراع نفسي عندما تنتقل الى الصحراء،لتصبح دون مقدمات في مواجهة مصيرية مع بيئة أخرى هي نقيض البيئة التي عاشتها في المدينة،لتكون بالتالي أمام مواجهة حاسمة مع قدرها ووجودها الانساني وسط عالم  مجهول وغامض ومفاجىء مِن الصعب الامساك بتفاصيله المتغيِّرة مع تغيّر رمال الصحراء المتحركة :" كنت أشعر بأن الأرض يغمرها ضوء شاحب،ضوء خفيف كأنه قادم من تبخر بحر في السماء،وكنت أرى هذا الصمت الإلهي العظيم،هذا الصمت الأخرس في الليل،وكأن الصحراء هي الصرخة الأخيرة للرب،فيالها من اشياء تلك التي سمح لي الله برؤيتها على أرضه !.إنها بوابة سامية أدخل منها في اليوم التالي الى الصحراء،حتى كأن الليل يختلط بالسماء،وهذا الضوء الشاحب الذي يغمر الخليقة قادم من اقدام الإله الذي أنار النجوم بضوء ثابت يبرق مثل الماس على بساط اسود ناعم" .
دلالة  السارد
ضمن خصوصيات فن كتابة الرواية "يكون المتكلم أساسا هو فرد إجتماعي، ملموس ومحدد تاريخيا،وخطابه يمثل لغة اجتماعية وليس لهجة فردية،ومن ثم يمكن لخطاب شخصية روائية أن يصبح أحد عوامل تصنيف اللغة ومدخلا للتعدد اللساني ". ( 3 ) ولغة الشخصية المحورية في هذه الرواية وإن كانت تعكس وجهة نظر ذاتية لشخصية تعيش عالمها الايدولوجي الداخلي الخاص بها الذي يعكس فهمها وقناعاتها متجسدة في افعالها ومنطوقها اللفظي،إلا انها تعكس بنفس الوقت دلالة اجتماعية طبقية.
حمَّل علي بدر وهو يختبر مشاعر شخصيته الساردة لغة خطابهِ قيمة ايدولوجية داخل بنيتها الجمالية وهو يتغنى بفرادة عالم الصحراءوغموضها التي مررها على لسان الشخصية المحورية :" لقد شعرت بالتماس مع هذا الرمل،وكأني أذوب في نوع من السرية المطلقة،لقد شعرت وأنا في الأعلى بلحظة غياب مكشوفة مع الصحراء،وأحسست بأصابعي تستدفىء بهذا الوهج القادم من الرمل أولا،ومن الشمس ثانيا،ومن المدار ثالثا وكأن الصقور التي يخشاها الطيارون تفر من خاصرة الرمال لتوقظ في التجرد المديد أنداء الأقاصي " .
الصحراء بمفراداتها هي المحور الرئيس الذي تدور حوله الاحداث،فكانت تجربة علي بدر بمثابة محاولة لفك شفرات البدو او كما يسميهم ارستقراطيي الصحراء وهذا ماجاء على لسان السارد في احدى جمله في الرواية "كان فزعهم يعيد الأمور علينا مقلوبة،دون ابتسام يقرءون ويفكون رموز العالم الذي يحيط بهم ثم يهبطون ليلا في الوديان،يهبطون مثل آلهة قديمة بحركاتهم الرشيقة والبطولية معا ويتلاشون في الظلام ".
أوصل لنا علي بدر مرادفات سردية معادلة لما يحتشد في رمال الصحراء وامتدادتها مِن صورٍ تأتي متداعية من خلال المؤلف الضمني/شخصية الجندي السارد للأحداث الذي هو الناجي الوحيد من هذه المهمة،الذي تحوَّل فيما بعد الى كاتب روائي بعد انتهاء الحرب،فأستثمر هذه التجربة التي خاضها ليعيدَ استدعائها عبر حبكة روائية.

1-   نظريات السرد الحديثة – والاس مارتن – ترجمة حياة جاسم محمد
2-   في الذاكرة الشعرية :قيس كاظم الجنابي
3-   نفس المصدر رقم (1 )














53
فنان ، متطرف دينيا!!!
                                               
مروان ياسين الدليمي

عندما تجد فنانا شابا،ينساق فجأة كبقية القطيع وراء مناخ التطرف الذي يسود العالم،هذه الايام،ليكرس جل وقته لاقامة حفلات بائسة من الشتم والاساءة للآخرين على صفحات الفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي الالكتروني،بدلا من تطوير ادواته الفنية وتقديم مشاريع ابداعية ترتقي بذائقة الانسان.فلابد ان يكون سبب هذا الخلل العقلي والروحي الذي اصابه :افلاس تام في مشواره الفني،وعجز عن اثبات حضور مهم بين اقرانه وزملائه،لذا لم يجد في نفسه سبيلا وقدرة على إثارة اهتمام الاخرين به،سوى ان يركب مطية التطرف الديني،لانها بضاعة رائجة وهي ارخص مايكون في سوق الانحطاط والرداءة والبذاءة .وإلا ليس من المنطقي ولامن المعقول ان يتنازل الفنان عن مكانته السامية ورسالته الفنية بكل جمالها وعظمتها وخلودها لصالح خطاب ديني متطرف،لاقيمة له بقدر ارتباطه بمصالح واجندات سياسية ينتهي حضورها واهميتها من على سطح المشهد الانساني مع اي تبدل يطرأ على مسار العلاقات بين قوى سياسية تتصارع على النفوذ والمطامع،وليس دفاعا عن المبادىء والقيم الانسانية والدينية .
ملاحظة : ليس هنالك اي شخص محدد نقصده في هذا المقال،بقدر ماكان الهدف من كتابته،الاشارة بشكل عابر وعام لحالة يمكن ان نواجهها هنا وهناك .لأنني شخصيا لايعنيني الشخص الذي يصدر عنه الفعل بقدر ما يهمني الفعل نفسه ومدى اهميته ودلالاته ودوافعه ونتائجه على المستوى العام.

54
المنبر الحر / مَسارُ العَمى
« في: 16:41 18/02/2015  »
مَسارُ العَمى
 

                                               
مروان ياسين الدليمي

لم يعد يستفزني ولايدهشني،ماأقرأه من كتابات بعضها لأصدقاء ومعارف،من بينهم فنانون وادباء ومثقفون،ومن كل الاديان والطوائف والقوميات والملل والنحل،تنضح منها افكار متطرفة -دينية ،عنصرية ،طائفية -بعد أن اقتنعت شخصيا بأن لابد لنا من أن نبذل جهدا نفسيا وفكريا كبيرا لكي نخرج من منظومة ماتوارثناه -عبر اجيال وحقب متعاقبة -من افكار تحمل نظرة استهانة بالآخر ،إن لم تكن افكارا تحمل نظرة كراهية وتطرف اعمى،ولكي نخرج من هذه الهوة السحيقةالتي تروج لها كثير من القوى التي تتحكم بمصائر الناس -داخلية وخارجية -لابد لنا من ان نستعين بفطرتناالانسانية القائمة على التآخي،قبل القراءة والدراسة والمعرفة ،خاصة قراءة فترات التاريخ الانساني التي شهدت مانشهده اليوم من تطرف،عندها سنخرج بنتيجة واحدة تقول لنا بأن :من الغباء على الانسان أن يهين عقله وآدميته وفرصته الوحيدة بالعيش على هذه الأرض ليصدق اكاذيب الساسة ومن يروج لهم من رجال دين وثقافة وفن واعلام وصحافة،وهم يصدرون لنا كل يوم خطاب التطرف والكراهية ضد بعضنا البعض مغلفا بشعارات الدفاع عن العرق والدين والطائفة،واجدني اليوم على قناعة عميقة بأن من ينساق وراء هذا الخطاب،مندفعا دونما روية وتفكير خلف طغيان موجة مشاعر التطرف والكراهية،وهو يخوض في مياهها الآسنة،لن يتمكن من تحقيق اي نصر على من يعتقد بانهم اعداءه،فضلا عن تلويث روحه فقط،بما تفرزه الكراهية من قيح وأدران،ليتحول يوما بعد آخر ودون أن يشعر الى كائن مسخ،دميم ،كئيب،حاقد على نفسه قبل الآخرين،ولتتعبأ دواخله بمشاعر وافكار تزداد قتامة الى الحد الذي يصبح فيه العالم بعينيه بلون اسود قاتم،ولم يعد يملك مايكفي من بصيرة كافية تمكنه من رؤية الاشياء في الحياة على حقيقة الوانها الجميلة المتعددة..إنه بذلك يطعن روحه يوميا بمدية التطرف المسمومة وهو مغيب عن وعيه،ولن ينجو من هذه اللحظة الدامية إلا إذا توقف لحظة ليحاسب ذاته بما جنى،بما انتج،بما حقق من اعمال تستحق الفخر،بما ارتكب من حماقات حتى ولو كانت مجرد شتائم والفاظ، وليست افعال ،ثم ليتقدم خطوة واحدة إلى الأمام نحو النور ،نحو المعرفة،ليرى بوضوح ماحوله،ليكتشف أن وجوده كمخلوق،زائل في هذا الكون الشاسع،ولايشكل حضوره فيه سوى ذرة تراب لاترى بالعين،بينما يعتقد هو واهما،بأنه ند لهذا الكون،وانه ملك يديه،وملك مايعتقده ومايؤمن به حول نفسه ودينه وقوميته وطائفته،فقط لاغير .

55

  التّحليقُ عاليا،في مناخ شعري بعيد

   قراءة في ديوان (خارطة اللون .. قبعة السماء)*
 للشاعرة المصرية سمية عسقلاني

  مروان ياسين الدليمي

سمية عسقلاني تصارع الحياة بصوت أنثوي حرّ


كما لو أنها لوحدِها،تأتي الشاعرة د. سمية عسقلاني الى منطقة الشعر قادمة من لحظة زمنية بعيدة جدا،يعود الشعر فيها الى منابعه الأولى،حيث الصوت ولِدَ عاريا حراً،لا تكبله القواعد،ليتجلى فيه الصوت الانساني ــ الانثوي ــ بكل حساسيته ورقته،في لحظة محسوسة بالنبض.لحظة،مازالت ــ كما هي ــ على نداوتها قبل أن تكون مرئية،دون أن تكبلها أعباء واحمال ثقيلة تكدست على أصوات شعراء أخرين .وهذا ماتشير إليه عسقلاني في جملتها الأولى قبل أن ندخل عالمها الشعري:
انتبهوا
هنا عشبة لم تجف
وشعاعٌ يثقب غيمة .
الشعر يعكس تجربة الشاعر وذاتيته ازاء العالم الموضوعي،ويأتي النص محاولة من الشاعر لايقاظ الوعي في ــ ذات ــ تجربته الشعورية،بعد أن كانت الذات قد خاضت إرهاصات تلك اللحظة،والشاعرة هنا،تمارس فعل الاكتشاف، لتعيد مرة أخرى اكتشاف الاشياء التي خَبَرتها،وبنفس الوقت هي تعيش لحظة الاحساس بدهشة الحياة ساعة تتشكل بتفاصيل صغيرة تمرُّ أمامها،فتستدعيها بذاكرتها الشعرية مُحيلة إيّاها الى معانٍ أخرى جديدة،وإنْ ليس هنالك من شبه مابين الدلالات،وبذلك هي تسعى إلى أن تفصحَ طاقةُ الشعر عن نفسها،بإعادة الروح الى طاقته العضوية/ الفطرية،كما يسميها هربرت ريد في كتابه المعنون طبيعة الشعر:"حين تتوافر للعمل الفني قوانينه الفطرية الخاصة به،وينبثق عن روحه الابداعي الحقيقي ويدمج في كلِّ واحد حيّ البنية والمحتوى،فالشكل الناتج مِن ثمَّ يمكن أن يوصف بأنه عضوي ". هذا المنحى الذي تتحرك فيه الشاعرة لايتعارض مع الفعالية القصدية التي يتجوهر فيها عمل الشاعر طالما هو مدرك تماما أن:كينونته الاسلوبية التي يتطلع بها ومن خلالها أنْ تكون خارج التصنيفات النقدية الجاهزة والمتداولة .
كآبة ديسمبر ٍ
تتدحرج فوق النوافذ
وكان الزجاج يعكس صورة مشوشة
إنه القرنفل
متعدد اللون مثلي
هو الآن يغلق براعمه
في انتظار الشمس "
نصوص عسقلاني تحمل بين تجليات صورها،بما تحمله من سلاسة وتدفق وشفافية  تأملات عميقة في تفاصيل حياتية لم نعد قادرين ونحن في فوضى الحياة واحزانها أن نحسن اكتشافها،لاننا قد اصبحنا فجأة حزانى على غير عهدتنا،نسير باجساد ميتة لانبض فيها،لكثرة ما اتخمها الحزن فاحالها الى سلّة مهملات تُلقى فيها مشاعرنا كما تُلقى السجائر في المنفضة،إلاَّ أن عسقلاني تعيد صياغة الاشياء المستهلكة ــ فلسفيا ــ  من جديد كما لوأنها ترنو أن تعيدها الى دورتها الاولى.
سأتخلى عن حزني
هكذا ببساطة
سألقي به في مطفأة السجائر أو سلة المهملات
لن التفت إليه حين يرجوني لالتقطه ثانية
سأدير ظهري لدموعه المنهمرة
وأنا أنظر في ساعتي .
الشاعرة عسقلاني تأتي جملها محمولة عبر صور حسية كثيفة في دلالاتها،وفي مجمل بنيتها الشعرية تعكس في سياقها العام  ــ صوتا أنثويا ــ خاص بها،لن نجد بين مفرداته صدى لأصوات اخرى قد تأتي متسللة إليه من نفس المكان الذي تقف فيه الشاعرة داخل مشهد شعري عربي عادة ما تفصح معظم اصواته عن مشتركات عضوية لايستطيع الشاعر العربي الفكاك منها طالما كان مفهموم الشعر لديه بما هو شائع ومتداول ــ افقيا وعموديا ــ  مرهونا بماهو سياسي / اجتماعي .
هذا الفهم الفني للتجربة لايقتصر على الشعر الذي يكتب وفق المنظومة الكلاسيكية فقط،بل يتجاوزه الى بقية الاشكال والتجارب الشعرية التي ابتعدت في بنيتها الفنية عن منظومة البناء الكلاسيكي،مثل قصيدة التفعيلة،او قصيدة النثر،او النص المفتوح  ..الخ من الاشكال،فتجدها هي الاخرى لاتستطيع إلا أن تُحرِّك مفرداتها داخل  مناخات ماهو سياسي / اجتماعي،وكأن الشاعر بهذا الفَهم يعكس ازدواجيته،ذلك لأنه ظاهريا ونظريا يدَّعي التَّمرد والتجاوز في رؤيته الفنية عن كل ماله صلة بالمورث،لكنه في نفس الوقت لايستطيع أو في الأصح يخشى أن يُعبِّر عن هذا التمرد فنيا،أو الخلاص مما هو سياسي / اجتماعي في معظم مايكتبه من مفردات شعرية،وصولا الى التعبير عن ذاته الانسانية الخالصة،وعن فردانيته الانسانية، احساساً،وانطباعا،وصورا،ومفردات،وبذلك يبقى مناخه الشعري الذي يحلق فيه،هو نفس المناخ الذي ينتجه الشاعر الكلاسيكي،وليبقى الفرق قائما في إطار شكلاني فقط.وقِلَّة هُمْ اولئك الشعراء الذين يتصالحون مع ذواتهم الانسانية ــ كما هي عسقلاني ــ  دون أن يعيروا أهمية فيما لو نُزِعتْ عنهم صفة الشرعية الفنية التي تعني أن: يتطابق النص ــ شكلا ومحتوى ــ مع المشتركات العضوية التي تحدد ملامح البيئة الاجتماعية /الثقافية في المنطقة العربية توافقا وتصالحا وانسجاماً.
من هنا يأتي سِرُّ جمالية الصورة الشعرية لدى عسقلاني،في انسلاخها عن ــ المشترك ــ مع  ماهو مكتوب قبلها،ومايجاورها،في ذات اللحظة الزمنكانية التي يصدح فيه صوتها .
محيط ٌ من الصحراء
تبدو صفحتي
هوّةٌ  تبتلعني
أحكم قبضتي على الحروف
لأخفي تخلخلا واضحا في بنائي الداخلي
أتسلل من قافية الملح
وأوازن الزبرجد
اتبع اتكاء الريح
على موجة تائهة
اتناثر ...
ييدو التلاقح الواعي مع طبيعة الشعر الاجنبي خارج المنطقة العربية ــ خاصة الشعر الاوربي ـــ واضح جدا في العالم الشعري الذي تتحرك فيه عسقلاني،فالمفردة لديها تحمل صفائها وبراءتها،وكأنها مفردة تدخل الى هذا العالم المتشنج ــ بمايبعثه من صخب ــ باستحياء انثوي جميل،يعكس فطرتها ونقاوتها ونأيها عن كل مايحيط بها من اصوات،وكأن الكلمات لديها تُستَعمل لأول مرَّة،ولم يقترب منها احد قبلها،مع انها قد انتُهكت،لكثرة مااستعملت في ماهو شائع من اشعار،إلاَّ أنَ عسقلاني تراها من زاوية غير مألوفة، لم تطرقها خطوات قبلها،مع انها مألوفة بنفس الوقت.
صخبٌ داخليٌ
يتصاعد مع دقة الحذاء على رصيفٍ متكسر
أقول لمن يحادثني :
أنا بخير .. بخير .. بخير
أرددها ثلاثا حتى أسمعها
لاأحب ظلي المتضائل في الظهيرة
أطيل النظر إلى أظافر قدمي
يعجبني هذا الطلاء
معانقة الأبيض للأرجواني
يمنح الحذاء الأسود خفة موجة .
تتزاحم الاسئلة الكبرى في ذاكرة الشاعرة،دون ان تنأى بها خبث الاسئلة الفلسفية بعيدا عن الشعر،الى ذهنية التراكيب اللغوية في الاسئلة،لتبقى مفرداتها تلامس الاشياء برفق وطراوة لاتستطيع أن تطأها اقدام الفلسفة،وهذا ما يجعل تفاعلنا حميميا مع مانقرأ ونحن نلامس القسمات .
ينبغي عليك أن تواجه ألمك بلا مخدر
أن تضعه في علبة حمراء اللون
الألم الأزرق بلون العلبة
عليك أن تطمئن على وجوده
انظر إليه
لن يتجاوز الأمر وخزة
تشعرك بالحياة
لاتتركه ممدا في علبته
تنساه أو تعتاده
أخرجه كل فترة
تأمل قسماته
امسح عليه بلا رفق
حتى لايصدأ
علقه في رقبتك
ليلمس صدرك
أو اربطه في قدميك
ليبطىء خطوك
عندئذ .. قد لاتسقط .
*(خارطة اللون .. قبعة السماء)هو الاصدار الشعري الثالث للشاعرة المصرية د. سمية عسقلاني،الصادر هذا العام 2015 عن دار الأدهم للنشر والتوزيع في العاصمة المصرية القاهرة.بعد أن كانت قد اصدرت في وقت سابق مجموعتين شعريتين الأولى بعنوان(البوح بالمكنون)2012 والثانية بعنوان(وجه في دفتر الابدية)2013،ونصوص المجموعة جاءت مقسمة على ثمانية عناوين رئيسة: الزهرة،الشجرة،الجغرافيا،القصيدة،اللون،التاريخ،الحب،الزمن.وفي داخل العناوين الرئيسة هنالك عناوين فرعية تكتسب دلالاتها من تدرجات جنس العناوين الرئيسة.فعنوان الزهرة رقم 1 تتبعه صولو الريحان ،قرنفلة الشتاء ،سوناتا الياسمين،وهكذا .


56
 

رسالة الفلم : أنْ نصبح وحوشا ً

                                         
مروان ياسين الدليمي
ينبغي أن نعترف،أن لدى دولة الخلافة في العراق والشام(داعش)فريقا فنياً على درجة عالية من الاحتراف،تفتقر له ـ جميع ـ المؤسسات الاعلامية الرسمية وغير الرسمية في كل الدول العربية.والتي فشلت تماما في مواجهة الفكر الارهابي،باساليب ذكية وغير مباشرة رغم الامكانات المادية الكبيرة التي بحوزتها،ومازالت مُصرَّة على أن  تعتمد المهرجين في هذه المهمة الخطيرة وسيلة لها .
ولم يعد أمراً خافياً،أنّ دولة الخلافة باتت تراهن على الاعلام المرئي في ايصال خطابها بالشكل الذي تعجز عنه الكلمة المنطوقة لوحدها.
وماشاهدناه من مادة فلمية عن حرق الطيار الكساسبة،والتي لاأشك في حقيقتها كما إعتقدَ البعض،يكشف عن امتلاك دولة (الخلافةالاسلامية)لطاقم عمل فني واعلامي خبير،يعرف بشكل ممتاز،الكيفية التي تدار فيها كافة العناصر الفنية مجتمعة(تصوير،اخراج،مونتاج،ايقاع، موقع تصوير،مؤثرات صوتية).
ومعلوم لذوي الاختصاص السينمائي،أن لقطة واحدة في السينما، يستغرق زمنها على الشاشة ثوان معدودة، تحتاج الى ساعات مرهقة وطويلة من التحضير لها في موقع التصوير،فكيف الحال بهذا الفلم الذي ضم العديد من اللقطات ! ..وهنا سأسمحُ لنفسي أنْ اطرح سؤالا خبيثا : لماذا عجزت الاقمار الاصطناعية الاميركية الاستخبارتية التي تحتشد بها سماء الشرق الاوسط أنْ تلتقط مايجري من تحضيرات فنية على الارض،قبل وبعد البدء  بالتصوير ،ومن المؤكد أنها قد استغرقت ساعات طوال ! ؟
إنَّ جوهر رسالة الفلم المصدرة لنا من مجموع الجهات المنتجة له،أرادوا من خلالها أنْ يطفئوا الوعي في عقولنا،والرحمة في ضمائرنا،وأن نكون على الصورة التي يريدونها لنا،وأن نتحول وحوشا لاأكثر !..
والسؤال الأهم بعد هذا الفلم : هل نجحوا في تدمير ماتبقى من انسانية فينا،أم أرتكبوا خطأ جسيما ماكان في حسبانهم عندما انحرفت رسالة الفلم عن مسارها المرسوم،فأزاحت غشاوة ثقيلة عن بصيرتنا،لنرى بوضوح تام اكداسا من الركام،قوامها تاؤيلات وتفسيرات وتخريجات فقهية،كنّا رفعناها في معتقداتنا وممارساتنا إلى  حدِّ القداسة منذ قرون،ولم تكن في حقيقتها سوى أوهام وخرافات كانت قد انتجتها عقول مختلة  ؟

57
نينوى ، أنا فَرِحٌ جِداً
                                   
مروان ياسين الدليمي

يوم الاربعاء 21 // 1 / 2015إستعدتُ كرامتي التي جُرِحَت،وغاب عنّي حزنٌ مُعتَّق،وغمرتني سعادة مفقودة لاحدود لها،حينما قال أهلي في الموصل كلمتهم الفَصلْ،بجملةٍ واحدة،لاأبلغ منها إيحاءً وفصاحة ً ودقةً في التعبير،وذلك عندما رفعوا علم العراق عاليا ً تحديا لسلطة لداعش وليس علماً آخَر فوق سطح بناية مجاورة لمبنى محافظة نينوى الذي يتخذه تنظيم داعش مقرا له بعد احتلاله للمدينة في 10 / 6 / 2014 ..
خطوتهم هذه بكل بساطة هي أكبر تحدٍ  في معناه ودلالته من إية رصاصة يتم توجيهها ضد داعش،هي الأشد خطورة من كل القنابل التي تتساقط عليهم من طائرات التحالف،لأنها تأتي من إناس عُزَّل،لايملكون شيئا يواجهون به عدوهم  سوى إيمانهم بأنفسهم وأرضهم ووطنهم ولاشيء آخر . 
الموصليون يوم أمس أطلّوا على العالم المُغيّّب في وعيه وضميره بإظاليل الإعلام الرخيص،أطلّوا بجمال كلمتهم مثلما جمال مدينتهم بِكل مايملكونهُ من عِشقٍ لها ولبلدهم العراق،وأعلنوا بصوت هادىء وقوي،أطلقوه مِن دهاليز عُزلة مفروضة عليهم بقوة السلاح منذ أن سقطوا أسرى تحت سلطة تنظيم داعش.
أمس قالوا لنا،ولِمنْ خَذَلهم ومَنْ خَدَعهم ومَنْ خَانَهم،قالوالأصدقائهم وأشقائهم وللعالم أجمع بصوت واضح يَعكس مَدنيَّتهم وتحضُّرهم وانتمائهم الوطني لبلدهم أولاً وآخرا ً: - مازلنا هُنا ، كما نحنُ ، نَعبُرُ ظُلمة أيامنا بالصّبر على البلوى..
الموصليون أمس،وكما هي خِصال الشُّرفاء ساعة المحنة،كانوا في ذروة تفاؤلهم،وأعلنوا مُبكراً بيان انتصارهم، وردَّوا بمُختَصِر القولِ وأجمله على كل الذين خَانتهم ذاكرتهم وخذلتهم ثقافتهم مِن أبناء جلدتهم، فتوهَّموا فأساوا كثيرا في فَهمهم،وأخطأوا،وشتموا في كل ما  كتبوا وتقوّلوا وهزجوا ليطعنوا في العِرض،وفي النوايا.
ماجاء به الموصليون أمس،اثبت لنا،نحن ابناء المدينةأولاً،نحن النازحون والمهجرون قبل أن يثبتوا للآخرين من أشقاء واصدقاء واعداء،على أن صمتهم لن يكون أبدا تواطأً ولااستكانة ولاخضوعاً لإرادة غاصب مُحتل،  إنما مُكوثاً  في حضرة الأمل .
الموصليون العُزَّل قالوا لعدوِّهم يوم أمس:- لن نكونَ عبيداًَ لكُم ولا سِواكم، طال الزمان أو قصر،حتى لو تخاذل بعض ابنائنا وصاروا مَعكم بإرادتهم أو بغيرها،حتى لو هَربت كل الجيوش الجرارة  أمامكم .

58
المنبر الحر / نحنُ عنصريون . .
« في: 17:08 20/01/2015  »
نحنُ عنصريون   . .
   
                                     
                                             
مروان ياسين الدليمي
تعوّدنا على أن نمارس سلوكا عنصريا في ردود افعالنا اليومية إزاء بعض المواقف والاحداث،سواء كان ذلك  بوعي منّا أو دون وعي،وذلك عندما نروّج لمشاعر الكراهية والعنف والتطرف ضد آخرين لايمتّون إلينا بصلة دينية أو قومية أو طائفية.
وعادة مانعبّر عن تلك الكراهية بسيل جارف من الشتائم والالفاظ البذيئة والمهينة نتفنن في انتاجها ونحن نقذف بها الآخرين في لحظة ما في حياتنا اليومية .
قد يكون سبب انحدارنا الاخلاقي هذا سببه خسارة فريقنا الوطني بكرة القدم مع فريق خليجي أو افريقي أومصري أو أيراني أو سوري .... الخ .أو قد يكون السبب تفجير انتحاري راح ضحيته العديد من المدنيين الابرياء،كشفت لنا التحقيقات الرسمية أن الانتحاري كان افغانيا أو باكستانيا أو فلسطينيا أو سوريا أو سعوديا أو أو أو أو ....
فالمهم في هذا الموضوع أن الطرف الآخر ليس من أبناء جلدتنا،لكي تتوفر  لنا فرصة مناسبة جدا حتى نُفرِغ مافي جعبة دواخلنا من عبارات الكراهية ضد الآخرين،عادة ما كدَّستها خلال عقود وازمنة طويلة في وعينا وممارساتنا،ثقافة عامة شائعة في مجتمعاتنا الشرقية ،يتحمل مسؤوليتها عدة اطراف، منهم رجال دين متطرفين في فهمهم وقراءاتهم لنصوص الدين إلى الحد الذي لايترددون في التصريح علانية دون تردد بكل عبارات الاساءة والتحقير لأتباع الديانات الاخرى،أيضا أحزاب سياسية تراهن ايدلوجياتها دائما على ترويج قيم التعالي بين اتباعها ضد الآخرين من القوميات الاخرى بقصد الحصول على اكبر قاعدة جماهيرية من المؤيدين،كذلك ساسة وزعماء وقادة ومثقفون انتهازيون لايترددون في خطاباتهم على  استثمار عبارات  العداء ضد اديان وطوائف اخرى لاينتمون لها حتى يصلوا الى مايبتغون اليه من مناصب ومكاسب ومغانم .
لم نتوقف يوما أمام  مانردده ونلوكهُ من كلمات وعبارات عنصرية تعوَّدنا على استعمالها دون وعي منّا وكأنها أمر طبيعي لايحمل شيئا مستفزا ومسيئا للآخرين لكي نحاكمها ونجتثَّ منها ماهو شاذ ومريض وطارىء على الفطرة والثقافة الانسانية ويتقاطع مع قيم التسامح والاخوة والمحبة التي تدعو اليها ادياننا والتي طالما تبجحنا بها كلما اصبحنا في موقف حرج .
لم نتوقف يوما أمام هذه العبارات لنفكك ماتحمله من كراهية وعنف موجه ضد اخرين يختلفون عنّا في الدين والمعتقد والهوية عبرمؤتمرات وتجمعات واجتماعات عامة، وكذلك في  المدارس والجامعات والجوامع والكنائس.
ينبغي أن نعترف ونقر بأننا تعوّدنا في حياتنا اليومية وفي ثقافتنا العامة ــ ولاأستثني من ذلك حتى النخب المثقفة ــ على أن نشتم الشعوب الأخرى دفعة واحدة بكل سهولة فيما لو تهيأ لنا  ظرف ما .
ولكي نصحو من غيبوبتنا العنصرية،ونرى الاشياء بوضوح ونحدد مايستحق الادانة أو الشتم،ينبغي أن يذهب غضبنا في مساره الصحيح نحو الاطراف التي تستحق الادانة والشجب والشتيمة التي لاتتعدى الانظمة والحكومات والجمعيات والمنظمات والافراد وكل الذين يشجعون على التطرف والارهاب والعنصرية خدمة لمصالحها وليس الشعوب والاديان والقوميات مهما كان شكلها او لونها او جنسها  .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

59
تقنية السيرة الذاتية
أداة لتعميق الاحساس بواقعية الاحداث



تقنية السيرة الذاتية.. في (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون
مروان ياسين الدليمي الأحد 7 كانون الاول 2014
عتبة المدخل
"احداث هذه الرواية واقعية.. مستلهمة من شهادة أحد معتقلي سجن تزمامارت. إنَّهُ عزيز، وإليهِ أهدي هذا العمل الروائي، وأهديه ايضا إلى صغيره رضا، نور حياته الثالثة".
 بهذا التمهيد الذي كتب بلغة واضحة، قصد المؤلف الطاهر بن جلون من خلالها أن يخاطب القارئ بشكل مباشر قبل الدخول في عالم مخطوطته السردية المعنونة (تلك العتمة الباهرة) والتي استند في بناءها على وقائع حقيقية، كما اشار الى ذلك، فكان الهدف من عتبة التمهيد أن:يضع القارىء أمام حقائق واقعية تعامل معها مخياله السردي في هذه الرواية، من اجل أن يكون خطابه الفني غير بعيد عن الأمانة في كشف ماتعرض له الانسان من قمع وقهرعلى يد الاجهزة الامنية المغربية، خلال فترة زمنية محددة داخل أحداث الرواية.
 ولأجل أن يوظف جلّون مخياله السردي لتعميق واقعية الاحداث الواقعية، تموضعَ ــ تقنيّا ــ خلف ضمير المتكلم/بصيغة الماضي، الذي جسدته شخصية (سليم) الملازم في جيش المملكة، والذي يعمل والده موظفا في القصر الملكي بصفة مهرج للملك وصديقا مقرباً منه، يسليه بنكاته التي يلقيها على مسامعه. وكان هاجس الوالد/ المهرج، كما يقول ابنه سليم أن:"يخدم الملك، أن يلبث عند قدميه رهَن إشارته، ألاّ يغمض عينيه قبله، أن يسرد له القصص، يضحكه حين يكون قانطاً، أن يعثر على العبارات الملائمة، وأن يضع لكل مقام مقاله، أن يرضى بألاّ تكون له حياة خاصة به..وأن يكون على الدوام طوع مزاجه، وقبل كل شيء ألا يفقد أبداً حس الدعابة".
 المتن الحكائي
 الملازم سليم/ الشخصية الساردة للأحداث، يتم اعتقاله مع 22 عسكريا من رفاقه، على إثر محاولة انقلابية فاشلة كانوا قد تورطوا بالمشاركة بها دون أن يعلموا بذلك! في ليلة العاشر من شهر تموز عام 1971 بعد مهاجتمهم للقصر الملكي، ليتم زجهم في سجن تزممارات الصحرواي عقوبة لهم.
 سليم: "منذ ليلة العاشر من شهر تموز 1971 توقفت سنوات عمري.لم اتقدم في السن، ولم اجدد صباي.من يومها فقدت سنّي، فلم يعد باديا على محياي، والواقع أني ماعدت هناك لكي امنح عمري وجها، إذ وقفتُ ناحية العدم، هناك حيث لاوجود للزمن".
 سليم مع بقية زملائه العسكرييين المعتقلين، لم يكونوا على علمٍ بطبيعة الهدف من الواجب العسكري الذي أمرهم بالتحرك نحو القصر الملكي، فالمسألة بالنسبة لهم لاتخرج عن كونها استجابة لسياقات ضبطٍ عسكري يفرض عليهم تنفيذ أي أمر يتلقونه من سلطة أعلى رتبة منهم، ولن يكون لهم أي حق لمعرفة الاسباب الموجبة لهذا الأمر.ورغم عدم معرفتهم بحقية الهدف من واجب التحرك نحو القصر الملكي، إلاّ أن هذا لم يشفع لهم، ولم يخفف العقوبة عنهم.حتى أن والد سليم، لم يتردد في أنْ يتبرأ منه أمام الملك.
 سليم: "لم يكن لنا رأي.كنّا مجرد جنود، بيادق رتباء لاتخولهم رتبهم أن يمسكوا بزمام المبادرة".
 )ستة آلاف وستمئة وثلاثة وستين يوما)قضاها سليم مع زملائه في معتقل تزمامارت الصحراوي ، أي مايعادل(18)عشر عاما من عمره، معزولا فيها عن الحياة الأنسانية بشكل تام ، قبل أن يطلق سراحه، في 29 تشرين الأول 1991، مع آخر ثلاثة معتقلين بقوا معه على قيد الحياة، بعد أن سقط خلال هذه المدة الطويلة (19) معتقلا من زملائه الـ(23) الذين كانوا معه. وكان كل واحد منهم قد غادر الحياة بطريقة مآساوية تختلف عن الاخر.
 سليم: "معظم الذين قضوا، لم يقضوا جوعا بل حقدا.فالحقد يضعف، إنه يتآكل الجسم من الداخل، ويصيب جهاز المناعة.فعندما يقيم الحقد في دواخلنا ينتهي الأمر بأن يسحقنا".
 
جميع النهايات التي انتهى اليها المعتقلون، كشف المؤلف من خلالها عن بؤس الوضع اللانساني الذي كان يعيشه السجناء، وهم يقبعون في ظلمة زنزانات انفرادية ضيقة مغلقة، تخلوا من أية نافذة، سوى فتحة صغيرة جدا معلقة في منتصف السقف، تتيح لهم التنفس فقط من غير أن تسمح لهم حتى رؤية السماء، فيها تسرح العقارب والصراصير، والزنزانة لايتجاوز طولها 3 امتار وارتفاعها متر ونصف المتر، تفوح منها رائحة الفضلات التي تطرحها اجسادهم، ولاتتوفر على أدنى الشروط الانسانية التي تصون كرامة الانسان وآدميته.فكان وجودهم في تلك الحفرة بمثابة موت بطيء جدا .
 سليم "آه من البطء! أول اعدائنا، ذاك الذي كان يغلف جلودنا المقرَّحة فلا يلتئم الجرح الفاغر إلا بعد وقت طويل، ذلك البطء الذي كان يجعل قلوبنا خافقة على الايقاع العذب للموت القليل ، كأنَّ علينا أن ننطفىء كشمعة مضاءة بعيدا منّا، وتذوب بعذوبة الرغد".
 وبسبب العتمة الدائمة التي كانت تغلف المكان انعدم الاحساس لدى المعتقلين بجريان الزمن. سليم:"ماكان الليل يهبط، كما يقال، بل كان هناك، مكتنفا طوال الوقت..كانت صورنا ظلالاً متنقلة في العتمة، بعضها بالبعض، أو يعثرُ بكرّار الماء أو يطيح بكسرة الخبز اليابس التي يحتفظ بها البعض اتقاء لتشنجات المعدة ".
 ازاء هذه المحنة التي وقع فيها سليم، بات عليه أن يكتشف ماينبغي عليه أن يفعله، كان عليه أن يلبث واقفا، أن لاتمس كرامته من الداخل، وبنفس الوقت أن لايدين من يضعف ويتخلى عن الصراع، لينتهي بهم الامر الى الانهيار تحت وطأة التعذيب، وقد استمد عزيمته من أمه.
 سليم: "أمي التي طالما رأيتها تقاتل، لكي تربِّينا، أنا وأخوتي وأخواتي، ولم ينل منها القنوط يوما، كانت أمي قد فقدت كل أمل في أبي المُقبل على العيش، الأناني حتى الأذيَّة، الغندور الذي نسي أنه رب اسرةٍ، وراح ينفق كل ماله على الخياطين الذين يفصلون له جلبابه من حرير كل اسبوع .لكي يتبختر في قصر أسرة الباشا.وفي هذه الاثناء كانت امي تشقى طوال الاسبوع".
 
تقنية الايهام بالواقع
 جمالية الخيار التقني الذي استعاره جلّون من آلية بناء خطاب السيرة الذاتية يأتي من كونه يذهب بعيدا في تعميق الاحساس بواقعية الاحداث المروية عبر لسان الرواي/ الشخصية الرئيسة.الذي أخذ يستعيد تلك التفاصيل والاسماء بعد مضي خمسة اشهرعلى خروجه من رحلة شاقة نالت منه كثيرا، ليبدو وكأنه "عجوز ضامر قد رأى النور لتوّه" .
فالبحث عن الادوات التقنية التي اقتضى حضورها في بنية الرواية يعني التوصل الى ما قصده المؤلف عندما اختار أن يخفي وجهة نظره خلف ـــ الملازم سليم ــ الشخصية الرئيسة، من أجل أن يكشف ويعري الحياة الذهنية لذات الشخصية المحورية عن طريق الايهام الكثيف بالواقع. ومن خلالها أيضا يتم تقديم رؤية موضوعية عن 23 معتقلا كل واحد منهم يقبع في زنزانة انفرادية هي بمثابة ثقب محفور في الارض لقضاء الحاجة.لم يعد اي واحد منهم بحاجة الى اسمه، فقد كان محظورا عليهم أن ينادوا على بعضهم البعض بأسمائهم. وما عادوا ايضا بحاجة إلى ماضي شخصي يتذكرونه، ولا إلى مستقبلٍ ينتظرونه، فقد كان الهدف من نفيهم في هذا المكان هو تجريدهم من كل شيء.فالتذكر هو الموت.وماكانت ادارة السجن تريد لهم أن يموتوا، فمن يستدع ذكرياته يمت تواً، كأنه يبتلع قرص سم، كما أدرك ذلك سليم بعد مضي فترة طويلة من الاعتقال.
 سليم: "كان المُعتقل حميد الذي يحمل الرقم (12)أول من فقد عقله، وسرعان ماأصبح لامبالياً، احرق المراحل، دخل سُرداق الألم الكبير تاركا رأسه، أو ماتبقى منه عند باب المعسكر. وزعم البعض أنه رآه يوميء وكأنه يخلع رأسه ثم ينحني ليطمره بين صخرتين.دخل طليقاً، لاشيء يمسَّه، يحادث نفسه بلا انقطاع.وإذا كان رقم(12)قد فقد عقله من اللحظة الاولى، فالآخرين فقدوا حياتهم واحدا تلو الآخر بسبب ما كابدوه من صنوف التعذيب" .
 
أسعد اللحظات التي يعيشها السجناء"عندما يستحيل الموت شعاع شمس بهية"تلك التي كانت تحمل في داخلها نقيضها، وذلك عندما كانت إدارة السجن تسمح لهم بالخروج من زنزاناتهم لدفن احد المعتقلين بعد أن يلفظ انفاسه.
 سليم: "كنا سعداء، فقد شهدنا ضياء السماء..كانت أجفاننا ترف، وجعل بعضنا يبكي..طوال ساعة أو أقل أبقيت عيني مفتوحتين وفمي فاغراً لكي اتجرع ماأمكن من الضوء لكي اتنشق الضياء، وأختزنه في داخلي واحفظه ملاذاً لي، فأستذكره كلما أطبقت العتمة ثقيلة فوق جفني، ابقيت جذعي عاريا لكي يتشبع جلدي بالضوء ويختزنه كأثمن مايقتنى".
 


60
هزيمة الثقافة أم انتصار للمقاومة  ..   ؟
   
مروان ياسين الدليمي

منذ أن غادرت القوات الاميركية العراق نهاية عام ٢٠١١ والبعض يردد مبتهجاعلى مسامعنا بأن "الاميركان قد خسروا معركتهم في العراق أمام صلابة المقاومة " ! .
تبدو المعركة،لدى اصحاب هذا الرأي ــ بكل مايحمله من تبسيط وتسطيح لطبيعة الدور الذي لعبه الاميركان في العراق ـــ وكأنها ذات بعدعسكري لاغير ! .
مايؤكد خطآ هذا الاعتقاد،كل مؤشرات الواقع الذي بتنا نعيشه بكل قساوته ومرارته،بعد أن أبتلع الطعم الاميركي معظم العراقيين،وذلك عندما ازاحوا من قناعتهم،انتمائهم للوطن،ليحل بدلا عنه انتمائهم الفئوي  .
فالمعركة بوجهها الثقافي ـــ وليس العسكري ــ جوهر ستراتيجة المواجهة الاميركية مع المجتمع العراقي،من خلالها تم تفتيت ثوابته الانسانية والاخلاقية التي حصّنت وجوده واستمراره بكل تنوعه طيلة تاريخه،وكانت الثقافة بمفهومها واطارها الانساني العام،آخر جدار منيع يتخندق خلفه العراقيون عندما كانوا يواجهون المحن على مدى تاريخهم.
فالمعركة بدأت صفحتها الأولى مع بدء الحصار الدولي على العراق على اثر غزوه للكويت عام 1990،عندها بدأ العراق يفرغ  شيئا فشيئا ًمن العقول التي كانت تتنتج هويته الانسانية بكل روافدها وملامحها الثقافية،ولتنتكس متراجعة الى الخلف القيم الاخلاقية التي كانت تشكل اسسسا ثابتة يقف عليها المجتمع .
 ثلاثة عشر عاما من حصار دولي لم تشهده البشرية طيلة تاريخها تركت جروحا عميقة في بنية ونسيج العلاقات الاجتماعية،افرزت جيشا من العاطلين عن العمل والسراق والقتلة والانتهازية،مما مهد ارضية صالحة لشيوع مظاهر الرشوة والفساد الاداري في الدولة العراقية بشكل كبير لم يكن معهودا في منظومة الحياة الاجتماعية.
هذا الاجراء الذي وقفت  اميركا خلفه،لم يكن إلاّ مقدمة أولى للصفحة الثانية من المعركة عندما وطأت على ارض بغداد قدم أول جندي اميركي في 9/ 4 / 2003.
وعليه سيكون من الخطأ بمكان أنْ نصل في استناجتنا لطبيعة الصراع مع الوجود الاميركي في العراق مابين 2003 -2011 الى نتيجة لاتعكس حقيقته وجوهره،ولتُختَصَر بشكل مُبسَّط على انّها مواجهة مع مجاميع مسلحة كانت تظهر هنا وهناك  تحمل اسم المقاومة .
الأخطر في هذه المعركة لايكمن في المواجهة المسلحة،ولاعدد الضحايا الذين سقطوا ولا البيوت ولاالمنشأات التي تم تدميرها،إنما في المسار الثقافي لهذه المواجهة،وقد تكفل بهذه المهمة ساسة وقادة الاحزاب العراقية بكل انتماءاتهم الدينية والقومية،أولئك الذين كانوا يعارضون نظام حزب البعث،وجاءوا مع قوات الاحتلال الاميركي،وكانوا على درجة عالية من التبعية والضعف والخضوع لكل ماتمليه عليهم الإدارة الاميركية من أوامر وتعليمات.فتولوا نيابة عنها المضي في مسار استكمال تدمير ماتبقى من روابط وثوابت قيمية تجمعُ النسيج الاجتماعي العراقي.
كانت الخطوة الاولى في هذا المسار تفكيك مؤسسة الجيش العراقي،بما يشكله الجيش من ضمانة لوحدة العراق وامنه،ولتحل بدلا عنه ميليشيات ومجاميع طائفية مسلحة اشاعت الخوف والرعب والهلع في المجتمع،ثم تبع ذلك جملة من القوانين والقرارات،حُشرت في دستور البلاد الجديد،بموجبها تم تكريس الانقسام المجتمعي على اسس طائفية واثنية وقومية،وبتنا نسمع وفق ذلك مفردات جديدة مثل مفردة (المكوّنات) بات الساسة يرددونها بديلا عن مفردة الوطن،واصبح الشعب كذلك يرددها ورائهم مثل الببغاء،لتتحول يوما بعد آخر هذه المفردة الى قناعات وممارسات ومشاعر ومواقف،تمكنت من تقسيمه وتجزأته الى طوائف تتحصن في خنادق متقابلة وهي تكن العداء والكراهية لبعضها البعض .
لم نعد بعد هذا مع بعضنا البعض كما كنّا على فطرتنا،لم نعد إخوة،ولاأصدقاء ولازملاء،حتى أنّ الكثير منّا بات لايشعر بالألم ولاالتعاطف مع الضحايا ،عندما يجدهم يسقطون هنا وهناك،طالما لاينتمون الى مِلّتهِ ! .
بل ماعاد يتردد بعضنا  في أن يُجاهر علنا بالسخرية والاستهزاء بالمعتقدات الدينية لغيره،دون أن يراعي مشاعره ! وعلى العكس من ذلك،اصبحنا نراعي مشاعر اي ملة أجنبية تعيش بعيداً عنّا حتى لو كانت في اقصى الكرة الارضية – فقط من باب النكاية بأبناء وطننا ـ  وليس مهما إنْ كانت تعبدُ روث البقر أو تقدس زواج المرء من الكلاب ! .
فهل بعد هذا الخراب الذي اصاب ثقافتنا في عمقها الاجتماعي،يمكن للبعض ــ من دعاة المقاومة ــ أن يبقى يصدع رؤوسنا ليل نهار وهو يردد على مسامعنا بان الاميركان قد خسروا معركتهم في العراق ؟



61
الموصل خارج التغطية . . .
                                             
مروان ياسين الدليمي

بين يوم وآخر تصلنا اخبار مؤلمة - تؤكدها وكالات الانباء - تفيد بقيام عناصر داعش الارهابية في مدينة الموصل بإقامة حفلات اعدام جماعية.  ومن بين الضحايا كان هنالك اطباء وطبيبات ونواب ونائبات في البرلمان، ليصل عددهم الى اكثر من ٤٠ شخصا خلال الشهرين الماضيين،وهي الفترة التي باتت فيها داعش ممسكة بالمدينة،وآخر جرائم داعش تمت في مطلع شهر ايلول الحالي،بالقرب من منطقة باب شمس في الجانب الايسر من المدينة،عندما رُجِمَ بالحجارة شابين إثنين أمام انظار الناس - بحجة ارتكابهما فعل الزنى- الى أن توفيا .
مايثير التساؤل أنّ: كل هذه الجرائم حدثت ومازالت تحدث وليس هنالك من صورة توثقها،إذ لم يتجرَّأ ــ حتى هذه اللحظة ــ أي واحد من ابناء المدينة على التقاط صورة لواحدة من تلك الجرائم  وليعرضها فيما بعد،من خلال  وسائل التواصل الاجتماعي .! ! ؟ ؟ .
نحن ندرك جيداً،وحشيّة داعش تجاه من يفضحها ويواجهها..من هنا يتحمل التنظيم مسؤولية كافة عمليات قتل الصحفيين والاعلاميين من ابناء الموصل تلك التي جرت خلال الاعوام الماضية،الى الحد الذي كان قد وصل عددهم قبل سقوط المدينة تحت سلطة داعش  في يوم ١٠ / ٦ بعدة اشهر الى اكثر من ٥٠ قتيلا،وهذه النسبة من القتلى هي الأعلى مقارنة مع جميع الضحايا الذين سقطوا دفاعا عن الحقيقة من الصحفيين والاعلاميين في مدن العراق الاخرى بما فيها العاصمة بغداد..
إلاّ أن هذا الواقع ــ بكل قسوته وخطورته ــ لايكفي لأنْ يكون عذرا مقبولا للتخلي والتنصل عن مسؤولية التوثيق(بالصورة والصوت)لجرائم داعش. والمسؤولية هنا لاتقتصر على الصحفيين وحدهم،بل تتعداهم لتشمل جميع ابناء الموصل دون استثناء .
ولاأدري مالذي يدفع سكان المدينة إلى أن يكونوا على هذا الموقف اللامسؤول إزاء مايقع عليهم من ظلمٍ وقهرٍ،بات يتصاعد يوما بعد آخر ! ؟.
هل ينتظرون الخلاص يأتيهم من السماء ؟..هل مازالوا يراهنون على التدخل الخارجي ؟ . .
إنَّ ثمن الحرية والتحرير إعتماداً على القدرات الذاتية ــ مهما كلف من تضحيات كبيرة ــ هو الاقل كلفة فيما لو قورن بخيار الحل القادم عبر تدخل قوة اجنبية.
بنفس الوقت أجد الموصليين حتى الآن مازالت تتملكهم هواجس خوف وعدم إطمئنان تجاه قوات البيشمركة الكوردية عندما يصلهم خبر يفيد بتقدمها خطوة باتجاه تحرير الموصل من سلطة داعش . . فهل لهذا الخوف مايبرره بعد الجرائم التي  باتت تطالهم كل يوم  من قبل داعش ؟ .
ربما لهذه الهواجس اسبابها،ولم تأت من فراغ،لكنها مبالغ بها،ولربما تكمن الاسباب في قضية المناطق المتنازع عليها مابين محافظة نينوى واقليم كوردستان،فمن المعلوم أن مايقارب 16 وحدة ادارية كانت تابعة لمحافظة نينوى قبل 9نيسان 2003 اصبحت بعد هذا التاريخ تحت سلطة وادارة الاقليم قبل أن يحسم الخلاف عليها من قبل الجهات القانونية والقضائية..فكانت هذه القضية خير منفذٍ ليدخل من خلاله عدد من الاطراف السياسية العراقية لتأجيج الصراع وتغذيته مابين محافظة نينوى وحكومة الاقليم،ومن الطبيعي جدا أن يلقي هذا الصراع بظلاله القاتمة على البنية الاجتماعية،خاصة لدى الفئات والقوى التي تتبنى الافكار القومية المتعصبة.
على الموصليين إزاء ماحصل من متغيرات مؤلمة بعد سقوط المدينة تحت سلطة داعش،أن يتقدموا خطوة للأمام نحو خيار الحوار والتفاهم باتجاه تصحيح العلاقة مع اخوتهم الكورد وتمتينها بالشكل الذي يتناسب مع أبعادها التاريخية والاجتماعية،فلا أحد منهما يستطيع أن ينأى بنفسه عن الاخر ويستبدله بجار جديد،وعلى الاخوة الكورد ايضا ان يتقدموا بمثل هذه الخطوة. إن التواصل والتعايش المشترك مع الاخوة الكورد أمر طبيعي اثبتته عشرات السنين من التجاور والتعايش المشترك وخاصة مع الموصليين،فالعلاقة بينهما لها جذور تاريخية ومجتمعية عميقة جدا..فالكورد يشكلون  بثقلهم السكاني في المجتمع الموصلي أكبر نسبة بعد العرب.وهنالك عوائل وقبائل كوردية تعد عناوين بارزة للمجتمع الموصلي. .لذا ليس من السهل القفز فوق هذه الحقائق المشرقة والانسياق العاطفي وراء محاولات مشبوهة تدفع بها بعض القوى السياسية سعيا منها  لزرع الفتنة بين الاثنين .
إنَّ الاقدام نحو مزيد من التفاهم مع سلطة اقليم كوردستان،سيدفع المجتمع الموصلي الى شاطىء الأطمئنان والاستقرار،وينآى به بعيدا عن  مخططات تلك القوى السياسية التي تعتاش على خلق الازمات،وفيما لو تحققت تلك الخطوة عندها يصبح بالامكان التوصل الى حلول ممكنة وواقعية ازاء  قضية المناطق المتنازع عليها.
حتى هذه اللحظة،يبدو لي أن محنة المدينة لم يتمخض عنها اية صورة واضحة تبعث فينا احساسا قويا بالامل،فلم نتلمس من خلال هشاشة الوضع المجتمعي مايطمئننا على ان هنالك ولادة جديدة لقوى مجتمعية /سياسية تمتلك مايكفي من النضج بما يكفي  لترتقي بموقفها الى مستوى هذا الحدث الجلل.
بل على العكس من ذلك،نجد قصورا خطيرا في الرؤية،مبعثه تلك الاخطاء التي كانت قد صاحبت وجود فرق الجيش العراقي الاربع في شوارع وطرقات المدينة قبل سقوطها.
وهنا علينا أن لا نتغافل عن بعض الحقائق المهمة التي استجدت بعد هروب الجيش ودخول داعش،وخاصة فيما يتعلق بالحواجز والسيطرات ونقاط التفتيش والتي دفعت  اعداداً  كبيرة من الموصليين في الايام الاولى لسقوط المدينة الى أن يرتكبوا خطأ كبيرا عندما خرجوا  الى  الشوارع للاحتفال بتحرر المدينة (كما سماها البعض ) من سلطة الجيش،بعد أن كان قد تسبب لهم بالكثير من الأذى طيلة اكثر من عشرة اعوام.إلاّ أن ماأعقب تلك الاحداث من تداعيات خطيرة،كانت من السوء والقسوة والوحشية ما لايصح مقارنتها مع ما كان يصدر من تجاوزات طائفية لبعض من فراد الجيش العراقي،وحتى  لوتمت مقارنتها،فإن النتيجة ستصبح لصالح الجيش العراقي(مع تحفظنا ورفضنا لكل ما صدر عن بعض افراده من اساءات)،ومالم يستيقظ ابناء المدينة على جرحهم ليدركوا عمقه وخطورة تجاهله،فإن  داعش لن تخرج من الموصل حتى بعد أن تتحرك ضدها الولايات المتحدة ومعها الدول الاربعون التي تحالفت معها.
عندما تكون محافظة نينوى محتلة من قبل قوة غاشمة بربرية ترتدي ثوب الدين وتحكم بأسمه،فإن هذا الوضع يفرض على الموصليين مسؤوليات وواجبات وطنية ينبغي ان يتحملوها،دونما تردد حتى مع افتراض أن اميركا ومن معها بما يملكون من ترسانة عسكرية متقدمة سيتكفلون بمطاردة داعش وسحقهم.
والآن .. بعد أن اتضحت صورة الحكم الاسلاموي،على بشاعتها ودمويتها حتى لأولئك الذين كانوا يحملون في داخلهم تعاطفا وميلا الى دعوات الاسلامويين بإقامة الخلافة الاسلامية،بات أمراً ملزماً على مجتمع نينوى أن يخرج من حالة الصدمة التي آسَرَته طيلة الفترة الماضية وافقدته الرؤية والقدرة على الفرز والعمل،وأنْ يتحرك بوعي ومسؤولية بما يُبعد عنه تهمة الخيانة بالتواطىء مع داعش .


62
مَن يُمْسِك بصولجان السُّلطة  ..  ؟
                                         
مروان ياسين الدليمي
سأفترض أن السيد حيدر العبادي صادق بعزمه ونواياه في 
أن يبدأ مرحلة جديدة من العلاقات مع العرب السنة،تنهض على الاحترام والاستجابة لمظالمهم التي اعتصوا سلميا من أجلها طيلة عام كامل،على العكس من سلفه الذي تفنن كثيرا في التشكيك بولائهم ونواياهم ومطاليبهم،ولم يبخل بأي وسيلة من أجل أذلالهم والحط من شأنهم،وكأنه بذلك يعكس موقفا شخصيا يضمره في داخله يهدف الى تكريس الافتراق الطائفي بين الشيعة والسنة.لذا لم يكن يتردد في أن يشبِّه المعركة التي يخوضها الجيش العراقي المؤتمر بأمره ضد المدن العربية السنية على انها معركة اتباع الحسين ضد اتباع يزيد ! .
من هنا كان قرار السيد العبادي بوقف عمليات القصف الجوي على المدن (الانبار وصلاح الدين ونينوى وكركوك ) دليل على ماأشرنا اليه من تحول وتغير جوهري في النوايا والمنهج.
لكنني أجد أنّ سعي العبادي هذا ــ رغم أهميته في خلق ارضية جديدة للحوار والتفاهم مع العرب السنة ـــ سيصطدم بعقبة اساسية اسمها المالكي.
فكما يبدو من ظاهر الصورة التي جاءتنا بها الايام القليلة الماضية ــ بعد قرار وقف القصف ــ أن المالكي سيبذل كل مافي وسعه لكي يُفشل جهود العبادي،انطلاقا من فرضيتين..الأولى:عقدة الطائفية التي يحملها تجاه الاخرين ــ والتي لم يستطع اخفائها أو تجاوزها ــ وعبر عنها في اكثر من موقف ومناسبة،أبسطها تبدو واضحة في أنه لم يكلف نفسه زيارة اية مدينة عراقية ذات هوية عربية سنية،بذلك يكشف موقفه هذا عدم إستعداده النفسي في أن يلتقي بأبناء تلك المدن المعتصمين والتحاور معهم بشكل مباشر. .ثانيا: هو لايريد لجهود العبادي أن تثمر عن نتائج طيبة تصب في مسار تصحيح العلاقة مع العرب السنة، بعد أن وصلت في عهده الى مرحلة القطيعة والعداء.
وفيما لو نجحت مساعي العبادي ستنكشف بذلك اكاذيبه التي طالما روّجها عن العرب السنة وحشّد من خلالها المجتمع ضدهم وخاصة جمهوره الحزبي، بهدف تسقيطهم،تمهيدا لضربهم بقسوة ووحشية كما فعل في الحويجة والفلوجة وبهرز .
 إن المالكي مازال ممسكان بالصولجان،مستثمراً سلطة وسطوة ونفوذ القائد العام للقوات المسلحة على قيادات الجيش العراقي،رغم فشله في الوصول الى الولاية الثالثة.لكنه وإن بات يمارس مهام نائب رئيس الجمهورية لكن بصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة ! ..
هو اليوم ــ وكما يبدو ــ يجني ثمار إصراره وتعنته على أن يمسك بيده طيلة فترة حكمه ــ ولوحده ــ بالمناصب الامنية(الداخلية،المخابرات،الدفاع)إضافة الى الفرق العسكرية الخاصة مثل(قوات سوات والفرقة الذهبية)التي كان ارتباطها به شخصيا،ضاربا بذلك عرض الحائط بكل الجهود والمطالبات التي كانت تسعى اليها الكتل والاحزاب والشخصيات المشاركة في الحكم والتي كانت تدعو إلى أن يتخلى المالكي عن تلك المناصب لتتولاها بدلا عنه عناصر كفوءة ومهنية تملك القدرة على أن تدير الملف الامني بشكل افضل،بعد أن تسبب طغيانه واستفراده بالقرارات اضافة الى انعدام الخبرة العسكرية في إحداث فوضى عارمة عمّت البلاد بأجمعها،نتيجتها كانت عشرات الضحايا يسقطون يوميا في مدن العراق بفعل قوى الارهاب،هذا اضافة إلى سقوط نصف البلاد تحت سلطة داعش وبقية التنظيمات الارهابية.
إن المالكي استطاع طيلة فترة حكمه أن يستميل اليه قيادات الجيش ويكسب رضاهم وولائهم،خاصة بعد أن حصّنهم وحماهم بعدد من الامتيازات التي  تجنبهم اية عقوبات قد تطالهم بسبب ماارتكبوه من انتهاكات وخروقات وجرائم في اكثر من مدينة، هذا اضافة الى المكاسب والمنافع المادية التي اغرقهم بها.فكان هذا النهج ــ الذي كشف من خلاله عشقه العميق للسلطة ــ خياره الذي راهن عليه،حتى يبقي الجيش والقيادات الامنية تحت نفوذه،عندما يفشل في الوصول الى الولاية الثالثة.
وعليه يتوجب على العبادي أن يضع في الحسبان مايشكله وجود المالكي في التشكلية الحكومية من تهديد وخطورة لكل مايسعى اليه من اهداف وخطط تهدف أن تبدأ صفحة جديدة من العلاقات مابين قوى المجتمع،قائمة على تبادل الثقة والعمل المشترك لمواجهة الارهاب وبناء الوطن.
وليس من سبيل أمام العبادي ــ فيما لو اراد أن لاتذهب جهوده هباءً ــ سوى تحديد وتحجيم سلطات المالكي،أو استبعاده من الطاقم الحكومي،وهذا هو الحل الاجدى،لتجنيب البلاد أوضاعا أسوا بكثير مما هي عليه  الآن، لن يتوانى المالكي في أن يوعز لقيادات الجيش أن تتسبب بها. 

63
      ماالفرق بيننا وبينهم  .. ؟

                                 
  مروان ياسين الدليمي


ليس جديدا عندما نؤكد بأن داعش:تنظيم إجرامي تعكس أفكاره وممارساته أبشع صور التطرف المذهبي،وتسببت ممارساته التي ارتكبها بحق المدنيين ــ  سواء في سوريا او في العراق ـــ بضرر كبير أصاب سمعة الدين الاسلامي والمسلمين ــ ليس من السهل محوها ــ وقد يحتاج المسلمون الى الكثير من العمل المثمر لكي يبددوا هذا الهلع والخوف الذي بات يشعر به العالم تجاه كل ماله علاقة بالاسلام .

هذا التنظيم لم يلق ــ كغيره من التنظيمات المذهبية التكفيرية المتطرفة ـــ قبولا ولاتأييدا من قبل عموم المسلمين السنة،إلاّ في حدود ضيقة جدا ــ وهذا التأييد له ظرفه وأسبابه المرحلية ـــ بالقياس الى الجمهور العام للمسلمين.
كما لم يحظ بإي تعاطف انساني، طالما لايتردد افراده في أن يقطفوا رؤوس الابرياء ويستبحيوا حياتهم وكرامتهم الانسانية
لكن،مالفرق بيننا وبين الداعشيين فيما لو وقع بين ايدينا واحداً من أولئك المجرمين،أو أي شخص مشتبه به،فإذا بنا نمارس ضده نفس اساليب داعش الطائفية / الهمجية !؟ .. مالفرق  ؟
هل يحق لنا ــ طالما نحن لسنا على مذهب داعش، أو ، لاننتمي له تنظيميا ــ في أن نكون  طائفيين وقتلة ؟
هل يحق لنا مالايحق لغيرنا ؟ .. ماالشرع الذي نستند اليه ؟ .. ماالقانون ؟
إناستبعاد سلطة القانون في حسم الصراعات التي يشهدها المجتمع والأحتكام بدلا عن ذلك،الى سياسة قائمة على ردود افعال منساقة الى مشاعر وعواطف عامة،لن تذهب بالمجتمع الى حياة طبيعية آمنة بقدر ما ستذهب به الى دوامة مهلكة من الاحقاد والقتل المتبادل.
وإذا ماكنّا نسعى،أنْ لايدفع العراقيون جيلا بعد جيل حياتهم وارواحهم قربانا للكراهية الطائفية،التي عادة ما ينفخ في نارها رجال الدين والاحزاب الاسلاموية وقادة التنظيمات الارهابية والميليشيات حتى تبقى مستعرة،ينبغي أن ندفع بالقانون لأن يقتص من كل الذين يستهينون بالحياة الانسانية،ولافرق في هذا بين قاتل محترف وبين منتسب للجهاز الامني الرسمي،بل إن العقوبة ينبغي أن تكون اشدّ على الثاني أكثر من الاول لأن خطأه ستتحمله الدولة التي ينتسب إليها وظيفيا قبل أن يتحمله هو،وسيلطخ عار جريمته سمعة الدولة قبل سمعته،ولن يمحى هذا العار أبدا من تاريخها إلا إذا إحتكمت للقانون وقدمت المجرم المنتسب اليها للمحاكمة...
معضلة العراق في أنّ سلطة الدولة هي من الضعف الى الحد الذي لم تتوانَ من أن تستعين بالميليشيات ذات الهوية الطائفية الشيعية بشكل أكبر بكثير من إعتمادها على الجيش الوطني،وبقية قواها الامنية وهي تخوض معركتها ضد التنظيمات الطائفية السنية الارهابية مثل داعش والقاعدة.
هذا المنهج -الخطأ -افرغ معركتها من محتواها الوطني،وأسبغ عليها سمة طائفية،مما دفع الجمهور العام المعتدل من الطائفة السنية،بأن ينآى بنفسه بعيدا عن تأييد الدولة في معركتها هذه.
وإذا ماأرادت الدولة معركتها ضد الارهاب،لأن تصبح معركة المجتمع بكل قواه ومكوناته،ينبغي أن يكون الجيش هو القوة الوحيدة التي يتم الاعتماد عليها.
في هذه اللحظة بقدر مايبدو الدين الاسلامي في ظاهر المشهد العام منتصراً برايات داعش،كما يعتقد الجمهور العام للمسلمين عندما يبدو لهم وقد استحوذ واستملك الواقع والعقول،إلاّ أن الحقائق على الأرض تؤكد خسارته الكثير من المؤيدين والمتعاطفين معه ــ اضافة الى المؤمنين العقلاء المعتدلين ـــ بشكل لم يخسره منذ ظهوره قبل اكثر من ١٤٠٠ عام .
فمااظهرته التنظيمات الاسلامية المتطرفة من وحشية وعنف ودنائة قد عجَّل في أن يتحول عديد من المسلمين الى قائمة اللادينين والملحدين،بذلك يكون الاسلام هو الخاسر في هذه المعركة،طالما قد تخلى عنه العقلاء،وأصطف الحمقى والاغبياء والجهلة إلى جانب من يتاجر به.
والفكر الداعشي باعتباره اقصى درجات التطرف الديني،لم يقتصر حضوره في البيئة السنية فقط ،فهو موجود ايضا بهذا المحتوى ــ وإن بشكل آخر ــ  في البيئة الشيعية،حتى لو  كان لايحمل نفس الاسم،رغم محاولات  البعض  من المتفيقهين أن يسبغ عليه بعدا اخلاقيا !! .
بعد المحن التي مرت ــ ومازالت تمر ــ علينا قد نصل الى نتيجة مُرّةٍِ مفادها:أننا شعب مازلنا في مرحلة المراهقة،ولم نصل بعد الى مرحلة من النضج،بما يكفي لكي ندرك مانحن عليه من بؤس،وماينبغي أن نتخذه من ممارسات وافعال،تعبيرا عن حضورنا ووجودنا.
وإذا ماأردنا الخروج من هذا الحضيض الطائفي،ينبغي الوصول بأسئلتنا الى مرحلة لايكون فيها للخوف سلطة على وعينا في اللحظة  نتصدى فيها  لثقافتنا بكل روافدها الاصولية.
فإلى متى سنبقى نحرص على أن نستدعي اسماءً من الماضي(علي وعمر والحسين وعثمان ،الخ .. . ) فنقسم بها،وبعدالتها،وحكمتها،في نفس اللحظة التي يكون فيها سلوكنا ضد اعدائنا أبشع واقسى من سلوك اعدائنا ؟
ماالفرق بين ذاك القاتل التاريخي وبيننا ؟ .. ماالفرق بين يزيد والشِمر وبيننا؟ ماالفرق بين قسوته ودناءته وقسوتنا ؟ .. ماالفرق بين شدّة ظُلمهِ وبشاعة ظُلمنا ؟ .. متى نصحو على ازدواجيتنا ؟ .. متى نتبرأ من الظلم فكراً ومنهجاً وسلوكاً؟ .. متى نتوقف عن ممارسته ضد انفسنا قبل أعدائنا ؟
وبعد . . 
السنا داعشيين ايضا !؟





64
          الخروج من العتمة          

 مروان ياسين الدليمي

 بسبب التواطئات والمصالح المشتركة مابين جميع الفرقاءالسياسين العراقيين بكل انتماءاتهم واحزابهم: لن ولن تظهر نتائج تحقيق اية لجنة تشكل لأجل الكشف عن الجناة المتورطين بجريمة مسجد مصعب بن عمير،وسيكون النسيان حالها،كبقية اللجان التي سبقتها من دون أن تعلن نتائجها،مثل:- جريمة الحويجة،الفلوجة،بهرز،جريمة سبايكر،اغتيال كامل شياع،اغتيال هادي المهدي،اغتيال مدرب فريق كربلاء محمد عباس،خطف واغتيال موظفي وزارة التعليم العالي،خطف واختفاء احمد الحجية رئيس اللجنة الاولمبية مع عدد من اعضاء اللجنة،خطف واغتيال المطران فرج رحو، تفجير البرلمان العراقي،اغتيال عضو البرلمان حارث العبيدي،اغتيال عضو البرلمان صالح العكيلي ، خطف واغتيال شيخ عشيرة السعدون في البصرة وغير ذلك كثير . وفيما لو اعلنت النتائج ــ وهذا أمر بعيد المنال ــ  فإن ذلك سيكون اشجع قرار يتخذه مسؤول سياسي في عراق مابعد العام 2003 ،ولاأظن وفق المعطيات الحالية لواقع المشهدالعراقي أن احداً سيقدم على ذلك . وعلى الرغم من النتائج الكارثية التي سيؤدي اليها قرار الكشف عن الجناة  فيما لو تم،إلاَّ أنه سيفضي ــ في ختام الفوضى التي تعقبه ــ الى عتبة جديدة تضع الجميع في حالة حذر شديد تجعلهم يفكرون الف مرة قبل أن يقدموا على قرار تصفية خصومهم بالقتل . المسالة هنا في هذه القضية تكمن في انعدام الشفافية كمنهج وتقليد يصونه الجميع،في مقابل الاحجام عن كشف الحقائق امام المجتمع،وهذا الامر ليس مرهونا بالسلطة التي جاءت بعد العام 2003،إنما يشمل السياق العام لمنظومة المشهد السياسي العراقي برمته منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921. فهنالك الكثير من الجرائم التي تصل الى مرتبة الابادات الجماعية كان العراق قد  شهدها خلال هذا التاريخ الطويل،لم يتم الكشف عن مرتكبيها ومن يقف ورائها،وحتى فيما لو توفرت ادلة واضحة امام الجهات القضائية وامام الرأي العام واشارت الى الجاني فلن يطاله العقاب الذي يستحقه وفق القانون.وعليه بقيت العديد من الجرائم تلقي بظلالها الثقيلة على العلاقات مابين ذوي الضحايا والدولة العراقية،كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر: جريمة سميل عام 1933 ضد الاثوريين التي ارتكبها الجيش العراقي وراح ضحيتها مايصل الى 3000 قتيل،وجريمة صوريا في زاخو عام 1968  التي  ارتكبها الجيش العراقي ايضا ضد سكان القرية وجلهم من المسيحيين والكورد وقد بلغ عدد الضحايا 50 قتيلا ً. الخروج من هذه العتمة،يقتضي في أولى الخطوات اعتماد الشفافية في منظومة الحياة بما فيها الكشف عن الجناة بعد انتهاء اجراءات التحقيق الاصولية،وهذا الاجراء سيعطي بلا ادنى شك تطمينات وضمانات قوية لأفراد المجتمع تجعلهم يشعرون بأنتمائهم لهذه الدولة التي تحترم القانون قبل اي شيء آخر . 

65
دلالة المشهد في خطاب التنحي

                                               
مروان ياسين الدليمي
... ثمانية اعوام عجاف بقيادة حزب الدعوة، لم تفح منها سوى رائحة القهر ،والدم،والاعتقالات،والتقارير الكيدية ،والاعدامات..هذا المسار المالكي المرعب، فيما لو قد حصل جزءا يسيرا منه في اية بقعة من العالم يتوفر فيها قدرا معقولا من العدالة لتم القبض على المسؤول الاول في هذه الحكومة وكل الذين وقفوا معه ونفذوا اوامره ،ليتم محاكمتهم امام القضاء،وليتم الكشف عن كل الغموض والتزييف والتظليل للرأي العام التي مارسته اجهزة الحكم،خاصة تلك التي تتعلق بجرائم الابادة الجماعية ،مثل جريمة الحويجة وبهرز والفلوجة والزركا،لكن ،هذه العدالة المرجوة لن يتحقق منها شيئا في عراق تغيب عنه العدالة والمواطنة وتحكمه عقلية الطائفة..ومع كل هذا ،جاء خطاب التنحي - صلفا- مليئا بعبارات الفخر والافتخار والتبجح بما حققه من انجازات اولها فك العزلة الدولية عن العراق !!! وهذا الانجاز هو اكثر مايدعو للضحك والسخرية،ذلك لانه تغافل وتجاهل حجم العزلة المحلية والدولية التي بات هو شخصيا عليها،قبل العزلة التي امسى عليها العراق،وليس أدل على ذلك سوى عبارات الكراهية التي وزعها- طائفيا - مختار العصر ،على الجميع،في المقدمة منهم، شركائه في العملية السياسية وخاصة من يمثلون الطائفة الأخرى، وليس آخرهم دول عربية اعتاد ان يرمي عليها عجزه وفشله في مواجهة قوى الارهاب،ولم يستثني أحدا من طعناته سوى حزبه..ومع كل الاكاذيب التي حفل بها بيان التنحي والتي كانت واحدة من الاسباب التي دفعت التحالف الشيعي - وفي مقدمتهم حزب الدعوة الذي يرأسه المالكي - لأن يتخلي عن ترشيحه لصالح رفيقه في الحزب حيدرالعبادي،إلاأن الطاقم الدعوجي كان حريصا على التواجد بكثافة ساعة قراءة البيان -حتى من كان على خلاف شديد مع المالكي - والاحاطة به وكأنهم يريدون بذلك ان يقولوا للآخرين :نحن معه،رغم خلافاتنا،ونقف صفا واحدا حول اي واحد منا،ندعمه ونصفق له ،حتى لو كان احمقا ،او كاذبا او حاقدا او مجرما ،حتى لو ارتكب الكثير من الخطايا بحق الوطن،حتى لو زرع الكراهية بين ابناء الشعب الواحد،او إختصر الدولة باولاده ونسبائه أو اطلق سراح الوزراء والمسؤوليين المتورطين بقضايا فساد واختلاسات أو تغاضى عن قادة خذلوا الوطن وهربوا من ساحة المعركة ماأن هجم الاعداء ...الخ الخ ..من هنا ،ومن وحي ودلالة مشهد خطاب التنحي،الذي تم اخراجه بشكل واضح وبسيط لايقبل سوى التفسير الذي أشرنا إليه: لاغرابة أن بدأنا نسمع في نفس الليلة مفردة التسامح يرددها جميع الطاقم السياسي الذي يسبح بحمد المالكي .بينما كانت هذه المفردة تعد في قاموس المحرمات،عندما كان الامر يتعلق برجالات عهد صدام من المسؤولين والبعثيين،وتحديدا اولئك الذين لم يتورطوا بجرائم وانتهاكات ضد المجتمع - وهم كثيرون - ولم يسجل ضدهم في المحاكم اية دعاوى تثبت ادانتهم !! وهذا يعني،أن ترديد مفردة التسامح هذه الأيام ،ليس بريئا،ولايقصد منه السمو بالأنفس فوق الخلافات من اجل غاية نبيلة وطنية عليا -خاصة وأن نصف البلاد في عهد المالكي قد سقطت بيد قوى الارهاب الاسلاموي المتطرف - انما يهدف الى تمهيد الأرضية والأجواء لقطع الطريق امام اي جهة تتهيأ لأن ترفع شكوى ضد المالكي ..لكن الذي اخرج لنا مشهد التنحي على الشاشة،تناسى حقيقة المجتمع الدولي الذي يعرف جيدا متى يفتح ملفات الأدانة -مثلما يعرف متى يضعها في الأدراج -حتى ولو بعد سنين،وفقا لمصالحه وحساباته.

66
موتٌ الوطنْ أمْ  مَوتُ الأملْ  .. ؟

                                                           
مروان ياسين الدليمي
منذ بداية الوعي بضرورة النهضة الفكرية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية،التي ابتدأت مع منتصف القرن التاسع عشر،ومازالت اسئلة رواد النهضة مطروحة أمامنا،لكننا لم نصل بعد الى إجابت سليمة وصحيحة،فالمجتمعات العربية الاسلامية بقيت على حالها، قلِقةً ،تعيش حالة صراعٍ في تحديد هويتها الحضارية،وشكل ومحتوى مسارها الوجودي،لتبقى على هذا الوضع الإشكالي، مُتأرجحة ،مابين الذهاب إلى الأمَام أو الرجوع إلى الخلف، لتبقى نتيجة ذلك،تعيش واقعا حضاريا ساكناً، هشَّاً، لم يتحرك بما يكفي،لكي يجعلنا نؤمن بأنه قد أجاب بشكل مُطمئنٍ على بعض تلك الاسئلة التي طرحها رواد النهضة،هذا إنْ لم يتراجع كثيرا،وإن كنّا قد توهمنا على أنه يحمل في كثير من مظاهره على اجابات واقعية تستجيب لمتغيرات الحياة .
لن يكون الشعب العراقي مسؤولاً عما وصلت وماستصل إليه حال البلاد،بسبب جهله وانسداد وعيه،نتيجةَ مايتلبسه من معتقدات طائفية، كما قد يعتقد البعض.
لأنَّ حاله هذا ليس بجديد،ولم يدفعه هذا التخلف ولاهذا الاختلاف الطائفي مابين السنة والشيعة خلال تاريخه الطويل الى مثل هذه المرحلة الدموية من  التمزق والانهيار في بنية علاقاته الاجتماعية والانسانية.وعلى العكس من ذلك،كان دائما يتوق وينسجم الى حد كبير مع  القوى التي تدعو إلى التغيير والتقدم في منظومة القيم والافكار .. إنّما يتحمل مسؤولية ذلك كل القوى السياسية،بما كشفته ممارساتها ومواقفها مع بعضها البعض،عن جُبنٍ وخسةٍ ودناءةٍ ورجعيةٍ،بما يتقاطع تماما مع ما رفعته من شعارات وخطابات،ووتتحمل هي،ولوحدها،مسؤولية الخراب الذي وصلت إليه البلاد،وما أريقَ وماسيُراق مِن دمٍ في الايام القادمة.
الحرب الآن في العراق،وهكذا هو الحال في سوريا،حربٌ لاتاريخية،يتحرك قادتهاوأمرائها في الزمن المطلق،ولاصلة لها بالزمن الواقعي النسبي المتغير..هي حربٌ مرتبطةٌ باللأيدولوجية الطائفية،للأحزاب الدينية المتصارعة،أكثر مما هي مرتبطة بإنقسامات  طبقية حادة أو احتجاجات تعكس حالة احباط اجتماعي،نتيجة ماوقع من بؤس وحرمان على هذه الفئة أو تلك،مع الإقرار بوجود هذا الحرمان بشكل فاضح،لكن هذه العوامل،التي تشكل بتوفّرها ارضية مادية وواقعية تكفي لقيام صراع اجتماعي وتكفي لقيام ثورات وانتفاضات.إلاّ انها في الحالة العراقية تحديداً،لم تشكل اسبابا جوهرية لِما نشهده من سقوط وانهيار للدولة،في معظم المدن التي يسكنها أغلبية سنية .
الصراع في حقيقته،كما يبدو لنا،يأخذ بعده الطائفي بشكل واضح جداً،لايمكن اخفاءه ،فالتقاطع الفكري مابين الاحزاب الشيعية التي تمسك بمفاتيح السلطة،ومابين التنظيمات السنية،هوالعامل الابرز والاكثر حضورا وفاعلية وخطورة فيما يجري من احتراب على ارض العراق .
المعركة الآن،وبعد سقوط الموصل بأيدي الجماعات المسلحة السنية،يريدها كلا الطرفين المتصارين،أن تكون استمراراً لصراع يعود تاريخه الى أكثر من 1400 عام ! .
صراعٌ ، بين اولئك الذين  نادوا بشرعية  الخلافة للأمام علي بن أبي طالب بعد موت النبي محمد،وبين الذين وقفوا إلى جانب خلافة ابي بكر الصديق وعمر وعثمان.
فالمالكي بنظر مَن يسانده من الأطراف السياسية الشيعية، يبدو بالنسبة لهم رمزا لكل من  يناصر علي بن أبي طالب وال البيت وأحقيتهم في الخلافة والحكم،وقد دفع هو شخصياً بهذا الأتجاه الخطأ من التفسير للصراع القائم مع الجماعات الارهابية المتطرفة،عندما وصف في خطاباته ولأكثر من مرة،المعركة ضدهم على  أنها: أشبه بالمعركة مابين الحسين  وجيش يزيد !!.لينتزع بذلك قسراً،هذه المعركة المنظورة،بكل اطرافها،من زمنها وميدانها الواقعي،بكل وضوحه،إلى زمنٍ مطلقٍ،غامض،بعيدٍ بكل تعقيداته والتباساته التي لم تهدأ ولم تُحسم حتى الآن،رغم مرور اكثر من 1400 عام عليها ! .
بطبيعة الحال عندما تُدفع الاوضاع بهذا الأتجاه الذي يهيّج العواطف ويدمي القلوب،لجموع الشيعة،عندها لايمكنهم  إلاَّ الوقوف معه في نفس الخندق،حتى وإنْ كان طيلة فترة حكمه ــ التي امتدت لدورتين انتخابيتين امدها ثمانية اعوام ــ  قد خذلهم فيها،ولم يفِ بوعوده،ولم يستجب لتحقيق أدنى إحتياجاتهم وأحلامهم في العيش الآدمي البسيط والكريم،بعد أن ذاقوا الحرمان طيلة عقود من الزمان! .
لذا كان لابد لجموع الطائفة أنْ تقف معه وهو يخوض حربه ضد التنظيمات المتطرفة "القاعدة وداعش" إضافة إلى بقية الأحزاب والتجمعات السياسية السنية حتى وإن كانت تحمل عناوين قومية وليست دينية أو طائفية..
هذا  المسار الطائفي للمشهد السياسي،قد عكس هذه الصورة،بكل تعقيداتها واختناقاتها، طيلة الاعوام السابقة منذ العام 2003 .
جاء حدث سقوط مدينة الموصل بشكل كامل في 10 / 6 / 2014 بأيدي مجموعة من التنظيمات السنية المسلحة،أبرزها:(داعش،جيش الطريقة النقشبندية،حزب البعث،الحراك الشعبي،ثوار العشائر،تنظيم القاعدة)،ليكشف حقيقة الصراع الطائفي القائم في العراق،بشكل واضح،ولم يعد بالأمكان التغطية عليه بكل قساوته ومرارته رغم الشعارات والعبارات الوطنية الجوفاء التي طالما رددها الساسة والزعامات الدينية،دون أن يؤمنوا بها،فقط كسباً للوقت لأجل البقاء اطول فترة ممكنة في مناصبهم،بكل ماتخبئه من ثراء فاحش وأمتيازات،ولتمرير ماكانوا يخططون له في الخفاء ضد بعضهم البعض.
سلاح الميليشيات كان عُمقاً ستراتيجياً،طالما راهن عليه الطرفان الطائفيان المتصارعان،في اللحظة التي تصل فيها العلاقات السياسية بينهما،الى مرحلة من الانسداد والاحتدام،والفرق البسيط  في ثنايا هذه الصورة المعتمة،يكمن في أن الميليشيات الشيعية كانت تعمل علناً،ولا تخفي انشطتها،ولا الأدوار التي تلعبها هنا وهناك،سواء داخل العراق أو خارجه،لتأكيد:قوتها ووجودها وإنحيازها وهويتها الطائفية،كما يبدو ذلك واضحا في الدور الكبيروالواسع الذي لعبته ومازالت تلعبه في سوريا في مجريات الصراع الدموي الدائر هناك،لمساندة نظام بشار الأسد،وإنْ تم تسويق هذا الدور للرأي العام ،تحت ذريعة الدفاع عن مرقد السيدة زينب .
بينما نجد على الجانب الآخر،الميلشيات السنية، ماكانت تستطيع أن تعلن عن نفسها بشكل واضح على الارض العراقية أو خارجها،ولاأن تستعرض قواتها وامكاناتها بشكل علني،مثل قرينتها الميليشيات الشيعية،وبقيت هيكلية تنظيماتها وزعاماتها تلفها الاسراروالغموض،إلاّ أن هذا الأمر لاينطبق على التنظيمين الدوليين"القاعدة وداعش" انما  يقتصر ذلك على التنظيمات العراقية المحلية،التي لايمكن معرفتها بشكل واضح،وليس بالإمكان حصر عدد افرادها،بنفس الوقت،هنالك عدد من تلك التنظيمات،ذاع صيتها خلال مراحل معينة من مراحل الصراع السياسي في العراق،خلال الاعوام العشرة الماضية،كما هو الحال مع الجيش الاسلامي،وانصار السنة،وكتائب ثورة العشرين،وغيرها من التنظيمات التي لايتعدى عدد افرادها العشرات .
ما وصل إليه الصراع على السلطة في العراق من خطورة شديدة بعد ان اصبحت الموصل،كاملة تحت سلطة تنظيمات مسلحة سنية،ينذر بلا أدنى شك بنشوب حرب دموية طويلةالآمد،ستنهك البلاد،أكثر مما انهكت سوريا،وستقضي تماماعلى آخر أمل بالتعايش،بعد أن يكون أمراء الحرب جميعا قد أنجزوا مهمتهم وأطلقوا رصاصة الرحمة على جسد البلاد،ليتمزق إلى اشلاءــ اقاليم ودويلات صغيرة ــ لايمكن جمعها مرة أخرى تحت خيمة وطن واحد .
فهل نحن دخلنا ، في لحظةِ موتِ الوطن أمْ موت الأمل ؟

67
الهزائم الوطنية..
لاتتحملها شعوب مسلوبة الارادة والحقوق
.
                                                         مروان ياسين الدليمي

الى/ الشاعر زاهر الجيزاني بعد أن القى بتهمة الخيانة على أهل الموصل:

التشكيك بوطنية مجتمع ما،واتهامه بالخيانة،لاينبغي أن يصدر من شخص مثقف..خاصة إذا ماكان هذا المجتمع،يشعر بالقهر،وسبق له أن طالب ــ بشكل سلمي ــ بحقوقه لمدة عام كامل دونما ايّة استجابة من السلطة ، بل على العكس ، تعاملت معه بكل استهتار واستخفاف وعنف.

من الطبيعي أن يصدر حكم الخيانة،مِن رجل يعكس ويمثل رأي السلطة، لكنْ ــ وهذا مايثير الدهشة ــ أن يكون هذا الحكم لسان حال شاعر "حداثوي " وقف الى جانب معاناة أهله في يوم ما ،فهذا مايدعو إلى الرثاء على الحال الذي وصل اليه موقف المثقف في العراق،عندما نجده ينحاز للسلطة والطائفة قبل أن ينحاز الى جانب الضحية .


وإذا كانت الموصل اليوم،قد سقطت في قبضة حفنة متطرفين،فلن يكون أهلها هم المسؤولون عن ذلك،ولن يكونوا أبداً هم السبب،إنما مسؤولية ذلك تتحمله اساليب السلطة بأجهزتها الأمنية التي كانت تمسك بشرايين الحياة،وتعتاش على مصائبهم،ومعاناتهم.

أيها الشاعر الكبير،قبل أن تلقي باللائمة على الناس،عليك أن تتصل بهم ،وتصغي اليهم،وهذا أمر ليس بالمستحيل،وهو ماينبغي أن تفعله باعتبارك مثقفا،وليس رجل سلطة لايعير أهمية لعذابات البشر،ولاأنت بمواطن عادي يفتقر الى التعليم،لايهمه في هذه الدنيا الفانية سوى أن يعيش،وليس يعنيه أن يبحث عن الحقيقة من مصادرها المتعددة.

سيدي الشاعر الكبير،وإذا ماأردتم البحث عن اسباب الهزائم الوطنية،اسألوا الزعماءوساسة البلاد،ولاتلقوا بالأحمال ــ ثقيلة ــ على شعوب مسلوبة الإرادة والحقوق ،وأنت شخصيا ، أول الناس أدرى بذلك.

إن ماجرى من خراب ودمارٍ طيلة الاعوام العشرة الماضية،أصاب شعوب العالم أجمع بصدمة كبيرة،قبل العراقيين،حتى أنَّ أعتاهم لصوصية ودموية يعجز عن الاتيان بما جاء به ساسة العراق،وستنكشف بلا أدنى شك في يوم ما،صفحات سوداء كثيرة،تم التستر عليها،مثلما كُشِفت من قبل صفحات الانظمة السابقة بعد سقوطها.

ونتيجة مارتكبه ساسة العراق الجديد من تدمير للقيم الوطنية في مقابل تعميم ثقافة طائفية عفنة،تبخرت بسببها من مخيلة العراقيين الشرفاء كل الأمنيات التي داعبتهم عقودا طويلةــ بما فيهم اهل الموصل ـــ وهم يحلمون بالكرامة الانسانية و العيش الآدمي البسيط.

ليست مفاجأة بعد كل الذي شاع من قيم تتقصد تظليل الانسان عبر تمجيدها للحَجرِ قبل البشر،والماضي المُلتبسٍ السحيقٍ قبل الغد الآمن المشرق..ليست مفاجأة أن ينحاز كثيرٌ ممن يحسبون على الثقافة العراقية الى طائفته،حتى لو إرتكبَت خطيئةَ الظلم بحق طائفة أخرى .

القضية الأصعب التي باتت تواجه المجتمع العراقي،هي نسبة الجهل العالية المتفشية في أوساط النخب المثقفة.وليس في عموم الناس البسطاء.

والغريب،عندما نجد أن الكثير منهم،مازالوا يعانون من قصر نظر شديد ـــ رغم كل التجارب المريرة التي مرّبها العراق مع الانظمة السابقة ــ إلى الحد الذي يجعلهم غير قادرين تماما،على التمييز مابين الوطن والقائد،وهذا ما سيبقيهم ــ دون بقية الشعوب ــ يضحون بالوطن، من أجل عيون القائد، حتى لوكان مجرماً واحمقاً ومنحطاً !!!

نتمنى،على المثقف العراقي أن يكون على قدرالمسؤولية الانسانية، فقط ، قبل أن يتخندق مع الطائفة..عندها سيجد بأن معظم مايردده من تحليلات ومعلومات ــ على اعتبار انها حقائق ثابتة ــ ليست سوى اكاذيب سلطةٍ،لم تراع حقوق الناس،بعد أن كانت لعقود تتاجر بشعارات الحرية والمظلومية.

خلاصة اقول: إن الخطأ سيتكرر .. وستنكسرُ البلاد، أكثر مِن مرّة ، طالما ،لا أحدَ ــ حتى هذه اللحظة ــ لديه الشجاعة ، لأن يعترف ، بمسؤوليته عن الخطأ.





68


 بولص ادم .. يفوزبجائزة ناجي نعمان لعام 2014
   




                                                                 
مروان ياسين الدليمي

فاز الشاعر العراقي بولص ادم .. بجائزة ناجي نعمان لعام 2014 , عن مجموعته الشعرية " اللون يؤدي إليه ". وسبق أن كتب الشاعر شاكر سيفو عن هذه المجموعة قراءة نقدية يقول فيها  " تتفيأ نصوص مجموعة - اللون يؤدي إليه - للشاعر بولص آدم تحت شجرة الحزن بوعيها التام باللحظة الشعرية والوعي الشعري الفني العالي الذي تتسم به مخيلة الشاعر واستغراقه الطويل في اجتراح زمنه الكارثي الجنائزي عبر مجموعة نصوص شعرية تنضوي تحت سقف – النص السيرالذاتي بآقترانها بالأهداءات المتتالية واستدراجها لبنيتي الزمان والمكان واستثمار مخطوطة المناسبة – المحنة – الكارثة المتمثلة في الرحيل المبكر لشقيقه الفنان لوثر ايشو - فالنصوص تتحرك عبر خطوط متوازية في صناعة مشهدية شعرية تضج بمزاج اللغة السوداوية وايقاعاتها المتصدعة واستعاراتها- التحولية، وكناياتها وقيمات المعاني ". .الكاتب ادم ،اضافة الى كونه يكتب الشعر والقصة فهو مخرج سينمائي ، سبق ان تخرج من كلية الفنون الجميلة قسم السينما عام 1985 ، وعاش تجارب حياتية صعبة ،دفاعا عن مبادئه وقيمه الانسانية، فقد دخل سجن ابو غريب في مطلع تسعينات القرن الماضي وقضى فيه مدة عامين ونصف، بعد هروبه من الخدمة العسكرية ، ثم غادر العراق عام 1994 الى النمسا ، حيث مازال يقيم هناك . وسبق له أن أصدر مجموعة شعرية بعنوان " ضراوة الحياة اللامتوقعة " عام 2010 ، عن دار الحضارة في مصر ، اضافة الى المجموعة الشعرية الاخيرة الفائزة . . آدم ،من مواليد مدينة الموصل عام 1962 ،وينتمي لعائلة، معظم افرادها يمتلكون مواهب فنية، في المقدمة منهم الفنان التشكيلي الراحل لوثر ايشو آدم . وإضافة إلى الكتابة الشعرية والقصصية فقد كتب واخرج عددا من السيناريوهات السينمائية.. يذكر في هذا الصدد بأن هذه الجائزة سبق ان فاز بها من العراق في الدورات السابقة كلُّ من :هيثم بردى عام 2007 ، حسين رحيم ومحمد صابر عبيد وحسين الهاشمي عام 2009 ،مروان ياسين وسعد العميدي 2010 ، شاكر سيفو 2012


69
 

جنسيات مزدوجة بضمائر مزدوجة
                                   
مروان ياسين الدليمي

أصابنا قَرف شديد من سياسين لصوص يحملون جنسيات مزدوجة، سئمنا منهم، من وطنيتهم المزيفة، من كذبهم، من غرورهم، من أسمائهم، ملامحهم، عباراتهم، من تكالبهم على المغانم، على المناصب، على السلطة، فهم ليسوا إلاّ تجار دَم، يتقنون بيع أي شيء، مع أنهم لايملكون أي شيء.

وحدهم مَن جاءوا بالمحتل وقالوا عنه محرراً، وأنه جاء بجيشه وسلاحه ليبني دولة المواطنة والديموقراطية، فكانت النتيجة، أن خسرنا المواطنة، ومسحنا الارض بثياب الديموقراطية، وعوضاًعنهما سقطت على رؤوسنا دفعة واحدة فؤوس دولة "المكونات"، فتشرذمنا إلى اقليات وقوميات وقبليات واثنيات واديان ومذاهب  وطوائف !! وما عدنا نعرف من نحن ؟

كم تاجروا بنا، بعرينا، بعذاباتنا، بشحوب احلامنا أيامَ كان الحصار يقرض فيها 13 عاما، لحظة بعد لحظة، وعاما بعد عام.

كم تاجروا بدم الضحايا، كم  تاجروا بجوعنا، بأمراضنا المزمنة.

هل كان نضالهم من أجل ارواح كانت تسقط واحدة بعد أخرى، شيوخا ونساء وأطفالا ؟ . هل كان دفاعا عن حرية إنسانية طالما تغنوا بها وتباكوا على غيابها في عراق البعث؟ .

جلَّ ماكانوا يطمحون إليه كرسي السلطة، ولتذهب من بعده كل البلاد إلى الجحيم، وها نحن في الجحيم، كما شاءوا لنا أن نكون .

هي "دولة المكوِّنات"، كم صدعوا بها رؤوسنا طيلة أعوام عشرة، كم احالت حياتنا، نحن الذين نعيش في الداخل، الى موتٍ مستمر، الى شكٍّ وكرهٍ وبغضٍ وحقدٍ يزداد سعيره بيننا، يوما بعد آخر. .

بفضلها فقدنا الشعور بدفء الوطن الواحد، وبأننا ننتمي لشعب واحد.. بعد الآن ليس ممكنا أن تكون مطمئناً، ولا أن تكون آمناً وانت تقطع الطريق مابين زقاق وزقاق، مابين جنوب وشمال، فالخوف كل الخوف أن تفضحك اللهجة، أن تشير اليك الجغرافيا أن يتأمر عليك التاريخ أنْ يُعرِّيك الهندام ، فتقتلك الهويّة. .

أصبحنا نخشى أنْ تُذكر أسماؤنا صريحة، أن تُذكر ألقابنا..

حياتنا اليوم  لايَعرفُ طعمَها، مَن يقيم خارج الوطن، مهما كانت غربته قاسية عليه، ومهما كان عراقيا أصيلاً، من أبٍ وأمٍ عراقيين .

إخواننا المغتربون العراقيون، إن غربتنا هنا بين أهلنا، وعلى أرضنا، باتت أقسى  من غربتكم، كل شيء بات حولنا غريبا: الشوارع، الجيران، المناهج، قوات الأمن، الجيش، السماء، الهواء، القضاء، المدن، كل شيء، فما مِن شيءٍ يمكن أن يبعث على الطمأنينة سوى الموت.

نخاف من سيارة تقف عند الناصية لربما قد تكون مُلغَّمة، نخاف من مُعوّقٍ  نصادفه في الطريق فنخشى أن يكون انتحارياً، نخاف من الشارع إذا كان في لحظة ما هادئا بلاضجيج، نخاف الازدحام، نخاف السيطرات، نخاف "سوات"، فهل بإمكانكم أن تستبدلوا حياتكم الهادئة، أنتم وأولادكم، وتتركوا خلف ظهوركم ألإحساس بالأمن والعيش المطمئن الرغيد، لتقتسموا معنا ذُلّنا ؟

فإن كان لديكم الاستعداد، فأهلا وسهلا بكم، مواطنينَ وأعضاء في البرلمان ووزراءَ وحُكَّاما مُعزَّزين مُكرَّمين.

إخواننا المغتربون، ليس من حق أي واحدٍ منّا أن يصادر حق انتمائكم للعراق، فهذا وطنكم، ولكم أن تعودوا اليه متى شئتم، وأنْ تقرروا البقاء فيه متى شئتم.

بنفس الوقت، لاتصادروا حقنا في أن نختار من  ينصفنا، فلاتحرمونا اختيار حياةً حُرمنا مِنها، لاتسرقوا فرصتنا في العيش مثلما تعيشون أنتم وأولادكم.. 

وإذا كان بينكم مَن يسعى لأن يكون صوتنا في البرلمان، أو أن يكون رئيسنا، فينبغي أن يعيش بيننا، وأولادهُ يدرسون مع أولادنا، وله أن يَعلم مُسبقاً قبل أن يتورط في إتخاذ قراره، أنَّ مَدرِاسَنا مبنية من طين، لا مصاطب فيها، ولاتدفئة، ولاتبريد، بل إن كثيراً من الأطفال حتى بلا كتب.

عليه أنْ يقاسمنا كل شيء، أكوام الزبالة بين البيوت، حرارة الصيف بلاكهرباء، قسوة الشتاء بلا نفط للتدفئة، الوقوف في طوابيرلأنجاز معاملة رسمية مُتحملاً إهانات حراس وموظفين متعجرفين.   

لن نسمح لأنفسنا أنْ نشكك  بعواطفكم تجاه وطنكم العراق .. لكننا نقول لكم: إنَّ مسؤولية المنصب السياسي ليست بالصورة الرديئة التي قدمها سياسيو العراق، وكلهم كانوا يحملون جنسيات مزدوجة بضمائر مزدوجة، بما فيهم رجال الدين، ويساريون وقوميون ومتأسلمون، كلهم كانوا يدَّعون النضال من أجل الوطن، وأثبتت الايام كذب ما ادّعوهُ، وأنَّ ولاءهم أولاً وآخراً لوطنٍ كانوا قد لجأوا إليه، وكم كانت فرحتهم كبيرة به وبجنسيته.

الاقسى في قضيتنا: أنَّ أصحاب الجنسيات المزدوجة قد اثبتوا في كل مارتكبوه من خطايا بحقنا أن بينَهم وبين العراق ثأراً كبيرا، ولم تكن عودتهم إليه بدافع الحنين، ولا رغبة في البناء، وإنما ثأراً وانتقاماً منه: وطناً وشعباً وتاريخاً وقيماً!.

حمَّلوهُ المسؤولية كاملة عن غربتهم، عن تشردهم، وقد آن الآوان لكي يدفع لهم الثمن باهظا، مُتناسين، مُتغافلين، مُتجاهلين، عن سبقِ إصرارٍ وتعمّد، حقيقةً واضحةً لا يختلف عليها اثنان من المناضلين، في أيّة بقعة من العالم، بأنَّ من يتحمل مسؤولية النضال ضد سلطة غاشمة تحكم بلده، يتوجب عليه أن يتحمّل منذ اللحظة الأولى وحتى وفاته تبعات هذا الاختيار، مُستبعدا من حساباته أن يطالب الآخرين، من البسطاء والمغلوبين على أمرهم بأن يدفعوا له ثمن نضاله، قصوراً وأراضيَ وأرصدة في البنوك، له ولأولاده وأحفاده.

لكن سياسيناجعلونا ندفع لهم فوق هذا:أرواحنا وأبنائنا وبيوتنا ومدننا وأحلامنا.

ولو كان للعراقيين بقية وعي وإرادة، لتوجب عليهم أن لايكرروا الوقوع في الخطأ مرة أخرى، وأنْ لا يثقوا بمثل هؤلاء، فيمنحوهم فرصة للكذب عليهم مرة أخرى، ليدمروا ماتبقى لديهم من وطن.



70
لاجَدوى مِنَ النَّفْخِ  !

مروان ياسين الدليمي
رغم إيماني العميق بالخيارات الليبرالية والعلمانية في البناء السياسي لهوية الدولة والاحزاب،إلاّ انني شخص مستقل سياساً،وليس في قناعتي أن أنتمي إلى اي حزب مهما رفع من شعارات علمانية أو ليبرالية،ذلك لأنني أؤمن بأنَّ مَن يعمل في ميدان الفن والثقافة ينبغي أن يكون حراً،بنفس ألوقت لاأجد ضيراً في أن أتفق أو أتفاعل مع أي حزب،سواء في الفكر أو الممارسة،ربما أجده الأقرب إلى قناعاتي،والأفضل لمجتمعي،في مرحلة من المراحل،خاصة إذا ماتعلق الأمربثوابت أساسية مُقدسة في منظومة قيمي،تنحصر في تحقيق  الحرية والعدالة الاجتماعية .
من هنا استطيع القول بأن الاحزاب الدينية العاملة في العراق بمسمياتها المتنوعة غير قادرة على إدارة بلد مثل العراق،تتعدد فيه الأديان والطوائف والقوميات،وتجربة العشرة اعوام الماضية بعد العام 2003  اثبتت بما لايقبل الشك عدم قدرتها على أن تنآى بالبلاد إلى زمن واقعي عقلاني يحقق العيش الكريم لعموم المجتمع،كما فشلت في إيصالها إلى لحظة زمنية  يكون المناخ العام فيها نظيفاً وخالياً من سموم الاحتقان والصراع الطائفي،لأن جميع هذه الاحزاب أساس عقيدتها السياسية ووجودها،قائم على التخندق وراء ستار الطائفة التي تنتمي لها،وبذلك هي تتحمل كل صور العنف والقتل والتهجير واللصوصية.
وإذا ما شاء العراقيون الخلاص من محنتهم التي يتحملون الجزء  الأكبر من مسؤوليتهاــ لسلبيتهم في التعامل معهاــ والعودة إلى طبيعتهم الاجتماعيةالبسيطة والمعتدلة،خاصة وأنهم مقبلون على الانتخابات في مطلع شهرايار2014 ،سوف لن يكون أمامهم إلاّ خيار طي صفحة الاحزاب الدينية واعطاء الفرصة لأحزاب ليبرالية وعلمانية لايشكل الانتماء الديني أو الطائفي أي قيمة في أسس تشكيلها.
أيضا لابد من التأكيد على أن الاحزاب القومية،هي الأخرى من غير الوارد الرهان عليها طالما خطابها الايدولوجي ــ القومي ـ سيضعها اليوم أو غداً في مواجهة مع القوميات الاخرى،وتاريخنا القريب فيه الكثير من الشواهد المؤلمة التي تؤكد ذلك،خاصة بعد أن  لاحظ المواطن عودة شعارات قومية قديمة في هذه الدورة الانتخابية مثل(إذا ذُلَّ العرب ذُّلَّ الأسلام ! ) بدأت ترددها مرة أخرى كتل واحزاب في حملاتها الانتخابية،في محاولة منها لأستثمار حالة هيجان وانفعال شعبي باتت تجتاح قطاعا كبيراً من المجتمع العراقي بعد الحضور الواضح للسياسة الايرانية في رسم خارطة المشهد السياسي العراقي خاصة في عهد حكومة المالكي بدورتيها.
هذه الشعارات المتعصبة والمنغلقة،بلا أدنى شك تقفز فوق حقائق دامغة اثبتتها شعوب ومجتمعات مسلمة ــ غير عربية ــ  حققت تقدما اجتماعيا كبيراً جعلها تحظى بأحترام المجتمع الدولي خلال فترة قياسية مثل ماليزيا وتركيا وايران بينما عجز مجموع العرب المسلين عن تحقيق ذلك خلال عقود وعقود،فأمست مكانتهم بين الأمم في وضع لايحسدون عليه .
لذا لم يعد يجدي نفعاً رفع شعارات لاأساس لها من الصحة في واقع يعاني مرارة الهزيمة بمفهومها المطلق ــ الأخلاقي والعلمي والثقافي ــ وذلك لخلوها من البرامج والسياسات الواقعية التي يمكن أن تنهض بمجتمع دخل في مرحلة خطرة من التشظى والتشرذم،بفعل ما خططت له الادارة الاميركية في أن تحوِّله إلى مجتمع منقسم بشكل حاد إلى مكونات واقليات وطوائف تتصارع مع بعضها،وتسود بينها مشاعرالشّك والبغض والكره وقدنجحت في تحقيق ذلك بشكل كبير.
إن شعارات مثل هذه لازالت تبدو براقة لدى البعض ــ إما لمحدودية فهمه أو لأنه يؤدي دوراً مرسوما غير مسموح له أن يخرج عنه ــ قد فقدت أهليتها ومصداقيتها، بعد أن كانت قد رفعتها انظمة سياسية تناوبت على كرسي الحكم خلال العقود الخمسة الماضية في أكثر من بلد وفي اكثر من فرصة،لكن جميعها فشلت في أن تحقق شيئا مهما وملموساً على المستوى الحضاري يستحق الفخر أو الاحتفاء به،سواء للعرب أو للمسلمين،إضافة الى ذلك،هي لم تترك ورائها إلاّ تاريخا عناوينه هزائم وانكسارات وتخلف . 
فهل من جدوى وفق هذه الصورة المعتمة،إشهار السيوف والصراخ تحت راية " لبيك ياعلم العروبة كلنا نفدي الحِما " بدلا من رسم سياسات وبرامج تنصف المواطن بعيش لائق كريم تنسجم مع احدث ماتوصلت اليه العلوم والمعارف !؟ وهل من جدوى أن نفخ مرة أخرى في قربة مثقوبة ! ؟


71
مشعان الجبوري ..والدور القذر
                                                                                                            مروان ياسين الدليمي
يُصر مشعان الجبوري على أن يكون في واجهة المشهد السياسي العراقي، بأي ثمن رخيص يدفع له،وليس مهما في هذا،من هي طبيعة الجهة التي تدفع،وإلى ماذا تخطط ،وماهو الدور الموكل إليه .
كل هذه الاسئلة لاتعني شيئا،لواحد مثل مشعان ارتضى لنفسه أن يكون مرتزقاً يتقن اللعب في الاماكن القذرة،وتشهد على ذلك مسيرته الحافلة بالقفز على الحبال هنا وهناك.
ويبدو أن المالكي قد ادرك حقيقة هذا المخلوق المشوَّه والمشوِّه،فاوكل اليه اقذر مهمة يمكن أن يؤديها فرد تجاه وطنه وشعبه،وذلك بإشعال نار الفتنة والحرب مابين العرب والكورد،وهذا ما عبر عنه بصراحة ووضوح من على شاشة قناة العربية إذ قال بالنص :" ينبغي محاربة وطرد الاحتلال الكوردي " .
يبدو أن ترتيب هذا الدور لم يأتي بعد تداعيات مقتل محمد بديوي كما يظن البعض منّا،بل يمكن القول أن التحضير له قد بدأ من اللحظة التي هبط فيها مشعان بطائرة خاصة على ارض مطار المثنى قادما من سوريا قبل عامين من الآن،وليتم خلال اقل من ساعتين قضاها في بغداد اسقاط كافة التهم والدعاوى المثبتهة ضده من قبل القضاء العراقي،وليعود بنفس الطائرة ــ التي كان المالكي شخصيا قد ارسلها له ــ الى سوريا.
مشعان،في كل المراحل التي كان فيها لاعبا في مستنقع السياسة قبل العام 2003 وبعده،لم يكن يمثل نفسه ابدا في أي موقف سياسي عبّر عنه،ذلك لأنه كائن بلا موقف ،بلا ضمير ، بلا حياء ، بلا كرامة ، بلا قيم .
إن اهالي نينوى قبل أي مدينة أخرى يعرفون من هو مشعان جيداً .ولن يغفروا له أبداً،مارتكبه من جرائم وسرقات بحق المدينة،واكبرها سرقته للبنك المركزي العراقي في ليلة الخميس 10 / 4 / 2003 عندما سقطت المدينة واصبحت تحت سلطة الاحتلال.والتفاصيل في هذا الموضوع كثيرة وتناولها العديد من الصحفيين والاهالي في مقالات وشهادات كتبوها في صحف الموصل الصادرة انذاك،ويمكن العودة الى هذا الموضوع في وقت آخر .

اليوم يثبت مشعان الجبوري مرة اخرى أنه يستحق الاحذية التي انهالت عليه من اهالي مدينة الموصل في نهاية شهر نيسان من العام 2004 في الايام الأولى التي اعقبت احتلال العراق،عندما خرج مشعان بنفسه الى جموع المتظاهرين ضد الاحتلال امام مبنى المحافظة في محاولة منه لتهدئتهم،بعد أن كان قد اعلن نفسه محافظا على المدينة،وماأن ظهر امامهم في الساحة المقابلة للمبنى حتى تساقطت عليه عشرات الاحذية من المتظاهرين الغاضبين.فما كان منه سوى الهرب والعودة الى الداخل . 
آن الآوان،لكي يقذف بالاحذية مرة ثانية بعد أن كشف حقيقة المهمة القذرة التي أوكلت إليه وجاء لتنفيذها..
ويتوجب على رجال القانون أن يرفعوا قضية ضده بأسم الشعب العراقي  يتهمونه فيها بالدعوة الى الحرب الاهلية مابين العرب واخوتهم الكورد .

72
إعجابي،بِصراحةِ الفتلاوي

                                                
مروان ياسين الدليمي

دعوةالسيدةالنائبةحنان الفتلاوي الى ضرورة تحقيق التوازن في عدد القتلى الذين يسقطون مابين الطائفتين المسلمتين الشقيقتين المتقاتلين السنية والشيعية، التي عبرت عنها في حوار تلفزيوني،كانت صادمة لدى البعض منّا وبعثت فينا شعورا بالخيبة.
وإضافة الى كونها دعوة صريحة لتبرير جرائم القتل الطائفية المتبادلة،واستمرارها،بدلاً من البحث عن سبلٍ واقعية للتعايش والاحترام ــ وهي كثيرة ـ فيما بين الاطراف المتقاتلة، فهي تعكس مدى البؤس الذي يعشعش في عقلية طاقم سياسي يرسم مصيرنا.
بنفس الوقت تثير دعوتها هذه تساؤلات عدة:- فأنْ يصدُر هذا الكلام على لسان امرأة،أمرٌ يدعونا لاعادة النظر في مفاهيم أساسية كرستها ثقافة انسانية  تؤكد على أنَّ المرأة رمزٌ للحنان ! !. وأنا لم أجد ايَّ علاقة مابين الأسم والمُسمى.
بنفس الوقت أشعر أن السيدة حنان لاتستحق ألإدانة ولاألشجب على صراحتها مع نفسها،ولاعلى تفكيرها بصوت عالٍ بكل ما يحرص آخرون أشد الحرص على اخفائه في دواخلهم ــ من ساسة ونواب ــ من افكار وقناعات راسخة،قد يكون بعض تلك الافكار المَخفية في قلوبهم ورؤوسهم،سواء من هذا الطرف أو ذاك أشدُّ تطرفاً وقسوةً ووحشيةً مما قالته الفتلاوي،لكنهم لايمتلكون وضوح وجرأة الفتلاوي ليعلنوها أمام المَلأ.
فنحنُ أحوج مانكونُ إلى المواجهة مع النفس لمكاشفتِها وكشفِها دونما كذبٍ وخداعٍ لأنفسنا وللاخرين،لكي نختصرَ رحلة طّعنٍ من الخلف،لطالما مارسناها،ضد بعضنا،وماعترفنا بها.
كلانا يعلم جيداً أننا نُعلن غير مانُخفي،فالحبُّ قناعٌ للكُرهِ،والثقةُ قناعٌ للرِّيبة والأحترامُ قناعٌ للسخريةِ والتديّن قناعٌ للرذيلةِ والعلمانيةُ قناعٌ للتقديسِ والشيوعيةُ قناعُ للطائفيةِ والقوميةُ قناعٌ للتعصبِ والفضيلةُ قناعٌ للسرقة ِ والقناعة قناعٌ للعجز والرَّحمةُ قناعٌ للقتلِ والأخوّةُ قناعٌ للعدواةِ.
الأمثال عادة تضرب ولاتقاس،ولأنني أؤمن بحكمة صينية تقول:" شيطانٌ واضح،أفضلُ من قدّيس غامض".لذا أُعلن إعجابي بصراحة السيدة حنان الفتلاوي.
  

73
بدلة وربطة عنق وشهادة دكتوراه *

                                                                                                                 مروان ياسين الدليمي

مسؤوليتنا أمام عوائلنا تشكل جزءً كبيراً من محنتنا الشخصية،هي بمثابة قيدٍ ثقيل يلجمُ حريتنا في مواقف كثيرة،ويفرض علينا خيارات محددة،لاتتيح لنا في أغلب الأوقات اختيار ماينبغي أن نختار مما هو أكثر صحّةً وسلامةً ودقّةً من مواقف تعكس في جوهرها قناعاتنا ومبادئنا،تجاه مايواجهنا من حالات نرفضها،سواء في ألأماكن العامة أوفي أماكن العمل،وعادة مايكون أبطالهاغريبو الاطوار،أقل مايقال عنهم،شُذاذ، انتهازيون،لصوص،متصابون،كذابون، أدعياء ثقافة .
أمثال هؤلاء،لديهم من الاساليب مَايربأ البشر الاسوياء بأنفسهم،بعيدا عنها، وعن الذين يلجأون اليها تحقيقا لما يصبونَ اليه من مَالٍ أوشهرة،أو وجاهة اجتماعية طالما إفتقدوها،وذلك لخللٍ يكمن في ماضيهم أو سيرتهم الشخصية.
وبما أنَّ الحصول على لقب علمي،عبر المال  والتزوير بات سهلُ المنال، أصبح  البعض مِن هؤلاء ــ ممن يحمل شهادة اكاديمية عليا ويحرص بشكل مُبالغٍ به على أن يسبِق اسمه لقب دكتورــ لايتردد في أن يستثمر لقبه العلمي أسوأ استثمارٍ في دائرةٍ لاتخرج عن شبهة التزييف أوالتحريف أوالسرقة.وليس الأمر هذا مقصورا على دهاليز السياسة وكواليسها المظلمة،بل تعداده الى أروقة الأدب والثقافة،وهذا هو مربط حديثنا.
في كثير من المواقف تعجز تماماً منظومة الثوابت والقيم الاخلاقية،والتي عادةً ماتفصل بين سلوك الانسان وسلوك الحيوان،في صدِّ مايصدرُ  عن  هؤلاء من تحطيمٍ وتشويهٍ للقيم الانسانية،لتتهاوى بذلك أمام وقاحتهم،سُبل الحوار المُتمدن والمتحضر في أرقى صورها! 
عند ذاك،ستجد نفسك مُرغَمَاً أمام خيار وحيد،لامفرَّ من اللجوء اليه،وليس من السهولة الانزلاق فيه.
خيارٌ يدعوكَ أنْ تُنحّيَ جانباً كل ماقرأته من روايات وفلسفة وشعر،كما يدعوك لأنْ تعتذرَ من أفراد القبيلة التي تنتمي لها:شكسبير وماركس وسارتر ونصر حامد ابوزيد وديستويفسكي وماركيز وشاكر سيفو وعلي بدر وفرج فودة وزهير بردى وحيدر سعيد وعلي شريعتي وهيثم بردى وعبد الخالق الركابي ونجيب محفوظ وعبد السادة البصري وكمال سبتي والسياب وكرم الاعرجي وسعدي يوسف ورعد فاضل  وآخرين .
تعتذر لهم،وتتناسى مؤقتاً،ماتعلمته منهم خلال عقود من القراءة والبحث والتأمل،من اساليب ومعالجات وافكار وأنت تواجه الحياة.ليس لأنَّ افكارهم وفلسفتهم،باتت متخلفة وقديمة ورجعية،ولم تعد تصلح للأستعمال الآدمي.
بل على العكس من ذلك،تعتذر منهم،لأنَّ ماجاءوا به من قيمٍ،لاتصلح إلاّ أنْ تكون منظومةَ للأرتقاء بإنسانية المجتمع البشري.
ولأنك في مثل هذه المواقف،تتواجه مع فصيلةٍ لاتنتمي للجنس البشري إلاّ من حيث الهيئة والشكل والهندام: بدلة وربطة عنق وشهادة دكتوراه  .
فصيلةٌ مُستئذِبةٌ مُتوحشِةٌ،لاتَردَعُ رغباتها وشهواتها ودناءتها،حكمةٌ بليغة ٌلعلي بن أبي طالب ولاصرامة عمر بن الخطاب ولادم الحسين ولامحبة المسيح ولاتسامح مانديلا ! .
ليس أمامك هنا،إلاّ أن تعتذر من هذه الاسماء،وتنحني احتراما وتقديرا لها،قبل أن تطوي جذعك للأمام لتمدَّ يدك الى قدمك وأنتَ تفكر في أستعادةِ وأستعارةِ موقفٍ سَبق أنْ مرَّ به الرئيس الاميركي بوش الأبن،على يد صحفي شاب،قبل أن يلقي كلمته أثناء زيارته العراق في 14 ديسمبر 2008 . 
إلى كل الاسماء الكبيرة بعطائها،وأخرى لم يسعفني المجال لذكرها:- أخشى ياسادتي،أنْ أقدمَ لكم اعتذاراً بين فترة وأخرى.
*مناسبة المقال،ماجاء من إساءةٍ طالت عملي المهني،أوردَها أحد أدعياء الثقافة،في مقال خصنّي به.  جوهرها قائم على تزييف الحقائق،

74
ولأنَّها إبنةُ الحُرية .....
                                                                                                                    مروان ياسين الدليمي

مانديلا هو نفسهُ بشحمهِ ولحمهِ وسواد بشرته وابتسامته المشرقة أبداً،هذا الذي بكته الشعوب جماعات وافراد بما فيهم السَّجان الذي كان يقف عند باب زنزانته.كان قد حُكِم عليه بالسجن لمدة 27 عاما بتهمة الارهاب !!!!!!!!!!! قضاها كلها في زنزانة انفرادية.
أي أن مانديلا في يوم ما ــ في نظر السلطة والقانون الدولي ــ كان إرهابيا.!!
المفارقة هنا..أنَّ العالم بَكَاهُ ساعة موته،وتوحَّد حُزناً على من سَمَّاهُ ايقونة السلام،بعد أن كان يُعدّهُ ارهابيا فيما مضى من الايام !!!!!!!!!!!.
في مقابل ذلك ــ وكما تعودنا في الشرق ــ سيأتي يوم ليس ببعيد ولابغريب علينا،نجد فيه أنفسنا وجها لوجه،أمام زعماء كان يصفق لهم الشعب ومعه تصفق عواصم أجنبية كانوا يزورنها.سنقف ساعتها بصدور تضجُّ بمشاعر يمتزج فيها الندم مع الاحتقار،لأنّنا أكتشفنا بوقت متأخر كعادتنا بأنّا قد خُدِعنا،فالزعيم المُفدَّى داعية السّلام والتضامن والتآخي بين الشعوب والقبائل والطوائف،لم يكن طاهر اليدين ولاحكيما ولامُختارَ عصره،بل كان إرهابياً مأجوراً مجرماً !!!!!!!
وفي تلك اللحظة سيجد الزعيم نفسه وحيدا منبوذا لاناصر ولامعين له مثل الذين سبقوه من الزعماء الى مثل هذا المصير.
نفس الشعوب ونفس المحافل الدولية التي كانت تستقبله وترحب به وتصفق له وتبارك خطواته واعتقالاته واعداماته وغزواته وإباداته وميليشياته وخياناته،نفسها تلك،ستصدرالحكم عليه وتنأى بذاتها عنه وعن خطاباته وعبقرياته وسياساته واتفاقاته .
إنَّ الدنيا دوارةٌ كما توصفُ في المخيال الشعبي "يوم لك ويوم عليك " تدور غير عابئة بأقدارها على بني البشر،لايسلم منها أحد،كبيراً كان أو صغيرا،سنياً كان أو شيعيا،مسلما أو مسيحيا،ملحداً أو متدينا،لافرق بين هذا وذاك،سواء وقفت معه ايران أو أميركا أو روسيا أو فرنسا،الكل واحدٌ في سلة القدر،والمثل الشعبي يقول:"المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين ". 
إلاّ أنَّ فرصة النجاة من سوء المكتوب على الجَبَين قائمة لمن يقف على شيء بسيط مِن الحِلمْ،لينأى به قولاً وفعلاً عن الحماقة والجَّهالة والنَّدامة والسَّفالة والكذِب والتزييف والتطرُّف،مُتفادياً مُتحاشيا في ختام عُمره أسوأ الايام وأقساها .
ولو لم يكن مانديلا صادقا في نضاله من أجل حرية الانسان بشكل مُطلق  ،نائياً بنفسه عن كل ما يُفرِّقُ بين الانسان وأخيه الانسان،مِن لونٍ ودينٍ وعِرق،لو لم يكن بهذه الحكمة،لما أنحنى له في حياته قبل مماته أحتراما وتقديرا وتبجيلا،أعداءه قبل أصدقاءه،ولمَابكىيناهُ جميعا ساعة فراقه،عَربا وكورداً وأمازيغ وهنوداً وخُلاسيين وأفارقة وأوربيين،مع أننا جميعا لسنا على دين واحد ولا لون واحد ولا قومية واحدة.
هذا يعني أنَّ الحقيقةَ هي الاصدقُ والأطهرُ والارسخُ والأبقى من كل مُسمَّيات الترقيع والتلميع والتزييف،ولأنها أبنة الحرية: لاتُعتقل ولاتُقتَل ولاتنطفىءولاتموت .


75
استقالتي ...من اتحاد المسرحيين /فرع نينوى


انطلاقا من مسؤوليتي الشخصية تجاه تنظيم مهني كنتُ سببا رئيسيا في ولادته بعد شهرين من سقوط بغداد عام 2003.أعلن انسحابي واستقالتي من اتحاد المسرحيين فرع نينوى،طالما لم يعد يعكس ماكنت اطمح اليه ساعة التفكير بتكوينه.
لقد جاءت فكرة تأسيسه عام 2003 بعد مرور شهرين على سقوط بغداد، وذلك عندما وجدتُ مع آخرين،أن اجتماع الفنانين الذي كنت قد عملتُ بكل جهد لتحقيقه انذاك بالتشاور مع المرحوم الفنان فريد عبد اللطيف والفنان عادل محمود ومحمد العمر،قد ذهب بعيدا جدا عن ماكُنّا نطمح اليه من اهداف وبتأثير عدد محدود من فنانين آخرين كانت لهم اهدافهم التي إختلفنا وتقاطعنا معها جملة وتفصيلا،وقد إستلم هؤلاء فيما بعد مسؤولية نقابة الفنانين لعدة دورات،وبطريقة خلت من الاجراءات الاصولية التي عادة ماتقتضيها الانتخابات،ولسنا هنا بصدد عرضها وتشخيصها،وقد يجيء الوقت لهذه المهمة عندما تقتضي الظروف  .
 لقد اخذ ذلك الاجتماع العاصف ــ الذي عقد في شهر حزيران من العام   2003 في المسرح الصغير من الطابق الثاني داخل مبنى معهد الفنون الجميلة بالموصل ــ  مساراً مرفوضا وغير مقبول من قبلنا.
مسارٌ يتواكب ويتشاطر ويتماثلُ مع صورة مجلس الحكم الذي كان قد أسسه بول بريمر الحاكم المدني للسلطة الاميركية على العراق،وفق اسس طائفية وقومية واثنية ودينية !. وهذا ما لم نعهده في لغتنا وثقافتنا الانسانية التي نؤمن بها،وتعايشنا من خلالها داخل محيطنا الاجتماعي العراقي عامة، وفي مدينتنا الموصل خاصة.
فما كان منّا إلا أن ننسحبَ ــ من الاجتماع ــ احتجاجاً ورفضاً وقطيعةً مع ماذهب اليه من افكار خلت من المسؤولية الوطنية.. ولنجتمع مع مجموعة من الفنانين في احد صفوف المعهد يحدونا أمل كبير في البحث عن تشكيل مهني جديد ينأى بنا عن ما آلت اليه الأوضاع من رثاثة وانحراف كنّا قد استشعرنا بها ولم تكن خافية علينا.
من هنا جاءت فكرة تأسيس اتحاد يجمع المسرحيين(وكان عنوانه في بداية الامر اتحاد الدراميين).وفيما بعد جرت بقية الترتيبات التنظيمة لتأسيسه ،ولأنني لم أكن راغبا ولاطامحاً في تولي أي مسؤولية بسبب ارتباطاتي الشخصية،لم أُرشِّح في حينها لعضوية الهيئة الادارية،بل توليتُ مسؤولية الهيئة التحضيرية للأنتخابات.وليظهر بعدئذ  الاتحاد على وجه الحياة .
ولأنَّ مساره طيلة الاعوام الماضية،ومنذ تأسيسه كان على حافة النسيان والضعف والغياب،ولم يتشكَّل حضوره على أرض الواقع وفق ماكنّا نطمح له:جاء اعلان انسحابي واستقالتي منه.

                                           مروان ياسين الدليمي
                                             8/ 12 / 2013

76
المنبر الحر / سؤال خبيث..
« في: 21:46 04/12/2013  »
سؤال خبيث..
                                                                                                                  مروان ياسين الدليمي
مقدمة لابد منها :
عوّدتنا أيامنا العراقية المُظلَلَة بالخوفِ والغموضِ والدَّمِ،أنْ نتلقَّى خبراً رئيسيا في طبخة نشرات الاخبار،ولكثرة تكراره وتداوله في حياتنا المقذوفة في فراغ ٍمن الجنون،بات لصيقا بذاكرتنا المُتعَبَة بصورٍ من موت يوميٍّ لايمكن أن يكون إلاّ عبثياً.
الخبر مفاده أنَّ:"جريمة أختطاف وقتل جماعية تم ارتكابها من قبل مجموعة مسلحة،يرتدي افرادها،ملابس قوات أمنية حكومية،وكانوا أثناء ارتكابهم لجريمتهم يستقلون سيارات حكوميةمنها ماكانت ذات دفع رباعي". . انتهى الخبر. 
في موضوعة هذا الخبر الذي بات يستفزني مثلما يستفز آخرين لكثرة مايتردد على مسامعي وبنفس صياغته ــ مع اختلاف وكالات الانباء التي تبثه ــ أجدني مدفوعا الى طرح سؤالٍ واحدٍ،يبدو خبيثاً،على الاقل بالنسبة لي ! ذلك لأنني أُضَمِّنُ الجواب الذي أقصد بين طيّات السؤال،وليس من الصعوبة بمكان على أي قارىء ــ عراقي فقط ــ  حتى وإن لم يكن خبيثا على شاكلتي،التوصّل الى ماذهبت اليه ضمناً.
قد يبدو سؤالي لدى البعض طائفياً،ولدى آخرين مشروعا،أو ذكيا أومجرد سؤالٍ أطلقه شخص غبيّ يدَّعى الفَهمَ.
لابأس .. فليكن مايكون. .أنا،كُلُّ ماشاءني أن أكونَ هؤلاء البعض،ولن أدَّعي غير ذلك:- طائفيٌّ، ذكيٌّ، خبيثٌ،غبيٌّ، دعيٌّ،مدسوس.وووووو
لكنْني ــ وهذاهوالمهم ــ بصريح القول:- لست بعثياولاداعشيّا ولاصداميا ولاتكفيريا ولاوهابيا ولاسلفيا ولاقرضاويا ولاقوميا ولاقَطَريا ولاتركيا ولاسعوديا ولاصهيونيا .
يمكن أن اكون:- مُلحدا أو علمانيا أوليبراليا ًأو غير متدين،أو يساريا مسالماعلى طريقة نيلسون مانديلا وليس ثوريا مسلحاًعلى طريقة جيفارا.
ويمكن أن أكون:-لاشيء على الاطلاق..أومجرد مواطن لاأكثر ولاأقل تغمره أوحال الطرقات في فصل الشتاء،ويقتله الحَرُّ في فصل الصيف. يكافح طيلة حياته من أجل لقمة العيش،ويخاف الحكومة مثلما يخاف الله،بل إن خوفه منها قد يكون أشدُّ وأكثر،لأنه على يقين تام بأنَّ الله قد يغفر ويرحم من يخطىء في السؤال،بينماالحكومة لن تغفر ولن ترحم .
ولكي لاأطيل في مقدمةٍلاجدوى من الاطالة فيها،عنيتُ من وراءها أن أكشف جانبا جوهريا من هويتي على قدر استطاعتي لكي لايلتبس القصد من السؤال على القارىء .
السؤال :- 
لماذا يقتصر أرتداء ملابس القوات الامنية العراقية عندما يتم ارتكاب جرائم شنيعة ضد طائفة ما !؟ والامثلة هنا كثيرة،منها على سبيل المثال لا ألحصر:-إختطاف وقتل أكثر من 150 منتسب لوزارة التعليم العالي قبل عدة أعوام،إختطاف وقتل رئيس واعضاء اللجنة الاولمبية السابق أحمد الحجيّة مع عدد كبير من الذين كانوا يحضرون معه اجتماع اللجنة في نادي النفط وسط العاصمة العراقية بغداد،إختطاف وقتل شيخ عشيرة الغانم في البصرة قبل ايام معدودة !!!!!؟ ؟ ؟ .
وهكذا يمكننا أن نذكر العديد على شاكلة هذه الجرائم.ألايمكن أن يكون هذا الأجراء ماهو إلاَّ خديعة خبيثة،هدفها خلط الاوراق وتزييف الحقائق يقف وراءها قادة ينتمون للقوات الامنية الحكومية،وهؤلاء ليسوا سوى عناصر طائفية كانوا فيما مضى جزءاً من ميلشيات مسلحة طائفية واصبحوا فيما بعد العام 2008 ضمن تشكيلات القوات الحكومية بعد أن صدر قرار دمجها مع الاجهزة الرسمية اثناء حكومة الجعفري،ولتصبح عناصر تلك الميليشيات ـــ وهذا أمر ليس بعيدا عنها لان معظم تلك العناصر تفتقر الى ابسط درجات الثقافة والوعي الوطني ــ بيادق تباع وتشترى من قبل  ساسة واحزاب متنفذة،تحركها هنا وهناك،لتصفية حسابات سياسية وطائفية فيما بينها،وفي مجمل صراعاتها لاترتقي في أعلى مراتبها وقيمها إلاّ إلى اقتسام النفوذ والسلطة والثروة لاأكثرولاأقل .
ولكي يتم استبعاد الشبهة عن القوات الحكومية وعن تورطها بارتكاب مثل هذه الجرائم،يتم القاء مسؤوليتهاعلى ميلشيات ذات صبغة طائفية معروفة سواء كانت سنيّة أو شيعيّة،مازال البعض منها يتحرك علنا فوق سطح الارض وأخرى تعمل تحتها.
ألايمكن أن يكون هذا أمراً وارداً في بلد مثل العراق،ساسته واحزابه ــ  أثبتت الايام ــ تورطهم بقضايا فساد مالي واداري وسياسي،كانت فيها الشعارات الوطنية غطاءً براقاً لصفقات مشبوهة لم يكن الهدف منها سوى تقاسم الربح من غنيمةٍ إسمها الوطن ؟ 

77



الهوية العربية .. ومَنْ يزدريها

                                                                                                        مروان ياسين الدليمي

يمكن أن نغيّر أيدولوجياتنا،أفكارنا،لغتنا،أوطاننا،جنسيتنا،مذهبنا،طائفتنا، وحتى ديننا.يمكننا ذلك بنفس السهولة التي يمكن أن نغير فيها مكان سكننا.
لكن انتماءنا القومي الذي ولِد معنا،لن نستطيع أبدا أن ننزعه عنّا،ولن يقنع الاخرون ذاك حتى لو حاولنا،فالعنوان القومي يبقى علامة أساسية لفرز الفروقات الشكلية فيما بين الشعوب.
لذا من الطبيعي أن لاننكر أو نتنكَّر أو نخجل من هويتنا العربية..بنفس الوقت ليس من الطبيعي أن نشعر بالفخر والغرور فقط لاننا نحمل هذه الهوية.
وليس من الطبيعي أن يشتمنا آخرون ــ بمناسبة وبدون مناسبة ــ فقط لاننا عرب ! .
وليس من الطبيعي أن نحتقِرَ الاخرين فقط لأنهم لايحملون هويتنا العربية.
أسوق هذا الكلام لأنني أجد الكثير من الكتابات هذه الايام على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ــ تويتر والفيس بوك وغيرها من المواقع الشبيهة ــ معبأة بشتائم وإساءات واضحة لكل ما له صلة بالهوية العربيةــ شخوصا واحداثا وتواريخ ــ حتى ماكان منها نظيفا وليس هنالك مايدعو الى الطعن فيه والاساءة له.
فمايدعو الى الاستغراب في هذا الموضع أن نجد تلك الكتابات تُحمِّلُ العرب ــ وكلمة العرب هنا بمفهومها المطلق ــ كل أخطاء وجرائم الساسة والحكام،ماضيا وحاضراً!!
فهل يصح أن يُختصر شعب ما،بزعيم إرتكب جرائم بحق  شعب آخر !؟ وهل يصح النظرإليه بإحتقار مثلما ينظر الى ذاك الزعيم ! ؟
وهل يصح أن تنسب إلى الشعب بِرُمَّتهِ مسؤولية تلك الجرائم  !؟
مثل هذا الموقف،خاصة إذا ماعبّر عنه مثقفون ــ بما يعكس من خلط للقيم وتشويه للمفاهيم الانسانية ــ يحمل في داخله بذرةَ خطيئةٍ،لأن سياقه قائم على التعميم والاطلاق،وابتعاد عن الموضوعية،واقصاء للمنطق وماتفرضه المسؤولية العلمية من بحث وفرز وتصنيف للوقائع قبل تقييمها.هذا إضافة الى مايحمله من  موقف عنصري لايمكن اخفاءه !
في نهاية الامرهذا الموقف،تنبعث من مفرداته رائحة لايخطىء المرء في تمييز عفونتها،يُشَمُّ منها مشاعر الازدراء والاحتقار لكل ماهو عربي، ويعكس  بشكله ومضمونه ازدواجية الفهم والمعايير في رؤية الذات والآخر .

78
اصدار جديد  للناقد المسرحي صباح هرمز
(قراءات في المسرح المعاصر،سبعة مؤلفين أنموذجا )
                                               
مروان ياسين الدليمي
كتاب جديد للناقد المسرحي صباح هرمز صدر عن وزارة الثقافة والشباب في حكومة اقليم كوردستان والكتاب من منشورات الدورة الثالثة لمهرجان اربيل الدولي للمسرح عام 2013 . تناول المؤلف هرمز في هذا الاصدار خمسة كُتَّاب عالميين وكاتبان عراقيان.وهم كل مِن:انطوان جايكوف،تينيسي ويليامز، اوجين اونيل،ارثر ميللر، برتولد برخت ،جليل القيسي ،محي الدين زنكنة .
هذا الاصدار للناقد صباح هرمز توفرفيه مستوى عالٍ من البحث والقراءة النقدية لمجموعة مختارة من النصوص المسرحية لكل اسم من الاسماء التي اختارها هرمز لتكون تحت مشرطه النقدي.وقد تتبع الكاتب في آلياته النقدية القيم الفنية التي توفرت في النصوص المختارة لتلك الاسماء التي شكلت فضاءنا الدرامي المعاصر خلال القرن الماضي،ومازالت تستثير القارىء والناقد والمسرحي لاستدعاءها، بالنظر لما تمتلكه من بنية فنية واضحة وقوية باتت على اثرها مرجعا كلاسيكيا واكاديميا للدراسين والعاملين في الحقل المسرحي . مكانة هذا الاصدار واهميته تأتي من كونه يعود الى ناقد مسرحي طالما اتسمت كتاباته ومتابعاته النقدية بالجدية والعمق والجرأة وهو يلاحق المشاريع المسرحية نصوصا وعروضا،من غير أن يكتفي بصيغ المجاملة والاحتفاء التي عاة ماتسود وسطنا الفني والثقافي على حد سواء من غيرأن تتصدى لتفكيك القيم الفنية التي يقوم عليها النص او العرض المسرحي . وقد سبق لهرمز ان اصدر العناوين الاتية:التقليدي واللاتقليدي في المسرح الكردي،مدخل الى المسرح السرياني في العراق،ثلاثة عقود في المسرح الكردي ،قراءة اخرى في المسرح السرياني .




79

مهرجان اربيل الدولي الثالث للمسرح
للفترة من 7 – 13 /10/ 2013

مهرجان أربيل الدولي للمسرح بكردستان العراق يجمع مسرحيي العالم
.

                                                                                                          مروان ياسين الدليمي/اربيل
من البديهي أن الاعداد لمهرجان دولي مسرحي تشارك فيه فرق تنتمي لقارات متعددة،يعد مسؤولية كبيرة جدا ليس من السهل النجاح فيها إلاّ إذا كانت عملية الإعدَاد قد بدأت منذ فترة مبكرة،وتولت لجان متعددة ومختصة مسؤوليتها،كلٌّ تعمل حسب اختصاصها ومسؤوليتها،فالمسألة لاترتبط فقط بتقديم عروض مسرحية،انما تتعلق بجوانب ادارية وتنظيمية لها صلة مباشرة بما يتم يتوفر من ارضية مادية مناسبة لاستيعاب واستقبال الوفود المشاركة في اماكن تليق بهم، وبما يوفر لهم الراحة والهدوء والتقدير العالي،بالشكل الذي يجعل جميع الفرق المسرحية تشعر بأهمية حضورها ومشاركتها في فعاليات المهرجان من دون أن يكون هناك أيّة تفرقة في التعامل فيما بينها،هذا اضافة الى اهمية المحافظة على نوعية العروض المختارة للمهرجان وذلل بالحرص على انتقاءها وفقا للمعايير الفنية التي تضعها إدارة المهرجان،واستبعاد ايّة حسابات اخرى لاصلة لها بتلك المعايير،وهذا ماسيعطي بالتالي انطباعا حسنا لدى المشاركين وجمهور المهرجان.كماسيعزز بالتالي اصرار الفرق المسرحية على المشاركة مرة اخرى في الدورات القادمة .
مسار صحيح
في تقديرنا الشخصي أن مهرجان اربيل الدولي للمسرح الذي تنظمه سنويا المديرية العامة للثقافة والفنون في اربيل ودائرة الفنون المسرحية بوزارة الثقافة والشباب في حكومة اقليم كوردستان قد بدأ فعلا يخطو باتجاه المسار الصحيح الذي اشرنا اليه في مقدمة المقال،اخذين بنظر الاعتبار حداثة مسيرته. فالدورة هذه هي الثالثة من عمره منذ أن بدأ مسيرته قبل ثلاثة أعوام.اضافة إلى حداثة التجربة بالنسبة الى القائمين على تنظيمه.وقد بدا واضحا أن ادارة المهرجان تجاوزت  بشكل كبير  الثغرات والهفوات التي صاحبت الدورتين السابقتين سواء في الجانب التنظيمي أو العروض المشاركة،فالتحسُّن بات واضحا بشكل ملموس في هذين الجانبين. 
تنوع المشارَكَات
شهدت دورة المهرجان هذا العام مشاركة سبع فرق مسرحية من جنسيات اوربية وعربية وتم تقديم14عرضامسرحيا خلال سبعة ايام،وقد جاءت الفرق المشاركة من:فرنسا،المانيا،بيلاروسيا،السويد،كتالونيا،وتونس ،المغرب، أوغندا ،بغداد، اضافة الى ثلاث فرق من كوردستان العراق.
بطبيعة الحال يعكس تنوع الفرق المشاركة سِعة أفق ادارة المهرجان وحرصها على أن يكون هذا الملتقى الفني الدولي،نقطة التقاء واسعة تقام عليها أسس  حوار جاد ومثمر لثقافات متنوعة في إطار الفضاء المسرحي.
والفن المسرحي بما يملكه من ادوات اشتغال فنية ــ نضَجَت عبر مسيرته التاريخية الطويلة ــ يتمحور عمله على مفردة التفاعل مع المتلقي ،اضافة الى كونه حقل فني ومعرفي لتبديد الظلمة عن جمال العالم،وذلك عبر مايرسله من خطاب فني تتكامل فيه عناصر سمعية وبصرية لتبرق من خلاله رسائل طمأنةٍ للأنسان في وجودٍ يسودهُ الخوف والاضطراب وذلك عن طريق اشاعة الوعي في ذاته القلقة وهي تبحث عن الحقيقة.
والمسرح في هذا الإطار من بين بقية الفنون هو الاكثر فعالية وجمالية لتحقيق هذه القيم النبيلة بشكل واقعي وملموس بعد أن بدَّدَت السياسةُ أحلام الانسانية في تحقيق مناخ آمن ونظيف للتعايش والحوار.
هذا اللقاء الدولي ستبدو بلاشك نتيجتة واضحة ــ شكلا ومضموناً ــ على صورةِ المسرح الكوردي مُستقبَلا،ومن خلاله سيكتسب خبرة عالمية تضاف الى رصيده المحلي ــ وهو أحوج مايكون اليهاــ ستؤهله بالتالي  للخروج نحو افق دولي يتسع لأحلام الواسعة . 
ومما يدلل على جدية ادارة المهرجان في الاخذ به نحو مسار سليم وطموح حتى يصل في هيكليته التنظيمية والفنية بمستوى المهرجانات الدولية أنْ عهدت مسؤولية لجنة تحكيم المهرجان الى نخبة ممتازة من الاسماء المسرحية الرصينة والمعروفة على المستوى الدولي،فقد ترأس اللجنة البريطاني البروفيسور روبرت لينج وسكرتير اللجنة د. فاضل جاف ،أمّابقية الأعضاء فهم كلُّ مِنْ:الناقد المسرحي المغربي عبد الواحد بن ياسر، وكريستوف بلا تيد مدير بيت المسرح الالماني،والمخرج الايراني قطب الدين صادقي.
بروتوكل تعاون
شهد المهرجان بالاضافة الى العروض المسرحية حضور وفد مصري كبير ضمَّ عددا من نجوم المسرح والسينما والتلفزيون في مقدمتهم النجم فاروق الفيشاوي وصفية العمري وسامح الصريطي وسامي مغاوري وخليل مرسي وايتن عامر ووفاء الحكيم وغادة طعمة وفاروق الرشيدي وعمر عبد العزيز وكمال عبد العزيز ومحمد ابوداؤود والمنتج محمد فوزي ورئيس اتحاد الفنانين العرب مسعد فودة،والأمر المهم في المشاركة المصرية هو:توقيع اتفاقية مشتركة مابين نقابة فناني كوردستان ونقابة المهن السينمائية ونقابة المهن التمثيلية.وقد وقع الاتفاقية عن الجانب المصري الفنان سامح الصريطي ممثلاً عن نقابة المهن التمثيلية إضافة إلى مسعد فودة رئيس اتحاد الفنانين العرب.وتهدف هذه الاتفاقية الى تفعيل سبل التعاون المشترك مابين الجانبين في إطار تبادل الخبرات والمشاركات في المهرجانات والفعاليات الفنية،اضافة الى تقديم كافة التسهيلات الانتاجية لتحقيق العمل المشترك مابين الجانبين.
أمَّا فيما يتعلق بالجانب الفني الذي ظهرت عليه العروض المسرحية المقدمة في المهرجان ــ خاصة ماقدمته الفرق الاجنبية ــ فقد لوحظ عليها اهتمامها بالرقص بشكل اساسي،كذلك الاعتماد على لغة الجسد في مقابل تهميش عنصر الحوار القائم على الكلمة المنطوقة،وقد تجلى ذلك واضحا في العرض الالماني والبلاروسي والفرنسي.ويعزى ذلك بتقديرنا الى محاولة تلك الفرق تجاوز عقبة اللغة في عدم قدرتها على ايصال الافكار الى جمهور الحاضرين الذي ينتمي الى لغات  مختلفة وثقافة متنوعة وهذا مايشكل بالتالي عائقا يمنع التواصل والتفاعل مابين العرض والمتلقي.لذا كان خيار الاعتماد على لغة الجسد هو الأسلم،اضافة الى إن المراهنة على مايختزنه الجسد من طاقة دلالالية تتيح للمخرج أن يتحرك بها في اطار تشفيري يمنح العرض فضاء تأويليا تعجز اللغة الادبية عن تحقيقه.وقد انعكس هذا بطبيعة الحال على مستوى القدرات الحرفية/الجسدية العالية لممثلي وممثلات الفرق الاجنبية،مقارنة بالممثلين العرب والكورد.







80
المنبر الحر / الخاسر الوحيد ...
« في: 17:02 12/09/2013  »
الخاسر الوحيد ...
                                                                                                                مروان ياسين الدليمي

بين ليلة وضحاها وبعد انتفاضة السوريين في 18 آذار 2011 على نظام الأسد أصبح أللون الاسود أبيض والابيض أسود لدى الساسة في العراق ــ بكل عناوينهم الطائفية التي يقدمونها فعلا وسلوكا وواقعا ملموسا ًعلى عنوان انتماءهم للوطن ـــ انطلاقا من دوافعَ تضيقُ أمام مصلحة الوطن،وتتسع امام مصلحة الطائفة..
ساسة ٌلاضمير يوخزهم عندما يُطعَنُ وطنهم من الخلف أكثر من مرةٍ طيلة الاعوام التي أعقبت العام  2003 مِن قِبلِ نظام شمولي يحكم سوريا طيلة 40 عاما،سبق للعراقيون أن عانوا من توأمِه ِ 35 عاما قبل أن يسقُط .
وأنسياقا ً مع فكرهم الطائفي لايتردد ساستنا في أن يمدّوا يدَهُم لمصافحة من طعَنَ أهلَهُم أكثر من مرة ٍ دون أن يُفرِّقَ ساعة الطَّعن بين طائفة وأخرى..
في حقيقة الأمر لن يكون محتوى وشكل هذا التفكير إلاّ لساسة مُنحرفين في ولاءاتهم وانتماءاتهم ، ساسة ليس لهم وطن واحد ينتمون له ويدافعون عنه ويبذلون كل مافي وسعهم لإعلاء شأنه بين الامم..إنما لهم وطن ٌ ثان ٍ،هو الأهمّ ُ والأجملْ، فيه يقضون أكثر أيامهم بذخا ًوترفا ً تعويضا عن الذي فاتهم أيام النضال بما ينهبونهُ من الوطن الأول هُمْ وعوائلهم.
عشرة أعوام تسيّد فيها هؤلاء الساسة،المشهد السياسي،فسحقوا دونما رحمة وطنهم الاول بكل اساليب النَّهب،والتدميروالقهر لن نشهد لها مثيلا في أي بلد آخر،وكأن َّلاصلة تربطهم به،وكأنَّهم جاءوا لينتقموا منه ومن أهلِه ِجزاءً وقصَاصَا ًللسنوات التي قضوها في منافيهم،مع أن أختيارهم لطريق المعارضة السياسية ماكان إلاّ بإرادتهم،وهذا مايفرض عليهم أن يتحملوا ثمن هذا الاختيار،لا أنْ يحمِّلو تبعاته لوطنَهم . . فأوغلوا كثيرا ً في تعميق الانقسام الطائفي بين ابناء البلد الواحد،وكلُّ واحد منهم إحتمى بما هو طارىء وشاذ على فكر طائفته،كماأرادات وخططت له القوى الكبرى سعيا ًمنها لتفتيت مجتمعات المنطقةالعربية إلى إثنيات وطوائف وأعراق منعزلة بعضها عن البعض الآخر،لتَسودَ بينها مشاعر كُره ٍوشكٍّ وتخوين ٍوتكفير،لأجل أن يتمَّ تشكيل شرق أوسطٍ جديد تُغيَّبُ فيه الهويّة الوطنية الواحدة،لتحلَّ بدلا عنها هويّات فرعية لدويلات صغيرة هشة يمكن السيطرة عليها.
هؤلاء الساسة حاولوا ونجحوا إلى حدٍ كبير في أن يُفرغوا وطنهم الأول من قواسم مُشتركة،تربط أبناءه،بمختلف مكوناتهم(عاطفية،إجتماعية،تاريخية،دينية،نضالية)واخذوا به الى ساحة مُلتبسةٍ هي ليست ساحته،ومعركةٍ ليست معركته،وسيكون بالتالي هو الخاسر الوحيد فيها،ولن يخسروا هُم فيها شيئا،مهما بدت النتائج إنتصارا لطائفة على حساب طائفة إخرى.

81

دراما التلفزيونْ في قَبضَةِ المُعْلِنْ




                                                                                                            مروان ياسين الدليمي


الانتاج العربي
الانتاج الدرامي في المنطقة العربية شهد نموا ً واضحا ً خلال الاعوام العشرة الاخيرة مقارنة بما كان عليه قبل ظهورالبث الفضائي في منتصف تسعينات القرن الماضي، فقد لعب ظهورالقنوات الفضائية الخاصة الدور ألأكبروالأهم في تسريع عجلة الانتاج وتطوره فنيا ً،خاصة في مصر وسوريا. ليصبح التنافس شديدا ًبينهما،بهدف:السيطرة على سوق التوزيع. وحصيلة ذلك أنْ تمكّن الانتاج السوري من مُزاحمة الانتاج المصري إلى حد كبير،وبات منافسا ً شديدا ًله،من حيث الكم والنوع والتسويق،بل وضعه في موقف حرج،وصارالطلب عليه كبيراًمن قِبل المحطات الفضائية والمُعلنين،بعد أن كان حكرا ًعلى الانتاج المصري منذ أن ظهرالبث التلفزيون في مطلع ستينات القرن الماضي .
وسط هذا التسارع في الانتاج وتطوره لابد لنا أن نتسائل عن حجم وأهمية الانتاج العراقي في خضم هذا التنافس،دون أن ننسى حقيقة تاريخية ثابتة في أن :العراق هو اول بلد عربي دخله البث التلفزيوني عام 1956 !
لكن هل أرتقى نتاجه الدرامي الى مستوى هذه الاهمية التاريخية ؟
بلاشك أي متابع سيصل الى نتيجة ليست لصالح الانتاج الدرامي العراقي فيما لو تمت مقارنته مع دول عربية اخرى مثل لبنان والكويت والسعودية من غيرأن نضع مصروسوريا في الحسبان لأن المقارنة ستكون غير منصفة بلاشك،ويمكن ان نورد هنا بعض الحقائق التي من خلالها نستطيع التوصل الى صورة واضحة إلى مانشير إليه،على سبيل المثال : في سوريا مثلا يوجد اكثر من 200 شركة انتاج درامي تعمل على انتاج المسلسلات والافلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية وافلام الرسوم المتحركة.
بينما عدد شركات الانتاج في العراق لايتعدى اصابع اليد،هذا اضافة الى افتقاد العديد منها الى المعايير الأدارية والفنية،بالشكل الذي يجعلنا نتردد كثيرا قبل أن نطلق عليها تسمية شركة. . أيضا،هذه الشركات لاترتبط مهنيا ً في اتحاد ينظم عملها ويجعلها تتحرك بقوة في سوق الانتاج والتوزيع الذي يشهد تنافسا شديدا وسط تكتلات كبيرة.
إن قضية الانتاج باتت معقدة وعلى مستوى عال ٍ من التنظيم والادارة وهي مرتبطة بشكل عضوي مع طبيعة الفعاليات الاقتصادية القائمة، ولن يتمكن أي نشاط فردي بالسيطرة عليها من غير أن يكون هنالك تنظيمات مهنية تتولى عملية التخطيط والتحرك في سوق الانتاج والمنافسة .

