عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - الأب نويل فرمان السناطي

صفحات: [1]
1
أخي العزيز الاستاذ شمعون المحترم
شكرا جزيلا على كلماتك الطيبة المحملة ثراء ومحبة في التعليق على هذا المقال المتواضع بشأن أخينا الراحل، مثلث الرحمات المطران ربان القس.
 ولا يفوتني أن أقول بأن حضرتك ذكرت تفاصيل عن المجال التنموي الزراعي، ليس يملكها إلا من عرفه عن كثب. ولدوره الكبير، في معايشة شعبنا، في احلك الظروف والترحيل والنزوح من القرى، آمل أن لا يمر رحيله مرور الكرام، ويتم الاكتفاء ببرقيات التعازي، بدون ان توضع له رسمية بصمة خاصة به، في تاريخ المنطقة.
ونعم ما وصفته أخي العزيز، في كلمة الرثاء له، حال اعلان خير رحيله.
 دمت بخير وسلام.

2
أخانا الأكبر الشماس شمعون،
تحية التقدير والمحبة،
بعد ان التقت الكثير من الانطباعات والشهادات بحق المطران الراحل ربان القس، عن مكانته ودوره االفذّ في الاقليم، آمل ان يصار الى تخليد ذكراه بطريقة أو بأخرى، من قبل من بيدهم مقاليد الامور وبذلك يفرزوا للمجتمع نماذج يحتذى بها. وبحيث أنه بعد هذه الشهادات، لا يتحول رحيل هذه القامة الكريمة في المنطقة إلى مجرد ذكرى يلفها النسيان، كما حدث، كما أرى مع المطران الراحل بطرس هربولي، الذي كان له دوره، هو الآخر، في المنطقة.
أما عن شهادتك المشرقة، فإني ما زلت معجبا كيف انك بين ليلة وضحاها من رحيل سيدنا ربان، كتبت بصفحة واحدة اختصرت فيها ما يمكن أن يكتب بصفحات. وكان كاشفا ايضا، عن شخصيته ونباهتك، ان فارق العمر، بأربع صفوف، تلاشى فيما بينكما، كما الحال مع الاصغر من مطراننا الراحل مار ربان، وهذا أيضا يعود لطيبتك وتواضعك ومحبتك.
وإذ اعبر عن امتناني باتضاع، لتنويهك عني بمقال سابق (ذكرياتك عن معهد مار يوحنا الحبيب) كأخيك الصغير، فأنت تبقى بطيبتك الاخ الأكبر، وبحنجرتك الملائكية، مرشدا مُلهـِما للسمو في سماء الالحان والمقامات. وأعرف كم كانت هذه موهبة يشيد بها سيدنا ربان، ومعه الكثيرون، الرب يباركك مع اسرتك الكريمة ويرعاكم.
أخوك المحب القس نويل فرمان


3
في رحيل المطران ربان القس[/b][/size]

قراءة في لقاء وثائقي معه لمجلة الفكر المسيحي، مع إحدى رسائله الخطية

المونسنيور نويل فرمان السناطي

مرت أيام على رحيل مثلث الرحمات مار ربان القس، مطران دهوك الفخري. خلال هذه أيام العزاء لرحيله، شهدنا في وسائل التواصل الاصداءات عنه، من قبل من عرفوه مسيحيين وغير مسيحيين، من مختلف المذاهب والقوميات. ولقد بحثت كي اقدم عنه اشارة وفاء لمحبته وصداقته عبر سنوات التلمذة المشتركة والخدمة العلمانية والكهنوتية والزمالة بمعيته في المدرسة الدولية التي أسسها في دهوك؛ فلم أجد افضل من تقديم صفحات مؤونة عن لقائي الصحافي به إذ كنت موفدا، لهذا الغرض، إلى قريته كوماني عن مجلة "الفكر المسيحي" بإدارة الاباء الدومنيكان .هذه المجلة التي مع مؤسسيها الأوائل، كهنة يسوع الملك، انتظم رعيلنا ومن سبقه، مع بعض أجيال لاحقة، انتظمنا للدراسة في إكليريكية معهد مار يوحنا الحبيب للدومنيكان.[/shadow]

رحلة البحث عن المقال والرسامة الكهنوتية للاب (المطران) فيلكس
 للبحث عن المقال، ولعدم توفر الاعداد الورقية المنشورة خلال سنوات خدمتي في "الفكر المسيحي"، امضيت وقتا في تصفح قرص الارشيف الليزري لأعداد المجلة عبر تاريخها عن طريق البحث عن السنة والعدد وفتح الصور المستنسخة عن كل مقال. ثم استذكرت الأم فيليب قرما رئيسة راهبات الكلدان آنذاك، التي زارتنا في المجلة مبشرة باختياره مطرانا (سنة 2002) مشيرة إلى المقال إياه. ثم خطر على بالي انني خلال معايشتي (للقس) ربان في كوماني، كان قد زارنا الكاهنان الجديدان الاب فيلكس والاب وسام. فوجدت المقال في سنة الرسامة الكهنوتية للاب (المطران) فيلكس 1998 والذي تشاء العناية الربانية أن يكون خلف المطران الراحل في ابرشية زاخو.
وقبل أن أدخل في صلب المقابلة، هذه بعض الإشارات.

تسليط الضوء على الحياة المشرقة للكهنة في القرى النائية
استجد لدى المجلة التي كنت نائبا لرئيس تحريرها الاب الدومنيكي (المطران) يوسف توما، ان ثمة حاجة لتسليط الضوء على حياة كاهن مثل أبونا ربان، كان قد امضى سنوات عديدة في خدمة قرى بعيدة. ولهذا الغرض أوفدتني المجلة إليه في قرية كوماني مكان ولادته، ومقر خدمته لها وقرى الجوار. وكان قد احتفل بيوبيله الكهنوتي الفضي، ولكن عندما سألت في الكراج عن سيارات النقل الى كوماني، دلني عليها أحد الاخوة الأكراد، مضيفا: هي القرية التي فيها ذلك الكاهن الشاب...

كاهنان: واحد في قرية كوماني وآخر في العاصمة عمان
وجاءت فكرة وضع ملف للقائين، الواحد مع فقيدنا (الاب) ربان والاخر مع الاب الأردني الراحل موسى عديلي الذي كنت التقيته، لأول
مرة في قاعة قصر المؤتمرات للمشاركين في المؤتمر المسيحي في بغداد، وفيما بعد، أجريت اللقاء معه، خلال مروري بعاصمة بلاد البتراء. وفي التقديم لكليهما في مطلع المقال الذي بفضل تطبيق الكرتوني حديث تم تحويل نسخته المصورة إلى نص... جاء ما يأتي :
الأبوان ربان القـس في قـرية عراقية نائية (كوماني) وموسى عديلي في عاصمـة متحضرة (عمـان)، كاهنـان علـى جانب من الثقافـة والحيوية، أمضى كـل منهما في خدمته أكـثـر مـن ربع قرن.. أحدهما يخدم في خورنة القريـة وقـرى الجـوار، والآخـر يـولي عنايـة خاصة للإرشـاد الروحـي والاهتمـام بالآخر.. ويلمـس المرء الانتعـاش في حياتهما المكرسة، وبمـا يكشـف تعـدد نماذج الدعـوة الكهنوتيـة المعـاصرة المتجـددة.. وكلاهمـا يظـهرعنفوانـا يرجعه إلى المسـيح.
وهنا اقتصر في هذا المقام، بشأن المقابلتين، على  ما يخص الحبر الذي رحل عنا في هذا الايام.

الاب ربان القس: القرية أسرتي الدافئة   

من قريـة كومـاني، إحـدى الخورنات الكلدانية ضمن محافظة دهـوك، تطالعنـا شهادة الاب ربـان حزقيـال القـس، الـتي تتمحـور حـول السؤال : هذا القـس الشـاب الـذي عـرف في معـهـد مـار يوحنـا الحبيب بحيويتـه وتفوّقـه.. مـا هي، يا ترى، حصيلـة حيـاتـه المكرسة للـرب روحـا وجـسـدا.. لتأتي الإجابـة بأسلوب الخطـاب المباشـر الـذي يحـدّث القـارئ ويتساءل معه، وأحيانا يختصـر لـه الطريـق إلى المتوقـع مـن المداخلات والاستيضاحات، نترك لـه الحديـث في استرسـال تلقـائي :
ما زلت أذكر عبـارة قلتها في خطـاب الرسامة الكهنوتيـة ( 7 أيار 1973): "ولـّى الزمـان الـذي كـان فيـه الكـاهن يكتفـي بقرع الناقوس، فيـهرع النـاس إلى القـداس". فـإذا كـان الإنسـان بطبيعته ينشـد السـعادة، فـان الذي اختار الحيـاة المكرسـة في الكهنوت، إنمـا يؤكـد أن هـذا ينسجم مع تطلعات حياته. ذلك أن مستقبل الإنسـان وسعادته همـا مـن صلب رسالة الكنيـسة. ولها أن توليـه كـل الاهتمـام الـذي يستحقه، بحضورهـا المتفـاعل والحـي في الحيـاة والمجتمـع. والكاهن هـو الأنمـوذج الذي ينبغي بحياتـه وفرحه أن يشـيع هـذه الرسالة. وليست مجلة "الفكر المسيحي" وحدها التي واجهتني بالسؤال عـن عـبرة حيـاتي الكهنوتيـة، بـل سـبق وأن طرحه علـي منـذ مطلـع خـدمـتي في كوماني، قبـل ربع قرن، اصدقاء غير مسيحيين.. وبقيـت الإجابـة في كف الأيام، قبل الكلام، كـي توضع فيـها النقاط علـى الحروف.

مكتبة وكرة ونظام   
المحرر: هنا أود أن أقول، وفي معرض الروح الرياضية لأخي الروحي الراحل: كان الصعود معه عبر الشارع المؤدي إلى المدرسة الدولية بدهوك، مهمة شاقة، وذلك بسبب خطواته العملاقة الواسعة، قياسا بخطواتي، ولسرعته التلقائية. ومن ناحية أخرى، حدثني جانبيا، انه واجه يوما احد الزوار الفرنسيين في كوماني. إذ قال لي الزائر بنوع من الاستخفاف: أنكم عموما ليس لكم لياقة رياضية، مثلما عندنا نحن في فرنسا. فتواعد الأب ربان معه للصعود إلى الجبل المطل على كوماني، صبيحة اليوم التالي. وعندما حان الموعد، وبعد ان شرب أبونا قدح حليب طازج انطلق للسباق معه. وسرعان ما تركه منهارا من عدم اللحاق به، ودفع ثمن ذلك احساس خيبة كبيرة وحرج.
 أما عما سوف يسميه الاب ربان بـ "نظام الطعام المقنن" فإن المرء، ما كان يجد في ثلاجته وإلى جانبها، لا بيرة ولا شيء من ذلك،  بل ما قلّ ودلّ لزاهد مسؤول، واذا كان يزوره كهنة من خورنات او ابرشيات اخرى، حيث كانت كوماني محط استجمامهم، كانوا يتصرفون بشأن ما يشربون بخصوصية متفرّدة. وتحدث العزيز الأب ربان في معرض اللقاء بالقول:
لقد لمست أن ثمة قناعات تساعد الإنسان على عدم الذبول، مع مرور السنين. تكمـن في أسـلوب استثمار الوقت في خدمـة فكـره وروحه وصحته الشـبابية : إنـها روحانيـة ملتصقة بمثال سام، مع الموازنـة مـع عـنـاصـر الرياضـة الملائمـة و"الطعـام المقنـن المناسب" والمكتبة المختـارة..   
 فلـئن كنـت منـذ طفولتي محبا للرياضة، وادير الآن ناديا رياضيا -وهذا مـن بـاب الهواية المفضلة- بقيت اعتقـد أن علـى الإنسان أن يهتم بهوايـة أو يتخصص في انشغال قريب إلى قلبـه. إنـه بحاجة، مهما كان سنه، إلى أن يروّض جسمه علـى نـوع مـلائـم مـن الرياضـة ممـا يتطلب نظامـا غذائيا سليما، وهذا من أسس الحفاظ على الحيوية. امـا الكاهن، فهو قبـل غـيره بحاجة إلى نشـاط فكري منتظـم ومـن ثم الحاجة إلى كتب منسجمة مع رسالته وشخصيته، ليواكب أحـدث الدراسات والبحوث، وما ينتج عن ذلك من شغف بالدراسة والبحث والترجمة، ممـا تعلمناه مـن منهجية ولغات في المعهد الكهنوتي.
وعرّج في حديثه إلى تجربة تساهل بعض الكهنة مع العزائم والولائم قال:   
 ... كمـا أحسـب انـه ولّى الزمـان ايضـا، وفي الأقـل في رعيـتي، الذي فيـه يحتار المختار في مسألة جمـع قوت الكاهن ومؤونتـه وتنظيـم جدول وجبات طعامه لدى ابناء القرية. فقـد أرسـيت هنا سـياقا لا يكون فيه التواصل مع أبنـاء الرعيـة والناس، معتمدا على مجرد الدعوات والولائم المتبادلـة. هذا السياق يحـرر الكاهن كثيرا مـن ضياع الوقـت والمجاملات ، ويتحاشى ترهـل الفكر والبـدن. فليست حاجات نشـر البشـرى مرتبطـة بالتزام الناس بتوفير الطعام لـخادم البشــرى. لنـدع كل أسرة مشغولة برزقها، واكـثر مـن ذلـك، فقـد سـعيت لأطبـق المزيد في الشأن التنموي:

استثمار الأرض كوديعة ربانية بيد الانسان   
فلقد آن الأوان للكنيسة، إن لم يكـن متـأخرا بعض الشيء، بأن تؤدي دورها "كأم ومعلمـة"، حسـب توجيه المجمع الفاتيكاني الثـاني. فمنـذ الخليقـة، أراد الله أن يرفع الإنسان مـن مسـتوى عطاء الأرض، وأراد للإنسان النمو وزيادة الإنتاج، للمشاركة في عمـل الخلق، وقد خُلق الانسان مدبرا للخليقة أمـام الله. وللكنيـسة، اليـوم بـل وكـل يـوم، أن تأخذ المبادرات التي يتطلبها كل ظرف وعصر بشان قضايا البشر، بالصيغـة الإنسانية والأسلوب الملائم لدفع مجتمعها إلى أمام، إلى جانب نقل قيم الإنجيل إلى الحياة العائليـة وبمـا يجعلها تنسجم مع الحياة المعاصرة.

الدور التنموي للكنيسة والابداع في ازدهار القرى   
وفي هذا الصدد لا يسعني سـوى الإشادة بحديـث غبطـة ميشـيل صبـاح، بطريرك اللاتين، مـع "الفكر المسـيحي"، حين أكد على دور الكنيسـة في التنميـة الاقتصادية. ومـن نـاحيتي وبقـدر ما توفر من إمكانـات متواضعة، سعيت إلى التركيز على مجال تطويــر إنتاجيـة الزراعـة في مجتمعنـا، والإسهام في إيجـاد السكن الملائـم والمعـاصر لابـن القريـة. فعندمـا تتوسـع عوائـل القرية، يفكـر شـبابها بـالرحيل، إذا لم تتوفر لهـم فرصة توسيع البناء، وهـذا مـا حـاولت الخورنـة تحقيقه هنا على المديات المتاحـة. إلى جانب هذا، ثمة حاجة للسعي المتواصـل في تعميق الاستعداد لتقبـل عمـل الروح القدس في حياة كـل يـوم. فالمسيحية هي قضيـة حيـاة برمتها، وليست فقط معنية بالخبرة الدينيـة المجـردة عـن الواقـع. الكنيسـة تحمـل بشـرى هـذه الحيـاة، بشـرى محبـة الله بالمسـيح، ونحن علامة هـذه البشرى.

القرية واعدة بمعمّريها   
 وسألته: بعد الذي تقـدم، هل ثمة مقومات لما يشاع ان كاهن القرية، ينبغي اختيـاره ضمـن الشمامسة المتزوجين، خشية أن ينفجـر مـن السام والعزلة؟ ليقول:
 للإجابـة عـن هـذا التساؤل، لعلـي لسـت الوحيـد في تبني المفهوم الـذي سوف أسـوقه. وهـو أن في المدينـة حاجـة أكـثر إلحاحا إلى دار تجمـع الكهنـة في الخورنـات الكبيرة. وإلا فعندمـا يدخـل الكاهن إلى بيتـه، سيكون وحيدا في جزيرة. أما الحياة التي تكونت لدينا في القريـة، ضمـن أسـرة الكاهن والتعـايش اللصيـق مع الأسر الأخرى، فتتوفر في هذا الطراز حيـاة شبه جماعيـة. إنـها حياة عائليـة دافئة، فلا نحتاج في القريـة بـالضرورة إلى دار للكهنـة المسنين، كما في المدينة، فـالمعمرة الجـدة بسّي (١١٤ سنة ونيـف) تعيش بسلام وسط أبنـاء القريـة، وما زال معمر أصغر منها بكثير، العم ايزرايل الضرير الذي يقارب المئة سـنة، يعيـش شـيخوخة منتظمـة وهادئـة، مـن البيـت إلى الكنيسـة.
المحرر: وفي مرة تجولنا الى وادي خلف كوماني، لفت نظري أخي الأب ربان، إلى مكان استشهاد البطريرك الكلداني مار يوحنا سولاقا سنة 1555. وهنا أشار الأب ربان إلى خيار الحفاظ على عدد من المشتركات مع الكنائس الشقيقة ليقول:
هذه الكنيسـة، بصليبـها المجـرد وفـق تقاليدنـا المشـرقية، الـتي نشترك بها مع الإخـوة مـن كـنـائس أخـرى، وصورتـها الوحيـدة للعذراء التي تتبوّأ أحد أركان الحـوش. فأصبحت -هذه الكنيسة- قلـب الحياة في القرية.

"حيث ما تكون، بوسعك أن تجعل المكان مركز الكون"    المطران ربان القس

ويمضي أبونا ربان بوصف مشاعره عندما يقيم القداس في كنيسة كوماني بالقول:
 ويطـلّ الـكـاهن، وهـو واقـف أمـام المذبـح، علـى فتحة جانبية صغيرة يرى مـن خلالهـا أضرحـة الراقديـن مـن الاخـوة والأخـوات، يشركهم في الصـلاة، فيصبح القـداس، هكـذا، مناسـبة تناظر لطرازيـن مـن الحيـاة عنـد المؤمنين، هذه الحياة الأرضية، والحياة الأبديـة. وتغدو القريـة الـتي تمتـاز، دون غيرهـا بحـضـور کـاهن، محـورا للقـرى المجـاورة والمطلـة علـى وادي صبنا، من ديري والعماديـة وبيناثـا واينشـكـي وبـــــــردرش، وسرسنك. وتكـون خدمة هـذه القــرى تعويضـا لافتقارهـا إلى كـاهن، إلى جـانب مقاسمـة الإنجيـل دوريا، مع الشباب، في دهوك مقـر الأبرشية.   
وأعود فأقول، لا توجد حاجة إلى أي عـذر، في دراسـة أو غيرهـا، لـترك قرانـا الطيبـة البسيطة، إلى أوهـام المدينة. ففي النظـام الحيـاتي الـذي عـشـته، بقيـت أؤمـن بمبـدأ أن الإنسـان حيثما كان، وفي أية بقعـة نائيـة كانت، إذا مـا عـاش ضمـن قناعاته، فهو يعـد حـاضرا بتمـيز، في هـذا العـالم، ويمسي مكانـه الصغـير مركـز الكـون.

الدعوة نعمة ومعجزة   
المحرر: وأعادني أبونا ربان إلي ذكرى لقائي بالمرحوم والده العم حزقيال، في اوائل أيام اقتنائهم البيت في بغداد، فزرته قبل أن يستقروا فيه برفقة التلميذ ربان وزملاء آخرين. جاءت الذكرى انه تحدث عن  دور الوالد الراحل في دعوته الكهنوتية، قال:
لعل مقولة الإنجيل: "ليـس لـدى الرب أمر عسير"، هي التي تفسر نظرتي للحياة مـذ كنـت ابـن ۱۲ سنة، إبان حـوادث الشمال في الستينيات، يـوم طلبت مـن المرحوم والدي الذي كان في سلك الشرطة ، أن يأخذني إلى المروحية العسكرية المغـادرة إلى الموصـل، لأذهـب فــادخل السـمنير (المعـهد الكهنوتي).   
 وبالفعل تـُقـلُّ الطـائرة ذلـك الصـبي المتـأبط كيـس ملابسه وتحط بـه في الموصل؛ وأرشـدوه إلى الطريـق نـحـو مـركـز المدينـة (بـاب الطـوب)، وهنـاك يصادف أحـد أقاربـه لينقـذ الموقـف، ويدلّه إلى طريق السمنير. ذلـك الصـبي يصبح كاهنا، بنعمـة الـرب الـتي تنير كـل واحـد نحـو خصوصيـة الدعـوة التي يعيشها، سواء في الحيـاة الرهبانيـة او الكهنوتيـة أو العلمانيـة .

مار ربان رجل التعايش في المنطقة   
المحرر: في تلك الايام، أخذني أبونا ربان اكثر من مرة، الى مجالس عزاء لاصدقائه المسلمين، فكان تلقائيا معهم، وكانوا يرحبون به بحرارة. مما ذكرني، بما نقل لي عن أحدهم الذي كان السبب لحادث سيارة مع الكاهن. فكان الرجل مع جماعته مستغرقين في الحرج وفي مسؤوليتهم للتعويض عن الحادث والاضرار التي حصلت على سيارة القس. فعفا عنهم الاب ربان بنحو تام. عندئذ عُرف عن أحدهم هذا التعليق عن الأب بعد هذه المسامحة الكريمة: أليس هذا الرجل من نمط من يلقي المرء ابنه أمام قدميه.    

وهكذا عن الشهادة المسيحية قال سيدنا الراحل:
فبفضل عمـل الـروح القدس في كل مؤمن، من الممكـن جـدا ان تُعـاش حياة مليئة بالمنجزات والمعجـزات ولا غرابة في الأمر. فإنه إلى جـانب مسؤولية الدعوة المسيحية الموكلـة إلى المتزوجين، للكـاهن العـازب أيضـا شـهادة للمسـيح، يقبلـها بمـلء اختيـاره، مـع مـا تتطلبـه هذه الشهادة من تضحيـة. لكـن هذه التضحية، وبحسب وعـد الإنجيـل تعـود فتغمرنـا بمئـة ضعف، فتشــيع حبـا، في القريـة وجوارها بين ابناء كنيستنا وسائر الكنائس الأخـرى، وبـين المسـيحيين والمسلمين. إنـني أحيانا كـثـيرة لا أفهم كيف يتحقـق ذلـك فينـا وفي سائر المدعوين، لكنني لم أعـد أسـتغرب ما تنجـزه النعمـة مـن عمـل كبير فينـا. أجـل تعـوّدت الا أستغرب

نفتقده
المحرر: بعد أن اوردت نص المقابلة التي تعود الى 1998، مع ما اقتضى من تأوين والمزيد من العناوين الفرعية والتنويهات، لا بد لي أن اورد في الختام هذه الذكرى شبه الطفولية: كان ذلك لمناسبة حضوري مع اكليروس الابرشية في كندا مراسيم تكريم البطريرك مار لويس ساكو بالرتبة الكاردينالية في 29 حزيران 2018. فإني لحدّ الان افتقد لحظة، لن افتقدها بكفاية، وهي اللحظة التي كنت فيها عصر احد تلك الأيام، اتمشى في شارع قرب ساحة القديس بطرس بالمدينة الخالدة روما. وعلى حين غرّة مَـرّ المطران ربان من أمامي  بسرعته المعهودة، مر كالسهم بحيث إني في لحظة التفاجؤ تلك، لم تتح لي الفرصة بأن أصيح في اثره، وأكلمه، وليتني فعلت... حتى غاب عن نظري...   
وفي هذه الايام أيضا يختفي فقيدنا المطران ربان، لنفتقده أيما افتقاد مع الاطمئان بالرجاء الصالح على مكان افضل له، ولتبقى عنه في القلب ذكريات لا تنسى ترافق العمر. والعزاء، كما قال لي أحد اعضاء اسرته،  العزاء هو في كل ما ذكره الكثيرون عنه، وعن مكانته في القلوب. أجل ان هذا العزاء مشترك لنا جميعا مع اسرته الكريمة جمعاء.

ملحق
في  هذا الملحق، سمحت لنفسي، تمجيدا للرب، ووفاء لذكرى الراحل الكبير، ان اورد جانبا من رسالة خطية كتبها المطران مثلث الرحمات مار ربان، في 1 كانون الثاني 2005 غداة رسامتي الكهنوتية، وتكشف الرسالة عن تعبيره الخاص ومشاعره الاخوية الطافحة، ليقول في كاتب السطور، من محبته، أكثر مما يستحقه. وجاء في رسالته الخطية:
إنها نعمة، والنعمة اكتملت عندما ادرج الرب، أخينا وعزيزنا وزميل دراستنا الاب نوئيل فرمان، ليعمل فعلا من أجل الكلمة لا متفرجا بل فاعلا أي كاهنا، خادما ومعطيا الاسرار. هنيئا لنا جميعا بأن هبّت ريح نعمة الرب ليعمل من أجل كنيسة المسيح التي أحبها وخدمها.
إن حياته المسيحية وقابلياته أهلته للكلمة المقروءة والحياة الصامتة والعطاء المستمر واللقاءات الكثيرة التي بدوري أقدر أن أقول كان هو الذي يمتحن من قابلهم وكنت واحدا منهم.
ويعرف كاهننا الجديد أن سر الاوخارستيا هو القلب النابض للحياة الكهنوتية والوجه الآخر لهذا السر الذي اخذه في 29/12/2004. كما وعرف عزيزنا نوئيل أن عمله من خلال سر الكهنوت لا يمكن أن ينفصل عمّن عمل ويعمل معهم ومن أجلهم ليعطى بذلك معنى لحياته الكنسية اي اخوته المؤمنين الذين هم الكنيسة.
أضع الكاهن الجديد تحت حماية أمنا مريم العذراء، ولتكمل ما ينقص فيه. والمهم في كل هذا أنه سمع صوت النادي وقال بكل ثقة وإيمان بعد سنوات من الانتظار: ها أنذا يا رب.
التوقيع: المطران ربان القس، ابرشية العمادية.


4
في القداس بتذكار القديس خوسيماريا (1902-1975)
شهادتي عن مؤسسته (عمل الله) ورسالتها العلمانية

المونسنيور نويل فرمان السناطي
في 26 حزيران الماضي، صادف تذكار القديس الاسباني خوسيماريا ايسكريفا الذي كان سنة 1928 وراء ظهور مؤسسة مسيحية في مدريد، حملت اسم (عمل الله). وفي هذه المناسبة انتدبني اسقف كالكري للكاثوليك، المطران ويليام ماكراتن، لتمثيله في إقامة قداس احتفالي، في كاتدرائية سانت ميري للكاثوليك. وكنت تداولت معه، بهذا الشأن، ليخبرني بأنه دأب سابقا لأن يقدس في هذه المناسبة وفق القراءة الليتورجية المعتمدة، وشكرني للاستجابة على تمثيله في هذه المناسبة، بسبب ارتباط له. كما تلقى الخبر ايجابيا، راعي ابرشيتنا الكلدانية في كندا مار روبرت سعيد جرجيس. كان هذا المدخل،لأبين ابتداءًا اني خلال عملي في مجال الاعلام المسيحي، في مجلة الفكر المسيحي، والاتحاد العالمي الكاثوليكي للصحافة، لم أكن ملتفتا إلى هذه الجماعة وبقيت اعدّها في نطاق محلي محافظ خاص بها.


وكانت استجابتي، بعد ربع قرن ونيف، على الانطباع عن هذه الجماعة لترؤس احتفال بتذكار مؤسسها القديس، فرصة للتعرف بأن "عمل الله" هي مؤسسة حبرية، لها ما يسمى "مدبريات حبرية" في مدن منتشرة بالعالم ومنها كندا ولبنان، ويترأسها أب حبري، مقره في روما بلقب مونسنيور. ومع معرفة المزيد عن روحانيتها المزدهرة، رأيت ان عالمنا المسيحي المعاصر عالم لا بد ان تترسخ فيه قيم الايمان من خلال الحاجة الى محافظة ايمانية متوازنة مع التجدد والانفتاح، ازاء ما يمكن ان يظهر في بعض الأماكن، من مغالاة في الانفتاح، قد توشك ان تغدو معه قاعات الكنائس، أماكن لنوادي اجتماعية، يرتادها الناس لفعالياتها الترفيهية، غير أنها تحتاج أيضا إلى ابداع لخلق المزيد من التنوع في عيش الايمان، بحيث تتوجه موهبة كل جماعة باسلوبها الخاص، الى الجذب نحو الارتواء الروحي والانتعاش الانساني؛ ضمن هذا المحور جاءت في الموعظة شهادتي الخاصة عن إرث القديس خوسيماريا.
وإذ شارك معي في القداس أبوان (انثوني كيفين، مدبر الحبرية بكالكري، وجان كوهلر، من ابرشية كالكري الكاثوليكية) فإن كاهنا ثالثا، الاب جونز، بقي في خدمة سر التوبة والمصالحة من الساعة السادسة والنصف عصرا حتى العاشرة ليلا. هذا الاقبال من الجماعة على هذا السر المقدس، أظهر على ارض الواقع، كلمات القديس المؤسس بشأنه ضمن الملصق الاعلاني عن المناسبة (يا لها من رحمة عميقة في عدالة الله! وهي ان المعترف بخطاياه إذ يكون عرضة للعقاب، فإنه يصبح في حكم الله متقبلا للغفران، مبارك سر التوبة المقدس). ذلك ان حشدا من اعضاء الحبرية، حضروا القداس، بأجيال متنوعة من المؤمنين وبحضور عائلي بارز.

عمل الله، جذور الدعوة والتسمية في سفر التكوين
في 2 تشرين الأول 2002، في المئوية الاولى لولادته، أُعلِن خوسيماريا قديسا على يد البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الذي أشار إلى أن دعوة هذه المؤسسة تستلهم قصة سفر التكوين، مذكراً أن الخالق قد أوكل الأرض للإنسان، ليعمل فيها ويثمرها ويحافظ عليها مزدهرة؛ وأننا، بالتالي، من جانبنا نسهم في عملنا اليومي في خطة الله الشاملة. بل إن تسمية عمل الله تجد أصلها اللاتيني (اوبُس داي) في سفر التكوين، قصة الخلق، في نسخة الفولغاته اللاتينية للكتاب المقدس، حيث يورد النص ان الله (داي) أنهى في اليوم السابع العمل (اوبُس) الذي قام به... (تكوين 2:2) فنلقى في تعليم القديس خوسيماريا مسارا روحيا يعتمد كوننا جزء من خليقة الله، وأننا نتقدس في العمل بهدي من عمله المبدع. على أن جهودنا تبقى لوحدها غير كافية. لكن بالسماح لنعمة الله بالتغلغل في عملنا، تصبح شباكنا ممتلئة بامتياز، في عمل ولئن كان متواضعا إلا أنه ضروري ، طالما جاء استجابة لأمر الرب بالقاء الشباك، للعمل وفق هذا الامر.

خوسيماريا، قديس الحياة العاديّة
وهكذا يكون خوسيماريا، ملهما للعلمانيين كقديس الحياة العادية. وسرعان ما اتخذت مؤسسته الصّيغة الكنسية القانونية عن المؤمنين العلمانيين عموما والمتزوجين خصوصا، لتكون شاهدة على نشر رسالة الانجيل في بلدان عديدة من اوربا، امريكا، أفريقيا وجنوب شرقي آسيا. سنوات مثمرة عاشها هذا القديس، برغم كل معاناته الصحية التي لم تمنعه من جولاته التعليمية عبر العالم. كان يقوي جماعته في الإيمان، وفي اعلان البشرى إلى عالم اليوم، معتمدا الاتّصال الشّخصيّ، بحيث بقيت الاجتماعات تحمل مسحات شخصية في مقاسمة الانجيل. واستمر في ذلك حتى وفاته في 26 من حزيران 1975 في مقرّ عمله في روما. ويعد هذا تاريخ رحيله الى الابدية، مناسبة للاحتفال بتذكاره السنوي.

الصيد العجيب وأثر حضور المسيح في عمل الانسان
جاء في الشهادة عن "عمل الله" التعليق على انجيل لوقا (5: 1-11) بأن بناء الدعوة العلمانية التي يعيشها اعضاء الحبرية في حياتهم العادية، يقوم على الاتحاد الروحي بالمسيح، في الصلاة والحياة والنشاط اليومي. نشاط نستلهمه في انجيل الصيد العجيب، وذلك في تأمل القرب الذي عاشه سمعان الصفا مع يسوع المسيح، وتأثير حضوره على صيدهم العجيب، ليلتفت سمعان الى سمو الرب، تجاه وضاعته ضمن معشر الصيادين البسطاء، معبرا عن ذلك بالقول: "ابتعد عني يا رب لأني إنسان خاطئ!"، إلا أن المعلم الاقدس دعاه مع زملائه ليتبعوه، فيكون لهم الدور بروحه القدوس، لأن يغيروا العالم، ليس بمهارات أو مؤهلات متميزة، بل بالقوة الربانية التي تعمل ضمن ضعفهم.

التمييز بين الانفتاح الناضج والانصهارات الجارفة نحو النسبية
وضمن التعمق في تعليم القديس خوسيماريا، خلال خدمته الكهنوتية في مجال التعليم والتربية والايمان المتجدد، وأمام هذه الروحانية تترشح هذه الملاحظة: لا بد وان نلمس أكثر وأكثر ان ثمة حاجة إلى أنواع الكاريسما – المواهب، وإلى فسيفساء من الدعوات، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب القيم الإنجيلية، ولا في الشربتة (اغراق اللبن بالماء) بخصوص الرسالة المسيحية، مفكـّرين أن هذا عنصر لجذب المزيد من الناس. وهنا جاءت الاشارة إلى الكنيسة الكاثوليكية، في زمن القديس يوحنا بولس الثاني والكادرينال رايتسنغر (البابا بندكتوس 16) رئيسا لمجمع عقيدة الإيمان. ففي ذلك الوقت، وبرغم انفتاحات ناضجة ومؤوّنة للمجمع الفااتيكاني الثاني، بقيت الكنيسة تحذر من الانجراف وراء ما كان يُطلق عليه اسم النسبية Relativisme (التي تصهر كل الفروقات، وتزيل اي تميز عقائدي). هذا التوازن في الانفتاح الناضج لعصر الفاتيكاني الثاني، مع تمييزه عن النسبية المذكورة، مهّد السبيل أمام المسيرة المسكونية بين مختلف المسميات المسيحية الرسولية وغير الرسولية.

مراجعة الحياة والسرّ المقدس للمصالحة
وفي سياق الشهادة جاءت المقاسمات المتتالية، فيما يأتي نصها:
تأسيسا على هذا، اقول انه اجتذبني، بنحو إيجابي ملصق الدعوة لهذا الاحتفال الذي يشير إلى تعليم مار خوسيماريا عن سر الاعتراف. وهنا لا بد من الاستدراك، أن هذا السر المقدس قد يتعرض من وقت لآخر إلى احتمالات التهميش. واننا ككهنة أمام رسالة بذل ما في وسعنا لنخدم ثمار هذا السر المقدس، إلى جانب غيره من الاسرار الكنسية. ذلك انه في تعليم خوسيماريا نلاحظ ان طريق القداسة يمر من خلال التجدد المنتظم للحياة الروحية عن طريق مراجعة الحياة والاصلاح الذاتي في سر المصالحة هذا.

دعوة منطلقة من سر العماد والكهنوت الملوكي بعيدا عن الاكليروسانية
وهكذا في دعوة خوسيماريا لنا إلى القداسة، يذكرنا اننا في عمادنا بالمسيح، نسير لتحقيق عمل الله نحو كمال نعمة الله في حياتنا، باستئناف العمل الصالح الذي بدأه معنا في المعمودية. من المعروف أيضًا أن مؤسس حبرية "عمل الله" يستحث دعوة العلمانيين من خلال الوعي أن الكنيسة ليست رابطة اكليروسانية مكونة من الدرجات الكنسية، للكهنة والأساقفة، بل ان قرابة الغالبية العظمى من المسيحيين يشقون طريقهم إلى ملكوت السماء كأشخاص علمانيين، وهذا ضبطا ما نلمسه في تعليم القديس المؤسس وما بلوره خلال حياته.

الحضور الافخارستي، بحاجة للمورد الطبيعي ولعمل الانسان
إلى جانب ذلك، فإنه في الاحتفال الإفخارستي، إذ يصبح الخبز والنبيذ جسد يسوع المسيح ودمه، معطى لنا من أجل تقديسنا، يستجد التساؤل: ترى ما هو الضروري للقداس، إلى جانب ضرورة وجود كاهن؟ انه الخبز والنبيذ، وكلاهما ضروري لهذا السر. وهنا نجد الاشارة إلى هذا في رتبة القداس الكاثوليكي (اللاتيني) ضمن عبارة "الخبز والخمر، ثمار الأرض والكرمة ومن عمل الانسان" وفي رتبة مار توما في الطقس الكلداني (للبطريرك لويس ساكو) جاءت عبارة "..هذا الخبز وهذه الخمر من ثمر تعبنا".
لنستنتج بأن الرب يسوع لكي يكون حاضرًا بين المؤمنين في الإفخارستيا، كغذاء مقدس، فإنه يريد أن يكون ثمة من صنع هذا الخبز ومن عصر هذا النبيذ، ليغدو هذا العمل ضروريا من اجل دخول الرب في حياتنا.
وهنا أيضا تترشح هذه الملاحظة: إن يسوع لم يأخذ عنصرًا طبيعيًا لتأسيس سر القربان المقدس. فهو على سبيل المثال، لم يأخذ قطعة فاكهة، كما كان بإمكانه ان يفعل، ليقول عنها: هذا هو جسدي. وما أخذ الماء ليقول هذا هو دمي، اصنعوا هذا لذكري -هو نفسه الذي حوّل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل- بل استخدم الرب صانع معجزة الافخارستيا، ما هو ثمر من الارض والكرمة، ولكن في الوقت عينه، هو عمل ايدي بشر.

الام القديسة مريم مثالا في روحنة العمل اليومي
عندما نفكر في كل هذه الأشياء فإن هذا يتم بالطبع تحت انظار ورعاية مريم العذراء المباركة أمنا، فهي التي تشفع فينا، وقدعاشت قداستها، في بيت الناصرة، حيث امضت حياتها اليومية العادية بطريقة فائقة، وهي التي في عرس قانا الجليل، وفي اشارة إلى قدسية اتباع قول الرب، توجهت إلى الخدام بهذه الكلمات: مهما قال لكم فافعلوه (يوحنا 2: 5).

واختتمت الشهادة، التي يمكن متابعة نصها الانكليزي، في الرابط، ادناه: أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، في هذا اليوم الذي نحتفل فيه، ليس فقط بتذكار القديس خوسيماريا اسكريفا، بل بتعليمه المسيحي، نشكر الرب، على موهبة عمل الله – اوبُس داي، هنا في كالكري وفي شتى أنحاء العالم، وبما يقومون به من عمل مرئي وغير مرئي، إنه عمل رائع؛ ولهذا السبب كعضو بسيط في أبرشية كالغاري كان لي الفرح الكبير بأن أكون فيما بينكم هذا المساء، متمنيا لكم احتفالا مباركا بهذا التذكار المقدس.

رابط جوانب من قداس اوبُس داي، فيديو من اخراج الشاب المعاق اتقن اوشانا

https://drive.google.com/file/d/14UXy8TzSFXvdhn4jglGog65TQqiDD23L/view?fbclid=IwAR3i26mPs0n7xn0NcWt5J1WX3AfCOFoHFnNYBnhqHH1fchwqk4Z1WA48Qmc

5
في فيديو من إخراج الشاب المعاق اتقن اوشانا*

مقابلة الشماس خوزيه م. مارتينيز قبل رسامته كاهنا للكلدان

المونسنيور نويل فرمان السناطي

______________________

جاءت هذه المقابلة تلقائية، بدون إجابات معدة عن أسئلة مسبقة، وذلك في 17/10/2022 بعد بضعة ايام لزيارة قصيرة امضيتها في الصرح البطريركي الكلداني في بغداد، حيث تعرفت على الشماس خوزيه. وكنت سمعت عنه في اخبار الموقع البطريركي. وخلال صلوات الصباح والمساء (الصبرا والرمشا) لفت انتباهي بمشاركاته العربية والكلدانية، وترتيله لطلبات "لنقف حسنا" (نقوم شبير)، وعرفت انه مقبل على نيل الرسامة الكهنوتية في 18 كانون الاول 2022. السؤال الذي تبادر إلى ذهني، وقد يهم الكثيرين من مشاهدي الفيديو، هو معرفة من هو هذا الشخص الاسباني الذي يتكلم العربية بلكنة غربية، ويجدّ في خدمة الكنيسة الكلدانية، ويمارس طقوسها والحانها بكفاءة صوتية ملفتة للنظر. ماذا يحدثنا عن أسرته، حياته... أترككم مع الاجابات وبخصوصية لغته، مع الملاحظة المهمة، أن الرجل تكلم بإلهام اللحظة، ضمن تبادلنا الطبيعي لأطراف الحديث، الذي تمحور حول الغور في الدعوة الناضجة في التكريس الكهنوتي وكل ما يحيط بها لشخص بخصوصيته، وما ينفرز عنها من رسالة إلى المحيط الايماني:
الشماس خوزيه: مرحبا بالكل، اقدم ذاتي: انا شماس خوزيه مانويل مارتينيز غوميز، اسباني، عمري 53 سنة، نحن في العائلة 3 اخوة و3 اخوات، امي ماتت قبل سنتين، وكنت في اسبانيا من قبل، متخرج في أدب اللغة العربية بمدريد. ثم تهيأت لي زيارة البلدان العربية: سوريا لسنتين، والقدس وأيضا في لبنان. وكنت آخر مرة في بيروت سنة 2018 في كلية مار يوسف لليسوعيين، ، حيث درست ايضا العربية، لئلا أنساها، لأني كنت أنهيت الدراسات الجامعية بإسبانيا سنة 1996، ومع أني لحد الان عندي صعوبة في الحديث، لكني سأحاول "شويه شويه".
* بعد دراسته للعربية، شرح الشماس كيف التقى بالشرق، واكتشف لأول مرة الجذور المسيحية في الشرق، لمسيحيين يتكلمون العربية، وتعرف هناك على الطقوس الشرقية، سألناه عن السبب وهل يتعلق باساتذته ومن اين كانوا، قال:
- الاساتذة كانوا من الاسبان وواحد منهم فلسطيني وآخر من المغرب. فكنت أفكر، كما أظن يفكر أناس كثيرون في أوربا، أن من هو عربي، فهذا يساوي أنه مسلم. وفي الشام لما رأيت بنايات الكنائس، حسبت أنها خاصة بالمرسلين والجاليات الاجنبية. واذا هي كنائس شرقية في الاصل، مثل الموارنة والكلدان والبيزنطيين الملكيين. أما عن الطقس الكلداني، فإن أول مرة حضرته، كانت هنا في العراق. ولما عايشت في المنطقة ولثلاث سنوات، القداديس والألحان الشرقية، جاءن شعور داخلي: هذا هو الذي اريد.

بين الدراسة والعمل، بين الدعوة المسيحية ودعوة التكريس الكهنوتي
* سعيت في المقابلة إلى تعقب مساره المسيحي، وكيف امضى العقود السابقة من حياته، ليكون اليوم شماساً مقبل على نيل الرسامة الكهنوتية. فأخبرنا بأن حياته كانت تتوزع بين العمل والدراسة في التسعينيات، وأنه عمل في البداية في مساعدة والده الطبيب، في مجالات البرمجة والكومبيوترات، كما عمل في أشغال عامة لدفع اجور الدراسة والمعيشة. وإذ تبين انه لم تتوفر له فرصة التعامل باللغة العربية التي درسها، جاء التساؤل لماذا اختار دراسة العربية، قال:
- كان عليّ أن اختار ماذا ادرس، فتحقق اختياري، عندما فرزت التخصصات التي ما كنت اريد أن أدرسها مثل: القانون، التجارة، الاقتصاد... وبالمقابل رأيت في البرامج الجامعية مادة اللغة العربية. ولكن إلى أن وصلنا السنة الثالثة لم يكن الشيء ضمن ما يعجبني لأننا درسنا فقط المخطوطات والتاريخ الاندلسي في اسبانيا، أي العلوم غير المعاصرة. بل عندما أنهينا الكلية ما كنا نقدر نتكلم، وكأننا تعلمنا مجرد شيء نظري. وحين اكتشفت في الشام اني استطيع التكلم مع الناس تعجبت وقلت لنفسي هذه لغة تقدر تحكيها مع الناس بعد ان كنت درستها فقط نظريا على مقاعد الدراسة.
* في أثناء ذلك وقبله، سألت الشماس خوزيه كيف كان مسار حياته المسيحية في بيئته فأجاب:
- كنا عشنا كعائلة مسيحية، مع جدتي صلينا المسبحة الوردية، وكنا نروح للقداس. ودرسنا بمدرسة مسيحية، أما اول مرة شعرت بالدعوة فكان في مرحلة ما قبل الكلية، في الدراسة الاعدادية. ولكن ما كنت اعرف كيف، بل جربت أن اكون مع الرهبان في اسبانيا ولكن لم اجد انه هذه كانت طريقي.
س: إذن اكتشفت المسيح كمؤمن، كيف عشت حياتك، هل فكرت ان تعيش كعلماني مثلا، ثم جاءك نداء الدعوة؟
ش. خوزيه: ما كان عندي فكرة تأسيس عائلة، وما كانت عندي علاقة، تقودني الى ذلك. فكرت من البداية، في دعوتي، مع أنه ما كان عندي فكرة محددة واضحة، ولكن فكرت ان الله سوف يريني الطريق. وضمن هذا المسار، كنت درست اللاهوت.
س: حدثنا إذن عن مسار دعوتك وبحثك عن الطريق اليها.
- بعد موت امي، وكانت مريضة لسنوات طويلة من حياتها، وكنت اهتم بها وأخدمها، عندئذ شعرت بحرية أكثر، خصوصا وانه كان عندي استقلالية عن سائر اسرتي، وحتى فيما يخص الاهتمام بأبي قالوا لي: تقدر تأخذ طريقك الخاص. فقمت بزيارة القدس وشعرت بالدعوة للخدمة في العالم العربي. اتصلت مع الفرنسيسكان، فطلبوا مني العمل معهم كمترجم، وان اصير المدير لمجلة في اللغة الاسبانية "الاراضي المقدسة" ولكن في هذه الفترة كنت ادرس الفلسفة واللاهوت.
* وإذ لم يكن لي حديث مسبقه، سألته ببساطة، أن من يرسم كشماس انجيلي، يرسم على طقس كنيسة محددة، فأين تلقى الرسامة كشماس انجيلي ليفاجئني بأنه تلقاها بوضع يد غبطة البطريرك مار لويس وهنا عقب بالقول:
- يلزم احكي اول شيء كيف جئت إلى هنا وأقول: حكيت مع مرشدي الروحي، قال لي: اعطيك شهرين حتى تجد مكانك المناسب، وكان  الموعد حتى 6 كانون الثاني من هذا العام، فأتصلت بعدة كنائس مثل الروم الملكيين الاقباط واللاتين وغيرهم، وصولا إلى سيدنا البطريرك، فجاءني الجواب منه ليقول:  تجيء إلى هنا ونحكي ونرى كيف نعمل... فجئت إلى هنا في احد السعانين لهذه السنة 2022 نفس اليوم لعيد دخول يسوع إلى اورشليم... ولكني أنا جئت بالطائرة...