سلطة المال
عميقة هي المتغيرات التي حصلت في عالم الانتاج وقد لعبت دوراً حاسما في تحديد الاطارالذي يتحرك فيه سوق الانتاج الدرامي،في مقدمتها يأتي :المُعلِنون من اصحاب الشركات ورجال الاعمال والمستثمرين والتجار)،إذ بات هؤلاء يلعبون دورا أساسيا ً في النشاط الاقتصادي وأصبحوا قوة رئيسة تتحكم بشكل كامل في الانتاج التلفزيوني الدرامي والبرامجي، بعد أن صارت الاعلانات التي تروّج لمنتجاتهم ومشاريعهم ــ والتي يحرصون على عرضها في المسلسلات ــ هي التي تحدد ماسيتم انتاجه من نصوص ونجوم سيشاركون في العمل،مقابل مايتم دفعه من مبالغ كبيرة جدا ًيتم دفعها للشركات المنتجة والمحطات الفضائية.. فقدوصل سعر الساعة التلفزيونة من هذه المسلسلات يتراوح مابين 15 الف دولار إلى 45 الف دولار،أي أنَّ ثمنَ مُسلسل ٍبثلاثين حلقة يصل إلى أكثر من 000  /900 الف دولار!ووصلت اجورالممثلين من النجوم في الساعة التلفزيونية الواحدة الى 000/ 5 ألاف دولار،ومجموع مايتقاضاه أي نجم يصل إلى 000/150 الف دولار في مسلسل واحد بثلاثين حلقة !
أزاء هذه الارقام العالية لم تعد لدى إدارات المحطات الفضائية ــ الحكومية منها وغير الحكوميةــ  القدرة على الصمود والمنافسة أمام المُعلنين،وهذا مافرض على شركات الانتاج أن تفكرالف مرة قبل الشروع في الموافقة على إنتاج اي نص درامي،وأن تدرس جيدا ً فرص الاستثمارالاعلاني التي سيأتي بها،والتي من خلالها سيتم تغطية تكاليف الانتاج وتحقيق الارباح العالية،وهي بذلك تريد أن تطمئن على إستمرارعجلة الانتاج ونموها،إضافة الى ماسيتبع ذلك من تفكير دائم في تحديث ادوات الانتاج التقنية. وقد يكون هذا الأمر من أهم النتائج التي افضى اليها سوق التنافس ،وألقى على شركات الانتاج  مسؤولية مضافة دعاها لأن تضع في اولويات اهتماماتها استخدام احدث التقنيات في التنفيذ،وخاصة كامرات التصوير، بعد أن شهد العالم تطورا ًمذهلا في هذا الاطار التقني وانعكس ذلك بشكل واضح على طبيعة الصورة وجودتها الى الحد الذي باتت صورة الانتاج الدرامي التلفزيوني في تنافس شديد مع الانتاج السينمائي،بل لم يعد هنالك من فرق بينهما من حيث جودة الصورة.
وسط هذه التحولات والتطورات التي شهدها الانتاج الدرامي العربي نجد أن الانتاج العراقي مازال يعتمد في آليات عمله وتفكيره على انظمة تقليديةٍ رثّة ٍتجاوزها الزمن،وتقنيات غيرمواكبة لما هو حاصل في العالم .
كل ماأوردناه هي عوامل مهمة تقف سببا في تخلف الانتاج العراقي لايمكن التقليل من أهميتها تحت أي تبريرقد يتعكز عليه العاملون في الانتاج ومازالوا يكررونه على اسماعنا في كل مناسبة يتم الحديث فيها عن ازمة الدراما العراقية،ومن تلك التبريرات مثلا :- "أن الانتاج العراقي يواجه محاربة غيرمعلنة من قبل الشركات والدول العربية". وبتقديرنا المتواضع هذه الحجة ضعيفة،بل هي محاولة بائسة منهم للهروب من المشكلة،وإلقاء مسؤوليتها على الأخرين .
مفهوم السلعة
من هنا يمكننا القول بأن الانتاج الدرامي بات سلعة بالمفهوم الاقتصادي الدقيق للكلمة،ويخضع تسويقها لقوانين العرض والطلب،التي يقف خلفها ويتحكم بها رجال أعمال ومستثمرين وتجارعقارات ورجال صناعة ،وبذلك لم تعد الاعمال الدرامية من حيث أسباب قيامها وانتاجها مشاريع جمالية خالصة يحقق من خلالها الفنانون أحلامهم بالمدن الفاضلة،ويوصلون عبرها خطابهم الانساني لتحقيق العدالة الاجتماعية.أنما هي مشاريع إقتصادية بأمتياز،تُرصَد لها ميزانيات مالية ضخمة،تكفي لأشباع ألاف الجياع والمحرومين في عالمنا العربي،الهدف من انتاجها:- تحقيق أرباح عالية تضاف الى ارصدة الشركات ورجال الاعمال،الذين أدركوا بعد ظهورالبث الفضائي،أهمية الاستثمار في هذا القطاع الحيوي الذي يحقق صلة مباشرة ومؤثرة مع المستهلك .
هذه المنظومة الاستثمارية التي باتت تتحكم في الانتاج الدرامي العربي، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي ــ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وبقية المنظومة الاشتراكية التي كانت تتبعه في العديد من دول العالم ومنها منطقتنا العربية ــ تمَّ استعارتها بطريقة مستنسخة من نمط الانتاج الاميركي الرأسمالي،الذي شهد تطورات هائلة في آليات عمله منذ بداية تأسيس شركات الانتاج السينمائي في مطلع القرن العشرين مُعتمدا ًعلى منظور فلسفي(براغماتي )يتعامل مع أي عمل فني على أنه: سلعة إقتصادية استهلاكية تخضع في وجودها واهميتها وقيمتها لشروط السوق.
الوجه الآخر للصورة
بنفس الوقت،الصورة ليست بهذه القتامة إذا ماأخذنا بنظرالاعتبارالعلاقة الجدليةالتي ارتبط بها الفن الدرامي مع عجلة السوق الاقتصادية،ومانتج عنها من تطور ٍفي اساليب العمل والتفكير لدى الفنانين،في المقدمة منهم الكتاب والمخرجون والمصورون ومدراء التصوير وبقية الحرفيين،فالاجور العالية التي باتوا يتقاضونها دفعتهم الى تطوير افكارهم ومعالجاتهم الفنية،وانعكس ذلك على المستوى الفني الذي تقدم فيه الاعمال الدرامية العربية،فوجدنا كتاب الدراما ينطلقون نحو مناطق وموضوعات جديدة ومثيرة لم يكن مسموحا الاقتراب منها،كما تم تقديمها بمعالجات فنية إبتعدت كثيراعن الأطرالمستهلكة والتقليدية في الرؤية والتنفيذ،سواء على مستوى الاخراج أوإدارة التصويروالاضاءة وبقية عناصر التكامل الفني في الصورة الدرامية،خاصة بعد انخراط العديد من المخرجين السينمائيين المُمَيزين في اخراج الاعمال الدرامية التلفزيونية،وهذا مارفع من مستوى معالجاتها الفنية، لتقترب بذلك من نمط الانتاج السينمائي الذي عادة مايتمركزسياقه العام على بناء وتأثيث اللقطة الواحدة،وبالاعتماد على كامرة واحدة،وليس بناء المشهد كاملا وبأكثرمن كامرة . بهذا الصدد يمكن الأشارة إلى الكثير من المسلسلات كنموذج لما نقول، منهاعلى سبيل المثال لا ألحصر:الولادة من الخاصرة،طرف ثالث،رقم سري،اخوة التراب،الحارة، نابليون والمحروسة ،الاجتياح،هدوء نسبي، التغريبة الفلسطينية،وغيرذلك من الاعمال .
 ونتيجة لما أشرنا إليه :إزدادت مساحة الاهتمام والتلقي للأنتاج الدرامي الى حد كبير،وباتت تتكدس في ادراج شركات الانتاج عشرات النصوص الدرامية،منتظرة دورها في التنفيذ،ومن ثم ألدخول في حلبة سباق تنافسي شديد على كسب الاعلانات التجارية التي ستعرض اثناء فترة بثها، خاصة في شهر رمضان ،فقد أصبح هذا الشهر نقطة انطلاق سنوية لسباق محموم بين المحطات الفضائية تحرص جميعها قبل حلوله بشهرين على عرض مقتطفات إعلانية (برموشن ) مأخوذة من الاعمال الدرامية التي سيتم عرضها خلال شهرالصوم بقصد جذب المُعلنين وكسب أكبرعدد من الاعلانات التي سيتم عرضها خلال فترة بث المسلسل.
يضاف إلى ذلك عامل آخر مهم ساهم في تحريك عجلة الانتاج وتطوره : فبعد أن دخل على خط المنافسة والمساهمة في هذا الاستثمار،المال القادم من دول الخليج العربي بكل ثقله وامكاناته،باتت شركات الانتاج اكثر طموحا في خططها ومشاريعها الفنية،لتصل ميزانيات بعض الاعمال الدرامية ارقاما كبيرة جدا ً،إلى اكثر من 100مليون دولار.
خلاصة القول
إذا أردنا تطوير الانتاج الدرامي العراقي ينبغي أن نأخذ بنظرالاعتبار كل التطورات التي حصلت في نمط الانتاج العربي،وعدم تجاهلها والقفزمن فوقها،فالمسألة لم تعد مجرد أحلام وامنيات فنية يسعى لتحقيقها الفنانون وبقية فريق العمل، بقدر ما تتطلب المعالجة : توفير الارضية المطمئنة لأصحاب رؤوس الاموال،من تجار ورجال أعمال، لكي يستثمروا أموالهم في مشاريع فنية، تعود عليهم بالربح،وبذلك نضمن دوران عجلة الانتاج ،وتأسيس شركات انتاج ستكون هي بالتالي القاعدة الاساسية لنهوض الانتاج .
أخيرا نقول: ينبغي على العاملين في الدراما العراقية،التخلي نهائيا ًعن التفكيرالعاجزوالقائم على:-انتظار الدعم والمساعدة الدائمة من الدولة . .لأنَّ معظم التجارب الناجحة في الانتاج الدرامي ــ في معظم دول العالم ــ ،لم تضع في حساباتها ألأعتماد على ماستقدمه الدولة من دعم لها،بقدر ما كان نجاحها مرتبطا بشكل اساسي على قدراتها وامكاناتها في تحقيق فرص العمل والنجاح .   






























82

المخرج والممثل السينمائي جمال امين :

            في العراق لانملك سينما


                                                حاوره :مروان ياسين الدليمي

أكثر من ستة عقود مضت على قيام أول انتاج سينمائي عراقي إلاّأنَّ العاملين في هذا الحقل الابداعي ومنهم المخرج والممثل السينمائي جمال أمين يُقرُّ بعدم وجود سينما عراقية،رغم وجود طاقات بشرية مؤهَّلة ٍتمتلك الوعي والخبرة،هذاإضافة الى القدرات المادية الكبيرة المتوفرة في العراق والتي يمكن من خلالها قيام ونهوض هذا الفن.. في مقابل ذلك نجد بلدانا اخرى لاتملك تاريخا يذكر في صناعة الفن السينمائي بدأت تفرض حضورها أمام العالم عبر أكثر من نشاط وفعالية.. من هنا جاء حوارنا مع فنان مجتهد يحمل عشقا ً خاصا للسينما،فعلى الرغم من أن بدايته كانت عام 79 لكنه لايزال يحمل نفس الإندفاع الذي إبتدأ به قبل أكثر من ربع قرن عندما وقف أول مرة ٍامام عدسة الكامرة السينمائية وكأنَّ العقبات والتحديات لم تفلح في ثنيه عن الحلم،بل زادته هياما ًواصرارا ًعلى العمل.. حديثنا معه ذهب بعيداً،ليرصد احلام ومواجع باتت مُزمنة في مسارالعاملين بهذا الحقل الجمالي،أفرادا ًوشركات ومؤسسات، سعيا ً منّا للوصول الى تفكيك اشكالية الانتاج السينمائي في العراق، والتي كانت سببا ًهشاشتهِ وعدم قدرته في أن يكو ن حاضراً وفاعلاً في الحياة الثقافية.
هيكلة الانتاج السينمائي
*السينما في العالم حصل فيها الكثير من التحولات الانتاجية والفنية .هل إن العاملين في حقل السينما في العراق يمتلكون القدرة على التجاور مع ماحصل في العالم ؟
-هذه مسالة نسبية ولها علاقة بشخص العامل نفسه ودأبه على المعرفة والمتابعه لكن من الناحية العملية هنالك القليل ممن عملو مع بعض المجاميع الاجنبية واكتسبوا معارف جديدة ومهمة في العمل السينمائي،ايضا ينبغي علينا  أن لاننسى بأن لدينا عدد لابأس به من الفنانين العراقيين الذين عاشوا فترة طويلة في اوربا واميركا  واستطاعو خلال تواجدهم هناك ان يستفيدوا إلى حدٍ ما من الخبرة الاجنبية،وعلى اقل تقدير يمكننا القول بأنهم قد إكتسبوا بشكل مباشر وعبر الاحتكاك الكثير من تقاليد وأصول العمل في الانتاج السينمائي والتي نفتقدها عادة في العراق،وبشكل عام أستطيع أن أؤكد دون أن أكون مبالغا ًبأن جيل الشباب من المخرجين والفنيين هم الاقدرعلى تقديم الافضل،لكونهم على تواصل تام مع مايحصل من تطورات تقنية في العالم المتقدم خاصة في عالم الديجتال،والبعض منهم قد أتقن الجانب الحِرفي بدقة عالية، يتساوى فيها مع المحترفين في الغرب. ومع ذلك مازلت أجد بأن اوضاع الانتاج السينمائي في العراق فيها ضعف ونقص كبير يتعلق بماهو حديث ومتطور، مما يستوجب جملة من الخطوات ينبغي على من يمسك بزمام أمور الانتاج السينمائي القيام بها لإعادة هيكلة منظومة الانتاج السينمائي،وأولى الخطوات بهذا الإطار اقامة العديد من  الورش السينمائية، والتي من خلالها سنتمكن من تأهيل العاملين بالحقل السينمائي.
غياب المنتج
*ماهو جوهر المشكلة التي كانت سببا في عدم نمو الفن السينمائي في العراق وبقائه هشّا وبلاحضور في المشهد الابداعي العراقي؟
-هنالك اسباب عديدة أهمها: غياب عجلة الأنتاج بشكل دائم ومتواصل،سواء من قبل القطاع الخاص أوالقطاع العام،وفيما يتعلق بالقطاع الخاص فلايمكن حتى الأن المراهنة عليه،فهو مايزال رهين المزاج أوالصدف التي قد تتوفر بموجبها فرصة يتيمة تضيع  بين عشرات السنين لأنتاج فلم سينمائي،أما القطاع العام فهوالآخريخضع للقانون الموسمي ايضا ويضاف إليه (المناسباتي) مثلما نشهده هذه الايام بعد أختيار بغداد عاصمة للثقافه العربية فهذا الاختيار فرض على الجهات الحكومية أن تولي الانتاج السينمائي اهتماما ملحوظا ورصدت له ميزانيات مالية كبيرة وهذا الاهتمام بطبيعة الحال ليس مرتبطا بأهمية السينما لدى الجهات الحكومية بقدر ماله علاقه بمناسبة اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية والذي يفرض عليها في الاطار الثقافي والفني التزامات كبيرة ومتنوعة،ينبغي على الدولة أن تؤديها،وكلنا نعلم أن هذا الاهتمام سينتهي مع انتهاء هذه المناسبة بنهاية العام 2013 . مثل هذا الوضع سبق أن شهدناه ايام النظام السابق عندما  نشط الانتاج السينمائي أيام الحرب مع ايران، ثم جاءت سنوات الحصار التي شهدت موت الانتاج السينمائي نهائيا ً.وهنا ينبغي لي أن أؤكد حقيقة مهمة وأساسية لها ارتباط وثيق بنموالانتاج السينمائي وقد تم تجاهلها لدينا الى حد كبير،إذ أننا تغافلنا ــ سواء كان ذلك عن عمد أو جهل ــ  بأن نمو ونشوء انتاج سينمائي متميز مرتبط بشكل وثيق مع منظومة (الانتاج والتوزيع والايرادات) فالفيلم العراقي خلال أكثر من  60 عام  على ظهوره،لم يتمكن من تحقيق أيّة ارباح مالية ! وهذا سبب كافٍ لكي يجعل أي منتج يعزف تماما ً عن استثمار امواله في الانتاج السينمائي،ولاننسى أن القاعدة الاقتصادية تقول :"ان راس المال جبان". هنالك ايضا عامل آخر لايقل اهمية عمّا ذكرناه،فنحن مازلنا نفتقد الى المنتج الذي يدرك أهمية الفن السينمائي وبنفس الوقت يملك  ذكاء وخبرة تمكنانه من اعتلاء صهوة المغامرة وأقتحام عالم الانتاج،أضف إلى ذلك أن معظم  الافلام التي انتجت سابقا لم تكن مرتبطة موضوعاتها  بهموم الفرد العرقي .
*لواعدنا قراءة الانتاج السينمائي في العراق منذ البدايات الاولى قبل اكثر من خمسين عاما،هل نجد فيه مايستحق المشاهدة مرة ثانية،ويكون مدعاة للتأمل الجمالي وتتوفر فيه عناصر فنية وجمالية تضعه في خانة الفن السينمائي ؟
-هذا سؤال صعب وقاس ٍ جداً، بنفس الوقت ينم عن ذكاء السائل، لانني أمام سؤال ليس من السهولة ألأجابة عليه، لكن يمكن القول أن هنالك بعض التجارب،التي يمكن ان نذكرها ونشيدُ بها على سبيل المثال:( من المسؤول، الجابي،والظامئون، بيوت في ذلك الزقاق.) وهذا بطبيعة الحال تقييم شخصي،قد يكون فيه إجحاف بعض الشيء بحق آخرين.ومع ذلك لابد من القول بأن التجارب التي تستحق المشاهدة من كلاسيكيات الفيلم العراقي قليلة جدا ًويمكن عدّها على اصابع اليد الواحدة.في مقابل ذلك نجد عددا من الافلام الجيدة تم انتاجها بعد الاحتلال الامريكي للعراق من قبل مخرجين شباب مثل : محمد توفيق وهادي ماهود وسمير زيدان.وقتيبة الجنابي وقيس الزبيدي ومحمد الدراجي وجمال امين وميسون الباججي وفاضل عباس وطارق هاشم وغيرهم. وهذا إن دلَّ على شيءإنما يدل على أن الفيلم العراقي بدأ ياخذ شكلاً آخر أكثر نضجا وتطورا ً، في محاولة جادة من الجيل الجديد مواكبة مايحصل من متغيرات في العالم وهو حريص على أن لايتخلف عنها،من هنا أستطيع القول أن الفيلم العراقي الآن أقرب الى الفن السينمائي وإلى الجمهور والواقع.
سُبُل النّهوض
*لو توفرت الفرصة وتسلمت أنت شخصيا ً مسؤولية تأهيل الانتاج السينمائي في العراق.مالذي ستتخذه من خطوات ؟
-اولا: اقالة جميع العاملين في مديرية السينما من مخرجين ومصورين ومدراء انتاج،لأنهم عاطلون عن العمل،أونقلهم الى مؤسسات تلفزيونية حكومية تابعه الى وزارة الثقافه.ثانيا ً:المباشرة بالعمل وفق نظام العقود مع من يستحق أن تعطى له الفرصة وفقا ً لكفاءته. ثالثاً :البدء بالتحرك نحو البنوك العراقية،خاصة البنك الصناعي،والتفاوض معه جديا ًلأجل أقناعه بضرورة الأقتناع والتعامل مع عملية الانتاج السينمائي بأعتبارها مشروعا ً استثماريا ً تتشابه وتتساوى مع أي مشروع أقتصادي آخر يمكن الاستثمار فيه وجني الارباح منه. رابعاً: السعي الجاد من أجل أن تكون دائرة السينما منتجه للافلام من خلال ماتقدمه من دعم ومشاركة في الانتاج مع جهات أخرى وليس كمنتج رئيسي .خامسا ً:العمل مع الغُرف التجارية لتثقيف التاجر العراقي وتشجيعه على خوض تجربة الانتاج الفني بكل انواعه. سادسا ً:العمل على أستقطاع مبلغ من المال بقيمة الف دينارعراقي من كل فاتورة كهرباء لأجل دعم الانتاج السينمائي،بطبيعة الحال هذا المبلغ البسيط له قيمة ودلالة اكبر واعمق من قيمته النقدية تتعلق بقضية لفت انتباه الناس الى أهمية الفن السينمائي. سابعاً :السعي لتأسيس شركة لدور العرض السينمائي تكون مهمتها  المساهمة أيضا في انتاج الافلام،عبرتخصيص مبلغ من المال من عائد العروض السينمائية،كما يمكن أن يتم ادخال الاكاديميات والمعاهد كمساهم بانتاج الافلام . ثامنا ً: العمل على تنشيط المهرجانات السينمائية وإقامة نوادي للسينما.تاسعا ً : فصل مديرية السينما عن دائرة السينما والمسرح وأن تكون  ضمن دائرة واحدة متخصصة عنوانها (دائرة السينما) ولها إدارتها وكيانها وميزانيتها الخاصة. عاشرا ً: ضرورة أن يدخل العراق كمشارك فعال بانتاج افلام عربية واجنبية بقصد استقطاب الخبرات المهمة اليه ونقل معارفها الى العاملين العراقيين وقد يكون تحقيق هذه النقطة في المستقبل، نظرا ً لما يعيشه العراق من ظرف أمني مضطرب. حادي عشر: العمل على إقامة ورش سينمائية في كافة الاختصاصات،والاستعانة بمخرجين ومصورين ومدراء تصوير الخ من مختلف دول العالم المتقدم .ثاني عشر :علينا ان نوصي وزارة التربية بأن يكون ضمن برامجها التربوية عرض فيلم سينمائي في المدارس ولجميع المراحل لكي يصبح الفن السينمائي  جزءً اساسيا ً ضمن الادوات الفعالة للقضاء على عوامل الجهل في العراق والارتقاء بذائقة الجمهور العراقي. .في الحقيقة ياسيدي هنالك الكثير من الافكار التي نستطيع من خلالها أن ننهض بواقع الانتاج السينمائي،وارجو ان تكون هذه الاقتراحات مسجلة باسمي لغرض العمل بها في حال ان تتبنى الدولة هكذا مشروع.
الكليات والمعاهد الفنية
*قسم السينما في كلية ومعهد الفنون في بغداد هل تجده مؤهلا لتقديم عناصر بشرية مؤهّلة من الناحية الحرفية والفنية للعمل في الانتاج السينمائي ؟
- حاليا لااعتقد ذلك ولعدة اسباب،اهمها: عدم وجود الطاقم التدريسي الذي يواكب المناهج  وطرق التدريس الجديدة في العالم، وهذا يعود إلى أن اغلب الاساتذه لايتقنون لغة أجنبية أخرى غير العربية التي يتكلمون بها ،لذا تجدهم غير قادرين على ملاحقة مايستجد من تطورات في العالم ، كما ان الاجهزة والمعدات الموجودة في هذه المؤسسات التعليمية ماهي إلاّ اجهزة خاصة بالانتاج التلفزيوني ولاعلاقة لها بالعمل السينمائي،ايضا لاتوجد ستوديوهات مخصصة للطلبة،ولاتوجد تخصيصات مالية لانتاج اطاريح الطلبة،بلاشك كل هذه العوامل ماهي إلاَّمعوقات تؤثر بشكل كبير على مستويات الطلبة، وعليه  نجد أن العديد من الطلبة قد اعتمدوا على أنفسهم في تطوير معارفهم العلمية والفنية،ووصل قسم منهم الى نتائج ممتازة، وأحب أن اضيف إلى ماذكرت ايضا ً:أنَّ السينما، ليس الاخراج والتصوير فقط،لذلك اتمنى أن تفتتح المعاهد والاكاديميات فروعا ً اخرى مثل قسم الصوت والانتاج  والمونتاج والتمثيل والمكياج وهي اقسام فنية لاتقل أهمية عن الاخراج والتصوير، فنحن الان يتوفر لدينا مئات المخرجين لكننا لازلنا نستورد مهندسي الصوت من خارج العراق،ومع هذا نجد ان اغلب الافلام العراقية تعاني من مشكلة الصوت .
العشوائية في العمل
*مالمطلوب من العاملين في الانتاج السينمائي العراقي التوقف عنده سواء على مستوى الموضوعات او على مستوى الاساليب من اجل خلق اجواء جديدة في جسد السينما العراقية ؟
-للاسف لازال هنالك الرقيب أو الفاحص للنص في دائرة السينما والمسرح وهذا الامر يعيق عملية الانطلاق في مواضيع واساليب جديدة للفيلم العراقي، وفي اعتقادي ان الموضوع هو اهم مفصل من مفاصل نجاح الفيلم وهذا يتم كلما اقتربنا من الواقع العراقي وبشكل شفاف وعميق دون الرجوع الى لجان الرقابة. كما إن َّالعمل تحت سقف أضواءالسينما بلاشك سيطرد الزوايا المظلمة التي يتركها الجهل في المجتمع، بذلك سنستطيع الخروج بالفيلم العراقي من عنق الزجاجة، وبصراحة تامة اقول إن الفيلم العراقي لايزال يتأرجح بين تقليد الفيلم الهوليودي والبوليودي والى حد ٍما السينما المصرية، واقولها بملء الفم : نحن في العراق لانملك سينما بالمعنى الحقيقي للسينما،وهنا أعني فلسفة السينما واسلوب السينما ومزاج السينما،لازلنا نعمل بشكل عشوائي وفوضوي،ولاتوجد لدينا حتى الآن مدرسة عراقية خالصة في الفن السينمائي كما هو الحال في ايران وكوريا، ولازلنا لانملك الاب الروحي للسينما،اغلب الافلام التي انتجت سابقا هي ذات نبرة انفعالية آنية،وغالبا ًماكانت إنعكاسا ً لموضوع سياسي،واغلب ماأنتج من افلام كان باهتا ًخاصة افلام ثمانينات القرن الماضي،تبدو عندما نشاهدها الآن وكانها تقاريرحربية،نحن بحاجة حقيقية الى ان نتعمّق في مانتناوله من موضوعات،ياسيدي..العراق بلد فيه العشرات من المواضيع والافكارالتي فيما لوتناولتها عدسة السينما لتقدمنا خطوات نحو جائزة الاوسكار،لكننا ومع الاسف الشديد مازلنا  نعاني من ضعف شديد يصل حد الهزال في تناول الافكار التي نطرحها،في اختيار مواضوعاتنا. ومازلنا في مرحلة التقليد الاعمى للأخرين، لذالك أنا دائما اؤكد على عدم وجود سينماعراقية، بل هنالك افلام عراقية تنتج في العراق، بلاشك لدينا  شعراء وكتاب رواية وفنانون تشكيليون لكن لايوجد لدينا كتاب سيناريو متمكنين وهذا يعود في واحد من اسبابه الى ابتعاد وعزوف معظم أدباءنا عن الخوض في مجال كتابة السيناريو، لذا نجد المخرج العراقي بات اشبه بالسوبرمان، فهو كاتب السيناريو وهو المخرج وهوالمونتيروفي بعض الاحيان هو البطل،إضافة الى ذلك هنالك ازمة كبيرة تتجسد في غياب الحب والمودة بين الفنانين والمثقفين فيما بينهم،من هنا لانستطيع ان نعمل بمنظومة المجموعة،وهذا أمرٌ مهم جدا في انتاج افلام سينمائية متقدمة، يتوفر فيها اسلوب متميز قادرعلى أن يحقق حضوراً وتأثيرا ً في المهرجانات العالمية، و في الجمهورالعراقي قبل ذلك .
*هل من افلام معينة عراقية تم انتاجها بعد العام 2003  تجدها تستحق الاهتمام على المستوى الفني ؟ وفيما لو وجدت أين تكمن اهميتها وقيمتها ؟
- نعم هنالك افلام كثيرة، سواء كانت  افلام وثائقية أوروائية قصيرة، وهنا اعني الأفلام التي تم انتاجها في داخل العراق،والكثير من هذه الافلام  شارك في مهرجانات عربية وعالمية مهمة سواء من مخرجي الداخل او مخرجي الخارج و حصد البعض منها جوائز، وهنالك اسماء شابة مهمة في هذا المجال لكن اعذرني من ذكر الاسماء لاسباب لها علاقة وثيقة بالمزاج الصعب لشخصية المثقف العراقي،لكن لابأس من ذكر فيلم ابن بابل للمخرج محمد الدراجي وفيلم كاسيت للمخرج ملاك عبد علي وهنالك ايضا  لؤي فاضل ورانيا توفيق و هاشم العيفاري وخالد البياتي .
ضغوطات الواسطة
*كيف تنظر الى خطط وزارة الثقافة فيما يتعلق بالانتاج السينمائي وخاصة الافلام التي تم اقرارها وانتاجها  والتي ارتبط انتاجها احتفاءً بأختيار  بغداد عاصمة للثقافة العربية.هل كان اختيار الافلام قائما ً على اسس سليمة. هل سيكون لها تأثير مهم على مستقبل الانتاج السينمائي في العراق. هل ستحقق تلك الافلام شيئا مهما على المستوى الفني في المهرجانات فيما لوشاركت خارج العراق ؟
-انها خطوة كبيرة وجبارة ان تقوم وزارة الثقافة بانتاج هذا الكم من الافلام الروائية والوثائقية الطويلة والقصيرة ولكن هذه الافلام لاأعتقد ستفرز نوعا جيداً من الافلام،وهذا يعود إلى الواسطة والمحسوبية والمنسوبية والمحاصصة، وللأسف عندما نجد أن الفرص الكبيرة والمهة قد منحت لأسماء معينة بذاتها سبق أن اخذت العديد من الفرص خلال تاريخها ولم تقدم شيئا والطامة كبرى عندما يكون وكيل وزارة الثقافه هو المسؤول عن انتاج الافلام وهوشخص لاعلم له بآليات انتاج الفيلم ولاعلم له بمن يستحق أن تعطى له الفرصة بالعمل ومن هو لايستحق،أنا شخصيا تكلمت مع الكثير من المسؤولين ممن هم ادنى من درجة وكيل وزيرحول امكانية انتاج فيلم من اخراجي،علما ً بأنني كنت قد قدمته عام  2011 أي قبل الكثير من الاسماء التي اعطيت لها الفرصة، وكل الذين تحدثت معهم من هؤلاء المسؤولين قالوا لي : اذهب الى الوكيل الاقدم اواذهب الى الوزير كما فعل فلان وفلان وفلان. . ومن خلال هذا الكلام نستطيع أن نفهم بكل بساطة بأن اغلب من منحوا فرصة العمل قد وصلتهم عبرالواسطة  سواء من الوزير او الوكيل وقد تمت بضغوطات كبيرة على السيد الوزير والسيد الوكيل، ياسيدي هنالك افلام ميزانياتها كانت عالية جدا بل خرافية، بينما افلام اخرى عانى العاملون فيها من  بؤس وشقاء وتعب وسبب كل ذلك يعود الى  عدم كفائة القائمين على ادارة العمل السينمائي، وعدم كفاءة من يقرر ادارة انتاج الافلام السينمائية، نحن الان تحت رحمة إدارات يقودها ديناصورات عفى عليهم الزمن،وهم تجار ومليونيرية، وتمكنوا من سرقة الفرص من الشباب،ومنّا ايضانحن المهمشون،وهنا لدي سؤال: من هو القادرعلى ان يقول إن فلان مخرج وفلان غير مخرج حتى نستطيع أن نمنح فلان فرصة ونؤجلها عن الاخر الى المستقبل؟،بالطبع لايوجد لدينا لجنة خبراء، بل لدينا لجنة انتهازيين،ومع هذاورغم هذه الصورة القاتمة اشعر بأن بوادر تغيير تبدو واضحة في الصورة نحو الاحسن فقد  تم تشكيل لجان جديدة ورؤية جدية للانتاج السينمائي،واتمنى ان تمنح الفرص لمن يستحقها، كماانني اشك بان عجلة انتاج الافلام ستستمر ضمن خطط وزارة الثقافه في المستقبل القريب،لاني أعتقد بأن مانشهده من حركة في الانتاج ماهو إلاّ أمر موسمي ،وهذا مرتبط بأختياربغداد عاصمة الثقافه العربية،لذا اتمنى على الوزارة ان تضع خطة واضحة لانتاج افلام ضمن خطط خمسية وأن تمنح  الفرص لمن يستحقها وأن يكون الاشراف بإدارة لجنة من الخبراء.
الجيل الجديد
*على من تراهن في اعادة الروح الى جسد السينما في العراق ؟
-انا اراهن فقط على الشباب الجدد ولاغير الشباب،فنحن لدينا الآن مجموعه من الشباب السينمائي المليء بالحماس والوعي ويمتلك رؤية جديدة لمعالجة الواقع،وقد اثبت هؤلاء على الصعيد المحلي والعربي على انهم بالفعل شيء مهم وكبير.ويمكن ايضا ان نراهن على البعض من المخرجين ممن عاشوا في الغرب،لأهمية تجاربهم وضرورة الاستفادة منها  كي ننهض بواقع الفيلم العراقي، سيدي الكريم  عن طريق السينما يمكن ان تحل الكثيرمن معضلات العراق الاجتماعية،ان السينما هي مركز النور وقد كانت ولم تزل يدُ امريكا الضاربة في العالم كما كانت ايضا كذلك ايام الاتحاد السوفيتي السابق،وهكذا،فالعراق بدون سينما ينقصه شعاع من نور باهر .
الجوائز والمهرجانات
*السينمائيون العراقيون المغتربون لماذا لم نجدهم قد حققوا شيئا مهما خارج العراق،ونحن نعلم أن كل مانسمعه من جوائز حصلوا عليها هنا وهناك،هي في الحقيقة لاقيمة لها لانها جاءت من مهرجانات لاوجود لها في خارطة المهرجانات الدولية المعترف بها أين تكمن الاسباب. هل في عدم وجود الدعم لمشاريعهم في تلك البلدان مثلا ؟
-اولا نحن هاجرنا ونفينا الى بلدان ممتلئه وممتلئه جدا وهذه الدول هي الصانع الاساسي للثقافة العالمية وهي المصدر لها. ثانيا ان اغلب المثقفين العراقيين متقاطعين بعلاقاتهم ولاسباب عديدة اهمها الطاوسية التي يتمتع بها المثقف العراقي،كذالك المثقفين العراقيين يقولون مالايفعلون فتحركهم احزابهم ولا يؤمنون بالفكر الاخر. بالاضافة الى كل هذه الظروف ليس من السهولة ان تحصل على دعم لانتاج فيلم سينمائي لكن هل هذا يشمل الكل؟ بالطبع لا. فلقد حصل الكثير من المخرجين على تمويل افلامهم وبكافة انواعها من قبل منتجين اوروبيين، وانا واحد من هؤلاء، لكن لو كنا نعمل نحن المغتربين بشكل جماعي وبدون تقاطعات،لتمكنّا من الحصول على دعم كثير،لكن المشكلة اننا مختلفون فيما بيننا جدا جدا جدا. لهذا ترى نتاجاتنا قليلة ومتباعده ولها علاقه بظروف آنية سواء في الغرب او في العراق،من هنا تجد ان بعض شركات الانتاج قد انتجت افلام لبعض المخرجين العراقين وبعد ذلك قررت عدم تكرار التجربة وأعلنت إداراتها التوبة. وعلى ذلك تجد لدينا اكثر من مخرج لديهم فلم واحد فقط ! ليبقى يعيش على ذكرى هذه التجربةلمدة  30 عام،وما اكثرهؤلاء. امّا مايخص الجوائز والمهرجانات فنحن نشطون في هذا المجال ونذهب سنويا الى عدة مهرجانات سواء كانت مهمة اوغير مهم، ولااعتقد يوجد مهرجان غير مهم فكل مهرجان ماهو إلاّخطوة للامام، والجوائز في حقيقة الامر لاتعني شيء مطلقا ً لان معظمها وهذه القناعة جاءت من خلال تجربتي غالبا ماتمنح لأسباب لاعلاقة لها بجودة الفلم،فالمسألة لها حسابات أخرى، وعندما يجد اي مهرجان انّ حساباته تتلائم مع فيلم عراقي سوف نحصل على جوائز، وبالنهاية هذه قضية نسبية،لأن المهم هو ان تشارك وليس المهم الجائزة .
*اخيرا نسألك لماذا هذه العلاقة الحميمة مع الفن السينمائي ؟
-لان طفولتي كانت بالقرب من دور عرض السينما ،منها سينما الرشيد وسينما الوطني وسينما علاء الدين وسينما الشعب بسبب تواجدي الدائم مع ابي واخوتي حيث محلاتهم كانت هناك فكنت يوميا ارى فيلمين، فجذبني ذلك الصوت الجميل لماكينة العرض كذلك الضوء المنبعث من غرفة العرض والدخان المتطاير الى الاعلى حيث كنت احلم دائما بان اكون انا البطل بدلا من ابطال الافلام التي كنت اشاهدها وانا طفل، ولازلت  حتى الآن اسيرّ هذه الاجواء،الظلمة والضوء والدخان المتطاير الى الاعلى، ودائما ما كنت انام في داخل صالات العرض لاني كنت ارافق اخوتي وابي بالعمل، واود ان اقول لك شيء مهم جدا ً، انا وحتى  هذه اللحظة، عندما اتكلم وامشي وامارس حياتي دائما ماأفكر أين أضع الكاميرا، قد يكون هذا الأمرغريبا بعض الشيء،لكني بصدق اعيش اللقطه والزاوية والفن بكل لحظة، انا عاشق لضوء السينما، انا حياتي كلها عبارة عن زاوية ولقطه وفيلم، كذالك انا كنت محظوظا جدا ً عندما منحني الاستاذ قاسم حول فرصة بطولة فيلم روائي طويل وانا بعمر 17 سنة وبعدها عملت في اربعة افلام سينمائية وفي حينها كان عمري 18 سنة،كانت صوري تملاء فاترينات سينما بابل مع كبار الممثلين في ذلك الوقت،وكنت اتباهي باسمي وبموهبتي، لقد منحتني السينما كل هذا العلاقة الجميلة بالحياة،انا حياتي كلها سينما. 


















83
أدب / مُنعطف الوقت ..
« في: 15:33 25/04/2013  »
      

مُنعطف الوقت ..



   مروان ياسين الدليمي

ساعةَ امسَكًتْ الخاتمة ُغفوتَنا
عَبَرنا بلاداً
أستيقظت منازلها على وشم العتاد .
أنَذَاك
ثقبنا أجراسَ الهواء
مُلطّخاً
بأحذية خلفها غُربَاء .

كفَرنَا برائحة التراب
وكأناّ صدّقنا ثانية ً
بأنّا سنشربُ كؤوسَ المشهد ِ
مُعمَّداً بالغَسقْ ،
وأنّ المقاهي ستحل ُّ بعد قليل  لغزَ عُزلتِا
والحكماء سيقطنون عَنابرَمن تورّط  بالحروبِ
والرهاناتِ  الخاسرةِ  ،
وأننا بعد هذا :
لن  نَتَلفَتَ بِرجولتِنا
ولن نرسم أمطارَنا
وشهوتَنا للبحر
ورائحةَ النساءِ .


رحيلنا ،
على تلك النوافذ . .  حِدادْ
مُشتهانا بلادْ  .

فوق كنيسةِ الساعة -1-
كم أيقظَ نعاس الشمس
رنين الناقوس .
كم أقتربنا من  رجولتنا  
وابتعدنا كثيراًعن طفولتِنا
فأنكسرنا
وانكسرنا
وانكسرنا .
حفاةً نمضي  
يُظَلِلُنا الغبار .

بكامل ِوعيِنا
شطَبنا الياسمينَ
مِن وجوهِنا
تعقَّبْنا أناقة النُّعاس في رطوبةِ أزقَّتِنا  
علّقنا رائحة َالاوتارِعلى حيطان ِتوبتِنا ،
كأنَّ رحيلنا
مُذ خَرَجنا من رعشة ِأُمهاتِنا
يلفّقُ المنافي لنا
أينما أتجهنا  .
 


أودّ الانَ
أن لاأستدلَّ على وجهي
أن اشطُب سَمعي
أن أطفىءَ بَصري .

أنحدِرُ بالوصايا
الى مُنعطفاتِ المراثي  
أطيلُ انتظاري بعيدا ً عنها
إلى أن  يأتي نشيدُ العَدم  .

هل أنا هُناك ؟
أستيقظ ُخارج عُزلتي
أروُّض أعترافات أصابعي
أمدُّها من نافذتي
لعلها في لحظة ٍ
قَدْ  تُمسِكُ غيمة ً هاربة ً
من نينوى - 2 - .

خلفَ أسيجة ٍتتعقبني
أجتازُ إنتظاري ،
أنا الغريبُ هناك
كما هُنا .


السكونُ
والرجلُ الطاعنُ في السِّنِ
وسائقُ التاكسي

والعابرون من المنافي تحت قلعة ِأربيل -3 -
كُلهم
يفتحُ خزائنَ الرّيبة ِ
ليستجوب سحنتي  .


مضى العُمر
وانا لاأتقنُ الا ّ لغَتي
في شوارعَ
تهدّمت أُنوثةُ النهار فيها
وتعثّر الكلام  بتجاعيدها .

اليومَ  ، رزمتُ أختلافي مع المُتمترسينَ عند ظلال الخوف ،
وهم  ينصتون بشغف ٍلمشقَّة البلاد .  

نينوى رتَّبَت شكلَ التراب على وجهي
مَشَت بي الى سماء ٍمُرتبِكة  
فهل من بلادٍ  مثلها  ؟
الشمسُ فيها باتت منازل للطارئين
الساعةُ الانَ لهم
ونحن على طاولة ٍللتجاذب
نحدِّقُ في ساعة ِموتِنا.

مُنعطفُ الوقتِ  
لا أبتداء
ولا انتهاء له .

هل أطعنُ ما أقولْ
أم لا أطعنُ ولا أٌقولْ  ؟ .

ماعدتُّ  أٌبصرُ
أيَّ طريق ٍ يقودني للظلمة    
كأناّ تقوَّسْناعلى الأسى
وأفرَغْنَا بريدَ نا على وجه ِالعَتَبات .

هَرَبْنا
ثم أحرَقْنا أسماءَنا خَلفَنا
ومَحَونا ألطريقَ
فهل أخطأنا لمّا شَطَبْنا أخطاءَنا ؟
وإن كنّا لمْ  نَزَلْ
نَقطنُ ما شَطبْنا .

                                                  

         13/ 3/2013
الهوامش
1-من أقدم الكنائس في الموصل
      2-التسميه التأريخيه (الاشورية) لمدينة الموصل
 3-قلعة تاريخية في مدينة اربيل لازالت شاخصة حتى الان



84


يوميات غياب الندى .. للروائي أسعد الهلالي

كثافة اللحظة التاريخية في الذات الساردة


                                                                                                                          
مروان ياسين الدليمي


الذاكرة هي مرتكز محوري إنطلق منه الروائي أسعد الهلالي في بناء مسارب روايته (يوميات غياب الندى) شكلا ً ومضمونا ً،والذاكرة هنا ذاتية /موضوعية ، يتداخل فيها ماهو شخصي مع العام، وليس هنالك من حد ٍفاصل يمكن من خلاله فك الارتباط والتفريق مابين هذين العالمين،اللذان تتداخلت فيهمااحداث الرواية وهي تمتد على مساحة زمنية واسعة بدايتها  كانت في مطلع ستينيات القرن الماضي ثم الحرب العراقية الايرانية في العقد الثامن منه ثم فترة الحصار الدولي على العراق على أثر غزوه للكويت  .
في كل هذه الازمنة يتداخل الخاص مع العام في بنية واحدة متشابكة ومتلاحمة، حتى بات أحدهما يعكس وجه الآخر، ومن خلال هذه الوحدة وهذا التشابك، عكس الكاتب رؤيته الشخصية المتعلقة بتاريخ طويل من عمر العراق المعاصر، يبدأ من منتصف القرن العشرين وصولاًالى ماقبل العام 2003.
تأتي أهمية هذه الرواية في معمارها الفنيّ، عندماالتجأ الهلالي للامساك بمساحة واسعة وفضفاضة من التاريخ العام ليكونَ جزءاً مُندمِجاً ومُتماهياً مع التاريخ الخاص للشخصيات في نص روائي تشكلت عناصره السردية من عتبتي الزمن والذاكرة،بنفس الوقت، نقل الهلالي هذا التاريخ العام، مرة أخرى عبر الخاص،الى العام،بعد أن أدخله في مشغل رؤيتة الابداعية ،معيداً ،من خلالها، تركيبه وتفسيره، وفقاً لمنظومة فلسفية ينطلق منهافي رؤيته للتاريخ العام الذي عصف ببلاده خلال خلال اكثر من نصف قرن من الزمان، كانت قد ارتكبت فيها سياسات الانظمة الحاكمة اخطاءً جسيمة اساءت كثيراً الى حرية وكرامة الفرد، فكان أحمد العراقي نموذجا لشخصية الفنان المثقف الذي وقع ضحية اساليب وحشية اعتادت على ممارستها اجهزة امنية قمعية لاتحترم أدمية الانسان، وهذا مايضطره بالتالي الى الهروب خارج البلاد نحو اليمن في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين بعد أن فشلت الانتفاضة الشعبية عام 1991والتي كانت قد عمّت أغلب مدن العراق على اثر النتائج الكارثية التي تمخضت عن قرار غزو العراق لدولة الكويت،وما تلا تلك الانتفاضة من اعمال انتقامية ارتكبتها اجهزة السلطة الأمنيّة ضد المنتفضين والمواطنين على حد سواء .وفي صنعاء عاصمة اليمن تطول مدة لجوئه فيها إلى عشرة اعوام، يعيش فيها غربة قاسية لاتبددها سوها علاقة حب عميقة أرتبط بها مع ندى وهي شابة عراقية كانت قد إلتجأت مع عائلتها الى اليمن مثل عشرات غيرها بعد أن فتكت الحروب ببلدهم العراق،ولكن القرار الهجرة بعيدا عن اليمن الذي إتخذته ندى يضعه في غربة أخرى داخل غربته،لتستيقظ الذاكرة في سردية شعرية مُستعيدة ذاته الاخرى(كما يقول بول ريكور )التي أرختها شوارع اليمن في أدق تفاصيل العلاقة الشخصية الحميمة مع الحبيبة ندى .
جاء المكان في البناء السردي لهذا العمل من غير أن يشكِّل أية اهمية واضحةفي تفاصيله وملامحه التي كرستها تقاليد الرواية الكلاسيكية والواقعية،بينما أكتسب الحدث حضوراً واضحاً،فمركزيةالمكان هنا لاأهمية ولاحضور لها، ولاتشكل للمؤلف عتبة اساسية وجوهرية ينطلق منها في سرد بنيته الروائية،وهذا يعود إلى أن الماضي بكل ثقله لم يرتبط بمكان محدد طالما كانت الشخصيات في حالة هروب دائم ولم تستقر في مكان بعينه .
إذن الحضورهنا يهمين عليه ألحدث،وليس بنية ألمكان التقليدية كما شكَّلتها منظومة الرواية العربية خلال اكثر من نصف قرن،وهذا يعود كما أشرنا ألى أن معظم شخصيات الرواية كانت مطاردة ولم تستقر في المكان الذي ولدت فيه واكتسبت منه طبيعتها الاجتماعية، إنما لجأت مُضطرة ومقهورة الى آمكنة أخرى بعيدة وغريبة عنها.
تبدأ احداث الرواية في مطار العاصمة اليمنية صنعاء عندما يودع (أحمد العراقي) الشخصية الرئيسية حبيبته (ندى)،ألتي ستغادر صنعاء الى مكان آخربعيد،ومجهول،لم يحدده المؤلف،وهي إشارة واضحة الى المصيرالمجهول الذي عصف بالعراقيين خلال الفترة التي تناولتها احداث الرواية :" هدرت محركات الطائرة الفضية .. إبتلع الممر الضيق المؤدي إلى صالة المغادرة آخر الاقدام المسرعة ، مجلللاً بعضها بالدموع والآخر بخفقات قلوب إستلقى فيها فرح غامر أرهقه التقافز حتى أوشك على الانهيار ... " .
وبماأن جلّ الشخصيات قد تعرضت الى الابتعاد القسري عن المكان الذي تنتمي له،لذا كان من المنطقي أن يغيَّب المؤلف الطبيعة الطوبوغرافيةللمكان على حساب حضور الحدث واللحظة الانسانية التي تعيشها الشخصيات وهي تواجه فعل المطاردة من قبل اجهزة السلطة الامنية .  
لم تكن الشخصيات في حالة إطمئنان حقيقي حتى عندما تكون بعيدة تماما عن الامكنة التي هربت منها جغرافياً،لأن الذاكرة الشخصية بما تمتلكه من رصيد كبير اختزنته في داخلها لاتجعلها تحيا بهدوء واطمئنان حتى بعد أن أمست في منأى عن الخطر الذي كان يطاردها،فهي مازالت تننفس وتتنازع مع ماضيها المسكون بالملاحقة والخوف،:"تعلمين أني غادرت جحيمي بقدمين متهرئتين ..وأحتاج إلى الكثير من الوقت كي تتماثل قدماي للشفاء ."
الذات الساردة هنا شديدة الحساسية في فهمها وتفسيراتها لأبسط اللحظات والتفاصيل وهذا يعود لكونها ذاتُ فنانٍ شاب درس الاخراج السينمائي في كلية الفنون الجميلة ببغداد في ثمانينات القرن العشرين قادما من مدينة كربلاء ذات الصبغة الدينية الواضحة جداً، فتقاطع هذا المسار مع ماكان يريده له والده في أن يكون ضابطا في الجيش العراقي،كما تقاطعت أيضاًافكاره اليسارية مع افكار والده القومية، وعلى الرغم من فشلها في حكم البلاد بشكل سليم مرتين ،عام 63 و68 وتسببها بالكثير من الاحداث المؤلمة التي تحملها المجتمع إلاّ أن والده بقي على موقفه المدافع عن تلك الافكار ومبرراً كل اخطائها التي انعكس تأثيرها على مستقبل البلاد فيما بعد .
تبدوالشخصية الرئيسية في هذا العمل(أحمد العراقي ) وكأنها في حالة من الترنّح منذ اللحظة الاولى التي يلتقي بها القارىء ، فهي تبدو شخصية فاقدة للطمأنينة التي كانت قد تبخرت في الحرب العراقية الايرانية:-" مع أول عروس شهدتُ زفافها بملابسها البيضاء المبرقشة باللؤلؤ الصناعي ..وباقة الورد التي بعثَرَتها على عريسها المضطجع بأستسلام في نعشه وفي جبهته رصاصة بدت لعيني عروسه قبل تكفينه كقبلة حلمت ذات يوم بعيد أن تطبعها على جبينه الضاج بالرجولة والكبرياء ،عشقته فتى وشاباً ولاتملك إلاّ أن تنثر الزهور على سكونه وقد أرسلته إليها الحرب في يوم زفافه غارسة في جبهته قبلتها البارودية "
كانت الاعوام العشرة التي قضاها في الغربة بعيدا عن وطنه العراق كافية لأن يستحضر فيها السنين التي مضت لتأتي متدحرجة بعدأن خاض فيها تجربة مُرّة لايمكن أن تشطبها الذاكرة :" اضطررتُ إلى دفن سنواتي في مقابر من كانت الحرب تبعث إلينا بأشلائهم من أصدقاء ندفنهم دونما نظرة أخيرة ودونما وداع أخير .. وغالباً ما نستعجل دفنهم مع بقايا رائحة زنخة اختلط فيها التفسخ بأكداس البارود والغازات الكيمياوية السامة أحيانا .. غالباً ما كان النعش مسمراً وخطوط حمراء تنصّ على أن يدفن القتيل بنعشه وحين أصرت إحدى الأمهات على فتح تابوت ابنها معاندة بنادق الحراس عثرت على أشلاء لها ثلاثة أقدام وذراع واحدة ودونما رأس .. كفت المرأة عن البكاء .. كانت موقنة أن ابنها لم يمتلك قدماً ثالثة طوال حياته.. غادرت القبر فوراً ولم تعد لزيارته .. أعلنت أنها ستنتظر عودة وليدها.. بعد عشرة أعوام من انتظار سقيم أخبرت جارتها أنها ستبحث عن ابنها في دار الله المطلة على الأرض جميعاً.. كانت موقنة من أنها ستعثر عليه .. قرؤوا ذلك في عينيها المشرعتين حين أغمضوهما الإغماضة الأخيرة في اليوم التالي .. ودفنوها في قبر بارد مجاور لأشلاء من ظنوه ولدها الذي جلبت أشلائه الحرب قبل عشر سنين.. زارت جارتها القبر في الخميس التالي فوجدته حفرة غائرة لا تحوي سوى قطعة من الحجر هشم بها أحدهم أو إحداهن.. لا أحد يدري .. شاهدة قبر قتيل الحرب" .
الزمن التاريخي الذي شهد الوقائع والتفاصيل كان منصّة سُجلت عليها الاحداث.. هذا الزمن عادة ما يمتلكه الكاتب ليحيله في بنيته السردية الى بنية جمالية يمرر فيها أحاسيسه التي شكلت ذاته  في تحولاتها، فكانت تجربة الجنس المبكرة لأحمد العراقي مع جارتهم أميرة زوجة الشهيد سالم عبيد الذي سقط في حرب أكتوبر /تشرين عام 1973 التي جرت مابين العرب ودولة اسرائيل، فكانت تلك أولى تجاربه الحسية وهو لم يزل مراهقا، لتقرَّ حتمية زمنية جاءت في سياقٍ خارج ماكانت  الذات مهيئة له  :" تشبثت كفي بالراديو حين حاولت أميره جذبه .. ظننتُ أنها تود سرقته .. وفوجئت تماماً حين رمته جانباً بإهمال .. تعاظمت مفاجئتي حين جذبَتْ بيجامتي لأبدو كدجاجة قرعاء وأنا منكفئ على جسدي الذي لم يحتم ِسوى بسروالي الداخلي الذي لم يصمد على جسدي طويلاً إذ جذبته أميرة سريعاً فغطيتُ ما ظهر مما لا يجب أن يظهر بكفي.. فحّ صوتها ..
ـ لا أظنك تعرف شيئاً ؟
أجبتها ..
ـ ما الذي يجب أن أعرفه ؟ ..
رددتْ ..
ـ سأعلمك .. سأعلمك ..
أسرعت بخلع جلبابها الأسود فبان عريها لامعاً كالمرآة .. أشارت لنهديها ..
ـ ما هذان ؟
ـ ثديان ..
ـ لماذا غرزا في صدري لا صدرك ؟
ـ لأنك تُرضعين بهما ..
ـ حسنٌ .. ارضع قليلاً ..
ـ لكني فطمتُ منذ سنين بعيدة ..
ـ ألا تعلم أن ثدي المرأة وجد ليرضعه الطفل والرجل ..
ـ لا أعلم .. سأسأل أمي ..
ـ لن تسأل أمك أسئلة كهذه .. ما ترضعه كبيراً ليس ثدي أمك بل ثدي آخر .. ثديي مثلاً .. تعال ..
اقتربت مني .. رمقتني بنظراتها المضطربة فأخافتني .. اقترب فمي مرتبكاً من حلمتها .. رضعت وجلاً أول الأمر ثم انتابتني بعض اللذاذة .. بعد قليل كان كفاي يعتصران نهدها النافر كقبة وشفتاي ترتشفان لعابي الممتزج بعسل نهديها ".
كانت تلك التجربة اكتشافا مدهشا منحته الخبرة التي إستعان بها فيما بعد في تفجير روح العبث المتجاور مع عواطفه المتفجرة بين اروقة كلية الفنون الجميلة .
شخصية  أحمد العراقي تبدو وكأنها مازالت في حالة من فقدان القدرة على التركيز والاستقرار رغم مرور عشرة أعوام على العيش بعيدا عن وطنه الذي طالما الموت طارده فيه :-" أيّة طمأنينة ستمكث وكل بيان بهجوم يعني سربا لامتناه من النعوش واليافطات السوداء التي تكحل عيون الازقة ؟ " ..
تعيش هذه الشخصية حالة من الفوضى الدائمة،بين أوراق وصورتعود للحبيبة ندى التي غادرت الى غربة آخرى،لتتبعثر الذكريات من حوله،فتحيط به،هنا وهناك :"صور ..صور .. بعثرتها لأهمي بعيني الناثة رحيقها،مرتشفاً جبهتها الوديعة وأنفها الغائص في الذهول وشفتيها المبتسمتين في شفتيّ برقة لاموطن لها إلاّ ندى " .
يتّخذ المؤلف من صيغة المذكرات اليوميةوسيلة سردية في إدارات دفة احداثٍ بعيدة وقريبة إكتظت في ذاكرة متعبة وخائفة وحزينة عبَّر عنها المؤلف بصيغة ضمير المتكلم،يبدأها بتاريخ محدد 7/ 8 / 2001 ثم 8/ 8 / 2001 وهكذا تتوالى التواريخ اليومية متتابعة لتنتهي بالتالي بنهاية مفتوحة بهذه الجملة :"صنعاء  2001 " .
عمل المؤلف بآلية السرد هذه على استحضار الماضي من الماضي نفسه،
يوماً بيوم،وأعاد تركيب ماجرى فيه من أحداث من خلال رؤية المخرج
 السينمائي أحمد العراقي، وهي رؤية لاتخرج في شكلانيتهاعن إطارتيارالوعي في الرواية الحديثة ،أيضاً جاء بناء كل مشهد فيها وفق التركيبة السينوغرافية للمشهد السينمائي،كما لم يخرج في رؤيته هذه عن الاطار الواقعي، رغم الطاقة الشعرية التي عبّأ بها لغته وهو يشتغل عليها في إعادة تركيب الحدث من جديد :"بدت الكتل المبتلة بمطر الليلة الفائتة منتصبة على جانبي الطريق..يتكئ بعضها على بعض،هامسة بوحها الساخر لما اكتنزته ذاكراتها بما اختبأ خلف جدرانها المستسلمة لدفء الأنفاس اللاهثة،جدران تركن للصمت والسكون مشرعة مسامات التلصص الملتذة على جسدين إحتويا عريهما بين الجدران، هاربين من سياط الآخرين اللاسعة،يخبئان توقهما أول الأمر عن فضول مسامات الجدران .. يتبادلان نظرات يطفر إلى مآقيها الوله.. ينساب دخاناً لا مرئياً يلفح الوجه الآخر.. يمتزج الدخان .. تجذبه المآقي فيجذب إلى مركزه الوجهين الموشكين على الذوبان .. تبتلع المآقي دخان الوله ليغدو لعاباً سكرياً عاتي اللذة يكسو الشفاه المتلاصقة .. يمتزج .. تذوب الشفاه في اعتصار يرتج لعنفه قلبان يطفح دفئهما فيطرد ما علق بالجسدين من خِرَق .. تشرع الجدران مساماتها مرتشفة الالتصاق الأفعواني العابث للجسدين المهتاجين .. وتسرع عند بزوغ الفجر لبعثرة ذاكرة الليلة الفائتة في آذان الجدران الأخرى .. تقهقه جدران صنعاء ساخرة من انكسار قلبي فوق رصيف فندق الشلال باحثاً بعينين نهمتين عن بقايا خطواتنا المرتبكة.."
بعد أن يودع أحمد العراقي حبيته ندى التي عشقها بجنون كما عشق من قبل وفاء ونهال في كلية الفنون الجميلة :" أ أخبرتك يوما بأني لم أشعر بالطمأنينة حتى التقيتك؟ " . . يعود أدراجه الى شوارع العاصمة صنعاء مجتراً ذكرياته التي اكتنزت انفاسهما اللاهثة خلف جدرانها. :" تستقبلني جدران منزلي ..أطرق رأسي خجلاً ..سألتني صورة الفراشة الحائمة حول الشمعة المتلألئة عن ندى .. إزداد رأسي إطراقا .. تمتمتُ .
ـ غادَرتْ ..
أسرعت الفراشة بالطيران صوب لهب الشمعة فضجت الصورة برائحة شيّها .. قفزت من عيني دمعتان لابدتان في زاويتيهما المحمرتين لفرط العواء .. درتُ حول الجدران مرتشفاً رائحة ندى الفائحة من مسامات الجدران وزوايا اللوحات المعلقة وبين أضلاع التمثالين البرونزيين الصغيرين.. كانت ندى ماثلة في زوايا المنزل.. بقايا ضحكة مكركرة في حجرة النوم لم تجذبها معها ساعة مغادرتها ".
ختاما نقول إن رواية يوميات غياب الندى تستدعي قراءتها أكثرة من مرة بعد أن توفرت فيها لغة سردٍ ثرية ومكثفة عمل فيها الهلالي على انجاز بنية فنية تحمل مفرداتها حساسية شعرية عالية أضافت نسقا متعالقاً مع تركيبة الاحداث والشخصيات .



85
المنبر الحر / فيلم ..حياة باي
« في: 22:32 19/03/2013  »
نقد سينمائي 

فيلم ..حياة باي
Life of pi






              الذَّات .. فضاءٌ إنسانيٌ فسيحْ،لتقويض ِسُلطة ِالواقعْ



                                                                                                            مروان ياسين الدليمي

 إخراج   :  انج لي 
كتابة     : دايفيد ماغي
بطولة   : سراج شارما – ايرفان خان
انتاج    : 2012

قراءتنا النقدية لبنية الشريط السينمائي(باي) تشيرإلى أن سردية خطابه الجمالي قد إستعارت حبكتها الدرامية من تركيبة معمارية سوَّغت حضورها القيمي عبر مقاربة حركية للبناء السمفوني،تهيكلت منظومتها البصرية والسمعية على قاعدة بنائية تآلفت فيها في أربع حركات (سريعة ،بطيئة ،سريعة ،بطيئة) ،هذا السياق الفني الذي أجترحه خطاب الفلم ابتغى من خلاله استدراج المتلقي في كثافة أزمنة ٍ متوالية (ماضي وحاضر) تعالقت فيها الحكاية في مستوياتها وارتداداتها الى مواجهة عميقة مع ذات قلقة جامحة وهي تتأمل وتنفتح على الآخرفي بؤرة مركزية فضائها براءة الطفولة البشرية في تفردها الديني المُتمَنّع عن الانغلاق والانزواء، فأنسابت حكاية الفلم لتكشف في نسقها الذاكراتي امكانية تواشج الميراث الروحي ( الاسلامي والهندوسي والمسيحي ) سعياً ً من صنّاع الفلم العثورعلى نقطة التقاء تتجلى فيها معاني الوحدة الانسانية بين البشرعلى اختلاف منظوماتهم الدينية،هذا اضافة الى ماتوفر فيه من جنوح كبير في استثمار المؤثرات التقنية ( فن الكرافيك ) في تقويض سلطة الواقع والوصول الى ابعد نقطة في استثمار المخيلة البشرية للحاسوب بإيجاد بديل رقمي تتوفر فيه كل ماتصبو إليه رؤية الفنان من صور جمالية معبأة بأنساق لونية وبصرية يكتمل حضورها الآسر في عالم كرافيكي يعجز الواقع عنها وهذا ما رشحه لأن ينتزع جائزة الاوسكار للمؤثرات البصرية .
الحركة الاولى
بعدأن إستعادت الحكومة الهندية أرضا ًمؤجرة من قبل عائلة  كانت قد اقامت عليها حديقة للحيوان يضطر ربُّ الاسرة الى اتخاذ قراره بالسفرالى كندا مع جميع أفراد عائلته لغرض بيع الحيوانات مقابل مبلغ من المال يكفيهم للبدء بحياة جديدة هناك،وشاء القدرأن تغرق السفينة في عرض البحر بمافيها من طاقم وركّاب وحيوانات بأستثاء ناج ٍ واحد هو:باي الابن الاصغر للعائلة مع مجموعة صغيرة من الحيوانات مؤلفة من نمر وحمار وحشي وضبع وقرد .
بعد أكثر من عشرين عام على حادثة الغرق يأتي كاتب روايات كندي ليزور باي في بيته بكندا التي أستقر فيها،لأجل أن يسمع منه تفاصيل ماجرى ،جاء اليه بعد أن سمع بقصته قبل عدة أعوام عندما ذهب في رحلة الى الهند ليؤلف كتابا ًوهناك التقى عن طريق الصدفة في مقهى مع مدرب باي للسباحة (ماما جي) أيام كان طفلا صغيراً،كان هذا المدرب مغرما بأحواض السباحة ولايمكنه مقاومة أي حوض يراه إلاّ ويسبح فيه،لكن حوضا للسباحة في باريس بقي عالقا بذاكرته واعتبره أجمل حوض رأه في حياته وكان اسمه(بيسين موليتور باتيل) ولشدة اعجابه به أوصى صديقه والد باي أن يسمّي أسم طفله القادم على أسم الحوض ،فسمى باي(مختصر بيسين) تيمنا ً بذاك الحوض إلاّ أن خطأ في لفظ الحرف الاخير من قبل أصدقائه في المدرسة حوّل أسمه الى(بيسيج)بدلا ً من بيسين ليتحول بذلك معنى الاسم من حوض جميل للسباحة الى مرحاض هندي وسخ،فكان ذلك
 يثير سخرية الاطفال منه ،بل إن المدرسين أنفسهم باتوا هم ايضا ًينادونه بالاسم الخطأ،ولم يعد يجدي نفعا كل المحاولات التي كان يبذلها لتصحيح اللفظ حتى عندما استعدَّ في فترة العطلة الصيفية بشكل جيد فجمع معلومات جمّة عن معنى ودلالات أسمه، توزعت مصادرها مابين الجغرافية والتاريخ الاغريقي الى علم الرياضيات،ولمّا إبتدأ العام الدراسي إستعرض أمام طلاب المدرسة الذين كانوا يتجمعون في قاعة الدرس مع المدرسين لمراقبته وهو يكتب المعلومات الغزيرة على السبورة بعد أن كان قد حفظها عن ظهر قلب،ولم تجد نفعا كل محاولاته تلك لتصحيح الخطأ كما لم تفلح أيضا سخرية الطلاب في ثنيه عمّا كان يبحث عنه من التصالح والتسامح  بين الاديان داخل ذاته القلقة رغم صغر سِنِّه،إذ كانت موضوعة الاله المعبود من البشر بتسمياته المختلفة وفقا ًللاديان التي يمثلها هي التي قد استولت على تفكيره وأمست مصدر أهتمامه الوحيد مثلما كانت هواية جمع الطوابع ولعبة الكريكت مصدر إهتمام شقيقه وبقية الاطفال،خاصة وأن البيئة التي يقطنها كانت تتعايش فيها الديانات الهندية والاسلاميةوالمسيحية، فقد ولد(باي) في حي هندي مجاور لحي يسمىَّ بالمنطقة الفرنسية لأن من كان يقيم فيه فقط هم من الجالية الفرنسية،فيما بعد استلمتها الحكومة الهندية من البريطانين بعد نيل الاستقلال عام 1954،يجاورهذه المنطقة الجميلة التي  كانت تبدو وكأنها قطعة من جنوب فرنسا حي آخر يسكنه مسلمون وآخر يسكنه هندوس،أما عن الديانة المسيحية فقد تعرف عليها  باي عندما كان يذهب سنويا ً مع عائلته في العطلة الصيفية وهوفي عمر لم يتجاوز الثانية عشرة لزيارة اقارب لهم يقيمون في قرية سكانها من زارعي الشاي تقع في منطقة مونارالجبلية،ولأنه كان يشعر بالملل هناك مع شقيقه الاكبر أبتكر الأثنان لعبة تحديٍّ بينهما من باب التسلية وقضاءالوقت،تقتضي أن يذهب باي الى كنسية معزولة تقع على مسافة قريبة من القرية وأن يدخلها ليشرب من الماء المقدس،وبعد أن شرب الماء إلتقي برجل دين مسيحي طلب منه باي أن يفسر له :"لماذا أرسل الله إبنه المسيح ليدفع الثمن عن ذنوب عامة الناس ". فيجيبه القس :"لأنه يحبنا، فالاله جعل من نفسه بشريا ً ليتواصل معنا ولنتمكن من فهمه،فنحن لانستطيع أن نفهم الاله وكماله،لكننا نستطيع أن نفهم إبن الاله ومعاناته،فيما لوكنّا أخوة "
بالنسبة له كان هذا جواباً غير منطقي ! فما معنى تضحية الأبرياء للتكفير عن خطايا المذنبين !؟ . مما دفعه لأن يتسائل مع نفسه  :"مانوع هذا الحب ؟ ". .لكن ذلك الابن( المسيح)المضحي تكفيراً عن خطايا الاخرين لم يستطع أن يخرجه من رأسه،وبقي يتأمله ويفكرفيه،لتستيقظ في داخلة أسئلة أخرى:" إذا كان الاله كاملا ونحن لسنا كذلك فلماذا أراد أن يخلق كل هذا؟ لماذا يحتاجنا ؟". .ليجيبه القس في زيارة أخرى :"كل ماعليك معرفته أنه يحبنا  ". وكلما إستمع باي الى الكاهن خلال زياراته التي تكررت،كلما أحب إبن الاله. .يقول باي اثناء سرده لسيرته :"اهتديت لطريق الايمان من خلال الهندوسية ووجدت حب الاله عن طريق المسيح،لكن الاله لم ينتهي مني بعد،وفي إحدى المرات يمر باي بالقرب من أحد الجوامع فيشاهد المصلين المسلمين وهم يؤدون فريضة الصلاة، فيجد الاله هنا ايضا مرة أخرى وهو يقدم نفسه اليه مجدداً،ولكن هذه المرة بأسم آخر ( الله )فيدخل الى الجامع ويبدأ بالصلاة مع جموع المصلين المسلمين .هنا يعترف باي أمام الكاتب الكندي وهو يسرد له قصته في هذه المرحلة من طفولته :"رغم أن لغتي العربية لم تكن جيدة لكن الصوت والشعور بالكلمات قربتني أكثر الى الاله،وبأدائي للصلاة،أمست الارض التي كنت ألمسها بجبهتي أرضا مقدسة،كما أنني وجدت شعوراً بالسكينة والاخوية".
هذا الحوار يأتي تفسيرا ًلأول جملة كان باي قد نطق بها مع  بداية الفلم عندما قال :" أفعال الفرد هي التي تحدد مصيره.
والد باي كان له أثر كبير في أن يكون له عقل متفتح ليس من السهل خضوعه لكل الحكايات والاساطيرالتي تتحدث عن الالهة،فكان يقول له ولشقيقه وهما يسمعان ويقرأن قصصا ً عن الالهة :"لاتدعوا القصص والاكاذيب الجميلة تخدعكم ياأولاد . . الدين مُظلم " فكانت ثقافته هذه جزء من ثقافة الهند الجديدة التي ولدت بعد الاستقلال، كما أنها جاءت بعد تجربة مريرة كان قد مر بها (والد باي )عندما كان طفلا مصابا بشلل الاطفال وأعتاد أن يستلقي على السرير مستسلماً محطماً وهو يتألم ويتسأل: أين الاله؟.. في النهاية الاله لم ينقذهُ، بل أنقذه الدواء الغربي.!
وفي واحد من المشاهد المؤثرة التي يستذكرها باي،عندما كان صغيراً ،مشهد كان قد جمعه سوية مع أفرادعائلتة اثناء تناول الطعام،في هذا المشهد وقبل الشروع بتناول الطعام يبدأ باي بأداء طقوس صلوات الديانات  الثلاثة التي عرفها(المسيحية والهندوسية والاسلام)،وهذا ما يدفع والده لأن يقول له متندرا ًبعد أن انتهائه من اداء الصلوات :" أنت بحاجة الى أن تتحول الى ثلاثة أديان أخرى،وعندها سوف تقضي حياتك كلها في عطلة ". ثم يكمل شقيقه بنبرة ملؤها السخريةماكان قد بدأه والده من ملاحظة:"هل انت ذاهب الى مكة هذه السنة ايها المعلم يسوع ؟ أم إلى روما من أجل الاحتفال ،كالبابا بيوس ؟
والدة باي سيدة تنتمي الى طبقة برجوازية بخلاف والده الذي ينتمي الى الطبقة المتوسطة ،تحمل وعياً عاليا ً بذاتها دفعها الى معاندة أهلها والزواج ممن تحب رغم الفارق الطبقي بينهما،وكانت قد التقت به حينماجاء لتنفيذ مشروع حديقة للحيوانات داخل جزء من الحديقة العامة التي كانت هي تشرف عليها في المنطقة الفرنسية،لأنها كانت تحمل شهادة جامعية في اختصاص علم النباتات الطبيعية.
والدة باي كانت قد انتبهت ألى مايشغل ابنها من اهتمامات بعيدة تماما عن اهتمامات اقرانه،لذا كانت تقول عنه إنه :" مايزال يبحث عن طريقه".لكن والده كان يجابهه برأي آخر:"لايمكنك اتباع ثلاثة اديان في نفس الوقت،لأن الايمان بكل شيء في نفس الوقت هو نفسه كعدم الايمان بأي شيء على الاطلاق،وليس من السهولة العثورعلى الطريق ّإذا لم يخترالانسان مسارا  ما، وعليه بدلا ًمن القفز من دين إلى آخر،لماذا لاتبدأ بسبب ما؟ فالعِلمٌ قد جعلنا نفهم الكون بصورة كبيرة أكثر من الذي فهمناه من الدين خلال عشرة الاف سنة،وبنفس الوقت أنا لاأفضل أن يجعلوك تؤمن بأشياء كثيرة غير متوافقة بل أفضِّل أن يجعلوك تؤمن بشيء أنا غير موافق عليه عن قبولك لكل شيء بشكل أعمى،وهذا يبدأ بالتفكير المنطقي "
إلاّ أنَّ والدته كانت تؤكد له بأن :" العلم يعلمنا فعلا اشياء كثيرة لكنه لايستطيع ان يعلمنا اشياء في داخلنا ." 
يبقى باي  طيلة فترة طفولته ومراهقته باحثا ًعن شيء ما يجلب له معنى لحياته،وكان لقائه بأندي الفتاة الجميلة التي تعرف اليها في حلقة لتعلم الرقص الهندي التقليدي الذي هو جزء من طقوس العبادة الهندوسية التي يعبد فيها أكثر من 33 مليون إله،عندما حلَّ باي مكان معلمه الذي كان يدرسه الموسيقى بالعزف على آلة الطبل والذي غاب في أحد الايام ليكتشف حقيقة مهمة من خلال ماكانت تقوله مدربة الرقص من أنَّ "عدم التركيز لن يُمكِّن الانسان من التعبيرعن حبه للأله من خلال الرقص،وعلى الراقص أن يشعر بالارض تحت أقدامه،وأن يفتح نظرَه للافق،وأن يدع الطاقة الروحية تمر من خلاله الى العالم في أي مكان وكل مكان."
تأتي لحظة التحول الكبرى في حياة العائلة المستقرة بعملها الناجح في ادارة حديقة الحيوان عندما يقررمجلس المدينة إيقاف الدعم للحديقة واستعادة الارض المؤجرة لهم،فيقررالاب مغادرة الهند الى كندا ليبيعوا الحيوانات هناك. . وبعد مشهد ِوداع ٍوحيد لحبيبته لن يحظى بمثله بعد ذلك مع كل احبتة الذين سيفقدهم فيما بعد في رحلته،يرحل باي على متن باخرة يابانية مع عائلته إضافة الى الحيوانات .
ترحل السفينة اليابانية لتمرَّ في أعمق نقطة في البحر بالقرب من أحدى جزرالفلبين،وهنا تأتي عاصفة رعدية هوجاء في تمام الساعة الواحدة وخمس عشرة دقيقة بعد منتصف الليل بينما كان الكل نيام بأستثناء باي ،الذي يجد نفسه مندفعا بفرحٍ الى سطح السفينة،مستهينا بالبرق والرعد والعواصف، وغير مدرك لخطورة مايجري من حوله، فيواجه البحرالهائج برقصة بريئة يعبِّرفيها عن دهشته وفرحته بما يرى،وماهي إلاّ لحظات حتى تبدأ أمواج البحر بأغراق السفينة،فيجبره طاقمهاعلى النزول في قارب إنقاذ صغير سرعان ما ينفلت الحبل الذي كان يربطه بالسفينة لتأخذه الامواج الهائجة بعيدا ًعنها وليجد نفسه وحيدا ً وسط البحرمع حمار وحشي وقرد وضبع ونمرٍ متوحش،ومن بعيد يرى السفينة تغرق ويبتلعها البحر بكل افراد عائلته ولم يتسنى له فرصة توديعهم .
الحركة الثانية
في هذا الجزء من الفلم يعيش باي رحلة قاسية وموحشة لم تكن تخطرعلى باله يتداخل فيها الحلم مع الواقع فكانت :إختباراً لكل ماكان يبحث عنه وامتحانا ً صعبا ً لأرادته وشجاعته وضعفه وانسانيته وهو يواجه أخطارا ً شتى في عرض بحرهائج وحوله عدد من الحيوانات المتوحشة التي تبدأ صراعا ًعنيفا مع بعضها من أجل البقاء حتى يتمكن النّمر من افتراسهم جميعا ليبقى بمواجهة مع باي .
هنا لم تعد تجدي نفعا ًصرخاته في حلكة الليل وسط بحرهائج ولاكلمات الاعتذاروالاسف من والديه .
في هذا الجزء المهم  من الفلم يلعب فن الكرافيك دورا ًكبيرا ًفي صنع بيئة ساحرة بواقيعتها وجمالها وتكويناتها وألوانها، تتألف مفرداتها من سماء وغيوم وبحر وقارب وليل ونهار وأمواج ومايختزنه البحر من أسماك صغيرة وكبيرة،فكانت عملية صنعها متقنة جدا ً،عكست ماتوصل اليه فن الكرافيك من أمكانات هائلة لاحدود لها في خلق ماكان يبدو مستحيلا الى فترة قريبة ً، فبعد فلم (300 محارب) للمخرج زاك سنايدر إنتاج عام 2007 وبكلفة قيمتها 65 مليون دولار عن رواية للكاتب فرانك ميلر والتي كانت معظم مشاهده بما فيها المعارك قد تم تصويرها داخل الاستديو أمام شاشات خضراء ليتسنى بعدها لطاقم الكرافيك من مسحها وإحلال مكانها كل الديكورات والامكنة التي تجري فيها الاحداث،فكان هذ الفلم بداية جريئة وثورية في تاريخ السينما المعاصرة تبعته بعد ذلك تجارب أخرى، فأصبحنا في حيرة من امرنا ّلم نعد نستطيع التمييز في مانراه على الشاشة هل هو عالم كرافيكي أم أمكنة طبيعية؟ بما ذلك مفردات فلم باي (السفينة والبحر والنمر والقرد والضبع والحمار الوحشي والجزيرة والغابات والينابيع ) إضافة الى جمالية الالوان والصورة والتكوينات التي كانت في غاية البذخ والسحر، فكانت أقرب الى الخيال منها الى لوحات انطباعية .
في هذه  المرحلة من الصراع وسط البحر يبدأ باي بتسجيل مذكراته عن المشاق التي بدأ يواجهها دفاعا عن وجوده وحياته وعن حقيقة الاله الذي لم ينسه في خضم هذه المحنة، بل بقي يبحث عنه ، وفي لحظة عاصفة يجد نفسه يخاطب السماء :" أيها الاله أنا أهبك نفسي،أنا خادمك،أيّا ً كان ماسيأتي، أريد أن أعرف  "
كانت هذه الجملة إختصارا لمحتوى الشخصية الرئيسية التي كانت تبحث عن المعرفة وسط ثقافة دينية متنوعة ومختلفة تتعدد فيها تسمية الأله الذي يعبده البشر وصولا الى الطمأنينة والسعادة .
رحلة التأقلم مع البحر بدأت عندما باي بقراءة كتيب صغيرعثرعليه بين صندوق أغذية معلبة وجده في زاوية من القارب،كان الكتاب عبارة عن مجموعة من الارشارات والنصائح لمن يجد نفسه وحيدا ًفي عرض البحر فكانت تنصحه بأن يبقى منشغلا،وأن يتجنب المجهود الغيرضروري،لذا عليه أن يُشغِل العقل بأوراق اللعب أوالاجابة عن العشرين سؤال الموجودة في الكتاب أوالغناء، بأعتباره طريقة آخرى لرفع الروح المعنوية،وقبل كل شيء أن لايفقد الامل،وفي ذروة الصراع الشرس بينه وبين النمر،  يبدأمرحلة ترويضه ويفلح في ذلك،ليصل الى نتيجة مفادها :"لولا وجود النمر لما شعر بالطمأنينة والسلام".
ثم تأتي عاصفة قوية يجد فيها باي نفسه وكأنه يرى وجه المسيح وسط البرق والرعد والمطروالغيوم الكثيفة والبحر الهائج، فما كان منه إلاّ أن يخاطبه :"أيها المسيح أنا أحتاجك،أيها الاله،اشتقت لكلماتك،أيها الرحيم العطوف ".  . كان باي فرحا جدا ًساعتها،حتى أنه بدأ يخاطب النمر :" أخرج من مخبئك لترى كم هو جميل،إستعد لقد جاء من اجلنا ". .  لكنه عندما يجد النمر خائفا جدا ً يشفق عليه فيبدأ بمخاطبته محتجاً .:" لماذا تخيفهُ، لقد خسِرتُ عائلتي .. انا أستسلم .. ماذا تريد غير ذلك "

الحركة الثالثة
في هذا الجزء  من الفلم يصل باي الى غابة خضراء هي أقرب الى صورة من الخيال منها الى الواقع،بقعة لايتواجد عليها بشر، فقط اشجار وأعشاب وبرك مياه عذبة وأعداد هائلة جدا من حيوان صغيرأليف أسمه السرقاط وليكتشف باي بعد ذلك،أن اشجارالجزيرة ليست سوى أكلة ٍللحوم البشر، وأن كل ماموجود على الجزيرة خلال النهارمن مياه عذبة يتحول في الليل بفعل مادة كيميائية الى حوامض تحلل الاسماك،كما أن صوت حيوانات السرقاط المخيف يدفع النمرإلى أن  يجري هاربا نحو القارب ليبيت فيه طيلة الليل مقابل الجزيرة، وعندما أراد باي أن يأكل ثمرة إحدى الاشجار إكتشف سناً ً بشريا ً داخلها ولم يكن سوى سن إنسان مسكين تائه مثله،وجد نفسه على الجزيرة في يوم ما فأعتقد متوهما ًبأنه سيبقى حيا ًالى الابد في هذا المكان، لكن ماأعطته أياه الجزيرة في الصباح أخذته ليلا .
وكأننا هنا أمام احدى حكايات الف ليلة وليلة لاعلاقة لها بالمسار الواقعي الذي ابتدأت به حكاية الفلم . وهذا جزء أساسي من حبكة الفلم الجمالية التي زواجت مابين الحلم والواقع والذي يلتقي مع طبيعة باي الشخصية الرئيسية للفلم التي تحيا في منطقة متأرجحة مابين الواقع  واحلامه التي تنأى به بعيدا جدا فتتوحد فيها البشرية بأديانها وطقوسها .
 يواصل باي حديثه للكاتب الكندي فيقول :" لم احتمل أن أموت رغم الوحدة التي سأقاسيها،لذا كان علي أن أعود الى العالم أو الموت مُحاولا ً". ليكتشف  بعد تجربة السِّن الذي عثرَ عليه،أنَّ الاله حتى بعدما تخلى عنهُ كان يراقبه ويدعمه،وعندما كان قد فقد الأمل بالنجاة أعطاه الدعم وأعطاه إشارة لكي يتابع رحلته. 
يصل باي بقاربه إلى الساحل المكسيكي خائرالقوى،وينزل النمر بهدوء على رمل الساحل متجاوزا ً باي المطروح على الساحل ،متجهاً نحو الغابة دون أن يلتفت إليه، وليختفي إلى الابد، ولم يتسنى لباي توديعه هو الآخر كما حصل مع بقية افراد عائلته.
وما أن يصحو من غيبوبته بعد أن يتم العثورعليه من قبل الصيادين حتى يبدأ في البكاء كما لوأنه طفل صغير ضائع وليس ذاك الشاب الشجاع الذي واجه البحر والعواصف،لذا يقر باي أمام ألكاتب بما كان والده قد قاله له:" النمر لم يكن صديقا لك لتقترب منه " جاء حديث والده هذا بعدما كان باي قد تسلسل دون علم والده برفقة شقيقه الاكبر،وذهب الى قفص النمرفي الحديقة، محاولاً إطعامه قطعة لحم، فأمست المسافة قريبة جدا بينهما  وأمسى الموت قريبا جدا منه كذلك . .
ماترك فيه من أثر مؤلم هو:عدم وجود فرصة لقول كلمة ،وداعا، "أنا أشعر بالألم لأنني لم أتمكن من شكروالدي على كل ماتعلمته منه،ولأخبره أيضا ،أنني بدون دورسه التي علمني أياها  لم اكن لأنجو أبدا ً، أعلم أنه ليس سوى نمر، لكنْ ، كنت أتمنى أن أقول له شكرا ًلقد نجونا ، شكرا لك لانقاذك حياتي ، انا احبك، ستكون معي، لكنني لاأستطيع البقاء معك "
كثافة الجمل الاخيرة هذه تحمل جوهرالافكارالانسانية العميقة التي حملها خطاب الفلم،بدعوته الصريحة الى المحبة العميقة بين بني البشر رغم تعدد اديانهم،ولن تكون عقائدهم المقدسة عائقا لتفاعلهم وتواصلهم مع بعضهم ومع كل الموجودات التي تحيط بهم إذا ما ولدت الرغبة الحقيقة والصادقة الى ذلك ولن تمنعهم أديانهم من العيش معا متألفين منسجمين حتى وإن كانت لاتتشابه مع بعضها في تسمية الاله والطقوس التي يتعبدونه فيها فالذات الانسانية أوسع من أن تكون سجينة فكرة واحدة .
الحركة الرابعة والاخيرة
في هذاالجزء يصل وفد مؤلف من شخصين يمثل الشركة اليابانية المالكة للسفينة التي غرقت الى المستشفى المكسيكي الذي يرقد فيه باي لمعرفة ماجرى. . وبعد أن يستمعوا لتفاصيل القصة التي يرويها لهم باي بكل تفاصيلها التي حدثت لم يصدقا ماسمعاه، وأعتبروا كلامه خاليا من المنطق :" نحتاج الى قصة أبسط ". لذا طلبوا منه أن يحكي لهم قصة أخرى اكثر قبولا ومعقولية لدى المسؤولين في الشركة عندما يرفعا التقرير إليهم،   ومابين دهشته من هذا الكلام وحزنه العميق على عائلته التي فقدها،لم يجد بدا ًمن تأليف حكاية أخرى لاتقل غرابة عن الاولى تتوفر فيها تفاصيل مؤلمة تحكي عن وحشيةالبشروقسوتهم ومايمتلكونه في داخلهم من عنف ورغبة في القتل عندما يوضعون في ظرف ما،فبدت هذه القصة معقولة ومقبولة لدى وفد الشركة .
وبعد أن ينتهي باي من سرد حكايته للكاتب الكندي يلتفت اليه ليقول له :"
أخبرتك قصتين، فمالقصصة التي تفضلها أنت ؟ .فيجيب الكاتب بعد أن يذرف دمعة على خدِّه :"إنها القصة الاولى . 




















86
عرض كتاب

سينما الواقع ..دراسة تحليلية في السينما الوثائقية
للناقد كاظم مرشد السّلوم .





                                                                                                                       مروان ياسين الدليمي

السينما الوثائقية شكل تعبيري جاء حضوره مبكرا مع بداية الفن السينمائي عبّر من خلاله الرواد الاوائل عن رصدهم لجوانب وصور من الحياة اليومية، فكان هذا النمط الفني في مقولاته الجمالية متصدياً للواقع المعاش بكل صوره المرئية.وباتت الافلام الاولى التي تم انتاجها على يد عدد محدود جدا من المغامرين امثال فيرتوف وثائق تاريخية تضاف الى بقية اشكال الوثائق الاخرى كالصحيفة والكتاب والمخطوطة عادة  مايعود اليها الدارسون من اجل قراءة جوانب معينة لفترة زمنية محددة . وباتت تتعاظم اهمية الافلام الوثائقية يوما بعد آخر لدى عموم المتفرجين اضافة الى اهميتها لدى الدارسين..عن هذا الشكل السينمائي جاء الاصدار الجديد "سينما الواقع دراسة تحليلية في السينما الوثائقية "  للناقد السينمائي العراقي كاظم مرشد السّلوم، وقد صدر في نهاية العام 2012 عن دار ميزوبوتاميا بالاشتراك مع مكتبة عدنان للطباعة النشر والتوزيع ودارأفكار للدراسات والنشر. . تقديم  الكتاب جاء بكلمة تحت عنوان ( الفكرة لا الحبكة ) كتبها د. عقيل مهدي عميد كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد ،يقول فيها :" بخلاف الحبكة الروائية،والعالم الموازي التخيلي،الذي يمكث فيه الفلم الروائي إزاء الواقع تنتظم عناصر الفلم الوثائقي بصورة موثقة للواقع الموضوعي المعاش نفسه بمنهجية علمية تنشد الجمال بطريقتها الخاصة في التعبير الفني من خلال الفلم بوصفه خطابا عن افكار المخرج المتفاعلة مع العصر وإعلاء اللحظة اليومية المعاشة الى مستوى تأريخي مستقبلي ببراعة صنعته التقنية،فالمخرج يوظف ثقافته الخاصة بإطارها الاجتماعي والحضاري والمادي بعدأن امتلك الحرفة السينمائية ولغتها المميزة ومادتها الواقعية في فلمه الوثائقي" . .
فهرس الكتاب تضمن اربعة فصول سبقها مقدمة قصيرة بأربعة صفحات  بقلم المؤلف قدم فيها فكرة موجزة عن طبيعة هذا الجنس السينمائي مع ماجاء من تعريفات مختلفة على لسان ابرز من قدم هذا النوع من الافلام مثل جريرسون رائد السينما الوثائقية الذي يقول عن الفلم الوثائقي بأنه   :"معالجة الاحداث الواقعية الجارية بأسلوب فيه خلق فني " . كما لايفوت المؤلف أن يذكر تعريفات اخرى وردت على لسان نقاد اخرين مثل هيلا كولمان ومنى الحديدي،ليصل بالنتيجة الى تثبيت فهمه الخاص للفيلم الوثائقي يؤطره في تعريف محدد :" شكل متميز من النتاج السينمائي يعتمد بشكل اساسي على العلاقة بين صانع الفيلم والواقع الحقيقي،من خلال رؤيته وتحليله للواقع باعتماده شكلا فنيا في تناوله لهذا الواقع ". ويتوقف السَّلوم امام التعريف اللغوي لكلمة الواقع المشتقة من الفعل (وقع ) الشيء، ومنه يقع وقعاً ووقوعاً.. الخ ليصل هو الى التعريف الاقرب كما يتصور في اطار موضوع الكتاب هو  :"المادة الاساس المتوافرة في المعطى الحياتي والذي يتم توظيفه بكيفيات وآليات متنوعة داخل بنية الفيلم الوثائقي ليصبح الواقع بمظاهره الفيزياوية انعكاسا فنيا ً وتمثلا لصوره الفيزيائية ".
الفصل الاول يبدأمن صفحة ( 15- 43  )وقد جاء تحت عنوان "فلسفة الحقيقة والواقع في الافلام الوثائقية". هذا الفصل يتناول مفهومي الحقيقة والواقع في اطار الفلسفة على اعتبار أن صانع الفلم هنا عندما يتناول الواقع يقصد اظهار أوالوصول الى الحقيقة وفقاً لقناعة فلسفية ينطلق من خلالها في رؤيته لهذا الواقع الذي هو "مرجع الحقيقة، فكل ماهو واقعي هو حقيقي " . ويشير السلوم في هذا الاطار إلى أن "السينما الوثائقية من حيث المبدأ هي وثيقة عن الحياة والواقع تتجسد مادتها عن طريق العكس أو التصوير المباشر لهما ". كان من المنطقي أن يمر مسارالسينما الوثائقية بتحولات مهمة في المفاهيم في مايتعلق بعلاقتها وتعاملها مع الواقع فيذكر المؤلف في هذا الفصل اتجاهان حكما هذا التطور في المفهوم :" الاتجاه الاول يرى أن "السينما التسجيلية مرآة تعكس الواقع من دون تدخل المخرج أو الممثل وعبّر عن هذا الاتجاه منظرون كبار مثل الالماني (زيغفريد كراكاور والفرنسي انريه بازان) والاتجاه الثاني ينظر الى الواقع لابوصفه هدفاً بل كطريق للوصول الى الهدف وهو التعبير الفني عن الواقع من قبل الفنان ولكن من خلال مادة الواقع نفسه التي تُستخدم كوسيلة وليس كغاية بحد ذاتها وابرز منظري هذا الاتجاه هو المخرج دزيغا فيرتوف ". وهنا يذكر المؤلف مثالا مهما عندما قامت احدى الشركات السينمائية بتكليف 11 مخرجا من 11 بلدا لعمل فيلم من 11 دقيقة عن حادثة الحادي عشر من سبتمبر كل بمفرده وبحسب رؤيته للحدث تاركة لهم حرية الاختيار وبحسب تجربة وحس وخلفية المخرج الثقافية والتاريخية والفنية".
الفصل الثاني من الكتاب جاء بعنوان "الانواع الفلمية للسينما الوثائقية وأشكال تناولها للواقع ".وفي هذا الموضوع يورد الكتاب تصنيفيا نوعيا متنوعاً ومتعددا ومختلفا لعدد من المخرجين الكبار في عالم الفلم الوثائقي، ولكن على الرغم من هذا التنوع في التصنيف لكن هنالك مشتركات واضحة كما حددها رائد السينما الوثائقية جون جيريرسون وهي :"المستوى الاول وهو مستوى ادنى ويشمل الجرائد والمجلات السينمائية والافلام التعليمية والعلمية وهي تفتقر الى البناء الدرامي وتعتمد على الوصف والعرض حيث تعتمد على الاستطراد . والمستوى الثاني وهو مستوى أعلى يُطلق عليه الافلام الوثائقية وتقدم خلقا فنيا يمكن أن يبلغ مراحل الفن العليا وابراز المغزى الذي ينطوي عليه خلق هذه الاشياء ". ويستعرض الكتاب في هذا الفصل الاسس التي يقوم عليها الفيلم الوثائقي في تناوله للواقع وهي : المقابلات الشخصية،الارشيف،استخدام الممثلين،الصورالفوتوغرافية ،الرسائل والمذكرات،استخدام برامجيات الحاسوب. .كما يتطرق ايضا في هذا الفصل الى عناصر تناول الواقع في الفيلم الوثائقي والتي هي: 1- السرد الفلمي ( موضوعي وذاتي ) وتكون آلة التصوير هي الاداة الرئيسية في السرد ". ويقول المؤلف هنا:"السرد في الفلم الوثائقي يعتمد على النقل المباشر ومتابعة الفعل في فضاء المكان وهذا مايجعله حريصا على اعتماد الحاضر في نقل الاحداث من دون الغور في ارتدادات ذاتية قد تمثل وجهة نظر صانع العمل أكثر من الشخصيات المشاركة في الفيلم " 2-التصوير 3- المونتاج 4- المكان 5- الزمان 6- الصوت (الموؤثرات الصوتية +الحوار واللقاءات +الموسيقى +الصمت )7- الشخصيات . . كما يستعرض هذا الفصل صورة أو شكل البطل في الفلم الوثائقي وهوبالضرورة " ليس شرطاً أن يكون شخصية بل من الممكن أن يكون المكان والدافع بكامل شخوصه ". وهنا يشير المؤلف الى النقاط الثلاثة التي حددها كارباج لاختيار البطل في الفيلم الوثائقي وهي :"1- وضوح الحالة إذيتوجب على صانع الفلم أن يتمكن من توضيح القضية وافهامها للبطل ليعرف من اين يبدأ ،  2- العلاقة الحميمة، فكلما كانت العلاقة اكثر حميمية مع البطل نتج عن ذلك بوح بخفايا الموضوع ،3-  الصّبر ،ويعني أن يمتلك صانع العمل الصبر في الاستماع والتوغل في عينة البحث .
ويتطرق هذا الفصل ايضا الى أتجاهات الفيلم الوثائقي وهي : الاتجاه الواقعي ، الرومانسي ،السمفوني ،أتجاه السينما عين . . . ويصل المؤلف في هذا الفصل الى التطرق لموضوعة الاشكال الاساسية التي يتم من خلالها تناول الواقع فنيا في بناء الفلم الوثائقي وهي : الشكل الاول :إعادة بناء الوثيقة (إعادة بناء الحدث ) الشكل الثاني : الملاحظة الطويلة في متابعة جميع مايحدث امام الكاميرا من دون انفقطاع . لمدة طويلة من الزمن . الشكل الثالث : المعايشة والتخطيط قبل الشروع في عملية التصوير. الشكل الرابع : السينما عين ،وقد ارتبط هذا الشكل الاخير بتجربة (دزيغا فيرتوف ) .
يأتي الفصل الرابع تحت عنوان (السمات الجمالية للأفلام الوثائقية ) ليشير الى حقيقة اساسية تؤكد" امتلاك السينما للتأثير الجمالي منذ لحظة ولادتها وقد ضمن لها هذا التوجه الجمالي القدرة على التأثير لأن النتاج الفني الخالي من التأثير الجمالي يبقى في حدود المنفعة المباشرة ". وبعد أن يستعرض الكتاب مفهوم الجمال فلسفيا ونفسيا يتطرق الى طبيعة ماجاء به المؤسسون الاوائل للفلم الوثائقي من مفاهيم جمالية حيث عدّالبعض منهم أن التعامل مع بعض عناصر اللغة السينمائية انما هو تدخل في الواقع الذي تشتغل الافلام الوثائقية عليه خاصة بعد التوصل الى مفاهيم ثورية في فن المونتاج الذي منح اللقطات معنى آخرعند ترابطها مع بعضهااضافة الى الافادة الكبرى من التطور الحاصل في الات ومعدات التصوير والذي اضاف كما يشير الكتاب الى الافلام الوثائقية الكثير من السمات الجمالية لذا لم تعد وظيفة الفلم الوثائقي نقل الواقع بقدر ما تعدى ذلك الى خلق عالم جديد انساني حقاً . ثم يتعرض الكتاب الى الفروقات الجمالية مابين الفلم الوثائقي المنتج للتلفزيون والفلم الوثائقي المنتج للسينما فمنها ماله صلة بالفرق بين حجم شاشة العرض ومنها مايتعلق بخصوصية العرض في صالات السينما عنه في البيت ومنها مايتعلق بأهتزازات الكاميرا في الفلم الوثائقي والتشوهات في الصورة والتي تعد سمات جمالية خاصة به تأتي من طبيعة الاثارة التي تحدثها لدى المتلقي بسبب من مصداقية مايجري امامه كما إن عدم الاهتمام بالموازنة داخل الفيلم يعد ايضا سمة جمالية وفارقا كبيرا بينه وبين الفلم الروائي كما أن المؤثرات الصوتية الطبيعية والحقيقية هي ايضا سمة وخاصية جمالية للفيلم الوثائقي،وهنا لايفوت المؤلف الاشارة الى الفلم الوثائقي الذي يستخدم الممثل ويطلق عليه ( الدوكودراما ) وبداية ظهور هذا النوع في فيلم ( المانيا تحت الرقابة ) للمخرج البريطاني روبرت بار،والذي يرى أن :"استخدام الممثل في السينما التسجيلية يمثل نوعاً من الاثراء للافلام التسجيلية".
أما الفصل الرابع من الكتاب فقد جاء تحت عنوان ( التطبيقات ) ويقول السّلوم هنا :"حاولنا في هذا الفصل اختيار عينات تمثل اشكال متنوعة من عملية تناول الواقع في الفيلم الوثائقي ....." وقد اختار السلوم اربعة افلام يراها نماذج معبرة ومتنوعة عن الفلم الوثائقي والافلام هي : (الارض) للمخرج الستر فوتريل وهو من انتاج ال بي بي سي . وفلم (القرار الاخير) للمخرج أنور الحمداني . والفلم الثالث هو (أبيكليبس ) أو الحرب العالمية الاولى وهو من انتاج ال بي بي سي والفلم الرابع والاخير ( عالم الطيور ) وهو سلسلة تقارير شاملة عن حياة الطيور وهو من انتاج مايك سيبليري .
ينتهي الكتاب بخاتمة استخلص فيها المؤلف اشكال واسباب التنوع في الفيلم الوثائقي والتي يجملها في اربعة نقاط  :"1- شكل المعايشة 2-شكل الملاحظة 3-شكل البناء المونتاجي 4-شكل اعادة بناء تمثل الواقع  .
عموما الكتاب اضافة مهمة للمكتبة السينمائية التي تفتقر الى دراسات تتسم بالجهد البحثي الذي تتوفر فيه الاشتراطات العلمية ،والسلوم ناقد سينمائي من مواليد بغداد يحمل شهادة ماجستير سينما من جامعة بغداد كلية الفنون الجميلة وعضو في اتحاد الادباء والكتاب العراقيين ونقابة الفنانين واتحاد السينمائيين ونقابة الصحفيين ورئيس ملتقى الخميس الابداعي في اتحاد الادباء والكتاب العراقيين ويكتب النقد السينمائي في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية، وفي مسيرته الفنية ثلاثة افلام تولى اخراجها وهوالان يعمل معداً للبرامج الثقافية في القنوات الفضائية . 



87


رواية .. ألعَار
             
للكاتبة البنغلاديشية تسليمة نصرين






                   التَطهُّر مِن جَحيم ِالعُنف الطائفي



                                            مروان ياسين الدليمي

توطئة ..
اثارت هذه الرواية عندما صدرت عام 1992 رد فعل عنيف جدا تجاه الكاتبة تسليمة نصرين من قبل جميع الاوساط الدينية والاحزاب الاسلامية المتطرفة في بنغلادش،إلى الحد الذي خصص أحد الاثرياء مكافاة نقدية  ثمينة لمن يقتلها. وبناء على ذلك وجدت نفسها تقف أمام القضاء للمحاكمة ،لكن تداعيات القضية دفع العديد من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان وحرية الرأي والتعبيرللوقوف الى جانبها،ولتتمكن بعد ذلك من الهرب خارج البلاد واللجوء الى النرويج.واشكالية هذه الرواية تعود الى ماأقدمت عليه الكاتبة من نقد قاس ٍ للفكر والعنف الطائفي الذي باتت تشهده بنغلادش منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي من قِبل مجموعات اسلامية متشددة .وخصوصية هذا العمل وحساسيتة جاءت من أختيار الكاتبة  لعائلة هندوسية ـــ وليس عائلة مسلمة ــ تقع عليها تبعات العنف الطائفي، فبدا ذلك للجماعات الاسلامية المتطرفة إستفزازا ً وانحيازا ًصارخا ً للهندوس ضد المسلمين ــ خاصة وأن الكاتبة إمرأة مسلمة ــ ليصل الامر بهم الى أعتبار ذلك ارتدادا واضحا وصريحا من قبل الكاتبة عن الدين تستحق بموجبه القتل .

المقولة المعمارية للنص .
ظاهرية الزمن في البناء السردي للرواية إنزاح الى محاورة تتأرجح مابين ديمومة البناء الواقعي والتعديل بأتجاه كسرالمسارالكلاسيكي للبناء وذلك بالعودة الدائمة الى الماضي ،من خلال ذلك كانت نصرين تعبُر بالسارد الى تبادل المواقع مابين الحاضر والماضي ، ليصبح السرد هنا ميدانا لتشكيل بنية الحكاية الواقعية في مخيلة المتلقي ، خاصة أن النص الروائي قد ضُخت اليه تنصيصات تاريخية متعددة كان الهدف من أستحضارها وبثها ضمن المتن الحكائي:استجماع تحققات ٍحدَثية ٍبأرقامِها وتواريخها لتحييد التزييف والتلفيق في الخطاب الفكري الذي يبثه النص،فتم الكشف من خلالهاعن مفاصل واقعيةعمّقت أرضية العنف التي تستدير حولها احداث وشخوص الرواية،ومالم ترد تلك التفاصيل بارقامها وتواريخها ماكان بالامكان إحداث هذا الوخز المؤلم في الضمير لدى القارىء خاصة وان الهدف من ولوج عالم السرد الروائي بطاقته التخييلية لمعالجة هذه الموضوعة من قبل المؤلفة لم يكن الهدف الرئيسي منه الاستغراق في منطقة البناء الفني والانشغال الجمالي في تحقيق مقولات معمارية تتواجه مع نوايا التحديث والتجديد في اطار الخطاب الشكلي للبناء الروائي ، بقدر ما كان الهدف الذي ارتبطت به أحلام الكاتبة هو الوصول الى مخطوطة روائية تتقصد من خلالها ممارسة نوع من الضغط الصريح والادانة القاسية للعنف الطائفي ،عبر لغة فنية تستعيرمن بنية الخطاب الروائي منطوقا معاصرا ًلايخرج عن معمار الذاكرة الواقعية في سياقها العام  .


مناظرة الواقع التاريخي
لاننا في إطار اهتمامنا ومتابعتنا للنتاج الروائي بقينا عند عتبة الادب الاوربي ومن ثم ادب اميركا اللاتينية بعد ذلك ولم ننعطف بأتجاه ماتنتجه المخيلة السردية الاسيوية( الصين ،اليابان ،شبه القارة الهندية ، الفلبين ، تايلند الخ ..) ،بقيت اجوبتنا ناقصة ولاتعكس في تجاذباتها الجدلية معنى وشكل المنظورالسردي بأوسع وأعمق صورة تقتضيها مقاييس الرؤية النقدية لمجمل الانتاج الروائي العالمي. مع أن التناظر السردي الاسيوي فيه الكثيرمن التفاوت والقص الذي ينبغي إستكشافه والاطلاع عليه ..
رواية العار للكاتبة البنغلاديشية تسليم نصرين هي نموذج للسرد الروائي الواقعي بسماته المرئية،ويتأمل في مزاعمه الفنية التي تأطر بها،واقعا معاصراً تعيشه بنغلادش بكل تفاصيله حتى هذه اللحظة،وقد أرتأت نصرين أن تطلق العديد من الارقام والاحداث والوقائع داخل النص باعتبارها وثائق تاريخية لتمكن القارىء من إعادة صياغة الاحداث حتى تصل الى ماكانت تخطط له من كشف ملابسات مؤلمة وفجائعية لتاريخ دموي يخضع لسلطة التخندق الديني بكل اشتباكات العلائق الاجتماعية داخل المجتمع البنغلاديشي الذي تأسس مع ظهور دولة بنغلادش عام 1971 "بعد نضال وطني وقومي طويل ،مُستقلة ٍ بذلك عن باكستان التي كانت بدورها قد حصلت على الانفصال عن الهند عام 1947 ."
ورغم ان دستورالدولة الجديدة يقوم على مبادىء علمانية ترفض التمييز أو التفريق بين المواطنين بسبب الدين أو الاعتقاد إلاّأن الواقع على الارض كان يكرِّس تصنيفا وعنفا طائفيا ، وفّر له الفقروالجهل والدكتاتورية مناخا ملائما للظهوروالشيوع، فلم يعد للعلمانية من وجود إلاّ في سطور الدستور.  .
رواية العار تبدأ من لحظة دراماتيكية معاصرة كانت قد عصفت بالبلاد في 6 ديسمبرعام 1992عندما هدم المتطرفون الهندوس في الهند مسجدا يعود تاريخ بنائه الى 400 عام . ليبدأ بعدها تاريخا وحشيا من العنف الطائفي المتبادل بين المسلمين والهندوس في القارة الهندية عموما  ولتنال  بنغلادش نصيبها كبيرا ً منه  .
الرواية تتمحور احداثها حول مصير عائلة هندوسية بنغلاديشية وما ينعكس عليها من احداث ووقائع مؤلمة نتيجة عجلة العنف الطائفي التي تدور رحاها في البلاد،وتتألف  شخوص العائلة من الاب سودهاموي والأم كيرونموي والابن سورنجان والابنة مايا،ورغم الهوية العلمانية والانتماء الايدولوجي الماركسي الذي تدين به هذه العائلة لكنها لم تستطع أن تتفادى هذا العنف .
سورنجاي الابن يخاطب والده سودهاموي :"مهما قلنا أننا ملحدون ،أو اننا إنسانيون،هؤلاء الذين في الخارج سيقولون أننا هندوس، سيقولون أننا أولاد حرام.كلما أحببناهذا البلد،كلما فكرنا أنه وطننا، كلما أجبرونا على الانحناء في الاركان .. كلما أحببنا أناس هذا البلد، كلما عزلونا .. لانستطيع أن نثق فيهم ياأبي . أنت عالجت الكثيرين منهم بدون مقابل ، ولكن كم منهم أتى ليقف بجانبك في محنتك ؟ عاجلا ً أو آجلا ً سوف نُدفَعُ جميعا تحت أحد الجسور لنموت . أبي ، دعنا نذهب ... دعنا نذهب .. "
ثم يأتي الحدث الاساس الذي تتمحور حوله الرواية عندما يتم  اختطاف الابنة مايا من داخل البيت وأمام مرأى الاب والام من قبل مجموعة اسلامية متطرفة تقتحم الدار وتبدأ بتحطيم كل الاثاث المنزلي قبل اختطاف البنت : " بجنون ووحشية واصَلَ الشبان تدمير ممتلكات آل دوتا . أفراد الأسرة العاجزة والصامتة راقبوا بيتهم وهو يتحول إلى خراب ..ثم إنفكَّ سحرالصمت عنهم عندما أمسك أحد المعتدين الابنة مايا .. صرخت أمها في رعب وتأوه وسودهاموي المريض . في محاولة يائسة للنجاة أمسكت مايا بيد السرير . جرت أمها وألقت بنفسها فوق أبنتها في محاولة مستميتة لحمايتها . ولكن المعتدين القساة جروا كيرونموي من فوق إبنتها وخلصوا قبضة مايا عن السرير ورحلوا بنفس السرعة التي جاءوا بها ، حاملين معهم الجائزة التي فازوا بها . إستعادت كيرنموي نفسها وجرت وراءهم تصرخ وتتوسل :- ارجوكم اتركوها ، ارجوكم اتركوا ابنتي ." 


بعد هذا الحدث تبدأ رحلة البحث اليائسة عن مايا  من قبل سورنجان( الابن) من خلال رحلة البحث هذه واثنائها التي يتوغل فيها بين الازقة والشواع والييوتات الخلفية التي اكتست بكل مظاهر العنف إبتدا ً من الاستيلاء على البيوت وتهجير السكان  الى حرق مصادر الرزق والاستيلاء على المزارع والحقول واغتصاب النساء وقتلهن يصل المطاف بسورنجاي الى لحظة درامية يتحول فيها هذا الشاب الثوري العلماني الذي ورث هذه الافكارعن والده الطبيب الى متطرف هندوسي هو الاخر يؤمن مرغما بالعنف كوسيلة وحيدة للرد والدفاع عن النفس وعن الانتماء الديني الذي لم يكن خاضعاً لمعرفيته التاريخية والايدلوجية ، سورنجاي :"كل هذا لغو وهراء . فريق يقتحم الميدان بالسكاكين والفؤوس بينما الفريق الآخر يرد بأصوات مرتفعة وأياد عزلاء . هذا لن يجدي .الفأس يجب أن يقاتل الفأس . من الحماقة أن نواجه سلاحا ً بأيدي عارية . "
هناتعمد الكاتبة إلى : صياغة لحظة مفارقة لشخصية الابن،وذلك من خلال مشهد يتم بناؤه بشكل مُعبّر إذ يجمع فيه سورنجاي كل ماتحويه مكتبته من كتب ومصادر معرفية كانت زاده في تأسيس مفاهيمه المعتدلة ويحرقها ، لتلتهم النار ماركس و طاغورو لينين وكل الاسماء التي صاغت فكره العلماني المترفع عن التخندق الديني والقومي الذي يؤرخن الواقع البنغلاديشي المعاصر بكل حساسية وتوتر .
ولكي ترسم نسرين تأويلها المتشائم بقصدية واضحة للواقع الذي إستندت الى أحداثه وشخصياته ورموزه السياسية الواقعية نجدها تأخذ شخصية الاب( الطبيب) المتقاعد سودهاموي الى لحظة ينهزم فيها جسده أمام رهان التفاؤل والاعتدال الذي ظل يؤمن به طيلة حياته كبرهان ٍوحل ٍلمعظلة التطرف الذي يتلبس وعي المجتمع البنغلاديش ، وليسقط جسده صريعا ، كمعادل فني لسقوط مفاهيم الاعتدال، أمام عنف الافكار المتطرفة ، ولم يعد قادرا ًعلى تحريك النصف الايمن من جسده ،وبذلك توسّع  نصرين  فصول المأسأة بكل اعتباراتها الانسانية طالما سقطت الفكرة التي ظلت تستجيب للوعي والمنطق عبر شخصية الطبيب التي لم تكن تتردد في مواجهة التباسات التطرف الديني باعمال انسانية يذهب فيها دون مراعاة للمخاطر الى أماكن الطرف الاخر لمعالجة المرضى من الفقراء دون مقابل من غير أن يتوقف أمام الانتماء الديني والعرقي،بل إنه كان سارحا بخياله واحلامه بعيدا عن عتمة الواقع : " كنت اقول أهدموا كل بيوت العبادة الى الاساس ، ولنبن مكانها حدائق ومدارس للاطفال. من اجل خدمة الانسان فلتتحول دور العبادة إلى مستشفيات وملاجىء للايتام ومدارس وجامعات ،إلى معاهد للعلوم والفنون والحرف اليدوية ،إلى حقول أرز خضراء تغمرها الشمس ، وأنهار زرقاء متدفقة وبحار صاخبة . فلتطلقوا أسما ً آخر على الدين وهو الانسانية " 
الطبيب سودوهامي الذي يمثل الطبقة الوسطى بكل حيويتها ووعيها الوطني كان مُصِرَّا ًعلى عدم مغادرة وطنه بنغلادش رغم فقدانه لكل ماكان يملكه من بيت فخم  واراض زارعية كان قد ورثها عن اجداده الذين ولدوا عاشوا في هذا المكان،ولم يشفع له اعتداله ولاعلمانيته في تفادي التهجيرمن منطقة سكناه التي ولد فيها .
ورغم ماكان قد تعرض له قَبل عشرين عاما من حادثة خطف وتعذيب على يد المتطرفين الاسلاميين مما تسبب له بعجز جنسي دائم إلاّ أنه ظل على إيمانه في أن هذا هو وطنه ولن يغادره ، لكنه في آخرالمطاف يرضخ لما ترسخ في قناعة الابن بضرورة مغادرة البلاد الى الهند خلاصا من هذا العذاب الذي اخذ منهم الابنة الجميلة مايا ،ابنة الاربعة عشرعاما والتي عثر عليها فيما بعد جثة هامدة تطفو فوق سطح مياه نهر براهما بوترا . يقول له الابن سورنجان في ختام العمل  :"مهما قلنا أننا ملحدون ،أو إنسانيون ،هؤلاء الذين في الخارج سيقولون أننا هندوس، سيقولون أننا أولاد حرام .كلما أحببنا أناس هذا البلد كلما عزلونا .لانستطيع أن نثق فيهم ياأبي . أنت عالجت الكثيرين منهم بدون مقابل ، ولكن كم منهم أتى ليقف بجانبك في محنتك ؟ عاجلا ً أو آجلاً سوف نُدفَعُ جميعا ً تحت أحد الجسور لنموت . أبي ، دعنا نذهب .. دعنا نذهب .."


88

الاسلام السياسي والسلطة .


                                                                                                مروان ياسين الدليمي / العراق
                                                                                               Yassinmarwan813@yahoo.com 

وانت تتأمل صورة المجتمعات العربية بعد سقوط عدد من رموز أنظمتها السياسية خلال العامين الاخيرين (2011 و2012)تجدها في مجمل تفاصيلها تبعث على القلق والتشاؤم بقدر ماتبعث على التفاؤل ،خاصة بعد أن صعدت على مسرح الاحداث قوى دينية سلفية باتت تمسك السلطة على أنقاض سلطة كانت تحمل صبغة علمانية بشكل أو بآخر .
مالذي جعل المجتمع يدفع بهذه القوى الى واجهة المشهد السياسي بعد أن كانت الى حدما غير معنية بعملية التغيير الثوري للانظمة انطلاقا من ثوابت عقائدية تؤمن بها إيمانا ً راسخا ً تمنعها من الخروج على الحاكم، بأعتباره ولي أمر المسلمين وهذا يستوجب الالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة في مخاطبتة عند إرتكابه معصية تجعله يخرج عن جادة الحق والصواب؟ فالحاكم في إطارهذا المنهج ماهو إلا ّ ظل الله على الارض. وتجربة الاخوان المسلمين في مصر خير دليل على ذلك، فهم حتى يوم 25 كانون الثاني /يناير عام 2011 كانوا يرفضون الخروج مع المتظاهرين احتجاجا على النظام القائم بل أصدروا بياناتَ رفض ٍ واضحة تشجب وتدين هذا التحرك، لكنهم بعد أن تيقنوا من سقوط النظام ،خرجوا إلى الشوارع وانظمّوا الى الجموع المتظاهرة .
 هل يعد هذا التحرك جزءاً من ستراتيجية انتهازية يتم اللجوء إليها تجنبا ً لأي احتكاك واصطدام بالنظام القائم ؟ ولكي تتلافى بناء على ذلك عمليات الملاحقة التي قد تتعرض لها ؟ أم أن خروجها جاء نتيجة إدراكها بأنْ :  تعمل وبسرعة لأجل أنْ تسحب البساط من تحت اقدام القوى الجديدة التي تغلب عليها الافكار العلمانية وإنْ كانت معظمها ليست بتيارات مُلحِدة ٍ،بنفس الوقت  خطابها لايحمل هويّة دينية ؟ يبدو أن كلا الاحتمالين وارد ٌ في ماشهدناه من وقائع واحداث .
التحول نحو أسلمَة المشهد السياسي يطرح تساؤلات هامة تنبع من خطورة مايفرضه هذا المتغير خاصة وأن جُل احزاب وحركات الاسلام السياسي  تحمل منهجا ً يغلب عليه صفة التشدد،وهذا يعني أنَّ : قضية الحرية الفردية باتت في خطر،ودخلت في مرحلة الصراع لأثبات وجودها وشرعيتهاأمام ماتطرحه القوى الدينية من حزمة أفكار ٍكلها ترفض وبشكل قاطع ومطلق قضية الحرية .
مجريات الاحداث في المنطقة العربية تشير إلى أننا سنشهد يوما بعد آخر معارك سياسية ساخنة يغلب عليها التشنج والصراخ والتخوين والتكفير مابين الاحزاب الدينية وبقية قوى المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات ومنظمات، وبلا شك سيفتقد هذا الصراع ــ وتحديدا من جانب القوى الدينيةــ الى ابسط القواعد ألا وهي :أحترام الرأي الأخرباعتباره السبيل الوحيد للوصول الى خارطة تفاهمات مشتركة لحل الخلافات والازمات التي تواجه المجتمع،وهذه إشكالية طالما لدى القوى الاسلاموية قناعة جوهرية ثابتة لايمكن أن تتزحزح من أنَّ :النص الديني مُقدَّس   ،وهوالمرجعية الوحيدة في التعامل مع الواقع ،ومن خلاله تتم الاجابة على كل الأسئلة التي يطرحها هذا الواقع مهما تقادم الزمن وجرى ماجرى من متغيرات.ذلك لأن النص ليس زمنيا ً،فهو قبل وبعد وفوق الزمن ، لذلك هو لم يأتي إستجابة وإجابة لحالة معينة بذاتها بقدر ماهو شمولي بجوهره ويتعالى عمّا هو آني وزمني .
من هنا، لاجدوى ولامعنى في قبول أيّة طروحات أخرى تأتي من خارج هذا النص وسيصبح الحوارعقيما ً قبل بدءه طالما أن أحد الطرفين المتحاورين لايؤمن أصلا من حيث المبدأ بفكرة السؤال والبحث عن أجوبة جديدة .
إذن : الاحتقان سيبقى قائما بين الطرفين ،بل سيزداد شدّة وخطورة بينهما وسيدفع بالتالي الى ظهور عوامل أخرى جديدة يغلبُ عليها عامل العنف والعنف المضاد.
ضمن هذه الاشكالية المعقَّدة التي تطرحها البنية الثقافية للمجتمعات العربية المسلمة يصبح عقل الفرد مُعطلا ، كذلك مدركاته مغيّبة وغائبة عن تسجيل الملاحظات التي يكون الشَّك مبعثها منذ بداية وعيه بذاته وبالحياة طالما هو يولد في بيئة كهذه تؤمن إيمانا جازما ًبأن خطابهاالفكري مُكتمِلٌّ ، وبناءً على ذلك يرفض رفضا قاطعاً أي جهد يشمُّ فيه رائحة بحث واستكشاف في ثوابته وملفوظاته، وستلحق بها بالتالي صفة التحريم ،لأن الأجاباتَ والأسئلة َحاضرةٌ وشاخصة ٌوقائمة ٌفي نص أزلي لايقبل الجَدل والنقاش ،خاصة بعد أن كان قد أكتمل التفسير والتأويل على يد مجموعة محدودة من الأئمة المَراجِع في الفترة المحصورة مابين نهاية القرن الاول والقرن الثالث الهجري،لم يتجاوزعددهم أصابع اليد،وكانت خاصية جهودهم تكمن في أنهم : لم يسعوا في تفسيراتهم للأتيان بأي شيء جديد يخرج ويتقاطع مع النص .
من هنا لم يعد من الجائز أمام الفرد المسلم ــ من بعد أولئك المراجع ــ أن يعيد النظر أويتأمل مابين يديه من تفسيرات للنص الديني حتى لو كانت قد جاءته قبل مئات السنين على يد أشخاص عاشوا في ظروف وازمنة أخرى غير التي يعيشها هو ومجتمعه . 
هذا الوضع أوجد قطيعة وافتراقا بيّنَا ً مابين الواقع بكل متغيراته وبين تلك التفسيرات والتأويلات البشرية التي أكتسبت صفة القداسة هي الاخرى بمرورالزمن لدى عموم طبقات وفئات المجتمع العربي المسلم وفي المقدمة منها الحركات والتيارات الاسلاموية.
القطيعة هذه باتت تفرض حضوراً ثقيلا على المجتمعات العربية المسلمة  التي تعيش على الكرة الارضية وليس في كوكب آخر، وهي بذلك جزء من المجتمع البشري، ولاتعيش بمعزل عنه،ولن تستطيع أن تكون بمنأى عنه حتى لو أرادت هي ذلك .
إن رياح التغيير المتبادلة مابين المجتمعات البشرية قائمة منذ أن وجدت رغم ماتفرضه عليها الانظمة السياسية من عزل ٍوابعادٍ بقصد إحكام السيطرة،ولاشك في أنَّ عوامل التأثيرالمتبادل بين الشعوب باتت الان أكثرعمقاً واتساعاً مما كانت عليه قبل مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد أن بدأ البث الفضائي انطلاقته ومن ثم الشبكة العنكبوتيةعلى سطح المشهد الكوني وماتبع ذلك من ثورة هائلة في وسائل الاتصال وتبادل المعلومات والخبرات بين عموم المجتمعات البشرية .
التيارات الدينية السلفية أدركت خطورة مايحصل من تطورات سريعة جدا في عالم الاتصالات والمعلوماتية بعد أن أصبحت تفاصيلها وآلياتها حاضرة في مجتمعاتها،فكان عليها أن تفعل شيئا ما من أجل درء هذا الخطرالذي بات يهدد وجودها وفاعليتها في الحياة مع يقينها الثابت بأن ماتؤمن به كمعرفة لايمكن أن يبقى حاضراً ومؤثراً إلاّ إذا أمسكت بيدها عصا السلطة، فلاسيادة َولاحضورَ ولاهيمنة َلهذه المعرفة إلاّ إذا أمتلكت السلطة.
هذا الاستنتاج توصَلتْ اليه من خلال فهمها لصفحات بعيدة من التاريخ العربي الاسلامي، فلقد سادت افكارالمعتزلة عندما تولى المأمون السلطة ثم سادت أفكار أبن حنبل أيام المتوكل وهكذا كانت السلطة هي التي تحدد تفرض نمط ومحتوى الافكار والعقائد في عقول الناس.
من خلال هذه الرؤية يمكننا التوصل الى فهم مايجري من سعي حثيث ومحموم من قبل القوى الاسلامية في المنطقة العربية للوصول الى كرسي السلطة،من غيرأن نستبعد العوامل الدولية التي تأخذ هي الاخرى أهميتها إذا مانظرنا إلى مايجري تحت الطاولة من تحركات واتفاقات سرية تعقد  مابينها وبين القوى الغربية الكبرى وفي مقدمتها أميركا ،القصد منها : ضمان استمرار المصالح الاقتصادية الغربية في المنطقة العربية مقابل التغاضي عن صعود الاسلام السياسي الى سدة الحكم وعدم الاصطدام به .
إذن نحن الان أمام واقع جديد باتت فيه قوى الاسلام السياسي لاعباً أساسيا ًفي معادلة الصراع العلني على السلطة بعد أن غادرت نهائيا ًالمخابىء والجحورالتي كانت تختبىء فيها لعقود طويلة منذ تأسيها في الربع الاول من القرن العشرين ،هذا المتغير بكل مايحمله من خطورة على الامن الاجتماعي والسياسي، يستدعي العمل حثيثا ً من قبل التنظيمات والقوى المدنية التي تكرس في برامجها تقديس حرية الفرد والمجتمع أنْ : تعمل بكل الطرق السلمية لمواجهة مَدَّ الاسلام السياسي المتشدد منه خاصةً، لوضع حدٍ لطموحاته التي كشف عنها صراحة وعلانية في إقامة نظام سياسي إسلامي مستنسَخ ٍمن الماضي البعيد يُحاكي نظام الخلافة الاسلامية الراشدية التي جاءت بعد وفاة النبي محمد(ص).
إن الاصرار على قيام مثل هذا النظام يعني القفزعاليا وبعيداً عن الواقع بكل مشكلاته وأزماته المعقَّدة والتي تبدأ بحريّة الفرد وتنتهي بحريّة المجتمع مارة ًبمناهج التربية والتعليم والثقافة والفنون والسكن والصحة والزواج والطلاق وحقوق المرأة وووووو الخ .. ونموذج الحكم هذا لايستطيع أن يحتوي هذه القضايا ويضع الحلول المناسبة لها .       


89


الفنانة العراقية د. عواطف نعيم لمجلة إنانا : -


حُلمي أنْ يكونَ لي مُحتَرَفْي الخَاص، حتى أُحَقِقُ فيه ِمَشروعيَ المَسرَحي . 



                                                                                                     حاورها / مروان ياسين الدليمي

لكي تثمر جهود العاملين في ميدان المسرح، في خلق فضاء جيد يتأسس على أنقاض الموروث الفني ، لابد أن يكون في طليعة أدوات التغيير والتجديد ،إرادة شجاعة تمتلك القدرة والتصميم ، مع إصرار كبير، على الاستمرارفي العمل والتفكير الدائم لتطوير آليات الاشتغال الجمالي . وبطبيعة الحال لن تتوفر هذه المواصفات إلاّ في نمط ٍخاصٍ ومحدود ٍمن المبدعين عادة مايُكرِّسون أنفسهم وجُهدَهم لأجل أن يحققوا إضافة مهمة  الى ماجاء به من كان قد سبقهم في سِفر البحث والتجريب عن أزمنة جديدة للدهشة والحضور الانساني الفاعل . والفنانة العراقية عواطف نعيم تقف في مقدمة قافلة أولئك الباحثين عن منصّات جديدة لكي يرتقي فيها الخطاب الجمالي الى المستوى الذي ينصف الانسان  في سعيه الى  قيم الحرية والسعادة والجمال . مجلة إنانا إلتقت بها وحاورتها حول رحلة الفنانة العراقية وهي تخوض غمار الخلق والابتكار في عالم ٍكاد الرجال أن يحتكروه . ُ
* لو اردنا ان نتوقف لنعيد تقييم الدور الذي لعبته العناصر النسوية العراقية في تاسيس الظاهرة المسرحية العراقية ، كيف تجدين أهميته والمساحة التي يبدو فيها واضحا ً ؟ 
- كل ما في الحياة ينطلق من طبيعة المجتمعات البشرية والتي هي بالتأكيد مختلفة في تقاليدها وأعرافها وعاداتها والمرأة العراقية جزء من هذا النسيج الاجتماعي العراقي تزدهر حين يزدهر وتنهض حينما ينهض ، فما بالك والعراق مبتلى بالحروب والخسارات والمحن من حرب إلى حرب ومن فاجعة إلى فاجعة ، ومن نهوض إلى نكوص ، قل لي كيف للمرأة أن تعمل في جو من التخلف والظلامية والتراجع ، هناك نساء رائعات عملن في التأسيس للظاهرة المسرحية في العراق مع رجال مسرح متنورين لكنهن كن أولى ضحاياه وهي تضحية ليست بالهينة ، وهن من كان لهن الفضل في تعبيد الطريق وتحمل تبعات المواجهة والنبز واللمز ، لكي يأتي من بعدهن من يتواصل ويجبر المجتمع أن يحترم الفنانة ويُكن لها التقدير وأن يصبح الطريق مفتوحاً أمام أخريات ويجرأهن لكي يلجن هذا العالم الساحر المدهش والمتعب في ذات الوقت .. السيدة زينب ، السيدة زكية خليفة ، السيدة سليمة خضير ، السيدة ناهدة الرماح ، السيدة فاطمة الربيعي ، السيدة آزادوهي صموئيل ، السيدة ماجدة السعدي ، السيدة سعدية الزيدي ، السيدة هناء عبد القادر ، السيدة مي شوقي ، السيدة فوزية عارف ، السيدة فوزية الشندي ، السيدة سهام السبتي ، السيدة غزوه الخالدي ، هؤلاء سيدات مسرح لابد وأن ترفع لهن القبعات. لقد أسسن مع رجال مسرح متنورين حركة المسرح العراقي. هم أسسوا ونحن نتواصل معهم ، وليس الكم هو المهم بل تلك النوعية الفريدة من السيدات الصابرات الحالمات اللواتي لولاهن ما كان للمسرح العراقي إرثه وتأريخه وعلاماته الفارقة وهذا ليس إدعاءاً أو مبالغة ، بل حقيقة موثقة ، ومؤشرة في تأريخ المسرح العراقي وصولاً ليومنا هذا.
* على صعيد الاخراج والتاليف المسرحي لم نجد حتى الان حضورا مؤثرا ووواضحا للعنصر النسوي باستثناء التمثيل .. الى ماذا يعود ذلك ؟
-هناك أسماء عملت في مجال الإخراج والتمثيل معاً ، علماً أن ميدان الإخراج والكتابة والتمثيل ليست بالميادين البسيطة أو السهلة المنال ، فكل ميدان من هذه الميادين يحتاج إلى قدرة وغنى معرفي وجرأة في المغامرة والبحث ، ولقد كانت التجارب الإخراجية محدودة لدى بعض الفنانات لربما بفعل التخوف من الفشل أو العزوف عن المنافسة في مجال عُدَّ حكراً على الرجال ، ولكن هناك أسماء برزت وقدمت أعمالا مازالت ماثلة في خارطة المشهد المسرحي العراقي الفنانة منتهى محمد رحيم وتجاربها في مسرح الطفل ، الفنانة أحلام عرب وتجاربها في مسرح الطفل ومسرح الكبار ، الفنانة د. إقبال نعيم وتجاربها في مسرح الطفل والفنانة نغم فؤاد وتجاربها في مسرح الطفل ومسرح الكبار ، إذن هناك أسماء وهناك حركة على مستوى الإخراج أما على مستوى الكتابة للمسرح فنجد أيضاً أسماءا مثل السيدة لطيفة الدليمي والسيدة ودادالجوراني وكلتيهما كتبتا للمسرح وإن كان تواصلهما محدود بنص واحد لا أكثر لكل واحدة منهما أخذ طريقه إلى خشبة المسرح العراقي ، المهم والخلاصة أن هناك من حاول ولكن ليس بالطموح الذي نتمناه للمرأة في المسرح العراقي وهذا ليس عيباً فأنك لو لاحظت وتابعت وجود النسوة المخرجات والكاتبات في أرجاء الوطن العربي لرأيت أنهن لا يتعدين أصابع اليد الواحدة سواء في تونس أو المغرب أو الجزائر أو سوريا أو مصر أو لبنان أو الأردن وهي البلدان التي تنشط فيها حركة المسرح. فكيف بالعراق وإرثه الثقيل من الحروب والكوارث والتخلف والنظرة المتدنية لكل ما يمت الى الفن بصلة ولاسيما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق؟!
*انت الان تمارسين الكتابة للمسرح وتم تقديم عدد من نصوصك المسرحية  على الخشبة ، السؤال هنا: هل من قضية محددة تأخذ الحيز الاكبر والاهم وانت تتصدين لكتابة النص المسرحي كأن تكون قضية جمالية او اسلوبية او فكرية ؟
-كثيرة هي القضايا التي تشغلني حين أتصدى لتقديم عرض مسرحي ، فأنا أؤمن أن المسرح مدرسة مسائية للتعلم والتنوير والتحريض ولبث روح المتعة البريئة وهي وسيلة لتأشير مرحلة والإعلان عن توجه فكري جمالي وفني ، لذا يتركز اهتمامي بما يهم الناس ما يشكل أحلامهم ما يعينهم على تخطي واقع الخوف واليأس لديهم ، .المرأة بكل ما في روحها من  ألم وشجن وحلم واسع بالحرية وأن تكون  ..أحب الطفولة ، كيف تفكر لأي شيء تسعى ، كيف نحفظ لها براءتها وعذوبة أحلامها .. أنا أنطلق في الكتابة من ضمير الناس لأني أمثلهم وأتمثل حكاياتهم وأحولها إلى عروض مسرحية تمتلك بعداً إنسانياً وقدرة على مخاطبة الآخر البعيد والقريب من العراق ومن محنه ومآسيه ، أنطلق من عراقيتي أولاً ومما أكتويت به من خوف وإحباط وخيبة أمل وغياب رجاء .. كي يعلم العالم الذي أحلق فوق مسارحه بعرضي المسرحي إن رسالتي بقدر ما تملك من عمق مأساة فأنها تنفخ بروح الأمل وتحمل في طياتها ألق السلام والجمال الحاضر في عروضي المسرحية إذ أتعامل مع الحداثة والجديد والمبتكر في معالجتي الإخراجية لنصوصي المسرحية التي تُعد مشاكسة للواقع وساخرة منه في أحيان كثيرة. هناك أسلوب يمنحني بصمتي في العمل سواء نحو الكتابة أو عند الإخراج وهذا ما يلحظه من يتتبع نتاجاتي المسرحية.
*هناك رأي يقول بأن المسرح في العراق ماهو الا مسرح نخبة لاصلة له بالجمهور وهو الذي يقدم في المهرجانات وينال الجوائز والنوع الاخر ماهو الاّ مسرح سطحي هدفه الاضحاك فقط وهو يخلو من القيم الجمالية والفكرية . وبين هذا وذاك لاوجود لمسرح قريب ومؤثر في الناس ويعبر عن تطلعاتهم واحلامهم . بماذا تعلقين على هذا الرأي ؟
-المسرح في حقيقة أمره نخبوي منذ بدأ خاطب الآلهة وتعامل مع المقدس منذ عهد الأغريق والرومان والمنظرين والمفكرين في المسرح العالمي ، لكنه استطاع أن يكون لجميع الناس النخبة أو العامة لأنه امتلك القدرة على مخاطبتهم والتعبير عن ضمائرهم ، المسرح من خلال عدد من رجالاته ومصلحيه أصبح مفتوحاً وحاضرا ومحببا للناس ورغم أن المسرح في حقيقته وافد بالنسبة للوطن العربي إلا أنه تحول على أيدي بعض من الباحثين والمجتهدين والمولعين بهذا الفن في أرجاء الوطن العربي إلى مسرح عمدوا إلى تأصيله ومنحه الهوية العربية من خلال التراث والتأريخ والأسطورة والميثولوجيا بكل تجلياتها من خلال العروض المسرحية كتابة وإخراجاً. لذا نغبن المسرح العراقي عندما نحدده بمسرح نخبة ومسرح هابط وسطحي ، إذ أن هناك مسرح يقوده مسرحيون يقدمون من خلاله عروضاً فيها من الفكر والفن والمتعة ما يجعلهم يجمعون ما بين النخبة والعامة ، والمسرح العراقي قبل أن يذهب إلى خارج العراق ليختبر قدراته ويعلن عن منجزه الإبداعي يبشر عن ولادته داخل أرض الوطن ، يحصد الربح نجاحاً وإقبالاً جماهيرياً ومباركة نقدية ثم يغادر بعدها متخطياً حدود الوطن. هناك عاملون فاعلون في المسرح العراقي علينا أن لا نتجاهل جهدهم. فالمسرح ألوان وكل حر في أن يختار اللون الذي يناسبه ويشاهد العرض الذي يبتغيه لولا فاعلية هؤلاء لأندثر المسرح العراقي ومع الذين يعملون ويتواصلون بعناد منقطع النظير مع علمهم أن الدولة تغفلهم وأن وزارة الثقافة في شغل عنهم ، وأن البنى التحتية خربة وليس ثمة جديد ينبئ بفضاء مضاف أو محور أو منجز لأحلام المسرحيين وهي كثيرة لكنها مقيدة بما هو معطى وممكن ومتاح ومسموح به ، مع وجود كل هذه الثوابت الدينية والأمنية والاجتماعية الجديدة بفعل الاحتلال الأمريكي وتداعياته!!
*الاتجدين ان المسرحيين في العراق يتحملون مسؤولية كبيرة في هذا التباين القائم مابين العروض الضعيفة ــمن الناحية الجمالية ــ التي تقدم في المحافظات مقارنة بتلك العروض التي تقدم وتنتج في بغداد .. خاصة بعد مضي اكثر من مائة عام على تأسيس المسرح في العراق ؟
-العروض المسرحية العراقية التي تقدم في بغداد والتي تقدم في المحافظات تخضع إلى معايير جمالية وفنية وفكرية وهي بالتالي تعبير عن مخيلة الفنانين الذين يقودون تلك العروض سواء التي تقدم داخل بغداد أو في محافظات العراق ، ولكن المعطى في المحافظات هو بالتأكيد قليل ومحدود إزاء المعطى لفناني بغداد ، لكن هذا لا يمنع من وجود عروض مسرحية في المحافظات ولاسيما تلك التي فيها فنانون متميزون ، وميزة تلك العروض أنها مؤثرة وتدل على قدرة عالية ولاسيما على مستوى الأداء والإخراج كما هو الحال في محافظة البصرة والحلة والناصرية. المسرح لا يقاس بعدد سنواته بل بقدرات وتميز مبدعيه والمهتمين به والمفعلين لحركته وبالظروف المحيطة بالعمل ذاته.
*انا لم اجد في العراق حتى الان مايشير الى انه قد طرح المسرحيون فيه فكرا ونظريات مسرحية يمكن أن تخلق وعيا جديد يحمل أفكاراً ومناهج جديدة رغم أن هنالك العديد من الذين أصبحوا الان  يحملون شهادات عليا سواء ماجستير أو دكتوراه . فماجدوى هذه الشهادات إذا لم تأتي بشيء جديد كما هو يحصل في أماكن أخرى من العالم ؟
-يا سيدي المسرح في الوطن العربي وافد أصلاً ولكن هناك من اجتهد من المسرحيين العرب فحاول أن يؤصل المسرح ويمنحه هويته العربية ، هناك محاولات عبد الكريم برشيد والطيب الصديقي وقاسم محمد ، ما علاقة الشهادة العليا بنظريات المسرح؟؟ هناك وعي واشتغال وبحث في الظاهرة المسرحية ليس ملزم بها حامل الشهادة العليا بل الفنان المجتهد المنتمي للمسرح والفاعل في عروضه وإنجازاته ، علينا أولاً أن نجعل من المسرح ضرورة اجتماعية تؤمها العائلة العراقية سواء العروض التي تستمد متنها الحكائي من المسرح العالمي أو التي ينهض بها كتاب محليون ، علينا أن نعمل على تطوير الحركة المسرحية والاهتمام بألوان المسرح ثم بعد ذلك نبتكر نظريات مسرحية كما فعل ستانسلافسكي وبرخت ومايرخولد وكروتوفسكي وأرتو وباربا .. مازلنا حتى الآن نتعلم من المسرح ونتعرف على أسراره بعد مرور قرن على ابتكار ستانسلافسكي نظريته والتي هي حسب رأيي وقناعتي أهم وأبقى النظريات والأساسيات في المسرح العالمي والعربي .. دعنا نبني مسارح ونتفق في أهمية المسرح المدرسي وعمل النساء في المسرح ثم بعد ذلك نبتكر نظرية نحن لم نستطع أن نبتكر نظرية تعلمنا فن الحياة فنرفض كل هذا الفساد والسقم الذي يحيط بنا وتريدنا أن نبتكر نظرية للمسرح في هذا الجو الكارثي؟ أنت متفائل.
*لماذا غابت الفرق المسرحية الاهلية . خاصة وانني لاأعلق اهمية على ان غياب الدعم الحكومي هو السبب الرئيسي لذلك . ؟
-هذا السؤال لا يوجه لي بل يوجه إلى وزارة الثقافة أولاً وإلى أصحاب الفرق الأهلية ثانياً فهم أحق بالإجابة عني.
*من خلال المشاركات الواسعة  في المهرجانات، هل تجدين ان المسرح في المنطقة العربية بات يملك خصوصية ما يمكن الاشارة اليها بالمقارنة مع المسارح خارج المنطقة العربية ؟
-نعم هناك خصوصية يتميز بها المسرح العربي عن مسارح العالم إذ أنه اجتهد في الانطلاق من خصوصية طقسية وبيئية ، تعامل من خلالها مع عناصر المسرح ، فباتت جزءاً من آلية اشتغاله على المستوى الأدائي والاشتغال على الفضاء وعلى مستوى الكتابة النصية والمعالجة الإخراجية حتى للعروض التي تستمد متنها الحكائي من النصوص العالمية ولاسيما المسرح التونسي والعراقي واللبناني والمصري.
*هل الظاهرة المسرحية في العراق لها امتتداداتها الاجتماعية التي تجعلها حاضرة وبقوة في حياة المجتمع الى درجة لايمكنها الاستغناء عن حضورها في حياته ومصادر وعيه وثقافته ؟
-المسرح لم يستطع أن يؤسس وعياً فنياً لدى المجتمع العراقي يجعل العلاقة ما بين الاثنين متواصلة ودائمية .. بسبب ظروف العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تأثرت بالحروب الاستنزافية ومن ثم الاحتلال وهجمة الإرهاب والتطرف الديني ، هذا كلها عوامل تفت في عضد المجتمع العراقي وتمنع عنه حرية الاختيار وحرية التعبير والعيش الكريم الآمن ، فكيف يفكر في المسرح وهو يفكر في أمنه وأمن عائلته ولقمة عيشه ..!! ألا ترى أن السياسة الفاسده والسياسيين الفاسدين لعبا دوراً كبيراً في تخلف الحياة الاجتماعية والثقافيه العراقية؟!

*بعد أن نلت شهادة الدكتوراه في الفن المسرحي . مالذي تغير من الاهداف والاحلام في مشوارك الفني ؟
-أحلامي هي أحلامي ومشاريعي هي مشاريعي في مسرح عراقي معافى فيه حرية الفعل والقول والمنجز مسرح يتوجه للطفل والمرأة ، مسرح يثقف ويعلم ويمتع .. مشاريعي متواصلة وهمومي لأجل المنجز المسرحي مازال موجوداً يحفزني للعمل والبحث والتجريب والمغامرة قبل أن أنال شهادة الدكتوراه وبعد أن أصبحت أحمل اللقب العلمي الذي زاد من مسؤوليتي وحفزني للعطاء أكثر ، الشهادة العلمية هي صقل وتطوير معرفي لا غنى عنه في زمن بات فيه العالم صغير لا تستطيع حتى أن تهمس فيه ، والمرأة ولاسيما الفنانة في المجتمع العراقي تحتاج إلى ما يجعلها في موضع الحماية والأمان وليس أفضل من الشهادة العلمية والغنى المعرفي والنضج الثقافي حماية ووسيلة دفاع عن المشروع الفني والذات الانسانيه .
*لماذا المراهنة على المسرح تحديدا من بين بقية الفنون والحقول الثقافية كانت لديك ِ ؟
-أؤمن بالمسرح وسيلة للمعرفة والتأثير والنوعية لذا أراهن عليه فيه وبواسطته نستطيع أن نخلق المجتمع الآمن العارف بحقوق أفراده وواجباته ، أنه المدرسة المسائية التي يتعلم فيها الكبار والصغار والنساء والرجال ، إنه المعلم الذي لا يستخدم العصا كي يعلم بل يستعين بالجمال والفكر والحكمة.
*من المؤكد ان نقاط التفاهم والتشابه فيما بينك وبين الفنان عزيز هي القاسم المشرك الذي جمعكما . لكن الى اي مدى كانت نقاط الاختلاف من العوامل المؤثرة ايجابيا ايضا في مشواركما ؟
-أنا والأستاذ الكبير عزيز خيون فنانان متناغمان نلتقي في حب الوطن والمسرح لا خلاف بيننا ولا اختلاف فيما نفكر ونحلم.
*كيف تجدين مستقبل الفن في العراق ،هل من خطورة تواجهه على مستوى الاعتراف به كرافد اساسي للمعرفة والفكر او على مستوى حرية التعبير عن الافكار ؟*
-أخاف على المسرح من الأميين والجهلة لاسيما حين يكونون في مناصب مسؤولة وقيادية ، لو لاحظت جيداً لوجدت أن لا وجود للفن في الدستور ولا في البرلمان وهو في آخر الأجندة لدى السياسيين. أخاف على المسرح لأنه يخيف الظلاميين ، لكني أثق كثيراً بمن يعملون في فضائه من المبدعين ولاسيما جيل الشباب الجديد بكل عنفوانه وجرأته ووطنيته.

*اذا اردنا ان نضع نقاط على حروف الواقع المسرحي في العراقي وصولا الى رسم خطة عمل طويلة الامد هدفها ان يكون الفن المسرحي جزا ً اساسيا من المكونات المؤثرة والحيوية للثقافة العراقية فما يمكن ان تقول عواطف نعيم بهذا الصدد . ؟
-واقع المسرح العراقي اليوم مخيف فالمسرح يحتاج ليس فقط إلى دعم الدولة بكل ثقلها ، أنه يحتاج إلى منهاج للعمل للنهوض بهذا الواقع. ليكون هذا المكون عنصراً أساسياً وفاعلاً في الحياة الثقافية العراقية ، إنه يحتاج من المسرحيين أن يجمعوا أنفسهم ويحددوا أهدافهم ويكونوا مجلسا أعلى للثقافة مهمته دعم وتنشيط المؤسسات الفنية والثقافية وإحياء الفرق الأهلية وإقامة الورش والملتقيات التي تعنى بالظاهرة المسرحية والعمل على إقامة جسور تعاون وتبادل فني مع البلدان الناشطة في مجال العمل المسرحي (ألمانيا ، فرنسا ، بولونيا ، بريطانيا ، أميركا) العناية بالبنى التحتية وتفعيل المسرح المدرسي في بغداد والمحافظات ، هي خطة عمل ومنهاج تنظيم لتحقيق إنجازات إبداعية تصبح تقليداً في نسيج الحياة الثقافية العراقية.
*اخيرا ، ماهي الامنيات والمشاريع التي تنتظر في جعبة الفنانة نعيم ؟
-هناك مشاريع وأحلام أولها أن أطبع نصوصي المسرحية الخاصة بمسرح الطفل والنصوص المسرحية الخاصة بمسرح الكبار ، أن أجمع مقالاتي وأبحاثي النقدية والنظرية في كتاب ، وأن يكون لي محترفي الذي إنجز من خلاله مشروعي المسرحي ، بيت صغير فيه مكان لإنشاء خشبة صغيرة وإقامة مسرح يشبه مسرح الستين كرسي أقدم فيه تجاربي وأجمع فيه محبي المسرح في ملتقيات وورش مسرحية ، هو حلم لمشروع جميل أتمنى تحقيقه وهو ليس بالصعب أن كانت هناك عقول تحلم بعراق آمن!!!




90
إلى المَالكي في عُزلتِهِ  .. هل ستعتذرْ  ؟

                                                                                                                  مروان ياسين الدليمي

كان من الممكن أن تكونَ لنا جميعاً وهذا أمرٌ مرهوناً خيارهُ بك وحدك، لكنكَ أخطأتْ،فذهبتَ بعيدا ًجدا ًعندما شئت أنْ تكون للحزب فقط دون شعبك، تماما ًكما فعل صدّام من قبلك،ولاأدري إنْ كنتَ مُكبّلا ًوخاضعاً بفعل انتمائك الحزبي أوالطائفي لمشيئة أخرين في هذاالاختيارأم أن هذا هوأختيارك عن وعي ٍوقصد ٍ وإصرار ٍ وتصميم ؟
يادولة رئيس الوزراء .. مالذي كنت ستخسرهُ فيما لو كان خِطابُك موجَّها ً لنا،لجميع الناس،وبِنيِّة ٍصادقةٍ،صوناً لكرامتهم الانسانية التي مرَّغَتْها الحروب والدكتاتورية وملاحقات الاجهزة الامنية عقودا ًطويلة ً؟ لكنك شِئتَ أن تكون مُختَصَراً بحزبِكَ،وهولايشكِّل شيئا ًفي حجمه ِوأهميته ِأمام عموم الناس البُسطاء، وبلاشك أنت تعلمُ ذلك جيدا ً.
لقد أضعتَ من بين يديكَ كما هي عادةُ الحكام العرب فرصة ًذهبية ًجاءتك في لحظة عابرة من مَسيرة التاريخ،أشكُّ في أنَّها كانت حاضرة ًولو حتى في خيالك.. لحظة كُنتَ أنت َفيها في أعلى هَرَم السلطة العراقية، وكنّا نحن فيها جميعاً غرقى في مستنقع ٍ من أليأس والاحباط تصطادُنا الشظايا والمفخخات ورصاصات الارهاب وكواتمه . . كان من الممكن أن تكون أنت السبيلٌ الى هذا الامل المُرتجى،وأن تكون عونا ً لنا في محنتنا لا أنْ تكونَ بلوة ًكُبرى تنزل علينا .
يادولة الرئيس . .الاحزابُ في منطقتنا العربية ليست سوى فئات ٍصغيرةٍ ظالّةٍ عن الصوابْ،لاتفكِّرُ إلاّ بنفسِها ومَصالِحِهاوأمتيازاتِها، فَلِم أرتضيتَ أن تكونَ لها ولم تكُنْ لنا ؟ 
كان عليكَ أن تُدركَ أنَّ :عرش السلطة لن يَبقَ دائما ًوأبدا ًلحزب الدعوة ومن معه في التحالف الوطني َ،حتى لو توهَّموا بذلك، ولاأظنك بحاجةٍ لأنْ أسوقَ لكَ أمثلة ًإثباتا ًوتأكيدا ًلهذا.
أنا أفترض أنَّ تاريخك السياسي الطويل قد أعطاك درسا ً بليغا ً "أنْ لاأحد باق ٍعلى الكرسي" وعاجلا ً أو آجلا ً سيأتي ذلك اليوم الذي سيرحَلُ عنهُ أو يُرحُّلُ عَنهُ عنوة ًمن يجلس مُسترخيا ًومُنتشيا ًعليه. . لكنني ومن وقائع ماشهدناه من أخطاء كارثية جاءت منكَ ومِن حزبك الحاكم،أجِدكَ لم تفكر ولو للحظة بالساعة التي سيأتي فيها أوان الرحيل،لانَّك وكما يبدو جليا ً مازلت تحيا نشوة َمُنتَصِر ٍوجَدَ نفسه فجأة يتقدمُ في ساحة ِالمعركةِ أمام جيش ٍمُثقلٍ بالجراحْ. 
دولة الرئيس .. فقط العُقلاء هم من يملكونَ الحِكمةَ َساعة َالنصر ليجدوا لأنفسهم فسحة ًمن الوقت حتى يفكروا بساعة ٍ قادمةٍ يحينُ فيها موعدالرحيل عن العرش،ولاأظنك بعد كل الذي رأيناه مِنكَ طيلة الاعوام السبعة اثناء حُكمِك للبلاد قد فكرت بها مطلقا،ولو كنتَ فعلا قد فكَّرتَ بها لجنَّبت البلاد ماهي عليه الان َمن بؤس ٍوماهي مُقدِمَة ُعليه من إيامٍ قد تكون هي ألأشَدّ صعوبة مما مضى،ولن تكون شدَّتها وقسوتها واقعة على الناس وحدهم، بل ستكون أولا ًعلى مَن سيحكُمها من حزبكم بعد رحيلك. 
المشهد المُهلِك الذي رسمتَهُ بنفسِك لنفسِك ولشعبِك ولبلدِك بلاشك ِّختامهُ لن يبعث فيكَ المَسَرَّة،ولن تكونَ بأحسَن ِحال عمَّنْ سبقوك الى كرسي الحكم ، وستكون أنتَ محشوراً في الزاوية الضيّقة التي كنتَ قابعاً فيها طيلة حكمك غاضبا ًومُتجهِّما ًومُشيحا ًبوجهِك عن عموم الناس،بينمااحتفظتَ سراً بأبتسامة عريضة لأفراد حزبك حصراً،لأنك ظننت مُتوهماً أنهم قارب النجاة لك في الدنياوالآخرة، وهم في الحقيقة ليسوا سوى حفنة ٍمانفكّت ماضية في إغراقك بوهم ٍزائف من الشعور بالقوة والسلطان،ولن يدعونَك أبدا ً تصحو منه إلا ّبعد أن تسقط من على العرش لتجِدَ نفسكَ على الارض مُحطّما ًولاأحد َ مِنهم حولك.
لك الآن ــ وانتَ في الايام ِِالاخيرة من عُمرالولاية الثانية ــ  أنْ تقفَ أمام ذاتِك كاشفا ًومٌحاسبها لها على أخطاءها، ثم عليك أنْ تقِفَ بعدَها بكل وضوحٍ وشجاعةٍ لِِتُقِرَّ  بها أمام شعبك،عندها ستحظى بالتصالح مع ذاتك، وبالطمأنينة التي طالما افتقدتَّها طيلة عمرك، ولتحظى بلاشك بمغفرة الشعب لأخطائك،وأنت هنا لن تخسر سوى حفنة من الكذابين كانوا دائما يدورون حولك.
 فهل ستفعل أم ستبقى آسير سياساتٍ حزبية ٍمريضةٍ صاغها إنتهازيون ومنافقون  . ؟

91
الاحزاب الديناصورية . .

                                                                                                                        مروان ياسين الدليمي

الاحزاب في المنطقة العربية مصابة بنفس الامراض منذ ظهورها مع مطلع القرن العشرين،ويظهر ذلك جليا بعد وصول أيا ً منها الى سدة الحكم،ونظرة سريعة الى طبيعة الاساليب وردود الافعال التي تصدرعنها إزاء أي حدث يواجه سياساتها،لنكتشف على الفوروكأنها تنطلق من عقلية واحدة،على الرغم من اختلاف الايدلوجيات التي تتحصن وراءها سواء كانت إسلامية أو قومية أو ماركسية. فنبرة التخوين والتشكيك بوطنية الطرف المعارض هي السِّمة المشتركة التي  تجتمع عليها جميع الاحزاب، ومن خلالها يتم اللجوء الى اساليب التسقيط والتزييف الاعلامي ضد الخصوم حتى لو أدى ذلك الى دفع البلاد نحو حرب أهلية يذهب ضحيتها العشرات،ولنا في ذلك أمثلة قريبة جدا، منها ماحدث في مصر قبل سقوط مبارك عندما كان الحزب الوطني الحاكم  يكيل التهم  لكل القوى الثائرة ضده متهما ً إياها بالعمالة للاجنبي وتلقيها أموالا ًمن دول معادية وتنفيذها لأجندات أجنبية. والمفارقة المضحكة أن التهم ذاتها باتت تطلقها جماعة الاخوان المسلمين على كل القوى السياسية المصرية التي اختلفت معها بعد أن تسلمت هي السلطة !.  كذلك الحال في العراق أيام حكم البعث،ونفس الوضع أيضا ً بات ينطبق الآن على من جاء بعده وتسلم عرش السلطة!.
ماذا يعني هذا !؟. . هل يعني أن العقل العربي يعاني في جوهره من أزمة مستفحلة ومستعصية في التفكير تمنعه من انتاج شيء جديد حتى في حدود الصراع على السلطة مع الاخرين ؟ ألا يدعو هذا الشعوب العربية قبل أحزابها الى الدهشة والالم  وبنفس الوقت الرثاء والخجل !؟ ذلك لأنها ارتضت لنفسها أن تبقى أسيرة كيانات واحزاب وايدلوجيات سياسية مِسخ، لاقيمة ولانفع لها على الارض، بل إن وجودهاوحضورها بكل تخريجاتها الفكرية الهجينة هوأكبر خطيئة أرتكبت ومازالت ترتكب بحق شعوبها .
لماذا تبقى الاجيال العربية تخوض في مستنقع  آسن ٍ لِسياسات الاحزاب العربية ومخططاتها المتعفنة !؟ ألم يحن الوقت لكي نرى جيلا جديداً من قادة وساسة شباب تخلوا عقولهم وارواحهم  من عقد وأمراض الساسة الكهول واحزابهم الديناصورية ؟ ألم يحن الوقت لظهور احزاب جديدة لاعلاقة لها بكل الارث الايدولوجي المُحتَقِن والمُحتقَن بكل خرافات الفكرالمتطرف سواء ماكان منه ماركسيا أو قوميا  أو اسلامويا او طائفيا ً ؟. . ألم يحن الوقت لكي توضع هذه الايقونات  في المتاحف أو ترمى في براميل القمامة ؟ ويمكن فقط ملاحظة ملامح لهذا التغيير في مصرعبر تشكيلات سياسية جديدة اعلنت عن نفسها خلال الاعوام القليلة الماضية مثل حركة 6 ابريل التي قادت عملية التغيير السياسي في مصر وكانت رأس الحربة في ثورة 26 يناير كانون الثاني 2011 وجل قادتها  واعضائها من الشباب الذين تتراوح اعمارهم مابين 20 – 26 .     
إن المجتمعات العربية ماعادت تحتاج إلى احزاب لارصيد لديها سوى  مفكرين وفلاسفة ومنظرين لاينتمون الى هذا العصر بكل متغيراته واحتياجاته مثل:  ماركس وجيفارا وميشيل عفلق وحسن نصرالله وحسن البنا . . هي الان أحوج ماتكون الى أحزاب واقعية لاترفع ايّة  شعارات سياسية إنما : برامج ومشاريع وخطط  تنموية تسعى لأستثمار الطاقات العلمية والبشرية لكل الشباب العاطل عن العمل وتقدم افضل الخدمات لعموم الشعب،من تعليم متقدم الى رعاية صحية الى سكن لائق الى عيش كريم يليق وينصف آدمية وكرامة الانسان إضافة الى تكريس الدعوة لتعميق الاخوة الانسانية بين الاديان والقوميات وعموم البشر.   
يكفي ماضاع من عمرالشعوب العربية جرّاء خطابات وشعارات ثورية طنانة تتاجر بالدين والقومية والوطنية وتسوق الشعوب الى حروب خاسرة وانتصارات وهمية ، وفي مقابل هذا تعجزعن تقديم ابسط الخدمات  لشعوبها من شارع مبلط نظيف ، وكسرة خبزلطفل جائع وعلاج لمريض لايملك ثمن الدواء،وبيت لعائلة تسكن القبوروتعتاش على المزابل . .
آن الاوان ليتوقف مسلسل التظاهرات الهزلية المُمِلةِ التي مانفكت تجيّشُها أحزاب السلطة ضد من يعترض على سياساتها ويساق عنوة إليهاموظفون ومدرسون وطلاب مدارس لكي يهتفوا دعما ً وتأييدا ًلكل سياسات ألحاكم وحزبه،وكأنَّ الناس مكتوب عليها الصمت والرضوخ والخنوع ولايحق لها الاحتجاج علنا ً إزاء  مايقع عليها من حيف أو ظلم .


92
عوني كرومي  . . في مفترق تجربته المسرحية
إنجاز لافت بين مرحلتين : البرختية والعراقية







                                                                                                           مروان ياسين الدليمي
                                                        
قصديّة الاختيار
ليس من السهل أن تُختَصرهذه الرحلة ُالثريّة والعميقة ُلعوني كرومي في الحُلم والحريةِ والرؤى ،بعدد من الاستنتاجات التي قد  يصل اليها الناقد،لان تجربة كرومي توفرت فيها العديدُ من الشروط الذاتية والموضوعية التي تضعها في موضع التقدير والاحتفاء ، ذلك لانه حاول لاكثر من اربعين عاماً أن يوقظ في الانسان لحظة َالتمرد ِعلى القهر ِوالاستلاب ِمُتسلحاً بفكر جدلي،من خلاله ِكانت تبدو رؤيته لطبيعة الصراعات القائمة في الحياة واضحة ً، وهذا ماأنعكس بطبيعة الحال في جميع أعماله التي كانت تختزن هذه الرؤية وتمررها، لذا لم يكن مسارنا ونحن نتنقل بين التفاصيل التي صاغها كرومي خاضعاً  لسلطة الاحتفاء العاطفي الذي قد يخلط الاوراق من فرط الاعجاب والمحبة بقدرما كان إرتكازا ًعلى سلطة النقد في رؤية السياق العام  للتجربة دون الحاجة للتوقف أمام كل عرض مسرحي قدمه كرومي ،ونهدف من وراء ذلك ايضا : اثارة الجدل حول تجربة فنان كبير ترك أثراً فنياً واضحاً في مسيرة المسرح المُنتَج في العراق خلال اكثرمن اربعة عقود، وما توصل اليه من حضور فني . كما شئنا أن تكون هذه القراءة  مُنطلقا للبحث عن مشترك عام يجمع عوني كرومي مع أسماء ٍ أخرى من المخرجين العراقيين ، كانوا هم ايضا قد تلقوا تعليمهم العالي للفن المسرحي في جامعات أجنبية خارج العراق ولطالما اثيرت هذه المسألة بين أوساط المسرحيين لكنها لم تنتقل الى ميدان البحث العلمي والدراسات الاكاديمية التي فيما لو تمّت ستضيء بلاشك الكثيرمن الجوانب حول تجارب العديد من الفنانين وليس عوني كرومي لوحده ، وهي قضية تستحق التناول وفيها الكثير من الاشارات التي تصلح لان تكون فرضيات ومنطلقات بحثية .
الجيل ألأوّل
شهدت الظاهرة المسرحية في العراق بعد منتصف العقد الخامس من القرن العشرين  ظهور عدد من الاسماء التي كانت قد دَرَست الفن المسرحي خارج العراق في عدد من الدول الاجنبية  التي كان الفن والانتاج المسرحي فيها عريقاً ومتقدماً من حيث تنوع التجارب التي تُقدم فيها وفق اساليبَ ومناهج َمختلفة ٍ، مثل فرنسا والمانيا وانكلترا وايطاليا وروسيا اضافة الى أميركا . وقد شكّل مجىء الجيل الاول من الرواد ( جاسم العبودي وابراهيم جلال ، جعفر السعدي ، أسعد عبد الرزاق ، ابراهيم الخطيب)  بداية الوعي بالعملية الاخراجية وفق أسس علمية ٍأكاديمية ٍ، بعيداً عن الارتجال والعفوية ، التي كانت قد شكلت الى حد كبير، مسيرة الانتاج المسرحي في العراق ، منذ انطلاقته ِمع أول ِعرض ٍمسرحي قدم عام 1880 في المدرسة الاكليركية التي اسسها الاباء الدومنيكان عام 1750 في مدينة الموصل  . ومن هذه المدرسة وصلتنا أول النصوص المسرحية  وتعود إلى الأب القس ( حنا حبش ) يعود تاريخ الانتهاء من كتابتها الى عام 1880 ، وضمت المسرحيات الاتية:
1-   كوميديا آدم وحواء
2-   كوميديا يوسف الحَسِن
3-     كوميديا طوبيا
بعدها تم  تأسيس (جمعية التمثيل العربي) من قبل محمد خالص الملا حمادي وهي أول فرقة مُجازة رسميا عام 1921 ، تبعتها بعد ذلك (الفرقة التمثيلية الوطنية ) التي اسسها الفنان حقي الشبلي عام 1927 ، والشبلي يعد مؤسس المسرح العراقي في العصر الحديث بأجماع المؤرخين .
إنّ رواد المسرح العراقي الاوائل في خمسينيات القرن الماضي وهم كل من : ابراهيم جلال ، جعفر السعدي ،جاسم العبودي ، اسعد عبد لرزاق ،ابراهيم الخطيب . والذين كانوا قد درسوا فنون وعلوم المسرح خارج العراق جاءوا بمفاهيم جديدة على الساحة المسرحية العراقية انذاك، كان لها صلة بتنوع الاساليب والرؤى الفنية ، التي يمكن للمخرج ان يأخذ بها ، وفقاً لما يراه ُهو في النص الذي يعمل عليه ، وهذا ماأحدث تحولا كبيراً في الفهم والتعامل مع ألعملية الاخراجية ، وباتت بعد ذلك تظهر نتائجُها واضحة ًفي مجمل الاعمال المسرحية  التي تم تقديمها على  خشبة المسرح العراقي، خصوصاً في العاصمة العراقية بغداد، التي إستحوذت على النصيب الاكبر في هذا التحول ، وقد أنعكس هذا فيما بعد على الاجيال الاخرى التي جاورت تلك الاسماء أوالتي عملت معها، أوالتي  تتلمذت على يديها . إن ملامح هذا النضج بدت تتضح  في فهم التجربة المسرحية بكل تفاصيلها وأبعادها لدى الاسماء التي جاءت بعد الجيل الاول ،وتمكن بعضها من أن يُشكل حضوراً واضحاً  وفاعلية كبيرة في بناء مسيرة الانتاج المسرحي في العراق، وأخذت تتضح سماتهُ الشخصية في الاعمال التي يقدمها ،وأصبح بالامكان الحديث عن مسرح له بصمته ُالشخصية للاسم الفلاني يتميز به عن أقرانه، سواء من حيث الموضوعات أوالمعالجات الفنية  والتي عكست في مُجملها العقائد والايدولوجيات التي كان المسرحيون يؤمنون بها،ويمكن هنا الاشارة الى ابرز الاسماء التي شكلت الاجيال التي جاءت مابعد الجيل الاول ، وأرتأينا ترتيبها حسب أسبقية ظهورهاعلى الساحة المسرحية وهم كل من  : (بدري حسون فريد ، بهنام ميخائيل ، سامي عبد الحميد ، خليل شوقي) ومن ثم (قاسم محمد ، محسن العزاوي ،سعدون العبيدي ،جواد الاسدي ، ، صلاح القصب ، سليم الجزائري ، عوني كرومي ، فاضل خليل ،شفاء العمري ، عادل كريم ، وجدي العاني ، فخري العقيدي ، فتحي زين العابدين )  ثم (عزيز خيون، هاني هاني، شفيق المهدي ،عقيل مهدي ، محمود ابو العباس ) وبعدهم  جاء ( ناجي كاش ،حميد صابر،غانم حميد ،حيدرمنعثر ،ناجي عبد الامير ،كاظم نصار،)  ثم تتالت اسماء أخرى أعلنت عن حضورها على خشبة المسرح العراقي،لايتسع المجال هنا لذكرها .
المسرح المَلحَمي
الحديث عن عوني كرومي يقودنا بالضرورة  التوقف عند المسرح الملحمي كما كان قد توصل اليه الكاتب المسرحي الالماني برتولد برخت بعد الربع الاول من القرن العشرين ، ويعود تاريخ ميلاد برخت الى 10 من شهر شباط / فبرايرعام  1898 ، وفي عام  1922 حصل برخت على جائزة كلايست عن أول أعماله المسرحية، وفي عام 1924ذهب إلى برلين ليعمل مخرجاً مسرحياً ، وفي عام 1933 وهو العام الذي إستولى فيه هتلر على السطة في ألمانيا، هرب برخت الى الدانمارك ومن هناك اتجه  الى أميركا عام 1941، التي استقر فيها لاجئاً سياسياً ، وليحاكم عام 1947 من قبل لجنة مكارثي المناهضة للشيوعية ، ليعود بعدها إلى ألمانيا عام 1948، ليتولى إدارة المسرح الألماني في برلين الشرقية ، ثم أسس عام 1949 (فرقة مسرح برلين إنسامبل) وبقي يعمل فيها حتى وفاته في عام 1956.
 المسرح الملحمي كما هو معروف لدى الدّارسين والمختصين لم يكن إلاّ خروجاً على القواعد الارسطية في بناء النص أولا ً والعرض المسرحي ثانياً . وكان الهدف منه اشراك المتلقي في القضيا المطروحة ودفعه لأن يتخذ موقفاً منها، من خلال هدم الجدارالرابع الذي يشكل حاجزالوهم القائم مابين الخشبة وصالة المتفرجين ليؤكد بذلك على أن مايعرض أمامه ماهو إلاّ لعبة مسرحية . كما طرح المسرح الملحمي مفهموم التغريب الذي تعود مرجعيته الى الشكلانيين الروس ومدرسة سيمياء براغ للمسرح الذين كانوا قد طرحوا نظرياتهم السيمائية في عشرينيات القرن الماضي، وكانت مدرسة براغ قد تبنت التصنيف الوظائفي لفعل التواصل اللغوي الذي وضعه (كارل بوهلر) والذي حدده بثلاث وظائف :
1-الوظيفة التعبيرية
2- الوظيفة المناشِدة
3- الوظيفة التمثيلية
ثم اضيفت بعدها الوظيفة الجمالية ، وهي موجَهةٌ نحو فنيَّةِ أو جمالية ِألرسالةِ بذاتِها ولذاتِها 1. وبات على هذا الاساس أن يتم تقسيم النص وقراءته نقدياً الى وحدات حسب وظيفتها التواصلية . والتغريبْ ، كما يقول جيفري ليج هو " تصدير واع ٍ وخلّاق للغة ومعانيها ، والتصديرُ يعني إستثمار اللغة جمالياً لإحداث مؤثرات خاصة تتصدر وعي المتلقي ، والبنية المُتصَدِرةُ تتسم عادة بالانحراف والتكرار، والانحراف هو خروج ٌعلى الاعراف القواعدية والتركيبية والمعنوية للغة القياسية لابداع صور ٍ مَجازية تُفاجىء المتلقي وتستحوذ على انتباهه " 2 . . خاصية التصديرالمنبثقة عن مفهوم التغريب لم يقتصر أمرها على اللغة بل شملت ضمن بحوث مدرسة براغ جميع الفنون ، وقد أسهم برخت في تقنين المصطلح مسرحياً، ليتمكن من إستثماره  والتعبيرعنه في عروضه المسرحية .
بات مفهوم التغريب فيما بعد عنصرا ًأساسيا ً في بناء المسرح الملحمي ، إذ لجأ برخت ضمن هذا المفهوم على تحويل الشيء إلى شيء خاص ، لكي يحقق مقصده الفني في تحقيق  الغرابة والغموض والدهشة لدى المتلقي . وقد عمل بريخت على مفهوم التغريب بعد أن تأمل عناصر متفرقة  في مناطق  مختلفة من العالم خاصة في قارة أسيا ، فانتبه الى المسرح الشرقي سواء في في اليابان أوالصين أوالهند ، ليشكل فيما بعد من دلالات مسارح هذه الحضارات العريقة ، جملة من العناصرالفنية التي دخلت في  صلب المسرح الملحمي .
كانت دعوة برشت إعلاناً لقطيعة فنية وفكرية مع الارث الارسطي ، ليتخلى بذلك المسرح الملحمي عن وحدة الزمان والمكان والحدث ، مجتازاً بذلك الوحدات البنائية التي يتموضع فيها النص الارسطي من  : استهلال وعقدة وذروة ثم حل ٍ، ليصل الى بناء نص آخر، لاصلة له بالتعاليم الارسطوية ، إعتماداً على جملة إجراءات فنية  قام بها بريخت أوصلته بالتالي الى تفتيت وحدة الزمان والمكان والاخذ بها منفصلة الى  وحدات ، ترتبط مع بعضها وفقاً للمنطق الجدلي، الذي تبنى عليه وحدات الاحداث المتفرقة داخل النص ليتواشج في النص اجناساً عدة : اغنية ووثيقة وعرضاً سينمائياً ، ورقصات . ليصبح بالتالي مفتوحاً على سعته لاستقبال كل مايمكن ان يحقق كشف اللعبة المسرحية لتعميق وعي المتلقي بحقيقة التناقضات القائمة في الواقع وليس تظليله كما يريد له المسرح القائم على البناء الارسطي .  



عوني كرومي ، صراعُ مع الأُطر المُسبَّقة
فيما يتعلق بالمخرج عوني كرومي ، نجد أن تجربة هذا المسرحي، تستحق الوقوف عندها وتأملها ، نظرا ً  لِما شَغله من مساحة مهمة في الحركة المسرحية العراقية ، فبعد أن كان قد أنهى عوني كرومي دراسته الاكاديمية للاخراج المسرحي في المانيا ونال بموجبها شهادة الدكتوراه عاد الى العراق في منتصف سبعينات القرن الماضي وأستمرّ بالعمل المسرحي الى جانب التدريس في كلية الفنون الجميلة حتى مغادرته العراق في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين متجهاً الى الاردن ليعمل أستاذاً في جامعة اليرموك لعدة أعوام ومن ثم الانتقال الى المانيا والاستقرارفيها حتى يوم وفاته وفاته في 26/ 5 /2006 أثناء تقديم العرض المسرحي( مسافر ليل ) للكاتب  المصري صلاح عبد الصبور عن عمر ناهز الواحد والستين.
من أبرز أعماله التي وصلت حدود سبعين عرضاً مسرحياً : كشخة ونفخة، ترنيمة الكرسي الهزاز، فطور الساعة الثامنة، كاليكَولا،غاليلو غاليليه، مأساة تموز، فوق رصيف الرفض، قصائد روفائيل ألبرتي ، مس جوليا ،  الإنسان الطيب،صراخ الصمت الأخرس ، بير وشناشيل، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، الطائر الأزرق ،السيد والعبد، مسافر ليل .
والدكتور كرومي ولد في مدينة  الموصل عام 1945 وتخرج من كلية الفنون الجميلة عام 1969 ثم سافرالى المانيـــــــــــا لإكمال دراسته هناك ، وحصل على شهادتي الماجستيروالدكتوراه من جامعة همبولدت عام 1976بتخصص دقيق في العلوم المسرحية.
كانت مسيرته الفنية تعبيراً واضحاً عن تطلعاته وطموحاته الفنية وفقاً لنظرية المسرح الملحمي التي لم تخرج عن توظيف الفن المسرحي من أجل القضايا الانسانية في ظل الظروف والاوضاع القاهرة المُسلطة على الانسان في بيئة ما ، لتحيله بالتالي الى كائن مُستلب في ظل أوضاع مجتمعية  تحكمها قوانين الصراع الطبقي .
بقي كرومي طيلة مسيرته الفنية ماركسياً حد النخاع في عقيدته الايدولوجية وانعكس ذلك في اختياراته للنصوص التي قدمها على خشبة المسرح ، سواء التي كانت نصوصاً مترجمة أو التي كانت تحمل تواقيع مؤلفين عراقيين  .
وجميع النصوص كانت تخضع للاشتراطات الفنية البريختية المسبّقة والتي كانت بمثابة مِجس يبدأ من خلالها  بتشريح الاحداث والشخوص ومنظومة العلاقات المتصارعة ليعيد تركيبها وفقاً لتعاليم الاب الروحي برتولد بريخت .
هذا الانزواء وراء ظِل ِّ الاستاذ وتعاليمه ِكان واضحاً جداً في مسيرة كرومي ،الى الحد الذي أفقده طريقه الخاص الى حدٍ ما ، والذي كان ينبغي أن يرسمه لنفسه بعيداً عن القالب الفني الذي إستله من تجارب ووصايا بريخت التي شرِبها وتمثّلها  . وأسَرَ قدراته فيها .
وفقاً لهذا الايمان الذي كان عليه كرومي بكل ماهو بريختي يمكننا ملاحظة طبيعة النصوص التي كان قد اختارها للعمل عليها وتقديمها ، منها على سبيل المثال:  غاليلو غاليليه ، كريولانس ، ورؤى سيمون مشار،  كل هذه النصوص التي اشرنا اليها كانت للمؤلف بريخت تم تقديمها وفق ماجاءت عليه مكتوبة بخصوصيتها الملحمية في البناء والرؤية الفنية دون أن يذهب بها بعيداً عن هذا الاطار الفني الذي أراده لها المؤلف، ومن غير أن يجري عليها  تعديلات وفقاً لمقتضيات البيئة المحلية العراقية التي كانت تقدم فيها،حتى أن مسرحية (الانسان الطيب في ستسوان) التي كان قد عرضها في مهرجان المسرح العربي عام 1992 تحت عنوان (الانسان الطيب )  والتي كانت ايضا للكاتب بريخت إقتصر التعديل فيها على حذف كلمة (ستسوان) من العنوان  كما تم استخدام اللهجة العراقية بديلا عن اللغة العربية الفصحى . كان ذلك إجراءً جزئياً لايكفي للدخول بفاعلية في جوهر المعالجة الذاتية للفنان عندما يُقدم على تناول نص جاهزلم يكتبهُ هو .
لانَّ اللغة في التجربة المسرحية لاتشكل العنصرالاساس التي تقوم عليها، بل هي الاضعف حضوراً وتأثيراً في بناء العرض المسرحي المعاصر، الذي يتشكل معماره من منظومة سمعية وبصرية يُمسك المخرج بمفرداتهما المتنوعة والمختلفة ليخلق منها نسيجاً سينوكرافياً يؤثث به الفضاء المسرحي . ولكن هذا لايعني مطلقاً  أن عوني كرومي لم يتعامل مع نصوص تعود لكتاب  اخرين ، الى جانب نصوص بريخت ،  إذ قدم عددا من الاعمال المسرحية التي توزعت على عدد محدود جداً من الكتاب العراقيين مثل فاروق محمد،وعباس الحربي ومحي الدين زنكة  وكتاباً اخرين غيرعراقيين مثل : صلاح عبد الصبور،روفائيل البرتي ، البير كامو .
تساؤلات
إن الفترة التي درس فيها عوني كرومي الاخراج المسرحي في المانيا كانت التجارب المسرحية في العالم قد وصلت فيها الى مرحلة مهمة من التحولات وضعت المخرج المسرحي امام مساحة واسعة من الحرية في التفكير الفني بعيداً عن هيمنة الاعراف والتقاليد الفنية مهما كان شكلها ومصدرها وتاريخ انتاجها ، وبات المبدع المسرحي لايستجيب الاّ لصوت التجديد والانقطاع عما سبق من معرفة فنية ، وهذا ماكان عليه برخت نفسه عندما تجاوز الصيغة البنائية للمسرح الارسطي، وهكذا الحال مع غروتوفسكي وبروك وكانتور واخرين كانوا في تلك الفترة يقفون في مقدمة الخارجين من كاهل المقاييس المنجزة .
 والسؤال هنا : لماذاتخلى عوني كرومي عن هذا الدورالذي بات على المخرج أن يقترن به بعد سلسلة من التحولات التي كانت قد حصلت في طبيعة ومفهوم الاخراج المسرحي خلال النصف الثاني من القرن العشرين ترتب عليها جملة من الاجراءات التنظيرية التي تتيح له بل تفرض عليه أن يكون لاعباً حرا ً في المساحة التي يريد والشكل الذي يقصد وفقاً لتجربته الخاصة  والمعرفة التي يمتلكها .
سأتوقف هنا لاتساءل عن الكيفية التي ظهرت بها الاعمال التي لم تكن تحمل أسم وتوقيع بريخت،ويمكن أعتبارها أختبارا ً له ولقدراته الاخراجية،  وهو يقف وحيداً أمام الخشبة مع نص مسرحي لكاتب آخر، من دون أن تكون كلماتُ ومعالجاتُ عرابه ِالروحي بين يديه .
 فهل تمكن من الوصول الى عمق التجربة المسرحية أم بقي على ضفتيها ؟
إن ماأشير اليه في هذه القضية ،ينطبق ايضا على العديد من الاسماء التي كانت قد تلقت هي الاخرى تعليمها الاكاديمي خارج العراق، ولمّا عادت الى الوطن، قدمت نصوصاً عالمية سبق أن تم تقديمها عشرات المرات في البلدان التي كانوا قد درسوا فيها وبأساليب ومناهج فنية مختلفة ، مثل نصوص شكسبير وبريخت على سبيل المثال وبلاشك كانوا قد شاهدوها  .
في مثل هذه التجارب المسرحية أجد من الصعب الوصول الى حكم نقدي سليم ينصف التجربة ويضعها في إطارها النقدي الذي يَلم ُّ بخواصّها وحدودها وبما يمكن أن وصلت اليه من مقولات فنية وذلك لحضورالتنّاص بشكل مُهيمن داخلها في سياق الاجراءات التي لجأ اليها أولئك الفنانون ، وقد يكون حضورهذا التنصيص غير مقصود ٍ أو جاء متسللاًعبر ما خزنته الذاكرة في دهاليز اللاوعي منها، نتيجة مشاهدات ٍ لعروض مسرحية إستندت على تلك النصوص  نفسِها والتي اشتغل عليها المخرج العراقي فيما بعد، أو نتيجة قراءات ٍنقدية ٍكثيرة ٍكانت قد تناولتها .
تبدو هذه الاشكالية ُواضحة ُفي العديد من تجارب المخرجين العراقيين الذين درسوا خارج العراق، خصوصا في الدول الاجنبية المعروفة ِبعراقةِ مسارِحها ،مثل المانيا التي درس فيها عوني كرومي ، وشاهد فيها العشرات من العروض المسرحية التي تناولت نصوصا لبرتولد بريخت مثل مسرحية غاليلو، وكريولانس ، ورؤى سيمون مشار والتي تناولها هو فيما بعد عندما عاد الى العراق .
قراءة في الاشتغالات
من خلال إجراء مقابلة نقدية مابين عروضه ِالمسرحية التي أعتمدت على نصوص ِالكاتب بريخت والعروض الاخرى التي كانت لكتاب عراقيين لم تكن قد حظيت  نصوصهم بماحظيت به نصوص بريخت أو شكسبيرمن فرص التقديم الكثيرة على خشبات المسارح لأكثر من مرة وبأكثرِ من بلد ٍ ولغة ٍ. أجدني هنا مُستنتجاً الاتي : -
إن عروضَه المسرحية التي أستندت على نصوص ٍعراقية ٍ لم تكن  بالمستوى الفني المتقدم الذي كانت عليه العروض التي استندت على نصوص  بريخت وسبق لها أن قُدمت من قبل مخرجين أخرين ــ كما اشرت سابقاً ــ عشرات المرات ، وكان هو قد شاهد بنفسه العديد منها في اكثر من نسخة وفي اكثر من بلد  بأستثناء العرض المسرحي المعنون " ترنيمة الكرسي الهزاز " للمؤلف العراقي  فاروق محمد .
ترنيمة الكرسي الهزاز
إنَّ ماساعد على نجاح هذا العرض المسرحي وأن يُحقق ذاك التأثير العاطفي والانساني على المتلقي قبل الجانب الجمالي منه ، يعود الى أمرٍ لاصلة له بشكل مباشر بالجانب الفني للعرض ذاته،بقدر ماكان الامرمتعلقاً، بطبيعة التركيبة النفسية المُحطّمة للمتلقي العراقي انذاك،بفعل مقتضيات الظرف التاريخي الذي كان يحيط بالعراقيين جميعاً، بسبب الحرب .
إّذ كانت الحروب قد أخذت الكثير من أحلام العراقيين وسحقت نفوسهم، بتوالي أرقام القتلى والمفقودين واليتامى والارامل والعوانس .
 كانت الحرب حاضرة بكل دمويتها وبشاعتها  وماتركته من ظلال قاتمة على الذات الانسانية وعلى المجتمع ولايمكن للجمهورالحاضر للعرض المسرحي آنذاك أن يتجاهلها أويغفل عنها طالما هي مازالت تلهو بحياته . وهاهي تتجسد أمامه عابثة بشخصيتين نسائيتين شاء عوني أن يَخرُج َبهما من إطار المعمار التقليدي لخشبة المسرح، مُزحزِحاً بذلك دلالات المكان  الحميم الذي اقيم فيه العرض الى مدلولات اخرى لها صلة بالحرب وفظاعاتها على النفس الانسانية .
لم يكن المكان الذي قدم فيه العرض سوى بيت عراقي ذي طراز شرقي ٍ باذخ ٍبألفته ِ وفضاءاته ِ المفتوحة على دجلة والشمس والهواءعَبَر فناءه ِالواسع  المُنفتِح على السماء  والمُحاط َبغرف ٍ ونوافذَ وسلالم َحجرية ٍ تم استثمارها مسرحياً  لتصعد من خلالها الشخصيتان النسائيتان الرئيسيتان الى الطابق الثاني من المبنى الذي تم استثماره هو الاخرليلقي بحضوره المعماري على الاشكاليات المُعقّدة والمؤلمة التي فرضتها الحرب على شخصيتي العرض  .
كان هذا الاستثمارُ الفنيُ لمعمارية ِالمكان قد أحدث تداخلاً وجدانيا مابين المتلقين للعرض ومايُعرض أمامهم ، كما أحدث تياراً جارفاً من الاطمئنان، يشبه ذاك الذي ينبعث لدى الانسان الشرقي وهو يدخل الى فناء بيته بعد رحلة من العذاب والقهر والاستغلال خارجَه ُ.  
يمكننا القول إن هذا العرض قد إمتلك شروط  تألقه ونجاحه الكبير من خلال المكان الذي عُرض فيه . مكانٌ فاجأ المُتلقي وأدخَله في ألفة ٍ يتوق اليها ، وأخرَجَه منها في آن ٍواحد،عندما طرح عليه تلك المواجِعَ مُنثالة ً في تفاصيله ِ وكأنَّها جزء منه .
وبات هذا العرض وفق ماجاء عليه من خصوصية معمارية تأطّرَ حضورهُ فيها خارج السياق البرختي الذي كان قد أخذنا به عوني كرومي في مجمل أعماله السابقة . ويمكن تأكيد ماذهبنا اليه عندما نستذكر مسرحية (بير وشناشيل ) للكاتب عباس الحربي والتي قدمها عوني قبل هذا العرض بعدة أعوام على خشبة مسرح تقليدي أي مايطلق عليه أصطلاحاً (مسرح العُلبة ) ، ورغم أن النص كانت عائديته  لكاتب عراقي إلاّ أن العرض مَرَّ مروراً عابراً في ذاكرة المتلقي ولم يترك أثراً جمالياً مهماً  كما كانت عليه أعماله الاخرى التي سبقته والتي كانت بتوقيع  برخت كمؤلف لها .

إستنتاجات
عليه نخلصُ الى مايلي :  أنّ تجربة عوني كرومي يمكننا تقسيمَها الى مرحلتين ، اعتماداً على النصوص التي تعامل معها ، المرحلة الاولى : ويمكن تسميتها ( البرختية) ، وكانت نشأتُها وحضورها قائمة على نصوص برخت وتأثيرات العروض الاجنبية المُستنِدة على تلك النصوص ،وهنا يبدو عوني كرومي في مشروعه المسرحي منجِذباً أكثر مما هو جاذباً ، مختفياً اكثر مما هو مُعلنَاً ، غائباً اكثر مما هو حاضراً ، ممتزجاً أكثر مماهو منفصلاً . لأن أيّة تجربة فنية يُقدِم عليها الفنان ينبغي أن تقوم على فكرة التحرُّر . التحرُّر من الشكل المُسبَّق ، من هيمنَته ِ، وليس إعادةُ انتاجهِ وتكراره ِ،  فالشكل في هذه المرحلة من تجربة عوني كان اداة ً مُقننة ًوموجَهة ًللسيطرة على حريته ِ وتكمِيمِيها  وفق قياسات ٍجاهزة ٍ.
المرحلة الثانية : ويمكن تسميتها (المرحلة العراقية ) ، وكانت اكثر تحرراً من سابقتها ، تعامل فيها عوني مع المُعطى وفق آلية الملاحظة والتجريب ، وصولا الى لحظة التحرر من فروضات المسرح الملحمي وإخضاع التجربة لمنطق الحرية لكي تفرض مقولاتها الشكلية كما تجلت في أنضج صورة لها في العرض المسرحي ( الكرسي الهزاز) وهذه المرحلة كانت التحول الاهم في مسيرة عوني ، تخلص  فيها من تبعة القوالب الجاهزة التي كانت تمسك به، فوجد ذاته الفنية  تستمد حضورها من التجربة الميدانية .
الهوامش :
1- سيميائية براغ للمسرح ، دراسات سيميائية - عدد من المؤلفين – ترجمة وتقديم أومير كورية – منشورات وزارة الثقافة السورية – دمشق 1977
2- المصدر السابق .
3- المسرح بين الفن والفكر – د. صليحة – مشروع النشر المشترك – دار الشؤون الثقافية العامة ( آفاق عربية ) – بغداد
4- ( النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هور كهايمر الى اكسل هونيث ) د. كمال بومنير – الدار العربية للعلوم ناشرون .

                                    

93
لو ، مَس َّالخَرفُ ، قَامَة ً. .

                                                                                                                   مروان ياسين الدليمي

مثلما الوسط السياسي يعجُّ بساسة إختاروا أن يتاجروا بشعارات فضفاضة ليخدعوا بها بسطاء الناس ، كذلك الوسط الفني يعرف الكثيرممن هم على شاكلة هؤلاء . مِنهُم من كانَ على هيئة ِ طَبلٍ فارغ يُردد خطاب السلطة سواء طُلب منه ذلك أو لم يُطُلب ، ومنهم من كان على هيئة قِرد يقفز هنا وهناك طمعا بلقمة ٍ يقذفها المتفرجون إليه دون أن يخجل من عورته المكشوفة أمام أنظارهم طوال الوقت ، ومنهم من أتقَن الرقص على الحبال قافزا ًعليها بمهارة وخفة يحسده عليها حتى أعدائه ، ومنهم من كان تعيس الحظ مثل الفنان شفاء العمري فتخذله موهبته الفنية ــ التي يتمناها الاخرون لانها تنقصهم ــ في أن يلعب دورالانتهازي ليخطى ء فيفشل في أستثمار موهبته الفنية في غير موضعها والتي كان قد قَدَم مِن خلالها العديد من الاعمال الفنية الجيدة خلال مشواره الفني الطويل،ليرسم بالتالي صورة سقوطه وفضيحته بنفسه هو وبإرادته ، وفشلهُ هذا يعود إلى أنَّه قد أختار لحظة التحوّل إلى ملعب آخر بوقت مُتأخر ٍ جدا ً، من غير أن يُحسن أختيارالملعب ِوتوقيتَ الدخول إليه ، مُتناسيا ًومُتجاهلا أن للعمر حقُّ على الانسان يَمنعُهُ من أداء بعض الافعال التي كان قادرا ًعلى فعلها أيام كان  شابا ً بمهارة ٍ وخفة ٍ بات الأن يتحسَّر عليها . وقد يكون للعمرأيضا ًدوره الكبير في ضياع صواب الرؤية واختيار الطريق والموقف الصحيح نتيجة ماقد يصاب به مُخُّ الانسان من عَطبٍ في بعض خلاياه عندما يتقدم العمر به الى مرحلة متقدمة لتتأثر بالتالي قدراته العقلية فتتلف الكثير من الملفات المخزونة في ذاكرته ليصبح غير قادر على تذكر الكثير من الاشياء المُهمّة التي عادة ما يستدعيها الانسان عندما يحتاجها لكي يتخذ قرار صائبا ً في لحظة ما ، وأحيانا قد تصاب خلايا المُخ بتلف ٍ كبير مما يعني إصابة الشَّخص بالخَرَف ، وهنا في هذه الحالة المُستعصية ــ التي عجزالطب عن إيجاد علاج لها حتى الآن ــ سيكون من الخطأ أن يُترَك هذا المُصاب( الفنان) لوحدِه ِدون رعاية واهتمام ، مُراعاة ً لوضعه الصحي، الذي يعجز فيه عن الادراك والتمييز وتقدير المواقف والمخاطرالتي يُقدم عليها، وسيكون الخطأ الاكبر، فيما لوتركنا هذا الفنان مُحتفِظا ً بالمسؤوليات المهنية التي كنّا قد أوكِلت إليه أيام كان واعيا ً ومُدركا ً لنفسه ولأقواله وأفعاله.  فأحتراما له ولتاريخه وليشيخوخته ينبغي على زملائه من باب الوفاء له والعرفان بدوره التاريخي أن يرفعوا عنه هذا العبء الثقيل مُراعاة له وتقديراً لصعوبة حالته الصحية،ولكي يحظى في أخريات أيامه بأوقات ٍ هانئة ٍ هادئة سعيدة ، بعيدا ًعن المسؤوليات المهنية الجسام التي كان قد تحملها بأعصابه وجهده وصواب مواقفه وأوفى بها خدمة لفنه وجمهوره وزملائه .

94
لنْ أُقَاتِلَ ، في  حَربِكُمْ هَذهِ  . .


                                                                                                                 مروان ياسين الدليمي

فيما لو ، إشتعلت نارُ حَرب ٍ، بين جيش الحكومة ِفي بغداد َوقوات البيشمركة الكوردية، ساعتها :  لن ْأكونَ مَعَها ، ولن ْ أويّدَها ، ولنْ أتوَرّط  فيها . .وعاهدتُّ نفسي التي تعشَقُ الحياةَ وتخافُ غَدَر السَّاسةِ في العراق، التي أثقَلتها حُروبُ قادة ٍمجانينَ ، بِجَبلٍ مِنْ أسَى . . عَاهدتُّها أن لا أرفعَ السلاح ضد أيّ طرفٍ فيها ، بل سأكون ضدِّها ، ضدَّ شعاراتِها وقادتِها وانتصاراتِها واناشِيدها وخطبِها وبياناتِها واكاذيبِها ، وسألتزم ُلعنَها ولعنَ مَنْ  يَسعى إليها ودفع الناس البسطاء إلى محرقتِها ، فقط سأصلي لقتلاها. 
هذه الحرب بالنسبة لي ولآخرين غيري من العرب والاكراد : خط ٌ أحمر . إنَّ قرارالحرب فيما لو إتُّخِذ َمِن ْ قِبل ِأي طرفٍ ، سيكون قراراً ً أحمقا ً، وسيدفع هذي البلاد ــ التي ابتليت بقادة لايعشقون شيئا سوى الحرب ــ الى أن تغرَق في نهر ٍ من الدَّم  مرة أخرى ، والفجيعة أن ضحاياها أخوةٌ يتشاركون في أشياء كثيرة أكثر مما يختلفون في أشياء أخرى ، فبالاضافة الى الدين الاسلامي الذي يجمعهما برابطة ٍهي الاقوى من بين كل الروابط ،هنالك نسيج متداخل من العلاقات الاجتماعية الوثيقة التي يمتزج فيها العرب والكورد بصلات مُتداخلة يصعُب جداً ً فكُّ أواصرها ، وقد فشلت كل الحروب الدموية التي تورطت في إشعالها كل الحكومات العراقية التي تعاقبت على حكم العراق منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وحتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ، وفشلت تماما في تفتيت وتحطيم هذه الروابط رغم الدَّم الذي سَال َوالمجازر ِالتي ارتُكبت بحق الشعب ألكوردي  ،وهي كثيرة ومُخجلة جدا ً،ولايمكن نسيانُها أوغفران ومسامحة من تسبب بها ، ورغم هذا بقي الشعبان على الارض يلتقيان بعيدا عن شبهات السياسة والتباساتها وتواطئاتها ويتشاركان في الافراح والاحزان والعمل معا ً، هذا لانهما مُدركان تماما ً بحسِّهما ووعيهما الفطري ،أنْ لامشكلة يمكن أن تكون سببا حقيقيا ً في قطيعة ٍأوحقدٍ قد تحصل بينهما مهما كان حجمها ، وأنَّ كليهما يرتبطان بتاريخ مشترك صفحاته مشرقة وناصعة وهي أوسع كثيرا ًمن نقاطٍ سوداء َ كانت قد  توزعت عليه هنا وهناك ،بفعل عوامل وظروف معقدة يتحمل الساسة فيها العبء الاكبر في مسؤوليتها طالما هم كانوا قد لجأوا الى الحرب سبيلا خاطئا في حلها.
وعليه فأنني مؤمن بشكل مطلق ويشاركني في هذا  الاغلبية من الشعبين ، بأن الحرب فيما لو نشبت بينهما  فهي بلا أدنى شك ستكون خطأ جسيما ً جدا ً، وسيتحمل مسؤولية نتائجها الدموية كلا قادة الطرفين على حدٍ سواء طالما كانت بالنسبة لهما خيارا ً قائما ًومحتملا ً يحتِّم عليهما اللجوء اليه في حال فشل الخيارات الاخرى في التوصل الى حل ٍ لموضوعة الخلاف القائم بينهما والمتعلق بعائدية محافظة كركوك والمناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى وديالى والكوت، بينما تقتضي طبيعة العلاقة القائمة مابين الشعبين أن لاتكون هناك حربٌ بينهما أبدا ًوماتفرضه هذه العلاقة التاريخية من واجبات والتزامات أخلاقية واجتماعية قبل أن تكون على هيئة تشريعات قانونية كان الدستورالعراقي الجديد قد كفلها وأقرها والزَم جميع الاطراف المشاركة والمتشاركة في الحكم  بأحترامها وصونها .
ولكن هذا لايعني تجاهل وتبسيط حقيقة الخلاف القائم بين الحكومة المركزية والكورد، والاعتقاد الجازم أنَّ بالامكان الوصول وبكل بساطة الى حلٍ يرضي الطرفين عبر تجنّب قرار الحرب أولا ً واللجوء الى سُبيل الحوار والمفاوضات السياسية ثانيا ً.
ومع إقرارنا مبدأيّا ً بقدسيّة هذين الشرطين ووجوب الالتزام بهما دون قيد أو شرط باعتبارهما الخيارالوحيد الذي لابديل عنه أمام الطرفين المُختَلِفين إلاّ أننا ندرك تماما صعوبة المسالة وتعقيداتها سواء على الارض بأوجهها الجغرافية والديموغرافية أو لدى الاطراف السياسية ،مع مايتوفر لدينا من قناعة شبه تامة بأن الساسة في العراق مَلكيونَ كانوا أوجمهوريون أوقوميون أواسلاميون كلهم يتحملون وِزرَ ماوصلت اليه العلاقة مع الاخوة الكورد من تعقيد وتاريخ مؤلم مُضرج بأحداث مفجعة ٍ،عنوانها الدمٌ والدمارٌ،منذ بدئها قبل أكثر من ثمانية عقود من الزمن.
وبالنظرالى أهمية هذه المعضلة ومدى تأثيرها الواضح والكبير على طبيعة الاجواء السياسية في العراق ماضيا ًوحاضرا ًومستقبلا ًوما تَبِع وسيتبع ذلك من انعكاس سلبي مُهلك للمشاريع والخطط الاقتصادية هذا إذا ماتوقف الكثير منها تحت ضغطها وتبعا ً لِمَا ستفرضه من إستنزاف كبير للطاقات والموارد البشرية.
وفي آخر الامر ــ وهذا هو الاقسى والافدح ــ  لن يَجني منها الطرفان أي مكسب ٍ يعود بالفائدة على شعبيهما سوى انتصار عسكري ٍ زائف ٍ لاقيمة ولافائدة مرجوّة من ورائه،بعد أن يكون قد تسبب بالموت والهلاك للعشرات من المدنيين والعسكريين .
بذلك يتحقق ما تصبو وتخطط له أطراف سياسية متنوعة ــ داخلية وخارجية ــ من إحداث فتنة ٍ،وإشعال ِحرب ٍ، تُبعِد ُ العَرب والكورد عمَّا كانوا قد توصلوا إليه من تفاهم ٍوتعاون ٍوشراكة ٍ سياسية في الحكم تم الاتفاق عليها وتثبيتها دستوريا عقب العام 2003بعد نضال طويل وشاق كانا قد خاضاه سوية خلال عقود خلت من أجل الحرية والديموقراطية لكلا الشعبين، ولتدفع بالتالي بهما الى مستنقع ِ العداوة والاقتتال مرة أخرى ، حينها ، سوف لن تكون هذه الحرب فيما لووقعت ، سوى رمال ٍمتحركة ٍ ستبتلع الطرفين المتنازعين .
وبالنظرلأهمية وخطورة وتعقيد المسألة،فإن الواجب يستدعي من كلا الطرفين أن يقتنعا بأن حلها يحتاج الى وقت طويل جدا ً يستلزم الصبر والنفس الطويل يتم فيه الاتفاق على جملة من الخطوات والاجراءات العملية تتشكل بموجبها عدة لجان فنية مشتركة وبأشراف هيئات دولية تابعة للامم المتحدة، حتى لايتنصّل أيّ طرف ٍمن ايّة خطوة يتم التوصل اليها،على أن لايكون لهذه اللجان أي ارتباط بالحكومات التي تتعاقب على تداول السلطة في العراق ، سواء في بغداد أو في اربيل . وبعد أن يتم الانتهاء من كل العمليات اللوجستية التي تكون قد توِّجَت بأجراء ِتدقيق ٍ وإحصاء ٍ للسكان الاصليين لابد بعد ذلك من أن يتم إجراء إستفتاء شعبي يشارك فيه سكان المناطق التي يدورالخلاف والنزاع حولها فقط ،على أن تكون النتائج حاسمة وغير قابلة للطعن والرفض ، خاصة وأنها ستكون تحت مراقبة ورعاية منظمات دولية تستبعد كل ما قد يؤثرعلى سيرها بالشكل السليم والصحيح .
إن تجاهل هذه الحقائق التي أفرزتها تراكمات الاخطاء المتتالية للساسة والانظمة العراقية عندما تعاملت مع قضية الشعب الكوردي ، وذلك بالقفز من فوقها والانجرار مرة أخرى الى مَتاهةِ قرارات ٍكارثية لاتراعي تحقيق الامن والسلم بين مكونات الشعب وتصدُرُ عن مشاعرَ وعواطفَ منفعلة ٍومتأجِجَةٍ لساسة ٍ يتناسون حجم المسؤولية الاخلاقية التي تقع على عاتقهم وهم يقودون شعبا منهكا مازالت جراحه ندية، في لحظة حرجة ، هي أحوج ماتكون الى إلتزام الحكمة والصبر والعقل،أكثر مما تكون انسياقاً أعمى وراء قرارات تقود البلاد الى تهلكة أخرى لن تقوم منها هذه المرة سالمة أبدا ً، فيما لو سقطت فيها .
                                                                    15/ 12/ 2012

95
تشظي السرد وتعدد الاصوات
في رواية . . أبن طرّاق  .




                                                                                                                              مروان ياسين الدليمي
               

الادب الروائي لايشكل حضورا ً ملفتا في المشهد الابداعي  السعودي خاصة والعربي عامة، أولا ً لندرة الكتابات الروائية ،وثانيا ً عدم أهمية مايطرح من نصوص روائية بالمقارنة مع ماينتج من سرد روائي متقدم في عدد من البلدان العربية (مصر، المغرب العربي ،العراق،  بلاد الشام ) ، في مقابل هذا حاولت عدد من دور النشر أن تضفي  هالة من الاهمية المبالغ في تقديرها في اكثر الاحوال لبعض من الكتابات الروائية النسوية تحديدا ً،ويقف وراء ذلك غايات تجارية رغم الملاحظات الفنية المسجلة ضد تلك الكتابات ، مع اننا لاننفي توفرها على عدد من العناصر التي تمنحها اهمية خاصة ،وذلك يعود الى جرأتها وهي  تتناول موضوعات تتسم بحساسية بالغة في المجتمع السعودي عبراستثمار الفن الروائي ، كالجنس والعلاقات العاطفية الى غيرها من التابوهات الاجتماعية التي تشكل ستاراً ثقيلا يكبح جماح الشخصية السعودية التي تعيش وضعا مأزوما ً يزدادا إحتقانا ً يوما بعد آخر .
 ويشكل هذا المجتمع في بنيته صورة لما أطلق عليه نقديا مجتمعات مابعد الحداثة، وهي مجتمعات تبدو  مُتارجحة مابين تطلعاتها الذاتية نحو الحرية في التفكير واختيارات العيش وبين الخضوع تحت  هيمنة سلطات متعددة تتقاسمها تقاليد بدوية وقبلية ضمن منظومة متشددة من الافكار والمعتقدات المستمدة والمستنتجة من نصوص دينية مقدسة.
في ظل هذه الصورة البالغة الحساسية والتعقيد التي يعيشها المثقف والمبدع السعودي والتي يجد نفسه فيها مضطرا ً لأن يتعامل معها ويجاريها رغم نبرة الرفض والاحتجاج التي تتفجر بشكل خفي ومخبوء في ذاته ضدها لابد لنا ان نحتفي بأي عمل أدبي قادم من السعودية يسعى كاتبه الى كسر حاجز الخوف داخل نفسه أولا في محاولة منه لأن يمدَّ بصره خارج الحواجز والاسوار العالية التي يقبع مرهونا خلفها ، في سعي منه  لينفذ في أعماق مجتمعه المُتلفِع بالغموض الشديد والحجب الثقيلة ، سعيا ً منه لكشف الصراعات التي تخوضها الذات الانسانية في مجتمع محافظ ومتزمّت لايسمح مطلقا ً بالخروج عن الثوابت التي تعوّدت القوى المجتمعية على تقديسها والانحناء لها رغم عزلتها عن المتغيرات العميقة والواسعة التي شهدتها البشرية في إطاراحترام الحرية الفردية . وإذا ما توفر في أي نص روائي سعودي  جملة من العناصر الفنية المنجذبة نحو التجديد والخروج عن الاطر التقليدية في السرد والمعالجة عندها يكون أحتفاءنا منطلقه الاساس ، فني بحت،وليس إطراءً مبعثه التشجيع فقط .
رواية (أبن طرّاق )التي تقاسم فصول كتابتها محمد السماري وبدر السماري والتي تقع في 430 صفحة والتي صدرت طبعتها الاولى عام 2011 عن دار آثر للنشر والتوزيع في المملكة العربية السعودية / الدمام ، والدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت . تمثل نموذجا لعمل روائي أمتلك خصوصية العناصر الفنية التي توفرت عليها اساليب مابعد الحداثة ، هنا نجد في هذا العمل أن المسار الفني قد إكتمل بنائه في فصول سبعة حملت عناوينها الفرعية أسماء جميع الشخصيات التي أحتشد النص بها ، فكانت عناوين الفصول عتبات أشارية اكتسبت خصوصيتها المتنوعة من تركيبة الشخصيات مثل ( ابن طرّاق ، أبن مسمار ، الطارق ..الخ ) وفصول اخرى استمدت عناوينها من الاحداث ( محكمة 1 ، محكمة 2 ، فياجرا ، الطريق الى ماوراء الشمس ) .
 جرأة هذا النص الروائي وماأشتمل عليه من خصوصية فنية تبدو من الصفحة الاولى عندما يطالعك الاهداء بهذه الجملة :"إلى الذين ماا نفكوا ينصبون الحواجز،نشكركم كثيرا،إذ منحتمونا عزم عداء أولمبي " .
هذا المفتتح  يمْسِكَنا نحن القُرَّاء ليقودنا الى عالم ابن طرّاق كي نشهد معه الدقائق الاخيرة من حياته قبل ان يلفظ انفاسه وحيدا على سرير بارد في مستوصف القرية والخالي من المراجعين والاطباء بعد نهاية الدوام الرسمي ولايقف الى جانبه سوى صبحي المصري سائقه وكاتم اسراره الشخصي ولاأحد من نسائه الاربعة ولاأولاده ومحضياته اللواتي كان يغدق عليهن الكثيرمن العطف والمحبة والرأفة، اضافة الى ما كان يمنحهن من مالٍ بسخاء ٍواضح ٍ إفتقدنَه ُ فيما بعد في شخصية ابنه الاكبر جبل الذي تولى ادارة شؤون العائلة حسب ماتقتضي الاعراف بعد وفاة والده بأعتباره الاكبر من بين جميع الاولاد الذين تركهم ابن طراق من نسائه الاربعة ، ليجد نفسه فجأة مسؤولا عن الارث الكبير  الذي تركه والده  من الاموال والاملاك ،والذي لايعلم عنه الاّ القليل ،كما يجد نفسه منساقا الى الاستمرار في احياء الحياة السرّية لوالده  في مزرعة تقع خارج مدينة الرياض كانت تشهد سهرات اسبوعية تتكفل بتنظيمها ( لوزية ) التي كانت قد استجابت لكل طلبات أبن طرّاق ووفرة له كل مايشتهي من أصناف النساء، وفيما بعد سنكتشف أن لوزية  تعمل في النهار موظفة في سلك التعليم بدرجة نائبة مديرة مدرسة ثانوية وفي الليل تعمل ( قوّادة ) تتولى ادارة شؤون العديد من الفتيات والنساء العاهرات،بعضهن ينتمين الى اصول قبلية عريقة في المجتمع،وهذه السهرات الاسبوعية كان ابن طراق حريصا على إقامتها فكانت تحفل بالنساء الباحثات عن الحب والحرية والعطف قبل المتعة والمال وهذا هو ماوجدنَه في سهرات ابن طرّاق الذي كان يتسع قلبه لهُنَّ قبل أي شيء آخر .
مالذي يمكن أن يستدعي في الذاكرة عندما يواجه قارىء هذه الرواية في وسط أعلى الصفحة الاولى عنوانا ً يقول  : " مثل كلب "  .  فتكون هذه العبارة مفتتحا ً للدخول الى الفصل الاول منها . تلك كانت دهشة اولى يستيقظ فيها الوعي المعبأ بالمفاهيم والمقولات الجاهزة عن بيئة المجتمع السعودي، ثم يأتي بعدها حوار آخر  يتألف من جملتين:
                                     "- أسرع ياقواد
                                      - حاضر ياعم
 ليكشف فيهما الكاتبان عن مسارغير متوقع  يبعد تماما عن سطحية الصورة المترسِّبة في ذاكرة القارىء حول طبيعة مايمكن أن يكون عليه الادب السعودي من محافظة وتقليدية .
فيما يتعلق بحبكة الرواية وبنيتها الفنية التي خرجت تماما عن المنظومة التقليدية في سرد الاحداث وبناء الحكاية،  لتتشظى الى حكايات يتعاقب على سردها ضمائر مختلفة تمثل اصوات الشخصيات التي تتحرك في نسيج التفاصيل المتداخلة مع بعضها والتي تتمركز جميعها عند شخصية( أبن طرّاق ) المحورية . وهذه من الخاصايات التي أفرزتها مرحلة مابعد الحداثة حتى أن العديد من الشخصيات الروائية الهامشية تتقاطع في رؤيتها للاحداث ليجد قارىء العمل أن كاتبي الرواية هما الاخران يتحولان في لحظة ما من زمن بناء حبكة الرواية الى شخصيتين روائيتين تتقاطع رؤيتاهما مع كاتبي الرواية ايضا ً اثناء سردهما للاحداث ويترك المؤلفان محمد السماري وبدر السماري لشخصيتي المؤلِفين المُفتَرضَين للنص الروائي داخل النص الروائي نفسه حرية البناء السردي والتفكير بعيدا عما يخطط الكاتبان الاصليان محمد وبدر السماري في تأثيث معمارية البناء السردي، وهنا تكمن الخاصية الفنية للرواية والمتجسدة في تعدد الاصوات التي تنسج حبكتها وتروي الاحداث وفقا لمنطقها ووجهة نظرها ، وهذا  يتوافق مع ما أشار اليه محمد برادة في المقدمة التي كان قد كتبها عندما ترجم كتاب(الخطاب الروائي) لباختين ،إذ يقول :"خطاب الرواية خطاباً خليطاً متصلاً بسيرورات تعدد اللغات والاصوات وتفاعل الكلام والخطابات والنصوص ضمن سياق المجتمعات الحديثة القائمة على انقاض قطائع اجتماعية وابستمولوجية مع مجتمعات القرون الوسطى "
بلاشك ان هذا العمل الروائي فيه الكثير من الاشتباك الفني مع ماجاء من طروحات فنية انتجها الفن الروائي لما بعد الحداثة ، وقد اتسم في عموم بنيته الفنية بالتشظي والانشطار : "النقيض يجاور نقيضه في اتصال غير منقطع " كما يقول عبد الله الغذامي في كتابه (هويات مابعد الحداثة) ولان المجتمع السعودي هو الاخر يعيش حالة من التحولات التي تتعمق فيها الصراعات  القائمة بين تراكيب وهويات متناقضة خلال العقود الاخيرة لذا أجد هنا الكثير مما تنطبق عليه تلك المقولات التي كان قد توصل اليها هيغل عندما ربط بين شكل الرواية ومضمون التحولات البنيوية التي كان قد شهدها المجتمع الاوربي خلال صعود البرجوازية وقيام الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر .
 ونتيجة لمايحدث في المجتمع السعودي من ارهاصات كان لابد ان ينعكس ذلك على الفن الروائي وليتحول هو الاخر مستجيبا لهذه المتغيرات ، وهذا مايبدو واضحا في تركيبة  الشخصيات التي بتنا نواجهها وهي تخوض أختياراتها وانحرافاتها بعيدة عن النمط التقليدي الذي يهمين على سطح المجتمع مثل شخصية فردوس الزوجة الشابة لابن طراق التي  يأتي  ترتيبها الرابع بين زوجاته،  فالكاتبان قدّما هذه الشخصية لتعبر عن جيل جديد يحرص على أرتداء أحدث ماتطرحه دورالازياء من بناطيل الجينز الضيقة كما لاتتردد في أن تستعرض نفسها أمام أبن زوجها (جبل)  لكي تعرف رأيه فيما لوكان البنطلون الضيق لائقا ًعلى جسدها أم لا ، هذه الشخصية بهذا البناء المتمرد الذي جاءت عليه والتي لاتصغي حتى لوصايا ونصائح ابيها تجسد نموذجا صريحا ً للقوى الاجتماعية التي باتت تجابه مايفرض عليها من عقبات تهدف الى ارغامها على الخضوع لمواضعات العلائق الاجتماعية التي عرفها وكرسها المجتمع . 
عموما  رواية ابن طراق تشكل تحديا مهما ومثيرا في الكتابة الروائية المشتركة التي سبق أن تعاطى معها عدد من الروائيين العرب،على سبيل المثال تجربة جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف في رواية عالم بلا خرائط . 
إضافة الى كونها عمل روائي جريء وغير تقليدي في بنيته الفنية ويعكس صورة مشرقة لطبيعة النتاج الفني الذي بات يفرض وجوده في خارطة مايطرح من أعمال روائية في المشهد الابداعي السعودي . 

96
السينما والمثقف العربي





                                                                                                                      مروان ياسين الدليمي

أُطر ضيّقة

في محيط يتسم بمحدودية المساحة المتاحة امام المبدع في الاختلاف والاستقلال وهو ينجز مشروعه الفني أمست القراءة المتفاعلة مع الفن السينمائي مُتَّسِمَة بقصور ٍ واضح لفهم طبيعة الخطاب الجمالي الذي يحتشد داخل البناء الفني للفلم ، وقد بدت ملامح هذا  القصور مرافقة للفن السينمائي منذ دخوله الى المنطقة العربية في عشرينيات القرن الماضي وحتى الان .
بعد هذه الرحلة الطويلة التي عبرت حدود قرن كامل يبدو من اللافت للنظر  أن الفن السينمائي في العالم العربي مازال عاجزاً عن أن يكون جزءاً من منظومة المقترحات والتأسيسات  التي تطرحها الانساق  الثقافية التي تشكل بأسئلتها ومشاريعها فضاء الوعي في المجتمعات العربية والتي من خلالها يتم إعادة  تسمية الاشياء من جديد  وفقاً للمتغيرات التي يشهدها الواقع ، وبقي تأثير هذا الفن ضمن أطر ضيقة ومحدودة لاتتعدى هامش النخب العربية المثقفة .
التجربة الفنية بشكل عام سواء كانت شعراً او رواية او لوحة تشكيلية  أو فلم سينمائي تتحدد أهميتها وحضورها الفاعل والمؤثر من خلال ماتطرحه من تجديد واضافة ومقترحات في لغتها  إضافة الى ماتتطرحه التجربة من اسئلة تتقصى وتبحث في مناطق بِكر من خلال زوايا نظر جديدة  لم ينتبه لها أحد ، ايضاً ما تطرحه هذه اللغة من علاقات جديدة  تقوم على انقاض القديم مع الموجودات من أشياء وكائنات وشخوص وأمكنة وذكريات وطقوس .
الشريط السينمائي لايخرج في مقاصده عن هذا الاطارفيما يذهب اليه من إقتراح ِافق ٍوكتابة ٍجديدة لطبيعة العلاقات التي يحتويها ضمن حبكته المعمارية .بعد أن يقودنا الى منطقة من التفكير والتأمل ، ترتبك فيها مفاهيمنا وثوابتنا بعد أن كانت تعيش مرحلة الثبات والاستقرار في دواخلنا .
وهنا وضمن هذا المفهوم الذي نؤكد عليه يقول ادونيس : " أنا اعتقد ، تعقيباً ، أن النص الاكثر حداثة اليوم ، هو الفيلم السينمائي . حين أرى فيلماً لفلليني ، مثلاً، أو بازوليني ، فأنا أعتقد أن هذا الفيلم يمكن أن يحقق مفهوم النص بمعناه الحديث . ففيه الصورة ، الشعر ، نثر ، القصة ، فيه كل شيىء ، ولعلنا نطمح في أن نكتب نصاً ( بالكلام ) يشبه النص السينمائي بطريقة أو بأخرى " 1 .
هذاالفهم العالي لطبيعة الفن السينمائي من قبل شاعر ومثقف عربي استثنائي في تجربته الشعرية وفي رؤيته النقدية للثقافة العربية . وهذا الطرح فيما يعنيه ان الشريط السينمائي هو الاخر مثل بقية الفنون الابداعية الاخرى خاضع لقانون التطور الذي يقتضي تغيراً في الاشكال وليس من المنطقي الخضوع في القول تحت أردية الاخرين التي سبق ان ابتكروها للتعبير عن افكارهم هم لذا ينبغي التعامل مع  اية تجربة سينمائية تخرج في خطابها الجمالي عن المعجم الذي وضعنا فيه الارث السينمائي سواء العربي منه او الاجنبي على انها تجربة سينمائية ينبغي قراءاتها والتعامل معها معها على هذا الاساس مثلما حصل في العديد من دول العالم التي شهدت تجارب حاولت الخروج من القوالب الجاهزة  في المعالجات الفنية كما في فرنسا والبرازيل وكوبا وايطاليا . فليس من المنطقي ان يعبر جميع البشر عن مايريدون قوله بنفس الطريقة في القول وبنفس الصياغة التركيبية للكلام . فلكل منّا طريقته في القول تبعاَ للتركيبة التي تقوم عليها شخصيته وبالتالي سيكون لكل مخرج سينمائي فلمه الخاص الذي من خلاله يعكس طريقة بنائه للمفردات والجمل الصورية التي تتابع على الشاشة وفقاً لتجربته ورؤيته الشخصية التي تطرح قواعدها الخاصة في طريقة القول والطرح وايصال المضامين والافكار .اذ ليس من المنطقي ان نبقى نتحرك ضمن اطار دورة من القوانين والمفاهيم جاء بها ايزنشتاين وبودوفكين وغريفث الخ من الاسماء التي كانت قد اسست القيم الجمالية والبنائية لهذا الفن في بداياته ولو تعامل السينمائيون الذين جاءوا بعدهم وفق هذا المنظور لما شهدنا افلاماً لفلليني وكلود ليلوش ودي سيكا وكوبولا الخ من الاسماء التي كانت تكتب على الشاشة رؤيتها الخاصة في بناء وتركيب الجملة السينمائية بعيداً الاشتراطات المسبقة والجاهزة التي تآلف معها الجمهور وامست جزءاً من ثقافته ومدركاته الثابتة .


في مقابل  هذا النظرة التي عبر عنها ادونيس في حديثه الذي اشرنا اليه سابقاً نجد امامنا نظرة اخرى على النقيض منها ، مافتئت مهيمنة وبقوة لدى غالبية النخبة المثقفة مع عموم الناس حول الفن السينمائي لاتتعدى كونه : وسيلة للتسلية والمتعة ألآنيّة التي تتشابه مع أية لعبة أخرى وإن بدرجة أكثر تشويقاً .

إغتراب السينما

تكدست خلال قرن كامل على ظهور الانتاج السينمائي في المنطقة العربية وتحديدا مصر نمطاً من القيم الفنية  تتمحور ضمن اطار ثابت منغلق على نفسه بكل سطحيته القائمة على مفردات شكلية في السرد والمعالجات يتم تكرار انتاجها مع كل فلم مُنتَج ، بحيث تشكلت وفقاً لهذا السياق مشكلة لايمكن تجاوزها بسهولة من قبل المبدعين الذين يقصدون الابحار ضد هذا التيارسعياً منهم لتفتيت هذا المعجم من الجمل السينمائية الجاهزة من اجل طرح معالجات جديدة تقوم على البحث واكتشاف معجم سينمائي جديد وهم يطرحون افكارهم وتأملاتهم على الشاشة . ومازالت جهود هؤلاء السينمائيين تصطدم بهذا الجدار الذي تعاون على تشيده عامة الناس والنخب المثقفة على حد سواء في الخروج من معايير السينما التي يقتصر دورها على سرد الحكايات بطريقة تستجيب لمعايير سابقة متفق عليها في معجم يحفظ مفرداته عن ظهر قلب  المنتِجون والمتَلقون.
هذا الاغتراب أمسى سمة واضحة للفن السينمائي في العالم العربي على العكس من بقية الفنون التي وفدت هي الاخرى مع مطلع القرن العشرين من خارج المتن الثقافي المندرج في المؤسسات الثقافية العربية التقليدية مثل الفن المسرحي والتشكيلي والروائي والقصصي ، وأمست هذه الفنون الوفدة بتراكم النتاج الفني لكل منها   جزءاً اساسياً من هذا المتن  رغم  محاولات الكثير من الباحثين العرب لأن يثبتوا عبر بحوث اكاديمية  الوصول الى جذور وملامح واشكال أوليّة لهذه الفنون الابداعية في ماضي وتراث الثقافة العربية في محاولة منهم لاثبات شرعيتها .!
ولكن رغم وجود ملامح غائمة  في فترات من الماضي البعيد تلتقي الى حد ما ولو بخيط رفيع مع الاسس الفنية التي تقوم عليها تلك الفنون الوافدة إلاّ ان هذا لم يشكل عائقاً أو عقبة في تجذّرها ونموّها في خارطة الثقافة العربية المعاصرة ، على العكس مما هو قد حصل مع الفن السينمائي الذي بقي معزولا ومهمشاً من قبل النخب المثقفة  .
من الملاحظات التي تؤشر على طبيعة الفهم النقدي السائد سواء لدى النخبة او لدى عامة الناس عند مشاهدة اي شريط سينمائي هي هذه المقابلة القسرية للتجربة الابداعية  في الفلم السينمائي مع الواقع ،احداثاً وشخوصاً وتفاصيل ووقائع . وهم بذلك يريدون من الفلم ان يكون كما وثيقة تاريخية وهذا ابعد ما يهدف اليه المبدع في شريطه فهو في المحصلة النهائية لايسعى الى استمالة التاريخ ولا الى الوصول الى ابسط متلق بقدر ما يسعى الى فهم ذاته والعالم المحيط بها هذه هي محور العلاقة الجدلية التي تربط الفنان بالحياة من خلال الاعمال التي يقدمها .
هذا التصور القائم على  إزاحة الوظيفة الجمالية والمعرفية للفن السينمائي من قبل النخبة المثقفة والتي تنسجم مع بساطة الفهم  والتقييم لدى بقية طبقات المجتمع بقي ينطلق من تقييم لايتعدى حدود التسلية االقادمة من  الحكايات التي يتم سردها عبر الشريط السينمائي ، وتم اختصار الخطاب المركب لهذا الفن على أنه :  وسيلة جميلة لسرد الحكايات فقط وتم تجاهل مايحمله من امكانات ثرية في انتاج خطاب جمالي لرؤية للحياة بكل مستوياتها وتنوعها ، وبكل مايشغل الذات الانسانية وهي تتحرك في محيطها الاجتماعي .
هذا القصور في التقييم يعود بنا الى البدايات الاولى لدخول الفن السينمائي الى البيئة العربية ، ومعلوم لدينا طبيعة الروافد الماضوية التي تشكل ثقافة هذه البيئة وبالتالي مايترتب على ذلك من  محدودية الافق الذي تتتحرك به وحدود الحرية التي يمكن للوعي الانساني أن يخطوبها وهو ينظرالى حركة الحياة ماضياً وحاضرا ومستقبلا .

حدود الحرية
من الطبيعي أن يجد الفن السينمائي  والذي تشكل الصور المُستنتجة من الواقع قيمة اساسية من اسس بنائه الفني  صعوبة في تحقيق حضوره المهيمن في الثقافة العربية المعاصرة طالما بقي المنتج الثقافي بكل اشكاله وحقوله يخرج من اطار مؤسسات تقليدية تتحكم بمركزية واضحة في منظومة القيم الفكرية والجمالية التي ينتجها المجتمع اضافة الى حدود المساحة الضيقة التي ينبغي على المثقف ان يتحرك بموجبها وعلى اساسها ، ولن يكون بمستطاعه أن يتجاوز ماهو مسموحا له ضمن هذا الاطار الواضح والثابت ولو حاول أن يتجاوزه فإنه بلاشك سيكون في موضع حرج جداً وستترك معركته هذه والتي سيخوضها وحيداً أثاراً واضحة علىه وفي ابسط صورها سيجد نفسه غير قادر على الاستمرار في تحقيق مايصبو اليه من مشاريع ، فهو لن يجد ساعتها وسط هذا الصراع الغير متكافىء من حيث العدة والعدد من سيغامر ليقف الى جانبه مستثمراً أمواله في مشروع سينمائي لن يأتي بثماره تجارياً .   
هذا السياق يتقاطع تماماً مع طبيعة الخطاب الذي يسعى اليه الفنان السينمائي ويشدد عليه وعلى حضوره في رؤيته ومعالجاته الفنية  خلف صورة واقعية تبدو بسيطة لكنها تملك من المستويات المركّبة والمتداخلة مايجعلها قادرة على خلق علاقة تبادلية في التجاذب والتحاور والتأمل مابينه وبين الجمهور الذي يتشكل عادة من فئات وطبقات اجتماعية متباينة في الفهم والتلقي .
في عتمة هذه الصورة التي تشكلها ثقافة مُغترِ ِبة عن متغيرات الحاضر والمستقبل يبدو هنا الانسان العاجز والمُستهلِك للثقافة السائدة انساناً مُتصالحاً مع ثقافة المؤسسات التي يرتكز عليه المجتمع وأعتاد على انتاجها واستمراها وحضورها في حياته قيماً واعرافاً وسلوكا وعلى العكس من ذلك يبدو الفنان السينمائي المطوّق بالحرية وكأنّه  ملتاث العقل لا لشيء إلاّ لانه يغرد خارج سرب  الثوابت الثقافية  التي طوّقت  المجتمع وتكامل بها عبر عشرات السنين .

غياب المشروع الثقافي 
في عشرينيات القرن الماضي إنتبه طلعت حرب رجل الاقتصاد المصري الى هذا الفن الجديد وبدأ في منح القروض المالية انطلاقاً من دوافع اقتصادية الى من كانوا يسعون للعمل في هذا الميدان ، وبدأت تتوالى المشاريع السينمائية في مصر نتيجة هذا الدعم ، لكنه ورغم ماقدمه من فرص كبيرة لانبات الفن السينمائي في البيئة المصرية إلاّ انه لم يتعامل معه باعتباره مشروعاً ثقافياً يسعى من وراء دعمه الى تشكيل وعي جديد في مواجهة وعي آخر يتسم بالخضوع لسلطة الماضي ، بل كان  منطلقه في ما ذهب اليه من مساندة وتشجيع لايخرج عن كونه مشروعاً اقتصادياً لاغير ، اي أن الفعالية الثقافية كانت غائبة عن هذا الاستثمار ، وهذا ماشار اليه الباحث السينمائي عدنان مدانات في كتابه المهم ( سينما تبحث عن ذاتها ) وهنا يقول مدّانات بهذا الصدد " ان ظروف التطور الاجتماعي والاقتصادي في مصر أعطت السينما المصرية الناشئة زخماً خاصاً عندما أستوعبت البرجوازية المصرية الصاعدة ظاهرة السينما باعتبارها ظاهرة صناعية عصرية ووسيلة استثمار هامة " . 2
بقي هذا المنطلق الاقتصادي البحت هو المحرك الاساس لاستمرار عجلة الانتاج ، وإن كان هذا الفهم الاقتصادي ناقصا في استيعابه لطبيعة ماينبغي ان يتوفر عليه من قاعدة مادية  لدعم هذا الاستثمار حتى يأتي بأرباح تتنامى عاما بعد اخر ، ومشروعاً بعد آخر ،  كما حصل في بداية السينما الاميركية ، التي انتبهت الى أهمية القيمة الاقتصادية والاستثمارية لهذا الفن الجديد الذي كانت اوربا هي الارض الذي تم اكتشافه فيها وشهدت فرنسا اول عرض سينمائي عام 1896 . لأن رجال الاعمال الاميركان بما يملكونه من شهوة وطموح كبير للمغامرة والمقامرة بدأوا منذ مطلع القرن العشرين في وضع الاسس المادية لقيام صناعة سينمائية قادرة على تمويل مشروعاتها بنفسها فتأسست بناءً على ذلك شركات الانتاج السينمائي وتبعها في خطوة مهمة جداً بناء العديد من دور العرض السينمائي الخاصة بكل شركة انتاج لضمان  استرجاع رأس المال وتحقيق الارباح عبر احتكار عرض الافلام  في دور العرض الخاصة بها ، وهذه هي الخطوة الاقتصادية  الاساسية التي  لم ينتبه لها صناع السينما في البلدان العربية  .
ولكي لانذهب بعيدا في الحديث عن السينما ضمن اطارها الاقتصادي الذي ليس هو مانهدف اليه نعود لنقول إن لحظة التحول في النظرة الى الفن السينمائي بأعتباره خطاباً ثقافياً وجماهيرياً يمكن ان يحقق الكثير مما تعجز عنه مؤسسات حكومية اخرى جاءت مع سقوط النظام الملكي في مصر عام 1952 ومجيء العسكر الى الحكم .

أدلجة الخطاب
هنا في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ المنطقة حدثت نقطة التحول الكبيرة في التعامل مع الفن السينمائي ، وبدا واضحا ان القيم القومية  التي جاء بها الزعماء الشباب العسكر تحت راية الضباط الاحرار كانت الدافع الاساس نحو انتاج ثقافة جديدة تستجيب لمقتضيات التحول الاجتماعي الذي اعلنه عبد الناصر ورفاقه ضد القوى الاجتماعية التقليدية في المجتع المصري القائم على بنية طبقية واضحة يشكل الفلاحون فيها  الطبقة الاكبر مقابل قوى الاقطاع والبرجوازية التجارية في الطرف المقابل . .
اخذت السينما في هذه المرحلة ــ بأعتبارها منتوجاً ثقافيا اضافة الى كونها نتاجا فنياً ــ بعداً ايدولوجياً واضحاً في معظم الافلام التي انتجتها الدولة من خلال القطاع العام الذي أوجده النظام السياسي الجديد في مصر بعد أن تم تأميم العديد من القطاعات الاقتصادية ومنها قطاع الانتاج السينمائي . 

يقول الناقدالناقد السينمائي أمير العمري عن هذه الفترة من تاريخ الانتاج السينمائي في مصر " خلال الستينيات، شهدت السينما تطورات درامية، بعد أن اتجهت أنظار الدولة أيضا إلى ضرورة دعم الصناعة، وتشجيع إنتاج الأفلام التي لا يستطيع المال الخاص تمويلها، وهي فترة ظهر فيها الكثير من الأفلام الجيدة دون شك، لكن هذه السياسة أصبحت مثار جدل ربما حتى وقتنا هذا، ولم تمر دون مجازفات ومخاطر بل ومنزلقات. فلم يكن ممكنا أن تتيح الدولة حرية النقد في مراحل وصفت بأنها ' مصيرية، وعرفت مواجهات عسكرية مسلحة مع إسرائيل، وهو ما استدعى أن يكون هامش حرية التعبير محدودا للغاية، غير أن السينمائيين كانوا يستخدمون الهامش إلى أقصى مداه، ويلجأون إلى الرمز والاستعارة والتشبيه."3
وعلى الرغم من هيمنة الخطاب الفكري الذي روّج لافكار المرحلة الجديدة على حساب الرؤية الذاتية للفنان الذي يقف وراء بناء العمل الفني إلا أن هذه المرحلة كانت نقلة نوعية في مسار تقييم وفهم طبيعة الخطاب السينمائي ومدى التأثير الفكري الذي يمكن أن يحدثه في العقل الجمعي .
بقيت هذه العلاقة مع الفن السينمائي التي رسمتها  ثقافة السلطة الجديدة تشكل تحدياً واستفزازاً آخر أضيف الى ثالوث التحديات التقليدية ( السياسة  ، الدين ، الجنس ) تواجه الفنان السينمائي في المنطقة العربية خاصة بعد أن تم استساخ نمط هذه العلاقة في معظم الدول العربية التي عرفت  فيما بعد الانتاج السينمائي  .

على هامش الفكر
 وضمن هذا الاطار الدرامي الذي كان يتمحور فيه طبيعة الصراع القائم مابين المشروع السينمائي بمحمولاته الجمالية والمعرفية من جهة والبنية الثقافية للقوى المجتمعية التي تتخندق بولاءاتها القبلية والدينية من الجهة الاخرى كانت النخب المثقفة في المنطقة العربية من مفكرين وادباء وشعراء تقف في المحصلة النهائية في خندق القوى التي تعاملت مع الفن السينمائي انطلاقاً من نظرة هي  ليست سوى فريسة لفهم بسيط الى هذا الفن باعتباره أبعد من أن يكون في حاضنة الفنون الابداعية التي يمكن أن تحمل خطاباً ثقافياً ثريا بمحمولاته الجمالية والمعرفية التي تعكسها عادة حقولا إبداعية تقليدية كالشعر والرواية والقصة إضافة الى بقية الحقول التي يشتغل فيها الفكر من نقد وفلسفة ، ومازال هذا الفهم بكل الفجوات التي يحملها يشكل ظاهرة  قائمة في الثقافة العربية .
ومن مظاهر هذا الفهم الذي  يبدو وكأنه راسخاً في اذهان النخب المثقفة : -  اهمال النتاج السينمائي واستبعاده من دائرة اهتمام  المفكرين والمثقفين وعدم ادراجه في لائحة بحوثهم ودراساتهم الاكاديمية والبحثية  التي عادة ماينشغلون بها طيلة مسيرتهم الفكرية . هنا يشير الناقد السينمائي المغربي محمد نور الدين افاية في بحثه المعنون : " السينما – الكتابة والهوية إذ يقول " الفكر العربي المعاصر لم يعمل على مقاربة السينما كظاهرة ثقافية مركبة الابعاد " 4. ويقول أيضا في مكان آخر من البحث  " الفكر العربي المعاصر لم يدمج حقل السينما في اهتماماته كحقل للابداع الثقافي أو كمجال خصوصي للتذوق الجمالي ولانتاج الايدولوجيا ، فما زالت السينما على هامش التفكير العربي بالرغم من كونها تشكل إحدى الروافد الاساسية لتشكيل الحساسية العربية المعاصرة " 5
هذا الاستنتاج يشير بوضوح  الى أن هذه النخب تعيش وضعاً مُستلباً ومزدوجاً جاء نتيجة خضوعها امام ألخيارات الثقافية المطروحة امامها والتي تستطيع من خلالها ان تتستر باللغة لتتفادى المواجهة مع منظومة الثقافة المستأثرة بسلطة الواقع الاجتماعي مراهنة بذلك على ان لغة الادب والشعر لايملك العامة من الناس القدرة على التواصل معها وتفكيك رموزها باستثناء الذين يقرأون ويكتبون على عكس الفن السينمائي الذي يتفرد  بقدرة واسعة للوصول الى عموم الناس  ، لذا لن يشكل خطابها  خطورة مباشرة لها مع ثقافة المؤسسات التقليدية القائمة ولو الى حين ، ويمكنها بذلك ان تبقى بمنأى عن الاخطار والمواجهات التي قد يأتي بها الخطاب السينمائي مهما كان مُركباً وملغزا ً في بنيته الجمالية كما هو الحال مع  افلام يوسف شاهين على سبيل المثال ، الذي شكلت مسيرته الفنية خير نموذج لما ذهبنا اليه من صراع عنيف مع المؤسسات المجتمعية التقليدية . وهنا نستعيد  رأي الناقد السينمائي المصري  أمير العمري وهو يتحدث عن  سينما يوسف شاهين فيقول عنها " كانت فنا وثقافة إضافة إلى عنصري التسلية والامتاع. كما أن تجربة شاهين السينمائية سوف تثير شهية النقاد الجادين وتحفزهم على الكتابة النقدية الرصينة" 6

تحديث السينما
لو عدنا قليلا الى الوراء لاكتشاف الاسباب والعوامل التي احدثت تحولا ونضجاً كبيراً في طبيعة الفن السينمائي واخذت به بعيداً جداً نحو فضاء اكثر سعة وثراء من حيث المحولات الفكرية والجمالية التي يمكن ان يستوعبها ويرسلها بالتالي الى المتلقي لوجدنا ان من وقف وراء تلك التحولات اناساً جاؤا من حقول فكرية وادبية بعيدة عن الفن السينمائي ، تنوعت مابين الفلسفة والسيميائية هذا مانجده في خمسينات وستينات القرن الماضي عندما دخل الى حقل الفن السينمائي في ايطاليا وفرنسا مجموعة من الاسماء التي جاءت من تلك الميادين الفكرية وبدأت في طرح تنظيراتها وافكارها حول طبيعة ومفهموم الفن السينمائي محاولة تفتيت الرؤية القديمة التي قام عليها هذا الفن والتي كانت تختصره بسرد الحكايات على الشاشة .
وادخلت ماكانت قد توصلت اليه البحوث والدراسات في اطار اللغة والسيميائية وعلم الجمال ، كان الهدف من ذلك الارتقاء باللغة السينمائية وطبيعة الافاق الذي يمكن ان تذهب فيه محمولات الخطاب السينمائي بعيداً عن بساطة الموضوعات والطروحات والمعالجات الاسلوبية للارث  السينمائي المتراكم منذ بدايات الفن السينمائي .
ونتيجة لدخول تلك الاسماء الى الحقل الكتابي والتنظيري السينمائي  والتي جاءت من ميادين بعيدة عن المشغل السينمائي وقريبة جداً من مشغل الفكر والفلسفة واللغة والادب حدث التحول الكبير في تاريخ الفن السينمائي على مستوى الفهم والاسلوب والمعالجة والموضوعات ، وذلك عندما ظهرت السينما الواقعية في ايطاليا  والسينما الجديدة في فرنسا . وكان ذلك ايذاناً ببدء مرحلة جديدة ومهمة من تاريخ الفن السينمائي مازالت اثارها ونتائجها واضحة وسارية حتى الان ، ولولاها لما شهدنا هذا النضج والنمو في البنية الجمالية للخطاب السينمائي بعيداً عن النمط التقليدي للفلم السينمائي  الذي تنتجه السينما الاميركية والذي تتحكم بقيمه الفنية الثابتة قواعد ومنظومة السوق الاقتصادية .
لم يكن المخرج الايطالي بازولويني عندما جاء الى الفن السينمائي بعد الحرب العالمية الاولى سوى شاعر متمرد على سكونية اللغة ومحدودية مدلولالتها فنقل ثورته تلك الى الفن السينمائي ليبدأمعه رحلة التغيير والرؤيا الجديدة لما يحتمله هذا الفن من فضاء واسع وشاعري في آن واحد وهكذا الحال مع انطونيوني ، وكودار وجان كوكتو الفرنسيان ، ولويس بونويل الاسباني واخرين لامجال لذكرهم .
إذن معظم الذين جاءوا بالوعي الجديد في فهم الفن السينمائي كانوا كتاباً وشعراء ونقاداً ، ارادوا من خلال كتاباتهم التي كانت تتحرك في محيط ثقافي ينطلق من فكرة التجديد في بنية ولغة الخطاب الثقافي بكل تجلياته الابداعية والفكرية وبقية الانشغالات الادبية التي كانوا قد  انطلقوا منها في بداية مشوارهم لتحقيق ذاتهم ومشروعهم الذي كانوا يدعون اليه ، ولولا هؤلاء لما حدثت هذه النقلة النوعية والقاطعة والمفارقة في تاريخ وجمالية الخطاب السينمائي .
في منطقتنا العربية لو نظرنا الى العاملين في حقل الفن السينمائي خاصة في المواقع الاساسية منها : الكتابة والاخراج  ، لوجدنا ان هنالك عدد محدود جداً قد جاءوا من حقول الادب أو الفكر ليعملوا في الفن السينمائي باعتباره خطاباً ابداعياً فيه من المساحة الواسعة التي تنتج زمنا ً مركباً يمنح الاستعارة والرمز والدلالة طاقة من الازاحة تزاحم  إختزال البلاغة التي يتيحها الادب والشعر .
وهنا ينبغي ان لاننسى تلك التجارب السينمائية التي كانت تحمل في ثناياها ملامح منطوق جديد غير مكتوب في تاريخ السينما العربية ولم يكن منسجماً مع المخيلة التقليدية التي صاغت معظم الارث السينمائي العربي والتي ابتدأت مع مطلع سبعينات القرن الماضي ، نذكر البعض منها على سبيل المثال لا الحصر انطلاقاً من أهميتها وتأثيرها الذي تعدى الفترة التي جاءت فيها ويمكن أن نذكر تجارب عدد من المخرجين السوريين الذين كانوا قد مارسوا انشطة كتابية في النقد والادب أضافة الى ألعمل في السينما وهو مايمثل القاعدة المفقودة التي نبحث عنها هنا لانتاج سينمائي يستوعب منطق ومخيلة الابتكار لانه يستند الى حبكة معرفية ينطلق منها العاملون المبدعون في الفن السينمائي منهم على سبيل المثال محمد ملص وقيس الزبيدي (العراقي الاصل)  كذلك في مصر جماعة السينما الجديدة الذين انبثقت في حركتهم  دينامية جديدة على سطح الحياة السينمائية ،وذلك عندما اصدروا عام 1968 أول بيان سينمائي نظري قصدوا من خلاله سنَّ قيم جديدة لسينما يطمحون الى تحقيقها جاء فيه : " إن الذي نريده سينما مصرية ، أي سينما تتعمق في حركة المجتمع المصري وتحلل علاقاته الجديدة وتكشف عن معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات ،ولكي تكون لدينا سينما معاصرة لابد أن نمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله، وعندما تكون السينما واقعية محلية الموضوع عالمية التكنيك واضحة المضمون بفضل تعمق السينمائيين بواقعنا فسوف تستعيد جمهورها كما تحقق انتشاراً عالمياً " 7
وفي وسط هذه الاجواء التي جاءت نتيجة هزيمة العرب عام 67 امام اسرائيل بدأ يسود بين اوساط  السينمائيين الشباب في مصرتيار من الافكار تدعو الى سينما أخرى بديلة، فتشكلت مجموعة سينمائية شابة تضم نقاداً ومخرجين سينمائيين كان قد بادرالى تأسيسها الناقد مصطفى درويش واطلقوا عليها تجمُّع  (السينما الثالثة ) وتوصلت هذه المجموعة في قراءاتها النقدية الى أن هناك ثلاث سينمات في العالم: الاولى هي (السينما الاميركية) بكل نمطيتها وآليتها الانتاجية الكبيرة ، وهذه السينما بما يقف خلفها من شركات انتاج عملاقة وبرؤوس اموال هائلة تسعى أولا وآخراً الى تحقيق الارباح الطائلة ، لاتعطي أيّة مساحة من الحرية للمخرج وافكاره، بقدر ماتنظر الى  اليه على أنّه ليس سوى منفذ لما تريده الشركة من اهداف. والثانية هي (السينما الاوربية )وفيها  يُشكل المخرج العقل المفكروالخالق الوحد للشريط السينمائي، ولايزاحم موقعه هذا أي عنصر انتاجي آخر، وأخيراً ( السينما الثالثة ) وهي التسمية التي كانت عنوانا للتجمع وكانت تهدف في منطلقاتها الى بناء قطيعة جمالية وانتاجية مع النموذجين السابقين ،وذلك بطرح نموذج جديد  يؤكد على أهمية الدور الذي يلعبه الفن السينمائي في الوعي الجمعي ، لذا جاءت هذه السينما لأن تكون أداة للتثوير والتحريض على  كشف الواقع، والانقلاب عليه ،هذاالطرح جاء احتفاءً وتقليداً لنمط الانتاج السينمائي الذي قدمته عدد من دول  اميركا اللاتينية.
ولكن رغم هذه الطموحات والاحلام في تغييربنية الخطاب السينمائي جمالياً وفكرياً والتي تمت على مستوى النقد، لكنها لم تصل الى تحقيق نتيجة عملية واضحة ومؤثرة في واقع الصناعة السينمائية ذلك لانها لم تحظى بالدعم المادي من قبل الشركات المنتجة كذلك لم تلقى المساندة التي ينبغي أن تكون من قبل المثقفين . وبالتالي شهدت الانتاج السينمائي  منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي وكنتيجة لسياسة الانفتاح وخصصة القطاع العام  تراجعاً كبيراً جدا في المستوى الفني للانتاج السينمائي، وظهرعلى السطح مايُعرف بسينما( المقاولات ) التي يقودها طبقة من الاثرياء الجدد الذين افرزتهم المرحلة الجديدة وفي هذه السينما يتم إنجاز أي فلم خلال مدة قياسية لاتتجاوز الاسبوعين ! .  وعليه تراجعت المتابعات النقدية للانتاج السينمائي وبات مايكتب في الصحف الفنية لايخرج عن اخبار نجوم السينما وحياتهم وخصوصياتهم الى غير ذلك من المعلومات التي لاصلة لها بالفن ولابالعملية النقدية . " ويطرح موضوع غياب النقد ووقوع الكتابة النقدية في مُنْزَلقَي المدح والهجاء ، وتحوّل الفعل الثقافي إلى قوة تخدم ماعداه ، بما يجعل الابداع والفكر تابعين للسياسة " 8
ايضاً شهد المغرب العربي منذ مطلع سبعينات القرن الماضي  سواء في الجزائر أو المغرب  ظهور عدد من الاسماء والتجارب كانت تسعى الى تحطيم الجُمل السينمائية التقليدية التي تجذرت في الذائقة الجمعية العربية بفعل محاكاة مُستنسخة ومشوهة للنموذج الاميركي .
 لكن تلك التجارب لم تصل مبادراتها ومشاريعها الفنية الى المرحلة التي توقِفُ زحف المنطوق الفني ألقديم بكل إستعاراته وترميزاته المباشرة والسطحية ، وبقيت هذه التجارب الجديدة تكافح من أجل البقاء والحفاظ على استقلالية بنيتها الجمالية في بيئة أبعد مايكون من أن تكون متهيئة لاستيعابها والقبول بها . ومما ساهم في ذلك ايضاً هو: غياب العلاقة التفاعلية بينها وبين  النخب المثقفة خاصة من المبدعين ،كتاباً وقصاصين وشعراء   فقد أعرض أغلبهم عن الانخراط في بناء الخطاب السينمائي والمساهمة في تجديده  .
قبل ان نختتم طرحناهذا نختتم المقال بجملة بليغة لمؤرخ الفنون والاستاذ بجامعة برنستون الاميركية "إروين بانوفسكي " إذ يقول : "إن السينما ، سواء أحببنا أم لم نحب، هي القوة التي تصوغ – أكثر مما تصوغ أيّة قوة أخرى – الاراء ،والاذواق ، واللغة ، والزّي  ، والسلوك ، بل حتى المظهر البدني لجمهور يضم أكثر من ستين في المائة من سكان الارض ". 9

هوامش :
1- جريدة "الاضواء"  البحرينية 11/ 4/ 1987 ، حوار بين ادونيس وعدد من ادباء البحرين .
2- "السينما تبحث عن ذاتها "– عدنان مدّانات- منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما – الجمهورية العربية السورية – دمشق 2005

3- "شخصيات وافلام من عصر السينما "ـ أمير العمري ـ مكتبة مدبولي

4- "السينما .. الكتاب والهوية" : المؤلف – محمد افاية ، مجلة " الوحدة " العدد 37م 38 تشرين الاول – اكتوبر / تشرين الثاني – نوفمبر ، عام 1987 . )
5- نفس المصدر السابق
6- "شخصيات وافلام من عصر السينما "ـ أمير العمري ـ مكتبة مدبولي
7- "السينما تبحث عن ذاتها "– عدنان مدّانات- منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما – الجمهورية العربية السورية – دمشق 2005
8- "الدليل إلى الاعلام الثقافي والفني – تقنيات الكتابة النقدية "د. جورج كَلاّس – منشورات الجامعة اللبنانية – قسم الدراسات الاعلامية .
9- "السينما آلة وفن – تطور فن السينما منذ عهد الافلام الصامتة الى عصر التلفزيون " البرت فولتون – ترجمة صلاح عزالدين وفؤاد كامل – مراجعة وتقديم عبد الحليم البشلاوي .















97
 
الفنانة هند كامل في حوار صريح :

                             العمل الدرامي العراقي يقف في اللامكان !
 

                                                                                                    حاورها : مروان ياسين الدليمي



ليست كل العناصر النسائية العراقية التي عملت في ميدان الفن الدرامي استطاعت أن تبقى في ذاكرة المتلقي ، متوهجة،  في مساحة زمنية واسعة ، رغم ان البعض من تلك الاسماء،  كانت تحرص على الحضور بشكل دائم على الشاشة،  في أغلب الاعمال ، دون حرص ٍ منها على أختيار ما تواجه به الجمهور . بينما البعض الاخر،  كانت تُقنن حضورها على الشاشة ، بأختيارها هي ، سعياً منها ، لأن تبقى محافظة على رصيد المحبة والاحترام ، الذي كسبته من جمهورها ، نتيجة حرصها ،ودقتها في اختيار مسار فني رصين يليق بها ، كما يضع الفن في إطار مسؤوليته الجمالية ، والفكرية أولا ًوآخرا ً، من غيرأن تُعيرأهمية لايّة أعتبارات أخرى قد يجني الاخرون منها شهرة سريعة أومالا ً كثيراً . كل هذا ينطلق من درجة الثقافة التي يكون عليها الفنان ، فكلما كان حريصا على القراءة والمتابعة الدائمة لكل ماهو جديد في عالم الفن والثقافة والفكر ، كلما نمت موهبته ، وتجددت قدراته التعبيرية ، وعرف كيف يخطو دائما الى الامام . هند كامل ، فنانة عراقية تقف على أرض صُلبة منذ انطلاقتها الاولى في السهرة الدرامية  المُميزة (رائحة القهوة ) بمشاركة الفنان قاسم الملاك ، قبل اكثر من عشرين عاماً .  هذا التألق في الحضور، والفاعلية ، لم يأتي من فراغ أو نتيجة لضربة حظ عابرة ، فبالاضافة الى ماتوفر لديها بالفطرة من موهبة وذكاء، عملت هي بجد وحرص كبيرين على استثمارماتملكه من  قدرات بالشكل الصحيح،  فكانت حريصة على تنمية ثقافتها،  بقراءات جادة في الشعر والادب والفن ، من هنا كان تميزها واتساع رصيدها من المحبة والتقدير لدى الجمهور . .. ولانني كنت زميلاً لها على مقاعد الدراسة في كلية الفنون الجميلة لمدة أربعة أعوام ، فقد عرفتها عن قرب،  وعرفت الجوانب الانسانية التي تتحلى بها،  ومدى الحرص الذي تتمسك به ، من أجل أن تكون في الموقع الرصين،  الذي يعكس صورة مشرقة عن الفنان وشخصيته وتطلعاته الجميلة لصنع الحياة ، ولما أردت أن اجري حوارا مع شخصية نسائية متميزة في الحقل الفني حتى حضرت في ذهني مباشرة صورة الفنانة هند كامل ذلك لانها نموذج للفنانة  المعاصرة المنفتحة على الحياة بكل جدية وتواضع ملفتين من هنا كان هذا الحوار معها .

*مالذي يجعلك تنتمين الى العمل الفني . ؟ هل هي حالة الوهم التي يقوم عليها العمل الفني ؟ ام  تحقيق لحالة من التوزان النفسي مع العالم ؟ 
-لا أخفيك ،الحالتين مجتمعتين مع بعض...ولربما الشطر الآخر من الجواب هو أكثر قربا الى نفسي،،بالتأكيد هذا الفرز أتى متأخرا ،،يعني عندما نضج المفهوم الاحترافي لدي.
*انت تشاركين بشكل فعال منذ اكثر من ربع قرن في الدراما العراقية مالذي تجدينه قد تغيرفيها من حيث الشكل أومن حيث الموضوعات المطروحة ؟ 
-كل شيء تغير! لأن العمل الإبداعي فنا ًوتأثيراً لا يمكن فصله عن المتغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تنتج عن المتغيرين السابقين. وبالتالي ستنتج عنهما فن وثقافة بمفاهيم جديدة ــ بغض النظر عن جودتها أو تخلفها ـــ لمتلقي بذوق  آخرجديد غير منفصل عن الواقع الذي يعيش فيه ، مثلاً أنا لاحظت حرية كبيرة في طرح عدد من الموضوعات ، على مستوى المضمون بغض النظر عن الجودة  الفنية ! كذلك ، لاحظت أن كثرة الفضائيات أدى الى تنافس شديد، وبالتالي اصبح هناك كثرة في الانتاج ايضا، بغض النظر عن النوعية ، لكن الشيء الوحيد الذي بقي على حاله ،هو الوضع المادي المتردي لشريحة الممثلين ،كما ظهرت أو لنقل تعاظمت قضية الاستسهال الفني على كل الاصعدة، لكن هذا لا يمنع وجود اسماء محترمة ، تتسم بالجدية والمثابرة الفنية والفكرية  ،كما ظهرت  أعمال تستحق الاحترام وتنتمي الى مفهوم العمل الابداعي.


*اذا اردنا ان نعقد مقارنة مابين العمل العراقي الدرامي والاعمال العربية ( مصرية وسورية ) كيف يمكن ان تري الصورة انت ؟
-العمل العراقي يقف في اللامكان. نعم في اللامكان ، وشرح ذلك يطول ، لان الفن ، لعبة ابداعية وبصرية وفكرية ، والذي يمتهنها عليه ان يكون كالحاوي او الساحر،  الذي يوهمك بالمستحيل ، لكنه في الحقيقة واقع بسيط مع مهارة عالية  .
*هل من اعمال عراقية  شاركت بها كان لها تأثير واضح على مسارك الفني ؟
-كل ما قدمته منذ بدايتي كممثلة اذاعية بعمر ١٦ سنة حتى هذه اللحظة هو مهم لي ، وكان مؤثراً بحضوره ، بالتأكيد هناك أعمال أكدت موهبتي عند جمهوري الأهم . وأقصد  الجمهور العراقي،  مثل ،تمثيلية رائحة القهوة التي اخذت جائزة التمثيل والاخراج في مهرجان الخليج  للتلفزيون، كذلك الذئب وعيون المدينة ، المرايا، نساء في الذاكر ،رجال في الذاكرة، الذخائر ، الجرح، الهاجس، قضية عبدالله  س ،  إقتفاء أثر..  وبالتأكيد كل الافلام السينمائية ،مثل فلم :  حيث لم يقف القطار طويلا ، والحدود الملتهبة، وليلة سفر، بابل حبيبتي ،والفلم الجديد( بغداد ..حلمي الوردي) ..تأليف الروائية ميسلون هادي،وسيناريو واخراج فيصل الياسري مع دائرة  السينما والمسرح ، كمحاولة جادة للنهوض من جديد بواقع السينما العراقية،
*ماهي مصادر الوعي والثقافة لدى هند كامل ؟
-والدي ،والدتي ..العائلة ، القراءة المبكرة،تحمل المسؤولية في عمر مبكر،  لكوني الابنة  الكبرى في عائلتي والمدللة في ذات الوقت ، والتي الكل يُنتظر منها الافضل والنجاح والتميز..  الوعي المبكر استمدته من  جدتي {والدة ابي} التي كانت تعيش في بيتنا الكبير ،بيت بابا ، ابنها الاكبر،كانت سيدة أميّة اي لاتقرأ ولاتكتب لكنها ذات وعي عالي جداً  بالحياة،  وبالمفهوم الاجتماعي ، وفهم الآخر بإنسانية عالية الجناب،،والدتي دون شك ساهمت بشكل كبير في توجيهي ، كذلك كان الكتاب المفردة الاولى في البيت والحياة ، هذا اضافة الى المنافسة في تطوير الذات حيث كانت هديتي عندما تخرجت من الابتدائية هو سلسلة كتب المعرفة أهداني اياها والدي الذي كان يحمل فكراً بغداديا متحضراً ،  وترافقه ثقافة أميريكية نتيجة دراسته الجامعية في أميركا خلال  منتصف خمسينات القرن الماضي فكان حضوره بمثابة  الحجر الاساس في دعمنا جميعاً وخصوصا وقوفه الى جانب والدتي الممثلة فوزية الشندي ، كذلك كان هو الحامي لنا،  أنا وأختي هديل ، بثقته العالية وإيمانه بنا ، وبدور المرأة المهم  في بناء الحياة.
*لمن تقرأين من الكُتّاب ؟ 
-للكل وفي كل شيء....ونقيضه
*الممثل العراقي هل من ملاحظات على طبيعة اداءه بالمقارنة مع اداء الممثل العربي .؟ ومالذي ينقصه لكي يكون بنفس المكانة والتأثير الذي يمتلكه الممثل االعربي ؟
-الموهبة موجودة .لكن الوعي والحضور والثقافة السلوكية والمهنية! في بعض الاحيان أهم من الموهبة،وأن ينتمي الى العصر الذي يعيش فيه،ويراقب الآخر ،واقصد بالآخر ،أنداده، والاشتغال على الذات ،والمثابرة ،والاستعداد الدائم لكل ادوات الممثل الظاهرة وغير الظاهرة.والتخلص من الغنائية في الاداء واللاتلقائية والابتعاد عن المباشرة في الأداء...
*ماهي مكانة فيصل الياسري الفنان في مسيرة هند ؟
-فيصل الياسري...ساهم في نوعية ومستوى الاعمال التي عملت فيها معه والتي تميزت بفكرها العالي ،ساهم بشكل واضح في زيادة رقعة وعي ومفاهيمي حول الفن،وودفعني للاشتغال بمثابرة أعلى على نفسي كممثلة،وعلى مفهوم التمثيل وتقمص الشخصيات بعمق أكبر،لان الادوار التي لعبتها في اعمالنا المشتركة كانت تتطلب مستوى آخر من التناول لمفهوم التمثيل الذي اعتدنا عليه،وبالتأكيد اعتمادا على الاسس التي هي موجودة ومبنية بوضوح عندي .


*مالذي يحدد طبيعة الموضوعات التي ينبغي طرحها في الانتاج الدرامي ؟
-ليس هناك شيء يحدد طرح أي موضوع ،الفن هو انعكاس للحياة وللمجتمع ،وما نحتاجه في الحياة ، علينا ان نتحدث عنه دراميا،  ونجد الحلول ،او نساعد على ايجادها.
*هل الممثل العراقي يملك خيار انتقاء الاعمال التي يشارك بها ام لاخيار له ؟
-يملك الحق في الاختيار عندما يكون مكتفيا ماديا ،وليست مهنة التمثيل للإرتزاق فقط.............. ؟
*هل انت راضية عما حققت ؟ ام ان مشاريع وطموحات اخرى لم تتحقق بعد  ؟
-لا هناك الكثير من الاحلام وأدَها الوضع السياسي في عراقنا والحروب التي سرقت من أعمارنا وطموحاتنا وحيوات من نحب ،،و،،،و..ولا يزال العراقينهض  من كبوة ليسقط في أخرى........ فبالتأكيد هناك الكثير لم يتحقق ،وكان بمكان العراق بما يملك على كل الاصعدة،ان يكون عين القلادة ،لكن لا تزال هناك احلام نتمنى ان نحققها لكن ليس بأي ثمن........... !



98
تي تي ،مثل مارحتي ، جيتي  ! ؟
                                                                                                                      مروان ياسين الدليمي

سألني صديق لماذا لست مدعوا الى مهرجان المسرح الدولي للشباب المقام في بغداد هذه الايام ، وأنت المتابع للحركة المسرحية العراقية ؟ ولك في هذا العديد من الانشطة والمقالات النقدية ؟ ، اضافة الى كونك قد عملت في المسرح منذ العام 73 وحتى الان ! ؟ .وكان من الممكن ان يكون حضورك فاعلا عبر ماسينتج عنه من متابعات نقدية للعروض المشاركة ؟ ، بينما تمت الدعوة للعديد من الاشخاص الذين لن يغنوا المهرجان لابتواجدهم ولابحضورهم ؟ . . وينطبق عليهم المثل الشعبي القائل ) تي تي مثل مارحتي جيتي ) . .وسيكتفون بالتقاط الصور التذكارية فيما بينهم ومع الاسماء الفنية المعروفة . التزمت الصمت امام سيل الاسئلة ، مغالبا ً حيرتي ازاءها ، وإزاء هذا التجاهل والجهل التام بمن يستحق الحضور اكثر من غيره ، مع علمي التام بأن العلاقات الشخصية تلعب الدور الرئيسي في توجيه الدعوات للاصدقاء والاصحاب والاحباب قبل غيرهم حتى لوكان ذلك على حساب المعايير المهنية والاهداف الثقافية الكبرى المرجوة من المهرجانات .وهذا هو ماتعودنا عليه في معظم الفعاليات الفنية التي اقيمت في العراق منذ عقود ، سواء في مهرجانات الشعر او في المسرح أو في غيرهما من الفعاليات . وأكاد أجزم  بأن الوجوه ذاتها تتكرر دائما في كل الدعوات وكأن لاأحد سواهم مع بعض الاسماء الجديدة  التي يتم اضافتها احيانا ً لاسقاط الحجة لدى المنتقدين أمثالي  . ويبدوأن  الاصرار على هذا النهج الاقصائي سيبقى قائما من قبل الجهات المنظمة  في التعامل مع الاخرين ممن لايحسبون على المريدين والخلان  . وهذا يعني ان التقاليد الثقافية لدينا  تعكس بصورة واضحة عمق التخلف الذي يحكم ضوابط الافعال لدى من يتولى ادارة الشؤون الثقافية والفنية في بلادنا سواء كانوا يمثلون مؤسسات حكومية او غيرها ، فلا فرق في هذا بين الاثنين .


99



امس الثلاثاء 6/11 / 2012 انطفأت جذوة الروح في جسد الفنان المسرحي عبد الرزاق ابراهيم بعد أن اتعبه المرض في الاشهر الاخيرة . وابراهيم من مواليد مدينة الموصل 1958 ويحمل شهادة بكالوريوس اخراج مسرحي من كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد .عام 83 -
84 . وكان قد ابتدأالنشاط المسرحي منذ مطلع سبعينات القرن الماضي في الفرق المسرحية التابعة لمراكز الشباب لينتقل بعدها في العمل مع فرقة مسرح الرواد وفرقة نينوى للتمثيل وليدخل بعدها اكاديمية في كلية الفنون الجميلة عام 1979 ليكمل دراسته فيها . وليعود بعد تخرجه للعمل كمدرس للفنون المسرحية ورئيسا لقسم المسرح في معهد الفنون الجميلة بالموصل / وخلال مسيرته الفنية التي امتدت لاكثر من اربعة عقود قدم خلالها العديد من الاعمال المسرحية ممثلا ومخرجا . ومن ابرز هامسرحية (السود ) لجان جينيه ( اهمس في اذني السليمة ) لوليم هانلي ( في انتظار كودو )لصموئيل بيكيت . هذا إضافة الى عمله كمخرج وممثل فقد كتب العديد من النصوص المسرحية منها (الصبي كلكامش) و(سنة الجوع ) ... الصورة المرفقة هنا يظهر فيها الفنان الراحل عبد الرزاق ابراهيم في يمين الصورة ،ايام كنّا طلابا في كلية الفنون الجميلة، ويظهر الى جانبه الفنان شهاب أحمد وريسان رشيد ومروان ياسين . . بهذا المصاب الجلل اعزي نفسي أولا بعد اهله كما اعزي اصدقائه الذين فقدوا برحيله فنانا مثابرا كان تربطه بالفن المسرحي علاقة عشق لم تفلح كل الظروف التي مرت عليه وعلى العراق من فك اواصراها . وحده الموت من تمكن منه .


100
المخرج السينمائي العراقي المغترب سمير زيدان :

                 
التأؤيل يُضفي سِمات جمالية على الفلم 




                                                                                                     حاوره / مروان ياسين الدليمي

كان عمره ثمانية عشر عاما ً عندما  غادر العراق عام 1979حاملا ً حقيبة أحلامه على ظهره  متجها الى اوربا ساعيا ً وراء تحقيقها ، كان هدفه الوحيد  أن يصل الى مكان ما في اوربا، حتى يتمكن من خلالها دراسة الفن السينمائي بشكل اكاديمي والتعرف عن قرب على تفاصيل الانتاج بصورته الاحترافية ، وليكون ذلك فيما بعد منطلقا ً له لتحقيق ماكان يصبو اليه من احلام سينمائية ، بعيداً عن نمط الانتاج الضعيف الذي كان سائدا ً في بلده العراق أو في المنطقة العربية أنذاك، فكان معهد وودج السينمائي في بولونيا محطته الاولى والاساسية لتلقّي العلوم السينمائية وهو نفس المعهد الذي كان قد تخرجت منه اسماء كبيرة ومهمة في السينما العالمية المعاصرة منها : رومان بولانسكي وادريه فايدا وكيشلوفسكي . وبعد أن انهى دراسته اتجه الى النرويج ليكمل مشواره السينمائي هناك ، وليصبح أحد الاساتذة المختصين في تدريس فن الاخراج السينمائي بمدرسة الشمال للفن التشكيلي والسينمائي، إضافة الى عمله كمخرج ومنتج . . والمخرج سمير زيدان من مواليد مدينة الموصل عام 1958 وسبق أن عمل في منتصف سبعينات القرن الماضي في مسارح الموصل قبل مغادرته لها  مخرجاً وممثلا في العديد من العروض المسرحية . . وآخر انشطته كان عضواً في لجنة تحكيم الافلام الروائية القصيرة والتسجيلية في مهرجان مالمو للافلام العربية الذي اقيم هذا العام 2012 في السويد .
التقينا به وتحاورنا معه حول رحلته الطويلة في مشوار الفن السينمائي وأرائه وملاحظاته حول العديد من القضايا التي تتعلق بالانتاج والفن السينمائي العالمي والعربي والعراقي . 

*بداية  نودُّ أن  نتعرف على طبيعة الاعمال السينمائية التي حملت اسم سميرزيدان،والمشوارالطويل الذي قطعه من أجل أن يحتفي بحلمه السينمائي الذي طار خلفه من بلاد مابين النهرين حتى امسك به في النرويج؟
ما زلت اتذكر أول عرض مسرحي رأيته على خشبة النشاط المدرسي في مدينتي الموصل ، كانت رحلة مدرسية لمشاهدة مسرحية (كنز الحمراء)  وكان الفنان الراحل علي احسان الجراح  يؤدي الدورالرئيسي فيها ، وبعد هذه المشاهدة باتت كل حكاية أسمعها مترتبطة بعناصر التمثيل في ذهني. بعدها تعلمت اصول  التمثيل ومبادئه مع زملائي نذير العزاوي وكريم جرجيس ورعد حسين من المخرج الراحل علي المهتدي في محاولة مسرحية كانت تحمل عنوان كفر قاسم لكنها  لم تنجح، بعدها تعلمت الكثير عن عالم الاخراج المسرحي من استاذي الكبير المخرج المبدع راكان العلاف ،ومن ثم من المخرج الكبير والمُشاغب شفاء العمري ، كذلك من زملائي الممثلين في السبعينيات،  انذاك كانت مدينة الموصل زاخرة بانتاجات مسرحية تقليدية ومسرحيات تجاور التقليد منطلقة بحرية لخلق أجواء تشاغب الذهن لتجعل المتفرج يغوص بعمق في أجواء فنية تسعى لأن تلامس الطبيعة البشرية، أجدها الان بعد هذه الاعوام الطويلة التي مرت عليها أنها كانت مسرحيات تجعل المتفرج يتفاعل مع عناصر التلقي المدروس والتجريبي ، والكثير من تلك العروض كانت بلا شك صادقة في اهدافها التي تهدف الى إغناء الروح ، وبنفس الوقت فيها الكثير من المناطق الجمالية التي تشتغل على مفردة التأويل ، وأجد فيها الان وأنا استعيدها عمقاً واتقاناً لدى عدد من مخرجي مدينتي الموصل . بصدق اقول أن  خشبة المسرح انذاك كانت  تتوالد فيها أجواء لم يكن لها أن تظهر لولا جرأة اولئك  المخرجين القادرين على تجاوز المسرح التقليدي كالعلاف والعمري ،  فخوض تجربة تمثيل معهما كانت لي ولباقي العاملين في المسرح في تلك الفترة (علي احسان الجراح ،مروان ياسين،عبد الرزاق ابراهيم،محمد العمر،غانم العبيدي،موفق الطائي، صبحي صبري، نجم الدين عبد الله سليم، طلال الحسيني، حسين احمد، محمد المهدي، عصام عبد الرحمن، صلاح الدين الريكاني، ماجد البرزنجي، فارس جويجاتي. نزار محمد وآخرين ) كانت تعني فرصة للروح أن تسمو وللذوق أن يجرب نكهة أجواء ٍولحظات تتجسد في مشاهد تمنحنا فرصة لتأمل وكشف ما لا يمكن قوله إلا بالمسرح ، ليس فقط سياسيا ،بل على المستوى النفسي والسوسيولوجي والفلسفي ، في تلك التجارب تعلمنا كيف يكون تشريح الصمت المخلوق على الخشبة ، وما زلت حتى الان  أغرف من تجربتي المسرحية في عملي السينمائي عندما اخرج فلماً وكذلك عندما أدرس الاخراج السينمائي لطلبتي .


*أين الذاكرة الشخصية لسمير زيدان في احلامه السينمائية ؟

ذاكرتي هي شخوص مدينتي بأزقتها وتقاليدها بقراها ونهرها العظيم دجلة الخالد كذلك بتجاربي الشخصية وبكل الشخوص التي مرت بي وعرفتها . ذاكرتي مازالت تنبض بكل هذا مازلت اعيش كل هذه التفاصيل ، في الحقيقة أنا  لدي مشاريع كبيرة لها صلة وثيقة بهذه الذاكرة الثرية ،  لكن التمويل دائما يقف عائقا ً امام تحقيقها .

*انت الان تُدرّس الفن السينمائي في النرويج بعد أن قطعت شوطاً طويلا من الدراسة الاكاديمية لهذا الفن اضافة الى العمل .. هل تجد أن من السهولة لفنان شرقي أن يُدرِّس هذا الفن للاوربيين ، ومالذي يمكن أن يضيفه لهم ؟
الصورة في الغرب لها تاريخ عريق ،وهناك جمالية خاصة متأصلة في ثقافة التواصل مع الجمهور العريض عبر الصورة، هذا يبدو ظاهرا ً في منحوتات الكنائس قبل أن تدخلها ، أمّا الكتابة  فقد كان امرها مقتصرا ً على  الطبقات العليا من المجتمع الاوروبي،  بينما في ثقافتنا نحن العرب لم تكن  الصورة هي لغة التواصل مع الجماهير العريضة إنما كانت الكتابة أوبالاحرى الحكاية ، كما في الجامع أو في المقهى لدى الحكواتي . هذا اضافة الى أن ملوك أوروبا كانوا يقتنون الصور والتماثيل بينما الخلفاء الامويون والعباسيون كانوا يدفعون الكثير للشعراء.  . طبعا عندما تقوم بتدريس الاخراج السينمائي في الغرب هذا يعني أنك قد تمكنت من إحتواء جماليات الصورة الاوربية وهرمونية ميزانسينها، ومن لغة التواصل بين البشر، بعيدا عن اختلافاتهم الثقافية  فما يجمعنا نحن البشر هو أكثر بكثير مما يفرّقنا ، وبأعتباري  سليل ثقافات  شرقية ومُعايش ٍلثقافات غربية هذا بالتالي سيجعلني أتميز بهذا الغنى عن الآخرين..الفيلم او المسرح او الفن التشكيلي يستخدِمُ لغة ًمشتركة بين البشر، لذا لا يوجد فرق كبير بين استاذ اوروبي واستاذ عراقي في هذه الناحية ، لكننا نختلف بخلفياتنا الثقافية،  وهنا في هذه النقطة أنا لا أعني الثقافة المستمدة من القراءات إنما أعني ثقافة العوالم المُعاشة ،فأنا تربيت بثقافة مختلفة، وهي ثقافة عراقية بحتة ، ولكن حتى في مدينتنا الموصل هناك عوالم ثقافية مختلفة ومتنوعة، هناك العائلة المنغلقة على نفسها التي لا يدخلها صديق، وهناك العوائل المنفتحة حيث الصديق يدخل ويخرج دون حرج، إضافة الى أن كلمة ثقافة تطلق تقريبا على كل شيء يمارسه الانسان، كثقافة المطبخ على سبيل المثال ويشمل هذا  نوع الاكل، واصول ومراسيم تناوله الخ. . أما الثقافة بمفهومها الشائع أي المستمدة من الكتب وهنا أعني ثقافة الفنان بشكل عام سواء كان تشكيليا او مسرحيا او سينمائيا، فلا أجد أن هناك فرقا ً  بين أوربي وعراقي سوى المشاهدات ، وبما ان الفيلم إستطاع تجاوز المكان فغالبا ما تكون المشاهدات ايضا متقاربة  ،أنت تعلم تماما أن  الجيل الذي انتمي اليه  من الفنانين المسرحيين  والذي كان قد ابتدأ العمل بالمسرح في منتصف سبعينات القرن الماضي كان يقرأ ذات الكتب التي يقرأها المثقف المسرحي الاوربي ، إذن نحن نمارس لغة مشتركة سواء كان الاستاذ فرنسيا أم أمريكيا أو صوماليا وسنستخدم المراجع العلمية نفسها من نصوص مسرحية ومن تقنية تمثيل ستانسلافسكية الخ.. لذا يمكنني القول لو أن اساتذتي راكان العلاف وشفاء العمري  توفرت لهما الفرصة لأن يكونا  في أية مدينة اوربية لما ترددت ادارة تلك المدينة في أن تخصص لكل منهما مسرحا ً خاصا ً  ليعمل به ويكون تحت ادارته وتصرفه ،وسيكون حولهما الكثير من الطلاب ليتعلموا منهما .

* باعتبارك مخرجاً سينمائيا ،ولك احلام وطموحات ،هل تواجه صعوبات ما في المغترب الاسكندفاي رغم الفترة الطويلة التي مضت عليك وانت تقيم هنا ؟
طبعا هناك صعوبات في كل مكان، لكني الآن امارس التدريس، وهو يمنحني نفس النشوة التي أحس بها اثناء عملية الخلق الفني، فكل حصصي أشعر وكأني ممثل على خشبة المسرح،وأجاهد كثيرا كي لاتكون محاضراتي مملة، وبما انها محاضرات عملية أكثر مما هي نظرية لذا هي  أقل رتابة لي و لطلابي كذلك .  كما اني اتابع طلابي دائما ً ومشغول بهم ،ليس فقط فيما يتعلق بتعليمهم النواحي التقنية، لأن الاخراج ينشد تحقيق نظام منسق ودقيق للوحدات الفلمية،  فأبدأ معهم من نقطة الصفر ، كي تتأطر معرفتهم الذاتية بدراسة اكاديمية. بعد ذلك أتولى تدريس كيفية تحقيق عملية ربط هذه الوحدات ببعضها بشكل عضوي ومنطقي ومتفاعل ، ثم اتولى تدريسهم ترتيب الزمن، بقصد أن يكون  الموضوع  المطروح في الفيلم مشوقا ، وبما ان الفيلم هو عبارة عن عالم بحد ذاته،  و المخرج هو المسؤول عن بناءه ، وأي عالم يحتاج فلسفة له ، لذا لابد ان يكون المخرج فيلسوف عمله ، من هنا يبدو عمل استاذ الاخراج  السينمائي يتطلب متابعة مستمرة  لكل طالب على حدة، لذلك اخذ التدريس تقريبا كل وقتي ، وهكذا ركنت مشاريع طموحة وكبيرة على الرفوف   .

*عادة مانلاحظ ان العديد من الافلام التي تنال جوائز كبرى في المهرجانات العالمية غالباً ماتسبب الضجر للمتلقي ، ومن الصعوبة ان يتحقق التواصل الحيوي والفعال معها لدى عموم المتلقين. ويمكن نذكر هنا بعض النماذج ، مثلا سينماالمخرج الهندي ساتيا جيت راي أوالياباني كيراساوا أوالسويدي برغمان أو الايراني عباس كيروستامي واخرين  رغم القيم الفنية والجمالية العالية التي تحملها افلام هذه الاسماء الكبيرة ،  اين المشكلة في هذا الموضوع ؟
المهرجانات الفنية دائما تبحث عن الافلام التي تطرح الشكل والموضوع بجرأة، ومن خلال  تجربتي الأخيرة كعضو لجنة تحكيم للافلام القصيرة والتسجيلية في مهرجان مالمو للافلام العربية في هذه السنة فقد منحنا الجوائز للافلام التي كانت جريئة بطرحها ومتمكنة من لغة سينمائية عالية. فلا يمكن لمن يجلس في لجان التحكيم منح جائزة لفيلم تقليدي لم يتقصد مخرجه وهو في مخاض الابداع أن يقوم ولو  بمحاولة واحدة لكي يقدم شيئا جديدا او لقطة واحدة تحمل نوعا ً  من الأصالة. فمن البساطة جدا ان تسير في شارع مبلط ،او في جبل ومسالكه واضحة وترى أن من سبقوك إليه كثر. هذه المهرجانات تبحث عن مخرجين أصلاء غير مقلدين ، مرة تجدهم يتسلقون صخرة ومرة أخرى يفتتوها من أجل أن يستمروا في طريقهم ويشكلوا مسالكهم الخاصة، ومن ثم لتسمى جمالية عوالم افلامهم باسمائهم هم  أي بأسلوب كياروستامي أو اسلوب بيرغمان، وهم عادة يخلقون افلام تحتاج من المتفرج ان يقدم جهدا ذهنيا ليتواصل مع الفيلم المعروض أمامه، بينما  الغالبية من الجمهور يريد وجبات سريعة ،أي افلام خفيفة للتسلية،  ولهذه الافلام ايضا ًمهرجاناتها. لكن المشكلة هنا تكمن في الاعلام ، فالنقاد والصحفييون الذين يكتبون عن الافلام الجادة  فهم الذين يتسببون في احداث الخيبة لدى المتلقي الباحث عن المتعة والتسلية،عندما يذهب الى دار العرض السينمائي  ويتفاجأ بعدم وجود كل ما تم ذكره من قبل  النقاد ،وذلك لانهم يقحمون مقالاتهم تلك على صفحات الاعلام الذي هدفه التسلية فقط وليس اثراء الحياة الثقافية ولو قرأ المتفرجون الانتقائيون المقالة في مجلة سينمائية جادة لوافقوا كاتبها بأن هذه الافلام من أروع ما شاهدوه بل ان المقال أعمق مما أولوه... الخ.

*ماهي مواصفات الفلم الجيد الذي يجعل سمير زيدان يتوقف أمامه أكثر من مرة ، هل له شكل محدد ؟ هل له اشتراطات معينة في البناء الفني  ؟
إنه الفيلم الذي يطرح الحياة الداخلية الغنية للبشر بلغة جمالية واضحة وعالية . .ايضا هو الفيلم الذي تشعر بأن  تتابع مشاهده تتشكل وفق حركة متناسقة مابين الكاميرا والممثلين ومتماسكة بشكل عضوي ، والغرض منها أظهار المشاعر العميقة للشخصيات ومعايشاتها في نفس الوقت من قبل المتلقي ،هذا الميزانسين يُسهِّل لنا قول ما لا يمكن تحديده قولا ، وما لا يمكن رؤيته ،في جو مخلوق بين الشخصيات والمتلقي، والذي يترك ايضاً مجالا ً للتأمل.

*عندما تنوي القيام بعمل سينمائي الى ماذا تهدف من وراء ذلك ،هل تريد تحقيق رد فعل ما لدى المتلقي  ؟ وهذا السؤال بذات الوقت  يدفعني لكي أسألك عن وظيفة السينما كما يراها زيدان نفسه ؟
السينما بالنسبة هي للمتعة والراحة ولكنها  بنفس الوقت اداة للتنوير والتعمق بدواخلنا كبشر، هي تمنحنا الفرصة لان نعايش حالات البطل فنصول ونجول في ساحات القتال والوصال ، ونحيا ونموت كابطال أغنياء وفقراء، وتهفهف ارواحنا مع رقصات ظلال اوراق الشجر ، نرقص ونغني، انها الحلم الذي يمنحنا المعايشة التي لا تمنحها إياها  حياتنا اليومية،  فهي مختزلة ببلاغة صورية مما يخلق لنا  فهما وضحا ً  ومعايشة أمينة لما يحدث وذلك لتوافر المنظور الزمني ، ففي حياتنا اليومية ينقصنا الوعي بمعايشاتنا الحقيقية ، فالسينما تضيف حيوات كثيرة لنا ، انها المشاكسة التي تثيرنا حسيا جماليا وذهنيا، فهي تضحكنا وتبكينا وتجعلنا نفكر في احتمالات تواجدنا في حالات البطل، هي التي تستطيع ان تطهرنا من أدران النفس كما كان يقصد اورسطو (بالكاتارسيس) حالة التطهير.
 
*اجمل الاشعار هي التي يكتنفها الغموض وتبقى عصيّة على الفهم بسهولة ،وهكذا الحال مع المقطوعات الموسيقية العظيمة التي عادة ماتكون غامضة ولايمكن تأطيرها في معان مُحددة ، هلى يمكن ان تنطبق هذه المعايير الجمالية على الفلم السينمائي ؟
ليس الابهام بحد ذاته هو الهدف ، لكن دواخل النفس أصعب من أن تطرح بشكل ظاهر وواضح، ذلك لأنها تتسطح وتصبح غير مقبولة واقعياً أو فكرياً، فترك فسحة للتأمل والتأويل هو بحد ذاته عنصر من عناصر الدراما لان ذلك  له علاقة مباشرة بعملية التقبّل ، ولكن هذا أيضا يشترط وجود جمهور لا يطلب الوجبات السريعة ، بل يحاول أن يتمعّن الحالة ويشارك بفهمها.

*هنالك العديد من المهرجانات السينمائية العربية التي تكاثرت وازدادات خلال الاعوام الاخيرة . لكننا على ارض الواقع لانجد الافلام المشاركة فيها  في دور العرض الجماهيرية . ألايدفع  هذا الوضع الغريب المنتجين الى عدم الاندفاع باتجاه الاستثمار في صناعة الفلم الرصين ، ثم ماهي الصيغة التنظيمية التي تدعو اليها انت من خلال ماتملكه من خبرة لتحقيق مستوى جيد من التسويق  لهذه الافلام ؟

السينما صناعة أي بمعني أموال ، ثم انتاج وتوزيع،  ومن بعد ذلك إمّا تحقيق  الربح أو تجرع مرارة الخسارة ، فهل يمكننا أن نجد سوقا ً للفيلم العربي  وسط  هذا الانتاج العالمي المتقدم  خصوصا ً الاميركي الذي يعرف كيف يفكر اقتصادياً وهو يسوق انتاجه ؟ والسؤال الاهم هنا هو : ما هو عدد الصالات الموجودة في البلدان العربية؟   . هل تعلم أن النرويج بتعداد سكانها القليل والذي يقل عن خمسة ملايين نسمة يوجد فيها عدد من الصالات يصل الى  492 دار عرض حسب احصائية عام  2004 ، والجدير بالذكر هنا ــ وأرجو الانتباه الى ذلك ـــ إلى أن أغلبية هذه الصالات هي ملك للبلديات في مختلف محافظات النرويج ، اي أن 301 صالة عرض سينمائي هي ملك للدولة.. وعليه اقول نحن في العراق طالما مازلنا في بداية القفزة التاريخية بعد حروب وحصار وقهر ٍ  بحاجة الى  الانفتاح التكنولوجي لبناء بلدنا ، لذا اقترح على مجالس محافظاتنا بناء مسارح ودور عرض سينمائية ،  وإن لم تستطع إدارات المحافظات فعل ذلك فعلى الاقل ينبغي  أن تفرض على كل من سيحاول بناء مولات (اسواق مغلقة السقف بمساحات شاسعة) أن يضيف صالتا عرض مسرحية وسينمائية .  نحن الان في العراق  أحوج مانكون الى بناء الشخصية العراقية بالثقافة والترفيه، وليس فقط فتح الابواب أمام الشركات المستمثرة في حقول النفط ،علينا أن لا نترك الأمور للغَيب اذا اردنا التقدم ، بل يتوجب علينا التخطيط لكل ماله صلة بحياتنا وحياة الاجيال القادمة  وليس البقاء في حالة من  النواح والبكاء على مامضى  والاكتفاء بالدعاء لدخول الجنة في العالم الآخر.. المسألة تحتاج الى عمل وتفكير بالمستقبل القادم  نحن كعراقيين نستحق كباقي الشعوب جنتين وليس جنة واحدة ، ألاولى في هذا العالم والثانية في  العالم الآخر ،ايضا ً لتكن لدينا صالات كبيرة للمتفرجين الراغبين برؤية الافلام المُسلية ،و صالات صغيرة أخرى للمتفرجين اللذين يجدون بأن الفيلم ماهو إلاّرحلة اكتشاف مضنية وعملا ً فنيا راقيا يختزل العالم برموز واحداث ويتحمل التأويل ويحث على التفكير والتأمل بحياتنا كمتفرجين وككائنات واعية.

*السينما في البلدان العربية حتى هذه اللحظة لم تستطع أن تدخل من الباب الكبير للمهرجانات السينمائية العالمية الكبرى رغم أن مصر مثلا لها تاريخ طويل في الانتاج ولها أسماء مهمة في الاخراج السينمائي . . برأيك مالاسباب ؟
السينما المصرية يغلب عليها الطابع التقليدي والتجاري وهذا أصل السينما فالسينما صناعة أولاً ، ومحترفو هذه الصناعة كثيرون في مصر، لكن بنفس الوقت هناك أيضا من تركوا بصماتهم الواضحة في السينما العالمية ، ورغم هذا فأنا أجد أن هناك عدد من المخرجين الشباب في مصر يحاولون إيجاد طريق لهم ، لكن مشكلة التمويل تقف عائقا أمامهم.

*هل تجد أن السينما في العالم العربي قادرة على أن تكون مؤثرة وفاعلة في تحريك الوعي الانساني مع وجود جُملة من المُحرَّمات التي تمنعها من تناول الكثير من الموضوعات ؟
الفن يعني ايضاً مشاكسة الواقع، برنادشو يقول :"ان التفكير المنطقي لا يولد شيء جديد أما المجانين فهم من يجلبوا الجديد"  ولهذا نرى أن العلماء والأنبياء والفنانين غالبا ما يتهموا من قبل العامّة في البداية بالجنون ، لأنهم يستخدمون طرقا ً تخرج عن الخطوط العامة التي اعتاد الناس عليها  ، والفنان يجد نفسه ملزماً  بإثارة ما هو محضور، وفي كثير من الاحيان كثرة المحرمات تفيد وتزيد من قيمة العمل السينمائي ، وهذا مايحدث الآن فعلا مع السينما الايرانية.

*السينما في العالم العربي لم تستطع ان تضيف شيئاً جديدا ومهماً للبناء الشريط السينمائي فنيا ً رغم اننا لانستطيع نكران أو تجاوز ما تسعى إليه  معظم الافلام الروائية القصيرة المنتجة في العالم العربي الى شخصنة الاسلوب والى طرح معالجات فنية  بعيداً عن السياق التقليدي ، كيف تنظر الى هذه الظاهرة ، والى ماذا تعللها ؟
الفيلم القصير هو مجال لشخصنة الاسلوب، فالفيلم القصير لا يشترط به تواجد عناصر التشويق كما يتطلبه الفيلم الروائي الطويل ، لذا يمكنه أن يكون تجريبيا أكثر من الفلم الطويل ومشاكسا للجمالية المعتادة والنمطية الواقعية ،  كما أن من يتحمّل تمويل هذه الافلام   يعلم مسبقا بخسارة أمواله ذلك لانه لا توجد سوق لهذه الافلام  سوى المهرجانات، والمهرجانات الفنية تعشق كل من يبحث عن أصالة حقيقية.

*الموضوعات السياسية اخذت الكثير من الوقت والجهد في النتاج السينمائي العراقي ،هل تجد في ذلك واحدا ً من أسباب نكوصها ؟
نكوص السينما العراقية يعود الى تهميش الفيلم ، وعدم إرساء مدرسة سينمائية جيدة، لماذا المسرح العراقي إستطاع أن يثبت وجوده على الصعيد العربي .. السبب واضح : لوجود أساتذة عمالقة في مدارس المسرح، بينما بقيت دراسة السينما تعتمد على كفاءات بسيطة، وبما أن مدرسة السينما تتطلب تقنيات وأموال لم توفرها أي من الحكومات العراقية السابقة لذا بقيت السينما العراقية تتأرجح بين يدي من شارك بدورات تدريبية هزيلة في الخارج وطموح شخص عراقي آخر يحاول تأبط الغيوم ، وهذا واضح في الانتاجات الممولة من النظام السابق. وفي الوقت الحاضر لا يوجد دعم لهكذا مدرسة رغم وجود خبرات عراقية كبيرة خارج الوطن .  ايضا ً فقدان الأمن ، وخراب صالات السينما، وعدم وجود دعم كاف ٍمن الدولة سيكرس  هذا النكوص ،نحن في العراق بحاجة ماسة لمدرسة فيلم عملية ، فالفيلم فن شامل للفنون الاخرى،  مما يجعله أصعب الفنون لأنه يحتويها كلها بشكله النهائي، كصورة وصوت،  وليس فقط معاهد او كليات للسينما  لا يتوفر فيها  سوى قاعات للمحاضرات من  دون أن تتوفر فيها أجهزة سينمائية متكاملة للتصوير والانارة والتقطيع والمكساج الصوتي الخ.

*تقنية البعد الثلاثي مالذي يمكن ان تضيفه الى عمل المخرج السينمائي ،هل يكفي أنها خلقت احساساً طبيعياً في الصورة السينمائية اكثر مما هي في الصورة التقليدية ؟
شخصيا لا ارى لفيلم البعد الثلاثي مستقبل فمنذ اكتشافه قبل 90 سنة بقي كظاهرة تثير الفضول ليس إلا.
 
*هل مازلت تشعر بأنك عراقي ؟
هذا امر محتوم انا عراقي وشاشات الفضائيات العراقية تحاصرني ولا يمكن أن يمر يوم دون أن اذكر الوطن وأعرف أخباره.

*لابد انك تراقب من هذا المكان البعيد وطنك الاول العراق ، كيف تراه الان ؟ والى اين يسير؟

مع الاسف الجهل انتشرفي بلادنا بشكل لم نكن نتصوره وهناك ساسة يحثون على نشر الجهل ليغرق الناس بفيضان ليل يمتد سنوات وسنوات بدل الامساك بشموع تغربل الظلام بالنور لتعود الطمأنينة وترقص أرواحنا مع وهج الشموع في عيون بعضنا البعض. أنا أتأمل أن يأتي ذاك اليوم الذي  أحمل فيه معكم احدى تلك الشموع.






101
فرقة ناجي عطالله تحت عيون النقد الفكري قبل الفني

حين يسقط الفن في اوهام الاعلام الرسمي

               

                                                                                                      مروان ياسين الدليمي

في خضم الوضع المشوَّه والمُلتَبس على الناس البسطاء لعِب الفن العربي في كثير من منتوجه الدرامي دوراً مسانداً في ترويج وتعميم الخطاب الرسمي الذي كان يقفزفي طروحاته  فوق الحقائق المؤلمة والفاضحة ليرسم صورة مزيفة عن بطولات عربية لاوجود لها على ارض الواقع إلاّ في فيما يروجه الاعلام الرسمي ، وقد ساهمت الحكومات العربية لاكثر من نصف قرن في خلق ومساندة اسماء معينة في الوسط الفني من خلالها مررت ما كانت تريد ايصاله من اكاذيب وحقائق مُظَلَلة ومُظلِلة  معتمدة بذلك على سذاجة الكثير من اولئك الفنانين بعد أن وجدت فيهم محدويةً في الوعي والتفكير إضافة الى اقتصار طموحهم على نيل الشهرة والمجد والثروة لاأكثر ، من دون ان يكون في حسبانهم ان يكرسوا فنهم لتحقيق متعة فكرية وجمالية تساهم في إيقاظ الوعي لدى الفرد .
يأتي عادل امام في مقدمة الفنانين الذين كانوا غارقين حتى آذانهم بكل الخرافات والاظاليل التي كانت تنتجها السلطة ، وكان  خير وسيط لتمريرها الى عقول الناس البسطاء عبر مُجمل أعماله الفنية ، مساهمة بذلك في الاساءة لعقول الناس البسطاء واستغبائهم، وغالباً ماكانت اعماله تنتهج  سياسة التعميم ،التي  لم  تخرج عن اطار التسفيه والسخرية والتسقيط للعديد من  القضايا الشائكة والمعقدة في المجتمعات العربية كالجنس والدين والارهاب  دون الخوض في معالجة  الاسباب والمقدمات التي انتجتها ،  بل كان ينمذج القضايا  ويعممها من غير ان يتناولها موضوعياً بالنقد والتحليل بل كان  يضع مايتناوله  من شخصيات وموضوعات ضمن اطار نمطي  مكرر  في كل اعماله .
في الاعوام الاخيرة التي سبقت سقوط نظام مبارك لم يعد عادل امام يملك ذاك  البريق الذي كان عليه ، ولم يعد  يمتلك الاهمية الجماهيرية الكبيرة التي تربع عليها لاكثر من ثلاثة عقود خصوصاً بعد ظهور عدد من النجوم الشباب الذين زاحموه على عرش النجومية ،وجاء هذا الانهيار بطبيعة الحال منسجما تماماً مع ماكان يمر به النظام السياسي نفسه من اختناقات وانهيارات ، لذلك عندما جاءت اللحظة التي سقط فيها النظام سقط  هوايضاً  معه  بكل المجد الذي بناه باعتباره جزءا منه ومن منظومته الايدلوجية خصوصا بعد التصريحات التي ادلى بها في الفترة المحصورة مابين 25 ينايركانون الثاني 2011  وحتى يوم سقوط نظام مبارك التي أساء فيها الى الشباب المعتصمين بميدان التحرير وكانت تحمل نفس عبارات التخوين  الجاهزة التي اعتاد  النظام نفسه أن يسوقها  عبر اجهزته الاعلامية .
انتكاسة للديموقراطية
 وشاء الحظ  أن يخدمه مرة اخرى من حيث لايدري  وذلك بعد نجاح الثورة باشهر معدودة عندما أخطأت  جماعة اسلامية برفع دعوة قضائية ضده تتهمه فيها بالاساءة للاسلام، وليصدر بالتالي وفقاً لهذه الدعوى حكما  قضائيا من المحكمة يقضي بسجنه  لمدة ثلاثة اشهر، هنا جاءته الفرصة الذهبية التي لم يكن ينتظرها عندما وقفت الى جانبه ولمساندته معظم  القوى اللبرالية والعلمانية واليسارية  احتجاجاً ورفضاً للقرار القضائي الصادر ضده وانطلاقاً من ايمان تلك القوى  بحرية الفكر والتعبير ، على اعتبارأن الحكم الذي صدر بحقه  ماهو إلاّعودة الى الوراء وانتكاسة  للديموقراطية وحرية الرأي التي ناضلت من اجلها ،فكان رد الفعل هذا غاية  مايتمناه إمام ليعود مرة اخرى الى واجهة المشهد الفني بزخم وقوة  كما كان عليه  في مامضى من الايام التي سبقت التغيير السياسي في 25 يناير كانون الثاني  ، وليبدو امام العالم نموذجا للفنان الذي يدافع عن حرية الرأي والتعبير .
ورغم ماحصده من نتائج كبيرة  من هذا الحكم القضائي إلاّ أنه لم يستثمرها بالشكل الصحيح ليعيد تقييم ماكان يقدمه بل وجدناه يعود مرة أخرى ليقدم لنا في مسلسل  فرقة ناجي عطالله ماكان حريصا على تقديمه فيما مضى  من تزييف وتسطيح وتسخيف للحقائق ،فإذا بنا  مرة اخرى نشاهد شخصية اليهودي في هذا العمل كما تعودنا أن نراه في مجمل الاعمال الدرامية العربية  : ساذجا ،بخيلا ،جبانا ،غبيا ، ومن السهولة جدا ان يتم الضحك عليه من قبل العربي  ناجي عطالله وفي عقر داره   !. وليأخذنا إمام مرة اخرى في وهم ِالبطولات الزائفة التي ننتصر فيها دائماً على اليهود  رغم خساراتنا الدامية معهم على ارض الواقع ، هذا يقودنا بالتالي لان نسأل انفسنا : اذا كان اليهود ودولة اسرائيل بهذا الشكل من الضعف والسذاجة ،كيف إذن تمكنوا من تحقيق الانتصارات تلو الانتصارات العسكرية في صراعهم مع العرب ؟  كيف تمكنوا من بناء دولة اسرائيل والحفاظ عليها وسط  الصراعات الكبيرة التي يخوضونها ضد العرب  ؟ .  كيف تمكنوا من  تحقيق ذلك ،إن كانوا بهذا الغباء وهذه السذاجة وهذا الجبن ؟
لاينبغي للفن ان يقع في قبضة الاوهام والخرافات التي اعتاد الاعلام الرسمي العربي صنعها وتسويقها الى المواطن العربي . انما ينبغي عليه ان يتحلى بالجرأة والمصداقية في رؤية الحياة وفي نقد الذات .


102
حفل تأبين للراحل قاسم مطرود



استذكارا لمسيرة المسرحي الراحل قاسم مطرود وعطائه والذي لايليق الاّ بمن كان اكبر منه عمرا وتجربة ارتأى منتدى عنكاوا للفنون ان يخصص تمرين العرض المسرحي الذي يستعد لتقديمه في يوم السبت 8/9 /2012 تأبيناً للراحل الكبير وللوقوف احتراماً وتثمياً لهذا الكاتب العراقي الذي غادرنا فجأة وهو في ذروة عطائه . فكانت امسية اقتصر الحضور فيها على اعضاء المنتدى والبعض من اصدقائه . في بداية حفل التأبين تحدث رئيس المنتدى الفنان رفيق نوري عن الفقيد الكبيرقاسم مطرود وعن اهميته في المسرح العراقي ،بعدها تحدث المخرج المسرحي المغترب فاروق صبري عن ذكرياته وافكاره عن الراحل وماشكله من اهمية في مسيرة الكتابة المسرحية .بعد ذلك تحدث الشاعر والمسرحي مروان ياسين الدليمي عن تجربة مطرود والمساحة التي يشغلها في ذاكرة المسرحيين العرب .ثم جاء دور عازف العود ليث الرافدين ليقدم قطعة موسيقية انسجاماً مع طقوس هذه الامسية التأبينية .بعدها تم تقديم مشهد من العرض المسرحي "الوردة الحمراء" وهي من تأليف واخراج فاروق صبري وتمثيل رفيق نوري حنا وجيهان طه.
والراحل  مطرود كان قد تخرج من قسم الفنون المسرحية جامعة بغداد عام 98 وغادر العراق بعدها ليستقر في هولندا ومن ثم بعدها الى المملكة المتحدة . اصدر مطرود اكثر من عشرين نصاً مسرحياً ترجم العديد منها الى لغات مختلفة . كما  اسس في نهاية عقد تسعينيات القرن الماضي وقد اسس موقع مسرحيون الالكتروني وهو اول موقع يهتم بالشأن المسرحي . ونال خلال مسيرته العديد من الجوائز التكريمية اخرها كانت من مهرجان المسرح العربي في القاهرة .

.


103

رؤية نقدية في الانتاج الدرامي العراقي 
هل يُذِلُّ المنتجون ، الممثلين والمخرجين حقاً ؟ 




                                                                                                                مروان ياسين الدليمي

متابعة المسلسلات العراقية التلفزيونية لابد أن تصيب المتلقي  بالملل ،  وهذا الشعور مبعثه جملة من العيوب والنواقص الفنية عادة ماتكون موزّعة على مجمل الاعمال، لذا باتت اشكالية الانتاج العراقي  تبدو اشبه بمعضلة مستعصية لن يتم التوصل الى حلها على المدى المنظور، وهذا يعود في بعض من الاسباب  الى حالة من الوهم الكبير يعيشيها معظم العاملين في قطاع الدراما العراقية منتجين ومخرجين وكتاب وممثلين على حدٍ سواء ، ويذهب بهم هذا ألوهم الى الاعتقاد : بأهمية ماينتجونه من الناحية الفنية ، بل لايترددون في أن يضعونه في مرتبة تؤهله لمنافسة الاعمال المصرية والسورية  ! . لكنهم عادة مايرجعون عدم نجاحه وانتشاره عربياًالى نوع من العداء المستحكم لدى القائمين على الفضائيات العربية  ضد كل ماهو منتوج  فني عراقي ،ذلك  لانه وحسب اعتقادهم واوهامهم انه سيربح الرهان فيما لو دخل ساحة المنافسة مع الاعمال العربية على شاشات القنوات الفضائية العربية  !  هذا هو مايحسبه معظم الفنانين العراقيين ،غافلين ومتجاهلين عن قصد او بدون قصد ماتحمله اعمالهم من جوانب ضعف فنية واضحة اذا ماقورنت بالاعمال الاخرى المنتجة في مصر وسوريا .

منافسة الدراما السورية
إن اي متابع بسيط للانتاج الدرامي العربي والعراقي سيصل دونما جهد الى نتائج واضحة  لاخلاف ولااختلاف عليها وهي في اخر الامر ستضع الاعمال العراقية في مستوى متدنٍ بالقياس الى الانتاج العربي  فيما لوتمت المقارنة مابين نمطي الانتاج ،  ذلك لان الاعمال العربية كانت دائماً في حالة نمو وتطور على المستوى الفني  اخراجاً وتصويراً وتأليفاً ومعالجات فنية .وهناك محاولات واضحة وملموسة عبر عدد من الاعمال للخروج من نمطية البنية التقليدية للمسلسل الدرامي العربي الذي تشكّل منذ بدء البث التلفزيوني مع مطلع ستينيات القرن الماضي وتظهر هذه المحاولات في الاعوام العشرة الاخيرة التي شهدت بدء ونمو البث الفضائي خاصة بعد ان دخلت الدراما السورية ساحة المنافسة وبقوة مع الدراما المصرية بل انها تخطتها فنياً في العديد من الاعمال التي يقف خلفها  مخرجون سينمائيون أكفاء درسوا الفن السينمائي في البلدان الاوربية مثل باسل الخطيب وشوقي الماجري ونجدت اسماعيل انزو وحاتم علي ،وهنا نسأل : كم من مخرج عراقي يعمل في الدراما التلفزيونية قد درس الفن السينمائي خارج العراق ؟ أنا اقول : لاأحد . . اذن التطور الذي حصل لدى الاخرين لم يبنى من فراغ ولم يكن ضربة حظ ولا حلماً عابراً  بل جاء نتيجة عوامل موضوعية اساسها : الاعتماد على عناصر متعلمة وعارفة الى اي هدف هي ذاهبة .
وعليه فإن هذا التحول في الدراما السورية وضع شركات الانتاج المصرية في مأزق كبير وأصبح نتاجها الفني على المحك بعد أن كان يتربع على العرش لعقود طويلة، من هنا بدأت تشعر بخطورة ماوصلت اليه الدراما السورية من مستوى فني متقدم خصوصا من الناحية الاخراجية بعد أن استأثرت بأستقطاب عموم المشاهدين في العالم العربي . من تلك الاعمال  على سبيل المثال : اخوة التراب ، الفصول الاربعة ، الزير سالم ، ابناء الرشيد ،اسمهان ،الاجتياح ، هدوء نسبي ، الارواح المهاجرة ، ايام الغضب ،نساء صغيرات ، رسائل الحب والحرب ، عائد الى حيفا ، الولادة من الخاصرة ، فارس المدينة ، الفصول الاربعة ، التغريبة الفلسطينية الخ .
لذلك عمل المصريون بكل جهدهم من اجل تصحيح المسار الانتاجي لكي يعودا بأعمالهم الى الواجهة ، وبدأوا  في البحث عن اسباب تراجع مستوى انتاجهم بالقياس الى نمط الانتاج السوري الذي بدا متقدما عليهم من حيث المعالجات الفنية التي باتت تلفت النظر الى  مدى خصوصية المخرج السوري والتي اقتربت في صورتها النهائية من طبيعة المعالجة السينمائية سواء في حركة الكامرة اوالتصوير أوبناء الميزانسين والجو العام.
وبداللمتابعين والمهتمين  بالانتاج الدرامي وكأن نمط الانتاج السوري قد اعاد الى الاذهان ماكانت قد احدثته السينما الواقعية الايطالية في خمسينيات القرن الماضي من حيث : - نزولها الى الشارع ،وابتعادها عن الاستديوهات ، وطبيعة الشخصيات الواقعية المستلة من الحياة ،  وجرأة المعالجات ، وطبيعة الطروحات الفكرية والفنية للموضوعات الانسانية التي اخذ يتناولها بعيداً عن نمطية الانتاج المصري الذي كان قد حبس نفسه داخل الاستديوهات وغارقا في عدد من الموضوعات المستنسخة والمكررة في اطار بنية تقليدية ماعادت تثير الدهشة وتحبس الانفاس مثلما هي الحال في الدراما السورية التي استعار مخرجوها الكثير من تقنيات السرد السينمائي المُستند الى التكثيف والايحاء والاهتمام الواضح في بناء الصورة ، مع اننا لايمكن هنا ان نتجاهل او ننسى الاعمال الكبيرة التي قدمها  اسامه انور عكاشه ووحيد حامد للدراما المصرية على مستوى التأليف ليس إلاّ .

دماء جديدة
 وبعد حوارات طويلة وصريحة دارت بين العاملين في الانتاج الدرامي شهدنا جزءا منها خلال الاعوام الاخيرة على شاشات الفضائيات المصرية تناولوا فيها ماآلت اليه من تراجع في مستوياتها الفنية والتسويقية ،  بدأنا بعدها في الاونة الاخيرة وخصوصا العام  2011 والعام 2012 نشهد نتاجاً مصريا مميزاً اعاد الثقة به وبأهميته وريادته ، والصحوة هذه جاءت بناء على عدد من المعالجات التي توصل اليها القائمون على الانتاج ،  كان في اولويتها : الاستعانة بدماء جديدة من المخرجين السينمائيين سبق أن اثبتوا حضورهم وكفاءتهم في عدد من الاعمال السينمائية التي حملت بصمتهم في العمل ، فكانت هذه الخطوة اساسية ومهمة على طريق تصحيح ومعالجة الخلل الذي شاب نمط الانتاج ،وعليه شهدنا خلال هذين العامين نتاجات مصرية مهة ومميزة على مستوى : الرؤية الفنية والتناول ، اضافة الى تحسن وتطور واضح جدا في الصورة التلفزيونية بعد ان ادخل هذا الجيل الجديد من المخرجين عدداً من التحديثات في نمط الانتاج مبتدئين ذلك باستعمال احدث انواع الكامرات السينمائية في تصوير المسلسلات على سبيل المثال تم استعمال كامرات  ( RED ) و (( 5DMARKIII التي تستخدم في الانتاج السينمائي العالمي ، وهذا بدوره انعكس بطبيعة الحال على نوعية الصورة التلفزيونية وجودتها لتصل في نوعيتها الى مستوى الصورة السينمائية ، وقد تطلب الوصول الى هذه النتائج اللجوء الى استخدام مدراء تصوير سينمائيين من ذوي الخبرة والحرفية العالية امثال سعيد شيمي ومحسن نصر وطارق تلمساني ، لهم القدرة على معرفة ماتحتاجه هذه الكامرات من معدات الاضاءة وكيفية توزيع مساقط الضوء لكل لقطة داخل المشهد الواحد كما هو الحال في السينما ـــ وليس المشهد ككل كما هو سائد في نمط الانتاج التلفزيوني ــ  بالشكل الذي يخلق جواً درامياً يتلائم ويتوافق مع الفكرة والمعالجة الفنية التي يتوخاها المخرج  ، وهذا مايمكن ملاحظته في  عدد من الاعمال  التي عرضت خلال هذين العامين مثل : المواطن X  ، أهل كايرو، شارع عمر بن عبد العزيز، الحارة ، طرف ثالث ، الهارب ،رقم سري ،  وغيرها من الاعمال .
وهنا بعد هذا الاستعراض لما جرى من تحولات كبيرة  في الدراما المصرية والسورية ، هل فكر المعنيون بالانتاج الدرامي العراقي في عقد جلسات نقاشية يشارك فيها ذوي الاختصاص من اكاديميين وكتّاب دراما  ومخرجين سينمائيين محترفين شيوخا وشباباً من اجل التوصل الى مكامن الضعف والخلل في نمط الانتاج العراقي الذي بقي يراوح في مكانه وكأنه يدور في حلقة مفرغة وغير قادر على تجاوزها . ولابأس في اشراك عدد من الخبراء من غير العراقيين يتم تكليفهم بمعاينة نماذج من الانتاج العراقي للخروج بملاحظات نقدية وتقويمية بهدف البدء بمسار سليم يتسم بالنضج والحداثة التي طالما افتقدها .
إن الاستمرار بهذه الصورة الرثة من الانتاج تعود مسؤوليتها الى عوامل واطراف عدة يقف في مقدمتها: 1- المخرجون  2- كتاب الدراما  3- المنتجون .
- المخرجون : إن المخرجين العاملين في الدراما العراقية  يتحملون المسؤولية الكبرى في ماوصل اليه الانتاج من ضعف وتسطيح ذلك لان غالبيتهم لم يتلقوا تعليماً اكاديمياً عالياً في فن الاخراج التلفزيوني أو السينمائي وإن كان الكثير منهم قد تخرج من كلية الفنون الجميلة ــ ذلك لان دراسة السينما والتلفزيون تحديدا في كلية الفنون الجميلة ليست على درجة عالية من التعليم والتأهيل الاكاديمي والمهني ،  لذا من الطبيعي أن  يسجل عليها الكثير من الملاحظات  التي ليست بصالحها ـــ  هذا اضافة الى ان العديد من المخرجين  كانوا قد جاءوا الى هذه المهنة بطريقة اوبأخرى لاعلاقة لها بما يحملونه من هموم  او مشاريع فنية تؤرقهم ويسعون لتحقيقها، بقدر تعلق الامر بأسباب اخرى لها صلة وثيقة بما يملكونه من علاقات شخصية وثيقة مع المنتجين وبقية الحلقات الانتاجية الاخرى ، وهذا بالتالي نتج عنه استبعاداً واقصاءً  لعناصر تمتلك الموهبة الفنية لكنها لاتملك خاصية بناءعلاقات اجتماعية يملكها اخرون غيرهم تنقصهم الموهبة  . وهنا ينبغي الاشارة الى ان الممثل العراقي غالباً ما يتجلى حضوره المؤثر والفعال فيما لو عمل تحت ادارة مخرج عربي ، بينما نجد نفس الممثل  يتراجع مستوى ادائه كثيرا  فيما لو عمل تحت ادارة مخرج عراقي وليسقط ادائه  في اطار التشنج والمبالغة في التشخيص.ولنا مثال واضح على هذا عندما نتذكر الاداء الجميل للممثل خليل فاضل خليل عندما عمل في مسلسل هدوء نسبي للمخرج التونس شوقي الماجري ، مما رشحه ادائه هذا  لنيل جائزة افضل ممثل واعد في مهرجان القاهرة  وبنفس علينا أن نتذكر ضعف ادائه في مسلسل الملك فيصل ،وهذا يعود بطبيعة الحال  الى افتقار معظم المخرجين العراقيين الى القدرة على توجيه الممثل وتنظيم عطاءه بالشكل الذي ينسجم مع حساسية الكامرة التي تفضح اي مبالغة في التعبير والاداء ويمكن استثناء المخرجين باسم عبد القهار وحسن حسني من ذلك  . وهذا يعني ان الممثل العراقي في غالب الاحيان يعتمد على ذاته في بناء الشخصية (افعال وردود افعال ) ولامن دور مؤثر لشخصية المخرج العراقي عليه . 
- المنتجون : امّا فيما يتعلق الامر بحلقة الانتاج والمنتجين ،  فنحن هنا  بلاشك سنتوقف امام اهم حلقة  تلعب دوراً اساسياً في نمو وتطور الدراما  أوتدهورها ، واذا ماعلمنا ان معظم المنتجين العراقيين الذين ظهروا منذ تسعينيات القرن الماضي كانوا قد جاءوا من مهن وحرف واعمال لاصلة لها مطلقاً بالعمل الفني ، فإن من الطبيعي سيكون تقييمهم للعناصر الفنية التي سيعتمدون عليها في انتاج اعمالهم لن يكون لها صلة  بالمقاييس الفنية السليمة والصحيحة ، وقد ابتدأ هذا المسار في انحراف الدراما العراقية في منتصف تسعينيات القرن الماضي مع انتاج نمط من الافلام اطلق عليها في حينها (افلام السكرين) وهي اعمال تحتشد فيها كل العناصر المشوهة والمشوهة للقيم الفنية والانسانية اعتمدت جميعها على استسنساخ  اكثر الموضوعات الميلودرامية سذاجة وتفاهة ورخصاً ،وليستمر بعدها اولئك المنتجون بالعمل  بعد ان حققوا ارباحا كبيرة في ذلك النمط الهابط من الانتاج اضافة الى ماأستثمروه  في انتاج عروض مسرحية كان ابطالها بلا منافس الغجريات وراقصات الملاهي الليلية .
وبناءً على ماجاء نقول : إن ألخروج والابتعاد عن هذا الرهط من المنتجين ،الذين لايدركون طبيعة ماينبغي ان يقدم من مستوى فني ــ ولن يكون هذا من اولويات اهتماماتهم ــ  يحتّم على الفنانين أولاً ( ممثلين ومخرجين ومصورين ) ــ قبل اي جهة اخرى ــ التفكير والسعي الجاد من اجل تكوين شركات فنية مساهمة حتى يمسكون العصا من المكان الصحيح لكي تصبح ادارة عجلة الانتاج الدرامي بأيديهم ، وبالتالي يمكن من بعد ذلك تصحيح الاوضاع بأنفسهم ، ذلك لان الخروج من هذا الوضع المزري الذي يعانونه نتيجة الاستغلال البشع لجهودهم وطاقاتهم من قبل المنتجين الذين اشرنا اليهم  لن يحل عليهم صدقة او منحة من اية جهة حتى لوكانت حكومية ، ولن ينزل عليهم هبة ً من السماء. إن جميع العاملين في الدراما العراقية  يعرف  تمام المعرفة بأن المنتج العراقي قد تفنن كثيراً وبأساليب مختلفة  في إذلال الفنان العراقي خاصة الممثلين منهم . فَهُم الحلقة الاضعف في عقل وضمير المنتج ، وهم لارأي  ولاحول ولاقوة لهم فيما يُعرض عليهم من اعمال ،لانهم يدركون تماما انهم فيما لو عبروا عن رفضهم لاي دور يعرض عليهم انطلاقاً من عدم قناعتهم به ــ ولاسباب مختلفة ــ  ستكون نتيجته حرمانهم من العمل ، إن هذا الوضع يبدو شاذ جدا ، وقد لانجد له مثيلاً بهذا الشكل السافر والمزري  في اي بلد عربي آخر، إذ ليس من المعقول ان  نجد الممثلين العراقيين لايملكون القدرة على الاحتجاج والرفض لكل انواع الاستغلال البشع الذي يتعرضون له ! ويمكن ان نضرب مثلا على مانقول : إن اجر ايّ ممثلة او ممثل مصري او سوري من الدرجة الثالثة اوالرابعة في الساعة التلفزيونية الواحدة  هو أعلى اجراً بمايعادل خمسة اضعاف اجر الممثل العراقي المُصنّف على انه من الدرجة الاولى . ! وقيس على ذلك حجم الاستغلال البشع الذي يتعرض له الممثل العراقي وبقية العناصر الفنية الاخرى .
-كتاب الدراما :  أن معظم كتاب الدراما التلفزيونية العراقية هم هواة وليسوا كتابا محترفين بالمعنى الدقيق للكلمة ، جاءوا الى هذا الميدان لاسباب مختلفة منهم من فشل في الادب أوالشعر ومنهم من كان ممثلا يسعى من خلال الكتابة الى البقاء في دائرة الضوء ، ولاننفي هنا  وجود مواهب مهمة قدمت نصوصاً جميلة ومميزة لكنها وللاسف الشديد ضاعت بين ايدي مخرجين لم يتمكنوا من تقديمها بالشكل الذي تستحقه ومن هؤلاء  الكاتب حامد المالكي واحمد هاتف وعبد الخالق كريم اضافة الى الكاتبين الكبيرين صباح عطوان وعادل كاظم . . إلاّ أن الملاحظة الاساسية التي تنطبق على الجميع : انهم جميعاً لم يتلقوا تعليماً اكاديمياً في معاهد متخصصة يُدرَّسُ فيها علم وفن الكتابة الدرامية للسينما أو للتلفزيون ــ وإن كان بعظهم قد تخرج من معاهد وكليات فنية داخل العراق  ــ لكن فن الكتابة الدرامية  لم يكن  الاختصاص العلمي الدقيق الذي دَرَسوه ، هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار افتقار معاهدنا وكلياتنا الفنية الى المناهج العلمية ،والى الاختصاص الدقيق ، والخبرة الاحترافية التي تتولى تدريس  هذا الحقل المهم والاساسي في العملية الابداعية  .
اخيرا نقول لاجل تجاوز هذا الخلل الكبير في مسار الانتاج الدرامي العراقي نضع الملاحظات الاتية للخروج مما وصلت اليه اوضاع الدراما العراقية من هشاشة وبساطة وسذاجة في المستوى الفني : -
-السعي الجاد لفتح دورات تخصصية لكتاب الدراما ،من خلالها يتلقون دروسا ومحاضرات حول اصول الكتابة الدرامية، بشرط أن يتم اختيار محاضرين من ذوي الخبرة والدراية ومن الاسماء العربية المعروفة والمحترفة  في ميدان الكتابة .
- ان يتم استحداث فرع للكتابة الدرامية  في كلية الفنون الجميلة داخل قسمي السينما والتلفزيون .ليكون هذا قاعدة اساسية لشيوع المعرفة العلمية في معرفة وتمثّل اصول وقواعد الكتابة ، وليخلق بالتالي جيلا جديدا من الكتاب يعرف جيداَ اسرار الكتابة بعيدا عن العفوية والتقليد الاعمى الذي عادة ماتتسم به معظم النصوص العراقية التي تلهث بشكل محموم الى تقليد كل ماتطرحه الدراما العربية في مواسمها المتغيرة ولكن بطريقة مستنسخةٍ ومشوهةٍ .

من المسرح الى السينما
- الاستعانة بمخرجين عرب أكفاء ومشهود لهم بالتميز فيما يقدمونه من اعمال لكي يتم نقل خبرتهم الى بقية العناصر العاملة معهم من العراقيين .وهذا مابدأنا نلاحظه في الاونة الاخيرة . 
- اعطاء الفرصة للمخرجين السينمائيين الشباب العراقيين الذين اثبتوا حضورا واضحاً وتميزاً في نتاجاتهم السينمائية على سبيل المثال : محمد الدراجي ، عدي رشيد ، جمال امين ، هادي ماهود .  فهولا ء بما يمتلكونه من فهم سليم لطبيعة البناء الدرامي داخل المشهد السينمائي والوعي السليم بالعناصر الفنية التي ينبغي توفرها في بناء المادة الفلمية من ايقاع وحركة كامرة الى الميزانسين وتوزيع الاضاء والجو العام ونمو الفكرة وتطور الصراع ،يمكن الاطمئنان الى تجديد صورة الدراما العراقية اعتمادا على ما ستكتسبه من جمالية البناء للفلم السينمائي والتي لايعيها  معظم المخرجين العراقين العاملين في الدراما التلفزيونية ألاّ قلة ً منهم  ، هذا إذا ماعلمنا أن الكثير من المخرجين  قد جاء من خشبة المسرح ممثلا او مخرجا ، لذا من الطبيعي أن يكون  مفتقراً الى الكثير من المعلومات الاكاديمية التي تتعلق بفن الاخراج السينمائي او التلفزيوني او التصوير او بطبيعة الكامرة والعدسات واهمية حجم اللقطات والزوايا . فكل هذه المفردات تشكل عناصر اساسية  لاغنى عن فهمها ودراستها دراسة علمية اكاديمية  قبل الدخول في ميدان العمل الاحترافي . وفيما إذا تم تجاهلها ستكون النتيجة ماهي عليه الان من صورة بائسة في  الاعمال العراقية .