الدعوة الكهنوتية... مجالاتها، المواهب والانتظارات المنشودة فيها
س: هل هناك انموذج لأحد لقديسين او لشهود ايمان معاصرين، لفتوا انتباهك وفكرت: انا يعجبني اكون هكذا.
ش. خوزيه: كثير منهم لفت انتباهي. انا من الزمان الذي كنت فيه ولد (صبي)، كنت اصلي لمار يوسف، وأنا حمل اسمه بالاسبانية (خوزيه) وأظن انه مثال للمسيحي، للكاهن وللراهب. ولما كنت في سوريا، شاهدت في الشوارع صور مار شربل، ما كنت اعرفه، فقرأت عن حياته، وتعجبت كثيرا. القديسون لفتوا انتباهي ولكن بعد يسوع. وحتى من يحب مار يوسف ، يحب العذراء ايضا. كما اصلي يوميا لمار ايليا، وعندي جملة من الكتاب المقدس تقول: غيرةً غرت للرب.
* ما شاء الله، حلو، إذن، نهلت دعوتك واخذتها ايضا من شخصيات جاء ذكرها في الكتاب المقدس... ويسوع  بامتياز.
ش. خوزيه: وفي المقدمة يسوع، أما القديسين فننظر كيف يتوجهون إلى يسوع.
- هل هناك خصوصية أو كاريزما اردتها في دعوتك؟ فهناك من يختار يخدم البرص او المرضى، أو يتخصص في رعاية الشباب وما شابه؟
ش. خوزيه: هذا السؤال مهم، لأني كل حياتي كنت اسأل نفسي، مع من اعيش هذه الكاريزما، الموهبة؟ أقول: كل واحد عنده كاريزما، موهبة خاصة به. وهنا أقول شيئا عن مواطنيّ الاسبان، الذين حكيت لهم عن دعوتي... بعد رسامتي الانجيلية. في إحدى الرعيات سألوني: كيف ذهبت إلى العراق، فنحن هنا في اسبانيا نحتاج إلى كهنة... فكان جوابي إذا أنا ارسم كاهنًا هنا، لن استطيع الذهاب إلى العراق. وأضيف : هناك علاقة جاذبية للعمل في بلد ما ، وتحس انك ترتاح فيه. أما عن الكاريزما، اي موهبة خاصة بي؟ فجوابي هو: إني ما سلكت هذا الطريق، كي اطلب من يسوع أي شيء لنفسي. ونويت ألا أقول لا. أي أن الذي تطلبه مني رئاستي، مثل سيدنا البطريرك، أكون مستعدا لعمله. وعندما وصلني الايميل من سيدنا البطريرك. وفي الحقيقة كنت أقول مع نفسي: ربما ساحتاج إلى سنة أو أكثر لممارسة اللغة والتعلم على الطقس، والناس، ولكنه أراد ان أمشي في الموضوع مباشرة، فكانت عندي نفس الاستجابة.

المدعوون ومن بينهم المختارون
س: سبق وأن شاهدنا هنا أشخاصًا من الغرب، جذبهم نور الشرق، مثل الأب منصور المخلصي، وآباء دومنيكان فرنسيين عاشوا هنا سنوات، فالشرق اجتذب دعوات كثيرة. وعند حضرتك هل اجتذبتك خصوصية ما إلى الشرق ؟
ش. خوزيه: أول شيء أنا أظن أن يسوع عندما يفرز أحد المدعوين، يكون المدعو، لا اعرف ما يسمونه بالعربي، مختورٌ، واقصد بالانكليزية: chosen 
* وهنا بينت له أن صيغة المفعول لفعل الاختيار ليست مختور بل مختار، أي من تم اختياره... ليعقب:
... فعندما يريد المختار ان يغير من نفسه شيئا، هناك ما يجعل الله يقول له أنا اريد لك هذا الطريق، أي اننا نعرف أن دعوتنا هي من الله، وان الله هو يريد الخير لنا. أنا ما عندي تصورات شخصية عن المستقبل، أي اتقبل ما تريده مني الرئاسة، المتمثلة بالبطريرك، حيثما تريدني الرئاسة أن اعيش في هذه الرعية أو تلك، فأن أعيش هذه الدعوة في الرعية، ولكن كخادم.
س: في نقاشك مع مرشدك عن اختبارك للدعوة، هل وجدت أشارة تبين لك في اختبارك أن هذه الدعوة هي دعوتك، وقلت: نعم هذا هو الذي أريده؟
ش. خوزيه: لما تقرأ للقديسة تريزيا للطفل يسوع، يوجد لها قول معناه بالعربي: الله يضع في قلبك، كل ما هو يريد أن يعطيك، أي انه يجعل هذا في نيتك. وأنا ايضا وجدت عندي هذه النية ان اكون في الشرق.
* ايضا القديسة تريزا دي كالكتا، الام تريزا، كان عندها مبدأ، في اختبار الدعوة لتقول: مقياس اختبار دعوتي هو الانبهار الدهشة وأن أفرح بها. هل احسست بشيء في طريقة اختبار دعوتك، هل احسست بفرح بسعادة؟
ش. خوزيه: نعم، حضرت القداديس والطقوس الشرقية، القداس الكلداني، شعرت كأني مثل من هو في حلم، في الجنة.
س: إذن تذوقت الليتورجيا الكلدانية، وبالحقيقة أنا من ناحيتي فرحت وتعجبت كيف صار لك بهذه المدة القصيرة، إلمام بقراءة الكلدانية (يضحك بانشراح) إذن اختبارك لدعوتك جاء بضمنه، هو محبتك لليتورجية الشرق؟
ش. خوزيه:  نعم وممكن لهذا السبب، كان بامكاني ان ادرس بسرعة وأفهم. كذلك كل هذا جاء بمساعدة الله وبإلهام الروح القدس.

الدعوات المتأخرة - مثل يسوع عن: عمال الساعة الاخيرة
س:  يسوع من خلال الامثال التي أعطاها في تعليمه، جاء بمثل عمال الساعة الأخيرة...
ش. خوزيه: (بابتسامة عريضة) نعم أنا من جماعة الساعة الأخيرة...
س: كيف تصف الوقت الذي قضيته قبل وصولك إلى هذه الدعوة، في هذه المرحلة العمرية، بما يقارن بعمال الساعات الأخيرة في هذا المثل الإنجيلي: اين كنت في تلك الساعات (السنوات)؟
ش. خوزيه: طوال حياتي فكرت في الموضوع. كانت سنواتي تمر وتمر وما لقيت المكان المناسب، أما الآن إذ انظر إلى الوراء، اقول: ان كل ما عشته في السابق هو الذي قادني الى هذا اليوم.
* شكرا، هذا رائع، إذن تلك السنوات هيأتك إلى هذا الحال، حتى جاءت إرادة العناية الربانية في الوقت المحدد لها.
ش. خوزيه: نعم فإن الوقت الخاص بالله، هو غير الوقت الخاص بالانسان.


لكل دعوة خصوصيتها
س: في دعوتك، هل ثمة قضية محددة، هدف محدد، تتطلع أن يتحقق خلال خدمتك الكهنوتية ؟
ش. خوزيه: نعم، التعمق في الروحانية على نهج التكريس، في مجال الصلاة، وذبيحة القداس الإلهية. وأن يبقي الجواب العميق في داخلي: لا أريد أن أعمل مشيئتي، بل مشيئة الرب، وهذا عبر الرؤساء.
س: ما هي انتظاراتك؟ لما بعد الكهنوت والرسامة في 18 كانون الاول 2022 القادم.
ش. خوزيه: ستكون الرسامة في تذكار مار يوسف. انتظاراتي أن اكون أمينا لدعوتي الكهنوتية؟ ما يطلبونه مني، اعمله، وفي داخلي فرح وسلام، ليس لي شيء خاص بي بحيث اصر على أن أحققه.

الرسالة إلى مختلف الباحثين عن دعوة لحياتهم
* في هذا اللقاء، كان حديثنا أساسا عن خبرة الدعوة الكهنوتية، ليكون مثل رسالة غير مباشرة للباحثين عن دعوة محددة في التكريس وفي الكهنوت، ولكن أيضا هل عندك رسالة مباشرة إلى الشباب، عن دعوة ما، في حياتهم المسيحية، ماذا تقول لهم ، ايها الشماس الانجيلي خوزيه مانويل مارتينيز غوميز؟
ش. خوزيه (بعد إشراقة ضاحكة): اقول لهم: أساس كل شيء العلاقة الشخصية مع يسوع. إذا أحسستُ بشيء بداخلي، لا اختار طريقي من ذاتي بل أسأل مرشدًا روحيًا. أهم شيء الحياة الروحية، الصلاة، الاسرار، القداس الاعترافات. وما تتعب، تمشي وتمشي، ما تمل، لأن كلنا بيد الله، هو يعرفنا اكثر، نحن لا نعرف مثله.. وحتى في مجال عمال الساعة الأخيرة.. في الانتظار، له مشروع لكل واحد منا.
-  بمناسبة الحديث عن مشروع لكلنا، ما هي رسالتك إلى أناس ليس عندهم دعوة كهنوتية؟
ش. خوزيه: رسالتي لهم أننا  كلنا مدعوون، الطبيب أو الشرطي او غيرهما. فإلى جانب الدعوة الدينية -الكهنوتية، الرهبانية- المحددة، كلنا كمؤمنين مدعوون إلى ان ترتكز دعوتنا على العلاقة مع الله.
س: فإذن توجد دعوة مسيحية إيمانية عامة وكل واحد حسب خصوصية عمله ومجاله...
ش. خوزيه: وهي اننا كلنا مدعوون إلى القداسة، بأي طريقة كانت، كهنوتية أو مدنية (علمانية) لأن يوجد الكثيرون صاروا قديسين وهم ما كانوا لا رهبان ولا كهنة، كانوا علمانيين.
-  شكرا جزيلا شماس ش. خوزيه مانويل الرب يباركك. وان شاء الله وصلت رسالتك، وأنا بالنسبة لي، ما كنت اعرف عن مسيرتك اشياء كثيرة وجميلة اكتشفتها الآن.
وآمل ان تصل الرسالة إلى الكثيرين من مشاهدينا في المقابلة الفيديوية... وأنا توقعت، اعزائي المشاهدين، أنه صعب عليه أن يحكي، أن يعبر عن نفسه بالعربية، ولكنه مشى مع كل المقابلة بالعربي، وما احتاج إلا مرتين أو ثلاث، لاستخدام عبارات اجنبية مثل: شلتوا - تشوزن (مختار) سوبريور (الرئيس)..

فالحمد لله، شماس خوزيه، شيء جميل انك دبرت الاجابات بالعربية، وأنت تتعلمها أكثر فأكثر.
ش. خوزيه: هيدي هيدي (بهدوء وهدوء)!
_______________________________________________
* أتقن يوسف اوشانا، شاب معاق بالشلل الرباعي منذ الطفولة، وفاقد النطق (يعيش مع أهله في امريكا، ميشيغن) مؤسس ومدير قناة فيسبوك: أخوية مريم الطاهرة ولها 1208 متابع والأصدقاء بعدد (4951). يدير صفحة يوتوب للاخوية، إلى جانب صفحات آخرى للتراتيل الدينية والقراءات الانجيلية، ويخرج كليبات فيديوية بقراءات الانجيل تتضمن الصور التوضيحية على خلفية النص بالعربية او الانكليزية او الفرنسية. ووقد تم وصفه في مقابلة صحافية معه بـ (صاحب الأقدام الناطقة).
https://youtu.be/eYSXwsgbPRc
الترجمة الانكليزية للمقابلة
والمنشورة في الموقع البطريركي تحت الرابط
https://saint-adday.com/?p=51756

Transcribed from a video directed by Atkin Oshana **
Interview with the Spanish Deacon Jose M. Martinez
prior to his ordination as a Chaldean priest

Msgr. Noel Farman El-Sanaty
This interview happened spontaneously on October 17th, 2022, after a few days spent in the Chaldean Patriarchal edifice in Baghdad, where I met Deacon Jose Martinez. I had read about Deacon Jose on the Chaldean Patriarchal website; however, I was truly drawn to getting to know him after I heard him during the morning and evening prayers (Sapra and Ramsha). Deacon Jose’s Arabic and Chaldean participation during the liturgies and his especially good chanting of the petitions “Let us stand well” (N’qoum Shappir) led me to ask: Who is this Spanish person who wants to serve the Chaldean Church? What kind of family does he come from? What has his life been like? As a journalist, I wanted to explore what had drawn a mature Spanish speaking man to be ordained a Chaldean priest this December 18th, 2022. I wondered also how his answers could inspire people today.
- I am Deacon Jose Manuel Martinez Gomez. I am 53 years old. We are 6 siblings in the family: 3 brothers and 3 sisters. My mother passed away two years ago. I was raised in Spain. In 1996, I graduated from Madrid University with a degree in Arabic language literature. This led me to visit Arab countries such as Syria (2 years), Jerusalem and Lebanon. The last time I was in Beirut was in 2018. There, in St. Joseph Jesuit College, I continued studying Arabic, lest I forget it!  I had to improve and practice! Until now however, I still have difficulty speaking in this language, but I will try "little by little."
* After studying Arabic, deacon Jose explained how he found Arabic Speaking Christians, and how he became acquainted with their Eastern rituals. With this modest knowledge about Arabic countries, I asked him if this was related to his teachers and where they were from. He said:
- The teachers were Spanish, one of them was Palestinian, and the other was from Morocco. So, I was thinking -as I think it is the case with people in Europe- that whoever is an Arab, would be a Muslim. When in the Middle East, I saw the churches. I thought that they belonged to the missionaries and the foreign communities. Then to my surprise, I found out, they are Original Eastern churches, such as the Maronites, the Chaldeans, the Melkite Byzantines, and others. As for the Chaldean rite, the first time I attended a celebration was here in Iraq. In fact, over a period of three years every time I entered the eastern churches in the region for masses and oriental hymns, an inner feeling came to me: ‘’This is what I want’’.
Between study and work
Between Christian faith and priestly vocation
* I asked deacon Jose, how he had spent the previous decades of his life, to be today a deacon prepared to receive priestly ordination. He told me that his life was, first, divided between work and studies. At first, he assisted his father, a doctor, in the fields of programming and computers. He also was in public works to pay his studies and living expenses. I understood that he did not have the opportunity to work his knowledge of the Arabic language, so the question arose as to why he chose to study Arabic. He said:
- I had to choose what to study, and my choice was inspired when I sorted out the major topics that I did not want to study, such as: law, commerce, economics... On the other hand, I saw Arabic language in university programs; it was my choice. However, till the third year, it was not within what I liked because we only studied manuscripts and Andalusian history in Spain. So, when I finished college, I was unable to speak. I had only learned something theoretical. Therefore, when I discovered the Middle East, I was able to talk to people. I was amazed and told myself: this is a language that you can speak with people. On school benches, I had learned the language theoretically.
Q: How was the path of your Christian life in your original environment?
- We lived as a Christian family. With my grandmother, we prayed the Rosary, and went to Mass. We studied in a Christian school, but the first time I felt the call was in High School. But I did not know how. I tried to be with the monks in Spain, but I did not find that this was my way. I didn't have the idea of forming a family, and I didn't have a relationship that would lead me to that. Although I did not have a specific and clear idea in the vocation, but I thought that God will show me the way. Within this intention, I studied theology.
Q: What were the steps you took on this path?
- I cared and served my mother who was sick for many years. After she passed, I felt released. I was personally and financially independent from the rest of my family and my siblings encouraged me to follow my own path saying that they would care for our father.
So, I visited Jerusalem and felt called to serve in the Arab world. When I contacted the Franciscans, they asked me to work with them as a translator, and to become the director of the Spanish-language magazine "The Holy Land". During this period, I was already studying philosophy and theology.
Q: How did you end up becoming deacon?
- I spoke with my spiritual guide. He gave me two months to find a suitable place. The deadline was January 6 of 2022 so I contacted several churches such as the Melkites, the Copts, the Latins. I wrote to Mgr Sako, the cardinal of the Chaldean Patriarch. His answer was clear: Come here, we will talk, and see what we can do... I arrived in Bagdad by plane April 10th, 2022, the same day of Psalm Sunday, Jesus' entry into Jerusalem. When I received the e-mail from His Beatitude, I said to myself: Perhaps I will need a year or more to practice the language and learn about the rite and the people. Cardinal Sako, however wanted me to walk directly into the matter; thus, I was ordained deacon according to the Chaldean Rite.
The priestly vocation... its fields, talents, and expectations
Q: Is there a model, a charisma in one of the saints or contemporary witnesses of faith, who caught your attention and you thought: I’d like to be like this?
- This question is important, because all my life I have been asking myself, with whom do I live this charisma, talent? I would also say: everyone has his own charisma- talent. Here I would add something about my Spanish compatriots, to whom I spoke about my vocation, when I went back to them after my diaconal ordination. In one of the parishes, they asked me: Why did you go to Iraq, because here in Spain we need priests? My answer was that if I am ordained a priest here, I will not be able to go to Iraq. And I added: There is a devoted relationship to work in a country, where you feel yourself comfortable.
As for charisma, what kind do I have? My answer is: I did not take this path to ask Jesus for anything for myself. I just intended to: not to say no. Whatever, my hierarchy requires of me, like our Patriarch, I am ready to do.
Chosen among those who are called
Q: We have already seen here in Iraq people who came from the West, attracted by the light of the East, such as Father Mansour al-Mukhalisi, and French Dominican fathers who lived here for years. What about you, is there any specific factor that attracted you to the East?
- The first thing I think is that when the Lord selects one of those who are called, they are “chosen”. So, when the “chosen one” would like to change something from himself, God says to him, “I want this path for you”. This leads us to discern that God wants for us whatever is good. I do not have any personal agenda about the future. Wherever the Hierarchy would want me to be, in this parish or that, I will respond to live this call in the parish, but as a servant.
Q: In your discussion with your spiritual director, did you find any motivation to respond to the vocation? Inspiring you to say: Yes, this is what I want?
- In reading something about what St. Teresa of the Child Jesus, wrote I found a sentence that inspired me: “God puts in your heart all that He wants to give you”. This could be then a part of our intention. This is what brought me to the East.
Q: Also, St. Teresa of Calcutta, Mother Teresa, had a principle, when examining the vocation, to say: The criteria for testing my vocation is fascination, amazement, and rejoicing in it. Did you feel something in the way of testing your vocation? What did you feel?
- Yes, when I attended masses and oriental rites, the Chaldean mass, I felt like someone in a dream, in heaven.
Q: So, you tasted the Chaldean liturgy, and in fact, for my part, I was amazed at how, in such a short period of time, you became familiar with the reading of Chaldean …
- Laughing gleefully, Deacon Jose replies: Yes, and it is possible, that, for this reason, I could focus and understand in studying quickly. All this also came with the help of God and the inspiration of the Holy Spirit.
Late Vocation - Parable of Jesus on: Latter Hour Workers
Jose Martinez: The time of God is different from the time of man
Q: Jesus, through his teaching, came up with the parable of the workers of the last hour...
- With an enthusiastic smile, Deacon Jose says: Yes, I'm from the last hour group...
Q: How do you describe the time you spent before reaching this call, at this age, in comparison to the parable “workers of the last hours”? Where were you in those hours (years)?
- All my life I've thought about it. My years were passing by, and I did not find the right place, but now that I look back, I say everything that I lived in the past is what led me to this day.
* Thank you, this is wonderful! So those years prepared you for this moment, until the will of God's providence came at the appointed time.
- Yes, the time of God is different from the time of man.
Each vocation has its own type
Q: Is there a specific goal, that you aspire to achieve during your priestly service?
- Yes. Deepening in spirituality, in prayer, the Divine Liturgy, the sacraments… keeping this in mind: There is nothing of my own that I insist on achieving; for I do not want to do my will, but the will of the Lord, through the superiors; doing it with joy and peace in the heart.
The message to the various seekers of the vocation in their lives
Q: Aside from the call for consecrated life, what is your direct message to young people, about a vocation, in their Christian lives?
- I would tell them: The basis of everything is the personal relationship with the Lord. If I feel something inside me, I don't choose, from myself, my own path, but I rather ask the advice from a spiritual guide. The most important thing is the spiritual life, prayer and as I said, the sacraments. I would add also: walk and walk, don't get bored, because we are all in the hands of God. He knows us better. We don't know like Him. Even in the case of last hour workers… to keep waiting, for the Lord has a project for each one of us. We are called: the doctor, the policeman etc. Beside those called for a religious life, or a priestly vocation, all of us, as believers, are called to our basic vocation ‘the relationship with God’. And so, we are all called to holiness; for as we know, there are many who became saints and they were neither monks nor priests, they were secular.
- Thank you very much, Deacon Jose Manuel.
________________________________________________________
** Atkin Youssef Oshana, a young man who is quadriplegic and mostly non-verbal since childhood, lives with his family in Michigan, USA. He is the founder and director of the Facebook channel: The Immaculate Maryam Brotherhood, with 1208 followers and 4951friends. He runs the Brotherhood's YouTube page, along with other pages for religious hymns and Bible readings and produces video clips with Bible readings that include illustrations against the background of the text in Arabic, English or French. He was described in a press interview as the owner of talking feet.

6
أخي االكاتب القدير رابي عوديشو يوخنا المحترم
شكرا جزيلا لمرورك الطيب والتبرك بهذه الصلاة في هذا الزمن الصعب لانعطافة مقبلة في تاريخ وطننا. وللأمانة يسرني أن أنشر الصيغة المتداولة لهذه الصلاة في العراق، والتي كان الواحد يصليها امام مغارة ام الاعجبوبِه، في كنيسة الساعة للاباء الدومنيكان.
صلاة مار برنردوس الى مريم العذراء،
اذكري يا مريم البتول الرؤوف، أنه لم يسمع قط أن احد التجأ إلى حمايتك وطلب شفاعتك فخاب. فبهذه الثقة، قصدتك يا عذرا العذارى أمي، متضرعا اليكِ، وباكيا على ما صدر مني من الخطايا والذنوب، فيا أم الكلمة الالهي لا ترذلي طلباتي، بل استمعي لي برأفة واستجيبي لي آمين.
وفيما يلي صيغة الصلاة ببعض اللغات:الانكليزية، الفرنسية، الايطالية، الاسبانية والالمانية، من ضمن عشرات اللغات الاخرى:
وهي تحمل عالميا عنوان  Memorare
الصيغة الانكليزية The Memorare in English
Remember, O most gracious Virgin Mary, that never was it known that anyone who fled to thy protection, implored thy help, or sought thine intercession was left unaided.
Inspired by this confidence, I fly unto thee, O Virgin of virgins, my mother; to thee do I come, before thee I stand, sinful and sorrowful. O Mother of the Word Incarnate, despise not my petitions, but in thy mercy hear and answer me. Amen.

الصيغة الفرنسية: Memorare en Français
Souvenez-vous, ô très miséricordieuse
Vierge Marie, qu'on n'a jamais entendu dire
qu'aucun de ceux qui avaient eu recours
à votre protection, imploré votre assistance,
réclamé votre secours, ait été abandonné.
Animé d'une pareille confiance,
ô Vierge des vierges, ô ma Mère, je cours vers vous
et, gémissant sous le poids de mes péchés,
je me prosterne à vos pieds.
Ô Mère du Verbe, ne méprisez pas mes prières,
mais accueillez-les favorablement et daignez les exaucer.
Amen .
بالايطالية
Memorare, o piissima Virgo Maria
non esse auditum a sæculo,
quemquam ad tua currentem præsidia,
tua implorantem auxilia,
tua petentem suffragia, esse derelictum.
Ego tali animatus confidentia,
ad te, Virgo Virginum, Mater, curo,
ad te venio, coram te gemens peccator assisto.
Noli, Mater Verbi,
verba mea despicere ;
sed audi propitia et exaudi.
Amen.1
بالاسبانية
Memorare (Spanish)
Acordaos, oh piadosísima Virgen María!,
que jamás se ha oído decir
que ninguno de los que han acudido a vuestra protección, implorando tu auxilio, haya sido desamparado.
Animado por esta confianza,
a Vos acudo, Madre, Virgen de la vírgenes,
y gimiendo bajo el peso de mis pecados
me atrevo a comparecer ante Vos.
Madre de Dios, no desechéis mis súplicas,
antes bien, escuchadlas y acogedlas benignamente.
Amén.
الصلاة بالالمانية
Memorare (Deutsch)
„Gedenke, gütigste Jungfrau Maria, man hat es noch niemals gehört, dass jemand, der zu dir seine Zuflucht nahm, deine Hilfe anrief, um deine Fürsprache flehte, von dir verlassen worden sei. Von solchem Vertrauen beseelt, nehme ich meine Zuflucht zu dir, Mutter, Jungfrau der Jungfrauen; zu dir komme ich; vor dir stehe ich seufzend als Sünder. Mutter des Wortes, verschmähe nicht meine Worte, sondern höre mich gnädig an und erhöre mich. Amen.“

7
نخوة شعرية مؤجلة منذ زمن الجائحة ودعاء سان برنار شعرا
أ. نويل فرمان

- يا شعب عراقنا قرة أعيننا
خالدا تبقى لنا يا غاليا كالضنا
-  رحمة بالشهداء فوق ارض الأنبياء
- رحماك رب الأنام أبعد الموت الزؤام
نور قلوب الأفهام في مسالك السلام
- إخوتي والأخوات بقلوب وآهات
بمريم الامهات نرفع هذه الصلاة
- بيراع القندلا إذ أحب الموصلا
أسقفا مدللا عن برنردوس ناقلا
"إذكري أم الحنا أن كل من عنا
بابك يشكو الضنا نال في الحال المنى
- فاسمعي اليوم الصياح، من شقي في البراح
ضمدي منه الجراح خففي عنه الأذى
- ما سمعنا من خبر في أحاديث البشر
أنه خاب وطر من أتاك يا رجا
هل أكون المستضام في البرايا والأنام
تبعدي عني المرام مبعدا طول المدى
https://fb.watch/fgsGl7UM1T/
هذه الترتيلة مأخوذة من الصلاة المعروفة باسم صلاة مار برنردوس الى مريم العذراء، وهي مرتلة ضمن الرابط المؤشر اعلاه، قام كاتب السطور بأدائها مع العازف هيلاري ديسوزا
وهذه هي الصلاة المعروفة والمترجمة بأكثر من صيغة.

صلاة القديس برنردوس
 
إذكري يا مريم

إذكري يا مريم العذراء الحنون
أنّه لم يسمع قط ان احداً التجأ إلى حمايتِك
وطلب معونتكِ ورُدّ خائباً.
فأنا بمثل هذه الثقة، التجيء اليكِ
أيتها الأم، عذراء العذارى،
وآتي إليكِ، واجثو امامَكِ،
أنا الخاطئ المسكين،
متنهّداً، فلا ترذلي تضرّعاتي،
يا امّ الكلمة، بل استمعي لي بحنو
وإستجيبي لي. آمين



8
فيديو تعريفي للناشط جميل ايليا عنه وعن قناته
خبرة الإصابة بشلل رباعي وفقدان النطق، اتقن اوشانا مثالا

ا. نويل فرمان السناطي
_______________   

في زمن التحديات على مختلف أنواعها، عندما نتعرف على الشاب المبتسم والضاحك أتقن يوسف اوشانا، نجد فيه شاهد ايمان "بصوت" نبوي يستصرخنا. إنه، لنلمس بأنه يعيش عفوية انشودة المحبة للقديس بولس: وباستثناء صرامته الرسولية ضد السياسيين الفاسدين -إذ لا يفرح بالظلم...- تجده يعيش انشودة المحبة (1قورنثوس13: 4-7) وكأنه استبدل مفردة المحبة، باسمه الشخصي، بلسان حال لعله يستحق الوصف بهذه الكلمات: اتقن يصبر ويرفق، أتقن لا يعرف الحسد ولا التفاخر ولا الكبرياء، اتقن لا يسيء التصرف، ولا يطلب منفعته، ولا يحتد ولا يظن السوء، أتقن لا يفرح بالظلم، بل يفرح بالحق، اتقن يصفح عن كل شيء، ويصدق كل شيء، ويرجو كل شيء، ويصبر على كل شيء.الشاب "أتقن" شاهد ايمان وأصابع اقدام ناطقة
فقد نشر مؤخرا على الفيسبوك وباليوتيوب فيديو قام به في سان دياغو الناشط جميل ايليا مع السيد أتقن يوسف اوشانا بعنوان (تعرف على صاحب القناة اتقن اوشانا) الرابط أدناه إلى جانب رابط انتشر له لكليب فيديو اخرجه عن صلاة للوقاية من فيروس كورونا والتي وضعها البطريرك ساكو. ولأن الصورة والمشاهد الفيديوية في أيامنا تحكي اكثر من 1000 كلمة، فإن الفيديو التعريفي للاخ جميل جاء بلغة شعبية واجابات واضحة من اتقن على الشاشة بحركة قدم رشيقة على لوحة المفاتيح، أو بإيماءة وابتسامة. فبرغم إصابته منذ الولادة بشلل رباعي مع فقدان النطق، استطاع أتقن تعليم نفسه وإجادة فن الاخراج الفيديوي باليوتيوب وعلى الفيسبوك جاءت بثمارها في كليبات وجدانية روحية وليتورجية مع مقالات قصيرة وشهادات إنسانية وايمانية إلى جانب خدمات دي جي لبعض المناسبات، ليس بيديه، بل بأصابع قدميه. كل هذا بتشجيع ورعاية اهله واخويته والابرشية الكلدانية في سان دياغو، التي يغادرها مع اهله هذه الايام ليستقر في ميشيغن.
وبهذه المناسبة يسرني أن اقدم في هذه الصفحات، وبالتنسيق مع أتقن، مراسلاتي الصحافية معه موثقة على مدى اسابيع، عبرالبريد الخاص بالصفحة التي اسسها ويديرها باسم: أخوية مريم الطاهرة. ومعها تشكيلة مختارة  من صور ارسلها لغرض المقابلة. وإذا كانت هذه المراسلات قد تمت على مراحل وحقب سابقة، فإن صبر الرجل وعدم تهافته على الاضواء، جاء بالثمار المرجوة، إذ ما كان بوسعي أن اعبر عما ينجزه اتقن، بمجرد الكلمات، أمام حاجة أن تقترن الكلمات بالصورة الناطقة والمشهد، للفيديو التعريفي عن قناته وجاء بناء على مقترحه واهله، ليترجم للقارئ ما تمخضت عنه شهادة حياته. وكان قد بدأ تعاملي معه بمشروع بادر به: تسجيل ترتيل لفصول الانجيل مع نشر أناجيل الأحد للمواسم الليتورجية.
المراسلة التمهيدية منذ 2018
"أخي أتقن، ادخل في الايام الاخيرة (تشرين الثاني 2018) لتحضير سفري الى بغداد لحوالي سنة. وبهذه المناسبة، اشكرك على جهودك في اخراج كليبات الانجيل التي سجلتها لتخرجها مصحوبة بالنص والصور المعبرة. وحان الوقت أن آخذ اجازة المحارب (بحسب تعبيرك) حتى تستقر اموري هناك. وحتى لا تحسب، أني عاطل عن اهتماماتنا المشتركة، خلال هذه الاجازة، فإني أردتك شخصيا مصدرا لاهتمامي وبعض كتاباتي: لتكتب لي شيئا عن سيرة حياتك، بالاجابة عن الأسئلة المتسلسلة بالارقام مع الملاحظة الاتية: عددها يزيد على العشرين، ويوجد ترك بحسب اختيارك. وتقدر أن تجيب عن سؤال أو سؤالين.  لتكون وثيقة عن سيرتك، بصفتك، في رأيي، واحدا من أبرز المتميزين بين ذوي الاحتياجات الخاصة (وما تصفه عن نفسك بالعوق) ممن استطاعوا ان يعطوا انموذج التعامل مع عوق مزدوج:  شلل رباعي وفقدان النطق، بتشجيع أهلك ورعايتهم وكذلك اخويتك والابرشية المحلية، واتركك مع الاسئلة.   
ملاحظة: تقدر ان تعبر بطريقتك حتى بالعربي الدارج، وأسعى للمحافظة على رونق اجاباتك وشكلها الطبيعي بحيث تكون مفهومة.   
تعليق اتقن على قائمة الأسئلة: آه !!! يا ابونا كل اسبوع سؤالين بالكاد أقدر اجاوبك... ! ثم هل توجد امكانية مساعدة صديق، مثل برنامج من يربح المليون؟   
- نعم أتقن ممكن مساعدة صديق، مساعدة الوالدين...! وأحتاج صور متنوعة لك قديمة وحديثة.
اتقن، معلقا على سفري (2018-2019) إلى بغداد: احمد الله على سلامتك بهذه السفرة ويكون فيها الخير عليك يا ابونا نويل يكون بالك على نفسك ان شاء الله ترجع الى بيتك وعائلتك بسرعة.
المراسلة الصحافية الالكترونية
سؤال 1- مواليدك؟   
الجواب: مواليدي 19 أيار 1979، يوم السبت الساعة الثالثة ظهرا.
2- ممكن اعطاء فكرة عن والديك وعائلتك؟   
 ج: يوسف اوشانا، ابي. سارة توما، امي. إخوتي وأخواتي: مارك أخي الاكبر، وبعدي الإخوات والإخوة: انتصار، جوني، روزانا، رامي، سليفيا وكاسندرا اوشانا. وانت تعرف اسمي اتقن اوشانا..!   

3- متى كان أول احساسك بالعوق وعدم النطق، كم كان عمرك؟   
ج: لاحظت اني معوق عندما كان عمري خمس سنوات. لكني كنت احسب اني في حلم وسوف اقوم منه في يوم ما. فكرت مع نفسي هذا ليس حقيقي. بعد ذاك اكتشفت اني معوق. 10/24/18, 9:33 AM
4- أول شعور لك بالايمان، وكيف تلقيت تعاليم الايمان؟   
ج: أول شعوري بالايمان كان مع عمر ٧ سنوات. ثم تلقيت التعليم في الايمان وكان عمري ٢٠ سنة لما صارت كنيسة العذراء قريبة من بيتنا في كمب الكيلاني لذلك احب كنيسة مريم الطاهرة.
للناس ملاك واحد فقط أما أنا...
5- تعتمد كثيرا على والدتك بحياتك اليومية، وما رأيك باهتمامها فيك، منذ طفولتك ولحد الان.
ج: كل الناس عندهم ملاك واحد فقط، أما انا فعندي الملائكة صاروا اثنين: واحد لا أراه، والذي أراه هو امي. ماذا أقول عنها، ما أقدر أن أكافئها، هي كل شي في حياتي الرب يسوع يباركها ويخليها لي.
من المفضلين عندي في طفولتي: كامل الدباغ، خالد جبر و... نسرين جورج      
6- كيف تطورت عندك المعرفة والكتاب المقدس والمسيحية، وصياغة العبارات المكتوبة وذكر الامثلة، سواء بعد التعرف على الكومبيوتر أو قبل ذلك.   
ج: في يوم سافرنا الى مشيغان عند اختي. امي واختي ارادتا الذهاب الى السوق. امي قالت لاختي: افتحي  له الكمبيوتر حتى يسلـّي نفسه (!!!) يا حرام... النتيجة اني خربت لها كمبيوترها. من ذلك الوقت لحدّ الآن، صرت استعمل الكمبيوتر، وقليلا فقليلا طورت نفسي، الان صرت انا اصلح الكمبيوتر.   
قبل ذلك، اول معرفتي بالاشياء، طول عمري كنت اجلس في البيت، فقط أشاهد التلفزيون. أعجبتني برامج تلفزيونية مثل (العلم للجمیع) للاستاذ كامل الدباغ، بسببه صارت تعجبني التكنوولوجيا، كما تابعت برنامج خالد جابر عن الرسم وبرنامج سينما الأطفال لنسرين جورج. اقول ذاكرتي هي كلها تلفزيونية.
هذا جواب لنصف السؤال (راح اجاوب) على النصف الثاني في وقت لاحق. 11/6/18, 6:15 AM
التعليق لدى تسلم اجابة اتقن: من رائع. شكرا
أتقن: هذه تكملة جوابي على سؤال رقم 6 : عندما كان عمري ٧ سنوات في ايام الأب جبرائيل شمامي واخوات يسوع الصغيرات، كانت امي تروح إلى القداس. اخدتني معها. اول مرة سمعت الكتاب المقدس في سفر رؤيا يوحنا. كان أخي الكبير يقرا الكتاب المقدس في الليل. وكان ابي يقرا الانجيل كنت استمع إليهم. وكان عندنا في البيت جهاز تسجيل، وكانت أمي تشتري من مكتبة الكنيسة أشرطة مسجلة للتراتيل اذكر منها ترتيلة:  ربي جسدك، ليلة الميلاد. وكنت استمع إلى راديو مونت كارلو: يقرأون ويشرحون الانجيل. وظهرت قنوات مسيحية مثل سات ٧ ونورسات. ولما صارت الكنيسة قريبة من بيتي في كمب الكيلاني رحت إلى التعليم المسيحي. 11/20/18, 12:59 AM
7- في السابق ما هي الاشياء التي كانت تعجبك: التلفزيون أم الراديو، أم مشاهدة الكرة، الله يخليك.
ج: سؤالك هذا رقم 7 جاوبت عليه في اجابتي للسؤال رقم ٦...
8- هل هناك أنموذج او حدث لفت انتباهك خلال حياتك وبقيت تفكر فيه؟ وصار لك مثالا جميلا؟ إذا كان هناك انموذج، واذا ما تتذكر أي نموذج فبراحتك طبعا !   
ج: احدى المرات، كنا في القداس في العراق. في وقت وعظة الكاهن، أحد الشمامسة قاطعه يريد أن يقول له شي. الشماس رجل كبير في السن لا اذكر ماذا قال. انفعل الكاهن وقال: ما تشوفني اتكلم الان؟ ثم أنهى عظته وصعد الى المذبح. بعد قليل نزل الكاهن وقال: ما اقدر اكمل القداس الا واصالحه. فجاء وصالحه وقبّل رأسه امامنا، وبعدها أكمل قداسه. هذا موقف ما انساه له. هذه العبرة ظلت حية في بالي إلى الآن. 12/15/18, 10:14 PM
9- ما رأيك في السياسة، منذ الزمن الذي كنت فيه بالعراق، قبل السقوط، وما هي ذكرياتك؟
ج: السياسة كانت سيئة في السابق، والان هي من سيء إلى أسوأ. 12/16/18, 1:07 AM
10- ما رأيك بالعراق وأحواله، وبمصير شعبنا المسيحي؟   
ج: ننتظر كل الفاسدين يروحون، حال العراق صار إلى الأسوا.  للاسف اقول هذا الكلام. اما مصير الوجود لشعبنا المسيحي في وطننا الغالي العراق للأسف اقول لك بعد سنوات وسنوات، لا نعرف كم سيبقى منهم. خصوصا هناك أحزاب تعتمد على مبدأ حذف الاخر.    
كنا في العراق في السابق حوالي مليون مسيحي اما الان صار عدد المسيحيين ٣٠٠٠٠٠ . أخاف انه في المسقبل يصبح المصير مثل المسيحيين الذين كانوا في تركيا. وسؤالي هو: هل كنا نحن المسيحيين في العراق ايام النظام السابق ١٠٠٠٠٠٠ فقط منذ ١٤٠٠ ؟  كان من اللازم أن اعدادنا تزيد في العراق لا أن ننقص. يا ابونا ان المسيحية هي موجودة في العراق منذ 2000 سنة. بل قبل المسيحية كنا موجودين قبل ٦٠٠٠ سنة، كلدانيين واشوريين. JAN 10, 2019, 8:48 PM
11- بعد كل هذه اجاباتك اسألك: عندما بدأ اكتشافك للكومبيوتر، كيف اخذت تتعلم بواسطته؟ اي طريقة استخدمت حتى تعلم نفسك من الكومبيوتر القراءة والطباعة او المعلومات العامة.
ج: استخدم المترجم جوجل اما الان استخدم بعض التطبيقات مثل: متصفح جوجل كروم.
التعليق على رسالة اتقن: أجوبة جميلة. وبالمناسبة البارحة كنت في كنيسة العائلة المقدسة في البتاويين وصليت من اجلكم ومن اجلك خاصة.
12- كانسان ورجل، ومسيحي، ما هي العاطفة الانسانية التي تغذي حياتك؟ من فضلك.
ج: المحبة بالنسبة لي هي المقدسة هي اساس كل شيء بالكون كله.

         أمنيتي في الحياة، لعلها مستحيلة لكوني معاق...
13- ما هي امنيتك في الحياة؟
ج: أمنيتي في الحياة أن أجد امرأة أحبها وتحبني، أن أكوّن بيت وعائلة، نكون متفاهمين مع بعضنا، نكوّن عائلة مسيحية حقيقية، للاسف هذا مستحيل، لكوني معوق.
14- هل توفر لك خلال نشاطك اصدقاء مقربين، تتواصل معهم بمودة، في الحياة أو بالانترنيت؟
ج: عندي اصدقاء بلغوا 4,950 ولكن فقط على الفيسبوك. وقليلون الذين اقدر التواصل معهم وما عندي مع الاسف وقت لهم جميعا... !
مصارحة عن العلاقة العاطفية ومعوقاتها
15- من خلال الانترنيت والفيسبوك، هل توفرت لك صداقة قد تؤدي الى علاقة عاطفية؟ بل ما هو رأيك بالذين يعيشون في عوق بارز، يجعلهم بعض الشيء بعيدين عن مشروع الارتباط العاطفي بشخص آخر، مثل هؤلاء الناس، كيف تنصحهم أن يعيشوا انسانيتهم وحياتهم؟   
ج: الارتباط العاطفي سبب تعاسة وحزن او جرح بالنسبة للذي يسعى إليه ويحب.  نصيحتي: لا تقل للآخر: احبك. تترك حبك في قلبك. لأن ليست سعادتي على حساب تعاسة الذي احبه. المطلوب عن الذي احبه أن يكون سعيداً معي، هذا هو  الحب الحقيقي. فاذا تشعر أنه يحبك هو ايضا بالتبادل، يقبل بك كما أنت، إنه الحب بينك وبينه. ويمكنك أن تقول له احبك. ويمكن أن حبكم هذا يصنع المعجزات.
16- وانت شخصيا، هل صار لك مجال للتعارف مع فتاة، في صداقة قد  تؤدي الى علاقة عاطفية وبناءة؟
ج: (ههههه) لا ما عندي اي علاقة بالانترنيت او الفيسبوك! لكن مؤخرا شاهدت واحدة انا معجب بها في مكان لا احب أن اذكر اسمه لكي لا اجرحها. فأنا كيف اقول لها: احبكِ؟ اصلا لا اقدر أن اقول لها: احبكِ. أنا واحد اخرس و معوق، كل شيء هو ضدي. لو اقول لها: احبكِ... ربما أجرحها، فهذه كلمة انا متأكد ستجرحها. وإذا قلت لها كلمة: أحبك. هي ماذا ستقول لي؟ يا حبيبي يلا نتزوج؟ (!!!) طبعا لن تقول هذا، مستحيل. وحتى لو قالت: يا حبيبي خلينا نتزوج، ماذا سيقول اهلها: لا تتزوجيه هذا معوق. طبعا أنا افهم رفضهم لي. الاهل يحبون الخير لاولادهم، والمستقبل الافضل لهم. فمستحيل أن يقبل اهلها بي. ولو قبلوا، ماذا سيقول اقرباؤهم والناس؟ سيقولون: أي اهل يعطون بنتهم لواحد معوق؟ ما هو السبب؟  كلام الناس لا يرحم يا ابونا انا معوق وغير متعلم وفقير. كل شيء ضدي.
17- من كل هذا أخي أتقن، نقدر نستخلص، الزواج ليس كل شيء بالحياة، وكما قلتَ: ربما تحصل معجزة. فلنتحول إذن بحثا عن إجابة، الى الجانب الإيماني .. الروحي..  فأسألك ما رأيك بالذين يكرسون حياتهم لخدمة الناس والنفوس من خلال الرهبانية والكهنوت؟   
ج: الرهبان يصيرون جسر العبور بين الارض الى السماء. اما الكهنوت، ففيه الكهنة هم مثل سواق التاكسي يوصلوننا الى المسيح الرب يسوع يباركهم ويقويهم.   
تعليقي: رائع الاخ أتقن. إذا بسبب أنواع من الإعاقات، قد لا تحدث معجزة زواج، ولكن أنت أيضا بأعمالك  مثل جسر العبور بين الأرض والسماء.
18- ما رأيك في عالم اليوم وما هي حاجة هذا العالم؟
ج: ان يرجع الى المسيح. لأن العالم بدون المسيح يكون فيه فراغ كبير.

معجب بقديسين مختارين
19- جيد العزيز اتقن نقترب اكثر فاكثر. هل يوجد انموذج أو حدث لفت انتباهك في حياتك وبقيت تتذكره؟ اذا ما يوجد نموذج فبراحتك طبعا!   
ج: انموذجي هو القديس مار افرام السرياني: إنه شاعر ويشرح باللاهوت، وكتب عن العذراء احلى كلمات. الانموذج الثاني القديس يوحنا الحبيب، أحلى ما كتب عن الحب الالهي في انجيله.   

20- أخي اتقن انت كبير ورائع. ما هو رأيك بالانجيل؟ بالكتاب المقدس؟   
رأيي بالانجيل: هو كلام من الله الحق وهو الخبر السارّ لك البشر. الله يحبنا، تجسد وظهر بصورة انسان، من أجلنا، إنه يسوع المسيح الرب. خلصنا على الصليب من خطايانا واقامنا بقيامته المجيدة لنعيش معه للابد. الانجيل علمني ان الرب يحبنا لحدّ الموت. هو القدوس، يريد أن نصير مثله،  نحب كل البشر، وبنفس الوقت لا نمشي وراء افكارهم او اعمالهم الشريرة، ولهذا علمنا ألا ندينهم بل نصلي من اجلهم. فالديان هو الرب وحده يعلم ما في قلوب البشر. وهو بحسب اعمالهم وبحسب حبهم له سوف يحاسبهم. إني لو اتكلم عن الانجيل طول عمري ما أعطيه حقه. إنه كلام عن الحب الإلهي، مثل حب بين عريس مع عروسه. وإني شخص محبوب عند الله؛ وكل انسان هو محبوب عند الله.
هذا الجزء الاول من الجواب على السؤال 20، الجزء الثاني في الحلقة القادمة... !   
 FEB 3, 2019, 1:58 AM   
...اما رايي بالكتاب المقدس، إنه كلام الله الحق، به تكلم الانبياء بالوحي وفيه جاءت النبوءات عن المسيح. فيه قصة خلق الانسان سقطاته وقيامه، يظهر الكتاب المقدس كيف ان الله هو مع شعبه. فيه حكمة الملك سليمان ومزامير النبي داود. يتحدث عن قصة النبي موسى، وصبر أيوب، وقلب يوسف البار.   

21- ما هو انطباعك عن أخوية مريم الطاهرة، وصفحتك باسمها، وما هي الروحانية التي تلقيتها فيها؟
ج: مع أخوية مريم الطاهرة عشت احلى ايام في حياتي في كنيستي، كنيسة مريم الطاهرة. رغم أنها كانت فقيرة وصغيرة لكنها غنية باولادها وبناسها. الروحانية التي تلقيتها من هناك: لا يهم أن تكون فقيراً، ولا يهم أن تكون انساناً ضعيفاً او معوق أو مريض، المهم أن تكون في داخلك، في قلبك محبة الرب يسوع ؛ لتصنع العجائب مثل امنا مريم كانت فقيرة وصغيرة لكن محبتها لله في داخلها جعلتها تصير ام ابنه المتجسد، تلك اعظم اعجوبة. ولهذا قالت في انشودتها: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ"، أما الان فأعيش مع أخويتي الجديدة "نبع المحبة" المؤسسة باسم الشهيد (خادم الرب) الأب رغيد. FEB 8, 2019, 2:39 AM.    