104
رموز سريالية تزاوج بيت التراث الرافديني والحداثة
قراءة نقدية في تجربة الفنان التشكيلي اياد العبار .


مروان ياسين الدليمي / الموصل

قيمةُ الفضاءِ لدى الفنان التشكيلي إياد  العبار تتيحُ للمتلقي الخروجَ بانطباعاتٍ مختلفةٍ عما هو يتوقع ان تصلَه من السّطح البصري،  ويتحقق هذا الاختلافُ في التلقي نتيجة َالمساراتِ اللونيةِ والتعبيريةِ التي تمر بمراحلَ من التشكيلِ الرؤيوي بعيداً عن  المستوى الواقعي . هنا يخرجُ العبار من اكتشافاتهِ الواقعيةِ ليعمقَ اسلوبيَتهُ الخارجة َفي  طابعها السريالي ،الذي بقي متألفاً معهُ ومتكاملاًَ مع استجاباتهِ الانسانية،  التي ترفض الانصياعَ للقيود .
رُغمَ مرور الاعوامِ الطويلة ِعلى غربته في ايطاليا الاّ انه مازال متمسكاً باستجاباته الميثولوجية والانسانية التي جاء منها . وكأنه في رحلته البعيدة ْ يسعى لاكتشاف ذاتهِ الاولى التي تشكلت من فضاء بلاد مابين النهرين .إذ بقيت انطباعاتهُ الانسانية بكل تشكيلاتها البصريةِ تنبني على شاعريةِ النظرةِ  التي يتفرد بها الانسانُ الشرقيُ بكل قيمهِ الروحية ، التي بَسَطتها الاشعارُ والاساطيرُ والحكايات، والتراجيديا الانسانية التي تتوفرُ عليها بيئتهُ الملتهبةُ بالرمال ووالغزوات والحروب وقصص العشق المميت .
إن في نصوصِ العبار البصريةِ مَهارةٌ يتم استعراضُ امكاناتها  بقصديةٍ واضحةٍ لغرض بناء ِفضاءه السريالي على انقاض الاسسِ الواقعيةِ التي تأخذ حّيزها الواسع في الكتلِ والفراغاتِ والاشكال المتحركةِ من انثيالات الزمن المرئي والمحسوس في لوحةِ المرصود امام العين .

حداثة النص التشكيلي .

 إنّ مُجملَ اعماله الفنية تضعنا امام حداثوية  النص التشكيلي المُعاصر الذي يعيد انتاجَ العلاقة مابين العمل الفني والمتلقي بالشكل الذي يُعمّقُ الشراكة مابين الاثنين في انتاج المعنى للنص ، مُزيحاً بذلك الصّياغة المُهيمنةَ التي تحتكرُ الرؤيا في جُعبة الفنان وليبقى المعنى غَائباً ومُغيباً قصدياً في لوحات الفنان إياد العبّار، يستلزِمُ استدعائَه قراءاتٍ متعدةٍ للمتلقي  تستمدُّ اشاراتها من وحي اللحظةِ والتجربةِ الذاتية للفنان والمتلقي في آنٍ واحد ،  اذ يحتفي النصُّ البصريُّ لديه  بتراكيبَ وجدانيةٍ تمتلكُ وتفرز دلالاتها الجمالية على السطحِ التصويري بأشاراتٍ إيحائيةٍ يُنتجها عادةً رمزاً واقعيا مؤسلباً في مستوياتِ التقنية السريالية .
والمُلاحظ على أعمالِ العبّار أنّها تحلّق في مستوياتٍ مُتراكبةٍ بين ثنايا الطقوسِ والرموزِ التي إعتمَدها من كينونتهِ الرافدينية ، وكأنه يستنشقُ الهواءَ مِنها في مُحيط الصمتِ والاغترابِ الذي بات يُثقل كيانهُ يوماً بعد آخر، فهو في تجربتهِ الجمالية يستعيدُ ذاتهُ المفقودةَ في مرئياتِ المساحاتِ الغريبةِ التي احاطت به اعواماً طويلةً  ويعلن صوته بكل امتدادتهِ العراقيةِ الحاضرةِ في غياباتهِ ، كما يسعى دائما في تجاربهِ التي تمتدُّ لاكثر من اربعةِ عقود مَضت لِأنْ يحتوي جمالَ العالم ، مُدناً وحضارةً وانساناً وتاريخاً وغداً أجمل .

الفن والذائقة المؤلفة .

إن العمل الفني بظواهرهِ التي يستفزُّ بها الذائقةَ المالوفةَ بكل تراكيبها المنغلقةِ على حدودٍ صارمةٍ من القيمِ الفنيةِ ليس سوى نبوءةٍ تحتشدُ فيها الافكارُ والرؤى التي تتصاعدُ في وعي الفنان ولاسبيل الى اظهارها سوى اللونِ والاشكالِ والسطوحِ ، فمن خلالِها يُمسِكُ باستقلاليةِ وعيهِ أمام فوضى العالم وغموضهِ والتباساتهِ ، والعبّار يستثيرُ المُتلقي بأحاسيس ومشاعر تعيدُ صلته الحيوية والآسرة بالانسان .
رغم ان السريالية باتت فناً كلاسيكياً بالقياسِ الى ماجاءَ بعدها من تحديثاتٍ اسلوبيةٍ في التعبير التشكيلي إلاّ أن إياد العبّار مازال يمنحُها هويتها المتجددةِ في اعمالِهِ ،وثمّةَ انشغالٌ دائم في اعادة انتاج الِبنية التوليدية  لذاكرةِ الفضاء السريالي ، وهي محاولةٌ منهٌ للارتقاء بالتصوير النّصي لتجريداتهِ الذهنية التي تتخذُ من مُفردات الميراث الرافديني وجسد المرأة وعالم الفرد المعاصر ، سعياً منهُ في  ترحيلِ شفراتهِ المخادعةِ  الى بناء  علاقات تصميمية تقتربُ في حضورها الدلالي من الامساكِ بطقوسيةِ اللحظةِ الميثولجية .
إنَّ الخطابَ الفني في لوحات العبّار يتعاطى بكل مفرداتهِ وسطوحهِ وكيفياتهِ مع المُحفِّزات الانسانيةِ بعلاقاتها الخاصةِ والجدليةِ دون أن يتورّط في محاولةِ تقديم ابعاد توضيحية لاسناد الرؤية وإيصالها ، فهو ليس مَعنيُّ بالاسهابِ بقدر ماهو معنيُّ بتكثيف الرؤى الفلسفيةِ في تفاعلاتِ المفرداتِ التشخيصيةِ الانسانيةِ على سطح اللوحةِ . فالفن بالنسبة له يبقى اشتغالا في ميدانِ التساؤلِ وحاجةً انسانيةً داخليةً وليست ترفاً جماليا يتسيّجُُ ويتزوّق بالالوان انما هو استئثارٌّ بالمعنى عبر طروحاتٍ شكليةٍ تستعرضهُ في مساحاتٍ لونيةٍ ومعمارية .
لم يكنْ هاجسُ العبّار في اشتغالاتهِ اللونية الوصولَ الى تحقيقِ استثاراتٍ وانطباعاتٍ عاطفيةٍ ينقلها الامتاعِ البَصَري الذي تتشكلُ مِنهُ السلعة الفنية انما كان يذهبُ بكائناتهِ الى بُقعٍ ضوئيةٍ تغتسلُ بالصّمتِ  ليكتشفَ من خلالِها اغترابهُ في صَرامةِ هذا العالم الذي تنقّل بين اوهامهِ واحلامهِ وأسْيِجَتِهِ شارداً من لحظاتِ العَتمَةِ التي كانت تُلاحقُ خطواته بكل صخب .
إنّ طبيعةَ العناصر المؤثرة في مسارهِ الفني والتي تستمدُّ صيروتَها من ذاكرةٍ خصبٍ ومتجذرةٍ في ماضٍ بعيدٍ جداً طالما تعايشَ وتعاشقَ مع ذاتهِ في مدينتهِ الاولى نينوى ، التي طالما وجَدَ فيها ــ  مُنذ بواكير وعيهِ ــ  ان  منحوتات اجدادهِ مِنَ الاشوريين إنّما تُعبِّرُ عن مفاهيم واعتقاداتٍ فلسفيةٍ شَكّلتها مَلحميةُ المَسار الحياتي والانساني التراجيدي الذي وجدوا أنفسهم فيهِ لذا كان لابُدّ أن ترتبط ذاكرتُهُ البَصَرية بما كان ينبثقُ من تلك الارض من مظاهرَ تصويريةٍ تنتمي الى ذاتٍ جَماعيةٍ تحملُ في تمظهُراتها فردانية الفنان التشكيلي الاشوري وهنا وجد العبّار نفسهُ وهو يتحرّك في مساحة خاصة به ، لها فاعليتُها المحسوسة ُ، ومن خلالها يسعى لاستحضارِ ذاته الغائبة / الحاضرة في تجلياتٍ انشائيةٍ تندرجُ في اطارِ البَحث عن الازاحات البَصَرية التي لاتقبلُ التآلفَ والتجانسَ مع بِنية المرئي .

خطاب واقعي مع بنية اجتماعية .

إنّ صياغاتهِ البلاغية التي مرّت بتحولاتٍ ملموسةٍ منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي تعاملتْ مع مفرداتِ الذائقةِ السائدةِ وفق معطياتِ القيم الجّماليةِ التي مَنحَها الفنُّ المُعاصر بتشخيصاتهِ التي ابتعَدت مُغتربةً عن الخطاب الواقعي لتعكس اشراقاتِ وعيه الذاتي في كشفِ متراكماتِ الزّمن في أبعادهِ الاجتماعية والتاريخية فكان نتاجهُ تمريراً بلاغياً لحركةِ الافكارِ وصيرورتِها داخل ذاتهِ التي لم تتوقف عن التساؤل لازاحة مايتلبسها  من غموضٍ وقلقٍ لن تُخطىء العين في الوصولِ الى تمظهُراتِهما على السّطح التصويري في لوحاته ِ .  

























105
  كثافةاللغة الشعرية واغتراب المساحة الدرامية
 في العرض المسرحي . .   مقامات بغدادية .
               


تقديم  : فرقة قره قوش للتمثيل
تأليف : جوزيف يشوع
اخراج : وسام نوح
تاريخ العرض:  23/6/2012
مكان العرض : قاعة فرقة قره قوش للتمثيل


                                          مروان ياسين الدليمي / الموصل

الدخول الى بناء النص المسرحي من باب الجملة الشعرية بما تختزنه من صور وتكثيف لغوي لن يقترب من خشبة المسرح اكثر مما سيزيد المسافة بينهما ويضيّق بالتالي البناء الدرامي الذي ينبغي أن يتمركز في متن النص وليتشضىّ في تفاصيل العلاقات القائمة بين الشخصيات ، والعرض المسرحي ( مقامات بغدادية ) الذي تولى كتابته جوزيف يشوع،  القادم بقوة من الاجراءات السردية القصصية التي تمرّس عليها في كتابة القصة القصيرة .
هذا العبور الذي شاءَ يشوع الخروج عبرهُ من اشتراطات جنس ادبي الى جنس ادبي آخر دون أن يقترن ذلك بهيمنة الصنعة المسرحية التي تستلزم وتفرض اجراءتها التقنية  معايير وقوانين ترغم من يروم التعاطي مع المواضعات الدرامية المسرحية مُجارتها والالتزام بها قدر المستطاع .
 لم يدخل هذا العبور ضمن السياق الدرامي الذي يُحتمهُ الفضاء الدرامي للخشبة ، لذا بقيت القراءة (الكتابية ) للنص يترشح منها الاغتراب الاجناسي المسرحي، ومقتربة في بنائيتها  من التدوال الشعري .
النص من خلال شخصية المغترب العائد الى الوطن كان قد ارتكز في لعبته الفنية على اضاءة مساحة واسعة من ذاكرته التي مازلت مكتنزة بصورٍ تسبح في اشارات ماض ٍ جميل وعبق وهو يطأ ارض بغداد ليجدها على النقيض مما كان يهيمن عليها من تفاصيل وجمال باذخ بأبسط الاشياء، يجدها مشحونة بالقحط والخراب والموت .
 بهذه الصورة الفجائعية  جاءت في مجمل الحوار الذي كان اشبه بمنولوك  طويل تم تقطيعه لتتعكز عليه بين فترة واخرى حوارات لشخصيات اخرى. منولوك تنبعث منه معطيات شعرية اكثر مما هي درامية تدفع بالحدث الى الامام ،و شاء المؤلف أن يؤثثه  على لسان الشخصية الرئيسية وكذلك بقية الشخصيات التي لم تكتسب طبيعتها الدرامية بل بقيت تستجيب بشكل متوازٍ مع ذات الشخصية الرئيسية في منطقة واحدة غير منشطرة عنها .
ان الذاكرة التي كانت منطلقاً في ايقاظ ماهو انفعالي في هذا العرض عززت حركة الطاقة السردية / الشعرية وأقصَتْ التركيبة الدرامية بما تستدعيه من مكونات ومستويات تصادمية وتصارعية بين الشخصيات ، وهذا ادى بالتالي الى تحديد منافذ الرؤية واختصارها بطبقة واحدة من الشخصيات المحالة الى بنية معمارية واحدة متجانسة متماثلة .
اما فيما يتعلق بعناصر التشكيل الاخراجي التي اعتمدها المخرج في محاولة منه للاحاطة بطبيعة الرؤية الفنية التي اشتغل عليها المؤلف في بنيته الادبية التي تمظهر فيها البناء اللغوي بطاقته البلاغية المحكمة  فقد جاءت ادواته ذات مرجعية واقعية سعى من خلالها في لحظات مجتزأة ــ لكنها لم تدم طويلاً في سياق التوالي الواقعي ــ  باتجاه ألنأي بها بعيداً عن هذا القص لكنها بقيت  ممارسة مضغوطة ومختزلة لم تتعدى افتتاحية العرض وبعض اللحظات المتباعدة والبعيدة زمنياً هنا وهناك اثناء عرض مسرحي اتسم بزمنه الطويل والمرهق كان بالامكان ضغطه وتكثيفه زمنياً الى الحد الذي يمكن ان يصل الى نصف ساعة بدلا من ساعة ونصف الساعة ولم يكن هذا الاجراء فيما لو تم  إلاّ تداولاً منفتحاً على اهمية عنصرالزمن في عملية التلقي ولن يؤثر بالتالي على عملية الايصال .
وكان ينبغي ان تتعمق وتتباين قراءة المخرج للنص ،وأن يتم تحميله بإضاءات صورية معبأة بطاقة الازاحة لماهو مألوف، والاخذ به الى تحميلات جمالية كالتي ابتدأ بها العرض وجعلتنا نتعلق بأهداب انثيالات صورية مثيرة ومدهشة حققت بمروها القصير امام اعيننا طاقة من التساؤل الكثيف .
إن هذا العرض رغم النحو الذي ذهب به المخرج مستجيباً لمقتضيات النزعة التقليدية في محاكاة الجملة والمشهد مسرحياً الاّ انه كان تجربة ثرة للمؤلف الذي تجاوز تدرجه القصصي الى اشتغال اخر يقتضي منه العيش في التجربة المسرحية والاندماج فيها حتى تستجيب افكاره لمنطق الفضاء المسرحي . وهو فيما اعطانا من مساحة وسطوة بلاغية محملة باسماء وامكنة وتواريخ بغدادية  اختلط فيها الماضي البعيد بالحاضر المعاش القريب قد تمكن من شحن المتلقي بطاقة من الاحتفاء بالذات الانسانية التي بقي الحب يستدرجها الى امكنة محاصرة ومأسورة بالموت والخوف .
ولان حدود التأويل والترميز والتشفير لم يتم الاقتراب من خاصيتها بالشكل الذي يستفز المخيلة ويقصيها الى مسافات ومساحات واسعة لذا كان من الطبيعي ان   ينعكس هذا على طبيعة الجسد وطاقته التعبيرية للممثل إذ لم يمتلك وظيفته المفارقة في الايحاء والتنوع طالما بقي  ضمن السياق المحكي والملفوظ ،أي داخل حدود واطار النص  بشكل مباشر وصريح . أما فيما يتعلق باداء الممثلين فهنا  لابد ان نشير الى طاقة شابة واعدة افصح عنها العرض وهي الممثلة (  حنين فرح   )التي تمتلك احساساً متوقداً في التعبير والانتقال مابين الحالات الشعورية التي اجتمعت في تركبية الشخصية التي تحملت مسؤولية أدائها وهي خامة مسرحية  تستحق الاهتمام بها والاخذ بيدها ، اما بقية الممثلين وفي المقدمة منهم الفنان المثابر  نشأت مبارك فقد تضمن اداءه لحظات متوهجة لكنها كانت مبعثرة في زمن طويل . . كذلك لابد ان نحتفظ بذاكرتنا بأسم الممثل ( وعد توماس   ) الذي سيكون له شأن واضح ومهم في المستقبل القريب .
اخيراً لابد ان نشير الى ان فرقة قره قوش وخلال مسيرتها التي تمتد لاكثر من ربع قرن تسعى بما تملكه من طموحات وتطلعات فنية الى أن تحتل ــ بما تقدمه من اعمال جادة  ــ بقعة مهمة وفاعلة في المشهد المسرحي من خلال اصرارها على العمل والعطاء رغم محدودية الامكانات المادية المتاحة وهي بين فترة واخرى تقدم لنا معطيات تبعث على الامل والتفاؤل رغم بؤس الواقع المحيط بنا وبها . وما تجلىّ في هذا العرض ــرغم ملاحظاتنا ــ من ظهور اسم جديد في عالم التأليف المسرحي ( جوزيف يشوع ) إلاّ تأكيداً ودلالة على عمق الانتماء الذي يربط عناصر هذه الفرقة بالفن المسرحي باعتباره خبرة جمالية ومعرفية  لايمكن للانسان ان يستغني عنها .



106
التشكيلي إياد أل عبار يتحدث عن رفقته مع سيلفادور دالي وآخر أيام بيكاسو  .

-   روضت الغربة وصنعت منها خوذتي ولوحتي 


-   تعلمت الكثير من دالي برغم انه كان يرفض أن يتكلم معي عن الفلسفة




 


حاوره : مروان ياسين الدليمي / الموصل

أنت القادم من شرق مُبتلى بالعسس،أن تكون متمرداً ومتماهياً مع ذاتك وانت ماضٍ في دربك الطويل الذي اخترت فيه الاستيقاظ في خرائط مدن لاترتوي الاّ من كؤوس الحرية والحداثة سعياً منك للامساك بصولجان الرؤى، كنت ساعتها على موعد مفاجىءمع من شاء أن يُسقي عشبة الفراديس في ذاكرة الانسان ،على موعد مع حلم ٍباذخ كان يبدو بعيداً في محطات الغربة. . فأن تفتح عينيك لتكون في قارب واحد مع بداية المغامرة برفقة روفائيل البرتي وسلفادور دالي وبيكاسو ! دون ان تخطفك الدهشة وانت تخطو اياما ًوليالٍ معهم في مساحات مُلونة تكتبها تعابير متشابكة دفعة واحدة . فهل سيكون هذا أمراًعابراً في كثافة الايام العابرة.  إياد العبّار شاعر ورسام واكاديمي عراقي الاصل  يقيم في ايطاليا منذ اربعة عقود ويُدرِّس في جامعاتها. . مدينته الموصل التي يقول عنها "عشيقتي في السراء والضراء " غادرها في مطلع العقد السابع من القرن العشرين ولم يعد إليها رغم انه مايزال يحلم بدجلة والفرات كلما وضع رأسه على الوسادة كل ليلة . العبَّار غادر العراق عابراً البحار والمحيطات بحثاً عن المعرفة في مجهول الازمنة والامكنة البعيدة ،حاملاً حقيبته على ظهره وهويشيح بوجهه للحرائق التي بدأ يستشعر انها قد امست قريبة وستأتي ، متجها الى مصر ، ليدرس فيها ومن ثم لينتقل الى ايطاليا ليكمل دراسته العليا للفن هناك وليبقى فيها حتى هذه الساعة .
أقام العبار معارض شخصيةلأعماله الفنية من رسم ونحت في جميع أنحاء أوربا،بعض منها تتواجد في متحف الفنون للفن المعاصر في نيويورك، وكذلك في اليابان وأيطالياوفرنسا وإسبانيا وألمانيا ،أكثرمحاضراته عن الفن والأدب والدين والفلسفة تم نشرها في معظم المجلات والصحف الاوربية وفي دور النشر الأكاديمية التابعة لمختلف الجامعات،كمانشرالعديد من نتاجاته في دور النشر الاوربية ،من قصص ودواوين شعرية ودراسات،ايضا له مسرحية شعرية بعنوان: الشيخ والفنار كانت قد نشرت في إيطاليا باللغة العربية والإيطالية. كما أعاد كتابة ملحمة جلجامش شعراً وكلفه ذلك ثماني سنوات من عمره ،وله ايضا مجموعات من القصائد والقصص التي نشرت في صحف ومجلات اوربية وعربية منها :
الحصار ـ قصة ـ باللغة الإيطالية 1991ـ دار النشر ـ پالا َّديو ـ
الفريسة ـ قصة ـ  باللغة الإيطالية 2001 ـ دار النشرـ جانكارلو دزدِّي ـ
جروح في قلب الزمان ـ مجموعة شعرية ـ باللغة العربية والإيطالية  2002 ـ دار النشر ـ آنـَنـْكي ـ  .
التقينا بالشاعر والفنان التشكيلي المغترب إياد العبار واجرينا  معه هذا الحوار . . .



*اولا وقبل أن نبدأ بالحديث الذي إنْ بدأ فلن ينتهي ، أود ان اطرح السؤال الاتي على اياد العبار: - بعد هذا الابحار الطويل في سفر الحياة، والشعر، والرسم ، متنقلاً مابين مدن وقارات تفصلها ازمنة وحضارات ، من انت ؟
- قبل أن أجيب على أسئلتك، أود أن أشكرك على هذا الإهتمام وعلى هذا الإطراء. لقد أيقظت فيَّ ما كان قد سَبَتَ منذ حين طويل. شكراً جزيلاً يا أخي مروان. . من انا؟! ليس غريبا عليّ هذا السؤال، وإجابتي الصادقة والصادقة جداً هي أنني لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني كنت قد بدأت ولم أنتهي بعد. بدأت بالعلم والدراسة ولمَّا أنتهي. كنت أُلاحِقُ ولاأزال كل ما يشدّني إلى المعرفة. إيماني الوحيد هو أن الخلاص يكمن في المعرفة والمعرفة لها قوانين ومقامات: الصبر والعزيمة، الطاقة الكبيرة من التحمل والإصرار، الإنفعال والغضب واحتراق الأعصاب، الفرح والحزن، الكراهية والأنحباس في عوالم الشوق وأغلال التتيم حتى النخاع، تواصل الرحيل فكريا، أخلاقيا وجسديا من مقامة إلى أخرى ومن فكر إلى آخر حتى تترابط  وتتسلسل الدرب دون انقطاع ودون توقف، كل ذلك يتوجب العشق والحب وهذان لن يكونا بدون ألم ومعانات وشعور بشيئ من الجوع والبرد والخوف، بالكثير من الألم والحرمان والحاجة، العيش على مبدأ الخسران: أنت تخسر كي تحصل وأنت تحصل كي تكبر وتكبر كي تستعيد ما خسرته بطريقة أو أخرى. لم يبق مكاناً على الكرة الأرضية إلاّ وزرته إلا َّّ نيفاً، لم يبق فكراً إلاّ ودخلته مهما كان الثمن ومهما كانت الوسيلة. الإيمان بالمعرفة هو الإيمان بالله. والإيمان بالله يُؤكّد لك بأنك لا تعرف نفسك إلاّ إذا اتَّخذت المعرفة طريقا لك. .أنا كنت في كل الجوامع والمعابد في كل أنحاء العالم وكان السؤال هو هو.... أتعرف نفسك؟! وهل عرفت أنا نفسي؟ إذاً أعيد السؤال مِن جديد: هل عرفت مَنْ أنتَ؟
 
*عندما نقرأ سيرتك الذاتية نجد ان خروجك من العراق في اوائل سبعينيات القرن الماضي كان ُمبكرا جدا على ماجرى من حروب  واحداث جسام ،  ومنذ أن غادرته لم تعد اليه  ابداً. هل كنت تستشعر بما سيجري من دمار وتراجع حضاري  فقررت الخروج منه مبكرا ؟ أم انك كنت منساقاً الى ماكنت تحلم به من مشاريع فنية وادبية كنت تخطط لانجازها؟
- نعم،  كنت أشعر بذلك. كان خروجي من الوطن مبكرا. هذا ما حدث، ولكني كنت قد عدت ولأيام قليلة وذلك في أواخر سنة 1976. بَقيت يومين ونصف اليوم ثم رحلت من جديد!. أنا لست مُتـَنـَبـِّئ، ولكن كان بي شعور يدفعني إلى المضيئ أماماً، إلى عدم التوقف... إلى الخروج ثائراً على كل ما يمنعني من الإستمرار في طريقي. كان في داخلي شعور بالضيق والخضوع المجبر لحالة لا تحتمل من الضغط والحد من وجودي وتفكيري، هذا ما جعلني أندفع الى الخارج قبل أن يحدث ما لم يكن في الحسبان! كنت أُمنـَعْ مِنِ الدراسة والقراءة! إذا قرأت لكارل ماركس قيل عني شيوعيا، وإذا قرأت لسيد قطب قيل عني هذا من الإخوان! وإذا قرأت لجون بول سارتر قيل هذا وجوديا وإذا قرأت عن داروين يُحتارُ ماذا يمكن أن أكون...إلخ! إذا عرضت لوحة في معرض ما بالإشتراك مع الأستاذ ضياء أو عبد الحميد أو ستار الشيخ قيل عن عملي غير مفهوم أو أنه مرفوض جذريا، والويل لي إذا نشرت قصيدة! وشرطة الأمن تلاحقني وأنا لم أكن قد جاوزت من العمر السابعة عشر!
كذلك في مصر، عندما كان يصدر لي مقال في جريدة "الأهرام" أو في "الجمهورية" في الصباح، تأتِ شرطة الأمن بعد الظهر لتأخذني إلى السجن، بالرغم من أن مقالي كان عن الأدب أو الفن أو الفلسفة أو غيرها، إذ أنَّهُ كان هناك من القلائل الذين يقرؤون مابين السطور ويكشفون حقيقة ما كنت أريد قوله!  نعم، كان بي ذلك الشعور بأنَّ شيئاً ما، بل أنَّ أشياء كثيرة ستحدث وإنـَّها لأحداثٌ جسام ودمارٌ وتخلـُّفٌ حضاريٌّ كان من غير شك سيهلكني، هذا إذا ما كنت سأقف أمامه شاهدا لا حراك لي، أم كنت سأردُّ وأنتهي كما حصل ذلك مع الكثير من جيلي، كان يجب أن أختار بين إثنين: إمـّا أن أواجه الواقع مواجهة مباشرة، وفي هذا الحال سأخسر، سأخسر كلَّ شيئ وأنا الذي كنت ضعيفاً ضعف نبيٍّ سُرِقـَتْ منه عصاه! وإمـّا أن أرحل ومن ثمَّ أُعِيد الكرَّة والحرب سجالٌ، كرٌّ وفرٌّ. .لذا رحلتُ، أشياء أخرى كانت تجعلني أكثر تحرُّقاً إلى الشرود والرحيل، منها التحدي، تحدي العالم الذي كنت فيه مُحتـَضِراً " مدفون بالحياء" والعالم الذي كنت أجهله، أجهل الـ " لماذا وكيف وأين ومتى ... إلخ" قد وصل إلى ما وصل سلبيا وإيجابيا. كان قد قيل: ستعيا، ستعاني كثيرا، ستـُكسر... وها انا بالرغم من كل ما جرى! كان في داخلي إذ َّاك وأنا أودع عبود عبدالله بكر وناظم ويونس وغيرهم، شعور غريب، شعور بأنَّ الكثير الكثير سيحدث، كنت أشعر بأنَّ تلك الأرَضَةَ قد بدأت تتحرك وتأكل وأن كثيراً ممَّا ليس بالغيب ولامحالة واقع! وهذا الكثير سوف يحطم كل مافي وجودي من رغبة وزخم للشروع بالمسير بذاك الذي خـُلِقتُ من أجله. لم يكن دواري دوار سائح ولكن التنقل من مدينة إلى أخرى، من جامعة إلى أخرى ومِن حضارة إلى أخرى باستمرارية وبدون توقف أعطاني القوة كي أخدع الزمان وآخذ منه قبل أن يأخذ مني:ـ ( الوقت كالسيف إذ لم تقطعه قطعك).
 
*انت شاعر ولك في ميدان الفن التشكيلي تجربة ثرية جداً ، خصوصا انك رافقت لفترة  ما  الفنان سلفادور دالي في مشغله الفني  ، كيف توصلت الى هذه الرفقة مع دالي وكيف وجدتها . نريد ان تطلعنا عن تفاصيل  العلاقة مع هذا  الاسم الكبير ؟
-كنت، في مدينة فلورنسا، طالبا في أكاديمية الـ" سينيوريـَّة" للفنون الجميلة، في السنة الثانية، في السنة الأكاديمية 1974ـ 1975، كنت تحت زخم الإمتحان للنصف الأول من البرنامج الأكاديمي للرسم والنحت، كنت قد توقفت عن العمل، عن الرسم، وذلك لأنه كان قد سُمِحَ لي لأخذ ساعة من الوقت للغداء. ذهبت الى مطعم الطلبة وكالعادة أخذت صينية ووضعت عليها اطباق الطعام والشراب الذين اخترتهم وجلست الى جانب احد رفاقي في الأكاديمية لآكل. على حين صادف نظري دخول بعض أساتذتي ومعهم رجل لا أعرفه، كان أشهب الرأس واللحية، ذو وجه أسمر تميل تعابيره الى الحزن الذي كان يكاد يخفيه. كانوا متوجهين إلى حيث كنت جالسا. إقترَبوا وسلموا، نهضت، أردفت على السلام. قال أحد أساتذتي، أقدَّمُ لك الشاعر الإسباني الكبير رافئيل ألبيرتي! نهضتُ أسلم، قال ألبيرتي: أنا اليوم بدأت زيارتي لأكاديميتكم العظيمة! ودخلت أزور أكثر أنحائها، وصدفة، كنت قد دخلت المرسم الذي تعملون فيه لأجل الإمتحان ورأيت أعمالكم، أعجبتني لوحتـَكَ كثيرا، بل أدهشتني وأنا أُهَنـِّئـُكَ على هذا العمل الرائع! شكرته كثيرا، قال: إني ذاهب إلى باريس بعد ثلاثة أيام لزيارة صديقي بيكاسو لأنني سمعت أنه مريضا وأريد أن أطمئن نفسي عليه فهل تأتي معي؟ قلت: بلى بكل بهجة وشرف، قال: إذاً، ألقاك ونسافر سوية، قلت نعم! جلس ألبيرتي وأحد أساتذتي يأكلان معي. وكان الحديث إيـَّاه ـ الشعر والأدب والفن والفلسفة! حتى إذا جاءني النداء: إلى المرسم، إلى المرسم يا آل عبـَّار وإلاّ سترسب في الإمتحان! كنا أنا وألبيرتي في باريس. دخلنا غرفة بيكاسو، رأيته طريح الفراش، كان قد انتهى توا من أخذ فطوره ودواءه. وكان حديثا طويلا: كلمات بالفرنسية وأخرى بالإيطالية وأخرى بالإسبانية وأخرى بالإنكليزية وأخرى أيضا بالعربية! قال لي بيكاسو لقد سمعت عنك، قصائدك وكتاباتك ولوحاتك تنبع من نور أنا كنت قد عرفته! ورأيت صورا لبعض أعمالك، أنا أهنئك، أنت شاب ذا موهبة، ليكن الله بعونك! بعد أيام قليلة رحل بيكاسو الى العالم الآخر وكانت جنازة رائعة بقيت في ذهني حتى اليوم. أنا و ألبيرتي ذهبنا الى إسبانيا والتقيت بـ دالي، وكانت سيرتي معه صحبة وعداوة، إذ أنه كان رجلا نرجسيَّ الطباع، متكبَّـرا على الآخرين ومكروها من قبل مجموعة السرياليين عامةّ. حدثٌ وخطبٌ سيئ وثقيل كان قد صار بينه وبين الآخرين الى جانب تكبـُّره عليهم. كان قد هرب هو وخطيبة الشاعر الفرنسي بول إلـْوار ـ كانت روسية الأصل ونبيلة من نبلاء الروس ـ كان إسمها " ڴلاَهْ Galàh ". في مرسم دالي كنا نتباد الآراء ونحن نعمل "نرسم"، حول الكثير من المواضيع عن الفن عامة وعلم النفس وخصوصا عن فرويد والأدب والفن الكلاسيكي والمعاصر، ولكنه كان يرفض أن يتكلم معي عن الفلسفة! تعلمت منه الكثير ولو أننا لم نكن نتفق على الكثير من القضايا، كان يقول: لاأحداً بعدي!. كان أكثر حديثنا ينتهي بعبارات كهذه: إبقَ أنت وتعجرفك هذا، لا تنسى بانني أنا الأعظم!، إذهب إلى الجحيم، أنا لا أوافقك بهذا الرأي، أنت لاتدري شيئا... أنت وإستمناءُكَ الفكري هذا سوف تلقى نهاية عسيرة! وهكذا. كلما افترقنا إزدادت صداقتنا عمقا وكلما التقينا تبدأ مفارقاتنا لعبتها الأولى! معه تعرفت على الكثير من الأُدباء والفنانين والمخرجين السينمائين والممثلين. دالي، وبعد موت گلاه كان قد ذهب هو الآخر ولو فكرياً ونفسيا فقط ، إن العشر سنوات التي كانت قد بقيت له من حياته كان يعيشها وهو أشبه بالحي الميت! دالي كان صديقا ومعلـِّماً عبقريا.       
*الاغتراب شعور عميق طالما رافق المبدع حتى وهو داخل وطنه . فكيف بك وانت قد عشت الشطر الاعظم من عمرك مُغترِباً . مالذي تركته فيك هذه التجربة ؟ ماذا اضافت لك ؟ وماذا اخذت منك ؟
-" الغنى في الغربة وطن والفقر في وطن غربة!" الغنى والفقر ليس بمعنيهماالمادي فقط ولكن هما أيضاً بالمعنى الكوني أي  الروحي والفكري والأخلاقي. الإغتراب هوالمادة الحية التى تعطي وتأخذ وهو القدر الذي يلاحق الإنسان منذ تواجده على هذه الإرض. الغربة يمكنها أن تسحق وتـُبيد ويمكنها أن تـُعطي وتـُثمر، الغربة هي تلك "الغولة" المخيفة القاسية التي لا ترحم والتي يمكنها هكذا بلحظة أن تمحيك وتجعل منك نسيا منسيا. وهي، إذا ما رُوِّضَتْ وأُخْضِعَتْ تـُعطيك الكثير!جامعة تلو أخرى وإمتحان تلو الآخر ودراسة تتبع أخرى والفقر والحاجة هما أمهات الإختراع والإبداع. تراني أستعير كتابا إذا لم أكن قادراً على شرائه وبعد أن أنتهي منه، أعيده شاكرا وممتنا. تراني أشتري القليل القليل من الألوان والفِرَش والقماش، أشتري إزميلاَ و مِطرقة مُسْتـَعـْمَلـَيْن وحجارة لها قيمة رخيصة جدا، ثم أبدأ العمل. أنجح في الإمتحان وأرسمُ لوحة ذات مستوى فنـِّي عالٍ وأنحتُ تمثالاً يجعل الرَّائي عاشقا. أبيع اللوحة والتمثال مختومين بإسمي وألقي محاضرة وأُكْرَمُ عليها لأني كنت قد أجدتُّ بدراستي وصُنعي وفنـِّي وأجلس في إحدى مقاهي فلورنسا أو باريس أو مدريد أو أي مدينة أخرى، آكل  لفـَّة ًمن الخبز والجبنة وأشرب كأسا من النبيذ وقهوة حلوة، أدخن سيجارة وأكتب، أقرأ وأرسم  بقطعة من الفحم أو قلم من الرصاص مايمر أمام عيني، ومن ثم أسافر عائدا إلى الوطن! في سفري هذا أرى وأسمع وأُحِس!ُ بما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر ببال بشر! تبزغ الكلمات وتـُولدُ أمهات الألباب وتـُطحَنُ الجُمَلُ والعبارات وتخرج ذوات السحر فتسحرن وتعزفن ألحانا من الضياع والشرود، من الموت والخلود من العطش والجفاف، من الضمأ والإشتياق، من الحب والحزن، من العشق والحرمان، تولد عروس البحر أو راعية الغنم في واحة الصحراء أوفي وادي الجبل، تولد نادلة المقهى أو عاملة في المصنع، تولد الغجرية أو الأميرة، الأخت والأخ والأُم والصديق الذين هم في منفى منفايَ، يولد كل شيئ ومن ثم يختفي كل شيء! أظلُّ وسيجارتي حتى غروب الشمس. أعود الى منزلي... أحتضن الكحل والحنـَّاء، أضع رأسي على وسادتي وأحلم بدجلة والفرات! هذا مثال بسيط لما تركته في وجودي الغربة. الغربة روّضتـُها وصنعت منها خوذتي وسيفي ودرعي وهي أعطتني فرساَ عربية أصيلة، أتـَتْ بها من وادي الرَّافدين فكنت ذلك الفارس العربي الذي لا يهدأ ولا يستكين. هذا ما تركته فيَّ الغربة. .في أواخر دراستي وأنا أقدِّم أطروحتي عن الحلا ّج مقارناً فكره بفكر فريدريك نيتشه، كان علي أن أجتاز أمتحان من الإمتحانات  المقررة الأخيرة، إمتحان صعب جدا وهو " تاريخ الفكر الإنساني الفلسفي العلمي" لمؤلـِّفِه لودفيك جايموناه"Storia del pensiero filosofico” scientifico _ Ludovico Geymonat”، الكتاب مؤلف من تسعة أجزاء، كل جزء مختص بمرحلة وعصر، من بداية التاريخ إلى يومنا هذا! إلى جانب ذلك كان مطلوبا مني أن أقدم للإمتحان الأعمال الكاملة لفيلسوفيْن حسب إختياري، وكنت قد إخترت الفيلسوف الإنكليزي دافيد هيوم والفيلسوف الألماني عمَّانوئيل كنت، فكان ممَّا يجب عليَّ تقديمه للإمتحان مالا يقل عن 37ألف صفحة!
كنت أرسم وأنحت وأدرس بصيغة مترادفة ومتوالية. في الإمتحان كان السؤال الأول، قال أحد أساتذة لجنة الإمتحان: حدِّثنا عن مفهوم "الجوهر" وذلك إبتداءً من آرسطوطاليس وحتى سبينوزا ! أي بمعنى آخر : مفهوم هذه الكلمة عند كل مفكر وفيلسوف عبر التاريخ إبتداءً من آرسطو إلى سبينوزا وهذا يعني سرد كل ما يتعلق بهذه الكلمة خلال أكثر من ألفي عام!. بدأت الجواب مرورا بالفلسفة العبرية والمسيحية والعربية الإسلامية  حتى انتهيت إلى فكر سبينوزا. مرَّ على حديثي هذا أكثر من ساعتين وأساتذتي أمامي مبهورون بقوة ذاكرتي وسُداد جوابي. قال رئيس لجنة الإمتحان: يا بني، أشفيت غليلنا من هؤلاء! خذ هذه هي علامة نجاحك 30 من 30 إمتياز وليباركك الله. .عدت إلى منزلي، أكلت القليل وشربت أكثر ثـُمَّ احتضنت الكحل والحنَّاء ووضعت رأسي على الوسادة وأنا أحلم بدجلة والفرات!هذا مثال عمَّا أضافت إليََّّ الغربة. .أذكر أنني بعد أن ألقيت محاضرتي عن الفلسفة التنويرية La filosofia dell’illuminismo في القاعة الكبرى لإحدى الجامعات في مدينة فيينـَّا، سألني أحدهم فيماإذا أستطيع أن أوضِّحَ بلغة سَلِسَةٍ النظرية النسبية لألبيرت آينشتاين. إجابتي، عند نهايتها جعلت الجمهور يُصفـِّق ويُصفـِّر! . سألَني آخر: يا أستاذ، وأنت على كل هذا من العلم أتـَستطيع أن تـُجيبَ على سؤالي... " ولو أنني أعتقد أنـَّه محرجا"... ماهي الرُّوح؟! . الصمت كان يُطبق على القاعة كلـِّها وكاد يخنِقني... أجبت الروحُ هي من عند ربـَي وأنا لا أدري ما هي، فلاسفة الفكر التنويري يقولون بأنـَها طاقة الحياة ولكن ماهذه الطاقة، ما كنهها، هل هي طاقة كهربائية أم أنها نووية أم غير ذلك؟ أنا لا أدري إلا َّ ما علـَّمني ربـِّي. .عدت إلى منزلي، لم آكل ولم أشرب، لكنني احتضنت الكحل والحنـَّاء وألقيت رأسي على الوسادة مشاركا بكاء دجلة والفرات.
هذا مثال آخر عمَّا أخذته منـِّي تجربة الغربة. .في تلك السنين وأنا طالب في أكاديمية الفنون في فلورنسا، كان بعض الأساتذة يطلبون منا الخروج والعمل، الرسم، في الخارج. كنت أذهب إلى ضواحي المدينة وأرسم بعضا من مناضر الطبيعة وصادف أن كنت أرسم حصانا وهو يمد برأسه ليأكل من غصن لشجرة عنب، كان أحدهم يراقبني من الخلف وأنا أرسم. قال كم أنت ماهر في الرسم، فقد رسمت رأس الحصان بأقلِّ من دقيقتين! قلت: لا هذا غير صحيح، أنت نسيت أكثر من خمسة عشر عام وأنا أحاول رسم رأس حصان بأقلِّ من دقيقتين! هذا مثال آخر عن الغربة. عدت إلى منزلي وأنا أغني أغنية عراقية: شيگولون... شيگولون... توَلَّعْ بالمّحّبـَّهْ وصار مجنونْ... خلْهُمْ يڴولونْ!!! إحتضنت الكحل والحنـَّاء وشيئاً فشيئاً أغمضت عينيَّ ورأسي على الوسادة أحلم بدجلة والفرات.

*لو عدت الى الوراء اربعة عقود  هل كنت ستختار نفس الطريق الذي سلكته ؟
-نعم، بكلِّ تأكيد كنت سأختار نفس الطريق الذي سلكته بكل ما كان وصار، بل أنه بودي لو أضفت إليه، وسَّعته، طوَّلته، عمَّقته أكثر وأكثر وأكثر.

*حياتك حافلة بالتنقل والاسفار والتجارب ، هل من محطات معينة كان لها تأثير عميق واساسي في رسم مسارك الانساني والابداعي ؟
-نعم، هناك محطات جغرافية ـ مكانية: منها الموصل، هي عشيقتي في الجهر والخفاء، في اليسر والضرَّاء، كانت قد سُمَّيَت زوجة لآخر، لكنني خطفتها ورحلت! روما وفلورنسا وفينيتسيا وباريس و بيتر بورگو( (Pietroburgoو مدريد وبرشلونة...و...و...وهناك محطات فكرية:الحضارات القديمةـالسومرية،البابليةالآشورية، المصرية القديمة، الإغريقية واللاتينية، الحضارات الشرقية اليابانية ـ الصينية ـ الهندية، المكسيكية "المايا" وأميركا الجنوبية، حضارات أميريكا الشمالية " ألاسكا" والهنود الحمر، الفكر الإجتماعي ـ الحضاري ـ الأنثروبولوجي الإفريقي، حضارة أوربا القديمة والحديثة المعاصرة... الفكر العربي الإسلامي  والمسيحي والعبري... من كل هؤلاء ومن غيرهم أخذت الكثير ولم أشبع بعد ولم أرتوي. هناك إتجاهات متعددة للفكر الغربي معاصرة وحديثة منها في الفن: الفن الشعبي ـ الپوپ آرت Pop arte الفن الفضائيL’arte spaziale والتوب آرتTop arte ...إلخ، هذه الحركات الفنية وغيرها الكثير كانت بداياتها في الستينات حيث أنها جاءت بعد الدادائية والمستقبلية والتكعيبية والسريالية وهذه الأخيرة كانت في بدايات القرن الماضي. حركات فنية تشكيلية إلا َّ أنـَّها كانت تتعدى ذلك الى الأدب والفكر عامة، حركات فنية تولد صباحا وتموت مساء! الشعر في الغرب وصل إلى الحضيض بشكله ومضمونه إلا َّ القليل منه. القصة والروايا مازالتا تحتلاَّن القسم الأوسع والأعلى في الأدب الغربي. السينما والمسرح  في سقوط  رهيب في أوربا بعد أن خضع الإعلام كله تحت ثقل الإنتاج الأميريكي المادي المبتذل. الفكر الفلسفي يحاول النهوض وذلك عن طريق الإتجاه المعاصر الحديث للفيلسوف الألماني هانز جورج ﮔاديميرHans Georg Gadamer وهي فلسفة الإرمَنِيْوتِكهْ     Ermemeutica  وهو إسم مأخوذ من إسم إله البريد واللصوص "إيرمسErmes" في الميثولوجيا الإغريقية القديمة أو " ميركوريوسMercurios" في الميثولوجيا اللاتينية، وكان هذا الإسم يستعمل للإشارة إلى الفلسفة التفسيرية ـ الترجمية للكتب المقدَّسة في العصور الوسطى، أخذه ﮔاديمير ليوسع رقعة معناه إلى: أنَّ كل تفسير ترجمي أو ترجمة تفسيرية لأيِّ موضوع أو كتاب أوأيِّ عمل هي بحد ذاتها موضوع آخر لا يمت بصلة قط إلى الموضوع الأول إيـَّاه! .الفكر الغربي عامة يتخبط مابين المادية الإستهلاكية البراجماتية Pragmatism وهي الفلسفة الذرائعية التي تقوم على الإستشراف العملي المادي للأُمور والمشكلات.  .منذ البداية في حلـِّي وترحالي كنت قد اتخذت منهجا معيناً أعمل به ولاأزال: يقول أفلاطون :" الحياة مقياس وحساب، إذا خرجت عنهما فإنـَّك الخاسر". ثمانية أشهر من الدأب بالدراسة وأداء الإمتحانات والتدريس والمحاضرات والعمل للحصول على مايكفي، شهر للراحة والتحضير للسنة القادمة وثلاثة أشهر للسفر والرحيل. نعم السفر والتأمل والتفكير العميق والكتابة.
بعد محاضرة ألقيتها في جامعة روما" لاسبيينسهْLa Sapienza "
عن مفهوم التخصص في مجال معين من العلم ما بعد الشهادة التي يحوز عليها الدارس، سألني أحدهم، قال:من أنت؟ شاعر، رسام، نحات، أديب، كاتب، فيلسوف،عالم فزياء كمِّيَّة أم ماذا؟ أجبت: أنا كل هؤلاء وغيرهم ولستُ أحدا منهم! التخصص له إيجابياته وسلبياته، فمن جهة يجعل الدارس قد توصَّل إلى أعلى درجة من المعرفة في حدود تخصصه ومن جهة أخرى يجعله أكثر جهلاً بما يحيطه من العلم والمعرفة. كل أدب وفكر قرأته لأيِّ أمَّة لاشكَّ وأنـَّه قد ترك بصمة وتأثيرا في مساري هذا، مع ذلك لم أتـَّخذ عظيما  ما بعينه  من العظماء كمثال أعلى لي أو أنني اتخذت فكراً معينا أو إيديولوجية بحد ذاتها. الكل له دوره في بناء هذا الوجود الذي يحتويني. أنا أُسَمِّي ميكل آنجلو الجد وليوناردو الجد الآخر و سقراط الأب الكبيروآرسطو المعلم الأول وإبن رشد المعلم الثاني وغيرهم الكثير الكثير ممن أحتذي بهم وأحتسي مما تركوه لكل الإنسانية. كل أديب، شاعر، فنان، عالم وفيلسوف من أيِّ أمة كان ومن أيِّ عصر، ليس إلا َّ مرشدا ومعلما ورفيق درب أتبادل معه مما في وجداني وأتعلم منه أكثر مما يتصور هو بنفسه. لم أتبع سياسة أو سياسياً أو رجل دين، من أيِّ جهة كان. أنا أعتبر السياسيين ورجال الدين هم مَنْ يهدمون الحضارة والإنسانية! ستقول لي ولكن هؤلاء هم يشكلون العمود الفقري للمجتمع بتعاملهم مع الشعوب لإيجاد الطريقة المثلى للسعادة والرفاهية وأنا أقول هو كذلك! ولكن السياسي أورجل الدين، يبدأ بذاته وما يفيدها ثم يتجه الى الآخر"هذا إذا ما قرَّر الإتجاه إليه"!ـ هذا ما يحدث عادة ـ بالضبط على عكس العالم والفيلسوف والفنان والأديب. أخلاقية السياسي ورجل الدين هي أخلاقية شخصية ذاتية يبدأ بها فكره وينتهي بها ولا يبتعد عن ذلك ولو بخطوة واحدة، إنـَّه لا يرى أبعد من أرنبة أنفه شيئاً على الإطلاق! ذلك كي يحوزعلى السلطة والقوة التي يحكم بها. مهما يكن حكمه، سلبيا أم إيجابيا، دكتاتوريا أم ديمقراطيا سيكون ذا طابع خاص وشخصي متحيز ليس إلا َّ. لذلك تراني ومنذ شبابي لم أتبع حزبا أو سياسة. أنا مسلم، أأمنُ بالله الواحد ونبيـِّه محمد "صلعم"، أأمن بالأنبياء والأولياء من قبله، أحترم كل مذهب وكل دين يحترم إيماني هذا.
عفواً. خرجت قليلاً عمَّا كنت فيه... أستميحك عذراً. أنا رجل طمَّاع! أطمع أن أحصل أكثر وأكثر من كل حدبٍ وصوبٍ ذلك كي أعطي أكثر وأكثر وأكثر.


*منذ بدء مشوارك الشعري في مطلع سبعينيات القرن الماضي كان للميثولوجيا حضور طاغ في نصك الشعري الذي نشرته في المجلات العراقية انذاك ومن يقرأ اخر ماكتبته من نصوص عام 2012 يجد ان العبار  مازال ينهل من  هذه الاجواء الملحمية التي تحتشد في تربة العراق والجزيرة العربية كما في  (آكِلُ المِرار، ذو يَزِن ، ذو َمحَن ْ، مَالِكُ ابْنِ ِالرَّيب) . مالذي يجعل هذه العلاقة متسمة بهذه  القوة  وهذا التلازم ؟ . وهل كان للاغتراب دور في تعميق هذه الصلة وتأصيلها ؟ أم ان الماضي مازال يسكن فيك  رغم ابتعادك جغرافياً عنه ؟
- نعم، هو كذلك. والحديث ذو شجون! .كنت في الصف الأول الثانوي وبدأت من هناك. إشتريت كتاباً مستعملاً: " العروض مبسطا لحسن دندشي" بمئتي فلس! درجة النجاح في إمتحان مادة ما كانت 100من 100 وكنت أحصل على 40 من 40 في الإنشاء و3 من 30 في النحو! 14من 15 بالإملاء و15 من 15 في حفظ النصوص الأدبية، فتكون درجتي النهائية في اللغة العربية 72 من 100!. دخلت الإعدادية ـ القسم العلمي ـ كنت أحب الجبر والرياضيات والفيزياء ..إلخ، إلى أن إلتقيت بالأستاذ يونس والأستاذ ذوالنون الإطرقجي. كنت أريهم ما كتبت والجواب كان أن العروض جيد والنحو مكسور بصيغة شنيعة! علـَّموني ومن ثم أكملت في جامعة عين شمس في القاهرة ـ كنت أدرس النحو العربي في الأزهر على يد الأستاذ شحاته الطنطاوي والذي كان كل مايعرفه من الحياة شيئين فقط لا غير: النحو العربي والفقه الإسلامي! وصلت إلى أن تكون أطروحتي للتخرج هي " التفسير والتعليق على ألفيـَّة إبن مالك" ومقارنة أراء سيبويه بما يعللونه الكوفيون في النحو مثل الكسائي و المبرّد. خلال تلك الحقبة كنت أدرس، أحفظ، أتعلم وأخزن الكثير في كل مكان يناسب: في سراديب الفكر، في غرف القلب الأربعة، في الصدر وبين الأضلاع، في الأحشاء وفي الشرايين حتى أنني كنت قد أُتـُّهِمتُ بالشره والطفيلية ـ كل التاريخ والفلسفة والأدب العربي وإلى يومنا هذا، لم يفتني شيئ إلا َّ ما شاء الله ـ، كنت قد حفرته في كياني ـ. الميثولوجيا هي هوية وجنسية لكل حضارة، هي ذلك النبيذ المُعَتـَّق وتلك النكهة التي تعطي إسماً وشكلاً وجسماً لكل الوجود، تمنح الرائحة الزكية والزي الرسمي والتقليدي، تهب جماليات الزمان والمكان والسببية للزهو والشرف وكل قيم الوجود وميتافيزيقيته.  كل هذا يجعلني أستشف وجودي، المفعم بالفرحة والحزن وأرسم أبعاده الثلاثة باحثاً عن البعد الرابع، من الأُسطورة!
الغربة تجبرك على الإنصياع والذوبان فيما هو أبعد من المادة الهشة ويومياتها المخنقة، تجعلك تثابر كي تجد العلاج لجروحٍ وكسور وكدمات، تمنحك القدرة على الحصول على الإكسير الشافي الذي يعيد لك القوة والزخم اللاَّزِمَيْن للمضيئ أماماً. الأُسطورة هي راعية الغربة والغربة إذا لم تـُرعى تضيع وتضيع أنت معها! .الماضي هو الوجود بعينه! إذا قلت أنَّ شيئاً ما هو "الآن" فإنـَّه قد مضى! والحاضر، كل الحاضر، كل وجوده يتوالى في الماضي القريب ولا مناص له أبداً من ذلك. المستقبل هو أسطورة الماضي الذي فيه يتكررالحاضر، والماضي هو أُسطورة نفسه! "إذن"... إذاَ...فإنَّ آكل المرار هو أنا وهو أنت وكل من يتجرَّأ ويفرض وجوده فرضاً قسريّاً وقدريـّاً ولامحالة إلاَّ أن يكون. البعد جغرافياً وجسدياً مهما يكن من طوله وارتفاعه وعمقه وعرضه يبقى موصولاً بالروح، بالعشق والهيام والغرام، هذا الوصل يكون أعمق ما يكون عندما يحمل صليب البعد، عندما يتعدَّى المسافات ويختزلها فتصبح على قاب قوسين أو أدنى! فمن ثمَّة قبلة تحرق الشفاه وتمتدُّ إلى القلب فتجعل العين تدمع فيعود طوفان نوح وتغسل الأرض من كل خطاياها!
يا أخي مروان كلنا ماضٍ وكل ماضٍ هو ميثولوجيا الوجود! الحاضر هو تلك اللحظة التي قد مرَّت. الماضي هو الخلود!.

*انت المثقف والمبدع القادم من الشرق عشت المشهد الثقافي الغربي وعرفته عن قرب وتداخلت معه وكنت جزءاً منه لاكثر من ثلاثة عقود،. السؤال هنا : كيف تنظر الى دور المثقف العربي وحضوره وفاعليته في محيطه العربي بالقياس والمقارنة مع المثقف في الغرب ؟ هل من ازمة يعاني منها هذا المثقف ؟ وأين تكمن  هذه الازمة ،مع نفسه ؟ مع مجتمعه ؟ مع النظام السياسي العربي  ؟
-نعم، أنا الرجل الآتي من الشرق ليس إلا َّ. عشت وأعيش المشهد الثقافي الغربي، عرفته وتداخلت معه وبه طيلة هذه السنين، لم أبتلعه هكذا مرَّة واحدة، كما يحدث عادة مع الأكثرية، ولكن إستوعبته وأكلته مضغة مضغة، سرت خطوة خطوة، كل خطوة كانت لها أبعادها: بدايتها، مسيرتها، زمنها، عمقها، طولها، عرضها وارتفاعها. إنَّ كل تطور حضاري له صفاته وزمنه وليس من الممكن إلـْتـِقـَافـُه هكذا مرَّة واحدة. الثقافة الغربية هي مسخ جبار وعجيب، له أساليباً وطرقا تعجُّزيَّة تستطيع أن تبتلع كل شيئ دونما تترك له أثراً، لم أتواطأ معها بل كنت ولاأزال نِدّاً: خصماً، عدوّاً وصديقاً! لم أنتظر كي تعطيني بل أخذت منها ماأشاء، كانت تتكبـَّرعليَّ وكنتُ أذلـُّها، كانت تتحدَّاني وكنت أبارزها: في مَحْضََرِ الجميع أضرب وجهها بقفازي وأواعدها عند الفجر لإنهاء القضية بمبارزة معطيا لها حق إختيار السلاح والمساعد الذي تفضِّلـُهُ! وعند الفجر نلتقي ويبدأ النزال فأجرحها بالـ"متنبـَّئ" وترد بـ"لورنزو العظيم" أقطع نفسا من أنفاسها بـ" أبي العلاء المعري" وتردُّ بـ " دانتي"... وهكذا يطول الصراع حتى الغروب وكلـُّنا قد أخذ منه التعب والعطش والجروح ما أخذوا، نتوقف كرجلين نبيلين لنعقد الصلح أو أن نكمل المبارزة غداً! في أكثر الأحيان وحكماً  بما تقتضيه الحال يكون هناك نوع من التلاحم والتداخل فكل ماهو غربي يصبح شرقيا والعكس صحيح أو أن الكل يفقد حدوديته ويصبح التعبير الفكري خارج الزمان والمكان والسببية. مهما كان الشكل والاُسلوب وأينما قيل ولاَيِّ سبب كان، يصبح ذلك التعبير كونياً فيتعدى كلٌ مِنْ شكسبير وابن المقفع، دانتي وأبو العلاء المعري، جابر بن حيان إبن الهيثم الكوفي الجبري وإقليدس، الفارابي وسيبيليوس، حدود المكان والزمان والسببية. هكذا يصبحُ هؤلاء بلا حدود تحدُّهم ولا زمان يتسلـَّط ُ عليهم ولا سببيـَّةٍ تـُعَلـِّلُ وجودهم وفكرهم. هم أحرار، يتواجدون ويختفون، يرحلون ويعودن لا حدود توقفهم ولا زمان يتعداهم ولاسببية تعصب أعينهم أو تسد أفواههم. هم قد توحدوا بالحرية المطلقة إلى أبد الآبدين!
إنَّ دور المثقف العربي في الغرب محدود بصيغة أو بأخرى اللهمَّ القليل منهم من إستطاع اختراق الحدود. أما حال المثقف العربي في داخل وطنه " فالعياذ بالله!" إنـَّه محكوم قبل أن يتنفس، قبل أن ينبس بحرفٍ واحد. على مرِّ التاريخ نحن رأينا وسمعنا وقرأنا عن أًولئك الذين ثاروا ودفعوا الثمن غالياً، أذكُرْ معي يا أخي مروان كيف أُلـْقِيَ بإبن المقفع في التنـّوُر وهو حي وكيف أُحْرِقَ جوردانو برونو وهو حي، والحال لم تتغير عبر الزمن. حتى هنا في الغرب هناك ثمن يدفعه من يثور على القيود فكيف هي الحال في أوطاننا؟. في الوطن إمَّا أن تكون مهرِّجا أو أن تكون ببغاءً وإلاَّ! مَنْ ذاك الذي وقف في وجه أحد الحكام العرب "عرب بالإسم فقط" وقال لا، بأوسع ما تنفتح به شدقتيه؟ ومَنْ كان قد فعل، نحن نعرف ماانتهت به الحال إليه. إنَّ الأزمة التي عانى منها المثقف العربي ولازال هي أزمة لها شكلان بجوهرين، الأول المحيط الذي يعيش به من سياسة وتقاليد إجتماعية ودين مفسَّر على طريقة المنفعية والسيطرة والأخذ بزمام الحكم وفرض ما تشتهي نفس هذا وذاك من الحكام ورجال الدين. الآخر هو النفس والضمير، العقل والقلب، تلك الخلفية المليئة بالمأساة والقمع والأبتزاز التي يعاني منها المثقف العربي. طالما تابعتُ وقرأتُ وكلما وجدت مايستحق وما يمكن الأخذ به يكون قد ضاع واختفى. الكثير منـَّا في الخارج ومنهم في الداخل يأمل! ولكن هل ياترى من منقذ أو أنَّ قدراً ما يخرجنا؟ أو أنَّه كما يقول المثل الإيطالي:" مَنْ يعش مُؤَمِّلاً يموت مُنـْفـَجـِراً"!
*الشعراء العرب منذ النصف الثاني من القرن العشرين كتبوا الكثير من البيانات والتنظيرات الشعرية التي تؤسس لنماذج كتابية جديدة للنص الشعري ومن المؤكد انك قد اطلعت عليها . هل تجد هذه الكتابات كانت تقليداً وتأثراً بشكل واضح  بتجارب غربية أم انها كانت محاولات اصيلة لكسر الجمود الشكلي الذي رافق الشعر العربي بصيغته التقليدية ؟
-إنَّ الطفرة الأولى في التجديد ( والتجديد ليس غربياً أو شرقياً) كانت لبدر شاكر السيَّاب ولنازك الملائكة لنشرهما لأولى قصائد الشعرالحر وذلك في سنة 1945 ـ 1946. ذلك التجديد كان عبارة عن كسر وتحطيم القصيدة العمودية السائدة وذلك بعدم الإنقياد بعدد التفعيلات الموجودة والمحددة في البحر الواحد من بحور الخليل الستةعشر واستعمال مايجوز فيه من خبنٍ وطيٍّ وما إلى ذلك للتفعيلة نفسها، بل إلى هذا أضف أنـَّهما كانا قد إعتمدا على مايسمى بكسر التفعيلة نفسها وإجازة التدويرأي:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن ـ.ـ.ــ./ ـ.ـ.ــ./ ـ.ـ.ــ.
مستفعلن مست ـ.ـ
ـ فعلن مستفعلن .ــ./ ـ.ـ.ــ.
مس ـ ـ.
ـ تفعلن ـ.ــ.
...إلخ.
أوائل القصائد للشعرالحر كانت تـُنظم على البحور الصافية أي التي تحتوي على تفعيلة واحدة متوالية: مستفعلن مستفعلن...، وليس على البحور المختلطة أي التي تحتوي على تفعيلتين مختلفتين: مستفعلن فاعلن أو فعولن مفاعيلن. .من بعد ذلك بدأ الشعراء بتوسيعهم لهذه الثورة في شكل القصيدة العربية بحيث أضافوا أشياء أخرى لم تكن نازك الملائكة نفسها راضية عنها! بالأحرى كان يجب عليها أن تفكر بأنَّ من فتح الأبواب وكسر القيود سوف لن يتوقف أمام المتاريس والعوائق المقبلة، بل أنـَّه سوف يواصل الطريق بكلِّ ما يحويه من المخاطر والوقعات والسقوط والعلو. إجمالاً كانت هذه هي الخطوة الأولى. .إنَّ إحدى الميـِّزات الأساسية واللازمة لكي يكون ما نكتبه يسمى قصيدة وليس أي نتاج أدبي آخر هو الوزن ـ الموسيقى " هذارأيي". هذه الموسيقى، هذا اللحن وهذه الغنائية  هي التي تعطي القوة القصوى للكلمة كي تخترق العوائق والجدران الإسمنتية المسلـَّحة وتصل إلى الأعماق. بهذا فالكلمة لاتكون هي الواسطة للتعبير ولكن الموسيقى التي تغلـِّفها وتحتويها فتجعل منها الغاية التي موقعها في الأعماق. الكلمة هي كالفكر تتواجد في كل زمان ومكان، فإمـَّا نائمة وإمـَّا هي في سباتٍ عميق:ـ هذا الشاعر قال ماكنت أفكِّرُ به!... وذاك المُهَلـْهِلُ غنـَّى ما عجزت أن أُصْدِحَ به! الموسيقى هي لغة كونية وعندما تحتوي الكلمة  ـ(المُتـَّفـَقُ عليها مِنْ قِبَلِ مجموعة مِنَ البشر) ـ ، تجعلها متـَّسِمة بكونيتها فتقضي على الحواجز والعوائق كلها وتصبح الكلمة روحاً لا يحدها شيئ على الإطلاق. لم أتوقف في يوم من الأيام عن مواصلة القراءة والإطـَّلاع على كل ما يجري سواءً في الوطن العربي أم في الأنحاء الأخرى من العالم، لذا فمن خلال تواصلي وجدت الكثير، منه ما اعتبرته تجربة فاشلة لأنها تقليداً أعمى للآخرين لا لشيئ بل لمجارات " الموضة" ومنه ما  اعتبرته قابلاً للتعامل معه. التجديد يجب أن يكون ومن دونه سيطغي الموت والتحجر. وهذا التجديد يجب أن يكون في كل زمان ومكان ولكن القضية وما فيها أن هذا التجديد يجب علينا أن نفهمه أن نتدارك محتواه وشكله بصيغة موضوعية وليست إعتباطية.
النص المكتوب دون الموسيقى يسمى نثراً والمسرد منه يسمى رواية أوقصَّة أو أي تسمية أخرى وليس بالشعر. شكل التعبير مهما يكن ومهما سمي تجديداً كان أم تقليدا فإنَّ محتواه يجب أن يصل الى الغاية وإلا َّ كان تعبيراً مبتوراُ، أعرجاً، مشوهاً! " بالمناسبة، التشويه هو نوع من التعبير، أليس كذلك يا أخي مروان؟!"

*على هذا : أنت مازلت تحتفي بالغنائية وتعدها مرجعية فنية يتنفس فيها نصك الشعري حريته  ؟ وضمن هذا الاطار ايضا ،ماهو رأيك بالتجارب الشعرية العربية التي باتت تستثمر السرد في بنية النص الشعري ؟
-أظنني قد أجبتك عن هذا السؤال بالذي قلته من قبل، ولو بطريقة غير مباشرة، ولكن لاحرج أن أحكي: إنَّ خمرة الشعر هي غنائيته وخمرة القصيدة ليست أيَّ خمر محرَّمةً أو محلـَّلة كانت، بل هي موسيقيتها التي بدونها لا يمكن أن تكون القصيدة. أيَّ نصٍّ نقرأه نقول عن هذا قصَّة وعن ذاك نثرا وعن ذلك مسرحا وآخر نقول عنه سردا بسيطاً ... إذن والحال هذه فإنـَّنا قد اعتدنا " والعادة، يا أخي مروان، العياذ بالله منها!" على أن نسمِّي الأشياء بأسماء سمَّيْناها، فهل يمكن التغيير؟ نعم يمكن أن نغيِّر، حتى وإنْ كان تغييرا غير معقول"كمسرح اللاََّمعقول": نسمِّي البقرة باسم " أنا ـ Io" وهي إحدى عشيقات الإله جوبتر وأن نسَمِّي أيَّ شيئ بأيِّ إسم كان. التسمية ليست مهمة بهذا القدر بل هو مضمون النص وما يرمي إليه. مثلا: في الفن خاصة والأدب عامة " في الغرب خصوصا" تطلق تسميات على العمل الفني أو الأدبي، هذه التسميات ثابتة وغير قابلة للتغيير مطلقا، فأنت تسمي هذا النتاج الفني أو الأدبي كلاسيكيا وذلك حسب مرجعية صفات معينة كانت قد ثـُبـِّتـَتْ من قبل ولا يجوز تغييرها. مثل" أن العمل الكلاسيكي يسمى كذلك لأنـَّه يكون تقليدا تامّاً للطبيعة" وهذه هي إحدى خصائص الكلاسيكية. وذلك العمل هو من المدرسة الكلاسيكية الجديدة لانـَّه يحتوي على خصائص أخرى لا يحتويها العمل الكلاسيكي... وهكذا من الكلاسيكية الجديدة الى الفيَمِّنـﮔو ومن هذا الى الرمزية والى الإنطباعية و... الى ... فكلٌ له خصائصه شكلا ومضمونا. كذلك ما يتعلـَّق بالشعر ـ " رأيي" ـ هو أنَّ الغنائية ـ الموسيقية ـ هي الواسطة الأكثر لازِمِيـَّة بل من المستحيل الا َّ ترافق القصيدة. مع ذلك، إذا سألتني: هل هنال من نصٍّ يستطيع أن يكسر القيود ويتعدى الحدود كلـِّها وهو ليس بالقصيدة التي اعتدنا تسميتها؟ أقول نعم. بل هناك ما يفوق ذلك! ولكن سمِّهِ ماتشاء وليس بالقصيدة.

*بينك وبين العراق فاصلة زمنية شاسعة هل كنت تتابع مايجري في المشهد الابداعي ؟ وفيما لوكنت متابعاً له ، هل  من ملاحظات عليه ؟ خاصة  بعد العام 2003 ؟
-نعم. هذا ما أعتقد أنني قد أجبت عنه من قبل أيضاً، ولكن أقول أنني تابعت كلَّ صغيرة وكبيرة، ما كان سلبياً وأيجابياً، لاحظت الكثير ولكن، قبل التاريخ المشؤوم ـ المـُنـْتـَظر! الذي ذكرته كان السكوت والقمع هما الأقوى وبعد ذلك كانت الشذرات هنا وهناك. براعم أرجو لها أن تكبر سريعاً، براعم منتشرة بين الكثير من الموت والحطام  والرماد، بين مخلـَّفات وسموم أرجو أن تتحول إلى سماد وعون كي تنمو البراعم وتـُورق وتـُزهر.

*هل لديك نية لزيارة العراق او العودة اليه ؟ أم ان العراق امسى جزءاً من الذاكرة وجزءاً من الماضي البعيد ؟
- نعم، سَأعود! أنا رجل يسكنني الحزن والعتاب! هذا الحزن ذو أنفة وكبرياء، كما العراق ذو أنفة وكبرياء, والعتاب به ألم وحسرة، كألم وحسرة أرض العراق وسمائه، الحزن لا يأكل إلاَّ من طعام راقي الصنع ولا يشرب إلاَّ من دجلة والفرات! العتاب اختناق وغصَّة وتعلثم، كلمات متقطِّعة تكاد لا تـُسمع، حشرجة بها لوعة ومأساة، أنين آتٍ من  أبعد الأبعاد وحرقة تـُفـْحِمُ القلب! . العراق ليس ذكرى، بل هو وجود خالد إلى ما شاء الله. الذكرى هي أنا: رجل ولد ومرَّ في أحشاء العراق وهو راحل غداً، والعراق باقٍ إلى ماشاء الله. أنا إبن من أبناء الرَّافدين الثائرين... آهِ لو تعلـَّمت الثورة بسلاح غيرالقلم والفرشاة والإزميل! هناك من يقول: سلاحك أقوى أجمل. ربَّما، ولكن،يا أخي مروان، قد أثرت مالا يجب إثارته وأطعمت للنار عظاماً تكاد تكون رماداً.

 


-   روضت الغربة وصنعت منها خوذتي ولوحتي 


-   تعلمت الكثير من دالي برغم انه كان يرفض أن يتكلم معي عن الفلسفة


                               حاوره : مروان ياسين الدليمي / الموصل

أنت القادم من شرق مُبتلى بالعسس،أن تكون متمرداً ومتماهياً مع ذاتك وانت ماضٍ في دربك الطويل الذي اخترت فيه الاستيقاظ في خرائط مدن لاترتوي الاّ من كؤوس الحرية والحداثة سعياً منك للامساك بصولجان الرؤى، كنت ساعتها على موعد مفاجىءمع من شاء أن يُسقي عشبة الفراديس في ذاكرة الانسان ،على موعد مع حلم ٍباذخ كان يبدو بعيداً في محطات الغربة. . فأن تفتح عينيك لتكون في قارب واحد مع بداية المغامرة برفقة روفائيل البرتي وسلفادور دالي وبيكاسو ! دون ان تخطفك الدهشة وانت تخطو اياما ًوليالٍ معهم في مساحات مُلونة تكتبها تعابير متشابكة دفعة واحدة . فهل سيكون هذا أمراًعابراً في كثافة الايام العابرة.  إياد العبّار شاعر ورسام واكاديمي عراقي الاصل  يقيم في ايطاليا منذ اربعة عقود ويُدرِّس في جامعاتها. . مدينته الموصل التي يقول عنها "عشيقتي في السراء والضراء " غادرها في مطلع العقد السابع من القرن العشرين ولم يعد إليها رغم انه مايزال يحلم بدجلة والفرات كلما وضع رأسه على الوسادة كل ليلة . العبَّار غادر العراق عابراً البحار والمحيطات بحثاً عن المعرفة في مجهول الازمنة والامكنة البعيدة ،حاملاً حقيبته على ظهره وهويشيح بوجهه للحرائق التي بدأ يستشعر انها قد امست قريبة وستأتي ، متجها الى مصر ، ليدرس فيها ومن ثم لينتقل الى ايطاليا ليكمل دراسته العليا للفن هناك وليبقى فيها حتى هذه الساعة .
أقام العبار معارض شخصيةلأعماله الفنية من رسم ونحت في جميع أنحاء أوربا،بعض منها تتواجد في متحف الفنون للفن المعاصر في نيويورك، وكذلك في اليابان وأيطالياوفرنسا وإسبانيا وألمانيا ،أكثرمحاضراته عن الفن والأدب والدين والفلسفة تم نشرها في معظم المجلات والصحف الاوربية وفي دور النشر الأكاديمية التابعة لمختلف الجامعات،كمانشرالعديد من نتاجاته في دور النشر الاوربية ،من قصص ودواوين شعرية ودراسات،ايضا له مسرحية شعرية بعنوان: الشيخ والفنار كانت قد نشرت في إيطاليا باللغة العربية والإيطالية. كما أعاد كتابة ملحمة جلجامش شعراً وكلفه ذلك ثماني سنوات من عمره ،وله ايضا مجموعات من القصائد والقصص التي نشرت في صحف ومجلات اوربية وعربية منها :
الحصار ـ قصة ـ باللغة الإيطالية 1991ـ دار النشر ـ پالا َّديو ـ
الفريسة ـ قصة ـ  باللغة الإيطالية 2001 ـ دار النشرـ جانكارلو دزدِّي ـ
جروح في قلب الزمان ـ مجموعة شعرية ـ باللغة العربية والإيطالية  2002 ـ دار النشر ـ آنـَنـْكي ـ  .
التقينا بالشاعر والفنان التشكيلي المغترب إياد العبار واجرينا  معه هذا الحوار . . .

*اولا وقبل أن نبدأ بالحديث الذي إنْ بدأ فلن ينتهي ، أود ان اطرح السؤال الاتي على اياد العبار: - بعد هذا الابحار الطويل في سفر الحياة، والشعر، والرسم ، متنقلاً مابين مدن وقارات تفصلها ازمنة وحضارات ، من انت ؟
- قبل أن أجيب على أسئلتك، أود أن أشكرك على هذا الإهتمام وعلى هذا الإطراء. لقد أيقظت فيَّ ما كان قد سَبَتَ منذ حين طويل. شكراً جزيلاً يا أخي مروان. . من انا؟! ليس غريبا عليّ هذا السؤال، وإجابتي الصادقة والصادقة جداً هي أنني لا أعرف. كل ما أعرفه هو أنني كنت قد بدأت ولم أنتهي بعد. بدأت بالعلم والدراسة ولمَّا أنتهي. كنت أُلاحِقُ ولاأزال كل ما يشدّني إلى المعرفة. إيماني الوحيد هو أن الخلاص يكمن في المعرفة والمعرفة لها قوانين ومقامات: الصبر والعزيمة، الطاقة الكبيرة من التحمل والإصرار، الإنفعال والغضب واحتراق الأعصاب، الفرح والحزن، الكراهية والأنحباس في عوالم الشوق وأغلال التتيم حتى النخاع، تواصل الرحيل فكريا، أخلاقيا وجسديا من مقامة إلى أخرى ومن فكر إلى آخر حتى تترابط  وتتسلسل الدرب دون انقطاع ودون توقف، كل ذلك يتوجب العشق والحب وهذان لن يكونا بدون ألم ومعانات وشعور بشيئ من الجوع والبرد والخوف، بالكثير من الألم والحرمان والحاجة، العيش على مبدأ الخسران: أنت تخسر كي تحصل وأنت تحصل كي تكبر وتكبر كي تستعيد ما خسرته بطريقة أو أخرى. ل

107
مساحة ُ الدهشة ِ والانزياح ْ. .
 في العرض المسرحي الجان والمجنون .


الخروج من ذاكرة المتلقي
                                                       
                                                                        مروان ياسين الدليمي / 

تأليف واخراج : بيات محمد مرعي
تقديم             : تربية نينوى
تاريخ العرض : 16/4/2012
مكان العرض  : قاعة فرقة مسرح قره قوش


الخروج من ذاكرة المُتلقي
مشهدية العرض المسرحي المعاصر في مدينة الموصل تكاد أن تنحسر بشكل واضح في تجارب معدودة يمكن الاشارة اليها بعيدا عن السقوط في الارتباك والغموض اللذين يمكن ان يصيبا الناقد فيما لو كان يتحرك بقلمه النقدي في مشهدٍ مزدحم ٍ بتجارب مسرحية عديدة  تتحرك في اطار الخروج عن النمط المُتراخي والمُتأكسدِ في حدود بركة التحليل والتفسير للنص او للعرض المسرحي دون ان يسعى هذا المشهد  الى تحقيق ازاحات فنية وفكرية يقف العرض المسرحي عليها من اجل ان يكون كتابة جديدة بصرية وسمعية .
إن مدينة مثل الموصل يمكن الولوج الى المساحة المتوهجة فيها دون عناء وذلك لندرة العروض التي تنهل من مُنحنيات القراءات المُستنطِقة لِما وراء الدلالات المَبثوثة بين أسطر الجُمل والصُور المسرحية التي يحملها النص الادبي . وغالبا ما تصبُّ مُجملُ العروض في قوالب فنية مُدونةٍ في ذاكرة المُتلقي، وهي لاتخرج عن استغراقٍ ٍ احتفالي بالنص الادبي لاغير ! بما يَحملهُ من افكارٍ وصورٍ تستمدُّ حضورها من  طاقة الوضوح دون ان ترحلَ نحو الاستغراق في تفتيت المؤطِراتِ المُتمظهِرةِ  التي عادة مايتخَلجَنُ المؤلفُ فيها ويُضفي عليها هالة ًمن  القداسة ، وهذا المُعطى لايقتصرُ أمرهُ على الموصل فقط بل يشمل العاصمة ايضا ولكن ليس  بالصورة التي تندرج عليها العروض في المحافظات . وهذا لايعني أن النشاط المسرحي خارج العاصمة مستمرٌ في ركوده الفني على مستوى الاساليب ، ذلك لاننا بين فترة واخرى نجد انفسنا ننتقل عبر عرض مسرحي جديد هنا او هناك  الى زمن مُتدفق ٍ يطرقُ جدار الركود والصمت ليزرع في زخم ماتكدّس من اسمال ٍ مسرحية غيمة ًماطرة تبعثُ الامل بومضةٍ أشرقت  على وجه عشاق الفن المسرحي ومتذوقيه..


تشفير الفضاء المسرحي
من بين العروض الجديدة التي استوقفتني خلال الايام الماضية مسرحية الجان والمجنون للمؤلف والمخرج بيات محمد مرعي فهذا العرض قد كثف مساحة الامل بما يُمكن أن يحمله المشهد المسرحي الموصلي من طاقة شعرية مُبهرة  تمتلكُ الكثير من عناصر الاختزال والايحاء والتأويل . ليصبح بالتالي هذا  العرض صياغة فنية غير تقليدية ازاحت ومضاتها الخاطفة التي اثثها مَرعي بمُخيلة ٍمجنونة ٍ إستَقت ْ تشردها وانتمائها في آن واحد من روح الشِعرْ الذي يدرك اسراره بيات محمد مرعي وهو الكاتب القصصي والروائي الذي يكتب جُمَلهُ عادة وهي معبأة بخمرة الشعروليقتحم بها ذائقة المتلقي المسرحي التقليدية في رؤية الاشياء الواقعية على المسرح وهي تمضي في تشكيلات غير مأهولة ٍ ، حتى ان الدفوف التي كانت مُلازمة للمجموعة شكّلت  عنصرا اساسيا في بناء العرض مع الشخصية الرئيسية ( المجنون ) باتت تحمل  وظيفة درامية تنطوي على هاجس جمالي يذهب بها الى محمو وظيفتها التقليدية كما هو شائع في المناقب والموالد لتواكب بانزياحها الدلالي هذا التشكيلات البصرية  التي تنوعت منها المدلولات التي حمّلها اياها المخرج في كل خطوة كان العرض يخطوها الى الامام وهو يجنح في رسم ذات المجنون واحلامه الانسانية البسيطة في العيش بوطن آمن يوفر له لقمة خبز وهو يصرخ : - انا جائع.     بساطة ُ الحلم الذي كانت تكتنزهُ ذاكرةُ المجنون ( سعيد) وهو يواجهُ حياة ًشقية ًيتنقل فيها بين القبور والاموات بينما كانت اصوات خفية مُرعبة تأتيه وتلاحقه من أزمنة مُتداخلة تتأرجحُ مابين الوهم والواقع ، الماضي والحاضر، أوحت لمُخيلة المُخرج مَرعي ان تُبقي فضاء الخشبة خالياً من قطع الديكور باستثناء عدد من المكعبات الصغيرة التي أمعن في تشفيرها وهويستثمرها في خلق توليفاته ِالصورية مع مصابيح الليز والدفوف وليفجر في لحظات العرض المتتابعة مُناخات مُتخيلة مُتتالية تعكس الصراع الداخلي المتوتر الذي كان يعصف بذهن وذاكرة المجنون سعيد .  من هنا فقد نأى  التشكيل السينوغرافي للعرض عن حبكة المفردات الصورية الواقعية وعَلّق ثيماته ِفي ما يمكن أنْ تنتجَهُ المخيلة ُمن تخيلات موغلة ٍفي الدهشة والغرابة عبرأدوات ٍ بسيطة ومحددة  وإلى أن تكون الخشبة مساحة رحبة تتحرك فيها المجموعة على هيئة اشباح وهي ترتدي  زياً مسرحياً مُوحَداً يتراوح لونه مابين الاسود والابيض وهو يغطى جسد كل فرد من افراد المجموعة حتى وجوههم التي مُسِخَت  واختفت وضاعت ملامحها لتبدو بشكل ٍ واحد وملامح واحدة . هذا الاختزال الذي كان سمة هذا العرض استثمر القيمة الدرامية للضوء في ازاحاته التعبيرية التي فكَكَ الضوءَ بتدرجاته ِاللونية ، العوالم الثُنائية المتضادةَ والمتصارعة مابين الذات والعالم والتي اختزلتها بؤرة الصراع القائم مابين سعيد والمجموعة فكان الضوء ملفوظة بصرية تتحرك داخل متن الحكاية الدرامية وليس على الهامش منها ، ولم يكن للعمل من دونها  ان يوصِلَ جملتَهُ البصرية التي اطلق من خلالِها مِعمَارهُ الفني المعبأ بالدهشة .
ان هذا العرض المسرحي الذي تحرك نسيجه الدرامي في لوحة بصرية أنيقة ٍ دون بذخ ولاإسراف إنتاجي ، استطاع أن يُزيح عنّا  حالة التساؤل  والشك التي باتت تُصاحبُنا نحن المسرحيون  خلال الاعوام القليلة المنصرمة حول  جدوى الفن المسرحي ؟ ومالذي يمكن ان يدفع المتفرج للذهاب الى صالة العرض المسرحي بعد ان  امتلك الفن  السينمائي امكانات تقنية هائلة وفرتها له التقنية الرقمية  مكنته من تقديم كل ماكان يبدو مستحيلا قبل عدة اعوام ؟ .
في هذا العرض تلمست الجوابَ عن هذه الاسئلة ، وانزاحت بقدر كبير تلك الشكوك بجدوى الذهاب الى العرض المسرحي ،  فلقد كشف هذاالعرض عمّا يمكن أن يصل اليه المسرح من مساحات واسعة ورحبة في الرؤية الفنية واشكال التعبير عنها قد لاتستطيع السينما ان تنافسه فيها اذا ماأخذنا بنظر الاعتبار محدودية المكان الذي تُنسَجُ فيه عوالم فضفاضة تتفجر منها صور انسانية . .


طواعية الجسد في الاداء المسرحي
اما فيما يتعلق بالاداء المسرحي للممثل الرئيسي في هذا العمل، الفنان احمد الجميلي ،  فلقد تمكن الجميلي ان يمنح الشخصية بُعدها الانساني وهو يتحرك برشاقة وحيوية على الخشبة وكانت قدراته الجسدية ولياقته البدنية قد أسعفته بذلك ، وهذا يعني ان الجميلي يُدرك تماما ان الدخول الى التجربة الانسانية في العرض المسرحي بكل ابعادها تستدعي اقتفاء التفاصيل والافعال دون تعقيد ودون اللجوء الى الاسراف في التعبير والمشاعر وهذا ماسيؤدي بالتالي الى لحظات آسرة في آداء الممثل وهو يتحرك بكل حرية مابين الحلم والواقع ،ومابين المتخيل والملموس ، واذا لم يكن جسد الممثل رشيقاً وبدنه مَرِناً ومطواعاًُ فلن يتمكن من تفجير الحياة ونبضها في جسد الشخصية التي تتحرك على الخشبة .
 كما اختصرت الممثلة غادة التي ادت شخصية سعيدة شقيقة المجنون حسرَتنا على غياب العنصر النسوي من النشاط المسرحي الموصلي خلال الاعوام الماضية واكتملت بحضورها جوقة المبدعين الذين ايقظوا فينا مشاعر من الحب والعشق للفن المسرحي كانت قد خبت جذوتها بفعل كم من العروض التي لاتخرج عن سياق التكرار والاجترار  لعروض مسرحية  سابقة .

108
تهشيمُ العلامات الارسطية

  قراءة نقدية لتجربة المخرج المسرحي بشار عبد الغني

                                                                                                                مروان ياسين الدليمي
يمثل بشار عبدالغني  صورة واضحة لافاق المشهد الاخراجي في المسرح العراقي الحديث في مدينة الموصل ، مسرح  يطلق العنان لسلطة التاويل وهو يسعى لتأسيس فضاء  جديد لخطاب  ألعرض المسرحي . ان هذا المخرج الشاب يهدف في مشروعه الاخراجي : الوصول الى ما هو جوهري . من خلال اكتشاف العناصر الجمالية  والتجوال داخل اهتزازات الروح . وعلى الرغم من قلة اعماله . لكنها تستقر بنا الى قناعة واضحة: بان هذا الفنان حينما يتصدى بكل طاقته الانسانية لخشبة المسرح فهو يسعى لتأثيثها بتراكيب وانشاءات حاضنة لانفعالاته الذاتية المختزنة ، وهو يختلف عن غيره باستنهاضه للمقاربات الجمالية التي تسير الى مقاصده التجريبيـة . عندما يلعب لعبته على المسرح ، ومع كل ما يفعل فهو يرتـمي في عوالم كبيرة جداً لكنه يصر على اختزالها ،وهو  بنفس الوقت ينفتح عليها بكل طاقته العاطفية ، وعادة تتسم عروضه بطغيان التشكيل على مساحة واسعة من سينوغرافيا العرض  مستوعبة بذلك كل علامات واشارات الخطاب المسرحي .. ومن هنا يمكننا القول ان بشار قد اقترب خطوة خطوة من اكتشاف خبرته الجمالية ، وكان للقراءة المستمرة والاطلاع على تجارب الاخرين : الميدان الذي حرره من قيود المتوارث من الاساليب والمعالجات ، وبدأ يمضي باتجاه آخر ، ومسارات اخرى،  لم ترسمها فرشاة العملية الاخراجية في مدينة الموصل ، كما اعاد صياغة الاسئلة الاخراجية في نتاجاته المعدودة  ليصل الى ما هو ابعد مما هو مرئي ، وبدأ واضحاً هذا الخطاب الجمالي الجديد في عمله المسرحي (رحلة الطيور الخشبية) التي سعى من خلالها الى بناء منظومة انساق مشفرة  تهيمن عليها العلامات التي تضع المتفرج في موقف حرج وتقذف به الى شواطىء التأويل وهو يسعى من خلالها الى التجوال مع الشخصية التي رسمها في دروب الاسى – داخلاً وخارجاً – وانتج بعمله ذاك عجينة ثنائية للوطن والمنفى ،  الشرق والغرب ،  المادة والروح .
لقد حاول بشار منذ بدايته الاولى ان يسبغ على مشروعه الفني شكلاً مشتعلاً بالحداثة  حاول من خلاله ان يستنهض كل جماليات الواقع الكافر ثم لينقلب عليها ويجد لها معادلاً صورياً احال المفردات الواقعية الى ارتباطات متشابكة  ولو شئنا العودة الى نقاط الشروع الاولى والتأسيسية للفضاءات الجديدة في المسرح العراقي والتي كانت افتراقاً جمالياً ورؤيوياً للمهمة الاخراجية، فلا بد لنا ان نتوقف عند عراب الحداثة في المسرح العراقي  المخرج صلاح القصب – الذي وضع اللبنة  الاولى لنهج تفكيري جديد تصدى لكل المفاهيم التقليدية المستغيثة عادة  ( بالحوار ،ووحدة المكا ن والزمان ) . وليفتح الباب واسعاً بهذا النهج امام سلطة جديدة تسعى لتهشيم  التمركز الكائن في مرئيات الواقع والاقتراب نحو الحدس كشكل وآلية للمعرفة الذهنية المجردة  للوصول الى الحقيقة ، هنا اصبحت الذات هي المنطلق للتعبير عن كل الاحباطات  والهواجس  والاحلام والعوالم المحيطة .
ان هذه الثورة الفنية التي اعتمدت على التخاطب "الصوري" حلقت بالعرض المسرحي الى افاق عالية جداً بعيداً عن "الشيئية" لتصبح لغة المسرح لغة اخرى لا تسقط في المناهج المعيارية المتوارثة  بل أسست خلاصاً بصرياً ذي منظومة لغوية خاصة .
لقد كان لهذا المشروع الحداثوي في المسرح والذي بدأت تتضح معالمه في ثمانينات القرن الماضي على خشبة المسرح العراقي ، وبدأ يزج بكل ثقله في تسعينات القرن الماضي  أن يطيح بكل مفردات ومفاهيم المنطق الفني للمسرح الارسطي والذي ظل يهيمن على السياق العام  للمسرحي العراقي منذ التاسيس وحتى مجيء المخرج صلاح القصب ،  وهكذا شهدنا اسماء كثيرة ولِدت من رحم هذا التيار الجارف وشكلت تقاطعاً حاداً مع ما سبقها من اجيال وتجارب  والمخرج بشار عبد الغني  من  بين هؤلاء الذين حلقوا بعيداً عن القياسات الارسطية التي قيدت المسرح العربي عقوداً طويلة والقى بنفسه خارج المنطق الموضوعي للاشياء وهو يتلمس طريقه الفني على خشبة العرض  في محاولة منه لتاكيد اللامنطقي واللامعقول في حركة الاشياء المرئية / المنطقية ..


اننا عندما نعاين البناءات الجمالية لهذا المخرج الشاب  نجده يهشم كل العقد والعلامات الارسطية من احشاء النص المسرحي . ليبدأ هو في صياغة نص آخر لا يصلح للقراءة اكثر مما يصلح للمشاهدة هذا النص الجديد يحمل لغة مشفرة تعطي الذات السلطة الكاملة.
لتوليد الصور بلا حدود وليلعب الخيال لعبته الحرة في تكوين انساق العرض  ولتصبح الصورة اكثر الانساق تاثيراً في العرض  لانها تصدم ثوابت وافاق المتلقي لما تحمله من تكوينات حركية مشفرة تنقل الخطاب المسرحي الى مستويات عليا من الدلالات .
ان براعة بشار في قدرته على التحويل الثوري للعلاقة الايقونية مع الاشياء الملموسة . ليجعل من التشفير هو القانون الذي يحكم العلاقة بين كل الاشياء إذ لم تعد مفردات  العصي الخشبية  والماسحات وجسد الممثل  والسرير  بنفس الوظـيفة الواقعية المتداولة . بل بدأت تأخذ ابعاداً ودلالات اخرى اكثر فاعلية ولتصبح  حاملة لمستويات متعددة من المدلولات والاشارات التعبيرية .
ان المخرج بشار يوغل كثيراً في تشفير انساق العرض المسرحي (السمعية والبصرية) لينشىء خطاباً مسرحياً معباً بالدلالات  والتي ليس من السهولة فك رموزها ،  فالامر هنا يقتضي من المتفرج جهداً ابداعياً للامساك بها  وهذا يعود الى ان العرض المسرحي لدى مخرجنا ممغنطاً بالكثير من القيم الرمزية ذات الامتدادات اللامتناهية والتي تجعل الخطاب المسرحي بانساقه المشفرة مفتوحاً على مستويات تأويلية متعددة.


سيرة ذاتية للمخرج بشار عبد الغني :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تولد : 1968 موصل
بكالوريوس من كلية الفنون الجميلة / جامعة بغداد / اخراج مسرحي
نال شهادة الماجستير من كلية الفنون الجميلة / جامعة بغداد  / اخراج مسرحي
يستعد لمناقشة اطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من  كلية الفنون الجميلة / جامعة  الحلة /اخراج مسرحي .
يعمل حالياً مقررا لقسم الفنون المسرحية في كلية الفنون الجميلة /جامعة الموصل .
اعماله المسرحية :                     
عنوان  المسرحية                          المؤلف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ         
الأخوة ياسين                            حسين رحيم
 هجرة الطيور الخشبية                بشار عبد الغني
 هبوط تيمورلنك                   عبد الفتاح قلعجي
 الظلمة                                جالواي
 الفيل يقيم مآدبة سمر               نورمان سيكلنج
شعر مستعار                           مروان ياسين الدليمي
لاآت إمرأة                               حسين رحيم
الحريق                                 قسم محمد
رقعة شطرنج                         تأليفه وأخراجه

109

زَمنُ المُخَادعينْ   .  .

من الطبيعي جداً ، حين تشير الى الخطأ بكل صراحة ووضوح ، في وسط يعشعش فيه الكذب وتسوده الفوضى وتغيب عنه القيم السليمة في العمل ، ستصبح بلاشك هدفا مقصوداً لاساءات الخاطئين . اولا ً لانهم الاكثر ، وثانياً لانك تسببت في تعريتهم . هذا هو ماتعودنا عليه في منظومة القيم والسلوكيات التي تحكم افعال الافراد في مجتمعاتنا الشرقية عموماً  رغم مظاهر التديّن التي نتشدّق بها عبر كل سلوك يصدر عنّا أو اي جملة نتلفظ بها ونحن  نسندُها بآية او سورة مستلة من الكتب المقدسة  ، والبعض يحفظ ماجاء بتلك الكتب عن ظهر قلب لكنه وللاسف الشديد يرددها كالببغاء التي لاتفهم ولاتعي ماتقول ،والشخص المعني بقولنا هذا  يستهلك الكثير من الوقت في اداء الطقوس والشعائر الدينية تعبيراً عن تدينه وايمانه ومعرفته التامة والبيّنة بين ماهو حق وماهو باطل اضافة الى خوفه الشديد من الله ،هذا مايعتقده هو ولاعجب في ذلك  .
إن هذا النموذج  لايتردد في لحظة ما الى اقصاء واستبعاد مايحفظه من قيم نبيلة تعبّر عنها تلك الايات المقدسة التي يحفظها والتي طالما رددها امامنا بمناسبة وبغير مناسبة ، لايتردد  في تنحيتها جانباً من ذاكرته ومن لسانه بكل بساطة عندما يجدها تتعارض مع مصالحه ورغباته الشخصية اومع مصالح ابنائه أواقربائه أو عشيرته أو طائفته أو اصدقائه  .!
 مثل هذه النماذج  ليست غريبة علينا ولاطارئة ، بل غالباً ماتحيط بنا وتعيش بيننا  وقد تعودنا عليها وكأنها أمر طبيعي ينبغي التعايش معه   وهي ليست وليدة اوضاع سياسية معينة طارئة بقدر ما هي حالة شائعة باتت دائمة في معظم مجتمعاتنا التي امست  تقدس الخرافات والاساطير يوما بعد اخر ولم تعد تملك القدرة على التمييز بين ماهو مقدس وماهو لايستحق التقديس، بين الحق والباطل، الحلال والحرام ، وما عاد القلق هاجساً دائما ينتاب رب الاسرة فيما لوكانت لقمة العيش التي يطعمها لاولاده  حلالاً كانت أم  حراماً .
مجتمعات ادمنت الكذب والتلفيق حتى ضاعت الرؤية من بصيرتها لذا من الطبيعي جدا ان لايكون للعمل في حياتها اية اهمية  ولن يحظى من يعمل بجد واخلاص بأي تقدير واحترام ، بل غالباً ما يصبح مثار سخرية وتندر باعتباره (ستايل قديم )  ولايصلح لاخلاقيات هذا الزمن الذي يتسم بالسرعة ! .
لكن في ختام الامر علينا ان لاننسى أن الازمنة التي تعتاش على الخديعة تنهدم بلاشك في لحظة مفاجئة على رؤوس الكذابين والمخادعين فيها ، لان الحياة  بطبيعتها لاتستقيم الاّ بالوضوح وبالقيم النبيلة والخيّرة .




                                             مروان ياسين الدليمي

110
الممثل محمد العمريتحدث عن وجع ومسرّات السنين على المسرح  :
أنا مع نخبوية العرض المسرحي





حاوره : مروان ياسين الدليمي 
في مسيرتهِ الفنية الطويلة التي شهدتها خشبة ُالمسرح في مدينة الموصل  والتي تعود بدايتها الى العام 1974 تجاهل الممثل محمد العمر بوعي ٍ واصرار ٍ كل المغريات الماديّة  اضافة ًالى الشهرة  الواسعة ِالتي يمكن ان يحظى بها فيما لو ارتضى لنفسهِ ان يقايضَ موهبتَهُ بأدوار سهلة ٍالمسافة ُ بينها وبين خداع  المتلقي  قصيرة جداً ، وآثرَ العُمَر خلال اكثر من ثلاثين عاماً إلاّ ان يكون مُتجَدِداً ومُجَدِداً في عشقه الدائب والدائم  للتجريب  داخل اطار التمثيل المسرحي بحثاً عمّا يحررُ جسد الممثل من أُطر التعبيرالتي استهلكته ، وذلك من خلال انغماره في عروض مسرحية نخبوية همُّها الارتقاء بمفردات اللغة الجمالية للتجربة المسرحية ..

*المسرح في مدينة الموصل كان المنطلق لمسيرة المسرح العراقي قبل اكثر من مئة عام وتحديدا عام 1882 لكنه ورغم هذا التاريخ البعيد عن نقطة البداية هو الان يعاني من ضعف شديد منذ عدة عقود ويكاد ان يكون هناك غياب تام للعروض المسرحية . باستثناء مايتم انتاجه من قبل الطلبة والاساتذة في كلية ومعهد الفنون الجميلة ، هل يمكن ان تشخص لنا الاسباب والظروف ؟
- من الطبيعي جدا ان يكون المسرح جزء من حركة وديناميكية الواقع الذي تعيشه المدينة فهو يتأثر بها ويؤثر فيها سلباً وايجابا ومن تبنى المسرح في البدايات اي في نهاية القرن التاسع عشر هم الاباء الدومنيكان والمجتمع الموصلي كما تعرف مجتمع محافظ وقد رسم الكثير من الخطوط الحمراء حول هذا الفن وهو لاينظر الى المسرح او العاملين فيه نظرة احترام . فظهرت في خمسينيات القرن الماضي فرق مسرحية قدمت اعمال بسيطة ثم ظهرت في ستينياته فرق مسرحية اخرى منها فرقة نادي الفنون وفرقة الرواد وفرقة المسرح العمالي وكانت هذه الفرق اكثر تخصصا نتيجة وجود عناصر فنية كانت قد تخرجت حديثاً من معهد الفنون الجميلة في بغداد امثال حكمت الكلو وعلي احسان الجراح وراكان العلاف . إلاّ أن تلك الاعمال لم تنتج هوية مسرحية واضحة للموصل كما ينبغي إلاّ بعد ظهور الفنان  شفاء العمري حيث قدم منذ ستينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته اكثر الاعمال اهمية من حيث الشكل والمحتوى وتعددت المذاهب والاتجاهات الفنية التي تعامل معها الفنان العمري حتى اصبح اسمه عنوانا للمسرح في نينوى . اما كلية الفنون الجميلة فهي حديثة العهد لكن معهد الفنون الجميلة الذي سبقها في التأسيس فيمكن القول ان في بدايات تأسيسه في النصف الثاني من سبيعينيات القرن الماضي اكثر نشاطا مما هو عليه الان .
*هل لك ان ترسم لنا صورة لمستقبل المسرح في الموصل . هل ستكون استمرارا لهذا التدهور ام ان هنالك مايدعو الى التفاؤل ؟
-ياسيدي ان فايروس التدهور لم يشمل المسرح فقط وانما عطل كل مرافق الحياة لكنني رغم هذا اعود مرة اخرى لاقول ان هذا الوضع ليس إلاّ وضعا مؤقتاً فالمسرح هو جزء من حركة المجتمع الثقافية ، وزهرة واحدة لاتصنع ربيعاً ، وهذا الشعب ، شعبٌ حي ونينوى مدينة ولاّدة للكتاب والشعراء والمسرحيين فمثلما انجبت الشاعر الراحل الكبير سالم الخباز ومحسن عقراوي فقد انجبت الشاعر معد الجبوري ورعد فاضل واملي كبير بالشباب الاخرين من اساتذة وطلبة في كلية ومعهد الفنون الجميلة .

*هل هنالك اسماء معينة من الشباب يمكن المراهنة عليها في البدء بخطوات جديدة تضع المسرح بفاعلية واضحة ومؤثرة في واجهة المشهد المسرحي العراقي . ؟
-بالتأكيد هناك اكثر من فنان ينبغي ان تتوقف وتنصت اليه وتتابع اعماله سواء على مستوى التأليف او التمثيل او الاخراج . ومن الاسماء المؤثرة على سبيل المثال في ميدان التمثيل نبدأ اولا بالشاعر الكبير معد الجبوري ورعد فاضل وناهض الرمضاني وبيات محمد مرعي ومروان ياسين . اما على مستوى الاخراج فقد انجبت كلية الفنون الجميلة اسماء شابة مهمة مثل بشار عبد الغني ومنقذ محمد والفنان د. محمد اسماعيل .

*عادة ماتكون العروض المسرحية التي كنت ومازلت تعمل فيها والتي تستغرق شهورا عدة من التحضير والتمرين عروضا نخبوية لايشاهدها سوى عدد محدود من المتفرجين ولايستغرق عرضها سوى اياما معدودة لاتتناسب مع الجهد المبذول ومع القيمة الفنية العالية التي تحملها . ياترى اين تكمن سعادتك في هذه العروض .. ألا تصاب بالخيبة ومالذي يدعوك الى الاستمرار ؟
-حسب تصوراتي المتواضعة بأن التمثيل والاخراج على الاقل في الموصل هي من فنون الاثر حيث تكون جماليتها تكمن في لحظة ولادتها ومن ثم تصبح اثراً أما التأليف فهي حياة ديناميكية مستمرة مع تقدم الازمنة . لكن المتنفس الحقيقي الذي يشعرني بالسعادة وحب الاستمرار هو ناتج لعشق المسرح والذوبان فيه واشباع الانا الداخلية .

*هل انت مع نخبوية العرض المسرحي ؟
-نعم أنا مع نخبوية العرض المسرحي .

*مالذي يعيق نمو وتطور الحركة المسرحية في المحافظات تحديدا والعراق عموماً سواء فيما يتعلق بعمل الفرق المسرحية او المؤسسات الفنية؟
-يمكن ان يعزى هذا الوضع الى مجموعة من الاسباب منها سياسية واقتصادية وغياب الرواد عن الساحة الفنية كما ان المردود المادي المتواضع جدا ادى الى توجه الفنانين الى الفضائيات العربية اضافة الى الرغبة في الانتشار السريع .

*ازاء التطور الحاصل في السينما والتلفزيون على مستوى الاساليب التي بدأت تستقطب المتلقي من جديد ألاتجد ان هذا قد يكون واحدا من الاسباب التي جعلت المسرح لم يعد في دائرة اهتمامات المتلقي التي تستقطب اهتمامه وتثير دهشته على الاقل في العراق ام ان المسرح له خصوصية في اساليب العرض والتقديم لخطابه لاتؤثر عليها الاساليب والتحديثات التي حصلت في السينما والتلفزيون ؟
-مما لاشك فيه ان للسينما والتلفزيون تأثيرواضحح في استقطاب المتلقي كما اثرت فعلا الاساليب والتقنيات الحديثة في عالم التشكيل إلاّ ان المسرح يبقى محافظا على خصوصيته على نبضه الحي الذي يساعد على ان يبقى متماشيا مع العصر هو التطور والتغيير الذي شمل المسرح بتقنياته التي ترسم سينوغرافيا العرض المدهشة .

*هل لك ان ترسم لنا صورة موجزة عن اهم المحطات التي وسمت مسيرتك الفنية ؟
-ان مجرد عملي مع استاذي الكبير شفاء العمري اعتبره محطة اختصار وايجاز لكل المحطات ومنها اقطع تذكرة الذهاب الى اجمل الامكنة الساحرة ومن ثم اعود الى محطتي لاسافر بعدها الى اماكن اكثر بهجة وجمالاً فأنا انظر اليها من الاتجاه المعاكس حيث انطلق من الامكنة البعيدة متجها الى المحطة الاساس التي يقف فيها شفاء العمري .

*بعد هذا العمر الطويل الذي قضيته على خشبة المسرح بكل حلوها ومرها مالذي خرجت به من افكار وهل يستحق منك كل هذا الجهد وهذا الوفاء ؟
-يقول الشاعر الكبير معد الجبوري : الكل باطل وقبض ريح متى يدق الموت بابي وأستريح .

*الممثل العراقي عادة مايحصل على جوائز مهمة في المهرجانات التي يشارك بها هل تجد ذلك امرا طبيعياً تبعاً لما يمتلكه من خصوصية في الاداء أم ان هنالك اسباب اخرى تقف وراء هذا التكريم خصوصاً اننا نجد ان الساحة العربية فيها الكثير من الطاقات الكبيرة فماذا تقول عن هذا وعن الممثل العراقي ؟
-على مستوى المسرح نعم المسرح العراقي مسرح واعي ومدروس وعندما يشتغل المخرج العراقي او الممثل العراقي تجده يعمل بكل حب وصدق وحرفية فهو فنان يلاحق عمله بكل تفاصيله بكل صدق وبكل وعي انا اوافق على ان المسرح العراقي دائما كان يحصد الجوائز في كافة المهرجانات التي يشارك فيها وهو يستحق تلك الجوائز .

*هل شاركت في مهرجانات خارج العراق. ؟
-لم اشارك في اي مهرجان خارج القطر للاسباب لان بغداد احتكرت كل المشاركات الخارجية بل اقتصرت على اسماء معينة . ولكن نتأمل من دائرة السينما والمسرح بأدراتها الجديدة بعد العام 2003 خصوصا مع وجود د. شفيق المهدي ان تلتفت الى فرق المحافظات وتشركها في المهرجانات ونحن بالانتظار

*انت تعمل ضمن اطار مسرح لاينتمي الى طراز المسرح التقليدي مالذي يخبئه هذا النمط من المسرح من تفرد وخصوصية الى الحد الذي يستبقيك فيه طيلة اكثر من ثلاثة عقود ؟
-التميز وصعوبة الاداء والبحث الدقيق في تفاصيل الشخصية هذا اضافة الى الجمل التمثيلية المدروسة التي اشتغل عليها لاضعها للشخصية فأنا اتصور ان ادائي كاللغة العربية الفصحى  تكتشف جمالها ومستويات التعبيروالتأويل فيها عندما تضعها امام اللهجات العربية . ؟

*فلاطون كان يقول الجسد قبر . انت كممثل كيف تنظر الى مسألة الجسد واستخدامه من قبل الممثل ؟
-الجسد بحد ذاته لغة يمكن ان تتفاهم بها وبواسطتها مع الاخر . والجسد كما يقول بريخت وستانسلافسكي هي الادوات الخارجية التي يملكها الممثل لتجسيد مايمكن ان تقوله الادوات الداخلية وان بدايات تعلم الانسان للكلام كانت عن طريق الرقص . فالجسد هو اللغة التي كان يتحدث بها الانسان اما على مستوى المسرح فقد قدمت اعظم الاعمال عن طريق لغة الجسد .
 

111
ثوبُ البلاد ِيُرتَّق بأوهَام ِالسُلطَةِ
           
اخطأ المالكي من حيث يقصد أولايقصد في حساباته السياسية التي راهن على تحقيقيها بعد انسحاب القوات الاميركية من العراق إعتماداً على الفراغ الذي ستتركه ، ويبدو ان المالكي قد ذهب به الوهم كثيرا جداً ليعتقد جازماً ان بأمكانه ان يملأ هذا الفراغ مستندا على الدعم الايراني الذي سيحل بديلا عن الوجود الاميركي الذي  كان يشكل مانعا ًقويا امامه لتحقيق حلم ٍطالما ظلّ ُيداعب خياله وطموحه السياسي هو والعديد من قادة التحالف الوطني ، لم يكن يخرج عن : تصفية عقد الشراكة السياسية الهشّة التي قامت عليها العملية السياسية في العراق وفق مبدأ التوافق في اقتسام السلطة بين الشيعة والسنة والاكراد منذ الاطاحة بنظام صدام حسين عام 2003والتي كان قد تم الاتفاق عليها بين جميع تلك  القوى والاطراف السياسية التي بدأت تشغل المشهد السياسي العراقي .
ان المنهج الايدلوجي الذي يتخندق خلفه المالكي والذي يتمثل في تكريس سلطة طائفية تحكم البلاد تقودها احزاب شيعية بزعامة حزب الدعوة ، لم يعد أمراً خفيا يتستُّر بمنطق ( التقية ) وماعاد مقتصرا تداوله في الاجتماعات السرية والادبيات الداخلية لتلك الاحزاب ،ولاعبر تصريحات فردية تطلقها هنا وهناك شخصيات لها صفة حزبية أو دينية كما كانت تفعل في المؤتمرات التي كانت تعقد خارج العراق قبل سقوط نظام صدام او حتى خلال السنوات التسع التي اعقبت السقوط ، بل خرج الامر هذه الايام الى العلن بشكل صريح بعد خروج الجيش الاميركي وعودة المالكي من زيارته الاخيرة لاميركا التي جاءت بعد يوم واحد من خروج اخر جندي اميركي من العراق .
وقد شهد العالم  تنفيذ الخطوة الاولى من هذا الانقلاب السريع على الشريك السني من خلال عرض سلسلة من الاعترافات لعدد من الاشخاص الذي ادعوا مسؤوليتهم عن عدد من الجرائم  كانوا قد ارتكبوها بحق عدد من الاشخاص والمؤسسات الحكومية خلال الاعوام 2006 و2007 و2008 بعد أن كانوا قد تلقوا الاوامر بالتنفيذ حسب ماأدّعوا من طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي نفسه ،و تم عرض الاعترافات تلك على شاشة التلفاز، وسبق للمواطن العربي والعراقي ان شاهد  العشرات من مثل هذه الاعترافات على شاشات التلفزة الرسمية ومازلنا نشاهد مثلها كما هو الحال في سوريا خصوصا بعد أن انكشف الوجه الطائفي لنظام الحكم القائم فيهامن خلال ردود افعاله العنيفة التي قابل بها موجة الاحتجاجات الشعبية التي تعم البلاد منذ اكثر من ثمانية اشهر، فكان لجوء النظان السوري الى مثل تلك الاعترافات اصراراً واضحاً على استغباء الناس وخداعهم بحفنة من المشاهد المفبركة .
المالكي هو الاخر أعاد انتاج نسخة من تلك الاعترافات  في حربه التي اعلنها ضد شركائه في الحكم والتي طالما كانت  ديدن الانظمة العربية السياسية التقليدية الجمهورية التي تهاوت واحدة بعد الاخرى ،والتي غالبا ماتلجأ الى مثل هذه  الاساليب الساذجة  ــ والتي لاسبيل امام العالم المتمدن الذي يحترم حقوق الانسان أن يصدقها ـــ كلما وجد النظام السياسي الحاكم نفسه محاصراً بازمة أو فضيحة عادة مايكون هو سببها لتفوح منها أمام الملأ رائحة فساد ٍأوكارثة ٍأو صفقة ٍمريبة ٍضد مصلحة البلاد ودافعه الى اتباع مثل هذه المنظومة المتهرئة من الاساليب الاعلامية هو : دورانه حول نفسه واعتقاده الجازم بوهمٍ ورثه ُعن عصور ٍسحيقة ٍمن التخلف سبق أن مرت على البشرية كان عموم الناس فيها يغطون في جهل واضح  اسبابه تعود الى بطىء وبساطة وسائل الاتصال ونقل المعلومات التي عادة ماتلعب دوراً رئيسياً في تشكل الرأي العام ليس بالصورة المتقدمة  كما هي عليه اليوم . وهنا يكمن الخطأ الفادح الذي مازالت تعيش فيه وترتكبه هذه الانظمة بحق شعوبها وفي نظرتها القاصرة اليها ذلك لانها : انظمة تقليدية في المنهج والتفكير، تجاوزها الزمن وتجاوزتها حركة الحياة بكل متغيراتها،وهي اليوم تعيش لحظة مصيرية مفارقة باتت فيها تنازع وتكابر قبل ان تلفظ انفاسها الاخيرة،لكنها وبنفس الوقت هي مُدركة تمام الادراك أن آوانها قد فات ،ورغم ذلك فهي ازاء هذه الحقيقة المرّة غير مؤهلة ولاقادرة على الاقرار والاعتراف بذلك ، لان الاعتراف بالخطأ لم يكن منهجاً تقر به في منظومتها الفكرية تواجه به نفسها قبل ان تواجه به شعوبها ،ونتيجة لغياب هذه الشفافية في ادارة ومواجهة القضايا التي تعالجها وتواجهها فليس مستغرباً اذن ان يكون ذلك سبباً لأن تحفر قبرها بنفسها .
من هنا كان حتمياً عليها ان تعمل  بكل ماتبقى لديها من وقت قصيرجداً من عمرها الى أن  تَسْعَى حثيثاً ــ بكل ماتملك من اذرع مسلحة تتحرك على الارض وتأتمِرَ بأمرها تحت اغطية ومسميات متنوعة اضافة الى قوى اخرى طبقية مساندة لها ومرتبطة بها وبمصالحها ــ  لدفع شعوبها الى محرقة  ُتلتَهَمُ فيها  الاعراق والطوائف والاديان ثمناً لخروج السلطة  من أروقة السلطة وزوال عهدها وهذا هو مايحصل في اليمن والبحرين وسوريا ومصر اضافة الى العراق الذي سبق شعبه شعوب هذه البلدان في تجرع مرارة هذه التجربة وقسوتها ومازال شعبه المبتلى بالقهر الازلي يتجرعها حتى لتبدوصورة غَده ِ رغم وعود الديموقراطية التي جاء بها إليه الاميركان ليست بافضل حال مما هي عليه اليوم وهي تعجُّ باعتقالات عشوائية بالجملة دون امر قضائي ، وعمليات قتل متواصلة تتم باسلحة كاتمة للصوت في وضح النهار ضحاياها رموز علمية وثقافية دون ان يتم الكشف عن الجناة في معظم الحالات التي تم فيها اعلان القبض عليهم مما يثير الشبهات واصابع الاتهام الى تورط جهات حكومية او شخصيات سياسية فاعلة في السلطة، هذا اضافة الى الصاق تهمة  الارهاب بكل من يعلو صوته كاشفاً صورالفساد والتعذيب التي عادة ماتجري بعلم البعض من المسؤولين الحكوميين  ولا يتم التراجع عن اسقاط تلك التهم قضائيا حتى لو اثبتت التحقيقات التي تجريها المنظمات الدولية المستقلة براءة احد المتهمين من التهم المنسوبة اليه وهذا مثل ماحصل مع عضو البرلمان العراقي السابق محمد الدايني الذي برأته منظمة الشفافية العالمية مما نسب اليه من تهم تتعلق بمسؤوليته في محاولة تفجير البرلمان والذي كان قد اثار غضب الحكومة وحقدها عليه بعدما استضافه الكونكرس الاميركي في إحدى جلساته بأعتباره احد اعضاء لجنة حقوق الانسان  في البرلمان العراقي  ليقدم في تلك الجلسة  ادلة ووثائق لايرقى اليها الشك  تثبت أن  شخصيات عراقية سماها بالاسم  تتولى مسؤوليات حكومية في الدولة العراقية متورطة بجرائم قتل وتعذيب ضد المواطنين اضافة الى مسؤوليتها المباشرة في تشكيل فرق للقتل لتصفية الخصوم السياسين انطلاقا من دوافع طائفية .فكان ذلك سببا كافياً للتعجيل في اسقاط الدايني سياسياً باللجوء الى الصاق اسمه بالعملية الارهابية التي كانت تستهدف تفجير البرلمان ومن ثم رفع الحصانة عنه وملاحقته قضائيا وهو الان هارب خارج العراق ومطلوب للعدالة العراقية رغم تبرئته من التهم المنسوبة اليه من قبل منظمة الشفافية العالمية .
ان اي مواطن بسيط لم تعد تنطلي عليه اساليب ساذجة مثل هذه طالما روّجتها برامج السلطة الدعائية كان الهدف منها دائماً تسقيط ومحاربة معارضيها ومنتقدي سياساتها ،وهو يدرك تماما ان اعتراف أي مواطن قد يَظهرعلى شاشة التلفزيون الرسمي لابد ان يكون قد تم  تحت اساليب من الضغط والتهديد والتعذيب والترهيب والتشهير تم اللجوء اليها  لالشيء سوى  تشويه صورة خصم سياسي سواء كان فردا ًاو جماعة  أمام جموع الشعب تمهيداً اولياً لاسقاطه في المجتمع ومن اللعبة السياسية ، وهذا ما جرى العرف عليه في مستنقع السياسة الذي اعتاد الحكام العرب ان يخوضوا فيه وليس في نيتهم العيش خارج قذارته .
 جرت في العراق خلال الايام الاخيرة من شهر كانون الاول من العام 2011 احداث دراماتيكية احتوت على  مؤشرات خطيرة مسّت تحديداً شخصيات سنية سياسية تتولى مناصب متقدمة في الحكومة العراقية وقد جاءت تلك الاحداث مباشرة بعد خروج الجيش الاميركي المحتل من العراق ، وكانت قد ابتدأت باعترافات من على شاشة التلفزيون الرسمي لعدد من الاشخاص أدعوا بأنهم يعملون في الحماية  الشخصية لطارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي ثم تصاعدت الاحداث بالطلب الذي قدمه المالكي الى البرلمان والذي يوصي فيه بحجب الثقة عن نائبه  صالح المطلك ولتتوّج بصدور مذكرة اعتقال قضائية  بحق الهاشمي ومداهمة بيته ومكتبه ومصادرة ماوجد فيه من وثائق واوراق وحواسيب بعد ان كانت قطعات عسكرية حكومية قد طوقت بيته قبل ذلك بعدة ايام ، وهذا يؤشر بشكل صريح الى : بدء مرحلة جديدة وخطرة من عمر اللعبة السياسية يمكن تسميتها (بالانقلاب ) ستؤدي بالعراق شعباً وارضاً الى الدخول مرة اخرى في نفق اشد ظلمة من الذي كان فيه طيلة العهود التي سبقت العام 2003 وقد  يكون من نتائجها ــ وهذا امر قد يبدو غير مستبعد ــ  تخندق طائفي  واضح وصريح لدى كل الاطراف التي كانت تربَأُ بنفسها عن هذا النهج دفاعاً عن وجودها ومصالحها المرتبطة بالقاعدة الشعبية التي تنتمي لها وتمثلها وهذا بدوره سيفضي الى تقسيم ٍوتمزيق ٍلجغرافيا العراق الادارية وتحوله الى اقاليم ودويلات صغيرة قائمة على الانتماءات العرقية والطائفية وقد بدا ذلك واضحا في الدعوات التي جاءت من محافظة صلاح الدين وديالى والانبار وسيكون هذا الاختيار بمرارته اخر ملجأ للاطراف السنية التي كانت ترفض الفدرالية حتى العام 2010 كما جاءت صيغتها في دستور مابعد 2003 فكانت موقفها واضحاً في رفض كل الدعوات التي تساند قيام عراق فيدرالي وكان التحالف الكوردستاني الذي يضم معظم القوى السياسية الكردية اضافة الى غالبية الاحزاب الشيعية مثل الدعوة والمجلس الاعلى تساند هذه الدعوة ،  لكن سياسات التهميش والاقصاء ونقص الخدمات والتمويل اضافة عمليات الاعتقال التي اخذت تتصاعد يوما بعد اخر ضد ابناء المحافظات السنية بحجة الارهاب دفعتها لتغيير موقفها تماما من الفدرالية وصارت هي التي تطالب بها بصورة اكثر الحاحاً حتى من بعض المحافظات الجنوبية كمحافظة البصرة  التي كانت اول المحافظات العراقية التي اعلنت رغبتها في أن تتحول الى اقليم ومازالت مصرة على هذا الطلب .   
المالكي رئيس الوزراء وازاء تفاعلات هذه الاحداث كان ينتظر الفرصة المناسبة لكي يقول كلمته بكل وضوح دون لف ٍ أو دوران بعد أن ساق لنفسه تفسيرا جاهزا اقنع به نفسه على الاقل  والتحالف الوطني الذي ينتمي له لكل مايجري من حراك مطالب بالفيدرالية  في هذه المحافظات وماتبعه من مواقف مؤيدة لها من قبل زعماء الكتل السياسية السنية الفاعلة في العملية السياسية والمشاركة فيها ، وتفسير المالكي لايخرج عن الصاق تهمة الطائفية لكل الدعوات المطالبة بالفدرالية ،هذا اضافة الى تحولها فيما لو تحققت ـ حسب ادعائه ــ الى حاضنة للبعثيين والصداميين والتكفيريين وهي تهمة  جاهزة طالما الصقت جزافا على كل من يختلف ويتقاطع في الرأي مع الحكومة المركزية في بغداد خصوصا من كان مسقط رأسه يعود الى واحدة من تلك المحافظات ولن يبرأ من هذه التهمة حتى لوكان تاريخه حافلا بالشواهد التي تدل على معارضته للبعث ولنظام صدام كما هو الحال مع نائب مجلس محافظة صلاح الدين سبهان الملا جياد  الذي كان شيوعيا قبل سقوط نظام صدام  وقدعانى هو وزوجته اياما قاسية في السجون والمعتقلات بسبب مواقفه المعارضة للسلطة انذاك ، ولم يكن هذا كافيا ًليشفع له عند المالكي والدائرة الحزبية والحكومية المحيطة به طالما كان قد اعلن سبهان  بنفسه بيان مجلس المحافظة والقاضي بأعلانهااقليماً ادرايا واقتصادياً فكان ذلك سبباً كافياً لتجريده من تاريخه النضالي المعارض للبعث وليكون في نظر المالكي بعثيا صداميا شاء ذلك ام لم يشأ .
الفرصة التي كان ينتظرها المالكي للرد على كل تلك التحركات التي كانت تعني له : تفتيتاً لسلطته الواسعة، وتحجيماً لها. اخيراً جاءته بعد طول انتظار عندما غادر اخر جندي اميركي  ارض العراق ، فبدأ باتخاذ خطوته الاولى لملء لفراغ اللوجستي الذي خلفه  خروج الاميركان  بالطريقة والشكل الذي كان يحلم به ويخطط له هو والذي يلتقي ويلتحم مع ستراتيجية نظام الملالي الحاكم  في ايران وتشير ملامح الخطة الى  :  العمل على بناء نظام ِ حُكمٍ طائفي شيعي في العراق يعتمد على اللعب بورقة الاغلبية السياسية  بعد ان يتم إستبعاد كل الاطراف المذهبية الاخرى تحت ذريعة فشل سياسة التوافق التي كانت تقوم عليها العملية السياسية طيلة الاعوام الماضية فكانت نتيجتها كما ادّعى المالكي  في اكثر من تصريح ادلى به بعد خروج الاميركان الى وصول عدد من الزعماء السياسين المتورطين بأعمال ارهابية ضد مؤسسات الدولة وتم التغاضي عن ذلك بذريعة الحفاظ على سياسة التوافق واستمرار العملية السياسة ونص الحديث هذا جاء على لسانه في المؤتمر الصحفي الذي عقده في بغداد بعد عودته من رحلته الاخيرة الى اميركا والذي جاء بعد يوم واحد فقط من صدور  مذكرة الاعتقال  بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي .
وبناء على تلك الرؤية السياسية الجديدة التي اعلنها صراحة في ذاك المؤتمر سيكون  من المنطقي جداً ووفق هذا التحول والانعطاف لمستقبل العملية السياسية ان يكون العرب السنّة في مقدمة المستبعَدين خصوصاً أن معظم الذين تدورحولهم الشبهات والتهم هم من العرب السنّة .
 ووفق هذا التخطيط الذي اعلنه المالكي لن يكون الاكراد بمنأى عن ذلك وإن كان ذلك لايبدو واضحا على المدى القريب المنظور، لكنه ليس ببعيد عما يخطط له طالما يستمد قوته واندفاعه بهذا الاتجاه  من ايران التي اعلنت صراحة في اكثر من موقف دعمها للمالكي  فكيف بها الحال اليوم وهي تمسك بكل خيوط اللعبة السياسية على الارض العراقية  بعد خروج الاميركان منها .
ان النتائج المترتبة على هذا النهج  ستدفع البلاد الى مازق خطير يقودها الى حالة من الاحتقان والاقتتال الطائفي العنيف َطرفاهُ السنة والشيعة وقد يكون اشد قوة وعنفاً مما كانت قد شهدته البلاد خلال الاعوام 2006 ـ 2007 ، اضافة الى ذلك فإن الاطراف الاقليمية لن تقف صامتة ومكتوفة الايدي ازاء مايجري بل ستدخل بكل ثقلها اكثر من ذي قبل لتغذية هذا الصراع المميت  كلُّ حسب مصلحتها  التي عادة ماتغذيها دوافع مختلفة منها ماهو: طائفي أوديني أوقومي ، أو مما هو قد يكون جزاً من حسابات دولية بين القوى الكبرى التي تتكالب على اقتسام النفوذ والثروات وتصريف السلاح في منطقة الشرق الاوسط والخليج العربي ولن تترد من اجل ذلك الى السعي لتأجيج  وتفجيروتوسيع مديات هذا الصراع لأجل أن تكون هذه الفوضى مدعاة لخلق افضل الاجواء المناسبة لها والتي من خلالها تدعم تواجدها الدائم عبر صور مختلفة  ليس بالضرورة ان يكون الوجود العسكري من ضمنها .
ومن المؤكد أن نهاية  هذا الصراع فيما لو حُسِم ـ وهذا امر بعيد تماما عن حسابات من يغذيه ويستثمره لصالحه ـ فأنه لن يحسم  بأية صورة من الصور لصالح انتصار طرف على حساب هزيمة طرف اخر ،انما  ستكون نتيجته بلاشك : تدمِيرُ ما تبقى من امال ٍ للناس وسط كومة من الانقاض ، في  بلد ٍمازال يئن من ثقل جراح لم تندمل بعد .


                        مروان ياسين الدليمي


112
مروان ياسين الدليمي يجد نفسه في فضاءات مختلفة وصولا الى المتعة .

المسرح يجعلني اقاطع الماضي

حاوره – سامر سعيد الياس / الموصل
أسفار عديدة دونها مروان ياسين في رحلته مع الحياة حيث وجدها محطة لإعلان تمرده ، بعد تجارب مؤلمة استقاها من محطات حياتية حزينة مر بها افراد من عائلته، دعته لان يقول كلمته في هذا العالم ، فلم تكن كلمة،  بل كانت على خشبة المسرح صرخة خرقت حاجز الماضي وصالحته مع العالم ،عبر علاقة جديدية ، بينما كانت حروفه على صفحات الجرائد بمثابة بصمات تركها على رمال لم تكن متحركة ، بل بقيت راسخة بثباته راصداً للواقع الثقافي، تارة بالكاميرا ،او بالجلوس على كرسي المخرج ليحبك مشهدا ثقافيا لكن بكلمات مبدعيه من الادباء ،يرصدهم ياسين في محافلهم وعلى منابرهم، ليقولوا كلمتهم كما هو،  حيث قال ماجال في خاطره ازاء رحلته مابين المسرح والقصيدة في سياق حوارٍ تلك هي تفاصيله :
اقع
*ايهما ينبض اكثر في اعماق مروان ياسين المسرحي ام المخرج ام الشاعر ..؟
قبل كل شيىء اجد نفسي اشعر بالرضا وأنا اتنقل في خضم هذا التنوع والتوزع مابين انشعالات فنية وادبية وابدو مثل الذي يمتلك القدرة على التفكير والحديث  باكثر من لغة ، هذا الوضع المتحرك والحيوي يضعني امام حالة من الاحساس بالحرية الذاتية تمنحني اكثر من فرصة ٍ واختيار للتعبير والاكتشاف ، فأنْ تمتلك اكثر من لغة ٍمعناه انك تستطيع ان ترى ذاتك والعالم بطرق وادوات متنوعة وان لك فضاء واسع لبناء عوالم مختلفة ، رغم انني في بعض الاحيان تنتابني حالة من الضياع والتشتت نتيجة هذا التوزع الاجناسي في الانتماء والتعبير ، وهنا ينبغي المرور سريعا على سيرتي الذاتية التي كان لها الاثر الكبير بما اشرت اليه فلقد وجدت نفسي اخوض في تحولات كبيرة ، قادتني اليها معطيات خارجية هيمنت على الحياة بشكل عام خلال العقود الثلاثة الاخيرة التي مرت على المنطقة وعلى العراق تحديدا، وهذا ماشكل اطارا ومناخا عاما احاط بي ورمى بكل ثقله على كاهلي اضافة الى تجربتي الذاتية التي تحتشد فيها احداثا درامية ابطالها كانواافراد عائلتي التي انتمي اليها . فكان من الطبيعي لشاب في مقتبل العمر ان يلجأ الى المسرح حتى يستخرج كل مشاعر القهر السياسي التي تضج في داخله نتيجة للوضع الذي وجد عائلته فيه  بسبب موقفها المختلف والرافض للمنهج السياسي العام الذي كان مهيمنا على الحياة طيلة عقود الستينيات والسبيعنيات من القرن العشرين، اضافة الى  تجربة السجن المريرة التي مر بها معظم افراد العائلة بسبب عدم انخراطهم في حاضنة التدجين الفكري والسياسي الذي كان قد استوعب قطاعات واسعة من المجتمع ،  ثم جاءت فترة الحصار خلال تسعينيات القرن الماضي ، من هنا تشكلت لدي نظرة اخرى ومفهوم اخر لماينبغي ان اكون عليه بعد ان وجدتُ الحياة الانسانية ُتهانُ بطريقة بشعة ،فاأقتضى الموقف مني ان احافظ على ذاكرتي من الخَرَف والانهيار الذي بدا يترك بصماته واضحة على عقول الناس بعد ان بدأالجوع والاذلال يهتكها، لذا كان ينبغي ان تحدث مواجهة مع ذاتي ومع ماكان يجري.  فكان لابد من اللجوء الى الكتابة لمواجهة التدمير الذي بات يمتد ويزحف على الذاكرة مثلما كان يترك اثره في صور الحياة المادية ، فأنتعشت ذاكرتي بفعل الكتابة مقابل ذلك الانهيار الحاصل في الواقع الموضوعي حينها كتبت اول مجموعة شعرية لي، كما اعدت قراءة النشاط والتجارب المسرحية في مدينة الموصل خلال اكثر من نصف  قرن ،وكانت تلك القراءة ومازالت مثار لغط ورفض واستهجان شديد من قبل اجيال هرِمة ٍفي التفكير ،اعتادت على كلمات التبجيل والاعجاب المزيف ، مما جعلها تعيش وهما ًمضحكا يثير الرثاء عليها ، كان ذاك الوهم قد اوصلها الى حالة باتت فيها  تعتقد جازمة بريادتهاوانها قد انجزت تاريخا فنياً يستحق التبجيل والتعظيم ،بينما هي واقع الامر لم تترك شيئا يذكريستحق البقاء،فجاءت دراستي تلك والتي نشر بعض فصولها على صفحات جريدة الزمان بمثابة صدمة كبيرة لهم وغير متوقعة لكنها وللاسف الشديد بدلا من ان تجعلهم يستيقظون من ذاك الوهم ليتوقفوا لحظة امام انفسهم ليعيدوا النظربما قدموا  ازدادوا تعنتا وتمسكا بمنهجهم الفني المتهرئ والذي يعود في منظومته الى العصور الوسطى وهي اشد العصور انحطاطا في الوعي والتعبير الفني، المهم في هذا الامر انني فيما يتعلق بموضوع التنوع في الانتماء والانجذاب مابين المسرح والسينما والشعر اجد نفسي دائماً في فضاءات مختلفة وأنا في حالة من الاكتشاف والبحث ،وهذا بحد ذاته يجلب لي المتعة . 
*بدات مشوارك الابداعي من خشبة المسرح ،برايك ما تاثير المسرح على المكنون الابداعي  لمروان ياسين ..؟
المسرح كما اراه في تجربتي الشخصية كان  بداية القطيعة مع الماضي وتأسيس لعلاقة جديدة ومدهشة مع العالم كان فيها الكثير من الشجن والانعتاق والتارجح مابين الانا والعالم كانت انتمائي للمسرح نقطة فاصلة مابين انتمائي للواقع الملموس والواقع المتخيل ،مابين العزلة والبوح ،مابين الحقيقة العارية والحلم .  كان المسرح بمثابة توق الى العبور الى نقطة مجهولة لاأعرف اين تكمن والى اين ستؤدي بي . وماأن توغلت خطواتي شيئا فشيئا في عالم الدراما المسرحية وأنا في مقتبل العمر  بدأت بقراءة معظم النصوص الدرامية التي شكلت علامات اساسية في التطور الدرامي ابتدأً من الكتاب الاغريق ومروراً بكتاب الواقعية الاشتراكية السوفييت وصولا الى كتاب العبث واللامعقول  . هذه القراءة المبكرة للمسرح ايقظت في ذاتي مساحة واسعة من اليقظة في  كيفية تلمس واكتشاف الجانب الدرامي في صور الحياة ومظاهرها وكيفية التعبير عنها فانثالت الاسئلة المقلقة والمحيرة منذ اللحظة التي ارتبطت فيها بالمسرح . لذا حققت هذه العلاقة تحولا في الوعي والقدرة على رؤية الذات والعالم اضافة الى ان المحاكاة في المسرح كما يراها ارسطو ليست استنساخا بل خلقاً جديد للعالم المستعاد ، فاأنت  عندما تواصل التمرين المسرحي لعدة شهور معناه انك ستمر كل يوم اثناء التمرين بتحولات واكتشافات جديدة لان الممثل لايحاكي صفات الشخصية التي يمثلها كما يفترض ان تكون في الحياة الطبيعية انما يسعى بكل جهده من اجل محاكاة الفعل وهنا يكون للخيال والتخييل الدور الاساس في هذه العملية الانتاجية للفعل المسرحي ، لاننا خلال التمرين المسرحي نتوصل الى صور متعددة للشخصية وهذا يعني تمرينا عمليا في التفكيروالانصهار بحرية واسعة مع التنامي والتقابل والانشطار عن الذات ضمن منهج يعتمد الانزياح في الوصول القيم الجمالية في التعبير والبناء ولك ذلك يأتي في  اطار ديموقراطي نموذجي بين افراد المجموعة العاملة  لاتجده في اي نظام سياسي .  فليس اجمل من ان تعيش الحرية في التفكير والتعبير والخلق داخل المشغل المسرحي الذي يبقي الذهن والمخيلة في حالة من اليقظة والتوتر والانتاج ، وليس امرا غريبا ان يبقى الفن المسرحي قائما وصامدا حتى هذه اللحظة رغم مرور الاف السنين على ظهوره رغم المتغيرات التي حصلت وتحصل الان على مستوى التقنيات في السينما والتلفزيون وهذا يعود كما قلت الى ان المسرح يقدس الحرية ولايمكن ان يعاد العرض المسرحي في اليوم التالي بنفس ماعرض في اليوم السابق ففي كل يوم وفي كل عرض هنالك تغيير وتجديد ، وهذا مالاتقوى السينما وبقية الفنون على الاتيان به ومجاراته .
*بدات قصائدك في الاونة الاخيرة ترتدي ثوب التوثيق والارخنة  فلكل مناسبة اوذكرى صدى في نزيف الروح لدى مروان ياسين ،برايك ما مدى حضور المناسبة ورد فعلها في انتاج قصيدة..؟
انا لاأستطيع ان اكون بمعزل عن الحياة بمعناها الواسع وهي في حالة من الصيرورة ، والشعر بطبيعته لايتعامل مع ماهو ظاهر وعابر ، الشعر تجربة ونشاط معرفي وروحي يسعى لاعادة اكتشاف الذات والاشياء مرة اخرى للوصول الى الجوهر، الى قيم انسانية وجمالية جديدة ، وهذا يأتي من خلال اعادة الفحص والقراءة للوقائع والثوابت من جديد بعيدا عن هيمنة القيم المطلقة والثابتة التي تحكم الواقع بكل التباساته الاخلاقية وموروثاته ، بلاشك اي نظام سياسي واجتماعي لابد ان يقوم وينهض مستندا على اسس فلسفية يمررها من خلال الممارسات والاساليب والوقائع التي يحدثها في الواقع ، والشعر في واحدة من  مهماته الجمالية يسعى لتفكيك هذه الفلسفة ودحضها عبر رصده للصور والتجارب المعاشة والمتخيلة  في اللحظة الشعرية ، وله في ذلك اليات فنية تنهض من خلال المخيلة الشعرية التي تنتج تداعياتها الصورية . انا اجد ان النص الشعري العربي له خصوصيته التي  تجعله بمكانة خاصة  إذا ماقورن مع النص الشعري الذي يكتب في اوربا او في اميركا ، قد نجد له مشتركات كثيرة مع الشعر الذي يكتب في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية فمابيننا توجد قواسم مشتركة وزعتها علينا انظمة سياسية قمعية بتسميات مختلفة انتجت مجتمعات تتشابه في البؤس والتخلف ، اذن نصنا الشعري  نص ينتمي  الى بيئته التراجيدية رغم التطور الذي طرأ على بنائه الفني الذي  جعله منقطعا الى حد كبير مع كل الموروث الشعري الذي يمتد الى اكثر من الف وخمسمائة عام لكن التجربة الشعرية بقيت تعكس وعي الشاعر واسئلته وموقفه من الحياة بكل مستوياتها من خلال نسق فني خضع الى تغييرات كبيرة وفقا لمفاهيم مختلفة تسعى لاقتناص اللحظة الشعرية كما يسميها فوزي كريم  والنسق الفني الذي اطرح من خلاله قلقي وهواجسي يتوزع مابين قصيدة النثر  والنص المفتوح الذي اجدني انساق اليه اكثر من اي شكل اخر ومن خلاله  استدرج اليه اجناسا تعبيرية مختلفة انحتها داخل تجربتي لتكون ضمن السياق الفني العام، واذا كانت الفلسفة قد انقطعت علاقتها مع الاساطير التي شكلت اسئلتها الاولى فإن النص الشعري المفتوح اعاد اكتشاف هذه العلاقة مع الاسطورة من جديد عندما اسطر الواقع والوقائع التي يعج بها وانا هنا لاأكتب عن مناسبات عابرة كما  يكتب شعراء القصيدة العمودية انما احاول ان اكتشف الكليات التي تختفي وراء تفاصيل الاحداث اليومية التي تمر بي ومن حولي ، بحرية اسلوبية يتداخل فيها الغنائي والدرامي والملحمي .
*مادمنا في فلك القصيدة فهل لقصيدتك بيئة معينة تسعى لان تعيش خلالها اجواء المخاض والولادة ..؟
بما أن مانكتبه من نصوص نثرية معبأة بطاقة الشعر وجنوحه وخيالاته وصوره دون ان نستند الى العروض والقوافي ولم نتعكز على قواعد بلاغية توارثناها لعشرات السنين كالكناية والاستعارة الخ من المفاهيم التقليدية في الشعر الكلاسيكي فهذا معناه اننا نتحرك في بيئة اخرى جمالية جديدة نقطع فيها صلتنا مع الماضي الى الحد الذي ليس بالامكان ان نلتفت الى الوراء او ان نصغي لاصوات تنادي علينا ان نتريث حتى نحملها على اكتافنا. ان الشاعر المعاصر الان يسير في بيئة ليس من السهولة  السير فيها طالما فيها الكثير من المفاجأت التي قد تأتي بها ، فكل نص شعري ماهو الاّ تجربة قائمة بذاتها لاتسعى الى لاعادة انتاج نموذج سابق،  قد نجد بعض المشتركات هنا او هناك لكنها تأتي عرضا وليس قصدا مركزيا في سياق التجربة الذي يميل الى القطيعة مع ماسبق والتأسيس لشيء جديد مغايروالانفتاح الشعري على كل اساليب السرد . وبيئة النص الذي نكتبه ونتحرك في فضائه ليست واضحة المعالم والحدود أويمكن تتبعها من نقطة البدء الى نقطة الختام . فليس هنالك من نقطة بدء ولا نقطة ختام ، ولايمكن التكهن بمسار القول وماسيدرج فيه من صور ودلالات ، وهنالك الكثير من التداخل والتقاطع والانعطافات الحادة التي تصدم المتلقي وهو يقرأ النص بعينيه ويجد نفسه وسط بحر متلاطم من المفردات والصورالمزدحمة المتنافرة والمتداخلة ، مشكلة عالما شعريا مركبا وغامضا حتى في اشاراته التي تبدو مباشرة . وهذه البيئة التي يخلقها الشاعر في نصه تستدعي ان يكون الشاعر في قلب الفلسفة المعاصرة بكل اسئلتها المحيرة لتستحيل بمخيلة الشاعر الى طاقة شعرية .
*البرنامج الذي يحمل عنوان(المشهد الثقافي ) والذي يبث على قناة عشتار يوفر لك رؤية واسعة عن مديات الثقافة العراقية ، فمالذي استنبطته من معطيات ازاء واقعية المشهد الثقافي ؟
على المستوى العام المشهد الثقافي العراقي مرتبط بمايجري من تحولات في الواقع ومايجري فيه يشير في مجمله الى صورة هزيلة من الانغلاق والتردي والانحطاط في جوهر وشكل الخطاب الفكري العام للواقع الذي يبدو واضحا انه قد اصيب بكل امراض وعوامل الهزيمة الفكرية التي كانت قد ابتدأت منذ اكثر من نصف قرن بعد ان تجاهل المجتمع العربي اشارات النهضة التي كانت قد بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر التي تحملها رواد النهضة العربية .وظلت عوامل الهزيمة تواصل تفاعلاته منذ النصف الثاني للقرن العشرين ولايوجد اية إشارة حتى هذه اللحظة  لتجاوز هذا الانحدار في الوعي العام . فصور الانغلاق مازالت  تمتد وتولد وتتكاثر في كل الاتجاهات وتكتسب صفة القداسة والتبجيل لكل مالايستحق التقديس والتبجيل وفي مجمله يكرس الماضي ويدور حوله بشكل يثير الرعب والريبة فيما ستؤول اليه الاوضاع الانسانية . فهل من المعقول ان نصل  الى ماوصلنا اليه من تقديس لبشر وطقوس تلغي وتعدم فرصة التفكير عند الفرد وتضعه في مسار القطيع  في دوامة من التخدير والتأنيب والتعذيب لنفسه عقوبة ًعلى ذنوب واخطاء لم يرتكبها ؟ وبما أن المثقف يخوض عملية جدلية في التواصل مع المحيط ماضيا وحاضرا ومستقبلا لذا امست الثقافة العراقية امام اشكالية كبيرة قائمة على الانقطاع لان مايمتلكه المثقف من رؤية نافذة وواسعة لشمولية الحياة تتقاطع مع ضيق الرؤية والاهداف لدى بقية القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة والمحركة للواقع بل ان الصراع بين الاثنين بات شرسا خصوصا مع الاطراف التي تقف في  الضفة الاخرى المواجهة للمثقف وهي لم تعد تخفي خطابها الذي يستهين ويحتقر الفعل الثقافي بكل اشكاله وتعبيراته . ودليلنا على مانقول مانشهده هذه الايام من صور تثير تساؤلات مخيفة سواء في مصر او تونس او غيرها من البلدان عما آل اليه الربيع العربي الذي انتظرناه طويلاً والمسار المُقلق  الذي وصل اليه بعدما قفزت الحركات السياسية الدينية المتطرفة الى الواجهة لتستلم  دفة القيادة . 
*لديك مشاركات في مهرجانات ومسابقات ثقافية وقد زخرت سيرتك بالعديد من الجوائز والشهادات التكريمية ،ماالذي تمنحه تلك الجوائز للمثقف  وهل هي فرصة لالتقاط الانفاس نحو خطوة اخرى توازي السابقة ام مرحلة للتامل فيما مضى..؟
هنالك جوائزبعينها  تستحق ان يسعى اليها المبدع،بعدما توفرفيها جملة من الشروط تضعها في مكانة عالية يتشرف الشاعر او الاديب ان يكون بين الساعين لنيلها مثلا جائزة نوبل ، فالكل في داخله يتمنى ان تصل اليه رغم كل الاقاويل التي يمكن أن تقال هنا وهناك عنها . والمهم هنا ان لايكون سعي المبدع الاول والاخير هو الحصول على جائزة . انا عن نفسي اعترف على تواضع تجربتي بالقياس الى اخرين لم اكن اتوقع مطلقا ان انال جائزة ادبية لانني كنت اشعر ومازلت بأنني لم اقدم شيئا مميزا ومتفردا يستحق جائزة  في اطار الشعر بالقياس الى اخرين  . ذلك لانني اجد ان الساحة تحتشد بالعديد من الاسماء الكبيرة التي اقف امامها منحنيا بكلل احترام وتقدير ، وكثير منهم  لم ينل جائزة ادبية في مسيرته ، فهل هذا ينتقص من مكانته وتجربته ؟ بلاشك هو يبقى كبيرا وشامخا رغم ابتعاده وابتعاد الجوائز عنه . ومعلوم ان هنالك حسابات كثيرة لاعلاقة لها بقيمة المنتوج الادبي تؤخذ بنظر الاعتبار في عملية التقييم من قبل اللجان المشرفة على التقييم في معظم الجوائز.وقد تكون حسابات سياسية في غالب الاحيان ، يمكن هنا ان نورد  بعضاً من الاسماء الكبيرة التي لم تحظى بجائزة  منهم : الشاعرالعراقي ابن مدينة الموصل رعد فاضل فهذا الصوت الشعري بتقديري وتقديرالعديد من الاسماءالنقدية الكبيرة من اهم الشعراء العراقيين الذين جاءوا مع مطلع سبيعينيات القرن الماضي ومازال مستمرا في الكتابة الشعرية ،ايضا شاكر سيفو وكرم الاعرجي وزهير البردى ومحمد صابر عبيد . اضافة الى ذلك ان الحصول على جائزة لابد أن  يضعك في واجهة المشهد لتكون تحت مرصد الاخرين نقادا وادباءً ينتظرون منك ان تقدم شيئا جديدا دائما تؤكد فيه استحقاقك للجائزة .ايضا يضعك في مواجهة شديدة مع نفسك حتى تتفوق على قدراتك بالطريقة التي لاتكررفيها تجاربك السابقة رغم تفوقها . فالجائزة اذن رغم طعم التفوق والنجاح الذي تمنحك اياه لكنها ترمي بثقل المسؤولية عليك  .
*ابداعك ينتشر في مجالات عدة فما بين الصحافة وحواراتك مع الادباء وتحليلاتك التي ترتدي في احيان كثيرة تناول الشان العام وفي الجانب الاخر يبرز مروان الشاعر والناقد المسرحي فهل هنالك مجال للتواصل ما بين تلك المحطات ؟
انا هكذا ولاأستطيع الاّ ان اكون بهذا الشكل ، ولانني اعيش في قلب المهزلة لذا لم يكن  بأمكاني ان اتفادها ، ولابد من اليقظة والحذر في  مثل هذه المواجهة ، والتعبير عنها باشكال تعبيرية متنوعة وفقا لما يفرضه عليك منطق الصراع الغير متكافىء وماتفرضه عليك طبيعة المعركة  وماتريد ان  تقوله ، ومحدوية وخطورة عقل  الطرف الاخر المتطرف الذي تخاطبه . كل هذا اضعه في اعتباراتي وانأ اتحمل مسؤوليتي كمثقف . . فأنا عندما اوجه خطابي الى طبقة السياسين اولئك الذين يملكون زمام الامور، وبيدهم يمسكون عصا السلطة التي  تحرك الاوضاع وتوجهها وفقا لما تشتهي مصالحهم الضيقة ، الجأ الى المقالة والتحليل السياسي الذي اجده يتناسب تماماً مع سطحية وضحالة المستوى الثقافي الذي يحيط بعقول هولاء الساسة عموما ، ولوتوفرت الفرصة لك وسألتهم  مثلا عن جاك دريدا  أوعلي بدر أو او سعدي يوسف أوغائب طعمة فرمان او سان جون بيرس أو عدنان الصائغ لما عرفوا الاجابة . لذلك من الخطأ وانت في مواجهة مع الاغبياء ان تلجأ الى لغة لايستوعبونها مثل اللغة التي تتواجد  في الشعر او الرواية او القصة عندها ستبدو انت امامهم احمقا ومجنونا مهما كان خطابك راقيا وساميا ومتفردا وحداثويا . لذا عليك ان تخاطبهم بلغتهم وأدواتهم وانت تسعى لايصال ماتريد قوله لهم في الوقت المناسب والمكان المناسب واللغة المناسبة .
*انطلقت من مدينة الموصل والان بحكم عملك فانت قريب من مشهد ثقافي اخر مكتنز بالكثير من الاسماء فما هو الرابط بين عالمي  محطة الخطوة الاولى  ومحطة العمل والترقب ؟
انا  هنا في هذا المكان والزمان البعيد عن الخطوة الاولى اشعر بخليط متناقض من المشاعر لكنني في العموم اشعر بالسعادة والامتنان لانني هنا . فلقد وفر لي الابتعاد عن مدينتي رؤيتها بشكل واضح بكل تفاصليها ، بجمالها الباذخ وعيوبها القاتلة ولولا هذه الفرصة لما استطعت ان اتحرر من عبئها واخطائها ومن ثم لاكتشافها من جديد وكأنني لم اعرفها ولم أعش ابدا فيها  ، كان الرحيل عنها ضروريا بعد ان امسكت بها مخالب الخوف والتخوين والترهيب ولم يعد بأمكانك ان تتمتع بلحظة من الحرية في التفكير والقول سواء كنت تنظر الى الماضي او تفكر في المستقبل ، في هكذا حال من الطبيعي أن تموت كلمة الحرية على شفاهنا قبل ان نتلفظ بها فما معنى ان تبقى سجينا ومعتقلا بمحظ اختيارك طالما  ان الفرصة متاحة امامك للخروج من المعتقل ؟
مامعنى ان تبقى صامتا ولاتقوى على الاشارة باصبعك على موطن الجرح ؟
مامعنى ان يحيط بك الكذب والكذابون اينما كنت رغم صور الهزيمة والخراب التي تحيط بك ولاتقوى على ان تقول شيئا من  الحقيقة ؟ إنَّ أنا الشاعر والفنان هاجسها التمرد ورفض الواقع بشكل دائم لان ذاته تحلم دائما بالغد وهي متواشجة بما فيها من قلق وافكار وتساؤلات مع عالم اخر متخيل .
*اسماء كثيرة كنت على تماس مباشر معها في خطوة الالف ميل ،وبعد هذه المحطات لمن توجه يد العرفان ..؟
انا مدين لاسماء كثيرة كان لها فضل التأثير على ذاتي الانسانية او شخصيتي الفنية سواء بشكل مباشر او غير مباشر . فهنالك اسماء لم التقي بها وكانت سببا ودافعا في بناء شخصيتي مثل العديد من الادباء والشعراء والفلاسفة الذين قرأت لهم، وهناك اسماء كانت قريبة جدا مني ورافقتني في محطات مهمة من حياتي ، مثلاً جدتي لأمي التي تعلمت منها معنى الكفاح والاعتماد على النفس وخالي الذي عدم عام 93 بسبب نشاطه السياسي المعارض والذي كان قد ايقظ في داخلي معنى الدفاع عن المبادىء حتى لو كان الموت هو الثمن . والمخرج شفاء العمري الذي من خلاله  ادركت معنى ان يكون الفنان مفكرا وحيويا في تفكيره وهو يقرأ العالم من خلال العمل الفني الذي يقدمه  .
*تتخذ القصيدة لديك طابعا مباشرا حينما تلتقي فيها ببؤساء وسياسيين فهل توجه دفة القصيدة الى القاريءدون منعطفات ؟
على المستوى الفني وضعتنا تراجيدية الحياة العراقية امام خيارات صعبة وقاسية فرضت علينا ان نقذف بانفسنا في بركة السياسة الاسنة رغماً عنّا لنسبح فيها دون ارادتنا بعد ان وجدنا مياهها القذرة تحيطنا بناوتحاول اغراقنا فلم يكن امامنا من  سبيل سوى أن نواجهها . لذا بعض القصائد التي اكتبها تجدها   تنعطف الى تناول ماهو يومي  ، وهذا يأتي عندما اكون مصاباً احياناً بحالة قاتمة من اليأس والاحباط نتيجة ماأرى من صور استهتار بحياة وكرامة الفرد رغم الحرمان الذي عاشه لعقود طويلة .ونتيجة لهذه الاوضاع  ترتسم في مخيلتي صور مخيفة عن الغد الذي سيمر على الاجيال اللاحقة والتي ستدفع هي الاخرى ثمناً باهظا من اعمارها واحلامها مثلما نحن دفعنا ،عندها لاأستطيع أن امنع نفسي من كتابة نص  تتسلل اليه تفاصيل كثيفة من الحياة اليومية لكنها لن تبقى في اطار صورتها المباشرة الفوتوغرافية التي اتلقاها في الوهلة الاولى انما اعيد انتاجها في مشغلي الشعري ولتأخذ بها مخيلتي الشعرية الى حدودها المطلقة والكونية ، لانني بكتابتي لها اوسس لعلاقة جدلية مابين الانا والذات ، الخاص والعام وبقدر ماأقترب من هذا اليومي فاأنا بنفس الوقت اسعى لافلات منه الى ماهو قرب الى التجريد الى ماهو متخيل رغم انني اريد ان اخاطب بهذه النصوص تحديدا عموم الناس وليس النخبة التي تربطني معها لغة اخرى وخطاب اخر .



113
                                           
                                                       نقد مسرحي :     
                                        مروان ياسين الدليمي / اربيل


الحرامية . .

إتقان اللعبة في صياغة الخطاب المسرحي  .






تأليف واخراج : رفيق نوري
تمثيل : حمه سعيد ، نوزاد رمضان ، تارا عبد الرحمن ، كوفار أنور ، تحسين اسماعيل ، كمال دانيال
مدير انتاج : هيوا سعاد
تاريخ العرض : 31/10/ 2011
مكان العرض : قاعة الشعب في اربيل
تقديم : منتدى عنكاوا للفنون بالتعاون مع مديرية الفنون المسرحية في اربيل
                                           

المنطق الجدلي
الدراما فن يستند في بنائه على الجدل بين الحاضر والماضي ، بين الواقع المرئي والمحسوس وبين واقع مفترض متخيل ، وفيما لو غاب الجدل عن الرؤية التي تحكم هذه العلاقة غابت الدراما ، فما جدوى ان تقلب صفحات الماضي دون ان تمتلك مجسا ناقدا يدقق من جديد في كنه ومسار الاشياء والاحداث ؟
 من هنا كانت اهمية الاعمال المسرحية لعدد من الكتاب الذين مروا في تاريخ المسرح العالمي ، ذلك لانها لم تخرج في بنائها عن المنطق الجدلي الذي كان يحكم رؤية الكاتب للاحداث والعلاقات الانسانية التي تناولها في نصه ليخرج بافتراضات وتصورات قائمة على توفر المنطق في بنائها .
وهنا ليس  بالضرورة ان يكون مايتوصل اليه الكاتب باعتباره حقائق ثابتة ينبغي تصديقها والقبول بها  باعتبارها استنتاجات لاتقبل الجدل والتقاطع والرفض ، بل يبقى مايتوصل له اي كاتب ماهو الا من باب الفرضيات التي تحتمل اوجها عدة تتراوح مابين الرفض او القبول لكن يبقى المنطق هو اللبنة التي ينبغي توفرها كقاسم مشترك في اية فرضية يتم طرحها من قبل الكاتب .
وفيما لو  ذهب الكاتب الى الاتجاه الاخر باعتبار مايطرحه من افكار ماهو الا حقائق ثابتة فأنه بذلك يكون قدم حكم على عمله بالفشل ، وبالتالي سينعكس ذلك على موقف ورد فعل المتلقىء للعمل الدرامي والذي سيتسم هنا بالرفض وعدم التواصل مع العمل ، ذلك لانه ينطلق من قاعدة خاطئة في تحديد ورؤية العمل الفني عندما يضعه في اطار مقفل على الافكار المطروحة فيه دون ان تكون  عرضة للنقاش والحوار والجدل في ذهن المتلقي . وهذه القاعدة الخاطئة تجعل من النص يسقط في هوة بعيدة تقصيه عن جنسه ومساره الفني المفتوح كما تلصق كمامات على فم المتلقين كي لايدخلوا معه في حوار جدلي،  وهذا هو ماينبغي ان يقوم به العمل الدرامي واي عمل فني .
 فما جدوى ان تقدم عملا فنيا دون ان تفتح الابواب مشرعة لحوار يتقاسمه المؤلف مع الاحداث والشخصيات التي يتناولها من جهة والمتلقين من الجهة الاخرى ولن ينتهي هذا الحوار مع انتهاء العمل الفني بل يبقى قائما حتى بعد الانتهاء من قراءة او مشاهدة العمل لفترات قد تطول او تقصر تبعا لعمق ومستويات الافكار والرؤى المطروحة بين طيات الحوار والصور الفنية التي يحملها العمل الفني .

المخرج المؤلف
مسرحية الحرامية التي كتبها وقدمها (نصا وعرضا مسرحيا ) الفنان رفيق نوري حنّا توفرت فيها جملة من العناصر الفنية  التي اشرنا اليها في المقدمة . فلم يكن نوري وهو يكتب هذا العمل يسعى الى تقديم مجموعة من الشخصيات الانسانية المتواجدة والمقيمة في مستشفى للامراض النفسية والتي تعاني امراضا نفسية مختلفة نأت بها معزولة عن المجتمع لتجتمع في مكان واحد افترضه فنيا  حتى يكون حاضنة مكانية مكثفة يمكن عبرها ومن خلالها بناء نسيج من العلاقات الانسانية فيما بينها لتكون توطئة للوصول الى اعماق تلك الشخصيات وصولا الى رسم دائرة واسعة من الاحداث والدوافع التي جعلت منها بالتالي مهزومة ومأسورة بمشاعر وهواجس وخيالات مريضة غيرواقعية انتهى بها هذا الحال في نهاية المطاف الى ان تكون في مستشفى للامراض النفسية والعقلية .
 ولكي نبقى في اطار المفاهيم الدرامية التي انطلق منها وبنى عليها هذا العمل لابد من الاشارة الى  ما يحسب له لصالح هذه التجربة عندما يكون مؤلف النص الادبي هو مخرج العرض .  نظراً لعمق التجربة المسرحية للفنان نوري التي تمتد لاكثر من ثلاثة عقود توزعت مابين التمثيل والاخراج وتدريس الفن المسرحي في معهد الفنون الجميلة ،  فقد انعكس ذلك بشكل واضح على طبيعة النص المكتوب على الورق الذي اتيحت لي فرصة الاطلاع عليه وقراءته والذي لم يكن سوى بمثابة مسودة اخيرة للخطة الاخراجية التي بني عليها العرض المسرحي .
وينبغي الاشارة هنا الى لغة النص التي كانت مكثفة وموجزة وخالية من الزخرفة اللفظية والبلاغية ــ التي عادة ماينشغل بها كتاب نصوص الادب المسرحي التقليديين ـــ ولتذهب اللغة في فضاء الايماءة والايحاء الذي يمنحها طاقة درامية تأويلية تحث المتلقي على التأمل والتفكير في مايراه ويلتقاه من شظايا الافكار التي تتاجج  وتتطاير نتيجة الصراع المحتدم في ذات الشخصيات ومع ذوات الشخصيات الاخرى .
ايضا ينبغي ان نشير الى ما توفرفي المسودة او المخطوطة الادبية من  نقاط انطلاق فنية كانت بمثابة هيكل فني واضح الملامح  لمعمار ألعرض المسرحي ، وقد خلا  في مجمل عناصره ( الاحداث ، الحوار ، الشخصيات ، فضاء الاحداث ، الافكار ) من اية تفاصيل  فائضة عن الحاجة يمكن التغاضي أوالاستغناء عنها .
وهنا يتضح مدى النضج الدرامي  الذي يمكن ان يتوفر في اي عرض مسرحي عندما يأتي من  مشغل مؤلف درامي له تجربة عملية بكل تفاصيل الشغل المسرحي على عكس النصوص التي يكتبها اولئك الذين يأتون غالبا من حقول الفن القصصي او الروائي او اي فن ابداعي اخر وهم لايملكون  اية تجربة عملية وميدانية مسرحية مما يوسم اعمالهم بطبيعة الحال بالترهل ، والاستطراد ، والحشو ، اضافة الى  احتوائها على تعليمات وملاحظات اخراجية لاقيمة ولاجدوى من الالتزام بها ) ومجمل ذلك لايساهم في بناء وتطوير الحدث الدرامي .
هذا اضافة الى ضعف المعرفة في بناء تفاصيل الفضاء الدرامي الذي تتحرك فيه الشخصيات  في اغلب هذه النصوص ، فأما ان يكون فضاء خياليا غير قابل للتنفيذ على رقعة الخشبة المسرحية لعدم توفر الدراية الواقعية الكافية بما تمتلكه من طاقة وقدرة وامكانات . او يكون فضاء غارقا في طبيعيته مما لايترك اية فسحة للخيال ان يلعب دوره في التجربة الفنية ،وليصبح بالتالي كتلة ثقيلة على الخشبة ، قد تؤدي اي وظيفة ممكنة الا الوظيفة الدرامية التي تغيب عنها  .

 سلطة المخرج
كان عرض الحرامية الذي تصدى لتقديمه مجموعة من الممثلين الكوردالمحترفين عرضا مسرحيا توفرت في منظومته ( البصرية والسمعية)  مجمل العناصر الفنية التي عادة ما  تسود الاعمال الفنية التي تنجح في استقطاب وعي المتلقي ووجدانه وتجعله وهو يتلقى التجربة الجمالية للعرض الفني وهو في حالة من التواصل والتوقد  الذهني والشعوري ، وهذا قصد جوهري لايغيب عن وعي المبدع  مطلقا كلما  اراد ان يكون في المواجهة مع اي مشروع فني جديد لم تتضح ملامحه بعد وكلما تصدى لتقديم عمل فني يعبىء فيه هواجسه وتأملاته وقراءاته الفلسفية والجمالية للقضية التي يسعى  لطرحها باطار رؤيته ومعالجاته الفنية التي تكتسب رشاقتها وتفردها الاسلوبي من خلال عمق التجربة الانسانية له بكل روافدها وهو يحرص كل  الحرص على نشدانها واكتمالها في البناء العام للتجربة الفنية  لكي يصل الخطاب المسرحي الى المتلقي في سياق جمالي وهو يمتلك عنصر المتعة بمعناها المطلق والشمولي( الفكري والعاطفي)  .
"المخرج هو المبدع الكللي للعرض المسرحي وهذا هو دوره الطبيعي الذي لاينافسه فيه احد"  اي بمعنى هو الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن النص والتمثيل وتصميم الاطار المادي للعرض (السينوغرافيا ) والمخرج رفيق نوري مارس دوره السينوغرافي كاملا في هذه التجربة  متلمسا طريقه على خشبة المسرح بالاعتماد عى مجساته الذاتية التي رسختها حرفيته ومهنيته المسرحية التي نطقت بجمله الدرامية  في مفردات لغة العرض البصرية والسمعية بعد ان طوعتها ووظفتها لخدمة الجملة الدرامية وهو يرحلها في البقع الضوئية التي كتبها بالوان محددة مابين الازرق والاحمر والاصفر لتنتشي اللحظة التعبيرية بطاقة من البوح والكشف الاستفزازي الايحائي .
كذلك  انغمر المكان الذي تدور فيه الاحداث ( المستشفى ) بمستويات متدرجة لقطع الديكور التجريدية التي جنحت لان تكون سلالالم غير متناظرة انفتحت في اغترابها التجريدي على واقعية العذابات التي حملتها اليها الشخصيات وحملتها بالتالي مدلولات جديدة وبعيدة عن ايقونيتها وهي تتحرك عليها بتعدد مستوياتها . هذا اضافة الى مفردة الاسرّة المتحركة على عجلات والتي دون عليها المخرج نوري اكثر من جملة درامية باشكال وتوظيفات متنوعة ومختلفة وهو هنا قصد أن ينحت اشكاله من وحي فهمه وتبنيه لمنهج الحداثة ولتحمل الدلالات  لديه بالتالي مدلولات متعددة ومتنوعة اخرى بعيدة عن وظيفتها الاجتماعية المستهلكة والمتداولة.

وفيما يتعلق بالممثلين المحترفين الذين اعتمد عليهم فقد تفادى نوري ان يزج نفسه في اشكالية قد لاتكون لصالحه عندما لم يغامر في الاستغراق باستثمار الطاقة الجسدية بما تمتلكه من كشوفات مشفرة  كما هو الحال في التجارب المسرحية الحديثة . ذلك لانه يدرك بحكم خبرته وفهمه لطبيعة الواقع ماهية القدرات المتاحة امامه والتي تربّت على نمط من الاداء الكلاسيكي يستند بشكل اساس على التعبير الصوتي ولايعير اهمية كبرى للطاقة التشفيرية  التي يملكها الجسد . وذلك للغياب التام في  استثمار( البيو ـ ميكانيك )  الذي كان قد توصل اليه مايرخولد كطريقة في اعداد الفيزيقي / البدني للمثل بهدف الانجاز الخارجي العاجل للمهام التي يكلف بها .وهو نقيض منهج المعايشة الداخلية للمعلم الاول ستانسلافسكي ، لذا حاول نوري  ان يستمثر مايمتلكونه من خزين حرفي ّوخبرة متراكمة في الاداء النمطي  ليوظفه بالاتجاه السليم  الذي يدخل في السياق الفني الذي يسعى لتقديمه . وهذه قضية فنية تواجه المخرج المعاصر في سواء في اقليم كوردستان او في العراق اذ مازالت اساليب اعداد الممثل لجسده ضعيفة جدا ولم  تأخذ اي جزء من اهتمامه ، لذا من الطبيعي ان تتعطل الطاقة التشفيرية لجسد الممثل ويبقى الصوت هو الوسيلة التي يعتمد عليها الممثل دائما  في التجسيد والمحاكاة والتشخيص .  وعليه لابد ان تأسف كثيرا عندما تجد ممثلا شابا يملك موهبة ناضجة وجميلة في التمثيل مثل (     ) ويملك اطلالة قوية جدا على الخشبة بما يتسم به ادائه من استرخاء وعفوية في اداء الفعل ورد الفعل قد يعجز عن الوصول اليه  الكثير من نجوم المسرح العراقي ، وهنا نستذكر مقولة للمعلم ستانسلافسكي " الشيء الرئيسي في فن الممثل لايكمن في الفعل ذاته بل في نشأة الميل الى الفعل نشأة طبيعية فهذا الميل هو بالضبط نصف الموهبة " فمثل هذا الممثل بهذا الحضور الاسر تأسف كثيرا له عندما تجده لايهتم ببناء جسده وترشيقه الى الحد الذي يمكنه  الخروج من حالة الترهل التي يعانيها والتي تسبب له البطىء الواضح في الحركة وبالتالي التعطيل التام لطاقة جسده التعبيرية . وهكذا هو الحال مع الممثلين المبدعين  (     ) و(   ) اللذان نجحا في تقديم دوريهما اعتمادا على مايمتلكان خبرة طويلة في المسرح الكوردي .وطالما الحديث هنا عن التمثيل لابد من  لذا ينبغي ان يصار الى اقامة دورات مستمرة لتدريب وتنمية المهارات والفعاليات الجسدية وبتعبير ادق ( مختبرات مسرحية ) ينتظم فيها من يعمل في مهنة التمثيل  حتى ترتقي قدرات الممثلين الى مديات افضل ولكي يستطيع المخرجون ان يستثمروا ويفجروا الطاقات المخزونة في جسد الممثل الكوردي . لان الجسد ماهو الاّ وسيط فاعل بين الانا والاخر .
اخيرا لابد من الاشادة بهذا العمل الذي امسك بخيوط اللعبة المسرحية بمهارة واضحة استثمر فيها المخرج رفيق نوري نزعته الى المزاوجة بين اساليب ومناهج متنوعة توزعت بين ماهو  تعبيري وتجريدي ورمزي . وقدم للمسرح في كوردستان عرضا فنيا ملأ فراغا واضحا بعمل مسرحي يتسم بمتعة الخطاب الفني  في المسرح الكوردي هو بأمس الحاجة اليه حتى يستعيد المسرح جمهوره الواسع الذي افتقده . ذلك لان مصطلح المسرحانية كما يؤكد د. صالح سعد في كتابه (الانا ـ الاخر ازدواجية الفن التمثيلي ) الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية يشير الى "الدور البارز الذي لعبه بقاء العرض المسرحي على خارطة الفنون  والاداب الانسانية كتعبير ضمني عن شوق الانسان الغريزي الى الفرح والاحتفال كمساحة مفتوحة للمشاركة وللابداع الجمعي "                                             
وختاما تحية لكل الممثلين والعاملين  الذين ساهموا فيه .

114

 
  المشهد السياسي العربي . . .  والكيل بمكيالين

الكيل بمكيالين عُرف بات يُمسك بمنظومة المشهد السياسي العربي بكل وضوح وهذا امر  ليس بجديد أو طارئ لكنه وبتقديرنا قد كََشف عن وجه سافر ومقلق مع بدء الحرب العراقية الايرانية عندما انقسم العرب وقتها على انفسهم وفي مواقفهم وفي ردود افعالهم ازاء تلك  الحرب ، وبدلا من ان يتحملوا المسؤولية كاملة في لعب دور فعال لايقاف نزيفها الذي كان يزداد يوما بعد اخر وعاما بعد اخر تحمّل البلدين ايران  والعراق  نتائجه الكارثية ثمانية اعوام على حد سواء.
في تلك الحرب  شاء الحكام العرب ان يكتفوا بمواقف جُلّها سلبية ، بعضها اتّسم باللؤم عندما اثر ان يكون في موقف المتفرج وكأنه يشاهد فلما حربيا يسقط فيه قتلى وجرحى بالعشرات على شاشة التلفزيون وهو مستمتع كل ليلة بما يشاهد ،ومواقف اخرى اتسمت بالتجاهل التام  لصور الموت والدمار وكأن لاشيىء يحدث ، واخرى ارتأت ان تزيد من سعير الحرب الطاحنة وتغذيها وذلك بالوقوف الى جانب احد الطرفين المتقاتلين  امّا علنا او خفية  من خلال مشاركة فعلية فيها ، سواء بجيوش اوقطع سلاح أو تمويل .
ونتيجة لكل تلك المواقف التي اطالت من عمر الحرب والتي  اقل مايقال عنها انها كانت مواقف تتسم بنفاق وانتهازية واضحين ، هذا اضافة الى تغليب للمطامح والمطامع  الشخصية بكرسي الزعامة على حساب  المصالح والقيم الاخوية والانسانية التي تجمع  الشعوب العربية مع الشعب الايراني الذي يرتبط معه بعلاقات تاريخية ودينية عميقة جدا.
ومن تداعيات  ذلك الانحطاط في مستوى الوعي والمواقف الرسمية العربية ازاء قضية ولحظة تاريخية فارقة ومفارقة أن سيكون له نتائج وتفاعلات اقليمية ودولية كبيرة  فيما تلاها من الاعوام  وسيدفع بالتالي منطقة الشرق الاوسط الى هاوية ومنزلق سياسي خطير لاوضوح لصورته النهائية وكانت اولى مقدماته : حرب الخليج الثانية عام 1990 بعد ان غزا العراق الكويت بقرار خاطى ء ومتسرع ومنفعل تورط فيه صدام حسين وورط العراق وشعبه ومستقبله فيه .
تلك الحرب جاءت بالاساطيل والقطع العسكرية الى منطقة الخليج  لتقيم فيها اكبر القواعد العسكرية الاميركية  لتكون منطلقا الى كل البقاع التي كانت تحلم بالوصول اليها في قارة اسيا طيلة ايام الحرب الباردة التي كانت قائمة بينها وبين الاتحاد السوفيتي سابقا قبل انهياره عام 1990. ولتسيطر على منابع النفط الذي كانت تسعى للوصول اليه  منذ العام 73 حينما لعب النفط دوره الفاعل والمؤثر في حرب تشرين ، عندما اوقفت السعودية صادراتها النفطية الى الغرب في تلك الحرب فأدركت في حينها اميركا والغرب معها خطورة بقاء مصادر الطاقة النفطية في الشرق الاوسط بعيدا عن سيطرتها وتحكمها. وسعت لاجل ذلك ألعمل بكل ماتملكه من قدرات استخبارتية من اجل الوصول الى منابع النفط .
وهاهي الفرصة قد جاءت مثلما ارادت وخططت عندما  استثمرت ماكان يحلم به صدام في تصدر الزعامة العربية بعد ان كان قد خَرج من حربه مع ايران وهو ممتلىء بمشاعر القائد المنتصر ، فدفعه ذلك الوهم والشعور الطاغي  بالقوة والقدرة التي لاتحدها حدود  ودون ان يدري الى الاندفاع كالاعمى نحو محرقة الموت بغزوه لدولة  الكويت ، ولتكون هذه المغامرة مقامرة على حياته ووجدوه ونظامه ولتصبح بالتالي  بمثابة الحجة التي امسك بها الاميركان للوصول الى ماكانوا ينوون الوصول اليه .
يمكن القول ان حلما واحدا فقط كان لوحده يجمع الزعماء العرب في كل المواقف والازمات والحروب التي عصفت بمصير الشعوب العربية ألا وهو : الطموح بالفوز بكرسي زعامة إمة عربية واحدة موحّدة لاوجود لوحدتها السياسية  الاّ في الشعارات والخطابات  السياسية الطنّانة ، بعد ان اصبح كرسي الزعامة شاغرا بغياب عبد الناصر، الذي كان ظله مهيمنا عليه ،طيلة وجوده في الحكم  .
ان المواقف الرسمية للحكام والانظمة العربية التي اشرنا اليها عندما قامت الحرب العراقية الايرانية عادت لتكرر نفسها مرة اخرى عندما سقط  نظام صدام حسين عام 2003 لكن هذه المرة كان تأثير تلك المواقف اشد قسوة وخطورة على المجتمع العراقي ، لان المعركة هذه المرة كانت في الداخل وليس على الحدود الخارجية للعراق ، أي في عمق المجتمع العراقي، في وجدانه وقيمه الدينية والمذهبية والقومية .
 فالمواقف العربية الرسمية بكل تنوعها وتقاطعها  كانت تصب في هدف واحد هو : اشعال وتأجيج الصراع داخل المجتمع العراقي نفسه ،وذلك بالاعتماد على التنوع المذهبي والديني والقومي الذي يتشكل منه الشعب العراقي ، خصوصا بعد أن تضررت وضعفت  العلاقات التي كانت تجمع هذه الفسيفساء العراقية لعقود طويلة  واصاب العفن بعض اجزائها  نتيجة للسياسات الخاطئة التي مارستها كل الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921.
 وقد ازدادت تلك السياسات خطورة وعنفا وخطأً منذ ان تسلم صدام حسين زمام السلطة عام 1979 ، مع اننا لانعفي احدا من كل الحكام العراقيين من مسؤولية الاخطاء التي ارتكبت بحق الاقليات والطوائف والقوميات دون استثناء . فالاقصاء والتهميش كان جاريا على قدم وساق طيلة قرن كامل وإن بدرجات متفاوتة بين حكومة واخرى وبين زعيم واخر .
ان الساسة العرب كانوا يعرفون جيدا التركة الثقيلة التي خلفها  نظام صدام بعد ما رحل عن سدة الحكم ، لذا لم يتركوا هذه الفرصة تضيع سدى دون ان يتم  استغلالها  بالاتجاه الذي يخدم مصالحهم المختلفة والمتقاطعة مع بعضهم  البعض،  لكنها  تلتقي وتجتمع رغم هذا الاختلاف عند نقطة واحدة كما التقت بكل تناقضاتها سابقا  اثناء  الحرب العراقية الايرانية الا وهي : اضعاف العراق بثقله ووزنه الدولي ، فهذا البلد بعمقه التاريخي والحضاري لم يزل يلقي بظله وحضوره واضحا على خارطة السياسة الدولية بسبب موقعه الجغرافي والاقتصادي رغم ضعف وهزالة  اغلب الساسة الذين حكموه طيلة قرن من الزمان ، فكيف الحال به عندما يحكمه خليط من الساسة الذين لاشأن لهم بأمور الحكم ! ؟ هذا اضافة الى انهم لايمتلكون اية خبرة في ادارة البلاد واثبتت الاعوام التسعة التي مرت بعد العام 2003  انهم  جاءوا الى الحكم  وكأن ليس في نيتهم بناء دولة حديثة تقوم على احترام حرية الانسان بكل صورها انما جاءوا وهم يحملون في دواخلهم رغبة عارمة في الانتقام من كل ماله صلة بنظام صدام وحزب البعث الذي طاردهم  واعتقلهم وشتتهم في المنافي حتى لو احترق جراء ذلك الاخضر مع اليابس ، وليتركوا في الاذهان صورة مشوشة وخاطئة عن معنى النضال والكفاح ضد الظلم وانظمته الفاسدة الذي عادة ماتتحمله نخبة من المجتمع تسموا فوق جراحها وعذابتها لتنهض وُتنهِـِضِ معها الشعب المقهور مما هو فيه قابع فيه من بؤس ،صورة تدعو الى الرثاء على كل المناضلين والمفكرين والفلاسفة الذين غيروا مجرى التاريخ في اكثر من لحظة تاريخية ولم يطلبوا لقاء ذلك ثمنا ، لاقصورا فخمة ولاحسابات خيالية في البنوك ولارواتب تقاعدية خرافية الارقام لهم  ولاحفاهم  .
 ومع ذلك لو كانت سياسة  انزال العقاب الصارم قد اقتصرت على من تسبب  بالظلم والقهر للشعب  العراقي من اركان ورموز النظام السابق لكان من الممكن قبول تلك الرغبة العارمة بالانتقام .
 لكن ان يتم تحميل طائفة بكاملها مسؤولية واخطاء وجرائم كل ماحدث قبل العام 2003 بكل قضّها وقضيضها لا لشيء إلاّ لانها الطائفة التي ينتمي لها كل الحكام الذين مروا على تاريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها وانتهاء بصدام حسين فهذا بلاادنى شك خطأ كبير، وقد بانت نتائجه خلال الاعوام التسعة التي مرت من عمر البلاد عندما وجدناها تغرق في دوامة  من العنف والفوضى حتى هذه الساعة ،  ووفرت بذلك ارضية مناسبة لكل القوى العربية اولا والاقليمية ثانيا لان تدخل الساحة العراقية من النوافذ والشقوق والجحور تحت جنح الظلام الكثيف الذي صار يخيم عليها وصارت تلعب فيها وفقا لما تهوى وتشتهي في التدمير ،وكانت  مشاعر الانتقام والتصفية التي اتصف بها معظم الساسة العراقيون واستبعادهم لاية فرصة حقيقية وجدية لطيّ صفحة الماضي والبدء في صفحة جديدة تقوم على اشاعة روح التسامح والعفو عمن لم يرتكب جرما من اتباع ورموز  النظام البعثي قد أوجد الفرصة المناسبة لتلك القوى حتى تلعب دورها هذا بكل حرية وقوة  .
كان ينبغي على ساسة العراق الجدد فيما لو ارادوا ان يبنوا بلدا جديدا على انقاض ماخلفه نظام صدام  ان يتخذوا من تجربة نظام جنوب افريقيا بزعامة نيلسون مانديلا نموذجا لهم في كيفية التعامل مع حقبة مؤلمة ومُرّة بكل رموزها ، وهذا استدعى منهم ان يمضوا الى الامام  ولم يتوقفوا عند الحقبة السياسية السابقة لهم  طويلا ، لذا لم يغرَقوا في رمالها المتحركة ، بل انطلقوا من فكرةٍ ومبدأ واضح يقوم على احترام القانون والعدالة دون التورط في القفز والتجاوزعليه ليصبح  مطيّة سهلة يتم استخدامها وفقا للاهواء والرغبات والمصالح الضيقة للساسة والاحزاب الحاكمة مثلما هو حاصل في العراق .والصورة الاقرب الينا من تجربة جنوب افريقيا  هي : تجربة اقليم كوردستان العراق عندما لجأ قادته الى الصفح والمغفرة عن كل الاكراد الذين كانوا في خدمة نظام صدام وحزبه ، واعطيت لهم  الفرصة للتكفيرعن خطاياهم ،وذلك بالسماح لهم مرة اخرى بالاندماج بين صفوف المجتمع ليصبحوا مواطنين صالحين يشاركون في بناء كوردستان التي بدأت تفرض حضورها وتجربتها الناهضة شيئا فشيئا امام العالم  واصبح البون شاسعا بينها وبين بقية اجزاء ومحافظات العراق .
وهنا اتسأل واوجّه اسئلتي للساسة الذين يحكمون العراق كيف يمكن قبول اسقاط التهم والجرائم المنسوبة الى عدد من الارهابين الذين يحملون جنسيات عربية غير عراقية ممن تورطوا بجرائم بشعة ضد العراقيين الابرياء تنوعت جرائمهم مابين  تفجير وتفخيخ اضافة الى عمليات قتل وتطهير جماعي وسبق أن اعترفوا بها وعلى اساس اعترافاتهم تلك  تمت ادانتهم . كيف يمكن قبول فكرة اطلاق سراحهم بعد ان توسط القادة والزعماء العرب الجدد في  ليبيا وتونس  الذين استلموا زمام السلطة في بلدانهم بعد ان كانوا قد ثاروا على ظلم وعبودية وفساد حكامهم . . كيف يمكن قبول هذا ؟  . . ولنفترض ياساسة العراق  انكم قبلتم الوساطة وعملتم بمبدأ المسامحة وطي صفحة الماضي مع من اجرم وقتل شعبكم ثم اطلقتم سراحهم اكراما لعيون الغنوشي وعبدالجليل . أما  كان من الاولى والاجدر بكم  ان تسامحوا ايضا نظرائهم من ابناء شعبكم وجلدتكم  ؟
نرجوا منكم ساستنا وحكامنا وقادتنا ان تعدلوا وأن  لاتكيليوا بمكيالين كما فعل الحكام العرب مع شعبكم .


                                  مروان ياسين الدليمي
                                 
   

115
لاأحد يعلم سوى الحكومة . .


الدعوات التي وجهت من قبل الغنوشي زعيم حزب النهضة الاسلامي في تونس ومصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا الى الحكومة العراقية بالعفو عن عدد من اعضاء تنظيم القاعدة من الذين يحملون الجنسية التونسية والليبية ممن ثبت تورطهم  في جرائم ارهابية ضد الشعب العراقي وادينوا امام القضاء بها وصدر بحقهم احكاما تتراوح مابين الاعدام والمؤبد تلك الدعوات تثير الريبة والشكوك حول الاهداف والدوافع التي تقف ورائها ،كما تلقي بظلال من الشك حول وجود علاقة وثيقة مابين تنظيم القاعدة وعدد من القوى والاحزاب الكبيرة والفاعلة ذات التوجهات  الاسلامية في النظم الجديدة التي اسقطت القذافي وزين العابدين وحلت مكانهما في الحكم . وإلاّ مامعنى ان تأتي هذه الدعوات بالعفو عن  اشخاص ثبت ارتباطهم التنظيمي والعقائدي بالقاعدة . ؟
ان هذا يبعث القلق في ماستؤول اليه اوضاع المجتمع المدني وحقوق الانسان وحرية التعبير والتفكير في هذين البلدين.وهي اشد خطورة فيمالو قورنت بمصر وكما يبدو من ظاهر الصورة فيهما للمشهد السياسي ان تنظيم القاعدة يتحرك بمساحة واسعة جدا من خلال عدد من الاحزاب التي تحمل تسميات اسلامية لكنها تنتمي من حيث الجوهر والاهداف البعيدة  الى الفكر المؤيد والمساند لتنظيم القاعدة .  وهذا ماكانت قد اشارت اليه التقارير من ان قائد الجناح العسكري للمجلس الانتقالي الليبي كان عضوا في تنظيم القاعدة وانه كان  معتقلا في معسكر غوانتاناموا وتم تسليمه بعدئذ الى السلطات اللليبية ايام القذافي .
كما ان الكلمة التي القاها مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي في يوم اعلان النصر بعد القضاء على القذافي من مدينة بنغازي والتي اكد فيها على اعتبار الشريعة الاسلامية هي المصدر في القوانين التشريعات التي ستصدر في ليبيا الجديدة بعد القذافي . اعطت الدليل والبرهان على المشتركات المنهجية والعقائدية التي يرتبط بها القادة الجدد مع تنظيم القاعدة .
من هنا يمكن الوصول الى حقيقة الدوافع التي تقف وراء تلك الدعوات باصدار العفو عمن تورط بجرائم ارهابية من الليبين والتونسيين في العراق . ويبدو ان الحكومة العراقية من خلال التزامهاالصمت ازاء تلك الدعوات تفكر في رد الجميل الى ليبيا بعد ان زودتها بمعلومات عن محاولة انقلاب في العراق كان يتهيأ لها البعثيون بدعم من القذافي شخصيا قبل سقوطه . حتى لو تغاضت عن الدماء الزكية التي سفكت من العراقيين الابرياء
 من قبل اولئك المجرمين .



     مروان ياسين الدليمي
الاحد ‏، 15‏ تشرين الثاني‏، 2011




116

 دلالاتُ المشهدِ الاخير للقذافي .

من مصائب الزعماء العسكرالذين ابتليت بهم وبأنظمتهم  المجتمعات العربية  أنهم  لم يفكروا جدياً بأية ستراتيجية تنموية تنتشل بلدانهم من واقع بائس ومتخلف كان قد تغلغل في  كل الاصعدة والبنى ــ اقتصادية واجتماعية ، وثقافية ــ  بل على العكس من ذلك كانوا منشغلين بكل مايملكون من قدرة محدودة على التفكير ــ بفعل ضحالة ثقافتهم العلمية وبكل ماكانت تملكه البلاد من قدرات اقتصادية ــ في بناء المنظومة الامنية بكل تسمياتها وتشعباتها التي تؤمّن لهم اسكات الناس وقمع احتجاجاتهم  ولم يكن ذاك الجهد يرمي في حقيقته واهدافه سوى الحفاظ على عروشهم وكروشهم التي تضخمت وترهلت  لتصل كما يطمحون ويخططون الى احفادهم واحفاد احفادهم ، والقذافي كان واحداً من اولئك الزعماء العسكر،  وفي المقابل كانت الشعوب العربية تزداد بؤسا وفقرا وجهلا.
 وهكذا استمر هذا الحال على ماهو عليه طيلة ستة عقود واكثر لتصل  فيه المجتمعات العربية الى حالة من غياب الوعي التام الى درجة لم تعد تدرك ماوصلت اليه من بؤس في الوجود وفي الفاعلية  اخذين بنظر الاعتبار  ان وسائل الاتصال والاعلام المرئي لم تكن بهذا الشكل من الاتساع والتقدم وسرعة في ايصال المعلومة كما هي عليه في يومنا هذا ، لذا كانت المجتمعات العربية حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي ــ عندما ابتدأ البث الفضائي الدخول الى عالمنا العربي ــ تعيش عزلة قسرية مفروضة عليها حتى بعد ان دخل البث التلفزيوني في مطلع ستينيات القرن الماضي ، ذلك لان هذا البث كانت  السلطة قد احتكرته ووظفته ودجنته بشكل سيء وخبيث بما يخدم خطابها وايدلوجيتها التي اعتادت ان تكذب في كل شيىء حتى في نشرة الاحوال الجوية، وبدت الشعوب العربية ازاء ذلك وكأنها قد آمنت بقدرها وأن لامفر ولاخلاص من ارادة القدر التي شاء الله ان تكون هكذا . . لقد ترسخ هذا الاعتقاد وهذه القناعة لدى عموم الشعوب العربية التي كانت ولم تزل تشكل نسبة الامية فيها 70 % من مجموع السكان ، وكان لعوامل كثيرة اخرى تظافرت مع المخططات الامنية للانظمة العربية السياسية  من اجل ان تبقى عموم الناس قابعة في جهلها ومعتقداتها الغيبية التي تعلق عليها  بؤسها ولعل اخطرها واشدها فتكا في عقول العامة هي منظومة الفكر الاسلاموي التكفيري الذي ساهمت الانظمة العربية في نموه واشتداد على الرغم من اختلافها وتقاطعها معه وقمعها له في غالب الاحيان  لكنها ورغم ذلك كانت في جوهر تفكيرها السياسي  وخططها الامنية  تضعه في خانة الاصدقاء الذين تمد  لهم يد العون لتساعدهم على الظهور كلما شعرت السلطة بخطر ما قد يهدد وجودها واستمرارها في الحكم  من قبل القوى الليبرالية والعلمانية واليسارية ، لذا كان اصحاب هذا الفكر المتطرف ودعاته بكل تشكيلاتهم الحزبية ومسمياتهم السياسية لايترددون في انتهاز الفرصة التي كانت الانظمة السياسية تمنحها لهم للاعلان عن انفسهم في مواجهة اعداء المجتمع من ليبراليين وعلمانيين ويساريين كفرة  ـ كما يصفونهم  في خطاباتهم ــ  والحد من نشاطهم وفعالياتهم بشتى اساليب الترهيب والترغيب والتكفير وهذا مافعله كل القادة العرب ابتدأً من السادات وانتهاء بالقذافي رغم ان نهاية البعض من زعماء العرب كانت قد انتهت بشكل مأساوي على ايدي أولئك  المتطرفين دينيا !.

التطرف يدخل من الابواب
هذا الوضع الشائك والمعقد الذي ابتليت به المنطقة العربية بدأ يفرز قيحه مع سقوط نظام صدام حسين وليستمر تدهورا وخطورة مع ربيع الثورات العربية التي ابتدأت بثورة الشعب التونسي  وسقوط علي زين العابدين ومن ثم نظام حسني مبارك وبعده القذافي .
فالصورة الان في هذه البلدان التي شهدت هذا التغيير( العراق ، تونس ، مصر ، ليبيا )  تثير الكثير من القلق بل الرعب لدى الكثير من المراقبين والقوى التي تقدس الحرية الفكرية  وتحترم الحريات والحقوق المدنية التي ينبغي ان يتمتع بها الانسان  بعد أن كانت مدعاة للتفاؤل بمستقبل مشرق وجديد لحرية ألفرد والمجتمع ، اذ برزت على سطح المشهد المجتمعي  قوى سياسية  عديدة ذات هوية دينية اسلامية يغلب على معظمها سمة التطرف في الفكر والممارسة موجهة ضد احزاب وفعاليات سياسية غير اسلامية ، اضافة الى بقية مكونات المجتمع الاخرى التي  تختلف عنها في الانتماء الديني أو الطائفي . واخذت هذه القوى تمارس دورا ارهابيا واضحا ضد مكونات مختلفة من المجتمع أفرادا وجماعات ولم يقف امامها اي رادع قانوني مستغلة بذلك  ضعف وانهيار المؤسسات الامنية والعسكرية للسلطة بعد سقوط رموزها وافتضاح دورها المشبوه في افتعال ازمات واحتقانات داخل مكونات وقوى المجتمع مما جعلها غير قادرة على الرد والسيطرة على ماتشهد البلاد من فوضى وعنف وتطرف .
ان من يراقب الاوضاع التي ترسم صورة المشهد السياسي والمجتمعي للمنطقة العربية لابد ان يشعر بالقلق الشديد ازاء ماستؤول اليه مجريات الحراك السياسي بين قوى لها سمة دينية يغلب عليها التطرف واخرى تنأى بنفسها وبهويتها عن الصبغة الدينية .
فالصراع هنا بدا واضحا بين قوتين وفلسفتين ومنهجين ، يسعى كل منهما لاقامة نظام سياسي يقود المجتمع والبلاد ويرسم صورته وهويته التي تحدد علاقاته وصداقاته واعداءه في الداخل والخارج .
ويبدو حتى هذه اللحظة ان الغلبة للقوى الدينية ( تونس ، مصر ، ليبيا ، البحرين ، سوريا ، اليمن ، ) وذلك يعود لعدة اسباب ،تعود في مجملها لمصلحة سرعة رواج مشروعها السياسي ، فالبيئة المتخلفة التي تحيا بظلها المجتمعات العربية المغيبة عن الوعي بفعل عوامل الفقر والامية والتاريخ الطويل من القهر والتسلط  وسياسات التجهيل الحكومية ليست سوى ميدان نموذجي  يتحرك فيه  الفكر الاسلامي المتطرف بحيوية وتأثير لاحدود لهما  تعجز بقية القوى الاخرى عن التحرك والتأثير فيه  مثلها .
وعلى هذا  فلن تأخذنا الدهشة ونحن نرى جيش الفقراء والمقهورين الذي التحق بالثورة وركب موجتها في البلدان العربية ــ دون ان يعرف الى اي مصير غامض تتجه به ـ  لن يتوانى أبدا عن ارتكاب افضع الجرائم واكثرها حماقة ضد رموز الانظمة البائدة  وضد كل القوى الاخرى التي تختلف عنه في الدين والطائفة والايدولوجيا ،وهو بذلك يرتكب مرة اخرى كل السيئات والاخطاء التي سبق ان ابتلي بها ووقعت عليه من قبل النظام السابق الذي ثارهو عليه . !  . . وهو هنا في هذا السلوك الذي انزلق إليه يبيح لنفسه ماكان يحرّمه على غيره ،من عنف وقتل وقهر وانتهاك لحقوق الانسان وكرامته الادمية .

لم يعد الطريق آمناً
لقد كانت لحظة القبض على القذافي من قبل الثوار  خير دليل وشاهد على مانذهب اليه ، اذ كان سلوكهم بمافيه من قسوة وعنف ووحشية ماهو إلاّتعبير صارخ وواضح  على أن عموم الشعوب العربية قاطبة معبأة بطاقة كامنة من مشاعر بدائية غاضبة وعنيفة مازالت تستمد طاقتها من : تربة قيم بدوية وقبلية  لم تستطع ان تثلمها برامج التمدن الشكلية التي اقامتها تشكيلات الانظمة السياسية للدول العربية الحديثة منذ تأسيسها في مطلع القرن العشرين .وعقول مغيبة عن الوعي والادراك بحقوق الانسان نتيجة مارتكبته الانظمة السياسية التقليدية العربية من سياسات منظمة كان هدفها ان تبقى عقول عموم الناس البسطاء وهم الاغلبية مقفلة ترزح تحت سلطة محرمات ومقدسات يختلط فيها الواقع بالخيال والمنطق بالخرافة .
 بل يمكننا القول ونحن ازاء هذه الصورة القاتمة ان نقر بصعوبة الطريق الشائك الذي يمتد امام القوى التقدمية ( احزابا  ونخبا مثقفة علمانية وليبرالية اضافة الى النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني ) وهي تخوض من اجل اثبات وجودها وشرعيتها فقط صراعا ونضالا مدنياً سلميا في مجتمع شرقي عربي عاد الى الوراء في منظومته الفكرية والاخلاقية الى ماقبل الثورة الصناعية كما صرح بذلك الساسة الاميركان عندما كانوا يستعدون لشن هجومهم العسكري على العراق بعد غزو صدام حسين لدولة الكويت 1990 وتحقق لهم ماسعوا لاجله . في خلق مجتمعات عربية تسودها الفوضى ويعمها صراخ القوى المتصارعة على السلطة كل يسعى بمايملك لفرض اجندته وافكاره حتى ولو تم ذلك بالترهيب والتخوين والتكفير .









                               مروان ياسين الدليمي

117
المدارس لتلقّي  للعلم فقط  . .

تعليقا حول قرار متوسطة الحكمة في ناحية عنكاوا . .
 بعزل الطلبة بصفوف  وفقا لانتمائهم الديني !


تاريخ خاطىء 
عندما نريد ان نبني دولة قائمة على تقديس المواطنة على انقاض نظام عاش فيه الناس تحت ثقل منظومة من القوانين المتخلفة عن العصر وعن المنطق والعدالة الانسانية، كانت تكرس التفرقة والتمييز بين المواطنين على اسس لامعنى ولاقيمة لها ( قومية ،دينية ،طائفية )  فمن الطبيعي  ونحن في مرحلة البناء لمنظومة جديدة  للقيم الانسانية التي ينبغي  للفرد وللمجتمع ان يؤمن بها و يتمسك بها ان نترجم هذه القيمة الفلسفية لمعنى المواطنة  اولا في المؤسسات التربوية والتعليمية بكل مراحلها وخصوصاً في مراحل التعليم الاولى ( رياض الاطفال والمرحلة الابتدائية ) في المناهج وفي اساليب التعامل . ذلك لاننا عندما نضع الحجر الاساس للمجتمع الجديد القادم وبدون ان نولي هذه المؤسسات التربوية هذا الاهتمام لن نتمكن من السير في الاتجاه الصحيح والسليم الذي خططنا له ونحن نتوق لبناء مجتمع خال من التعصب والانغلاق والتطرف .
ومعلوم لنا ان مجتمعاتنا الشرقية تعاني شعوبها بمختلف انتماءتها العرقية والدينية وخصوصا( الاقليات ) من شعور قاس بالانغلاق على نفسها بسبب عدم انفتاح المجتمع بمكوناته الاخرى عليها وعلى بعضها البعض .
و في بيئتنا الشرقية يسود شعور عام بالشك الدائم من المكون الاخر وعدم الثقة به وانتهاز اية فرصة للنيل منه ، ولم يكن هذا الوضع المعقد والملتبس بجديد او طارىء على مجتمعاتنا بل كان ملازما له لعقود طويلة تمتد الى بداية تأسيس الدولة العربية الاسلامية ( الاموية والعباسية ) واستمرت تتفاعل هذه المشاعرخلف الستار وتحت سطح المجتمع الذي يبدو خاليا من هذه الاحتقانات في الظروف التي تكون فيها سلطة الدولة قوية ومسلطة على الناس،  لكن ما أن يدب الوهن والضعف في جسدها عندها تبرز على السطح مشاعر الكره والشك والتخوين مابين المكونات الدينية والقومية  ليصل في كثير من الايام والاحداث الى حد شيوع عمليات النهب والقتل لكل الاديان والطوائف والاقليات التي لاتنتمي الى الاغلبية التي  يتكون منها المجتمع  وهذا مانجد له شواهد في كل العهود والانظمة التي مرت علينا طيلة اكثر من الف عام  سواء في العراق او في بقية المناطق العربية .
والملاحظ اننا لم نجد في مسيرة هذا التاريخ حاكما او نظاما سياسيا سعى جادا من اجل ان يكون افراد المجتمع متساوون امام القانون او السلطة بغض النظر عن الانتماء الديني او الطائفي او العرقي وحتى فيما لوحاول احد ما فأنه غالبا ما يكون قد اخفى وراء ذلك هدفا اخر يسعى اليه لاصلة له بالنية المعلنة بتحقيق العدالة للمواطنين .

الصحو على عالم اخر
 وعليه ونتيجة لهذا التاريخ الخاطىء للكل المنظومة القيمية التي حكمتنا، اصبحنا في مطلع القرن الواحد والعشرين في ازمة حقيقية مع انفسنا اولا ومع العالم ثانيا بعد ان خطى العالم خطوات واسعة خلال القرن العشرين في تثبيت القيم الانسانية التي تدعم حقوق الانسسان في حرية المعتقد والتفكير بينما بقيت الشعوب في  المنطقة العربية على حالها المزري  الذي ورثته منذ اكثر من الف عام . وكان لثورة الاتصالات التي شهدها العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين الدور الاهم في تحريك الوعي لشعوب المنطقة العربية والسعي لنسف وتغيير منظومة القيم التي تحكمها والتي تكرس بموجبها العنف والفقر والتطرف .
كان للعراق بعد العام 2003 دور وحصة فيما حصل  من تغيير في المنطقة .رغم ماتمر به التجربة العراقية من امتحان عسير يبدو من خلال مؤشرات الاحداث وسلوك الساسة والزعماء الذين يقودونه من المنطقة الخضراء انهم غير جادين في بناء دولة المواطنة التي تقدس حرية الفرد وتحترم القانون دون ان يكون للانتماء الديني او القومي او الطائفي اي تأثير في ذلك .
فكل الوقائع تشير سواء في ماتم تثبيته في الدستور او فيما ينتج من مواقف الساسة وزعماء الاحزاب لايقدم الدليل الدامغ على ايمانهم بالشعارات التي طالما يتاجرون بها في خطاباتهم وتصريحاتهم من على شاشات الفضائيات . بل غالبا ماينساقون مندفعين  وراء ردود افعال تدفعهم اليها انتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية وهذا ما دفع بأوضاع البلاد الى الاحتقان والعنف المستمر بين المكونات منذ العام 2003 على عكس ماكنا نتوق ونحلم به بعد ان شنفت اذاننا من قبل الساسة بمفاهيم الديموقراطية والعدالة والتعددية الخ من المفاهيم الانسانية التي خلقت اوربا واميركا بوجبها مجتمعات يسودها القانون والحرية الفردية والانتماء للوطن اولاً واخراً،  رغم تعدد واختلاف الاعراق والمكونات التي تشكلت منها تلك المجتمعات .

 القرار الخاطىء
كان لابد من هذه  المقدمة الطويلة  قبل الحديث عن مسالة مهمة اثارتني واستفزتني هذه الايام مع بدء العام الدراسي الجديد في اقليم كوردستان العراق ، عندما علمت من ولدي الذي ابتدأ مشواره الدراسي في الاول متوسط هذا العام في مدرسة ( الحكمة ) التي تقع في ناحية عنكاواالتابعة لمحافظة اربيل بأن ادارة المدرسة قد فصلت الطلبة المسلمين عن المسيحيين فأصبح للمسلمين صفوفا يدرسون فيها والمسيحيون صفوفا اخرى وذلك لكي يتجنب الطلبة المسلمون الخروج من الصف اثناء درس السرياني الذي يتلقاه الطلبة المسيحيون وايضا لكي يتجنب الطلبة المسيحيون  الخروج من الصف اثناء درس التربية الدينية الذي يتلقاه الطلبة المسلمون . . لقد عملت ادارة المدرسة هذا الاجراء سعيا منها لتلافي الاحراج الذي قد يصيب الطلبة من كلا الطرفين. ! وبات امرا معلوما ان كوردستان العراق قد وفر مكانا امنا لالاف العوائل العراقية النازحة والمهجرة منذ اندلاع العنف الطائفي بعد العام 2003
وانخرط ابناء تلك العوائل من مسيحيين ومسلمين وصابئة في مدارس الاقليم اضافة الى المدارس التي تدرس باللغة العربية والتي انشئت خصيصا لابناء هذه العوائل .
أنا لاأظن ان هذا الاجراء الذي توصلت اليه ادارة مدرسة الحكمة يفضي الى الحكمة والعقل في معالجة القيم الخاطئة التي ابتلينا بها لعقود طويلة والتي اشرنا اليها في المقدمة الطويلة اعلاه واعلم جيدا ان العقلاء في الاقليم يشاطرونني رأي هذا وهم يبنون وطنا امنا وعادلا يتسع للجميع .
 نحن بحاجة الى قيم تدعو افراد المجتمع اديانا وقوميات وطوائف الى الاندماج والتفاعل مع بعضها البعض دون حواجز وعقبات لاصلة لها  بقيم المواطنة التي ينبغي ان نكرسها وحدها دون غيرها .


العقدة امام المنشار
ان الاجراء المتسرع  الذي اتخذته ادارة متوسطة الحكمة دون دراسة معمقة
 ـ  ودون ان تقصد من ذلك سوءاً بالتأكيد  ـ  سوف يزيد الشقة والحساسية والانعزال بين الطلبة على اساس الدين وينسف بذلك كل القيم الاخوية والانسانية التي تجمعهم قبل اي انتماء اخر .وقد عبر ولدي بدوره عن امتعاضه ورفضه لهذا الاجراء الذي ابعده عن اصدقاءه وزملاءه وكان موقفه هذا هو الدافع لكتابة هذا المقال .
وكان ينبغي على من وضع المناهج الدراسية ان يستبعد تماما الدروس الدينية منها لكي لاتوضع العقدة امام المنشار ، فالتربية الدينية مكانها الكنائس والجوامع والبيوت وليست رياض الاطفال والمدارس ، والا سوف نجعل من المدارس حواضن طبيعية للشك بالاخر وعدم الثقة به ومن ثم ستصبح المؤسسات التربوية ميداناً لنمومشاعر العزلة والتطرف والعنف .




                                          مروان ياسين الدليمي

118
المنبر الحر / من يحكم العراق !؟
« في: 14:20 11/09/2011  »
من يحكم العراق !؟

من حقنا ان نسأل فيما لو كان ينظر الينا من قبل الزعماء والساسة على اننا نملك صفة المواطنة الكاملة في وطن اسمه العراق، ولدنا وعشنا فيه، ودفعنا ثمنا باهظا لاجله من اعمارنا واحلامنا . .
من حقنا ان نسأل ــ لكي نزيح دهشتنا واستغرابنا ــ عن الحاكم الفعلي  للعراق، هل هو مقتدى الصدر أم نوري المالكي بعد ان تناقلت وكالات الانباء خبرا مفاده ، ان المالكي قد استنجد بالحكومة الايرانية لكي تقنع الصدر بأن لايدعو اتباعه للخروج بمظاهرة !؟
ومن حقنا ان نسأل ايضا ، هل نحن متساوون أمام القانون في العراق الفدرالي التعددي الديموقراطي الجديد ؟
وهل يحق لي ، انا المواطن البسيط ، مايحق لغيري في الاحتجاج والرفض والتظاهر ضد الفساد والسرقة والبطالة  دون ان اتعرّض للمضايقة والملاحقة والضرب او الاعتقال  ؟
هل نحن  حقا في دولة مدنية ــ طالما حلمنا بها ــ ولامكان فيها لاية مظاهر عسكرية أومسلحة ،أم اننا نحيا في دولة اخرى لم نفهمها بعد  ،يحق فيها لكل فرد او جماعة ان تشكل مليشيات وجيوش طائفية أومذهبية ؟

هل خرجنا من بركة تقديس القائد الفذ الملهم  الضرورة أم اننا مازلنا ندور في نفس الحلقة المفرغة  لكن بتسميات اخرى ؟
وسؤالنا الأهم هنا  : هل يحق لنا مايحق لغيرنا  في التظاهر علنا ، في الشوارع والساحات العامة وبشكل منظم اقرب في صورته الى التنظيم العسكري سواء في المسير، أوالزي، أوالهتاف ،أوالشعارات . . وأن نختار لهذا الاستعراض  التوقيت الزمني  الذي نريد ، والمكان الذي نريد ؟
هل يحق لنا ـــ دون ان يعترض رغبتنا احد ما ــ  ان نشكل جيوشا ونسلحها ونستعرضها امام اجهزة الدولة ــ الامنية والعسكرية ــ وامام العالم كله ؟

وهل يحق لنا ان نطالب اجهزة الدولة الامنية بحمايتنا ورعايتنا فيما لو خرجنا الى الشارع واستعرضنا قواتنا وقدراتنا، و أن نلزم كذلك  الاجهزة الاعلامية الرسمية ــ السمعية منها والمرئية ــ  ان تقوم بتغطية مباشرة لااستعراضاتنا من الالف الى الياء ؟

من حقنا ان نسأل :
ماهو شكل الدولة التي نحيا فيها ؟
من يحكمها ؟
من المحكوم فيها
من المواطن فيها ؟
اين حدود الحرية فيها . .  ومن يرسمها ؟

اخيرا نقول : هل يحق لنا أن نسأل هذه الاسئلة  أم  اننا ــ دون ان نعي ــ  قد تجاوزنا خطا احمرمرسوما لنا ، وصدقنا بكل براءة وطيبة وسذاجة ــ أنفسناــ  بأن هنالك فعلا من سيسمعنا ؟


                              مروان ياسين الدليمي

119
ملاحظات عامة  في الانتاج الدرامي العراقي


وانا في صدد التعليق بشكل موجز على  الانتاج الدرامي التلفزيون العراقي . . في البدء اقول ان الدراما العراقية التلفزيونية لازالت لاتمتلك شخصية خاصة بها كما هو الحال مع الدراما المصرية والسورية وايضا المغربية التي لم نلتفت لها بسبب حاجز اللهجة المغربية التي لم نتعود عليها بعد  .
فالدراما العراقية تسعى دائما لاستنساخ مايتم انتاجه سواء في مصر او في سوريا ، وهذا على الاقل يظهر بشكل صارخ في الموضوعات التي يتم تناولها ( الحارة الشعبية ، دور الضباط في صنع تاريخ العراق السياسي . المطربات وعلاقاتهن مع علية القوم من الشخصيات السياسية . الخ ) والى جانب هذا الاستنساخ الذي اضر كثيرا في بناء دراما عراقية ذات خصوصية وملامح  عراقية فإن الجانب الفني هو الاخر يعد المشكلة الاساسية التي عادة ماتعجل في القضاء على اي ( سيناريو )يمكن ان تتوفر فيه عناصر درامية ناضجة لدى كتاب مشهود لهم بالخبرة والدراية الحرفية  كما هو الحال مع صباح عطوان وحامد المالكي على سبيل المثال .
 والجانب الفني نقصد به  ( الاخراج + الاضاءة + التمثيل + الانتاج ) فكل عنصر من هذه العناصر الفنية لم يصل المشتغلون فيه الى مستوى عال من الحرفية الى الحد الذي يمكن ان يضيف (فنيا)  الى ماهو موجود في النص من امكانات درامية بل على العكس نجد هذه العناصر قد ساهمت في مجمل الاعمال العراقية المعروضة باضعاف نقاط القوة الدرامية التي توفرت في تلك النصوص .
ولو اخذنا كل عنصرعلى لوحده وتأملنا فيه لتوضحت الفكرة التي نود الوصول اليها : فالمخرجون العراقيون بشكل عام( الذين يعملون في اطار الدراما التلفزيونية تحديدا )  لاتشكل حركة الكاميرة ولاحجم اللقطة بالنسبة لهم مفردة تعبيرية يصوغون من خلالها بلاغة جملهم الاخراجية . فالمهم بالنسبة لهم ان تكون الشخصية والحدث موجودان امام العين ضمن اطار اللقطة. وليس مهما الحجم والزاوية او حركة الكامرة التي يتم الرصد والرؤية بها .
 اما مايتعلق بالتمثيل فمازال معظم الممثلين العراقيين يتسمون بالمبالغة والافراط في التعبير ( الفعل ورد الفعل/  الاستلام والتسليم ) ولم يتكيفوا مع ماتفرضه حساسية العدسة وقدرتها على التقاط ادق التفاصيل التعبيرية التي تتشكل على الوجه والجسد البشري دون حاجة لان يبذل الممثل جهدا( جسديا ) واضحا ومبالغا به لكي يقنعنا بصدق مايقوم به  وهذا يعود في مسؤوليته ايضا الى المخرجين العراقيين لانهم لايبذلون جهدا في تنظيم جهد الممثل التعبيري وتكثيفه ليبقى جهدا ايحائيا غير مباشر في التعبير والبوح وغالبا مايتولى الممثل  بناء الشخصية دون رقابة وتنظيم المخرج .
 اما مشكلة الاضاءة فهي الاخرى مازالت لاتتعدى من حيث الفهم لدى اغلب العاملين سوى ( انارة المكان ) وليس اضاءته دراميا وفقا لما تقتضيه الفكرة الفلسفية التي يسعى الى تأكيدها المخرج . مما يعني العمل على بناء معمارية ضوئية تتوخى خلق تدرجات ضوئية ولونية وفقا للفكرة الدرامية التي يسوقها الموقف داخل المشهد وارتباط هذا الشكل الدرامي داخل المشهد الواحد  مع السياق العام او الجو العام للعمل الفني .
 ويبقى عنصر الانتاج ، مشكلة المشاكل في الدراما العراقية المتلفزة ذلك لانه  يدير العملية الانتاجية كلها بطريقة تخلو من التحضير المسبق الذي قد يستغرق اشهرا واعواما لدى شركات الانتاج المحترفة في الدول الاخرى ،اضافة الى غياب الدقة التاريخية في مفردات وعناصر الانتاج وهذا مايتعلق بالاعمال التي تتناول فترات زمنية ماضية ، سواء كانت بعيدة او قريبة . كما ان الانتاج يفتقر غالبا الى الفقر الواضح في تأثيث المشهد بقطع من اكسسوارات وديكورات غالبا ماتكون رديئة وغير متوافقةمع بقية المفردات سواء من حيث (اللون والشكل والاسلوب ) وهذا مالايمكن للمتفرج المعاصر ان ينطلي عليه بعد الان  . .
وعودة الى الباعث الذي حفزني لكتابة هذا  المقال والذي هو :   صوت المطربة (شوقية )الذي بات امراً مقررا ومكررا وبشكل ممل في العديد من المسلات العراقية التي انتجت في الاعوام الاخيرة خاصة تلك التي انتجت في سوريا. مع ان صوت هذه المطربة عندما يقارن بصوت اخريات غيرها لانجد فيه ماهو مميز او ملفتا للاسماع بل ان فيه عدم تمكن في تقنية اداء المقامات رغم عملها في بداية مشوارها الفني في فرقة الانشاد العراقية مع مطلع سبعينيات القرن الماضي !  ويمكننا ان نقول ــ مع احترامنا الشديد  لشخصها الكريم ــ ان مايشفع لها في الحضور والتواجد انها في يوم ما غنت الى جانب المطرب الكبير فؤاد سالم في اغنية ( ياعشكنا ) التي مازالت كلما سمعناها تحظى بنفس الوهج والبريق ( اقصد الاغنية ) . هذا هو فقط كل تاريخ المطربة شوقية ولاشيىء اخر تملكه ــ بعد هذه الاغنية ــ يستحق ان نستمع ونصغي اليه .
 فما هو السر العجيب الذي يدفع مخرجينا لان يصروا على استخدام صوت لايملك اية مقومات فنية يمكن ان  تميزه عن ابسط واقل المواهب النسوية في العراق !  إذ لا يكفي ان تكون مطربة يسارية التفكير والهوى لان تفرض على تايتلات الدرما العراقية ! لايكفي هذا .. مع بالغ تقديري للفكر والتاريخ اليساري السياسي والنضالي في العراق . .
ان تطور الانتاج الدرامي العربي ( السوري والمصري ) على سبيل المثال وتعدد القنوات الفضائيةــ عربية واجنبية ــ  ساهم الى درجة كبيرة في ارتقاء الذائقة لدى المتلقي ولم يعد بالامكان استغفاله والضحك عليه بطرق واساليب كنا قد تعودنا عليها ايام كانت لدينا محطة تلفزيونية واحدة رسمية،كنا مرغمين على مشاهدة ماتعرض لنا ، مهما كان ماتعرضه علينا ،  سطحيا وهزيلا .   



                              مروان ياسين الدليمي     

120

الفنان التشكيلي رائد فرحان :

التشكيل العراقي إضافة عالمية

حاوره : مروان ياسين الدليمي 

غالبا ماتكون فرشاته  مبلولة بغيمة من نينوى ،وكأنه وهو ينام بين وردها على موعد مع  الحنين اليها. . له موعد مع الوقت،يستظل به فيما تبقى منه في المرمر الموصلي.. له موعدٌ لم يفت آوانه بعد ، فرّ به من زهرة البيبون، له طعم النهاروشكل الربيع في سماء المدينة، له اكتظاظ اللون وله شكل دجلة .. البقاء في مشغل الابداع والخلق طيلة اكثر من ثلاثة عقود يعني الانفتاح والدخول في متاهة الاكتشاف لاشارات تتراءى من مفارقات التجربة وتفاعلاتها ..هكذا كان الفنان رائد فرحان ولم يزل ينشىء منصّته الانتاجية في تسويقات تنطوي على طبيعة تتجاوز ماهو مستهلك الى ماهو مَخفي ومُحتمل ، دون أن يَنغلق َمنطوقه في اطاروسائط وتقنياتٍ عادة ماتتوزع انشطتها في مقاصد الاخرين وهي تؤطر تحركاتهم وتشخيصاتهم على اللوحة. . الحركة الفنية في العراق عبر تاريخها كانت ولم تزل فيها  ظاهرة  غُيّبت من خلالها الكثير من الاسماء ،ومازلنا ننتظر ذاك الوقت الذي تصبح فيه هذه الظاهرة جزءاً مقصورا على حقيقة الماضي. ويمكن تسمية هذه الظاهرة ( تواطىء مع المعتاد ) وكأننا لم نزل نلهث وراء الثابت ونمشي وراءه ولانعير اهمية لما هو ُمتغيّر حتى لو سقطنا في هاوية الحياد عن التحديق من شرفة الغد . . . اسماء كانت توشح نفسها دائما بالارتعاش وتمضي في مشوارها المشدود الى اليقظة وهي تنسج اشرعة المغامرة ،تماهت تلك الاسماء مع التفاصيل الغضة ، مع البراءة والوقت المزجج بالامنيات ،ولانها كذلك : وُضِعَت ْخارج اطار المشهد الغارق بالضوء !. قد تحمل هي جزءاً من مسؤولية هذا الاقصاء وهذا الاغتراب ،لكن الاستحواذ على بؤرة الصورة  والذي طالما  أتقنه البعض هو الذي نأى بها خارج اطارها قسرا وعمداً . . جاء رائد فرحان الى شرفة اللون والتكوين ، في منتصف العقد السابع من القرن العشرين مع اخرين من زملاء الدراسة اثناء مرحلة الدراسة الاعدادية منهم لوثر ايشو ، مزاحم الناصري ، عاصم هادي ،خليف محمود واخرين .. جاءليكتب نصه البَصَري  بعد ان بدأت ذاته تتلمس بدهشة ٍجمال الاشياء حوله في مدينة الموصل ،شوارعها ،معمارها ،ربيعها، كل شيىء فيها ، فأأستيقظت تحت مطر الفرشاة مشاعر الفرح ،  تحتفي بقلقها وشواطئها واسواقهاوفلكلورها ووجوه ابنائهاوبأزقة نينوى القديمة  وهي تلم البيوت الى اضلعها ليس كما في المدن الاخرى ..هكذا تناثرت فتنته بمدينته مذ اول لمسةٍ لفرشاته . .  فرحان بدد صمته وخصّ الزمان بهذا الحوار:

*الفنانون التشكيلون في الموصل هل تجد لهم خصوصية فنية بشكل عام ضمن المشهد التشكيلي العراقي . ؟
 مدينة الموصل مدينة جميلة بواقعها البيئي والاجتماعي, لها عمق حضاري وتراث غني ومتنوع وامتداد ثقافي يبدا من فجر الحضارات البشرية  وانعكس هذا على الجانب الثقافي  لمجتمع هذا المكان  وبالتاكيد الفنانون التشكيليون في الموصل هم جزء من هذا النظام المعرفي و لهم خصوصية من  نواح عدة تمثلت في طبيعة اللون والتكنيك , بحكم البيئة الطبيعة ذات الجو النقي والالوان الزاهية تنوع  التركيب الاجتماعي للمدينة  (القومي والديني ) حدا بهم الى ميزات اجملها بما يلي : الالوان نقية  (اساسية في مجملها  ) وواضحة الصفة والمعالم ومتضادة فنيا وبصريا . . التكوينات تمثل تجمعات شكلية ( كتل , شخوص الخ ) تمثل البنية الاجتماعية للبيئة الموصلية . .التاريخ الحضاري والسياسي والبنية الشكلية للانسان في المدينة جعل منهم يميلون الى الموضوعات الملحمية والبطولية اقترابا من الفن الجمعي وتكون حاضرة في اعمالهم. .البحث عن التواصل مع الموروث الحضاري الفني الذي يمتد بعمق 3500 سنة ق.م باستخدام مفردات واشكال قد تكون طوطمية مستعارة من هذا الارث الحضاري والشعبي. وميل الى التشخيص الشكلي الايحائي بالمضمون.
لهم ميل عالي لامتلاك الحرفية بدقة متناهية كنوع من التفرد والخصوصية .

 
*انت دخلت عالم الفن التشكيلي قبل اكثر من ربع قرن وكانت لديك صورة للاسلوب وللشكل وللعالم التشكيلي الذي تنوي الوصول اليه  فهل حققت ماكنت تسعى اليه ومالذي تغير بعد هذا المشوار من العمل والتجربة والدراسة الاكاديمية ؟

عالم الفن التشكيلي غير محدد باسلوب أو نمط وهو متجدد بتجدد المعرفة والتقنية ، لذا من الطبيعي ان يكون الفنان التشكيلي مواكب لعصره ،مضافا الى الموروث الذي يمتلكه ، ومع وجود كم هائل من الاساليب والقدرات والتقنيات سواء على  المستوى المحلي او على المستوى العالمي ويمكن القول بان اختراق هذا المجال يحتاج الى قدرة ووعي وفهم لهذا المجال  من هذا المنطلق يمكن القول بانني استطعت ان اولج عالم الفن التشكيلي من خلال الخصوصية باستخدام المفردات  التي امتلكها. والقدرة في الاداء من ناحية التقنية والحرفة العالية ، هضم ماهو موجود وتطلع الى التفرد والخصوصية في عالم الفن التشكيلي. يمكن القول هناك بصمة واضحة اسمها (رائد فرحان ) سواء كان العمل حداثوي او واقعي .
 
*منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي انت كنت في بغداد وفي حينها توفرت لديك الفرصة لان تحظى بشرف الالتقاء بجيل الرواد فائق حسن وحافظ الدروبي وشاكر حسن ال سعيد ونوري الراوي واسماعيل الشيخلي واخرين كيف تصف هذا الجيل خصوصا ان البعض منهم قد درسك في كلية الفنون مثل فائق وحافظ ؟
-يمثل جيل الرواد جيل المعلم الذي قدم خبرته ومعرفته وما تعلمه من الثقافة الغربية بامتداها من عصر النهضة وصولا للعصر الحديث ونقله لهذه المعرفة للاجيال اللاحقة وخصوصا التقنيات وطرق المعالجة والتعريف بما يمكن ان يستفاد منه والتحول باتجاه عالم الشخصية (الاسلوب ) ، اي انه وفر للاجيال الاسس العلمية والفنية للفن التشكيلي وقدم البنية الحقيقية للفن الاوربي للمتعلم المحلي والعربي من خلال تاسيس معهد الفنون الجميلة ومن بعده اكاد يمية الفنون الجميلة اللذان ساهما بشكل فاعل بتشكيل الهوية الاقليمية والمحلية للفن التشكيلي واحياء الموروث الحضاري للفنون الشرقية القديمة (الرافدينية والفرعونية ). ووضع المفاتيح امام الاجيال اللاحقة.
                                                                                       
*في العراق كانت ولازالت مسألة الاجيال تشكل حضورا واضحا في النقد ليس في الفن التشكيلي فقط بل في مجمل الحقول الابداعية . وقد لاتجد هذا المنهج في التصنيف لدى بقية الدول العربية . مالاسباب برأيك التي دفعت بالنقاد الى اتباع هذا المنهج وهل اعطى هذا نتايج مهمة ومفيدة لصالح الحركة التشكيلية العراقية ؟
الحقيقة ان مسالة تصنيف الاجيال على وفق المراحل الزمنية لاتمثل الحقيقة في الجانب الابداعي بيد انها من الممكن ان تمثل نوع من الارشفة لمرحلة ظهور بوادر الابداع لدى الفنان ضمن الحقبة الزمنية لذلك العقد باعتبار انه يمثل حالة متميزة على اقرانه من نفس الجيل .ويبدو ان الناقد التجأ الى هذه التصنيف لسهولة الموضوع ولقصر الفترة الزمنية للفن التشكيلي المعاصر اذا ما اعتبرنا ان مرحلة تاسيس قسم الفنون التشكيلية في معهد الفنون الجميلة ابتدا عام 1939 وان المرحلة السابقة له هي ليس بمعنى احترافية الفن وتداوله لدى المجتمع والطبقة المثقفة وانه كان مجرد مزاولة للهواية لدى بعض ضباط الجيش , على ان هذا التصنيف كان موجود لدى الغرب كما هو الحال في فترات عصر النهضة (فن القرن الثالث عشر او الرايع عشر ... الخ) بيد ان الحقبة الزمنية تختلف بامتداد قرن من الزمان اما الفن التشكيلي العراقي فلا يتجاوز تاريخه الكلي لقرن من الزمان . اعتقد انها قدمت تصنيفا مهما بالنسبة للباحثين والنقاد يساعد في الوصول الى النتائج الاكثر علمية .

 
* انت والفنانين العراقييين التشكيلين الذين هم من جيلك مالعلامات الفنية التي تؤشر خصوصية تجربتكم وتضعها في اطار محدد واضح المعالم يمكن للدارس والناقد ان يتوقف عنده ؟
من الممكن ان تكون التجربة التي مر بها جيلي واقراني من نفس الجيل تجربة مضيئة ذات سمات واضحة الخصوصية والتفرد بالاضافة الى التنوع في الاتجاهات والاساليب و تشكل ثقل واضح في التشكيل العراقي المعاصر, ذلك انها استطاعت ان تبني جسرا ثقافيا واضحا ومتواصلا مع المنجز الثقافي العالمي وتؤسس لتجربة محلية يشار اليها في الحركة التشكيلية العربية والعالمية على انها حالة متقدمة على الاجيال السابقة .وهذا كان واضحا من خلال المهرجانات والمسابقات المحلية والاقليمية والدولية . فالتقنية  المعاصرة التي تعامل معها هذا الجيل كانت لاتقل اهمية عما يجري من تجارب تقنية في الفن العالمي المعاصروكان هناك تفرد واضح في الاسلوب  لدى الكثير من الفنانين لهذا الجيل لابل اصبح منطلقا لاعادة حساب كثير من فناني الاجيال السابقة لنمطية وطبيعة الفن المقدم للمستقبل مجاورا لهؤلاء المبدعين .

*الفن التشكيلي العراقي له تاريخ ثر ومميز وطويل هذا بشهادة النقاد والمعارض الدولية .انت كفنان وكأستاذ اكاديمي يدرس الفن كيف تنظر الى مسيرة الفن التشكيلي العراقي .وماهي التجارب المميزة التي توفرفيها الاسلوب الشخصي الذي لانجده استنساخا او لنقل محاكاة لتجارب عالمية اخرى ؟
اثر الفن التشكيلي العراقي بشكل متميز على الفن العربي من خلال المنجز الذي طرحه خلال القرن الماضي ذلك انه اسهم في اعطاء الخبرة للدارسين من مختلف الاقـــــــطار العربية لابل زاد في نقل الثقافة التشكيلية من مختلف بلدان العالم الغربي والشـــرقي الى العراق والبلدان العربية من خلال المهرجانات العالمية واســـتضافة كثير من اعمـــال وفناني العالم . منذ تاسيس معهد الغنون الجميلة واكاديمية الفنون الجميلة ومعارضهم السنوية، و تعزيزا لدور الجمعية والنقابة ومن ثم وزارة الثقافة والاعلام مضافا اليهم المعارض الجماعية والفردية التي اقامها الفنانون العراقيون في بلدان العالم وملحقياتها المختلفة . ويمكن اعتبار تجارب كثيرا من الفنانين العراقيين تجارب شخصية متميزة كتجربة الفنان الرائد المرحوم جواد سليم لتاسيس جماعة بغداد للفن الحديث وتجربة الفنان الرائد محمود صبري في البحث عن مضمون ومحتوى جيد عبر نظريته في ( واقعيةالكم) وتجربة المرحوم شاكر حسن ال سعيد جماعة البعد الواحد وتجربة المرحوم كاظم حيدر عبر نقله الفن التشكيلي من نخبي الى جماهيري بمحتوى اسطورى محلي ولا ننسى تجارب الاجيال الاخرى في مطلع ستينات الفرن المنصرم والسبعينا ت كجماعة تموز وجماعة الاربعة ، التراث ،وهناك تجارب مميزة وفريدة للفنانات العراقيات امثال وداد الاورفلي ، بهيجة الحكيم , ليلى العطار ، بتول الفكيكي ، سهام السعودي واخريات . وتعدى الفن العراقي هذه المرحلة لينتج في مطلع الثمانينات ونهاية القرن الماضي تجارب واساليب شقت طريقها وسط زحام التشكيل العراقي الثر والزاخر بخطوات ثابتة وواثقة من النتائج واضافت للفن العراقي الصفة العالمية امثال ارداش  ، فيصل لعيبي ، نعمان هادي ، وليد شيت ، رافع الناصري واخرون من الجيل الثاني لنفس المرحلة .
 
* لمدة تزيد على العشرين عاما كنت مقيما في بغداد طالبا ومن ثم مدرسا في كلية الفنون الجميلة اضافة الى نشاطك الدائم هناك في المعارض والفعاليات الفنية والان انت عدت الى مدينتك الموصل وحالياً انت تعمل تدريسياً في كلية الفنون الجميلة التابعة لجامعة الموصل . مالذي دعاك الى اتخاذ قرار العودة والتخلي عن كل ماانجزته خلال ربع قرن في بغداد .. وهل تجد ان الموصل يمكن ان تكون مرحلة مهمة وجديدة في مسيرتك الفنية ؟
 بالتاكيد لايمكن المقارنة مابين بغداد والموصل  من ناحية الفن والفعاليات الفنية والانشطة الثقافية التي كانت تقام قبل 2003 , وحقيقة عودتي الى مدينة الموصل كانت اختيارا صعبا الا انه كان صائبا لهول مايحدث في العاصمة !!!!!  الحالية .اما مدينة الموصل فيمكن اعتبارها المحطة التقاعدية لاي (مبدع ) موظف ؟  . كاي مدينة اخرى باستثناءالعاصمة .

121
إنقلابُ قاسم  . . وكُتّابُ السَلاطين  !

مجمل الكتابات التي نشرت حول ماجرى في الرابع عشر من تموز عام 1958 كانت تؤكد على ان ماجرى كان ثورة وطنية ، وان قاسم كان رجلا يتسم بالبساطة والتواضع والاخلاص للشعب الفقير اضافة الى ذلك عدم تورطه بأية جريمة من تلك الجرائم التي ارتكبت في عهده !. . ونادرا ماتجد من بين تلك الكتابات مقالة تبتعد ـ  فيما تريد قوله ـ  عن التناول المبسّط للتاريخ  والتخلي عن الدقة والموضوعية في رؤية  ألاشخاص أوالاحداث . .
ان حدثا كبيرا مثل اللي  صنعه العسكر في 14 من تموز عام 1958 كان له أثر كبير وخطير على مسار النظام السياسي وشكله في العراق ينبغي ان لايخضع لاهواء ورغبات حزبية وفئوية وقفت الى جانب الزعيم للاسباب ايدلوجية أو طائفية بل يستدعي قراءة مسؤولة تتوخى الوصول الى الحقيقة سعياً من وراء ذلك للخروج بنتائج تكون بمثابة اشارات ودلالات ترسم الطريق واضحا أمام الاجيال اللاحقة لكي لاترتكب مرة اخرى نفس الاخطاء التي وقع فيها الذين سبقوهم في الرغبة والسعي الى التغيير .
ان العراق مازال يدفع ثمن تلك المغامرة الانقلابية على النظام والدستور، اذ لم نشهد بعد ذاك التاريخ سوى ازمنة مُرّة تعصف بها انقلابات واغتيالات وحروب لها أول وليس لها اخر، وكانت تلك اللحظة التاريخية من عمر العراق فاتحة له لمنحدر خطير  شهد من بعدها  صعود عدد من القادة والزعماء العسكر الطامحين الى السلطة دون ان يكون لديهم مايقدمونه للشعب من برامج وخطط تستثمر قدراته وامكانياته ،  بل اشترك الجميع في تبديد الثروات الطبيعية والبشرية اضافة الى تدهور وتمزق العلاقات السياسية مع معظم دول الجوارولم يكن قاسم بعيدا عن ذلك ، فعلاقته مع سوريا ومصر وتركيا لم يكن يحسد عليها اما علاقته مع الكويت فلا أحد يستطيع ان ينكر انه كان اول من وضع فتيل الازمة معها عندما طالب بضمها وضرب عرض الحائط بكل المشاورات التي كانت تجري بين طرفي البلدين بشكل سري في احدى دول اوربا الشرقية انذاك كما كانت تسمى  عندما ارتجل خطابا في حفل تخرج دفعة من الضباط توعد فيه بعودة الكويت الى العراق في نفس الوقت الذي كانت المفاوضات قد قطعت شوطا كبيرا من التقدمواقتربت الى توقيع معاهدة جديدة لترسيم الحدود وتنظيم العلاقة بين البلدين ، ولو طال العمر به بناء على ماجاء من افعاله لما تردد في ارتكاب تلك  الحماقة نفسها التي تورط بها صدام حسين وورط العراق وشعبه معه عندما غزا الكويت في 4من شهر اب عام 1990 طالما كان هذا الحلم بالتوسع والزعامة يداعبه وهو نفس الحلم الذي من اجله استبعد عددا من الضباط الذين كانوا معه في الحركة الانقلابية الى خارج بغداد وفي المقدمة منهم الشواف الى الموصل ورفعت الحاج سري الى كركوك لكي يبقى هو ولوحده في دائرة الضوء تصفق له الجماهير مما استدعى من اولئك الضباط ان يتمردوا عليه .   
فالزعيم كان كغيره من الذين جاءوا بعده وحكموا العراق طامحا بالسلطة وراغبا فيها حتى لو كان طريق الوصول اليها معبدا بدم العائلة الهاشمية التي كانت تحكم العراق ولم يكن ــ  وهذا ماأظهرته الايام والوقائع ـــ  على انه كان على استعداد لان يشاركه اي شخص اخر في منصب الزعامة على حكم البلاد . وليس هنالك ايضا ًمايشيرالى انه كان ينوي إقامة حكم ديموقراطي يقوم على احترام رغبات وتطلعات الشعب والاخذ بها ،ولايكفي هنا  ان يبني عددا من البيوت المتواضعة بدلا من بيوت الصفيح التي كانوا يسكنها مهاجرون فلاحون فقراء من جنوب العراق  لكي نغلق ابصارنا عن رؤية بقية المشهد الدموي الذي شهدته عدة مدن واماكن عراقية ، بل ان بعض المحللين والمؤرخين من  يجد ان بناء تلك المساكن ــ التي سميت في حينها مدينة الثورة ـــ لالاف من الفلاحين كانت سببا في زحف واكتساح عادات وتقاليد (قروية وعشائرية )  الى مدينة متحضرة مثل بغداد ، ومن دون ان يتم توفير فرص عمل منظم لهم من قبل الحكومة   . 
علينا  بعد هذه الاعوام  التي  مرت  ّعلى ذاك اليوم  ونحن نستعيده ونتذكره، نظراً لاهميته وخصوصيته وتأثيره على ماجاء من بعده من احداث ان نسعى لرؤيته من زوايا اخرى جديدة لم نقترب منها ونحن ننظر اليه سعياً منّاً لاكتشاف ماغفلناه من حقائق ( بقصد او بدونه ) بفعل الحماسة الوطنية التي اضاعت وضيّعت الكثير من الشخصيات والاحداث وشطبتها من ذاكرة الناس والمراجع دون وجه حق واخرى وصمتها باوصاف جاهزة طالما تعودت عليها اسماعنا في كتابات وخطابات وبيانات الساسة الذين يتربعون على سدة الحكم أوحتى  الذين يقفون في صف المعارضين لهم .
 ولنسأل هنا من جديد : هل كان عبد الكريم قاسم يملك رؤية نظرية ثورية لمستقبل العراق يمكن تلمسها في خطاباته وافكاره وكتاباته يستحق على اساسها ومن خلالها ان يطلق عليه صفة الثائر . ؟ . هل يمكن ان يكون ثائراً دون ان يترك ولو قصاصة واحدة من الورق مُسجلاً فيها ماكان يحلم به لهذا الوطن ؟ ماهي رؤيته للاحداث والوقائع التي كان هو  شاهدا عليها في بلده وفي المنطقة العربية بشكل عام قبل ان يصل الى السلطة ؟ لماذا لم يكن لقاسم اي حضور واضح وملموس في المشهد السياسي العراقي على الاقل في الايام أو الاعوام الاخيرة من العهد الملكي بينما على العكس منه كان هنالك اخرون غيره لهم دورهم  البارز في تفاصيل الحراك السياسي القائم انذاك ؟ . هل يمكن لشخص مغمور في المؤسسة العسكرية لايملك تاريخا شخصيا  يميّزه عن اقرانه  سواء على  مستوى الفكر أوعلى مستوى الفعل ان يتحول بين ليلة وضحاها الى ثائر وقائد تاريخي  ؟ هل تكفي اربعة اعوام من عمر زعيم ما  في بلد من بلدان الشرق الاوسط لم يكن قد مضى على خروجه من عهدة المستعمر البريطاني سوى فترة قصيرة جدا و شهدت ماشهدت تلك الاعوام الاربعة من حكمه من تمرد وانشقاق بين اقرب المقربين اليه اضافة الى  تراجع واضح عن قيم ومبادىء كان قد تعهد بها الزعيم نفسه وانقلب عليها كما حصل مع القضية الكوردية التي شهدت في عهده مرة اخرى عودة الى التعامل بقوة السلاح معها ومع طلائع القوى الكوردية السياسية التي كانت قد استبشرت خيرا بمجيىء سلطة جديدة الى الحكم لم تتردد في اول صعودها الى السلطة في اطلاق الوعود الوردية بحل سلمي وعادل ينصف الاكراد وقضيتهم!؟ . . هل يمكن ان اغفال  ماشهده ذاك العهد  من صراع دموي عنيف بين مؤيدي السلطة الحاكمة ومن يختلف معهم من بقية  الاطراف والاحزاب السياسية التي كانت موجودة على ارض الواقع انذاك ــ  والتي هي ايضا تتناصف المسؤولية فيما حدث ــ وراح ضحية ذلك  الصراع  العشرات من المواطنين الابرياء كما حصل في الموصل وكركوك ويمكن القول ان قاسم  كان  سببا رئيسيا في اندلاعه وتأججهه ذلك لانه مال بشكل صريح وواضح  لصالح طرف ضد طرف اخر رغم خطورة وخطأ هذا الموقف،  ولن  يعفيه من الخطأ هذا انه لم يكن مدركاً لجسامة ماسيحدث (فإن كنت تدري فتلك مصيبة وان كنت لاتدري فالمصيبة اعظم  ) .  هل يمكن لنا ونحن ازاء هذه الفوضى وهذا التخبط وهذا الدم المراق ان نطلق جزافا على من كان يقود البلاد في حينها صفة الزعيم والثائر والخالد الخ من الصفات التي  يعجز الرجال العظام  عن نيل واحدة منها  رغم مايقدمونه من خدمات ومواقف ومشاريع لبلدانهم ؟ 
انا لاأستطيع مطلقا ولا أحد اخر غيري ان يشطب على العديد من المزايا الشخصية الانسانية التي كان يتحلى بها قاسم  وهذا امر طبيعي فهو رجل  كافح من اجل ان يصل الى ماوصل اليه من مرتبة متقدمة في سلك الجيش الذي أمتهنه ، وهوبنفس الوقت ينتمي الى مجتمع عراقي فيه الكثير من خصال الطيبة والشهامة والكرم وهذه العادات والتقاليد المتوارثة  لايستطيع اي فرد عراقي بشكل عام ان يتملص منها ويخرج عليها اذا ماعاش بشكل طبيعي  في وسطها ، وهنا يشترك هو مع غيره من القادة الذين جاءوا من  بعده في الكثير من هذه الصفات الشخصية الانسانية حتى وان كانوا طغاة ! لكن هذا لايمنع اي واحد منهم من ارتكاب الاخطاء والحماقات التي قد يدفع الشعب ثمنها باهظا .
ولايعفينا هذا من مسؤولية تحديد اخطاءهم . 
مرة اخرى نقول : على كل الذين سيكتبون عن تاريخنا المعاصران لايتسرعوا في اطلاق  الاحكام ، وان لايستمروا كما اعتدنا ان نجد ذلك كتابات تدور في فلك لعبة التزييف والكذب التي طالما  عوّدنا عليها اغلب كتاب السلاطين والامراء في مجمل تاريخنا العربي والاسلامي ،الذين طالما كتبوا لنا صفحات وصفحات من التاريخ المزيف ، عادة ماتحوّل فيه الطغاة ابطالا والقتلة  ملائكة .


                                         مروان ياسين الدليمي
                                           17/ 7/ 2011

122
     الشاعر بولص آدم للزمان :   

- على الشاعر العربي ان  يتخلي عن احساسه الدوني تجاه النص الأجنبي.


                                                                                        حاوره : مروان ياسين الدليمي
مابين السينما والشعر يمدُّ الشاعر بولص ادم خيطا من الاسئلة المعبأة باحلام نحيلة لها طعم طريق جبلي رشيق طالما اعتاد أن يصعد منه الى شجر الطفولة في قرية ديري التابعة لقضاء العمادية . .  وحدها الظلال ظلت تحرسه من فداحة الحروب التي  داست عليه . .  وتلك الرؤى التي استيقظت من كثافة الصمت المكدّس فوق التفاصيل ظلت شاسعة ولم تستطع جدران من الصمت والفولاذ في سجن ابي غريب أن  تكسرها  عندما وجد نفسه فجأة ولمدة تزيد عن عامين مسوراً بها لالشيىء سوى انه ادار ظهره للحرب ! . . في مجموعته الشعرية الاولى  "ضراوة الحياة اللامتوقعة " تصطخب الاسماء بالتراتيل والساعات بغبارالاساطير. . انه بولص ادم شاعر ومخرج سينمائي عراقي من مدينة الموصل يحمل الجنسية النمساوية ولم يزل يجري في شرايينه دم الاشوريين . 
مغامرات لم تكتمل 
 *مالذي تبحث عنه وانت الذي  اخترت الخروج من الوطن قبل اكثر من خمسة عشر عاما، وماذا وجدت بعد هذه الرحلة ؟
 - كنتيجة للحالات المؤذية المتكررة التي تربصت بحياتي في الوطن ، ظهرت علامات الأ نتحار البطئ .. كنت في أيامي العراقية الأخيرة اشبه بشبح يبحث عن وجهه في السراب ، اتذكر شفقتي الذاتية على حياتي التي لم يعد لها اي شكل واضح على مرآة الواقع المشلول ثقافيا والمجروح اثر انتهاك صارخ .. وبعد سنتين من العمل الأبداعي الشاق البديل مع خامات الحجر المتعددة وهي تجربة انتهت في ذروة نضجها نظرا لأرتباط ذلك مع حالة الحصار على العراق ، في الأشهر الأخيرة ارتفعت اسعار التقنية اللآزمة ومن ثم بدأت بالشحة والأختفاء ، تلك المغامرة كانت مفيدة جدا ،  اثبت بنفسي على الأقل جدوى الجهد الجماعي وفق تفاهم انساني منضبط ومتفتح ، حلاوة النجاح حتى في اصعب الظروف.. تطلب ذلك الأنجاز استعدادا بدنيا وقدرة على الأبتكار والخلق .. تلك المغامرة كان بالأمكان استنساخها وتشكيل شركة سينمائية اهلية صادقة مثلا (نظريا وليس عمليا بسبب القمع الفكري ومصادرة حرية التعبير)

فرصة ثانية للحياة

*كيف تصف حالة الرحيل عن العراق والاغتراب عنه . . .  ؟
- الرحيل رغما عني كان محاولة لملاحقة الأ سباب والتأمل في الماضي بحرية ، استمرار نزيفي العقلي في ايامي تلك كان في اقصاه . ظلال مشهد المحطة من فيلم (الرجل الفيل ) وصرخته محاصرا من قبل الحشد ( انا رجل، انا انسان ولست حيوان )  اتذكر لحظات لقائنا الأ خير في صالون حلا قة شعبي ، تبادلنا جملا مختصرة كما هو الحوار السينمائي في مشهد ذروة، ثمة لحظات صمت لكأنها ابجدية عالم آخر،  كان مشهدا انطباعيا بعفوية شعرية خامتها الوداع ، الرجل المتجهم برأسه المكعب تحت المقص المتنقل بين اصابع يدك، ظل يتلصص علينا بنظرات في غاية الظن وفي منتهى الجحيم .. لم يكن لي وجهة اكيدة وواضحة للجوء . في الساعة الأ خيرة من ذلك اليوم كنت في طريقي نحو الحدود ، مدمرا تماما ، احمل جثتي المفترضة الى مكان مجهول . في تلك الساعات الصعبة شعرت بأنني شخص يرتكب حماقة بمغادرته ، أجيب على سؤآلك بصراحتي ، نعم قرار الرحيل كان مخاضا صعبا وكان ثالث قرار من نوعه بعد محاولتين فاشلتين، عقب مرحلة سجن بين حربين . . ذلك الكائن الذي كنته بعد دراستي السينمائية كطاقة سينمائية  للتوهج والبذل، اصطدم بالغول المجنزر الساحق يواجهه .. لكن غواية البحث عن السلام كانت اقوى من اي غواية اخرى، وهكذا وجدتني بعيدا عن العراق، اعتقد  بأن النهايات المأساوية لكل البدايات الطيبة النوايا خلفت فقدان الثقة بالمصير نفسه، فكان الرحيل من اختارني بقوة غامضة انتزعتني بعيدا عن الأستلا ب والغربة داخل الوطن لتقدم لي غربة جديدة ذات سمات عالمية هذه المرة! الأنتقال الكامل من الجغرافيا الدكاتورية الى الديمقراطية كان مربكا وشديد التأثير ، الأكتشافات كانت صادمة .. وجدتني عريانا تماما ازاء الحرية الكاملة ! تعلمت بالتدريج كيفية التآلف كواقع مع نفسي كسيد في حياته ولمعنى وجوده .. كان صعبا علي تصديق ذلك وحصولي على فرصة ثانية في الحياة .. ان تكون في مكان لك فيه عمل وسكن وتعيش بسلام ، بيئة صالحة متسامحة عفوية ومكفولة مدنيا وقانونيا ، وان تكون الكتب والأفلام قريبة منك ، لاعذر لك كمبدع حينها .. عليك ان تنتج ما هو مؤجل ومايعاصرك . اليس كذلك ؟ كيف يكون عليه الحال ، عندما لايصدقني الموظف المسؤول عن توقيع قرار اللجوء عما اذا كنت مسجونا في (ابي غريب ) ام انني ادعي ذلك ؟! انتظروا لسنوات طويلة وُجمّدت حالتنا لسنوات حتى تم التأكد من ذلك عبر وثيقة مصدقة من لجنة الصليب الأحمر ، لولا تمرسنا في مواجهة اشد واشرس المواجهات مع الواقع هناك لما تصالحنا مع واقعنا هنا ايضا .
*كيف تنظر الى الحياة الان بعد ان عشت هذه المدة الطويلة في اوربا ؟
- موهوم هو من ينتظر حياة تتنقل على عربة محمية في طريق معبد بالسجاد التبريزي ، الحياة ذاتها لغز .. الم يضع كازنتزاكس رأيه على لسان زوربا حول الحياة كأشكالية كبرى ازاء سهولة الموت وحتى عبثيته .. حياتنا المعبأة بالخوف المزمن ، زالت غمامات سميكة هنا عند قراءتي بالألمانية لمقدمة في مصطلح الخوف ( كتاب سورين كيركغهارت ) .. بأسلوبه الساتيري والظريف تارة وبأختراقه الكانتي التجريدي لدهشة العرض عندما يقرأ علينا رواية مخاوفنا . لم يوفروا لك تلك الكتب ومنعوك من السفر والوقوف بمواجهة البحر لتلقي عليه تحية بريئة يجازيك عليها بموجة تلف روحك وتأخذ بانحسارها مخاوفك ! خوفنا صنع اسطورتهم وعند زوال كل خوف من المخاوف ، سقط وبسرعة البرق رجال أباليس . ..
*أين هي  الحرية التي كنت تحلم بها ؟
 - حريتي لم تكن بأرتداء قميص نمساوي معطر بياسمين حديقة على الدانوب ، بل كانت حرية ادت الى ماهو جوهري واعمق ، حرية تفحص الوقائع الملوثة والأكاذيب المعلبة من قبل فوج الحرس الخاص للأديولوجيا ، التزوير تعاقب على تزوير،  تفخيم قشورالأكاذيب لحماية بذرة العنف التي تضخمت بشكل كبير وعندما فجرتها المطالعة المزورة للدين ، أدت الى ذبح الأبرياء .. نجحوا ببراعة وحشية في خلق قصة من قصص الجريمة التاريخية .

الماضي لم يعد حنيناً فقط .
* الماضي ، امكنة واسماءً وازمنة واحداثاً ،  شكل ثقلا كبيرا في مجموعتك الشعرية الاولى ضراوة الحياة اللامتوقعة التي صدرت عن دار الحضارة في القاهرة . كيف تفسر هذه العلاقة مع الماضي ؟
- لن تضيف لي شيئا جديدا عقلية النضال الأبداعي انطلاقا من المقهى او البار ! وحتى عقلية الأكتفاء بصورة البطل المضحي في السجن ، العمل الأبداعي الحر هو هدفي وخلاصة نقاوتي وشفافيتي .. خبرت تلك الأشياء بنفسي واشياء اخرى ايضا ، الماضي في اللغة ليس له الأستمرارية الكافية كفعل، علينا التذكير كل مرة بأن الماضي مستمر، كيف نتجاهله وهو مستمر ويتجاوز الراهن شعرا وسردا ، رسما ونحتا، سينما وتمثيل .. الماضي الواقعي مستمر ولم يتوقف، التحليل الأنثروبولوجي في البيولوجيا من قبل  (غيهلن ) خلال فحص سؤال (كانت ) الذي سلط عليه الضوء وطرحه من جديد ماكس شيللر ( ماهو الأنسان ؟) في كتابه ( موقع الأنسان في الكون ) ... هناك فصل خطير في محاضرة لغيهلن ، رحب به النازيون وتبنوه، ذلك الفصل تم حذفه لاحقا، لكن ثمة مكتبات تحتفظ به وقد قرأته فتخيلت حجم الأحتقار، غيهلن هو أحد مؤسسي الأنثروبولوجيا، في الجانب الآخر تخفى ( بليسنر ) الألماني ايضا عن اعين الغوستابو في غرفة عليا تحت سقف عمارة في روتردام المحتلة ، هناك عاش في ملجأه السري وكتب كتبا انثروبولوجية ، اضافت شيئا الى الحضارة الأنسانية ! وعندما اطلق سارتر مفهوما اتهاميا للآخر لم يكن جاهلا بتلك الأمور ولم ينطلق من عقلية مقهى دوماغو الباريسي ، انما كان شاهدا على مذبحة تصفية الحسابات اوربيا خلال الحرب الكونية الثانية! كان الماضي مستمرا خلال الحرب الباردة، دعنا نتأمل تأثر الطلاب بفلسفة ( ادورنو) في ثورتهم الطلابية، ادورنو لعب دورا كبيرا في فضح التزوير ورد على من اتهم الألمان بأنهم غير مؤهلون للنظام الديمقراطي بدعوى ماضيهم النازي !!! سافر الى اميركا هو و (هانا أردنت ) وآخرين ودخلوا في حوارات والفوا كتبا والقوا المحاضرات ، في محاولة سلمية عميقة لغسل العار، لم يكتفوا بدور المتفرج على الأرهابي الألماني النازي ليكون من يعبر عن المانيا في صراع الحضارات !.. كيف لي ان اتجاهل الماضي والماضي لم يعد حنينا ولوعة وفقدان ، الماضي مستمر وحقق انتصارا علينا بأيقونة التدهور . لنأخذ تعبيري التجريدي الذي تولد قبل عدة كلمات في هذا التداعي ( أيقونة التدهور ) ! خذ هذا التعبير وضعه عنوانا للوحة تشكيلية او رقصة تعبيرية مثلا ، سأكون رساما تارة ومحركا لمجموعة راقصة في لوحة تعبيرية على الخشبة تارة اخرى، لنفرض بأن اللمحة توحدت مع اللحظة المستقبلة عند المتلقي فاقتنع بالصياغة اللفظية للتركيب اللغوي وقال في نفسه ( ياللروعة ، حقا للتدهور أيقونة !) متلقي آخر قد يقول ( ماهذا الهراء ، الم يكن بمقدوره التواصل برشاقة اكبر ؟!) لاهذا ولا ذاك بمقدورهما الغاء الحقيقة في كواليس ذلك التعبير، وكلاهما على حق ربما ، وانا ايضا على صواب ربما نيتي كانت تقديم تجريد تشخيصي في تجاور لغوي وكنت اعني شيئا معينا ..
البحث عن اساليب جديدة .
*لو تطرقنا الى عملية التلاقح والتداخل الاتصالي بين الفنون المعاصرة كيف ترى شكل العلاقة مابين الشعروالسينما وهل يمكن ان ترسم لنا  منطقة التعبير التي يلتقي فيها الاثنان خصوصا وانك سينمائي قبل ان تكون شاعر ؟
- صهر الخصائص الجمالية للسرد والشعر هو رقعة تفاعلي ونشاطي في الكتابة، صهر الخصائص شمل السينما والتشكيل في اغلب نصوصي تجنبت في وقت مبكر فرض قالب السيناريو على الشكل في السرد والشعر فلم اقطع النص الأدبي الى مشاهد والمشاهد كلقطات مباشرة كما فعل غيري، فذلك يصب في خانة السيناريو المكتوب لصنع فيلم شعري خالص ويدعي لنفسه ادبا موظفا لمفهوم تنظيم المعالجة السينماية كمخطط جاهز للتفريغ والتصوير .. صهر البنى الجمالية لايعني اغفال وسائط كل نوع او جنس، بل هو، وخاصة عندنا نحن الذين لجأنا الى الأدب قادمين من الدراما مسرحا وسينما، اكثر البؤراثارة ودراية ..لايعني ذلك بأن ضعف الأحساس السينمائي لدى بعض الأدباء في العالم بأنهم ليسوا مبدعين، لكنه في حالتنا وفرة حسية مضافة، اعترف اكثر من ناقد بصعوبة تحديد ملامح واضحة لتجربتنا في هذا الجانب رغم انهم اكدوا على حداثة البنية النصية الجديدة وغناها الجمالي! تلك حالة ايجابية جدا، فالنصوص تستفز النقاد وتجعلهم ينهمكون في بحثهم وزيادة معلوماتهم من اجل اللحاق بالنصوص تحليلا وتقييما. فكلانا (المبدع والناقد) نسعى الى هدف واحد فيما يخص البحث عن اساليب جديدة .

اشكالية الشعر العربي هي فرض الوصاية من خارجنا وترويضنا.

*انت متابع وقارىء جيد لما ينشر من نصوص شعرية هل تلمست اشكالية ما تسود الشعر العربي بشكل عام ؟
 - اشكالية الشعر العربي هي فرض الوصاية من خارجنا وترويضنا لفرض ذائقة نموذجية ! وعود الشعر العربي كبيرة وغزيرة بغزارة انتاجه .. الشعر العراقي صادق في التعامل مع تلك الوعود، وعندما قلنا بأن الوقت سيطول حتى ظهور النصوص الجريئة حول همومنا وآلآمنا فقد حدث ذلك وظهر ديوان الحرب الذي كتبه عشرات الشعراء ووفوا بوعدهم تماما والمهمة مستمرة فالماضي مستمر، الديمقراطية التي قذفت بشخصي الى احضانها بتمردي متخذا من طائرة وسيلة لنقلي وانتشالي من البيئة الدكتاتورية في بلدي منتصف التسعينيات !
*كيف تقرأ معنى الزمن الحاضر في المنطقة العربية ؟
-التحولات على ارض الواقع في العراق لم ولن تكون بتلك السرعة ، اليس رهان التحولات مهددا بالعطب رغم زلازل التحولات الأخيرة ؟ لماذا وقف ألأديب العربي عاجزا في تضامنه ومن خلال نصوصه مع النزيف على أرض الرافدين ؟ كتب هيثم بردى نصه القصصي ألأول تحت عنوان ( تل الزعتر) في بغديدا العراقية في السبعينيات، لماذا لم يقدم القاص الفلسطيني نصا عن استشهاد عدد كبير من أهالي بغديدا مثلا؟ ام انه بحاجة لوقت طويل ليفعل ، آمل ذلك والنوايا طيبة على طول الخط فيما يخص الأشكاليات! .. هناك جوقة من الشعراء العرب تكتب مؤخرا سيمفونيات شعرية وفي غاية الحداثة البدوية ارضاءا لفضول الزميلات الشاعرات (ويستحسن اختيار كاتبات الأيروتيك منهن)!! ثمة شاعر أرفق نصه بصورة له جالسا وكوعه على بار تايلندي وسبابة اليد الأخرى ملصقة على  جبين التأمل في وجه نادلة من نساء السياحة الجنسية ، النص كان ساخنا ولم يغفل التذكير بالملاك والشيطان في النهار البورخسي..الخ  من البهارات المسروقة ، وكتب في نصه وبخط غريزته عبارة ( أجمع الكلمات بزبّي ) !! اذا كانت الحداثة تنطلق من الكبت والحرمان ، فليراجع الشاعر العربي من ذلك الصنف عيادة نفسية وسيكون عندها لنا حديث من نوع آخر وحول اشكالية اخرى !! .. النص الشعري الصحافي يخلق اشكالية مربكة للمشهد الشعري ويقدم المقالي السياسي على البذار الشعري ويدفن النص في مقبرة النصوص .. ابرز ماعثرت عليه في الخطاب الشعري العربي هو العمل الدؤوب على تنقية الشعر من المسلمات ، لكن التكريس لايلبث ان يكرس صفوة من الأسماء البارعة في انتاج المسلمات بقوالب حديثة ! هم أشبه بفعلة الميكانيكي الذي يقوم بتجميل سيارة قديمة مهلهلة ويعرضها للبيع من جديد، تلك السيارة عمرها قصير بالضرورة . نجح الشاعر العربي في الأحتفاظ بالحماس في النص وبأمكانه نقل حرارته الى ابعد حد وتلك صورة ابداعية مشرقة، وظف الأسطورة والتاريخ وتعامل مع الأزمنة وبعث ألأنا الشهيدة، وعليه التخلي عن احساسه الدوني تجاه النص الأجنبي،
*من هو الشاعر في وقتنا الحاضر. .  ؟
- الشاعر هو من لاينتظر بل عليه ان يكون سباقا جريئا طفلا كبيرا في الروح وفيلسوفا في تشربه بالآفاق ، لاينفعه دفء الجيل والحشر في انطولوجيا مبنية بطريقة ماكرة ولايخلده الناقد المعروف ..الشاعر المبدع بأمكانه الكتابة عن نبتة خضراء على وجه جدار قديم مدى الحياة ، والشاعر يقدم لنا تسامحه الواعي مع البعد النفسي الثالث للصامت والناطق للرجل والطائر والمدفون تحت الأرض ، الشاعر وحده من يساعدنا على رؤية مالايرى بالعين ولايلمس بالأصابع ولاينطق به فم آخر! الشاعر الشاعر لن اسجنه في اللغات فقط ! البارحة مثلا ، قص لي اخي وصديقنا الفنان لوثر ايشو ادم ، بأنه رسم أجنحة تخرج من الرؤوس ، اليس هذا شعرا في نص اللوحة البصري ؟! الشاعر ليست اداته الحروف فقط بل الصورة السينمائية واللقطة الفوتوغرافية ، المقام النغمي والسرد، الميزانسين وسينوغرافيا العرض المسرحي، اللوحة بمختلف خاماتها والنحت بكل تشضيته تحت المطرقة في تكويناته، الشاعر المنتمي الى العائلة الفنية كلها.. هو المتفاعل هربا من الخمول، الشاعر تعثر عليه عند ازنيشتين وحتى ( شجرة الحياة ) فيلم (تيرنس مالك) ألأخير ! ليس في المشاهد التي تمط الزمن للحصول على ثقل حسي للقطات ولا بالنعمة السوريالية على المعالجات فقط، كل الأفلام الراقية لاتخلو من ضربة شعرية تقض مضجع المشاهد ، ليخرج من الصالة ، انسانا مكتنزا بماعليه ان لاينساه، حتى عند صاحب الصنعة الفنية المفضوحة ( تارنتينو ) يظهر الشاعر من حيث لا تتوقع ، المشهد الأفتتاحي في ( أوغاد شائنون ) هو فيلم شعري قصير داخل فيلم فاشل طويل ! عشرون دقيقة كافية لعرض الواقع الوحشي .. الشراشف البيضاء المنشورة على حبل الغسيل وتسلل العدسة التقطت المخفي من الأسرار حول مايخبئه القدر داخل ذلك البيت الفرنسي الريفي.. يأخذك الممثل ( كريستوف فالتز ) في رحلة شعرية بتمثيله، هناك شعر لايرى كما تراه تقليديا على الشاشة .. اذا كان شخص كتارنتينو مثيرا في خطابه فماذا نقول عن تاركوفسكي وفاسبندر.. عن كارلوس ساورا او عن المودافار .. عنك يامروان في فيلمك القصير ( إكسباير ) ام انك كتبت بالصورة السينمائية نصا ينتمي الى ما أُعلِنُ عنه بوضوح اكبر في هذا الحوار ، ( اكسباير ) هو نص من نصوص الواقعية الوحشية !! .....كاتب رواية (العرس الوحشي) سينمائي في الرواية وكالفينو ، كاتب قصة قصيرة جدا في روايته( مدن غير مرئية ) وشاعر في ملحمة المدن ، (خوان ميرو) شاعر في لوحة (الببغاء ).. هذه اختيارات عفوية من عدد كبير من الشواهد التي اطلعت عليها بشغف ، الذائقة البصرية والتجربة العنيدة قادتني الى كتابة الواقعية الوحشية ، والماضي في كتابي ( ضراوة الحياة اللآمتوقعة ) هو ماضي الواقع المستمر وتلك ابرز جماليات واقعيتي الوحشية .
                                                   

________________________________________

123
                                                     حاوره : مروان ياسين الدليمي




المخرج السينمائي عبد الخالق الجواري :

                         كامرتي لن تتعب من التجوال .


ليس ثمة طريق يؤدي الى اكتشاف الحقيقة سوى البحث عنها . . هذا ماأشترطه على نفسه المخرج السينمائي عبد الخالق الجواري عندما اختار أن يذهب بعيدا بعدسة كامرته في رحلة لاتخلو من المتعة والتعب في آن واحد  بين المسافات والازمنة بصحبة الفلم الوثائقي . . متوغلا في مناطق وموضوعات عبث الغبار فيها .. باحثا عن الضوء،والالم،والمعرفة،خلف اكوام من الحجارة وبين الملامح أو في شقوق الجدران . . ومن اجل ان نقتسم معه متعة العشق للصورة والفكرة والرؤية اجرينا معه هذا الحوار .


*الفلم الوثائقي في العراق لم يشهد اهتماما ملحوظا خلال العقود التي مضت سواء من قبل الفنانين أومن الدوائر الفنية المعنية ،الى ماذا يعود ذلك،هل يعود الى قصورفي الفهم للعمل السينمائي واختصاره بالفلم السينمائي الدرامي ام ان ذلك يعود الى صعوبة العمل في الفلم الوثائقي او قد يعود  ذلك الى اسباب اخرى؟
- لم يحظ صناع الفيلم الوثائقي أوالروائي على مر الازمان المتعاقبة في العراق بما حظي عليه زملائهم في اوربا والأمريكتين من اهتمام ودعم علما ان بلاد مابين النهرين تمثل إرثا غنيا  وشهيا لانتاج عشرات الافلام الوثائقية المتميزة ولا يمكن حصر القصص والاحداث  التي يمكن تحويلها الى انتاج فني . ان العراق بيئة بكر لم تستثمر . فهنالك الكثير من الازمنة والاحداث التي مازالت مدفونة في ذاكرة الناس  والمكان تحتاج الى من يقترب منها .  يقول ايرول موريسوهو من افضل مخرجي الوثائقيات في العالم الان :-ان الشرق يمتلك ثلثي سحر العالم وغموضه.

*انت عملت في القنوات الفضائية معدا ومخرجا للبرامج ذات الهوية الوثائقية كيف تقيم تجربة انتاج مادة وثائقية للقنوات الفضائية . هل وجدت القائمين عليها يخضعون ماتفكر فيه وفقا لمقتضيات وخصوصيات البث التلفزيوني الذي يراعي الكثير من الضوابط والاشتراطات الاجتماعية.  والاخلاقية على حساب الحقيقة والجرأة والموضوعية التي هي شروط اساسية لنجاح الفلم الوثائقي  ؟
- تنوعت القنوات الفضائية العراقية إلى عدة أنواع ، منها  قنوات خاص هدفها الربح ومنها حكومية والتي عادة ماتكون خاضعة لقوالب واشتراطات وضعتها الدولة ومازالت تلعب نفس الدور التقليدي الذي عفا عليه الزمن ،اما بقية القنوات الاخرى  المطروحةعلى الساحة الفضائية ليست سوى قنوات حزبية فئوية ذات نظرة محدودة وضيقة لاتتجاوز مكانها وزمانها وبيئة نشئتها ، ولا يمكن طبعا مع ماتحمله هذه القنوات من توجهات اسيرة ايدلوجيات لاترى الواقع الاّ بعين واحدة لايمكن لها ان تنشر الوعي الوثائقي من اجل صناعة أفلام تؤرشف ذاكرة بلد غني وحافل بالأحداث والحروب والتغيرات السياسية في ظل عالم يلهث وراء الاقتصاد وجني الأرباح. ذلك لان هذا النمط من الافلام يحتاج الى هواء الحرية في التفكير والتعبير والمعالجة وهذا مالايتسع له صدر اي مسؤول في هذه القنوات التي لاتسعى الاّ لتنفيذ ايدلوجياتها السياسية ولو على حساب التضحية بالحقيقة .  يقول جيمس كارتن وهو  أحد أهم صناع الوثائقيات الاميركان: - ان الامة التي بلا وثائقيات هي امة بلا ذاكرة.

 


*نلاحظ في الاعوام الاخيرة ظاهرة الاحتفاء بالفلم العراقي في المهرجانات الاقليمية ، لماذا برأيك هذا الاهتمام ، هل يعود ذلك الى اسباب فنية يحتويها الفن السينمائي في العراق؟ ام ان ذلك ينسحب من خصوصية الواقع العراقي  فقط .؟

-الاحتفاء الذي اشرت اليه بالفلم العراقي جاء اولا لاهمية مايجري على ارض العراق من احداث وثانيا لوجود محاولات جادة لعدد من الشباب السينمائيين لاثبات وجودهم وقدراتهم رغم أن الكثير من تلك التجارب مازالت  تفتقر الى  الموضوعية والاحتراف ،وهذان امران جوهريان يقف عليهما بناء ونجاح الفلم الوثائقي ، وعليه فيما لو لم يتوفر هذين العنصرين في الفلم فمن الطبيعي ان  ينتهي تأثيره مع انتهاء المهرجان ، وليصبح بالتالي رقما يضاف  في   سجل قائمة الافلام العراقية المنتجة ، اي يصبح جزاً من الكم المنتج لايستدعي العودة اليه لقراءته وتأمله من جديد بين فترة واخرى من قبل الدارسين والاكاديميين . لعدم احتوائه على الجرأة في الطرح شكلا ومضمونا . فما فائدة ان تقدم عملا فنيا  دون ان تحرك المياه  الراكدة دون ان تثير القلق لدى المتلقين الفن لاينبغي له ان يبعث التخدير في حواس ومشاعر المتلقين كما لو كان شيئا مخدرا نحتسيه . بل ينبغي له ان يكون ممتعا في فيما يثيره من اسئلة لها صلة بحياة ومصير الانسان والبشر   وينبغي ايضا ان تتوفر في العمل الفني مستويات متعددة  من   الافكار .
*هنالك الكثير من النتاجات السينمائية العراقية منها :ماهو وثائقي ومنها ماهو روائي قصير ،هل استوقفتك تجارب معينة ؟
- في الحقيقة استوقفتني أعمال وثائقية كثيرة منها فيلم لمخرج عراقي مغترب هو باز شمعون البازي، يسجل المخرج في هذا الفيلم عبر اسلوب واقعي قصصاً لمجموعة  من الاطفال العراقيين ومن شتى المكونات ، يذهبون في رحلة علاج الى اوربا بعد ان كانوا قد تعرضوا الى اصابات وتشوهات جسدية بسبب التفجيرات التي تعرضوا لها من قبل عصابات الإرهاب ، في هذا الفلم نجد اولئك الاطفال في رحلة علاجهم يضطرون  للعيش والسفر معا وهم ينتمون اصلا الى قوميات واديان وطوائف مختلفة ،وهنا يعيد الفلم اكتشاف الشخصية العراقية وتناغمها فيما بينها رغم ما يحدث على الأرض المشتعلة من تقاطعات وتشنجات يقف وراءها السياسيون وتجار الحروب الذين يلبسون ازياء مختلفة . ومن الفرص الجميلة انني كنت ضمن المجموعة التي  اشرفت  على مرحلة مابعد الإنتاج لهذا الفيلم الروائي الطويل . ايضا  أعجبتني كثيرا التقنيات في بعض مفاصل فيلم ابن بابل للمخرج محمد الدراجي  رغم تحفظي على جوانب من الفلم خصوصا مايتعلق بالسرد الوثائقي .

*بعد عشرين عاما من العمل في انتاج البرامج الوثائقية كتابة واخراجا كيف تنظر الى تجربتك انت ، هل تجد نفسك قد توصلت الى شيىء ما في هذا المضمار ،يمكن ان نجد له صورة واضحة في الايام القادمة ؟



- منذ عدة سنوات وأنا  أحاول مطاردة بعض القصص بالبحث والتقصي المتكرر                  فالأساس لأي فيلم هي المقولة التي أؤمن بها كثيرا (ابحث ثم ابحث وفي كل مرة ستجد  شيئا) ومن اجل ذلك سعيت لمخاطبة مؤسسات عربية وغير عربية لإنتاج فيلمي الذي اعمل عليه منذ مدة طويلة ، حتى استقر المشروع على مؤسسة ألمانية كبرى jena bild التي رحبت بإنتاج هذا الفيلم بمشاركة شركة kic film الكندية وبرعاية مؤسسة الفيلم القومي الكندي وقد شرعنا فعلا  بكتابة السيناريو معا انأ والأستاذ قيس الزبيدي السينمائي العراقي المعروف والفيلم من إخراجي , يتناول الفيلم رحلة عالم الآثار ماكس مالوان وزوجته الكاتبة أجاثا كريستي في العراق في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي . كما أنهيت عمل مائة حلقة من برنامج وثائقي عنوانه  (حكاية صورة) بواقع عشردقائق لكل حلقة وهو من إنتاج شركة عراقية ، وسوف يعرض قريبا على أكثر من قناة فضائية والبرنامج يتناول 100 حدث من خلال صور الشخصيات نفسها،  في محاولة منّا لارشفة الوثيقة العراقية التي داستها سنابك خيول المحتل واوشكت على طمر الكثير والثمين منها.
شرعنا في ذات الوقت ايضا في كتابة وانتاج فيلم وثائقي لصالح احدى القنوات  العربية وهي تجربة جميلة في الكتابة والاخراج المشترك بيني وبين المخرج السينمائي الاستاذ قيس الزبيدي الذي سيكون لي الشرف وللمرة الاولى ان اوقع باسمي الى جانب اسمه العالمي الكبير، كما اني وبعد دورة مكثفة عالية التخصص  تمكنت من الحصول على شهادة اول مخرج عربي على كاميرات Redcinama)) Arri alexa) )وهذا النوع من الكاميرات جديد تماما على المنطقة برمتها وهو الذي سيجعل العمل السينمائي اكثر سهولة بدون استخدام الفيلم 35ملم ، وبعد نهاية الدورة اعمل الان على تدريب  مخرجين ومصورين في اكاديميتين خاصتين هما:
Focus Academy)) و Drama Academy))

*عندما تبدأ في التفكير في انتاج عمل ما ،هل هنالك موضوعات معينة دائما ماتدور في وجدانك ، ام انك تلتقط الموضوعات مما قد يدفعه الواقع الى السطح ، ام انك تسعى لاكتشاف الموضوعات ؟
- لقد استفدت كثيرا من التجوال في كردستان العراق من أقصاها لأقصاها خلال أكثر من 3 سنوات أنتجت فيها بالتعاون مع قناة عشتارالفضائية  أكثر من سبعين برنامج وثائقي له خصوصية وشكل معين يمكن مقارنته بادب الرحلات،  وبواقع نصف ساعة للحلقة الواحدة ، حاولت في هذه التجربة ان أسرّع في عملية الإنتاج التفيذي والضغط  في كلفة الانتاج حتى تتلاءم مع الميزانية المتواضعة  لقناة محلية ، فأنا أؤمن تماما بقضية اساسية وهي : لكي تكون مخرجا وثائقيا ناجحا عليك ان تكون خلاقا حتى في تقنين النفقات الإنتاجية!

*هنالك العديد من التجارب العالمية في الفلم الوثائقي ، هل تعتقد ان الفنان العراقي قريب من تلك التجارب ، هل قرأها بشكل جيد ، هل حاول ان يكتشف مافيها من عناصر فنية . ؟



- لاتزال التجارب العراقية محلية وضيقة ،ولا تتجاوز خارطة ولادتها ، لكني لا اعتقد ان هذا الواقع سيطول ، لأننا اليوم نراهن على الطاقات الشابة النخبوية الجديدة التي تسعى لاستخدام الثقافة استخدام أمثل من أجل خلق صناعة سينمائية ووثائقية. مازلنا بحاجة لرؤية تجارب الاخرين الذين سبقونا في هذا المضمار . لان رؤية هذه التجارب على تنوعها في الرؤية والمعالجة والاساليب سيفتح افاقا كبيرة في نمط تفكيرنا ويجعلنا نسعى لان لانستسهل البدء في اي مشروع فني وثائقي . فهذا العمل يحتاج الى وقت طويل من التحضير والاستعداد على الورق قبل البدء في التنفيذ . وهذا فرق جوهري بيننا نحن في العراق وبين التجارب المتقدمة في  العديد من دول العالم .
*نود ان تعطينا فكرة عن طبيعة التجارب والاعمال المهمة التي انجزتها ؟
- ابتدأت العمل في الفلم  الوثائقي منذ نهاية التسعينات عندما رافقت المخرج الايطالي القس(Director: Jan-Marie Benjamin) اثناء انتاجه فيلم في العراق تحت اسم Iraqi solidarity أثناء تلك التجربة سحرني الموضوع كثيرا وتعلمت منه ان الصبر هو حقا مفتاح الحل في الفلم الوثائقي وان خلق مجابهة  واستهلال وخاتمة امر نتركه للحدث نفسه وينبغي علينا ان لانظيف ولانتطفل عليه.

*بماذا تفكر الان . . ماهي المشاريع التي تسعى لتحقيقها ؟ 
- أسعى منذ فترة لخلق بيئة عمل وثائقية  جديدة وذلك عن طريق تأسيس مدرسة لتطوير الشباب الراغبين في العمل بهذا المجال ،  ولدي أيضا قيد الانجاز  كتاب وصل الى مراحله  النهائية يتحدث عن أسس بناء الفيلم الوثائقي وهو بعنوان(الإعداد المسبق . . إكسير النجاح).


124
المنبر الحر / انت لم تكن ابدا ً !
« في: 22:45 18/06/2011  »
انت لم تكن ابدا ً   !

الى/ لوثر ايشو


لاأعرف  لماذا يَضيق الفضاء  حتى على أوهامنا 
لاأعرف  لماذا المبررات  التي لاتملك دماثة الخُلق تؤازنا 
هل سنكون سعداء هكذا دائما رغم انوفنا
هل سنكون حزانى  هكذا بمحظ ارادتنا
هل سنبقى نمسك بالمرآة ونحن نهذي بالكلمات
 بينما النار تقبع على  اكفنا   !   . . .

نينوى طقسها اليوم  ليس كعادته
الهواء فيها مثقل بالندوب
الماء بطعم التعاسة
والصمت يجلد الدروب . .

التشابه بينك وبينها ، لن  يمر بعد الان على البيوت القديمة في بغديدا
ولن يذكره الجنود المكدسين في العربات
ولا الامهات ينتظرن الابناء
ولاالمهجرين
ولاالغائبين
ولاالنازحين
ولامن أخطا الطريق الى بغداد
النوافذ لن تفتح بعد هذا الغياب المُر في قرية ديري 
انكسر الحلم  فيها هذا الصباح 
انكسرنا نحن
انكسر اللون في اللوحة
في العشب
في الاشجار
في الورد
في زرقة السماء .

اعرف ان لاأحد سيبقى بعدك في الطريق متجها  الى المدن المأسورة بالخوف 
ولاأحد سيمضي اليها ،
انت وحدك . .  كنت فيها
انت وحدك . .  سكنت طويلا في الغائب منها
وتركت وجهك  في الحاضر الشاحب من لياليها
وحدك . . كنت منتصبا في الحنين الدائم اليها
وحدك المسكون بها
 بعتباتها
بفصولها
بألوانها
بقلاعها
بأسوارها
بمن ودع الامنيات على  حيطانها .

أنا بعد موتك لاأشك بموتك
لاأشك بعودتك
لكني  . .  وعذرا ياصديقي ، اشك اصلا بوجودك
فاأنت لم تكن ابدا
ولاجئت
ولاعشت
ولارسمت
ولافرحت
ولاأنتظرت
ولاتألمت
ولن اصدق ابدا انك كنت .

                                              مروان ياسين الدليمي
                                                 18/6/2011

125
الروائي يونس صديق توفيق الحمداني :

-انا عراقي في خانة الكتاب الايطاليين   
                                               



  حاوره :مروان ياسين الدليمي



ثلاثون عاما في المغترب الايطالي وهو يبتكر صور حضور ٍآسر ٍ في مزاج المدن المسكونة بالبحر و والضوء وغواية العشاق . .  ثلاثون عاما وهو يحلق عاليا ً في سماوات الغربة  بعيدا ً عن موطن ارتعاشته الاولى  . .
 لكن الذاكرة مازالت تطرق ابوابا مقفلة ، تطرح اسئلة في دروب الموصل العتيقة ، لعلها تمسك بأسماء وتفاصيل تركها هناك منثورة على العشب في ربيع  نينوى وحول اسوارها . .  مازالت الروح نابضة  تضج برائحة النقوش على باب الدار ، وظلال النهارات التي اغتسلت بماء دجلة ، مازالت تطل من الشرفة البعيدة ،تتعقب البراءة في  انكسارات الازمنة الحاضرة /الغائبة . .
ونحن ازاء سيرة مكتضة  بالامطار والاسفار والروايات والاشعار والاحلام  كان علينا ان نقتنص الوقت لنسجل ـ بعد غياب دام ثلاثة عقود عن الوطن ـ  حديثا مع يونس صديق توفيق الحمداني الايطالي الجنسية العراقي الاصل  وهو أول كاتب أجنبي يكتب أول عمل روائي مباشرة  باللغة الإيطالية وبدون أي وسيط  . 

 سيرته تقول أنّ له العديد من المؤلفات  منها : (الغريبة ) رواية صدرت عن داربومبياني في ميلانو عام ١٩٩٩، (مدينة إرم) رواية صدرت في ميلانو عن دار (بومبياني) عام ٢٠٠٢. (اللاجئ)رواية صدرت في ميلانو عن دار (بومبياني) عام ٢٠٠٦. (عراق صدام) راوية تاريخيةصدرت في ميلانو عن دار (بومبياني) عام ١٩٩٩. (إسلام) بحث تاريخي صدر عن دار إيديا ليبري عام ١٩٩٧. (حضور السيدة البابلية) ديوان شعر صدر في تورينو عن دار آنكولو مانزوني عام ١٩٩٤ . (القمر بين اليدين) ديوان شعر صدرفي تورينو عن دار (آنانكي) عام ١٩٩٤.(السلام عليكم . الحديث بالعربية ) دراسة لغوية صدر في تورينو عن دار أنانكي عام ١٩٩٩. اضافة الى ذلك فهو يكتب في صحف ايطالية عديدة مثل : لاستامبا والميسّاججيرو والجورنالي  ويرأس المركز الثقافي العربي - الايطالي دار الحكمة منذ عام2000. كما يشغل منصب عضو استشارية وزارة الداخلية الايطالية لشؤون الإسلام الايطالي منذ عام 2006. اضافة الى انه  يشغل منصب أستاذ اللغة والأدب العربي في جامعة جنوة كلية الآداب منذ العام 1999..


البحث عن فضاء جديد
* قبل اكثر من ثلاثين عاما غادرت العراق للداراسة في ايطاليا ، واثرت البقاء فيها ، مالذي وجدته في ايطاليا ولم يستطع العراق ان يعطيك اياه ؟
-لقد غادرت العراق لهدف الدراسة والمعرفة وكان أملي هو العودة رغم إدراكي لحساسية الوضع السياسي الذي بدأ يسود البلاد آنذاك. في داخلي كان التوق الى الحرية يقودني بعيدا حيث البحث عن قيمة الإنسان ومساحات التواصل مع الذات والآخر، من أجل إكتشاف وتحسس واقع الوجود والكينونة الفكرية الذين كانوا في مرحلة التطور في أعماقي. كنت أحتاج الى فضاء يسمح لي بالحركة والإرتقاء، الى مجالات تسمح لفكري ولإبداعي بالتطور دونما رقيب أو تحديد آيديولوجي أو شروط مفروضة من واقع سياسي وفكري معين. إيطاليا منحتني الوجود والإحساس بقيمتي كإنسان. عرفت معنى الحرية بالنسبة للأديب وتعلمت، رغم بعض المشاكل، أن للحياة قيمة تستأهل التضحية من أجلها.

*عندما  خرجت من العراق كان عمرك ثمانية عشر عاما وها أنت تعيش  في اوربا منذ  اكثر من ثلاثين عاما ومع هذا عندما كتبت اعمالك الروائية ونلت عليها جوائز اوربية كانت معظم الشخصيات والازمنة والامكنة ذات هوية عربية . .  مالذي دفعك الى ذلك . هل كنت تحاول ان الدفاع عن تلك  الجذور امام الغرب  ام هي محاولة لاكتشاف الذات و تعريتها ومدواتها مما اصابها من ضرر ،ام هي محاولة منك لاستثمار الدراما الانسانية التي عادة ما تحتشد في تفاصيل الحياة الشرقية والتي يتمنى اي كاتب اوربي ان ينهل منها لكن الفرصة ليست متاحة امامه مثلما هي لك ؟
- البعد عن الوطن يترك في الأعماق الدفينة جروح
عميقة لا تنفك تنزف وتؤلم. وأعمالي تحمل كل الجراحات وثقل الذكريات وجنون الوحدة القاتل. عالجت الشعور بالحنين والعزلة التي يعاني منها المهاجر والتي، مع مرور الوقت، تقتل فيه عنصر الإرتباط بالجذور، وفي الوقت نفسه تغلق في وجهه أبواب الإندماج. كانت الكتابة ومازالت هي الفضاء الذي يمنحني القدرة على التواصل مع الهوية والبعد الثقافي الأصلي، والدفاع عنها ليس سوى ردّ فعل للكثير من الجهل الذي يعاني منه الغرب تجاه حضارتنا وديننا. كانت أيضا عملية لاكتشاف الذات التي أنهكها البعد والشوق بل ونهشتها الوحدة حتى العظم. وجدت الحاجة في (رواية الغريبة) الى طرح قضية الهجرة السرية والتضاد بين كيانين: واحد معلق بين عالمين ولاينتمي الى أيّ واحد منهما  رغم إعتقاده الراسخ بأنه قد تعدى مرحلة الإندماج  والآخر متمسك بجذور الأرض التي جاء منها، طرية ولاينسلخ عنها رغم موته البطيء في قفص عزلته. عالجت الإحساس بالوحدة وكيف أن جرح الحنين والبعد عن الوطن لايبرأ أبدا وكيف أن الذاكرة هي العالم المتوازي الذي يعيش فيه المهاجر ويجد فيه ملاذه ومنفاه. كما أنني وجدت نفسي منقادا الى ضرورة معالجة تراكمات فكرية وذكريات وصراعات طفت على السطح فجأة بعد سقوط النظام  (رواية اللاجيء) في عمل درامي يعكس الحاجة الى طرح الوضع العراقي (السياسي والإجتماعي) على طاولة التشريح وتقديمه للقاريء الأوربي بصيغة ملحمة عائلية تقربه من المأساة عن طريق معايشتها عن قرب.
أنا أعتبر أول كاتب أجنبي يكتب أول عمل روائي مباشرة  باللغة الإيطالية وبدون أي وسيط. وهذا حتم عليّ في بعض الأحيان أن أستغل بعض الدرامات الإنسانية لأنني أعرف الناس بها ولكوني عشتها أو كنت شاهدا عليها. كل أبطال رواياتي أناس حقيقيون عاشوا ماساتهم بصمت وماتوا بصمت. وجدتني رغما عني في موقف من يتكلم بلسان الآخر ويعالج معاناته بصيغة أدبية غيرت من مفهوم القاريء الإيطالي وجعلته ينظر الى المهاجر على أنه إنسان وليس مخلوقا بلا هوية.


*في العراق وفي منتصف سبعينيات القرن الماضي حصلت على  الجائزة الاولى في مسابقة الشعراء الشباب مناصفة مع الشاعر لؤي حقي وتم تكريمك  انذاك من قبل رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ، ماهي المساحة التي يتحرك بها الشعر الان  في مشوارك الادبي ؟
- كان ذلك التكريم قد شكل منعطفا مهما في حياتي الأدبية. حينها كان عمري ثمانية عشرة عاما تقريبا حين وجدت رئيس الجمهورية والوزراء يصغون الى شعري بإهتمام  ويكرمونني، كما أنني كنت في إمتحان مصيري أمام فطاحلة الشعر في العراق ومنهم رئيس لجنة التحكيم الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد. كانت لحظات جميلة جعلتني أعيش الشعر وكأنه عملية داخلية من التطور الذاتي للإبداع حتى أن القصيدة أصبحت ألوان حياتي التي أرسم بها وشريط أفكاري التي أصور به وأوراق مشاعري التي أكتب فيها. لقد وضفت الشعر في سياق الرواية، بتفاعل مع النثر بهارمونية موسيقية لكي يكون الصيغة الفنية الأكثر صدقا وفاعلية في التعبير عن خطورة الحدث وثقله. أدخلت القصيدة في حيز الرواية، أقحمتها بين السطور فكانت إطارا متكاملا، وهذا يعتبر، في مفهوم النقد الأوربي، عملا خطيرا قد يقضي على مسيرة الكاتب. كنت متشبثا في تغيير قوانين ألوان الكتابة الروائية وخلق نوع من التزاوج بين فن الشعر وفن الرواية إنطلاقا من تراثي القصصي العربي: المقامات وألف ليلة وليلة وكان النجاح الذي لم أتوقعة تذوق القراء الشعر مثلما تفاعلوا مع العمل القصصي.


الشعر هو الحقيقة التاريخية .
*كيف تنظر الى اشكالية  المصطلح والمعنى لانواع الشعرالعربي الحديث ، دقة وفهما علميا اكاديميا ، ابتدأ بمايسمى الشعر الحر وقصيدة النثر والنص المفتوح . وهل ارتقت هذه التسميات الى مستوى التعبير والتأطير الدقيق لهويته؟
- الشعر يجب أن لايخضع لإشكاليات وأطر معينة. فهو عبارة عن حركة ديناميكية متطورة، مرتبطة بتطور الحضارة الإنسانية. الشعر كان حرّا حتى حينما كان يخضع لقواعد ونظم ضيقة تتمثل بالشكل والمحتوى، بينما هو الآن، وبالأخص في هذه المرحلة، بحاجة ماسة الى أن يخرج من حدود التحجر والخمول. في الخمسينيات كان المحيط الإجتماعي والسياسي والثقافي يتوق الى إيجاد صيغ شعرية جديدة ولكن فترة الستينيات كانت مرحة التدفق الحقيقي لما  يمكن أن يسمى بالشاعرية المتألقة في أكبر تعبير عن الإندماج الإبداعي بين الشكل والمحتوى. اليوم، وحتى هنا في أوروبا، أصبحت قصيدة النثر هي الشكل الفني الأمثل، والذي يمنح مساحات فضائية تتماشى مع حركة الإنسان في بيئة مفتوحة تبدأ من الإنترنيت ثم الفيس بوك وانتهاء بالحركة الأفقية للموجودات والتي أصبحت تقريبا ضوئية بفعل التطور العلمي. إذا كل مرحلة ولها إبداعها الفني والأدبي والشعر ليس بمعزل عن هذا بل هو الحقيقة التاريخية والشاهد الأكثر صدقا على واقع العصر.


*كيف تنظر الى منظومة الثقافة العربية الحديثة . . هل تجدها بعيدة عن التفاعل مع المتغيرات . وان نتاجها في مجمله ليس سوى طريقة شكلية للمثاقفة مع الاخر؟
- منظومة الثقافة العربية تحتاج الى الخروج من خطابيتها ومن خضوعها الى التقليد. نحن لدينا الطاقة على التحرك والتحرر ونحن بطبيعتنا شعوب ديناميكية وحضارتنا كانت دائمة الإرتباط بحركية الزمان والمكان. هذا التشبث العبودي بالشكل والنظر المتواصل الى الخلف جعل من منظومة الثقافة العربية عبارة عن مؤسسات بورقراطية تهدف الى الإنتاج المتسلسل لأعمال تسعى الى الإبهار. هناك محاولات جيدة من أجل كسر هذا الخط ولكنها لاتتمتع بدعم مؤسساتي بل نجد أن في كثير من الأحيان يكون الجمهور هو الفاعل الأساسي في الإختيار والتقييم بل والتسويق حتى. هناك انتاج أدبي عربي يرقى الى العالمية ويصل الى درجة ابهار المهتمين لكن ومع الأسف فالأمر ينحصر في أعمال قليلة جدا وهذه نادرا ما تكون مرتبطة بمؤسسة أو منظومة ما. نحن لدينا الطاقات والتجارب والإمكانيات المادية من أجل الخروج من أطر الكلاسيكيات ومنح العمل الأدبي حرية الإنطلاق والنمو. علينا أن ناخذ بعين الإعتبار تطور المجتمع والمرحلة الزمنية التي نعيشها كي ندرك أن العمل الفني هو الناتج الحقيقي لما هو حاصل في المجتمع وهذا ماحصل بعد ظهور الإسلام وخلال الفترة العباسية وهكذا.


*المسرح ، القصة ، الرواية ، الشعر الحديث بشكله الاوربي كل هذا الثراء المتنوع ماهو الاّ نتاج حديث على ثقافتنا العربية المعاصرة ،وكان للشكل الاوربي فيها الحضور الاكبر والاهم لكن الملاحظ ان مايعرف لدينا بقصيدة النثر اخذت الحيز الاكبر في الجدل الذي وصل الى حد الخلاف والرفض والتشنج في الاوساط الادبية منذ اكثر من اربعين عاما ومازال بينما الاشكال الادبية الاخرى لم تتعرض الى مثل هذا الجدل . . مالاسباب في رايك؟
- الفنون الأدبية في عمومها دخيلة علينا وخاصة المسرح بصيغته الأوربية وفن الرواية بشكله الحالي أيضا يعتبر مولودا متبنى  رغم أن التراث العربي عرفه منذ قرون. وكما سبق وقلت فإن الشعر هو من الفنون الأدبية العربية الأكثر أصالة وقصيدة النثر هي التطور الطبيعي للسجع والقصيدة وصولا الى الشعر الحرّ وقصيدة النثر التي فجرت الجدل والخلاف بل والرفض أحيانا. أتصور أن هذا اللغط المفتعل هو ليس سوى ردّ فعل طبيعي لمن يريد حماية فن أدبي عربي أصيل ومن أجل هذه الأبوية المبالغ فيها يصل الأمر بالبعض الى وضع هذه الفرس العربية في قفص ضيق يجعل منها ومع مرور الزمن عاقرا. أنا لست من دعاة الدفاع عن التطور على حساب الأصل بل يجب ترك الحرية لكل أشكال الإبداع مع تشجيع البحث والتجربة والخلق الذي يأتي من الداخل مع الإستفادة من التجارب الخارجية وهذا ما حصل في الماضي وسيحصل مستقبلا شئنا أم أبينا.


*لاشك ان النثر مازال يحتل  لدى العرب  ـ سلطة وشعوب ـ  مرتبة ثانية من حيث الاهمية والتقييم امام الشعر الذي مايزال يحتل المرتبة الاولى مع الاخذ بنظر الاعتبار جملة المتغيرات الفنية التي حصلت في كل انواع النثر سواء في ميدان الرواية او القصة او المسرحية . كيف تنظر الى هذه المسألة ؟
- نحن شعوب محافظة، والقصيدة هي أول الفنون الأدبية العربية التي جعل منها شعبنا البدوي وسيلته الإعلامية والتوثيقية الأكثر فاعلية وأمانة والتي حافظت في أرشيفها الغني على تراثه وهويته. العرب شعب "أورالي" أي أنه يعتمد على الرواية الشفهية، والشعر هو أسهل الفنون الأدبية التي يمكن حفظها وتناقلها بين الناس في الأسواق والمجالس والمقاهي. لاضير في هذا لأننا ملزمون بالحفاظ على هذا الفن وتطويره ولكن هذا يجب أن لايكون على حساب باقي الفنون الأدبية حتى وإن كانت هذه بدورها غريبة أومتبناة ولكنها أصبحت، وبعد خضوعها للإندماج، فنونا إبداعية عربية تتطلب الأخذ بعين الإعتبار بل ويلزم البحث عن كل الصيغ الجديدة كي نتبناها ونطورها كما فعلنا دائما.



ثقافتنا اليوم  ليست في حالة تبعية
* المثاقفة امر لابد منه لكن ، الاتجد ان الثقافة العربية مازال دورها سلبيا  فهي  مازالت  تستورد وتستهلك المصطلحات والتصنيفات الغربية دون ان تساهم في انتاجها . . اذ مازالت مرجعية  المثقف العربي الاصطلاحية ترجع الى المعجم الاوربي . لماذا برأيك لم تخرج الثقافة العربية من هذه التبعية  ؟
- ثقافتنا الآن تمرّ بمرحلة تكوين الهوية الحديثة وهذه تتطلب الإستهلاك والنمو. إنها عملية تطور طبيعية تنهش كل شيء يمر في طريقها. الثقافة الأوربية مرت بهذه المرحلة الطبيعية قبل ألف عام تقريبا ولغتهم مليئة بمصطلحات من أصل عربي بل وحتى هناك صيغ أدبية وفنية صدّرناها نحن الى أوربا عن طريق الترجمات والرحالة والحجاج. كوميديا دانتي الإلهية مثلا تحتوي على الكثير من العناصر الفنية والثقافية الإسلامية، شعر الدولجي ستيل نوفو وعلاقته بالشعر العذري والموشح الأندلسي وقصص البوكاججو وعلاقتها بألف ليلة وليلة، حكاية روبينس كروز وعلاقتها بقصة الحي ابن يقظان وغير ذلك، هذه كلها أعمال أدبية لها علاقة مباشرة بفنون الأدب العربي والذي دخل أوربا مع الترجمات والمثاقفة. فثقافتنا العربية اليوم ليست في حالة تبعية  وإنما داخل بودقة مرحلة التطور الطبيعي للثقافات المتفاعلة. فقط الثقافات النشيطة تلتقي وتتفاعل  وسوف نخرج من مرحلة التأثير والتأثر هذه عندما ننتهي من تكوين هويتنا الثقافية الحديثة وهذا يتطلب وقتا. الأمر ليس في المصطلح وإنما في ديناميكية التطور وفي كيفية خلق صيغ إبداعية أصلية تعكس حالات خاصة لها علاقة بواقعنا، بفكرنا المعاصر بوجودنا في عالم دائم التطور والتغيير.

*هل مازلت تشعر بالوحدة والاغتراب ؟
-نعم. بصراحة هذا شعور كان يستحوذني حتى عندما كنت في وطني وبين أهلي فما عليك الآن وأنا في منفى الإغتراب. هي حالات داخلية تنشأ من حساسية مفرطة تجاه واقع معين أو حالة معينة. أنا لست سوى غريب في عالم ظاهري وغالبا ماأشعر وكأنني هائم في عالم البرزخ بين انتمائي الجذوري والذي يشكل كل خلفيتي التراثية وهويتي الأصلية وبين واقع أعيشه وكلي وعي بانني لاأنتمي اليه وبأنه هو بحد ذاته ينظر اليّ بريب وبحذر وبأنه لايتقبلني كما أنا بل يطلب منّي أن أتغير وأن أصبح كما يريدني هو أن أكون عليه.



*لو سألتك الان بعد هذه الرحلة الطويلة في البحث والقراءة والاغماس في الثقافة الاوربية ،  فهما وتجربة وحياتا ودراسة وتدريسا . لو سألتك من انت بما تجيب ؟ 
- غريب يبحث عن جذوره وهويته في عيون الوقت الذي يجري جارفا الذاكرة والحلم. انا لست سوى أبيات شعر هرمت وصور إصفرت وألوان بهتت وأصوات بحّت وعيون جفّت دموعها وضعفت رؤيتها. الشيء الوحيد الذي أنا متأكد منه هو أنني عراقي وأن فيّ حنين قاتل لوطني ولمدينتي ولأهلي.




دار الحكمة جسر الى العالم

*جزءأً مهما  من نتاجك الفكري كان ترجمة العديد من كتب التراث الفلسفي الاسلامي  لاهم المفكرين والمتصوفة والفلاسفة المسلمين . مثل الجاحظ والإمام أبو حامد الغزالي والشيخ الصوفي ابن عربي ومؤلفات جبران خليل جبران العربية وشعر الشنفرى. السؤال هومالدوافع التي اخذتك الى تلك الازمنة لتعيد تقديمها الى الثقافة الاوربية ومالذي يمكن ان تلعبه في تصحيح وتعديل الصورة عن الاسلام في اوربا بعد ان شهدت ضررا كبيرا لحق بها في الاعوام الاخيرة؟
- بعد دخول القوات العراقية الى الكويت وخاصة في الفترة التي سبقت حرب التحرير كان الغرب  يعيش في حالة من الخوف والهلع من إحتمال قيام حرب عالمية جديدة، والقاريء الإيطالي خاصة كان يبحث عن أي شيء له علاقة بالثقافة العربية والإسلامية ودور النشر بدأت تبحث عن مؤلفات تملأ الفراغ الشائع والجهل الذي جعل الغالبية العظمى تتساءل عن موقع العراق والكويت على الخارطة وهل أن الإسلام دين أم معتقد وهل أن القرآن منزل أم كتبه الرسول (صلع). كان من الضروري المساهمة في صنع برنامج توعية يعيد للحضارة العربية كرامتها ويساعد الإنسان في الغرب على فهم فكرنا وإبداعنا بل وتصحيح الكثير من الحكم المسبق والفهم الخاطيء الذي نال من ديننا وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لم أتوقف فقط على الترجمة بل التأليف مثل كتاب "إسلام" الذي ترجم الى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والألمانية والهولندية وكذلك دراسات وروايات تعالج الكثير من القضايا مثل رواية "مدينة إرم" التي تتعرض لمسألة الحوار بين الحضارات. لقد ساهمت أيضا وبشكل عملي في النضال من أجل تصحيح صورة الإسلام وتشجيع الحوار بين الأديان والتصدي للفكر التكفيري وتشجيع الإندماج الصحيح للمهاجرين في المجتمع المضّيف وذلك عن طريق تأسيس المركز الثقافي العربي – الإيطالي دار الحكمة عام الفين والذي هو عبارة عن مركّب ثقافي يحتوي على مطعم عربي ومركز ثقافي يحتوي على صالة كبيرة للنشاطات الثقافية والمعارض صف للدراسة ومكتبة ومقهى عربي إضافة الى حمام تركي على الطريقة الشرقية. هذا المركز الفريد من نوعه في إيطاليا أصبح وجهة لكل من يريد التعرف مباشرة على حضارتنا وتراثنا العربي وفكرنا الإسلامي المنير عن طريق تنظيم نشاطات تقريبا يومية.

*هل تجد للثقافة العربية المعاصرة حضور ملموس في الثقافة الاوربية ، واين يمكن تلمس هذا التأثير ؟
- نعم، حضور الثقافة العربية المعاصرة بدأ يأخذ حيزا كبيرا في الثقافة الأوربية سواء بفضل كتاب عرب يكتبون بلغات أوربية أو عن طريق الترجمات. التواصل خلق نوعا من الصيغ الأدبية الجديدة التي كانت غائبة عن أطر الكتابة الغربية. نجد اليوم كتابا أوربيون يعالجون قضايا كانت غائبة عن مواضيع أعمالهم إن لم تكن من المحرمات. القضية الفلسطينية مثلا، الحرب على العراق والإحتلال، وكذلك بالنسبة لأفغانستان ومسائل الهجرة وتبعاتها. يجب أن لاننتقص من جهد الكتاب العرب الذين يكتبون بلغة غير العربية لأنهم يقومون بعمل مهم في تعريف القاريء الأوربي بقضايا عربية تبدأ من المواضيع التي طرحتها سابقا الى مسائل تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات انتهاء بالأحداث الأخيرة والثورات التي هزت كراسي  وقلبت الموازين في بلداننا.

*انت  تحمل الجنسية الايطالية  منذ اكثر من ربع قرن ومن خلال جهدك الفكري انت تشكل جزءاً من سياق الثقافة الاوربية . . هنا يبرز سؤالان ، الاول يتعلق بك انت  وهو : بأية هوية تسعى وتحرص لان  تقدم نفسك وانت تشارك في صنع المشهد الثقافي الاوربي  وفي الجانب الاخر كيف تجد الصورة التي ينظربها المثقفون الاوربيون اليك ؟
- أنا أحاول أن أكون جسرا بين حضارتين عن طريق الربط بين تراثي الأدبي والحضاري وذلك المكتسب. الأمر ليس بسيطا ويحتاج الى جهد كبير. فكوني أحمل الجنسية الإيطالية لايعني أنني انسلخت عن هويتي العراقية وقلبي الذي ينبض عربيا. كثيرا ما أكتب الشعر بلغتي الأم وأعيد كتابته بالإيطالية أو ترجمته وأنا الآن أعمل على إعادة كتابة روايتي "الغريبة" باللغة العربية، بفكر عربي وبصياغة عربية. أنا ورغم علاقاتي الطيبة مع الجميع وبرغم أن المؤسسة الثقافية الإيطالية تحترمني وتثمن أعمالي وبرغم أنني حزت على ستة عشرة جائزة من كبريات الجوائز الأدبية الإيطالية إلا أن الجميع هنا يعتبرني كاتبا عراقيا ولا أحد يضعني في خانة الكتاب الإيطاليين، بل ولاحتى دار النشر التي تنشر لي أعمالي تعتبرني مؤلفا إيطاليا بل تضعني بين الكتاب الأجانب. هذا هو أحد أسباب شعوري بأحقية بلدي عليّ وبأن الوقت قد حان للعودة وبأن الغريب يبقى غريبا لو مهما فعل.

*كيف تنظر الى مايجري الان من المنطقة العربية من تغييرات وثورات شعبية ، هل تشكك في الجهات التي تقف ورائها ؟ ام تجدها ثورات حقيقية خرجت  تماما من حسابات الدوائر الاستخباراتية الاجنبية ؟ وكيف تنظر الى مستقبلها؟
- لا. أنا ليس لديّ أدنى شك بأن ما يحصل هو تطور طبيعي لحالة عربية خاصة وصلت الى نهايتها. منذ نكسة 1967 ونحن نعيش سلسة من النكسات والتداعيات حتى أننا وجدنا أنفسنا سجناء عقدنا والقناعات التي زرعها فينا زعمائنا على أساس أننا شعوب لاحول لها ولاقوة، نؤله جلادينا ونخشى كلابهم الليلية ونرتعد خوفا حينما يطل الفجر. لقد علمونا كيف ننتقص ونزدري من ذواتنا. لقد أوهمونا بأن كل مشاكلنا ومصائبنا سببها إسرائيل وبأننا ضحايا نكسة مستديمة لاقيام لنا منها. كانوا يستغلون الشماعة الإسرائيلية لتعليق كل اسقطاتنا وذنوبهم وسر بقائهم عليها، وكانوا يشغلون الرأي العام العربي بهذا الكيان الذي يسمم حتى الهواء الذي نتنفسه الى درجة أنهم جعلوا من الدولة الصهيونية  وحش خرافيّ لايقهر وقوة ليس لنا عليها قدير. إنها ثورات خرجت من كل الحسابات سواء الداخلية أم الخارجية. . إن إسرائيل نفسها ترتعد الآن بسبب مايجري وتنتظر المفاجآت التي لابد وأنها قادمة. إنه تمرد شباب واعي ومتفتح  والذي يشكل اليوم  سبعين بالمئة من القوة السياسية والإجتماعية العربية على آلة القمع والسرقة والإغتناء الغير مشروع على حساب الفقراء والمظلومين من ابناء الشعوب . هذا السيل الذي جرف كل شيء خرج من ينابيع القهر والإضطهاد والفساد والمحسوبية حتى أنه تفجّر كعين ماء في قلب الصحراء. جيلنا كان ضحية النكسة وضحية العجز الذي وضعنا فيه حكامنا، وها نحن قد هرمنا بين الحروب والحصارات والمنافي، وقد حان الوقت لهذا الجيل أن يفيق وينهض، إنه زمنه وهاهو قد فعلها فما علينا الا أن نترك له زمام القيادة. قد يخطىء وقد يخسر لكنه فعل مالم يتجرأ أحد على فعله إلا ذلك الذي قام به الثوار في زمن اليقظة الأوربية في القرن الثامن عشر. كان من المفروض أن يجري هذا مباشرة  بعد سقوط تشاوشيسكو في رومانيا، ربما كنا الآن قد وفرنا حتى على عراقنا تبعيات الدمار والإحتلال.  إن ردة فعل الحكام العرب أثبتت أن هذه الثورات هي ناتج طبيعي وموضوعي لحالة عربية وصلت الى درجة لاتحتمل. حاكم يهدد ثم يضرب ثم يقمع ثم يقتل. ومن يقتل؟ أبناء شعبه الأبرياء وخيرة شبابه فقط لأنهم تظاهروا وطالبوا بالإصلاح. رد الفعل هذا هو الدليل الأكبر على أن هؤلاء الحكام هم قتلة ومجرمون وليس فيهم ذرة من الوطنية، كما يدعون، بل هم أول أعداء أوطانهم وشعوبهم. الحاكم يحترم شعبه بل ويضحي بنفسه من أجله وليس كهؤلاء المتسلطين الذين استباحوا دماء أبنائهم. هم يتصرفون وكأنهم أصحاب البلد وكأنهم ورثوها عن آباءهم وكأن الشعوب عبيد لهم يسرقون ويورثون ويقتلون بلا رحمة. هذه حالة عربية خاصة سكتنا عنها طويلا ويجب أن نخجل منها.
لندع، إذا، المستقبل لصانعيه  فأنا ليس لديّ الجرأة على التنبوء بما قد يحصل لأن المفاجآة قادمة.


غياب الحضور العربي
*انت منخرط الى حد واضح بالحياة السياسية في ايطاليا ولك حضور لدى الجالية العربية والمسلمة وخصوصا الجالية المغاربية  مالذي دفعك الى ذلك ،والى ماذا تسعى ؟
- كان هناك فراغ في الحضور الأدبي العربي فشاركت في ملء جانب منه، وكان هناك فراغ في التصدي لحملات التعرض للإسلام فشاركت في الشرح والحوار وكان هناك فراغ في الدفاع عن حقوق المهاجرين فساهمت في إعطاء صوتي لهؤلاء المستظعفين. اليوم هناك الكثير من المثقفين الفاعلين والمنظمات والجمعيات التي تقوم بواجبها وأنا من ضمنها. الجالية المغربية هي الجالية الأكبر في إيطاليا وزوجتي مغربية وقد زرت المغرب عشرات المرات وأجد أنه بلد رائع الجمال ومتنوع وغني لكننا أهملناه كثيرا وما علينا إلا تبنيه عربيا لأنه كريم ومتشبث بحضارته الإسلامية التي حافظ عليها بحرص منذ زمن الخروج العربي من الأندلس وهو فخور بتنوعه الثقافي والأثني الذي يجعل منه غنيا في تنوعه هذا. وفي كل هذا النشاط أنا أسعى الى أن يكون لنا حضورا عربيا فاعلا وتأثيرا في الحياة السياسية والثقافية الأوربية لأن هذه القارة هي خلفيتنا الثقافية والإقتصادية التي لاغنى لنا عنها رغم الإختلافات والصدامات والتناقضات لكن من الخطأ إعتبارها عدوا يجب التقارع معه لأن الوقت قد تغير والشعوب تغيرت مفاهيمها ووجهات نظرها.

*مالذي يقوم به المركز الثقافي العربي الايطالي ( دار الحكمة ) والذي قمت بتأسيبسه منذ العام 2000 ؟
-المركز يقوم بدور فاعل في التقريب بين الثقافات والحوار بين الحضارات وترشيد الإندماج عن طريق الندوات والمحاضرات والورشات التدريبية الخاصة بشباب الجيل الثاني. لقد استظاف المركز العديد من الكتاب والمفكرين العرب والأجانب في لقاءات ثقافية من بينهم الكاتبة نوال السعداوي  والشاعر سميح القاسم والكاتب والباحث يوسف زيدان والكاتبة سعاد العامري والكاتب سلمان ناطور والشاعر العراقي جبار ياسين والكاتب الطاهر بن جلون وغيرهم. كل هذا يدخل في إطار تنشيط الوجود الثقافي الذي يعكس الزخم الكمي والنوعي الذي يميز ثقافتنا الغنية والحاجة الى التعريف بها. كما أن الجالية العربية تحتاج الى ذلك التواصل مع حضارتها ومثقفيها من أجل إثبات وجودها وإعطاء الحياة لجذورها وهويتها.

ماتبقى في الذاكرة 
*مالذي تبقى من  بلد اسمه العراق ومن مدينة اسمها الموصل في الذاكرة  ؟
- بقي كل شيء، كل ما علق في ذاكرتي وكل ما حملته في حقيبة سفري حال خروجي من ذلك البلد الذي بكيته طويلا. بقيت نجوم الموصل وأقمارها، عبق أزهارها وأزقتها، دجلتها والجسر القديم، صروحها وآثارها العريقة  وتلك الخطوات الحالمة التي مازلت أسمع وقعها البعيد على إيقاعات ألحان أغاني عبدالحليم التي كنا نغنيها وصوت رياض أحمد الذي كان يطلقه أحد الأصدقاء الطيبيين ونحن نتمشى على ضفاف النهر أو بين أشجار الغابات، نعانق هبة شبابنا ونطارد أحلامنا. ذاكرتي أبيات من الشعر سمعتها من أحد شعراء الموصل الأصدقاء وقصة قصيرة قرأها عليّ أحد الكتاب الذين رحلوا، في الحرب العراقية-الإيرانية  والآخر رمى بجسده بين أمواج دجلة كي تبتلعه الى الأبد. صور وأصوات وألوان تتواكب في ذهني كصدى البعد. بقي الكثير من عراقي لكن هموم الشوق وعذابات الغربة والحزن الذي حمّلني إياه هذا الوطن قتل فيّ الفرحة وجعلني كالذي "ينتظر الطوفان ولايأتي الطوفان"...

*اخيرا وليس اخرا  انت حلمت وحققت الكثير مما حلمت به فهل من حلم مازال يرواد يونس صديق توفيق الحمداني ؟
- لاأحد يحقق كل شيء، فالأحلام لاتنتهي. حلمي الأهم الآن هو العودة الى الوطن، والنوم بين ذراعي أمي وزيارة قبر والدي والمرحوم أخي وشرب القليل من ماء دجلة. أحلم أن أتمكن من المساهمة في بناء العراق الجديد، العراق الديمقراطي، الحرّ حيث الجميع ينعم بالسلام والحرية والكرامة. دون تمييز عرقي ولاطائفي عراق العراقيين، عراقي أنا.

126
منهجية التطرّف . . محنة المسيحيون العرب
 


                                                
الى حد ما تمكن الفكر المتطرف والذي لبس ثياب الدين الاسلامي دون ان يغتني بمحتواه الانساني ومنهجه الوسطي وراح بعيدا جداً  في الترويج للكثير من الافكار التخوينية والتكفيرية ضد مكونات اساسية في المجتمعات العربية ، نال فيها المسيحيون العرب الجزء الاكبر من هذا الاستهداف اضافة الى عموم المسلمين وليوضعوا بالتالي في خانة واحدة مع مسيحيي الغرب (اوربا واميركا )  دون ان يضع هذا الفكر في حسبانه حقيقة  الاختلافات القائمة مابين هذين المجتمعين الاخلاقية منها والقومية والتي تشكل بمجموعها دليلا قاطعا على أن المسيحيين يشكلون جزاً اساسياً من التكوين الديموغرافي للمنطقة العربية ولاصلة لهم اطلاقاً  بمسيحيي الغرب، أو حتى  اولئك الذين  ينتمون جغرافيا وقوميا الى  اي مكان اخر خارج المنطقة العربية .
المسيحيون في المنطقة العربية هم في الاصل يرجعون الى اصول قومية وجدت وعاشت في هذه  المنطقة ( سوريا ،فلسطين ،مصر ، الاردن ، بلاد مابين النهرين ، ) وقد حَكموا هم سياسيا هذه الجغرافيا بعناوين حضارية تمتد لالاف السنين قبل ان يتحول الجزء الاعظم منهم الى الديانة المسيحية ، اي بمعنى انهم ينتمون الى الجذور الاساسية للمجتمعات البشرية التي سكنت هذه المناطق  بكل المكونات القومية التي شكلتها انذاك ولم يكونوا طارئين على هذه الارض، وعندما جاء المسلمون من الجزيرة العربية الى هذه الامكنة التي شهدت اولى الحضارات الانسانية نشأت علاقة اندماجية انسانية ومجتمعية مع فيما بينهما ومع من تحول منهم الى الدين الجديد ولم تنشأ في السنين الاولى للدعوة الاسلامية  فيما بين اتباع الديانتين المسيحية والاسلام وحتى مع اليهود ايضا علاقة تصارعية ـــ على الاقل في السياق العام لتاريخية وطبيعة تلك العلاقة ــ  تهدف الى رفض الدين الاخر عن طريق قتاله ومحاربته ، بل على العكس من ذلك كانت هذه الجغرافية الواسعة حاضنة طبيعية نموذجية لتعايش اديان مختلفة والسبب في ذلك يعود الى ماتّسم به سلوك ورد فعل سكان البلاد الاصليون ( كلدان ، اشوريون ، اقباط ) وهو إن دل على شيء انما يدل على خُلق ٍعال ٍوقد ضم بين طياته وتفاصيله قدرة على التعايش والتفاعل والتواصل الانساني مع اتباع الدين الاخر الجديد  بينما كان  اتباع الديانة المسيحية انذاك يشكلون الجزء الاكبر من تلك المجتمعات ،وهم بموقفه المتوازن والمعتدل ذاك  كانوا قد انطلقوا من جوهر الديانة المسيحية التي تؤكد على قيم المحبة والتسامح مابين البشر واستبعاد كل الدوافع وردود الافعال العدوانية والعنيفة فيما بينهم .