22- ما رأيك بيسوع ومريم العذراء وأي واحد من القديسين لفت انتباهك؟   
ج: ما هو رأيي بيسوع؟ هو سيدي، مخلصي وقيامتي؛ إنه مستقبلي الدائم، وسعادتي الابدية. هو نصيبي الوحيد وهو حبيبي.   
ورأيي بامي مريم العذراء؟ هي حبيبة قلبي، راعية دربي؛ ام ربي ومخلصي: مفتاحي لقلب يسوع السري، وهي شفيعتي في ساعة موتي.    
ومن القديسين الذين لفتوا انتباهي، القديسة تريزا الطفل يسوع، الام تريزا والقديسة ريتا والقديس بولس رسول الامم، القديس مار شربل والقديس مار كوركيس.
23- ما هي النصيحة التي تريد أن تعطيها، لشباب في عمرك سواء كانوا كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو غيرهم، ولكنهم يعيشون الاحباط أمام صعوبات الحياة؟
ج: نصيحتي لهم: نحن المعاقين، أعطى الرب لكل واحد منا نعمة خاصة له، علينا أن نكتشفها في أعماقنا، ونعمل بها كي تظهر اعمال الله فينا. أما الشباب الفاشلون في حياتهم فأقول لهم أن لا ييأسوا من محبة ورحمة الله لهم. يثقون بالله وبانفسهم. يحاولون مرة بعد مرة وسوف ينجحون في حياتهم.
الدكتور ليس أفهم من الله عندما يخلق المعاق
24- ما هي الفكرة او المثل الذي لفت انتباهك وبقيت تفكر فيه؟ أرجوك.   
هي العبارة في كلام يسوع، عن المولود اعمى: (فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟». أَجَابَ يَسُوعُ: « لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ» (إنجيل يوحنا 9: 2 - 3). هذا الكلام قاله يسوع عني كمولود معوق، ويقوله عن كل معوق، بحسب عطية نعمة الله له،  تظهر اعمال الله به. كل يوم يعطيني الله اعجوبة اكبر من اعجوبة، اعطاني ترتيل الانجيل الذي نعمل فيه انت وانا. اشكر الله على كل النعمة التي اعطانيها. اشكر الله ايضا على النعمة بأن تكون انت ابونا في طريقي.   
والان خليني أسألك هذا السؤال يا أبونا: طفل في بطن امه وهو معاق، عندئذ الدكتور يقول لام الطفل: انه معاق، وان هذا العصر هو عصر التكنوولوجيا، وأنهم يعرفون به مسبقا، فتخلصي منه. ويقول لها هذا بحجة "أنه سيتعذب وانت ستتعذبين..." سؤالي أصلا هو: لماذا إذن الله يعطي الروح لهذا الطفل المعاق؟ اليس هو معاق؟ أليس له إرادة في ذلك؟ فهل إذن الدكتور هو افهم من الله!   
ختاما،
بهذه الكلمات أصل إلى نهاية هذه المراسلة المستفيضة، مكتفيا بما قدمته من انطباع عن الأخ أتقن في مقدمة المقابلة. وإذا كان أحد القراء أو القارئات، يريد الاطلاع على كليبات فيديواته، يمكنهم تسجيل الاعجاب بصفحته: (أخوية مريم الطاهرة) لأن رصيد الأصدقاء بصفحته قد يكون بلغ الحد الأعلى، ويمكن ان التواصل معه عبر تلك صفحة الاخوية، مع استعدادي للمعاونة في هذا المجال.   
ملاحظتي الأخيرة:   
من جميل ما رأيت في أتقن أنه إذ يعبر عن الشكر لخدمة ما، فهو يفعل ذلك بوقار ورقيّ وارتقاء، مع خفة الظل، فرأيته يطبق قول الأديب اللبناني جبران خليل جبران، عن العطاء في كتابه (النبي) الذي ترجمه عن الانكليزية صديقه الأديب ميخائيل نعيمة: وأنتم يا من تأخذون وكلكم آخذ، لا تسرفوا في الشكر، وإلا وضعتم نيرا على كواهلكم وكاهل من اعطى، بل انتم والمعطي قوموا واسموا بعطاياه كأنها الاجنحة، ولئن استبدّ بكم الشعور بأن الدَين عليكم فادح فذلك شك في كرم من يعطي، في حين الارض السمحاء أمه والرب أبوه.

ملحق
الفيديو التعريفي للسيد جميل إيليا بعنوان: تعرف على صاحب القناة اتقن اوشانا

https://www.youtube.com/watch?v=nw2Dnh_ByOk&t=488s

9
حضرة الشماس أديب كوكا المحترم،
الوقت الذي مرّ، وأنا أفكر في أن أكتب مقترحا يعقب على مقالك، كأنه كان بانتظار تعليقك الاستخلاصي الاخير على ما طرح في هامش مقالك عن الكلدانية والطقس الكلداني. وهذا التعليق اختصر علي، الكثير من المسافات، مبتعدا فيه عن بعض الاصطفافات لم تتبناها، مركزا على الطرح والنقاش من أجل غد أفضل. واعتزازا بك وبمكانتك الطيبة، عبر عنها الاخ ماهر يوسف مسؤول اعلام البطريركية بجل الاحترام، وجدت أنه بدل أن أخصص مقالا يحيل إلى طروحاتك، بأن أعقب على مقالك بأقل قدر ممكن من الاستفاضة، متطلعا في المقترح الذي ألهمته لي في أسطرك، بان ما يجدر أن يطرح من أجل غد أفضل يمكن أن يأخذ آلية تعبيرية ولغوية جديدة ويكون محورا لمقالات في هذا النهج لعدد من المقالات بل لمنتدى خاص من نوعه، كنتم قد أبدعتم فيه، في بغداد، مع نخبة خيّرة من كتابنا الغيورين على إرثنا الكنسي والقومي. وأدخل بالموضوع ممهدا لمقترحي.
انطلاقا من المليان من الكأس
الكلدانية اسمًا: أجل تأسيسا على معايشاتنا في بغداد، ضمن رقعة جمعية آشور بانيبال، التي كان لك ولزملاء أعزاء على كلينا، الدور في ريادتها، فإن مقالك، لم يتردد من الإشارة إلى الكلدانية لغة، بعد أن طال استماعنا إلى اسمها المغلف بمختلف الأوصاف المبهمة بقيت تحوم حول الاسم المحدد للغة التي يختار تسميتها، شرائح متنوعة من الإرث الكنسي لأبناء شعبنا: الكلدانية أو الآشورية، أو السريانية، أوصاف مغلفة مثل: لشانا ديما- اللغة الأم، لشانا دعمن – لغة شعبنا، لشانا عتيقا – اللغة القديمة (الاصلية) اللغة الحديثة... وأمام تعجبي وارتياحي، لم يلق ذلك اعتراضا يذكر أو في الأقل جوبه بنوع من الصمت أمام احتدام التعليقات. أي أن ثمة إذعان بأن يسمح لشعبنا بأن يختار ما يسمي به لغته.
لغة بيبلية -كتابية- وحملة عالمية لترويجها: الناحية الإيجابية لصالح لغة سيدنا يسوع المسيح وبقائها كلغة بيبلية، وهذا مدعاة إلى دعم وترويج تعليمها، بهمة الغيارى والداعمين، سواء في الانترنيت مع منح شهادة بها على غرار العبرية القديمة كلغة بيبلية، والتي تقوم بترويجها وتعليمها جامعة مدنية عالمية، وتستقطب تلامذة من شتى أصقاع العالم.
بين اللغة الطقسية ولغة الظل المقترحة: ولأنها لغة طقسية بحاجة الى التعمق فيها، في الاقل من قبل مستخدميها، وليس الاكتفاء بقراءتها، بدون الالمام بمعناها، مما أصبح صعبا أكثر فأكثر، ولهذا فإن ثمة طفرة أخرى في مقالك، والتي قد يراها معي الكثيرون ايجابية، وهي الاذعان بأن اللغة الاصلية، بقيت لغة علمية كتابية عصية على العامة، مما دعاك الى الطرح المشجع، لتبني الكلدانية المحكية السوادية -السورث- كلغة ظل لأبناء شعبنا، على مختلف كنائسهم بخصوصيات إرثها القومي. وهذا ما سعت إليه البطريركية، كما معروف، عندما قدمت الانافورات الخاصة بقداديس كنيسة المشرق، باللغة الفصحى الطقسية وبجانبها اللغة المحكية، إلى جانب اللغات المحلية الغالبة لمكان تواجد أبناء شعبنا. سواء الذين تتداول اجيالهم اللغة الرسمية المحلية في بلدان الانتشار، مثلهم مثل الذين تغلب في محيطهم اللغة العربية، أو الفارسية أو التركية. بحيث قدمت البطريركية للمؤمنين بالتعاون مع ابرشية القوش، لغة تتوخى الصفاء والحبكة القواعدية التي تنشد الحداثة والقرب من الاصل.
مرحلة اولية للكلدانية المحكية بالكرشوني: وعند هذا الحد اختتم تعليقي، بالعربية، بالدعوة إلى أن يصار الى تأسيس منتدى افتراضي (بالانترنيت)، كان يكون في هذا الموقع، في المنبر الحر، أو يكون تحت منتدى بابل، نينوى، أو حدياب وما إلى ذلك من الاسماء العريقة في بلادنا ما بين النهرين. وجعلها
لغتنا المحكية لغة رائجة في بلدان الانتشار، وتصفية مرادفاتها ومصطلحاتها، وتحبيبها على الناس بالشعر والغناء وشتى صنوف الثقافة. والبدء باستخدامها وترويجها، كمرحلة أولى أو بديلة أو موازية، بكتابة الكرشوني، مع السعي لترويجها بالحروف الاصلية.
مقترح للترويج بالانترنيت للغة جمعية آشور بانيبال لتوحيد شامل لمختلف لهجاتنا
_______________________________________________
أخونا ميقرا أديب، بخوتاما دآذي مملا بئيلي دكاثون بسورث بأثواثا دكرشوني، عم سورا وتوخلانا، دبايش مسوسكرا خا كنوشيا مردوثانايا، بلعزا دسورث دهاوي كاوانايا لكلاي مشيحايي دكي محكي بلشانا دمارن ايشوع مشيحا، وهاويه بطوسا دلشانا خاثا، وقريوا من لشانا أتيقا، للشانا دطقسا ودكثاوا قديشا.
وهاوي طا أذ كنوشيا مرودوثانيا، لمبلوخيه للشانا خاثا، ريش سيعتا دسايوموثا، ومعذرانا دريش سيعتا، وناطر رازا، ومشاوتبي بآذ كنوشيا، كاثاويه وماحوريه وإيليبه مشمهي، ومنياناي بش رابا يليه، من دهاويبي تخرن شماهي ديايهي خا بخا.
نوقزيه دبايشي دريشي وموبلخي بآذي كنوشيا انترنيتايا:
- كل يولتا وشقلتا بمندانيه اننقاييه طا بني عمان واتليه ايخالتا دغم بكاواي.
- ماحوروثا علمينايتا بكل نوقزيه مردوثاناييه، مبلختا دطبي قريويه للبا دبناي عمان.
وبمكيخوثا، بائن، دمشوتبن، بملوئي دإيث بكاوي مدرشتا عميقتا، بخا خا من كتاويه مكوبيه، كتاوي عيتاناييه، روحاناييه، تشعيثانايه، يان عالمينايه.
- واتلي هيفي دهاوي ريش سيعتا دساويوموثا، عم هيارتا دمعذرانا دريش سيعتا وناطر رازيه، هاواي مصبياني للشانا دكي بايش مبولخا، من كاثاويه، بحوبا وايقارا وإيلوتا دلبا. وهاوي هداميه دأذ سيعتا مردوثانايتا، مهيرانيه، بمبلختا دخا لكسيقون دخبري وملليه، بلشانا سواذايا عم بوشاقاي بلشانا طيايا، يان لشانا انكليزايا وشركا دلشانيه.
عم حوبي وايقاري
منهرتا خارايتا: آذي ليله عدنا اي قاميثا دموحكيلي بآذ مندي، دمبلوخي للشانا، بكنوشاثا مردوثاناياثا، بيد دكثولي، قولاسا لبولخانا درابي قشو نيروايا، دبيشليه بدايموثا بكثاوا بلشانا دعمان، إلا كود لا خزيلي هيج خا درخشليه بأورخيه خزيلي دهلبت بايش موبلخا لشانان باثواثا دكرشوني.
وخاهوتن بكل بوركاثا.

10
حضرات الإخوة المعلقين المحترمين بارككم الرب.
اسمحوا لي بهذه الكلمات المتواضعة بالاجابة إلى كتاباتكم وإضماماتكم التي جاءت أمام انبهاري، معفرة بعطر ودّي.
بصراحة أخجلتم ما لدي من تواضع، برقيكم، بخطابكم الاخوي، ولا شك هناك تنوع في وجهات النظر، ولكني تلقيتها بما لمسته من حضراتكم من تقدير وكياسة وحرية  التعبير لا أملك إلا أن احترمها. ومع أني لست في المجال الذي يسمح لي، لاعتبارات كثيرة قد لا تخفى عليكم، أن أجيب على ما تفضلتم به بنحو مستقل، فإني لا أخفيكم سرا، بأني تعلمت منكم، وأن ما كتبتموه، ألهمني الكثير، مما سأعبر عنه فيما بعد، من كتابات، وأرجو أن تجدوا فيها، مع  امتناني، صدى متفاعلا مع ما كتبتم، وحسبي، في هذا المجال، أن أقر لكم بهذا الفضل، بمودة واعتزاز.
أخوكم
ا. نويل فرمان

11
خلافة بطريركية مباركة لمار آوا روئيل بعد تنحي مار كوركيس صليوا
مع امنية العناق الحضاري بين بابل ونينوى

بقلم أ. نويل فرمان السناطي
__________________

عندما كان قد التأم سينودس كنيسة المشرق الاشورية، في ايلول 2015، في أعقاب وفاة خالد الذكر البطريرك الراحل مار دنخا الرابع، وذلك لينتخب احبار السينودس اسقفا لخلافته، فكان انتخاب الحبر الجليل مار كوركيس الثالث صليوا. وقبيل ان يتم هذا الاعلان رسميا، ولأن تخمينات الفيسبوكيين، بصورة وخبر، لا رقيب عليها، فكانت قد انتشرت صورة الاسقف مار آوا روئيل، وسرعان ما عرف ان الموضوع لم يتعدّ سوى تقليعات التخمين والسبق الاعلاني غير المبرر، بدون ان يتأكد المرء آنذاك من سبب هذا الاعلان عن مار آوا دون غيره.
ولكن الاعلان الرسمي اليوم 8 أيلول 2021 عن الاسقف الذي انتخب لخلافة مار كوركيس المتنحي لأسباب العمر والصحة ليبتوأ كرسي كنيسة المشرق الاشورية، هذا الاعلان يعيد الى الاذهان ذلك التخمين، الذي قد يوحي بأثر رجعي ان البطريرك المنتخب اليوم، كان منذئذ مرشحا ساخنا، لخلافة الراحل الكبير مثلث الرحمة مار دنخا.  هذه محاولة لاستقراء في هذا الانتخاب وما يحيط به.
في السينودسين الانتخابيين الاخيرين لسنة 2015 والسنة الحالية، يتهيأ للمرء أن الاحبار، تميزوا فيهما في قرارهم، بالحنكة والحكمة والتجرد. فمن جهة كرموا في ايلول 2015 عميد الاسرة الاسقفية للكنيسة الاشورية، بتبوء الكرسي البطريركي، لقدميّته وخبرته، وامكانيته آنذاك على العطاء، فقام بذلك، باركه الرب ورعاه، خلال السنوات الست الاخيرة. وفي التفاتة يقوم بها كبار المتواضعين، تنحى مؤخرا لتقدم السن والاسباب الصحية، فاشترك بعنفوان في السينودس الانتخابي.
والالهامة الرائعة الاخرى، بصراحة، هي أن آباء السينودس، أظهروا تجرداً وغيرية أود أن اصفها بأنها تتسم بالحس النبوي الرسولي، عندما انتخبوا اسقفا متقاربا معهم، ويكاد برغم عمره الشاب أن يعدّ بكونه من جيلهم. وليس لي أن أخوض بأي مقارنة، لقصر باعي فيها من حيث المعرفة عن كثب، ولكن بالتأكيد تتراءى للمرء أسباب الاعجاب والاشادة بهذا الاختيار الذي لا يملك المرء إلا أن يباركه، ويستمطر له النعمة الربانية.

أمام جثمان الراحل الكبير مار دنخا الرابع
______________________________
تعود معرفتي الشخصية المتواضعة بمار آوا، عندما تصادف، في عشية تشييع مار دنخا الرابع، وأن تجاورنا في صلاة المساء على جثمانه، إذ قصدت تلك المناسبة، بصحبة المطران عمانوئيل شليطا، مطران ابرشية كندا الكلدانية آنذاك، وفي تلك المناسبة قدمني بمودة لنيافته، مار اسحق يوسف. فكان ذلك منطلقا لتواصل طيب. ففيما بعد أصديت لنتاج صوتي ليتورجي للمطران (البطريرك المنتخب) مار آوا في هذا الرابط:
https://ankawa.com/forum/index.php/topic,832533.0/topicseen.html
بدأته بهذه الكلمات: لقد حان الوقت في هذه الأيام، أن أصدي لما وعدت النفس به، منذ لقاء سابق مع نيافة مار آوا روئيل، مطران كنيسة المشرق الاشورية في كاليفورنيا، لنتاج له، وجدته من النفائس التوثيقية لليتورجية المشرقية، تخدم مؤمني كنائسنا. فان نيافته كان قد أهداني مجموعتين من الأقراص الليزرية، مسجلة بصوته، عن مزامير النبي داود، إلى جانب كتاب اختاره من مكتبته العامرة، ووقع الاهداء بكلمات رقيقة، مع صليب مزخرف بذكرى البطريرك الراحل مثلث الرحمة مار دنخا الرابع، حيث كان انطلق أول لقاء لنا مع ما تبعه من تواصلات أخوية...

أول أسقف ثم بطريرك من مواليد بلدان الانتشار
________________________________
وهذه نبذة قصيرة عن البطريرك الجديد لكنيسة المشرق، مار آوا روئيل، مواليد شيكاغو 4 تموز 1975، واعطى له اسمه دافيد، والداه كورش وفلورنس.
منحه سلفه الاسبق، مار دنخا الرابع، بركة الخدمة الرسائلية وهو في عمر 16 سنة، وفي السنة التالية، رسمه شماسا انجيليا وذلك في كاتدرائية مار كوركيس في مدينة شيكاغو. تخرج بشهادة البكالوريوس في جامعة لويولا بمسقط رأسه، ثم حصل على شهادة بكالوريوس أخرى في اللاهوت من جامعة سانت ميري اوف ذي ليك (1999)، وأخيرا حاز على الليسانس ثم الدكتوراه في العلوم اللاهوتية من الجامعة الحبرية في روما. ورسم كأول أمريكي المولود، أسقفا لكنيسة المشرق الآشورية بوضع يد البطريرك الراحل مار دنخا، ومشاركة مجموعة من الاساقفة: مار سركيس يوسف، اسقف العراق، مار أبريم خامس، اسقف غربي كندا، ومار عوديشو اوراها، اسقف اوربا، في كنيسة مار زيا بمدينة موديستو كاليفورنيا مقر كرسيه الاسقفي. والحقيقة إن وصول أحد للاسقفية وهو من مواليد بلاد الانتشار، فهذا من كاريسما الكنائس الطقسية مثل الكنيستين الاشورية والكلدانية، التي بتواجدها وخصوصيتها، تتربى الاجيال على الدعوة الكهنوتية أو العلمانية.
وابتداءا من سنة 2015 خدم بصفة أمين سر سينودس الكنيسة الاشورية في الغرب. كما أسس دير مار اسحق للرهبان، وهو الدير الوحيد للكنيسة الاشورية عبر العالم. عرف بدفاعه عن حقوق وأحوال المسيحيين في الشرق الاوسط (واشنطن، ايلول 2014). كما التقى، في 9 آذار 2015، مع أخيه في المصاف الاسقفي مار بولس بنيامين، التقيا النائب في مجلس الامن القومي، المستشار للعلاقات الاستراتيجية بين رهوديس، حيث تحدثا عن احوال مسيحيي العراق وسوريا، وكذلك عما سمي آنذاك بأزمة نهر الخابور. ومن أعماله بحثه المنشور عن لاهوت الاسرار السبعة في كنيسة المشرق الاشورية، والموسوم بعنوان: الاسرار السبعة لكنيسة المشرق الاشورية.

بابل ونينوى
________
وأود أن إعرج إلى الجزء 2 من عنوان المقال، عن الامنية التي عبرت عنها رمزيا بشأن العناق الحضاري بين بابل ونينوى.
فقبل كل شيء أود القول، انه من متابعاتي للتقاربات المسكونية بين جانبي كنيسة المشرق الاشورية والكلدانية، أو حضوري لبعض اللقاءات الشخصية والجانبية، مع من هم الاشقاء في الكنيسة الاشورية الشقيقة، وجدت هذه التقاربات، تغلب عليها صفة الصداقة الشخصية من جهة، وتعامل المجاملة البروتوكولية من الجهة الاخرى.

مخاضات الوحدة الكنسية بين الكنائس الشقيقة
____________________________
فإن للأشقاء في كنيسة المشرق الاشورية الرسولية اسباب عدم الاقتراب من الشؤون الوحدوية للكنيسة الكلدانية، على خط الكرسي الرسولي، بقدر ما لهذه الكنيسة (الكلدانية) من قناعة راسخة بارتباطها بالشركة التامة مع الكنيسة الجامعة الرسولية. وهذا من مفارقة المقارنة، ان التوجس من هذا التقارب، أحسبه يشبه التوجس من شيء يأتيني في المخيلة، عندما أتخيل مثلا توجيه الكرسي الرسولي لكنيستي انطاكيا المارونية والسريانية بالاندماج، لاسباب راعوية لوجستية وادارية، حيث الشركة التامة واحدة بينهما، وللمفارقة الملفتة للنظر فإن الليتروجية واللغة الطقسية واحدة، ولا يفصلهما، وأيم الحق، سوى موضوع الكرسي القرمزي والحيز الجغرافي لكنيستين تحملان البشرى الى العالم، لأبعد من محدودية اللغة الطقسية، أو وجود كرسيين قرمزيين وحيزين جغرافيين سياسيين. أي أننا لن نحلم سوى بأن تتوحد الكنيستان البطريركيتان، وبقدرة قادر، مع توحيد الحيز السياسي الجغرافي، والتنازل عن احد الكرسيين فيعرض ريع احد الكرسيين.

استدلالات من مقال للبطريرك الكاردينال ساكو
_____________________________
على أن ثمة ما لفت انتباهي في مقال الكاردينال لويس ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، الموسوم بعنوان: كنيسة المشرق الكلدانية والاشورية، كنيسة واحدة في الجوهر. حيث جاءت كلمة وردية واراها جوهرية، ويمكن التعامل معها في خطوات التقارب: "المطلوب اليوم ان تحافظ هذه الكنائس على خصوصياتها  المشروعة ضمن الوحدة…" وكنت أتمنى أن اقرأ هذه العبارة (المطلوب اليوم ان تحافظ هذه الكنائس على الاختلافات المشروعة ضمن الوحدة...).
وهكذا أعتقد، لو التقت كنيستا المشرق الاشورية والكلدانية، وقبلتا بخصوصيتهما المشروعة المتراكمة عبر الزمن- فإنهما وأيم الحق ستعطيان الشهادة الطيبة للكنيستين المارونية والسريانية.

تطلعات التآلف القومي بين أبناء بين النهرين، بين بابل ونينوى
________________________________________
وعليه، وإذ ليس ثمة في الأفق، بوادر وحدة بين الشقيقتين، كنيستي المشرق الاشورية والكلدانية، وإذ انهما والحمد لله لا تحملان كلاهما الهرطقة تجاه الواحدة الاخرى، فهذه دعوة من هذا المنبر الحر، أن يتآلف أبناء بابل ونينوى وتتعانق حضارتهما، على الشأن الثقافي والقومي والسياسي بنظام المجتمع المدني غير الديني والكنسي. وهذا من شأنه أن يثمر خيرا، لبعض هذه العوامل:
سيجد كل من الجانبين كم من العوامل تجمعهما على ارض بين النهرين أكثر بكثير مما يفرقهما.
سيجد الجانبان، ان الاختلافات الطقسية والعقائدية لكنيستيهما هي خاصة بهما ولهما أن تتدارساها بروح الحوار الاخوي.
سينتظم كل من الجانبين في كنيسته، مقتنعا ضميريا، بأنه غير هرطوقي تجاه الاخر، ولكنه لا يطالب كنيسته ان تودي دورًا قوميا - سياسيا لا قبل لها به.
سيحمل كل من الجانبين من أبناء بين النهرين، بابلهما أو نينواهما، سيحملان محمل الجد العبارة التي اطلقها بطريرك الكنيسة الكلدانية في المقال المذكور إذ قال: لنترك موضوع القومية للمعنيين بها، ولنتحمل نحن الاكليروس  مسؤولياتنا الكنسية كاملة.  ولتكن بابل عمقا تاريخيا يجمع الكلدان، ونينوى للاشوريين، مع  الاخذ بنظر الاعتبار حضارات أخرى متتالية مرت بها المنطقة.

وعشمي إلا يصاب بالاحباط أي من الطرفين أبناء بابل وأبناء نينوى من المؤمنين برسالة الانجيل، إن لم تحصل بين ليلة وضحاها الوحدة بين الكنيستين الاشورية والكلدانية لكل منهما ذلك أن هذا مسار مسكوني روحي إيماني نوراني، لا دخل فيه للسياسات وللخطوط القومية.
مع اطيب تمنياتي للبطريرك المنتخب مار أوا بكل النعمة والبركة، وللبطريرك الفخري المتنحي، مار كوركيس الثالث صليوا، سنوات أخرى مشرقة بالقداسة والسلامة.
[/size]

12
جيران ومواطنون من مختلف الاديان، يرممون قبور موتانا في تلكيف ويكرمونها

أ. نويل فرمان السناطي

عندما استباح عناصر داعش التنظيم المندحر، كنائسنا ومقابرنا، بقينا نستقبل الحدث المأساوي بإيمان عامر في القلوب، أن كنائسنا من حجارة حية مشرقة، مهما طالت الايادي الآثمة حجارتها الارضية. وعندما استباحوا قبر والدة أو شقيق، أب، صديق أو قريب، بقينا نتمسك بكلمة بولس عن قيامة الاموات وبأي جسد يقومون. فيقول عن قيامة الاموات: يرزع في فساد ويقام في عدم فساد (بولس 1 كورنيوس 15). وهكذا تقبلنا بقلوب مؤمنة، بأن ما يدنسه الاثمة في المقابر لا يطال ارواح مؤمنينا.
ولكن بعد اندحار داعش، حتى هذا الجانب المعنوي الايماني والروحي، أخذ مداه المشرق، في التفاتات مواطني تلكيف، ليعود الى الاضرحة كرامتها.
وهكذا ينتابك شعور متفرد مؤثر، إذ يكون على رأس المبادرين والمتعاونين جار وفي لك وللجيرة، مواطن لك، وبحسب دينه يؤمن بالرب الخالق، فيقوم بمتابعة اضرحة اهلنا، مع مؤمنين آخرين من ديانتنا او غيرها. ويرسل اولا بأول احداثيات تطور العمل، ويصور ثمار هذا العمل، بدقة جميلة، ويحرص على ان الضريح يقع في ظل كنيسة قلب يسوع في تلكيف.
ويزيد فيشعل عنا الشموع ويضع بجانبها باقات الورود. وهكذا وبما يجمعه معنا من وفاء وايمان، اضاءت بأنامله كالقناديل في معبد الخالق، وأحاطها عرف الزهور وعبقها، على ضريح أهالينا، منهم الوالدة خاتون روفائيل متي، وأمام شاخص الضريح لشقيق قضى ضحية حرب مأساوية: عارف فرمان السناطي.
شكرا للاخ خالد خليل لمحبتك لأبناء جيرتك ولوفائك لزميل دراستك عادل، وأهله، وشكرا للعمال الذي قدموا جهدهم الطيب في ترميم أضرحة امواتنا، واعادة الكرامة المستباحة لمقبرة بلدة تلكيف.
وهذا ما كتبه الاخ خالد على صفحته كعضو منتدى مثقفي تلكيف، وبلغة ايمانية مشتركة معنا جميعا، قال تحت عنوان: ارقدوا بسلام
في مقبرة تلكيف... وعلى سفح تلك الربوة... كانت ترقد اجساد بسلام انطفات الروح فيها وصعدت الى السماء.. كانت تلك القبور واقفة وهادئة تحمل في جوفها اشخاص اعزاء اخذهم الموت من وسط اهاليهم.. شباب استشهدوا دفاعا عن الوطن... امهات انجبت وربت وتعبت الى ان انتهى لديها مشوار الحياة.. اباء وابناء واطفال.. راقدين في المقابر.... كانت قبورهم تزار في المناسبات فيجلس الاهالي هناك ليرووا بدموعهم تراب المقبرة وليبكوا ذكريات ذهبت واعزاء ذهبوا الى غير عودة..
وعندما جاءت العاصفة الهوجاء ودخلت الى مدينتنا... خربت كل شيء.. حتى المقابر لم تسلم منهم... فعبثوا بها ودمروها وتركوها خراب في خراب..
وهنا انتفض الاهالي وبدأوا باعادة بناء واعمار قبور اعزائهم واحبابهم.. لتبقى القبور مزارا لهم تذكرهم بالاحباب والغالين..
قبر المرحوم الشهيد عارف فرمان وقبرالمرحومه والدته.... تم بناءه من جديد بواسطة ابناء وبنات العائلة.. وعادت قبورهم تتوسط المقبرة من جديد... لتطوي صفحة من الهمجية والبربرية... هنيئا لكم قبوركم الجديدة وارقدوا فيها بسلام الى يوم القيامة.
بورك الرب في محبي الخير والسلام من طيفنا العراقي الزاهي الملون الجميل.

[/size]

 

13
المنبر الحر / هواجس انتخابية
« في: 08:07 10/06/2021  »
هواجس انتخابية

                                    بغياب الدولة المدنية، تخبط الأحزاب العراقية بين الشعارات والشعائر


أ. نويل فرمان السناطي
 ______________

أرجو أن تكون آخر كلمة في العنوان جواز مروري لكتابة هذا المقال، كمواطن عراقي في بلدان الانتشار محروم من انتخاب ما يتواصل مع عراقيته، وكشخص معني في هويته بالشعائر وما يتصل بالحياة الدينية والروحية.

أمام ديمقراطية تشير الدلائل إلى شكليتها، إلى توجهها الطائفي وبعدها عن الدولة المدنية، لعله بات من الصعب في عراقنا الممتحن تمييز الخيط الفاصل بين اللون واللون، لدى مكوّنات الشعب بتنوعها الاثني الجغرافي، بتاريخها وخصوصياتها القومية االتراثية واللغوية، وانتماءاتها المذهبية. ومن الملاحظ أن ظروف المنطقة جرّت الوطن الأم لينحدر أكثر إلى قاع بلدان العالم الثالث. هذه البلدان التي بقيت تُعرف بسِمة اختلاط شعائر الأديان والمذاهب بشؤون الدولة والسياسة. أديان ومذاهب أعطاها واقع الحال جانبا مؤسساتيا بعيدًا عن جوهرها، وشجع ممثليها نحو شهوة التسلط وفي سبيل البقاء على هيمنة بعيدة عن تخصصها، لتؤثر في اتباعها على مختلف هويات انتماءاتهم المذهبية والطائفية، فتمارس معهم باستماتة، سلطة سياسية واجتماعية غريبة على طبيعتها. وثبت من ثم، أن مختلف هذه الأقطاب المذهبية والدينية،استطاعت مؤسساتيا، أن تقترف حالة التشظي القومي والحزبي في جسم أتباعها على وفق انتماءاتهم الطائفية، هذا الجسم الذي تلمُّه وتكوّنه خارطة الوطن الواحد. ما هي يا ترى ملامح هذا التخبط، إذا تفحصها المرء بنظرة وطنية تتفاءل بغد افضل طالما انتظره المواطنون على تنوع مكوّناتهم.

السبّاقون إلى التقسيم

قبل كل شيء يبيّن واقع اليوم، ان المذاهب والطوائف، أفلحت في توزيع هويات قوميات طبقا للانتماءات الدينية لأتباعها، لينقسم الشعب الواحد على نفسه، كما العشيرة الواحدة وصولا إلى روابط الزوج والزوجة؛ بذرات كان قد أعاد زرعها النظام السابق قبل سقوط 2003، بسنوات، تحت ما حمل تسمية الحملة الإيمانية. وإذ جاء الاحتلال الدولي الرسمي على العراق في 2003، سعى إلى الإضعاف من خلال التقسيم، ليقسم المكونات من أبناء الاثنية القومية الواحدة، فشرذمهم على أحزاب طائفية متصارعة.
جاء ذلك وفق منطق المحتل الواعي بخلفية الموضوع الممتدة لقرون وأجيال مضت، ليرسخ التقسيم ويحتفي به في غفلة أخرى من الزمن ولأي سقف زمني ممكن. فكان لسان حال أحد كبار المسؤولين من جهات الاحتلال -ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي-: لما رأينا أن السنّة أخذوا حصتهم في الحكم خلال حقبة طويلة، كان لا بد من أن تتاح للشيعة فرصة مماثلة.
ولما سبق وأن طرح السؤال التالي على مسؤول آخر من جهة المحتلين (ستيوارت جونز، السفير الأمريكي الأسبق في العراق 2014- 2016): كيف يا ترى عملتم مع شعب بخصوصيات قومية متباينة، أن تقوده أحزاب ذات خلفيات دينية طائفية متداخلة، أحزاب تقسم اثنيا، ولا توحد ضمن دولة مدنية، كما هو الحال في العالم، على أساس مشاريع سياسية متنافسة نحو الأحسن. فكان الجواب: عندما يرى الشعب أن الأحزاب ذات الخلفية الطائفية، لا تخدمهم، سوف يعمد إلى انتخاب الاحزاب ذات التوجه المدني. أمام هذا الجواب، اتضح أن الشعب عندما يذهب إلى الخيار المدني، فإن التحكم بمقاليد الأمور بنفوذ القوة وسائر المؤثرات، يؤدي الى التأثير على الآلية الديمقراطية، لتصبح ديمقراطية مسرحية. ولعل هذا ما دعا الشباب وأحرار البلاد للمطالبة بدولة مدنية وديمقراطية من الحدّ المقبول بعيدة عن الدمى المتحركة، في ثورة جماهيرية مسالمة، لم تزل مفتوحة مدعومة بأصوات من أعلى المستويات المدنية وحتى الدينية، وأعطت وتعطى المزيد من التضحيات والدماء.

أصوات متناقضة متداخلة بين الدين والدولة

وتخرج الأحزاب، التي بدل أن تكون لسان حال شعب، في تطلعاته الانسانية الاجتماعية المصيرية، لتكون ممثلة عن مكوّن طائفي قد لا يمثل اصلا من يحملون هويته بالولادة، وهذه بعض الامثلة عن ذلك.
في احتفال بتكريم العلامة أنستاس الكرملي حضر ممثلون بخلفيات سياسية هي رسميا ليبرالية لا دينية، ولدى زيارة ضريحه، عمل ممثل في تلك الأحزاب، إشارة صلاة بعيدة عن توجه حزبه، لعلها تعلل بشعار الدين لله والوطن للجميع.
في مناسبة لإحدى الشعائر الدينية، تعطل شارع السعدون وامتداداته غربا وشرقا لأكثر من يوم، وكتمت انفاس العاملين فيه وتعطلت الحياة بدون تعويض أو مقابل.
ما حدث في عموم العراق بغالبيته المسلمة وطوائفه من تشرذم اثني وقومي، انسحب على المكونات العراقية ذات خصوصيات اثنية قومية متداخلة مع انتماءاتها المسيحية المذهبية، فتشكلت أحزاب بواجهات اثنية قومية، متشاحنة فيما بينها، مقسمة حزبيا وقوميا بحسب انتماءاتها الكنسية: كنيسة المشرق، كنيسة الكلدان كنيسة السريان، لترفع شعارات قومية آشورية كلدانية وسريانية، وتترك في حيرة من أمرها المكونات الارمنية الكاثوليكية والارثوذكسية، والملكيين والبروتستانت والعراقيين الاقباط، أمام ضبابية انتمائهم الاثنية، ومن يمثلهم سياسيا. وصارت الاحزاب، على هذه التداخلات، تتوخى وسعها، وبأقل ثمار ملموسة، لكي تمثل مسيحيين آخرين، يحملون توجها قوميا يختلف عن توجه بعضهم البعض. مع التحذير، ويا له من مفارقة، إلى رجال الدين من غير توجههم القومي والاثني، بألا يتدخلوا في شؤون السياسية.

أمثلة مقاربة في دول تتحلّى بقدر ملموس من الديمقراطية

ما يخص ملاحظات في فرنسا كندا، ظهر مع الاحتفالات بسنة 1996 الميلادية، المطران جان ميشيل دي فالكو، الناطق باسم أساقفة فرنسا الكاثوليك (1987-1996)، يستنكر أن التقويم الرسمي للبلاد تضمن مختلف الأعياد لم تضم فرنسا من مذاهب، دون عيد الميلاد لدى الكاثوليك.
وفي كندا، يدلي مجلس اساقفتها، ببياناته معبرا عن موقف الكنيسة تجاه، هذه القضية الاجتماعية أو تلك، مما يتصل بالديانة، والتعامل الحكومي، مثال ذلك، المداخلات في الموت الرحيم، وأهلية من يختار ذلك إلى جنازة كنسية رسمية.
وبالمقابل، فإن رئيس وزراء هذه المقاطعة أو تلك، قد يكون كاثوليكيا ممارسا، لكنه يترأس المقاطعة دفاعا عن كل مواطنيه، وفي الوقت عينه، لا يتردد من القول (جيسون كيني): ونحن المسيحيين، في زمن الكورونا ليس هناك ما يمكن ان يفصلنا عن الاتحاد الروحي ببعضنا البعض.

أمام هذه اللوحة الملونة، تترشح محاور منها:

العراقي الذي يمثل منطقته الجغرافية، انطلاقا من وطنيته، قد يكون بسبب كفاءته الأفضل تمثيلا لمقاطعته على مختلف انتماءاتها الطائفية، وبصرف النظر عن ديانته، أكان مسيحيا كان أم مسلما أو يزيديا.
إذا كان ثمة، ما يقتضي المطالبة بالاحتفاء بالتراث والاحتفالات الفولكلورية والحقوق الثقافية وتعلم اللغة الأم، فإن هذا يمكن أن يكون من تخصص وزارة يترأسها عراقي من أي انتماء اثني او طائفي كان، لتكون هذه الأمور من ثوابت وزارته.
أما إذا كان ثمة مشروع للمطالبة بأرض اجداد، في منطقة من البلاد، تمارس فيها هذه الخصوصية الاثنية حكما محليا، فقد تراكم زمن على الاختلاطات الديمغرافية في بلادنا كما في بلدان كثيرة، بحيث صار تحقيق ذلك في حكم اليوتوبيا (اللامقعول تحقيقه). ومع ذلك ولأن في أجزاء من البلاد، ما زالت لحس الحظ، بطابع ديمغرافي متميز، فلا بد وأن ذلك يقتضي التنسيق المشترك بين كل حاملي هذا الفكر، على مختلف طوائفهم، للتوحد ضمن مشروع سياسي، بمعزل عن تسميات انتماءاتهم الكنسية.
وبعد، هذه افكار ومحاولات متواضعة لاستجلاء الصورة، تتطلع إلى أن يتم في البلاد تحوّل سلمي، لوضع الدين في مكانه الخاص المحترم، واستقلاليته عن الدولة، في تحوّل ثوري على طريقة ثورة الباستيل الفرنسية، ولعل الخسائر يمكن أن تكون قليلة، إذا ما استطاع المطالبون بالديمقراطية والحرية المدنية، إن يوصلوا الرسالة الى الجهات العالمية ذات النفوذ والتأثير في العراق والمنطقة، بأنهم وصلوا إلى النضوج الكافي بحيث تزدهر بلادهم بسيادة قانون وديمقراطية حقيقية، وبما يحفظ المصالح الستراتيجية لتلك القوى، وما يبعد الناس عن المتاجرة بالسلاح ودماء الابرياء.


14
الجذور النهرينية لسلالم الموسيقى العالمية

مقابلة أجراها ا. نويل فرمان السناطي
مع الموسيقية السورية سلمى ن. قصاب حسن
كالكري/ كندا

كانت مفارقة متفردة؛ إذ حصلت في مناسبة عابرة وقلما تتكرر، وهي في توديع شخصية صديقة مشتركة؛ ومنذئذ صارت تعزف لقداديس دورية في رعيتي بكنيسة سانت فاميي -العائلة المقدسة- للكنديين الفرنسيين.   هكذا تعرّفت على سيدة، تبيّن مع التواصل، أنها بهذا العمق المعرفي التاريخي الموسيقى. وهكذا رأيت أن أجري معها هذه المقابلة، وفي النهاية أدرج بعض الروابط عن عدد من أعمالها: موسيقا وكلمات وتوزيع أغنية الحب المعتق عن دمشق عاصمة الثقافة العربية، تأليف وتلحين أغنية (أنت إنسان وأنا إنسان) بأداء مجموعة مكفوفين تأليف "حكايا الموسيقا " سلسلة تعليمة للأطفال، وغير ذلك، وقبل أن أتناول معها البحث الذي قدمته عن الأصول الموسيقية لبلاد ما بين النهرين، أبدأ بأن أطلب من الباحثة الموسيقية سلمى، أن تقدم نفسها:


سلمى: أنا من مواليد دمشق 1947. سافرت في بعثة إلى براغ (التشيك) لمتابعة دراسة الموسيقا والحصول على شهادة عُليا في العزف على البيانو وتدريسه. عملت منذ عام 1976 وحتى عام 2018 في تدريس عزف البيانو  في المعهد العالي للموسيقا بدمشق، وفي تقديم حفلات ومحاضرات في التذوق الموسيقي، وأسست أوركسترا موسيقا الحجرة وكورال مدرسة البشائر الوطنية. كما ألفت منهاجاً لتدريس الموسيقا وأغنيات ومسرحيات للأطفال واليافعين.  عام 1993 أسست مجلة الحياة الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة وترأست تحريرها  لمدة ٩ سنوات .

في بحث سلمى قصاب حسن: السلّم الموسيقي السباعي الدياتوني
 من “إشارة” إلى “عجم” إلى “إيوني” إلى “ماجور”
[/b]

سؤال- ونستأنف بهذا السؤال، إليك أطال الرب في عمرك: ماذا كان الهدف من هذا البحث الموسيقي التاريخي المتفرد [السلّم الموسيقي‪ ‬السباعي الدياتوني من “إشارة” إلى “عجم” إلى “إيوني” إلى “ماجور”] ؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
جواب-
  أعتقد أنني من الموسيقيين القلائل في جيلي، ممن لا زالوا يمارسون العمل الموسيقي، وعاصروا في سبعينات القرن العشرين في منطقة شرقي المتوسط اكتشافاتٍ أثرية موسيقية هامة مضى أكثر من أربعين عاماً على توثيق نتائجها. ومع أنَّ إعلان هذه النتائج ترافق مع  فورة إعلامية من ندوات وتجارب غناء استمرت لعدة شهور لأنشودة ما أطلق عليه  "العبادة الأوغاريتية" لكني لم ألحظ فيما بعد انتشاراً  يليق بأهميتها خارج دور البحوث الأثرية وبعض دور البحوث الموسيقية. لذلك قمت بطرح نتائجها في هذا البحث  ليطّلع عليها الجيل الجديد من الموسيقيين ويتابعوا نشرها. وللمهتمين والمختصين فإن البحث كاملا موجود في رابط اللينك الاول المرفق.

من قيثارة (أور) مروراً بأوغاريت إلى عصرنا
وبحثي عملياً يعيد تسليط الإضاءة على نتائج دراسات قام بها مجموعة من علماء الآثار والتاريخ والموسيقا على مجموعة رُقم وآلات موسيقية يعود أقدمها الى (القرن 26 ق.م) عثر عليها في شرقي المتوسط، عرّفتنا هذه الدراسات على” أول سلّمٍ موسيقي  سباعي دياتوني .The First Hepthatonic Diatonic Music Scale مكتشف حتى اليوم، وعلى أول دراسة رياضية في تقسيم أبعاده، وأول آلة موسيقية تعزفه "الهارب - قيثارة Lyre – Kithara" ، وأول طريقة "تدوين Notation" موسيقي لأول “أنشودة عبادة ”مدونة في التاريخ ومرتكزة عليه.‬‬‬‬‬
هذه الدراسات تُثبت أسبقية السلّم السباعي الدياتوني المكتشف بشرقي المتوسط بأكثر من ألف عام على نظيره الفيثاغورثي اليوناني الذي يعتقد خطأً أنه أصل الموسيقا العالمية.كما تُحدد أنَّ  سلّمي “إشارة” و “ فيت”  السباعيين الدياتونيين المكتشفين بدوزانهما الطبيعيـن ـ وهما من ضمن مجموعة السلالم السبعة المكتشفة لكننا نركز عليهما بوصفهما أكثر استعمالاً اليوم في العالم-  يتطابقان مع “عجم” ‪و “‬ نهوند” السريانيين  ومع “إيوني ‪“ و‬ أيولي” اليونانيين، وأخيراً مع “ماجور” و “مينور” العالميين، واستُكمل تعديل دوزانهما في القرن الثامن عشر فأخذا اسمي الماجور والمينور المعدّلي‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س - يلاحظ أن حضرتك تكتبين كلمة موسيقا بالآلف الممدودة بدلا من الألف المقصورة؟
ج – بناء على إرشادات وزيرة الثقافة السورية د. نجاح العطار حين تسلمتُ رئاسة تحرير مجلة الحياة الموسيقية، بأنه قد تم اعتمادها رسميا، بالألف الممدودة...