بيئة انسانية منفتحة
 لذا وجد الدين الاسلامي الجديد انذاك واتباعه بيئة منفتحة لاستقباله ولم يواجه اية صعوبات ومحن مع من كان يدين بالمسيحية حتى وهو يبشر بتعاليمه بينهم بل العكس من ذلك فأن سادة قومهم ،كانوا  في مقدمة من لجأ اليهم محمد (ص) في اللحظات الحرجة الاولى من نزول الوحي عليه ، فما كان منه إلاّ ان يلجأ الى من كان مبعث ثقة واطمئنان، كورقة بن نوفل ، لما كان يمتلكه من اعتقاد راسخ بالله الواحد الاحد ، ذلك لانه كان على دين عيسى بن مريم (ع) ولانه رجل عارف وحكيم يملك العلم والفهم بالميثولوجيا والاديان والمعتقدات وتاريخ المنطقة ،وقبل هذا كله ماكان قد نشأ من علاقة وثيقة كانت قد نضجتها الاعوام الطويلة التي تقادمت عليها،مابين محمد وعمه ابوطالب مع رجال دين مسيحيين ـ منهم الراهب بحيرة ـ   كانوا يستقبلونهم في اديرتهم ويبيتون عندهم عدة ايام وليالي طلباً للراحة من عناء السفر في اشهر محددة من السنة وهم يتحركون بقوافلهم التجارية صيفا مابين الشام والجزيرة العربية وماكان يتناقل فيما بينهم من معارف وافكار وفلسفات .
ودعونا نتأمل قليلا مع انفسنا لنستجمع صورة واقعية عن طبيعة وقوة تلك العلاقة التي كانت قد نشأت بينهم ،اخذين بنظر الاعتبار اننا لم نجد في كتب السيرة والتاريخ مايشير بسوء اليها ويثلمها بل وجدنا دائماً  مايُثني على تلك العلاقة وعلى ما فيها من لحظات مهمة طالما اعتز فيها المسلمون في كل الحقب اللاحقة بعدها كلما أستذكروا تلك الرؤية النافذة للراهب بحيرة عندما  وجد في لحظة ما ذلك الشاب محمد بن عبد الله قادما مع القافلة برفقة عمه ابو طالب والغمام يظلله في عز الصيف ليترسخ في اعماقه حقيقة تؤكد بأن هذا الشاب سيكون له شأن كبيرفي المستقبل وكانت تلك  بمثابة الرؤيا لدى الراهب بحيرة .
لاشك ان تلك العلاقة التي كانت قد  جمعتهم سوياً تحت سقف الدير عكست في معانيها ودلالاتها نظرة انسانية فيها الكثير من التقدير والاحترام والايمان والثقة المتبادلة فيما بينهما وخصوصاً في جانبها الفطري لدى محمد (ص) تجاه المسيح واتباعه ابتدأً من المرحلة المبكرة لطفولته وشبابه قبل ان ينزل الوحي عليه ويعلن رسالته ، ولم تتغير نظرته ومواقفه تلك حتى بعد ما نزل عليه الوحي اول مرة إذ لم يلجأ حينذاك الى  اي واحد من افراد عشيرته او اقاربه ليبدد قلقه باستثناء ورقة بن نوفل.
 هذه هي العلاقة الاجتماعية التي جمعت المسلمين مع المسيحين على هذه الارض وكانت بشكلها وجوهرها بيئة نقية وصالحة ودافعة لكي يتقدم الاسلام خطوة اثر خطوة الى الامام .

كي لاتغرق السفينة  
لاينبغي هنا ان يتم التجاهل المتعمد من قبل الحركات الاسلاموية المتطرفة للقبائل العربية التي كانت تدين بالديانة المسيحية وكانت تشكل بحضورها ثقلا وعلامة بارزة من التاريخ المجتمعي العربي قبل وبعد الاسلام فهل يمكن ان نشطب قبيلة تغلب وربيعة وبكر ؟ وهل يمكن ان نمحو من تاريخنا العربي مملكة كندة وهل بالامكان ان نغيّب من ذاكرتنا الثقافية اشعار امرؤ القيس وعمر بن كلثوم والمهلهل والاخطل وغيرهم الكثير من الاسماء التي شكلت وعينا وخصوصية ذائقتنا الانسانية التي نفاخر بها امام شعوب العالم ..؟
ولنا في الدولة والخلافة الاموية الاسلامية قدوة حسنة عندما اختار خلفاؤها الذين تعاقبوا على ادارتها الشاعرالاخطل  ليكون شاعرها الاوحد بلامنازع رغم كونه مسحياَ .
فهل يصح نكران هذا التاريخ الجميل والنظيف الذي كان مابين اتباع هاتين الديانتين ومحوه من ذاكرة الاجيال ليحل محله شكل اخر من العلاقة طالما روّجته جماعات اسلاموية متطرفة احالت العالم الى جحيم بطروحاتها وهي  لاتملك سندا ولانصا ً صريحا مُتّفق عليه يمكن ان يؤطر ماتدعو اليه في خطاباتها وبياناتها المتشددة ضد المسحييين من  ابناء هذه المنطقة لتضعهم بكل سهولة في خانة واحدة مع مسيحيي الغرب متناسية ومتجاهلة  كل ذاك  التاريخ المجتمعي والانساني المشترك سواء البعيد منه أوالقريب عن عمد ٍاو جهلٍ  ولتزيد العلاقة مابين المسلمين والمسيحيين يوماً بعد اخر سوءاً وخطورة عندما تلصق بهم صفة الخيانة والانتماء والارتماء في احضان الغرب وحكامه وساسته ومفكريه ومنظريه ،  هذا الغرب الذي تسبب مع زعماء واحزاب المنطقة بكل الدمارالذي لحق  بشعوب المنطقة العربية برمتها .
آن الاوان على قطاع واسع من شعوب المنطقة العربية المسلمة ـ لايستهان بحجمهاوثقلها ـ بعد ان صَحَتْ من غفوتها التي طالت عقوداً طويلة وهي ترزح مُظللة بوعيها وارادتها تحت حكم قادة شاؤا بوعيهم وبارادتهم ان يؤسسوا ويساهموا في ترويج وتشجيع وتعميم كل ما يؤجج الاحتقان الديني والطائفي فيما بين مكونات المجتمع العربي من اجل ان يكون ذلك الخلاف والاحتقان شماعة وفزّاعة يعلقون عليها عجزهم وتخلفهم وعدم قدرتهم في صنع مستقبل افضل للفرد والمجتمعات في اوطانهم وليكون هذا الخلاف ايضا بكل تشظياته  شاطىءَ آمان ٍلهم لاستمراربقائهم في السلطة .
آن  الاوان لتصحيح مارُتكب من اخطاء في الفهم والنظرة والممارسة لدى دعاة التشدد والتطرف في مجتمعاتنا تجاه المكوّن المسيحي العربي لاننا نركب سفينة واحدة تعوم  في بحر هائج متلاطم الامواج .  
.  
                                                            مروان ياسين الدليمي

127
مُسَمّياتُ المَشهدِ المُنهار ْ


أليات الثورة
ثورة العرب في  تونس ومصر قدمت نفسها بشكل مدني  متحضر بأطار سلمي بكل التفاصيلها التي  رسمتها اجيال شابة جديدة عكست من خلالها وعيا متقدماً  في فهم جوهر المشكلة التي راكمت التخلف في المنطقة العربية من المحيط الى الخليج  عقوداً من الزمن ، كما عكست تعبيراً واضحاً عن تطلعات المجتمع وأهدافه عبر ممارسات وفعاليات احتجاجية واعتصامية مبتكرة جاءت بها وتوصلت اليها واتفقت عليها القوى السياسيةالتي ساهمت وشاركت بها  من خلال حوارات ونقاشات ابتدأت  من العام 2008 على مستوى فردي وجماعي  ووضعت لها تسميات وعناوين لها دلالات سياسية واضحة على مواقع التواصل الاجتماعي ( facebook twitter  (واكتسبت تسمياتها تلك من واقع احداث مؤلمة استفزت مشاعر المجتمع  المصري عندما تعرض فيها افراد عاديون مثل الشاب خالد سعيد لقمع شديد دون مبرر من قبل اجهزة السلطة على اثرها فارق الحياة ، وكان تأثير عرض مقطع فلمي قصير لم يتعدى زمنه ثلاث دقائق تم تصويره بكامرة هاتف محمول عبر موقع(YouTube  ) يظهر فيه ذلك الشاب وهو يتلقى الضرب من قبل قوات الشرطة أثر كبير جداً حتى تتشكل على اثره مجموعة ( كروب ) على موقع الفيس بوك تحمل اسم خالد سعيد تدعو الى ضرورة تنظيم الوعي والجهود من اجل احداث تغيير جذري في نظام الحكم السياسي القائم في مصر منذ ثلاثة عقود ، ويقف وراء تأسيس تلك المجموعة على شبكة الانترنت شاب مصري  اسمه وائل غنيم في العقد الثالث من عمره يحمل شهادة عليا (ماستر) في علوم الحاسبات ويعمل مديراً للمركز الاقليمي في الشرق الاوسط لشركة محرك البحث كوكل على الانترنت ،ايضاً تشكلت مجموعة اخرى على نفس موقع الفيس بوك حملت اسم حركة(  6 ابريل)  ويشير هذا  التاريخ الى اليوم الذي كان قد خرج فيه هولاء الشباب الذين كانوا يتحركون علناً عبر واقع افتراضي الى الواقع الفعلي في اول اعتصام لهم عام  2008 . كما استجابت  بكل حيوية وسرعة الجمعية الوطنية للتغييرالتي يتزعمها د. محمد البرادعي لهذه المتغيرات في آليات الدعوة للتغيير واسست لها هي ايضاً مجموعة( group  ) على موقع الفيس بوك وتويتر يحمل اسمها حتى لاتكون بعيدة عن روح العصر وايقاعه المتسارع الذي يجسده الشباب خير تجسيد . 
أزمنة القسوة    
على هذا الشكل الذي يحمل روح وايقاع العصر  تشكلت عناصر الثورة في تونس ومصر واعلنت الثورة عن نفسها للعالم فكان   ال 14 من شهر يناير/كانون الثاني هو موعد إعلانها  في تونس وتاريخ ال  25 من الشهر نفسه موعد اعلانها  في مصر، وفيما بعد من الايام القريبة جداً من هذين التاريخين لحقت بهذه الثورة  بقية شعوب البلدان العربية مقتفية اثرها وخطواتها وآلياتها في التعبير شكلاً ومضموناً  لتواجه طغاة ،عتاة ، قساة ، ظلمة ، لم يقدموا  لشعوبهم مشروعاً تنموياً مثمراً وناضجاً لشعوبهم يستحق التقدير طيلة عقود طويلة مضنية مُهلكة ومُستهلِكة للزمن والطاقات البشرية والمادية ،كانوا فيها هائمين عائمين بعوالم وردية لازوردية ناعمة مترفة لاصلة لها مع واقع معيشي غيرانساني يعيشه ويتجرعه ويرزح تحته اغلبية قطاعات الشعوب في البلدان العربية ، اولئك الحكام ظلوا  لعقود طويلة جاثمين على رؤوس شعوبهم لم يفعلوا شيئاً يساعد في انتشالها من العيش تحت مستوى خط الفقر الذي وصلت نسبته  كما تشيرالى ذلك  المنظمات الدولية التابعة الى الامم المتحدة الى 40 % من مجموع العدد الكلي للسكان في العديد من البلدان العربية وفي المقدمة منها مصر التي وصل عدد سكانها  حتى العام 2010 الى 80 مليون نسمة ! . لم يفعل اولئك الحكام مايشير الى انهم يحترمون ادمية الانسان في العيش امناً داخل بيته ووطنه دون ان تنتهك كرامته وحريته ويتم اعتقاله وزجه في السجون والمعتقلات دون أمر قضائي ودون ان يكون قد ارتكب جناية ودون ان تترك له فرصة للدفاع عن نفسه ،وقد يكون ذنبه انه قال كلمة عابرة في حديث شخصي عابرتعليقاً على امرعابر وشاء ان تواجد لحظتها بالقرب منه مخبرسري بشكل عابر فأوصل مالتقط اذناه الى من كان شغله الشاغل الترصد والتنصت والتجسس على كل صغيرة وكبيرة ،الوارد والشارد في حياة الناس، لافرق في هذا بين  كبير وصغير،  بين متعلم وجاهل . فالكل متهم ومشكوك فيه وبنواياه وبولائه وعدائه  للسلطة والقائد والحزب الحاكم  .
اولئك الحكام انشغلوا  حد الهوس والمرض  والجنون بتكريس  انظمة سياسية امنية مرعبة ومرعوبة ،متخلفة وفاسدة ، وحينما بدأت تتهاوى وتسقط واحدة اثراخرى تحت ضغط شعبي سلميّ اخذ يتصاعد يوماً بعد اخر، لم تخلف وراءها سوى تاريخ  قذر من القهر والفقروالفساد  وسجل حافل بهزائم عسكرية وسياسية مع عدو اجنبي وانتصارات وهمية صدعت بها رؤوس الناس البسطاء لم يكن  لها اي وجود على ارض الواقع الاً في أناشيد وكتب ومؤتمرات وخطابات وتجمعات مفتعلة مزيفة كاذبة ساذجة تفتقد الى الحد الادنى من المنطق والمصداقية والاقناع كما هو الحال في نمط افلام المقاولات التي كانت قد شاعت في مصرخلال  ثمانينيات القرن الماضي .
انقلابات ُأم ثورات
هذه ثورة بالمعنى  والمصطلح الاكاديمي الدقيق عندما  نصف جوانبها  وآلياتها واهدافها ودلالاتها وشعاراتها وممارساتها وقواها الشابة التي فجرتها وبقية فئات وطبقات الشعب التي تظافرت معها ونظمتها وقادتْها في مسارها بشكل مميز ومدهش سالكة طرقاً  لم تكن تخطرأبداً على فكر ومنهج  اجهزة الامن والمخابرات والاستخبارات لكل الانظمة العربية  الحاكمة والقوى السياسية المخضرمة المعارضة لها خلال التاريخ المعاصر الذي يمتد على طول القرن العشرين وماتلاه من السنين ،بل يمكن القول بشكل مطلق ان كل ماكان قد جاء قبلها واطلق عليه جزافاً وتحريفاً وتزييفاً وخداعاً على انه ثورة لم تكن سوى انقلابات عسكرية قامت بها زمرة من الضباط  المغامرين الطامحين الى الحكم لاأكثر من ذلك ، ولم يكن في جعبة اية مجموعة  منهم عندما كانت  تخطط للتمرد على النظام القائم  او حينما وصلت الى كرسي الحكم اي برنامج تنموي نهضوي يستثمر ويستنهض قدرات وطاقات وامكانات البلاد ، ارضاً وشعباً وثروات ،  وكل الذي كان  قد حمله افراد تلك المجموعات في جيوب بزاتهم العسكرية : ليس سوى ورقة سجلت فيها شعارات طنانة رنانة طالما تم التركيزعليها من قبل قادة تلك الانقلابات المتوالية  انطلاقاً من قصور وعيها وانعدام خبرتها السياسية وضآلة طموحاتها الذاتية في الوصول الى كرسي الحكم لذا كانت لاتملك وسيلة ناجحة لكسب الناس اليها وجرها مخدوعة الى صفها سوى ان تخاطب غرائز واحاسيس ومشاعر وطنية جامحة فياضة وصادقة عند جموع الشعب العربي الفقير البسيط الامي ّ، ولم تكن تخرج في عموم نلك البيانات والخطابات وتفاصيلها عن اطار محاربة الاستعمار والرجعية والصهيونية والشعوبية وقوى الكفر والالحاد ومن لف لفهم ! وغالباً ماكانت تلك البيانات يتم كتابتها على عجل في الساعات والثوان التي تسبق اعلانها من وراء ميكرفون الاذاعة أومن على شاشة التلفزيون . ولم تشهد تلك الانقلابات التي سميت ثوارت  في الايام والسنين التي اعقبت لحظة نجاحها اي حوار جدي ملموس وصادق تم فتحه مع  بقية القوى السياسية والفكرية التي كانت تتواجد على سطح المشهد المجتمعي وتؤثر فيه من اجل التشاور معها والاصغاء لها والاخذ بما تطرحه من افكار وملاحظات تهدف في مسعاها الى  الاخذ بواقع ومستقبل البلاد نحو مرحلة جديدة تعقب ماسبقها لترفع عن كاهل المواطن بعض ما كان يئن ويرزح تحته من ظلم وبؤس اجتماعي واقتصادي ،  كما لم  تشهد تلك الفترات محاسبة قضائية  تتوفر فيها ابسط الشروط والضوابط القانونية لرموز العهد السابق لها، لتكتسب على الاقل وفي الحدود الدنيا شكلا من الشفافية يوسمها  بالعدالة  التي ينبغي توفيرها  للمتهم للدفاع عن نفسه ازاء مايوجه له من تهم  .
أزمةُ ُالعقول ِالمتأكسدة
ان ماجرى بكل انقلابات العسكر في خمسينيات القرن الماضي وماتبعها من متغيرات سياسية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين سواء في مصر أو العراق أو ليبيا أو سوريا أو اليمن  جاء على عكس مانشهده اليوم في ثورة  تونس ومصر من حراك وحوار وتحركات وافكار يعبرعنها شباب الثورة  باصدق واجمل وانضج صورة ، وقد فتح هذا الفضاء الرحب الجديد الذي خلقته هذه الثورة  للقوى والاحزاب السياسية مجال الرؤية والتفكير بشكل اوسع واكثر حيوية مما كانوا قد تعودوا عليه في آليات عملهم السياسي المعارض خصوصاً مايتعلق منه بعلاقتهم مع بعضهم البعض او مايتعلق بطبيعة الخطاب السياسي المطروح  الذي بدت ملامح التغييرفيه  واضحة في ألنبرة واللهجة المتصلبة والمتحجرة والمتطرفة لدى العديد من القوى التقليدية ذات الصبغة الدينية والقومية  على وجه الخصوص بعد ان وجدت نفسها امام خيار وحيد خلقه مناخ عام يسود المجتمع  يتوق فيه الى : بناء نظام سياسي مدني برلماني يحتكم فيه الى شرائع وقوانين واضحة مثبتة في دستور جديد ينبغي كتابته على انقاض دستور صوري كانت قد  صيغت فقراته الاساسية لاجل ان يضمن للحاكم وحزبه الامساك بعصا السلطة الى فترة غير محددة ومعلومة ، ويضمن لابنائهم أن يرثوا الحكم من بعدهم  .
منظومة التزييف الدولية
ان شباب تونس ومصر آلوا على انفسهم أن لا يوقفوا دواليب الثورة عن الدوران الى ان ترسي ركائزها على ارض ثابتة واضحة بعد ان تكون قد اقتلعت منها كل ماله صلة بذاك الارث الفاسد الذي انتفضت وثارت عليه من رموز وافكاروقوانين ودساتيرومؤسساتٍ وممارسات خاطئة اساءت واجرمت  بحق الوطن والمواطن في أحزانه وأفراحه ودمه وأحلامه وأطفاله ولقمة عيشه، ولو شاءت ان تتوقف بمجرد سقوط رأس النظام، وتراخت فيها الافكار والامال والسواعد  ومالت ولو قليلا الى المرونة والليونة والتسامح مع النظام القديم وكل رموزه عندها لن يكون للثورة من معنى جديد  وستكون  ساعتها قد ارتكبت اول واكبر اخطائها واعطت الفرصة  لالتقاط الانفاس مرة اخرى لمن كان قد  تسبب بكل هذا الارث من التخلف والتراجع والتردّي واعطى  نتيجة لذلك : ساسة الغرب وامريكا الحجة والعذر في أن يوصم العرب والمسلمين بسمة التطرف والتخلف والتعصب والارهاب وأنهم باتوا يشكلون خطراً وتهديداً شديداً ومرعباً على أمن وسلامة العالم والكرة الارضية مما يستدعي ويستوجب ان تتكاتف وتتآزر وتتحالف وتتعاضد كل الامم المتحضرة المسالمة ضدهم ،وتتخذ من اجل ذلك اجراءات وقرارات دولية ظالمة ومجحفة ، سواء كانت قد  اكتسبت الصفة القانونية التي تقرها مواثيق هيئة الامم المتحدة أو لم تكتسبها ، ولواقتضى تحقيق هذا الهدف اللجوء الى  الكذب والتلفيق والتزوير في وثائق  ومستمسكات فلن ولم يترددوا في اللجوء الى ذلك ،  وهذا ماحصل فعلاً وقولاً عندما قررت  اميركا ان تغزو العراق وتحتله ، إذ لم يعد خافياً على أي مراقب ومطلع على ماجرى من احداث  وما قامت به واختلقته وانتجته  منظومتها السياسية والاعلامية من اجندة واساليب مخادعة لتزويرالحقائق والوقائع التي قدمتها بأعتبارها وثائق دامغة تؤكد وتثبت مايشكله العراق بزعامة صدام حسين ونظامه من خطر كبير يهدد العالم لما يمتلكه من اسلحة دمار شامل .
نصف الحقيقة
ومع مواققتنا التامة على كل الملاحظات والتقارير التي كانت تدين نظام صدام وحزب البعث الحاكم في العراق وتتهمه بالعنف والقسوة والوحشية في تعامله مع من كان  يختلف معه ويعارضه من ابناء شعبه إلاّ أننا نختلف مع الرأي الذي تم  الترويج له وتعميمه من قبل اميركا وحلفائها الغربيين وبتسويق من  الاحزاب العراقية المعارضة انذاك بأن :  صدام قد اقتصر ظلمه على الشيعة والاكراد وبقية الاقليات واستثنى من ذلك  الطائفة السنية التي ينتمي لها .  بينما هنالك العشرات من الدلائل والوقائع والاحداث التي تدحض هذا التظليل الذي طالما سوقته الدعاية الاميركية والمعارضة العراقية انذاك التي تؤكد بالدليل القاطع على ان نظام صدام كان  يوزع ظلمه بالتساوي على الجميع ولم يسلم من ذلك حتى من كان هو اقرب الناس اليه صلة بنسب الدم ، ويكفي ان نتذكر ما آل اليه مصير صهريه الشقيقان حسين وصدام كامل، اضافة الى قائمة طويلة من الذين تم اعدامهم من الطائفة السنية التي ينتمي اليها .مثلما حصل عند ما تم اعدام  الحكيم راجي التكريتي بعد أن وجهت له تهمة التأمر على الحكم  والضابط في الجيش العراقي محمد مظلوم الدليمي  ومن كان معه من الضباط والجنود بعد ان اتهموا بالتخطيط للاطاحة بنظام الحكم وسطم الجبوري الضابط الذي فشلت حركته التي كان ينوي فيها اسقاط نظام الحكم فأعدم هو ومن معه في الحركة والتنظيم من جنود واعضاء اخرين مدنيين . اضافة الى اسماء عديدة اخرى يطول تعدادها كلها كانت من الطائفة السنية . 
غزوٌ .. على نار هادئة
 كانت  الاساليب والاكاذيب التي لجأت اليها القيادة الاميركية وخدعت بها الامم المتحدة على لسان وزير خارجيتها كولن باول وبقية الساسة الاميركان هي  التي هيّأت الارضية المناسبة لان تتخذ قررات دولية خطيرة لاسابقة لها في تاريخ العلاقات الدولية التي ترعاها الامم المتحدة وفرت  من خلالها لاميركا  الغطاء القانوني الذي يعطي المشروعية في  غزو واحتلال العراق فاستباحت ارضه وتمكنت من ثرواته ، وهذا هو بيت القصيد الذي كانت تختفي وراءه تفاصيل هذه اللعبة التي تم التخطيط لها وطبخها على نار هادئة  مستثمرين كل الظروف والعوامل التي كانت قد ساندتها وعجلت بها والتي تتمحوراولاً واخراً  بتلك السياسات المتهورة والمتشنجة التي كان قد ارتكبها صدام حسين شخصياً انطلاقاً من طبيعته التي تتسم في جوهرها على احتواها لمخزون متناقض  من المشاعر والاحاسيس والافكار المتطرفة والتي تختلط فيها  الدوافع الانفعالية القبلية المتعصبة مع احساس متفاقم بالحرمان يعود الى سني الطفولة مختلطاً بوعي طبقي يميل الى التعاطف مع الفقراء لكنه يصل الى درجة عالية من  الكره والحقد تجاه طبقة اصحاب الاملاك والاموال  من العوائل العراقية الغنية المتحضرة . إضافة الى مارتكبه من جرائم جماعية  بشعة ضد شعبه تحمل الجزء الاكبر منها الشيعة والاكراد،  يضاف الى ذلك طبيعة العلاقات المتوترة والمتشنجة التي تسبب بها مع العديد من  الدول العربية ( الكويت ، السعودية ، مصر ،سوريا ) او مع ايران و بعض الدول الغربية الكبرى  .
الزمن العصيب
وليزداد بعد ذلك  وضع العراق بعد دخول الاميركان وسقوط نظام صدام   سوءاً بعد سوء ويغرق في ازمنة مظلمة مهلكة اكثر مما كان عليه قبل التاسع من نيسان عام 2003 ، ولتكون الفرصة سانحة اكثر من ذي قبل لكل القوى المتطرفة والمتخلفة  في المنهج والفكروالعقيدة قومية ودينية  لكي تصحو مرة اخرى من نومتها وغفوتها  لتنتعش وتحيا وتتسع وتتاجر بالدين والطائفة والعِرق والنسب والقبيلة والدم ، بعد ان تغلّف تخندقاتها الضيقة  تلك  بشعارات وطنية فضفاضة زائفة، وليدخل مستقبل بلد مهم وعريق وغني مثل العراق في زمن عصيب  غامض مقلق ٍ مرعب غير مطمئن ، بات العراقيون فيه بعد العام 2003 مهددين بحياتهم وارواحهم وامنهم ومستقبلهم في كل لحظة وأمسى بلدهم ساحة لصراعات دولية واقليمية لايدفع ثمنها الباهض سوى المواطن العراقي بدمه وامنه ومستقبله ، وليصبحوا في مقدمة  الشعوب التي تقف طوابيراً  امام ابواب مفوضيات شؤون اللاجئين  في العديد من دول العالم طالبة  اللجوء الانساني  وهذا ماأقرته احصائيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين خلال الاعوام الثامنية الماضية ، إذ وصلت اعداد الذين  خرجوا هاربين منه  بسبب الاوضاع الامنية المتردية والظروف المعيشية السيئة  الى اكثر من خمسة ملايين شخص . 
سؤال واحدٌ لاغير   ؟
وهنا يبرز سؤال يتكرر طرحه بأشكال وصيغ مختلفة من قبل اوساط مراقبة مختلفة ومتنوعة  :
من يتحمل مسؤولية  ماجرى يجري هذه الايام  من احتجاجات وانتفاضات واحداث تتسم بالعنف والدموية ويسقط جراءها يومياً العديد من القتلى والجرحى في معظم البلدان العربية دون استثناء من المحيط الى الخليج  ؟ من أوجد الارضية الخصبة لكل هذا التوتر والتشنج والانفجار في الشارع العربي   ؟ من  كرّس شعوراً دائماً بالانكسار والضعف والهزيمة  لدى الفرد العربي؟ من أورث  المجتمعات العربية هذا المستوى المفجع من الفقر؟ من دحس في ادمغة الناس البسطاء  بشعارات وطنية براقة تنادي بالوحدة والحرية والاشتراكية لعقود طويلة ولم يحقق منها شيئاً ؟  من باع ثروات ألبلاد الوطنية بثمن بخس لشركات ودول اجنبية لأجل ان يتنفع هو لوحده مع اعوانه وازلامه من تجار ورجال اعمال ولصوص كبار ويحرم الشعب من عوائدها ؟ من حرم اولاد الفقراء  من التعليم ؟ من اسكنهم علب الصفيح والمقابر وبيوت الطين ؟ من اعطى الفرصة سانحة سائغة  للهمرات والدبابات والطائرات والبارجات والقاصفات الامريكية والصهيونية والغربية حتى تقصف وتدك بيوت  الناس على رؤوسهم ؟ من سمح للجندي الاميركي ان يهتك بابشع صورة شرف الابناء  في سجن ابي غريب ويهزأ امام العالم  بكرامتهم  ؟ من قتل الشاب المصري خالد سعيد في مصر؟ ولماذا ضرب ؟ وبأي حق ؟  من الذي  دفع الشاب التونسي البوعزيزي لان يبيع الخضروات على عربة  يدفعها متنقلاً  بين الدروب والشوارع وهوالقروي الفقيرالذي كان قد تمكن بجهده وكفاحه بعد سنين طويلة  قضاها في تلقي العلم على مقاعد  الدراسة  من الحصول على شهادة جامعية ؟ من اوصله الى حافة اليأس من هذه الحياة بعد ان كان قد عجز عن الحصول على وظيفة بسيطة تليق بشهادته الجامعية ليقرر بعدها الخلاص من ذل الحياة  في وطن اهانه وذله ومسح تعبه وجهده وكرامته ومرّغها بالوحل  ؟ من قاده الى وسط الشارع ليصرخ بأعلى صوته محتجاً وغاضباً وحانقاً عندما وجد السلطة مازالت صماء بكماء عمياء عنه وعن كل المواطنين الذين كانوا قد تجمعوا حوله وصاروا يرددون خلفه  الهتافات والشعارات المنددة بالسلطة ؟ من  أوقد في جسده النارواحرقه ليموت من الحسرة والكمد ؟ من الذي كان قد تسبب في اصابة الشاعر المصري نجيب سرور  بالكآبة والجنون والتشرد  وهو الذي يعد واحداً  من اهم الشعراء الذين انجبتهم مصر مابين  العقد السادس والسابع من القرن العشرين ؟ من يقف وراء اختفاء اي اثر للمفكر العراقي  الكبير عزيز السيد جاسم بعد اعتقاله  في مطلع تسعينيات القرن الماضي ؟ من بنى سجوناً ومعتقلات سرية حتى يسحق في ظلمتها ابناء الوطن الشرفاء ؟ من بنى غرفاً للتعذيب تحت الارض في الجادرية وقصر النهاية وسجن بادوش وابوزعبل وليمان طره ؟ من كافأ سراق قوت الشعب والمال العام بالعفو والمغفرة ثم الترقية والتكريم ؟  من حرم الشعوب العربية من التنعم بثرواتها كبقية شعوب الارض وبددها في بناء جيوش جرارة عاجزة عن تحرير ولو شبر واحد من الاراضي المغتصبة؟ من تسبب بكل هذا الارث  المفجع والمخزي ؟ أليس القادة والزعماء والملوك العرب ومعها الاحزاب الحاكمة منذ العقد الخامس في القرن العشرين حتى الساعة  ؟
هل مازالت الفرصة قائمة ؟
آن الوقت أن ُتزاح  تلك القوى المتحكمة المتغطرسة المتجبرة المتخلفة الجبانة الهشة الضعيفة المريضة العاجزة الشائخة عن واجهة المشهد ، وأن لايسمح لها ابداً ان تأخذ فرصة اخرى في الطموح والصعود الى الحكم مرة اخرى ذلك  لانها فشلت في التجربة تماماً  واستنفذت كل الفرص التي اعطيت واتيحت لها ولم يعد ممكنا القبول بها وبمسمياتها وافكارها وشعاراتها وعقائدها بعد ان تركت لنا وللاجيال التي ستأتي ومن سيقود البلاد بعدها ارثاً ثقيلاً ومعقداً.
ان على البعض من تلك القوى الحزبية والسياسية العربية  التي كانت في يوم ما صادقة ونظيفة في مبادئها وتطلعاتها الثورية والقومية في لحظة من  لحظات بدايات نشؤوها وتأسيسها قبل اكثر من نصف قرن قبل ان تصل فيما بعد الى سدة الحكم وتربعت على عروش وكراسٍ عقوداً طويلة  يتوجب عليها إذا مارادت واصرّت ان تبقى في المشهد :  ان تنزوي بعيداً مع ذاتها لفترة ما تطول او تقصر حسب ماتقتضيه المراجعة مع النفس  والتحديق ملياً فيها ، وان تواجه  بكل شجاعة وصراحة ماضيها وتجربتها وافكارها ، وتنقد نفسها بنفسها،  وتتنازل بإرادتها طائعة مرغمة عن تعنتها ومكابرتها ، وتكشف اخطائها وجرائمها علانية امام نفسها وامام المجتمع ، وتقدم اعتذاراً صريحاً وواضحاً عما ارتكبت من اخطاء  بحق شعبها .
وفيما لوفعلت ذلك يمكن لها ان تعطى  هي لنفسها فرصة اخيرة لصياغة وعيها من جديد ، وفهم الواقع الذي تنكرت له على حقيقته الناصعة بكل متغيراته وملامحه وقواه التي كانت قد غفلت عنها وتجاهلتها عن عمد ٍ وغباء ٍ وغرور في آن واحد ، حتى تخرج برؤية موضوعية سليمة وواضحة ، تمكن المجتمع بقواه الفاعلة والمتعددة من القبول بها بين صفوفه ومكوناته المتنوعة .
وإن لم تفعل ماينبغي عليها ان تفعله وركبها  مرة اخرى العناد والغرور كما كانت عليه طيلة مشوارها معتقدة اعتقاداً واهماً  جازماً بصواب مسيرتها وعظمة ماأنجزه قادتها بينما هي تعيش الان لحظات قاسية تتجرع فيها مرارة الهزيمة والانهيار ، عندها ستكون قد حكمت هي على نفسها بالموت قبل ان يحكم عليها الناس والتاريخ . 





                                       مروان ياسين الدليمي
                                           
                                         


128
ماذا بعد تسعة اعوام على سقوط نظام صدام  ؟

دخل العراق في عامه التاسع بعد سقوط نظام صدام حسين . . إذن هي تسعة اعوام مرت على شعب كان يغفو كل ليلة بعد نهار شاق وطويل معبد بالمفخخات والخطف والبطالة على املِ ِان يصحو على غد ٍجديد ٍيبعث فيه الشعور بالاطمئنان في وطنه بعد ان وجد الحالة المزرية والبائسة التي طالما حلم بزوالها عقوداً طويلة لم تتغير، وبقيت الاوضاع الانسانية فيه متردية كما كانت عليه قبل التاسع من نيسان عام الفين وثلاثة ، بل ازدادت سوءاً يوماً بعد اخر وعاماً بعد اخر .
ان تجربة التغيير السياسي التي حصلت في العراق بعد ان تمت ازاحة نظام البعث الذي امتد حكمه لأكثر من خمس وثلاثين عاماً. كان معولاً عليها ان تحدث تغييراً جذرياً في المسار السياسي لبلد مهم مثل العراق ظل لاكثر من من نصف قرن بعد سقوط النظام الملكي عام الف وتسعمئة وثمانية  وخمسين خاضعاً لإهواء ِوامزجة ِحفنة من الزعماء العسكر الذين كانوا قد جاؤا الى سدة الحكم  اثر انقلابات عسكرية قاموا بها . ولم يقدم اولئك القادة  طيلة حكمهم اي مشروع تنموي تستثمر فيه طاقات البلاد ارضاً وثروات وشعباً . بل على العكس من ذلك ذهبت كل الثروات هباءً في بناء ترسانة عسكرية اثقلت اقتصاد البلاد وتسببت في افقار شعبه وحرمانه من ابسط حقوق العيش الكريم .
كان من الطبيعي ان يشعر المواطن في العراق بالكثير من الفرح والتفاؤل وهو يستقبل سقوط النظام السابق الذي تسبب في تدهور اوضاعه وحِدة معاناته وبؤسه الانساني عندما كان قد اغرقه في سلسلة طويلة من حروب مهلكة ،كلفته الكثير من دماء ابنائه ،اضافة الى الغياب التام لحرية التعبير والرأي .

كان العراقيون يتوقعون ان يشهدوا عهداً جديداً يقفون فيه على درجة واحدة مع بقية الشعوب التي تنعم بالحرية ، اضافة الى الرفاه الاقتصادي الذي كانوا قد حرموا منه طيلة عقود طويلة .. فهل تحقق كل الذي كان يتمناه المواطن العراقي ؟
ان الاجابة على هذا التساؤل تقتضي الدقة والموضوعية والانصاف في رؤية ماتحقق على الارض ومالم يتحقق وينبغي هنا الاشارة الى الاسباب والظروف التي احاطت وتحيط التجربة السياسية الجديدة في العراق وتشكل تحدياً لها .
 فليس من الانصاف القول بفشل التجربة كاملة والشطب عليها دفعة واحدة  فيما لو اردنا ان نتقصّى تفاصيلها بما لها وماعليها من نجاح او فشل .
علينا ان نقر هنا اولاً ومن حيث المبدأ : ان نظام الحكم الجديد في العراق من حيث الشكل والمحتوى هو الافضل والاصلح للعراق ولمستقبله السياسي اذا ماقورن بما سبقه من انظمة حكمته منذ تأسيس الدولة العراقية .  فهذا النظام الجديد يقوم على مبدأ جوهري واساسي في النظام الديموقراطري  هو التدوال السلمي للسلطة  وفق آليات شكلٍ سياسي ديموقراطي تعددي برلماني قائم على منظمومة دستورية  تم الاتفاق والتصويت عليها من قبل الشعب . رغم العديد من الملاحظات السلبية  التي سجلت على الكثير من فقرات هذا الدستور  ودعت ومازالت اصوات قانونية واطراف حزبية الى ضرورة تغييرها واعادة صياغتها .
كما ان هذا النظام قد اتاح للعراقيين الفرصة للتعبيرعن افكارهم وارائهم السياسية بعد ان كانوا قد حرموا منها لعقود طويلة ، وبات امام العراقيين فرص واسعة للاطلاع على كل مايدورحولهم داخل وخارج البلاد بعد ان كانوا معزولين تماماً عن كل مايجري من حولهم، ولم يكن يصلهم سوى صوت النظام السياسي واجهزته الاعلامية التي كانت تكذب في كل صغيرة وكبيرة . وتحرص على اخفاء المعلومات التي لها صلة بحياته ومستقبله . .
ولكن هذا لايعني بأن النظام الجديد قد خلا تماماً من هذه السُّبة . ذلك لاننا مازلنا نجد الاعلام الرسمي المقروء منه والمسموع والمرئي يرتكب الاخطاء نفسها التي كان يرتكبها النظام السابق . فهو مازال يلجأ الى تجميل صورة الاداء الحكومي بكل اجهزته ويتغاضى عن الاخطاء والتجاوزات والمخالفات التي ترتكب من قبل طواقمه الادارية والمسؤولة ، وهذا ما  يدفع المواطن الى اخذ المعلومة والخبر الصحيح من قنوات اعلامية اخرى غير رسمية تتوفر فيها الكثير من المصداقية التي باتت تفتقدها الاجهزة الاعلامية الرسمية .
ان على النظام السياسي الجديد في العراق بعد تسعة اعوام على قيامه ان يعيد النظر في الكثير من سياسات اجهزته الادارية والامنية والاعلامية . بعد ان تراكمت الاخطاء تلو الاخطاء في التعامل مع كل ماله صلة بحياة وامن المواطن .
ان التجربة في العراق رغم كل الملاحظات التي تسجل عليها تعد الافضل من بقية البلدان العربية التي نشهد فيها هذه الايام ثورات عارمة تجتاحها دون استثناء، ويمكن القول عنها دونما تحفظ انها الرائدة في مسار التغيير والتحول نحو البناء الديموقراطي في شكل نظام الحكم . الذي طالما حُكِمَت بموجبه  شعوب المنطقة العربية عقوداً طويلة ، ولم ينجز ذاك النظام السياسي العربي التقليدي سوى الازمات والتخلف في شتلى ميادين الحياة .
ولكي يأخذ هذا النظام السياسي الديموقراطي الجديد في العراق الفرصة كاملة في التجذر والاستمرار بشكل صحيح وسليم ينبغي ان تكون الشفافية اولاً واخراً هي المنهج الذي تتمسك به الحكومات التي تتعاقب على حكم البلاد بعد كل دورة انتخابية . لان في ذلك سيمنح الحكومة ثقة المواطن بها . كما سيقطع الطريق على من يسعى لممارسة الفساد في اجهزتها ..
ان التجربة في العراق بأمس الحاجة الى تعميق الشفافية في ممارساتها ضماناً لنجاحها في كل الذي تخطط له لبناء العراق . كما يعني ايضاً هزيمة لكل القوى الداخلية والخارجية  التي تسعى لاجهاظ هذه التجربة .



                                              مروان ياسين
                                             9/4/2011

129
حوار مع القاص والروائي هيثم بردى .

كاتب أي نص، يتماهى فيه السارد والناقد ،ويتعّسس عليهما الرقيب.



يقف القاص العراقي هيثم بردى في أزمنة تنفتح على تتداخل وتشابك الواقع والحلم والافتراض داخل مشغله السردي ، منطوياً بمخلوقاته ومشغولاته على هاجس حميم يتوق فيه الى أن يمسك لحظةً من البياض تنهمر في فضائها براءة التجريب والدهشة،ولأجل ان نشهد على سيرة مفتونة بالاجتراح والتشابك والتجاوز والنسج الفني في ظلال السرد القصصي والروائي ، اجرينا معه هذا الحوار . 
-إذا أردنا أن نستكشف مفهوم القصة القصيرة الذي ينسج من خلاله هيثم بردى عالمه القصصي، فما الذي يمكن أن يقوله بهذا الصدد؟
 إن عالمي القصصي, حسب تعبيرك, مستلٌ قطعاً من الفضاء الواقعي, فالحياة زاخرة بثيم لقصص وروايات, فليس ثمة عالم متخيل أو افتراضي, ولكن الواقعي قد يتحول إلى مفترض من خلال قدرة القاص والروائي على الموائمة والاصهار بين العالمين, وبناءً عليه من الممكن أن يتحول النص السردي إلى مجرد صور شاحبة متعاقبة لمصور هاوٍ بذائقة مضببة يلتقط الحيوات بروح ناقلة ناسخة وبزوايا التقاط محنطة, أو يتحول إلى تهويمات متداخلة متداعية لا تفصح عن كنه وناسوت النص, فيتحول إلى فسيفساء سفسطائية لا معنى ولا قيمة له، وأيضاً قد يتحول النص, إذا أمسك القاص بأداته بحرفنة إلى كيان ينبض بالحياة يستدعي كل تقانات النص الحديث, إنني عندما أنسج نسيجي القصصي, لا أحاول أن أوازن العصا من منتصفها تعزيزاً للمقولة الشائعة: خير الأمور....؟ بل أُدخل الثيمة والوحدات الأرسطية في فرني السردي الخاص بعد أن أعززهُ بعناصر تؤازره وتعاضدهُ لتكوين بنيان قصصي يتشرب التجديد بنسب محددة تدفع بالنسيج إلى البهاء والسحر..
-أنت أيضاً كتبت القصة القصيرة جداً وقطعت شوطاً في هذا المضمار نصوصاً وبحثاً. فما الذي دعاك إلى أن تتبنى هذا النمط من الكتابة؟ وهل يمكن للقصة القصيرة جداً أن تستجيب لما يود قوله هيثم بردى أكثر من حقول سردية أخرى؟
كانت ومضة وامضة قدحت في الذاكرة فأضاءت المدى فوراً, وأكثر ما أدهشني فيها قصرها واكتنازها ولغتها المضغوطة الموحية ونهايتها الواخزة التثويرية, فأحسست أنني اجترعت فعلاًً عجائبياً أشبه بميتافيريقيا الميتافيزيقيا, ولم أتوقع أن قصتي الأولى (صدى) هي أولى لبناتي التي شيدت مع مثيلاتها اللائي خرجن من عتبة أخيلتي لاحقاً, دارتي الخاصة المتواضعة في مدينة القصة القصيرة جداً.
بالتأكيد, إن القصة القصيرة جداً أصعب وأعسر الأجناس السردية وهي ضمن مواصفاتها القابلة للتطور والنماء والتجدد تستجيب قطعاً لما أُريد قوله, فهي مذراتي التي تقتنص الزبدة (الحبة) وتبدد الزبد (القشة), وبأقصر معالجة فنية وأنسب المفردات التي تمخضت من ذائقتي, والتي لو أخضعناها للبؤرة المشعة اللاّمة فإننا نجدها فضاءً وسيعاً يستدعي تبئيرها بأقصى ما تكتنزه من خصائص وسمات لا يتوشح بها أي جنس آخر.
-من أين جاء التجنيس للقصة القصيرة جداً لدى هيثم بردى؟ هل بفعل التجربة الكتابية الذاتية، أم من خلال الحس النقدي الذي تمتلكه؟ أم وفقاً لقياسات واشتراطات عالمية؟
كاتب أي نص, يتماهى فيه السارد والناقد ويتعّسس عليهما الرقيب, فهو حين يكتب نصه يكون الرقيب فيه جالساً على يمينه يراقب إبداعه ويتسّقط التابوات التي يخط عليها بمداده الأحمر ليبتر ويطفئ جذوة الإبداع في نصه, وحسه النقدي على يساره يلعب مع الرقيب لعبة التخفي, وبين صرامة هذا وبداهة ذاك ينبني نص يسعى نحو التكوين.
-الملاحظ أن الكتابات القصصية القصيرة تنحو باتجاه التجريب والشكلانية إلى حد كبير في مجال اللغة خصوصاً إلى الحد الذي تختفي الأفكار وتضيع في مشغل اللغة العالي الذي يبدو واضحاً في بناء شكلانية القصة القصيرة. ألا يدعو ذلك إلى انحسار القراء عن هذا الفن؟
ما كان بدهية قبل ستة عقود أو سبعة, صار الآن بفعل فعالية وتوالي الزمن الفائت وبتعاضده مع الزمن القابل في ذاكرة الزمن, فان اليوم الذي تصرّم قبل العقود السبع كان يختزن حيوات ورواسخ ونظريات خضعت للتطور أو حتى للتغيير, وفقاً لتقادم السنين, فلا عجب إذن أن تظهر خلال هذه الفترة اصطلاحات وتنظيرات ورؤى تحاول أن تشطب أل: ما قبل وتبشّر بـ أل: ما بعد... فالمدارس النقدية التي كانت تتبنى الشكل والمضمون وتعتبرها مدرسة راسخة، تقوضت تحت سطوة معاول المدارس النقدية الجديدة, وهذه المدارس لم تأت من فراغ بل هي خلاصة مخاضات وتبرعمات لتلك الرؤى النقدية, وبهذا فإن هيمنة التجريب والشكلانية – حسب قولك -, والكائن المنتفض المتولد من ذاته بكل عنفوان, ... وأقصد به اللغة, هو الوليد الشرعي والمنطقي لتينك المدارس النقدية, وأن البنيان السردي المشّيد من لغة مشفرة موحية جزلة متشابكة, وبتشكيلٍ عالٍ من البناء السردي واللغوي يشيده بّناء محترف. يكون الناتج تحفة فنية راقية.
أما ما يتوفر من تلك اللبنات إلى سارد (بنّاء) لا يخلط أولياتها حسب القياس, فان ما تخرجه أصابع ذاكرته تسيء إلى اللغة باعتبارها الأداة الرئيسية المهمة والخطيرة التي يبنى عليها النص, فتكون دارته السردية مجرد بهرجة وسفسطة وغموض, تماماً مثل طلاء فاقع متداخل بنسب لونية متنافرة لدار سكنية يملكها إنسان لا يفهم التناغم الهرموني للألوان.
 وفي المحك, ...إن النص السردي المبني على لغة وحبكة متينة وبتشفيرٍ عالٍ, وإيحاءٍ زاخر, لن... ولن ينأى عنه المتلقي الذواق المثقف.
-ما هي مصادر قراءاتك، ولمن تقرأ عراقياً وعربياً وعالمياً؟
لأكثر من مرة أسأل هذا السؤال واحتار في الإجابة, فالمفاضلة والنسبية والإطلاق لا مكان لها في أجندة ذاكرتي, فإنني أقرأ كثيراً أية ورقة مطبوعة أو مجلة قديمة أجدها عند الحلاق, أو في صالة انتظار عيادة طبيب, أو صحيفة مدعوكة على أرضية مرآب, أقرأها حتى لو كانت عن الأبراج. فضلاً عن قراءاتي المنوعة المتعددة, فالقاص والشاعر والناقد والروائي ...الخ, الذي يقرأ فقط كتب القصة والشعر والنقد والرواية, تاركاً القراءات الأخرى الموزعة على مشارب المعرفة, يكون نتاجه شاحباً قاصراً قميئاً.
إني اقرأ الأدب والفلسفة والفن وعلم النفس والاجتماع وأي كتابٍ يضيف إلي رصيداً وزاداً معرفياً جديداً, وفي باب الأدب, القصة والرواية تحديداً أُحاولُ أن أحيط بكل ما يصدر فيها عراقياً وعربياً وعالمياً (من خلال الترجمات), والنتاج الجيد المميز يفرض حضوره في الذاكرة, إن كانَ لقاصٍ أو روائي يمتلك تجربة بعيدة في الكتابة أو لقاصٍ أو روائي شاب واعد.
-كيف تفهم الحرية كشرط إنساني للحياة، وكيف تتعامل مع الحرية إبداعياً؟
الأديب بصورة عامة, مهما تمتع بالحرية يربض في ذاكرته شرطي... ربما لا تكون وظيفته اشتراط الممنوعات وتصفيد الذاكرة, قدر ما تكون البصبصة الدؤوبة التي تشعر الأديب بأنه مراقب دوماً, وتأسيساً على هذه الصورة المفترضة قد يغيب التعامل الشفاف مع الحرية كمفهوم في رقعة الفعل السردي بحيث أن الإفراط في تعاطيها قد يسيء كثيراً إلى النص تماما مثل الذي يغمض ذائقته عن الكثير من أساسيات التعامل الحر مع الثيمة والموضوع, والذي يسيء بالتالي إلى النص.
-هل يمكن للقاص هيثم بردى أن يضعنا أمام نماذج من التحولات الفنية في القصة القصيرة: عراقيا عربياً سريانياً؟
منذ البواكير وحتى آخر قصة نشرت اليوم أو ستنشر غداً, خضعت القصة العراقية إلى تحولات جوهرية دفعت بالإبداع إلى التجديد, فإذا تقصينا وبحثنا مراحل التحول نجد قدحتها الوامضة الألقة في الخمسينات من القرن الماضي حين تفيأ القص العراقي الواقعية الانتقادية واحتداماتها وإرهاصاتها وشواهدها.
ومن ثم حدثت الثورة المضادة, إن جاز التعبير, فظهر جيل حمل على منكبيه راية المغامرة والمغايرة والمغادرة, وترك بصمته وأثره, وربما لحد كتابة إجابات هذا الحوار, في الأجيال اللاحقة... ثم عادت الواقعية بسمتها الاشتراكية في السبعينات وأفرزت جيلاً محدوداً, تحول فيما بعد, في العقد الثمانيني إلى الواقعية السحرية التي سحرت القاص العراقي والعربي لمدة عقدين من السنين, والآن... وبعد الألفية الجديدة, يحاول القاص الجديد والواعد والمكرّس والمخضرم أن يكتب قصته التي تشير إلى عراقيتها... وما ينطبق على القاص العراقي ينطبق أيضاً على القاص العربي بنسب تتوائم مع معطيات الواقع وإفرازات هذا الواقع, رغم التماثل الجيوغرافي والطوبوغرافي مع العراقي.
أما القصة السريانية, فاني وبعد تقصٍ معمق وشبه مكتمل لما ينشره القاص العراقي السرياني, فان الأمل لا يزال قصياً يربض في إدراج الأفق البعيد.
-كيف كنت تنظر إلى الواقع فنياًَ وأنت تستعين به تجربتك السردية؟
ثمة تواشجات عديدة ومتنوعة تحصلت بين الواقع والفن بكافة أطيافه ومنها الأدب القصصي والروائي, وتشكلت مدارس رسخت اصطلاحاتها المندرجة تحت لواء المدرسة, فهناك الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية والواقعية السحرية, وقد تظهر الواقعية المستقبلية والوحشية والرمزية... الخ, والواقع يشكل الثيمة الرئيسية لبنيان كافة المدارس, وما يختلف فيها هي زاوية التناول.
-ما الذي يشغلك في الكتابة، اللغة أم المعالجة أم الشكل؟ فيما إذا لو أردنا أن نتعرف على منظورك ألتقييمي إلى هذه القيم والعناصر الفنية من حيث أولويتها أو من حيث مفهومك عنها المنعكس في كتاباتك؟
الذي يولي اهتمامه للغة فقط, ويهّمش المعالجة أو ينأى عن الشكل, تكون نظرته للأدب كحالة توليد إبداعي قاصر يستمد هويته وكنهته من جزء من تلك الينابيع, أما الذي يقوم بتبئير تلك الأسانيد والعناصر وأعني بها أدوات الإبداع, ينبثق نص يحمل سمات النضوج لا ينظر إلى كميات وأوزان المواد الأولية التي دخلت في تكوينه, بل ينظر إليه كنسيج مترابط متمازج متماهٍ.
-هل تبحث عن هوية وأنت تكتب؟ وهل من شكل وإطار لتلك الهوية التي تبحث عنها؟ والهوية هنا فيما يتعلق بالجانب الإنساني والجانب الفني والمعرفي كذلك؟
عندما نقرأ نصاً أدبياً, شعرياً كان أم سردياً, غفلاً عن اسم مبدعه, وتعرف كاتبه أو ناظمه من خلال (النص) فتلك ميزة تسجل لصالح النص وواضع النص, فبذا يكون لواضع النص هوية, والهوية في تقديري تترسخ مع تعمق التجربة, والمبدع – يقيناً – يحاول أن ينشئ إطاراً لصورته وكينونته الإبداعية, وبناءً عليه, فإننا لو قرأنا رواية (صورة دوريان جراي) في أية صورة مقاربة تبغي التعمية دون أن نضع على غلافها اسم الروائي, لن يغادرنا اليقين قط أن واضعها هو أوسكار وايلد, ولو قرأنا (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) سيترادف فوراً اسم ماركيز, وكذلك لو قرأنا (ملحمة الحرافيش) فان نجيب محفوظ سيتأصل في ذاكرتنا, وعندما أسس هؤلاء والمئات من المبدعين الآخرين لهوياتهم الخاصة, ما فعلوا ذلك بتبني جانب وترك الجوانب الأخرى, فلو فعلوا هذا لما كان وايلد وايلداً, وماركيز ماركيزاً، ومحفوظ محفوظاً, ولما تحولوا إلى رموز وطواطم في الأدب السردي العالمي.
واني – وبتواضع غير مصطنع – أحاول أن أُشَّكل هويتي الخاصة التي تشير إليّ, وعندما أفلح أكون قد حققت المرتجى: الهوية, وعندما أفشل يكون لي شرف المحاولة.
-بعد التجارب العديدة التي اشتغلت عليها وأنتجتها في ميدان السرد القصصي، ما الذي يشغلك سردياً؟
-تشغلني جميعها, فاني حالياً مواظب على كتابة سيرة قصصية للأطفال, ولي في المطابع مجموعة قصص قصيرة, ولازلت أكمل روايتي الجديدة, ولكن القصة القصيرة جداً تبقى ساحرتي الأزلية, فهي تملكتني قبل ثلاثة عقود ونيف, وستبقى آسرتي الجميلة, وإنا أتمتع بفراديسها الرائعة حتى تشرق فيّ آخر شهقة.



                              مروان ياسين الدليمي

130
ألأم   . . غيابٌ بشكل حضور . 

قد يكون يوم 21 من شهر اذار مارس من كل عام الذي هو مناسبة الاحتفال بعيد الام  في معظم ارجاء العالم من اكثر المناسبات الاممية التي تستحق منّا ان نتوقف عندها بأجلال وقلوبنا تفيض بمشاعر محبة صادقة وعرفان لاحدود له تجاه الأم التي هي رمز مطلق للعطاء دون ان ينازعها على هذه المكانة اي رمز اخر ، ولاأحد يمكن ان يدانيها في هذا العطاء .


في التاريخ المعاصر للمنطقة كانت جمهورية مصر العربية هي اول دولة اتخذت من هذا اليوم عيداً رسمياً بعد دعوة كان قد وجهها الصحفي الشهير علي امين من خلال الصحيفة التي كان يرأسها عام الف وتسعمئة وستة وخمسين . طالب فيها المجتمع بكل فعالياته السياسية والثقافية اضافة الى مؤسسات الدولة الرسمية الى ضرورة ان يكون هنالك يوم واحد من ايام السنة يخصص للاحتفال بالام من قبل المجتمع بما يليق بمكانتها ودورها الحيوي والاساسي في بناء الحياة الانسانية . وبعد تلك الدعوة التي لاقت في حينها  ترحيباً وقبولاً من قبل كافة الجهات المعنية في المجتمع، تم الاتفاق على ان يكون يوم الواحد والعشرين من شهر اذار مارس هو اليوم الذي يحتفل فيه رسمياً  بالأم .


منذ العام ستة وخمسين ونحن نحتفل بهذا اليوم اعترافاً منّا بقيمة هذا الكيان الانساني والاجتماعي الذي كان سبباً في وجودنا وسعادتنا ونجاحنا والمكانة التي وصلنا اليها . اذ لولا التضحيات التي قدمتها الأم من اجلنا من اجل أن   نحيا بسلام بعيداً عما يؤذينا وماقد يصيبنا من شرٍ في هذه الحياة التي تعج بالصراعات والافخاخ التي تنصب في طريق الانسان اينما سار وحط الرحال ، فلولا حرصها هذا علينا لما كنا ننبض بالحياة وماكنّا كما نحن الان ننعم سعداء بنعمة الحياة .

لو تأملنا مسيرة كل الرجال العظام الذين مروا في تاريخ البشرية لوجدنا ان لشخصية الام في تلك المسيرة كان الدور الاكبر فيما وصل اليه اولئك الرجال العظام الذين لعبوا دوراً كبيراً ومتفرداً في توجيه مسار التاريخ والشعوب في لحظات معينة منه . فكان دور الام في بناء تلك الشخصيات امراً لايمكن المرور عليه بشكل عابر  بعد ان  كان لها الفضل الاول في بناء منظومة الاخلاق والقيم النبيلة التي كانت قد زرعتها في الاعوام الاولى من طفولة تلك الرموز . فكانت الدافع الاساس الذي إستندت عليه في رؤية الغد بالصورة التي كانوا يحلمون بيها ، وإصرارهم على تحقيقها مهما بدت في نظر العامة بعيدة المنال .

وبعد هذه الاعوام التي مرت علينا ونحن نحتفل سنوياً بعيد الام افراداً ومنظمات مدنية ومؤسسات وهيئات حكومية . هل كنا منصفين تماما معها؟ هل اعطيناها ماتستحقه من مكانة وحقوق ورعاية انسانية واجتماعية تليق بها ؟ هل وفرنا الارضية القانونية والتشريعية في دساتير البلاد عبر تشريع جملة من القوانين التي تحفظ لها هيبتها وكرامتها وانسانيتها بعد ان تكون قد وصلت الى مرحلة متقدمة من العمر تبدو فيه عاجزة عن مساعدة ورعاية نفسها ؟ هل بنينا مؤسسات حكومية تتمتع  بضوابط متحضرة ومتقدمة توفر الفرصة للامهات  اللائي يجدن  انفسهن ــ بعد رحلة كفاح طويل مع الحياة من اجل الابناء ــ وحيدات مشردات بعد ان يتخلى عنهن الابناء والبنات ماأن  يشتد ساعدهم ليمضي كل منهم الى غايته دون ان يلتفت ايّاً منهم  ولو بنظرة عطف او لمسة حنان او كلمة طيبة الى من كانت قد افنت عمرها لاجله . 


ان المجتمعات العربية والشرقية بشكل عام لم تصل فيها الفعاليات الاجتماعية والسياسية الرسمية وغير الرسمية الى تلك اللحظة الناضجة والمسؤولة التي تقدر فيها حق التقدير مكانة الام ، ولم تقدم ماينبغي عليها ان تقدمه من اجلها ، فهي غائبة تماماً عن كل مشاريعها وبرامجها التي تروج لها وتسعى لتحقيقها، وحتى لو وردت بشكل عابر في واحدة من تلك المشاريع فأنها لن تكون سوىّ فقرة دعائية غايتها خداع العامة من بسطاء الناس، ليتم استثمارها في تحقيق مكاسب لاصلة لها بقضية الام وانصافها .

اننا بهذه المناسبة نتوجه بالدعوة الى كل الجهات المعنية الفاعلة والمسؤولة في المجتمع العراقي الى النظر بجدية لمكانة الام والعمل بشكل فاعل لسنِّ القوانين والتشريعات التي تهيىء الارضية والمناخ الملائم لوضع الأم في المكانة والزمن الذي ينصفها ويرعاها بالصورة التي تليق بها ،وفاءً لها  بمااعطت وانجزت لنا دون ان تطالبنا بحقها . وإن بقينا على هذا الفهم القاصر والجاحد تجاهها فان صورة المجتمع الذي نسعى لبناءه لن تكون مطمئنة ولن توفر الفرصة الطبيعية لنشؤ مجتمع جديد قائم على الوفاء .                                 







مروان ياسين الدليمي



131
لُعبة الازمنة . . في العرض المسرحي الكوردي إغماضة عين .
النساء يفرشن اجنحتهن على فضاء الوجع .



هنالك العديد  من نقاط التشابه والتماثل في مناطق الاشتغال الاسلوبي  وفي منظومة المنطلقات النظرية التي أطّرت  المسار الفني لكل التجارب المسرحية التي احتشدت على خشبة المسرح في اقليم كوردستان . ويمكن القول ان المسرح الكوردي بدأ متأثراً بشكل واضح بطبيعة التوجهات الفنية التي مرت على المسرح العراقي اكثر من تأثره بأي منطقة جغرافية اخرى تجاوره . هذا التوصيف النقدي ينطبق على مجمل النتاج المسرحي الكوردي منذ خطواته الاولى التي تزامنت مع بدايات المسرح العراقي في مطلع القرن العشرين .

رؤية تجريدية

الموسم المسرحي الجديد لمديرية الفنون المسرحية التابعة لاقليم كوردستان لعام الفين واحد عشر ،ابتدأ بمسرحية  جديدة للمخرج( محمد جميل)  عنوانها  ( إغماضة  عين ) وهي من تأليف بينتر سنوسن. وتمثيل : دلفين محسن ، ساية حسين ، روجين ، تم تقديم العرض على خشبة مسرح قاعة الشعب في منتصف شهر كانون الثاني الماضي .
اعتمد العرض المسرحي على ثلاث شخصيات نسائية محورية استحوذت على مساحة واسعة من رقعة وزمن الاحداث ،ليتشكل العرض في بنائه على رؤية تجريدية في معالجة موضوعة واقعية تتعلق بثلاثة شخصيات نسائية تعيش وضعاً انسانياً مأزوماً.
 نص العرض  اعطى اشارات واضحة تشير الى بيئة اجتماعية شرقية  محددة ،وفي اطار واضح  لزمن معاصر يحيط بتلك الشخصيات ،التي كانت تعاني من انتهاك ً لاحلامها وهواجسها،  التي بقيت مكبوتة في دواخلها  لتستحيل بالتالي الى كوابيس تنحو بها في لحظة ما نحو الانحراف . . 

دلالات التشفير  
الفن بشكل عام ماهو الاّ محاولة من الفنان الى تمثل تجربة حياتية في سعي منه الى اعادة اكتشافها ومحاولة فهمها للوصول الى تحديد دلالاتها القيمية . وعليه فأن التجربة الفنية ليست الاّ تشكيل نسقي رمزي يصوغه الفنان بناءً على اقامة علاقة جدلية مابين الحاضر /الماضي ، المرئي / غير المرئي ، المبدع / المتلقي . . ومن اجل ايصال هذا الجدل القائم فيما بين التجارب الفردية ، والافكار التي تنصهر في ذوات الشخصيات النسائية الثلاث ،  اعتمد العرض على لعبة فنية  تتبادل فيها الشخصيات الادوار فيما بينها  ضمن اطار الحدث الرئيس الذي تتحرك فيه  ليتم من خلال هذه اللعبة  الوصول الى طبيعة الاحباطات النفسية والاجتماعية التي تلقي بظلالها الثقيلة عليهن .
المخرج محمد جميل كان مدركاً لطبيعة الاطار الفني الذي ينبغي عليه ان يتحرك في فضائه العرض ، منطلقاً من نظرية مفادها  ان الشكل الفني لايمكن فصله عن المضمون،  ولان العمل الفني تجربة حية متكاملة ومتوحدة مابين  الشكل والمضمون وأن الجدل هو الذي يحكم تفاصيل هذه العلاقة . ولان غياب هذا التناول والفهم الجدلي يحيل التجربة الفنية الى تجربة ميكانيكية لانبض فيها .  من هنا جاء  البناء السينوكرافي  لهذا العرض معادلاً صورياً بُنيت علاماته على فهم واضح لطبيعة الصراع القائم في موضوعة العرض والقوى التي تتحكم بآلياتة واتجاهاته ، ومن اجل  تحقيق هذه  الرؤية عمد المخرج الى استثمار دلالات  ليست مألوفة في انتاجية العروض المسرحية العراقية والكردية معاً ، هما مادتي (ورق الصحف ،و مادة النايلون الشفاف )،فهاتان المادتان  لم يتم استثمارهما بشكل استهلاكي في تأسيس الدلالات التشفيرية للعروض المسرحية العراقية  بشكل عام ، على الرغم من استخدامهما في عروض تُعد ُّعلى اصابع اليد كان قد شهدها المسرح العراقي في فترات متباعدة سواء في معهد الفنون الجميلة او في كلية الفنون الجميلة   .
  المخرج محمد جميل شاء أن يغطّي  مقدمة المسرح واطاره وسقفه الامامي  بورق الصحف ليشيرمن خلال ذلك  الى تقاطع الواقع بكل احباطاته مع ما يكتب في الصحف من اخبار لاتشيردائماً  الى مايخبئه من اسى وعنف ، ولكي يعمّق هذا المدلول ، فاجئنا اكثر من مرة باندفاع كائنات مرعبة غير ادمية  من تحت الصحف التي تغطي ارضية المكان التي تحيا عليها الشخصيات ، وجاء خروجها عنيفاً وصادماً في زمنين اثنين : الزمن الذي يمرُّ عسيراً على الشخصيات،  وزمن اخر نطل من خلاله نحن المتفرجون على مايجري امامنا ، لنتوحد بالتالي مع شخصيات العرض  في لحظة واحدة يتداخل فيها الحلم مع الواقع .
طاقة التأويل 
 ومن اجل ان المضي  بعيداً في تحقيق هذا التداخل أحال المخرج  مادة النايلون الشفاف لتكون طاقة تشفيرية يؤسس من خلالها هذه العلاقة  :   مابين الحاضر والماضي ، المرئي واللامرئي . .  اضافة الى هذه العلاماتية التي أشّرها المخرج بكل وضوح وشفافية، اراد ايضاً ان  يحدد للفعل الدرامي جغرافيته بشكل واضح،  ليتمكن من خلالها ان يشيرالى حضور الماضي بتفاصيل شاخصة ،تم تكثيفها  بدلالات ملموسة جاءت على شكل  (دمى، ومانيكانات،) عادة ماتستخدم في ميادين الرمي .
مخرج العرض المسرحي محمد جميل حاول ان يستثمر دلالة النايلون  بأكثر من مدلول مانحاً اياها طاقة تأويلية اخرجتها من سكونيتها المعجمية اخذاً بها الى تشظيات سيميائية اكسبتها مرونة تعبيرية ، من خلالها تمكن  من أن يوصل الى المتلقي جملاً مشفرة دون ان يلجأ الى التصريح بها مباشرة ، كما عودنا على ذلك المسرح التقليدي الذي عادة مايضيّق في فضائه مسار الحرية الابداعية أمام المبدع .
القدرات النسائية التي تولت مهمة تقديم  الادوار الرئيسية في هذا العمل اتسمت بأمكانات جيدة وجريئة في التعبير عن الافكار التي احتشدت داخل العرض . وإن كانت في مرحلة البناء الاكاديمي لقدراتها التعبيرية
( الصوتية والجسدية )  والتي تحتاج الى قدر من  الخبرة والاستمرار في العمل لكي تفصح عن نفسها بشكل افضل مستقبلاً  .





                             مروان ياسين الدليمي
                                    اربيل 


132
فاطمة الربيعي . . تسمو في اطراف الحديث

     "كنت اتمنى ان يتم تكريمي في العراق قبل اي مكان اخر" .

توقفت امام  هذه الجملة التي  قالتها الفنانة العراقية  فاطمة الربيعي اثناء حوار كان قد أجراه معها الاعلامي مجيد السامرائي ضمن برناج اطراف الحديث الذي بثته قناة الشرقية في ليلة يوم الاحد 6/ 3/ 2011 . .
الربيعي قالت هذه الجملة و كانت تبدو عليها حسرة واضحة في نبرة الصوت والتعبير والملامح علت وجهها المُعبّر دائماً عن الاصرار والتحدي والتفاؤل رغم السنين الطوال التي مرت عليها وهي تمارس بكل جد واخلاص العمل في الميدان الدرامي، مسرحاً وسينما وتلفزيون، دون ان تفكر ولو للحظة واحدة حسب ماقالت في ذلك الحوار أن تكسب من وراء عملها في الفن أيّة ثروة كبيرة كما هو الحال لدى زملائها في هذه  المهنة في معظم البلدان العربية والاجنبية .
ويكفيها فخراً انها كسبت من كل هذا الجهد وهذا الكفاح المضني محبة الناس ورضاهم عنها فقط ، رغم الخسارات المادية التي تكبدتها وهذا امرٌ لم يكن يعلم به احد طيلة مشوارها الفني الطويل الذي يمتد لاكثر من اربعة عقود ولم تكشف عنه سابقاً الاّّّّ في برنامج اطراف الحديث ،الذي عرفنا من خلاله  أنّ الربيعي سليلة عائلة ثرية جداً ، وقد ترك لها والدها مع اشقائها بعد وفاته قبل سنين مضت املاكاً واسعة،ولو كانت قد نالت نصيبها منها حسب مايقتضيه الشرع والقانون لأصبحت الان من طبقة الاثرياء والملاكين ، لكنها مع شقيقتها زهرة قد حرمتا من حقهما الشرعي بهذا الميراث من قبل  اشقائهما، لا لشيء الاّ لانّهما كانتا قد اصرّتا على المضي في مشوارهما الفني حتى النهاية ولم تستجيبا لرغبة اشقائهما بالتوقف نهائياً عن العمل مقابل الحصول على حصتيهما  ، ولو كان لهذه الفنانة الكبيرة وشقيقتها زهرة طمع في مال الدنيا لتخلتا تماماً دون لحظة تفكير وتردد عن الفن الذي لم يمنحهما شيئاً سوى محبة الناس،ولجلستا في بيتهما تنعمان بثراء واسع لن تنالا ولو بجزء بسيط منه حتى لو عملتا  بكل جد واجتهاد الى اخر لحظة من حياتهما في حقل الفن .
 مالذي دفعهما لان تضعا نفسيهما في مثل هذا الموقف الدرامي الذي لايليق الاّ بالابطال التراجيدين الذين قرأنا سيرهم في النصوص المسرحية الرومانسية عندما كانوا يجدون انفسهم في لحظة ما امام مفترق طرق يضعهم اما خيارين لاثالث لهما امّا الاندفاع وراء  مشاعر الحب النبيلة او الخضوع لسلطة الواجب الذي  تفرضه القوانين والاعراف الاجتماعية .لم يكن امامهما الاّ ان تختارا  الوقوف مع نبل مشاعرهما وعواطفهما بمواجهة تراجيدية ضد سلطة اعراف ٍمجتمعية ٍلامنطق يسندها  .
هكذا كانت فاطمة وزهرة الربيعي في مشوارهما الحياتي والفني. .  فأنت هنا امام انموذج الفنان المتصالح والمتطابق مع نفسه الانسانية ، ولن تستطيع ان تفصل مابين شخصية الفنان والانسان بعد ان تداخلا ببعضهما واصبحا وجهان لعملة واحدة .
 وبعد هذا الموقف المشّرف والمشرق الذي جاءت به هذه الفنانة الكبيرة فاطمة الربيعي لصورة وحقيقة الفنان وهو يعلو بأهدافه واحلامه الى مراتب تسمو به عالياً فوق مايسعى اليه عامة الناس في مجتمع عربي شرقي همُّهُ الرئيسي كسب المال والتمتع بالدنيا في ظل بحبوحة من العيش الهادىء مجتمع مازال يخضع تحت سطوة قوانين واعراف تنظر بازدراء واضح  لشخصية الفنان رغم الدور الكبير الذي يضطلع به باعتباره واحداً من ادواة الثقافة المهمة في عملية التغيير والبناء والتجديد في بنية وشكل الحياة ولتسمو به ايضاً فوق مايسعى اليه الساسة  دائماً من اعتلاء مراتب السلطة والوجاهة دون ان يقدموا شيئاً مفيداً لحياة ورفاهية شعوبهم .
دائما ماكان المجتمع في معظم فعالياته النخبوية يتعمد اذلال الفنان بتجاهله ، فهو غائب تماماً عن كل المشاريع التي عادة  ماتطرح بعد اي تغييرسياسي يحصل في اي بلد عربي ،  ولافرق في هذا الموقف  بين بلد مهم وكبير مثل مصر له تاريخ عريق في الحراك الثقافي والسياسي يمتد لعقود طويلة  وبين بلد اخر مازالت تحكمه الاعراف القبلية مثل اليمن او السودان او لبنان او العراق ، فالقادة والنخبة السياسية في كل البلدان العربية قاطبة ودون اتفاق مسبق  تلتقي جميعاً عند نقطة اذلال الفنان بتجاهله ، ومايؤكد هذا القول اننا لم نشهد حتى هذه اللحظة ان تم استدعاء اي نخبة من الفنانين من قبل قادة العهد الديموقراطي الجديد حتى يشاركوا جدياً في صياغة مستقبل اي بلد من تلك البلدان ! والعراق بعد التاسع من نيسان عام 2003 هو اقرب شاهد على مانقول، كذلك هو الحال مع تونس ومصراللتان  شهدتا بشكل متتابع تحولات سياسية جذرية مع مطلع العام 2011 في منظومة الحكم التي كانت تمسك بهما طيلة نصف قرن من الزمان  لتخرجهما من ظلمة مستنقع آسن ٍ  اساسه دكتاتوريات فردية عائلاتية حزبية شمولية فاسدة مجرمة متخلفة ،وانعطفت بهما هذه التحولات  الى اعتاب مجتمع آخر يقوم في جوهره على  تقديس الحريات المدنية ،وعلى عكس التصريحات والشعارات والحوارات والخطابات الرنانة المعلنة التي تمجد الحرية ، بدأنا نسمع ونشهد مواقف صادمة لعدد من قادة ورموز العهد الجديد في العراق تفوح منها بكل صراحة ووضوح رائحة مخيفة لاأشد منها تخلفاً الاّ جماعة طالبان في افغانستان،وقد خلّفت فينا تلك المواقف والتصريحات التي حرّمت تدريس الفن الموسيقى والمسرحي في المعاهد والكليات الحكومية مشاعر مختلطة مابين الحيرة والدهشة والخيبة، وبتنا نستشعر نواقيس الخطر وهي تدق معلنة الخوف على مستقبل الفن والفنان في بلد يحرص قادته في كل مناسبة يتواجدون فيها على اعلان تمسكهم الجاد والصادق  في بناء نظام ديموقراطي تعددي برلماني فدرالي يحترم الحرية والكرامة الانسانية بعد ان كان المجتمع والفرد معاً  قد حرما من كل هذه الحقوق  في ظل النظام السابق !.
ان الفنان العراقي بصورته المشرقة التي عبرت عنها  الفنانة فاطمة الربيعي بكل مسيرتها الفنية ، لاشك هو الان في  محنة  اكبر مما كانت عليه في العهود السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، لان مكانته ودوره في المجتمع  تتعرضان الى ازدراء واضح وكبير لم  يشهد له مثيلاً ، بل ان مايشهده الفنان خلال الاعوام القليلة الماضية من تضييق واضح للمساحة التي يتحرك فيها والخطوط الحمر الكثيرة التي باتت توضع امامه سواء كانت دينية أوطائفية أوسياسية عندما ينوي الاستعداد لتقديم اي عمل فني تجعلنا  لانتردد في رسم صورة قاتمة لما تخبئه لنا الايام والاعوام القادمة .
اقف هنا لاستعيد تلك الجملة التي قالتها  الفنانة فاطمة الربيعي واشاركها اياها تلك الامنية واقول لها : ياسيدتي ،  لقد نلت من التكريم مالم ينله ولن يناله اي سياسي يتربع على عرش السلطة حتى لو بقي  طيلة حياته   متوهماً ومخدوعاً مع نفسه بأن الناس تكن له مشاعر الحب والاحترام ، بينما هي في حقيقة الامر تكن له كل مشاعر الكره والاحتقارفي دواخلها  .
 لقد كنت  ياسيدتي على درجة كبيرة من الصواب عندما قلت " انا بسبب الفن فقدت ثروة مالية كبيرة ، لكنني في مقابل ذلك  كسبت حب الناس وهذي ثروة لايمكن تقديرها  بثمن ما " .. فشكراً لك مرة اخرى ،لانك تستحقين ان تكوني فخراً لنا ولبلدك بما قدمت ، ولك كل التكريم وليس لغيرك .
                                                 مروان ياسين الدليمي /اربيل
                                                Marwan_ys2000@yahoo.com
                                                 


133
المنبر الحر / ثورة الحُفاة . .
« في: 20:06 01/03/2011  »
ثورة الحُفاة . . 

هو شعب يمشي حافياً وتحت قدميه كل ثروات الارض!..

تناقلت وكالات الانباء يوم الاثنين 21/2/ 2011تصريحاً لرئيس البرلمان العراقي اسامة النجيفي  يعلن فيه فقدان مبلغاً مالياً قدره 40 مليار دولار عراقي من صندوق تنمية العراق ولاأحد يعرف مصيرها ! ولاجل ذلك سيتم تشكيل لجنة تحقيقية لمعرفة الجهة التي ذهبت اليها تلك الاموال، الى هنا ينتهي الخبر كما اوردته وكالات الانباء  .
مثل هذا الخبر ماعاد يشكل صدمة للمواطن العراقي ولن يكون هو السبب المباشر لأي  رد فعل غاضب يدفعه الى التظاهر والاستنكار لمعرفة المسؤول عن سرقة امواله،ذلك لان هذا الشعب  كان قد تلقى خلال الاعوام السبعة التي مضت عليه ، الكثير من الاخبار الصادمة والفاجعة وهو يرزح  تحت حكم السادة ممن يدّعون الديموقراطية ، سواء  كانوا من رجال دين او  من السياسين المحترفين في خنادق اليمين أو اليسار .
اولئك الذين جاؤا تحت راية الحرية الاميركية  . . حرية جاءت بصواريخ سقطت على رؤوس العراقيين  منذ اول يوم في  21 / 3 / 2003 بمايعادل (250) الف طن من القنابل التي تلقاها الشعب العراقي، وهذا الرقم هو  اكبر(  48 ) مرّة من حجم القنبلة الذرية التي كانت قد القيت من قبل القوات الاميركية على مدينة  هيروشيما اليابانية في نهاية الحرب العالميةالثانية عام 1945 . ! . . اضافة الى "(000//000/ 1) مليون عراقي ذهب (ضحية )لهذا التحرير ، و(000/ 500(  خمسمائة الف مواطن (مفقود)  نتيجة اعمال العنف وفرق القتل الطائفي ، وأهدرت أدارة الاحتلال الامريكي ما يقارب( تريليون)  دولار من مداخل العراق من النفط والضرائب والاستدانة والهبات المانحة،ولم يرتقي شبح الدولة العراقية  في أدائها الداخلي والخارجي الى  15% مما كانت عليه مؤسساتها قبل التحرير ! "  . . كل هذا جاء في دراسة كان قد  أعدّها باحثون في جامعة "جونز هوبكنزالاميركية ، اتُبعت فيها طرائق منهجية وعلمية لمقارنة الوفيات قبل الحرب وبعدها، وبذلت قصارى جهدها للتأكد من الوفيات التي  قد حدثت فعلا،وقد أحصت الدراسة الزيادة في عدد الضحايا حتى شهر تموز/ يوليو 2006 بـ (654,965 ) شخصا الى هامش (942,636)  مع هامش ثقة (95% ) وتشير الدراسة منذ ذلك الحين الى ان وتيرة القتل بتزايد مطرد ،كما أن عدد الجرحى ضعف عدد القتلى وتخلص الدراسة الى الجردة الإجمالية لن تقل بأية حال عن المليونين شخصا قد قتل حتى عام 2010.
إن مايدفع الشعب العراقي الى الغضب الذي عبرعنه في يوم الجمعة  25 شباط الحالي اسباب كثيرة ماعادت خافية على احد، ويمكن القول : ان الرواتب العالية جداً للمسؤوليين الحكوميين وحاشيتهم ،وعائدات النفط الكبيرة التي تتصاعد عاماً بعد اخر دون ان يكون لها اي تأثير ملموس على دخل العراقيين الفقراء ، و قد تكون عمليات النهب المنظم للمال العام من قبل المسؤولين الحكوميين هي القشة التي قصمت ظهر البعير، اذ لم يعد الشعب العراقي يحتمل هذا التجاهل وهذا الاستهتار وهذه  المرواغة من قبل المسؤولين ازاء مايجري من سرقات .
يكفي ان نعود بالذاكرة الى  الفترة  الاولى لولاية نوري المالكي عندما اعطيت حقيبة وزارة المالية للسيد  بيان جبر صولاغ ، حينها  حدثت اكثر من ست سرقات خلال الاشهر الثلاثة  الاولى من تاريخ تسلمه لهذه الوزارة  وتمت كل تلك السرقات في وضح النهار واثناء الدوام الرسمي،وارتدى السراق في كل عملياتهم تلك  ملابس  قوات الداخلية وركبوا  عجلاتها . !
وعلى اثر ذلك  تم تشكيل لجان تحقيقية  لمعرفة من كان يقف وراءها  ، لكن حتى هذه اللحظة  لم يطلع المواطن العراقي على نتائج اي من تلك التحقيقات، وبقيت طي الكتمان ولم يعلم بها الاّ الله والسراق ومن كان ورائهم ! . .
ايضاً الناس مازالت تذكر مصرف الزوّية في بغداد عندما تم سرقته من قبل عصابة كانت ترتدي ملابس قوات الداخلية وتقود  سياراتها ــ وتم في حينها متابعة السراق من قبل المواطنين وهم يغادرون المصرف ليدخلوا مختبئين  بعد ذلك مكتب صحيفة تابعة لواحد من  الاحزاب الكبيرة الحاكمة للبلاد ــ ولم تكشف  التحقيقات فيما بعد مايثبت تورط اي احد من الذين كانوا يديرون تلك الصحيفة ومن يقف ورائها !
بل على العكس من ذلك وجدنا  العديد من الشخصيات الدينية والسياسية تتهجم وتتوعد باشد انواع الكلمات قسوة وتهديداَ وبذاءة لصحفي شاب كان قد ألمح في مقال له الى من يكون قد تورط بسرقة المصرف مخمناً الطريقة التي  سيتم بها  استثمار تلك الاموال المسروقة وذلك  بشراء بطانيات توزع على الشعب الفقيرلخدمة اغراض انتخابية . .
ليس من السهل سرقة 40 مليار دولار .   وليس باستطاعة اية عصابة ان تسرق هذا المبلغ الاّ اذا كانت على درجة عالية من الحرفية تمكنها من تحويل هذا المبلغ الى حساباتها دون ان يتم ضبطها . اذن نحن امام مجموعة من اللصوص  لهم تاريخ طويل في السطو بهذه الطريقة وبهذا الحجم ..  سطو لايقدر عليه الاّ من تمرّس فيه ، و يملك قوة  تقف خلفه وتحرسه وتؤمن له الطريق حين يدخل و يخرج في وضح النهار دون ان يثير اية ريبة ٍ.
ولو حاولنا ان نقسّم هذا الرقم (40 مليار دولار)  على 25 مليون مواطن عراقي،لاصبح نصيب كل واحد : (مليون وستمائة الف دولار!  )  . .
ماذا لو وزعت الحكومة العراقية هذا المبلغ على الشعب العراقي . وتسلّم كل فرد حصته التي تساوي: مليون وستمائة الف دولار. . ألم يكن بهذا المبلغ ولوحده ان يتحول هذا الشعب الفقير بين ليلة وضحاها الى اغنى شعوب الارض ولانتهت الى الابد من ذاكرة العراقيين كل قرون الفقر التي مرت عليه منذ ان اندثرت حضاراته الاولى وحتى الان  وماعدنا نشهد بعد ذلك شعباً يبكي كلماظهر على شاشات الفضائيات من الجوع والفقروالقهر.؟.
 
لماذا يجابه الشعب الجائع عندما يعلن عن حقه بالتعبير بطريقة سلمية تكفلها له كل القوانين الدولية بسيل من الاتهامات الباطلة لاتنتهي الاّ بخراطيم الماء والهروات والاعتقالات والضرب واطلاق الرصاص عليه  . . ! ليسقط الشهداء في الموصل والانبار وبغداد والكوت .
هل يريد السيد المالكي ان يبقى الشعب صامتاً خانعاً راضياً يتلقى ضربات الفاسدين طالما هو قد تخلص من  صدام  وحزب البعث!؟  اي منطق اعوج  هذا الذي يروجه المالكي واعلامه الرسمي . !

ان اسطوانة البعث والصداميين والتكفريين باتت قديمة جداً ومملة جداً  ولم تعد تنطلي هذه الديباجة على اي عاقل . وينبغي على حكومة المالكي اذا ماارادات ان تبقى في موقعها حتى نهاية مدتها أن تحترم الناس وتصغي لهم وتستجيب لكل مطاليبهم واحتياجاتهم قبل فوات الاوان ،وإلاّ ستأتي الامور والاحداث بما لاتشتهي ، والامثلة  التي شهدناها في تونس ومصر مازالت قريبة منّا ، واخرى مازالت تجري على نفس المنوال في ليبيا واليمن والبحرين والمغرب والكويت والاردن والسعودية  والحبل على الجرار كما يقول المثل ، ولن تكون الحكومة العراقية بمنأى عمايجري . فهي بكل اخطائها ليست بأحسن من شقيقاتها الحكومات العربية .
كان الشعب العراقي لعقود طويلة يحلم بغد ٍاخر يمنحه حرية وكرامة انسانية طالما  تمرغت بالحروب والخوف والمعتقلات من قبل السلطات  التي حكمته منذ العام 1958 ، حتى جاء يوم التاسع من نيسان عام 2003 . مبشراً العراقيين بحريته المفقودة وبعيش رغيد ظل يحلم به .
والان بعد سبعة اعوام مضت على هذا التاريخ بات واضحاً ان الشعب امسى اكثر سخطاً من ذي قبل على حكامه وعلى نفسه ايضا لانه ادرك تماماً كم كان مخدوعاً.





                           مروان ياسين الدليمي
                        Marwan_ys2000@yahoo.com

134
الفيس بوك ، يقود ثورة المقهورين عبر الانترنت .   



هذه الايام ليست كمثل الايام التي مرت على شعوب المنطقة العربية منذ مايزيد على نصف قرن،هي ايام قِصار ، ستمحو ماتبقى من ايام ٍطوال، ايام بدت فيها شعوب عربية تصحو فجأة من كابوس ثقيل مرّ ومازال يمر على بعض اخر منها.
الان تُكتب صفحة مشرقة من التاريخ ، ستطوى فيها مرحلة مؤلمة ومخزية من عمر العرب ، اجيال فيها مضت وهي تلوك احلاماً بسيطة لها مع شعارات فضفاضة  كانت دائماً تنادي  بالوحدة والحرية والاشتراكية ، عاشت معها بفقرها وبؤسها وجراحاتها وشهدائها ومعتقليها ولم تنلها . ستون عاماً مرت عليها ، تشابهت  فيها الاحزان والخطابات والانقلابات والاكاذيب والمحن واللوعة وأشباه ُالقادة ِ. لافرق في هذا بين ملوك وثوار، بين ضباط وقادة احزاب ، كلهم كانوا في سلّة واحدة ، وأقل مايقال عنهم انهم طغاة ، تعودوا أن لايبصرون ولايفهمون ولايسمعون ، وتعودوا أن يتفننوا  في اذلال شعوبهم ، فالكل تلطّخت بدم الشعب  أياديهم .
الايام هذه ،علامة فارقة في من عمر انظمة سياسية تقليدية ــ مَلكيّة وجمهورية ــ تحكم شعوب المنطقة منذ منتصف القرن الماضي بشتى اساليب القهر مع غياب تام لأي مشروع تنموي يستثمر الموارد والطاقات المادية والبشرية لشعوبها ، وهذا ماأوقع المنطقة برمتها بنمط رثٍ من الاقتصاد الكولونيالي ، نظام هجين ، لاشكل له ، يتأرجح مابين انماط شتى ،متنافرة ومتناقضة، هو خليط عجيب وغريب من الاشتراكية والرأسمالية والاقطاعية ، من هنا ضاعت ثروات البلاد الوطنية بأيدي اللصوص ، ساسة وتجاراً ورجال اعمال .
  ان رياح التغيير التي تشهدها الساحة العربية هذه الايام لاتتعلق بالانظمة الحاكمة فقط انما بدأت تكنس بقوتها التي عبر عنها شباب تونس ومصر كل  الاحزاب العربية والحركات السياسية التي تقف على الضفة الاخرى المواجهة للانظمة بكل برامجها التقليدية للتعبير عن معارضتها .
ان انتفاضة الشباب  التونسي التي امتدت لاكثر من شهر جاءت  لترفع درجة اليقظة والوعي لدى الشعوب العربية بأجمعها بأهمية الحرية الانسانية واهمية الدفاع عنها .
وهنا اتوقف امام تونس تحديداً وليس امام غيرها ،لأوكّد حقيقة فرضتها وقائع الاحداث التي سبقت الانفجار الذي وقع فيها وفي مصر بعدها ،  لتقودني هذه الحقيقة الى القول : لو كانت الانتفاضة قد حدثت أولاً في السودان أو في اليمن أو في مصر وليس في تونس لما كان لها هذا التأثيروهذه الاهمية . . لماذا ؟
ان هذه الاهمية التي اكتسبتها  تونس فيما يجري من انتفاضات شعبية تجتاح المنطقة دون غيرها من تلك البلدان التي ذكرناها ، مع ان انظمة تلك البلدان لها ماض معروف وسيىء جداً في انتهاك حقوق الانسان ومصادرة الحريات، بينما تونس لم تكن في يوم ما تشغل الرأي العام ولم تكن موضع شبهة كبيرة من قبل المجتمع الدولي فيما يتعلق بحقوق الانسان ومصادرة الحريات ، حتى وإن كانت تصل  منها بين فترة واخرى  تقارير الى المنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن  تشير الى تفاصيل تتعلق باعتقالات تطال مثقفين ومفكرين وناشطين سياسين ، كان العالم لايتعامل معها  بأهمية وجدية  تستحقها ،لا لشيىء إلاّ لأن تونس غير ذي اهمية ستراتيجية للمصالح والسياسات الغربية في المنطقة العربية .
هذا اضافة الى ماتنتهجه السلطة التونسية من اساليب عادة ما كان ينتهجها النظام السياسي العربي لاخفاء المعلومات وتزويرها وتظليل الرأي العام العالمي لها صلة بحقيقة مايجري في الاقبية والسجون السرية والمعتقلات التي لاتصلها المنظمات الدولية  والتي عادة ماتعج بسجناء الرأي .
وعليه يمكننا القول : لو كانت تونس  بلداً يمتلك اهمية جغرافية واقتصادية مثل العراق لكان العالم برمته ــ منظمات ،وحكومات، وشركات، واحلاف ـ مشغولاً به ، لكن وبما أنه  بلد  يفتقد الى موقع جغرافي واقتصادي مهم  مثل الذي يملكه العراق، ويفتقر كذلك الى ماتمتلكه مصر من اهمية ودور حيوي يتعدى العامل الاقتصادي والجغرافي  الى عوامل اخرى اقليمية وسياسية لايمكن لأي بلد اخر ان يحل محلها ولايمكن للدول الكبرى ان تتجاهلها . وهكذا هو الحال ايضا مع السودان واليمن اللذان يمتلكان  من الاهمية مالايقل عن بلدين  مثل العراق و مصر .
هنا لايمكننا تجاهل جملة من الظروف والحقائق الموضوعية  ونحن ننظر الى تونس ونقيّم اهمية ماجرى فيها وانعكاسه وتأثيره على المنطقة.  فهذا البلد الصغير لايملك ثروات طبيعية هائلة تجعله محط اهتمام الشركات الاحتكارية التي تصنع ستراتيجية السياسة الاميركية في العالم،وتتركز معظم خططه الاتقتصادية على المشاريع السياحية التي يعتاش عليها اقتصاده بما تدرُّ عليه من عائدات مالية ، اضافة الى قطاع الزراعة . ايضاً  لاتمتلك تونس حدود اً مع دولة اسرائيل التي تشكل بؤرة الصراع الدولي في المنطقة ، ولاتجاور تونس  بلداً مثل ايران ، يسبب قلقاً وتهديداً دائماً للمصالح الاميركية والغربية . وليس فيها تنوعاً (طائفياً ،أثنياً ،دينياً ،قوميا)ً يجعلها ميداناً رحباً لتدخلات دولية تنشأ بسببها نزاعات تستند الى تلك التنوعات .
ازاء هذا تبدو تونس ،بلد تغلب عليه صفة  التجانس الاجتماعي والاثني  ويخلو من كل العوامل التي قد تخلق منه نقطة جذب لصراعات دولية سواء كانت  سياسية او اقتصادية او حتى جغرافية . 
من هنا تأتي اهمية الثورة التي قامت فيها ، وهي هنا تبدو بمستوى الاهمية التي كانت عليها الثورة الايرانية عندما قامت عام 1979 سواء من حيث  التأثير الاقليمي أوالدولي ولكن ليست بنفس الاهمية التي تحظى بها ايران من الناحية الجغرافية والسياسية ، ذلك لان الثورة الخمينية عندما قامت ــ واستندت في قيامها انذاك على اشرطة الكاسيت ــ  ارعبت في حينها الانظمة العربية والقوى الاقليمية ، اضافة الى الدول الكبرى وفي المقدمة منها اميركا ، مما استدعى ذلك منها ان توفر الحماية  لكل الانظمة العربية  القائمة انذاك والتي ترتبط بها بمصالح سياسية واقتصادية ستراتيجية ، وأن تعمل بكل ماتملك وبأقصى سرعة حتى لاتتوفر لهذه  الثورة الوقت والفرصة الملائمة لكي تقف على قدميها .
وعليه كان لابد ان يدخل العراق حرباً بالنيابة عن اميركا وقوى الغرب مع ايران ، واستثمرت من اجل ذلك كل الظروف والعوامل التاريخية والمذهبية ـ التي تجمع وتفرّق بنفس الوقت ـ  مابين البلدين الجارين ، اضافة الى المراهنة على احلام وتطلعات صدام حسين الحاكم الجديد للعراق بتزعم الامة العربية في نضالها القومي وصراعها مع الغرب والذي لم يمضي على تسلمه لقيادة البلاد انذاك سوى اشهر معدودة  وكان في بداية صعوده الى قمة هرم السلطة في العراق . الحرب تلك التي امتدت ثمانية اعوام  كانت حصيلتها مئات الاف من القتلى والجرحى من قبل الطرفين ، وعجز في ميزانية البلدين وتوقف شبه تام لعجلة النمو الاقتصادي  ، وضياع لاجيال من الشباب في حرب مهلكة  خرج منها الطرفان خاسرين بكل الاصعدة .
لايختلف اثنان من المراقبين على ان تونس ماكانت البلد التي ينتظر ان تأتي منها شرارة العصيان المدني والثورة الشعبية المنتظرة ضد النظم التقليدية التي تجاوزها الزمن بكل متغيراته ، بل ان كل التوقعات لمن كان يراقب الاحداث كانت تشير الى ان الاشارة ستأتي من مصر أو السودان او اليمن. ولم تكن تونس حاضرة في تلك التوقعات . بل كانت غائبة تماماً . ذلك لانها لم تشهد خلال الاعوام القلية الماضية  تعبيراً احتجاجياً واضحاً ومستمراً ضد السلطة القائمة التي كانت تحت سيطرة زين العابدين بن علي الذي تسلم حكم البلاد  في منتصف ثمانينيات القرن القرن الماضي بعد انقلابه على سيده الحبيب بورقيبة .
ويمكن القول ايضا بهذا الصدد ان مصر كانت هي المرشحة الاولى التي ستشهد هزة سياسية ستضرب اركان النظام السياس الحاكم المتمثل بالرئيس حسني مبارك والحزب الوطني الديموقراطي الحاكم  الذي يسيطر على الحياة السياسية منذ اكثر من ثلاثين عاماً .
 ان  المسيرة السياسية التي انتهجها الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم في مصر بكل مافيها من تزوير للانتخابات سواء في انتخاب اعضاء مجلس  النواب او في انتخابات الرئاسة او في انتخابات المنظمات المهنية والنقابية او في فرض قوانين الطوارىء التي عطلت الحريات المدنية في البلاد وصادرتها لمصلحة الحزب الحاكم وكانت تلك الاجراءات  قد اتاحت للقوى الامنية ـ التي كانت تتسع وتتضخم عاماً بعد اخر ـ  لان تستبيح الحقوق الانسانية للمواطن المصري،  ووصلت به الى ان يصبح حال 40% من الشعب المصري تحت مستوى خط الفقر كما تشير بذلك التقارير الدولية المعنية بهذا الموضوع ، ورغم هذا القهر والتعسف، كانت الاصوات الرافضة  تعلن عن نفسها عالياً طيلة العقود التي مرت على حكم مبارك وحتى في الفترات التي سبقت مجيئه للحكم . وكان شعبها بطبقاته المسحوقة وبطبقته المثقفة يؤكد مرة بعد اخرى واعتصاماً بعد اخر انه شعب حر وشعب واعٍ ولايترك فرصة تمر دون ان يعبر عن موقفه ورفضه لما يجري من فساد من قبل رموز السلطة . وشهدت مصر خلال العقود الماضية العديد من الاحتجاجات والاعتصامات من قبل فئات ونقابات مهنية مختلفة من محامين وصحفيين ومثقفين  متجاهلين كل العنف الذي كانت تقابل به من قبل  السلطة وقواها الامنية .
إلاّ ان هذا الحراك السياسي المواجه والرافض للنظام لم يتبلور الى حركة شعبية واسعة تهدد مستقبل الحكم القائم كما صارت عليه هذه الايام التي نشهدها والتي ابتدأت في يوم الثلاثاء 25 / 1/كانون الثاني ، ووصلت الى ذروتها في يوم الجمعة 28/ 1/ 2011 . وهنا لابد ان يسجل التاريخ للشباب المصري الذي يتراوح اعماره مابين 18 الى 35 عاماً هذا الموقف وهذه الانعطافة في مسيرة الصراع مع السلطة السياسة القائمة ، والذي ابتدأ ينظم صفوفه على صفحات العالم الافتراضي على شبكة الانترنيت ومواقع الفيس بوك وليس على ارض الواقع ولا في الغرف المظلمة والاجتماعات السرية ، كانت ثورته معلنة ومكشوفة امام العالم كله لحظة بلحظة وكلمة بكلمة ، وتمكن هؤلاء الشباب الذين انضووا تحت عناوين ومواقع ومدونات واضحة صنعوها على صفحات الشبكة العنكبوتية مثل  موقع (شباب 6 ابريل ) وموقع (كلنا خالد سعيد ) . ان يوحدوا الكلمة ويزيحوا حاجز الخوف من السلطة ، وبالتالي استطاعوا ان يُخرِجوا الناس بأعداد غفيرة الى الشوارع ، في اوقات وأماكن  محددة ، ليعلنوا رفضهم للنظام السياسي القائم  .
 وتمكنت اساليبهم الجديدة تلك ان تتغلب على كل اجهزة السلطة القمعية،وهذا الامر وضع كل الاحزاب السياسية امام مأزق كبير وجدت فيه نفسها عاجزة عن مجارات العصر وفهمه ، واكتشفت تلك الاحزاب من خلال هؤلاء الشباب ان الزمن قد تجاوزهم وتجاوز اساليبهم البدائية  التي صارت كما يبدو  تنتمي الى عصور اخرى ، وفقدت بذلك الكثير من القيادات السياسية التقليدية المعارضة بريقها وقدرتها على التأثير والتواجد كما هو الحال مع الاخوان المسلمين مثلاً ،الذين كانوا يملأون الدنياً جعجعة وطنينياً بخطاباتهم ، اضافة الى اساليبهم الاخرى التي تعتمد على العنف ويختلط من جراءها الاخضر  مع اليابس كما يقول المثل الشعبي .
والان بعد ان جرى ماجرى في مصر  من احداث أعقبت التجمع الشعبي الكبير في ميدان التحرير الذي يتوسط العاصمة المصرية ،والذي دعا اليه الشباب المصري  يوم الجمعة 28/ 1 عبر الفيس بوك .والتي قوضت اركان النظام السياسي الحاكم  ، لابد هنا  ان نتوقف امام المتغيرات الجديدة التي بدأت تباشيرها تطرأ على الساحة السياسية العربية والتي بدأت تطلق اشارات الانذار والرعب لدى العديد من الرموز السياسية القائمة والتي مضى على وجودها في الحكم عقوداً طويلة لم تستطع خلالها ان تخلق ايّ تنمية اقتصادية تنعكس بشكل واضح على د خل الفرد القومي .
ان كل الانظمة القائمة الان بدأت تشعر بخطر زوالها، وان ماتبقى من عمرها لن يسعفها تحت اي اجراء تتخذه لترقيع واصلاح مايمكن اصلاحه في ابقائها على رأس السلطة . لان عصر الفيس بوك والانترنيت والمدونات بكل بساطة قد وضعها عارية ومكشوفة بكل عنفها وقسوتها ووحشيتها وظلمها مع شعوبها امام العالم  وانتهى بسبب ذلك  عصر قديم كان تلعب فيه بكل حريتها ونزواتها المريضة  بمصائر البشر خلف اسوار من التعتيم والتظليل والتزوير، كان اعلام السلطة فيها يقوم به على اكمل واقبح وجه ، ويرسم للعالم صورة مزيفة عما يجري خلف الاسوار الحديدية، صورة تخلو من الملاحقات والمطاردات للمثقفين  والمطالبين بحقوق الانسان وحريته .صورة تخلو من الفقر الذي ينخر جسد البلاد من اقصاها الى اقصاها . 
اليوم باتت اللعبة مابين الحاكم والمحكوم بكل ادوارها مكشوفة للعالم لحظة بلحظة ولن تذهب قطرة دم سدى ،طالما عدسة الموبايل قادرة على تسجيلها وبثها عبر الانترنت الى كل ارجاء الكرة الارضية بعد ثوان من سقوطها .







                                     مروان ياسين الدليمي / العراق
                                        Marwan_ys2000@yahoo.com
                                   
 

135
ماذا يحدث  في ميدان التحرير ؟
خصوصية التجربة
لم يكن متوقعاً ابداً لدى المراقبين ان يحسم امر التغيير السياسي في بلد مهم وكبير مثل مصر بين ليلة وضحاها . فالامر فيها ليس من السهولة بمكان ان يتم ازاحة زعيم له على الاقل تاريخ عسكري مُشرّف ويمسك مع حزبه الحاكم  بالمسار السياسي للبلاد لأكثر من ثلاثين عاماً مضت والمجيء بشخص اخر بدلاً عنه . أولاً : لان مبارك قد حصّن نظام حكمه من السقوط السريع بأعتماده على بناء مؤسسة عسكرية قوية ، ضمن منها الولاء له ، حتى ان التغييرات الحكومية التي كان قد اجراها مضطراً بعد 25/ يناير 2011 تحت الضغط الشعبي جاءت لتؤكد اعتماده بشكل اكبر على قادة الجيش ، فرئيس الوزراء البديل ( احمد شفيق ) ضابط سابق في سلاح الطيران  ، وعمر سليمان نائب الرئيس  هو الاخر رجل عسكري .
 ثانياً :  إن طبيعة الحياة السياسية التي تعيش بظلها مصر  منذ مطلع  القرن الماضي تتسم الى حدٍ ما بمرونة واضحة تتيح الكثير من ألممارسات ذات الطابع الديموقراطي لم تتوفر في معظم البلدان العربية الاخرى .فلقد عرفت مصر منذ العهد الملكي المجالس النيابية والانتخابات البرلمانية  التي كانت تجري في عموم البلاد لانتخاب الاعضاء فيها ، كما أمست التعددية الحزبية واحدة من سمات الحياة السياسية ، رغم ماكان يشوبها بين فترة واخرى من تضييق وتجميد لها كانت تفرضه السلطة بشخص رئيسها وحزبه الحاكم سواء في عهد عبدالناصر او خلفه  السادات او في عهد مبارك .ورغم ذلك لم يتوقف عمل الاحزاب المعارضة في الشارع المصري، وغالباً ماكانت تجد نفسها في صراع واضح ودستوري مع الحزب الحاكم مع كل لعبة انتخابية كانت تجري سواء لانتخاب اعضاء مجلس الشعب اوفي انتخابات المنظمات والنقابات المهنية ، ورغم عمليات التزوير التي كانت تمارسها السلطة بكل الطرق المكشوفة منها وغير المكشوفة والتي غالباً ماكانت تتيح لها الفوز باكبر عدد من  المقاعد الاّ ان ذلك لم يكن يمنع من وصول الاحزاب المعارضة الى نيل نسب من الاصوات تتيح لهاان تمتلك  مقاعد بنسب تتفاوت بين انتخاب واخر، توفر لها فرصة ولو صغيرة لايصال  صوتها المعارض  .
قوانين الطوارىء
 كل ذلك كان يأتي وفقاً لأليات دستورية تجعل من العمل السياسي في مصر  يتحرك وفق التشريعات والانظمة التي يكفلها القانون المثبّت في دستور البلاد وإن كان الدستور قد تعرض في الكثير من الفترات الى عمليات تجاوز وخرق وفقاً لقانون الطوارىء الذي كان يكبّل الحياة السياسية بقيد ثقيل منذ عدة عقود . وقد اتاح هذا القانون للسلطة ان تكمم الافواه وتعتقل الاصوات التي تتقاطع مع سياسات النظام القائم ابتدأ من منع التظاهرات الى الرقابة على  المطبوعات مروراً بحرية تشكيل الاحزاب والحركات السياسية.
بداية الانحراف

ان تعقيدات العلاقة القائمة بين الاحزاب السياسية المصرية ونظام الحكم السياسي القائم في مصر اخذت هذا المنحى المنحرف باتجاه القمع من قبل السلطة لها ابتدأً من العام 1954 اي في العام الذي نحىّ فيه عبد الناصر اللواء محمد نجيب عن زعامة  قيادة ثورة يوليو في 14 نوفمبر من ذلك العام وتسلمه هو زمام قيادتها بعد ان اختلف الاثنان فيما بينهما خلال العامين الاولين اللذان اعقبا ألانقلاب العسكري عام 1952 حول مسائل جوهرية تتعلق بطبيعة وشكل النظام وطبيعة العلاقة التي ينبغي ان تكون عليها العلاقة مع الاحزاب المصرية ، وتقاطعت وجهتا نظريهما ولم تلتقيا الاّ بالافتراق والقطيعة ، وقد بدا واضحا بعد ذلك لمن تصفح مسار القادة الجدد ان الصراع بين اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد العناصر سينتهي بهما  الى مفترق طرق ، وبدا الاثنان لايلتقيان عند نقطة التقاء واحدة  في رؤيتهما لمستقبل الحياة السياسية في مصر،  فاللواء نجيب كان يأمل في بناء تجربة تحترم التعددية الحزبية وتفتح هامشاً واضحاً للديموقراطية تتيح للاحزاب ان تشارك في العملية السياسية وفقاً لشراكة وطنية يكفلها الدستور وكان أول خلاف بينه وبين ضباط القيادة  يتعلق  بمحكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة رموز العهد الملكي، ثم حدث خلاف اخر بعد صدور نشرة تأمر باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم رئيس الوزراء في العهد الملكي مصطفى النحاس، فرفض هواعتقال النحاس لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس، كما أصدرت  محكمة الثورة على أربعة من الصحفيين حكماً بالمؤبد عليهم  وصادرت  صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية.، يضاف إلي هذا قرارات أخرى صدرت رغم أنه  كان قد رفض التوقيع عليها منها : قرار جمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة مواطنين مصريين  ينتمون الى جماعة الاخوان المسلمين ، واكتشف  ايضاً أنهم يصدرون اوامر بنقل الضباط دون الرجوع الى مشورته، كما رفض زكريا محي الدين وجمال سالم وكانا من مجموعة الضباط الاحرار أن يؤديا اليمين الدستورية أمامه بعد تعيينهما بمناصب حكومية .بينما وقف عبد الناصر على الضد منه ليمنح مجلس قيادة الثورة كافة الصلاحيات لقيادة البلاد دون الرجوع الى  الاليات الديموقراطية التي تتيح للاحزاب ان يكون لها رأي وموقف من تلك القرارات التي انفرد بها مجلس قيادة الثورة الذي اصبح هوالمشرع للقوانين التي تنسجم اولاً واخراً مع الاهداف التي يرسمها المجلس . هذا الخلاف بين الاثنين لم يحسم الاّ بأستبعاد اللواء محمد نجيب الذي اصبح لوحده يغرد خارج سرب الضباط الاحرار الذين  كانوا  مجموعة من الشباب يملأهم الحماس الوطني  بقيادة البلاد دون ان يكون لهم خبرة ورؤية سياسية تستثمر الكثير من عناصر البناء السياسي الديموقراطي الذي كانت تتسم به الحياة السياسية النيابية ايام الملكية . بل على العكس من ذلك اطاحوا بذاك التراث الذي كان قد بني طيلة اكثر من اربعة عقود من عمر الحياة السياسية التي كانت تشكلها مجموعة من الاحزاب والشخصيات السياسية شهدت على طبيعة نضالها قبة البرلمان .
التجربة الدكتاتورية 
وماأن تسلم عبد الناصر قيادة مجلس الثورة حتى بدأ في مصر زمن اخر طويت فيه صفحة برلمانية مشرقة بالقياس الى ماجاء بعدها،وانطفأت في سماءه اسماء واحزاب وطنية ، وليبقى اسم واحد وقائد واحد وحزب واحد يتحرك وسط المشهد ، وليتحمل القائد لوحده مسؤولية قيادة البلاد في كل صغيرة وكبيرة وليكون مسؤولاً عن كل القررات المصيرية التي ستقرر الطريق والوجهة التي ستمضي اليها . وهنا ابتدأت لحظة  مصيرية من تاريخ شعوب المنطقة العربية يمكننا الان القول عنها بأنها اللبنة الاولى في تأسيس منظومة النظام السياسي الدكتاتوري الذي ستشهده البلدان العربية بعد ذلك واحدة اثر اخرى ، ولم تكن في حقيقتها الاّ استنساخ للتجربة المصرية بامتياز بعد ان توفرت في شخصية عبد الناصر عوامل ذاتية بدا من خلالها نموذجاً للقائد الذي يحلم به الفرد العربي للخروج من هيمنة الاستعمار والشعور المفقود  بالعزة والكرامة الوطنية التي كانت قد  سلختها منه القوى المسيطرة على وسائل الانتاج من ملاك الاراض والقوى الاقطاعية . جاء ذلك بعد ان اتخذ عبد الناصر سلسلة من القررات الثورية بموجبها استولت الدولة على اراضٍ شاسعة كان يملكها الاقطاع  والملاكون ثم وزعها على الفلاحين . وبهذا انهى عبد الناصر حقبة مهلكة من تاريخ الفلاح المصري تمتد لمئات السنين كان يعيش فيها في نمط قاس من العلاقة العبودية لم توفر له احساساً بذاته وكرامته الانسانية رغم ماكان يبذله من جهد لم يوفرله شيئاً في الارض التي يعمل فيها طيلة العام . بل كان يزداد فقراً ومهانة مقابل ماكان يجنيه اسياده من محصول وفير نتيجة عرقه .  كما واجه عبد الناصر الدول الكبرى(اميركا وبريطانيا ) عندما اتخذ قراراً مصيرياً بتأميم قناة السويس عام 1956 . وهذا ما وضعه في مواجهة مباشرة مع قوى كبرى كانت تقتسم العالم بجيوشها ومصالحها . فاضاف له ذلك  بريقاً وجاذبية ساطعة بأضوائها ، كانت تكفي لتحجب عن عيون الناس داخل وخارج مصر  كل الاخطاء  التي كان يرتكبها مع القوى والاحزاب السياسية الوطنية داخل مصر والتي كان نتيجتها ان يبقى تنظيم  الاتحاد الاشتراكي الذي كان يتزعمه عبدالناصر يتحرك بحرية تامة  في المشهد السياسي المصري  بينما تعاني  القوى التقدمية من سوء نظرة السلطة اليها وتعاملها معها، فكانت السجون والمعتقلات تستقبل بين فترة واخرى عناصر وقيادات تلك التنظيمات وفي المقدمة منهم الحزب الشيوعي اضافة الى حركة الاخوان المسلمين التي انتهت علاقتها مع عبد العناصر منذ العام 1954 عندما حاولوا اغتياله داخل قبة البرلمان وبقيت محظورة من العمل والتواجد العلني في الحياة السياسية  حتى يوم 25 يناير 2011 .
البطل الشعبي
وتشكلت على نمط شخصية عبدالناصر زعامات عربية في بلدان  اخرى بعد ان وجدت هذه الشخصية مكاناً لها في وجدان بسطاء الناس من الشعوب العربية التي كان  ينقصها التعليم بنسبة 70% من مجموع تعدادها ، فكانت الاميّة ميداناً رحباً وارضاً خصبة لكي تتجذر وتمتد فيها شخصية الدكتاتور ولكن بصورة البطل الشعبي الذي كانوا يسمعون عنه في الروايات والقصص الشعبية الخرافية . وليصبح الدكتاتور بطلاً قومياً يعبر عن تطلعات امة كسرتها وهزمتها جيوش المحتلين من تتار وصفويين ومماليك واتراك وبريطانين وفرنسيين . امة غابت عنها مكانتها التي كانت عليها بعد الفتح الاسلامي شرقاً وغرباً لتمتد في أراض ٍوممالك وقارات بعيدة . وامست تغرق في ذل وجهل وفقر وعبودية قروناً عديدة وجاء اليوم الذي يقف فيه شاب وسيم بوجه العالم المتغطرس ليوقظ في وجدان الناس البسطاء مشاعر جديدة الهبت حماسهم في وحدة الانتماء الى امة عربية واحدة ، ورسم لفقراء الناس عالماً تسوده العدالة الاجتماعية ، وأزال القاباً من الحياة الاجتماعية كانت تكرس الطبقية في العديد من  صورها . وازاء هذا لم يكن امام الشعوب العربية الاّ ان تتبع عبد الناصر في كل مايفكر فيه دون ان تشعر بالخوف مما قد يترتب على تلك  الخطوات التي يأتي بها ، ذلك لانها وثقت به بعد أن وقف الى جانبها ضد الاغنياء والبشوات وملاك الاراضي وكل القوى الاجنبية الطامعة بالبلاد  .

نقاط القوة والضعف

لاشك في صدق النوايا الوطنية لعبد الناصر سواء في وقوفه الى جانب الفقراء والفلاحين او في صدق انتمائه لوطنه والدفاع عنه ضد كل القوى الاجنبية التي كانت تسعى لنهب ثرواته . هذا امر لااحداً  يشكك فيه ، لكن مايعاب عليه ويسجل ضده من نقاط جوهرية هي في  طبيعة  وشكل النظام السياسي الجمهوري  الذي بناه وكرسه في مصر على انقاظ نظام سياسي ملكي دستوري مَرِن ٍ كانت تعيشه  مصر قبل العام 1952  .
فالنظام الجديد الذي جاء به وكرسه كان نظاماً سياسياً  أقل مايقال عنه انه عطّل الحرية وغيبها بكل اشكالها ، لينزوي في الظلمة مثقفين ومفكرين واحزاب سياسية،  ولينعدم دورهم ومشاركتهم الايجابية في صياغة الحياة . مما يعني انعدام الفرصة امام المواطن العربي ليحيا لحظة مشبعة بالحرية الانسانية تمكنه ان يفكر بصوت عال بعيداً عن هيمنة السلطة وخطوطها الحمر التي كانت تتسع وتكثر يوماً بعد اخر لتضيّق الخناق على المواطن وتكسر فيه الحلم والارادة.
حضور الغد بصورة الماضي
تكرر نموذج النظام  الذي بناه عبد الناصر في بلدان عربية اخرى بنفس المواصفات والمقاييس مع اضافات ولمسات محلية وشخصية اكثر قسوة وعنفاً تبعاً للمنظومة الثقافية التي تتحكم بكل مجتمع عربي مر عليه ذلك النموذج وتبعاً  لروافد كل تجربة ، لكن جميعها  كانت تلتقي عند عامل سيطرة الاعراف والتقاليد العشائرية التي عادة ما تختلط في كثير من الاحيان والمواضع بخرافات وصور وتفسيرات شعبية للدين بطريقة تجعلها تصل الى حد التقديس . نظام كرس العبودية والتبعية للقائد  وبموجبه تعطل الفكر والعقل وسادت مشاعر الخوف والخضوع ، وماعاد هنالك من فرصة لان يأخذ المثقف دوره كاملاً في الحياة بل تعمد هذا النمط من النظام الذي امتد لاكثر من نصف قرن ان يهمش دوره تماماً في صناعة الحياة .ليبقى المواطن العربي يحيا اسير الماضي بكل سذاجته وبساطته وتخلفه ولم يكن  يرى الغد الاّ على صورة الماضي الذي طالما مجده القائد بكل منظومة الثقافة التي اسسها في نظامه منتقياً فيها صوراً بعينها  من التاريخ البعيد لم تكن تخرج عن اطار الحروب والمعارك والغزوات التي يعج بها الماضي البعيد ،مستبعداً ومتجاهلا عن غفلة وعن عمد صوراً اخرى تؤكد على التسامح والاخوة والانسانية بين البشر والشعوب طالما حفل بها التاريخ العربي والاسلامي . ونشأ بناءً على ذلك  نظام سياسي لايحترم الحرية الانسانية ولايمجد العقل .ووفقاً لهذا السياق كان لابد ان ينهارهذا النظام القائم على سلطة الخوف ماأن يَكسِر المجتمع فيه حاجز الخوف  .
فاتورة الثورة الرقمية 
 لكن لحظة الانهيار للنظام السياسي العربي الذي تأكسد بتقادم الزمن  والتي  استغرق مجيئها زمناً طويلاً جداً ، جاءت ، بعد أن توفرت لها وسائل وظروف موضوعية عمّت اركان الكرة الارضية ووصلت الى الشعوب العربية التي ظلّت تعاني الكثير من التراجع والتخلف عن بقية الشعوب ، وقد جاءت هذه اللحظة مع مجيىء ثورة الاتصالات الحديثة من موبايل وانترنيت ، كانت هذه الوسائل الرقمية ادواة ثورية جديدة كانت الناس المقهورة  بأمس  الحاجة اليها حتى توصل للعالم صوتها ،  ولقد استوعب شباب العرب بسرعة كبيرة  هذه التقنيات الحديثة بالاتصال  مما مكنهم من  التعامل معها واستثمارامكاناتها بطريقة  ثورية  لم تكن ابداً  في حسابات النظام السياسي العربي التقليدي ، ولو كان هذا النظام يعلم انه سيدفع فاتورة هذه الوسائل التكنلوجية الرقمية  من وجوده بهذه السرعة وهذه الطريقة الدراماتيكية  لما سمح مطلقاً بدخولها ووصولها. .

القطيعة مع الماضي
اذن نحن امام مرحلة جديدة تعود فيها مصر مرة ثانية لتلعب دوراً ريادياً في  تأسيس نظام سياسي عربي جديد يضع حداً فاصلاً مع نظام سياسي عربي قديم كانت هي ايضاً المسؤولة عن بنائه وتعميمه الى بقية شعوب المنطقة العربية . فمايحدث فيها الان بعد  ثورة شبابها المتعلم في 25 يناير كانون الثاني من حوار ساخن جداً مابين القوى السياسية مع بعضها من جهة وبينها وبين اركان النظام السياسي المنهار من جهة اخرى . يشير الى ان مصر تخوض الان مرحلة من اهم مراحل تاريخها المعاصر بعد انقلاب يوليو العسكري عام 1952  . ولن تقتصر نتائج هذا الحوار الجاد والعميق على مصر وحدها  بل سيتعداها الى معظم الدول العربية .
اننا لم نشهد في منطقتنا العربية  ثورة شبيهة بتلك التي تعيشها مصر هذه الايام . فهي  ثورة تحمل نمطاً  وشكلاً واداوتاً  غير التي تعودنا  عليها خلال تاريخنا السياسي المعاصر منذ منتصف القرن الماضي ،فهي اولاً ثورة تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بزعامة مجموعة من الشباب الذي ينتمي الى طبقة اجتماعية مرفّهة اقتصادياً وتلقى تعليمه في ارقى المدارس والجامعات الاجنبية وهذا امر لاسابقة له في تاريخ الثورات العالمية التي شهدتها البشرية على طول تاريخها القديم والحديث . فمعظم الشباب الذي دعا الى الثورة ضد النظام القائم لم يكن يعاني من فقر ولانقص في التعليم ولامن مكانة اجتماعية متدنية  . وجل ماكان هذا الشباب  يسعى اليه  من وراء ثورته هو تحقيق تغيير جذري لشكل ونمط الحياة التي يعيشها المجتمع . اضافة الى ذلك ، فأن اهمية هذه الثورة يأتي من عوامل اخرى منها : اننا لم نرى فيها  توجّهاً من قبل الثائرين للسيطرة على وسائل الاعلام لقراءة  البيان رقم واحد كما تعودنا في تاريخ الانقلابات والتغيرات السياسية التي شهدناها في منطقتنا ، ولم نرى فيها ايضا  قادة جيش يتصدرون شرفة القصر الرئاسي او وزارة الدفاع ليحيوا الجماهير التي تهتف للثورة ،  كما لم نرى صوراً لرموز النظام المباد وهي تغرق بدمائها على صفحات الجرائد . ولم نرى غياباً تاماً لوجوه السلطة القديمة عن المشهد الجديد ، كما لم تنتهي الثورة  في حسم  وجود النظام القديم بساعات معدودة .  ايضا لم تقدّم الثورة رمزاً واحداً يمثلها، ولم يرفع الثوار شعارات فضفاضة تهاجم الاستعمار والامبريالية والصهيونية وتدعو لتحرير الارض المغتصبة طالما تعودنا عليها في مثل هكذا احداث  .
الثورة هذه ابنة عصرها ، ولاتنتمي مطلقاً لما جاء قبلها من ثورات ، وكان حضورها في المشهد السياسي العربي اعلان قطيعة مع الماضي بكل رموزه ، انظمةً ًحاكمة ًواحزاباً معارضة . هي قطيعة شبه تامة مع منظومة ثقافية ومعرفية متهرئة ،لم تعد  تصلح لللاجيال الجديدة الطالعة في القرن الواحد والعشرين .
وهذا ما يستوجب من كل القوى التي كانت تنظّر وتثقّف وتُمنهج التعليمَ في كل المراحل الدراسية ان تتنحى . كما ينبغي ان يتم تغييركل المناهج  الدراسية والتربوية القائمة والتي لاتنتمي الى هذا الجيل الجديد والتي طالما كرست ثوابتاً  وافكاراً  وعلوماً  مزقت هوية الوطن والمواطن، وسلبت منه وطنه وحريته ، وقسمته  بين انتماءات طائفية وعرقية وقومية وعشائرية باتت مقدسة اكثر من  الانسان نفسه  في وطنه   .
                                    مروان ياسين الدليمي

136
ماذا يحدث  في ميدان التحرير ؟

خصوصية التجربة
لم يكن متوقعاً ابداً لدى المراقبين ان يحسم امر التغيير السياسي في بلد مهم وكبير مثل مصر بين ليلة وضحاها . فالامر فيها ليس من السهولة بمكان ان يتم ازاحة زعيم له على الاقل تاريخ عسكري مُشرّف ، ويمسك مع حزبه الحاكم  بالمسار السياسي للبلاد لأكثر من ثلاثين عاماً مضت والمجيء بشخص اخر بدلاً عنه ،أولاً : لان مبارك قد حصّن نظام حكمه من السقوط السريع بأعتماده على بناء مؤسسة عسكرية قوية ، ضمن منها الولاء له ، حتى ان التغييرات الحكومية التي كان قد اجراها مضطراً بعد 25/ يناير 2011 تحت الضغط الشعبي جاءت لتؤكد اعتماده بشكل اكبر على قادة الجيش ، فرئيس الوزراء البديل ( احمد شفيق ) ضابط سابق في سلاح الطيران  ، وعمر سليمان نائب الرئيس  هو الاخر رجل عسكري ، ثانياً :  إن طبيعة الحياة السياسية التي تعيش بظلها مصر  منذ مطلع  القرن الماضي تتسم الى حدٍ ما بمرونة واضحة تتيح الكثير من ألممارسات ذات الطابع الديموقراطي لم تتوفر في معظم البلدان العربية الاخرى .فلقد عرفت مصر منذ العهد الملكي المجالس النيابية والانتخابات البرلمانية  التي كانت تجري في عموم البلاد لانتخاب الاعضاء فيها ، كما أمست التعددية الحزبية واحدة من سمات الحياة السياسية ، رغم ماكان يشوبها بين فترة واخرى من تضييق وتجميد لها كانت تفرضه السلطة بشخص رئيسها وحزبه الحاكم سواء في عهد عبدالناصر او خلفه  السادات او في عهد مبارك .ورغم ذلك لم يتوقف عمل الاحزاب المعارضة في الشارع المصري، وغالباً ماكانت تجد نفسها في صراع واضح ودستوري مع الحزب الحاكم مع كل لعبة انتخابية كانت تجري سواء لانتخاب اعضاء مجلس الشعب اوفي انتخابات المنظمات والنقابات المهنية ، ورغم عمليات التزوير التي كانت تمارسها السلطة بكل الطرق المكشوفة منها وغير المكشوفة والتي غالباً ماكانت تتيح لها الفوز باكبر عدد من  المقاعد الاّ ان ذلك لم يكن يمنع من وصول الاحزاب المعارضة الى نيل نسب من الاصوات تتيح لهاان تمتلك  مقاعد بنسب تتفاوت بين انتخاب واخر، توفر لها فرصة ولو صغيرة لايصال  صوتها المعارض  .
قوانين الطوارىء
 كل ذلك كان يأتي وفقاً لأليات دستورية تجعل من العمل السياسي في مصر  يتحرك وفق التشريعات والانظمة التي يكفلها القانون المثبّت في دستور البلاد وإن كان الدستور قد تعرض في الكثير من الفترات الى عمليات تجاوز وخرق وفقاً لقانون الطوارىء الذي كان يكبّل الحياة السياسية بقيد ثقيل منذ عدة عقود . وقد اتاح هذا القانون للسلطة ان تكمم الافواه وتعتقل الاصوات التي تتقاطع مع سياسات النظام القائم ابتدأ من منع التظاهرات الى الرقابة على  المطبوعات مروراً بحرية تشكيل الاحزاب والحركات السياسية.
بداية الانحراف
ان تعقيدات العلاقة القائمة بين الاحزاب السياسية المصرية ونظام الحكم السياسي القائم في مصر اخذت هذا المنحى المنحرف باتجاه القمع من قبل السلطة لها ابتدأً من العام 1954 اي في العام الذي نحىّ فيه عبد الناصر اللواء محمد نجيب عن زعامة  قيادة ثورة يوليو في 14 نوفمبر من ذلك العام وتسلمه هو زمام قيادتها بعد ان اختلف الاثنان فيما بينهما خلال العامين الاولين اللذان اعقبا ألانقلاب العسكري عام 1952 حول مسائل جوهرية تتعلق بطبيعة وشكل النظام وطبيعة العلاقة التي ينبغي ان تكون عليها العلاقة مع الاحزاب المصرية ، وتقاطعت وجهتا نظريهما ولم تلتقيا الاّ بالافتراق والقطيعة ، وقد بدا واضحا بعد ذلك لمن تصفح مسار القادة الجدد ان الصراع بين اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد العناصر سينتهي بهما  الى مفترق طرق ، وبدا الاثنان لايلتقيان عند نقطة التقاء واحدة  في رؤيتهما لمستقبل الحياة السياسية في مصر،  فاللواء نجيب كان يأمل في بناء تجربة تحترم التعددية الحزبية وتفتح هامشاً واضحاً للديموقراطية تتيح للاحزاب ان تشارك في العملية السياسية وفقاً لشراكة وطنية يكفلها الدستور وكان أول خلاف بينه وبين ضباط القيادة  يتعلق  بمحكمة الثورة التي تشكلت لمحاكمة رموز العهد الملكي، ثم حدث خلاف اخر بعد صدور نشرة تأمر باعتقال بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم رئيس الوزراء في العهد الملكي مصطفى النحاس، فرفض هواعتقال النحاس لكنه فوجئ بعد توقيع الكشف بإضافة اسم النحاس، كما أصدرت  محكمة الثورة على أربعة من الصحفيين حكماً بالمؤبد عليهم  وصادرت  صحفهم بتهمة إفساد الحياة السياسية.، يضاف إلي هذا قرارات أخرى صدرت رغم أنه  كان قد رفض التوقيع عليها منها : قرار جمهوري بسحب الجنسية المصرية من ستة مواطنين مصريين  ينتمون الى جماعة الاخوان المسلمين ، واكتشف  ايضاً أنهم يصدرون اوامر بنقل الضباط دون الرجوع الى مشورته، كما رفض زكريا محي الدين وجمال سالم وكانا من مجموعة الضباط الاحرار أن يؤديا اليمين الدستورية أمامه بعد تعيينهما بمناصب حكومية .بينما وقف عبد الناصر على الضد منه ليمنح مجلس قيادة الثورة كافة الصلاحيات لقيادة البلاد دون الرجوع الى  الاليات الديموقراطية التي تتيح للاحزاب ان يكون لها رأي وموقف من تلك القرارات التي انفرد بها مجلس قيادة الثورة الذي اصبح هوالمشرع للقوانين التي تنسجم اولاً واخراً مع الاهداف التي يرسمها المجلس . هذا الخلاف بين الاثنين لم يحسم الاّ بأستبعاد اللواء محمد نجيب الذي اصبح لوحده يغرد خارج سرب الضباط الاحرار الذين  كانوا  مجموعة من الشباب يملأهم الحماس الوطني  بقيادة البلاد دون ان يكون لهم خبرة ورؤية سياسية تستثمر الكثير من عناصر البناء السياسي الديموقراطي الذي كانت تتسم به الحياة السياسية النيابية ايام الملكية . بل على العكس من ذلك اطاحوا بذاك التراث الذي كان قد بني طيلة اكثر من اربعة عقود من عمر الحياة السياسية التي كانت تشكلها مجموعة من الاحزاب والشخصيات السياسية شهدت على طبيعة نضالها قبة البرلمان .
التجربة الدكتاتورية
وماأن تسلم عبد الناصر قيادة مجلس الثورة حتى بدأ في مصر زمن اخر طويت فيه صفحة برلمانية مشرقة بالقياس الى ماجاء بعدها،وانطفأت في سماءه اسماء واحزاب وطنية ، وليبقى اسم واحد وقائد واحد وحزب واحد يتحرك وسط المشهد ، وليتحمل القائد لوحده مسؤولية قيادة البلاد في كل صغيرة وكبيرة وليكون مسؤولاً عن كل القررات المصيرية التي ستقرر الطريق والوجهة التي ستمضي اليها . وهنا ابتدأت لحظة  مصيرية من تاريخ شعوب المنطقة العربية يمكننا الان القول عنها بأنها اللبنة الاولى في تأسيس منظومة النظام السياسي الدكتاتوري الذي ستشهده البلدان العربية بعد ذلك واحدة اثر اخرى ، ولم تكن في حقيقتها الاّ استنساخ للتجربة المصرية بامتياز بعد ان توفرت في شخصية عبد الناصر عوامل ذاتية بدا من خلالها نموذجاً للقائد الذي يحلم به الفرد العربي للخروج من هيمنة الاستعمار والشعور المفقود  بالعزة والكرامة الوطنية التي كانت قد  سلختها منه القوى المسيطرة على وسائل الانتاج من ملاك الاراض والقوى الاقطاعية .  جاء ذلك بعد ان اتخذ عبد الناصر سلسلة من القررات الثورية بموجبها استولت الدولة على اراضٍ شاسعة كان يملكها الاقطاع  والملاكون ثم وزعها على الفلاحين . وبهذا انهى عبد الناصر حقبة مهلكة من تاريخ الفلاح المصري تمتد لمئات السنين كان يعيش فيها في نمط قاس من العلاقة العبودية لم توفر له احساساً بذاته وكرامته الانسانية رغم ماكان يبذله من جهد لم يوفرله شيئاً في الارض التي يعمل فيها طيلة العام . بل كان يزداد فقراً ومهانة مقابل ماكان يجنيه اسياده من محصول وفير نتيجة عرقه .  كما واجه عبد الناصر الدول الكبرى(اميركا وبريطانيا ) عندما اتخذ قراراً مصيرياً بتأميم قناة السويس عام 1956 . وهذا ما وضعه في مواجهة مباشرة مع قوى كبرى كانت تقتسم العالم بجيوشها ومصالحها . فاضاف له ذلك  بريقاً وجاذبية ساطعة بأضوائها ، كانت تكفي لتحجب عن عيون الناس داخل وخارج مصر  كل الاخطاء  التي كان يرتكبها مع القوى والاحزاب السياسية الوطنية داخل مصر والتي كان نتيجتها ان يبقى تنظيم  الاتحاد الاشتراكي الذي كان يتزعمه عبدالناصر يتحرك بحرية تامة  في المشهد السياسي المصري  بينما تعاني  القوى التقدمية من سوء نظرة السلطة اليها وتعاملها معها، فكانت السجون والمعتقلات تستقبل بين فترة واخرى عناصر وقيادات تلك التنظيمات وفي المقدمة منهم الحزب الشيوعي اضافة الى حركة الاخوان المسلمين التي انتهت علاقتها مع عبد العناصر منذ العام 1954 عندما حاولوا اغتياله داخل قبة البرلمان وبقيت محظورة من العمل والتواجد العلني في الحياة السياسية  حتى يوم 25 يناير 2011 .
البطل الشعبي
وتشكلت على نمط شخصية عبدالناصر زعامات عربية في بلدان  اخرى بعد ان وجدت هذه الشخصية مكاناً لها في وجدان بسطاء الناس من الشعوب العربية التي كان  ينقصها التعليم بنسبة 70% من مجموع تعدادها ، فكانت الاميّة ميداناً رحباً وارضاً خصبة لكي تتجذر وتمتد فيها شخصية الدكتاتور ولكن بصورة البطل الشعبي الذي كانوا يسمعون عنه في الروايات والقصص الشعبية الخرافية . وليصبح الدكتاتور بطلاً قومياً يعبر عن تطلعات امة كسرتها وهزمتها جيوش المحتلين من تتار وصفويين ومماليك واتراك وبريطانين وفرنسيين . امة غابت عنها مكانتها التي كانت عليها بعد الفتح الاسلامي شرقاً وغرباً لتمتد في أراض ٍوممالك وقارات بعيدة . وامست تغرق في ذل وجهل وفقر وعبودية قروناً عديدة وجاء اليوم الذي يقف فيه شاب وسيم بوجه العالم المتغطرس ليوقظ في وجدان الناس البسطاء مشاعر جديدة الهبت حماسهم في وحدة الانتماء الى امة عربية واحدة ، ورسم لفقراء الناس عالماً تسوده العدالة الاجتماعية ، وأزال القاباً من الحياة الاجتماعية كانت تكرس الطبقية في العديد من  صورها . وازاء هذا لم يكن امام الشعوب العربية الاّ ان تتبع عبد الناصر في كل مايفكر فيه دون ان تشعر بالخوف مما قد يترتب على تلك  الخطوات التي يأتي بها ، ذلك لانها وثقت به بعد أن وقف الى جانبها ضد الاغنياء والبشوات وملاك الاراضي وكل القوى الاجنبية الطامعة بالبلاد  .

نقاط القوة والضعف
لاشك في صدق النوايا الوطنية لعبد الناصر سواء في وقوفه الى جانب الفقراء والفلاحين او في صدق انتمائه لوطنه والدفاع عنه ضد كل القوى الاجنبية التي كانت تسعى لنهب ثرواته . هذا امر لااحداً  يشكك فيه ، لكن مايعاب عليه ويسجل ضده من نقاط جوهرية هي في  طبيعة  وشكل النظام السياسي الجمهوري  الذي بناه وكرسه في مصر على انقاظ نظام سياسي ملكي دستوري مَرِن ٍ كانت تعيشه  مصر قبل العام 1952  .
فالنظام الجديد الذي جاء به وكرسه كان نظاماً سياسياً  أقل مايقال عنه انه عطّل الحرية وغيبها بكل اشكالها ، لينزوي في الظلمة مثقفين ومفكرين واحزاب سياسية،  ولينعدم دورهم ومشاركتهم الايجابية في صياغة الحياة . مما يعني انعدام الفرصة امام المواطن العربي ليحيا لحظة مشبعة بالحرية الانسانية تمكنه ان يفكر بصوت عال بعيداً عن هيمنة السلطة وخطوطها الحمر التي كانت تتسع وتكثر يوماً بعد اخر لتضيّق الخناق على المواطن وتكسر فيه الحلم والارادة.
حضور الغد بصورة الماضي
تكرر نموذج النظام  الذي بناه عبد الناصر في بلدان عربية اخرى بنفس المواصفات والمقاييس مع اضافات ولمسات محلية وشخصية اكثر قسوة وعنفاً تبعاً للمنظومة الثقافية التي تتحكم بكل مجتمع عربي مر عليه ذلك النموذج وتبعاً  لروافد كل تجربة ، لكن جميعها  كانت تلتقي عند عامل سيطرة الاعراف والتقاليد العشائرية التي عادة ما تختلط في كثير من الاحيان والمواضع بخرافات وصور وتفسيرات شعبية للدين بطريقة تجعلها تصل الى حد التقديس . نظام كرس العبودية والتبعية للقائد  وبموجبه تعطل الفكر والعقل وسادت مشاعر الخوف والخضوع ، وماعاد هنالك من فرصة لان يأخذ المثقف دوره كاملاً في الحياة بل تعمد هذا النمط من النظام الذي امتد لاكثر من نصف قرن ان يهمش دوره تماماً في صناعة الحياة .ليبقى المواطن العربي يحيا اسير الماضي بكل سذاجته وبساطته وتخلفه ولم يكن  يرى الغد الاّ على صورة الماضي الذي طالما مجده القائد بكل منظومة الثقافة التي اسسها في نظامه منتقياً فيها صوراً بعينها  من التاريخ البعيد لم تكن تخرج عن اطار الحروب والمعارك والغزوات التي يعج بها الماضي البعيد ،مستبعداً ومتجاهلا عن غفلة وعن عمد صوراً اخرى تؤكد على التسامح والاخوة والانسانية بين البشر والشعوب طالما حفل بها التاريخ العربي والاسلامي . ونشأ بناءً على ذلك  نظام سياسي لايحترم الحرية الانسانية ولايمجد العقل .ووفقاً لهذا السياق كان لابد ان ينهارهذا النظام القائم على سلطة الخوف ماأن يَكسِر المجتمع فيه حاجز الخوف  .
فاتورة الثورة الرقمية 
 لكن لحظة الانهيار للنظام السياسي العربي الذي تأكسد بتقادم الزمن  والتي  استغرق مجيئها زمناً طويلاً جداً ، جاءت ، بعد أن توفرت لها وسائل وظروف موضوعية عمّت اركان الكرة الارضية ووصلت الى الشعوب العربية التي ظلّت تعاني الكثير من التراجع والتخلف عن بقية الشعوب ، وقد جاءت هذه اللحظة مع مجيىء ثورة الاتصالات الحديثة من موبايل وانترنيت ، كانت هذه الوسائل الرقمية ادواة ثورية جديدة كانت الناس المقهورة  بأمس  الحاجة اليها حتى توصل للعالم صوتها ،  ولقد استوعب شباب العرب بسرعة كبيرة  هذه التقنيات الحديثة بالاتصال  مما مكنهم من  التعامل معها واستثمارامكاناتها بطريقة  ثورية  لم تكن ابداً  في حسابات النظام السياسي العربي التقليدي ، ولو كان هذا النظام يعلم انه سيدفع فاتورة هذه الوسائل التكنلوجية الرقمية  من وجوده بهذه السرعة وهذه الطريقة الدراماتيكية  لما سمح مطلقاً بدخولها ووصولها. .

القطيعة مع الماضي
اذن نحن امام مرحلة جديدة تعود فيها مصر مرة ثانية لتلعب دوراً ريادياً في  تأسيس نظام سياسي عربي جديد يضع حداً فاصلاً مع نظام سياسي عربي قديم كانت هي ايضاً المسؤولة عن بنائه وتعميمه الى بقية شعوب المنطقة العربية . فمايحدث فيها الان بعد  ثورة شبابها المتعلم في 25 يناير كانون الثاني من حوار ساخن جداً مابين القوى السياسية مع بعضها من جهة وبينها وبين اركان النظام السياسي المنهار من جهة اخرى . يشير الى ان مصر تخوض الان مرحلة من اهم مراحل تاريخها المعاصر بعد انقلاب يوليو العسكري عام 1952  . ولن تقتصر نتائج هذا الحوار الجاد والعميق على مصر وحدها  بل سيتعداها الى معظم الدول العربية .
اننا لم نشهد في منطقتنا العربية  ثورة شبيهة بتلك التي تعيشها مصر هذه الايام . فهي  ثورة تحمل نمطاً  وشكلاً واداوتاً  غير التي تعودنا  عليها خلال تاريخنا السياسي المعاصر منذ منتصف القرن الماضي ،فهي اولاً ثورة تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بزعامة مجموعة من الشباب الذي ينتمي الى طبقة اجتماعية مرفّهة اقتصادياً وتلقى تعليمه في ارقى المدارس والجامعات الاجنبية وهذا امر لاسابقة له في تاريخ الثورات العالمية التي شهدتها البشرية على طول تاريخها القديم والحديث . فمعظم الشباب الذي دعا الى الثورة ضد النظام القائم لم يكن يعاني من فقر ولانقص في التعليم ولامن مكانة اجتماعية متدنية  . وجل ماكان هذا الشباب  يسعى اليه  من وراء ثورته هو تحقيق تغيير جذري لشكل ونمط الحياة التي يعيشها المجتمع . اضافة الى ذلك ، فأن اهمية هذه الثورة يأتي من عوامل اخرى منها : اننا لم نرى فيها  توجّهاً من قبل الثائرين للسيطرة على وسائل الاعلام لقراءة  البيان رقم واحد كما تعودنا في تاريخ الانقلابات والتغيرات السياسية التي شهدناها في منطقتنا ، ولم نرى فيها ايضا  قادة جيش يتصدرون شرفة القصر الرئاسي او وزارة الدفاع ليحيوا الجماهير التي تهتف للثورة ،  كما لم نرى صوراً لرموز النظام المباد وهي تغرق بدمائها على صفحات الجرائد . ولم نرى غياباً تاماً لوجوه السلطة القديمة عن المشهد الجديد ، كما لم تنتهي الثورة  في حسم  وجود النظام القديم بساعات معدودة .  ايضا لم تقدّم الثورة رمزاً واحداً يمثلها، ولم يرفع الثوار شعارات فضفاضة تهاجم الاستعمار والامبريالية والصهيونية وتدعو لتحرير الارض المغتصبة طالما تعودنا عليها في مثل هكذا احداث  .
الثورة هذه ابنة عصرها ، ولاتنتمي مطلقاً لما جاء قبلها من ثورات ، وكان حضورها في المشهد السياسي العربي اعلان قطيعة مع الماضي بكل رموزه ، انظمةً ًحاكمة ًواحزاباً معارضة . هي قطيعة شبه تامة مع منظومة ثقافية ومعرفية متهرئة ،لم تعد  تصلح لللاجيال الجديدة الطالعة في القرن الواحد والعشرين .
وهذا ما يستوجب من كل القوى التي كانت تنظّر وتثقّف وتُمنهج التعليمَ في كل المراحل الدراسية ان تتنحى . كما ينبغي ان يتم تغييركل المناهج  الدراسية والتربوية القائمة والتي لاتنتمي الى هذا الجيل الجديد والتي طالما كرست ثوابتاً  وافكاراً  وعلوماً  مزقت هوية الوطن والمواطن، وسلبت منه وطنه وحريته ، وقسمته  بين انتماءات طائفية وعرقية وقومية وعشائرية باتت مقدسة اكثر من  الانسان نفسه  في وطنه   .
                                    مروان ياسين الدليمي

137
أين هي الاموال المخصصة من الحكومة المركزية  لمساعدة المهجرين في اربيل ؟

لايوجد بيانات رسمية دقيقة عن اعداد النازحين والمهجرين العراقيين الذين شاءت الاقدار ان يتجهوا الى اقليم كردستان العراق بعد تغيير النظام السياسي في العراق في 9 نيسان  عام 2003.. ولكنني يمكن القول ان وجودهم من السّعة بحيث يبدو واضحاً جداً  لدى اي مراقب حينما يتجول في شوارع وازقة الاقليم  . كما يمكن ملاحظة ذلك عندما كان يتجمع هولاء الذين نكبوا في بيوتهم واموالهم في فترات متباعدة على ابواب المنظمات الانسانية لغرض الحصول على المساعدات التموينية والغذائية التي تقدمها لهم تلك  المنظمات الدولية بين فترة واخرى !وهم الان لايتلقون مساعدات  منذ مايقرب العام .
ويلاحظ على اوضاعهم  في الاقليم عدم اهتمام دائرة الهجرة والمهجرين بهم ، فهي لم تبذل جهد اً وملموساً  للالتقاء بهم ولمعرفة طبيعة احتياجاتهم ومشاكلهم، بل اكتفت فقط بأخذ المستمسكات الرسمية منهم اكثر من مرة لغرض تثبيت اسمائهم او لغرض اصدار الهويات الخاصة بهم  .   
ومايثير القلق في موضوعهم ايضا ، ان دائرة الهجرة والمهجرين في اربيل لم توزع ما كانت قد أقرّته الحكومة المركزية عام 2008 من تخصيص  مبلغاً من المال  بقيمة (000/500/ 1 )مليون وخمسمائة الف دينار، اعلنت انها  ستوزعه عليهم واكتفت الدائرة في اربيل بتوزيع قسط واحد فقط من هذا المبلغ،قيمته 450 الف دينارعراقي فقط  . ولم يتم توزيع القسطين الاخرين المتبقيين ! ؟ والبالغ قيمتهما مليون دينار عراقي. وكلما َسَأل المهجّرون موظفي دائرة  الهجرة والمهجرين عن ذلك ، كانوا يجيبون :" بأنهم لم يستلموا بقية المبلغ من الحكومة العراقية المركزية وان موضوعه اصبح معقداً بعد ان تم حل الوزارة التي كانت  ترعى شؤون المهجرين في حكومة الاقليم  قبل عامين والتي كان يرأسها الوزير محمد إحسان ، وقد اعيدت تلك المبالغ الى بغداد بعد ان  حلّتُ تلك  الوزارة ونحن بأنتظار ان تعيد حكومة بغداد ارسالها لنا مرة اخرى ، وعندما  تصل سوف توزع عليكم "  .!
 وهكذا بقيت الحال على هذه الصورة  طيلة العامين الماضيين،  ودخلنا مع سنة 2011  في العام الثالث على استمرار هذا الموضوع الذي لم يحسم، بينماعلى العكس من ذلك ، فقد تم تسليم المبلغ كاملا على ثلاث دفعات في جميع محافظات ومناطق العراق الاخرى التي يتواجد فيها النازحون والمهجرون  قبل اكثر من عام !
كما لم يتم توزيع مبلغاً  اخر قيمته 250 الف دينار كانت قد اقرته الحكومة العراقية ليتم توزيعه على المهجرين قبل عيد الفطر المبارك عام 2010 .! والقضية الاهم  هنا هي  ان المهجرين في اربيل لم يُوزّع عليهم  الراتب الشهري  الذي كانت الحكومة العراقية قد خصصته لهم  والذي قيمته 300 الف دينار لكل عائلة بينما تواصل العوائل المهجرة في مجمل محافظات العراق استلامه من البنوك شهرياً  ! وعندما يسأل المهجرون  دائرة الهجرة والمهجرين في اربيل عن ذلك . يجيبون "بعدم علمهم بهذا الموضوع وانهم لم يستلموا اية تعليمات بذلك " .
اتمنى من وزارة الهجرة والمهجرين وكل الجهات المعنية بهذا الموضوع ان تزيح  الغموض الذي يلف هذه القضايا  .
كما ندعو الجهات المعنية الى ان تلتفت الى دائرة الهجرة والمهجرين في اربيل حتى يتم مساندة المهجرين والنازحين الذين هم بأمس الحاجة الى العون والمساعدة  وسط غلاء الحياة والمعيشة في الاقليم اسوة بالعراقيين المهجرين خارج العراق .



                                                      مروان ياسين 

138
من حق المواطن نوري المالكي  أن نجيب  على اسئلته  !

لماذا نصاب بالدهشة والاستغراب عندما نسمع  المالكي وهو يوجه اسئلة لنا نحن المواطنون البسطاء  في مؤتمر صحفي يوم 6/2/ 2011 والتي جاءت تعليقاَ  منه على شكل ردة فعل ٍ غاضبة ضد  ماجرى من اطلاق رصاص ٍ  من قبل قوات حكومية  ضد متضاهرين خرجوا في مدينة الديوانية احتجاجاً على سوء الاوضاع الخدمية والانسانية التي يعيشونها وسقط على اثرها ثلاثة مواطنين كانوا ضمن المحتجين ، وقبلها ايضاً في نفس الاسبوع حدث نفس الامر في مدينة الشعب ببغداد ، اضافة الى عدد من الاحتجاجات التي  شهدتها مدن عراقية اخرى لنفس الاسباب تزامناً مع مايجري من ثورة ضد فساد النظام القائم في مصر العربية  .

بدا رئيس الوزراء في ذلك الحديث وكأنه احد قادة المعارضة الذين يكيلون للحكومة جملة من الاتهامات لعجزها عن  الايفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها وهذا امر يبدوغريباً جداً عندما تصدر مثل تلك التساؤلات من قبل اعلى مسؤول في الحكومة العراقية يكاد ان يمسك بيديه كل المفاتيح التي تفتح الابواب المغلقة بوجه المواطن العراقي .

مازلنا لم ننسى بعد  اصراره على البقاء في منصب رئيس الوزراء لولاية ثانية حتى لو كان ذلك رغماً عن الدستور وعن ما تفرضه استحقاقات القائمة العراقية التي كان ينبغي وفقاً لنتائج الانتخابات ان يخرج من بين صفوفها من يتسلم هذا المنصب ، لكن المالكي ماطل كثيراً في البقاءبمنصبه  ولمدة تصل الى عام كامل بعد انتهاء مدة ولايته من ا جل ان يكسب وقتاً كافياً  يمكنّه من  ادارة الصفقات مع عدد من الاطراف السياسية ، احزاباً وقادةً ، وصولاً الى تحقيق ماكان يصبو اليه في البقاء على كرسي الحكم . ولاية ثانية ، حتى ان الكثير ظن خيراً بأصرار المالكي على هذه التجاوزات الدستورية التي اعانته عليها عدة اطراف في المقدمة منها المحكمة الاتحادية واللجنة القانونية في مجلس النواب ومجلس القضاء الاعلى . وقد بنوا ظنونهم تلك على افتراض : ان الرجل طيلة السنوات الاربع التي قضاها في منصبه كان يضع الاسس والثوابت والخطط ، للعديد من المشاريع التنموية والخدمية والامنية التي ترتبط بمصلحة المواطن العراقي . وبناء ً عليه  يتوجب على الاطراف السياسسية ان تتفهم اصراره على التمسك بمنصبه ،لانه يبغي من وراء ذلك  ان يستكمل مابدأه في الولاية الاولى  ليجني مع المواطن المسكين ثمرة مازرعه له من امال وامنيات طالما حلم بها معه منذ ان كان يناضل في صفوف المعارضة العراقية . الملاحظ أن لغة المالكي في حديثه الذي اشرنا اليه كانت توحي لكل مراقب وكأنه  لم يغادر تلك الفترة التي كان فيها معارضاً  للنظام السابق ، فمازالت نفس الاسئلة التي كان يوجهها على حكومة البعث متهماً اياها بمسؤوليتها  الكاملة عن تخلف العراق  في كل الميادين دوناً عن بقية شعوب الكرة الارضية ، فلم يتوقف عن طرح جملة من الاسئلة البديهية التي تعود ان يطرحها قبل العام 2003  داخل مؤتمرات حزب الدعوة الذي ينتمي اليه وامام وسائل الاعلام ايضاً والتي ينبغي ان يجيب هو عليها الان بعد ان تسلم المنصب الاول في ادارة الدولة العراقية منذ اكثر من خمسة اعوام لاأن يطرحها مرة اخرى امام وسائل الاعلام . فلاأحد يملك القدرة من المواطنين البسطاء على الاجابة عليها فهم عاجزون  عن اية حلول للمشاكل المستعصية التي طرحها ضمن اسئلته ، فالمواطن العراقي لايستيطع جواباً  لسؤال المالكي مثلاً  عن أسباب  تخلفنا بالقياس الى بلدٍ مثل  سويسرا يتصدر دول  العالم في انتاج الشكولاته بعد ان كان لاوجود لها ضمن قائمة الدول المصنعة لها . ! وهكذا الحال مع اسئلة اخرى وجهها ووزعها على الحضور الاعلامي وعلى المواطنين تتعلق باسباب بقاء الطرق غير مبلطة  وتملأها  المطبّات والحفر ! واخرى تتعلق باستمرار انقطاع التيار الكهربائي عن المواطن لساعات طوال!  أو الحالة المزرية التي  يعيشها الطفل العراقي وهو يتلقى علومه في ابنية مدرسية بائسة مبنية من مادة الطين وكأن العراق بكل ثرائه النفطي مازال يعيش في عصور ماقبل اكتشاف الكهرباء ! اسئلة كثيرة وجهها المواطن نوري المالكي ! الى المواطن العراقي  وهو يبحث عن اجوبة لها  بعد ان يئس هو الاخر وضاق ذرعاً من بقاء الوضع البائس هذا محيطاً للمواطن العراقي  .

 وفي حقيقة الامر لاينبغي لنا ان نصاب بالدهشة ونحن نسمع المالكي وهو  يسأل  كل هذه الاسئلة . لانه اولاً وأخراً مواطن عراقي ومن حقه ان يتمتع بفضائل الديموقراطية التي نعيش بضلها والتي تتيح له كما للجميع ان يصرخ بصوت عال منطلقا من ثوابت دستورية  تكفل له حقه  كمواطن من الدرجة الاولى وهو يسألنا  عن اسباب تراجع الخدمات ، نعم من حق المالكي ان يسأل حتى وإن كان يمثل  أعلى سلطة في الدولة ويملك بيديه سلطة تنفيذ اخطر واهم القرارات.  فالديموقراطية ليست حكراً  على احدٍ  .ومن واجبنا نحن كمواطنين ان نجيب على تساؤلات رئيس الوزراء نوري المالكي بأعتباره مواطناً مثلنا يعاني في البحث عن اجوبة مقلقة ومتعبة  ولابد لنا  ان نعينه في الوصول اليها .   


مروان ياسين الدليمي

139
حين تصحو البلاد على جرحها  . .

الفيس بوك يقود ثورة المقهورين

هذه الايام ليست كمثل الايام التي مرت على شعوب المنطقة العربية منذ مايزيد على نصف قرن،هي ايام قِصار ، ستمحو ماتبقى من ايام ٍطوال، ايام بدت فيها شعوب عربية تصحو فجأة من كابوس ثقيل مرّ ومازال يمر على بعض اخر منها.
الان تُكتب صفحة مشرقة من التاريخ ، ستطوى فيها مرحلة مؤلمة ومخزية من عمر العرب ، اجيال فيها مضت وهي تلوك احلاماً بسيطة لها مع شعارات فضفاضة  كانت دائماً تنادي  بالوحدة والحرية والاشتراكية ، عاشت معها بفقرها وبؤسها وجراحاتها وشهدائها ومعتقليها ولم تنلها . ستون عاماً مرت عليها ، تشابهت  فيها الاحزان والخطابات والانقلابات والاكاذيب والمحن واللوعة وأشباه ُالقادة ِ. لافرق في هذا بين ملوك وثوار، بين ضباط وقادة احزاب ، كلهم كانوا في سلّة واحدة ، وأقل مايقال عنهم انهم طغاة ، تعودوا أن لايبصرون ولايفهمون ولايسمعون ، وتعودوا أن يتفننوا  في اذلال شعوبهم ، فالكل تلطّخت بدم الشعب  أياديهم .
الايام هذه ،علامة فارقة في من عمر انظمة سياسية تقليدية ــ مَلكيّة وجمهورية ــ تحكم شعوب المنطقة منذ منتصف القرن الماضي بشتى اساليب القهر مع غياب تام لأي مشروع تنموي يستثمر الموارد والطاقات المادية والبشرية لشعوبها ، وهذا ماأوقع المنطقة برمتها بنمط رثٍ من الاقتصاد الكولونيالي ، نظام هجين ، لاشكل له ، يتأرجح مابين انماط شتى ،متنافرة ومتناقضة، هو خليط عجيب وغريب من الاشتراكية والرأسمالية والاقطاعية ، من هنا ضاعت ثروات البلاد الوطنية بأيدي اللصوص ، ساسة وتجاراً ورجال اعمال .
  ان رياح التغيير التي تشهدها الساحة العربية هذه الايام لاتتعلق بالانظمة الحاكمة فقط انما بدأت تكنس بقوتها التي عبر عنها شباب تونس ومصر كل  الاحزاب العربية والحركات السياسية التي تقف على الضفة الاخرى المواجهة للانظمة بكل برامجها التقليدية للتعبير عن معارضتها .
ان انتفاضة الشباب  التونسي التي امتدت لاكثر من شهر جاءت  لترفع درجة اليقظة والوعي لدى الشعوب العربية بأجمعها بأهمية الحرية الانسانية واهمية الدفاع عنها .
وهنا اتوقف امام تونس تحديداً وليس امام غيرها ،لأوكّد حقيقة فرضتها وقائع الاحداث التي سبقت الانفجار الذي وقع فيها وفي مصر بعدها ،  لتقودني هذه الحقيقة الى القول : لو كانت الانتفاضة قد حدثت أولاً في السودان أو في اليمن أو في مصر وليس في تونس لما كان لها هذا التأثيروهذه الاهمية . . لماذا ؟
ان هذه الاهمية التي اكتسبتها  تونس فيما يجري من انتفاضات شعبية تجتاح المنطقة دون غيرها من تلك البلدان التي ذكرناها ، مع ان انظمة تلك البلدان لها ماض معروف وسيىء جداً في انتهاك حقوق الانسان ومصادرة الحريات، بينما تونس لم تكن في يوم ما تشغل الرأي العام ولم تكن موضع شبهة كبيرة من قبل المجتمع الدولي فيما يتعلق بحقوق الانسان ومصادرة الحريات ، حتى وإن كانت تصل  منها بين فترة واخرى  تقارير الى المنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن  تشير الى تفاصيل تتعلق باعتقالات تطال مثقفين ومفكرين وناشطين سياسين ، كان العالم لايتعامل معها  بأهمية وجدية  تستحقها ،لا لشيىء إلاّ لأن تونس غير ذي اهمية ستراتيجية للمصالح والسياسات الغربية في المنطقة العربية .
هذا اضافة الى ماتنتهجه السلطة التونسية من اساليب عادة ما كان ينتهجها النظام السياسي العربي لاخفاء المعلومات وتزويرها وتظليل الرأي العام العالمي لها صلة بحقيقة مايجري في الاقبية والسجون السرية والمعتقلات التي لاتصلها المنظمات الدولية  والتي عادة ماتعج بسجناء الرأي .
وعليه يمكننا القول : لو كانت تونس  بلداً يمتلك اهمية جغرافية واقتصادية مثل العراق لكان العالم برمته ــ منظمات ،وحكومات، وشركات، واحلاف ـ مشغولاً به ، لكن وبما أنه  بلد  يفتقد الى موقع جغرافي واقتصادي مهم  مثل الذي يملكه العراق، ويفتقر كذلك الى ماتمتلكه مصر من اهمية ودور حيوي يتعدى العامل الاقتصادي والجغرافي  الى عوامل اخرى اقليمية وسياسية لايمكن لأي بلد اخر ان يحل محلها ولايمكن للدول الكبرى ان تتجاهلها . وهكذا هو الحال ايضا مع السودان واليمن اللذان يمتلكان  من الاهمية مالايقل عن بلدين  مثل العراق و مصر .
هنا لايمكننا تجاهل جملة من الظروف والحقائق الموضوعية  ونحن ننظر الى تونس ونقيّم اهمية ماجرى فيها وانعكاسه وتأثيره على المنطقة.  فهذا البلد الصغير لايملك ثروات طبيعية هائلة تجعله محط اهتمام الشركات الاحتكارية التي تصنع ستراتيجية السياسة الاميركية في العالم،وتتركز معظم خططه الاتقتصادية على المشاريع السياحية التي يعتاش عليها اقتصاده بما تدرُّ عليه من عائدات مالية ، اضافة الى قطاع الزراعة . ايضاً  لاتمتلك تونس حدود اً مع دولة اسرائيل التي تشكل بؤرة الصراع الدولي في المنطقة ، ولاتجاور تونس  بلداً مثل ايران ، يسبب قلقاً وتهديداً دائماً للمصالح الاميركية والغربية . وليس فيها تنوعاً (طائفياً ،أثنياً ،دينياً ،قوميا)ً يجعلها ميداناً رحباً لتدخلات دولية تنشأ بسببها نزاعات تستند الى تلك التنوعات .
ازاء هذا تبدو تونس ،بلد تغلب عليه صفة  التجانس الاجتماعي والاثني  ويخلو من كل العوامل التي قد تخلق منه نقطة جذب لصراعات دولية سواء كانت  سياسية او اقتصادية او حتى جغرافية . 
من هنا تأتي اهمية الثورة التي قامت فيها ، وهي هنا تبدو بمستوى الاهمية التي كانت عليها الثورة الايرانية عندما قامت عام 1979 سواء من حيث  التأثير الاقليمي أوالدولي ولكن ليست بنفس الاهمية التي تحظى بها ايران من الناحية الجغرافية والسياسية ، ذلك لان الثورة الخمينية عندما قامت ــ واستندت في قيامها انذاك على اشرطة الكاسيت ــ  ارعبت في حينها الانظمة العربية والقوى الاقليمية ، اضافة الى الدول الكبرى وفي المقدمة منها اميركا ، مما استدعى ذلك منها ان توفر الحماية  لكل الانظمة العربية  القائمة انذاك والتي ترتبط بها بمصالح سياسية واقتصادية ستراتيجية ، وأن تعمل بكل ماتملك وبأقصى سرعة حتى لاتتوفر لهذه  الثورة الوقت والفرصة الملائمة لكي تقف على قدميها .
وعليه كان لابد ان يدخل العراق حرباً بالنيابة عن اميركا وقوى الغرب مع ايران ، واستثمرت من اجل ذلك كل الظروف والعوامل التاريخية والمذهبية ـ التي تجمع وتفرّق بنفس الوقت ـ  مابين البلدين الجارين ، اضافة الى المراهنة على احلام وتطلعات صدام حسين الحاكم الجديد للعراق بتزعم الامة العربية في نضالها القومي وصراعها مع الغرب والذي لم يمضي على تسلمه لقيادة البلاد انذاك سوى اشهر معدودة  وكان في بداية صعوده الى قمة هرم السلطة في العراق . الحرب تلك التي امتدت ثمانية اعوام  كانت حصيلتها مئات الاف من القتلى والجرحى من قبل الطرفين ، وعجز في ميزانية البلدين وتوقف شبه تام لعجلة النمو الاقتصادي  ، وضياع لاجيال من الشباب في حرب مهلكة  خرج منها الطرفان خاسرين بكل الاصعدة .
لايختلف اثنان من المراقبين على ان تونس ماكانت البلد التي ينتظر ان تأتي منها شرارة العصيان المدني والثورة الشعبية المنتظرة ضد النظم التقليدية التي تجاوزها الزمن بكل متغيراته ، بل ان كل التوقعات لمن كان يراقب الاحداث كانت تشير الى ان الاشارة ستأتي من مصر أو السودان او اليمن. ولم تكن تونس حاضرة في تلك التوقعات . بل كانت غائبة تماماً . ذلك لانها لم تشهد خلال الاعوام القلية الماضية  تعبيراً احتجاجياً واضحاً ومستمراً ضد السلطة القائمة التي كانت تحت سيطرة زين العابدين بن علي الذي تسلم حكم البلاد  في منتصف ثمانينيات القرن القرن الماضي بعد انقلابه على سيده الحبيب بورقيبة .
ويمكن القول ايضا بهذا الصدد ان مصر كانت هي المرشحة الاولى التي ستشهد هزة سياسية ستضرب اركان النظام السياس الحاكم المتمثل بالرئيس حسني مبارك والحزب الوطني الديموقراطي الحاكم  الذي يسيطر على الحياة السياسية منذ اكثر من ثلاثين عاماً .
 ان  المسيرة السياسية التي انتهجها الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم في مصر بكل مافيها من تزوير للانتخابات سواء في انتخاب اعضاء مجلس  النواب او في انتخابات الرئاسة او في انتخابات المنظمات المهنية والنقابية او في فرض قوانين الطوارىء التي عطلت الحريات المدنية في البلاد وصادرتها لمصلحة الحزب الحاكم وكانت تلك الاجراءات  قد اتاحت للقوى الامنية ـ التي كانت تتسع وتتضخم عاماً بعد اخر ـ  لان تستبيح الحقوق الانسانية للمواطن المصري،  ووصلت به الى ان يصبح حال 40% من الشعب المصري تحت مستوى خط الفقر كما تشير بذلك التقارير الدولية المعنية بهذا الموضوع ، ورغم هذا القهر والتعسف، كانت الاصوات الرافضة  تعلن عن نفسها عالياً طيلة العقود التي مرت على حكم مبارك وحتى في الفترات التي سبقت مجيئه للحكم . وكان شعبها بطبقاته المسحوقة وبطبقته المثقفة يؤكد مرة بعد اخرى واعتصاماً بعد اخر انه شعب حر وشعب واعٍ ولايترك فرصة تمر دون ان يعبر عن موقفه ورفضه لما يجري من فساد من قبل رموز السلطة . وشهدت مصر خلال العقود الماضية العديد من الاحتجاجات والاعتصامات من قبل فئات ونقابات مهنية مختلفة من محامين وصحفيين ومثقفين  متجاهلين كل العنف الذي كانت تقابل به من قبل  السلطة وقواها الامنية .
إلاّ ان هذا الحراك السياسي المواجه والرافض للنظام لم يتبلور الى حركة شعبية واسعة تهدد مستقبل الحكم القائم كما صارت عليه هذه الايام التي نشهدها والتي ابتدأت في يوم الثلاثاء 25 / 1/كانون الثاني ، ووصلت الى ذروتها في يوم الجمعة 28/ 1/ 2011 . وهنا لابد ان يسجل التاريخ للشباب المصري الذي يتراوح اعماره مابين 18 الى 35 عاماً هذا الموقف وهذه الانعطافة في مسيرة الصراع مع السلطة السياسة القائمة ، والذي ابتدأ ينظم صفوفه على صفحات العالم الافتراضي على شبكة الانترنيت ومواقع الفيس بوك وليس على ارض الواقع ولا في الغرف المظلمة والاجتماعات السرية ، كانت ثورته معلنة ومكشوفة امام العالم كله لحظة بلحظة وكلمة بكلمة ، وتمكن هؤلاء الشباب الذين انضووا تحت عناوين ومواقع ومدونات واضحة صنعوها على صفحات الشبكة العنكبوتية مثل  موقع (شباب 6 ابريل ) وموقع (كلنا خالد سعيد ) . ان يوحدوا الكلمة ويزيحوا حاجز الخوف من السلطة ، وبالتالي استطاعوا ان يُخرِجوا الناس بأعداد غفيرة الى الشوارع ، في اوقات وأماكن  محددة ، ليعلنوا رفضهم للنظام السياسي القائم  .
 وتمكنت اساليبهم الجديدة تلك ان تتغلب على كل اجهزة السلطة القمعية،وهذا الامر وضع كل الاحزاب السياسية امام مأزق كبير وجدت فيه نفسها عاجزة عن مجارات العصر وفهمه ، واكتشفت تلك الاحزاب من خلال هؤلاء الشباب ان الزمن قد تجاوزهم وتجاوز اساليبهم البدائية  التي صارت كما يبدو  تنتمي الى عصور اخرى ، وفقدت بذلك الكثير من القيادات السياسية التقليدية المعارضة بريقها وقدرتها على التأثير والتواجد كما هو الحال مع الاخوان المسلمين مثلاً ،الذين كانوا يملأون الدنياً جعجعة وطنينياً بخطاباتهم ، اضافة الى اساليبهم الاخرى التي تعتمد على العنف ويختلط من جراءها الاخضر  مع اليابس كما يقول المثل الشعبي .
والان بعد ان جرى ماجرى في مصر  من احداث أعقبت التجمع الشعبي الكبير في ميدان التحرير الذي يتوسط العاصمة المصرية ،والذي دعا اليه الشباب المصري  يوم الجمعة 28/ 1 عبر الفيس بوك .والتي قوضت اركان النظام السياسي الحاكم  الذي كما يبدو لم يبقى من عمره الاّ ساعات . لابد هنا  ان نتوقف امام المتغيرات الجديدة التي بدأت تباشيرها تطرأ على الساحة السياسية العربية والتي بدأت تطلق اشارات الانذار والرعب لدى العديد من الرموز السياسية القائمة والتي مضى على وجودها في الحكم عقوداً طويلة لم تستطع خلالها ان تخلق ايّ تنمية اقتصادية تنعكس بشكل واضح على د خل الفرد القومي .
ان كل الانظمة القائمة الان بدأت تشعر بخطر زوالها، وان ماتبقى من عمرها لن يسعفها تحت اي اجراء تتخذه لترقيع واصلاح مايمكن اصلاحه في ابقائها على رأس السلطة . لان عصر الفيس بوك والانترنيت والمدونات بكل بساطة قد وضعها عارية ومكشوفة بكل عنفها وقسوتها ووحشيتها وظلمها مع شعوبها امام العالم  وانتهى بسبب ذلك  عصر قديم كان تلعب فيه بكل حريتها ونزواتها المريضة  بمصائر البشر خلف اسوار من التعتيم والتظليل والتزوير، كان اعلام السلطة فيها يقوم به على اكمل واقبح وجه ، ويرسم للعالم صورة مزيفة عما يجري خلف الاسوار الحديدية، صورة تخلو من الملاحقات والمطاردات للمثقفين  والمطالبين بحقوق الانسان وحريته .صورة تخلو من الفقر الذي ينخر جسد البلاد من اقصاها الى اقصاها . 
اليوم باتت اللعبة مابين الحاكم والمحكوم بكل ادوارها مكشوفة للعالم لحظة بلحظة ولن تذهب قطرة دم سدى ،طالما عدسة الموبايل قادرة على تسجيلها وبثها عبر الانترنت الى كل ارجاء الكرة الارضية بعد ثوان من سقوطها .







                           مروان ياسين الدليمي
 

140
الشاعر وعدالله ايليا :
 إن مختبري الشعري طافح بالرؤيا ، ليضيء المسافات في ظلام هذا العالم.



خلال مسيرته الشعرية التي تمتد لاكثر من عقدين من الزمان اصدر الشاعر وعد الله ايليا  خلالها ست مجاميع شعرية باللغة العربية .اضافة الى عدد من الاصدارات الاخرى باللغة السريانية  التي هي لغته الام . ولانّهُ حاصل على شهادة البكالوروس اداب لغة فرنسية من جامعة الموصل ،فقد  ترجم ايليا العديد من النصوص الشعرية من اللغة الفرنسية الى اللغة العربية لأهم الاسماء الشعرية الفرنسية . ورغم توزع انشطته الثقافية مابين رئاسته لتحرير مجلة المثقف السرياني، وعدد اخر من المطبوعات السريانية  ورئاسته لمركز السريان للثقافة والفنون في ناحية بغديدا، الا ّ انه يحرص بكل هاجسه الثقافي على ابقاء جذوة الشعر ملتهبة في مسيرته الابداعية، الشاعروعد الله ايليا  ، من مواليد ناحية قرقوش عام 1962 ،  كانت بداية ظهوره على خشبة المشهد الشعري العراقي في نهاية ألعقد السابع من القرن الماضي .



 لنبدأ بالتفاصيل الاولى ونتحدث عن البدايات  التي شكلت ملامح الشاعر . الطفولة . . الشباب. ؟

-طفولتي الشعرية بدأت وسط غابات الشعر المتشابكة الناطقة بالنبوءة والرسالة ورحيق النور الذي كان بمثابة بداياتي ونقطة شروعي الأولى التي كانت في المرحلة المتوسطة حيث كنت أسعى بكل أفرازات المراهقة الدخول  إلى عالم الكلمة واللحظات الشعرية التي كانت تتقدُ في وعيي الداخلي وجروحاتي ،كي أتوغل إلى عالم الكتابة. من هنا دخلتُ إلى حقل الشعر بعد أن طاردتُ عذاباتي لأكتشف ذاتي ووجودي.  هكذا كانت طفولتي الشعرية تنطق بالحُبِّ والألم والأمل، ثم جاءت المرحلة الإعدادية لتكشف عن غموضي الجميل وغلياني اللامتناهي ،  ولأدخل  أبواب الشعر الحقيقية وحنينه الأزلي وتوهجاته وهكذا أنشدتُ نشيد انشادي الشعري الأبدي.
هل للمكان الذي ولدت فيه دور واضح في ايقاظ الوعي وتشكيل التجربة ؟
-إنَّ بلدتي العريقة (بغديدا) كان لها الدور الفاعل في إيقاظ وعيي وتشكيل تجربتي الإبداعية وحفر إسمي في عالم الإبداع، كيف لا وبلدتي هي عاصمة الثقافة السريانية في العراق، بغديدا التاريخ والأصالة والتجدد والتجذّر،لقد أسست في داخلي بلدة شعرية جميلة وحضارة رائعة ومناخ شعري قادر على صنع تاريخي وأسطورتي الخاصة وعالمي الشعري الخفي الضاج بالرؤى، هنا بزغ فردوس الشعر عندي ونمت روح الإرتباط والإنشداد والإنطلاق ونبتت بذرة إبداعي.
متى جاءت اللحظة الشعرية الاولى ؟
-جاءت اللحظة الشعرية الأولى حينما رأيتُ الكون أمام إستدارته والحياة حتى نهايتها دفعة واحدة ،إذ كان مختبري الشعري طافح بالرؤيا ليضيء المسافات في ظلام هذا العالم، وتتخصب اللحظة الشعرية بالألم والجرح والوجود حتى وصولي إلى الذات,
س: هل كان الشعر زمناً أمناً تلجأ اليه من قسوة العالم ام كان زمناً متمرداً عليه ؟
نعم.. لقد كان الشعر بالنسبة لي بمثابة سؤال لا ينام أبداً إذ كنتُ أواجه الموت داخل فضاء الحياة وفق رؤية خاصة ،عالمها مصاغ من سعي دؤوب لإنهاء نقص العالم غايته قراءة المجهول .
بما انك شاعر قبل ان تكون كاتباً واعلامياً  ولك تجربة مهمة في الكتابة الشعرية . من اين يولد الشعر ؟
-يولد الشعر من حيث يتمزّق الشاعر بمعاناته وعذاباته بحثاً عن الحقيقة والصفاء والإنسان، فالشعرُ عالم مرعب يكشف عن المرئي واللامرئي، ويولد الشعر حينما يظهر جماله المخفي.
هل من تجارب شعرية كان لها تأثير مهم في تشكيل وعيك الشعري . وهل يمكننا ان نسأل اذا كان لك اب شعري تقتف اثره ؟
-كانت هناك تجارب شعرية خاصة أثرت بشكل أو بأخر تأثيراً كبيراً في تشكيل وعيي الشعري ونهوض شعريتي على ما هي عليه الآن إذ أضافت قيمة شعرية إلى متحفي الشعري الذاتي.
ماذا ينبغي أن يتوفر في النص الشعري الجيد والمؤثر ؟
-كي يكون النص الشعري جيداً ومؤثراً ينبغي أن يتوفر فيه عنصر الوعي والزمن وبتوفر هذين العنصرين تتكون طبقات النص من خلال تكثيف اللغة وغرابة الصور بالبحث عن اللامنظور والكشف عن المجهول.
هل تشغلك مسألة الشكل الفني في الكتابة الشعرية وكيف تنظر اليها ؟
-نعم.. تشغلني كثيراً مسألة الشكل الفني في الكتابة الشعرية وتنمو بداخلي مع نمو القصيدة ذاتها، لأنه لا توجد صورة جاهزة يمكن رصفها ضمن القصيدة للتعبير عن المشاعر بل تخضع الصورة لطبيعة الشعور الكامن في نفس الشاعر، والصورة الجاهزة لا تمكننا من الخوض في أعماق التجربة الإنسانية.
الى ماذا ترمي وانت تكتب الشعر . الى أين تريد الوصول ؟
-وأنا أكتب الشعر لأواصل رحلة الحياة والشعر معاً وأبقى في حالة إنفعال ما يحدث في العالم، وفي أغلب الأحيان تتقدمني القصيدة ولا أدري إلى أي مكان تقودني. أريد الوصول إلى عالم الصدق والحقيقة والمجهول لأن الشعر يختبيء بين خلايا دمي ويضخ في روحي مشاعر وأحاسيس جديدة. الشعر بحد ذاته حركة وبدونها لا يمكن أن يكون له حياة، أطمح أن أؤسس منطقة شعرية كونية تمثل تاريخي الشعري الجسدي والروحي وذاتي العميقة في رؤيتها لكل العوالم المجهولة.


                                       مروان ياسين الدليمي




141
أدب / قُدّاسٌ . . لم يكتمل ْ
« في: 01:53 06/11/2010  »
قُدّاسٌ . .  لم يكتمل ْ
                                                 الى / شهداء كنيسة الرجاء في بغداد


لاأحدَ ، سيملأُ  الفراغ ،   بعد هذا الدمْ
 لاأحدَ،  بعد هذا الاسى،  وهذا الرصاص .
لاأحدَ هنا
لاأحدَ هناك . . . 
غاب الوقتُ عنا
حين توغلت اناشيدُنا  في الحلم .
 ربما ، اخطأنا
ربما توهّمنا
ربما خُدعنا
ولربما اخطأ الطريقُ وغابَ عنّا
ربما ، تضرّجَ، بالخديعة ِ
بالحزامِ الناسفِ
 بالكُرهِ
 بالحقد ِ
 بالتكفيرِ. 
يومُنا هذا ، توشّحَ بأسى التراتيلِ ،
بالبراءة
بالامنيات
بالرجاء
بالدم الطهور. . .
  . . .
ألمٌ مقدسُ هنا ، 
في القلبِ يغفو 
في الصليبِ
في باحة الكنيسةِ
في قُدّاس َينْشُد ُ الرجاء َ،  لم يكتمل ْ. .
ألم ٌ ، مازال يُحدِّقُ فينا ،
بالخاطفين َ
بالمنددينَ
بالشامتين َ
بالساكتين َ.
بعالم مشبوهٍ ،
بصمتٍ  مُريبٍ ،
يومٌ بعد اخر
وانفجارٌ بعد اخر
وتواطئٌ بعد اخر
موحشٌ امسى حزنَُهُ ، لمحنتنا
وغريب ٌ صار اعتذارُه منّا .
 . . .
 من جسدِ البلادِ
من شحوبِ صباحاتِها
 ذهب الاحبّة ُ بأخرِ صلواتِهم الى السماء .
. . .
هي المدنُ التي وقفتْ على عتبات ِطفولتِنا، ومايحلو لنا ،
هي المدنُ التي كانت عمرَنا
وتواريخَ رجولتِنا
اشاحتْ بوجهها عنا ، وشردتنا
وغابت من بين اصابِعِنا .


ثمةَ َاطفالٌ
ثمة َاناشيدٌ
ثمة َادعيةٌ ٌ
ثمة َاصواتٌ لنا ،  كانت قبل لحظات ٍ،  هنا .



   مروان ياسين الدليمي
Marwan_ys2000@yahoo.com
                               





142
        ياأثرياء العراق . .
                        لتكن أوبرا وينفري،  خير أنموذج لكم .





منذ فترة  قد تصل الى عامين أصبحت متابعاً لكل البرامج التي تقدمها مقدمة البرامج الاميركية الشهيرة اوبرا وينفري . ويوماً بعد اخر يزداد اعجابي بهذه الشخصية  لِمَا تتمتع به من خصال انسانية رائعة ، اضافة الى ماتمتلكه من مواصفات حرفية ومهنية عالية ، تضعها في مقدمة الشخصيات الاعلامية التي عرفها العالم خلال الخمس وعشرين عاما الماضية .
 وبكل ماقدمته من تقارير وحوارات وقضايا تناولت الشأن الانساني سواء في اميركا اولاً أو في بقية دول  العالم ثانياً ، يجعلها هذا أن تنال على جهودها تلك احترام وثناء العالم باجمعه .
فهي لم تترك اية قضية تشغل الرأي العام الاّ واقتربت منها وسلطت الاضواء عليها . ابتدأ من الجرائم البشعة التي هزت الاوساط الاجتماعية في اميركا مروراً بالخيانات الزوجية ، ومأسي الاعاصير وماتخلفه من كوارث اقتصادية واجتماعية، الى أهم الاصدرات في عالم الكتب والطبخات والازياء ، الى اللقاء بالعوائل المشردة جراء الازمة الاقتصادية التي مرت على اميركا منذ العام 2008.
لقد كانت أوبرا في مهنيتها العالية،  تقدم أنموذجاً متقدماً للاعلام الذي يقف الى جانب القضايا والمشكلات التي تعصف بكيان المجتمعات ، دون أن تتورط في افتعال الاثارة من أجل نجاح ماتقدمه ، وعوضاً عن ذلك ،  أستثمرت كل نجاحاتها  المتواصلة التي حققتها في مهنتها منذ خمسة وعشرين عاماً لخدمة القضايا المجتمعية لاجل ان يكون الاعلام خير وسيلة لتقديم يد العون الى من يحتاج العون ،اضافة الى مهامته الاساسية في الكشف عن الحقيقة ،وتسليط الضوء الساطع ،على الازمات والمشكلات التي تواجه المجتمعات .
 أوبرا كانت كريمة جداً، مع كل الذين يحتاجون دعمهاً ورعايتها طيلة  مشوارها الفني وهي تتألق في مسارعملها يوماً بعد أخر وسنة بعد أخرى لتصبح في نهاية الامر، صاحبة أكبرامبراطورية اعلامية ،وهي لم تكن سوى  تلك المرأة السوداء الفقيرة التي بدأت مشوار حياتها بعد ان كانت قد تعرضت في طفولتها الى  التمييز والاغتصاب . وأدركت بحسها الانساني وذكائها المهني،  ماينبغي عليها ان تفعل،  لكي تتجاوز محنتها وترتقي الى مستوى طموحاتها ، ولتصل بكفاحها الى ماوصلت اليه من نجاح مهني جعلها تعرف جيداً أهمية العمل الانساني الذي يخدم المجتمع ، وتعرف جيداً من  يستحق ان تقف الى جانبه من عامة الناس .
 ولأنها أمرأة تتسم بالارادة والشجاعة منذ خطواتها الاولى في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ، عندما ابتدأت العمل  كمذيعة ومقدمة للبرامج في احدى المحطات الاذاعية المحلية،كانت تقف دائماً مع بسطاء الناس الشجعان، الذين يقاومون الصعاب، سواء كانت اقتصادية او خلقية أو اجتماعية ، لتمد لهم يد العون،  دونما حساب لكمية ماينبغي ان تعطي .
وكم هي تلك الخدمات التي قدمتها الى من كان يحتاج لها ، لكي  يبقى واقفاً على قدميه متمتعاً بكرامته الانسانية .
إن اميركا على الرغم من كل المساؤى التي تحفل بها ، من سياسة استعمارية قذرة ، واستعلاء على شعوب الارض الفقيرة، واستغلالها البشع للثروات الطبيعية لبلدان العالم الثالث،  إ لاّ ان نمط الحياة فيها ،ونظامها الاجتماعي  ،شجّع  دائماً على احترام وتقديس العمل الخيري لمن يملك القدرة على تقديمه الى المجتمع .
 ويبدو واضحا ان النظام الاقتصادي الاميركي  بما فيه من قوانين صارمة تفرض على اصحاب رؤوس الاموال ــ من رجال المال والاقتصاد ونجوم المجتمع،  سواء من الفنانين او الاعلاميين ــ الى  ان يبادروا لتقديم الاعمال الخيرية،  وتأسيس الجمعيات الانسانية  التي ترعى فئات من المجتمع بحاجة الى دعم . وقد ساهم بدرجة كبيرة جداً  الى اشاعة ثقافة انسانية بين عموم الاميركان ، قوام تلك الثقافة  :  احترام العمل التطوعي ، الذي يقدم خدمات ضرورية الى من هم بحاجة الى  الدعم والمساندة المادية والمعنوية.
لذاغالباً ماكنّا نجد العديد من المشاريع الانسانية الكبيرة ، التي عادة  مايقف وراءها نجوم السينما والرياضة،  من اجل دعم المرضى والمعوقين والمشردين والفقراء،  سواء داخل اميركا او حتى خارجها، كما هي الحال في الكثير من تلك المشاريع في افريقيا واسيا .
ويبدو ان أوبرا قد وصلت في طموحاتها ومشاريعها الانسانية الى درجة  لم يصل اليها احد قبلها ، عندما اطلقت هذا العام مشروعاً  طموحاً ،عنوانه
( تحقيق الاحلام الجامحة ) .
يأتي هذا المشروع الكبير بعد ان اعلنت في مطلع عام 2010  نيتها التوقف نهاية هذا العام عن تقديم برنامجا التلفزيوني الشهير الذي مضى عليه 25 عاماَ ، لتبدأ مرحلة اخرى جديدة من حياتها المهنية في  مطلع عام 2011  عندما يبدأ بث قناتها الفضائية الخاصة بها . 
في مشروعها الجديد ( تحقيق الاحلام الجامحة ) الذي تختتم به مسيرة برنامجا التلفزيوني الشهير، سعت أوبرا  الى جمع 250 متابعاً لبرنامجها التلفزيوني ، وسبق لهولاء المتابعين ان عرضت أوبرا  قضاياهم  في تقارير خاصة عبر برنامجها ، ابتدأ من أول حلقة عرضت قبل ربع قرن،  وانتهاءً بأخر حلقات قدمت في الاسابيع الماضية من هذا العام . وبعد ان جمعتهم بدأت في تحقيق احلامهم الخاصة،  مهما كانت كلفة وصعوبة تحقيق تلك الاحلام،  فلا شيىء يقف امام الاصرار الذي تتحلى به هذه السيدة الشجاعة عندما تعزم على تحقيق امر ما .
لذا لم يكن غريباً عليها ان تشتري لسيدة مكافحة سبق ان ابتليت بمرض غريب اصاب يديها وقدميها بعد ولادتها لابنتها وعجز الاطباء عن معرفته مما اضطرهم  الى بتر اطرافها العليا والسفلى . لكن الروح القوية التي كانت تتحلى بها تلك المرأة جعلتها تقف صلبة امام وضعها الجديد ولم تستسلم ابداً واستمرت في تأدية دورها الطبيعي كأم وكأن شيئاً لم يكن .
امام هذا النموذج وقفت اوبرا امام العالم لتقول لها:  انك المرأة القدوة لنساء الارض . . ثم بدأت أوبرا في تحقيق ماتحلم به تلك السيدة المعاقة ،  ابتدأً من شراء بيت فخم لها ، ودفع كافة تكاليفه نقداً،  الى تصميم اثاث ومطبخ البيت وفقاً لوضعها الغيرطبيعي وهي المرأة الفاقدة الاطراف  حتى تستطيع ان تتعامل مع الاشياء والادوات بناءً على وضعها الخاص هذا .
وهكذا تتوالى عملية تحقيق احلام 250 امرأة خلال الايام والاشهر القادمة من عمر البرنامج في عامه الاخير . اضافة الى العديد من المساعدات الانسانية التي ستوزعها اوبرا في معظم قارات الارض لنساء ورجال سبق ان عرضتهم في حلقات برنامجها .
ان أوبرا هناتقدم صورة اخرى للاعلام ، غير تلك الصورة البرغماتية التي تعودنا عليها ، سواء في اميركا او في مناطق اخرى من العالم ، اعلام مسؤول ، يتحلّى بكامل المسؤوليةالاخلاقية تجاه مجتمعه وتجاه المجتمع الانساني عموماً ، وتجاه الاشخاص الذين يقدمهم في البرنامج  عندما لايقطع الصلة معهم بل  يبقى على تواصل دائم بهم ،  يتابع سيرهم في الحياة ، وهم يحملون مشكلاتهم معهم .
ماأنوي الوصول اليه في هذا المقال هو:  الغياب التام  للمشاريع الانسانية التي تخدم المجتمع فيما نقدمه من برامج في قنواتنا الاعلامية،  باستثناء قناة الشرقية التي خلقت لنفسها نهجاً متفرداً في هذا المضمار، وهذا أمر يحسب لها ولأدارة القناة ، منذ اطلالتها الاولى عام 2004 عبر اكثر من برنامج من خلال  تقديم العون والمساعدة لشرائح وفئات وافراد من المجتمع العراقي المبتلى بتركة ثقيلة من الازمات والمشكلات،  تبدأ  بالحروب والمعوقين، والعاطلين عن العمل ،والمهجرين ، وتنتهي  بطبقة سياسية فاسدة لاهم لها سوى ادامة الفوضى  لا لشيء سوى استمرارها في الجلوس على كرسي الحكم ، ونهب الثروة العامة ، وعدم الالتفات الى مايعانيه هذا الشعب من محن تفتك به .
إضافة الى ذلك  غابت  هذه المشاريع الانسانية عن رجال الاعمال والطبقات الثرية العرقية ، التي ازدادت ثراء بعد التاسع من نيسان الى حد مخيف ، ولو دققنا في مجمل انشطتها التجارية لن نعثر  في اجندتها  اي مشروع يسعى لتوظيف ولو جزء بسيط من تلك الثروات الهائلة لخدمة فئات من المجتمع هم بحاجة الى الدعم والمعونة .
فهل ياترى  سيأتي ذاك اليوم الذي نتحلى فيه  بصفات اخلاقية وانسانية دعانا اليها ديننا الاسلامي ! تحتم علينا ان نخصص جزءاً من ثرواتنا وبملء ارادتنا لاقامة مشاريع وجمعيات، تقدم العون للاخرين المحتاجين  لنا ، وساعين من خلال هذا العمل ، لان نكون متطابقين مع انفسنا ومع طبيعة ديننا الحنيف ، وأن نكون ايضاً  اعضاء نافعين ومؤثرين في صنع السعادة والامان لمجتمعاتنا . !؟
من الغريب هنا ،  ان نجد ماينبغي ان نكون نحن عليه كمسلمين متجسداً بأبهى صورة لدى الغرب ،  أولئك الذين دائماً ما نتهمهم  بالكفر. .!
نعم ،  قد يكون في نمط الحياة الاميركية ، الكثير من التفاصيل التي ندينها ولكن في المقابل ، علينا ان نحترم جوانب أخرى مشرقة فيها ، منها مايتعلق بموضوعة العمل التطوعي والخيري الذي يكاد ان يكون ثقافة مشاعة هناك .
 إن  منطق الامرهنا  وكما يقتضي بهذا ديننا ،  أن نكون نحن المسلمون  السباقون الى تقديم العمل الخيري والتطوعي على اولويات حياتنا ، أليس كذلك ؟ 
لكننا وياللاسف،  لسنا هكذا ، بل نكاد ان نقيم الدنيا ونقعدها من اجل الدفاع عن ممتلكاتنا الخاصة ،والسعي المحموم لزيادتها، حتى لو جاء ذلك  على حساب خراب بلداننا ومجتمعاتنا ، بل إننا مازلنا نحتمي بعقلية قروية لايهمها في هذا العالم سوى الارض التي نملكها  ونزرعها ، وليذهب الوطن والعالم بعدها الى الطوفان ، بمافيهما اقرب الناس الينا .
وعلى العكس من هذا السلوك وهذا الفهم وهذه الثقافة ، فيما لو سادت بيننا  ثقافة اخرى،  هي تقافة العمل الخيري والتطوعي ، وشهدنا صورها متجسدة في سلوك الاثرياء عبر المشاريع التي يقدمونها الى المجتمع . ماذا سيحصل في حينها .  من المؤكد  سنجد انفسنا لسنا بحاجة الى ماستقدمه الدولة لنا من هبات ومساعدات قد تحتاج الى زمن طويل جداً لكي تصل الى من يحتاجها ، وقد لاتصل ابداً،نتيجة للفساد وللاجراءات الروتينية والرسمية التي تثقل مؤسسات  ودوائر الدولة .
اخر القول لنا  :  هي دعوة لرجال الاعمال وألاثرياء العراقيين، أن  يعيدوا النظرتماماً في علاقتهم ببلدهم، ومجتمعهم ،وقيمهم ، واهدافهم ، وأن يكرسوا شيئاً مما يملكون لاقامة مشاريع خدمية انسانية تساهم  في نهضة بلدهم الجريح الذي لامكان لهم خارج حدوده ، وما سيقدمونه له ، ما  هو إلاّ واجب اخلاقي يفرضه عليهم انتمائهم لهذا البلد . ولتكن أوبرا خير أنموذج لهم لكي يحذوا حذوها .



                                                    مروان ياسين الدليمي
                                           Marwan_ys2000@yahoo.com


143

             الفنان الرائد  رفيق نوري حنا  . .
                                        حركة دائبة ونشاط لايهدأ




وجودي في اقليم كردستان وفي عنكاوا تحديداً مضى عليه اكثر من اربعة اعوام كنت قريباً جداً فيه من الانشطة والفعاليات الفنية  التي تشهدها اربيل وناحية عنكاوا تحديداً المسرحية منها والسينمائية ، ولايمكن ان اطلق حكماً عاماً على مجمل تلك الانشطة التي يختلف ويتباين المستوى الفني فيما بينها  بدرجات واضحة وهذا يعود الى من يقف من الفنانين وراء تلك الاعمال الفنية  تبعاً لخبرتهم ومستواهم الفني ومدى عشقهم لهذا الدرب الطويل والشاق الذي يتطلب من العاملين فيه الكثير من الجهد والتضحية والصبر الطويل، ذلك لان الاعمال ذات المستويات العالية والتي تنطق بافكار فنية وجمالية تحتاج الى وقت طويل من التحضيرا ت الاولية والى فترات من التمرين والمعاينة والبناء والتعديل . وهذا ماسيؤدي بتلك الاعمال الى النمو المتصاعد في بناءها الفكري والفني لتصل بعد شوط طويل الى مستوى من النضج يمكنها من تحقيق التأثير المطلوب في المتلقي سواء اثناء فترة العرض او خارجه .
وبما ان مدينة صغيرة مثل عنكاوا لاتملك  ذاك العددالكبير من خريجي المعاهد الفنية فان النشاط الفني قد انعكس عليه  هذا الوضع بالتالي لينحسر فيها النشاط الى اعمال فنية موسمية . ورغم ذلك فأن وجود فنان ذي خبرة طويلة في العمل الفني مثل (رفيق نوري)  له العديد من التجارب الفنية التي ساهم فيها سواء في اقليم كردستان اوفي بغداد اثناء تواجده هناك ايام الدراسة في منتصف سبعينيات القرن الماضي في معهد الفنون الجميلة لدى  اهم الاسماء الفنية المسرحية العراقية وفي المقدمة منهم الفنان الراحل
( قاسم محمد )قد اعطى له خصوصية فردية مكنته ان يرسم له تاريخاً فنياً مشرفاً ومهماً على مستوى اقليم كردستان .
 فكان تاريخه الفني حافلاً بالعديد من الاعمال المهمة التي تُعد بحق علامات مضيئة في المسرح السرياني والمسرح في اقليم كردستان . ولم يتوقف هذاالفنان طيلة مسيرته الفنية التي تمتد لاكثر من اربعة عقود فنية كان خلالها يكتب العديد من العروض المسرحية التي يقدمها باللغة السريانية واللغة الكردية . وحتى في تلك الفترة التي كان فيها ملتحقاً بالبشمركة في ثمانينيات القرن الماضي، مقاتلاً من اجل الحرية كان يمارس عمله الفني  هناك على الجبال وعند القرى الكردية المحررة ولم ينقطع عن ممارسة عشقه للعمل الفني بل تمكن بمايمتلكه من خبرة وعلم في ميدان علم النفس ــ الذي درسه ونال عنه شهادة اكاديمية اضافة الى الفن المسرحي ــ  ان يشرك ابناء القرى في تقديم عدد من العروض الفنية التي كان يدعوهم فيها وعبر افكارها التي كان يصوغها هو الى حب العلم والمعرفة اضافة الى  عشق الحرية والدفاع عنها .
وفي الاعوام الاخيرة بعد عام 2003 اتسعت دائرة نشاطه الفني داخل الاقليم ليقدم افلاماً سينمائية باللغة السورث اضافة الى اعمال مسرحية جادة باشكال فنية تتوزع مابين الغنائي والتجريبي والدعائي  تبعاً لمقتضى الفكرة التي كان يدعو لها .
 ومجمل تلك الاعمال التي قدمها  كانت من بناة افكاره ومن صياغاته الفنية التي فيها الكثير من المسحة الاكاديمية باعتباره مدرساً للفنون المسرحية في معهد الفنون الجميلة / اربيل،  اضافة الى  الحرفية الواضحة والعالية التي جاءت بفعل الممارسة الطويلة والخبرة المتراكمة .
ورغم ضيق المساحة التي يتحرك عليها الفنان نوري  في المنتدى الذي يتولى ادارته ( منتدى عنكاوا للفنون ) الاّ انه تمكن ان يحشّد الكثير من العناصر الشابة التي اخذت تعمل معه تطوعاً دونما تفكير باي مردودات مالية  قد تعود عليها بالنفع، والكثير من تلك العناصر لم تكن لها اي تجارب فنية سابقة ، لكن وجودها في المنتدى والدور الفاعل لرفيق نوري في تدريبها وصقل موهبتها وتربيتها فنياً مكنها من  ان تخطو خطوات واسعة وتتضح ملامح شخصيتها الفنية، فبرز منهم  العديد من الاسماء الشابة على مستوى الاداء المسرحي والدرامي وكذلك في ميدان الموسيقى والغناء . واتسعت نشاطات المنتدى يوماً بعد اخر وعملاً بعد اخر ليكون بؤرة ثقافية يجتمع فيها العديد من الفنانين الكورد والسريان والعرب من خلال الانشطة والفعاليات الفنية التي داوم المنتدى على تقديمها اسبوعياً من اجل تعميم الثقافة والتذوق الفني لدى عموم الناس وهذا هو ماكان يهدف اليه الفنان رفيق نوري .
 فتعدت نشاطات المنتدى الى مديات واسعة توزعت مابين العروض المسرحية  والعروض السينمائية للافلام الكوردية الحديثة، هذا  اضافة الى مارافق تلك العروض من حوارات ونقاشات دارت  مابين الجمهورالحاضر  و مخرجي تلك الافلام .
ولم يقتصر الامر عند هذا الحد بل اقيمت عدد من الامسيات الموسيقية والشعرية التي احتفى بها المنتدى بعدد من المبدعين وفرسا ن الكلمة . ليؤكد المنتدى على دوره الحقيقي في المساهمة الجادة في تنشيط وتفعيل المشهد الثقافي والفني في ناحية عنكاوا وفي اربيل . والى احتفاءه بالابداع والمبدعين كماحصل مع الشاعر مروان ياسين الدليمي عندما اقام المنتدى له امسية تكريمية بمناسبة نيله جائزة ناجي نعمان الادبية في بيروت  . ولولا وجود فنان مخلص لفنه مثل رفيق نوري لما شاهدنا هذه الانشطة الثقافية والفنية التي توزعت على عمر المنتدى الذي لم يمضي عليه اكثر من ثلاث سنوات .
والفنان رفيق نوري  حركة دائبة من النشاط الذي لايهدأ طيلة ايام السنة فهو موزع مابين عمله كمدرس في معهد الفنون الجميلة وعمله كمخرج للبرامج في قناة عشتار ومدير لمنتدى عنكاوا للفنون،  وهذا جهد كبير لايقوى عليه الاّ من كان يملك  طاقة من الحب لعمله لاحدود لها وطاقة من العطاء لاتوصف .
 ولو توفر ت الامكانيات المادية التي يحتاجها من مقر واسع وقدرة انتاجية تستجيب لمشاريعه الفنية الطموحة لتمكن من تحقيق الكثير من الاعمال المهمة والتي سيتوقف عندها الوسط الفني باعجاب وتقدير .
 لذا انا ادعو كافة المؤسسات الفنية المعنية بفتح الابواب امامه وتقديم مايحتاجه من دعم مادي ومعنوي  لان هذا الفنان يمتلك من القدرات الفنية مايمكنه من ان يخلق ارضية فنية واسعة وصلبة يقف عليها الكثير من الاعمال الفنية الجيدة والكثير من العناصر الفنية الشابة الطموحة .





                                        مروان ياسين الدليمي

144
تأويل الصوت والجسد . .  في مسرحية حديقة الانسان .


الحلم الاميركي الذي طالما صنعته الالة الاعلامية الاميركية لم يعد بذاك البريق الذي طالما تبجح به الساسة الاميركان ، وكم  تناول ذلك  العديد من كتاب المسرح الاميركي الحديث منذ مابعد الحرب العالمية الثانية . والكاتب  ادوارد البي واحد من طلائع الكتاب الذين تمردوا على هشاشة القيم التي صنعتها الرأسمالية الاميركية عبر نصوصه التي طرق بها وبعنف على جدران العزلة المفرضة على الذات الانسانية المهشمة . ومسرحية حديقة الحيوان نموذج يتخذ السخرية  المرّة  ضد نمط الحياة التي تسحق الفرد.
هذا الفرد  الذي  يبحث عن  علاقات انسانية تبعث الدفء في روحه المنطفئة ، خلف  جدران  شاهقة من الصلب والكونكريت امست تخنق الطبيعة والانسان في ان واحد .
الفنان شفاء العمري قدم عرضا مسرحياً بعنوان ( قصة حديقة الانسان ) في 29 / 7/ 2010 على خشبة فرقة قرقوش المسرحية في بغديد ا/ قرقوش  التابعة لمحافظة نينوى ، وسبق له ان قدم هذا العرض في مطلع شهر تموز الماضي في بغداد على خشبة مسرح كلية الفنون الجميلة . وهو من انتاج دائرة السينما والمسرح في بغداد .
نص المسرحية يعود للكاتب الاميركي ادوارد البي المعنون  ( قصة حديقة الحيوان ) وهي تسمية تنطلق من اسلوبية النص الذي يحلق في فضاء العبث ، الذي ينتمي له  الكاتب البي .
هنا النص  يتناول موضوعة العزلة التي تسحق الانسان  الاميركي المعاصر وهو يحيا في بيئة تتسارع فيها حركة النمو الاقتصادي والمادي الى الحد الذي سحقت تحت عجلاتها المسننة القيم الانسانية والاخلاقية ،مما ادى الى عزلة خانقة للفرد  داخل اطار مجتمع تشكله اثنيات وقوميات واجناس مختلفة ومتعددة  تتشارك في انتمائها وانتسابها للوطن على الرغم من هجرتها اليه من دول وقارات متباعدة.


شفاء العمري سبق له ان تناول هذا النص في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ولم يكن في حينها عازماً على اجراء اي تعديلات جوهرية عليه مكتفياً انذاك  في تقديم رؤيته الفنية التي اكد ًفيها على الجوانب الانسانية للشخصيتين الرئيستين وهما يقعان تحت  شعور حاد من العزلة.
 والعمري هنا يتناغم مع ماجاء به النص من افكار، دون ان يسعى الى التقاطع او الانزياح عنها في العرض المسرحي  .
 اما في قراءته الثانية للنص عام 2010 فقد انعطف فيها كثيراً عن مسار القراءة الاولى ، ليخلق مقاربة جديدة تتحرك بحرية ٍ وقصدية واضحة  مابين دلالات النص الاصلي  ومدلولات ماجرى من تداعيات جسيمة بعد الغزو الاميركي للعراق عام 2003 .وهذا هو مايبرر جدوى اعادة انتاجه بعد اكثرمن ربع قرن على انتاجه في المرة الاولى  دون  الخضوع لمحددات العرض الاول ، ليقف العمري هنا حراً، وبعيداً عن هيمنة الماضي ،وقريباً جداً من منطقة الابداع التي يعزف على اوتارها الفنان المفكر وهو يتلقى بوعي متوقّد ومخيلة جامحة متغيرات واعاصير الحياة ،وليعكس في مجابهاته الجمالية رؤيته الفنية عندما  يعيد قراءة الاعمال والنصوص المسرحية المهمة التي تحتشد فيها مستويات متعددة ومتصاعدة من الافكاروالموضوعات التي عادة ما تمنح الفنان المكتشف مساحات واسعة من الضوء وسط العتمة، للتحرك داخلها ،ليكشف ِ ما يختفي بين السطور .
 هذه هي الارضية الفكرية التي هيكَل  عليها العمري مشروعه الفني الجديد /القديم ، وهويعيد قراءة قصة حديقة الحيوان. لنقف امام عرض جديد ينحاز الى المغامرة ويزيح  بعد ربع قرن سلطة خطاب عرضه الاول  .
 في نسخة العرض الاخيرة ، تناثرت شواهد قبور الجنود الاميركان القتلى في العراق على خشبة المسرح لتصبح حديقة الحيوان : حديقة لرفات من  تورط في حرب لاناقة له فيها ولاجمل . هي حربُ كتب سيناريو حكايتها وتفاصيلها وافكارها ، رجال السياسة والمال ، كتبوها  بحرفية عالية تداخلت فيها الوقائع بالاكاذيب، من اجل صنع طبخة فنية مقنعة وممتعة ومشوقة من اجل خداع العالم لاأكثر،  كما هي عادة السينما الاميركية بكل ماتملك من حيل وخدع تقنية ،تمكنها دائماً من تحقيق المعجزات على الشاشة ضاربة المنطق والحقائق بعرض الحائط .
مايمتلكه العمري من مخزون معرفي وخبرة متراكمة تشكلت خلال نصف قرن من العمل الجاد في ميدان المسرح ،وساعياً  فيها الى  مواكبة التطورات الحاصلة في ميدان المسرح العربي والعالمي وصولاً الى تكوين شخصيته الفنية المميزة عبر تقديم اعمال مسرحية تستجيب لدوافع التجديد في معمارية العرض المسرحي وتشكيل رؤية فنية تنظيرية لمسرح محلي عربي يستثمر كل الممكنات التي تختفي وتتناثر بين سطور التراث والطقوس والفلكلور والتاريخ ، القريب منه والبعيد .
وفي ذروة  تطلعاته تلك لم يتردد في  الاستناد على نصوص مسرحية كتبها اخرين ،او قد يلجأ هو الى كتابة نصوص مسرحية وفقاً للمناخات التي ينوي اجتراحها عندما لايجد لدى الاخرين مايمنحه فرصة التحليق بعيداً في فضاء العرض المسرحي .
هذا الهاجس الدائم بالعمل والبحث وطرح الافكار طيلة نصف قرن اوصله في السنين الاخيرة الى ان يمتلك رؤيته الفنية الخاصة لشكل العرض المسرحي، وبدا ذلك واضحاً في عمله  الاخير وكذلك في الاعمال التي سبق ان قدمها في تسعينيات القرن الماضي . وقد اقترب هذا الشكل الى منظومة من الاشتراطات الفنية التي يستنطقها غالباً كلما تصدى لعمل ما. . ويمكن لنا ان نستوفيها في الملاحظات الاتية  :  الابتعاد شبه التام عن استخدام قطع الديكور ،والاكتفاء بالانسان وبحضوره الواضح في فضاء الخشبة ،وهذا المساريضع اي مخرج اخر امام اشكالية بصرية تفرض عليه جهداً مضاعفاً في تشكيل سينوكرافيا العرض المسرحي معتمداً فقط على جسد الممثل وصوته وهو يتحرك على الخشبة العارية الاّ من قطع معدودة جداً من الديكور والاكسسوارات اضافة الى الاضاءة المسرحية .


وهنا يبدو شفاء العمري قد وصل في ذروة تجربته الطويلة. اي الى تلك الخطوة الاولى التي سبق ان انطلقت منها الظاهرة المسرحية قبل الاف السنين عند الاغريق، عندما كان الممثل يشكل بؤرة العرض على خشبة المسرح العارية .
 لقد جاءت هذه العودة ــ باعتبارها مشروعاً فنياًـــ   الى نقطة البداية بعد ان امتلك العمري فلسفته التقنية في استثمار  الوسائل والاساليب الفنية التي تمكّنه من تكثيف وتحرير  مايمتلكه الممثل من طاقة جسدية الى الحد الذي يصبح فيه هذا الجسد لغة حية تتشكل منها حروف وجمل وتراكيب بلاغية تنبض بصورافتراضية  دون ان يتوقف المتلقي بمايحيط بهذا الجسد من مفردات وقطع مادية . ذلك لان سعة الرؤية لدى المخرج تكتفي هنا  بصوت الممثل وجسده لرسم صورة  العالم الذي ينشده او يرفضه على الخشبة  ومن خلالهما( الصوت والجسد ) يطرح مايلح عليه من رؤى وافكار .
في هذا العرض ( قصة حديقة الانسان ) اخذنا العمري الى حديقته دونما ضجة ولا بهرجة لنقف امام عالم جمالي شكّله ممثلان اثنان فقط لاوجود لغيرهما على الخشبة . الاول كان الممثل القدير محمد العمر والثاني كان الفنان الرائد علي احسان الجراح .
نص المسرحية يقترب من  مناطق مظلمة في الحياة والثقافة الاميركية من خلال لقاء عابر يتم في حديقة عامة لشخصيتين لاصلة سابقة بينهما،احال المخرج شفاء العمري جزءاً منها الى مقبرة لجنود اميركان  سقطوا قتلى في  العراق .
وقد تحمل الفنان محمد العمر العبء الاكبر في تقديم  هذا العرض،وهو يؤدي شخصية (جيري) التي تستحوذ على رقعة واسعة من مساحة الاحداث التي تدور في بقعة مكانية واحدة لاتتعدى حدود مصطبة خشبية  تتشارك  الشخصيتان في الجلوس عليها  .


الممثل محمد العمر يمتلك  قدرات فنية عالية تتظافر فيها ،طاقته الجسدية،ولياقته ، ومرونته ،في التعبير عن التحولات النفسية ،اضافة الى مايمتلكه من مخزون شعوري وانفعالي غالباً ما أحسن َ هذا الممثل الخبير في استدعائه واستنطاقه، في الوقت والشكل الذي يبتغيه هو ، ووفقاً لما يفرضه منطق الفكرة الفنية التي يسعى خطاب العرض الفني الى توصيلها.
ان هذا العرض بما يشكله من ثقل على من يتولى  تأدية  شخصية (جيري. يفرض ممثلاً من نمط خاص،  تتوفر فيه جملة من العناصرالفنية  المميزة جسدياً، وصوتيا،ً وذهنياً ،وطاقة شعورية متوقدة .
 والممثل( العُمر)  بتاريخه المسرحي الطويل الذي قطعه بكل اخلاص مع مدرسة شفاء العمري المسرحية خلال ثلاثة عقود من عمر الزمن خير من يستحق ان توكل اليه مهمة تشخيص هذا العرض ، والجهد الذي بذله يضعه في مقدمة الممثلين المعاصرين العراقيين الذين يدركون تمام الادراك وبفهم واسع، كيفية التعامل بتقنية عالية مع ايقونية الجسد بمدلولات مفتوحة وهو يرسم  معمارية الشخصية الانسانية في حدود المؤطر منها داخل العرض المسرحي ،ذاهباً  بها وفقاً لعمليات الاشتغال والتجريب الدائم طيلة فترة التمرين  الى ايقاف سطوة المستهلك من المدلول ومفجراً افاقاً جديدة ومدهشة تتجدد مع كل عرض .
لقد رافق محمد العمر المخرج شفاء العمري منذ مطلع سبعينيات القرن الماض وهو لم يكن في حينها سوى ذاك الشاب الرياضي  الذي كان قد قطع شوطاً جيداً في عالم رياضة الجمناستك والجمباز. ورغم تفرغه التام بعد ذلك  لعالم شفاء العمري المسرحي إلاّ أنه  ظل محافظاً على لياقته، وبنيته الرياضية، من اجل ان يكون جسده قادراً على الاستجابة التعبيرية المكثفة  لكل المستويات البنائية للمشغل الاخراجي  . وهو امر غالباً مايهمله الممثل العربي والعراقي . والذي دائماً مانجده مترهلاً وبطيئا في حركته بسبب وزنه الزائد وضعف لياقته البدنية .
اما الشخصية الثانية في هذا العرض فقد كانت من نصيب الفنان الرائد على احسان الجراح . وهو اول خريج مسرحي في مدينة الموصل تخرج من معهد الفنون الجميلة في مطلع ستينيات القرن الماضي . ورغم بلوغه العقد السابع من العمر وتجاوزه بعدد من السنين الاّ انه لم يزل يواصل عمله في المسرح . والمفارقة في هذا الامر ان علي احسان الجراح كان المعلم الاول الذي تتلمذ على يده شفاء العمري مع مطلع العقد السادس من القرن العشرين  . لذا امريدعوالى الغبطة أن  تتواجد في هذا العرض ثلاثة اجيال مسرحية من الاساتذة والتلاميذ في أن واحد. الاول  جيل تشكلت تجربته في خمسينات القرن الماضي ويمثله الممثل علي احسان الجراح  وثانٍ في ستينياته ويمثله تلميذه شفاء العمري  وثالث في سبعينياته ويمثله تلميذ شفاء الممثل  محمد العمر  .


يتسم المخرج شفاء العمري بخاصية لانجدها الاّ لدى قلة من المخرجين المحترفين الذين يملكون القدرة على تفجير الطاقات الكامنة لدى المواهب الفنية التي تعمل في مشغلها الفني . ويملكون الطريقة والاسلوب لتطويرها . إذ عادة مايستمر التمرين فترة طويلة لدى العمري إذ يحاول فيها ان يكتشف دائماً مناطق جمالية جديدة في تفاصيل النص الذي يشتغل عليه . ويصب الكثير من جهده على تدريب الممثل . والعمري يملك من الوسائل الفنية التي تراكمت بفعل الخبرة والثقافة العالية التي يتسلح بها مايمكنّه من رسم طرق ومسالك رحبة ومتعددة للممثل من اجل ان يصل الى امكنة بعيدة في بناء الشخصية التي يقدمها على الخشبة .
يقول المخرج القديرشفاء العمري في كلمة معبرة ثبّتها في كراسة  العرض التعريفية ، لها دلالة واضحة على عمق وصدق ارتباط هذا الفنان  بخشبة المسرح  ، يقول فيها  : بعد هذه السنوات التي مضت على اخر عمل اخرجته للمسرح تأتي هذه التجربة المتواضعة التي اشعرتني بأني لم ازل احيا .  




 مروان ياسين الدليمي
Marwan_ys2000@yahoo.cm


145
الحالمون عند نقطة الصفر . .  

                              
قراءة نقدية ، لنماذج سينمائية
من كوردستان العراق . .       ج1  
                                                                         
            


نظرة تاريخية :
قبل الحديث عن السينما في كوردستان العراق، اجد من الضروري التوقف قليلاً عند الملامح الاولى لظهور الشكل الفني للفلم السينمائي . أي اقتفاء اثر اللحظات الاولى التي كانت السينما فيها لاوجود لها كفن .حتى  نرصد الخطوات الاولى لظهورها على سطح المشهد الثقافي الانساني .
 ونحن بهذه العودة الى تلك السنين نسعى لان نضع السينما في كوردستان العراق ضمن اطارها الموضوعي والتاريخي ، ذلك لانها لم تولد من فراغ ، ولم يكن ميلادها قد جاء بفعل الصدفة ، او تعبيراً عن رغبة انية لفرد ما ، انما جاء ت بفعل تحولات اجتماعية وتاريخية شهدها العالم بشكل عام والمنطقة الجغرافية التي تحيط بالشعب الكردي  بشكل خاص . وهذا بدوره قد انعكس بطبيعة الحال على المجتمع الكوردي سلباً وايجاباً لكنه في نهاية المطاف كان له الاثر البالغ في نمو ويقظة الوعي الذاتي والقومي في المجتمع الكوردي ، الذي شهد صوراًً جرب صور شتى للتعبير عن هذا الوعي عبر مراحل نضاله الوطني وكفاحه الطويل من اجل اثبات وجوده على ارضه المستلبة، ومن اجل اعلان هويته التي ظلت تتعرض لعمليات تدمير منظمة بقصد محوها أو اذابتهافي هويات شعوب وقوميات اخرى . من كل هذا المخاض الصعب كان الشعب الكردي لايتردد في الانفتاح على اي سبل ثقافية وفنية الى جنب الكفاح المسلح، للتعبير عن صوته وكشف الظلم الذي كان واقعاً عليه .
 وكان الفن السينمائي واحد من تلك السبل التي حرم منها بسبب ظروف النظال التي كانت تتواجد في بيئة جبلية صعبة بعيدة عن المدن ،وبسبب مايتطلبه العمل السينمائي ايضاً من امكانيات ماديةضخمة .
 لكنه وبعد ان نال شيئاً من حريته بعد انتفاضته الشعبانية عام 1991 ، بدأت اولى الخطوات العملية لاستثمار الفن السينمائي لتوثيق ذاكرته المعاصرة قبل ان يطولها النسيان ، هذه الذاكرة المثقلة بالاحداث الجسام والتواريخ المرة والمتوزعة مابين القتل الجماعي والتهجير القسري والنفي في الصحارى والتغييب في السجون والمعتقلات المطمورة تحت الارض ، كان لابد من العمل سريعاً على لملمة شظايا الجروح والمآسي التي كانت  تختزنها الروح سواء جاء ذلك عبر اعمال وثائقية او افلام روائية ،وهذا ماتحقق فعلاً في عدد من الاعمال التي توزعت من حيث الشكل الفني على هذين النوعين من الانتاج الفلمي في النصف الثاني من عقد تسعينيات القرن الماضي  .


ان السينما باعتبارها فناً ، لم تكن في يوم ما ترفاً فنياً لاقيمة له جمالياً كان او فلسفياً او توثيقياً، انما  كانت السينما منذ اللحظات الاولى لولادتها عندما جاءت صامتة ،  تشيء بفن كبير اشارت كل الدلائل على  ان قاموس مفرداته سوف يتسع  فلماً بعد اخر وإسمَاً سينمائياً مغامرا بعد اخر،
 وهنا انتبه لهذا الفن افراد افذاذ ، خُلِقوا لكي يكونوا فلاسفة مكتشفين ومطورين للفن السينمائي ،كما هو الحال مع (كريفث) الاميركي  و(ايزنشتاين ) الروسي ، اللذان اقتحما ارضاً بكراً مجهولة، لم تطأها قدم  شخص اخر قبلهما بقصد (الاكتشاف  والتنظير والتغيير والاستثمار ). وكان لهما ما حلما به،وبدأت فعلاً على يديهما تتضح معالم فن جديد، لم يكن العالم يعرفه ، وانتبه التجار والمستثمرون الاميركان لمايختزنه هذا الفن الجديد  من قدرات هائلة تجارية مخزونة فيه وعلى اشرطة السلولويد التي تطبع عليها القصص والمغامرات والمطارات . لذا لم يتوانوا في تأسيس  تأسيس وانشاء دور للعرض السينمائي في المدن الاميركية ، واخذت  تتسع اعداد تلك الدور يوماً بعد اخر، كما اخذت ادوات العرض تتجدد هي الاخرى تبعاً للمتغيرات الحاصلة في الصناعة التقنية للسينما ايضا .
 ومن هنا بدأت رؤوس الاموال القادمة من الفن السينمائي  تتضاعف وتتراكم لدى المنتجين والمستثمرين في هذا الفن . ليصبح لهذا المال  ثقلاً رئيسياً في ميزانية الدخل القومي الاميركي في النصف الاول من القرن العشرين . ولم يكن تأثير الفن السينمائي مقتصراً منذ البداية على الجانب الاقتصادي فحسب بل بدا واضحاً لدى صناع القرار في اميركا تحديداً ، مدى التأثير الخطير لهذا الفن الدرامي البصري على عقول وثقافات واذواق الشعوب، الى الحد الذي تمكنت فيه السينما من تحقيق ماكانت قد عجزت عنه حقولا ثقافية وفنية  اخرى كالادب والمسرح من الوصول الى ماوصل إليه الفن السابع من قدرة على نشر وتعميم نمط الحياة الاميركية الى ايما بقعة يصل اليها الفلم السينمائي الاميركي بعد أن اكتملت كل عناصر النجاح المادي والتقني  لهذه الصناعة ،ابتدأً  من رؤوس الاموال الضخمة الى معدات التصوير، والاضاءة ،والخدع الفنية التي يتم تطويرها يوماً بعد اخر، وصولاً الى بناء مؤسسات اكاديمية فنية على درجة عالية من الحرفية والعلمية  يتلقى فيها عشاق الفن السينمائي  من الذين يطمحون للعمل فيه ادق المعلومات الحرفية واحدثها في مجمل تفاصيل انتاج الفلم السينمائي . .  
من كل هذا الارث الذي تراكم خلال قرن كامل اصبحت السينما اليوم ابرز واخطر واهم الفنون الدرامية جاهيرية وتأثيراً على الرأي العام،  وامست عاملاً اساسياً لدى الساسة الاميركان وهم يرسمون الطريق لاحلامهم الستراتيجية التي تمتد على طول وعرض الكرة الارضية وخارجها .
وهناك من الدلائل الملموسة مايثبت صحة ماذهبنا اليه وهذا امر لم يعد جديداً ومستغرباً على احد ٍ . ويكفي الاشارة فقط الى عدد الافلام التي انتجت عن الحرب الاميركية في فيتنام وضخامة تلك النتاجات لا لشىء سوى تبرير وازاحة كل الشبهات عن تلك الحرب القذرة اضافة الى مساهمتها في اعادة الثقة بالنفس وبالكرامة  للمواطن الامريكي بعد تلك الهزيمة التي تلقتها في المستنقع الفيتنامي .



 

 وهكذا لعبت ايضاً نفس الدور في معركتها ضد الارهاب القادم من الشرق الاسلامي كما روجت الدعاية الرسمية ! وأعطت بذلك  مبررات الدخول الى مناطق جغرافية  كانت السياسة الاميركية تحلم بالوصول اليها ــ منذ الحرب الباردة ـــ  واقامة قواعد عسكرية واستخباراتية فيها ، من اجل هدف بعيد  يحظى بالاولية لدى دوائر صنع القرار هناك: وهو السيطرة على ثروات الشعوب الفقيرة بأحوالها ،والغنية جداً بأراضيها والتي تختزن اهم واوسع ثروات العالم .
وفي المقابل لهذه الصورة السينمائية التي تم استغلالها بشكل بشع لخدمة اغراض واهداف اضرت كثيراً بالانسانية وبالشعوب الفقيرة والمبتلية بحكام طغاة واغبياء ، كانت هنالك صورة اخرى اكثر اشراقاً للسينما يتم انتاجها ايضاً في عجلة السينما الاميركية والاوربية ، صورة اقتربت كثيراً جداً من الذات الانسانية الجريحة بكل احلامها وامالها ، وكانت السينما هنا منطلقاً رائعاً لكل الفنانين الحالمين بعالم اجمل، وشهد العالم خلال قرن كامل اعمالاً سينمائية خالدة مجدت الانسان بكل طاقات الخير والنبل التي جُبل عليها واقتربت كثيراً من مشكلات واحداث فردية ومجتمعية قدمتها بتحف فنية تسري بين لقطاتها ومشاهدها مشاعر وعواطف واحاسيس انسانية تمكنت من اعادة التوازن الى الذات الانسانية التي كانت تتعرض الى شتى صنوف التهديد والخوف المجتمعي والسياسي . لتصبح السينما هنا تجربة جمالية تتظافر فيها فنون شتى وتتماهى مع بعضها من اجل الارتقاء بالذائقة الانسانية وابقاء الامل مفتوحا امام الانسان اينما كان وهو يشق طريقه في الحياة .
انتبهت شعوب عديدة  بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الى اهمية وخطورة الفن السينمائي بعد ان نالت تلك الشعوب ثمار نضالها وحريتها من اجل الاستقلال والخروج من تحت هيمنة القوة الاجنبية المستعمرة سواء في اميركا اللاتينة او في افريقيا او في اسيا . وظهرت خلال نصف قرن من الزمان تجارب سينمائية متفرقة هنا وهناك شهدتها تلك القارات والبلدان التي تقع فيها ، وتباينت نسب الانتاج بين مد وجزر تبعاً للظروف المحلية لكل بلد وقارة، خاصة ونحن نعلم ان كل البلدان التي تحررت والتي امست  زمام امورها خاضعة لحكومات وطنية كانت قد ورثت تركة ثقيلة لتلك العهود الطويلة من النهب والاستعباد ، لكن الشيىء المؤلم والموسف له،  ان تلك  الفرصة التاريخية التي حظيت بها تلك الحكومات والزعامات الوطنية  لم يتم استثمارها بالشكل الصحيح والمجدي ، بعد ان اساء الحكام الوطنيون الجدد استغلالها  اسوأ استغلال خدمة  لمناصبهم  ومصالحهم ،وبدلاً من التفكير جدياً في خلق فرص تنموية لبلدانهم وتطويرها على  النحو الافضل خدمة لشعوبهم،ذهبوا بعيداً جداً في عسكرة المجتمعات وبناء شبكة متضخمة من الاجهزة الامنية والقمعية والترسانات العسكرية  التي ارهقت اقتصاد البلاد واصابته بالعجز والشلل والتضخم ولم يكن الهدف من تلك السياسات  سوى السيطرة على شعوبهم بالقوة وقمع اي قوة تطالب بالحرية والعدالة الانسانية ولتكون السينما في هذه البلدان على شكل واحد من التشابه والاستنساخ في القارات الثلاث ( اسيا افريقيا واميركا اللاتينة ) ولتصبح هي الاخرى ضحية كبقية ضحايا المجتمع .
وعليه لم تشهد تلك البلدان نمواً وتطوراً في الانتاج السينمائي إلاّ فيما كان يخدم النظام الحاكم وايدلوجيته المخادعة والمزورة لكل شيىء ابتدأً من التاريخ البعيد ومروراً بالحاضرالقريب  بكل التفاصيل البوليسية التي يحيا بظلها الانسان . لكن نماذج هذه السينما الحكومية لم تستطع ان تقنع الناس البسطاء في تلك البلدان بقيمتها الفنية ومصداقيتها.
 وهكذا ايضاً فشلت تلك الافلام فشلاً  ذريعاً في الوصول الى المهرجانات الدولية التي كانت تحرص الدوائر الرسمية الحكومية على التواجد فيها من اجل تلميع صورتها والاستمرار بنفس اللعبة دولياً لخداع العالم كما كانت تخدع مواطنيها . وبذلك لم تتمكن من تحقيق ماكان يصبو اليه الحكام .
 وعلى ذلك لم يكن غريباً ولاأمراً يدعو للدهشة او الاسف  ان يذهب كمٌ هائلٌ من النتاج السينمائي السوفيتي ومن الكتلة الاشتراكية في اوربا الشرقية كان قد تم صنعه على مدى نصف قرن  الى حاويات الزبالة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي ..


 لقد تم محو تاريخ طويل من الفن الدعائي الكاذب والمزور لكل شيىء . وسقطت من ذاكرة الناس والتاريخ اسماءً فنية  كثيرة  عملت لعقود طويلة من اجل خدمة الانظمة السياسية الحاكمة فقط ، وتجاهلت دورها الطبيعي ودور الفن الحقيقي في الكشف عن الحقيقة وانصاف الانسان المقهور والمستلب بحريته وانسانيته وهويته ولقمة عيشه واحلامه  وارتضت تلك الاسماء لنفسها ان تنزلق الى منحدر ومستنقع اسن ٍ، الى فن ٍ وسخ،  ساهم مساهمة واضحة في الاساءة لكرامة الانسان وحريته .
وبعد سقوط جدار برلين كرمز لسقوط حقبة سوداء من تاريخ البشرية لم يقتصر تأثيرهذا الحدث  وتداعياته على اوربا فقط بل تعداه  الى العالم اجمع وبدأ العالم يشهد عهداً  اخر من تاريخ الانسانية ،عهد ايقظ الامل في الشعوب الصغيرة والاقليات المهمشة التي طالما سحقتها القوانين الجائرة للقوى المجتمعية الكبيرة المهيمنة على الحياة . وبدأنا نشهد الكثير من مظاهر التعبير الفني لتلك الشعوب والاقليات عكست من خلالها ماتختزنه من عشق كبير للحياة وقدرات ابداعية هائلة ظلت مقموعة لعقود طويلة وهكذا نال عدد من المبدعين ينتمون لتلك الاقليات والاعراق  على العديد من الجوائز الفنية في الكثير من المهرجانات الفنية ،وسجلوا حضوراً مميزاً لهم ولشعوبهم بعد ان توفرت الفرصة لهم للتعبير عن انفسهم وعن قدراتهم . وهذ ماحصل على سبيل المثال لاألحصر مع مخرج فلم(  اسامة ) للمخرج الافغاني ( صديق بارمك ) والمخرج الكوردي التركي ( يلماز كوني ). وعدد من الاسماء السينمائية الايرانية (محسن مخملمباخ )و(سميرا مخلمباف) واسماء اخرى تنتمي لجنسيات وقوميات اخرى  كانت غائبة ومغيبة عن ذاكرة العالم .







                                                               مروان ياسين الدليمي

146
لكي ننصف المبدعين  . . .

ملاحظات . .
على احتفال المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية
بذكرى يوم المسرح العالمي  . 




في 27 من شهر اذار من  كل عام يلتقي المسرحيون في كل بلدان العالم المتحضر والمتخلف منه ، للاحتفال بيوم المسرح العالمي، وقد اصبح الاحتفال  بهذا اليوم بمثابة عرفا وتقليدا امميا ، تحرص المؤسسات المسرحية الرسمية منها وغير الرسمية ، من فرق مسرحية وغيرها من الانشطة والفعاليات التي لها صلة بالنشاط المسرحي على الاستعداد له بالشكل الذي يليق بهذه المناسبة، والاستعداد يمتد ليشمل طيلة ايام السنة التي تشهد عروضا وانشطة مسرحية ولايقتصر على يوم الاحتفال فقط .
 بل ان جهد القائمين على تنظيم الاحتفال يقتضي منهم متابعة جادة ودؤوبة  لنشاط كل الذين يعملون في الميدان المسرحي طيلة موسم مسرحي كامل من مؤلفين الى مخرجين وممثلين ومصممي اضاءة ومصممي ديكورومصممي ازياء ومصممي موسيقى ونقاد مسرحيين وقبل حلول يوم 27 اذار باسبوع او اكثر يلتقي يومياً اعضاء اللجنة المكلفة رسميا من قبل وزارة الثقافة والتي عادة ماتضم ممثلين عن نقابة الفنانين ورابطة المسرحيين ونقابة الصحفيين ونقاد المسرحو اتحاد الادباء ، من اجل مراجعة وتقييم الفعاليات والانشطة المسرحية وكذلك استعراض كل الاسماء المسرحية بكل الاختصاصات  وتقييم دور العاملين فيها  ليتم بالتالي اختيار مجموعة من الاسماء التي تستحق التكريم المميز دونا عن غيرها وفقا للقيم الاعتبارية التي اتفقت عليها اللجنة بمختلف اختصاصات اعضائها والتي تاتي في المقدمة منها التميز في العطاء من خلال المشاركة الفاعلة والمتفردة  بعمل فني واحد في الموسم المسرحي المنصرم مثال على ذلك:  يتم اختيار المخرج الفلاني كافضل مخرج عن عمله المسرحي الفلاني ،  ويتم اختيار الممثل الفلاني كافضل ممثل عن دوره في المسرحية الفلانية،  وهكذاالحال  مع بقية العاملين بكل الاختصاصات ،
كما يجري في هذا اليوم ايضا في بعض الاحيان تكريم بعض الاسماء الفنية لالحجم الدور الابداعي الذي لعبته في مشوارها الفني الطويل فقط ، انما  يتم تكريمها لاجل استمرارها في العمل لعقود طويلة من العمل او تكريما لمجمل اعمالها . 
كما يتم ايضا تخصيص جائزة لعدد من الاسماء الفنية الشابة الواعدة التي دخلت الميدان المسرحي واثبتت تميزها بشكل ملفت للنظر خلال فترة قصيرة من ظهورها في النشاط المسرحي وتاتي هذه الجائزة من اجل تشجيع هذه الطاقات الشابة واعطائها دفعة قوية من الامل.
 اذا كل تفاصيل التكريم الذي يتم في يوم المسرح العالمي ماهي الاّ احتفاء بالمبدعين المميزين في عطائهم بعمل ما ضمن الموسم المسرحي المنصرم ولن يكون التكريم في هذا اليوم جزافاً ، او ينثرعلى رؤوس جميع العاملين دونما تفريق بين الذي يعطي بتميزعن الذي لم يكن مميزاً خلال عمله  او ان تمنح الجوائز وشهادات التكريم وفقاً لمنطق العلاقات الشخصية التي تحكم العاملين في الميدان المسرحي مع الجهة التي تتولى التكريم .
ان الغاية من هذا الاحتفال السنوي ماهي الاّ تثمين وتكريم  وتفعيل للجهد الفني المميز، ووضع اسم الفنان الذي يقف وراءه في المكانة العالية التي يستحقها هو لوحده لما بذله من جهد لم يرتقي اليه اخرون عملوا ايضاً معه في نفس الموسم .
الذي دعاني الى كتابة هذه البديهيات التي يعرفها كل المسرحيون في العالم هو الاحتفال الذي قامت به المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في يوم المسرح العالمي . وقد بدا واضحاً  ان المديرية لم تكن مستعدة له بالشكل والطريقة والوقت الملائم الذي اشرنا له في بداية المقال .
 لذا ذهبت  الجوائز والدروع التكريمية التي منحتها المديرية الى غير مكانها الصحيح .
 وحرمت منها اسماء اخرى كان ينبغي ان تكون هي على رأس المكرمين تبعاً لما قدمته من عطاء مميز في الموسم المسرحي الماضي منهم في عنكاوا ، من الرواد :
 الفنان رفيق نوري حنا ، والناقد صباح هرمز ، ومن الشباب : جاكلين سامي ، كمال دانيال ، هدير صباح ، راستي بولص . ومن  سهل نينوى : وسام نوح ، عماد نوري ، نشأت مبارك ، نصار مبارك ، ابراهيم كولان ، طلال وديع . واخرين قد تخوننا الذاكرة في نسيانهم ولنا العذر في ذلك لكثرتهم  .

هذا اضافة الى ان المديرية قد نسيت في هذا الاحتفال  انها مسؤولة عن كل النشاط المسرحي السرياني فرقاً واسماءً متواجدة على ارض العراق من البصرة وحتى زاخو وليس نشاطها التكريمي مقتصراً على عنكاوا ذلك لان عنوانها الواسع يقول انها المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية !
 اي انها معنية بكل الثقافة والفنون السريانية اينما وجدت على ارض العراق لذا من الخطأ ان يتم حصر جوائزها التكريمية على منطقة جغرافية محددة ويتم  استبعاد رقعة واسعة من مسؤوليتها بكل جهود الفنانين المسرحيين الذين عملوا طيلة موسم مسرحي بكل اخلاص وجهد  .
لقد بذل عدد من العاملين في الميدان المسرحي جهداً مميزاً خلال الموسم الماضي سواء في عنكاوا او في سهل نينوى او في دهوك وكان ينبغي على المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية التوقف امام عطائهم ، وتكريم عدد من تلك الاسماء التي تستحق هي ولوحدها التكريم  وليس تلك الاسماء التي تم تكريمها في الاحتفال والتي لم تكن بأفضل درجة من العطاء والتميز عنهم    !
 ولكن بما ان المديرية لم تلجأ الى تشكيل لجنة على غرار ماشرنا اليه في مقدمة المقال ،لذا لم تتوفق في مسعاها التكريمي هذا . وأنا لاأشك مطلقاً في النية السليمة التي استندت عليها المديرية وهي تقيم هذا الاحتفال  وهذا يعود الى طبيعة وحجم الدور المهم والكبير الذي اضطلعت به المديرية منذ تأسيسها الذي لم يمضي عليه اكثر من عامين  ، لكنها وهذا امر لاشك فيه  تمكنت من القيام بالكثير من المسؤوليات الملقاة على عاتقها والتي تهدف الى تنشيط وتفعيل الثقافة السريانية عبر العديد من الملتقيات والندوات والاصدارات التي كانت وراءها .وهي بذلك جسدت الحلم الذي طالما راود المثقفين السريان بأن يكون لهم مؤسسة ثقافية تحقق لهم جملة من الاحلام التي طالما بقيت حبيسة الصدور والاقلام . وقد يكون ماحصل من خطأ في ذكرى يوم المسرح العالمي يعود في اسبابه الى غياب التمسك بهذا التقليد في مؤسساتنا الفنية عموماً . فكيف الحال اذاً ،  فيما لو كانت هذه هي المرة الاولى التي تتولى فيها مؤسسة رسمية ثقافية مسؤولية الاحتفال بهذا اليوم  فمن المؤكد ان ذلك سيوقعها بعدد من الاخطاء .
لكن الدور الذي اضطلعت به المديرية في الشأن الثقافي السرياني  عموماً خلال العامين الماضين لايعفيها من الخطأ الذي حصل بذكرى الاحتفال بيوم المسرح العالمي .27/ 3/  2010  ونرجومن القائمين عليها  ان يلحظوا ذلك مستقبلاً وان  لايتكرر في المواسم القادمة .
كما نرجو ان تكون ملاحظاتنا التي اشرنا اليها في مقدمة المقال حول الالية التي يتم بها التكريم محط عنايتهم واهتمامهم وهذا مانتوقعه منهم .   لكي تبقى المديرية خير من يضع الامور في نصابها السليم ، وهذا مايعول عليه  كل المثقفين السريان وفي المقدمة منهم المسرحيون .

                                                         مروان ياسين الدليمي

147
ماعدت اعرف وطناً . .  اسمه العراق . 


ترددت كثيراً قبل ان اسجل افكاري  في هذه المقالة التي ستضعني في موقف لاأحسد عليه من قبل العديد من الذين سيقروأنها ، وقد يُقدِمُ البعض منهم ــ وهذا امر مؤكّد ــ  على كتابة رد ٍقاس سيكون بمثابة درس اخر لي  في الوطنية لطالما شنفت اسماعنا به ،من خلاله يُفنّدُ الكاتب المفترض ، ارائي التي اقل ماسيقول عنها ،انها متطرفة ،وانها إذا ماعبََّرت عن فكرة ما، فانها لم  تعبرإلاّ عن انانيتي المفرطة ،ومحدودية افكاري، وانتهازيتي الواضحة الخ من الصفات اللاوطنية التي ستلصق بي،هذا اذا ما لم يتهمني البعض الاخرممن سيردون عليّ ويقولون عني بأنني حاقد ، أومصاب بمرض نفسي.وقد يصل البعض بهم لان يشكك بولائي أوبأصلي وفصلي وحسبي ونسبي، 
على اية حال ومهما ستكون ردود الافعال نحوي ، سأكون أنا في ذلك الوقت مستعداً لكل التهم التي ستلصق بي، ومع ذلك لن اكلف نفسي عناء الرد عليها  .

اقول مرة اخرى ترددت كثيراً قبل ان اسجل افكاري في هذه المقالة ، ذلك لانني نشأت في عائلة تعلمت منها الصبر امام المحن ، وعدم الشكوى الاّ لله ، لان الشكوى لغير الله  مذلة .
وهكذا عشت طوال عمري وانا اكظم غضبي كلما واجهتني ظروفاً صعبة وقاسية في مشوارحياتي من اجل ان احيا محافظاً على عزة نفسي ،رغم الفقر الذي احاط  بعائلتي التي عاشت برفعة عالية  في مجتمع موصلي محافظ .
ومع هذا الظرف الذاتي الذي أحاطني انا وعائلتي ، الاّ انني وجدت نفسي مُنخرطاً دون إرادتي بقراءة الادب والشعرومتابعة الشأن السياسي ، سواء في العراق أو العالم .
لذا كُنتُ على استعداد دائم للدفاع عن انتمائي لهذا البلد الذي ولِدتُ وعشت فيه طوال حياتي ، ولم اغادره طوال خمسون عاماً من عمري الى اي بلد اخر، وعليه لم اكن احمل في جيبي غير جنسيتي العراقية ، ودائماً كنت اشعر بقوة لاحدود لها تسحبني اليه وتمنعني حتى من التفكير بمغادرته في اقسى الظروف والمحن التي مرت عليه ، وشهدت انا فصولها لحظة بلحظة وحدثاً بحدث مع انني كنت أمنحُ العذر لمن يغادرالعراق من مواطنيه الشرفاء خلاصاً من الازمنة التي كان البلد يضيق فيهاعلى مواطنيه ،والتي غالباً ماتعود اسبابها الى ملابسات العمل السياسي وتعقيداته الدموية في بلد  عجيب مثل العراق لم يكن في يوم ما يحترم فيه ساسته وقادة احزابه خصومهم، وماكانوا يترددون ابداً في قتل بعضهم البعض واللجوء الى التصفية الجسدية في احسن الاحوال وليس اسوأها ماأن تحين الفرصة لهم .
 ومع هذا الوضع السياسي البائس الذي عانت منه ايضاً عائلتي ودفعت ثمنه خيرة شبابها ، إلاّ انني كنت متمسكاً بعراقيتي وبجذوري العميقة في هذه الارض، مدفوعاً بأمل واسع كنت واثقاً جداً من قدومه إما اليوم أوغداً  وسيتحقق فيه ماكان يصبو اليه الناس دائماً من نظام سياسي عادل يعيد الاوضاع الى نصابها الطبيعي وتتحقق العدالة الاجتماعية بين الناس بعد ان ذاقوا ماذاقوا من ظلم واجحاف من قبل كل الانظمة السياسية التي حكمت العراق منذ عام 1958بعد أن خُدع عموم الناس بشعارات وطنية زائفة ، لم يجني منها سكان هذا البلد إلاّ مزيداً من المعتقلات والحروب، وتراجعاً خطيراً في مستويات التنمية والخدمات والحرية .
وفي محصلة هذا الدمار الذي اخذ يأتي على البلاد ، عاماً بعد اخر، وحكماً بعد اخر، وزعيماً بعد اخر، فقد المواطن العراقي اي شعور بالامان في وطنه العراق ، ولم يعد  يؤمن بان الغد سيكون مطمئناً له ولعائلته، بعد ان تم تجريده من ابسط حقوقه الانسانية والمدنية ، وباتت اسس العيش الاولية للانسان بعيدة عنه ، وماعاد من السهولة بمكان الحصول عليها الاّ بعد ان يصل الانسان الى ارذل العمرولايحصل عليها مطلقاً .
وإذا ما ماكان الانسان غير حامل لشهادة علمية  تؤهله للحصول على وظيفة تأتي له براتب شهري يؤمن له احتياجاته الانسانية ، فإن عليه ان يبقى طوال عمره يركض وراء لقمة العيش دون ان يكون متأكداً من الحصول عليها ، بل يترتب عليه ازاء هذا الوضع ان يشقى طوال عمره من اجل ان يكون له بيتاً يسكنه هو وعائلته، وقد لايتمكن في أحسن الاحوال من تحقيق هذه الاحلام المتواضعة ، والتي تعد من الاولويات التي غالباً ماتحققها الكثيرمن بلدان العالم لمواطنيها ماأن يبلغوا سن الرشد ،لان في ذلك حق واضح للمواطن كفله الدستور وعلى الدولة ان تتكفل بتحقيقه مع بقية الخدمات الاجتماعية والصحية التي تلتزم بتوفيرها اجهزتها ومؤسساتها تجاه المواطنين .
 - فهل التزمت اي حكومة ــ  اخذت نصيبها من حكم العراق ـــ  بواجباتها
   كاملة تجاه مواطنيها؟
- هل احترمت ارائهم وقناعاتهم الشخصية،ولم تراقبهم ،وتتلصص عليهم
 وتستجوبهم ،متى ماأرادت، واعتقلتهم متى شاءت ،وعذبتهم كيفما        شاءت ؟
 -  وهل أمنّت لهم العلاج والتأمين الصحي طوال حياتهم ؟   
 -  وهل وفرت لهم السكن اللائق على ارضهم ؟
 -  وهل صَدَقَتْ معهم ولم تكذب عليهم في كل علاقاتها وخلافاتها   
    السياسية مع اصدقائها وخصومها ؟ 
- وهل احترمت دماء الشهداء الابرياء الذين سقطوا دفاعا عنها او عن   
  الوطن كما تدّعي . ؟
-   هل اعتذرت من المواطنين عندما صافحت الاعداء ؟
-   هل خجلت حين عادت الاخوة والاصدقاء ؟
لن اكون متطرفاً حين أتّهم كل الحكومات العراقية التي تربعت على عرش السلطة بأنها لم تفي بوعودها تجاه المواطن، ولم تكتفي بذلك، بل أوغلت في الاساءة إليه بشتى السبل والاساليب ،ولم تكن الحكومات العراقية بكل مؤسساتها سنداً للمواطن، بل كانت تتفنن في اساليب احتقاره وأنكاره وتهميشه،ابتدأً من الطريقة المتعالية والمتعجرفة التي ينهجها اي موظف بسيط في اية  دائرة حكومية عراقية وهو يتعامل مع اي مواطن عراقي بسيط لاسند له سوى عراقيته ، وصولا الى اعلى سلطة في الدولة لايتردد ممثلها  في استرخاص ارواح المواطنين ارضاءً لنزواته وطموحاته السياسية .
هكذا كانت الحال ولم تزل تجري على العراقيين طوال عقود من الازمنة التي مرت عليهم منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع القرن العشرين وحتى هذه اللحظة ، ولكي اكون دقيقاً اكثر اقول ابتدأً من  صعود العسكر الى هرم السلطة العراقية عام 1958 .
 فمنذ ذلك التاريخ بدأ سقوط الدولة العراقية التي حاول بناتها الاوائل أن  يوجدوها على ارض الواقع من العدم ،وقد تمكنوا بذلك  فعلاً لاقولا ً انطلاقاً من صدقهم وفهمهم  مضافاً الى ذلك  تجربتهم المُرّة التي كانوا قد عاشوها عندما كانوايقاتلون في اراض ٍغريبة عنهم ،واقصد هنا تلك  النخبة من الساسة والعلماء والضباط الذين كانوا قادة في الدولة العثمانية، كانت تلك الصفوة من القادة  تحلم دوماً في بناء بلدها،وما أن جاءت ألفرصة المناسبة لها،لم تتوانى في استثمارها  .
هكذا بدأوا في بناء العراق الجديد بدولته الحديثة بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية ،والتي لم تكن موجودة قبل عام 1921 .
 لكن  الذي حصل بعد ذلك،أن كل الذي تم بناءه خلال اربعون عاماً ، من مؤسسات دستورية مدنية لدولة فتية قد انتهى في اللحظة التي جاء فيها  العسكرالى السلطة  ابتداً من العام 1958 بكل احلامهم المريضة ،  ليهدموه،زعيماً بعد اخر، حتى امسى العراق خلال نصف قرن من الزمان ،  بلداً تعصف به الانقلابات، والاحقاد والصراعات الدموية  التي كان يقودها حفنة من المراهقين والمغامرين والاشقياء لايملكون من العقل والحلم شيئاً
فكانت النتيجة بعد ذلك  : ان المواطن العراقي بات محطماً وفاقداً للرؤية ،  ولم يعد قادراً على التمييز مابين الحرية والعبودية، بين الماضي والحاضر، بين القائد والمجرم ، بين المفكر والدجال . بين العدو والصديق . 

 لقد اختلطت عليه القيم والافكار والمفاهيم ، لان ظروف  الحياة الصعبة التي وضِع فيها ، كانت قد سحقته بعجلات الحكومات والاحزاب التي كانت ولم تزل تحكمه ، بقوة التخويف والترهيب الى حيث ما شاءت اهواءها وطموحاتها ومصالحها الضيقة ،  والتي لاتخرج عن هدف الحفاظ على السلطة بأيديها لاأكثر .
ان ماوصل اليه حال البلاد والعباد الان في الاعوام التي اعقبت 9/ 4/ 2003 لم يكن من نتائج مافعلته القوات الاميركية وبقية القوات الاجنبية التي تجوقلت معها انما ابتدأ ذلك مع انقلاب تموز عام 1958 واستمرهذا التداعي والانهيار في البنى التحتية والفوقية للمجتمع العراقي طيلة نصف قرن من الزمان ، حتى انهار كلياً في 9/4/2003 . إذ لم يكن ذاك البناء إلاّ بناءً هشاً وكاذباً في كل شيىء فيه .
كان لابد لي من اسوق هذه المقدمة الطويلة ، قبل ان أُعبّر عن قناعات جديدة  بدات تستولي علي ّوتُمسِك بي ، واجدُني غير قادر على رفضها ،  بل بِتُّ مقتنعاً بها يوماً بعد اخر، طالما كنت اجد في كل يوم من المواقف والاحداث مايجعلني اصل الى مرحلة ، أكفُّ فيها ، عن الزّهو بعراقيتي وأتخلى عن ذاك الاصرار الذي طالما لازمني ، وحثني على البقاء داخل وطني.
ان اقسى مايمر على الانسان في وطنه ـ  الذي قاتل من اجله ودفع دمه ودم احبائه لاجل كرامته وحريته، وجاع سنيناً طوال صبراً على مايمر به من محن ـ   هو: ان يتنكر وطنه له ويصد وجهه عنه ولايبال به عندما يحتاج اليه ليثبت انتمائه له ، والاكثر مرارة في ذلك ،عندما يكتشف المرء بعد كل الذي قدمه لوطنه ، ان لاوطن له ، وانه في حقيقة الامر لاحقوق له عليه مثل بقية المواطنين .   
 إذ لايكفيه ان يكون من اب وأم عراقيين ليكون بالتالي عراقياً ويكتسب صفة المواطنة العراقية . ولايكفيه ان يحمل هوية احوال مدنية عراقية ، وجنسية عراقية ، وبطاقة سكن حمراء عراقية ، وبطاقة تموينية عراقية ، نعم لايكفيه ان يملك  كل هذه المستمسكات الرسمية حتى يثبت عراقيته ، وعلى ذلك  لن يكون بأمكانه في اغلب الاحيان ان يتملّك اية قطعة ارض او بيت في اية بقعة يختارها هو من ارض العراق .
إذن : كل هذا الذي كنت افخر به طوال خمسون عاماً من عمري ،  اتضح لي ، ماهو إلاّ خواء  . . . . .  وانْ لافائدة من كل  المستمسكات الرسمية  التي تثبت عراقيتي ولايمكن  بموجبها ان امتلك ارضاً في وطن توهمت دائماً انه وطني ،  سواء في  الوسط أو في الجنوب أوفي كردستان العراق. 
وعلى هذا كان علي ان اصحو من غفوتي وغفلتي الطويلة التي جعلتني ادرس طوال ثمانية عشر عاماً ،حتى انال شهادة جامعية  اسعى من خلالها  ان اخدم ماكنت اعتقد انه وطني . وليس هذا فحسب فلقد تنقلت بين الخنادق والجبهات ثمانية اعوام بليالها ، دفاعاً عما كنت معتقداً انه وطني ، كما كان  عليّ ان اشطب على كل السنوات العجاف التي كنت فيها ممنوعاً من التوظيف ،لا لشيىء اقترفته ولالذنب ارتكبته ، سوى أنني اخترت ان اكون منتمياً لِما كنت معتقداً انه وطني ، ولم انتم لاي حزب سياسي  .
كان عليّ وانا صرت على هذه الحال ، ان امحو من ذاكرتي كل احلامي التي تقاسمت فيها مع من كنت معتقداً انه وطني .
والان بعد خمسون عاماً من الوهم ، بعد خمسون عاماً من الخديعة ، 
ماعدت اعرف وطناً ولدت وعشت فيه اسمه العراق
طالما اشاح بوجهه عني ،
ولم يثبت لي في يوم ما انه وطني  .
                                               مروان ياسين الدليمي
                                        Yahoo.com Marwan_ys2000@




























148
ليس من السهل . . الخروج من اللعبة


لم اكن  متفائلاً حتى هذه اللحظة  بطبيعة النظام السياسي الذي حل بيننا بعد سقوط نظام صدام في 9/ 4/ 2003 . ذلك لانه كرّس  في حياتنا مفاهيم متخلفة وظلامية نسفت كل القيم الانسانية والوطنية التي كانت ولم تزل  تجمع العراقيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية والطائفية رغم قسوة الانظمة السياسية التي حكمت العراق ابتداً من حكم العسكر عام 1958وحتى هذه اللحظة .
 إلاّ انني كنت اتأمل ـــ  مثل عامة العراقيين البسطاء والمغلوبين على امرهم منذ عقود طويلة تحت جور الانظمة السياسة التي حكمت العراق منذ سقوط النظام الملكي على ايدي ابناء المؤسسة العسكرية ـــ ان يشهد العراق نقلة نوعية في طبيعة النظام والحياة السياسية انطلاقاً من تصريحات ساسة العراق الجدد الذين قضوا عقوداً طويلة من نضالهم منفيين ومشردين  خارج الوطن ، عرفوا خلالها معنى الظلم القهر والحرية بعيداً عن وطنهم .
كنت مقتنعاً الى حد كبير بوطنية كل القوى السياسية العراقية المعارضة للنظام السابق ( دينية وعلمانية ) ولم اكن اشك بصدق ولائها وانتمائها للوطن لانها دفعت الكثير من الشهداء والمعتقلين خلال مسيرة صراعها مع نظام صدام حسين ،لذا كنت اقف معها في نضالها من اجل التغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية في العراق دون ان اتوقف امام انتماءاتها الطائفية التي لم تكن مُعلنة في بياناتها وخطاباتها ومؤتمراتها التي كانت تعقدها خارج العراق والتي كنت اتتبعها عبر وسائل الاعلام السمعية التي كانت الوسيلة الوحيدة لنا لمعرفة مايجري خارج العراق كبقية العراقين قبل ظهور البث الفضائي للقنوات التلفزيوني الذي لم نشهده إلاّ بعد سقوط نظام صدام عام 2003 .
ولكن الاعوام التي اعقبت السقوط وماحفلت به من احداث جسام وخسارات فادحة في الاحلام والارواح دفعها الشعب العراقي وضعتنا امام مرحلة جديدة من الوعي بعد ان استوعبنا العديد من اللحظات والمواقف الصادمة والتي كان ابطالها عددا ليس بالقليل من الساسة الجدد في العراق هذه المرحلة الجديدة  من الوعي التي انتقلنا اليها والتي جاءت متأخرة مكنتنا من الوصول الى حقيقة لم يعد ختلف عليها اغلب العراقيين . إذ اكتشفنا بعد فوات الاوان ان اغلب تلك القوى السياسة التي كانت تعارض النظام السابق وكانت تحمل عليه قسوته ودكتاتوريته لم تكن في حقيقتها وفي بنيتها الايدلوجية وخطابها السياسي  تختلف عنه شيئاً في احتقارها لدور المواطن العراقي ولارادته الحرة في بناء وطن جديد يخلو من ظلم السلطات،وقسوتها وكذبها عليه .
بل اتضح لدى المراقبين وبسطاء الناس كذلك ،ان القوى السياسية الجديد التي وصلت الى الحكم بمساندة الاميركان وبدأت تحكم الحياة السياسية في العراق   ماهي إلاّ قوىً اشد فظاعة من النظام الذي حاربته عقوداً طويلة ، وما يعشش في ادمغة قادة هذه الاحزاب  من فكر طائفي مقيت لم يعد يصلح  لانسان القرن الواحد والعشرين ، إذ لم  يعد هذا الانسان غافلاً ولاجاهلاً عمّا يجري ويدور في كل بقاع الكون،ومرت عليه رياح التغيير والفهم والوعي بفعل الثورة الحاصلة في ميدان وسائل الاتصالات ونقل المعلومات .  لذا  لم يعد المواطن العراقي هو نفسه ذاك المواطن الذي كان عليه الى ماقبل عام 2003 عندما كان متعاطفاً مع شعارات المعارضة العراقية واحزابها السياسية دون ان يتعرف حتى على اي واحد من قادتها ولايعرف شكل او ملامح اي واحد منهم . لان المواطن العراقي كان يحيا في وطنه وهو مسّور بجدران عالية من الممنوعات والمحذورات ابتدأً من السفرالذي كان يكلف العراقي  اموالاً طائلة من اجل الحصول على جواز السفر ومروراً بالصحف والمجلات العربية والاجنبية التي كانت محظورة من الدخول الى العراق اضافة الى السجن والاعتقال لمن كان يتم ضبط صحن لاقط للقنوات الفضائية في بيته .
وبناءً على تلك العوامل التي ساهمت في تجهيل المواطن العراقي  اضافة الى عوامل اخرى كالحروب الطويلة الطاحنة التي مرت عليه والحصار الدولي الذي مزق النسيج الاجتماعي للعائلة العراقية بعد ان حطمها الجوع  ، كان لابد في اخر الامر ان يكون المواطن العراقي في موقف هش ٍلايحسد عليه، كان لابد ان يكون وهو على تلك الحال المزرية من الدمار والحطام التي أمست بها حياته ان يكون مصدقاً بكل القوى العراقية  المعارضة للنظام انذاك،  ومؤمناً  بكل الشعارات الوطنية التي رفعتها من اجل الديموقراطية وكانت تبدو ساعية للترويج لها و انباتها على ارض العراق المحرومة من الامن والسلام والحرية .
لقد صدّق المواطن العراقي وهو على تلك الحالة  كل ماطرح من افكارسياسية في سلّته الفارغة ساعياً من وراء ذلك الى نقطة ضوء تخرجه من النفق المظلم الذي كان يقبع فيه منذ عقود طوال .
رجال الدين الذين كان عدد منهم بين صفوف المعارضة العراقية ، كانوا  يتمتعون برصيد عالٍ من التقدير والاحترام من قبل عامة الناس،  لانهم وقفوا الى صف الشعب المظلوم بالحروب والانظمة الدكتاتورية الفاسدة التي سممت حياته لاكثر من ستة عقود مرت عليه .
ولكن بعد سقوط النظام بدأت تتضح الكارثة الجديدة  التي حلت على شعب العراق عاماً بعد اخرعندما بدأت تتكشف نوايا الكثير من تلك الاحزاب العراقية التي كانت تقاوم نظام صدام لعقود طويلة . واتضح من خلال امساكها بزمام السلطة السياسة غياب المشروع الوطني من جعبتها تماماً وسعيها المحموم من اجل بناء نظام سياسي تتوفر فيه كل الممكنات الطائفية ،وعملت لاجل ذلك وبشكل واضح ودون ان تشعر بالخوف او التردد على سحق كل الاصوات التي تنتقد نهجها وسلوكها الطائفي ، ووصل الامر الى حد التصفية الجسدية التي يسبقها عادة حملة اعلامية لتشويه وتسقيط تلك الاصوات من خانة المواطنة . ولم يسلم من  ذلك العقاب احد ،ليطال سياسيون ومثقفون وصحفيون ونواب في البرلمان ومن كل الطوائف دون استثناء . وأمست كل  التُهَم التي تلصق بهم جاهزةً ومعدةً سلفاً وقد حفظها عامة الناس واصبحوا يتندرون بها فيما بينهم .
في خضم هذه الاجواء الفاسدة التي بدأت تشهدها الحياة السياسية الجديدة في عراق مابعد صدام حسين كان المواطنون العراقيون قد وصلوا الى مرحلة من الياس وماعادوا بناءً على هذا الوضع يملكون اي ثقة  بكل الساسة الذين يتصدرون واجهة المشهد السياسي العراقي ، ً وبدأوا يخصّون البعض منهم بدرجة عالية من الرفض والاحتقار لِم َكان يصدر من اولئك الساسة ورجال الدين  بين فترة واخرى من تصريحات تنم عن فكر طائفي مقيت لم يعهده العراقيون سابقاً .
 البعض من اولئك الساسة كانوا يلبسون العمائم والبعض الاخر كانوا يلبسون الاربطة والبدلات الانيقة، لكنهم كانوا يشتركون جميعاً في تخندقهم داخل مستنقع الطائفية وما يحملونه من حقدٍ وكره ٍلاحدود له  ضد ابناء الطائفة الاخرى أياً كانت تلك الطائفة .
هذا ماكشفته الاحداث التي مرت على العراقيين، وردود افعال تلك الزُمرة من الساسة ورجال الدين العراقيين  تجاهها ،وهذا ما حصل بعد  تفجير قبة الامامين في سامراء وماتبعها من تداعيات دموية يندى لها جبين الانسانية خجلاً،  تمثلت  بالقتل على الهوية، والتهجير  الطائفي .
 لم يكن يترد اولئك الساسة ورجال الدين  والبرلمانيون من التصريح جهراً بأفكارهم الطائفية،  ولم يترددوا في تحريضهم لجهلاء القوم على العنف والقتل استناداً على الهوية، والبعض منهم استخدم دور العبادة والمناسك الدينية اسوأ استخدام ،لترويج افكاره السوداء  الداعية للقتل وظلم الاخر من الطائفة الاخرى .
 لقد  نجح هؤلاء  لفترة ما ليست بالقصيرة في تظليل اعداد لابأس بها من عموم الناس البسطاء، إلاّ ان الاغلبية من الشعب العراقي لم تنطلِ عليها تلك ألاكاذيب والخطب والتصريحات المشحونة بالحقد على عموم الشعب وليس على طائفة بعينها ، وهذا ماأثبتته الايام بعد ذلك.
كانت الانتخابات الاخيرة في 7 / 3/ 2010 هي الحد الفاصل لسقوط  تلك الاسماء والرموز التي توهّمت طيلة الفترة الماضية بأنها قد نجحت في تمرير خطابها الداعي الى تفتيت مكونات الشعب العراقي وصولاً الى تجزأته وتقسيمه وفقاً للاجندة المشوّهة والغريبة التي حملوها معهم من الدول التي سبق ان احتضنتهم قبل 2003 . .
الانتخابات الاخيرة رغم ماشابها من ملاحظات سلبية كانت في ابسط معانيها  صفعة قوية ومفاجئة َ، تلقتها  تلك الاسماء التي كانت تطالعنا طيلة الاعوام الماضية من على المنابر وشاشات التلفزة ومواقعها الالكترونية الخاصة بها ولم تكن تتوقعها مطلقاً خصوصاً انها جاءت من القاعدة الواسعة التي كانت تعتقد انها تستند عليها بقوتها ووجودها وخطابها ليتأكد لها وللعالم ان الشعب العراقي رغم مايقع عليه من ترهيب وتخويف وترغيب لم يسقط في الفخ الطائفي الذي نصبه له عدد من الساسة والمعممين، وان هذا الشعب رغم فقره وجراحه لازال يملك من القيم النبيلة الكثير ومازال يضع شرفه الشخصي على درجة واحدة مع شرف الوطن الذي ينتمي له قبل اي انتماء ديني اوعرقي او طائفي . والشواهد التي جاءاتنا بها  بعض مدن العراق خير دليل على ذلك .
 والاصوات المعدودة والمضحكة  التي حصل عليها المرشحون الذين كنا نعنيهم في هذا المقال   بعضهم حصل على 22 صوتاً . واخر 4 اصوات واخر19 صوتاً ــ  تعني في ماتعنيه من دلالات واضحة وصريحة :  ان لامكان لهم  على ارض العراق بكل مايحملونه من فكرطائفي مسموم ، سواء لبسوا  الاربطة او العمائم ومهما كان لونها سوداء او بيضاء . لامكان لهم بين هذا الشعب الطيب والصبور  الذي  صبرعليهم سبعة اعوام ،سمع منهم الكثير من الوعود والخطب الكاذبة  ولم يجد له بين تلك الوعود العريضة ،  بيتا يسكنه ولاعملاً يؤمن له العيش الكريم له ولعائلته ، ولا أياماً آمنةً يحيا بظلها في وطنه كما لم  يرأى منهم إلاّ الكثير من الحقد والكُره الذي لم  يسلم منه أحد  لاهو ولاحتى جيرانه الذين ينتمون الى اديان وطوائف اخرى .
 لقد اشعل هولاء  النيران في وطن لاينتمون إليه  ولايشعرون بأية محبة له . وجاءت اللحظة التي عصفت بهم وبكذبهم وفكرهم المريض ، عبر الناس فيها عن رأيهم  بتلك الاسماء والعناوين  بطريقة حضارية وديموقراطية لاكما يفعلون هم عندما يختلف الاخرين معهم بالرأي .   كما حاولوا أن يسرقوا من الشعب هذه الفرصة حتى اللحظة الاخيرة من ساعات العد والفرز للاوراق الانتخابية  عبر محاولات  التزوير ، وسرقة الصناديق ، ورمي الاوراق الانتخابية في براميل الزبالة ، والتشكيك في عمليات العد والفرز الالكتروني . وغيرها من الاساليب التي وصلوا عبرها في الدورة الانتخابية السابقة . لكنهم فشلوا هذه المرة  وقال لهم العراقيون  : لقد انتهى الوقت وآن لكم ان تغادروا الشاشة بعد ان فعلتم بنا مافعلتم .
المراقبون  للوضع السياسي الشائك في العراق والذي تولد بفعل الاخطاء التي ارتكبها الساسة الاميركان في العراق بعد 2003 يدركون جيداً ان الخروج من هذا المازق ليس من السهولة بمكان ، لكنه ليس امراً  مستحيلاً والانتخابات الاخيرة بما افرزته من نتائج ،  تقدم فيها  الخيار الوطني لدى الشعب العراقي عموماً على بقية  الخيارات الطائفية والقومية المتطرفة، خير دليل على يقظة قوى الشعب العراقي وصحوته من الغيبوبة التي اوقعته فيها المشاريع السياسية  المريبة التي روجتها عدد من القوى السياسية العاملة في المشهد السياسي العراقي والتي لعبت دوراً كبيراً في ماوصلت اليه الاوضاع في البلاد من دمار وخراب وقتل وتهجير وتخوين . وستكون نتائج هذه الدورة الانتخابية بداية جديدة لمرحلة سياسية اكثر نضجاً للشعب العراقي . كما يضع  القوى السياسية الخاسرة  امام مرحلة جديدة من اعادة التفكير بهيكليتها الفكرية والسياسية التي تفرض عليها استبدال كل الوجوه والاقنعة والرموز التي كانت تستند عليها . وإلاّ ستنهي عاجلاً أم اجلاً  الى زوايا النسيان غير مأسوفاً عليها .
مع اننا ندرك ان  ليس من السهل عليها ان تغادر اللعبة السياسية التي ساهمت هي وبدرجة كبيرة  بوضع  قوانينها وشروطها . وستفعل مابوسعها ان تفعله  ، انتقاماً من الشعب الذي صوت ضدها وضد مشروعها الطائفي . وستشهد الايام على ذلك، كما كانت قد شهدت عليها من قبل في ايام الاربعاء الدامي والثلاثاء الدامي والاحد الدامي، سعياً منها لجعل بقية الايام دامية هي الاخرى على رؤوس العراقيين الشرفاء الذين لم يصوتوا إلاّ للخيار الوطني .




                                                          مروان ياسين الدليمي

149
توأمة الجهد   . .
في دروب المحنة  .
               

مابين قناة عشتار الفضائية ونور سات






في الثالث عشر من شهر أذار الحالي تعود مرة اخرى قناة عشتار لتؤكد حجم المسؤولية  الوطنية الملقاة على عاتقها  في التعبير عن ابناء شعبنا في كل الظروف والمحن والمناسبات التي مرت وتمر عليه .
وتمكنت في هذا اليوم من تحشيد كل امكاناتها الاعلامية من اجل ان يصل صوت ابناء شعبنا الى العالم وهو يعاني مايعاني جراء عمليات القتل والتهجير المنظم الذي يتعرض له منذ سقوط النظام السابق في 9 من شهر نيسان عام 2003 .
كما نجحت قناة عشتاربشكل كبير  في توحيد جهدها مع قناة نور سات الفضائية اللبنانية  من اجل ان يكونا معاً قوة اعلامية واحدة  على نهج واحد من اجل شن حملة اعلامية تتصاعد يوماً بعد اخر مع اشتداد الازمة على ابناء شعبنا حتى  يتعرف العالم على مايقع من ظلم على المسيحيين في العراق .
ويبدو لي ان هذا الهدف  النبيل والكبير قد تحقق  عبر العديد  من المفردات البرامجية التي لها صلة مباشرة  بموضوعة العنف والقتل والتهجير الذي يتعرض له المسيحيون في العراق.
و بدا ذلك واضحاً  في البث اليومي للقناتين خلال الفترة الاشهرة الاخيرة الماضية من هذا العام .
 وكان يوم 13 من هذا الشهر ذروة التفاعل مابين القناتين نور سات وقناة عشتار عندما تم تخصيص فترة بث هذا اليوم بكل ساعاته لاجل الشهداء المسيحيون الذين سقطوا في العراق بفعل عصابات الغدر والموت التي مازالت  تصول وتجول في شوارع ومدن العراق لتصطاد ابناء شعبنا دونما شعور بالخوف من المحاسبة والقصاص . بعد ان تم التستر بشكل فاضح  على كل المجرمين الذين سقطوا في ايدي القوات الامنية ــ كما ادعت تصريحات المسؤولين في اكثر من مناسبة ـــ . وبفعل هذا التواطىء والصمت المريب من قبل الاجهزة الحكومية المسؤولة عن شؤون الامن في  البلاد لم يعد المواطن العراقي اولاً والمسيحي ثانياً يثق بكل التصريحات والوعود الرسمية التي تطلق جزافاً عبر وسائل الاعلام والمؤتمرات الصحفية للسادة المسؤولين في عموم المناطق التي تشهد العنف والقتل الذي يطال المسيحيين  لتحقيق الامن والامان وملاحقة المجرمين والعصابات التي تستهدف المسيحيين العراقيين !
 
من هنا كان لابد ان تتحرك قناة عشتار بطريقة اكثر فاعلية من اجل تحشيد كل الجهود الاعلامية  القادرة والفاعلة لنصرة ابناء شعبنا . فكان ثمرة هذا التحرك ماشهدناه من تغطية اعلامية مكثفة من قبل القناتين في 13 من شهر اذار الحالي  لكل الفعاليات التي توقفت اجلالاً لارواح الشهداء الابرياء الذين سقطوا على ارض الاجداد في بلاد الرافدين .
وكان الشعار الذي رفعته قناة نور سات بالتعاون مع قناة عشتار الفضائية :
 ( يوم تضامني مع مسيحيي العراق وتحت شعار : صليب العراق ينزف . . فمتى القيامة ) .
والحملة الاعلامية هذه من قبل القناتين سوف لن تتوقف ،بل  ستستمر متصاعدة من اجل ان يتشكل لدى الرأي العام العالمي ( منظمات حكومية رسمية وغير حكومية )  موقفاً قوياً ضاغطاً على الحكومة العراقية حتى ترضخ لصوت الحق والضحايا ، انصافاً لهم ،  بعد ان ضاقت كل السبل امامهم في وطنهم .
اننا هنا نسجل تحيتنا لهذا التعاون المثمر مابين قناة عشتار الفضائية وقناة نور سات اللبنانية من اجل انصاف شعبنا الذي يعاني مُرّ العذاب في وطنه العراق . وهنا كان لابد لنا ان  نتوقف امام ملاحظة مهمة ينبغي ذكرها في هذه المناسبة. ففي  خضم هذه الحملة الاعلامية المكثفة التي شهدها العالم  والتي تعاونت على رسمها قناة عشتار ونورسات ،كان هنالك منابر اعلامية اخرى تحيا في عالم اخر لاصلة له بما كان ولم يزل يجري على المسيحيين العراقيين ،رغم ان تلك المنابر طاما أدّعت  دفاعها عن ابناء شعبنا . وكان الاجدى بها في هذه الايام والظروف ان تُكرّس هي الاخرى جهدها الاعلامي من اجل هذه القضية والتي ينبغي ان تكون من  اولى المهمات التي تتحمل اعبائها المؤسسات الاعلامية لكل الاطراف التي تدعي تمثيلها للمسيحيين العراقيين بكل الوانهم وخصوصياتهم المذهبية والقومية .  وكان لجهود عشتار الدور الاكبر في ايقاظ العالم من غفوته على مايجري ويقع على ابناء شعبنا  من حملة منظمة للقتل والتهجير الجماعي  في  العراق   .




                                                    مروان ياسين الدليمي

150
اغنية واحدة . . لاتكفي لشطب عشتار .

 
 
ياسيدي الكريم عمانوئيل تومي : لن نسمح لانفسنا ان نرفع السكاكين ونطعن الاخرين في الخاصرة ونحن نمضي في طريقنا الى الحوار مع من يختلف معنا كما تعودنا . ولم نلجأ في يوم ما الى اصدار الفتاوى ضدهم . و ارجو ان لا تمضي في انفعالك الى مدى بعيد يأخذك الى منعطفات التشكيك في قدرات الاخرين ونواياهم واخلاقهم وانت تتناول بالنقد اللاذع اغنية عرضت من على شاشة قناة عشتار علماً ان قناة عشتارلم تكن المنتجة لتلك الاغنية اصلاً . .
كما ينبغي عليك وانت المليء بالحماسة الفائضة على شعبك ان تكون اكثر روية وهدوءاً وانت تتناول اغنية وليس ادانة لعملية ابادة جماعية او خطف لاناس ابرياء او تفجيراً وتدميراً لكنائس . ارجو ان توفر هذا الحماس الوطني والاخلاقي الى قضايا كبرى تمس شعبك ومستقبله .
ولكي تكون منصفاً وعادلاً في حكمك على الاخرين وعلى اعمالهم التي انتجوها رغم كل الصعوبات منذ اكثر من اربع سنوات ينبغي ايضاً ان لاتتبع اسلوب ذر الرماد في العيون لان ذلك لايليق بمن درك اهمية الكلمة وخطورتها .
سيدي الكريم عمانوئيل تومي هنالك في عشتار الكثير الكثير من البرامج المتنوعة والمختلفة التي أقتربت من قضايا شعبنا، تاريخاً وتجارب مُرةً واحداثاً جسام مرت عليه وكاد النسيان ان يطويها .الاَ ان قناة عشتار اعادت تقليب تلك الصفحات التي كان الغبار قد علاها، وكان لعشتار ان تمسحه بكفيها وتظهر الصورالمنسية لشعبنا الى العالم، متجاوزة كل الحواجز والتخندقات التي يغرق فيها البعض .
واذا كنت ياسيدي تملك قليلاً من الرؤية المنصفة لكانت ذاكرتك بلاشك قد اسعفتك بالكثير من اسماء تلك البرامج التي تم عرضها خلال الدورات البرامجية التي حرصت عشتار على ان تتجد كل ثلاثة اشهر ملتزمة بذلك بكل المقاييس السليمة التي تنتهجها افضل القنوات الفضائية رغم ان عشتار لاتملك 20%من الامكانات المادية والانتاجية لتلك القنوات وهذا امر قد لاتعرفه انت وكثيرون غيرك ايضاً . واذا كنت مصراً وبتعمد واضح على عدم تذكر اي برنامج من تلك التي انتجتها عشتار، اسمح لي ان أسرد لك بعضاً منها لعلني اعيد لك شيئاً من الذاكرة والتي ارجو ان لايصبها العطب :
بعض من برامج عشتار :
 
.
ضحايا : والذي تابع قصص ابناء شعبنا وهم يدفعون الدماء زكية وطاهرة
على ايدي قوى الارهاب والظلم في بلدنا العراق بعد عام 2003
حنين : الذي وثق عبر العديد من الحلقات كل الاحياء السكنية التي عاش
فيها ابناء شعبنا في العراق وتحديداً في بغداد ومضى البرنامج في
مسارات متعددة متناولاً كل الانشطة والشخصيات والتواريخ التي
كانوا جزءاً منها او عاصروها ومسجلاً بهذا البرنامج قصصاً
وحكايا عن ازمنة جميلة كانوا قد عاشوها في العقود الماضية .
رحلة : الذي صور كل قرانا المتوزعة والمتناثرة في اماكننا التاريخية
المتواجدة في اقليم كردستان والذي دام انتاجه اكثر من ثلاثة اعوام
متواصلة يدور فيها فريق عمل هذا البرنامج بين الاودية والشعاب
والجبال ومتحملاً متغيرات وقسوة المناخ من الوصول الى اقصى
الامكنة التي يتواجد فيها ولو عدد قليل من ابناء شعبنا .
منبر عشتار: وقد واكب هذا البرنامج المخاض الصعب الذي يخوضه
شعبنا والنخبة المثقفة منهم من اجل الحفاظ على وجودنا
وهويتنا وحقوقنا في هذا المخاض الصعب اثناءوبعد كتابة
الدستور .
حكاية عمر : الذي سلط الضوء على اهم الاسماء الرائدة في مختلف حقول
المعرفة والفن والفكر والنضال الوطني من اجل ان نحتفظ
لهم ولنا بمادة وثائقية تعكس ماقدموه في مسيرتهم الكفاحية
لشعبهم ووطنهم وقائمة الاسماء في هذا البرنامج تطول
ولايمكن حصرها .
 
عشتار في المهجر : وهذا البرنامج الذي تجاوزعدد حلقاته اكثر من مئتي
حلقة توزعت على مئتي شخصية بل واكثر، من ابناء
شعبنا الذين يتواجدون في دنيا الاغتراب مابين كندا
واستراليا والسويد والدنمارك والمانيا واميركا وقد
تناول البرامج النخبة الخيرة من ابناء شعبنا من الذين
يمتلكون شطراً كبيراً من العطاء الانساني أوالفكري
أوالوطني ..
اضافة الى العشرات من البرامج الاخرى مثل /اللغات السامية وتفرعاتها / وبرنامج لغتنا / والمشهد الثقافي /وزهرة عباد الشمس / وشمخ / الخ .
 
ياسيدي الكريم هذا الذي استعرضته من البرامج التي انتجتها قناة عشتار في عمرها القصير ماهو الاّ غيض من فيض عطاءها الذي لم يزل مستمراً رغم الكثير من العثرات التي صاحبتها والمعوقات التي تصادفها والتي رغم كل ذلك لم توقف عطاءها .
للاسف الشديد لايسعني هنا إلاّ أن اقول لك : لقد تخليت عن الموضوعية والنزاهة في النظر الى مسيرة قناة عشتار التي تمتلك الان بما انتجته من برامح ــودون غيرها ــ اضخم تراث صوري وصوتي لابناء شعبنا وبذلك صار لعشتار اهم مكتبة تضم في رفوفها اثمن الوثائق التي حفظت ذاكرة هذا الشعب. ولولا جهود العاملين في قناة عشتار ــ الذين تسرّعت كثيراً جداًوالصقت ببعضهم وللاسف الشديد اسوأ الصفات ــ لما تم انجاز هذا العمل الكبير الذي لايقدر بثمن بل ان قيمته تزداد يوماً بعد اخر كلما تقادمت السنين .
كما ينبغي عليك ان لاتنسى الدور الكبير الذي اضطلعت به عشتار في تسليط الضوء على مايعانيه ابناء شعبنا من المهجرين وايصال صوتهم الى العالم ومالحق بهم من غبن وحيف عبر العديد من البرامج والتقارير التي كانت ولم تزل تتابعهم اينما كانوا .
ولاتنسى ايضاً ذاك الدور الذي لعبته عشتار في تكريس ساعات طويلة من البث المباشر ايام المحن التي اصابتنا ونحن نفقد رموز شعبنا من رجال الدين ومن الشخصيات الاخرى الوطنية كما هو الحال مع الشهيد المطران فرج رحو او الشهيد يشوع مجيد هداية او الشهيد رغيد وغيرهم من الاسماء . اضافة الى العديد من البرامج الوثائقية واللقاءات التي تناولن ابشع جرائم الابادة البشرية التي طالت شعبنا خلال القرن الماضي كما في صوريا وسميل .
ماذا تريد ان اعدد لك بعد ياسيدي الكريم عمانوئيل تومي لكي تبدو الصورة واضحة لعينيك . وارجو ان تكون قد وضحت . واخشى ان لاتكون قد وضحت لبصيرتك ايضا.
كما ارجو ان نتحلى بالحكمة والعقل والمهنية ونحن نطرح مالدينا من ملاحظات ضد الاخرين وان لانصدر الاحكام سريعة ونحن في حالة من الانفعال والهيجان قد يكون سببه مشاكل شخصية نعاني منها ولسنا بقادرين على حلها . وقد يدفعنا ذلك الى تفريغ فشلنا واحباطاتنا في مقالات متشنجة نسيىء بها الى انفسنا قبل ان نطعن بنجاحات الاخرين ونسيىء اليهم !
فاأغنية واحدة لاتكفي لشطب تأريخ الاخرين .
ولن تكون سبباً مشروعاً لطعن الاخرين في الخاصرة . . اليس كذلك !؟
 
 
 
 
 
مروان ياسين الدليمي
مخرج في قناة عشتار

151


       
        مبدعون بلا افكار  . . .  !؟
       



         لاتنسبوا الاعمال الى غير اصحابها ،
         ولاتهِـِبوا حقاً لمن لايملكه ....

                           
                           

لست هنا بصدد كتابة مقال نقدي عن الفلم التلفزيوني الذي كتبته تحت عنوان ( عنكاوا . . مدينة من الغد ) والذي تحول الى عنوان اخر:
( عنكاوا . . الق وعطاء دائم )  من قبل مخرج الفلم دون استشارتي ،
وهذا العنوان الثاني يصلح ان يكون شعاراً وطنياً فضفاضاً  ولكنه لايصلح ان يكون عنواناً ادبياً مكثفاً للفلم كما هو الحال مع  العنوان الاصلي الذي وضعته اولاً . ذلك لان عنوان اي عمل فني او ادبي  يقتضي توفرعدد من الاشتراطات الفنية لكي يمتلك صلاحيته كعنوان  ،  منها :  ـ
الايجاز، والايحاء ، وقصر العبارة . 
ورغم انني سجلت الكثير من الملاحظات الفنية ضد الفلم بعد مشاهدتي له ، منها ماله صلة بأبتعاده عن اية شروط فنية يمكن ان  تضعه في خانة الفلم الوثائقي ، ابتدأ من :ـ
 اصرار المخرج على ان يتخلىّ تماماً عن  استثمار ( الجو العام ) طيلة الدقائق الستين، التي هي زمن عرض الفلم ، مما افقدنا الاحساس بالبيئة والمكان وما يختزنان من اصوات حقيقية تعبر بصدق عن حركة وحيوية الحياة وليفتقد الفلم بالتالي اهم عنصر توثيقي للزمان والمكان .
وإذا ماتناولنا عنصر الايقاع في الفلم فأننا وجدناه مترهلاً  وثقيلاً جداً
بسبب بطىء حركة الشخصيات الدرامية داخل الفلم وطول المشاهد الفلمية التي كانت تستغرق وقتاً طويلاً ومملاً على الشاشة.  ومثالنا على ذلك : الدقائق العشرون الاولى من الفلم  والتي كانت  تتعلق بالصحفي الشاب وهو يكتب على الالة الكاتبة . وكذلك مشاهد عودة والده الاسير الى مدينته ، وهذا المشهد  يعد من أضعف المشاهد واكثرها مدعاة للتعجب ! ذلك  لان الصوت الخارجي ( التعليق ) المصاحب للصورة كان يشير الى ان الاسير عاد في منتصف الليل الى عنكاوا ( لكن المشهد تم تصويره في النهار ) .
 وبعد ان يطرق الاسير  البا ب عدة مرات يخرج الجيران على صوت تلك الطرقات  نساء ورجال كبار في السن ( لم نرى الاسير على  يطرق الباب بل وجدناه يمشي في الزقاق ويتوقف ليسأل فتىً شاب ) ،ثم يستقبله الجيران  بالاحضان وبالمشاعر الدافئة التي عوضته للحظات  سنوات الاسر
والحرمان ( لم يكن بين المستقبلين  الجيران اي رجل كبير اوامرأة كبيرة
 في السن ،بل على العكس من ذلك لم يظهر على الشاشة سوى شباباً صغاراً في السن ) ..  من هنا حصل الخلل في المعالجة الاخراجية لهذه المشاهد ،نتيجة للتناقض الحاصل مابين المعلومة الواردة في التعليق والمعادل الصوري لها . مما تسبب في فقدان الصورة للمصداقية الواقعية في التعبير عن الفكرة .
اما تلك المشاهد التي تتعلق   بوصول الصحفي الشاب الى عنكاوا ونزوله من الطائرة ووصوله الى الفندق والنزول من السيارة وحمل حقائب السفر والدخول الى الفندق والوقوف امام موظفي استقبال الفندق وانهاء اجراءات الحجز والصعود الى عبر المصعد الى الغرفة .فقد كانت هي الاخرى طويلة جداً واصابت ايقاع الفلم بالترهل والبطىء .
وهنالك الكثير من  المشاهد  الدرامية الاخرى التي لاتصلح للعرض ،وذلك يعود الى تحديق الممثلين المباشر بعدسة الكامرة ( مشهد الصبيان وهم يلعبون لعبة الدعبل ومشهد الفلاحين وهم يسنّون  المناجل استعداداً للحصاد ).وهذا يعد من البديهيات التي ينبغي ان يعرفها اي مخرج .
 وهنا ايضاً لابد من الاشارة الى ان  مخرج الفلم  لم يتردد في أستخدام نفس الصبيان الذين كانوا يلعبون الدعبل في مشهد سابق من الفلم ، عاد  مرة اخرى لاستخدامهم   في تمثيل دور الفلاحين وهم يسنون المناجل وهم يحدقون بين لحظة واخرى في عدسة الكامرة  . ! وهذا خطأ جسيم  لايمكن تبريره ،  ساهم ايظا في ضياع المصداقيةفي  توصيل الخطاب الفني الى المتلق ِ .
 اما الاغنية  التي صاحبت معظم مشاهد الفلم باعتبارها موسيقى تصويرية مصاحبة له فلم تكن الاً  فهماً خاطئاً لدور الموسيقى التصويرية في بناء معمارية الفلم السينمائي ، وكانت الاغنية بذلك عنصرا فنياًً غريباً وطارئاً  على الفلم  رغم ان كلمات الاغنية كانت تنطق باللغة السورث ، وهي هنا لم تساهم ولو بأية درجة  بسيطة في اغناء الخطاب الفني والفكري للفلم،   
 ان الفلم الوثائقي تقتضي عملية بناءه الفني :
 الاستغناء التام  عن  اية موسيقى خارجية لاصلة لها بأحداث الفلم ،  وينبغي  دائماً  الحرص على استثماراي  عنصر موسيقي وصوتي من داخل الفلم وليس من خارجه ليصبح الايقاع والصوت بالتالي جزأً لايتجزأ من الطبيعة الوثائقية للفلم .
اما فيمايتعلق (بالتصوير). . فقد اتسم هو الاخر بجملة من المشاكل والاخطاء التي لاتظهر الاّ لدى المصورين المبتدئين . . ومثالنا على ذلك :ـ
عدم وضوح الصورة ( أوت فوكس ) في الكثير من اللقطات والمشاهد .
تغيّر الوان المَشَاهد ،وهذا يعود الى عدم المعرفة الدقيقة بعملية اعداد وتصحيح الالوان قبل عملية التصويراي مايصطلح عليه فنياً (وايت بلنس ) .

ولو تناولنا كذلك  اللقاءات التي اجريت مع عدد من رموز وشخصيات مدينة عنكاوا والتي ظهرت في الفلم،  نجدها هي الاخرى كانت  تتسم بطول زمنها الواضح على الشاشة ،وساهمت بدورها ايضاً في تراجع ايقاع الفلم الى الوراء .
اضافة الى ذلك يلاحظ :  الغياب التام لعنصر الاضاءة الطبيعية والصناعية،وعدم الاهتمام بها في بناء وتصميم ( باك راوند وفورك راوند)  الصورة والمشهد واللقاءات ، بالشكل الذي يرتقي بلغة الصورة السينمائية التي تنفرد عن غيرها من بقية الفنون اولاً واخراً باستثمارها الدرامي لعنصر الضوء ،سواء كان طبيعياً او صناعياً .
 ومن الاخطاء الاخرى التي وقع فيها الفلم  ايضاً ، ظهورعلم كردستان بشكل واضح في احد المشاهد التي ينبغي ان تكون في كندا حينما يكون الصحفي لحظتها  يتجول امام داره !

عودة الى موضوعة  المقال الرئيسة  :

وبعد هذه الملاحظات السريعة عن الجانب الفني للفلم ، لابد لنا ان نعود الى موضوعتنا الرئيسة والتي كانت الدافع الاساس  لكتابتنا هذا المقال والتي تتعلق اولاً واخراً بالقيم والثوابت المهنية والاخلاقية التي ينبغي تواجدها وتوفرها في وسطنا الفني حتى نتمكن من  الانطلاق بشكل سليم في بناء نهضتنا الفنية التي ننشدها في عنكاوا وحتى نقطع الطريق ــ ابتدأً من الخطوة الاولى ــ على كل الطارئين اللذين لايترددون في الصعود على اكتاف الاخرين، لالشيء إلاّ  من اجل تحقيق مجد كاذب .!

مع بداية شهر تشرين الاول الماضي 2009 كلفت من قبل فرقة اور المسرحية التابعة لجمعية الثقافة الكلدانية  ان اكتب فلماً تلفزيونياً عن مدينة عينكاوا ،وقد كلف السيد طاهر سعيد نيابةً ً عن الجمعية في ابلاغي بهذا التكليف . وفي حينها اشار علي ّ السيد سعيد بأن اتناول في السيناريو  كل مايتعلق بعنكاوا، ماضيها وحاضرها ورجالاتها .  واكتفى بهذه الاشارة فقط . ولم يملي علي ّ باية فكرة أومعالجة  فنية اخرى تتعلق بكيفية تناول الموضوع . 
ومن اللحظة الاولى لتحملي هذه المسؤولية بدأت  في قراءة  معظم المصادر والكتب التي تناولت تاريخ  هذه المدينة ،وقد  جلب لي السيد طاهر سعيد مشكوراً معظم تلك المصادر من جمعية الثقافة الكلدانية  .
 ثم بدأت بعد ذلك مرحلة جمع المعلومات التاريخية عن المدينة  ومؤسساتها ورجالاتها وابرز الاحداث التي مرت عليها .
 بعدها . . بدأت مرحلة اخرى ،وهي الاصعب في بناء الموضوع وتشكيله ،  وهي مرحلة  البحث عن  المعالجة الدرامية ( اي الرؤية الفنية ) التي ستصبح مدخلاً منطقياً لبناء مشاهد واحداث الفلم  .
 كذلك كانت مسألة  البحث عن الاسلوب الفني ـــ الذي ينبغي ان اتكىء عليه لتوصيل المعلومة التاريخية ـــ  لاتقل اهمية عن مسألة الرؤية الفنية.
إذ ينبغي  للاسلوب في العمل الفني  ان يكون ممتعاً وسهلاً في توصيل  المادة التاريخية الى المتلقي  مهما كانت  ثقلية  و جامدة .
 وفي اخر الامر توصلت  الى خلق و بناء خط درامي ممثلاً بشخصية صحفي شاب اسمه ريمون ولد وعاش في كندا ،  تعود جذوره  الى مدينة  عنكاوا التي لم يرها ابداً. . . يكلف هذا الصحفي بالسفر الى العراق وكتابة ريبورتاج عن المدينة التي كانت  الموطن الاصلي لوالده الذي سبق له  ان سقط اسيراً على يد القوات الايرانية التي كانت تخوض حرباً مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي . وبعد عشر سنوات  كان قد قضاها في اقفاص الاسر يعود الى العراق بعد احدى عمليات تبادل الاسرى بين العراق وايران  والتي جرت في مطلع تسعينات القرن الماضي  .  لكن هذا الاسير العائد يتفاجأ أن عائلته قد هاجرت الى كندا .
وبعد ان علمت عائلته  المقيمة في كندا منذ عام 86 بعودته من الاسر،  بذلت كل ماتستطيع من اجل ان يلتحق بهم ابنهم الى هناك ،بعد ان كانوا قد فقدوا اي امل ببقائه على قيد الحياة  .
 وبعد عام من وصوله الى كندا تزوج  من امرأة  شابة تعود بصلة قرابة الى والدته  ومن ثم ليرزقا بطفل اسمياه ريمون . وقد حرص جده وجدته على ان يحكيا له عن كل مايتعلق بعنكاوا.
 فنشأ ريمون وهو يحلم برؤية هذه المدينة التي كانت موطن اجداده .
وتحقق له هذا  الحلم حين كُلف بكتابة ريبورتاج عن هذه المدينة بعد سقوط نظام صدام عام 2003 . ومن اجل ذلك كان قد اتفق عبرحوارات متواصلة أجراها من خلال شبكة  الانترنت مع مسؤولة مكتب الصحيفة في اربيل  على ترتيب  اجراءات اقامته لمدة عشرة ايام في عينكاوا .ليتمكن من خلالها التعرف على المدينة وعلى ابرز معالمها .
وهكذا تتم الرحلة الى عنكاوا وكانت بمثابة رحلة استكشاف لذاته وروحه . وبعد ان تنتهي الايام العشرة يعود ريمون الى كندا ليكتب رسالة الى سوزان مسؤولة مكتب الصحيفة في اربيل ،معبراً فيها عن سعادته الغامرة بالايام التي قضاها في  موطن اباءه واجداده ومعرباًعن الانعطافة الكبيرة التي حصلت في حياته بعد تلك الزيارة . وليقرر في اخر الامرالعودة مرة اخرى الى عنكاوا في اقرب فرصة .
هذه هي المعالجة الدرامية التي كنت قد اوجدتها من اجل خلق معادل درامي للمادة التاريخية التي ينبغي طرحها عبر الفلم . وهنا اعود مرة اخرى لاؤكد واقول : ـ
 لم يكن لاي شخص اخر اي دور أو مساهمة ــ لامن قريب ولامن بعيد ـ  اثناء جميع مراحل كتابة الفلم التي استغرقت مني  مدة اسبوعين بالتمام والكمال، ولم التقى فيها باي شخص من اعضاء فرقة اور او من اعضاء الجمعية منذ لحظة تكليفي (شفهياً ) من قبل السيد طاهر سعيد وحتى  تلك اللحظة التي حضرت  فيها الى مبنى الجمعية وجلست في احدى غرف الطابق الثاني من المبنى مع عدد من اعضاء فرقة اور بعد ان كنت قد انتهيت من عملية الكتابة وكنت في حينها  قد طبعت نص الفلم ايضا وقدمته لهم .وفي ذاك اللقاء الوحيد  الذي جرى يوم 30/ 10/ 2009 على ماأذكر  في مبنى جمعية الثقافة الكلدانية وهو اللقاء الاول والاخير مع عدد من اعضاء فرقة اور كنت حريصاً في وقتها  على ان أقرأ  لهم الصفحات الاولى من النص ، والتي تتضمن بوضوح  ملامح المعالجة الدرامية التي توصلت اليها وكتبتها .  وكنت قد لمست عن كثب الشعور بالدهشة والمفاجأة  على وجوه جميع الحضور ،وقد عبروا عن اعجابهم ذاك بكل وضوح وصدق انذاك . وهذا ما دفعهم الى ان يطلبوا مني ان اكتب لهم جزءاً ثان وثالث للفلم . لكني طلبت منهم ان يتريثوا قليلاً  وان لايستعجلوا حتى نرى نتيجة الجزء الاول بعد العرض . 
كما وجدت في ذلك اللقاء ايضاً  ان لدى ادارة (فرقة اور) ممثلة بالسيد مهيب ، لهفة واستعجالاً من اجل انجاز الفلم بأسرع وقت ممكن حتى  يكون جاهزاً  للعرض في مطلع شهر 12كانون الاول 2009  ليكون ضمن فقرات الحفل الذي يجري الاستعداد له احتفالاً بتأسيس الجمعية . وقد اعربت لهم في حينها عن خطأ مايخططون له، وأوضحت لهم بضرورة التأنيّ. وضرورة  ان تكون هناك فترة محددة  لتهيئة المستلزمات الانتاجية  للفلم ، وان لاتقل تلك المدة  عن شهركامل (30 ) يوماً . .  اضافة الى ان الفلم لايمكن انجازه بأقل من ثلاثين يوماً  . اي انهم بحاجة الى شهرين لانجاز الفلم بالشكل الذي يفرضه السيناريو الذي كتبته ،  والذي يضم( 41) مشهداً،  تحتوي العشرات من الامكنة التي ينبغي ان تنتقل اليها الكاميرا ،
 اضافة الى مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية التي تتعلق بأحداث مرّت على المدينة وكذلك بشخصيات عامة من ابناء عنكاوا  ينبغي البحث عنها والعثور عليها وتحضيرها قبل البدء بالتصوير نظراً لاهميتها في بناء
الفلم  لكنني وبعد  من ايام معدودة على ذلك اللقاء اصابتني الدهشة عندما  اعلمني المخرج طاهرسعيد بأنه قد انتهى من انجاز الفلم !. وان موعد العرض قد تم تحديده في مطلع كانون الاول 2009 .
 عند ذاك ادركت ان النتيجة ستكون مخيبة لي،  وان الجهد الذي بذلته وللاسف الشديد قد ضاع سدى وقد افصحت بهذه المشاعر لعدد من اعضاء جمعية الثقافة الكلدانية ومنهم الاستاذ كوثر نجيب  الذي كان عضو سابقاًفي الهيئة الادارية لجمعية الثقافة الكلدانية في الدورة السابقة .
وبعد عرض الفلم جاءت النتيجة مثلما توقعت . فكان الفلم صورة مشوهة  ومسعجلة وغير منصفة  لما هو مكتوب على الورق .. ولاأريد هنا ان اعدد  مرة اخرى المشاهد الكثيرة  التي اصابتني بالاسى . لذا كان عليّ ان اغادر قاعة العرض مباشرة بعد انتهاء الفلم   وانا في غاية الالم .
 ومع ذلك . .  لم يكن في نيتي الكتابة نقدياً عن الفلم مطلقاً ، لانني شئت أم ابيت كنت قد  اصبحت جزءاً منه ومن طاقمه طالما كنت انا الذي تحملت مسؤولية كتابته .
لكنني  قررت الكتابة بعد ان اطلعت على (فولدر) العرض وتايتل الفلم  وقدكتب عليه عبارة تشير الى ان   فكرة  الفلم تعود الى - ستيفان شاني !
ومما زادني اصراراً على الكتابة من اجل وضع النقاط على الحروف  ماأبلغني  به الفنان خليل كاكا من  ان هناك اكثر من شخص من غير ستيفان شاني يدعي هو الاخر مساهمته الفاعلة في اقتراح المعالجة الدرامية وفي خلق شخصية الصحفي الشاب .
 وهنا قررت الخروج من الصمت  وكتابة مقال اوضح فيه تفاهة ماجرى من غير علمي بذلك ، واوّضح فيه كذلك معنى وخطورة ان تنسب فكرة الفلم الى شخص اخر غيري لم يسبق لي ان التقيت  به ولم اتعرف عليه حتى هذه اللحظة ولم يجمعني به  في يوم من الايام اي لقاء .؟  ولو حدث ألان ، أن  وقف امامي المدعو ستيفان شاني    فلن اتعرف عليه مطلقاً!   لقد اخذني العجب والدهشة مما رأيت وسمعت حينما وجدت  شخصاً مجهولاً بالنسبة لي يتحول  بقدرة قادر،  وفي لحظة  لاوجود لها ، الى خالق  لفكرة الفلم  الاساسية  مع اني ّلم التق به ابداً !؟  . .
 وهكذا جرت الامور ببساطة تامة وتمت مصادرة الجهد الذي بذلته في كتابة الفلم وبمباركة واضحة ــ يلفها الغموض ـــ  من قبل السيد المخرج . !
ويبدو لي ــ وأرجو أن اكون مخطئاً ــ  أن لدى السيد المخرج مصلحة ما تقتضي منه ــ وأكراماً للسيد ستيفان شاني ــ  ان يضرب عرض الحائط بكل القيم والاصول المتفق عليها في الاوساط الادبية والفنية منذ عشرات السنين وليسلب بالتالي  حقاً  يعود لي وحدي  ــ لايملكه هوــ  ويمنحه بكل سهولة  الى من لايملك شيئاً . وإلاّ كيف يمكن تفسير ماجرى !؟

هذا اضافة الى ان  استخدام كلمة (اعداد ) التي سبقت اسمي  في اعلانات وتايتل الفلم  لاوجود لها في قاموس السينما ، وكان ينبغي على الاخ المخرج طاهر سعيد ان  يستخدم كلمتي ( سيناريو وحوار ) وهذا هو ماتم الاتفاق عليه عالمياً  وثبت في معجم المصطلحات السينمائية  بدلاً عن  كلمة ( اعداد) التي عادة ماتستخدم في تايتلات  البرامج التلفزيونية ولايتم استخدامها  في صناعة  الافلام   .

السادة الكرام اعضاء فرقة اور المسرحية  :
ليس من العدل والانصاف ان تنسب الاعمال الى غير اصحابها بدون وجه حق . وليس من الاخلاق ان يرتضي البعض لانفسم ان يرتكبوا مثل هذا الفعل المعيب والذي لايليق حقيقة  بمن يعمل بجد واخلاص  في الميدان الفني . . كما لايليق بالسيد المخرج ان يتواطىء مع من  لايتردد في صنع تاريخ كاذب له !
ويقتضي الامر من نقابة الفنانين في كردستان بعد  ان يصلها الامر بمثل هذه القضايا أن  تتخذ اجراءاتها  الواضحة والقانونية بحق من يسىء الى الاصول والتقاليد الفنية التي تحرص كل المؤسسات  والجمعيات والشركات الفنية الرصينة على الالتزام بها حفاظاً على حقوق الاخرين المعنوية .
  و ليس من المعقول ايضاً ان تسرق جهود الاخرين وبشكل سافر وصريح دونما رادع يتخذ ضدهم من قبل نقابة الفنانين  في كردستان وكذلك من قبل المؤسسات والجمعيات التي ينتمون لها ويمثلونها لانهم بمثل هذا السلوك يسيئون لها ايضاً  .
الاخوة المحترمون  في فرقة اور المسرحيةالتابعة لجمعية الثقافة الكلدانية في عنكاوا :
  لقد كنت حريصاً وأنا اكتب الفلم على ان اقول  شيئاً جميلاً  يليق بهذه المدينة وبتاريخها ،  لانني  منذ ان سكنت فيها قبل اكثر من اربعة اعوام بحكم عملي في قناة عشتار الفضائية  احببتها بعمق لما اتسم به اهلها من وداعة وطيبة . ولكنني وياللاسف ، صدمت بهذه الافعال الصبيانية التي اقترفها البعض والتي لاتنم  إلاّ عن سذاجة وسوء تقدير !
واخيراً ليس لي إلاّ ان اقول :  إن اي فنان يحترم فنه،  وتاريخه، وشخصه، سوف لن يتورط  في صنع تاريخ كاذب له . ولن يتورط في سرقة جهد الاخرين،  ولن يتورط أبداً  في أي  فعل قد يسىء له ،أويخدش قليلاً  صورته ،  وسمعته امام  زملاءه وجموره .


                                                         مروان ياسين الدليمي
                                                   
                                                          5/ 12/ 2009

152
خطوط حُمر  . . في اليوم العاشر



عالمنا الممتد من المحيط الى الخليج ،لم يزل  يحيا في زمن مظلم  ثابت غير متحول  منذ مطلع خمسينات القرن الماضي ، اي منذ تلك  اللحظة التي بتدأت فيها الزعامات الوطنية تتسلم مقاليد السلطة .
 من هنا بدأت لحظة اعتقال العقل العربي وراء قضبان ايدلوجيات الاحزاب الحاكمة وقادتها الملهمون . لتبدأعندها مذ ذلك الوقت مرحلة طويلة ومهلكة ولم تنتهي بعد. ولم تكن تلك الايدلوجيات إلاّ منظومة امنية تتشكل من سياسة لاتخرج عن إطار: التخوين والتخويف والترهيب والتسويف والتبجيل والتعظيم والتنكيل والتحريم والتخديروالتعذيب والتقتيل والترويع والتفجيع الخ  من اشكال القسوة والقهر والقمع .
ومع ان الكثيرمن  الحكام قد تبدّلوا أوأُستبدلوا أو غابوا أو غيُبوا أو تغيبوا إلا أن ماتركوه من ميراث ضخم ومرعب  في فنون وجنون واساليب السيطرة والحكم والتعامل مع من يختلف معهم في الرأي والرؤية بقي حاظرا ،ًويافعاً، ونافعاً، وناظراً. ولم تتنكر له الوجوه والعقول الحاكمة الجديدة ، علمانية كانت أومتدينة،  ألاّ في الايام العشرة الاولى من توليها الحكم فقط ، لتعاود هي ايضاً مرة اخرى في اليوم الحادي عشربعد جلوسها على عرش السلطة لتمسك بيد من حديد صولجان  الوصاياوالتقاليد الذي  ورثته عمن  سبقها من أولئك الحكام، الذين ثارت عليهم وطهرت البلاد من رجسهم . وبالتالي فإن الوجوه الحاكمة الجديدة لن تكون في حيرة من امرها  ولن يكون عليهاأبداً  ان تبدأ من الصفر في كيفية حكم البلاد والعباد .
كم تفاقمت ازمة الوعي والثقافة العربية مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي مع بداية ظهور الجماعات الدينية المتطرفة في مصر وهيمنة هذا الفكر بكل تشدده على مساحات واسعة من المنطقة العربية وقد شجع على ذلك الاحتلال السوفياتي لافغانستان والدعم المالي الكبير الذي تلقته تلك التنظيمات الدينية المتطرفة سواء من بعض دول الخليج انذاك  أو من قبل اميركا وبريطانيا اللتان لم تبخلا بكل ماتملكان من خبرة عسكرية في اعداد وتنظيم تلك الجماعات  وامدادها بالسلاح والعتاد والمعلومات الاستخباراتية .
ولما جاءت اللحظة الفاصلة التي حققت فيها  الانتصار العسكري على الجيش الاحمر ( الملحد) ملحقة به شر الهزيمة ومن ثم  سيطرتها على افغانستان، كان لابد لها  ان تشعر بالزهو والقوة التي لاحدود لها ،وعليه ايقنت اشد اليقين انها هي ولوحدها من تملك  وتحتكر  تطبيق شريعة الله على الارض وينبغي عليها أن تفرضها على  الارض والعباد بقوة السلاح والارهاب دون الرجوع الى الحكمة والعقل والحوار والارشاد والمجادلة   .
 كان انتصارها ذاك اعلاناً واضحاً لهزيمة كبرى  لكل من يخالفها من القوى والعقول والتيارات الفكرية  ولكل من  لايؤمن بما تسعى اليه هي  من هدف  واضح :في اقامتها  للامارة الاسلامية .
في تلك اللحظات الدرامية  من نهاية العقد الثامن من القرن العشرين ومع انتصارها في افغانستان بدأت هزيمة العقل والحرية في عالمنا العربي امام طغيان الملالي والامراء وفتاويهم في تجريم وتحريم الحياة الانسانية المدنية بكل اوجهها وانشطتها العلمية والانسانية .
لقد طالت اذرع محاكمهم وفتاويهم اسماءً وانشطة وتجمعات على طول الارض العربية وحتى خارجها سواء في اميركا او في اوربا . ولم يسلم منها حتى اللذين لاصلة لهم بأنشطة الفكر والسياسة وألفن والثقافة ولم يكونوا في يوم من الايام ، شعراء ولاأدباء ولاممن يكتبون القصة ولا الرواية ولاالمقال ولاكانوا بمطربين ولاممثلين ولاصحفيين بل كانوا يشكلون جزء اً من موظفي الدولة لاغير ! التي هي في نظرهم ومعتقداتهم كفرُ وعبادة للشيطان وكل من يعمل فيها ويساهم في بنائها وتطويرها وخدمتها يقع عليه حكم مايقع على الكافرين .
ويوماً بعد اخر وسنة بعد اخرى امتد هذا الفكر ودخل بيوتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا العلمية دون ان يستأذن أو يطرق الابواب .
دخل مع رغيف الخبز اليابس الذي نحصل عليه بشق الانفس،
ومع الاجراليومي المتدني للعامل وهو يشقى طيلة ساعات النهارولايحصل على مايسد به رمقه او ابسط الاحتياجات الانسانية لعائلته  ،
ومع الاطفال وهم يفتشون في المزابل عما يمكن ان يسد رمقهم ،
 مع المشردين في الخيام،
مع العاطلين عن العمل من الخريجين لسنين طويلة،
من اطباء ومهندسين، ومدرسين لاتكفي رواتبهم لاكمال نصف دينهم ،
مع اليتامى من ابناء الشهداء الذين اخذتهم الحروب القومية الى فلسطين ولم يعودوا بها ومنها ،
مع المثقفين المعتقلين في زنزانات الامن والمخابرات،
مع ارتفاع الاسعار وغلاء المعيشة ،
 
مع سكان الصفيح وبيوت الطين والمقابر والمزابل والعشوائيات .
في ظل هذا الموت البطيء
في ظل هذا ألعذاب ،
في ظل هذا الاسى ،
وفي ظل هذا الخراب ،
نَمَا اليأس والتطرف ،وشاعت ثقافة الموت وماتت ثقافة الحياة ، ولم يعد امام من ينتج الثقافة متسع طبيعي من الزمن والمساحة  لحرية القول
والتفكير.  وتراجع المجتمع بثقافته الى الخلف قروناً من الزمن محشوراً في اقبية وسراديب مظلمة يتردد فيها صدى تمتمات وتعاويذ وطلاسم مرعبة ، وهَزَم المجتمع العربي  منجزه الثقافي والمعرفي الذي تناوبت على أنتاجه اجيال واسماء كبيرة .
 لذا  لم يكن غريباً إذن  ازاء تداعيات هذا المشهد : ان تصدر فتاوى تدعو الى حرق وتحريم نتاجات ثقافية احتفت بها اوساطنا الثقافية والاجتماعية قبل اكثر من ثلاث عقود كما في رواية (وليمة لاعشاب البحر) . لحيدر حيدر ،(وأولاد حارتنا لنجيب محفوظ ). ومجمل كتابات الدكتورة نوال
السعدواوي وليصل الامر الى ماوصل اليه  معبراً عنه في محنة الدكتور
نصر حامد أبو زيد ، وبعدها جاء دور الشاعر موسى حوامده
واحمد عبد المعطي حجازي وصلاح حسن وعدنان الصائغ .  واخيراً وليس أخراً ماتعرض الشاعر العراقي احمد عبد الحسين في شهر آب 2009  من تهديد وتلويح بالقتل لالشيىء إلاّ لانه مارس دوره الطبيعي كمثقف في الدفاع عن حرية شعبه التي خنقتها العمائم الثقيلة التي أمست تحكم ادق تفاصيل الحياة العراقية  وتسيطر عليها بميليشياتها الطائفية  المسلحة التي لاتتوانى ابداً عن  قتل  الناس على الهوية ،ولن تخشى ابداً في أن  تسرق وتنهب ممتلكات الدولة في وضح النهار مستعينة كذلك بالياتها وعجلاتها الرسمية  وليس هنالك من  قوة حكومية قادرة على أن  تردعها أوتحاسبها بل حتى لايمكنها  أن تتجرأ ولو بالاشارة اليها عبر بيان رسمي يستنكر أو يشجب افعالها .
  إن قائمة المثقفين والمفكرين والفنانين الذين بدأت تطالهم فتاوى التكفير والتجريم والقتل في عالمنا العربي بدأت  تطول لتصل كل من يقترب ولو حتى خطوة واحدة الى فضاء الحرية للتفكير في شؤون الخَلقِ ِوالخَلقْ  .
 إن هامش الحرية  بدأ يضيق ويضيق بشكل مرعب ومخيف  امام من يشتغل في اي حقل من حقول الثقافة .
 ونحن اليوم  امام مد طلباني (نسبة الى حركة طالبان) التي سبق أن أحالت الحياة ألانسانية بكل اشكالها الى مثواها الاخيرحين توفرت الفرصة لها وتسلمت مقاليد الحكم  في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي  .
 إن حالنا أليوم لن يكون باحسن من حال شعب افغانستان او الصومال فيما لو بقيت اغلب انظمة الحكم القائمة تتعامل مع مواطنيها باستحقار ودونية وهي بذلك توفر الفرصة المناسبة للفكر الديني المتطرف لكي يتسارع نموه في بنية مجتمعاتنا .
كما يعني ذلك ايضاً حجرُللعقل الانساني المفكر والمبدع .وسيادة ازمنة التقديس والتدليس .
هذا هو الاطار العام الذي بات الكاتب العربي يحيا بظله ويموت بظله . وهوظرف وجودي ليس هنالك من ظرف اسوأ منه إلاّ تلك الازمنة التي مرت على البشرية ايام محاكم التفتيش .
ومن الطبيعي ازاء هذا الضغط والقهر والكبت الذي ينهال على جسد الحرية الانسانية ان ينشأ زمن اخر للكتابة مضاد لما هو قامع وهاتك لحرية التفكير والابداع الانساني . وهذا الامر ليس من البساطة بمكان في أن نضعه بكل سهولة وأستخفاف في خانة ألاملاءات الخارجية وتسطيح النص الادبي وتحويل الادب الى اداة لتحطيم الوعي العربي المترنح اصلاً !
إن الادب لكي يساهم في تشكيل الوعي العربي من جديد لاسبيل امامه إلاّ بأمتلاكه الحرية المطلقة في طرق وفتح كل الخطوط الحمر و الابواب المغلقة ،وهو بذلك سوف لن يجنح الى خدش الحياء ولن يدنس المقدسات انما سيعيد للعقل حريته المعتقلة وسيمنح الانسان فرصة لاغنى عنها في قراءة جديدة لذاته المتبلدة الخائفة ،والخانعة .
لكني اجد ان مجتمعاتنا ابعد ماتكون عن تلك الفرصة التي خلقتها  لنفسها الجماهيرة الايرانية  الغاضبة والمحتقنة بكل ادران التحريم والتخوين والتخويف  فيما لو بقيت اسيرة التابوات والخطوط الحمر المقدسة .    

                                                     مروان ياسين الدليمي
                                                                                                                      
                                                          18/ 10 / 2009

153
المنبر الحر / سرقة مقال . .
« في: 14:14 08/10/2009  »
سرقة مقال . .