س- هلا زوّدتـِنا ببعض الشروح عن ماهية السلم الموسيقي عموماً ثم بالتحديد السلم المكتشف الذي تتحدثين عنه، بما في ذلك أن تعرّفي مفردة الـ "الدياتوني" التي وردت في عنوان بحثك.
ج - هذا فعلاً ضروري وسأعطي تعاريف موجزة عما سبق وما سيلحق الحديث عنه من سلالم موسيقية:
- السلم الموسيقي هو الفَلَك الذي تدور فيه مجموعة من النغمات للمؤلف حرية ترتيبها لتصبح لحناً. يوجد عدة أنواع من السلالم الموسيقية الأهم منها، بعد السلم السباعي المُكتشف، هو “السلم الخماسي  Pentatonic, المؤلف من خمس نغمات فقط وما زال مستعملا إلى اليوم في الشرق الأقصى وبعض دول الخليج وافريقيا وموسيقا الجاز.
- ‪“‬السلّم السباعي Hepthatonic المؤلف من سبع نغمات أسماؤها العالمية اليوم هي دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، مع تكرار النغمة الأولى بالأخير.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
- ‪“‬السلّم السباعي الدياتوني ‪,‬ ‪Diatonic وهو السلم السباعي الذي تنقسم أبعاده أو المسافات بين نغماته السبعة إلى أبعاد كاملة وإلى أنصاف أبعاد فقط بدون أرباع أبعاد أو ما شابه. وسنتحدث لاحقاً عن الأبعاد الموسيقية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
-  ‪“‬السلم الموسيقي السباعي الدياتوني المكتشف في منطقتنا هو سلم  ذو سبع نغمات تنقسم إلى خمس أبعاد كاملة + نصفي بعد.  يمكن بناء سلم جديد من أية نغمة من نغماته فنحصل على سبع سلالم مختلفة. والاختلاف بينها يكمن في  تغيير موقعي نصفي البعد. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
- “Mode مود” في حالة السلم السباعي الدياتوني المكتشف، يعني مجموعة من سبع نغمات لها تسلسل خاص في أبعادها وأنصاف أبعادها، يمكن تكراره انطلاقاً من أية نغمة. تتم أحياناً ترجمة كلمة Mode إلى مقام لكنها في هذا البحث ترد بأحرفنا: مود. فنقول: هذه المقطوعة مؤلفة من سلم سباعي دياتوني من مود (مقام) دو مثلاً.
- تمَّ في أوروبا خلال مئات السنين غربلة السلالم الموسيقية السباعية الدياتونية الواصلة إليها من شرقي المتوسط وعددها سبعة والاحتفاظ فقط باثنين منها وهما:
أولاً:  إشارة أو إيشابو وقد أخذ مع الأيام اسم  العجم السرياني والإيوني اليوناني والماجور (الكبير) العالمي ويمكن تكراره من كل العلامات الموسيقية. وتقسم أبعاده كالتالي:
- سلّم ‪“‬ الماجور ‪“‬Majeur‪,‬ Major بعد، بعد، نصف بعد، بعد، بعد، بعد نصف بعد. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ثانياً:   فيت وقد أخذ مع الأيام  اسم النهوند ثم الأيولي اليوناني والمينور (الصغير) العالمي ويمكن تكراره من كل العلامات الموسيقية. وتقسم أبعاده كالتالي:
-سلّم ‪“‬ المينور  ‪“‬Mineur‪,‬ Minor  بعد، نصف بعد، بعد، بعد،  نصف بعد، بعد ونصف بعد، نصف بعد.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
-سلم “النهوند” : من الضروري جداً ذكر أنه قد أخذ اسمه حتماً من مدينة نهوند؛ لأنه ربما كان الأكثر رواجاً فيها (وهذا يتطلب بحثاً خاصاً). لكن العالم فيتالي نجح بمطابقته مع  “فيت” المذكور بالرقيمات المكتشفة في شرقي المتوسط كما سنرى بعد قليل.
- السلم الإنهارموني Enharmonic هو السلم المبني على أبعاد كاملة وأنصاف أبعاد وما يسمى تسمية غير دقيقة أرباع أبعاد.
- ‪“‬السلّم الطبيعي "La gamme naturelle‪,‬ The natural scale" هو السلّم الذي تتوافق أبعاده بتناغم مع موجات الطبيعة حولنا لكن نِسَبها غير قابلة للقسمة على 2 بدون كسور مما يخلق فروقاً دقيقة الصغر تتوضح بالسمع بعد عدة طبقات صوتية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
- ‪“‬السلّم المُعدّل  The tempered scale La gamme tempérée‪, ‬ “ هو السلم الذي اعتمد مبدأ تعويد الأذن على دوزان مشدود قليلاً ليتطابق في كل طبقاته الصوتية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
القرار في السلم الموسيقي هو العلامة الأولى فيه وجوابها هو مكررها اي الثامنة. هذه المسافة الصوتية المؤلفة من ثمان علامات تدعى بالأوكتاف.

س- توضيح فعلاً ضروري. وبعودة إلى البحث، ترى ما هي المحاور الأساسية التي قسمت إليها البحث؟
ج-
لقد قسمت البحث إلى جزئين:
الجزء الأول هو توصيف منطقة الإكتشافات وطرح موجز دراسات العلماء للرُقُم والآلات الموسيقية المكتشفة ونتائجها.
والجزء الثاني هو موجز مسار السلّم السباعي الدياتوني من شرقي المتوسط وانتشاره في العالم.
‬‬‬‬‬‬تقع المنطقة التي اخترتُ لها اسم شرقي المتوسط على ملتقى القارات الثلاث من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى إيران وتشمل سفوح جبال طوروس حتى الجزيرة العربية؛ مما جعلها ممراً للتجارة والاجتياح ومركزاً للاحتلال على مدى آلاف السنين. ولقد تزامنت في هذه المنطقة كما تتالت ثقافات وحضارات سكانها ومنها السومرية والأكدية والآشورية والبابلية والكلدانية والإيبلية والحثية والعبرية والحورية والفينيقية والأمورية والآرامية والسريانية والعربية والأزيدية والكردية والأرمنية والشركسية والتركمانية وغيرها. ولقد قُسّمت سياسياً على يد العثمانيين إلى ولايات، ثم قُسّمت على يد الفرنسيين والبريطانيين باتفاقية سايكس بيكو منذ عام 1920 (فقط) إلى سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق.

وأنا ببساطة أترك للمؤرخين التحديد العلمي للتسمية لأن التسميات كثيرة وتتراوح بين الأساطير والحقائق التاريخية  مثل ما بين النهرين وسورية التاريخية والشرق القديم. هذا بالإضافة لما أطلقه الأوربيون من أسماء من منظور أوروبي: الشرق لأنه يقع إلى الشرق من أوروبا وهو ليفانت ‪“‬Levante‪”‬ أي مكان شروق الشمس على أوروبا وهو “الشرق الأدنى أو الأوسط ،Near or Middle East‪,‬ Proche ou Moyen Orient‪  ‬  لقربه منها. لكني أقترح أن يبقى في أذهاننا أن منطقة شرقي المتوسط  هي ذات نسيجٍ موسيقي شمل وما يزال كل هذه المنطقة منذ آلاف السنين لا يستطيع أي تقسيم سياسي عبر التاريخ تفكيك خيوطه.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س- ترى ما هي التسمية التي أطلقها علماء الآثار واللغويات على هذه المنطقة؟
ج-
  في النصوص الأصلية للمقالات يسمّي العلماء نفس الرقيم باسم المنطقة أو باسم الحضارة المسيطرة عليها حينها أو باسم مكان اكتشاف الرقيم (مثلاً السلّم السومري أو ‪ البابلي‬أو الأكدي أو الآشوري) . نقلت هنا كل التسميات بأمانة. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س- لننتقل  الآن لو سمحتِ إلى تصنيف وتوصيف أهم تلك المكتشفات.
ج-
ابتدأت الاكتشافات الأثرية في المنطقة مع بداية القرن 20 وأولها كان لمجموعة من رُقُم وقطع فخارية لم تُفهم حينها. ثم اكتشف العالم البريطاني ل. ووللي L. Woolley عام 1929 قيثارة أور التي تعود إلى (القرن 26 ق.م). ولقد باءت بالفشل كل المحاولات التي جرت على القيثارة لتخيّل الموسيقا المعزوفة عليها، ثم توضّحت بالتدريج ملامح الموسيقا التي كانت تُعزف عليها عند اكتشاف عدة رُقُم، الأساسية الكاملة منها هي:
الرقيم الأول وفيه أسماء أوتار القيثارة التسعة مرقّمة (2600 ق.م)
والثاني هو رقيم  جدول أناشيد آشورية مبوبة حسب مقاماتها(1500 ق.م).
والثالث عليه معلومات حول دوزان القيثارة (1800 ق.م).
والرابع هو بحث في حسابات رياضية لطبيعة سلّمٍ موسيقي وأبعاده (1500 ق.م).

س- وماذا كانت مفاجأة الاكتشاف؟
ج -
أجل فإن الخطوة الأخيرة التي فسَّرت كل ما سبق فأعاد جميع العلماء النظر في دراساتهم وانتهوا تماماً من توثيقها في الثمانينات من القرن العشرين كانت عبر اكتشاف :
 الرقيم الخامس أوغاريت: أول أنشودة عبادة، مبني على السلم المكتشف وبأول تدوين موسيقي في العالم مكتشف حتى اليوم، ويعود إلى (1400 ق.م).

س- ماذا كان رأي العلماء في هذا الاكتشاف الباهر؟
ج -
  لقد  قرأت مقالات عديدة عن الاكتشافات، من دون ذكر نتائجها لكن الأهم هو ما كتبه العلماء الذين ساهموا فعلياً فيها من علماء في الآثار واللغات والفيزياء والموسيقا. ومن أهم ما قرأت الملخّص الشامل بالإنكليزية لكل مراحل الدراسات التي قام بها كل العلماء المشاركين، كتبته العالمة البلجيكية مارسيل دوشيسن  Marcelle Duchesne ؛ وهي مختصة بعلوم الموسيقا وبعلم آثار منطقة ما بين النهرين في كتابها "تدوين موسيقي حوري من أوغاريت،  الجزء الثاني: اكتشاف موسيقا ما بين النهرين" 1984.

س- أبرز الآراء، وجدتها إذن لدى البلجيكية دوشيسن، ماذا تعرضين عنها؟
ج -
  تذكر دوشيسن أنها قرأت الدراسة التي كتبتها العالمة آ. كيلمير A. Kilmer  عام 1960 على  رقيم  حسابات في الرياضيات لطبيعة سلّمٍ موسيقي وأبعاده، لفتت فيها كليمير أنظار العلماء إلى هذا الرقيم الذي اكتشف في نيبور وبقي ٧٥ عاماً بدون دراسة؛ فتابعت دوشيسن دراسته فلم يتطابق معها مع السلم الخماسي أو "الإنهارموني" بل تطابق فقط مع الدياتوني. دراسات العلماء بالتزامن وبالتوالي حدَّدت مكان نصفي البعد فيه ونجحت في مطابقة هذا السلم المكتشف مع أبعاد سلّم ماجور .

س- وماذا عن آراء الباحثين الآخرين؟
ج -
بعدئذ شهد عام 1968 الاضافة الأكثر أهمية على معرفتنا عن النظرية الموسيقية البابلية وهي دراسة قام بها العالم غورني بمشاركة عالِم الموسيقا وولستان Wulstan على رقيم الحسابات الرياضية ورقيم  دوزان القيثارة واسمها "غيش زامي Giš Z.Á.MI" وهي قيثارة الإلهة "إنانا Enana" ( ولقد اتفق الجميع على تسميتها "الهارب - قيثارة Lyre – Kithara”). ولقد كتبَ كلٌ من العالمين بحثاً عن نتائجهما ومما جاء فيهما:
•   الأسماء السبعة في الرقيمين هي أسماء سبعة سلالم دياتونية مختلفة.
•   طريقة الانتقال من سلم إلى آخر تكون بتغيير ارتفاع الوتر التاسع.
•   أسلوب كتابة الرقيم يشير إلى أن هذا النص مكتوب من (1800 عام ق.م).
عرف البابليون – بحسب دوشيسن- منذ هذا الوقت المُبكّر، سبعة سلالم سباعية وكل سلّم منها مؤلف من خمسة أبعاد كاملة + نصفي بُعد.
كما استطاعوا تشكيل " Mode”  أي تسلسل مُحدّد للنغمات بوصفها أساساً في اللحن. وبالتالي فإنَّ “تغيير المود” كان يتم عبر تغيير موقع نصفي البُعد في الأوكتاف.
وتتابع دوشيسن: وبالنتيجة فإنَّ العلاقة بين العلامات الأساسية تتغير تبعاً للمود المختار. ولقد كان في بابل كما عند اليونان سبعة سلالم ممكن إنطلاقاً من كل سلم فيها تشكيل  سبعة “مودات”. على أن السلّمين المهمين في بحثي هما: الإيوني وهو دو ماجور والأيولي وهو لا مينور.
عام 1970، بعد اطّلاع عالم الآشوريات الألماني ه. م. كومل  H.M. Kümmel على كل ما سبق وخاصة الرقيم  الذي يتناول دوزان القيثارة الذي ينقلنا من سلم إلى آخر، كتب "إنَّ هذه الطريقة التي كانت معروفة من أيّام كتابة الرقيم الموجود في متحف برلين تشير إلى قواعد للدوزان هي:
* أنَّ الدوزان كان يتم عبر رباعية هابطة وخماسية صاعدة.
* أنَّ "الهيبتاكورد Heptachord" هو حد فاصل لا يمكن تجاوزه في عملية التبديل. وبالتالي فإنَّ التبديل يُقطع في الوتر الرابع (وتر الإله إيا) ويفتح المجال لتتالي رباعيتين هابطتيين.
أنَّ الدوزان يبدأ دائماً من مجموعة أوتار يحمل المود اسمها، وصفتها الغالبة هي وجود نصف بُعد بين أعلى علامتين موسيقيتين.
* أنَّ الدوزان ينتهي عند التريتون "الثلاصوت Tritone"، وفي حال التغيير إلى سلّم آخر ينحرف التريتون كي يصل إلى "التوافق Consonance".
أنَّ هذا الوصف الشامل لعملية الدوزان هو المعروف بالتاريخ  تحت اسم "دوزان فيثاغورث" (495- 570) Pythagoras.
* هناك نتيجة هامة نستخلصها من تعريف ما يسمى دوزان فيثاغورث هي أنَّ الأوكتاف، على عكس الشائع، غير مذكور في عملية التبديل لكنه مذكور فقط في مرحلة تغيير ارتفاع العلامة الأولى إلى الثامنة أو الثانية إلى التاسعة.
* أنَّ سلماً واحداٌ فقط هو المسيطر تماماً في عملية تبديل الدوزان وهو سلّم (دو) [أي دو ماجور] .

س- وهل وافق جميع العلماء على هذا؟
ج-
نعم،  ثم في عام 1973 وبناءً على نتائج الرُقُم السابقة استطاع العلماء قراءة رقيم أوغاريت… وهنا يأتي دور راوول فيتالي.

س- ممكن تحدّثينا بشيء عن راوول فيتالي؟
ج-
هو عالم فيزياء سوري. وهو أحد علماء الفيزياء الذين حللوا رقيم أوغاريت، لكنه لم يشارك في دراسات الرُقُم السابقة ونتائجها لأنَّه لم يسمع بالموضوع إلا حين صدرت نتائج دراسات الرقيم الخامس الخاص بأوغاريت في نهاية السبعينات؛ فكتب دراسة  في الرُقُم السابقة نشرت في عدة مجلات ودوريات10‪)‬). وفي مقالته بمجلة الحياة الموسيقية العدد 2 3‪)‬)يشرح بعض التعاريف العلمية عن الأبعاد الصوتية وأنواعها في دراسة أكوستيكية - فيزياء الصوت- توضيحية. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س- هذه ربما مناسبة جيدة لتوضيح معنى البعد ونصف البعد اللذين وردا في سياق حديثك.
ج-
  أجل يذكر فيتالي : البعد في الموسيقا هو الفرق بين نغمتين. وهو علمياً نسبة التواتر بين النغمتين. فإذا كان القرار 200 اهتزازة بالثانية يكون الجواب 400 اهتزازة. نسمّي المسافة بين القرار والجواب (بعد بالكُل)، وأوضح بالقول:
* البُعد بالكٌل يساوي 2 في جميع الحالات. وهذه النسبة تفرضها الطبيعة. وقد اعتمد الفيزيائيون العدد (301) كوحدة قياسية أساسية للأبعاد الموسيقية وسموها “سافار”. أي أن البعد بالكل يساوي (301) سافار.
يُقسم البعد بالكل إلى 53 بعداً جزئياً منها 41 بعداً يساوي كل واحد منها كوما تماماً (والكوما هي وحدة قياسية تقريبية للأبعاد ومستعملة كثيراً عندنا)؛ بينما يساوي كل من الاثني عشر بعداً الباقية كوما ناقص شيسما (والشيسما هي بعد صغير جداً ممكن تجاوزه).
* البعد بالكل يساوي (6) أصوات معدّلة أو يساوي (5) أصوات طنينية (طبيعية) زائد بقيتين. وبما أن “البقية” أصغر من نصف الصوت المعدّل، والطنيني أكبر من الصوت المعدّل؛ فالفرق بين الطنيني والبقية أكبر من نصف الصوت المعدّل، وهو ما نسميه “المجنب الصغير” وقيمته (114) سينت. و”المجنب الكبير” نسميه “بُعد البقيّتين” ويساوي (180) سينت.  ثم يتابع بعدها فيتالي:
* وبناءً على دراسات العلماء بتنا نعرف منذ السبعينات أنَّ السلّم السباعي الدياتوني كان معروفاً في بلادنا منذ 1200 عام على الأقل قبل فيثاغورث، وأنَّنا إذا رتبنا النغمات السبع الأولى تصاعديّاً نحصل على المتتالية المألوفة: (دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي) التي كانت قد حُدِّدت في بلادنا في 1800 ق.م.
* وفي دراستي الأكوستيكية قمتُ بتحديدٍ مفصّلٍ لجميع نغمات السلّم البابلي وهو ما لم يقم به أحدٌ قبلي : المقام إشارة، إيشاتو ومعناه "الأساسي" يتطابق ومقام العجم أي الماجور/ سلم فيت مع سلم نهوند / مقام نيد قبلي يتطابق مع سلم مقام كرد/ مقام نيش جبارة يتشابه مع سلم مقام كردين/ سلم أمبوب قريب من فرحفزا.."

س- لكن أين دراسة رقيم التدوين الموسيقي؟
ج-
لقد صادف أنني كنت رئيسة التحرير التي طلبت من العالم راوول فيتالي نشر دراسته عن الموضوع في عددين من مجلة الحياة الموسيقية. واليوم، وبعد قراءة النقاشات الدائرة حول ترجمة رقيم أوغاريت حيث تم عزف المقطوعة الموسيقية بأربعة طرق مختلفة ،اطّلعت عليها في كتاب دوشيسن سالف الذكر، فوجدت أن القراءة والترجمة الموسيقية الأدق له هي قراءة فيتالي لأنه ابن المنطقة ووريث لغوي وموسيقي فيها. ومما قاله فيتالي:  رفضتُ نظرية دوشيسن بأن السلم في رقيم أوغاريت هو سلّم صاعد ورفضت فكرة تعدُّد الأصوات التي سارت عليها كل الترجمات السابقة بسبب ما يسمى (الثلاصوت/ تريتون) الفيثاغوري خفي التنافر.كما لاحظتُ أن ما يكتب خلف الرقيم هو عبارة عن مقاطع مكررة حتى لا يضطر العازف إلى القيام بقلب وجه الرقيم. كما حددت أن مقام نيد قبلي في رقيم أوغاريت - الذي أثبت العلماء أنه مقام الأنشودة ـ يقابل مقام الكرد عندنا، عندما نعتمد السلم النازل من محط (مي) لتفادي الدييز والبيمول فاستقامت فوراً كل المقطوعة الموسيقية بصوتٍ أحادي.  وبالنسبة للإيقاع الذي شكّل في قراءات العلماء الآخرين صعوبة في الأداء؛ اعتمدتُ بالتشاور مع الموسيقي السوري الأستاذ محمود عجّان على إيقاع البروفيسور تيل Professor Thiele بالدراسة العروضية للنص. ‬‬‬‬‬
ولقد افترضا أنَّ البعد (إشارة) يساوي (10) وأن الكلمتين غير المفهومتين في النص تخُصّا الإيقاع: (لا تُسمع: معناها لا كلام مقدارها 5) ‪.‬ كذلك لاحظتُ أنَّ عدد المقاطع في السطر يساوي في أغلب الأحيان ثلاثة أضعاف مجموع الأعداد في السطر المقابل. فإذا قبلنا بتفسير ترجمة البروفيسور تيل بالدراسة العروضية للنص وضممنا النصف الثاني أي خمس وحدات من إشارة (10) إلى السطر (6) الذي يليه يصبح أيضاً مجموع مقاطع السطر (1) على مجموع أعداد السطر (6) (+ خمس وحدات): 42 / (9+5) = 3/1  وهكذا.. ومن المستحيل أن تكون النسبة (3) الثابتة مجرد صدفة.. وبهذا استقام الإيقاع…)).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 س- ست سلمى، الجزء الثاني من بحثك المستفيض هو  مسار السلم السباعي الدياتوني حتى وصوله للعالمية. هل من خارطة توصيفية لهذا المسار؟
ج-
طبعاً، لكن قبل البدء برسمها لا بد من ذكر السبب الهام خلفها. فالموسيقا لا غنى عنها إذ تمدّ الإنسان مثل غيرها من الفنون وربما أكثر بشحنات إيجابية، كما تساعده على تفريغ شحناته السلبية. لا يوجد شعب بلا موسيقا، ولا توجد موسيقا بلا سلم موسيقي. وكل الشعوب التي انتقل إليها السلم المكتشف كان لديها موسيقاها وسلالمها الموسيقية الخماسية. لكن السلم السباعي بدوزانه الطبيعي نجح بالسيادة على الموسيقا العالمية لأنه في رأيي يحتوي أكثر من باقي السلالم على ذبذبات وموجات صوتية طبيعية رخيمة ومتناغمة مع الطبيعة كما سبق وشرحنا.
ولقد تم انتقال السلم السباعي الدياتوني بدوزانه الطبيعي عن طريق الحروب والتجارة؛ فانتشر أولاً عبر حضارات وثقافات شرقي المتوسط لمدة تزيد على الألف عام فأخذ فيها السلّمان موضوع بحثنا  "إشارة" اسم "عجم" ، و"فيت" اسم “نهوند”. ثم حين احتل الإغريق المنطقة في (الألف الأخيرة ق.م) تأثّروا وأثرّوا بموسيقا المنطقة، وتبنّاه الإغريق بتفرّعاته السبعة ومقاماته فاختلط بموسيقاهم ووصل معهم ومع أسراهم ومع التجار الفينيقيين ومع فيثاغورث الذي عاش في مصر وشرقي المتوسط (30 عاماً) إلى ما يدعى اليوم باليونان ؛ فأخذت هذه السلالم السباعية أسماء يونانية وبالتالي أخذ السلّمان موضوع بحثنا  "إشارة عجم" اسم “إيوني” و”فيت نهوند"  اسم  "أيولي" .‬‬‬‬‬
 
س- كيف تصف الموسيقية سلمى قصاب حسن ، علاقة التأثير والتأثر لموسيقا منطقة الشرق الاوسط مع اليونان؟
ج-
سؤال وجيه: هذه العلاقة هي مفصل جذري في البحث. فبالإضافة لما سبق وأثبته علماء الآثار والموسيقا عن أسبقية السلم السباعي الدياتوني لمنطقة شرقي المتوسط على ما دعي بسلّم فيثاغورث اليوناني وبقي إثباتهم حبيس دور البحوث؛  توسعت في دراستي وطرحت مجموعة من المقولات والمراجع لمؤرّخين من أمثال جبران الأسعد، سليم الحلو، تينوس أسعد صوما، فارمر، لايختنتريت، بريفوست وغيرهم مع ملاحظة أنّ معظمها يشير إلى أسبقيته على سلّم فيثاغورث لكن دون ذكر مرجعية الإثبات العلمي الذي أقدمه هنا.‬‬‬‬‬
بقي أن نذكر أن الرومان احتلوا منطقة شرقي المتوسط فنشأ مزيج حضاري سوري روماني اسمه الحضارة البيزنطية.  وفي بداية العهد المسيحي حافظ عليه المسيحيون الأوائل من سريان وكلدان وأنطاكيين وبيزنطيين وغيرهم عبر الكنيسة التي اعتمدت بشكلٍ أساسي على أسفار التوراة ومزامير داود باللغة الآرامية، وعلى تصنيف السريان للألحان الثمانية.

س- لو تتكرمين  بعرض موجز للمراحل التاريخية التي وردت في بحثك لتوثيق الموسيقا الاوربية وتعديل السلم السباعي الدياتوني الطبيعي.
ج-
لقد تناولت أولاً القرون من منتصف الرابع حتى منتصف الخامس عشر تقريباً ككتلة واحدة مشيرةً إلى حفاظ المسيحيين الأوائل على السلالم السبعة المكتشفة، ثم إلى انتقال هذه السلالم السبعة إلى كنائس روما  عبر التراتيل وإلى قبول الإكليروس بها مع التدخل بكل تفاصيلها فأجاز  مثلاً “الهلّليلويا" التي انتقلت إليهم حتى بلفظها الآرامي/ العبري هللوا لله.؛ كما أجاز البابا داماسوس "الزخرفة" وربما يعني بها ابراز مهارة المؤدين بالعرض الصوتي في الغناء والتقاسيم في العزف. ‬‬‬‬‬

س- فلنتابع المسار، لو سمحت، عن السلالم السبعة التي وصلت إلى المسيحيين الأوائل، ماذا كان دورهم ودور الاكليروس تحديدا؟
ج-
شكرا ! وافق الإكليروس على أسلوب تفريدة المؤدي (كما في الموّال) حيث يرتّل الكاهن اللحن فيجاوبه المصلّون أو يرافقونه بنغمة موسيقية طويلة أطلقوا عليها اسم "الباص المستمر Basso Continuo" الذي تطور مع الزمن وأخذ أسماء أخرى. كما استطاب الإكليروس فكرة الصوتين (أي اللحن مع الباص المستمر) فأضاف على مدى قرون صوتاً ثانياً وثالثاً ورابعاً، وفي هذا بذرة أحد أنواع تعدد الأصوات وهو البوليفونية.

س- كمتخصصة في الموسيقا، كيف تعرّفين تعدد الأصوات ومدى تبريرها؟
ج-
الموسيقا أحادية الصوت تدعى “مونودي” أي حتى ولو كان عدد المؤدين كبيراً إلا أنهم يغنون جميعاً لحناً واحداً. أما تعدد الأصوات فهو نوعان: أولاً “هارموني” أي لحن أساسي ترافقه بضعة علامات تؤدّى في آنٍ واحد وتُدعى كوردات أو تؤدّى على التتالي وتدعى أربيجات. وثانياً ”بوليفوني” أي عدة ألحان متآلفة تؤدّى معاً. وربما كان سبب اختراع البوليفونية في الترتيل الجماعي بالكنائس نابع من الحاجة لضبط مشكلة اختلاف الطبقات الصوتية لمجموعة المرتلين مختلفي الأجناس والأعمار من ذكور وإناث وأطفال.
ولقد بدأت برأيي الموسيقا الأوروبية  مع “البوليفونية" تفرّدها وكذلك مشاكلها مع السلّم الطبيعي. فلقد اصطدم الإكليروس في العصور الوسطى بوجود ظاهرتي "التآلف والتنافر Consonance & Dissonance" بين نغمات هذا السلّم بسبب دوزانه الطبيعي؛ لهذا بدأت محاولات التركيز على اختيار بعض السلالم فقط. وصيغ في الغناء “النشيد الجريجوري Gregorian Chant" أُحاديّ الصوت  تؤدّيه مجموعة من الذكور وافق عليه البابا جريجور في (القرن 6م).‬‬‬‬‬

س- وكيف كانت تدوّن الموسيقا منذ تدوين أوغاريت عام ١٤٠٠ ق.م؟
ج-
الانجاز  الأكبر في مجال علوم الموسيقا كان في تطوير تدوين أوغاريت الذي يعتمد على سطر وهمي فوق وأسفل سطر النص، وضعت عليه رموز تدل على مدى الصعود أو الهبوط باللحن أو التغيير في الإيقاع. وخلال ٢٨٠٠ عام من تدوين أوغاريت تمت كتابة الموسيقا بالاستعانة بعدة سطور تم اختصارها إلى خمسة وسميت بالمدرج الموسيقي وأخذت العلامات شكلها الحالي.
وعلى هامش هذا أنوّه أنه قد جرت محاولات في منطقتنا لتدوين التقسيم الشرقي أهمها اختراع شمس الدين الصيداوي الدمشقي في القرن الخامس عشر لمُدّرجٍ موسيقي يحتوي على ثمانية أسطر (وفي بعضها تسعة) وهذه المدوّنات من موجودات المكتبة الوطنية بباريس.

س-إذا كان السلم السباعي المكتشف”دياتونياً” أي يحتوي على أبعاد كاملة وأنصاف أبعاد فقط، كما تفضـّلتِ، فمن أين جاء ربع الصوت أو ما تسمينه بالتقسيم الشرقي لموسيقا المنطقة؟
ج-
سؤال مهم جداً . لنعد أولاً إلى طروحات المؤرخين:
يذكر سليم الحلو مثلاً  أنَّ الآلات الموسيقية عند الآشوريين تدل على تقسيم السلَّم إلى أجزاء صغيرة هي أرباع وأنصاف أرباع.
كذلك يذكر عالم الموسيقا الألماني لايخترتيت أن الموسيقا اليونانية كانت تحتوي على جزئيات أصغر من نصف البعد، وأنه قد عُثر في فيينا (عام 1892) على مخطوط يوناني قديم تستحيل كتابته بأسلوب تدوين اليوم بسبب كثرة أرباع الصوت فيه.
كذلك ظهر حسب كتب وأبحاث ومؤتمرات الموسيقا السريانية للآباء والبحّاثة السريان في ستة ألحان من أصل ثمانية من الألحان السريانية المُعتمدة على السلّم السباعي “حزم أو مجموعات” تحوي كما ذكر لنا فيتالي كومات يختلف عددها من منطقة إلى أخرى.  تُدعى هذه الحزمة بالتقسيم الشرقي أو المجنب الصغير والكبير أو ربع البُعد أو ربع الصوت أو اللّوينة الصوتية وغيرها (ونعتمد في بحثنا تسمية التقسيم الشرقي) وتُعطي طابعاً صوتياً خاصاً يميزها بين المناطق.
الفكرة الأساسية تكمن في عدم تساوي نصفي البعد بفارق كوما: أي أن الدو دييز لا تتطابق (طبيعياً) مع الري بيمول بفارق كوما في السلم الطبيعي وتمت مطابقتهما (صناعياً أو إلزامياً) كما سنرى فيما بعد بالسلّم المعدّل. أما متى أخذت هذه الفروقات شكل أبعاد ثابتة في سلّم موسيقي معيّن فهذا يتطلب بحثاً منفرداً.

س- من السلالم، ننتقل، السيدة سلمى، إلى العلامات. كيف يا ترى جاءت أسماء العلامات؟ وهل كان للاكليروس دورهم فيها؟
ج-
لقد بقيت أسماء العلامات الموسيقية مأخوذة من الأحرف الأبجدية الأوغاريتية - وهي أول أبجدية مخترعة في العالم  وتشكل أساس "الألفباء Alphabetta" العالمية- حتى القرن الحادي عشر حيث أعطاها الراهب الإيطالي جيدو داريتزو Guido d’Arezzo  أسماء: دو، ري، مي، فا، صول الخ. وبهذا  اعتُمدت التسمية الجديدة "الصولفائية ،The Solmization, La Solmisation" في البلاد الناطقة باللغات اللاتينية أما باقي العالم الغربي فما زال يعتمد الألفباء. 

س- تحدّثت عن منجزات الاكليروس في الموسيقا. ترى كيف كانت الموسيقا خارج الكنيسة؟
ج-
انتشر الموّال في الغناء، والتقاسيم في العزف على آلة "العود Lute" (وهي آلة وترية بدون دساتين تستطيع عزف التقسيم الشرقي) ومشتقاتها في الموسيقا الشعبية . وربما كانت الكادينزا ـ أي المقطع الذي ترتجله الآلة في منتصف المقطوعة ـ وليدة من فكرة التقاسيم التى نعزفها في كل العالم ولا نعرف أصلها.
الذي أود قوله أنه بالإضافة إلى الاثباتات العلمية التي لا تقبل الجدل مثل اكتشاف رقيم أو وثائق تشير إلى تطور الكتابة الموسيقية؛ فنحن في الواقع نستقرىء مسار الموسيقا   . أما بدءاً من عصر النهضة الأوروبية من منتصف القرن الخامس عشر حتى منتصف السابع عشر تقريباً حينما تم اختراع الطباعة فالمعلومات كلها موثّقة ومنتشرة. لكن اختراع الطباعة جلب معه مشاكل التدوين الموسيقي التي اعترضت طريق طباعة المدوّنات الموسيقية مما دفع باتجاه  الخطوة الكبرى  للموسيقا عبر خروجها من تحت سلطة الكنيسة وانقسامها إلى:
أولاً : أكاديمية تدّرس في المعاهد والأكاديميات وتمّ تأليف وطباعة الكثير من الكتب التي تتناول النظريات الموسيقية وخاصةً في علم  الجمال الموسيقي وفي علاج مشاكل الدوزان والتدوين ، كما تمَّ اختراع أو تطوير آلات مثل الفلوت والكمان والتشيلو.

ثانياً: شعبية استمرت على ما يبدو بغناء السلالم ذات التقسيم الشرقي في أبعادها في المناسبات الاجتماعية وما زالت موجودة إلى اليوم خاصةً في السويد وإيطاليا وأيرلندا والبلاد التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية‪.‬ كما أننا لن نستغرب حفاظ الموسيقا الشعبية الأوربية إلى اليوم على التقسيم الشرقي: فلقد  ذكر لي الموسيقي المصري عبد الرحمن الخطيب في مقابلة أجريتها معه، نشرتها في كلمة العدد في مجلة الحياة الموسيقية أنه فوجىء في الثمانينيات من القرن الماضي وفي جبال السويد بغناء مقام السيكاه.‬‬‬‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

س-  وهكذا نصل إلى القرن الثامن عشر وعصر الباروك؟
‪ج‬-
تماماً كما نصل إلى الحدث المفصلي الثاني في بحثنا الذي جرى في عصر الباروك . فبالإضافة إلى سير التطور الطبيعي للأشكال  والآلات والنظريات الموسيقية  تمّ تثبيت الاسمين الجديدين للسلّمين الأكثر شعبية (إشارة/ عجم/ إيوني صار "الماجور" أي الكبير  بسبب ثلاثيته الأولى الكبيرة، وفيت/ نهوند/ أيولي صار "المينور" أي الصغير بسبب ثلاثيته الأولى الصغيرة).‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وبحسب وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحوث الفرنسية/ سلسلة تقنيات الموسيقا والرقص/ وثائق مرافقة للبرنامج/ وثائق عمل18‪)‬) فلقد  طلب المؤلف الألماني يوهان سيباستيان باخ Johan Sebastian Bach (1685 – 1750) وشاركه بهذا الطلب  المؤلف الفرنسي ج. ف. رامو J.Ph. Rameau (1683-1764)-  من عازف الأورغ الألماني ويركمايستير  Werckmeister (1645 – 1706) حلّ مشكلة الدوزان الطبيعي للآلات ؛ فقام  ويركمايستير باختراع طريقة دوزان جديدة مختلفة عن محاولاتٍ سابقة مثل زارلينو  Zarlino أو محاولة تلميذ باخ كيرنبيرغير Kirnberger وغيرهما من أجل الانتقال من السلّم الطبيعي إلى سلّمٍ “مُعدّل” يتساوى  فيه نصفا البعد صناعياً (إلزامياً) عبر تعديل دوزان الأوتار مفترضاً أن الأذن ستعتاد عليه مع الأيام وهذا ما حصل. وحسب المرجع نفسه أن هذه الطريقة في الدوزان أعجبت باخ فأيّدها ودعم هذا الاختراع بأن ألّف تطبيقاً له "24 بريلود وفوغ" في كتاب لآلة الكيبورد (واليوم تعزف على البيانو) من جزئين أسماهما "لوحة المفاتيح المعدّلة Well Tempered Keyboard / Le Clavier Bien Tempéré".
ولقد طال الدوزان المُعدّل الآلات الوترية ذات الدساتين مثل الجيتار والماندولين، وأوصل إلى اختراع آلة البيانو وأدّى بالتالي إلى الوثبة الأوروبية السريعة في مجال تعدد الأصوات والتدوين الموسيقي وفي مجال مؤلفات البيانو.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

اختتم هذه المقابلة إذ أشكر السيدة سلمى نجاة قصاب حسن، الباحثة الموسيقية والعازفة والمؤلفة. شكرا لجهودك المتميزة والدؤوب في  البحث والاستقصاء وصولاً الى ما تمخضت عنه من استكشافات غير مسبوقة. فلقد حصل، كما فهمنا منك الاستاذة سلمى، ما يشبه التعتيم على سلسلة من المعلومات المهمة فلم تصبح معرفة عامّة؛ إذ تمَّ في كل مراكز البحوث التي لها علاقة بالاكتشافات الأثرية بمنطقة شرقي المتوسط منذ أربعين عاماً توثيق نتائج دراسات الرُقُم الموسيقية المكتشفة التي تثبت أنَّ حضارات هذه المنطقة أبدعت سلّمي الماجور والمينور الطبيعيين. لكن لم يتم على حدِّ علمنا نشر هذه النتائج وتداولها أو نشر إسقاطاتها على تاريخ الموسيقا العالمية عموماً بما فيها تصحيح معلومة تاريخية، يوجد إشكالية في تسميتها وهي نسب أصل أول سلم سباعي دياتوني في العالم إلى اليونان وفيثاغورث. أما كيفية تحقيق نشر وتصحيح هذه المعلومات، فنتطلع إلى أن تقدمي بحثا خاصا عن هذا الموضوع، ليشكل إضافة نوعية على هذه المقابلة.

روابط تابعة للمقابلة

الرابط 1: بحث سلمى قصاب حسن: السلّم الموسيقي السباعي الدياتوني

https://drive.google.com/file/d/17gzufbT512v2A8DGEqHL1iXA7qRZxIWI/view

الرابط 2: أغنية " الحب المُعتّق" قدمت بافتتاح دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008
https://drive.google.com/file/d/17agsaWNYsWgpwpoID1aZTNLNuebm5F_6/view?usp=drivesdk

الرابط 3: متتالية أغنيات سورية، الإخراج والتوزيع الموسيقي سلمى قصاب حسن. قدمت بمدرسة البشائر بقيادة عاصم سكر ومشاركته بالغناء بحفل دعي اليه من كان ما زال حياً من رجال الثورة السورية الكبرى على الفرنسيين.

https://youtu.be/uU5B_MCVz9E
الرابط 4:
 أغنية “أنا إنسان وأنت إنسان” تم تقديمها أثناء زيارة أطفال مكفوفين لمدرسة البشائر  وكان قد تمّ تأليفها وتلحينها لهم واستمتعوا جداً بتسجيلها بأصواتهم ورافقهم بالغناء والعناية بهم مجموعة من طلاب الثانوي بالمدرسة

https://drive.google.com/file/d/14PROS7WH56yhfCKUVT6bdmNfZ6TNU0pN/view?usp=drivesdk

كتاب حكايا الموسيقا: الجزء الأول PDF فقط

https://drive.google.com/file/d/14bdasF9nGu8ulAlO6P4NnpPhtqVVU0Sk/view?usp=drivesdk






15
زيارة البابا فرنسيس إلى العراق - الفاتيكان والعراق في رسالة إلى العالم

المونسنيور نويل فرمان السناطي
______________________
 
أبتعدت لزمن عن الكتابة في الموقع، لعدم التفرّغ، لكن المنتديات برغم كل شيء، تبقى منبرا يستقطب شريحة نخبة من القراء ومن ذوي الذائقة الراقية. وهكذا وددت المشاركة بهذا المقال عن زيارة البابا فرنسيس للعراق والذي نشرت جوانبه الرئيسه في الموقع البطريركي..
قبل الزيارة وبعدها، تابعت الحدث التاريخی غير المسبوق لزيارة البابا فرنسیس إلى العراق (5-8 آذار 2021). كنت أترقب بصمت المنذهل غير المصدّق، وأتداول وأنا اشارك مواطنيّ العراقيين قلبا وروحا في استعداداتهم. كانت وسائل التواصل الاجتماعي، رغم قلة مصدريّتها، وسيلة متاحة بين المشاركات الجادة... حتى صعد الحبر الاعظم سلم الطائرة متوجها إلينا، إلى بلادي... فكتبت على صفحتي: وتحقق الحلم.
هذا استقراء لمرافقة وجدانية عن بعد، متسربلة بالفرح الغامر، مع شعب عراقي منكوب وممتحن، مطاول وناهض، عرف خلال ثلاثة أيام أن يفاجئ العالم ويحبس أنفاسه في متابعة الحدث الحبري الذي كان يسري في عروق بلاد النهرين. ومع اليوم الثالث كانت عودة السلامة الميمونة للبابا والرجاء بغد مبشر لمسيحيي العراق وسائر شعبه.
 
من كاتدرائيتي بغداد مرورا بمزار أور إلى ملعب "فرانسوا" حريري والعوجة الضيقة
_______________________________________________________
 فرحة غامرة عاشها مغتربون لا حدّ لهم، باستقبال افتراضي روحي عن بعد، للبابا فرنسيس وهو يجوب بالسيارة شوارعهم المؤثثة لمقدمة في بغداد وأور، وأربيل؛ ليصلي في كنيسة سيدة النجاة أم الشهداء، ويحتفل في سابقة مطلقة بقداس لكنيسة المشرق الكلدانية الكاثوليكية، ويصلي مع مصلـّين على تنوّع مذاهبهم وطوائفهم، في أور حاضرة ابراهيم إبي المؤمنين؛ وفي أربيل يقدّس في الملعب الذي يحمل مع البابا الاسم المشترك لأحد القادة المسيحيين في كردستان، فرنسو حريري، وغالبا ما كان الإعلام يشكل الاسم على الطريقة الفرنسية (فرنسوا- فرانسوا) مع واو الجماعة للافعال، ليغدو (بمفارقة رمزية وعثرة قواعدية) مماهيا لاسم الأب الأقدس... بل ترجل مار فرنسيس وصلى في الموصل مدينتنا، في حوش بيعتها وعلى بعد خطواة من بيوتنا بقرب العوجة الضيقة. آنذاك تراءى ما تبقى من بنيان كنائسنا المهشمة كجلجلة ألم ومنارة تبشر بالانبعاث بعد مناجل دمار وسهام عدوان.

اقليميا ودوليا، صمت بين الإذعان والإعجاب
____________________________
 وماذا عن المستوى الدولي والإقليمي من بلدان الجوار والعالم؟ لعل الزيارة الحبرية، بدلالاتها ومضمون رسائلها، تجلت أيضا كظاهرة افتراضية مباشرة لهم، سواء قبلوها بارتياح وأمل وإعجاب، أو بإذعان صاغر، أو استثمروها لتسجيلها كمكسب جادوا به على أرض عريقة طالما استباحوها، ولما كادوا يبتلعونها، إذا بها شوكة عصية، وفي الحالتين تجلى أمامهم شعب العراق، بفئات متنوعة من مواطنيه يستقبل البابا بحبور والبابا يغمره بابتسامات حب، جاءت لتبلسم منه الجراح وبهبّة جماهيرية تجعله يرفع الرأس.

مؤشرات لممارسة سيادة غيّبتها السنوات
__________________________

 لا شك ان أول ما لفت الأنظار كان ما قد يطلق عليه بـ "سيادة غسل الأرصفة وتزيين الجدران"... ولكن أكثر من هذه السيادة التي طالما غذّت تندرات الناس وقفشاتهم، فإن البلاد التي عرفت بتلقي الغزو الرسمي من امريكا، ثم وبتفويض منها ودول حليفة ، أودعت العراق، بحسب المراقبين، لوصاية من دول جوار. وإذا بهذا البلد الممتحن والممتهن، وبلغز يصعب فك مختلف رموزه، إذا به يخرج من شرنقة كأنما فرضت عليها، فيحار المرء أمام الانبثاق هذا، هل هو انتفاضة سيادية ذاتية، أم انتزاع لضوء أخضر.

أبعاد رسالة البابا في العراق
__________________

 صراحة الخطاب المباشر ومضمون اللقاء بالمرجع الأعلى: وهنا وصولا إلى نهايات المقال أو التنويه بمضامين زيارة البابا فرنسيس، التي كانت وأمام عجب الكثيرين، بعيدة عن اللغة الدبلوماسية المغلـّفة. إذ تناولت كلماته ما يحدث في العراق من فساد، وما يعانيه المواطنون في ظله من مظلوميات. ويضاف إلى الرسالة مضمون الخروج من اللقاء مع المرجع الشيعي الاعلى في العراق، بتأكيد كلا الجانبين على احترام التنوع وحقوق المواطنة الكاملة لجميع العراقيين. كل هذا يظهر نجاح الاستعدادات الحثيثة في تهيئة الزيارة البابوية ليس الأقل فيها التداول شبه المباشر الذي يكون قد قامت به الكنيسة الكلدانية ممثلة برئيسها الاعلى في العراق والعالم الكاردينال لويس ساكو الذي بقي يطالب في مرحلة الاستعدادات تلك، باستقلالية الخط الديني عن التعامل الحزبي باسم الدين، ومدنية الدولة، وحماية التنوع وحفظ حقوق المكونات، لقيام دولة القانون والمواطنة والتنوع.

 النهج المنفتح مسكونيا وانسانيا
____________________
 إزاء ما تقدم، خرجت ضد الزيارة تصريحات وتنظيرات مناوئة مؤدلجة باتجاه الحقد والراديكالية وعصر القرون الوسطى. إنها من النوع الذي يصب في خدمة اجندة القوى العظمى، التي سبق الإشارة إليها والرامية إلى إحكام السيطرة على المنطقة لأطول مدة ممكنة، من خلال الأنظمة ذات الخلفية الدينية والطائفية. هكذا ظهرت فقاعات هنا وهناك، منجرة وراء التعصب المذهبي والطائفي الاعمى، لجهة ضد أخرى. من تلك الفقاعات ما يشير إلى  تحوير مضمون التوجه البابوي، لإكمال رحلة الحج لسلفه يوحنا بولس الثاني في مطلع الألفية الثانية، بصفتها زيارة مسيحية أساسا لأماكن مفصلية في تاريخ الكتاب المقدس بعهديه. ولما تشترك فيه أور كأول موطن لابراهيم، مع ديانات توحيدية أخرى، كان من الطبيعي الدعوة الى لقاء هذه الأديان على ضوء ما يجمعهم من قيم.
هكذا فإن تلك الفقاعات قد لا تكون سوى تقليعات آنية، ما تعتم أن تتبخر. لأن روح اللقاء هو ضمن نهج استلهمه البابوان السابقان يوحنا بولس الثاني و بندكتوس 16 في لقاءات اسيزي المسكونية. مع الحرص المبدئي الثابت، وانطلاقا من احترام قناعة الآخرين بمبادئهم، على ألا ينصهر الأمر في خلطة النسبية (Relativism) التي ترفضها الكنيسة  والتي يبدو أن البابا الحالي يقارب حدودها بحنكة وحكمة وصوت نبوي.
ويظل الطموح المشترك بأن تصبّ مثل هذه اللقاءات لصالح الثراء الثقافي والتنوع الفكري الانساني والديني وفق موزائيك من القيم المشتركة تدعو المختلفين الى التآزر نحو العدالة والسلام بين البشر.
كما ينسجم مضمون رسالة البابا فرنسيس في زيارته التاريخية مع النهج المسيحي في الأجيال الحديثة، منها رسالة الاخ الطوباوي شارل دي فوكو، في دعوته كأخ شامل على المستوى البشري، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية. وجاء ذلك بخطاب يميز خصوصية بابويته، تحت شعار كلنا إخوة، وكلنا مواطنون لهذا الكوكب الذي يجدر بنا المحافظة عليه وحمايته كثروة ثمينة للجميع.
 
وبعد يبقى السؤال...
 طالما كنا في مجال جانب افتراضي (حاسوبي) للزيارة، هل كانت أيضا رحلة خليفة بطرس إلى بلادنا، زيارة افتراضية (فيرتيوال) إلى أقطاب الصراع في المنطقة على أرض العراق. وهل تستنير شعوب الدول المعنية، على ضوء مضامين الرسالة البابوية لحضور البابا في العراق. أبرز تلك المضامين أنه خاطب القوى العظمى في كلمته في بغداد، برسالة مفادها أن ترعوي تلك لتنشد مصالحها بنحو مشروع وبما لا يصيّر الشعوب، بالأصولية الدينية، وقودا لنيرانها التوسعية الاستغلالية. بوحي هذه المفاهيم عن حقوق الانسان المعاصر، يمكننا أن نقرأ الكثير من مضامين رسائل وزيارات البابا إلى المحافل الدولية ، ونداءات الكنيسة في المنطقة وبما ينسجم مع التطلعات السامية، ليس فقط لمؤمني الديانات على خطى ابراهيم بل لسائر الناس، ممن وصفهم البابا فرنسيس بذوي الإرادة الصالحة.