كان ينبغي عليك ياسيدي رحيم العراقي ان لاتورط نفسك في سرقة المقال (وداعاً جلال جميل ) المنشور في صحيفة الزمان بتاريخ 2/ 9/ 2009 للكاتب مروان ياسين الدليمي الذي هو انا . وتنسبه الى شخصك ولتنشره بعد ذلك في (موقع النور) وفي جريدة( ثقافات )التي تصدر عن وكالة انباء عراقيوان في الموصل . مع تغيير لعنوان المقال فقط لاغير .
وادعوا جميع القراء ان يدخلوا الى موقع صحيفة الزمان والى صفحات (الف ياء) وان يكتبوا اسمي فقط عندها سيجدون صحة ماأقول .
 سيدي الكريم رحيم العراقي . انت كاتب ساخر جميل لك الكثير من الكتابات المسرحية النقدية التي تثبت قدرتك وامكانياتك الكتابية .لذا انت لم تكن بحاجة الى ان تسخر من الاخرين الذين يحترمون شخصك وكتاباتك عندماسمحت لنفسك بسرقة مقال بسيط ،لم يكن الاّ محاولة متواضعة مني لكتابة سيرة موجزة عن صديقي واستاذي واخي د. جلال جميل الذي رافقته منذ منتصف العقد السابع من القرن العشرين وحتى فاته . فمالذي دعالك الى ان ترتكب مثل هذا الخطأ الذي سوف لن يغنيك في شيء بقدر ما قد يسيء لك ولمصداقيتك . ؟ ومن المؤكد ان الكثير من رصيدك الشخصي الذي بنيته في سنوات طويلة من الكتابة والقراءة سوف يعيد النظر فيه الكثير من القراء الذين ينظرون لك بعين ملؤها التقدير والاحترام لمسيرتك المهنية والابداعية .
 قد يكون الدافع الذي دعاك لسرقة هذا المقال البسيط وليس مقالاً(دسماً ) اخر ، هو عدم امتلاكي للشهرة التي يمكن ان يتمتع بها كتاب اخرين مما يوفر لهم ذلك من حصانة تمنع الاخرين وتردعهم من سرقة مقالاتهم . .لكن ذلك لايعفيك من ارتكابك لخطأ قاتل . ولايمكن نسيانه وغفرانه لك من قبل قرائك الذين يحترمونك وانا واحد منهم .
ملاحظة اخيرة : قد لاتذكرني ياسيدي الكريم رحيم العراقي . لكني اذكرك جيداً وقد عشنا سوية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في وحدة البرامج الاذاعية والتلفزيونية التابعة للاعلام العسكرية ايام كنا جنوداً وكان معنا في حينها . الكاتب رضا الاعرجي . وعبد الكريم السوداني الذي هو حالياً مدير شبكة الاعلام العراقي . والممثل هاشم سلمان . والمرحوم كريم قاسم عبود . والصحفي عماد عبد الامير . واخرين .
لك مني تحياتي وارجوا منك ياأخي العزيز ان لاتتورط مرة اخرى بارتكاب صغائر الامور .لانك كاتب كبير .

مروان ياسين الدليمي

154
المنبر الحر / صوريا . . *
« في: 16:29 15/09/2009  »
صوريا . . *
                                                         


مازلنا نتعقب اثاراقدام الموت ، مازلنا نتعقب رماد ألهلع ، لنمسك ذاك الوجع المقدس  براحة اليد ،  ،  اربعون سنة تأخرنا عن موعدنا هذا  ،  ،  لكنّا اليوم سنطرق ذاكرة ٍ منكسرة ونلملم اشلاء من رحلوا ،
 لعلنا نجمع شظايا المشهد المفجع . . .
اليوم سنطرق أبواباً  ظلت مقفلة  ، سنمضي إليها بين ذرات هذا التراب نفتش خلفها ،عن ارواح، واصوات، واسماء ، لم تزل ترتعش ،
حين تكدست عليها أجساد مضرجة بدمائها،
وذنبها ، انها كانت أبداً طاهرة .
.   .   .   .   .
  الذاكرة مازالت تمسك بذاك المشهد ، وعلى رخام  الشواهد مازالت  تُنثر التراتيل  وماء الورد ، ،
   اليوم سنصمت ،  ماأن تحكي صوريا قصتها،
لتسرد لنا في تلك الساعة محنتها ، حين انسكبت فوق ثراها  رائحة الموت .  
.   .   .   .   .
 صوريا التي انكسرت  خارج الوقت،
كانت ترخي جذائلها على غيمة شاردة من دجلة .
دجلة الموغل في صمته ،دجلة الدائم بحزنه .
وحده ، من شهد الخوف
وحده ، من خبأ الاسرار
وحده ،  من يملك المفتاح
لكلام كان أبداً غير مباح  .
.   .   .   .   .
كان الضحايا اخوة بالدم والشهادة ، فلاحون مسيحيون ،وأكرادُ مسلمون .
يقتسمون محبتهم مع رغيف الخبز، ولاشيء يقسِّمهم
في هذي الدنياالمضطربة  .
 لهم الجرح سوية ،ولهم عطر السنابل .  .  .
كانوا صرخة واحدة ،
  و شهقة واحدة ،
و قطرة دم ْ.
 لمّا صار الوقت سُخاماً فوق سماء القرية
 وانكسر الفجر برصاص القاتل .
.   .   .   .   .
آن لنا أن  نخرج من طوق الوهم ،ونكف تماماً  عن تبرير الصمت
آن لنا  ان نرفع رايات العدل البيضاء ،لنكشف عن أزمنة النسيان . .
ونردد بصوت عالٍ :
ياهذا العالم آن لك ان تصحوا معتذراً ،لتعيد الحق ،
وتنصف كل ضحايانا ..
.   .   .   .   .
على ثرى  هذا  التراب ،استدرج الموت احبة لنا. .
ازاح بظلمة كفّه
اصواتهم
وطيبتهم
وسنابل أفراحهم .
.  .  .  .  .
بعد اربعين عاماً من عمر نكبتها  : وحين اقتربت مرة اخرى ساعة طلقِها  اصر ابناء صوريا على ان تعود صوريا كما هي  مرة اخرى ،
جنة لأسرارألمحبة،وأن تُبنى بيوت اخوتهم المسلمين ،مثلما ستبنى لهم بيوتهم  . ولتبقى صوريا كما هي  صوريا : فردوسا ً يسمو براياته ،
 فوق الحرائق  ،
والطوائف
 والاديان .
.   .   .   .   .
رغم الهواء الذي فرّ مذعوراً ساعتها،ورغم الدم،ورغم الصرخات . . .  مازال الصمت هو العنوان ،ولم يستيقظ كل دعاة القانون الدولي .
مازال الصوت الداعي لرفع الظلم وانصاف الحق يقبع في ادراج النسيان .
يكفينا حتى تُكسرُ اسوار الصمت ،دقيقة صمت وحداد في اروقة الامم المتحدة ، قد يستيقظ فيها من غفوته ضمير العالم .

.   .   .   .   .
ولأن البلاد المسكونة بالحب لن تموت ،
 عادت الاحاديث توئثث الدروب بالاحلام ،
عادت  النهارات دافئة  في صوريا.
عاد الصباح،
 عاد الامل ،
وعادت الارض من جديد تغزل بهجتها
وتعانق ماتبقى من  ابنائها .

                                                         مروان ياسين
                                                       15/ 9 / 2009


*في ذلك اليوم المصادف  السادس عشر من شهر ايلول عام الف وتسعمئة وتسعة وستين انفجر لغم مضاد للاليات تحت ناقلة عسكرية ،قتل وأصيب على اثره عدد من العسكريين .ونظراً لان قرية صوريا هي الاقرب من غيرها الى محل الانفجار فقد اختيرت لان تكون هدفاً من قبل القوة العسكرية للانتقام منها ومن اهللها العزل فكانت مذبحة راح ضحيتها العشرات من النساء والاطفال والشيوخ .



                                                        





155
المخرج : شوقي الماجري  .  .

                      وجماليات الخطاب الفني في الدراما التلفزيونية .



رغم الكم الهائل من  الاعمال الدرامية التي تبثها عشرات القنوات الفضائية العربية خلال شهر رمضان إلاّ ان الكثير من تلك الاعمال لايستحق عناء ومتعة المشاهدة لاكثر من الدقائق الاولى ، لتكتشف وبكل سهولة  رداءة الطبخة  الدرامية التي قدمت لك  رغم الاسماء اللامعة من النجوم التي تم حشوها في تلك الاعمال من دون جدوى.   
هذا الامر يتكرر سنوياً في الانتاج الدرامي العربي الذي بدأت دوائر انتاجه تتسع سنة بعد اخرى بعد انطلاق وتوسع حجم القنوات الفضائية  التي كان عليها أن  تغطي الكثير من ساعات بثها بالاعمال الدرامية والتي تأتي في اولويات استقطاب المشاهد العربي الذي يعاني مايعاني من هزائم حياتية شتى بفعل فشل الانظمة السياسية في بناء وتنمية مجتمعاتها وهذا مايدفع مواطنيها  الى الارتماء في أحلام وبطولات خيالية تصنعها وتخيطها له شركات الانتاج الدرامي على مقاس احباطاته وعجزه ويأسه ولتساهم بالتالي هي الاخرى وبالتواطىء مع الانظمة العربية في تخديره وابقاءه في حالة من الكسل الفكري والارتكان الى حالة من الشعور بالمتعة السلبية الاستهلاكية وهو يشاهد تلك الاعمال الدرامية التي تزيد من كثافة العيش في الخرافات  الاوهام والبطولات الزائفة  . وتشترك في ذلك (الاعمال الكوميدية و الدرامية الجادة . والميلودرامية .) .
لكن وسط هذا الكم الردىء غالباً مايطالعك عمل فني يغرد خارج السرب ليمنحك متعة فنية وفكرية تغنيك عن مشاهدة بقية الاعمال . ودائماً مايقف وراء هذه الاعمال النادرة فنانون يتسمون بقدر عال من الاحترام لانفسهم وللمشاهد الذي يحسبون له الف حساب حين يقررون الاقدام على انتاج عمل فني جديد .
من تلك الاسماء التي ارتقت بالدرما العربية الى افق اخر جديد  لاصلة له بالارث الردىء الذي تشكل عبر عقود طويلة من الانتاج أسم بدأ يمهر  بصمته واضحة ومتفردة في ذاكرة الشاشة الفضية خلال الاعوام العشرة الاخيرة   .
شوقي الماجري المخرج الذي اكد حضوره الرصين والمميز عبر عدد من الاعمال الدرامية( الملحمية ) التي تصدى لاخراجها.
 حالفني الحظ ان اتابع مسيرة هذا المخرج ابتدأً من مسلسل ( اخوة التراب ) بجزأيه في مطلع تسعينات القرن الماضي والذي تناول فيه ملحمة النضال الوطني التي خاضها الشعب العربي السوري لنيل حريته في مطلع القرن العشرين . ثم جاء عمل اخر بعنوان (بيت الارواح ) ثم عمل اخر بعنوان (عمرالخيام ) واعقبه بعمل اخر بعنوان( الاجتياح ) تناول فيه صور الكفاح الفلسطيني من اجل الحرية واثبات الحقوق في ملحمة تلفزيونية احتشدت فيها نماذج انسانية لم تقترب منها معظم نتاجات   الدرما العربية وهي تتناول الصراع الفلسطيني الفلسطسيني والفلسطيني  الصهيوني إ لاّ بعض الاعمال مثال على ذلك مسلسل( التغريبة الفلسطينية ) للمخرج بسام الخطيب .واخيراً جاء العمل الاخير للمخرج شوقي الماجري( هدؤ نسبي ) الذي مازال عرضه مستمراً على شاشة عدد من القنوات الفضائية  والذي تناول فيه وبموضوعية  وجرأة يحسد عليها ، الايام الاخيرة  لنظام صدام حسين ومن ثم سقوطه السريع والمفاجىء امام القوات الاميركية والجيوش المتحالفة معها .  كل ذلك يتم من خلال وجهة نظر مجموعة من  الاعلاميين والصحفيين العرب والاجانب الذين تواجدوا في تلك الايام والساعات التي شهدت نهاية  ذاك النظام  وسقوط بغداد تحت الاحتلال الاميركي وهمجيته وما تبع ذلك من تداعيات لم نزل نشهدها حتى اللحظة وهي ترسم امامنا صورة وطن تشظى وغاب عن اعيننا في فوضى الصراعات الحزبية والطائفية التي يتحمل مسؤولية ظهورها وانتعاشها وتأجيجها المحتل الاميركي والصراعات الاقليمية التي ألقت  بظلالها على الساحة العراقية الملتهبة .
المخرج شوقي الماجري تصدى لهذا الموضوع المعقّد والشائك.  وتكمن خطورة هذا العمل في راهنيته ووقوعه في الزمن الحاضر وهو لم يزل  يتشكّل بحضوره الكارثي  والثقيل  بيننا إضافة الى  رسمه لمسار حياتنا وغدِنا الغامض .
 ومع ذلك كانت ملامح الصورة التي رسمها شوقي الماجري ، لما جرى من احداث ومايزال يجري على ارض الواقع العراقي واضحة ودقيقة في تفاصيلها ومبتعدة عن المبالغة والتضخيم سواء في رسمها للاحداث او الشخصيات .
 ولو تابعنا مسيرة هذا المخرج  الحافلة والغنية على الرغم من قصر ظهوره على الساحة الفنية لوجدنا ان له نمط من التفكير والقناعات الفنية التي تجعله يقتفي وبوعي تام اساليب الفنانين الكبارفي رسم ملامح تجربته الفنية،  ابتدأ من  اختياره للنصوص والتي غالباً ما تتناول في جوهرها صراع الانسان لاثبات انسانيته .
تأتي هذه القيمة التي غالباً مايحتفي بها الماجري  ضمن اطار ملحمي
( زماناً ومكاناً ) .  . ففي اعماله ليس هنالك من بطل فردي يستحوذ على الاحداث انما هنالك دائما عدد  كبير من الشخصيات الانسانية الرئيسية والثانوية التي تتحرك وتنبض داخل الازمنة والاحداث التي تتسع رقعتها لتشمل مديات عمودية واسعة .
ولن يكتفي شوقي الماجري في التوقف والاهتمام بالشخصيات الرئيسية . انما تأخذ معظم الشخصيات نفس الاهمية والاهتمام من قبله في تقديمها داخل المشهد . كما ان تربيته الاكاديمية السينمائية جعلته يعتمد في بناءه للمشهد على الصورة اولاً فيما تحمله من مفردات وفيما يحمّلها هو من مدلولات وتأويلات مستغنياً بذلك عن الثرثرة في الحوار الذي يشكل مرضاً قاتلاً في الدراما العربية ،مكتفياً بجمل قصيرة مكثفة تساهم اولاً واخراً في صياغة  وبناء الشخصية، وفي دفع وتطور الاحداث درامتيكياً الى الامام  دون السقوط في الاستطراد والاطالة التي ادمن عليها المخرجون تحت رغبة شركات الانتاج التي تسعى الى تلك الاساليب لاغراض ربحية ! حتى لو كان ذلك على حساب التخلّي عن القيم والاشتراطات الفنية المكثفة  والمطلوبة في بناء اي عمل فني .
 كما يتضافر مع ذلك لدى الماجري  بناء المشهد/ الصورة  .  وذلك بالاهتمام العالي في تصميم اضاءة المشهد درامياً وتأثيثه بجمل وتراكيب  بلاغية من البقع والمساقط الضوئية واللونية  التي قد لانجدها الا في الاعمال السينمائية لكبار المخرجين العالميين .
من هنا يأتي حرصه على التعامل مع مدير التصوير البولوني الجنسية في كل الاعمال التي اخرجها . وذلك لادراكه الكبير لأهمية ان يكون الى جانبه مديرتصوير يمتلك خبرة وكفاءة ووعياً درامياً يمكنه من  فهم ما يفكرفيه المخرج ومايريده في كل لقطة وفي كل مشهد . وهذا مالانجده في معظم النتاجات الدرامية العربية التي لايولي مخرجوها اية اهمية لدور مدير التصوير .وغالباً ماتراهم يكتفون بأضاءة المكان والشخصيات دون ان
يكون للاضاءة اي دور في رسم وايصال الافكار والاجواء التي ينبغي ايصالها للمتفرج . .
 ان شوقي الماجري التونسي الجنسية والمتخرج من احد معاهد السينما في بولونيا في منتصف العقد الثامن من القرن العشرين . هوبحق نموذج للفنان الذي يكافح من اجل الدفاع عن عشقه للفن والتعبير عنه بأجمل الصور واكثرها بلاغة . ولم يثنيه عن ذلك  ضعف ومحدودية دعم الانتاج السينمائي في العالم العربي عن التوقف وانتظار فرصة العمل السينمائي . كما فعل الكثير من الموهوبين السينمائيين  في عالمنا العربي . بل آثر ان يقتحم ميدان التلفزيون المتكلّس منذ عقود   بالأطُر والفورمات الجاهزة .
وآثر ان يدخله بعُدّته السينمائية التي إكتسبها من غنى السينما الاوربية واصالتها التي تختلف في خطابها وجمالياتها المميزة عن صناعة السينما الاميركية وقوالبها الجاهزة في معالجة الشخصيات والاحداث .
 ومعلوم لدى العارفين والمتابعين لتاريخ السينما في العالم  مدى البون الشاسع الذي يفصل مابين نمط الانتاج السينمائي الاوربي والانتاج الاميركي . واقل مايمكن قوله في هذا الموضوع ان السينما الاوربية تنطلق من اسس انسانية وجمالية في بناء الفلم السينمائي  رغم بساطة الكلفة الانتاجية التي تقف وراء انتاج الفلم قياساً الى الفلم الاميركي الذي تتضاعف ارقام انتاجيته الى عشرات بل مئات اضعاف من انتاجية الفلم الاوربي .
من هذه التقاليد الاوربية الرصينة التي شكلتها فلسفات وافكار تمجد الحرية للانسان والشعوب وانتجت معظم المناهج والتيارات الفنية المعاصرة في كل الفنون  جاء شوقي الماجري ليضع مع قلة اخرين الحجر الاساس لبناء دراما تلفزيونية جديدة شكلاً ومضموناً وتمكن في سوريا من تحقيق احلامه التي بدأت تشكل علامة فارقة في الدرما العربية . 






                                                  مروان ياسين الدليمي
                                                            العراق


156
قراءة . .  في المحنة العراقية


عدم الاعتراف بالخطأ  يمنح عدوك الفرصة للنيل منك مرة اخرى . . ويجردك من فرصة  المحافظة على مكانتك وهيبتك فيما لو  تعاملت دون  شفافية مع الاحداث  ..
وماذا لو كانت الحكومة  قد أوقعت نفسها  في مثل هذا الموقف أكثر من مرة،ماذا ستكون النتيجة ؟
بلاشك إن ذلك سيترك وراءه تداعيات جمة قد تؤدي الى تفاعلات جانبية وعرضية تزيد من تعقيد الاوضاع العامة وقد لايكون من السهولة بمكان السيطرة عليها ،هذا إذا مادفعت الاحداث  الى مزيد من التدهور الى الحد الذي قد يهدد مستقبل الحكومة والدولة والبلاد في بعض منها.
ونتيجة لذلك ،فإن المسؤول ألاول في الحكومة سيضع  نفسه في موضع  لايحسد عليه من  ألمساءلة والحساب امام الصحافة ووسائل الاعلام ومن ثم  أمام القانون ، ذلك لان فشله أول مايعني سؤ استخدام الادارة والسلطة الممنوحة له من قبل المجتمع وتعريض مصلحة وحياة الناس الى الضرر والخطر والدمار .
هذا ماتعانيه الحكومة والدولة العراقية  من ازمات مستفحلة جعلتها ترتكب الاخطاء تلو الاخطاء بإرادتها أوبدونها .مما جعلها تعود الى المربع الاول الذي كانت تعاني منه السلطة السياسية التي سبقتهم في الحكم قبل عام 2003 حينما مارست التظليل  على الناس واوهمتهم بمقدرتها على مواجهة التحديات التي كانت تعصف بالبلاد وهذا مما عجّل في سقوطها وانهيارها. ولولا ذلك لما كانت قوات الاحتلال قادرة على اسقاطها بتلك السرعة الدراماتيكية .
اليوم تعود الحكومات العراقية التي جاءت بعد التاسع من نيسان الى ارتكاب نفس الاخطاء في معرض ادارتها للازمات التي تواجهها وتواجه البلاد . هذا اضافة الى عامل اخر لايقل اهمية وخطورة عماذكرنا ألاوهو أستمرارها في الخضوع  لضغوط  واضحة بفعل علاقات ترتبط بها مع بعض الدول . ومن الواضح انها لاتستطيع الخلاص من وزرها بحكم قدم تلك العلاقات وماتفرضه ومافرضته من  قيود ثقيلة عليها  مذ كانت معظم احزابها بزعاماتهاالتقليدية في المنفى ايام صراعها مع النظام السابق. وقد ترتب على ذلك عدم قدرة الحكومة على معالجة الكثير من الاحداث الخطيرة من قتل جماعي وتفجيرات بشفافية مطلوبة منها امام شعبها وامام العالم الذي ساندها ووقف معها حتى تمكنت من اسقاط نظام صدام حسين والوصول الى الحكم . بل انها عمدت في كثير من الاحيان الى ان تضع نفسها في  موقف افقدها المصداقية امام الراي العام، عندما كانت تفاجأ الرأي العام وعبرمؤتمرات صحفية يتناوب على اقامتها عدد من المسؤولين الحكوميين باعلانها اسماء عدد من المجرمين الذين قبضت عليهم وتعرض صورهم على الاعلاميين ثم ليفاجأ الرأي العام بمؤتمر اخر يتم الاعلان فيه عن شطبها لتلك الاسماء واستبدالها بأسماء اخرى . وهكذا تستمر هذه اللعبة  التي تم تسويقها في قضايا خطيرة سبق ان راح ضحيتها العديد من الضحايا الابرياء كحادث تفجير مرقد الامامين في سامراء او مقتل الاعلامية اطوار بهجت كما تعاملت بلا اية مسؤولية تجاه قضايا اخرى لاتقل اهمية عما ذكرنا كقضية اختطاف رئيس اللجنة االولمبية احمد الحجية وعدد من اعضاء اللجنة بينما كانوا يعقدون اجتماعاً في احدى القاعات الكبرى وسط العاصمة العراقية بغداد وكذلك اختطاف اكثر من 150 موظفاً من مبنى وزارة التعليم العالي في بغداد واختفائهم . في كل تلك القضايا كان موقف الحكومة العراقية الذي اتخذ موقف الصمت وعدم التحقيق الجدي وعدم متابعة وملاحقة  الجناة الذين كانوا لحظة ارتكاب جرائمهم يرتدون ملابس وزارة الداخلية ويستخدمون سياراتها كل ذلك قد وضع الحكومة في موضع الشبهات طالما هي  لم تتعامل مع هذه القضايا بجدية ووضوح وشفافية .
هنا يبدو ان الحكومة لم تستفد من دروس التاريخ القريب الذي عاصرته وعاصره الناس وإلاّ مامعنى ان ترتكب نفس الاخطاء التي سبق ان ارتكبتها السلطة التي سبقتهم من صمت وتعتيم مع كل القضايا التي لها مساس بحياة ومصير الناس . . مامعنى ذلك؟ ألن يؤدي ذلك الى نفس النتائج والاضرار التي أحاطت بما سبقهم  ؟
مالذي يدعو الحكومة الان  الى ان تلجأ الى نفس الاساليب الخاطئة  التي كانت تعيبها على من سبقها من الحكومات في التعامل مع الاحداث ؟ سؤال ينبغي الاجابة عليه .
كان من الاخطاء الكبيرة التي تتحملها اولاً وأخيراً الولايات المتحدة الاميركية هو سيطرة الاحزاب الدينية على الحياة السياسية في العراق وبات واضحاً أن ذلك لم يكن  خطاً ارتكبته الادارة الاميركية  بل كان امراً مخططاً له من قبلها في تسهيل  صعود تلك الاحزاب الى الواجهة وقد يعود ذلك الى اسباب عدة كانت في حسبانها منها:
 - ابقاء العراق لاطول فترة ممكنة في حالة من التخبط (والفوضى الخلاقة) التي ستوفر لهاالحجة والزمن والجو الملائم للبقاء اطول فترة ممكنة دون ان تجد من يطالبها بمغادرة العراق .
- ولكي تزيد من تحطيم بنية المجتمع العراقي الذي سيغرق في دوامة من الخرافات والجهل والعنف ، ليست هنالك من بيئة اكثر صلاحية لها من هذه  لبقائها واقامة قواعدها وتهيئة الارضية المناسبة لتكبيل البلاد بقيود ثقيلة من المعاهدات والاتفاقيات.
إن  صدام حسين لم يكن يشكل عقبة او مشكلة تؤرق الحكومة الاميركية لاتستطيع حلها وهي القوة العظمى القادرة على حلها فيما لو ارادت ذلك دون الخوض في حروب تجهز لها جيوش العالم  ولنا في التاريخ المعاصر تجارب شهدناها تثبت قدرتها على ازاحة زعماء وحكومات لايشكل صدام حسين من حيث القوة شيئاً امامها وابسط مثال هو الاتحاد السوفيتي بكل جمهورياته وترسانته العسكرية والنووية الذي اسقطته اميركا دون ان تورط نفسها في مواجهة عسكرية معه . فكيف الحال بدولة صغيرة مثل العراق قياساً الى سعة الاتحاد السوفيتي وامكاناته العسكرية والاقتصادية . فماذا يشكل صدام حسين هنا إزاء هذه المعادلة ؟
المسالة إذن لم تكن بالخطورة التي كان يشكلها نظام حسين كما روجت اميركا ووسائل الاعلام الغربي المتواطىء معها .
كانت الادارة الاميركية بكل الحكومات التي تعاقبت عليها تفكر في ايجاد الغطاء والمبررللدخول الى منطقة الخليج  دون ان تتسبب في احداث رد فعل دولي ضدها . وقد اعطى صدام حسين هذه الفرصة لها على طبق من ذهب دون ان يدري،حينما اتخذ قرار غزو الكويت منساقاً وراء ردود افعاله المتسرعة التي غالباً ماكانت تقوده الى اتخاذ قررات خاطئة لايمكن للبلاد أن  تتفادى مخاطرها وتداعياتها . وهنا كان مقتل النظام السابق الذي كان قد علّق مستقبل البلاد بشخص واحد ،ولاأحد يستطيع  أن يرده عن قرارخاطىء يتخذه  وبالتالي تدفع ثمنه البلاد..
  وتبعاً لذلك كان من المنطقي أن يكون من مصلحة الادارة الاميركية التي قادت التحالف الدولي لاسقاط نظام صدام حسين وأحتلال العراق ان لايقود العراق بعد ذلك احزاب ليبرالية أوعلمانية كافحت طويلاً من اجل حرية ومستقبل العراق عقوداً طويلة .
 ومن المؤسف جداً بعد كل المحن أن يقع بلد مهم وكبير وحيوي مثل العراق بأيدي احزاب وزعامات تحكمها ايدلوجيات دينية، كانت سببا رئيسياً في الفشل  بأدارة البلاد .
كان رهان الشعب  كبيراًقبل التاسع من نيسان عام 2003 على الاحزاب
ألتي كانت تعارض صدام حسين في ان يكون على يديها الحل للخروج من تلك الازمات الازلية التي نخرت جسد الدولة العراقية منذ عام 1958  تلك السنة التي قفز العسكر فيها الى الحكم واسقطوا البلاد في سلسلة من  الانقلابات والفوضى المتعاقبة.
وجاءت الاعوام التي تلت سقوط عام 2003 لترسم صورة اخرى اكثر مرارة للزمن الذي يحيا بظله الانسان العراقي ،زمن تجزأ فيه كل شيىء. الجغرافية والدين والوطنية والحق والعدالة والشرف وبذلك لم يسلم من عفونة الفكر الطائفي أي شيىء.
لقد أمن الناس في السنة الاولى التي اعقبت عام 2003  بأن الغد يحمل بين طياته الكثير من الاحلام والوعود الجميلة التي طالما كانت مكسورة ومجروحة بين جوانحهم . لكن سرعان ماتبددت تلك الوعود الكاذبة.  واتضح أن ليس هنالك من  مشاريع كبرى قد  تنهض باقتصاد البلاد ، ولامساكن للفقراء تأويهم تحت سقفها بعيداً عن الخيام و بيوت الصفيح والطين ولاإنصافَ للمظلومين الذين قبعوا في السجون سنين طويلة لانهم نطقوا بكلام ألحق في ازمنة لاتعرف الحق ، ولاعقاب للصوص والمجرمين اللذين انتفخت بطونهم وجيوبهم وهم يسرقون المال العام  ولاتشغيل لجيش عرمرم من  العاطلين عن العمل ، ولاكرامة للانسان  أمام شرطي ،ولاحصانة لشرف النساء والرجال في السجون والمعتقلات  ولارحمة للعاجزين كبار السن في اواخر ايامهم ، ولاشفقة للاطفال الذين حرموا من طفولتهم ، ولانظافة للشوارع التي تتكدس فيهاالقذارة والازبال التي صارت عنوانا لبلد اسمه العراق، ولاملاحقة للمجرمين  الذين يستبيحون الدم الانساني بأبشع الطرق وأخسها، ولاعقاب للمستهترين بأموال الناس ،ولاتعويض لمن خسر عمره وشبابه يدافع عن الوطن سنين طويلة .
كانت السنوات السبع التي مضت من عمرالعراقيين وهم ينتظرون ويتأملون ان يأتي الغد الذي وعدوا به وبما سيحمل من برق ورعود وخير وفير يعوضهم عن سنين الحرمان ماهي إلاّ عقود حفلت بالموت والرعب والخوف والقتل والذبح والتهجير والسرقة . واخيراً وليس اخراً الكذب .

ان  التهم الجاهزة التي باتت ترميها الحكومة  على كل منتقديها بعد كل انهيارامني تشهده البلاد  من المؤكد سيغرق البلاد بالدم والعنف والخراب يوماً بعد اخر لان هذا الاسلوب في رمي التهم الجاهزة على جهات محددة قبل اجراء اي تحقيق يعني أولاً وأخراً التغطية على القتلة الحقيقين والمساهمة الواضحة في عدم سقوطهم بأيدي العدالة واعطائهم الفرصة السانحة لكي يعاودوا مرة اخرى لارتكاب جرائمهم . وهنا تصبح الدولة شاءت ذلك ام أبت في موضع شبهة  فيما يجري من عنف وخراب .
ومتى ماتراجعت الاحزاب الكبيرة عن اسسها الايدولوجية الضيقة التي قامت عليها (دينية ، طائفية، عنصرية  ) وأعادت صياغة بنيتها الفكرية على اسس انسانية ووطنية فقط مستبعدة كل المنطلقات والاسس الضيقة والمهلكة التي اشرنا اليها ، عند ذاك تكون قد وضعت لنفسها وللبلاد الاسس السليمة والقوية لبناء دولة معافاة من العنف والتطرف .

ولكي يتم الوصول الى ذلك الهدف النبيل في بناء دولة تحقق الامان والعيش الكريم لكل ابناءها دونما تمييز قائم على عرق او دين او طائفة ينبغي :

-   فصل الدين عن الدولة:  فمامضى من سنوات عجاف بعد التاسع من نيسان 2003 والتي هيمنت عليها احزاب دينية ، اثبتت للناس البسطاء قبل غيرهم من المثقفين والمفكرين ان الاحزاب الدينية لاتملك مشروعاً وطنياً يرتقي بالبلاد الى مستوى افضل ولاينتشل المجتمع ولاألانسان من برك ومستنقعات أسنة طالما غيّبت وعيه وجردته من انتمائه الانساني والوطني لتسقطه في منحدر القبلية والطائفية والمناطقية ..
 
-   صياغة واقرار قانون ينظم اسس وبناء الاحزاب السياسية . بما يعني استبعاد ورفض قيام اي تنظيم حزبي وسياسي يتشكل وفقاً لاجندة واهداف واسس دينية أو طائفية أو عنصرية . لان في صياغة مثل هذا القانون يعني تقديم المشروع الوطني وتغليبه على كل المشاريع الضيقة الاخرى في تأسيس اي حزب . ومما يعني ايضاً غلبة اصحاب  الكفاءة العلمية والخبرة العملية في حضورها الكمي والكيفي داخل القواعد والقيادات للاحزاب السياسية .
-   الغاء المحاصصة الطائفية والعرقية من الحياة السياسية ومن الدستور العراقي . والتعامل مع المواطن العراقي وفقاً لهويته الوطنية فقط .  بعد أن اثبتت تجربة السنين السبع الماضية ان المحاصصة بكل اشكالها قد اصابت عجلة الدولة العراقية بالشلل والفساد حين اعطت الفرصة للرجل الغير مناسب في المكان المناسب بفعل المحاصصة البغيضة . ومن هنا امست الدولة العراقية تحت رحمة من لاينتمي لها ولايدافع عنها ولاعن مصالحها بل جاء الى المنصب واقصى مايسعى اليه هو التعبير عن طائفته وقوميته بالتقاطع مع مصالح الطوائف والقوميات العراقية الاخرى ولتكون الدولة العراقية هي الخاسر الاكبر في نهاية هذه اللعبة القذرة .

-   تعزيزثقة الدولة بالمواطن بكل مؤسساتهاالتنفيذية واعطاءه الفرصة كاملة للمشاركة في صنع واتخاذ القرارات بعد ان ارتكبت كل الحكومات السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية خطأ استبعاد المواطن عن المساهمة الفاعلة في صنع مستقبل البلاد وكانت الدولة تكتفي فقط بالاحتماء به والالتجاء إليه حينما تواجهها محنة اوازمة خارجية تهدد مستقبلها . وبعد أن  تسفك الدماء الطاهرة دفاعاً عن الحكومة والدولة وتعود الاوضاع الى مايبقي الحكومة سالمة تعود اجهزة الدولة مرة اخرى الى استبعاد المواطن من دائرة اهتمامها ومن فاعلية مشاركته في صنع القرارات .

-   رغم كل الملاحظات السلبية التي اشرنا اليها إلاّ أننا نمتلك من الايمان بالغد الشيىء الكبير بأن هنالك الكثير المخلصين والشرفاء داخل تنظيمات الاحزاب التي تحكم العراق وممن يمتلكون الفكر الواضح والنوايا الصادقة والقدرة الكافية على اصلاح اوضاع البلاد والسير بها الى ضفة اخرى اكثر اتساعاً وحرية واماناً لجميع العراقين . لان العراق بلد حي وهذا سر بقاءه رغم كل النكبات والطعنات التي وشمت جسده إلاّ أن روحه بقيت تنبض بالحياة والحب والشعر ولولا سر تعلقه بالغد وبالحياة والتي عبر عنها منذ الاف السنين قبل الميلاد في ملحمة كلكامش . لما بقيت ارضه تنجب الشعراء والمفكرين الذين ملاءواكل بقاع الارض .






                                                                 مروان ياسين الدليمي
                                                                       العراق           

                       


157
حرب مهلكة تدق الابواب . .



لاأحد يستطيع أن ينكر بأن المجتمع الموصلي ولعقود من السنين كان معافى من علاقات التطرف فيما بين الاطياف التي تكونه من عرب وأكراد  ومسيحيين وأكراد ويزيدية وشبك ،وحتى تلك الفترات التي اصطبغت بصراعات دموية لم تكن إلاّ بتأثير الصراعات السياسية  ولم يتورط بها عامة الناس البسطاء وهذا ماحدث بالضبط بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها الشواف عام 59 في محاولة منه لتصفية حسابات بينه وبين الزعيم عبد الكريم قاسم  كانت لاتخرج عن نطاق الصراع على السلطة وكرسي الحكم .
 ان  التوافق الاجتماعي الذي كان ولم يزل سمة للمجتمع الموصلي خصوصاً والعراقي عموماً دائماً ماكان السياسيون العراقيون  يسعون لاستثماره من اجل الوصول الى غاياتهم ،وليس من اجل تعزيزه وادامته لالشيء الا َ من اجل كسب الاصوات وتوسيع القاعدةالحزبية  حتى لو كان ثمن ذلك  الدفع بالاحداث الى التوتر والانفجار  فليس  مهماً ما قد يسقط من ضحايا ابرياء ،لان موتهم سيتم استثماره في اخر الامروليصبح الضحايا المساكين في المحصلة النهائية غنيمة لتلك الاحزاب التي ستسرع  في رفع لافتات سوداء بهذه المناسبة  ترفع فوق المقرات الحزبية .
هذا هو ماشهدته الساحة السياسية العراقية بكل معاركها وتعقيداتها الدموية  منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1922وحتى التاسع من نيسان عام2003
 بل ازدادت الاوضاع تعقيدا وسوءاً واحتقانا مبرمجاً أفتقد إلى النظرة السليمة التي تدعوا اولاً الى بناء دولة تخلو من كل الاخطاء الكارثية التي كانت تحملها الدولة العراقية طيلة قرن من الزمان .
فبدلاً من ان تُقبر الطائفية تم الترويج بشكل مؤدلج وصريح لكل ماهو طائفي وبدلاً من انصاف الشعب العراقي المقهور بكل حقوقه الانسانية التي سلبت منه لعقود طويلة وجعلته في ادنى درجات السلم قياسا الى كل شعوب الارض عامة وشعوب المنطقة العربية امسى الشعب العراقي عرضة مرة اخرى لجشع الفاسدين الذين بدأوا يمتصون دمه وغذاءه وصحته مقابل صفقات فاسدة من الاغذية والادوية تدر عليهم بمليارات من الدولارات لهم وللاولادهم واقربائهم . وبدلا من ان يعود الذين كانوا قد غادروا مرغمين من بلدهم هرباً من غياب الحرية  اضيفت اليهم الملايين من الهاربين هرباً من دكتاتورية الاحزاب الطائفية والمليشيات وفرق الموت وعصابات الجريمة المنظمة   .
 وهنا اتسأل عمايحدث الان في الموصل . من هوالخاسر ومن هو المستفيد من اجواء الصراعات القائمة التي بدأت تشهدها الموصل بعد احداث التاسع من نيسان عام 2003 ؟
 لن أتردد في القول  :ان الكل سيكون خاسرا في نهاية الصراع الذي لن تكون له نهاية ،  وللاسف الشديد لن أكون متشائماً حين اقول بأننا سوف  لن نشهد والى مابعد خمسين عاما من الان نهاية هذا الصراع !
 قد اكون متشائما في نظر البعض لكني لن كون متفائلا ابدا على حساب القفز على حقائق وطبيعة الصراع القائم وطريقة معالجته .
 لقد دفع المواطن الموصلي ولوحده الثمن ولم يزل، وبالتالي خسرت المدينة كل الفرص التي كانت متاحة امامها من اجل النمو والازدهار وغادرها رجال الاعمال والتجار ليستثمروا اموالهم في الدول المجاورة . كما غادرها الكثير الكثير من خيرة الاطباء والجراحين الاكفاء الذين ذاعت سمعتهم داخل وخارج البلاد وهكذا الحال مع بقية اصحاب الشهادات العلمية في معظم الاختصاصات . ويوماً بعد اخر وسنة بعد اخرى تحولت المدينة الى خراب . حتى ان هنالك عدداً من الاحياء الكبيرة من المدينة وخصوصاً في الجانب الايمن منه مثل حي اليرموك والاصلاح الزراعي ودورة بغداد وموصل الجديدة وباب البيض ورأس الجادة والمأمون وتل الرمان والمنصور وحي العامل والرسالة . امست أمكنة يعم الخراب والدماركل الطرق المؤدية اليها وفيها وتعطلت فيها عجلة الحياة بكل اوجهها لما شهدته من انفجارات ومواجهات مسلحة بشكل يومي منذ عام 2004 وحتى وقت قريب من عام 2009 الذي شهد انخفاضاً ملحوظاً في صور العنف فيها .

لقد عملت  اطراف  عدة الى نسف الهدؤ والاستقرار الذي تميزت به المدينة من بين كل المدن العراقية بعد التاسع من نيسان عام 2003 إذ  لم تشهد المدينة خلال عام كامل من بعد السقوط اي مظهر من مظاهر العنف التي اتسمت  به بقية مدن العراق بل استمرت الحياة فيها وكأن شيئاً لم يحدث ،  لتثبت لكل العراقيين سلوكاً حضارياً ومدنياً وسياسياً متقدماً فاجأ الجميع سواء كانوا ساسة عراقيون أم غيرهم ، على عكس ماكان شائعاً عنها ويروج له الكثير من  الاطراف  بأن  المدينة  بمواطنيها  وخصوصاً العرب منهم على أنها من  المدن التي  تحسب  بولائها  التام والمحسوم للنظام السابق  .إلاً أن ماشهدته المدينة من هدؤ واستقرار خلال العام الذي تبع سقوط بغداد  أثبت للجميع  ان سكان المدينة وفي المقدمة منهم العرب ليسوا كما كان يتصور البعض بتبعيتهم العمياء  لشخص أو جهة . بل كانوا
كغيرهم من العراقيين لايسعون الا من اجل العيش بسلام وأمان  وهذا ماأثار استغراب  الكثير ممن كان يحمل فكرة خاطئة عنها ،كما اثار  ذلك نوازع الشر لدى البعض الاخر  ممن كانوا يخططون لان تجري الاحداث  في المدينة بعد سقوط النظام على غير هذا المسار المتمدن الذي يعكس طبيعتها الحضارية التي عرفت بها منذ ازمنة بعيدة منساقين وراء دوافع شتى كانت تحركهم  !. وعلى ذلك  انتشرت في المدينة في أول الامر، حرب اعلامية دعائية ضدها ، تم الترويج لها عبر العديد من ( النُّكات) التي بدأ الموصليون يسمعونها والتي كان تصفهم( بالجبن والضعف وتشبههم
بالدجاج !)مقارنة بالمدن العراقية الاخرى التي كانت تشهد صراعات دموية بكل الالوان والاشكال  .
لم يكن سهلا على تلك القوى ان تجد رجالات المدينة بكل قومياتهم واديانهم وطوائفهم  وقد احتكموا الى العقل والى ارث عميق وغني من العلاقات الانسانية الطيبة التي تربطهم في مواجهة ماكان يخطط لها من  اجل توريط المدينة واهلها في لعبة خطرة  ومكشوفة لديهم ، ذلك لانها سبق ان مرت بظروف صعبة ومُرّة  في فترات ليست ببعيدة عن ذاكرة  الكثير من اجيالها التي عاشت تلك الاحداث وعانت من جراءها . لذا كان اهل المدينة قد حفظوا ذاك الدرس جيدا وحتى الاجيال الجديدة كانت  قد ورثت  الحكمة عن تلك  الاجيال التي سبقتها . الا ان اطرافاً سياسية  ابت إلاّ ان تزج أبناء المدينة في صراع خاسر ، له بداية ولكن ليس له من  نهاية، وهاهي الايام تتوالى على ابناء الموصل وهم يدفعون الثمن غالياً من ابنائهم الابرياء ، علماء اطباء ورجال قانون ولاأحد يعلم من القاتل ولن يعلم احد من القاتل!
 لان اللعبة شائكة ومعقدة ولها اوجه متعددة ويبدوأن جزأً من اللعبة أن لايتم الكشف عن القتلة والمأجورين الذين كانوا الاداة في عمليات التنفيذ كما هو الحال بما يحدث في بغداد من تفجيرات كارثية .
وانا على يقين تام بأن يوم الكشف عن اسماء القتلة سيبقى مطوياً الى يوم
الدين.
ورغم ذلك فأننا  سنخاطب ماتبقى من ضمير وانسانية لدى الاطراف الفاعلة على ارض الموصل ، لعلهم يستثمرون أية  فرصة تتاح لهم ليحتكموا الى العقل ويرموا بكل اسلحة التخوين والترهيب والتخويف والتاجيج والتحريض والتزييف ، ويلتقوا وجها لوجه عند النقاط المشتركة  الكثيرة والتي لاخلاف عليها  . 
لقد عانت شعوب المنطقة من المتاجرة بالقضية الفلسطينية من قبل كل الحكام العرب دون استثناء ولم تزل حتى هذه اللحظة ، لالشيءإلاّ من اجل الحفاظ على المناصب والزعامات الفارغة التي أهلكت ألاجيال وداست على احلامها باحذيتها، بحجة النضال ضد الصهيونية والاستعمار وتحرير فلسطين من الغاصب المحتل  ولم تكن تلك، إلاّ شعارات فجة وكاذبة انطلت على أجيال وأجيال، وضاعت بالتالي على البلدان فرصة النمو والاستقرار والعيش الكريم  وقبع الشرفاء في السجون والمعتقلات وأُلصقت بهم شتى التهم من الخيانة الى العمالة  لالشيء إلاّ لأنهم لم ينخدعوا كبقية طبقات وفئات الشعب بالشعارات التي كان الزعماءالابطال والحكام الافذاذ يحشون بها ادمغة الشعوب العربية  المسكينة والتي سعى ولم يزل كل الحكام الى بقاءها خائفة وجائعة وجاهلة لكي يسهل دفعها الى جبهات الموت بعد أن يتم خداعها بشتى الاضاليل التي تقنعها بأنها ذاهبة الى جنات الخلد لتحيا مع الشهداء والصديقين .
وهانحن اليوم نعيش بداية كارثة تبدو ملامحها واضحة جداً لكل عاقل . فالحرب المهلكة التي تستعد لتدق ابواب الموصليين امست قاب قوسين أوأدنى ، ولو قامت لاسامح الله لأحرقت في اتونها الجميع ولن ينجو منها
 أحد،بعيداً كان أوقريباً، والثمن سيكون باهظاً ،لأنه لن يحسم في يوم ولافي سنة ولافي عقود من السنين. 
لذا ينبغي على كل الاطراف المتصارعة على ارض  الموصل ان تلتقي وتجلس حول مائدة الحوار وتفتح صفحة جديدة ،  فيها الكثير من التنازل عن كل مايثير الاحتدام والاقتتال . وأن يضعوا في حسبانهم ماعاناه الشعب العراقي عموماً  من حرمان وقهر وتجهيل وموت منذ تأسيس الدولة العراقية التي بنيت  كثير من اسسها على مفاهيم  خاطئة وغير منصفة للكثير من القوى المجتمعية المهمة داخل بنية الشعب العراقي .
إن الفرصة الان  متاحة لكي يتم البدء بمسار جديد ،  بعيدا عن المصالح الضيقة وقريباً من الامنيات الواسعة لتطلعات هذا   الشعب المسكين . والاّ ستكون النهاية خسارة للجميع  .
 



                                                 مروان ياسين الدليمي





158
إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس . فتذكر قدرة الله عليك


                                                          علي بن ابي طالب (رض)




ماحدث من اقتحام وحشي لمعسكر اشرف من قبل قوات امنية  تابعة للحكومة العراقية يعد امراً مخالفاً لكل الاعراف والاصول الانسانية والقانونية المتفق عليها دولياً . اضافة الى خروجها عن تعاليم واخلاق الديانة الاسلامية التي تحرص كل الحرص على حياة وكرامة من كان اسيراً . كما أن التقاليد والاعراف الاجتماعية العربية لاتسمح مطلقاً بالعبث والاستهتار بمن التجأ اليك والى ارضك محتمياً بك .
 من هنا فإن ماتم اقترافه من جرائم ضد سكان عزل في معسكر اشرف ومن قبل عناصر الشرطة والجيش العراقي يستحق الادانة والمساءلة القانونية امام الهيئات الدولية . لكشف المتورطين بهذا الفعل بشكل مباشر . وكذلك لكشف من اصدر الاوامر ، ومن كان يقف محرضاً على ذلك .
ان الحكومة العراقية الحالية  هي بأمس ماتكون الى ان تقدم للعالم صورة اخرى غير تلك التي كان النظام السابق عليها والتي كانت مثار سخرية العالم ورفضه والتي كانت سبباً في عزلته الدولية وسبباً في كل ازماته الداخلية والخارجية والتي ادت في نهاية الامر الى سقوطها الدراماتيكي السريع دون اسفٍ أو شفقة من عاقل ومساند للحرية والحق الانساني .
لذا لم تكن الحكومة العراقية بنظامها الديموقراطي التي روجت لتطبيقه بديلاً عن النظام الشمولي التي عارضته عقوداً طويلة ،بحاجة لان تضع نفسها في مثل هذا الموقف المخجل والذي لايؤكد قوتها ولايثبت صدق نواياها وشعاراتها الديموقراطية والانسانية المعلنة . بل على العكس تماماً هو يشير بوضوح تام الى ضعفها والى عدم نضجها وعدم وعيها بمسؤوليتها الاخلاقية والانسانية تجاه الاخرين الذين يملكون كامل الحق الانساني في التعبير عن مواقفهم تجاه حكوماتهم . متجاهلة تلك السنين التي كان فيها اغلب اعضاء واحزاب الحكومة العراقية التي تحكم الان لاجئين في دول اخرى . فماذا لو كانت تلك الدول قد تعاملت معهم بنفس الطريقة الوحشية التي تعاملت بها الحكومة العراقية مع سكان معسكر اشرف ، ماذا سيكون موقفهم انذاك ؟ وماذا سيقولون ؟ هل سيمنحون حكومات تلك الدول كامل الحق والعذر في سلوكها الهمجي معهم ؟ هل سيقبّلون ايايدهم تعبيراً عن شكرهم وامتنانهم لما ارتكبوه بحقهم ؟
لقد نسي رجال الحكم في العراق سنوات التشرد والمنفى بكل الامها وقسوتها . نسوا عذاب الحرمان من الوطن . ونسوا قسوة البعد عن الاهل والاحبة . نسوا قسوة الطغيان على الانسان . نسوا كل القيم النبيلة والوطنية الشريفة التي ذاقوا من اجلها عذاب المعتقلات والتعذيب والتهجير والنفي عقوداً من السنين بين المنافي والملاجىء . نسوا كل شيىء يوماً بعد اخر. ولم يعودوا يتذكرون شيئاً من كل ذاك. وكأنهم قد اصيبوا بحالة من فقدان الذاكرة والوعي . أو ان ذاكرتهم كانت مغيبة طيلة سنوات النظال والدفاع عن القيم والعدالة الانسانية وهاهي  قد عادت لهم بعد أن استلموا مقاليد السلطة والحكم  ! ؟
يامن كنتم تقارعون ظلم الدكتاتور : لم تكن هذه صورة  العراق التي  كنا نحلم برؤيتها عندما كنا نصغي لخطاباتكم عبر المحطات الاذاعية الموجهة من خارج الوطن ايام نضالكم الشريف. ليس هذا هو  الوطن الذي كنا نستشف ملامحه ونحن نقرأ سراً بياناتكم  وكتاباتكم  وأشعاركم  وتنظيراتكم  معرضين حياتنا ومستقبلنا ومستقبل عوائلنا لخطر الموت تحت
سياط الاجهزة الامنية التي لم تكن بأقل قسوة وشناعة مما ارتكبته قواتكم قبل ايام في معسكر اشرف .  لاتجعلوننا نشعر رغماً عنا بأننا كنا مخطئين في تعاطفنا معكم ايام كنتم معارضين للنظام السابق . لاتجعلونا نشعر بأنكم كنتم تخدعوننا في كل الشعارات التي رفعتموها ضد الظلم والقهر الذي كان يقع على الانسان العراقي . وأن كل الدماء الزكية التي اريقت من اجل حرية الانسان قد ذهبت سدىً وان كل الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن مستقبل العراق وحرية العراق كانوا مغفلين وحمقى ويستحقون ان نضحك عليهم كما تفعلون انتم الان حين لاتحترمون حرية الاخرين وكرامتهم الانسانية .لاتجعلوننا نشعر اننا كنا مخطئين حين ترفعنا بكامل وعينا وايماننا عن الطائفية وانتماءاتنا الطائفية ونحن نقف معكم ومع مشروعية  نظالكم .
تذكروا انكم تقودون بلداً اسمه العراق وليس من بلد اخر اسمه العراق بلد ليس ككل البلدان . ولاترتكبوا اخطاء كل الحكام الذين سبقوكم بالحكم حين لم يدركوا ابداً معنى ان يكون  الانسان حاكماً لبلد عريق وعظيم كالعراق إلاّسياسياً معاصراً واحداً فقط  وهو نوري السعيد . وهاهي الايام يوماً بعد اخر تثبت ذلك . 
يتوجب عليكم وانتم الان تقودون العراق  ان تكونوا اقوياء بحكتمكم . وأن لاتسيئون للانسان الضعيف ولاتدوسوا الضيف اللاجىء الى دياركم بأقدامكم وهمراتكم . .
 وتذكروا دوماً نعمة الله عليكم وانتم تحكمون العراق. كلما نظرتم الى الخلف وقلبتم صفحات مامضى من الايام والسنين .
 وتذكروا قول الامام علي رضي الله عنه : إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدر الله عليك .








                                                               مروان ياسين الدليمي



159
 
امسية ثقافية  للكاتب والناقد المسرحي مروان ياسين الدليمي

اقام البيت الثقافي في عينكاوا التابع لوزارة الثقافة والاعلام يوم الاحد  التاسع عشر من هذا الشهر امسية ثقافية  للكاتب والناقد المسرحي مروان ياسين الدليمي  تناول فيها تجربة الراحل الكبير  قاسم محمد . الذي وافاه الاجل قبل اسابيع في مدينة الامارات العربية المتحدة  عمر ناهز الستين عاما ً . بعد ان ترك وراءه ارثاً فنياً  مسرحياغاية في الاهمية .سواءفي مجال الكتابة او في مجال الاعمال والتجارب المسرحية التي اخرجها. والفنانين وقد حضر الامسية جمهورمن المثقفين والاعلاميين
قدم الكاتب مروان ياسين في الامسية دراسة نقدية لمسيرة الفنان قاسم محمد
تناول فيها تجربته الابداعية ابتدأً من عمله الاول النخلة والجيران الذي قدمه عام تسعة ستين من القرن الماضي بعد عودته من موسكو. مروواً بعد ذلك بكل المحاولات الجادة التي انجزها في تناوله للتراث ومحاولاته للتقريب بين المسرح والكثير من المقاربات الشكلية التي نقب عنها في ازمنة الماضي البعيد . والتي اطلق عليها في حينها  تسميات متعددة منها (الحالة المسرحية )(والسوق) (والمسرح الاحتفالي ) . ليصل الناقد مروان الى ان  قاسم محمد استطاع ان يهز اركان الثوابت الفنية على مستوى الشكل والموضوع . ويرتقي بالتجربة المسرحية وبدور المخرج الى فضاءات جديدة . 
   


160
في معرضه التشكيلي  الاخير :   الفنان احمد دخيل



ألحنين . .  إلى المنابع ألاولى
 والبحث ، عن المدينة المفقودة .


الفنان احمد دخيل وجد نفسه امام تحد كبير وهو يقف امام اللوحة مابين المحافظة على التراث او الانسياق وراء الرؤى الغربية في نظرتها  الى النص التشكيلي . فكان نتاجه بالتالي يعكس ملامح تحولاته وانطلاقاته في تأصيل التشكيل باعتباره خطاباً جمالياً . فكانت مدينة الموصل  اسطورته التي ينطلق منهاللعودة الى الجذور وتمفصلات الحياة اليومية المحتشدة في ذاكرة الامكنة . والامكنة هنا تتشكل من خلال التركيزعلى الانساق المتمظهرة للاشياء .
 إن  النصوص التشكيلية للفنان دخيل تنتعش بسرديتها لمفردات الذاكرة المنسجمة مع المكان المتشكل في الوجدان حتى وان غاب عنه كملموس . هنا الذاكرة تعيد رسم طفولة ألاشياء عبر كتل لونية ومساحات مؤثثة بالمشاعر قبل الاشكال والخطوط الواضحة . و خلف الاشياء المشكّلة على سطح القماش هنالك دهشة واثارة في المفردات الواقعية التي تنشد الاحتفاء بكل ماهو واقعي الا ان رؤية الفنان لها تحيلها الى صياغات فنية تمنح العلاقات الثنائية مابين( الشباك والباب )( الزقاق والانسان)  (المرأة والنافذة) مساراً يلامس الوجدان عبر ايحاءات غامضة تتشكل من الكتل الموزعة على السطح بضربات شفافة وايقاع خافت يحيل المتلقي الى جو من الحنين والالفة.
 ان اعمال الفنان احمد دخيل ماهي الاً ابحار في فضاءات الازمنة البعيدة القريبة ومحاولات افتراضية للامساك بالمنابع الاولى . والنص البصري هنا يعبر عن عمق الشكل واللون في تأثيث الوحدات الواقعية بغلالات شفيفة فيها الكثير من مجازات التعبير عن مفردات  الحنين والوداع لاشياء تعاند المغادرة من ذاكرة الفنان والتي تبقى مشعة بظلال الماضي واساطير الواقع المعاش.
في تجربة الفنان دخيل لامكان للثرثرة البصرية في المساحات اللونية التي يمتلك الخبرة الواضحة في الكشف عن ماهو مخبؤ تحت الاشكال التي الفتها عيناه ، لتحلق تلك الاشكال العتيقة في بناءات لونية منسابة . .
ان نزعة الفنان هنا تميل ان تحيل اللحظات الماضية بكل سكونيتها وغموضها البعيد  إلى موتيفات تحمل عناصر التجربة البصرية لتندرج في اطار فن الرسم لا لشيء اخر . فالرسم لديه ليس سوى مدخلا للتجاور مع لحظات الاحتفاء التفصيلية لمظاهر الحياة الانسانية والاشياء ولاوجود لالتباسات التفسير والغموض المتقصدة . بل هنالك تأملودهشة في مسارات  مألوفة للعين.
بعد معارض ستة يأتي المعرض الاخير للفنان احمد دخيل الذي اقامه في منتصف شهر اذار الماضي 2009 على قاعة معهد الفنون الجميلة في الموصل . جاء هذا المعرض مكملاً لمشواره الفني الذي ابتدأه مع معرض الباتك الاول الذي اقامه عام 1976 في الموصل وبغداد .
 لقد مرت سنوات طويلة على ذاك المعرض ليصبح اثراً بعد متغيرات عديدة حصلت في اسلوبية الفنان ورؤيته للاشياء والمواد التي يستخدمها . غير ان الذي استقر في خضم كل تلك  التحولات التي شهدتها تجربة الفنان هي التقاطه المستمر لمفردات محلية تعج بها مدينته الموصل التي لم يبارحها في معظم اعماله بمايكفي لتصبح هي الموضوعة الاثيرة لديه وكأنه يعلن بذلك عن حضورها الوحيد في حياته، ولامدن اخرى يمكن ان يعثر فيها على مستقر لقلقه الجمالي  غير مدينة الموصل .


جاء المعرض الاخير احتفاءً بزمن اخر بدأ يختفي ويندثر امام فوض الموت المجاني الذي ينسج ايقاعه لحظة بعد اخرى ويوماً بعد اخر . وهو محاولة للعثور عن المدينة المفقودة في عالم متغير نحو الدمار والموت.
 هنالك الكثير من اشراقات الجمال التي ينتصر لها الفنان في عالم يخبو في عالم عابر لايتوقف امام الحكايات التي تفيض بها ازقة المدن / الحلم . .
لم يزل احمد دخيل في معرضه الاخير يقف عند النوافذ المفتوحة على الشوق والحنين مطلاً على جدران مشققة بالحكايا والقصص . تتميزاعماله الاخيرة  بقدرتها على احداث التجاوب والتماس الحميم مع مفراداتها الواقعية في سياقات افتراضية من الالوان في مسارات مترادفة مع المنظور الحديث في رؤية الاشياء. هنالك الكثير من الصور التراثية والفلكلورية في النصوص البصرية تحتشد بها لوحة الفنان دخيل دون ان يسقط في فخ النمطية والتكرار وهذا مامنح مشروعه تلك الاصرة القوية مع الحداثة . ان التفاته الدائم الى الوراء ليس الغاية منه الهروب او العجز عن تناول الراهن بل كان ذلك نوعا من الاحتكام الى مسرات جمالية لاتتواجد الا في البيئة الشعبية التي انتبه اليها الكثير من الفنانين الذين ينتمون لهذه المدينة ليعبروا من خلالها عن ذواتهم بكل احتمالاتها المتقلبة مابين الحاضر المؤلم والماضي الاسر الجميل . ان تاريخ الحركة التشكيلية العراقية زاخر بالاسماء التي نقبت في الماضي القريب من اجل انتاج نص بصري تحتشد فيه القيم اللونية والتكوينية المستندة على تمظهرات الواقع . والحركة التشكيلية في الموصل فيها الكثير من الاسماء التي لم تضع في حسابها إلاّ ألانغماس في الموروث المحلي والطبيعة المحلية لمدينتهم التي لها سحرها ووقعها الخاص عليهم . ابتداً من جيل الرواد نجيب يونس وضرار القدو وحازم الاطرقجي . مروراً بالاجيال الاخرى التي تبعتهم وجاءت بعدهم .
ان اصرار الفنان هنا للوقوف امام وجه المدينة المفقود بين طيات الزمن الحاضر المعبأ بالاسى والحزن . محاولاً استعادة ذاك الوجه بكل تفاصيله المغيبة امام هوس وجنون الشظايا والعبوات الناسفة للروح . ذاك الوجه الذي التصق بالذاكرة رغم ماتتعرض له من محاولات التهشيم والازاحة .
واستطاع احمد دخيل ان يجد لنفسه اسلوباً يميزه عن غيرمن الفنانين في تناوله للمفردات المعمارية المميزة لمدينته التي طالما تأملها بفرشاته منزوياً في دروبها العتيقة وجدران بيوتها العالية . وكأنه يراها للمرة الاولى وهو ينظر الى الظلال التي تحتمي بها الوجوه من حرارة الشمس  .






                                                مروان ياسين الدليمي
                                                      الموصل

161
ابحث عن مهنة اخرى . . .

                                                                           اذا كنت لاتصغي الى النقد .



من خلال متابعتي للحركة المسرحية في سهل نينوى وجدت ان هنالك تبايناً واضحاً في المستويات الفنية لكل الكوادر العاملة في في الفرق المسرحية  . وقد انعكس ذلك على مستوى الاعمال التي قدمتها تلك الفرق .
فمابين فرق ارتقت بمستوى الطروحات الفنية التي تضعها في مصاف الفرق المسرحيةالمتقدمة في العراق،  وفرق اخرى تحتاج الى جهد كبير في تدريب وتطوير عناصرها الفنية حتى تدرك القواعد والاصول الفنية في صياغة التجربة المسرحية .
 والاسباب التي قادت الى هذا التباين في مستوى الانتاج والفهم يعود الى حداثة التجربة بالنسبة لبعض الفرق التي لم يمضي على دخولها الى ميدان العمل الا سنين معدودة . وهي لم تقدم خلال تلك السنين سوى عدد محدود من الاعمال المسرحية  ومعظمها تم تقديمه اثناء الاحتفال بعدد من المناسبات الدينية او الوطنية متداخلة مع انشطة فنية لاصلة لها بالعمل
 الفني , اضافة الى ان معظم كوادر تلك الفرق هم من الهواة الذين لم يتلقوا المعرفة الاكاديمية في مؤسسات فنية اكاديمية الا ماندر من تلك  الكوادر والتي قد تملك شهادة فنية لكنها لم تتسلح بخبرة معرفية اكتسبتها بفعل التجربة والاستمرار .
 والاهم في هذا الموضوع هو الغياب التام للحركة النقديةالتي تواكب العروض المسرحية بعيداً عن (عبارات المجاملة ) والتي غالبا ماكانت سائدة في المتابعات الصحفية لاعمال الفرق المسرحية .
 ان غياب الحركة النقدية المسرحية السليمة  في سهل نينوى قد تسبب في الكثير من الامراض والاوهام لدى البعض . الذي ذهب بعيداً في اوهامه معتقداً جراء ذلك الوهم بأنه قد امتلك ناصية الفن والعبقرية التي تجعله بمنأى عن الاخطاء والفشل وهو لم يزل في اول الطريق !. وان كل مايقدمه ماهو الا تحفاً ثمينة من الفن الاصيل غير مسموح لاي ناقد ان يتناولها بالنقد والتحليل .
 ولوحدث أن  اخطأ احد النقاد واشار باصبعه الى بعض جوانب الخلل
 ـــ التي يمكن حتى الاسماء العظيمة ان تقع فيها  ـــ  لوجد نفسه متهماً بتهمة جاهزة  ترمى على كل من يتجرأ ويسجل ملاحظات ليس في صالح اعمالهم ( انك مدفوع من جهة او شخص ما ! ) . وماأسهلها من تهمة . .
 بهذه التهمة الجاهزة  يتم اختصار جهود كل النقاد والباحثين عن القيم الفنية . (فهم ليسوا إلاً اناس قد دفعتهم جهة ما للنيل من اعمال تلك الفرق ! )  وبهذه التهمة البائسة والرخيصة  : يشطبون على جهود المئات من النقاد الذين شهدتهم البشرية وانحنت لاعمالهم   منذ خمسة الاف سنة قبل الميلاد ابتدأً من ارسطو وانتهاء باحدث ناقد مسرحي في السنة التاسعة من بعد الالفين .
 وهم بذلك يتناسون ويتغافلون ـــ دون ان يعلموا ــ  ان المسرح لم يصل الى ماوصل اليه من تجارب حديثة بكل اشكالها وارهاصاتها إلاّ بوجود حركة نقدية رافقت التجربة المسرحية ووضعتها على مصطبة التشريع والنقد دون الاخذ بنظر الاعتبار اية علاقات شخصية اواية ظروف واجهت انتاج العمل . لان العمل ما أن يعرض على الجمهور يصبح ملكاً مشاعاً للجمهور المتلقين ،  ينظرون له وفقاً لتصوراتهم . كما أن نخبة النقاد يتعاملون معه على انه تجربة فنية ينبغي التوقف عندها وقراءتها نقدياً لمعرفة اسرارها .وتقييمها فنياً لوضعها في الاطار والمكان الذي تستحقه .
 ان من يشتغل في العمل المسرحي عليه ان لايكون متطيراً من النقد الذي لايجامله ولايصفق لعمله . بل ينبغي عليه  ان يتوقف امام اي كتابة نقدية تتعرض لعمله بمشرط التحليل لكل تفاصيل التجربة . من اجل ان يتعرف على مااستطاع التوصل اليه ونجح فيه، وما فشل في الوصول اليه . وذلك سوف يصب في نهاية الامر لبناء تجربته مستقبلاً بشكل افضل .
 اما اذا كان رد فعل الفنان  سلبياً وعنيفاً مع من  لايتفق مع عمله الفني فمن الاجدى له ان يبحث له عن مهنة اخرى لاتحتاج الى نقاد ولا الى جمهور ومثل هذه المهن الشريفة كثيرة في الحياة والتي يمارسها كل عباد الله البسطاء .
 ولكن طالما اختار الواحد منّا أن  يقتحم التجربة الفنية بكل ظروفها ومغامراتها وصعوباتها  فينبغي عليه  ان يتحمل كل النتائج بشجاعة وعقل متفتح،وان  يصغي لللاخرين ولملاحظاتهم ولايتعالى عليها،  والاهم من ذلك ان لايبقى أسيراً  لتصوره الدائم  بأن ألاخرين مدفوعين ضده ! خصوصاً اذا كان  هذا الفنان في اول الطريق الفني .  هذا الطريق الشائك والصعب والذي  يحتاج الى الكثير من الصبر والتواضع والكثير الكثير من الوعي واحترام اراء الاخرين . هكذا استطاع يوجين يونسكو وارابال وصموئيل بيكت واوزبورن وكل كتاب المسرح الطليعي الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية بكل كتاباتهم التي تجاوزت المألوف والتقليدي في الطرح والمعالجة . استطاعوا ان يغيروا وجه ومسار المسرح العالمي ،  بعد ان كان النقاد قد قالوا عنهم في اول ظهورهم بأن كتاباتهم لاتساوي شيئاً ولاتستحق ان تكون ورقاً للتواليت ! ماذا فعلوا  أنذاك  حين قيل عنهم ذاك الكلام ؟ هل اقاموا الدنيا واقعدوها ؟  هل طالبوا بمناظرات تلفزيونية  لتأكيد صحة كتاباتهم ؟  هل اتهموا النقاد بأنهم مدفوعين ضدهم ؟  بل على العكس من ذلك . قرأوا كل ماكتب عنهم وتوقفوا عنده  متاملين إلاّ انهم استمروا في مشوارهم الطويل . حتى استطاعوا ان يصبحوا قادة التغيير في القيم والمفاهيم المسرحية . . اخيراً اقول علينا ان نكون متواضعين امام تجاربنا وان لانخدع انفسنا بأنفسنا فليس بيننا غروتوفسكي ولابيتر بروك ولا أريان موشكين ولاشاينا . والشجرة المثمرة تميل دائماً  .




                                             مروان ياسين الدليمي

162
إعتزال فنان مسرحي  . .  رُغماً عنهُ !

حتى لايقتل الصمت الكافر . .  ابناءنا المبدعين . .



الفنان طلال الحسيني ينتمي الى جيل جديد يملك وعياً وحساسية جديدة في فهم العمل المسرحي ، كذلك في رؤيته،  لشخصية الفنان التي تم تداولها من قبل الاجيال التي سبقتهم ،  بمفاهيم سطحية ومهزمومة ،  امام اشكال المتراكمات الاجتماعيات المتعفنة في طقوس وتقاليد جاهزة .
 اعلن  جيل طلال الحسيني عن ظهوره في مطلع سبعينات القرن الماضي ليتربع على عرش خشبة المسرح طيلة عقدين من الزمان مابين ممثل (طلال الحسيني ومحمد العمر ومنهل احمد ومروان ياسين ) ومخرج
( عبد الرزاق ابراهيم وموفق الطائي ) .
كان هذا الجيل يحمل في داخله ثقافة جديدة، اختارت اليقظة الاكاديمية في خطابها الفني، متزامنة مع حركية التغيير الاجتماعي التي بدأت تؤكد خصوصية معاييرها الجديدة  . .  ومنذ اللحظة الاولى لظهور هذا  ألجيل وجد نفسه امام مواجهة شرسة مع اقطابٍ ورموزٍ كاذبة ٍلم يعد لديها شيئاً يمكن ان تقوله وتقدمه على الخشبة،  بل انكشفت بفعل تلك المواجهة  الفنية كل الكلائش المستهلكة والقوالب الطنانة والفارغة التي كان الجيل السابق يجترّها ويتقيئّئها على الخشبة . بفعل ماإمتلكه جيل طلال الحسيني من استيعاب وفهم واستلهام للمناهج الفنية العلمية التي تسعى لتطوير الادوات التعبيرية انطلاقاً من التنقيب في مستويات واغوار عالم الذات الانسانية، مبتعدين عن كل الاساليب والاقنعة الجاهزة التي طالما إتكأ عليها الجيل السابق لهم . كما عبرجيل الحسيني 
بحظورهم الفني ، عمّا ينبغي ان يكون عليه موقف الفنان، ازاء العلاقة التي تحكمه مع مجتمعه، من خلال حرصهم على تأكيد الموقف الوطني والانساني للفنان، رافضين السقوط في مستقنع التبعية للاخرين أوالانجرار وراء المكاسب السريعة التي غالباً مايكون ثمنها قمعاً واسكاتاً لصوت الضمير .
 
ولم تهدأ حركتهم طيلة اكثر من ربع قرن ،حتى جاءت فترة الحصار الاقتصادي الدولي التي فرضت على العراق طيلة عقد التسعينات ، ليختار معظم افراد هذا الجيل الركون إلى الصمت والمراقبة من بعيد ،  بعد ان اجتاحت مسارح العراق موجة كارثية من المسرح الرديء الذي اعتمد على  مخاطبة الغرائز المنحطة في الانسان ،  وقد سقط في حبائل ذاك المسرح الكثير من الفنانين وفي مقدمتهم اسماء كثير من الاجيال التي سبقت جيل الحسيني،  ولم يعد هنالك من علامة فارقة يمكن للمتفرج من خلالها  ان يميز مايتم تقديمه على خشبة المسرح،  ومايقدم في مواخير الملاهي اللليلية.  .  وذلك : لانّ من كان يعمل في تلك الملاهي وبعد قرار اغلاقها من قبل السلطات الحكومية  انذاك انتقل مباشرة للعمل  على خشبة المسرح.  وبالتالي لتسصبح اسماء معروفة ومتدوالة أنذاك  في بيوتات الكاولية والمراقص الليلية والبيوتات المشبوهة الاخرى نجوما في سماء المسرح العراقي !  والذي كان رجاله ــ منذ البواكير الاولى لتأسيسه ـ هم  في طليعة القوى التي كانت تقف وتناصر قضايا الشعب العراقي المبتلى بحكومات فاسدة ، وكم ضاقت المعتقلات والسجون العراقية باسماء شريفة من الفنانين العراقين ،  لالشيء  ، إلاّ لأنهم كانوا ينتمون الى وطنهم فقط ،  بمهنية وانسانية عاليتين  .
إن طلال الحسيني وجيله  استمرارُ لذاك الجيل الوطني النبيل والذي  لم يشأ إلاّ أن يعلن عن نفسه بعد دخول قوات الاحتلال الى ارض العراق الطاهرة محاولاً أن يعيد رسم صورة الفنان من جديد وسط الفوضى والخراب اللذان بدأَ يعُمّان البلاد ،  بعد أن سقط من سقط في احضان المحتل ،وعقد العزم  مع عدد من الشباب على تقديم عمل مسرحي بعنوان
( أخرجوا ) كتب اشعاره كاتب المقال ،  ليتولى طلال عملية اعداده واخراجه للمسرح . إلاّ أنه لم يجد من يقدم له الدعم المالي لتقديم العمل سوى مبلغ رمزي بسيط تلقاه من نقابة الفنانين في الموصل ولايكفي هذا المبلغ أن يسدد  ثمن اجور طبع النص المسرحي .
 وذهبت كل المحاولات سدىً من اجل اقناع اطراف عدة لدعم انتاجية العمل ،  بل ان دائرة السينما والمسرح وبشخص رئيسها د. شفيق المهدي هي الاخرى مارست معه المماطلة والتجاهل ، رغم كل الاتصالات الهاتفية والتي غالبا ماكانت ً لا تجد اذاناً صاغية . كذلك مارست قوىً سياسية  محلية نفس الاساليب اياها  وفي محاولة منها لكسب ألوقت ، استثماره في عملية انتخاب مجالس المحافظات، وحين فشلت في سعيها الانتخابي ولم تحظى إلاّ بنسبة مخيبة لأمالها . اقفلت كل خطوطها الهاتفية مع الحسيني ولم تعد تكلف نفسها بالرد عليه . وهاهي الايام تمضي ولامن بارقة امل جديد يظهر في الافق يُحي الامال لدى الحسيني وممثليه الشباب الذين كانوا مندفعين بكل مشاعرهم من اجل تقديم عمل مسرحي امنوا به لانهم وجدوا فيه فرصة للتعبير عما يجول في خواطرهم وهم يرون وطنهم العراق على كف عفريت  يتناهبه السراق والافاقون . .
وأخيراً . .  وفي لحظة من لحظات اليأس والجزع ،  قرر طلال الحسيني مغادرة خشبة المسرح والاعتزال نهائياً عن العمل ـــ  وفي داخله غصة حارقة وخنجر مسموم مغروساً في ظهره ـ إحتجاجاً لما آلت إليه الامور من كذب ورياء . .

ومن هنا : أنا ادعو كل المخلصين في هذه المدينة والوطن ــ وهم كثر بلا أدنى شك ـــ  ان يقفوا مع هذا الفنان  المبدع والشريف ، من اجل أن لايقتل الصمت الكافر ابناءنا المبدعين ونأسف بالتالي وبعد فوات الاوان على غيابهم .


                                                         مروان ياسين الدليمي
                                                             18/ 3/ 2009
                                                                  الموصل

163
الفنان : منتصر بويا . .  في معرضه الاول


           
الخطوط والاشكال،
                         في الوصول الى الغايات .





فن الملصق واحد من الفنون التي عبر من خلالها الفنان التشكيلي عن رؤيته للمعاني والافكار منطلقاً من معالجات شكلية تكتسب خصوصيتها الواضحة من وظيفة هذ الفن . .  الفنان منتصر بويا واحد من الفنانين الشباب الذين يقفون عند الخطوة الاولى للولوج في مشاكسات هذا الفن الجميل . بمنتهى الشفافية وعبر الالوان الواضحة القصد والدلالة والخطوط المنسابة بمتعة وليونة مطلقة .
    جاءت اعمال الفنان منتصربويا في معرضه الاول لفن الملصق والذي اقامه على قاعة نادي شباب عينكاوا . كاشفاً عن طاقة واعدة في مضمار التجارب الفنية التي تقدم سلطةالفن على اي شيء اخر  ،
يتمسك فن الملصق بتفاصيل عالمه المتنوع رغم اشتباكه مع عالم اللوحة التشكيلية الثر ،إلا أن فن الملصق يحتفظ بسر حركيته وجمالياته إبتدأًمن هيمنةالبساطة والاختزال في بناء المفاهيم التي يسعى الى ترويجها .دون الولوج في عالم اللوحة التشكيلية المدجج بالتأويل والانفتاح على  متعة الغموض الاسر .
تأخذنا الموضوعات التي عالجها الفنان منتصر بويا على الرغم من بساطتها، الى الاستمتاع بحركة الخطوط واندفاعاتها الشعورية عبر اشكاله وخطوطه المرسومة   بأناقة وتكثيف في التفاصيل الفسلجية للكائن الانساني وهو في ذروة  لحظات فرحه وانطلاقه .
وليس ببعيد عن هذا الفنان الشاب القادم من حضارة يعود تأريخها الى اكثر من اربعة الاف سنة قبل الميلاد أن يلتفت الى الماضي الحضاري البعيد للامساك بالنقاط المضيئة من تلك الازمنةالقادمة من حضارة وادي الرافدين او من الحضارة الفرعونية  وإحالتها الى الزمن المعاصر
ليطرق من خلالها ظواهر وسطوح مرئية في ازمنة معاصرة له . لان الفنان ليس بأمكانه التحليق بسهولة وسط اشتباكات وتقاطعات ماهو راهن الى  ماهو اقتراب من مديات الروى والافكار التي تضج بها الحداثةالفنية إن لم يكن يمتلك فهماً وتصوراًواحتواءً لاشكال التعبيرفي  ألازمنة الموغلة من عمر حضارة الانسان .
إن التلميح بمحمولات النص البصري للفنان منتصر لايمرعبر مفردات لغة فنية متوارثة من مفردات الالفاظ الصورية التي اكتسبت شرعيتها من البيئة الفنية الضيقة التي فرضت عليه ان يكون مأٍسورا ًبانتماءه اليها. بل ينطلق من حيوية رصده لتركيبة الحركة العمودية للتشكيلات الانتاجية للحركةالفنية العراقية .
ورغم أن  فن الملصق الذي انشدّ اليه الفنان منتصرلايتيح له كما في الفن التشكيلي ان ينهل مما تحتشد به الذات من مخزون عاطفي  ولايتكىء على الذاكرة المعبأة بالصوروالاصوات والخدوش . إلا انه انطلق لتاسيس خطوط واشكال بسيطة ترتكز الى منظومة بصرية واضحة في توصيل غاياتها دون ان تتداخل مع بعضها ودون ان تتقاطع بالاحتدام . 

 
 


                                                            مروان ياسين



164
المنبر الحر / أنا . . غائب عنّي
« في: 18:42 29/12/2008  »
أنا . . غائب عنّي      


اهداء    :


إلى / يونس  صدّيق توفيق الحمداني
الى /  وجه  اضعته في زواية مغسولة بالترقب
مابين ارتباك بدويّ  يباعد بين نينوى الخجولة من خوفها
وبين حرارة الانفاس لاأصابع امراءة من روما، يتوهج الليل بحضورها قبلات، وهي تخطو  على قلب رصيف حجري في تورينو.
الى / بلاد لوّحنا لها فأشاحت بوجهها عنّا .
بلاد ، عودتنا أن تسحل ملوكها وتُربّي الذئاب  في ثكناتها ً 
لادَمْعَ سيُذرف على قبرها
لاوردَ سيُحمل الى نياشينها
لاأحد سيلتفت إليها
لاأحد سيمشي خلف جنازتها ، أمّا بالنسبة لي سأعلن الحداد على طريقتي 
:
أولاً سأطفىءالستلايت ، وثانياً سأرتشف قدحاًمن الشاي ، وأنا اقرأ أي  رواية لكارسيا ماركيز ، مستمتعاً بظل  شجرة برتقال، زرعتها بنفسي في حديقة الداريوم ولد ابني الوحيد محمد الطيب في  الخامس والعشرين من كانون الاول من العام الف وتسعمئة وتسعة وتسعين ، في مدينة الموصل ،مدينتي التي غادرتها مرغماً في السنة السابعة بعد الالفين . حرصا مني على ولدي  بأن يحيا حرا في بلد آمن لايقتل فيه الشرفاء .


     
الدخول الى متن الحكاية  :


كاذبة هذي البلاد في ابتسامتها لنا
امتهنت الكذب علينا ستين سنة 
في مراحيض العساكر من قادتها رمت احلامنا،
والعارفون منا :
الفاهمون المثقفون
 قوميون وشيوعيون وماركسيون
أخوان مسلمون وناصريون إشتراكيون .
كلهم دفنوا اسماءهم تحت بساطيل قادتها .
 لكسب الود منها وإرضاءً لخاطرها .

كيف خُدعنا ؟  .   .   .  لاأدري ! . . 
اذكر انّا رددنا اناشيد الثورة الاف المرات قبل الاكل وبعد الاكل ،
في ساعات ألنوم أو الصحو.
في اقصى  لحظات النشوة كل صباح في المدرسة .
والأوطان تلوذ بصمت مشبوه مطبق
 كانت  تقتل فينا الحب والرغبة في العيش!

نحن، لم نعد نشبه مانحن
نحن،  من إقترف  من حماقات تحت نجوم نامت في ثيابنا
نحن ، ماصنعنا من طغاة .
و نحن ايظاً ماقتلنا و مابكينا من اولائك  ألطغاة .
نحن اختلفنا عن الامس ، واختلف الامس عنا
الليل هنا  لم يغادرنا
 ثملاَ بالفؤوس يركض خلفنا
بحروب قصيرة جداً وحروب طويلة جداً
محترقا بنا
بخيباتنا المفخخة
بالرصاصات الطائشة 
بالشهوات العابرة .
بمن يتربص بنا
في زحمة الاسواق .
في  يوم الاحد بعد القداس
 في المكروباص
في الهاتف الخليوي
في المطعم
امام باب المسجد
في عرض مسرحي 
في صفيحة للزبالة
بمن يلاحقنا ليجز اعناقنا .

غير انّ يقظتنا،  نامت معنا ولم تقبل التعليق أوالهروب منا.
كان ألرهان على الموت ،
مَرّة  بقفازاتنا المتهرئة في رطوبة  الحانات
واخرى بعد ان نأكل اليقطين المدوّن في جدول أيامنا .
حين الرسائل غابت هي الاخرى عنّا
وأقتربنا من غيمة الكلام المر نمحو اسماءنا ،
نبادل الصمت ساعي البريد ، ونسجد في سجل الحضور وخانة الغياب،
 في ألخرائط التي ذرفتنا ولم تعد تتقن رؤيتنا .

أعرف أن  العمر بكفّيه قد  بعثرني وماعاد  يجدي التحديق بوجهي  وفي باطن كفي .
كما أعرف أن التشرد تداخَل فيّ، ولم يعد التلصص على الاخطاء
يدهشني.
وأعرف ان المعجزات حرة في حضورها الا معي .
وليس لي إلا أن ألقي بأسئلتي بوجه اسئلتي  ولن أنتظر اجوبة مني .
أنا حاضر .
بل أنا غائب عني ، مذ  قَتل المشيرالبراءة (1) في قصر الزهور، ومشى على سجادة حمراء الى مبنى الاذاعة   ليقرأ بيان الثورة ، وفي جيبه بيان اخر لانقلاب اخر،  ولم يكتف ،
 وقرأ البيان في مرة اخرى، لثورة  اخرى  ولم يكتف ، غسل كفيه بدم الزعيم  ولم يكتف . 
 والغربان فجراً على سقف قطار الموت(2) حطّت زاعقة، تنتظر الفا ومئة من الضحايا،   ولم تكتف، ضباطاً واطباءً ،مهندسين مدنيين وعسكريين ،
ستمضي العجلات بهم تحت لهيب الشمس الى حتفهم  ،
 من معسكر الرشيد حتى نكرة السلمان (3) . 
الخوف  عانقني انذاك ـــ دون أن ادري ـــ بخدوشه المُرّة في ذاكرتي ،
ولم يكتف ، بات  يحصى خطواتي والتفاتاتي والوان قمصاني واسماء صحبتي واسماء اعمامي واخوالي  ، ، من كان  يصلي ومن  كان  يحتسي  الخمر ، من هرب ، من هاجر،  من كان ضد الثورة ، ومن كان معها . من مات منهم ومن كان على قيد الحياة  .
تلك السنوات التي  كانت بطعم الفولاذ، اندست في اصابعي، وشطبت ماتبقى من دمي وافلاك ذاكرتي  . كانت المشانق فيها اهزوجة لنا . . . !

لِمَ المشانق؟
لِمَ ألفوارق؟
لم الحكمة لاتأتي إلا من فم الزعيم أو الفريق أوالعقيد  أو المهيب
أيعقل أن  يرسم أمي أوشرطي أو عريف في الجيش . 
 على قالب من الثلج أحلام أمة  !؟ 
لِمَ الضالعون بالقتل هم دائما احبابنا واسيادنا !؟ 
لِمَ الانقلابات الدموية  مثل الظل تتبعنا  ؟
   

من نحن ؟
كم سألناأنفسنا هذا السؤال   .
من نحن ؟
ونحن في  متاهة الاسلاك، نستيقظ على الفجرمغبراً في معسكر التاجي
أوفي نقطة تفتيش للحرس القومي(4)
اوفي جثة تسحل عارية على الاسفلت والشعب بصوت واحد يهتف (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) (5)
اوفي ليل يحاصرنا بالموت في حفر الباطن اوفي الشلامجة أوبنجوين أوعلى قمة جبل، يرقد فيه  فوج مغاوير الفرقة السابعة والثلاثين ، وضابط  التوجيه السياس يصرخ من جوف الملجأ ( ياحوم اتبع لوجرينا ) (6).

من نحن ؟
 سقط ألسؤال مع الثلج ــــ  شظاياــــ على وجوهنا ،أنا وبولص أدم
 توارت عنا اوهامنا  !
والطرقات التي  خبأنا فيها  اخطاءنا
سحلتها كلاب سائبة في بغداد او في منصورية الجبل اوفي الوزيرية او فندق الوفاء او في اكاديمية الفنون الجميلة اوفي مسرح الرشيد ، لاأدري .
وأجمل ألاشعارالتي دحسناهافي بساطيلنا، هي الاخرى  لم تعد تعرفنا .
ايّة مرارة قَذَفناعلى صحيفة داستها اقدام الركاب، حين عثرنا عليها تحت المقعد الجلدي ذي اللون البني الداكن  في  الباص الاحمرالبغدادي المُجهَد باخر جولة مابين ساحة الاندلس وباب المعظم ونحن سكارى  نضحك من جيوبنا الفارغة  بعد الساعة العاشرة  من ليل بغداد الثقيل .
لاصوت يأتي من كوكب الشرق يقيل الضجرمن  احاديث المقاهي
الحرب تعثرت بأعمارنا  ودهنت ماسورتها بقمصاننا المفتوحة للريح
َوالدم الطهور تدحرج على عتباتنا  مذ تهدج الصوت في ليلنا .
 صديقي بولص نسج قصة محكمة  لهروبه من ورطة الحرب .إستوحاها من عدة اشرطة سينمائية تجريبية ، وحين انتهى من كتابتها وجد نفسه فوق جبل ماوت،في كهف يقتسم الخبز اليابس في اخر ساعات  الليل مع البشمركة وبيده رشاش روسي  . كان البرد شديداً جداً خارج الكهف، حين اشعل سيكارة سومر وكتب رسالة لي يقول فيها  :

[ العزيز مروان . . في طريقي داخل مدينة  العمادية قابلني صلاح الريكاني من وراء زجاج سيارته، وعلمت بأنه أصبح (أبي نورس ) فكانت فرصة سريعة لكي استمع الى اصوات،  لم اسمعهامن سنتين ، وأتحدث معه بالعربية .
أنت الان تدريسي ومحمد (طالب ) وريسان . . . ووو. . .
تعلمت أن اتقبل المحتوم لأجعل منه شيئا مفيداً،  أنا الان  هارب أكثر مما ينبغي ، بدأًمن الحدود وحتى ايامي في ماوت وجوارته وأزمر وشوان والسليمانية ، وأيامي ألحالية كذلك في ديره لوك وديري وألعمادية ووو. .
موغل في صمتي،  سواءً حينما اضطرني واجبي مع فوج علي الحاج شعبان مؤخراً  ًلقضاءخمسةعشر يوماً بين الثلوج في مواجهة قبر والدي في قرية ديري المهجورة . . أو. . أوعندما كنت واقفاً في السيطرة الخارجية من السليمانية نحو ماوت الصيف الماضي . . أحدق في وجهه، ويحدق في وجهي  فقط وهو داخل (الايفا ) أقصد ( خالد النجار ) نجار لوائنا القديم (ريسان يعرفه ) دون أن نتحدث . . أردت أن أسأله عن ريسان العزيز مثلاً . . ولكنني بقيت واجماً على ( يَطَََََغي ) وبندقية الفرسان في يدي، ولأني علّقت الاسئلة فوق مشابك المستقبل، ولأني لم أعلم ماهو مصيرهُ في الليلة التالية ،
 ( تقدموا نحو مرتفع محاذي لمرتفعنا ) و. .
أنت تتوقع أن أكون متفائلاً جداً  ؟  وهذا صحيح . .
راقبتُ ببطء زوال صفات كثيرة مني ، وفي فترة التغرب هذه هربت من زمني نحو مجهول . .
والاسطورة الكردية (ممي ألآن) تقول بأن ( رأس الرجال ياولدي جبل عالٍ يجب أن يحيط بقمته الضباب وألدخان ) . .

أنني بحاجة إلى السلام وأرجوه لكم . .
أين حياتي الحقيقية ؟ وإلى متى سوف أعتقد بأن الانسان ليس بحيوان نصف عاقل بل كائن مخصص للخلود ؟ . تحياتي واشواقي والسلام . . وإلى ريسان  . .
التوقيع
بولص ايشو ادم
24/ 6/ 1988
العمادية .]
(7)

لِم َ اقتربنا من ظفيرة العتمة  ونسينا اصواتنا خلف ظهورنا كلما تشقق الوقت بحشرجة ؟
لِم البيوت التي سكنتنا تسربت من اصابعنا ؟
وتلك الظلال التي ركضنا خلفها هوت فوق رؤوسنا .؟
على تلك السلالم الحجرية  في اكاديمية الفنون  كانت الطرقات تتغير امام تراكيب الكلمات المكتفية بمراسيم الدهشة، والمقابر تختفي  تحت تلك النخلة الوحيدة في الكلية  كلما ازحت الدخان  من الهواء في ازقة الوزيرية بجملة من كلام تمنح للفوضى طفولتها ، ( أنا وعزام صالح وهادي ياسين علي ومحمد المهدي وعبد الامير شمخي وعلي سالم وعلي جنح وعوده مغامس وسعد كرنه ومحمد اسماعيل وضياء ربيع وعلي داخل وأميل جورج ونجم عبد شهيب)(8) . . . تسبقني عادتي في التدخين وأنا احتسي الشاي المطعّم بالكافور كاشفاً ظهري  لماسورة المسدس بينما  أستعيد  خطأ توقعاتي  لمسارألاحداث في فلم  (الرؤيا الان )(9) رغم أني لم اخلد الى  ألنوم ليلة السابع من كانون الثاني من العام الف وتسعمئة وواحد وثمانين حتى انهيت  رواية( ساعة نحس ) .(10)
 
لست وحدي بهذا الاسى اعاشر الانتظار
امشي بمرارتي  الى  خريف العربات
أكدس الغيم على حانات تم شطبها من خطوط يدي
واشم رائحة الخطوات في قلب الرماد .

خطا راهنت على اليوم التالي لانكسار الطين في يدي
وكشفت للصدفة مظلتي .
خطاهذا العمود اليومي  في الصفحة الاولى
خطا مايرتق من سطور لديباجة التعزية
خطا أرقام الضحايا 
خطااصدقاء تراجعوا وخافوا، وأصدقاء هاجروا وتغيروا 
خطا نحن . خطا أنتم . . .

لِمَ اخطأنا ؟
لِمَ حاربنا ؟
لِمَ دافعنا ؟
هنا التراب معلّب بإمضاءات لاتفاصيل لها
لينهال على رؤوسنا في تواريخ شتى ، وتحت راياتها تنحر رقابنا
هي النياشين والانواط نافذة البلاد كانت  الى ماتكرر من رماد في اضلعنا
هي التي لاحقتنا
وتأمرت علينا
وضيّعتنا

 شطبت سماءنا من اكفنا
وكفنتها بين قصر النهاية وابي غريب وسجن الكوت وسجن رقم واحد والحلة وبادوش والجادرية والكاظمية والموصل والفضيلية والامن العام والمخابرات وسجن المطار وبوكا . 
عبثاً نستذكر الامس 
عبثاً نكهة الشاي وقصيدة النثر وبيانات الحداثة في مقهى حسن عجمي 
عبثاً جواد سليم  ونصب التحرير وجدارية فائق حسن ومسرح بغداد والفن الحديث وغائب طعمة فرمان ومحمود جنداري ومحمد خضير 
عبثاً تمشي المرأة سافرة في الشارع
عبثاً تعمل، تعشق، تتعلم
عبثاً تأكل وتشرب
عبثاً من عُذب ومن تظاهر واستشهد
عبثاً مسرح الصورة ،وصلاح القصب، وشفاء العمري ،وخليل شوقي 
وزينب ، وناهدة الرماح .وزكية خليفة
عبثاً علي الوردي
مظفر النواب
عبثاً من ناضل وصمد  وقاتل
عبثاً محمود صبري ونوري الراوي وكمال سبتي  ومحمد مهر الدين وشداد عبد القهار  ولوثر ايشو وقاسم حول وعبد الهادي الراوي وقاسم محمد وسعد جاسم
عبثاً شارع المتنبي
عبثاً نزيهة الدليمي وهادي العلوي وجبرا ابراهيم جبرا وخزعل الماجدي وفالح عبد الجبار وسلمان داؤود محمد وصلاح حسن وزاهر الجيزاني  ورعد فاضل وحميد قاسم وعبدألرزاق ألربيعي وسعدي يوسف والبياتي وهيثم البردى وزهير البردى وشاكر مجيد سيفو وعبد الحميد كاظم الصائح
عبثاً كدحُنا وركضُنا وكل مانجمع
عبثاً طه باقر وفائق بطي وكامل الجادرجي وسركون بولص والاب الشاعر يوسف سعيد

عبثاً مارسموا وماكتبوا وما فكروا وماأنجزوا وماحلموا
غير اني ـــ ورغم يأسي وكأبتي ـــ متفائل
فالكون هذاعجيب وجميل و مدهش
والناس ـــ  في مر الهزيمة ـــ   تموت ولم تزل عن فجرها  تبحث .

                                                            مروان ياسين الدليمي
                                                              20/ 12/ 2008
                                                                     

1-   رئيس جمهورية العراق المشير عبد السلام عارف من سنة 63 الى 1966
2 –بعد  انقلاب 8 شباط 1963 تم اعتقال مايقارب الف ومئة من ضباط الجيش العراقي . ووضعوا في
     سجن معسكر الرشيد . وبعد تمرد العريف حسن سريع وقمع هذا التمرد . تم شحن كل الضباط المعتقلين
     في قطار ذاهبابهم الى سجن نكرة السلمان في صحراء السماوة ، وفي ظروف بائسة لاإنسانية 
3 – سجن شهير في عمق صحراء السماوة
4- ميليشا اسسها حزب البعث العربي الاشتراكي بعد انقلاب 8 شباط
5- اهزوجة كان الشيوعيون يرددونها بعد تمرد عبد الوهاب الشواف في الموصل عام 1959
6- اهزوجة شاعت ايام الحرب العراقية الايرانية عام 1980
7- هذا نص الرسالة التي وصلتني من صديقي بولص ادم بعد هروبه من الجيش الى شمال العراق
8- اصدقائي في كلية الفنون الجميلة في النصف من ثمانينيات القرن الماضي
9- فلم للمخرج فرانسيس كابولا تناول الحرب الفيتنامية وحاز على جائزة الاوسكار
     10- رواية للكاتب الكولمبي كارسيا ماركيز 

165
المهرجان الاول للافلام الروائية القصيرة
لفرقة شمشا المسرحية / في عينكاوا .
 


                                      حـلــم كبيـــر ..

                                                       لمدينة صغيرة
.



عينكاوا هذه المدينة الصغيرة لوحت بإشارة من يدها الغضة بأن يوضع اسمها على خارطة المدن الشهيرة التي تفتخر بمهرجاناتها السينمائية . على الرغم من خلوها من اي معهد اومؤسسة فنية متخصصة تدرس او تنتج فنا سينمائيا . الا أن وجود شاب اسمه خليل كاكا سبق ان تخرج من كلية الفنون الجميلة /جامعة بغداد / في منتصف العقد الثامن من القرن الماضي . وهو يحمل شهادة اكاديمية في الفن السينمائي . هيّأ الفرصة للامساك بالحلم الذي قد لايكون أن مر ببال اي مثقف اوفنان يسكن هذه المدينة. إلا ان خليل كاكا ما أن تخرج من الكلية ، حتى عاد الى مدينته ليستقر فيها رغم الفرص التي اتيحت له في العاصمة بغداد لكي يمارس نشاطه السينمائي باعتباره مصورا سينمائيا ممتازا يملك الكثير من السيطرة الحرفية والمهنية لكل التفاصيل التقنية والفنية لعالم  التصويرالسينمائي  . ومن عينكاوا انطلق في ممارسة نشاطه الفني عبر عدد من الاشرطة القصيرة التي كان ينتجها بنفسه اضافة الى العمل بنشاط في تجارة اجهزة التصوير السينمائي والتلفزيوني والفوتوغراف . اذ لم يستطع هذا الحالم  ان يغادر عالم التصوير حتى في كسب لقمة عيشه بل احال هذا الكفاح الى نجاح كبير جعله قادرا على تاسيس شركة للانتاج السينمائي ولتجهيز الموسسات الفنية بالاجهزة الفنية التي لها صلة بالانتاج التلفزيوني  والسينمائي .  إلا ان هذا النجاح الكبير على المستوى التجاري لم يفقده احساسه الجميل بعالم الفن السينمائي . من هنا كان مصمما على ان يبدا في عينكاوا مرحلة جديدة يخرجها من هدوئها بل من خمولها وكسلها  الثقافي . ولتدخل  هذه المدينة عالم المدن الكبيرة في ماتسعى اليه من فعل ثقافي . لذا جاءت فكرة اقامة مهرجان سينمائي للافلام القصيرة خطوة اولى في مشوار طويل نتمنى ان يتحقق ويستمر لمعانقة النور . لكن خليل كاكا شاء ان يستبق المهرجان بدورة تعليمية لاعضاء فرقة شمشا المسرحية التي ارتكز عليها في بناء المشروع . استمرت هذه  الدورة اكثر من شهرين، كان خليل كاكا هو  المحاضر الوحيد في الدورة . نقل خبرته ومعارفه الاكاديمية في كل شؤون الانتاج السينمائي الى طلاب دورته الذين لايتجاوزون اصابع اليد . ابتدأ من كتابة السيناريو والتصوير السينمائي والاخراج والمونتاج والاضاءة والديكور والاكسسوار .وفي نهاية الدورة كان على كل مشارك فيها ان يقدم سيناريوتنفيذي  لفلم سينمائي قصير. وليبدا التنفيذ بعد ذلك . فكانت النتيجة ستة افلام قصيرة يتراوح زمن عرضها مابين الدقيقه وخمسة دقائق :
الافلام المشاركة :
ـــــــــــــــــــــــــ

1- حلم صغير              اخراج  خليل كاكا
2- بريد سريع              اخراج  هوكر كويي
3- جرعة مورفين         اخراج خليل كاكا
4- فقاعة ثقافية             اخراج ايفان سعدي
5- الحقيقة في الظلام      اخراج ميلاد عبد المسيح
6- براعم                    اخراج مؤيد ابراهيم


الفلم الاول( حلم صغير) :  يسرد مشاعر طفل صغير يأسرهُ شعور  بالحرمان العاطفي ،نتيجة فقدان والده ، كما يتفاقم هذا الشعور عندما يمارس المجتمع دورا سلبيا في تجاهله وعدم الاهتمام به.
.
والفلم الثاني( بريد سريع) :  يستعرض عمليات النصب والاحتيال والسرقة التي تمارسها بعض من منظمات المجتمع المدني التي تدعي مساندتها لشرائح المجتمع الضعيفة .

اما الفلم الثالث (جرعة مورفين):  فهو واحد من اافلام المهمة على مستوى الشكل والموضوع وهو اقرب الافلام الى البناء والشكل السينمائي اذ يتناول البناء الوهمي الهش الذي تصنعه الانظمة الايدولوجية الشمولية . وتنجح لسنين طويلة في السيطرة على شعوبها عبر اعلام مزيف وكاذب يروج لنظام من القيم المريضة لاينتجها الا عقل مريض .

اما الفلم الرابع (فقاعة ثقافية ) : فيقدم نموذجا لمن يحاول ان يستثمرمظاهر الثقافة لخداع الناس والضحك عليهم . وفي اخر الامر ماهو الا فقاعة فارغة لاتملك فعلاثقافيا يمكن ان تقدمه للمجتمع .


اما الفلم الخامس (الحقيقة في الظلام ) : فانه يتعرض الى الفساد الادراي الذي يختفي وراء الازمات التي يعيشها المواطن ومنها ازمة الكهرباء .

واخير الفلم السادس  (براعم ):  الذي يرصد حلم امراءة حامل . تحلم للطفل القادم ان يحيا في بيئة طبيعية وصحية بعيدا عن واقع تحتشد فيه الاشواك والادغال التي تمنع الطفولة من العيش والتحليق بسعادة في الفضاء الانساني الرحب .
اعلن عن موعد  افتاح المهرجان للفترة من 11- 12/12/2008 بعد ان تلقى دعما كبيرا من السيد سركيس اغاجان الذي لن يتردد في دعم اي مشروع يهدف للنهوض بواقع الثقافة السريانية . لقد شاهد جمهور عينكاوا ولاول مرة افلاما سينمائية قصيرة من انتاج ابناء المدينة الذين لم يتخرجوا من معاهد سينمائية سوى الدورة التي كانت اول باب يفتح امامهم للتعرف على عالم الفن السينمائي الصعب .
على ذلك :  فإننا  لن نقتل فتنتنا واعجابنا بهذه الافلام بالتوقف امام الكثير من مفاصل الضعف التي  بدت واضحة لنا في معظم  الافلام المعروضة . بلى أثرنا أن ننحي احتراما لجهود الفنان خليل كاكا لما أقدم عليه من فعل ثقافي ستذكره عينكاوا دائما . فهو بهذا المهرجان كتب الاحرف ألاولى من مشهد سينمائي جديد سينهض هنا في عينكاوا،  قد يطول الزمن حتى نرى نتائجه المهمة ،  لكن يكفيه فخرا انه قد  دحرج الصمت بقدميه، خارج صالة جمعية الثقافة الكلدانية التي اقيم عليها المهرجان وليصغي الحضور ويشاهدوا من وسط الظلمة ابطال الغد على الشاشة . ولكي تكتمل الصورة التي ايقظت عينكاوا على حدث ثقافي جديد لاصلة له بكل ماشهدته من فعاليات ثقافية مستمرة طيلة السنوات الماضية  .
 وبعد نهاية عرض الافلام اقيمت ندوة مفتوحة  وصريحة تحاور فيها  جمهور من المثقفين والفنانين مع المخرجين العينكاويين الشباب وبحضور الفنان خليل كاكا . . في هذا الحوار تم التوقف امام عدد من الملاحظات الفنية التي سجلها جمهور النخبة المثقفة على الافلام المعروضة . وتكاد ان تتمحور معظم الملاحظات على نقاط محددةبدت واضحة في الافلام الستة المعروضة،  من هذه الملاحظات :
1-   ضرور تكثيف زمن عدد من الافلام  مثال/ فلم : جرعة مورفين +براعم صغيرة
2-    قصور في استثمار الموسيقى والصوت من داخل الفلم (الجوالعام ).
مثال/  فلم : حلم صغير
3-    بعض الافكار تحتاج الى معالجات اكثر عمقا لكي تخرج من الاطار التلفزيوني التي تتسم طروحاته بالبساطة قياسا الى المعالجات السينمائيةالتي تنحو الى الجرأة والاستفزاز مثال / فقاعة ثقافية + الحقيقة في الظلام  +بريد سريع
4-   السقوط في التعقيد والغموض في ايصال الافكار. مثال/  فلم :  براعم صغيرة .
5-   بدا واضحا رغبة المخرجين الشباب في طرح افكار نقدية تتناول اوضاعا اجتماعية وادارية تتسم بالفساد . وهذا امريدعو الى التفاؤل عندما تكون بداية الوعي بمسؤولية الفن السينمائي ازاء القضايا المجتمعية مثال/ فلم : بريد سريع + حلم صغير + الحقيقة في الظلام

اخيرا وليس اخرا ياتي هذا المهرجان خطوة هادئة و جريئة للخروج من العتمة الى الضوء رغم العثرات .




                                                        مروان ياسين الدليمي






 



 


166
مناديل المحبة للغائبين عن العتبات. .
 
                                                   في كمب الارمن
   

                                                                              ( 1 )

انزوى الاستقرار والهدوء الذي كان الحي ينعم به ، وحل مكانه شعور  بالخوف مما هو اتٍ ، ولم يعد الغد مطمئناً، وأمست الحروب تلقي بظلالها على السكان ، ومع مطلع العقد السابع من القرن العشرين ،بدأت رحلة النزوح والهجرة عن الحي وكأن غيوماً كثيفة احتشدت في السماء لتنذر بما هو قادم .

كمب الارمن ، أومايعرف كذلك بحي الكيلاني : هو حي سكني شهير في العاصمة العراقية بغداد . سمي بكمب الارمن وذلك لان معظم ساكنيه من الاقلية الارمنية التي استوطنته منذ الربع الاول من القرن العشرين . عاش الارمن فيه طيلة عقود من الزمان في جو من الاخوة والمحبة العميقة مع باقي مكونات المجتمع العراقي . إلاأن حال الكمب لم يعد كما  كان، وتغيرت الاحوال من حال الى حال. بعد التاسع من نيسان من العام الثالث بعد الالفين

عبر عقود وازمنة بعيدة توحد المسيحيون في كمب الارمن . وكانوا ينعمون بالحياة ،  تحت خيمة من الاخوة ، جمعتهم بكل مذاهبهم ، مترفعين  عن اية خلافات، وتوحدوا بدينهم ومحبتهم ، فتشاركوا بقناديل ايمانهم ، بكسرة من الخبزوالحب ، وليطرزوا حياتهم بعلاقات وزواجات سَمَت فوق التسميات المختلفة.
كان الارمن والاثوريون يؤرخون لإصالتهم في الحي . ولم ينقطعوا عن تقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم التي انحدرت معهم الى حيثما تواجدوا وعاشوا كانت النذورالمرتبطة بأسماء القديسين حاضرة في أوقاتها دوما ، تتناقلها البيوتات والاجيال . جيلا بعد جيل . لتوطين شجرة المحبة والالفة بين سكان الحي ولكي تبقى القلوب صافية .
إن أول مايفكر فيه المسيحيون وهم يحطون الرحال في ايّما مكان يذهبون اليه ، بناء الكنائس ، لتكون ملاذاً أمنا ًيؤمون إليه لكي تبقى رسالة المسيح تفيض بنورها على دروب الانسان . وهو يشق طريقه في مسالك ومفاجأت
الحياة  .
كم يؤرقنا ألحنين  ، الى امكنة ، كانت المحبة ترفرف ظلالاً وحضوراً.
في ازقة ودروب ناعسة من كمب الارمن  . . علّنا نمسك اخر اليمامات
قبل ان تهتف اليها الامكنة البعيدة . . .
 إليك ايتها البيوت النائمة بين اساطير العشق والالم . .
إليكَ أيها ألدرج ألمَحني بجنة أحلام الساكنين البسطاء ، وهي ترنو للصعود عالياً. لينكشف الكلام عن الفراشات ، وهي تحترق فوق السطوح المهتوكة بالخجل . والفناءات المسيجة بالفراغ .
على تلك العتبات سهرنا مع الحكايات ، وسارت معنا أيامنا . . كنا نعطي للزقاق أسرارنا وأُلفتنا ،ويمنحنا ألزقاق ينابيع فتنته . .
تغيرت الاحوال ، وانكسرت مناديل الصمت ، وتبددت سحب السكون بمطارق الفوضى ، بعد ان كانت الدروب ملاذاً للساهرين ، تبللهم أحرف الكلام المتفتح على شفاه العجائز وهم يستظلون بالالفة امام البيوت .
امست رائحة الخوف تمتد هنا وهناك بين زوايا الحي ، لتتسلق علامات الدهشة جدران الكنائس ، بعد أن تناقص المصلّون  يوماً بعد أخر، طالما مسيرة الهجرة والنزوح عن الحي لم تعد  تتوقف .
كما هم دائماً ،يسعى الارمن إلا أن يطرقوا ألابواب الموصدة والسير دونما تردد في الطرقات والاختيارات الصعبة . وهم بذلك أختاروا ألعمل في المهن التي تنهل من جذوة وحيوية العقل في ظهورها وديمومتها ولم يرتضوا لانفسهم إلا أن يخلعوا على شخصيتهم صفة التميز والانشغال في ميادين العلم .
كيفوركيان ـ الوايرمان ـ
كل صباح حين يطبق ضلفتي الباب على صدى الاحبة البعيدين .
 يقف عند عتبة الدار لحظات ، يتأمل أسماءً وأرواحاً . كانت تسكن هنا
وتملاّْ المكان بضجة الحياة وحلاوتها . كانت اضلع الزقاق تضم براءة الاطفال وشغبهم وجمالهم . هكذا مضت اشرعة الاحبة ،
وخلفت وراءها الوحشة والصدى .
مخالب الخراب احاطت حتى بالكنائس ، ولم تسلم منها بعد ان كانت الامكنة التي تتواجد فيها دور العبادة فيما مضى من سالف الايام ، ملاذاً للسكينة والهدوء والنظافة . اما اليوم فقد امست ـــ كما هو الحال في كمب الارمن ــ
تختنق بالعربات والانقاض والاسمال . لترسم صورة بشعة ومخيفة عمّا ألت اليه تلك الامكنة .
لكن ، لم يزل هنالك رجال مخلصون للرب  ، مثلما هو الاب صلاح هادي خدر . باقون في الحي . يمسكون  بالامل ومصرون على استمرار إقامة الصلوات رغم التناقص المخيف للمصلين بسبب هجرتهم بعيداً عن الحي وعن الوطن .

بعد أن تلاحقت على جسد الوطن ألكوارث والمحن ، غادر ابناء المسيح مرغمين ومضطرين ، موطن اباءهم واجدادهم . قافلة بعد اخرى . .
بقيت في الحي شواهد وحكايات مُرةً ، لاناس مأهولين بالحنين ، حاصرتهم قسوة الدهر ، وامتطت رصيف شبابهم في بيوت مهترئة مؤثثة بالحسرة على اصدقاء وجيران غابوا . بيوتا امست تحت وطأة أزمنة غابرة ، تحيا بين شقوقها كائنات ادمية بأعمار وأحلام مؤجلة الى يوم مؤجل هو الاخر .

هم يحتسون الاقدار . ويمضون في عيشهم وكأن شيئاً لم يكن ، تتكدس المسرات بعيدا عنهم . . هي المعجزات إذاً ملاذاً لهم ، وليس سواها .
يعقدون امالهم إليها . ليس سوى المعجزات يمكنها أن تقصي الاقدار المختومة بالموت  والانتظار .
صديقي خاجيك كتب لي يقول :
ثمة الكثير من الصباحات التي نشتهيها ، ونوقد الشموع وننشد الورد لها ،
للتراب ، للفجر يلوح للمساكن المتعبة ،
 ايها الرب: افتح ذراعيك لنا واحتوينا     
اجعل الخُطاة يقصدون ابواب الندم .
ياأبانا ألذي في السموات : علّق فوق مساءات اليتامى سحب الرحمة وادفع عن اطفالنا قسوة المصير . 
يد الصمت امتدت شيئا فشيئاً واطفأت النور في الحي . بعد أن غيبت الهجرة ابناء المسيح عن ثرى وطنهم بلاد الرافدين ، امست العتبات والمصاطب واسعة بالفراغ ، يتفتت الانتظار عليها  شظايا  لترقد فوقها ولاأحد يأتي .
هنالك هم . .  أمسوا في البعيد . إلا أنهم مازالوا هنا ، في البلد القريب القريب . .  يصلّون هناك . حتى تهبط الظلال على مُقلة الحي . ويعود الابناء الى وطنهم ، يلهجون بالتراتيل من فيض الايمان الطافح بفضاءات الروح .
موضع الكنيسة ، في وسط ألحي :
ماتبقى من ذاك الجمال لذاك الحي المسمى: كمب الارمن ، مازال بهيجا ً، رغم الخراب المحيط ، هو خراب جسيم يزحف كالحماقة يومابعد اخر . ليطفىء زرقة السماء ، ويرغم المسافة الموصلة الى بيت الرب للانزواء ، والميل الى زاوية الغروب . . نفايات وانقاض وعربات تجثم على هذا الطريق وذاك الزقاق ، حتى يضيق ويتعب المصلّون .


على دكة، اعتاد كبار السن، ان يلتقوا ويتفرقوا  :
هنا . . تنفرط تضاريس الزمان البعيد ،
ــــ حينما يستعيد القلب المتعب بين مفردات الحوار، ربيع تلك الفصول على هذه الدكة وفوق ذاك الرصيف المكتظ بالعابرين ـــــ تهبط الساحات وتطلع الوجوه، ونصغي الى الاصوات وهي تجيء من هناك، من صدى تلك الايام وتلك الليالي ، تحمل ورداًمستعاداً، وحكايا غابت وغيّبتنا خلف ابواب باتت موصدة .
 نحن هنا على هذه الدكّة، نصطحب الكلمات في نزهة، حيث السنين الهاربة من زقاق الارمن الى طرقات لاتعود منها ، إلاانها مازالت تسكن بيننا، في اضلعنا ، في تجاعيد الوجه ، وانحناءة الظهر . ولن تغادرنا حتى نغادرها .
الفوضى :
تسور كمب الارمن بالورش الصناعية والعربات ، ولم تعد الازقة تحتفي بطقوس الجلسات امام الابواب . ذهبت تلك اللقاءات والمواعيد ، حينما كانت اوقات العصر تؤذن للهواء ان يدق الابواب ليخرج الجيران ويستريحوا هناك ، يقتسمون الحب والشاي ، ويقطعون الليل الطويل بأجمل الكلام .
الطريق لم يعد يتسع للصبايا  . بعد أن سحقته العربات واصوات الباعة والحدادون وعمال الورش . ضاعت تلك الوجوه بين زحمة الطريق وثرثرة العابرين اليه من كل الجهات  !
استجبت لنداء رغبتي وأخذت أدور حول الزقاق ، لعلي أستريح الى ظل أو شجرة . كانت قدماي تمضي وتدور بي في حلقة مفرغة وكأني لم أبرح مكاني . . ألتشابهُ الفضّ ، سوّرالزقاق ، داهمني  القلق وانا ارى ماأرى
من غياب واختفاء صورة الكمب الجميلة خلف الزحمة المهلكة .
لاشيء يدلني الى أزمنة الكمب التي عرفتها . . لاربيع ، لاورد ،لاصبايا في كف الطريق . مازلت ادور في مرآة موحشة ، ولاسبيل للوصول الى ذاكرة هاربة ترسم  صورة للكمب عرفتها . 
مازالت الايام تمضي ببعض طقوسها ألمعبأة بالايمان والحب . مايزال المصلون يهبطون بأقدامهم الى بيوت الرب يسوع ، يعطرون أرواحهم بالايمان . الرب يجمعهم بنوره ويلمّهم إليه وهم حزانى بين اضلعه . يصب عليهم نوره ، كاشفاً لهم بكلماته دروب رحمته . ورحمة دروبه . طالما يستيقضون على شكره .

ماذا يقول الصبّاغ  وهو يطلي الجدران باللون الابيض :

رغم الظلمة والسواد المتسكع في الطرقات ، إلا أن البياض مازال يرسم ظله على الجدران . هنا إشارات البقاء ، ولاخروج من تحت هذه السقوف المعمّدة بالاوتاد والحصير والخشب . سنضيء البيوت مرة اخرى . وأخرى
ولن نصغي لنداء المسافات البعيدة . نحن هنا ، بفيء بيوتنا نصغي الى صوت أباءنا وأجدادنا .
الاطفال في الازقة :
الاطفال هذه الاجساد الغضة . ينابيع الفجر . مازال الكمب يتدفق بهذا الشجن الناعم . يخرجون من جسد الزقاق وبيوتاته يبذلون فرحهم بين الطرقات ويلمّون وحشتنا ، ولولاهم لاستفرد الحزن بنا . لولاهم لما عشنا .
هم يشحذون روحنا بالهوى والحب ، بلعبهم وفرحهم .
من سخريات القدر التي مرت على البعض من سكان الحي ، أن يساق أبناءهم للحروب وتسفك دماءهم زكية دفاعاًعن تربة الوطن . بينما يحرمون من اكتساب صفة المواطنة ليتم إبعادهم الى خارج الحدود . بأعتبارهم تبعية أجنبية . .  هكذا هي المقادير . دم وثكالى واوسمة للخديعة
يعقوب بيجان :
لسكان كمب الارمن قصص كثيرة مع الحروب. يعقوب بيجان هذا الرجل صاحب القلب الكبير الذي منح عمره وحياته لابن أخيه مذ أبصر النور . . تبادلت معه الاقدار، لعبةً ًمُرةً، تركت في قلبه جرحا لم يندمل . رغم السنين التي مرت على ذلك الحدث . حينما تسلم جثة ابن اخيه  الذي سقط شهيدا في الحرب العراقية الايرانية .  ليتركه مرة اخرى وحيدا .
لم يكن ممكناً لسكان الكمب من المسيحيين إلا أن يتركوا بصمتهم في نهارات العراق الجميلة . وهنا من هذه الازقة . ومن هذه البيوت خرج العديد من النجوم الى ملاعب الرياضة والفن وملاوا الدنيا وشغلوها طيلة النصف الثاني من القرن العشرين .
لم تسلم الكنائس من شظايا الاحداث والحروب التي عصفت بجسد العراق
فتعرضت هي كذلك الى اضرار بالغة نتيجة سقوط القذائف العشوائية عليها في فترات متعددة ومتباعدة
بعد أن كان كمب الارمن واحة يتفيأ بها وإليها المسيحيون. هاهي اليوم بغداد تودعهم واحدا بعد الاخر . . لتخلو الدروب من خطواتهم. ولم يعودوا يشكلون خصوصية ملامحها وهيئتها . . هاهي اليوم تودع تلك السمات لتحل صورا ًوأشكالاً  أخرى بديلاً عنها ! وكأن الهواء ضاق بهم وزرقة السماء لم تعد تعرفهم ، تلك ألسماء  التي شيدوا أحلامهم تحت ظلها أشاحت بوجهها عنهم  وأستدرات بعيداً عن صوتهم .
مازالت بعض الاحداث التي شهدها تأريخ حي الكيلاني حيةً ًفي ذاكرةِ من كان شاهداً عليها ،وكأن السنين لم تمر عليها وكأنها مازالت موشومة على ظاهر الكف أو خطّها طفل فرحُ بالكتابة على جدران الحي ولم يشطبها .
 
تقول الجدة سوسيك وهي تنسج بلوزة من الصوف عند عتبة الدار  :
الايام ، تنسج أقدارها وأنا هنا  أنسج حنيني إلى مامضى من الايام . أشم قداسة التراب وتلك الصباحات في برد شتاءنا البغدادي الجميل ينثر الغيوم على أكتاف بيوتنا ألدافئة . . نحن هنا ، على عتبات ابوابنا  ، نغزل من الروح مناديل ألمحبة لابناءنا الغائبين .



( 1) كتب هذا النص خصيصاً لبرنامج تلفزيوني عنوانه ( حنين ) يتناول عدد من الاحياء المسيحية المعروفة في بغداد . منها كمب الارمن . وقد تم انتاجه في قناة عشتار الفضائية عام 2007 . وهو من اخراج الكاتب ايظاً.



                                                                                                   

                                                      مروان ياسين الدليمي
                                                             
                                                      5/ 10 / 2007 


167
ألمحبة . . لم تعد فجراً لنا    !
           
هل ضاقت الارض تحت اقدامنا ولم نعد كما كنانبصر الحق وننشد الاغاني للانسان وننصف المظلوم  ونخاف الله ؟ . .  هل اصابنا ألعمى ولم نعد نحتمل اخوتنا بيننا، فأهدرنا دمهم وعرضهم ومالهم وحلالهم وتأريخهم واعلنّا الغزوعليهم منحدرين الى متاهات وابواب مقفلة، نسيرفيها الى معركة هزيمتنا؟
هل باتت سبل الخلاص ـ  وصولاً الى ظلال جنة الخُلد ـ  هي العبور على اجساد ابناء  المسيح، واجتثاث ربيع ذكرياتهم وملامحهم من موطنهم
وموطن ابائهم واجدادهم في ارض الرافدين  ؟
هل بات الوطن  متاهة وحكاية  مُرةً  للشرفاء في وطنهم ؟
هل باتت النهارات معلقة مابين الرصاص والموت والاختطاف ؟
هل بات الزمن بوقاً للفزع وطبلاً للظلام ؟
اكثر من الفي عام والمسيحيون ينضحون عرقا ومحبة واخلاصا لهذه الارض ،  ميراثهم هنا ،  احلامهم، دمهم، فرحهم مشاعا بين ذرات ترابها
.وماكانو الا : ّنهاراته المعلقة على سماءه الدافئة .
هل جاءنا ذاك اليوم المشؤوم ،ليصبحوا قرابين لحروبٍ ،عناوينها الجنون ؟
تراب هذه الارض يشهق الماً على حفاد اشور واكد وبابل، لماذا أمسوا  مطاردين يترصدهم الرصاص والتهجير، وترتوي الدروب البعيدة والمنافي بدمعهم ، وليصبحوا مشردين لاجئين بعيداً عن ثرى وطنهم !؟
باتت الايام تخبرنا،ان المحبة لم تعد فجرا لبغداد والموصل،ومدن العراق الاخرى وان بيارق السلام امست طبولا وابواقا، لاإقتراف الالم، بحقِّ من سار في طريق الالم، صامتا مؤمنا ،مرة اخرى!
هكذا ترتفع راية القهرمرة اخرى، راية صلب اتباع المسيح :
ـــ  بيوتكم ، اموالكم ، تعب اجدادكم ، ميراثكم كله ، ملك لنا .
هكذا تُدلق البيانات على الضلوع في وضح النهار .
 
ها أنا ذا أسمع  اخوتي  يصرخون في سرِّهم  ويرُدُّ الصدى عاليا ًفي المدى من وجع الفراتين،  من هناك ، من شط العرب ، الى اغنيات لم تزل ندية على حجر من اشور، لم يزل يستريح عليه الثور المجنَّح ، في جنة اسمها  خَنَسْ  :
     ( 1)                                                           
ـــ لسنا طارئين ولاغرباء عن منازل لنا ،نحن هنا بين دجلة والفرات، منذ ان تشكل النهار على تربة الرافدين قبل الالاف السنين . على هذه الدروب كانت المحبة ناعمة تمضي، تمطر شمسا مبللة بالاس والورد، تعانق الابواب والجدران  وتحتفي بالساكنين،  تنساب الحكايا ،عند كل باب ودكة  تكحلت بالفيء ،حين ينسكب الكلام من لوعة العشق لهذه الارض ، لهذا العراق.

                                                                 مروان ياسين الدليمي



 
(1 ) خنس منطقة اشورية  تقع على الطريق المؤدي الى مدينة دهوك . فيها كان يتم صنع الثيران المجنحة الاشورية . ويتم نقلها الى اماكن مختلفة من الامبراطورية الاشورية . ولاتزال هنالك الكثير من الشواهد الواضحة على ذلك في خنس .




 

168
والان . .  بعد أن بدأت سياسة تهجير أخوتنا المسيحيون ،  في الموصل  .

ماذا ينتظر   : 

 الفنانون والمثقفون واساتذة الجامعات والطلاب والسياسيون  ،   الموصليون    !؟ 


لماذا التزم الجميع سياسة الصمت  ازاء مايجري من تهجير واستباحة لحرمات وبيوت واعراض  وارواح المسيحين ابناء الموصل .وسكنتها الاصليون . لماذا لم تخرج هذه  الفعاليات السياسيه والثقافية في مظاهرات واحتجاجات علنيه الى الشوارع لتعلن موقفها الرافض لمايجري بحق اخوانهم وشركائهم في الوطن . مالذي يمنع ادباء ومثقفي الموصل؟  مالذي يمنع فناني الموصل؟  مالذي يمنع الاحزاب السياسية  واساتذة الجامعات من الخروج الى العلن والوقوف في الساحات العامه والشوارع . ليعلنوا رفضهم لما يجري ويعلنوا تضامنهم ووقوفهم الى جانب اخوتهم المسيحين في محنتهم التي ابتلو بها وحدهم ولاأحد يقف الى جانبهم ؟

 ان الدولة بكل مؤسساتها لن تفعل لهم شيئا ولن ترفع الظلم عنهم . لانها متورطه دون ارادتها بكل مايجري . ذلك لانها مخترقه با لقتله والمجرمين ورجال العصابات والميلشيات . ولن تتمكن الدولة  من ان تفرض سلطتها على ارض الواقع طالما لم  تستطع ان تبعد عن اجهزتها ومؤسساتها كل هذه العناصر .
 ان ماوقع على اخوتنا المسيحيون امر خطير جدا لانه جردهم من حقهم كمواطنين من الدرجة الاولى وتعامل معهم على انهم غرباء لاحقوق لهم . ينبغي طردهم بكل قسوة دونما شفقة من احد . والا مامعنى ان يسود الصمت و لانسمع سوى التصريحات الجاهزه وبيانات التنديد التالفه من قبل البعض سواء كانوا مسؤولين رسميين في الدوله او في الاحزاب السياسيه .
 ان ردود الافعال الميته هذه لن تجدي نفعا ولاتشفي جروح اخوتنا . التي كثرت وزادت عمقا والما .
نحن بحاجة الى الوقوف تحت الشمس وفي منتصف الساحات واعلان الصوت موحدا وعاليا بالرفض لما يجري . والخروج من خلف متاريس الخوف التي تخندق بها الجميع . الخوف من ان يطالهم عقاب القاعده ودولة العراق الاسلاميه . نعم هنا يكمن الخوف .
ولكن بما ان هاتين الجهتين اعلنتا صراحة وعبر بيانات اصدرتاها ان لاصلة لهما بما يجري للمسيحين في مدينة الموصل . وقد اكد ذلك وكيل وزارة الدخليه ( عبد الكريم خلف ) وبعد تحقيقات دقيقة لما جرى ويجري  فما الذي يدعو الى الخوف ؟
 ان تنظيم  القاعده ودولة العراق الاسلاميه لوكان لها صلة بهذا الموضوع لما ترددت في الاعلان عنه  وتبنيه . وهي على مايظن الجميع لاتشعر بالخوف اوالتردد. عن الاقدام عن اي امر تنوي تنفيذه .
 انا هنا لست في موضع الدفاع عنهما . لكنني اسوق هذا الكلام للوصول الى الاسباب والدوافع التي منعت الاحزاب والمثقفين واتحاد الادباء ونقابة الفنانين من االتحلي بابسط صورة من صور الانتماء الوطني الشجاع في لحظة تعد هي الاقسى والامر في تاريخ العراق .
 ألم يخرج الاساتذه والطلبه في جامعة الموصل ،  منذ السقوط وحتى هذه الحظه في مظاهرات عده تعبيرا عن استذكارهم لمناسبات امست في طي الماضي ولم يعد يجد نفعا الاحتفاء بها !؟ . بل ذهب نتيجة تلك المظاهرات عددا من الضحايا دونما جدوى . الم يخرج الاساتذة في مظاهرات كثيره يطالبون فيها بزيادة رواتبهم ومخصصاتهم التي ارتفعت الى الحد الذي رفع اسعار المواد الغذائية  وبالتالي   لتغدوالحياة جحيما على بسطاء الناس ؟  اين نقابة الفنانين في الموصل . التي لم تحرك ساكنا تجاه كل المجريات الدمويه التي تسقط على كاهل الوطن والمدينه ؟ . لكن يبدوان نقابة فناني الموصل مشغولة بشخص نقيبها في كيفية جمع الاموال من المنظات ـ التي لايعلم الا الله مرجعيتها ـ  بحجة اقامة الدورات لتطوير المهارات . متناسية هذه النقابه دورها واهميتها لان تكون طليعة في التصدي لكل المشاريع التي تهدف الى تدمير الوطن ونسيجه الاجتماعي .
 لسنا بحاجة الى اعمال مسرحية لاتشير الى الجرح  ولسنا بحاجة الى حفلات واغان راقصة والبلاد تئن تحت ضربات المحتل و العصابات والقتله .
على الجميع ان يرتقي بمواقفه الى مستوى من الوضوح والجرأه والفاعليه لنصرة اخيه المسيحي،  لنصرة جاره الذي شاركه الشهادة والدم الطاهر دفاعا عن الوطن منذ ان تـأسست الدولة العراقيه واقتسم معه رغيف الخبز طيلة سنوات الحصار الظالم . وتلقى واياه كل اسلحة الدمار والموت الشامل من اجل تحرير زائف روجته اميركا وحلفاءها .
 ان المسيحيون في الموصل هم سكانها الاصليون . وهم اقدم سكانها . ولهم كامل الحق في العيش فيها قبل سواهم . وواجب على كل الفعاليات الاكاديميه والثقافيه والحزبيه في الموصل ان تكون بمستوى هذا الحدث والا لن تكون هذه الايام العصيبة الا وصمة عار في جبين الجميع ولن تموحوها كل عاديات الزمن .   



                                                     مروان ياسين الدليمي

169
المنبر الحر / مجتمعات الخوف :
« في: 16:31 12/10/2008  »
مجتمعات الخوف :



                                                                                                مروان ياسين الدليمي



ان اي مسلم مؤمن بالله الواحد الاحد وان الله هو الخالق لهذا الكون والمسؤول عنه . وتسييره الى ماشاء هو . لابد ان يشعر بالخجل والحرج الشديد وهو يرى امام عينيه اخوة له في الوطن من المسيحيين يتم الاساءة لهم وتجريدهم من مواطنتهم وحقهم في العيش على تربة وطنهم .دون ان يحرك ساكنا . وقد يكون للناس عذر في ذلك، لقسوة ودموية الجهات التي ترتكب تلك الاعمال الانسانية . وعدم ترددها في ارتكاب ابشع الاعمال ضد من يقف في طريقهم . اويختلف معهم في رأي اوأمر . لكن هذا لايعفينا جميعا من مسؤلية مايحدث .
 نعم نحن عامة الناس من المسلمين  اولا وليس السلطات .من يتحمل مسؤولية مايحدث لاخوتنا في ألوطن . لقد تغاضينا بسكوتنا وصمتنا عن كل الاصوات التي كنا نسمعها عبر منابر شتى، تؤجج مشاعر الحقد والكره والرفض والتسفيه والتحقير لكل ابناء الاديان والطوائف الاخرى غير المسلمه . وكأن هؤلاء ليسوا شركاء لنا في الوطن . يقتسمون معنا فرحه وحزنه وكل المحن والصعاب التي مرت عليه . طيلة وجوده . وكأنا نحن فقط من نمتلك الايمان والحق بهذا الوطن . وكل الاخرين في عداد الغرباء والخونه . من اعطانا الحق ان نجرّم الاخرين .؟ من اعطانا الحق ان نكفر الاخرين ؟ من اعطانا الحق ان نطرد الاخرين من ارضهم ووطنهم ؟ وبأي حق نستنكر على الصهاينة ان يطردوا الفلسطينيون من ارضهم . ونصفق في ان واحد لمن يطرد مسيحيا من وطنه ؟ اي عصر من النفاق والكذب نعيش . ان الدين حق والحق لايقبل القسمة والتجزئة . نحن لطالما ادنّا وشتمنا  العالم الغربي كونه يكيل الامور بمكيالين وهو يتعامل مع قضايا تخص العرب والمسلمين . لكننا لاندين انفسنا قبل ذلك ونحن نقيس الامور في اوطاننا ومع ابناء شعبننا بالف مكيال . ونحن بذلك عنصريون وطائفيون وقبليون وهمجيون قبل ان يكون العالم معنا عنصريا وطائفياوهمجيا .


 نحن الذين اعطينا الفرصة للعالم لكي يتعامل معنا بمثل مانتعامل مع انفسنا ومع ابناء جلدتنا . ان تهليلنا وتصفيقنا وترحيبنا لكل اساليب العنف والموت والدمار في علاقتنا مع الاخر هو الذي هيأ الارضية المناسبة لموت كل المشاعر الانسانية فينا ولم نعد نشعر بالاسى والحزن على الضحية التي تسقط امامنا . بل بتنا نتلذذ في التمثيل بها وسحلها وحرقها وتعليقها على اعمدة الكهرباء والجسور بل ونرميها بين النفايات والقاذورات .هكذا فعلنا حين سقط الحكم الملكي بأيدي العسكر عام 1958  . وهكذا فعلنا ايام الشواف في الموصل وكركوك .1959  وهكذا فعلنا في الكثير من قرى الاكراد منذخمسينات القرن الماضي وحتى نهاية القرن . وهكذا فعلنا في الكويت . وهكذا فعلنا في كل ارجاء العراق حين سقط النظام السابق . لنُسقِط نحن معه كل العراق،  بما ارتكبناه من نهب وسلب وقتل . والامر لم ينتهي بعد . . .  هكذا حلت بنا قيم وممارسات وحشية، بديلة عن كل القيم النبيلة التي يدعو اليها الاسلام .
أنا ، ياخذني العجب من الملايين التي اراها تتوجه الى دور العبادة وهي تسجد لله وتذرف الدموع اثناء دعوات الخطباء والائمة . خوفا من غضب الله وطلبا للرحمة والمغفرة منه . حين ارى تلك المشاهد على الشاشات الفضائيه . بينمااصطدم بالواقع المر بكل قسوته وقذارته و دمويته،  اصاب بالذهول . اي مجتمع نحن ! يلبس الف قناع وقناع . . .  يغلفنا الكذب والنفاق من رأسنا الى اخمص اقدامنا . .
ان مايحدث الان ماهو الا مقدمة لسقوط دراماتيكي كبير ومهول لمجتمعاتنا العربيه والاسلاميه . مادمنا تخندقنا وراء متاريس التخوين والتخويف والترهيب . لكل من لايشاطرنا الرأي او الدين اوالقومية او الطائفة اوالمذهب . او القبيلة اوالفخذ . او المدينة او الحي !  امسى هذا المجتمع العربي الاسلامي يعيش وهم الخوف . الخوف من كل شيء . من الحاضر والماضي والمستقبل والعلم والعالم ،   يخاف الاقليه ويخاف من الاكثريه يخاف من الطبيب فيقتله . يخاف من الاستاذ الجامعي فيقتله . يخاف من الفنان فيقتله . يخاف من الشرطي والجندي فيقتلهما . يخاف من المدني فيقتله . يخاف من الناس في الاسواق فيقتلهم . يخافهم في المستشفيات فيقتلهم . يخافهم في الجامعات فيقتلهم . يخافهم في الجوامع فيقتلهم . يخافهم في الكنائس فيقتلهم . بات الخوف يحكمنا في كل شؤونا ، وبتنا نخاف من كل شيء حولنا . الا الله ، لم يعد يخافه احد في مجتمعاتنا .


 فهل يحق لنا بعد كل الذي نقترفه ونشارك بارتاكبه صمتا وسكوتا . ان نقول نحن مسلمون .ان  محمد (ص) وصحبه الكرام . كانوافي بداية الدعوة بضعة انفار ، الا ان القيم الانسانيه التي حملوها كانت اكبر من ان تتسع لها كل الجزيرة العربية . واتسعت لهم  كل بقاع الارض التي وصلوا اليها بايمانهم قبل سيوفهم . لانهم كانو ا مدركين،  ان قوة الخوف والارهاب للاخرين لن تغير عقول وقلوب الاخرين . لان هذه القوة  زائلة في يوم ما . ولتعود الناس الى ماكانت عليه . بل اشد عنفا وتطرفا .. كان ايمانهم اولا واخرا بالعقل والحكمة التي تقود الناس لرؤية النور من بين الظلمة . وان قيادة الشعوب لاتحتاج إلا ان تخاطبهم باللتي هي احسن،بالحكمة والموعظة  .
 ان مايجري من ترهيب وتهجير للمسيحيين لن يخدم المسلمين بشيء . وغبي من يعتقد خلاف ذلك بل مجرم من  يعتقد ويؤمن بذلك . فما من الحكمة ولاالشجاعة ان تميل الى استعمال القوة الغاشمه مع من كان اضعف منك قوة وعددا .. ولن تشعر بالرضا مع نفسك ولابالامان بعد ان تكون قدظلمت من كان بحاجة الى عونك . .
ان الظلم والظالمين لم ولن يكونوا بعيدا عن عقاب الله سبحانه وتعالى . والامثلة القريبة التي مرت بنا كثيره . فكم من باغي وطاغيه توهم بقدرته وقوته على تسيير الحياة مثلما يشاء لكن الله كان له شأن اخر ومسار اخر . ان الله واحد احد لايشاركه في الحكم احد . فلاتتوهموا وتحكموا على مصائر الناس بديلا عن الله ، مثلما تشتهي انفسكم  . . فالمكر السيء لايمحق الا بأهله . 

170
الخروج . .  عن مسار اللعبه


نقد مسرحي   


                        -    الفيل ياملك الزمان -


تقديم                  :     فرقة شمشا للتمثيل                           
تأليف                :       سعد الله ونوس                           
اخراج               :     د. فيصل المقدادي                             
ترجمها الى السريانيه  :      فلاح نجيب / ميلاد عبد المسيح
             
تمثيل               :    تلان موسى / لاناكامل / رامان رمزي /
                           كارلوس صباح / ايفل مسيح / ميلاد عبد المسيح
                           مهيب صباح / مادلين حنا / ميلانيا دلشاد /
                           رئد عبدو / ديلون كوركيس / روفان موسى
                            هدير صباح .
اضاءه               :  راستي بولص / بسام عبد المسيح
موسيقى             :  ريفا جبار يلدا
ديكور               :  ميلاد عبد المسيح / راستي بولص
لوحات ديكور      : صبا سمير
مكياج               :  مؤيد فقي
كومبيوتر وتصميم     :  كوران عبد الجبار 
دعايه واعلام          :  فلاح نجيب عظمت /هوكراندراوس يلدا
مدير المسرح والانتاج :  راستي بولص               
مكان العرض     :    مسرح جمعيةالثقافه الكلدانيه
تاريخ العرض    :     10 ـ 11ـ 12ـ /9 / 2008

                                             

ابتداءًمن العقد السادس من القرن العشرين حدث تحول كبيرفي بنية التجربه المسرحيه العربيه  نصاً وعرضا مسرحيا . اذ تجلى ذلك عبر الاشتغال الجمالي في بنية النص الادبي المسرحي في محاولة لتتبع الاشكال الفلكلوريه والتراثيه والطقوس الشعبيه الدينيه  المقاربه للشكل المسرحي   والقابعه في المورث الشعبي، واستنطاقها في تاسيسات نصيه لتكون منطلقا واطارا لهوية كتابية مسرحيه عربيه . وتجلى ذلك في استثمار شخصية الحكواتي ،ومقامات بديع الزمان .وخيال الظل ،  وتشابيه عاشوراء ، واتاح هذا الاشتغال تداول وهيمنة مفاهيم جديده لمشاريع مسرحيه ، كالمسرح الاحتفالي ، ومسرح البساط ، ومسرح السامر ، ومسرح الحكواتي . وانتعشت الظاهره المسرحيه وافرزت عددا من الاسماء في حقل الكتابه المسرحيه مثال:  سعدالله ونوس، وعبدالكريم برشيد .  .
  كذلك مخرجين مؤلفين،  اقترحوا عروضا مسرحيه مهادنة لماهو موروث من التراث المسرحي العالمي . نهض منها انجازات دراميه كسرت اشكال الكتابه التقليديه . منطلقة من بؤرة مركزية هي خشبة المسرح بكل فضاءها وخصوصيتها . وفي طليعة هولاء المخرجين المؤلفين ، الطيب الصديقي ،قاسم محمد  ، روجيه عساف
عملت هذه الاسماء على مسرحة التراث والاساطير الشعبيه والطقوس الدينيه . الا ان سعدالله ونوس من بين كل هولاء امتلك رؤية نافذة لقراءة الحكاية الموروثة واخراجها برؤية وتركيبة عمقت حدة التناقضات والصراعات الطبقيه . كما كانت كشفا وتعرية لكل اشكال القهر والموت الذي تمارسه موسسات السلطه في مجتمعات العالم العربي . كل ذلك جاء بتخريجات كتابيه تطرح نفسها على شكل لعبة تنكريه .  .  يقول ونوّس( ان الحكايه وحدها هي التي تخفف العذاب وتداوي الجرح )، لقد راهن ونوس
على اشكال مسرحيه اقل مايقال عنها انها تورط المتفرج في الصاله وتجعله مشاركا في صياغة العرض المسرحي .سواء في مغامرة رأس المملوك جابر ، الملك هو الملك ، وموضوع نقدنا مسرحية : الفيل ياملك الزمان.

حكاية النص : الفيل المدلل الذي يملكه احد المللوك . يتسبب دائما في تدمير ارزاق وحيوات الناس الذين يعيشون في المملكه .مسببا لهم اذىًنفسيا وماديا . احد مواطني المملكه يعقد الهمة ويحرض الناس على مواجهة الملك لعرض مشكلتهم عليه لايقاف هذا القهر الذي يتسبب به الفيل . وماأن يحدث اللقاء مع المللك . يتملك الناس الخوف والرعب من شخص المللك .ليقترح عندها من قاد الشعب الى الثوره الى ان يرتمي باحضان المللك مقترحا عليه تزويج الفيل حتى تنعم المملكه بذرية الفيل . ليلقى هذا المقترح التاييد والفرح منقبل الملك وحاشيته وبالتالي ينعم المللك على من قاد الشعب في البداية للثورة ضد ه، ان يكون احد افراد حاشيته , لينال نصيبه من التكريم والحضة لدى المللك .   
جاء هذ النص قراءة واستنطاقا لواقع كرسته هزيمة الخامس من حزيران
كتبها ونوّس عام 1971  ضمن مشروع لمحاكمة بنية السلطه السياسيه
العربيه والتدقيق في شكل العلاقه القمعيه التي تحكم هذه ألسلطه مع المواطن . فكانت حكاية الفيل المستعارة من نتاج المخيلة الجمعية اشارة رمزية الى فساد وقسوة السلطة . مع تاكيد واضح من قبل ونوّس على سلبية
معظم الشخصيات والقوى الاجتماعية والسياسية  وخلوها من المبادىء وسقوطها في مستنقع الانتهازية والوصولية والنفاق السياسي  ،



ان  نصوص سعدالله ونوسّ لاتخلو من ادانة صريحة لقوى المجتمع . ومسؤوليتها الكامله عن كل الدمار الذي يلحق بها نتيجة لتراخيها ولامبالاتها ازاء مايجري ويقع عليها من حيف وظلم .
 العرض الذي قدمته فرقة شمشا واخرجه د. فيصل المقدادي، لم يبتعد عن هذه الفكره . في قراءته الفكريه للنص . بل كان مصمما على تأكيدها . وهو هنا يعكس النظرة التي سبق للمؤلف ان طرحها قبل اكثر من ربع قرن دون اية اضافة من قبل المخرج . وهنا سؤال يفرض نفسه :  مالذي اراد ان يقوله المخرج بعد ربع قرن على ماكان  المؤلف قد قاله   ؟
 انا اجد ان المخرج لم يقل شيئا طالما أعاد انتاج خطاب المؤلف بكل حيثياته . وكأن الزمن يدور في حلقة مفرغه .   !. مالذي يمكن ان يقدمه المخرج اذا لم يكن في موقف المواجه لخطاب  ألمؤلف بقراءة جديدة لمخطوطة النص .التي كتبت قبل اكثر من ربع قرن ؟
 تلك هي اشكالية هذا العرض الذي توحّد بل انحنى امام مقولات النص وكانها تحيا في صورة من الاكتمال الفكري المقدس . لاينبغي الاقتراب منه ومحاورته. .  من هنا فان هذا التاسيس القائم على الركون والانزواء  في زمن وخطاب  المؤلف .معناه اسقاطاً للدور الانتاجي لسلطة المخرج ابداعيا .  وتكريسا لسلطة وخطاب المؤلف . وبالتالي سينعكس هذا ، جماليا على الرؤيه الفنيه للمخرج وهو يتناول نصا مسرحيا ، كتب منذ سنوات عده .
  و لن يأتي بشيء جديد عن منظومة المؤلف الدراميه . طالما غابت تلك  العلاقه الجدليه مابين المؤلف والمخرج .وهذا ماوقع فيه هذا العرض .
علما ان سعدالله ونوس حينما انغمس في عالم الكتابه المسرحيه لم يتورط بالسقوط في شباك سلطة  المرجعيات الفنيه . وهو يبتكر عوالم تجلياته المسرحيه . بل كانت نصوصه ماهي الا مقترحات وابواب مفتوحه لطرق ومسالك ينبغي على منتج العرض ان يجتهد في اختيارها . هذا لان الحريه كانت المتن الذي اشتغلت عليه كل النصوص التي اقترحها ونوّس لخشبة المسرح . فليس غريبا اذا ان يترك ونوّس هامش الحريه واسعا للمخرج بل شرطا اساسيا لكل من يتصدى لاي نص من نصوصه .


د. فيصل المقدادي ، وهو ينشىء معمارية عرضه المسرحي اثقل خشبة
 العرض بلوحة تشكيلية مرسومة بطريقة واقعيه، وبحرفية اقل مايقال عنها متواضعة جداً، استحوذت على النصف الاعلى ليمين  خشبة المسرح  ،  اعادتنا هذه اللوحه  الى بدايات الظاهره المسرحيه في العراق قبل مئة عام وكاننا امام عرض مدرسي  . هنا بدا تعامل المخرج مع الجمهور على انه
جمهور ساذج لايفهم الاشارة ولاالرمز . فاثقل عليه بتلك اللوحه الواقعيه ليؤكد له   جغرافية المكان !. ومما زاد الامر غرقا في الفوضى الاسلوبية ان يكدس في الجانب الايسر من خشبة المسرح براميل نفط لتكون دلالة على هذه الماده التي كانت سببا في دمار شعوب المنطقه العربيه . الا ان توظيفها وتوزيعها تم بشكل فوضوي ، لم يضف شيئا في تطوير الفعل الدرامي، طالما بقيت بدلالتها الايقونيه ساكنة على الخشبه ، ولم يتم  اطلاقها في توظيفات و مدلولات اخرى، بعيدا عن مفاهيمها المعجميه .
ان العرض المسرحي مغامرة بحثية وجماليه للكشف عن منضومة جديدة من  اليات الخطاب الفني وابتعاداًوتغريباًللمدلولات عن الثوابت الجمعيه
 من هنا فان فضاء الخشبه في هذا العرض  تم  أسره وتدميره بكتل ومفردات لم ترتبط مع بعضها دراميا (براميل النفط +عرش الملك +لوحة العرض الخلفي التشكيليه ) . هذا أضافة الى ان استثمارها جاء احاديا وبشكل فني  مباشر وفاضح ،مع ان القيم الجمالية لاتفصح عن نفسها إلاّعبر وجودها الموحي والمُختَزلَ. 
وليست الاضاءه المسرحيه بمعزل عن انفراط منظومة العرض السمعيه والبصريه، اذ سقطت  الاضاءه هي الاخرى في مسار الازاحه عن المشاركه في تشكيل المناخ الدرامي وتأسيس توقيعات دلالية دراميه . بل اكتفى حضورها في حدود الكشف عن الشخصيات والمكان .
 واقتراباًمن المعالجه الاخراجيه لتطور الاحداث والشخصيات نجد ان المخرج لم يبصرنا من الشغل الاخراجي التمهيدي  مع الممثلين قبل ان ينقلبوا على مواقفهم الرافضه لعربدة الفيل وموقف المللك اللامبالي لذلك . اذ جاء تحول الشخصيات وانقلابهم على ذواتهم ومواقفهم  سواء من ارتمى بحضن السلطه او من سقط ميتا وهو يعلن مواجهتها . جاء هذا التحول المهم في مسار الشخصيات فجاءةً دون تمهيد  وتبرير منطقي، ينبغي لناكمتفرجين ، ان نلمس تمظهره على الخشبه، بوسائل تقنيه عديده توفرها خشبة العرض امام المخرج . وهذا ماجعل  مجموعة الشعب فارغة من  بعدها الانساني . و لينحرف بالتالي مسارالعرض وجوهر خطابه النقدي القاسي الى عرض هزلي يستدر ضحكات الجمهور . وليذهب سدى ذلك  الخطاب النقدي والتحريضي للنص والعرض على حد سواء .
واجد الاشارة ايظا الى ان اسلوب كسر الجدار الرابع والاختراق البريختي التحريضي  اليتيم للجمهور من قبل الممثلين   في بداية العرض ، لم يجدي نفعا ولم يعد ينسجم مع ماأنتهى اليه العرض من نهاية تشيع الاحساس باللاجدوى والعجز .
ورغم كل ملاحظاتنا هذه ، الا ان المخرج فيصل المقدادي كان موفقافي توزيع الشخوص وتحريكها على رقعة الخشبه ، باشكال وخطوط مكثفة منحت العرض حيوية وايقاعا متدفقا . تظافرت معه جهود الممثلين الشباب . الذين ارتقت قدراتهم بشكل ملموس بفضل الجرعات الاكاديميه التي منحهم اياها د. فيصل المقدادي اثناء فترة التدريب على العرض، لما يمتلكه من خبرة اكاديمية في تدريب الممثل والتي تراكمت جراء سنوات طويلة قضاها في تدريس مادة التمثيل في كلية الفنون الجميله . .



                                                     مروان ياسين الدليمي



171
المسرحيه الغنائيه : مورن لا                نقد مسرحي





تقديـــم            : مديرية الفنون المسرحية في اقليم كردستان ./ فرقة انانا
                      للتمثيل                   
تمثيل              : نشوان بنوشا ، ايفان ، جاكلين ، ديفيد
تاليف موسيقي   : وليد زيا ، توني برخو
تاليف واخراج  : رفيق نوري
تاريخ العرض : 12/ 7/ 2008

رغم ان هنالك الكثير من المفاهيم الحديثه التي استجوبت الميراث المسرحي العالمي . وعملت بالتالي على تحريك ماكان راكدا ومتعفنا، ولطرده خارج اللعبة المسرحيه ابتدا من راينهارت ، وماير هولد . وانتونان ارتو . مرورا ببرشت وغروتوفسكي وبروك . رغم كل كل ماحققه هؤلاء من ازاحات جذريه للمفاهيم المستهلكه  . الا ان العرض المسرحي بكل تلك المواصفات الجاهزه الكلاسيكيه . لم يندثر وظل يعيد انتاج نفسه شاطبا كل التحولات وغير  مصغي لها  . كما بقي جمهور هذا المسرح وفيا له . ولكل عناصره الجماليه . ان العرض المسرحي الدائر في فلك المنهج الارسطي رغم كل المتغيرات التي عصفت به وزحزحته عن الكثير من مساحات مملكته . لم يزل يحتفظ ببريقه وسلطته الجماليه على المتلقي . ومازال يمتلك القدرة على ايصال الافكار والاشكالات التي تواجه الانسان المعاصر ..  ومسرحية مور لان شيدت بناءها الفني على قيم ومفاهيم هذا المنهج الارسطي العتيد . لتؤكد بحضورها : ان بصمة المسرح الكلاسيكي مازالت تحمل خطوطها وملامحها واضحة .

(مورن لا )  . . مسرحية غنائيه ،  قدمتها فرقة انانا التابعه لمنتدى الثقافه والفنون السريانيه في عينكاوا  . ابتدا من 12/7 / 2008 على خشبة مسرح المنتدى،   وهي من تاليف واخراج الفنان رفيق نوري ..
 ونحن اذ نحاول ان نقراء نقديا هذا العرض ، ينبغي ان نضعه في سياق عموم الحركه المسرحيه العراقيه . لانه جزء منها في نهاية المطاف ،
 رغم كيانيته السريانيه . . .  ومن هنا تحدونا الرغبة في تدوينه منهجيا في معمارية المسرح الغنائي المنتج في في محيطنا الاقليمي . .
 ان محاولة المخرج رفيق نوري في بناء تجربة جمالية مسرحيه
 يستولدها من خصوصية الجملة اللحنية خلقت لنا عرضا
لامس بشفافيه الفضاء الدرامي للعرض المسرحي الغنائي . رغم ان التجارب المسرحيه الغنائيه الناجحه   قليلة جدا سواء في المسرح العراقي او المسرح العربي ، باستثناء تجربة الرحابنه في لبنان التي اضاءت خشبة المسرح لسنوات عديده ، معتمدة تلك التجربة  علىخصوصية الالحان والاشعار.  لللاخوين رحباني .  .
لقد اعتمد الفنان رفيق نوري على نص شعري درامي كتبه هو بنفسه . ومن هنا تمكن المؤلف المخرج من تنظيم العلائق اللغويه والايقاعيه الشعريه مع ا لمتطلبات الحرفيه لبناء المشهد المسرحي .
 وفي هذ السياق انجز تركيبة متفاعله بين الجسد والموسيقى والاضاءة . هذه المنظومة السمعيه والمرئيه، التي تحرك بها العرض المسرحي على خشبة مسرح صيفي صغير ،  والذي لايتسع لكل الاشراقات الجميله لحركة مجاميع الممثلين التي احتواها العرض .
 الا ان المخرج بخبرته الاكاديميةالطويلة في المسرح. تمكن من خداعنا بصريا وجعلنا نتخيل  هذه الخشبة بمساحة واسعة لاتضيق بهذا العدد الكبير من الممثلين الذين تجاوز عددهم اكثر من خمس وثلاثين ممثلا وممثله . .  احتوى هذا العرض على فكرة رئيسية :تدعو الى السمو فوق التسميات المختلفه والايمان بفكرة الشعب الواحد  .. تأتي هذه الفكره المحورية للعرض. باعتبارها خطابا ومطلبا شعبيا لمسيحي العراق للخروج من متاهة التمزق والتشرذم وراء رايات وتسميات لن تقدم حلا لكل التهديدات والمشكلات الخطيره التي تهدد الوجود المسيحي في العراق . رغم كونهم سكانه الاصليون .
 على ذلك فان اختيار مؤلف العرض للشكل الموسيقي في بناء الفكره
و حبكة الحكايه قد اسهم في الخروج من ا لثرثرة الخطابيه  للاهداف السياسيه . ليكون الشكل الفني للمسرح الغنائي معالجة فنيه  موفقة جميله  للوصول الى مايبتغيه العرض من افكار ..لاشك ان المخرج رفيق نوري يسعى دائما  من خلال اعماله الفنيه ان يكون حاضرا باسئلته التي  يطرحها على المتلقي . ليكون العرض المسرحي لديه محكوما بقدرته على اثارة وعي المتلقي وتحريك ماهو ثابت في قناعاته .
 كما تمكن مؤلف  العرض المخرج رفيق نوري من  تحريك عناصره الفنيه على الخشبه واستثمارها دون اسراف ومبالغه . وهذا ماجعل ايقاع العرض ينمو بشكل متصاعد حتى يصل الى الذروة  في ختام العرض . ليلتحم الجمهور المتعطش لوحدة الكلمه مع الممثلين و ليرددوا معا اغنية الختام . ومع  ذلك اجد ان المخرج رفيق نوري قد اثقل كاهل خشبة المسرح الصغيره بكتلة ضخمة وثقيلة من الديكور الذي تشكل على هيئة قلعة تجمع في تصميمها ملامح معمارية من كل الحضارات العراقيه القديمه ولو كان قد ارتكز على ماتحمله حركية الفن الحديث في خطوطه وايحاأته الايحائيه لتمكن من التحرر من هذه الكتلة الضخمة ولتوفرت له مساحة وفراغا واسعا يمكن ان يستثمره لبناءمنظومته الصوريه .
  اخيرا  لابد ان اشيد بجهود المثلين الذين قدموا عرضا جيدا .دون الوقوع في شرك الصراخ او المبالغه او التشنجات الانفعاليه والعضليه التي غالبا ماتظهر على اداء الهواة . فكانت  خطوات نشوان بنوشا على المسرح متسمة بالارتكاز والاسترخاء الواضح ،  ويكاد يكون هذا لدى جميع الممثلين،  ابتدا من الممثل ايفان وكذلك جاكلين وديفيد وسالي وديانة و وانيس . وحتى الاطفال استطاع المخرج ان يوجههم بالشكل الذي جعلهم يؤدون ادوارهم وكانهم يمتلكون الخبرة في فهم الفعل ورد الفعل عل خشبة المسرح .
 تحيه اولا لجهود مؤلف العرض المخرج رفيق نوري،
 وتحيه لمن صاغ الحان هذا العرض المميز وليد زيا وتوني برخو اللذان اكدا بامكاناتهما الموسيقيه انهما لايقلان موهبة وعطاء عن الكثير من الاسماء الموسيقيه ،  سواء في المنطقه العربيه اوالاقليميه . وفيما اذا  لوتوفرت لهاذين الموسيقيين الشابين اية فرصة للعمل خارج الحدود المحليه لتمكنا من تحقيق مكانة مهمة ومميزه في البناء اللحني الدرامي . وتحية لكل من ساهم في هذا العرض .
اخيرا اقول الى من يعنيهم الامر : ان هذا العرض يستحق ان يعرض في امكنة عديده خارج الاقليم . وهو افضل رسالة فنية وحضارية للتعبير عن تطلعات واحلام الناس .


                                                            مروان ياسن الدليمي
 


 

صفحات: [1]