16
صرخة الكاردينال  روبرت سارا

المونسنيور نويل فرمان السناطي
_______________________
 
قرأت في وسائل التواصل، توضيح غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس ساكو، عن “الصرخة المدوية” المنسوبة إلى الكاردينال سارا حول القداس. وذلك في الرابط http://saint-adday.com/?p=37842 وإذ سبق أصديتُ إعلاميا إلى مواقف لهذا الحبر، فرأيت في هذا المقال البحث عما وراء مواقفه المتتالية.
 هذه دعوة لقراءته، في الموقع البطريركي (http://saint-adday.com/?p=37863) بعد الوقوف على توضيح غبطة البطريرك، مما اثاره الكاردينال روبرت سارا، عن طريقة التعامل الكنيسة في مجال التعامل مع القداس العلني للمؤمنين بسبب الجائحة، والمبدأ من تناول سر القربان.
مع الاعتزاز والتقدير
فيسوع المسيح، يبقى في إيماننا على وعده، ويبقى معنا حتى نهاية الدهور.

17
الاخ كاتب الرسالة الى البطريرك الكاردينال  لويس ساكو، السيد بولص آدم المحترم،

بعد التحية والاحترام،
ارجو أن يُسمح لي بأن أضع أيضا رأيي مع ما تجمع من آراء في موضوع الرسالة الشخصية الموجهة الى غبطة البطريرك. ومن باب الاعتزاز، رأيت أن اكتب ضمن التعليقات، بدل ان اكتب مقالا مستقلا في الشأن عينه.
فلقد لفت انتباهي ما جاء في رد نيافة الكاردينال، الذي قدم له الاخ ماهر مندوب إعلام البطريركية، بأن البطريركية آخذة بعين الاعتبار، أن يمضي من يريد عرض طروحاته، في هذا المنتدى الالكتروني المفتوح أو غيره، وأن نيافته بطريركا ومجمعية اسقفية، يمضون في النهج الذي يجمعون عليه في هذا الظرف المحدد من عصرنا، وفي مختلف الشؤون.
ولا ريب، من ملاحظات سابقة استقيتها، أن المجمعية الاسقفية الكلدانية تتعامل مع مختلف الطروحات، بطريقة وجدتُ تعبيرها لدى الكاتبة والشاعرة البريطانية ماري آن ايفانز (1818-1880) تحت الاسم المستعار لزوجها (جورج اليوت) في قصيدة (الصداقة الحقة) إذ قالت عن الصديق الصدوق: …يحتفظ بما هو خليق بالاحتفاظ، ويذرو سائر ما تبقى، بأنفاس الرقة واللطف... وهذا ما نستشفه في سعة صدر مار لويس، برغم الجروح، تجاه ما يُكتب، من حيثما جاء ذلك، محتفظا بقلب أب تجاه الكاتب، ومعوّلا على أن المسيرة الادبية للمنتديات، ضمن ما يجتمع فيها من اصطفاف إيجابي، لا بدّ أن تؤول يوما ما الى مناقبية التعبير المتسامي قدما في الرقي والاحترام، مهما اختلفت الاراء.
ومع أني لا انتظر من البطريركية، أن تصدي لكل صغيرة وكبيرة، فيما تقوم بها من خدمة للارث الكلداني، وما توفره من جهد كبير، بعيدًا عن الاضواء، فأود من زاويتي المتواضعة الاشارة إلى ذلك على سبيل المثال وليس الحصر: الموسوعة الكبيرة بأربعة مجلدات، والتي دعمت واطلقت البطريركية نشرها في روما مؤخرا، تحت عنوان (المسألة الكلدانية والاشورية 1908-1928). وما صدر في هذا الايام، بحسب الصورة التي ارسلها لي الاب صلاح خدور (ونشرت اليوم في الموقع البطريركي) وهي النسخة الجديدة للطقس الكلداني بحلة قشيبة تفوق نظيراتها بأفضل المستويات، وحسب ما علمت تمت بجهود ومراجعات دؤوبة واستثنائية من قبل البطريرك نفسه، وفي ظروف غير اعتيادية بل ومريرة.
اما أن يكون بيننا لحد الان، محبون للطقس من طينة القس توما حنونا، وابروهوم نوهرو والبير أبونا وغيرهم غير قليل، فهذا خير على خير، ولعلهم يلتفون مع الصديق قشو ابراهيم الصامد في الكتابة بالسورث، ليقيموا منتداهم بالسورث، وأن يسعى كل من جانبه إلى تخليد ما تختزنه صدورهم من كنوزنا الليتورجيا.
لكن اللغة الطقسية، وبفعل الزمن، مما تلاحظه المجمعية الاسقفية، للكلدان وكذا الحال لعدد من الكنائس الشرقية الكاثوليكية، وما تشهده اللغة لدى الشعب، من تطورات وتأثرات، لا بد من القول، أن ثمة نسبة من المؤمنين وبحجم لا يستهان به اطلاقا، وتشكل لوحدها مجتمعا بارزا، من الناطقين بالعربية، اصالة أو استعرابا. هؤلاء إلى جانب الأجيال الحديثة في بلدان الانتشار، بات معنى اللغة المحلية يلامسهم بنحو مباشر. خصوصا وأن الكنيسة الكاثوليكية الام بالنسبة للكنيسة الكلدانية، ومنذ المجمع الفاتيكاني الثاني، تتبنى بنمط راسخ، بأن يتم تقديم الليتروجية الكنسية باللغة التي يفهمها الشعب محليا.
وبالاشارة الى الكنائس المشرقية الرسولية الاشورية، فهي لها خصوصيتها في التركيز على اللغة مما لا مجال للخوض فيه. وهي ايضا صارت تسعى لأن تخاطب جمهورها، بخطاب يفهمه الجيل الجديد، وهي أيضا تواجه التحدي العام لأبناء شعبنا في بلاد الانتشار، بحسب ما اشار اليه، في كلمة متلفزة، خالد الذكر البطريرك الراحل، مار دنخا الرابع خننيا إذ قال بصراحة: لا تنتظروا من الكنيسة أن تعلم اولادكم اللغة الأم، إن كنتم لا تستطيعون ذلك في البيت.
أما على مستوى العلاقات وتطييب الخواطر، وما يجدر بين الابناء والاباء، والاخوة مع الاخوة (بما اننا قلما نسمع آراء أخوات في هذا المضمار) فإذا كان اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، فإن صدر الاباء، كما خبرت ذلك، ابان مدة السنة تقريبا، في رحاب البيت الابوي البطريركي، مفتوح، مفتوح لكل من يريد الاطمئنان ان الود باق في قلب الأب، أجريحا كان أم ملتئما ببلسم الوفاء.
وبعد، أعتقد أن المهم هو ان يلتزم  الكاتب المنتقد بحدود اللياقة الادبية وان يكون مطلعا على الواقع بدقة وان يعلم ان البطريرك شخص مسؤول يتصرف من منطلق مسؤولياته الثقيلة، فهو يقيس الامور بنظرة شمولية وبحسب المتغيّرات التي يجب مواجهتها، وله معاونوه في الدائرة البطريركية وآباء السينودس وهو ما اختبرته شخصيا خلال مكوثي في البطريركية فغبطته يستشير ويُري ما يكتبه للاخرين..، عكس الكاتب الذي يعرب عن فكرته الشخصية. وأيضا، ثمة حالة صحية في الكنيسة الكاثوليكية، وهي التعاون مع المجامع الفاتيكانية. واخيرا، يقينا ان لا احد في الدنيا  يقدر ان يُرضي الناس.

مع احترامي وصلاتي ومحبتي للجميع.
المونسنيور نويل فرمان السناطي

18

بين الكرّ والفرّ، مرحلة جديدة بشأن خيار الكهنة المتزوجين والعزاب

ا. نوئيل فرمان السناطي

على نطاق جديد وواسع، يشهد العالم الكاثوليكي (الكنيسة اللاتينية) إعلاما متفرّدًا ومتباينا بشأن خيار الزواج او العزوبية للمدعوّين الى الكهنوت. هذه قراءة للموضوع تتوخى الواقعية والانتظارات المستقبلية.

الكاردينال روبرت ساره وما قورن بالتأثير على المسنين
________________________________

بدأ كل شيء مع الكاردينال روبرت ساره، مؤلف الكتاب ذائع الصيت La force du silence (قوة الصمت، ضد طغيان الضجة، صدر في باريس 2016) نشره مع الكاتب نيكولا ديات، تقديم البابا الفخري بندكتوس السادس عشر؛ تكرّم وترجمه الأب ألبير أبونا، بدونما إشارة إلى تقديم بندكتوس أو ترجمة التقديم، والترجمة من منشورات ايبارشية أربيل الكلدانية (60). هكذا فإن مؤلف كتاب الصمت، هذه المرة، بدل أن يستمر في ما تحدث عنه من صمت عميق وبليغ، فقد عمل على غير ما متوقع من فكره. إذ إنه ومع كونه ضمن الكوريا الفاتيكانية في ظل البابا فرنسيس، عميداً لمجمع العبادة الإلهية، وبدل أن يفتح الحوار المعمّق مع البابا المستمر على الخدمة، فقد ذهب به الأمر، وبما يحاكي العمل في الكواليس، للتعامل مع البابا الفخري المستقيل، بندكتوس 16، وبما حلله مراقبون بأنه ضمن ما يُدعى باستغلال المسنين سريعي العطب. فقد أطلق الكاردينال ساره على أكتاف البابا المستقيل بسبب محدودية الشيخوخة، صيحة فاقعة، من خلال كتابه الجديد المعنون : Des profondeurs de nos cœurs (من أعماق قلوبنا). وزاد فعدّ البابا المتقاعد بندكتوس، شريكا معه في التأليف. وفي الكتاب يتصدى "من اعماق القلب" ضدّ احتمال أن تتعامل الكنيسة (الرومانية الكاثوليكية) اللاتينية، مع الخيار بين العزوبية والزواج في رسامة الكهنة، بعد أن سبق وأن طرح فعلا هذا التوقع إزاء حالات استثنائية في سينودس الامازون، عند الحاجة المصيرية إلى كهنة.

مواقف البابا بندكتوس- الكاردينال راتسينغر سابقا
_____________________________

لا شك أن البابا المستقيل، في مرحلة كرديناليته، كرئيس للمجلس الحبري للعقيدة، قد اتخذ مواقف متشددة بشأن بعض الطروحات المنفتحة على المسكونية، أبرزها مع اللاهوتي اليسوعي البلجيكي، جاك دوبوي، المتوفى في 2004 في روما عن عمر 81 سنة. فأخضع لتحقيق مشدد عن كتابه
  Vers une théologie chrétienne du pluralisme religieux
(نحو لاهوت مسيحي للتعددية الدينية - 1997)، وقد دامت المساءلة طوال 32 شهرا من التحقيق والمراسلات بينه وبين مجمع عقيدة الإيمان، قبل ان تعلن براءته. ولكنه في سنواته الأخيرة، ذكرا أنه ضاق ذرعا بالرقابة المتشددة التي تجريها على أعماله اللاهوتية هذه المؤسسة الفاتيكانية.
ويذهب المحللون إلى أن أحد التحفظات الفاتيكانية بهذا الشأن، هو تحاشي انجراف الكاثوليك اللاتين نحو قيم وتقاليد تختلف عن القيم والتقاليد المتوارثة في القرون والعقود الاخيرة، وليسـ مسألة "وجود كهنة متزوجين" بمعزل عن هذه الخشية.

المسألة الثانية هي المتعلقة باللاهوت الأدبي، مع اللاهوتي الأندنوسي تيسا بالاسورييا، مع كتابه
 « Marie et la liberation de l’homme » (مريم وتحرير الإنسان - 1999) ومنذ انتشار الكتاب، أخذت المضايقات تطاله، منذ 1995، حتى 1997 ليؤول حاله إلى حال الضيم في شأن التعامل مع كتاباته، وعدم قبوله النقاش معه بالطريقة التأديبية، فوضع على اسمه الخط الأحمر. ولأنه، بحسب قول الكاردينال الراحل مار عمانوئيل دلي، لتلاميذ المعهد البطريركي، يوجد من المشاكل، ما لا تنتهي إلا مع وفاة أصحابها، فإن تيسا  بالاسورييا، توفي في كانون الثاني 2013.

وتطول القائمة، بعد أن تحدثت عن مجرّد مثلين تم التعامل معهما في حينها في مجلة الفكر المسيحي.

الصعود إلى البابوية
____________

ثم تسنّم الكاردينال رايتسنغر، الكرسي الرسولي   في 19 نيسان 2005 (بعمر 78 سنة) بعد سيطرة مستديمة على الكوريا الفاتيكانية في السنوات العمرية الاخيرة للبابا يوحنا بولس الثاني. خلالها كان له الدور المثمر لصالحه في اختيار كرادلة من طينته، آخرهم بعد حبريته، الكاردينال روبرت ساره. وفي تلك الحقبة، خسرت الكنيسة، فرصة حبرية ذهبية لكردينال ميلانو التقدمي المنفتح المتوازن والانساني، الكاردينال كارلو ماريا مارتيني (1927-2012) وأبرز ما صدر له  كتاب عن الكنيسة بعنوان: كنيسة واحدة، مقدسة جامعة ورسولية  Eglise une sainte catholique et apostolique 2004
ولكن ما كان قد دفع الى الارتياح، أن البابا الجديد بندكتوس، صرح غداة حبريته، بكلمات مفعمة بالتواضع والتطمين، إذ قال:
"بعد البابا العظيم يوحنا بولس الثاني، ما أنا سوى عامل بسيط في كرم الرب." وخفف الكثير في الواجهة الاعلامية، وبقي هادئا حتى ظهرت صلابته الألمانية في 12 أيلول 2006 مع محاضرته  ذات الوقع الشائك والتي ألقاها في جامعة راتيسبون في المانيا حيث كان استاذا من قبل، وكانت بشأن الإسلام والموقف من الإرهاب؛  ولم تقلل التوضيحات والتعقيبات الفاتيكانية بشأنها من الخسائر التي دفعها المسيحيون والكنائس في العالم، من جرّائها.

ومع استقالته بسبب الشيخوخة وعدم القدرة على مواجهة التحدّيات (2013)،  سرعان ما صدر عنه تطمين آخر، إذ عبر عن الشكران للروح القدس بما شهده من تجلّيات طيبة لدى خلفه البابا فرنسيس. ونُقل عنه انه لن يتدخل في شؤون البابا. ولم يظهر منذئذ أي تصريح منه بهذا المستوى، إلا مؤخرا. على أنه قلما يعزو المراقبون ذلك، إلى عودة البابا المستقيل إلى مسلسل الصلابة، بل أنه خضع لتأثير الكاردينال الأفريقى الموغل بالمحافظة روبرت ساره.

ومن جهته فإن البابا فرنسيس وعلى ما عُرف عنه من طيبة، ومن حكمة أمام ما يطلق ضدّه، أمامه او في ظهره، ومع أنه أشار إلى ان مقترح سينودس الامازون، كان ضمن طروحات أملتها ظروف تلك المنطقة، فما كان منه، وبما يقتضي الانفتاح المتجدّد في الكنيسة الكاثوليكية من كرّ وفرّ، سوى العودة إلى قول البابا الراحل بولس السادس، واستلهامه في هذه المناسبة بالقول:
"أفضّل أن أبذل حياتي ولا يحدث تغيير في قانون العزوبية." هذا ما نقله عنه ماتيو بروني المدير الإعلامي في الفاتيكان، بدون الانتقاص من تصريحات البابا فرنسيس في الشأن المعاكس، أي بألاّ يكون الخيار قاعدة،  فلا يتم اللجوء إليه إلا في حالات نادرة منها الاحتياجات الراعوية كما في جزر الباسيفيك.
وعودة إلى الكاردينال ساره، فبعد يومين من الضجة التي أحدثها كتابه المذكور، جرى لقاء ودّي للبابا فرنسيس مع سلفه البابا الفخري بندكتوس 16، وبما يوحي بأن حبر التسعين سنة ونيف، سرعان ما استجاب، لتوصية مار فرنسيس، إذ قال له مخففا: لا يا قداسة البابا أنت لست بمقام أن تكون شريكا في كتاب، بل أن تكون مساهماً فيه. وهكذا صدر تصريح من سكرتيره الخاص، مونسنيور جورج غاينسزواين، بأنه طلب من المؤلف الرئيسي للكتاب الكاردينال ساره أن يجري اللازم مع الناشرين ليرفعوا اسم بندكتوس 16 من الكتاب سواء في العنوان او في المقدمة والخلاصة. وكشف المونسنيور غاينسزواين ان البابا كان قد أخذ علما بنية الكاردينال في إصدار كتاب عن عزوبية الكهنة، فأشار إليه بمقال سابق له بهذا الصدد للاستقاء منه بما يراه مناسبا. ويضيف السكرتير: لكن وبدون انتقاص الثقة بالكردينال ساره،  لم يصل الأمر لحدّ موافقة البابا على المشاركة في توقيع الكتاب.

وبهذا لصدد ألقى أبرز المعلقين عن هذا الموضوع الكاتب الصحافي الكاثوليكي الفرنسي رينيه بوجول، باللائمة على المؤلف الكاردينال الغيني، قائلا انه مع حق الكاتب في حرية التعبير، تلك الحرية المعبأة بمراسيم الطاعة للكرسي الرسولي، فإن وضع البابا الفخري في الصورة يشكل مأزقا غير حميد، وإن نشر الكتاب في مثل هذه الظروف يدخل ضمن التحذير من البابا فرنسيس.

هكذا، إزاء ما يعصف بالكنيسة، من تحدّيات في مجال الأخلاقيات، لا يمكن حصرها بعزوبية الكهنة، تبقى شريحة متعصبة في الكنيسة، تسعى الى جرّ حبرية مار فرنسيس الى الوراء، في مجال التنظيف والتجديد، لكن الأصوات تتزايد بثقة. وما كل هذه الزوبعة، كما يُعتقد، إلاّ ما يشبه نفي النفي، للتأكيد على "أن اقتصار الكهنوت اللاتيني على العزوبية، ليس حالة عقائدية، وأنه لا مناص من العودة الى معالجة الخيار الآخر في هذا الشأن، عاجلا أم آجلا" كما كان قد أجابني في هذا الشأن قبل سنوات، لمناسبة محاضراته لنا في الاسبوع الدراسي لكهنة كالكري، اللاهوتي الامريكي العلماني البروفسور ريشارد غيارديتز Richard Gaillardetz، وهو اختصاصي المجمع الفاتيكاني الثاني، ومن ضمن كتبه العديدة، كتاب:
Unfinished Council: Vatican Ii, Pope Francis, And The Renewal Of Catholicism
 المجمع غير المنجز، البابا فرنسيس والتجدد في الكثلكة- 2015.

توقعات البطريرك ساكو في كتابه (لا تنسونا)
_______________________________

في كتاب "لا تنسونا" للبطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، وهو حصيلة حوارات مع الصحافية الفرنسية لورنس ديجويوه عام 2015 وتقوم البطريركية بنشر ترجمته العربية للمطران يوسف توما ومراجعة كاتب السطور، قال البطريرك، بشأن الخيار في رسامة الكهنة ضمن السياق الذي تمتلكه الكنائس الكاثوليكية الشرقية: "لا يمكن البتّ أن الكهنة العزاب افضل من الكهنة المتزوجين ولا العكس. باعتقادي ان البتولية-العزوبية هي اختيار وهي دعوة خاصة. ويتوجب على الكنيسة أن تقبل كلا الحالتين: اذا كان لأحد ما، الموهبة لأن يبقى عازبا هذا امر جيد، ولكن بالنسبة إليّ، ليست الدعوة إلى الكهنوت مرتبطة بالعزوبية. وباعتقادي إن الكنيسة في الغرب، سوف تتدرّج، مع الزمن، نحو هذا الاتجاه بسبب قلة الكهنة والثقافة المتغيرة."

انتظارات من الكنائس الشرقية ذات الشركة مع روما…
__________________________________

هذا كان رأي الكاردينال لويس ساكو، ولعله الرأي الأجرأ من نوعه، عندما وضع النقاط على الحروف، ضد ما يُشتمّ من رائحة تمييز شبه عنصري بين الشريحتين المذكورتين في الكهنة. خصوصا مع ظهور كهنة متزوجين ضمن كهنة بغداد والابرشيات الكلدانية في العراق، حصلوا على قدر طيب من المقبولية. إلى جانب من عرفناهم، من كهنة مكرسين، تعبق الذاكرة بما تركوه من ظلال وارفة، من آباء رهبان وكهنة من مشرقنا الكاثوليك، من آباء دومنيكان وانطونيين لبنانيين ومحليين وكهنة أبرشيين، من الأحياء ببركتهم فيما بيننا، أو خالدين احياء في شغاف القلوب.

التراث التاريخي المتفرد في الكنائس الشرقية الكاثوليكية
_______________________________

من المعروف أنه ترتبط بروما بشركة عقائدية كاملة، كنائسنا الشرقية الكاثوليكية، وعلى رأسها، بطاركة كلدان، وسريان وموارنة وأرمن وأقباط، وروم ملكيين، فيهم كرادلة فاعلون، في مجمع الكرادلة. هذه الكنائس وقبل وحدتها مع روما عبر التاريخ، عاشت ضمن الكنائس الشرقية الرسولية الأرثوذكسية، ودول الهند والسلاف واليونان، وقد حافظت حتى الآن على وديعة الايمان، على مرّ ظروف التاريخ، وبدون الحاجة الى غطاء امبراطوري كما في إحدى الحقب التاريخية المثيرة للجدل في تاريخ الكنيسة اللاتينية. وبقي الجانبان الشقيقان من هذه الكنائس الشرقية يحتفظ بتقليد متأصل للتكريس والعزوبية.
ولكن عند معاينة أكثر من 12 كنيسة بطريركية متحدة مع كنيسة روما، بالشركة التامة ماذا نلاحظ؟ بالامكان، من حيث المبدأ، ان يكون على رأس هذه الكنيسة الجامعة، أي من رؤساء هذه الكنائس من كرادلة وغيرهم. ولكن يزداد مع الوقت الاعتقاد أو الخشية أن تكون هذه الكنائس ضمن شركة هرمية مع كنيسة روما، تملي عليها نوعا من البيروقراطية والوصاية والثانوية، ويُشمّ بطريقة وبأخرى أنها تسعى للتحرر من أي ربقة للوصاية، بهدف أن تكون كنائس متكافئة، مع بعضها وبضمنها كنيسة روما، وعلى رأسها خليفة بطرس، لاعتبار روما هي موقع الكرسي الاخر الذي أسسه فيها، إلى جانب كرسي الشام، وفي كونه خادم خدام الرب في المحبة. فيبقى العشم ان يكون لكنائسنا الشرقية دورها البارز، اكثر من مجرد مجلس اساقفة ألمان أو كنديين في هذا البلد أو ذاك. وهنا يطرح تساؤل وجملة نقاط:
- إلى أي حدّ استطاعت هذه الكنائس، أن تفرض هيبتها الذاتية بعراقتها وتاريخها على الكنيسة الشقيقة روما؟ وإلى أي مدى يتم السكوت على التعامل والاشارة إلى زواج الكهنة ضمن كنيسة روما، بنحو يوحي بالانتقاص من خبرة عريقة للكنائس الشرقية في هذا الشأن؟
- إن هذا الفصل الاداري أكثر منه العقائدي، في نظرة المتشددين اللاتين إلى عزوبية الكهنة، يمكنه أن يشير إلى المساس بمكان المرأة ودورها في الكنيسة الجامعة. وها إننا نجد انه يخرج اكثر فأكثر المزيد من الأصوات، من جانب القارورات، سواء العلمانيات او الماسيرات، للمطالبة بمكانتها اللائقة، في التعليم وإعلان البشرى والخدمة.
- في هذا الفصل، غالبا ما تحصل هوة متزايدة الحجم، بين الاكليروس في دعوتهم المكرّسة، وبين العلمانيين المؤمنين في دعوتهم بالعماذ، على كهنوت ملكصادق، والتي لأسباب عديدة، ليس آخرها بيروقراطية روما، تجاه المرأة والعلمانيين. ويبرز هذا للعيان إذا قارنا مكانة المرأة والمتزوجين المبشرين في الكنائس غير الكاثوليكية وغير الرسولية.
- من المعتقد أن الشركة التامة مع روما يسودها المزيد من التهميش والقلة في الاندماج، حتى لتختصر كل هذه الكنائس بحجمها وتراثها وتاريخها المجيد وشهدائها حماة الإرث المسيحي، تختصر بمجلس بابوي للكنائس الشرقية، يرأسه كاردينال وتتبختر فيه مجموعة اكليروس، لا يعتقد المرء انهم يولون اي كنيسة من الكنائس الشرقية، رئيسا ورعية، ما يستحقون من قدر ودعم واستشارة وكياسة.

وبعد،
فنحن أمام مؤشرين، في تاريخ الكنيسة، بعنصرها البشري، وقد مرت عبر التاريخ بأنواع المنعطفات لكن المسيح يبقى معها طوال الأيام، هذه الكنيسة التي تحمل وديعة الإيمان في أوان من خزف:
- فكما أن كاردينالا مثل راتسينغر ثم البابا بندكتوس، هيمن لمرحلة زمنية على مجمع عقيدة الايمان وأدار دفة كنيستها، وكان له أثره في اختيار كرادلتها. فإن زمنا مثل زمن البابا الفرنسيس، وما ظهر من تشكيلات كاردينالية، من شأنها أن ترسم غدا جديدا أكثر انفتاح واكثر اشراقا.

-إذا كانت نظرية نفي النفي، في محلها في هذا المقام، من المعتقد، بعد العاصفة التي تناولها هذا المقال، ان اسطوانة الخيار بين الزوجية والبتولية للكهنة، هي اسطوانة مؤمل لها أن تعود؛  ستعود ولكن غير مسوّفة بل بطبعات متجددة في كل مرحلة، لتفرض هذا الواقع آجلا أم عاجلا.


19
الأب يوسف عتيشا الدومنيكي، مسيرة حياة مشرقة
(تلكيف، حزيران 1928- باريس، حزيران 2019)
[/font][/font]

الأب نويل فرمان السناطي
________________

انتشر الخبر الذي وزعته مايليس ديلوزارشز، من سكرتارية اقليم فرنسا للآباء الواعظين- الدومنيكان، عن رحيل الأب يوسف ميخا عتيشا، يوم الاحد 2 حزيران 2019 (المولود في تلكيف 29 حزيران 1928)، ومنذئذ والمَشاهد عن حياته تتعاقب في الذاكرة... فرأيت ان اشارك بها القراء الكرام، ممن عرفوه أو يتطلعون الى معرفة هذه الشخصية الدومنيكية المنحدرة من أسرة كلدانية عريقة.
لسنوات خلت، عاش الأب الراحل، في دار لرعاية الآباء المسنين بفرنسا، التي قصدها منذ 2015 مستجيبا لطلب الرئاسة العليا، عندما تجاوزت به السنوات عمر الاعتماد على الذات، فكان يعيش فيما سماه زميله الراحل قبله، عن المكان عينه، الأب توما كوسماوو - سائق الشوفرليت 57- "صالة انتظار الأبدية".
بعض أصداء سنوات الانتظار هذه أوردها الأب رامي شاول، المتتلمذ على يديه في أولى خطواته الرهبانية، منذ أن وقـّع أمامه بابتسامة، في صيف 1994، وعلى مرأى مني إذ كنت مررت في تلك اللحظة هناك، أثناء عملي بالدير، على طلب الانتماء الى هذه الرهبانية، كواحدة رهبانيات الكنيسة الكاثوليكية. جاء ذلك خلال قداس أقامه عن راحة نفس الفقيد يوم الثلاثاء 4 حزيران 2019 في كاتدرائية القديس يوسف بالسنتر، سيادة جان بنيامين سليمان، مطران ابرشية اللاتين في العراق بمشاركة الدومنيكان من دير بغداد وأبوين من الابرشية وحضور صاحب النيافة المغبـّطة الكردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان، ومعاونيه الثلاثة مع سكرتير السفارة البابوية وكهنة من بغداد، من مختلف الكنائس. وحضرت القداس رهبانيات متنوعة مع جمهور من المؤمنين.

من الكلمة التأبينية للأب رامي الدومنيكي
____________________________

 عن تلك المرحلة وما الهمته من استرسال عن خبرته معه، تحدّث الأب رامي، رئيس دير الآباء الدومنيكان في بغداد، خلال كلمته التأبينية، مخاطبا الحضور ومشيدا باستجابته، حال إعلان القداس قبل يوم واحد فقط، قال:
"آخر مرة التقيت فيها أبونا عتيشا كانت في شهر أيلول الماضي عندما زرته في ديرنا في باريس المخصص للإخوة كبار السن. كان لقاءا صعبا جدا معه هو الذي كان يحب الحلويات، رغم ان مرض الزهايمر دمر ذاكرته منذ حوالي خمس سنوات، الا انه لم ينسى حبه للحلويات خلال تلك السنين، لكن هذه المرة لم تعجبه ولا قطعة من المجموعة المختارة التي قدمتها له. وأيضا لم ترنّ على مسمعه كلمات مثل: العراق، التعليم المسيحي، المقالات، مجلة الفكر المسيحي، معهد التثقيف المسيحي وكلية بابل... كلمات كانت سابقا تحرك ذاكرته فيذكر الشي غير قليل من حياته العراقية. وبعد نقاش طويل عن كل نشاطاته، يتوقف، يأخذ نفسا ونفسين ثم ينظر إلي باستغراب ويسالني: من أنت؟  لماذا انت هنا؟ كأنه يذكرني بأول لقاء لنا في بغداد حيث سألني من انت؟ قدّم نفسك؟ وبعدها يسألني: ماذا تريد؟
وفي حينها (سنة 1994) وما بعدها ساعدني الأب في الإجابة على هذين السؤالين: من انا؟ وماذا أريد؟ وخاصة عندما بدأ يحكي لي عن الدعوة، ودعوة الله لأبينا إبراهيم، ودعوة صموئيل النبي وصولا  الى الدعوة الرهبانية والدومنيكية. طريق طويل رافق خلاله الاب عتيشا الكثير من الشباب بل أيضا الشابات، منهم من اختار ان يواصل حياته في طريق آخر والبعض واصل السير في الطريق على خطى ابينا القديس عبد الاحد او في رهبانيات أخرى او دخل المعهد الكهنوتي (السمنير)."
وفي مقارنة بين خبرة الراهبين الواعظين (الأول من خلفية كلدانية، والثاني من خلفية آشورية) قال الأب رامي:  "ساعدتني كثيرا خبرته الشخصية الرهبانية، وخاصة ما يتصل بخبرته من جانبه مع أهله عندما علموا أنه قرر أن يسافر الى فرنسا ليصبح راهبًا دومنيكيًا، ومع أنه، هو في حينها، كان أصلا قد ارتسم كاهنا كلدانيا وخدم في البصرة حوالي سنتين، لكن بكاء اهله وتفكيرهم في قطيعته، كل هذا لم يثنه عن السفر لفرنسا، إزاء ما كانوا يحسون به من صعوبة بشأن ذهابه إلى بلاد الغربة والهجرة والفراق..." 
أما عن عطائه الفكري، فذكر الأب الواعظ، أنهم سوف ينظمون مناسبة بشأن ما قدمه، في حياته الفكرية الغنية والكتب العشرة او أكثر التي قام بتأليفها، واحد منها بالاشتراك مع الاب البير ابونا وآخر بالاشتراك مع غبطة البطريرك ساكو وسيادة المطران يوسف توما. إلى جانب عشرات المقالات في مجلة الفكر المسيحي ونجم المشرق، وعمله في الدورة اللاهوتية حيث حاضر لمدة 19 سنة، إلى جانب تدريسه في كلية بابل للاهوت او معهد التثقيف المسيحي، او خدمته الراعوية في هذه الكاتدرائية وغيرها، إلى جانب خدمته، ومشاركته في عدد من خدمات الخورنات.
 
حياته الرهبانية
 _________

"أما عن حياته الرهبانية، فبعد نذوره المؤبدة في فرنسا، عاد إلى العراق سنة 1965 ليساهم في تأسيس وافتتاح دير الدنح في بغداد. هذه العودة والتواجد في العراق حافظ على وجود الآباء الدومنيكان في العراق، لان الحكومة السابقة وفي سبعينات القرن الماضي أخرجت تباعا كل الآباء الدومنيكان الفرنسين. لولاه ولولا الاب المرحوم خليل قوجحصارلي لا نعرف هل كان سيكون اليوم دومنيكان في العراق أم لا؟" وأردف:
"عاش الحروب والحصار ومشاكل الحياة العراقية والديرية والجماعية، الا انه رفض ان يترك العراق. فتنقل بين تلكيف مسقط رأسه، والموصل وبغداد والبصرة وباريس وبغداد والموصل وقره قوش وعينكاوه الا أنه رفض ترك العراق الا بأمر الطاعة من الرئيس الإقليمي بسبب اشتداد المرض عليه وذلك في سنة 2015 ولم تكن في العراق الإمكانية لمتابعته صحيا..."
الدومنيكان: الصلاة والتأمل، الدراسة والكرازة
"أحب حقا عيش الحياة الدومنيكية بكل ابعادها، من الصلاة والتأمل، الدراسة، الكرازة والوعظ والحياة الجماعية. لم ينقطع عن الصلاة والتأمل يوما، لا بسبب محاضرة ولا بسبب كتابة ما. عاش الفقر والعفة والطاعة بكل أمانة وبكل ابعادها. يكفي انه بعد 40 سنة في بغداد وافق على الانتقال الى مدينة ودير الموصل في سنة 2004 لكي نتمكن من افتتاح مرحلة الابتداء للإخوة الجدد."
"ولا يعلم الكثيرون كم اهتم الاب عتيشا بالفقراء اهتماما كبيرا وهو الذي أسس صندوق الفقراء في دير بغداد وفي فترة الحصار كانت سفراته الى أمريكا مصدر خير وبركة لصندوق الفقراء حيث كانت تبرعات الاحبة والأصدقاء وخاصة عائلته (بيت عتيشا) في أمريكا الدور الأكبر في تغذية الصندوق ومساعدة الفقراء."

حب العراق
__________

عن حب العراق اختتم الأب رامي كلمته بالقول:
حافظ الاب عتيشا على حبه لهذا البلد حتى بعد ان كانت ذاكرته قد بليت، فكان يقول لي في كل مرة ازوره في فرنسا: رجعني معك للعراق، أقول لك رجعني معك  للعراق! وأنا أقول له الى اين ترجع؟ ستموت خلال أيام!  ليجيب بثقة وصدق: ما يخالف رجعني  للعراق... فيا أبانا يوسف عتيشا، اليوم العراق يتقدم نحوك ليحتضنك بقوة في عيون وصلاة وقلوب كل من عرفوك واحبوك واحبوا العراق."

مشهد كتابي من تعليم الأب يوسف عتيشا
__________________________

بقي عالقا في الذاكرة، من محاضراته في الدورة اللاهوتية بكاتدرائية القديس يوسف، السنتر، ذلك المشهد المكون من صورتين متناظرتين:
وبما يجعل الصورة الاولى، كأنما المرآة للصورة الثانية، بما تحمله من معالم ورموز:
الصورة المرآة: شجرة المعرفة في الإرث النهريني وامتدادها إلى شجرة عدن، الرجل آدم لصيقا بالشجرة، المرأة حواء أمام الشجرة، وينحدر على مرأى منهما نهر الفردوس.
الصورة الثانية: المشهد الحقيقة التي عكسته المرآة: الشجرة، خشبة الصليب، المعرفة الجديدة، والجهالة عند الأمم، آدم الجديد، يسوع المسيح لصيقا بشجرة الصليب، المرأة حواء الجديدة التي داست رأس الأفعى، في ونهر الملكوت، في المشهد: نهر دم وماء يجري من جنب آدم الجديد لصيق خشبة الصليب.

ذكريات وطرائف
___________

خلال العشر سنوات التي أمضيتها في مجلة الفكر المسيحي، بعد تسلم إدارتها من قبل الاباء الدومنيكان، تحضرني بعض الذكريات. منها أنه يوما ما أحسسني بمسؤوليتي، في نشر مقالاته عن التعليم المسيحي، فيما كنت أحسب مع نفسي أني لست الطرف الوحيد المسؤول عن تقرير نشر المقال، وتلك كانت المرة الأولى التي أتذكره فيها في موقف: عندما تهتز الشوارب.
ولكن الطابع الذي رافق طلعة الأب عتيشا، هو أن وجهه يعكس كالمرآة علامة الحزن، امام أمر مؤسف وأمام الصعوبات التي مرّت بها البلاد، وبالقدر عينه، كانت تعكس سلامه الداخلي، وفرحه وابتسامة عينيه قبل شفتيه عندما يخاطبك.
وعندما يحدث طارئ، يأخذه بروح النكتة لدى استذكاره، خصوصا مع سيارته، التي كان أول عهده بها، عندما كانت مركونة في كراج الكنيسة. فعندما أراد أن يخرجها، حول محرّك السرعة إلى أمام بدل أن يحوله إلى الخلف، فهمّت السيارة بالخروج من الحائط المقابل.
وعندما حدث له حادث على طريق الموصل، مع حمار سائب، قال: لم يكن الذنب ذنبي، بل الحمار جاء وارتطم بالسيارة.
وكانوا يدعونه في الدير، باسم جوزيـيـف، كاسم دلع، وذلك لتمييزه عن أسم أخيه في الرهبانية الأب (المطران) يوسف توما، ورافقه الأسم، كما سنرى حتى لدى انقاله إلى قره قوش.
وكان يقال، إنه لشغفه بالقراءة، كان يمضي ساعات من عطلته الصيفية السنوية في فرنسا، في غرفة بالدير بقراءة كتاب أو مقال في جريدة...

مقتطف من كتاب الأب (المطران) نجيب ميخائيل
________________________________

تهيأ لي أن اترجم للأب (المطران) نجيب ميخائيل، كتابه الصادر بالفرنسية، وسوف يطبع بعنوان: انقاذ الفكر وانقاذ البشر. وجاء في الكتاب ذكر لبعض النكات المتبادلة بينهم:
في الطابق العلوي، ما زال جوزيف (أ. يوسف عتيشا) نائما على سريره. أعرف ذلك من خلال سماعي لشخيره، مثلما يسمعه الآخرون في المحيط...! فقمت، في ليلة بتسجيله ليتأكد من ذلك! لكنه رفض الاعتراف بذلك. قائلا  أن ذلك ليس بشخيره، وأنني قمت بتوليف ذلك من خلال تسجيل صوت غسالة الملابس...
ومن باب شر البلية ما يضحك، ذكر اسمه، هو الذي كان يتحاشى أفلام الرعب، وذلك عند الخروج المرعب من بلدة قره قوش، أمام غزو تنظيم الدولة الاسلامية داعش، وجاء في الكتاب:
ها هي الساعة 11 ليلا. إنها النهاية هذه المرة. لقد باتت طلقات الكلاشنكوف قريبة جدا. إذن ليس أمامنا سوى الفرار. وها قد امتلأت السيارتان بالمخطوطات، ولكن ثمة حاجة قليلة إلى المزيد من المكان...
... وتقترب المعارك. استقلّ الأخ هاني السيارة الأمامية. ونوشك على الانطلاق... وإذا به يقفز من سيارته. "جوزيف! لقد نسينا جوزيف!" ونذهب كلانا إلى غرفته، حيث لم يزل نائما، لنأخذ صديقنا الشيخ من ذراعيه وهو بعد ببجامته. وإذا به يقول: "أدويتي!" قال ذلك بعد أن تيقـّن أنه ليس في حلم.

نم قرير العين
_________

أجل ايها الأب العزيز (جوزيف) لم يكن ذلك حلما، بل كابوسا حقيقيا وانتهى، وعاد الكثيرون الى قره قوش وسائر بلدات سهل نينوى، في الأشهر الأولى من 2017، وكنت آنذاك قد دخلت في حلم انتظارك لراحتك الأبدية وقد حانت، هذه الأيام، فنم قرير العيش، باسما مشرقا في قلوبنا ومع أجمل الذكريات.

20
أوضاع العراق ومسيحييه في سين و جيم
[/b]

الأب نويل فرمان السناطي
_________________
غالبا تطرح على المرء، أسئلة هنا أو هناك، في حديث عابر، في مراسلة خاصة او مع سائق تاكسي، عندما يعرفونه مسيحيا؛أسئلة مثل الاسئلة الثلاثة التي اوردها في هذا المقال، ورأيت أن تتبلور في هذا المقال، على شكل إجابات تأخذ بعين الاعتبار الطابع الخاص بالأوضاع الراهنة في العراق، مقارنة بما تتطلع إليه البلدان التي قطعت شوطا مقبولا في التقدم والالتزام بلائحة حقوق الانسان.
أترك القارئ الكريم، مع الاسئلة ومع محاولاتي المتواضعة في الإجابة.


1- سين: ما هو مدى تقبل المجتمع لعادات المسيحيين وتقاليدهم وخاصة بوجود متطرفين ومتشددين.
_____________________________________________________________________

جيم: غالبا ما تأتي صيغة هذا السؤال، من خلفية محافظة أصلا، وبروح من الاطلاع يوحي وكأن المسيحيين، هم في حالات ليبرالية متطرفة ومنفلتة عن عادات وتقاليد عموم الناس. وهذا يضع صاحب السؤال في وضع المراقب غير القلق من وضعه الشخصي تجاه وضع المسيحيين وكذلك تجاه منتقديهم. مع أنه يكرر بالتأكيد الإشارة الى القيم الأخلاقية الانسانية لديهم وروح المواطنة والاخلاص في العمل والنزاهة والصدق.
إزاء كل هذا فإن وجود المتطرفين والمتشددين هو حالة غير طبيعية، وبالعكس فإن وجود تنوع ثقافي في المجتمع المعاصر هو الحال الطبيعية خصوصا في مجتمع مثل العراق وقبل استفحال ظواهر التطرف فيه.  ولهذا فإن افتراض وجود تطرف وتشدد من أي نوع كان، يعد بحدّ ذاته حالة ترفضها المجتمعات، من مختلف المذاهب، و هو تحدّ  لكل نظام أو حكومة تبدو فيها مثل هذه الظواهر.
ولا شك أن المسيحيين، تجرعوا مرارات مريعة استهدفتهم بالذات، عندما صاروا ضحية باردة للعبة الصراعات السياسية، وهم يفتقدون إلى اي قوة تحميهم وأي كثافة عدديه. لكن يبقى وضعهم، في هذه المعاناة، مثل وضع الكثير من المضطهدين، من الغالبية الصامتة، من مختلف العراقيين المتنورين المنفتحين المعاصرين المواكبين لتطلعات العصر والقانون الدولي في حقوق الإنسان وواجباته. هؤلاء أيضا يشتركون مع المسيحيين وغالبية أخرى فيما وصف بالعادات والتقاليد، سواء في اختياراتهم لنوع اللبس، أو في ممارسة حياتهم الاجتماعية بالشكل الذي يكفل حريتهم ويحترم حرية الاخرين.
من ناحية اخرى، فإن إخلاء البلدان من المسيحيين، وبلدان الشرق الأوسط تحديدًا، لا بدّ وأنه يعد نزعة مريضة لدى الجماعات الاصولية والمتعصبة عندما تتحكم في مقاليد الحكومات. ويفتضح الهدف من ذلك، بأنهم يريدون أن  يخلقوا مجتمعا عراقيا منغلقا على العالم الخارجي ممسوخا، لم تشهده البلاد من قبل، ويشكلون بالتالي خطرا في تصدير الارهاب والمظاهر الاصولية من التحريض على الكراهية وعدم قبول الاخر المختلف، في مجتمعات متنوعة ومتعددة. هذا من جهة، ومن الجهة الثانية، فإنهم يخلقون في الداخل مجتمعا متناحرا بين كل من المتطلعين الى الحضارة ضدّ العائشين في القرون الوسطى. ويولـّد هذا مجتمعا تسوده الصراعات الداخلية بين مختلف المذاهب والطرائق والمدارس الدينية والمذهبية.
وثمة مظهر آخر من مظاهر الرفض الجماهيري. وهو ما حدث في هذه السنة، من تعاطف عمومي مع احتفالات العالم كله في الاحتفال بالسنة الميلادية واعياد ميلاد يسوع المسيح، برغم ما صدر، سنيا وشيعيا، من خطاب تكفيري إقصائي محرّض على الكراهية، حيث خرج في بغداد بتحدٍّ ظاهر، ما يبلغ اربعة ملايين ونصف من مجموع 8 ملايين يشكلوا عدد سكان العاصمة، انطلقوا مشاركين في ليالي الاحتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة.
واذا تركز الحديث في السؤال، عن العادات والتقاليد، في اشارة ضمنية الى مظاهر الملبس، فإن نسبة كبيرة من المحجبات، تفوق بكثير عدد غير المحجبات من المسيحيات وغيرهن، هذه النسبة، لا تلبس الحجاب التقليدي (غطاء الرأس والثوب المسترسل الفضفاض) بل يلبسنه كإسقاط فرض، بالاكتفاء بغطاء الرأس، ومسايرة اللبس اللائق ولكن بعصرنة ألـِفها سواد المجتمع. 

2-سؤال:  هل يضمن الدستور العراقي حقوق المسيحيين؟
____________________________________________

- جواب: إن الدستور العراقي يغمط حقوق الكثيرين، من اثنيات وطوائف ومذاهب متنوعة، وليس فقط شريحة معينة، وهو يقيّد حرية الفرد في اختيار فكره ومذهبه ودينه، ويشل حركته في ممارسة حقوقه الانسانية. أما التجاوز الصارخ على حقوق المسيحيين فهو أسلمة القاصرين، عندما يختار أحد الزوجين، ان يعتنق الاسلام بالزواج من مسلمة، فيفرض على الطرف الاخر من الوالدين، أن تتم أسلمة الاولاد القاصرين الذين هم أصلا في عهدة الطرف المسيحي، لحين بلوغهم الثامنة عشر من العمر، ليختاروا لهم الديانة التي يريدون، أو البقاء على مسيحيتهم. ولكن ثبت ان المماطلة كانت الحل خلال هذه السنة لحرمان البالغ حتى من ممارسة هذه الحق.
وعلى أيّ حال، فإن الدستور بوضعه الحالي، يواجه الرفض من أصوات كثيرة. بالإضافة إلى أن الرأي السائد، عموما هو ان العراقيين يعيشون في دولة اللا دستور واللا قانون، ويشهدون في الواقع ظاهرة الدولة العميقة وسلوكيات التشريع العشائري، وحكم الميليشيات.
ومن ثم فإن هذه حالة استثنائية شاذة في البلاد وفي المنطقة. حيث ان بلادًا تحكمها الطائفية والمذهبية والمحاصصة، هي بلاد خارجة عن الركب الحضاري والانساني المعاصر. وقد تدوم هذه الحالة، حتى افتضاحها مع الوقت، وحتى سقوط الديانة كنظام دولة، واقتصارها كما في بلدان المجتمع المدني، على القناعة الخاصة بالأفراد والجماعات لممارسة عقائدهم وبما لا يتعارض مع حركة الشارع والنظام الاقتصادي وحرية الاخرين.
هذا الانتظار هو انتظار الكثيرين، من عموم العراقيين. وقد بانت بوادره مع ظهور هذا السيل الهادر من غير الممارسين للشعائر الدينية الموسمية، وممن يحملون الانتماء الديني في مظهره وتسميته وحسب، مع وجود اعلان صريح او مبطن بعدم الايمان بل حتى بالإلحاد وعلى نطاق أشار مراقبون إلى أنه تجاوز مئات الالاف. كل هذا يحدث بعد الفشل الذريع الذي مني به المجتمع، عندما صارت الطائفية هي التي تحكم. وصار الكثير من رجال الدين من ممارسي النشاط السياسي الحزبي يشكلون بعبعا في نظر سواد الشعب، وخصوصا المقهورين. ليشهد العراق، حالة غير مسبوقة من الفساد الاداري والمالي، على مستوى فضائحي واسع.

3- س: هل اثرت الاحداث في وضعكم الاقتصادي خاصة بعد التهجير وتعرض املاككم لسرقة والنهب؟
____________________________________________________________________

-ج:
الجواب على هذا السؤال ينطبق عليه ما جاء في الجواب على السؤال السابق. خصوصا من ناحية ما يسببه وجود دولة اللاقانون، وسيادة حجة الأقوى. وعندما يكون الأمر هكذا، يمكن للمرء أن يسأل كم من غير المسيحيين أيضا تأثروا في وضعهم الاقتصادي، وسرقة الأملاك والنهب، حتى وصل الحال إلى السطو الى مباني الكليات والاتحادات والمباني الرسمية، للاستئثار بها لهذه الجهة الطائفية أو تلك، فاختار الكثيرون الهجرة من مختلف ألوان الطيف العراقي.
مثل هذه الحالات، قلما تشهد الانحسار، ما لم يصل اليوم الذي يختفي فيه مثل هذا الوضع غير الدستوري وغير القانوني، والمحكوم بالمحاصصة والطائفية والميلشيات، وعندما يصار إلى اجتثاث الفساد والمتسببين والمنضمّين إلى تشكيلة متنوعة من الجماعات الشمولية والدكتاتورية.
وهذا من المؤمل ان يتحقق باتساع القاعدة الجماهيرية الرافضة للحالة، والمطالبة، تحت رقابة قانونية دولية، بأن يحصل التغيير الجذري ليعيش الناس ضمن المعايير العالمية، في العيش المشترك بين المجتمعات المتنوعة.

 

21
قراءة متأنية لزيارتَي البابا  فرنسيس الى الإمارات والمغرب
[/b][/size]

الأب نويل فرمان السناطي

هناك ملامح تتناسق الى حد واسع بين الزيارتين اللتين قام بهما قداسة البابا فرنسيس إلى الامارات والمغرب في غضون أسابيع متقاربة. وثمة أهداف واضحة انعقد من أجلها «المؤتمر العالمي للأخوّة الإنسانية» تمثّـلت في إرساء  قاعدة ثقافة السلام والتأكيد على ما تتوخّاه الأخوّة الإنسانية من قيم وثوابت مثل فتح آفاق الحوار، وإزالة ما يعترضها من  حواجز وصفها البابا بهذه الكلمات: "من يبني الجدران يبقى سجينًا فيها" ومن ثمّ الدعوة لإنماء مبادئ التسامح والتعايش، ورفض خطاب الكراهية والفرقة.
الإمارات- وثيقة الإخوّة الإنسانية ومواجهة التحدّيات
وتكلل مؤتمر الإمارات بصدور «وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» وقّعها في 6 شباط 2019 البابا فرنسيس  مع شيخ الأزهر، الشيخ  أحمد الطيب، كمرجع إسلامي؛ ومع انه ليس المرجع الوحيد في العالم الاسلامي، لكنه يمثل جناحا كبيرا منه. هذه الوثيقة أريد لها أن تؤسس لدور الأديان، وهنا في الاقل ما يخص مهمة كل ديانة من المرجعين المذكورين، في الاضطلاع مع سائر الاديان، بدور حماية السلام العالمي ونشر ثقافة المحبة، مع تأكيد ما سمّته الوثيقة الشراكة الكاملة بين اتباع هاتين المرجعيتين... ولكن تبقى هذه الخطوة لبنة في توعية مطلوبة على نطاق أوسع، لأنه ولجريمة حصلت بنيوزيلاندا حصلت ضدّ مسلمين في مسجد، ليس باسم المسيحية، حصلت للمسيحيين في نيجيريا واماكن أخرى اعتداءات جسيمة باسم الاسلام...

المغرب نحو حرية الضمير ولا لنزعة الاقتناص، أو الضمّ البغيض (Proselytism)
_________________________________________________
إزاء وثيقة الإخوّة الإنسانية، لا نفترض ان المشتركات التي تجمع بين الأديان، تجرّها بالضرورة إلى الانصهار ببعضها ضمن  نزعة "النسبية Relativism" التي لا تتوخاها أي ديانة قائمة بذاتها، وإلا لما قامت ديانة بجانب أخرى، فلكل واحدة خصوصيتها. أمام هذه الخصوصية، يتطور خطاب البابا  فرنسيس في زيارته الى المغرب، إلى حالة أخرى بأنه دعا إلى مجابهة "التعصب والأصولية" بـ"تضامن" جميع المؤمنين، وأيضا جميع الذين يستخدمون فكرهم وضميرهم، مدافعا بذلك عن "حرية الضمير" وليس فقط "الحرية الدينية". جاء هذا في كلمة مار فرنسيس يوم  السبت 30 مارس 2019 بساحة مسجد حسان بالرباط، في افتتاح زيارته إلى المغرب بدعوة من الملك محمد السادس.  وقال: "من الضروري أن نجابه التعصب والأصولية بتضامن جميع المؤمنين، جاعلين من قيمنا المشتركة مرجعا ثمينا لتصرفاتنا". وأضاف "إن حرية الضمير والحرية الدينية -التي لا تقتصر على حرية العبادة وحسب بل يجب أن تسمح لكل فرد بالعيش بحسب قناعاته الدينية- ترتبطان ارتباطا وثيقا بالكرامة البشرية".
ومن جانبه شدّد العاهل محمد السادس ملك المغرب،  في خطابه على العقلانية بعيدا عن الجهل، ودعا أن يكون ذلك ضمن أجواء ابراهيمية،  إذ نوّه بالديانات السماوية الثلاثة بأنها وجدت "للانفتاح على بعضها البعض" بهدف مواجهة التطرّف من خلال التعارف، للتصدّي لتحدّيات الحاضر عن طريق التربية كسبيل لا غنى عنه لمواجهة التطرف، لأن مصدره، على حدّ تعبير العاهل المغربي، هو "انعدام التعارف المتبادل، والجهل بالآخر، بل الجهل وحسب".
وفي الوقت عينه، نعتقد ان القراءة المتأنية لخطاب محدد للبابا فرنسيس   وجهه  إلى كهنة المغرب ورعاياهم ، وجاء على مسمع من الجهة المضيفة من المغاربة، وذلك  خلال القداس يوم الاحد في الرباط، حذّر فيه من أمر أُسيئت ترجمته بجهل أو بعدم دقة وهو ما عناه بكلمة (Proselytism) ومرادفاتها في عدة لغات غربية، وهي الضم البغيض أو الاقتناص (وليس التبشير)، وهكذا تم ترويج المفرجة خطأً بالتبشير ... في قوله: (إن دروب الرسالة لا تمرّ من خلال انشطة "الضم البغيض" من فضلكم) والمصطلح يعني " الاقتناص" بينما البابا لا يحذّر من التبشير و لشهادة حق فهي من قانون حقوق الانسان، ولأن التبشير هو التبشير بقيم الانجيل بشهادة الحياة. هكذا فإن البابا  قصد  (Proselytism) تلك النزعة الدعائية "التبشيروية" التي تنجرّ إليها بعض الجماعات الكنسية من غير الكنائس الرسولية.
التصدّي لعدم الدقة المغرض او غير المقصود في الترجمة
وبينما المقال هذا كان قد أوشك على النشر، توالت أصوات عديدة لتشخص ما تم الاشارة اليه من عدم الدقة في الترجمة، منها ما نشره موقع أبونا، عن مقال كتب مع هالة حمصي من جريدة النهار اللبنانية، وصف فعلا كلمة (Proselitismo) الايطالية التي استخدمها الحبر الروماني بالإيطالية، بأنها تعني "الضمّ البغيض" وسبق للبابا الفخري مار بندكتس أن أشار الى ذلك بالقول: "إن الكنيسة لا تنمو من خلال انشطة (الضم البغيض proselitismo)  بل بواقع الجذب والشهادة". وأضاف المقال التوضيحي: ما لا يرغب به البابا هو النشاط الذي يهدف إلى استقطاب الآخرين واستمالتهم إلى المسيحية بوسائل منافية لحرية الإنسان في اختيار معتقده، أو نتيجة استغلال لأوضاع مادية أو نفسية أو اجتماعية، وان البابا يؤكد على أن المسيحي هو مسيحي نتيجة لقاء حقيقي مع السيد المسيح وليس ثمرة استقطاب أو اقتناص...
وبمعنى آخر، فرّق البابا فرنسيس أمام الاكليروس المحلـّي في المغرب بين "عرض الإيمان للآخرين" من خلال الأعمال وشهادة الحياة وبين "فرض الايمان على الآخرين". وبالتالي فإن تصريحاته متوافقة مع تعليم الكنيسة الكاثوليكية الرسمي وتعليم البابوات السابقين.
هذا التوجّه في الاقتناص، مطروح على أي ديانة كانت، فهو يقصي الآخر ويتعالى عليه، ويعدّه مسبقا على خطأ، ويتحرّك على حساب حرية ضميره ومعتقده وتصرفه اليومي  الحرّ. إنه التوجّه الذي يتوخّى منه أصحابه فرض انفسهم وتقاليدهم وطقوسهم وتراثهم على حساب قناعة ضمير الآخر وسلامته، مما لا زلنا نجده في عالمنا وأيامنا.
الزيارة الدينية الطقوسية بين الزائرين وغير الزائرين
وإزاء ما تقدم من خطابات ووثائق تستجيب بفحواها الى تطلعات عالمنا، لا بد من القول إن عطش انسان اليوم، هو حقا بان يتحرر من الجهل ويتحرر إلى أن يعمق معرفة الآخر من مصادره الرسمية وليس عن طريقة الشائعات والترويج المغرض،  ويحترم اختلافه، وليس التصرف على حساب رزقه وعطشه وطعامه وصحته ورغبته في التنقل وحقه في الذهاب الى المستشفى، مثل حقه في استنشاق الهواء. هذا ما يجدر توخيه حفاظا على مكانة الزيارات المقدّسة وأبعادها، كما في أي ممارسات جماهيرية او مليونية، طقوسية كانت أو فولكلورية، حيث يخطط لمساراتها مهنيا وعلميا مع مراعاة عناصر الأمان للجميع. والا فإن موضوع اقصاء الاخر، والعمل على حساب راحته، يمثل صفعة واضحة، في وجه التعايش المتكافئ المحترم، كما يقلل من وقع الزيارة على المتلقي ولا بدّ أن لها إسقاطاتها على الزائر، بما قد يلتفت إليه من ردود أفعال.
وبعدُ إن زيارة البابا في مطلع العام إلى الإمارات، كان لها صداها العظيم في العالم الإسلامي والمسيحي، وزيارته البابوية في هذه الأيام الى المغرب، بما ارسله مع مضيفيه من خطابات – رسائل محمّلة بقيم التنشئة على التعارف والتعايش. هذه الزيارة تزامنت مع زيارة دينية مليونية جرت في بغداد بمناسبة استشهاد الامام موسى الكاظم احد الائمة الاثني عشر عند اخوتنا الشيعة، تبيّن الحاجة إلى المزيد من الحكمة من كل الأطراف، والتوعية بروحانية هذه الزيارة ومعانيها،  بنمط مقبول في بلد  متنوع الأديان والمذاهب والاعراق.

22
المنبر الحر / يوم في البطريركية
« في: 13:18 30/03/2019  »
يوم في البطريركية


الاب نويل فرمان السناطي

أجل! تمر الأيام في البطريركية كالسحاب، ولكل يوم سحابته الحبلى بالأحداث والمفاجآت والمفارقات، مما هو في الوقت عينه مقولب ضمن منهاج شبه رهباني لهذا الصرح الكنسي المهم، فرأيت ان ارسم لوحة عما  يحمله يوم من أيام البطريركية مع ما له من ألوان.
ولكن اليوم من هذه الايام إذ يقع حاليا ضمن اسابيع الصوم، فهو يحمل في البطريركية كما في الطعام نكهة ومذاقا. ولا بدّ من الإقرار، أني قبل الحلول في هذا المكان، كنت أكتفي بما نوصي به في الكنائس، أن الكنيسة سهلت الصوم على عباد الله أبنائها، بصيام أول اسبوع ثم آخره، بل حتى منتصفه. وإذ وجدوني جديدا على صيام البطريركية، تركوا لي بكياسة جمة المجال لأعمل بتلك التسهيلات، ومضوا في سياقهم السنوي… وهو الصيام كل أيام الصوم لغاية الظهر، حتى طاوعت نفسي مع الأيام على ذلك ، فوجدته أقل صعوبة مما كنا، أنا وصحتي نتوقعه.
وهكذا يبدأ النهار بالصلاة، وكانت في الاسبوع الاول صلاة (شاووعا) سابوع الصوم. وخارج الصوم، يبدأ النهار بصلاة الصبح – المجددة-  سواء للايام العادية أو الآحاد، ولكل منها خصوصية ورونق وروحانية. وفي القداس، وبحسب السياق، يبادر المحتفل، وغالبا ما يكون غبطة البطريرك، لمشاركة الحضور من راهبات واكليروس، بفكرة تأملية  قصيرة عن القراءة الكتابية. أما نيات القداس فهي تتفاعل مع تحمله الحوليات من احداث في العراق والعالم ، أو ما نحن عليه مقبلون من انشطة واستقبالات وزيارات، أو مناسبة للكنيسة الجامعة والمحلية باكليروسها ومؤمنيها. كلها نحملها مع قرباننا من الرب كي ينظر اليها بعين الرحمة.
ثم “يتصومع” كل واحد في غرفته، ليعمل أمام شاشته المكتبية أو أحيانا امام شاشته اليدوية، فتمر ساعات الصبح خلوا من جلبة أقداح أو عبق يدلف في الاروقة من رائحة قهوة الصباح. وسرعان ما تتوالى مفردات البرنامج، سواء داخل الصرح البطريركي، من مقابلات واستقبال مسؤولين حكوميين وكنسيين وناشطين مدنيين ومراجعين لهم معاملات وطلبات وكأن البطريركية دائرة شؤون الناس… وما بين كل هذا تجري مهاتفات، أو زيارات في بغداد أو خارجها. ومن يوم لآخر، يطـّلع احد المسؤولين في طاقم المرافقة والنقل، على تقويم اليوميات، ليعرف طبيعة واجب اليوم، او ليجري الاعدادات لواجب خارج العاصمة مما يقتضي بعض السياقات والكتب الرسمية.
وبين أجواء من اصوات المؤذنين، والتلاوات المنتشرة عبر مكبرات الصوت القريبة، تحين ساعة الظهر، للافطار، في وجبة اعدت بطقوسية خاصة: شاي وقهوة، وفقرات طعام تتفنن الأخت الراهبة  عفاف في تنويعها من قوائم طعام الصوم؛ وتزيد فتشرح لهذا أو ذاك من متناولي الطعام، فوائد صحية لهذه المادة أو تلك، وما تحمله من هذا التمثيل الغذائي وتفتقده من ذاك.
ويخلد الديوان البطريركي إلى سويعة قيلولة، تنقض عليها جلبات من الاصوات وابواق السيارات، وتعليمات شرطة النجدة والمرور في الشارع لتخترق الشبابيك وتزاحم بأصواتها الجهورية مديرة المدرسة الجارة بتوصياتها وممنوعاتها. وبعد هذه الساعة، يتفاوت المنهاج بعد "عصرونية" الشاي بين العمل واستقبال وفد أو اجتماع مخطط أو طارئ.
ثم يحين وقت صلاة المساء، بين صلاة طقوسية او الوردية أو صلاة صامتة او التأمل، قبل اللقاء على مائدة تتميز بزهدها، ولكن تخيم عليها التعليقات والنكات، بين الاخوة والاخوات والاب والابناء والبنات، من مماحكة ونكتة واجابة هاتف، او التوقف أمام خبر من الشاشة، قد يفسد علينا كأس الماء البارد، أو يجعله شافيا للغليل.          
بعد العشاء، تكون جلسة راحة بقدر ما تتيحه انباء القنوات، تأتي طقوس المشية المسائية  في  فناء البطريركية الذي تتوسطه الحديقة باشجارها وورودها، ثم يفترق كل الى سبيله، منصرفا الى الكتابة او القراءة أو الاعداد لحدث مقبل، كل ذلك بانتظار سحابة يوم بطريركي جديد تحت سماء بغداد، تبشر أكثر فأكثر بالأمان وبغد أفضل من الخير العميم.


23
استفسار بطريركية الكلدان ببغداد لجريدة الزمان عما نشرته عن محامية باسم (مريم)
 
بقلم الأب نوئيل فرمان السناطي

إلى حضرة الأخ الاستاذ سعد البزاز المحترم  رئيس تحرير جريدة الزمان الغرّاء
مع التحية الى الاخ د. أحمد عبد المجيد المحترم رئيس تحرير طبعة العراق
 
أرجو أن تكونوا بخير وسلام مع اعتزازي الطيب بكم وبعد،
    أكتب لكم، بعد ان اطلعت على مقال بعنوان "محامية  مسيحية سابقة تثير شفقة أهالي العاصمة العراقية- بغداد" نشره موقع عنكاوا.كوم، الرائج في مجتمعنا العراقي والمسيحي في الوطن وخارجه، نقلا عن جريدة الزمان ومعتمدا بلا شك في كل مضمونه على مصداقية جريدتكم الغرّاء، التي نشرت في 17 شباط 2019 مقالا حماسيا تعبويا ملفتا للنظر، تحت عنوان "محامية تستجدي الناس" مع صورة للكاتب واسمه: ماجد عبد الرحيم الجامعي.
وتتقارب إلى حدّ بعيد قصة المحامية المذكورة في هذا المقال مع قصة حقيقية معروفة عن المحامية المسيحية التي عاشت كشهيدة حية، فاقدة الصواب، كضحية للنظام السابق والمتوفاة قبيل سنوات. واذ أن الفحوى شبه متطابقة في القصتين، إلا ان الكاتب أورد القصة الجديدة بتباين في الأسم: مريم (لوحده!) مقارنة باسم الشخصية المعروفة سابقا تحت اسم المحامية الراحلة: لهيب كشمش نعمان. وكتب عن وفاتها حينذاك، من ذلك مقال: ماذا بعد وفاة المحامية لهيب كشمش، ويمكن العثور على مقالات تحت هذا الاسم الثلاثي.
ويبدو أنه ولزيادة في التشويق، وإدخال عناصر جديدة على سيناريو هذه القصة الجديدة، فقد تم الاشارة إلى ان هذه المحامية (مريم!)، كانت قد رفعت دعوى بسبب قتل عدي صدام حسين لخادمه (لم يذكر اسم الخادم!) بينما مع واقعة المحامية لهيب، كان القتيل مدعوًا باسم: كامل حنا ججو، وكان خادمًا لأبي عدي، وليس خادما لعدي والذي قتله ليس برصاصة طائشة بل بعقوبة.
أخي العزيز سعد، إن القصص الحقيقية كثيرة بين ابناء الشعب العراقي، وما زلتُ لا أصدق أن هذا المقال يحكي عن قصة مختلقة، ومع حسن الظن لا أخاله موضوعا روائيا لحالات مماثلة كثيرة في مختلف العقود السابقة، لأن الكاتب أكد في مقاله أنه شاهد (مريم) بأم عينه.
ولهذا السبب وددت ان أوجه إلى حضرتكم، الاستاذ القدير سعد البزاز، ومن خلالكم الى الاخ د. أحمد عبد المجيد، استفسارا رسميا من بطريركيتي، بطريركية الكلدان في العراق والعالم. ويحمل هذا الاستفسار التساؤل الجاد عمن تكون تلك المحامية الضحية والمسيحية (مريم) وبالمواصفات الدرامية الواردة في حبكة المقال الجديد، والمشابهة قصتها مع القصة المعروفة عن لهيب كشمش نعمان، وذلك بغية أن يتسنى للبطريركية أن تعمل ما يتيسر بشأنها، ونعلمكم ان القنوات الكنسية المتوفرة في بغداد، ليست على علم بمثل هذه الحالة، وأن الكنيسة تساعد حالات مثل هذه من دون النظر الى هوية المحتاج.
وفي الآخر إذا تبين في تحرّيكم المشكور سلفا، ان الموضوع روائي مبتكر فحسب، نرجو الاشارة الى ذلك مهنيًا، والتقويم المسؤول عما دفع الكاتب الى تشخيصه الروائي لحالة مسيحية. لأن الحالات المأساوية في عراقنا المنكوب هي كثيرة وحقيقية أصلا، وقد طالت وتطال شعبنا العراقي بكل شرائحه. وفي هذه الحالة، إني واثق بأن موقع عنكاوا.كوم الأغرّ، وهو الواحد ضمن 50 موقعا الكترونيا الأكثر قراءة في العالم، سوف يتحرى مستقبلا للتمييز بين ما هو روائي وبين ما هو واقعي في ما تنشره جريدة الزمان الرائدة، ويتمحص فيما يكتبه الكاتب السيد ماجد عبد الرحيم الجامعي بهذه المواصفات.
وأخيرا، آمل أن تتوفر لي يوما الفرصة لزيارة ودية إلى الزميل د. احمد عبد المجيد في مقرّه، وأن أسأله عنكم شخصيا ، وأحييكم.
ودمتم بسلام  لرسالة الكلمة الحرة الهادفة.
أخوكم وزميلكم، نوئيل السناطي


24
الاخ والصديق  يوحنا بيداويد المحترم
تحية الاحترام والمحبة،
بالاشارة الى مقالك: رد على مقال الاب لوسيان جميل تحت عنوان "الكنيسة الكلدانية كانت ولا زالت الكنيسة الأم في العراق وفي المهجر" وما كتبته حضرتك بشأن طروحاته، عن الهوية الكلدانية والكنيسة الكلدانية، وددت في هذا التعقيب، ان اطرح وجهة نظري، في مناخ الدالة التي بيننا، وبمعزل عما عرف الرجل عن نفسه وعن ايديولوجيته الشخصية والزاوية التي انطلق منها بشأن الكلدان والكنيسة.
واود ان اشرح وجهة نظري بشأن الكنيسة واللغة والهوية بمجرد المقارنة شبه الحرفية مع خبرة لمستها في خورنة فرانكوفونية (ناطقة بالفرنسية منعزلة عن البلاد الفرنسية) بمدينة كالكري الكندية في محيط انكليزي بغالبية ساحقة.
في السنوات الاولى من نشأتها في مطلع القرن العشرين، وفرت كنيسة سانت فاميي (العائلة المقدسة) الفرانكوفونية في قاعة سردابها، المجال لتعليم اللغة الفرنسية وتم ذلك لمدة معينة، ثم حان زمن الفطام. فاستقل الفرانكوفونيون في ثقافتهم ومجتمعهم المدني وفنونهم، وباستقلالية بارزة عن الكنيسة إياها.
وسبب هذا الاستقلال، بين الكنيسة والقوميين الفرانكوفونيين ان الكنيسة وفرت مكانا لتدريس اللغة وحسب، حتى توفرت لهؤلاء، وعدد غالب منهم لا يعرف الكنيسة، لا يمارس أو لا يؤمن، توفرت لهم الوسائل اللازمة لانتعاشهم الثقافي والفكري والفني. والسبب الآخر أن الكنيسة الفرانكوفونية الكاثوليكية، باتجاه رسالتها مستقلة بدورها وانها لم تجد نفسها معنية بنحو مباشر بتعليم الابجدية الفرنسية لعدم عائدية التخصص اليها ولإحالة ذلك الى المجتمع المدني والدولة، وحسبها ككنيسة ان تتوفر كمكان للصلاة لمن يرومون الصلاة بالفرنسية.
ومع الزمن، وضمن واقع حرب اللغات، ومبدأ (لغة تبتلع لغة)، فإن هذه الفرنسية لغة العصافير ولغة فولتير الجميلة، وجدت نفسها، في حيز جغرافي غير حيّزها الاصلي، لتتحوّل إلى لغة ممسوخة، فيها الدارج وفيها الانكليزي... ، كما ان الاجيال الفرانكوفونية نفسها صارت كأنما تتحرج منها كما صارت تلك الاجيال تتحاشى الانتظام في المدارس الفرانكوفونية، لقلة الفرص وضآلة المستقبل. وهكذا فان الكنيسة الفرانكوفونية الحالية صارت تقدم الخدمات الليتورجية لاناس يحبون متابعة الطقوس بالفرنسية، قادمين من اي مكان، وبنسبة غير فرانكوفونية. ومع الوقت اضطرت هذه الكنيسة ان تقيم طقوس الجناز والعماذ والزواج بلغة مزدوجة، قليل من الفرنسية وكثير من الانكليزية، لأن المعنيين في هذه الخدمات ما كادوا يفهمون من الفرنسية شيئا.
ولمعاينة هذا الواقع بين اللغات بحسب الحيز الجغرافي ونسبة الكثافة للناطقين بها، صدرت سلسلة من الدراسات والكتب، تحوم حول موضوع اللغات ، ابرزها الكتاب الموسوعي للفرنسي لويس جان كالفيه الموسوم بعنوان حرب اللغات. ونجد فيه تحليلا لواقع الفرانكوفونية، مع اللغة الفرنسية في كندا، هذه اللغة التي سميت لغة الحب ولغة القانونيين بآن ، والايلة الى الزوال امام بلدوزر الانكليزية. بدأ ذلك منذ سقوط ديغول على اثر خطابه تحت شعار تحيا كيبيك الحرة، في مقاطعة كيبيك الفرنسية (24 تموز 1967)، وبسبب عدم تمكن فرنسا من الاستحواذ على العالم الفرانكوفوني بمجرد سيطرتها على ناصية اللغة الفرنسية. و هكذا الحال مع اللغة اللاتينية  التي كانت الى سنة 1965 هي  لغة العبادة في الكنيسة الرومانية. واليوم  معظم الأساقفة والكهنة لا يعرفونها ويصلون باللغات المحلية. اللغة وسيلة وليست غاية.
وهكذا فإن الهوية الاثنية غالبا ما تعتمد على مدى ارتباطها باللغة والارض، فتبقى مهددة بحسب تأثر أبنائها بالحيز الجغرافي المهيمن، خارج الارض وامام لغات مسيطرة. فإذا كان هذا واقع اللغة، فعن اي قومية يمكن التحدث، بالترابط مع الكنيسة. حسب الكنيسة أنها شجعت على قيام الرابطة، وحسب الرابطة ان تضطلع مع المعنيين لانقاذ من يمكن انقاذه من التوجه القومي في المجتمع المدني الثقافي والفولكلوري والتاريخي.
هذه كانت مقارنتي الميدانية لابداء وجهة نظري في ارتباط اللغة بالكنيسة، ويمكن فقط في هذا المثل استبدال مفردة اللغة الفرنسية، باللغة المرتبطة تاريخيا بمؤمني كنيسة المشرق الكلدانية. كما ان الكنيسة الكلدانية بخطها الكاثوليكي، حان لها، وبعد قيام احزاب قومية كلدانية، ان تكون مستقلة عن اللغة والكلدانية، وتترك هذا المجال للاختصاصيين القومين لكل المدى الذي يمكنهم معه مساعدة الكلدان على البقاء بخصوصيتهم، في بلدان الانتشار، وما يتصل بعلاقتهم مع ارض والوطن.
أما غيرتك الرسولية، أخي الفاضل يوحنا، بشأن الجانب الروحي لرسالة المسيحية، فهذا جانب أوسع، لدرجة أن حضرتك مدعو لطرحه على شكل استقصاء واحصائية وارقام وبيانات، لتقديم المسألة موضوعيا بعيدا عن الذاتية، لأن الرسالة المسيحية يا أخي العزيز كالاواني المستطرقة، تجدها تتصاعد في مكان وتنحسر في مكان آخر. ويبقى الموضوع الذي طرحته موضوعا جميلا مرشحا للبحث والنقاش، على أن كنيستنا الكلدانية بشركتها التامة مع الكنيسة الجامعة، تواجه هذا واقع انحسار الروحانية على مستوى الكرسي الرسولي وتتعامل معه بنحو يراد له أن يتفاعل مع توجهات الفاتيكان. وقد يحصل هذا اما بانصهار الكتل الكاثوليكية الصغيرة بالكتل الاكبر، او بالانتعاش الروحي للكنيسة على ارض الاجداد.
هكذا فيما يخص كنيستنا، فإن الأمل في تجذرها الثقافي، هو دعم حضورها في ارض الوطن والآباء، ومن ثم فإن مستقبل كنيستنا، ككنيسة كلدانية مرتبط ، بأرض الأجداد، وكلما تجذرت فيها، كلما كانت منارة لابرشيات الانتشار، والعكس بالعكس. اي كلما ضعفت على ارض الاجداد، كلما اصبحت ابرشياتنا في المهجر ابرشيات مجهرية ينصهر ابناؤها في المحيط الغالب، عاجلا أم آجلا.
وأرجو أن يُسمح لي بالقول: ثمة تغير نوعي في اكليروسنا الكلداني. فمعظم اساقفتنا يحملون شهادات عالية في العلوم الكنسية وكذلك الكهنة، من خريجي الجامعات والكلية الحبرية، وبالمقابل، وكما اعتقد قلما تجد الكنيسة علمانيا واحدا  مختصا في اللاهوت أوالأخلاق أو الطقوس والقوانين حتى تقدر الكنيسة ان تستفيد منهم، اما العلوم الأخرى – المجتمعية فللعلمانيين حضور إيجابي وجدته في العراق، المهندس والمحامي والمحاسب والسياسي ودور المراة، والمجلس الراعوي في البطريركية وهيئة المستشارين والدائرة المالية هم علمانيون. الكنيسة لا تقدر ان تجمع من كل شتات الأرض العلمانين  حتى تستشيرهم..  في الابرشيات مجالس راعوية ولجان ومجالس خورنية وهذا امر مشجع. كنيستنا والحمد لله تشهد تقدما ملموسا، نحن مدعوون ان نشجعه.
هذا  كان أخي الباحث الفاضل، الناشط يوحنا، ما توفر لهذا اليوم، وعهدي بك ان تشبع الموضوع في الشأن الروحي والايماني بسلسلة مقالات، قد تلقى المزيد من الاضواء على الموضوع وتجيب عن الكثير من التساؤلات، وأرجو ان يكون شأنك من ذلك شأن العلماني المؤمن الغيور الذي بقلمه وتوجهه ونشاطه يعيش دوره في حضن الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. ففي رأيي، إن تعمق العلماني في ايمانه المسيحي، ضمن شعب المؤمنين المبشرين رسالة الانجيل، هو الكفيل بدعم رسالة الكنيسة باكليروسها ومؤمنيها.
وضعت هذا الطرح ضمن منتدى مقالك، لأني لا استطيع ان اطالك في ادارة دفة الحوارات والنقاشات والمتداخلين، على اشكالهم. ودمت سالما.

25
رسالة مفتوحة الى رعاتنا البطاركة الأجلاء
لمناسبة مقدمكم الميمون، أمنيات بقيت مؤجلة

الأب نويل فرمان السناطي
بغداد
 
منذ صدور بيان الموقع الالكتروني البطريركي الكلداني المرحب بقدوم  اصحاب الغبطة والنيافة البطاركة (26-30 تشرين الثاني 2018) ومع البهجة بلقائهم على أرض العراق الجريح، يفيض القلم بأمنيات بقيت مؤجلة، هذا بعض منها. وإني ممتن لهذا الموقع، في بطريركية بابل، وهي البطريركية الكاثوليكية الوحيدة في العراق، ممتن لهم إذا تفضلوا بنشر هذا المقال.
بادئ ذي بدء، ولما كان الحديث عن قدوم بطاركة الشرق، ربما رواد البعض وأنا أحدهم انطباع بسيط لحد السذاجة ان الحديث كان عن بطاركة كنائس الشرق، وليس البطاركة الكاثوليك حصرا. فنجم عن هذه الفرحة المؤجلة، هذه الاسطر الحبلى بالامنيات الانسانية والمكتنزة بالرجاء المسيحي.

فأن تأتوا يا رعاتنا الأحبة الى بغداد بعد كل ما عاشته بغداد، وأن تجتمعوا فيها، فهذه فرحة حققتموها بعد طول انتظار، مع أمنية أن يكون قدومكم نقطة انطلاق جديدة فيها الكثير من التطلعات:
 وأن تتداول الاخبار بأنه ضمن تطلعاتكم بشأن هذا اللقاء، هو التطلع الى الوحدة، مع احترام وجهات النظر والأفكار، فهذا تطلع يجعل المرء يضرب كفا بكف، متسائلا:

فأن يتعلق الأمر بوحدتكم وشركتكم التامة مع الكرسي الرسولي، فهذا أمر مفروغ منه بنعمة الرب.
 وأن تتطلعوا الى الوحدة مع الكنائس الشقيقة لكل من كنائسكم، فالمسار هذا بذاته، أخذ منحى التداول المباشر على قدم وساق بين تلك الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية وبين الكرسي الرسولي؛ وفي هذا الصدد كان الكردينال روجيه ايتشيغاراي قد قال ما معناه: ما أن تتفق الكنائس الارثوذكسية مع الكرسي الرسولي على موقع البابا في الوحدة، فإن شقيقاتها الكنائس المتحدة بروما عابرة... وجاء الوصف ضمن عبارة
Se déraper
مما يصعب ترجمته بمجرد فعل العبور.

أما أن يكون التطلع الى وحدتكم فيما بينكم، فهذا بالفعل هو بيت القصيد، ولجملة ملاحظات:
عدد مبارك من بطاركتنا الاحبة يتجاوز عدد اصابع اليد، مع اننا، لم نحفظ  من اسمائهم الا ما هو أقل من النصف، وقلما نستطيع ان نضع الاسماء على وجوه عدد منهم. وخصوصا لما ترافق الاسماء قائمة من الاسماء الطقسية العريقة.
أما كمسيحيين في الشرق الاوسط، فنحن والحمد لله نتجاور ونتصاهر، نتعاشر ونتسامر. مع أن كنائسنا المتجاورة ايضا، كادت كل منها تواجه التحديات لوحدها، بين البقاء والزوال. وتكاد تحير كل منها لوحدها بشحة الكهنة، وقلة الدعوات الكهنوتية والرهباينة والعلمانية، مثلما تواجه الأعباء المادية في الصيانة والحماية كما في إدارة بيت مال المؤمنين.
أما في بلدان الانتشار، في المهجر، فيحاججني مؤسسو الخورنات الجديدة لتتجاور هي الاخرى مع الخورنات الكاثوليكية الشرق الاوسطية، والتي لا يفصل المؤمنين فيما بينها سوى شارع أو إشارة ضوئية، يحاججوني، بأن كلا من كنائسنا تحمل غناها الطقسي الليتورجي والتراثي وكنوز ميراثها الروحي.
في الحقيقة، أقرّ بأني لست أدرى، عن أي تميز يتكلمون، وعسى ألا يكون التميّز في الاعياد الوطنية والفولكلورية، فهذا تحققه المجتمعات المدنية والبلدان وتنظمه جمعياتها العلمانية في العالم.
أجل أتساءل عن أي تميّز يتكلمون، وقداديسنا جميعا، من بغداد إلى اقاصي الارض، إلى جانب ما يقام منها باللغة الطقسية، قداديسنا جميعا تستخدم اللغة العربية، وتترجم ترانيمنا الطقسية في مجمل كنائسنا المشرقية، الى اللغات العالمية المحلية.
وأتساءل والحال هذا على ما تتنافس الخورنات مع بعضها، وهي بمجملها الصلاة بالعربية أو اللغات المحلية.
إنها تتنافس على رؤوس مؤمنيها؛ ومؤمنوها حائرون مع انفسهم، وفيما بينهم، إلى اي كنيسة يذهبون.
 حائرون بين أن يذهبوا الى كنيسة قريبة، أم كنيسة ألفها أولادهم، ام كنيسة يجتذبهم كاهنها إليه بشتى الطرق، وفق مبدأ لا يوجد فرق بيننا كلنا من العائلة الكاثوليكية.

فإذا كانت الكثافة السكانية في بلدان الكرسي البطريركي، لم تزل تسمح بشيء من الاستقلالية وفرض الضوابط الادارية في منح الاسرار والتفسيح والبطلان، فإن الكثافة هذه باتت مهددة يوما بعد آخر، ومواجهة النقص في خدام الاسرار متزايدة خصوصا أمام تحديات وجودنا في ظروف بقيت بمرور الزمن استثنائية. فكيف الحال مع خورناتنا في المهجر سواء في المدن المركزية الكبرى أو المدن النائية؟ 

لا يرمي هذا المقال إلى يندب الحال، بل يحمل تمنيات باتت مؤجلة بحثا عن حلول جذرية، أمام الواقع هذا، الذي يكاد عائق الاختلاف فيه، يضاهي عائق الوحدة مع الكنائس غير الكاثوليكية. لقد تفرّق مسيحيونا في النواحي الطقسية والادارية خلوا من الحدّ الأدنى من التنسيق المركزي الراعوي لخدمة جميع مؤمنينا في كافة رعايانا، وذلك لذرائع ليس الآخر فيها الواعز المادي المالي، مما أدى إلى تشرذمهم إلى فئات مجهرية، تشرذم قد يكون السبب في تسرب الكثيرين من مؤمنينا الى الكنائس غير الكاثوليكية رسولية كانت أو انجيلية.
افكار كانت في ذهني، عندما قلت يوما في المطار لأسقف زائر من إحدى ابرشياتنا الكاثوليكية المشرقية: سيدنا اتفقوا فيما بينكم، بشأن التنسيق في الخدمات الكنسية والأسرارية، كرعاة ابرشيات، فنحن الكهنة متفقون اصلا.

لذلك فإن مثل هذه التطلعات، وككاهن في بلاد الانتشار، كنت قد سعيت الى عرضها في مقال سابق تحت عنوان: مع انضمام ابرشية سريانية الى الابرشيات المشرقية، ملف جزئي عن خارطة الابرشيات الكاثوليكية بكندا (في الرابط أدناه)

ومن المعروف أن بقاء خصوصية الكنيسة ذاتية الطقس والادارة، كان احدى تطمينات الكرسي الرسولي في محافظتها على اصالتها، لكن هذه الاصالة باتت، مع تواتر الزمن، شبه متحفية، ويمكن صونها بطرق ابتكارية ومعاصرة عدة.
لذلك لم يكن من فراغ ما بادر البطريرك الكردينال مار لويس روفائيل ساكو، عندما تمنى في أحد اللقاءات أن يصار الى انتخاب عميد للبطاركة الكاثوليك، وبتواضع اقترح غبطته واحدا منهم.

من ناحية أخرى، وللنظر في خبرات مماثلة إلى حد ما، يمكننا أن نقارن التباين الثقافي التراثي واللغوي في الخورنات العاملة ضمن الابرشيات الكاثوليكية (اللاتينية) عندئذ نجد أن هذه الابرشيات توفر مساحة مناسبة ومتكافئة من الخدمة، كما توفر الوئام بين الكهنة، والمناورة في الحاجة الادارية والخدمية:
ففي احدى الابرشيات الكاثوليكية ذات اللغة الانكليزية، توجد خورنات كاثوليكية منها المانية واسبانية واوكرانية وهنغارية وايطالية وبرتغالية، وفرنسية،  يلتم كهنتها مع بعضهم، وينسقون فيما بينهم في الخدمات حسب الحاجة، تحت اشراف مطران كاثوليكي واحد في المدينة، ولكل من هذه الكنائس تراثها، وعندما يغيب عنها كاهن، أو يرحل، يعوضها الاسقف بكاهن يعرف لغتهم او يتعلمها، فيما يدأبون على الاجابة والقراءات بلغاتهم الطقسية. ليستجد التساؤل الآتي:
 كيف يا ترى لا يمكن لاسقف كاثوليكي من الشرق أن ينسق في الخدمات الكهنوتية لرعاية شرقيين كاثوليك يتكلمون العربية ذاتها، في حين يصعب ايجاد كاهن طقسي لرعية ذات عدد ضئيل.

معالجة ما نعيشه من تشتيت للطاقات الخدمية الاسرارية قد تكون واحدة من هذه الامنيات المؤجلة، ويراود المرءَ العشمُ كل العشم، أن يصار الى حد أدنى من الحل بشأنها في اجتماع رعاتنا الأجلاء. فلو تحقق شيء، باتجاه توحيد الخدمات الاسقفية في المناطق النائية، ومنح الصلاحيات ثنائية الطقس للكهنة، لو حصل شيء منها، فمن المرجح انه سيتوفر المزيد من الكهنة لخدمة المؤمنين المشرقيين حسب الحاجة الفعلية لعددهم. ومع حلول في توأمة بهذا الاتجاه من المعتقد أنه سيتوفر عدد أكبر للاساقفة في أبرشيات جديدة منتشرة في بلدان المهجر. كل هذا في سبيل رؤية مسيحية مشرقية موحدة...
أمنيات من القلب موضوعة أمام الآنظار الأبوية لرعاتنا الأحبة

7 تشرين الأول 2018
رابط المقال المنشور سابقا في موقع عنكاوا دوت كوم بعنوان:
((مع انضمام ابرشية سريانية الى الابرشيات المشرقية، ملف جزئي عن خارطة الابرشيات الكاثوليكية بكندا))
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=807674.msg7463130#msg7463130

26
الاخ الفاضل الشماس قشو ابراهيم نيروا المحترم
متعلما على يديك، في المراسلة الالكترونية، يسرني أن ابعث لحضرتك رسالة الشكر الجوابية وباللغة الام، مع اطيب تمنياتي لك بكل خير ونعمة
ܩܐ ܡܩܠܤܘܬܐ ܐܟܘܢܐ ܒܪܘܚܐ ܚܒܝܒܐ ܩܫܘ ܐܒܪܗܡ
 ܚܘܒܝ ܘܐܝܩܪܝ ܩܐ ܡܩܠܤܘܬܘܟܘܢ ܀ ܘܐܦ ܐܝܬ ܗܐܘܬ ܒܤܝܡܐ ܪܒܐ ܀ ܪܒܝ ܡܝܘܩܪܐ ܐܝܖܝܥܠܝ ܡܢ ܪܐܒܝ ܐܖܝ ܒܝܬ ܒܢܝܐܡܝܢ̤ ܗܘܐ ܒܣܝܡܐ، ܖܝܘܬ ܗܘܐ ܓܘ ܢܘܗܕܪܐ ܀ ܗܕܟܐ ܗܡ ܐܢܐ ܪܒܝ ܡܫܡܫܢܐ ܩܫܘ ܐܙܝܙܐ ܒܛܠܒܐ ܝܘܢ ܡܢ ܐܠܗܐ ܘܡܢ ܡܪܢ ܝܫܘܥ ܡܫܝܚܐ ܚܘܠܡܢܐ ܘܡܢܬܝܬܐ ܘܚܝܐ ܝܪܝܟܐ ܩܐ ܡܩܠܤܘܬܘܟܘܢ ܐܡܝܢ
ܩܫ ܢܘܐܝܠ ܦܪܡܢ ܖܐܣܢܟ
ودمت بكل خير وسلام
أ. نويل فرمان السناطي

27
الاستاذ الفاضل عبد الاحد قلو، بعد التحية والتقدير،
بقيت مصصما على الاجابة برغم مرور الوقت بسبب ظروف السفر، لأشكر اضمامتك الثمينة في تعليقك، بشأن لاهوت التحرير، الذي كنت في المقال قد نوهت عنه مرورا، وتبقى اسماء لامعة فيه، في هذا المضمار، مثل اللاهوتي غوستافو غوتييريز الذي اعلن فيما بعد انتماءه الى الاباء الدومنيكان في فرنسا في كنف الكنيسة الكاثوليكية، وكان في عمره الناضج وخبرته اللاهوتية، بسيطا متواضعا، امضى مدة الابتداء كأي راهب مبتدئ، بشهادة زميله في الابتداء الاب مهند الدومنيكي.
ولكل ما رأيت عندك من معلومات، أراك من باب أولى من يمكنه ان يكتب المزيد عن لاهوت التحرير وبما يحتاج من تأوين.
دمت بسلام مع تمنياتي الطيبة لك بكل الموفقية.

28
مع اعلان روميرو قديسا
منعطف واضح للموقف الكنسي المقدام من الشأن العام

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
بغداد

منذ تطويب المطران اوسكار روميرو، قبيل سنوات، وحتى اعلانه قديسا في 14 تشرين الأول أكتوبر الجاري، بات هذا الوجه الكنسي المعاصر، موضع التحليلات والالهامات عن موقف الكنيسة في الشأن العام، بما في ذلك كفاح رئيس الكنيسة من أجل قضية العدالة الاجتماعية في ظل أنظمة القهر والاستبداد

مؤشرات المسار الشائك نحو التطويب وإعلان القداسة

على أن ملف تطويب اوسكار روميرو حتى إعلان قداسته، مر بمسار شائك نعرضه في عدد من المؤشرات:
- لم يكن ثمة عوائق مالية بشأن أعباء وتكاليف قضية التطويب، كما كان الشأن مع تطويب شارل دي فوكو، والرهبانية الفقيرة المقتفية آثاره، بحيث استغرق التطويب، حتى عام 2006 مع الذكرى التسعين لوفاته مغتالا بأيدي عصابات جزائرية في 1916. فالاسقف روميرو شخصية عامة حظيت بالتفاف ودعم بنحو منقطع النظير. ما هو الجانب الشائك إذن؟

ذريعة التصفية السياسية

- في البدء طرح بعض المتزمتين، موضوع مدى صحة الإقرار بأن موت روميرو كان من أجل الإيمان، مع ان الرجل استهدف في ذبيحة قداس لم يستأنف حتى النهاية. فتساءلوا: من يقول انه استشهد من اجل ايمانه، بما أن الذين قتلوه هم كاثوليك معمذين، في مقارنة فاجعة مع مراجع دينية عليا ما زالت تتخاذل في تكفير تنظيم الدولة الاسلامية في كل ما اقترفه تجاه اتباع الديانات الأخرى. فكان المتحفظون على الملف، في ضوء هذه الملاحظة يتذرّعون بحجة ان موته كان قضية تصفية سياسية.

التباس الخلط المشبوه مع لاهوت التحرير

- كان ملف تطويب روميرو، أمام تحدّ آخر مفاده، أنه بالرغم من كونه كاثوليكيا محنكا وفي خط الكنيسة الجامعة، وأحد اساقفتها المفوّهين، فإن مواقفه المجاهرة بالمطالبة المسيحية الانجيلية بالعدل والسلام لصالح المظلومين والمقهورين والجياع، خلطت بشأنه الأوراق، مع خط مسيحي تعدّى الخطوط الحمراء في الولاء لكنيسة روما، هو خط لاهوت التحرير، بما حمله من رموز مثيرة للجدل، شأن القس (سابقا) ليوناردو بوف الذي ترك الكهنوت وتزوج سكرتيرته.

الحرج من بيروقراطية السفير البابوي آنذاك

- يضاف الى المسار الشائك، عنصر آخر، أدّى الى أن تطويبه من قبل الكرسي الرسولي، كان أخيرا نوعا من الانعتاق من حرج واضح بشأن بيروقراطية فاتيكانية مارسها ضد المطران روميرو، السفير البابوي (القاصد الرسولي) في السلفادور آنذاك. حكاية القاصد الرسولي، الذي كان على ما يبدو على قدر حاله، يحسب كتحصيل حاصل، ان بإمكانه أن يعطي التعليمات الى روميرو، كمن يعطيها لتلميذ، وذلك بما قام من تحفّظ على الحركات الجماهيرية للمطران وخطاباته اللاهبة. تلك الخطابات التي كانت تنتشر في الجماهيرعبر الاثير، انتشار النار في الهشيم. ولسان حال روميرو نحو القاصد الرسولي، كالجبل الأشم يخاطب التل الرملي: الناس تحترق، والشعب يجوع، ومؤمنو الكنيسة يقهرون عن بكرة أبيهم، وانت توصيني بالصمت . فكان حظ السفير البابوي من مواقف روميرو، أن الأخير مضى بشجاعة نحو القيم التي يمليها عليه ضميره..
وكان أيضا من طينة السفير البابوي ذاك، عدد من العلمانيين سواء المتعاطفين مع النظام المستبد، لمصالح متباينة، او من كانت تراودهم في الشأن السياسي أحلام وردية، فكانوا يستفزون روميرو بالقول: خليك في شأنك الكنسي الروحي، ودع لنا السياسة. وهكذا جاء التطويب واعلان القداسة، بأن ذلك نتج بوضوع عن فصل الخيط الأبيض عن الأسود، إذ صار من خلال اعلان القداسة أن ثمة التمييز المبدئي، بين أن يمارس الاسقف نشاط التنظيم السياسي، وبين أن يطالب بالعدالة والسلام والحقوق المتساوية، وهو على مسافة واحدة من ممتهني السياسة وخلط الشأن الديني بالتنظيم الحزبي والطائفي.

هذا ما أمكن استخلاصه من عدد من القراءات بشأن الاسقف روميرو منذ تطويبه، ابرزها جريدة رائدة في الاعلام المسيحي المسؤول: وسترن كاثوليك ريبورتر، والتي تجاري في خطها الاعلامي المباشر الشجاع، مطبوعات دورية مثل (لا كروا) و(لافي) الفرنسيتين ومجلة (الفكر المسيحي) العراقية.
على أن المجلة الكاثوليكية الكندية لتلفزيون سالت اند لايت – ملح ونور، برغم دبلوماسيتها وكلامها المزوّق عن مخاض التطويب للاسقف روميرو، إلا أنها في مقال بقلم كيفن كلارك، لم تعوزها الشجاعة في التأكيد بأن كنائس امريكا اللاتينية ومنها كنيسة السلفادور، كانت بحجّة عدم التدخل في السياسة تسعى، لمصالح ضيقة، إلى تحالف ضمني غير معلن مع السلطات السياسية، بالرغم من أن هذه السلطات كانت تمارس أحيانا أبشع أنواع القهر والاستبداد.

العودة الحاسمة الى الموقف الكنسي المبدئي لصالح المقهورين

ولكن الحق استعاد مكانته التي لا يعلى عليها، مع مواقف روميرو المنسجمة مع مقررات سينودس اساقفة امريكا اللاتينية بمدينة ميدلين (في كولومبيا) في أيلول سبتمبر 1968، الذي أعلن التأكيد على اصطفاف مصالح الكنيسة إلى جانب الخيار الأوحد لصالح الفقراء والمقهورين.
وهكذا فإن القديس أوسكار روميرو إذ قلب أولويات الكنيسة ضد انتظارات الحكام المشبوهة، اصبح بذلك واحدًا من أوائل الأحبار اللاتينو- امريكيين الساعين إلى ترجمة الخطابات الطنانة إلى ارض الواقع من خلال حملة اجتماعية ملموسة، رامية الى التغيير الجذري والى العودة السلمية إلى جادة العدل والسلام. هذا كله حققه مار روميرو بثمن حياته، وعلى مذبح الاوخارستيا.

فيستجد القول ختاما:
لعله تراود البعضَ أحلامٌ مريضة في تجميد دور الكنيسة تجاه الشأن العام والاصطفاف مع المقهورين، بغية أن يخلو لهذا البعض اللعب في السياسة كل بحسب اجندته وأهوائه في الأضواء. لكن القديس الشهيد أوسكار روميرو، وبعيدا عن تأسيس حزب وامتهان مشروع سياسي باسم الدين والطائفية، بيّن في حياته، وقوفه  الحبري المبدئي البطولي تجاه الشأن العام، بصفته رأس كنيسة في مدينة سان سلفادور. وبذلك صار أنموذجًا متفرّدًا، في توصيف جديد لشهادة الدم من أجل الإيمان. وهكذا نستطيع القول بشأنه، ولئن كره الكارهون، بأن مار روميرو لم ينل هالة القداسة والشهادة بسبب نوع الميتة التي ماتها فحسب، بل أيضا وبالأحرى، بنوعية الحياة المكافحة التي عاشها.

18 تشرين اول 2018
 
 
 



29
الاستاذ ظافر شنو المحترم
استشهادك بالآية الانجيلية كان خير اختصار لما حدث وحدث. وفي ضوئها يعيش المؤمن ثقته بما ينشده من شفافية في حياته اليومية. وهذه الكلمة المحيية للرب، أحالتني الى قصاصة عمود في جريدة وسترن كاثوليك ريبوتر الصادرة في البرتا، احتفظ بها منذ 2009، وهي للكاتب اللاهوتي والعالم النفسي الكندي، الأب رون رولهايزر، الذي التقيت به فيما بعد بكالكري، بعد محاضرة القاها على الكهنة. ارسل صورة نصها الانكليزي بعد قليل اذ لم اجد وسيلة ارسال الصور، ضمن الرد. إلى مع متن المقال ! وهي تأمل في القول المقدس: فما من خفي إلا سيظهر (لوقا 8: 17)
مع تمنياتي الطيبة لحضرتك بكل خير.
أ. نويل

ملاحظة: للاسف ما تمكنت من تحويل ملف صور الملق، لحجمه وللامكانات المحدودة، يمكنني ارسلها بالايميل
nfhermiz@yahoo.com
اذا استطعت حضرت او اي آخر المساعدة في تنزيلها. تحياتي

30
الاستاذ فارس ساكو
شكرا لمداخلتك، وأنا حقا مع الجزم الذي تفضلت به، بشأن التعامل مع الكنيسة الكاثوليكية، فممارسة حرية التعبير والمطالبة بما يمليه الحق القانوني، هو من الامور التي تكتسب في كل حالة وليست كتحصيل حاصل.
بصدد الخروقات، نعم و برغم كل التبريرات الموثقة او الاختراقات، فهذا لا يعفي عن الاجراءات الحاسمة، والملاحقة القانونية وشكرا للنفحة الرسولية الروحية التي اضفتها في هذه الفقرة.
بوركت بكل نعمة وسلام
ا. نويل

31
الاخ عبد الأحد قلو
شكر لمرورك ولاضمامتك بشأن المقال.
كما اعبر عن تقديري لطروحاتك بشأن الوحدة، ومسيرة الكنائس بهذا الشأن. ممتنا لعرض المؤشرات التاريخية عن مسار الكنيسة الكلدانية في هذا الشأن.
مع تحياتي الطيبة لك.
أ. نويل

32
حضرة الاخ ادي بيت بنيامي الجزيل الاحترام
ܫܠܡܐ
أشكرك رابي ميوقرا أدي، على مرورك الطيب والمحب. واني ممتن على المعلومات التي أوردتها كالعارف والقريب، عن أخبار الاخ قشو ابراهيم، وأتمنى له طيب الاقامة.
كما أسعدني معرفة كاتب السيرة، سيادة مار عمانوئيل، وأعجبتي سلاسة اللغة. وكانت الصفحة التي نشرتها، انموذجا لما وجدته  في البحث على صفحات رابي قشو.
من ناحية أخرى أقيم اهتمامك بايراد صفحة كاملة عن هذه السيرة، مما لم يتح لي تنزيله ضمن الحجم المتاح في صورة النص.
تحياتي الاخوية الخالصة لحضرتك.
أ. نويل

33
حضرة الاخ متى اسو المحترم
شكرا أخي الاستاذ متي، على مداخلتك المحترمة والرصينة. أفهم الواقع الذي تتناوله حضرتك، خصوصا عندما يكون الكاتب المعني مع شريحة واسعة من القراء ممن ليست العربية لغتهم الأم. من ناحية أخرى لم أجد أن هذه اللغة المعاصرة (لشانا خاثا) بطباعتها وصياغتها تصل الى الترجمة الآلية، من خلال كوكل، كما في العبرية ولغات أخرى، وهذا ربما احد أسباب عدم انتشارها والمصير المحدق بها. ومن ناحية الكتابة بهذه اللغة، فقد لاحظت ان السيد قشو، له اسهامات في باب خاص بالنتاجات باللشانا خاثا. ولكن اعتقد ان الوسائل الفنية في المنبر، ما زالت تفتقد الى الأدوات اللازمة لما اقترحته بأن يكتب المقالات باللغة الأم. على كل حال، كان مقالي المتواضع، كما أود ان اصفه، مجرد بالون اختبار، لمست نتائجه وقد يلمس ذلك  الكثيرون من محبي اللغات الاصلية، ويحز فيهم مقاومتها المستميتة للبقاء.
مع تحياتي واحترامي
أ. نويل

34
عزيزي الأخ كوركيس اوراها منصور باركك الرب
ܫܠܡܐ
أشكرك رابي ميوقرا كيوركيس، على مداخلتك المرهفة بشأن هذا الموضوع، وكان وصفك للاخ قشو دقيقا وجميلا، كما رأيته نابعا من المحبة والمعرفة الشخصية الميدانية في نفس مدينة الانتشار.
واؤيد رأيك بأن يتم البدء بتحية بسيطة، ولكن الاستجابة كما نلاحظها، تكاد تكون معدومة، لأسباب عديدة.
ومع ذلك نأمل خيرا، ودمت بكل نعمة وسلام.
أ. نويل

35
محبة اللغة غير الشهادة الحية لها، الأديب قشو ابراهيم نيروا إنموذجا 

بدل أن تقول انك تحب أمرا، أحببه
(الأب الراحل د. يوسف حبي)

الأب نويل فرمان السناطي
_________________

قد يكتب كل منا باتجاهات متباينة، لكني أحترم قناعاته ما دامت منبثقة من عمق قناعته، ويعبر عنها بنحو حضاري وباحترام. على أن ما يجمعني به، هو امنية تتحقق فيه، ينفذها ويعيشها، وهي عن اللغة المشتركة بيننا في حضارتنا النهرينية.
لم أجد غيره في مثابرته المتواصلة، في مجال الكتابة على صفحات موقع عنكاوا كوم، ولا على مواقع أخرى. ولا بدّ أنه يوجد غيره في مواقع أخرى، ومجالات أخرى، وبأسلوبهم الخاص ممن لم يحالفني الحظ في معرفتهم، إلا انه بارز للناظر من خلال حضوره في موقع منتشر كموقع عنكاوا، والحق يقال. وهو يعوّض عما نفتقده في عيش وممارسة لغة بلاد ما بين النهرين. ونأمل أن يكون أبا لأجيال متواصلة في هذا المنوال.
لم التق به شخصيا، ولا اعرفه إلا من خلال تحايا تبادلناها من خلال قريب لي، وصديق مشترك، خبير الطباعة والنشر الاعلامي منصور قرياقوس السناطي.
إنه الكاتب قشو ابراهيم نيروا. من الواضح، أنه يعرف جيدا لغة بني طي، ويقرأها ويتفاعل مع ما يطرح بها، بدليل تعليقاته على كل ما يلفت انتباهه ويوحي له بالتعليق.

على أن ما يتفرد به الاستاذ نيروا، استخدامه للأدوات المتاحة في الطباعة على الموقع الالكتروني، وتملكه ناصية اللغة الاعلامية المحكية للغة شعبنا- لشانا خاثا- وهو يستخدمها وبما يبين لنا انها لم تزل لحد الآن لغة عاملة، تجمع تحت كنفها كل من يلهجون بها في البيت والمطبخ والسفرات ومن تصدح حناجرهم بها. مؤكدا بذلك أنها لم تزل لغة معاصرة ولغة حية. ولكن لسان حاله ايضا  ينذر في الوقت عينه، أن هذه اللغة، مهما استخدمناها في الأغاني، أو في البيت، ستؤول الى الاختفاء.

وعلى ذكر المطبخ، من لي برابي قشو، بأن يحفز مثاله، أخواتنا المتخصصات في المطبخ، ان يخرجوا ببرنامج تلفزيوني أو باليوتوب عن الطبخ، يعممن في ذلك البرنامج لغة شعبنا، بنحو متوازن مشترك في المفردات قدر الامكان، ولعل ذلك موجود ولم أحظ به لسبب أو آخر.
وعلى ذكر اللغة المحكية المشتركة قدر الامكان لشعبنا، اطلعت على بعض الدراسات تفيد بأن لغة جيراننا ومواطنينا، اللغة العربية الفصحى كادت أن تكون لغة إلى التقهقر، على أساس قلة الذين يلمون فيها، وبسبب اقتصارها على الكتب الدينية للاخوة المسلمين، فلا يفسرها سوى المتخصصون. فيما اصبحت شعوب البلدان العربية، تتكلم لغات متباينة، بين مصر ولبنان وسوريا والعراق، وثمة مسافات شاسعة في الفهم بينها وبين عربية شمالي افريقيا، من المغرب والجزائر وتونس وليبيا (زنقة زنقة)، بحيث أصبح معدل متزايد من ابناء الدول العربية، يجهلون لغتهم الفصحى، باستثناء مفردات الصلاة، ويقدمون الاخبار بها اضاف الى التعليق الرياضي والشعر الغنائي بحسب كل بلد.

وعليه، يقدم الملفان قشو ابراهيم نيروا، لغة قريبة من اللغة الفصحى، سواء الطقسية او الكتابية، مما يسهل على القارئ، أن يرتبط باللغة الأدبية والكتابية. وعلى ذكر اللغة الكتابية، هناك لغويون آخرون، يهتمون بتقديم نسخة للغة المحكية عن الطقوس الكنسية مثل الشماس خيري داويذ تومكا. وهناك جهود جبارة يبذلها الشماس سمير ميخا زوري، وتسانده زوجته بمثابة ذراعه اليمنى، لانجاز ترجمة علمية للأسفار المقدسة لـ... لغة شعبنا، ومنها طاب لي أن استوحي الترتيل المسجل لنصوص الأناجيل.

هناك ايضا الدكتور بشار حنا بطرس بيت خيزو الذي قبل استقراره في استراليا، كان قد انجز في ادمنتون بكندا نسخة جديدة لقاموس اوجين منا، وذلك بالابجدية المتسلسلة للمفردات كما هي وليس من مشتقاتها. كما كان قد أدار محفلا فيسبوكيا واسع النطاق لتعليم لغتنا الأم.
واذ يتناول هذا المقال الدور الريادي الذي يقوم بها رابي قشو، في مجال كتابة المقالات والتعليقات، كنت أود لو ينضم إليه عدد آخر من كتاب المنتديات، وأن تتحول حلبة نقاشاتهم بلغة شعبنا ايضا، ومع دأبنا على قراءتهم أكثر فأكثر، لعلي ولعل غيري سيكونوا أكثر آهلية للتعامل في التعليقات بهذه اللغة، التي لهج بمفرداتها سيدنا يسوع المسيح. وقد ذكرني مثاله العملي، بكلمة لمعلمنا الأب الراحل د. يوسف حبي إذ قال: بدل أن تقول انك تحبب أمرا، أحببه.

هذا المقال، بقي ينتظر ان اظهره للعلن، وفي كل مرة اقرأ للأخ قشو، بقيت اقول لا بد من الكتابة عن هذه الظاهرة، فاللهم أني بلغت. وإذ يسرني أن أورد صفحة من مختاراته، وهي سيرة القديس زيعا، أشد على ايدى هذا الرائد الذي آمل أن أكون يوما ضمن الكثيرين ممن يتوفر لهم ويتهيأ لهم أن يلتحقوا بتجربته النيرة.
 




36
وحدة الكنائس مع الكرسي الرسولي غنى وقوة وليس افتقارا وانتقاصا

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
_________________________
 
من دواعي الارتياح، ما قرأناه عن اعلام الموقع البطريركي، من كلمة تطمين بشأن الموقف مما يكتب، والمضي في ما هو بنّاء  ويسعى للتقويم، ومبعث رجاء، في مرحلة صعبة تضاهي مراحل حرجة مختلفة عاشتها الكنيسة عبر التاريخ المسيحي.
وفي هذا المجال، استجدت لي مراسلة جانبية مع أحد الآباء البيض ستيفن جولن Stephane Joulain متخصص في التحليل النفسي، ومؤلف كتاب عن مكافحة الاعتداءات، أصدرته مؤخرا دار ديكلي براور الفرنسية. من تلك المراسلة استخلصنا من جانبينا "أن تطور المعلوماتية، جعل حشودًا من العدوانيين يبثـّون سمومهم، أمام كل شاردة وواردة، عن الكنيسة أو حتى عن المجتمع عموما، مع اضافات تسقيطية، يهدفون منها التأثير على مختلف الخصوم، بحيث يصيبون فيهم اقوى قدر من الضرر، لحين انجلاء الأمور.
والحال، وفي رؤية ذات نطاق محدود في مجتمعاتنا، انتفخت في هذه الأيام أوداج عدد من غير الكاثوليك، او المحسوبين على الكاثوليك، سواء كانوا مسيحيين مسخـّرين لسياسات قومية وأجندات محددة، أو كتابًا شبه مستقلين قد يطلق على واحدهم "ربيب الانترنيت- نائب في جمهورية الانترنيت!" ويكتب لنزعات وأغراض مختلفة. فتراهم  يترصدون كل حركة في الكنيسة الكاثوليكية  متشفـّين، وضمنها الكنيسة الكلدانية التي ترتقي استعادتها الشركة التامة مع كرسي روما إلى قرون، بعد انقطاع دام قرونا عديدة.
 
لغة الأرقام
_________
وفيما يتوهم البعض ان الكنائس المرتبطة مع روما هي حفنة من كنائس الشرق الأوسط، ممن جاء المرسلون لدمجها مع روما لظروف محرجة وغامضة، فإن الكنائس ذات الشركة مع كنيسة روما الكاثوليكية (اللاتين) يصل عددها الى 23. هذه الكنائس تتمتع بحقها القانوني الخاص ولا يوجد عليها فرض. وتؤكد روما على هذا الحق وعلى أصالة طقوسها وتأوينها وخصوصيتها الثقافية والتراثية… من هذه الكنائس على سبيل المثال لا الحصر:
المطرابوليطية الاثيوبية- اديس أبابا، المطرابوليطية الاريترية- اسمره، اليونانية البيزنطية- اثينا، الالبانية\الايطالية البيزنطية في صقلية، البيزنطية البيلوروسية، اليونانية الروسية، ومثلها البلغارية في صوفيا، السلوفاكية، الكرواتية\ الصربية، الهنغارية، الرومانية، والمقدونية، عدا الاخرى المعروفة من شرقنا الأوسط والهند. 
 
ديمغرافيات
___________
وماذا عن نظرة إحصائية لجوانب ديموغرافية؟ في هذا المجال، نرى أن الكنيسة الكاثوليكية يشكل أبناؤها نسبة 17 % من سكان الأرض. كما نلحظ أنها متفردة عن سائر حواضر الأديان بإقامة علاقات دبلوماسية مع 183 مع دولة، مقارنة بعدد 174 دولة في 2005 في ختام عهد البابا القديس يوحنا بولس الثاني، و 48 دولة في نهاية العهد المتتابع سريعا للبابوين يوحنا بولس الأول والطوباوي بولس السادس، وقياسا بحوالي 20 ممثلية في 1902. وبنحو يسهل تفسيره عموما، لا يقيم الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية، مع 13 دولة فقط منها: افغانستان، السعودية، الصين، عمان، الصومال، فيتنام، كوريا الشمالية، والبقية من هذا العدد 13 هي بلدان من قبيل جزر القمر، المالديف، وأسماء مغمورة اوفر اسماءها على صبر القارئ.
ولعل أسباب تعدد التسميات، لهذه الكنائس الكاثوليكية الشرقية إزاء شقيقاتها الأرثوذكسية، هو استقلالية الكنائس الارثوذكسية عن بعضها خلوا من المركزية ، أي من مجمع كنائسي أعلى أو تنسيق هيراركي-تراتبي موحد. ولعل المشترك فيها لا يزيد عن المشترك بين الكلدان والآشوريين من كنيسة المشرق، أو عن السريان الكاثوليك والأرثوذس من كنيسة انطاكيا. إضافة إلى ذلك فإن تراكم الخصوصية الليتورجية والزمكانية بين الكنائس الشقيقة، جعل الجانب الكاثوليكي منها يستجيب لرغبة المسيح في الوحدة مع الاحتفاظ بما باتت تحمله كل كنيسة من تلك الخصوصيات المتباينة.
 
أضواء على الوحدة مع الكرسي الرسولي
________________________________
وإلى جانب هذا المسار الطبيعي والأساسي نحو الوحدة المسيحية، فإن هذه الكنائس حظيت بتنشئة  راقية للاكليروس، بما يستحق وصفه من الصديق والغريب، بالثقافة العالية لمهنية التعليم فيها وبنحو حيادي موضوعي، بدليل أن طبيعة التنشئة هذه جعلت الكنائس غير الكاثوليكية ترسل طلابها إلى روما للدراسة، كما كانت ترسلها إلى كليتنا الحبرية المحلية ببغداد وفي أربيل حاليا.
وتجدر الملاحظة، إن الكنائس الأرثوذكسية الرسولية التي كافحت طويلا من أجل أصالتها، قد تستحيل، مع الزمن، في ظل العولمة الى كنائس مجهرية، متجزئة على ذاتها بأكثر من تسمية. وقد بيـّن الزمن، كيف بات من الصعب عليها، حتى اعادة اللحمة بين جزئيها  نذكر على سبيل المثال الكنيسة الشرقية القديمة وكنيسة المشرق الاشورية، حتى مع زوال الكثير من مسببات وعناصر التجزئة.
وإذ يعدّ الكثيرون ان علاقة الكنائس المتحدة مع الكرسي الرسولي بروما هي علاقة مسيحية متينة مزدهرة ومنتعشة لا تضاهيها علاقة، فإن وحدة الكلدان، وهذا ما يخص حالنا مع الكرسي الرسولي، جعلت هذه الكنيسة قوية بسبب هذا الارتباط عينه؛ هذه الوحدة غدت عنصرا يصون مسيرتها الانسانية والعقائدية في خضم شتى الصعوبات والخلافات. فبدل مخاطر الانقسام الداخلي، تصبح روما بالتالي صمام الأمان لها وليس العكس. ولعل هذا، في زمن الانترينت، حدّ ضدّها أقلام من هبّ ودبّ.
 
فقر أم إثراء؟ ضعف أم قوة؟
_______________________
من جهة المشاركة الفاعلة والإثراء المتبادل بين مختلف الكنائس والكرسي الرسولي، ليس ثمة احصائية عن الكنائس التي تحمل رئاستها الطقسية او البطريركية، صفة الكردينالية ضمن سن المشاركة الفاعلة، فإن اختيار كردينال في الكنيسة الكلدانية من شأنه أن يسهم بنحو مباشر في مسيرة الكنيسة الكاثوليكية، وذلك بالإسهام في اقتراح حلول خبرتها على ضوء خبرتها في المجال اللاهوت الأدبي، وفي اختيارات الحياة الكهنوتية المكرسة، وتكريس الاختيار بين قيام كهنة متزوجين أو كهنة غير متزوجين، ولا بدّ وأن غدا لناظره قريب. 
ونأتي إلى ما يخص انفجار "دمّلة" الاعتداءات بشكل مدان تمامًا، وبما أدّى إلى تشخيص الذين أجرموا في هذا الصدد، أو الذين انجرّوا الى كتل، ذكر المحللون أنها اخترقت الكنيسة بنحو مخطط ومنظم. هذا ما جاء في كلمة تحليلية عن هذه المأساة أحالها اليّ الناشط  براين مورفي Brian Murphy رئيس مؤسسة God's Plan for Life تلك الكلمة التي القاها الأب روبرت ألتير Robert Altier من كنيسة سان رافائيل في بلدة كريستال بولاية مينسوتا الامريكية. في تلك الكلمة أشار أبونا روبرت، الى محاولات التأثير على الكنيسة باختراقها من الداخل بعد أن فشل ذلك من الخارج. فقام بالتنويه في هذا الشأن بمحورين:
المحور الأول شبكة مروّجي المثليّة الجنسية المؤسسة في 1924 التي كانت عنوان كتاب انريكي روايدا 1982ُ.
المحور الثاني أشار فيه رابي روبرت الى التغلغل الشيوعي في الكنيسة منذ بدايات القرن 20، كما جاء في كتاب السيدة بيلا دوود، عن خبرة اهتدائها من الشيوعية إلى الإيمان المسيحي في 1953 وأدلت بشهادتها أمام الكونغرس، بشأن مخطط استغلال الأكثر وسامة والأكثر كفاءة لترغيبهم على عيش الحياة المزدوجة، وتأهيلهم الى أعلى المرتبات الكنسية، فانفضح ما انفضح، تحت عبارة كشف فيها استاذ للاهوت من هذه الطينة إذ قال: مارتن لوثر، قام بالخيار الصحيح، ولكنه نفذه بنحو خاطئ: بخروجه من الكنيسة الكاثوليكية...
 
أصوات نبوية
___________
وعودة الى الضجة العاصفة ضد الكنيسة، فإن أكثر من صوت نبوي بقي ينادي بكنيستنا، كنيسة رجاء، عند الإشارة إلى خروج أعداد من الاكليروس، عن جادة الالتزام الايماني والكهنوتي. هذا العدد مهما كان مهولا ومأساويا لمرتكبي الاعتداءات، فإنهم يبقون يشكلون نسبة يهوذا الاسخريوطي على مجموع الاثني عشر تلميذا، من مجموع يصل إلى نصف مليون كاهن كاثوليكي في العالم، وأكثر من خمسة آلاف أسقف كاثوليكي في العالم، ضمن مليار و301 ألف مسيحي في العالم. من هذه الأصوات اخترت اثنين:
موقف الراهبة الفرنسية فيرونيك مارغون في افتتاحيتها  L'édito de Sr. Véronique Margon ليوم 4 أيلول الجاري، الموسومة بعنوان: لست كاثوليكية من أجل الكهنة…  حتى الأفضل فيهم، كما لست كاثوليكية من أجل الأساقفة حتى الأكثر أصالة منهم، بل أنا كذلك من أجل يسوع المسيح... ولأني اؤمن بكلام الله. وانا اؤمن ان الكنيسة الكاثوليكية سوف تخرج من بعض الازمات اكثر نقاوة  وقداسة وقوة.
فأثنى على كلامها الفرنسيسكاني اتيين ميولر Etienne Muller في الصفحة التي تجمعني معه على الفيسبوك، إذ علـّق على قول ماسير فيرونيك مارغون بالقول: بل أنا مسيحيي أيضا لأن رجالا ونساءًا من الكنيسة وفروا لي التنشئة على الايمان المسيحي حتى وان كانوا غير مثاليين بسبب محدوديتهم البشرية. وأنا كاثوليكي لأني اؤمن بكنيسة واحدة، مقدسة جامعة ورسولية، صفات لن تفقدها بسبب تجاوزات او حتى جرائم ارتكبها بعض منتسبيها...
هل تكون فرصة للنخوة من قبل الكنائس غير الكاثوليكية؟
_________________________________________________
وبعد، إذا وضعنا هذه الجوانب وغيرها في نظر الاعتبار، عندئذ قد نكون مدعوّين إلى معاينة كل جموع الملتفــّين بالوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية من مختلف الكنائس ذات الحق القانوني الخاص؛ وبالتالي قد تستجد للكثيرين فرصة مؤاتية، وهي: اذا التفتنا الى الاختراقات التي شاءت العناية الربانية ان يماط عنها اللثام، قد تكون هذه فرصة للالتفاف اكثر من اي وقت مضى حوالي الكنيسة الكاثوليكية! لماذا؟
الجواب إن هذه فرصة لمزيد من الدعوة الى الاستجابة لنداء الرب، ليكون المسيحيون واحدًا، بدل أن يكونوا جماعات معزولة عن بعضها أمام هذا السيل الهادر من التحدّيات. والوحدة لعلها تكون أكثر طبيعية عندما ترتبط بمركز الاستقطاب، بدل ان تتبعثر ثنائية أو ثلاثية خارج المركز وفي أطرافه.
 وبالطبع للكنائس التي لم تصل الى هذه القناعة المسكونية، أن تختار سواء أن تكون محمولة على أكف المساندة والصون والقوة، بالشركة مع الكرسي الرسولي، أو تختار أن تمضي في مسيرتها راجلة، مع الارتياح الى ما يجمعها من اعتراف متبادل بالعماد ما بين الكاثوليك والأرثوذكس، باستثناء بعض الكنائس الأرثوذكسية. وتأسيسا على هذا التقارب الطيب، وعلى وفق مبدأ (ماكو فرق) من باب الارتياح ان نجد بأن الكنائس الكاثوليكية، تتيح استخدام مبانيها للأرثوذكسية الشقيقة. ولم يجد أحد ضيرا، ان من كتلة الكاثوليك، سواء من الكلدان أو السريان، من الموارنة أو الملكيين، عندما  يبرز بينهم من يؤسس للأشقاء غير الكاثوليك، رعية لهم هنا أو هناك، وعندما يظهر آخر يترأس مجلس ملتها وخورنتها. هذا إلى جانب المساعي الخيرة للكنائس الكاثوليكية، لاحتضان المهجرين والمساعدة على استقرارهم الانساني والكنسي. وضمن المسيرة التعاونية المشتركة، نرى، كما أسلفنا، الاستعداد الطيب في روما لتنشئة اكليروس الكنائس الارثوذكسية الشقيقة.
ولكن برغم كل هذا يبقى أبناء هذه الكنائس على تواصل عزلة كنائسهم، مهددين بالانصهار في الكتل الكبرى الغالبة في عالم اليوم، عاجلا ام آجلا، والطامة الكبرى، أن تكون تلك الكتل كتلا قومية او الحادية أو غنوصية.
من كل ما سبق ذكره، لعلنا نستخلص أن سر التواصل في الوحدة مع الكنيسة، يكمن في الحاجة الماسة للتكاتف المسيحي إزاء مختلف المواجهات. هذه ما تفسره، بضع مؤشرات، نسوقها على سبيل المثال لا الحصر:
الاسقف اللوثري السابق Joseph Jacobson الذي انضم الى كنيسة ادمنتون للكاثوليك، وفسّر لي ذلك بالقول: إن ترك العنان الى اختيارات الجماعة بدون وجود سلطة تراتبية عليا، سلطة تميز الغث من السمين مما يتم التصويت عليه، في مجال مختلف القيم، أمام كل هذا وجدت أنه لا يمكن الاستغناء عن الكرسي الرسولي…
خورنة مار يوحنا الانجيلي الانكليكانية في كالكري St. John The Evangelical Church، التي اعتنقت الايمان الكاثوليكي مع قسيسين اثنين فيها و75 في المائة من مؤمنيها، مع الحفاظ على تقاليدها وأصالتها، وانضموا جميعا لمدة سنة كاملة إلى دورة تنشئة تحت ارشاد الأب مايكل استوريه.
ما هو يا ترى لسان الحال عند الذين اختاروا الوحدة بدل العزلة، وعند العشرات المنضمين الى الأبرشيات الكاثوليكية في مطلع كل صوم، لعل لسان حالهم يردد من كل صوب، بشأن مسار الاتحاد باتجاه الكرسي الرسولي، وبرغم كل ما حدث: ما أحلى الرجوع إليه.


37
البروفسور الراحل افرام يوسف
مع الفصل الأخير من (عطور الصبا في سناط) عائلة الفقيد تشكر المعزين
 
المقال الثالث 3-3

الأب نويل فرمان السناطي
________________
 

عائلة الفقيد تشكر المعزّين
______________

في مطلع هذا المقال أود أن أشير إلى أنه في تواصل مع أحد إخوة الفقيد، تم التنسيق على نشر شكر العائلة للمعزين، من منبر موقع عنكاوا دوت كوم، بعد أن أوفوا بذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
فقد جاء على لسان السيد بريخا يوسف، شقيق الراحل، وهو الآن الأخ الأكبر بعد الراحل من بين أخوته، جاء حوار وجداني مؤثر، متبوعا بالامتنان للمعزين، ومما ورد فيه:

وداعاً وسلاماً ايها الاخ العزيز. لقد نلت قسطا ليس بقليل من الألم… قبل خطفك عنوة من العائلة والتي كنت عمودها الرئيسي الذي يستقر عليه البناء؛ ولمن يعتبر، كنت ترشد وتنصح بدون ملل، وكنت دائما تنثر حكمك إلى اقربائك واهلك واصدقائك دون تكلفة او كلل او ملل.
والأن يا اخي العزيز أريد ان ازيدك علماً بانك كنت صائباً باخلاصك الى محبيك، فقد انهالت علينا رسائل ومكالمات وفاكسات وبرقيات، وعبر مختلف وسائل الاتصالات، ومن مختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية.
بدورنا نقدم كل الشكر والتقدير لكل احبائنا وأصدقائنا المتصلين من كافة الدول واخص بالذكر احباءنا من شخصيات ومسؤولين وكبار قومنا ووجهاء ديارنا واغوات منطقتنا، والذين تسارعوا بمشاركتهم معنا بهذا الألم. أكرر شكرنا وامتناننا لهم بكل تقدير.
ارقد بسلام يا أخي، وثق بأنك لن تلقى منا ألا ما زرعته من الطيبة والأمان والوفاء والإخلاص في نفوسنا. لاننا نؤمن بهذا المبدأ القائل: ما تزرعه تحصده.

ومثل هذا جاء في كلمات أخيه الأصغر سليم يوسف، عن (عائلة المرحوم البروفسور أفرام عيسى يوسف) متقدمين بجزيل الشكر الى جميع الذين شاركونا احزاننا من خلال تقديم تعازيهم المباشرة أو من خلال المكالمات الهاتفية ووسائل التواصل الاجتماعي ....

وبدورها، إذ أشارت الأخت استير يوسف، ابنة شقيقه جميل يوسف - أبو جهاد- بمشاعر الشكر الجزيل والامتنان لكل الأهل والأصدقاء الذين حضروا والذين "اتصلوا لتقديم تعازيهم برحيل العم العزيز الدكتور أفرام عيسى يوسف .. فقد خصت باسم العائلة بالذكر، باسم ابيها واعمامها وعمتها، الذين قدموا كل وسائل المساعدة في فرنسا منهم: الأب العزيز فادي ليون، الأخ الصديق وليد قريو، الخال العزيز كريم والأخ حازم.

وكان الصديق والقريب د. وليد قريو، المقيم في فرنسا، أول من نشر خبر النعي.

وكذلك نعاه وجهاء بارزون من سناط في مقدمتهم، من يعد من حيث السن والعطاء والنشاط الأدبي والبحث التاريخي والفلكلوري، يعدّ عميد الاسرة الأدبية لأبناء سناط، الكاتب جميل زيتو عبد الاحد، وجاء في نعيه:
توشحت سناط والوسط الأدبي والثقافي بوشاح السواد لدى تلقينا نبأ كالصاعقة بسقوط النجم اللامع والاديب البارع والمؤرخ الفطحل البروفيسور افرام عيسى يوسف في باريس اليوم، الذي كرس طيلة حياته لتدوين وتوثيق مآثرنا وتاريخنا من خلال إصداراته وكتبه القيمة التي نهل وارتوى من ينابيعها الكثيرون.
اسرعت الخطى إلى العالم الآخر وكأنك يأست من هذا العالم الفاني الذي لم يجازيك ولم يكافئك لقاء ما قدمت من اعمال وخدمات وانجازات عجز الآخرون عن ادائها، كنت وفيا لشعبك كنت مخلصا لقومك شعارك كان التوحيد والنزاهة والأمانة والخدمة.
أيها الأدباء، ايها الكتاب، أيها المؤرخون شاركونا وقاسمونا الحزن العميق بأفول زهرة فواحة وصديق ومؤرخ فاح أريجه في جميع الأوساط والذي كان داعما وساندا ومؤيدا لمواقفنا . وختم نعيه الذي وقعه بعبارة (أخوك الحزين) بهذه الكلمات:
نم استاذي العزيز قرير العين في الاخدار السماوية وتنعم بالفردوس السرمدي وبأحضان ربنا يسوع المسيح والعذراء مريم. الراحة الابدية اعطه يا رب ونورك الدائم فليشرق عليه.

وجاء في نعي صديق آخر ومن أبناء قرابته،  ومن الأكاديميين أيضا، د. صبحي زورا:
مصابنا الاليم بفقدان علم من إعلام تاريخنا المعاصر وتراثنا العريق. أتحف الفقيد المكتبات الفرنسية والعلمية بخيرة الكتب والبحوث التاريخية والاثنولوجية عن شعبنا وحضارتنا وربط الماضي بالحاضر بحذاقة المفكر العبقري والبحاثة القدير. كان لي شرف استقباله هنا في مدينتنا برمنكهام وتعريفه على المكتبات الانكليزية في برمنكهام وأوكسفورد والتي تحتوي على المخطوطات السريانية والعربية التي تتحدث عن تاريخنا. وكان ايضا لي الشرف ان أساهم بترجمة احد كتبه (عطور الصبا في سناط) الى اللغة الانكليزية (Childhood Fragrances in Sanate) لتعريف الشباب والقارئين الإنكليز عن هذا التاريخ الثري. تألمت لفقدانه وحزنت جداً.
وختم د. صبحي عبارات النعي متوجها إلى ذوي الراحل: أشارككم جميعا وخاصة اخوته وذويه العزاء، واصلي وأتضرع الى الرب ان يحتويه بعطفه وحنانه ويسكنه الجنة المًُعٰدّة للأبرار والصديقين.


فصل أخير من (عطور الصبا ...)
_______________________

أنشر، الآن ما توفر من الفصل السادس والأخير الذي سبق نشره في جريدة الأديب البغدادية (2004) من كتاب البروفسور الراحل أفرام عيسى يوسف: (عطور الصبا في سناط)، الصادر بالفرنسية من دار هارماتان 1994 ، باريس، تحت عنوان (Parfums d'enfance à Sanate) وأعيد طبعه بنسخة جديدة معدلة. وشأنه شأن العديد من كتبه الأخرى ترجم أيضا إلى الانكليزية، كما ذكر سابقا. في هذا الفصل، يتذكر المؤلف أول وعيه بخصوصيته الاثنية من أبناء شعبنا الكلداني النهريني، وأول وعيه بخصوصيته الدينية، مقارنة بالديانات الاخرى.
وقتا طيبا، من نفحات هذا الكتاب.

الفصل السادس - مفاجآتي الأولى
___________________

 في أحد الأيام، علمت ويا للمفاجأة أني أنتمي إلى خصوصية قومية اثنية. وكان حادث قد جعلني أفهم ذلك آنذاك
ففي صبيحة من عام 1950، وأنا استيقظ، سمعت صراخات في الزقاق.
هرعت إلى أمي مستفسرًا عن سبب تلك الجلبة. قالت لي:
- يا ولدي إن أهل القرية يقومون بتنحية عمك حنا وهو المختار منذ عشر سنوات، مختار جيد، حاذق ومضياف. فسألتها:
-      ولكن لماذا؟
-       إنها غيرة ارتفعت لدى القبائل الأخرى تجاهنا، مع أننا عملنا الكثير في أجل سناط.
…… وهكذا تبين لي أني عضو في قبيلة، مثل ما هو الحال لدى سائر أبناء القرية.
وكانت الحياة الاجتماعية فيها ترتبط بمستوى العلاقات الطيبة أو المتوترة ما بين القبائل. وهذه تسمياتها:
1- بي إسحق 2- بي زيا 3- بي كمايا 4- بي كنـّو 5- بي كـرّا 6- بي نيسان- بيشمون 7- بي شليمون 8- بي منكنا 9- بي كورييه و10- بي شينا.
فكان في البدء عشرة رجال، قدموا من مناطق متجاورة واستقروا في سناط، واستثمروا أراضيها التي تقاسموها بالعدل والسلام.
وبذلك تكونت الأصول القبلية مع تطور القرية.
ترعرع أبناؤهم، وأخذت كل عائلة توسع البناء حوالي بيت الجد، على قطعة الأرض العائدة إليه.
ففي الشرق، يتطور الفرد في داخل القبيلة. فيها يجد انتماءه وهويته ومنها يتلقى الضمانات والحقوق.
***
المفاجأة الثانية، عندما عرفت أني أنتمي إلى خصوصية اثنية لها لغتها الخاصة! ففي سن العاشرة من عمري، أخذني أبي بيدي إلى العم ليوس (لويس) معلم اللغة الآرامية. سألت بابا:
-      لماذا جئنا هنا؟
-      لقد ورثنا، يا ولدي، لغة خاصة بنا، إنها الأرامية وتسمّى أيضًا السريانية، وعلينا أن نحافظ عليها. فسألته:
-      وهل أناس المنطقة كلها، لا يتكلمون بمثل هذه اللغة.
-      كلا، يا ولدي، منهم من يتكلم الكردية وغيرهم العربية وهكذا…
-      في أي مناطق يتحدثون الآرامية؟
وشرح لي يوسف كيف أن هذه اللغة هي موغلة في القدم فترجع إلى أكثر بكثير من ألفي عام.
والمسيح تكلم ووعظ بهذه اللغة الآرامية.
وهي التي ألهمت كتابًا عمالقة مثل القديس أفرام الذي يوصف بكونه كنارة الروح القدس.
لم أكن أدرك كل هذه الشروحات التاريخية التي كان يقدمها أبي. ورحت أسأله:
-      لماذا إذن لا يتحدثون الآرامية في كل مكان؟ ليجيبني:
-      إن العالم متكون من قبائل وشعوب متنوعة، ولكل شعب وكل بلد ثقافته وحضارته، وأنت أيضا لديك كذلك، ولهذا السبب جئت بك إلى بيت السيد ليوس.
الواقع، ما كان يهمني كثيرًا أن أذهب لتلقي الدروس الخصوصية لدى الساعور. لكني لمرضاته أخذت أتمتم:
-      أجل، أجل، اتفقنا.
وهكذا ذهبت لأربع أو خمس مرات عند السيد ليوس. أخذ يعلمني الأبجدية، وكنت أجد هذه الحروف صعبة ومعقدة.
بعد بضعة أيام قررت عدم الذهاب إلى الدروس، التي كنت أرجع منها بمزاج متعكر. كنت بالأحرى أفضل التنزه مع أقراني في البساتين. في حين كان أبي قد وعد بنعجة إلى السيد ليوس مقابل خدماته تلك. ولم أجد أن أن دروسي تستحق أن يدفع عنها النعجة الموعودة!
مع ذلك تم تسوية كل شيء، إذ أعطى والدي كمية قليلة من النقود إلى الساعور، ولم يعد أحد يتحدث عن هذه المسألة.
كنت أجهل آنذاك ما تمتلكه هذه اللغة من هيبة ومكانة، وكنت أجهل انتمائي لأسرة الساميين الكبيرة في الشرق.
لقد كان كل السناطيين يستعملون هذه اللغة. أما في القرى المجاورة فكانوا يتكلمون الكردية. إذ تجاور في شمالي العراق شعبان اثنان: الشعب الكردي، وشعب الآثوريين- الكلدانيين. ويُعرف العرق الكردي بالانتماء إلى الأصول الهندو اوربية، ويعيشون في كردستان في العراق وتركيا وإيران.
وكنت منذ الطفولة أجدني متجاورا مع هذا الشعب الذي كان له تأثيره في آدابنا وعاداتنا.
***
 
العامل الديني، كان أيضًا سبب دهشتي. وكان عيد الميلاد.
في الصباح استيقظت وكلي فرح. وكنت أقوم بارتداء أجمل ملابسي، حين جاءنا جار ليقدم لنا التحية باللغة الكردية، ويتمنى لنا عيدًا سعيدًا. فأجبته:
-عيدك مبارك أنت أيضًا، أنا فرح بمجيئك.
عندما تفوهت بهذه الكلمات، رمقتني جدتي بنظرات توبيخ. ولم أفهم أني كنت أبديت قلة كياسة. فجذبتني الجدة إلى جانبها لتقرّعني بالقول:
-هل أنت أحمق. كيف تتمنى عيدًا مباركا لهذا السيد؟ عنده لا يوجد معنى لعيد الميلاد!
فسألتها بإلحاح:
-ولماذا؟ أليس اليوم عيده أيضًا.
-إن هذا الرجل ليس مسيحيا. إنه مسلم. والمسلم، يا ابني، هو شخص يمارس ديانة تختلف عن ديانتنا وهي الإسلام. ويؤمنون بنبي اسمه محمد. ولكنهم يؤمنون أيضًا بالله الذي يخلـّص الإنسان. وفي الإسلام تقاليد مهمة مثل رمضان.
كان عمري خمس سنوات، وما كان بوسعي استيعاب الاختلاف بين الإسلام والمسيحية. فسألت جدتي:
-وما هي المسيحية؟
-إنها ديانة المسيحيين. ولهم أيضا نبي، مخلص، هو يسوع ولد قبل حوالي 2000 سنة في فلسطين. وقد علم يسوع المسيح الجموع، وعمل الكثير من المعجزات. ثم سيق إلى الموت، لكنه بعث حيا وصعد إلى السماء.
وشرحت لي الجدة: "وبعدئذ، وفي أعقاب الصعود، قام رسل يسوع بإعلان الإنجيل الذي انتشر في الشرق والغرب.
ومضيت أسأل جدتي:
-إذن جميع الناس على الكرة الأرضية هم من المسلمين أو المسيحيين.
-كلا، يا ولدي، يوجد يهود وهندوس وبوذيون، توجد ديانات عديدة.
-ولماذا لا توجد ديانة واحدة؟
-كفاك تطرح عليّ مثل هذه الأسئلة المحرجة. هذا ليس شغلك، ولا شغلي، أردت فقط أن أوصيك بأن تكون لطيفًا، فلا تهنئي مسلما، بعيد ليس عيده، مثل عيد الميلاد.
و بانفعال بادٍ، أخذت الجدة تغزل.
أما أنا فكنت محتارًا أمام عدد الديانات.



38

ܗܐܘܬ ܒܣܝܡܐ ܪܐܒܝ ܩܫܘ ܢܪܘܝܐ
ܘܛܘܒܐ ܠܚܘܒܘܟ ܠܠܫܢܐ ܘܠܒܢܝ ܥܡܢ
ܘܡܪܝܐ ܝܗܒܠܘܟ ܚܘܠܡܢܐ ܘܚܝܐ ܒܪܝܟܐ ܘܝܪܝܟܐ
ܩܫܝܫܐ ܢܘܐܝܠ ܦܪܡܢ ܕܐܣܢܟ

39
البروفسور الراحل افرام يوسف
متابعة لفصول مترجمة من كتابه (عطور الصبا في سناط) 2-3
 
ترجمة الأب نويل فرمان  السناطي
______________________
 
مقالات نشرت في جريدة الأديب البغدادية (2004)
 
في هذا الجزء الثاني عن البروفسور الراحل افرام يوسف، فصلان لاحقان (الرابع والخامس) من الفصول التي سبق وأن ترجمتها لجريدة الأديب البغدادية، فنشرتها لحين توقفها عن الصدور.
ويتزامن الأن نشر هذين الفصلين، مع غداة تشييعه، المناسبة التي يلتئم فيها الأقارب والأصدقاء المحبون للمشاركة بمشاعر العزاء والمحبة، واسترجاع الذكريات المشتركة مع الفقيد. ولما كانت مثل هذه المجالس لا تخلو من الظل الخفيف، خصوصا في زمن أحد ظرفاء سناط، المرحوم مرقس وردا، يستحثـونّه لبثّ البسمة وإشاعة سلام القلب، هكذا بنفس النسق، نجد الظل الخفيف لمن يعتبر عند روّاد مجلس العزاء، الاخ والصديق وابن العم والمعلم ورفيق الدرب، إذ تبثـّنا روحه في هذه المناسبة، ما كتبه في الفصلين أدناه من كتابه بالفرنسي (Parfums d'enfance à Sanat عطور الصبا في سناط)، عن طرائف طفولته (4) وعن أولى فرحاته (5). وأترك القارئ الكريم مع نفحات مما كتبه الغائب الحاضر د. أفرام الراقد تحت جفون الذاكرة، وبرعاية العناية الربانية.

الفصل الرابع
طرائف طفولتي
_________________

تعود إليّ  سنوات طفولتي الأولى لتقودني من يدي إلى جبال كردستان، ما بين ذويّ وأقاربي. وذلك، في يوم من الأيام، وكنت بين الثالثة او الرابعة من العمر، عندما اشتد نقاش حارٍ داخل العائلة، والتفتت إلى أن ثمة قلقًا كبيرًا، بدون أن يتهيأ لي أن أحزر ما هو السبب.
بقي والديّ في حيرة أمام أمر عليهما أن يحسمانه. وأخيرًا وبعد المزيد من التداول، توصلا إلى القرار بالتحرّك الفوري.
في الواقع، كانت تدور وشوشات، منذ أسابيع.
-      هناك قراصنة قادمون من تركيا لخطف بغالنا وغنمنا وحميرنا.
ما هو الدفاع الذي ينبغي القيام به؟ كانت العائلة تسكن في الطابق الأول من البيت.
في الطابق الأرضي، كان يقيم البغل كيندو والثور بزو، وفي حجرة أخرى من الطابق عينه  كانت تسكن معزاتنا. ولم نكن بعد قد اقتنينا البغل فيردو (الذي تحدثت عن في فصل سابق). هكذا كنا مثل أنكيدو في ملحمة كلكامش نعيش برفقة الحيوانات.
-      وكان لا بد من انقاذ الحمار، إذ يشكل ثروة ثمينة لنا. فقررنا أن نستضيفه في طابقنا الأول، ليقيم فيما بيننا.
فكانت لنا، فوق، غرفة معيشة وغرفة نوم حيث كنا نضع حوائجنا، إلى جانب حجرة  فارغة كنا نودع فيها الخضراوات ومؤونة الشتاء.
ولم أزل أتذكر والداي والقلق يخيم على وجهيهما، وهما يتساءلان:
-      كيف يا ترى سنستطيع أن نجعل الحمار يصعد إلى هذا الطابق.
وعندما حلّ المساء، سعينا لأن نجعله يصعد درجات الطابق. فرفض التقدم خطوة. عرضنا له طعاما دسما. وفي الآخر، حسم أمره، وإذا به يقفز من درجة إلى أخرى، حتى وصل إلى فوق، اجتاز غرفة المعيشة، ثم غرفة النوم حتى وصل إلى غرفة المؤونة التي كانت قد أفرغت من المواد.
وكم كانت سعادتي وأنا لي مثل هذا الجار. وجعلت أشيد بثوبه ذي اللون الترابي. ورأيت أننا مزمعون ان نغدو صديقين.
ولكن في فجر اليوم التالي، جاء صوت جعلني اقفز من السرير: نهيق الحمار الجائع. فهم لم يكن يتردد إذن من إيقاظي. فهرعت أمي إلى إطعامه ليسكت ويدعني أنام.
وطوال ذلك الشتاء، كان علينا أن نكرر هذا المشهد الطريف ونتحمل في كل صباح نهيق كيندو.
كان والداي، من جهتهما راضيين لكونهما أنقذا الحمار.
وكانت لنا معزة، تدعى بالي، وأكثر من خمسين جديا.
في نهاية الخريف، كان قطيع العائلة يرعى بسلام تحت حراسة راعيين شجاعين، أخذا على عاتقهما الاهتمام بغنم المنطقة.
كان الجبل جميلا، في هذا الصيف، وكانت المعزات تدر الحليب الوفير. وإذا بمجموعة ذئاب تهاجم القطيع، فتمزق حوالي 15 من الحيوانات.
وعبثا حاول الراعيان الدفاع بالهراوات، إذ كانت الذئاب كثيرة وشرسة. فجاء أحدهما نحو القرية وهو ينادي بصوت عالٍ
-      النجدة، النجدة.  فتسلح المزارعون ببنادقهم لكي يقضوا على الذئاب وينقذوا الخراف.
وحال وصولهم إلى موقع الحادثة، جمعوا حوالي ثلاثين من الغنم والماعز بين ميتة وجريحة، وبضمنها معزتنا بالي المجروحة جروحا بالغا.
وذهبت كل عائلة لتستعيد غنمها. فأخذ والدي المعزة (بالي) إلى البيت، ولكنه عرف أنها موشكة على الموت لا محالة. فلم يكن منه إلا ذبحها، فتوفّر لنا قدر من اللحم لبضعة أيام.
كنا سعداء في ذلك المساء، برغم نحس الحالة التي أصابت الغنم، بأن نتذوق شواء لحم الماعز. فهيأ والدي "اشياش تكة" تفوح منها رائحة الشواء المكتمل. 
لكن الجدة أجهشت في البكاء.
-      ما لك تبكين؟
-      أبكي على موت المعزة التي كنت أحبها كثيرًا. لن أستطيع البتة هضم  لحمها. كلا، كلا، لن آكل منها. يحرم عليّ أكلها.
عبثًا حاولنا كل السبل لإقناع الجدة، إذ رفضت بإصرار أن تتناول لحم حيوانها المحبّب، إذ كانت ترتبط معها بعاطفة طيبة.
وبقيت طوال السهرة تعطينا الأذن "الطرشة"، بينما كنا نستسيغ ذلك الشواء، بملء شهيتنا.

سنة ألف وتسعمائة وتسعة وأربعين. عبير خاص من هذه السنة يعطر فكري وذاكرتي.
كان أبي ينتج لنفسه خمره الأحمر (حوالي عشرين لترًا).
كان يملك كرما يدر له العنب بسخاء مما كان يفيض عن حاجتنا.
ففي إحدى الأمسيات طلب مني أن أجلب طاسة خمر يشربها مع بضع أصدقاء.
كنت ألحظ ان متناولي هذا الشراب، سرعان ما يغدون مرحين، غريبي الأطوار وغير واعين. أما أنا فما كنت قد ذقت طعم الخمر.
ذهبت إذن لأغرف الخمرة من بتلك الطاسة الكبيرة، من الجرّة وكان فيها ما يقل عن اللتر.
فراودتني تجربة أن أتناول من الشراب للمرة الأولى. فشربت جرعة، ثم أخرى، أعجبتني نكهته ولئن كانت ممزوجة ببعض المرارة.
وعندما عدت إلى الوالد بالخمر، وكنت قد شربت منه جزءًا لا بأس به.
-      لما لم تملأ الطاسة؟
ترددت  في الإجابة، ولمح يوسف اضطراب عينيّ وتثاقل رأسي، فسألني:
-      ماذا فعلت؟ فتمتت:
- لا أعرف. فألح في السؤال:
- هل شربت شيئا من الخمر؟ فاعترفت له:
- أجل ذقته.
وبدأ رأسي يدور، وجاءت أمي لتأخذني إلى السرير وأمرتني أن أنام. كانت الساعة العاشرة ليلا. فاستغرقت في نوم عميق...
في اليوم التالي، استيقظت منتعشا، نشطا برغم هذه الخبرة الأولى. لقد كنت قد خلطت بين هذا السائل الأحمر وبين ما كنت أشربه من حليب وماء، تعوّدت على ارتشافه بدون أن يؤثر فيّ بشيء.


وجاءت طريفة أخرى لتفقدني توازني وتغرقني في في خضم واقع غير مألوف.
كنت قد تعوّدت على انتظار يوسف في عودته من زاخو.
وكنت أعرف على وجه التقريب، ساعة وصوله. وكان يتهيأ أني لست أترقّب والدي  بل هارون الرشيد المتنكر بثياب تاجر.
فكنت أحتل مكانا في مدخل القرية لأستقبله بما يليق من حفاوة. وكان الوالد سعيدا جدا برؤية ابنه القادم لاستقباله ويُنسيه تعب الرحلة ومخاطرها.
فلا يكف في غمرة فرحه يعانقني ويهدهدني على كتفه، أو يحملني على ظهر دابته، على هذا النحو كنا نقطع بضعة الأمتار التي تفصلنا عن البيت، حيث كان يقدّم لي عندئذ، الحلوى والملابس القشيبة.
وفي إحدى المناسبات المماثلة، وعندما كان أبي يحملني إلى الدار، بقيت أنتظر بفارغ الصبر مفاجأة الرحلة، سواء كانت من الحلوى أو النستلة أو أي ملبس.
ويا لخيبة الأمل، لم يكن لوالدي أي شيء لي. بقيت تحت هول الصدمة. ثم هجمت على "يشماغه" (غطاء رأسه) الكردي الملفوف، ورميته أرضًا.
فهم الوالد رد فعلي العنيف. ومنذئذ، كنت كل مرة ينسى فيها الوالد أن يجلب لي شيئا، انتقم من غطاء رأسه الملفوف كقبعة، فأحلها وأرميها ارضًا.
وتبنّى أخي هذه العادة أيضًا وبقي يثور بالطريقة عينها، عندما يعود الوالد فارغ اليدين.
...
تلك المرحلة من العمر بقيت تحفظ لي ذكريات أخرى.
كنت آنذاك صبيا صغيرًا جدًا، عندما ربت وارينة غنمة كـ "ربيطة" للشتاء. ذبحها يوسف، ثم دعا أصدقاءنا ليحتفلوا معنا في هذه المناسبة.
وعندما طبخت اللحوم وضعتها في جرار كبيرة مركونة في الحجرة الداخلية لرطوبتها المناسبة. بعد أيام خرجت الوالدة من تلك الحجرة، وأعلنت أن لحم "القليا" كاد أن ينفد.
من هو يا ترى الذي التهم كل تلك الكمية من اللحم؟ كان الوالدان حائرين قلقين، ينبشان في رأسهما. وخلصا إلى أن السارق، لا يمكن أن يكون إلا القط. وانه استمكن مكان اللحم من رائحته الشهية. فقرر والدي ووالدتي ومعهما الجدة أن يحسما الأمر بسرعة.
من أين كان يأتي هذا الحيوان؟ فكلفوني أن أنصب الكمين لمقدمه. أكان سيمرّ من تحت الباب ام من غرفة الاستقبال: ومنذ الساعة الثامنة، كانت كل العائلة في حالة إنذار مترقبة "البزّون"، كل واحد منا في موقع مراقبته.
حوالي الساعة العاشرة رأيت هرًا كبيرًا أسود يعبر من فجوة في حائط غرفة الاستقبال.
فصرختُ إلى والدي: ها هو الهر.
فأخذ الوالد العصا. أما الهر فاندس إلى الحجرة إياها، وهناك رطب منخريه برائحة اللحم الطيب، تركناه يقترب إلى الجرّة، وتقدّم والدي على رؤوس الأصابع…
فأحس الهر أن أمره قد افتضح. فأخذه الرعب، والقى بنفسه في وجه الوالد الذي وجّه إليه ضربة عصا. فانحرفت العصا إلى الجرة، فانسكبت قطع اللحم على الأرض. كان الباب محجوزا بحراسة أمي وجدّتي، فلم يكن بوسع الحيوان الهروب، وأخذت نار الغضب تقدح من والدي الذي وجّه إلى الحيوان البائس ضربة ثانية فأرداه قتيلا.
كل هذه الضجة، أثارت شكوك الجيران وتساؤلاتهم إزاء هذه الجلبة وهذه الأصوات، متسائلين بقلق:
ترى هل طرأ حادث ما؟
فقرروا المجيء للاستفسار عما جرى. كل ما حسبوه، أن والدي أخذته نوبة غضب لسبب ما، وانهال على أمي ضربًا. لكنهم وجدوا هذه الأخيرة جالسة على العتبة تضحك. فطمأنهم الوالد أنه لم يحدث شيء. وأقفلوا راجعين بدون أن يفهموا من الموقف شيئًا.

مغامرة أخرى عجيبة تؤشر لي في الذاكرة من بعيد.
كان أبي قد اعتاد على زراعة التبغ في بستانه، مما كان يوفر عليه شراء علب السجائر.
كانت الأرض مرتوية من الماء، وجيدة الفلاحة، وكان التبغ ينمو ويرتفع، ومن نوعية جيدة. ولكن في ذلك الوقت، كان الناس يحتاجون إلى موافقة رسمية، خاصة بالمزارعين الذين كانوا ينتجون هذه المزروعات لمختلف معامل التبغ.
وإذا بالخبر يتسرب في القرية أن مفتشا حكوميا كان في طريقه إلى سناط. فإذا كان سيكتشف نباتات التبغ، كان سيفتح لا محالة تحقيقًا ضد المزارعين الذين يتجاوزون القانون.
كان الوقت حوالي الساعة الخامسة عصرًا، وكان سكان القرية من شدة المفاجأة في حيرة من أمرهم، فلا يعرفون ماذا يفعلون. وكان أبي غائبًا، وجميعنا، أمي وجدتي وأنا، نعاين الجيران يتراكضون إلى حقولهم ليقتلعوا     نباتات التبغ.
عندئذ قررت وارينة أن نمضي نحن أيضًا لنقتلع شتلاتنا، تحاشيًا للغرامة الضخمة. وبيديّ الصغيرتين طفقت أقلع النبتات الأصغر.
وكنا نراقب الغرباء القادمين شيئا فشيئا نحو القرية، والمفتش ممتطيا حصانه مع ثلاث حراس يرتدون الملابس المدنية.
واذا بالخبر الجديد يطير بسرعة، مفاده أن ذلك لم يكن مفتشًا حكوميًا بل إنه الخوري بيكوما. كان قادما من زاخو لزيارة سناط وتفقد المؤمنين. وما كان أعضاء جماعتنا قد رأوا من قبل كاهنًا بلباس مدني، فكيف لهم ان يتصوروا بأن هذا الفارس هو قسيس. فكان الجميع مخذولين: الخوري إذ علم بأنه تسبب بمثل هذا الرعب والمأساة، والقرويون لأنهم فقدوا تبغهم.
وعندما جاء أبي، عائدًا من مهمته، عرف أننا اقتلعنا التبغ بدون استشارته، فركبه غضب عارم. ورفض اللقاء بالخوري المسكين (المقيم حاليا في أمريكا) لتسببه بمثل هذه الاضطرابات في العوائل.

أما نكتة سرقة الخيار، فقد تركت عندي ذكرى أليمة.
كان أهلي، يزرعون، منذ سنوات، الخيار في بستان آخر لهم يقع بقرب القرية.
وكانوا في كل موسم، يزرعون مختلف الخضراوات، فيما كانوا يخصصون المساحة الأوسع للخيار.
في إحدى السنوات حرث يوسف الأرض وزرعها، بانتظار موسم القطاف. وكانت الخضراوات تنمو بانتظام، وأخيرًا حل وقت الجني. بكرت مع والدي لأخذ الفاكهة، واقضم بملء أسناني أجسادها الغضة.
وعندما وصلنا إلى المكان، وجدنا الخيار بين مسروق ومدمر من قبل صعاليك القرية.  فكانت ردة فعل يوسف قوية، وهو يقتلع المتبقي من الشتلات.
...
وصول الراديو إلى القرية كان حدثًا بحق. عمي حنا كاكو، ذاك الأسمر، الضخم والشجاع والحكيم، كان قد انتخب مختارًا.
وفي سفرة له إلى مدينة الموصل عام 1949، قرر شراء جهاز راديو، جاء به إلى القرية، فوضعه في مكان مناسب في البيت، بعد أن ثبت "الأريل الهوائي" وبعد أن غذّى الجهاز بالبطاريات. وكنا نحن جيرانه.
في مساء أحد الايام، لحظت جمهرة من الرجال والنسوة، تجمعوا عند منـزل عمي، وكنت أصغر من أن أفقه لماذا كل هذا الجمع من الناس يحيطون بأحد أقاربي.
ففكرت بشيء من الحزن أنه ربما طرأ حادث جسيم على الأسرة. فهرعت لأرى ما الذي يحدث. وهيأت لي قامتي الصغيرة أن أندسّ بقرب عمي. فكم كان ذهولي عندما رأيت بقربه صندوقا يتكلم. لا بد وان الصندوق يضم جنّيًا. ولكن أيّ نوع من الجن. هذا هو السرّ الذي شغلني لمدة طويلة.

الفصل الخامس
فرحات أولى
___________________

ترتبط أفراحي الحقيقية بسني طفولتي. هكذا لم يلبث الطفل الرضيع، أن يستيقظ وعيه على ابتسامة أم وأب، وعلى التفاتاتهما الرقيقة.
لله درّه، بأي حماس ينفتح الطفل إلى الحياة والسعادة.
ويرتعش كيانه من النشوة، حتى أنه طوال حياته لا ينفك يسترجع انبهار السنوات الأولى.
ولم أزل احفظ بتأثر ذكرى تلك السعادات البالغة.
مثل أي صبي كانت تشدّني تلك الألعاب التي كنت أرتمي فيها أتحرك وأركض وأعيش ملء أيامي في جو من الحرية.
كان لنا عدة أنواع من المصاريع، نجعلها تدور في حركاتها الدائرية الجميلة، فوق السطوح وفي البساتين المتاخمة.
وكان اللعب يقتضي أن تضرب بما تملك من قوة على مصراع صاحبك في اللعب، والأخف من تلك المصاريع كان ينفلق من شدة الضربة. وهكذا كانت عدوانيتنا تتجلى في تدمير لعباتنا.
كما كانت لعبة الدعابل تحتلّ مساحة كبيرة في حياة صبيان القرية. وعندما كان أبي يذهب إلى المدينة، كان يجلب لي منها بألوان وأشكال متنوعة، ألعب بها مع الأصدقاء. فنرمي مع بعض تلك الدعابل الصغيرة بأشكال الكريستال، الواحدة ضد الأخرى، لنكسرها أو نغنمها.
وكانت للقرية لعبها الخاصة بها:. شاكا، اوبيل كبي وكيلاتا. كنت ارتمي فيها من كل قلبي. لكن ذلك كان يثير الشغب في الأسرة، إذ كنت أتأخر على موعد اقتسام وجبة العشاء مع الأهل.

وها أراني استسلم إلى سحر تلك الذكريات السعيدة.
فهذا أول غداء اقتسمته مع والدي، وبأي فرحة غامرة. إذ في قلب تلك الجبال في شمال العراق، كان الرجال، منذ أجيال سحيقة، يأكلون الطعام فيما بينهم. فكانت هناك خدمتان للوجبة الواحدة: الأولى، لرب العائلة، عميد الأسرة، تجري في أجواء الوجاهة والاحترام. الثانية، وجبة النساء والصبيان، تميّزها البساطة والتلقائية. وكنت منذ زمن انتظر بشوق فرصة تناول الطعام مع أبي. اذ كنت قد ضقت ذرعًا بالأكل مع النسوة.
في مساء أحد الأيام، ربما كنت ما بين الخامسة أو السادسة من العمر، قررت الأسرة أني من الآن فصاعدا، سوف أشارك في المائدة الرئيسية الأولى. وكان لي في المائدة، ماعون وقدح وملعقة معدنية مزخرفة ومطلية بالقلاي. وكان يفرش كل هذا على بساط ذا حياكة ملونة بألوان صارخة، وكانت توضع خلف الجالسين وسادات يتكئون عليها. وهابت بي الأم أن أكون متهيئا.
- لماذا؟ سألتها.
- لماذا؟ لأنك ستتناول الطعام مع والدك.
- يا للسعادة!
وبالفعل، دعاني يوسف حال دخوله الحجرة التي كانت دائما قليلة الضوء.
- يا ابني، من الآن فصاعدا، ستشاركني الغداء. ها قد اصبحت صبيا كبيرا، وبامكانك أن تمسك الملعقة بيدك، وان تبتلع اللقمة بشكل مناسب، إذن سوف تأكل معي.
كانت السعادة تغمرني، إذ أخذت على وفق تقاليد القرية، أجلس القرفصاء على الأرض، بجانب بابا، وأمامنا الطبق النحاسي الكبير، فكان لغذائي الأول معه مذاقًا طيبا بنحو خاص.
وإذا كنت في ذلك المساء، على تلك الدرجة من السعادة، فذلك لشعوري بأني أعبر عتبة لأدخل إلى عالم الرجال.
...
وهذه قصة أخرى، قصة قصب السكر، التي لم تزل تسحرني في سن النضج.
في أحد الأيام، خرجت كعادتي لاستقبال والدي العائد من زاخو. كنت أعرف وقت عودته. رأيته من بعيد، وعليه أمارات التعب، يسبقه الحمار وعلى ظهره حمولة المواد.
وما أن لمحني يوسف حتى هرع اليّ ليعانقني. كنت انتبه اليه بنوع من القلق، وكلي تساؤل، ما عساها تكون طبيعة الهدية التي جلبها لي.
ويا للمفاجأة السارة. هذه المرة أيضًا لم يخب أملي. فتح أبي الكيس الكبير الجاثم على ظهر الحمار، وأخرج منه قصبة يقارب طولها المتر: انها قصبة سكر.
عاينتها وأنا أعتقد أنها من الخشب الملون.  وما أن أمسكت بها حتى تبين لي أنها ليست كذلك.
- احترس فهذه القصبة قد تنكسر بسهولة، نبهني بابا، فهي من السكر.
تذوقتها للحال. فتولتني فرحة رقص لها قلبي، إذ كنت في ذلك اليوم قد تلقيت هديتين: قطعة حلوى، وقصبة سكر! التفت إلى أبي فقبّلته بحرارة. واستأنفنا الطريق إلى البيت. وما ان دخلنا الدار حتى ارتميت في أحضان أمي.
- ما أروع بابا، لقد جلب لي قصبة.
- قصبة! ولكن ما عساك تعمل بقصبة وانت في سنك هذه؟ فأجبت:
- ليست قصبة من خشب، بل من سكر.
لم تصدقني أمي. مد لها يوسف القصبة، فأذعنت.
أما أنا فبقيت اسبح في بحبوحة من السعادة، وكان الأهل أيضًا سعداء بفرحتي.
...
في عصر أحد الأيام، عندما رجع أبي من زاخو كعادته، أهداني زوج أحذية من البلاستك اللماع. وقال لي: بنبرة راضية: "وهكذا يا ابني لن يصيبك البرد". التمعت عيناي من البهجة، وأنا أعاين الحذاء. وتبين لي كيف أنه يختلف عن الحذاء الجلدي، وكأنه معمول بالحياكة على مادة طرية.
هذه أحذية لا ينفد فيها الماء، فلا يؤثر فيها المطر، كباقي الأحذية. وعندما تمشي في الثلج تبقى قدماك ناشفة، هكذا شرح لي الوالد.
ولما كنا في فصل الشتاء، كنت فرحا جدا. فالمعروف أنه خلال الفصل القاسي،  كانت قريتنا معلقة على ارتفاع 1900 متر، فكنا نعيش تحت الثلوج الساقطة بلا انقطاع طوال اشهر، وكانت الثلوج تغطي الأزقة والطرقات.
وعندما كنا نلبس الحذاء الجلدي، كنا نعود إلى البيت والقدمان مبللتان. وهكذا بفضل حذاء البلاستك، سوف يتيسر أن ألهو ما شئت مع الأقران، وتبقى القدمان في الدفء.
...
 وفي مساء آخر جلب لنا الوالد من البلدة، مصباحًا نفطيًا. احاط به جميع أفراد الأسرة،  وكلهم فضول ونشوة. حاول أن يشرح لنا كيف يشتغل. كنت في البداية، غير مصدّق، فأنظر إليه بعينين حائرتين وكلي تساؤل، كيف يملأ هذا المصباح حتى يضيء. لعله مصباح علاء الدين السحري.
أجل كانت مفاجأتنا كبيرة ونحن نرى نورًا وضاءً يغمر الحجرة. وبقيت مسحورًا امام هذا المصباح في البيت. لقد كان حدثًا مهما دفعنا إلى عتبة جديدة من العصر الحديث.
كان النور بخطوات راقصة يدخل بيتنا. ففي القرية، ومنذ زمن سحيق، بقي الناس يستنيرون بمصابيح زيتية صغيرة او بشمعة أو خيط شمعي (من الفنود)، كلها كانت وسائل غير عملية وقليلة الفاعلية. هكذا فإن هذه المادة الجديدة التي اشتراها الوالد، غمرتني بالفرح.
...
وها إني أراني اغوص في حكايات طفولتي مثل سباح خجول.
مع ابن عمي ميخائيل، قررنا، للضحك، أن نعدّ أحد المقالب. كانت زخّات من الثلوج تنهمر على القرية. وكان السناطيون يكنسون الثلج منها ويدفعونه إلى  الأزقة حيث كانت تتراكم يومًا بعد يوم حتى تصل أحيانا إلى ارتفاع ثلاثة أو أربعة أمتار.
وكان بيتنا يشرف على الزقاق الرئيسي المؤدي إلى الكنيسة والى خارج القرية. فأخذنا، أنا وابن عمي،  نحفر حفرة في ركام الثلج. فتكوّن هناك ثقب كبير في منتصف الزقاق، على طريق الناس، سرعان ما غطيناه بطبقة خفيفة للتمويه.
بعد أن أنهينا العمل، وقفنا جانبًا، لنرصد المارة. كان الوقت الرابعة عصرا حيث كان المؤمنون يتهيأون كي يتوجهوا إلى الكنيسة.
أما نحن، الملعونان الصغيران، فبقينا ننتظر، وعيوننا متيقضة شاخصة إلى ما سيحدث.
فمر شخص مسن، ووضع رجله على تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تغطي الحفرة الثلجية التي سرعان ما سقط فيها حتى عنقه.
أخذ الرجل يصرخ، ويشتم صانعي هذه الحركة الخبيثة...
أما نحن فكنا على بعد عشرة أمتار، نبتهج من نجاح الكمين الذي نصبناه. واستغرقنا في الضحك حتى فضحتنا ضحكاتنا. كان الضحية، أحد الأعمام البعيدين في صلة القرابة. وفي ذلك المساء عينه، نلنا قسطا وافرا من القصاص. وبقيت مع ابن عمي، أحفظ ذكرى هذه المغامرة.
...
واستذكر حماقة طفولية أخرى. أليس في ذلك، علامة حيوية، أن يقوم المرء في صباه ببعض الحماقات!
كانت تسكن بقربنا مع عائلتها، امرأة شديدة بنحو خاص. ما كانت تسمح لنا أن نتنقل باللعب إلى سطحها، الذي ما كان يفصلنا عنه شيء. كانت تطردنا بصياحات كبيرة. فقررنا الانتقام.
وها نحن، في اليوم التالي، فوق السطح إياه حيث كانت فيه كوة بمثابة شباك صغير. وسرعان ما بدا لي ابن عمي، وكأن ثمة شيء ما يلهمه:
- سوف نبول من الفتحة إلى البيت.
- فكرة رائعة! أجبته.
فاتخذنا الوضع ونفذنا... وما كان يمكننا أن نحزر أن تحت تلك الكوة، التي كانت نهاية مدخنة، قدر طعام يطبخ لوجبة الغداء. وهكذا سقط البول في القدر وهو يغلي على النار. ومن المفارقة ان المرأة كانت بقربه، وانتبهت إلى هذا السيل الذي انهمر على قدر طعامها.
ولم نكد ننته من فعلتنا، حتى تصاعد إلينا صراخ معبأ بالشتائم والسباب. وخرجت علينا كتلة بشرية هائجة مسلحة بعصا.
هربنا، كل إلى ناحية. وصعدت من جانبي إلى المنزل. دخلت وأنا أركض. فسألتني والدتي:
- ما الذي جرى؟ هل هناك حادث ما؟
تلعثمت في الإجابة وقلت:
- كلا، كلا. واندفعت إلى الحجرة الداخلية الصغيرة التي كان لنا فيها، إناء كبير مكون من الأغصان المشبوكة. نضعه فوق الأطعمة لحمايتها من الذباب والحشرات، فاختبأت تحته، إذ كان ملجأ الصبية عندما تتهددهم عقوبة.
وسرعان ما دخلت الجارة إلينا، وقد فقدت صوابها من الغضب.
- ما الأمر؟ لماذا تنهرين ابني وتوبخينه؟ سألتها وارينة.
- ابنك وابن عمه، ارتكبا حماقة! اجابتها المرأة وكأنها تزأر في وجه أمي  كلبوة الأسد. إنهما صعلوكان.
وحكت لوالدتي، كيف قمنا بالبول من شباك المدفأة، وكيف أفسدنا لها طعام الغداء.
وعدتها والدتي، لكي تهدئ من روعها، بأنها سوف تقاصصنا.
وبعد مغادرتها، جاءت أمي وكشفت عني في مخبأي.
- أيها الملعون الصغير، ما الذي جاء في خيالكما أنت وابن عمك؟
- أجل نحن بلنا، ولكن ما كنا نعرف أين سيسقط بولنا.
الواقع اني تسلمت بضع صفعات من وارينة. لكني احسست بالرضا لكوننا انتقمنا، برغم من بعض الحزن على ما سببناه من  حرج لأهلنا.
***
لم يكن لديّ بعد، لا أخ ولا أخت. في مساء صيف، كنت عائدًا من البستان بصحبة يوسف، عندما خرجت كترو على عتبة الدار، لتبشرنا بخبر سار للغاية.
- لديك شقيق صغير، قالت لي، اسمه بريخا. وستلعب معه قريبًا.
توجه الوالد بفرح جنوني إلى الحجرة التي كانت ترتاح فيها وارينة ورضيعها.
دلفتُ وراءه فرأيت ماما متمددة… لماذا هي باقية هكذا في السرير، خلافا لعاداتها، ووجهها شاحب؟ ونظرت إلى  المولود الجديد، وهو يغفو في مهدي، رأيته جميلا بشعره الأسود. كان ذلك قد أثلج صدري فرحًا.



40
كتب الاعلامي المعروف الزميل سعد المسعودي على صفحته للتواصل الاجتماعي في 6 تموز 2008

وداعا طيب القلب وغزير العلم والطيبة والوطنية الدكتور أفرام عيسى يوسف.
أرقد بسلام ليرتاح قلبك المتعب ..الذي اتعبته المنافي وخراب سناط مدينتك الرائعة التي توارت عن الوجود بسبب حماقات الحروب، بعد أن كانت لؤلؤة اشبه بنيزك هبط من السماء "سناط" الجبل والوادي واقدم الكنائس ..
لم أكن أعرف أن ندوة المغتربين العراقيين كانت آخر نشاط لك معنا ..
ندمت لأني لم نلتقي بعدها …
كنت عالما عرفت سعيك للمعرفة منذ 33 عاما عندما كنت في مونبليية وصولا لاحتفالية مع كل مولود جديد لك وهو كتاب ..
ستبقى كتبك وطيبة قلبك ووفائك وعراقيتك تتحدث عنك دائما ..
فراقك احزنني صديقي أفرام وداعا وانا في محراب قداسك وإلقاء النظرة الاخيرة ..

رابط الفيديو في آخر تقديم للاستاذ سعد المسعودي عن البروفسور الراحل افرام

https://www.facebook.com/saad.almassoudi/videos/10156517510194100/

41
الاخ والأب الفاضل نوئيل فرمان السناطي  المحترم
جزيل الشكر على  ترجمة ونشر (عطور الصبا في سناط)،  سرد مدهش لذكريات الطفولة بأسلوب ادبي ممتع وبديع وحزين بذات الوقت  للملفان الراحل  افرام يوسف  الذي  الف وقدم الكثير الكثير وبرحيله ترك فراغاً كبيراً في المشهد الثقافي والعلمي 
عند قرأتي للنص شعرت  وكأنني أتجول في ازقة سناط  وانا طفل  اسرح وامرح بين جنباتها اقطف الرمان والجوز  التين والعنب من بِوارى الى نابوا(نبع )،
حقاً انها وثيقة مهمة  تنبض بالحياة ، وتوصف  دقائق الامور  للحياة الاجتماعية والاقتصادية  في سناط والقرى الاخرى في المنطقة التي كانت تتشابه الى حد كبير

شكرا الاخ العزيز رابي ألياس منصور، على تعليقك المؤثر، وأعرف أن أديبا وشاعرا مرهف الإحساس مثلك، تم تهجيره من ارضه وهو مستغرق في سن الرشد، قد احتفظ بذكريات، بقيت ساخنة، عن حدث التهجير، وما تم وصفه عن سناط، كما اشرت حضرتك، هو قريب، لا غرو، مما عشتموه في ديره شيش، باستثناء افتقادكم للمزيد من الماء.... ولطحن الحبوب...
مع اعتزازي وأطيب تحياتي

42
البروفسور الراحل د. افرام يوسف
فصول مترجمة من كتابه (عطور الصبا في سناط) 1-3


ترجمة الأب نويل فرمان  السناطي
______________________

مقالات نشرت في جريدة الأديب البغدادية (2004)

كنت قد بدأت بترجمة هذه الفصول لجريدة الأديب البغدادية، فنشرتها لحين توقفها عن الصدور. وكنت بدأتها بمقابلة مع صديقي وقريبي الراحل الكبير د. أفرام يوسف. في المقابلة، كانت ثمة اشارة سريعة الى صحته النحيلة، فطمأننا، وأجاب على الاسئلة برحابة ودماثة وبروح النكتة التي تحلى فيها، وذكرني بالطريقة التي كانت يتكلم فيها عن صحته: باسلوبه الفكه الخاص (البراغي حاليا مضبطـّة بشكل مقبول) وآمل في الحصول قريبا على تلك المقابلة لنشرها.   
أما الآن فلمناسبة رحيله قبيل أيام، الذي هز الاوساط العلمية، التي افتقدت شخصية فذة مثله، فمن باب التعزية والوفاء له، انشر، عبر مقالات متتابعة، هذه الفصول التي سعيت إلى ترجمتها ترجمة ادبية، من كتابه الفرنسي عطور الصبا في سناط (Parfums d’enfance à Sanat). تكشف هذه الفصول ذلك الاحساس المرهف الذي تحلى به، وتلك التفاصيل الجميلة والدقيقة التي يرويها عن صباه في سناط.

الفصل الأول: الجدي الموعود
____________________

على قول أمي وارينة، ولدت في يوم كان الأول من كانون الثاني، تحت نجمة المجوس الكلدانيين. كان ذلك اليوم عيدا مزدوجًا للمسيحيين في شمال العراق، لكونه يوم احتفالهم بالسنة الجديدة وذكرى تقديم يسوع إلى الهيكل.
في الصباح الباكر من ذلك اليوم، كان والدي راجعًا من القداس. وفي الطريق الذي كان يسبح في الظلام، لمح شابًا صغيرًا يتقافز إلى استقباله، ثم صاح بصوت عالٍ تصحبه اشارات كبيرة بالذراعين:
- يا يوسف، عندي لك خبر سار، أجل خبر سار جدًا. لقد ولد لك ولد، إنه ابنك البكر.
- الحمد لله! يا وديع، ايها البشير الصغير بالسعد، سأهديك أجمل جدي من قطيع أجدائي.
كانت تلك هدية رائعة بحق. وهكذا، بتأثر شديد، أسرع الاثنان، اليد في اليد، نحو الدار التي كانت تقوم في وسط القرية.
في الغرفة شاهدا المولود الجديد الذي قدمته لهما بكل فخر جدتي لأمي واسمها كترو. طفح قلب يوسف من الفرح. لامس رأس الرضيع وقال: " ليكن اسمك إيشو، بما أننا نحتفل اليوم باسم المخلص".
وهذا إيشو هو أنا.
كانت وارينة، الخارجة لتوّها من سن الطفولة،  ترتاح على سريرها. وكان ينسلّ من الشباك ضياء فضي ينير وجهها الشاحب المتعب.  فقد عانت كثيرًا من المخاض، وكم خافت من أن تموت خلال الولادة، كما يحدث ذلك أحيانًا. لكن كترو وقفت إلى جانب ابنتها في هذه المحنة، وكانت هي نفسها التي تقدم في القرية الخدمة المجانية للقابلة، وقد استطاعت أن تشجعها بالكثير من الكلام الطيب، وتلت أمامها السبحة الوردية، ورتلت طلبات القديسين وما حفظته من ترانيم.  وهكذا تلقت الرضيع بين ذراعيها، وغسلته، ومددته لينام في مهد خشبي مزوّد بقصبة للبول.
كانت عادة متبعة لدى عوائل القرية، ولا سيما في أسرتنا، "بيت اسحق" أنهم منذ اليوم التالي للولادة، يقدمون إلى أهل الصبي وجبات الطعام اليومية. إذ كان من الصعب على الأم الشابة التي تلد حديثا، أن تقوم بشؤون المطبخ. وهكذا جاءت نسوة "الأسرة الكبيرة"، في هذه المناسبة، لمساعدة أمي. كما مرت وارينة بوضع دقيق آخر، وهو أنها لم تجد في صدرها، الحليب الكافي لإرضاع مولودها الجديد. ولا يجدر بالطبع أن تغذيه منذ تلك الأيام، بحليب البقر أو الغنم. فاهتدت جدتي إلى الحلّ، وقالت بصوت متحمّس :
- لقد وجدت الحلّ، الأمر بسيط جدًا، هناك عدة نساء في مرحلة الرضاعة، ويمكنهن إرضاع إيشو.
لا أحتفظ بالطبع، بأي ذكرى عن عماذي، الذي احتُفل به بعد أسبوعين. بهذا السرّ أدخِلت ضمن الجماعة المسيحية، وفي الأسرة الكبيرة. فقد حدّثتني كترو فيما بعد، بأني كنت ألبس ثوبًا طويلا من قماش الساتان بلمعته المحببة، الأخضر الفاتح، وأني كنت الأول من بين المعمّذين الستة. وبفضل هذا الامتياز، استطاع أهلي أن يحتفلوا بهذه المناسبة التي دعوا إليها وجهاء القرية، بضمنهم القس متي، وهو رجل ذو لحية رمادية ، اشتهر بمرحه. ففرشوا أمام المدعوين أطباقًا شهية من الدجاج بالرز مع الزبيب، والتمر والرمان، وقدموا أيضا أقداح الشاي. ثم قدّموا إلى الكاهن هدايا دسمة، من نقود، ومنشفات وصوابين لزوجته وأولاده. وكان هذا الرجل بارعا في القصص الطريفة التي يحكيها، فيلطف الأجواء في كل مجلس. كما عُرف بموهبة الشفاء، فيقصده الناس من كل حدب وصوب.

الفصل الثاني: الأسرة
______________

لقد تزوج والداي وهما في شبابهما المبكر، فكان لأبي عشرون عاما، ولأمي 17، تم ذلك في أعقاب اتفاق تم بين العوائل والأصدقاء. وكان جدي الأول توما يمثل عظمة السلالة، لأنه كان قسيسًا. وبسبب برّه ومكانته المرموقة، اختير من بين وجهاء سناط، ورسم بوضع يد اسقف الأبرشية بعد دورة  في الإعداد الكهنوتي. أما العم حنا كاكو، الذي كان قد اختير منذ فترة قصيرة مختارًا للقرية، فقد ساند يوسف وهكذا جرى الاحتفال بكل بساطة.
لم تكن أمي منحدرة من سناط، بل من قرية هربول المجاورة الواقعة على مسافة 30 كلم.
فبعد الحرب العالمية الأولى، كان قد تمّ رسم الحدود ما بين العراق وتركيا، فجعل الخط الحدودي هربول، على الأراضي العثمانية. وكانت وارينة ابنة عيسى اوراها المختار. عندما مات هذا الأخير، تركت ابنته تركيا، مع جدتي كترو وخالي اوراها وحنا (والد المطران مثلث الرحمة مار بطرس هربولي- المترجم) ليستقروا في قرية بهنونا. ترعرعت هناك، واصبحت فتاة شابة رشيقة وحيوية، كريمة ومضيافة. كانت قد حبتها الطبيعة بوجه جميل ذي سحنة بيضاء، وشفتين بلون الرمان، وعينين مسحوبتين. وما أن لمحها أبي  حتى وقع في حبها للحال، وطلب يدها. كان الوالد ذا قامة متوسطة، قويا ومفتول الساعد، استطاع أن يجتذب المراهقة بسحنته البرونزية وشعره ذي اللون الأسود الغامق. كما أعجبها بهيئته الرصينة والمهيبة. كان يتيما، وتلقى تربية عصامية على يد جدتي سارة. وقد حفظ أبي تذكارا مريرًا عن أيام عرسه.
ففي ذلك الوقت، كان للشاب أن يدفع مهرا معيّنًا: فقبل اسبوع من الاحتفال، وتحديدا قبل ثمانية أيام من الموعد المحدّد، ذهب يوسف إلى شقيقي الفتاة الموعودة له.
ويا للمفاجأة، فقد طالبوه بثلاثين دينارًا. لم يكن الخاطب المسكين، قد توقع مثل هذه النفقات، فاضطر إلى بيع قطعتي أرض صالحتين للبناء، في مركز القرية.
استقرت كترو مع العروسين الجديدين، وساعدتهما على العيش المناسب. كانت امرأة كبيرة القامة، تنسدل على كتفيها القويين، ضفيرتان رماديتان، وكانت تتميز بصوت قوي، وقد عُرفت بطيبتها وذكائها وعنفوانها وبإمارات التقوى.
كان يوسف قد اقتنى عدة حقول، يستثمر فيها الفواكه والخضراوات، كما كانت له أراض لزراعة الحنطة والشعير وأنواع أخرى من الحبوب، على وفق المواسم الزراعية. كان يحرث البستان لزرع الطماطة والبطاطس والباذنجان والفاصوليا والتبغ. كان لأبي شغف في التدخين، مما كان يحدث النزاع بينه وبين أمي التي كانت تأسف أن أرضًا بمثل هذا الخصب تخصص للتبغ بمضاره.
إلى جانب ذلك، كان القطيع بحوالي خمسين من الماعز، يشكل في حياة الجبل مصدرًا ثمينًا للمعيشة، بما يوفره من زبد وجبن واللازم من الحليب طوال السنة. وكان الحلب في الموسم من اختصاص النساء. وكان لنا من الغنم ذات الفم والأقدام البنية، وذات فروة مجعدة وبذنب قصير ومكتنز.
وكانت ثمة فعالية أخرى، التجارة التي كانت تدر لنا موردا مستقرا. فكان يوسف رئيس قافلة، ويذهب ثلاث مرات في الأسبوع إلى زاخو الواقعة على مسافة 9 ساعات سيرًا على الأقدام. تلك كانت بلدة صغيرة ترتمي على سفح الجبل الأبيض، وهي تفترش مساحات سهلية واسعة وخصبة، تنمو فيها الحبوب والفاكهة وكروم العنب. وكان يتحلزن فيها على شكل طوق، رافد من نهر دجلة يدعى الخابور، تعلوه عدة جسور صغيرة، أشهرها كان قد انشئ من الحجارة في العهد العباسي. وكنا نلمح من بعيد قمة أرارات حيث رسىت سفينة نوح. وكان الوالد يشتري من زاخو بضائع بالجملة ليجلبها إلى سناط. كيف يا ترى استطاع ان يقطع تلك المسافة ذهابا وإيابا لأكثر من عشرين سنة في طريق محفوف بالصعاب والمخاطر، يرتاده قطاع الطرق الذين كانوا يقتلون المارة وينهبونهم. في كل رحلة كانت تراودنا الهواجس بشأنه، ولا نكف نتساءل:
- هل يا ترى سيعود سالمًا بجلده، أم سيكون ضحية للقراصنة.
وكنت أمنّي النفس، كما في الحكايات الأسطورية، أن أعطيه بساط ريح يأخذه ويعيده بسلام. فكان يوسف يذهب مع حماره كيندو، وكان الحيوان المسكين لا يقوى إلا على نزر يسير من الحمولة.  في أحد الأيام، ذهب أبي إلى الموصل، وهناك اشترى بغلا ضخمًا قويًا، عمره سنة، ويستطيع أن يحمل أكثر من مائة كيلو وبوسعه ارتقاء الطرق النيسمية المتصاعدة، سمّيناه فريدو. وكان في القرية، اقتناء بغل، بمثابة الترقي إلى درجة اجتماعية أفضل. إذ لم يكن بوسع الجميع أن يدفعوا نفقات مثل هذا الحيوان الذي كنا فخورين به أيما فخر. وكم كنت أحب أن أداعب ثوب جلاله الرمادي. في ظهيرة صيف، امتطى والدي صهوة فريدو وأخذني وراءه، لنقوم بجولة على تلك المرتفعات. كان الهواء منعشا جدا ونحن على ارتفاع 900 متر من مستوى سطح البحر. وهناك صعدنا إلى مغارة رعاة، على مقربة بضع كيلومترات من المكان.
لدى عودتنا، تراءت لي سناط، كأنها في إناء تطوقه الصخور، ويرتقي قيامها إلى اكثر من ثلاثة قرون. كانت القرية على مقربة من جبل زنارا، وفي جنباته كانت تنساب ساقية صغير تدعى نهيرا.
كان البغل ينحدر بهدوء وبخطوات هادئة رشيقة برغم الطريق المتعثر بالأحجار والصخور. وكنا نرى الأشجار بأنواعها تلقي بظلالها على البيوت المرصعة بالحجارة البيضاء والمتراصة على بعضها، تشتبك فيما بينها تلك أشجار الجوز والخوخ والرمان. وكنت ألمح من جديد، أطيافًا صغيرة للأشخاص على السطوح المبنية من التراب المفخور والمخلوط بالتبن. على ساحة صغيرة بوسط القرية، كان يرتفع برج ناقوس كنيسة مريم العذراء. وما لبث فريدو ان انسل بين الأزقة الضيقة المتعرجة والمتموجة بججارتها غير المنتظمة، والمليئة بالأطيان في فصل الخريف. تتوالى عليها الثيران والحمير والغنم تشق طريقها بكل حرية. مررنا بالمدرسة والمستوصف ومركز الشرطة. في تلك الساعة كان البقالون قد أغلقوا دكاكينهم. على الباب استقبلتنا الوالدة بابتسامة مرحبة بالقول:
- سفرة سعيدة. هلموا كلوا، والشاي حاضر.
ذهب الوالد ليربط الحيوان.
دخلت إلى صالتنا الكبيرة بحيطانها التي كانت تعانق تلك الدعامات الخشبية العذراء. فألفيت الجدة جالسة على الشباك، تعالج الصوف في مغزلها اليدوي. دعتني بهدوء:
اجلس بجانبي يا ايشو. لقد عملت اليوم كثيرًا وعيناي توجعانني. بعد الغداء، عدت بقربها وانا اتذوق معها ذلك القدح الحار والمهيّل، وأقص عليها أطرف مغامرات فريدو.
بقي البغل يرافق أبي طوال سبع سنوات، في رحلاته مع القافلة إلى زاخو. كنا نحب هذا الحيوان ونقدّره، لما تميّز به من طبع وقور ومستقل، لقد أصبح واحدا من أعضاء الأسرة.
وفي مساء شتاء، عندما كان فردو عائدًا من رحلة استغرقت عشرة أيام، إنهار وسقط ضحية أزمة قلبية. وجاء الوالد حزينًا تعيسًا ليعلن لنا النبأ المفجع:
-   لقد مات فريدو.
-   كيف حدث ذلك؟ سألت والدتي منتفضة من الصدمة، ومعها جدّتي. وأين هو الآن؟
-   إنه مجندل في الطريق على مسافة 300 متر من هنا.
فهرعنا راكضين، لنجد الحيوان المسكين ممدًا على الحافة السفلى للطريق. تلك مائة 100 كيلو من التمر، التي كان يحملها، تفرطت كلها واختلطت مع التراب، لكننا لم نولها اهتمامًا يذكر.
تألمت كثيرًا بسبب موت فريدو، وبصعوبة شديدة نمت تلك الليلة. كنت أتساءل إن كان يوجد فردوس للحيوانات، فيه جنان وينابيع وعشب طري وشعير. في اليوم التالي سحبنا جثة الحيوان ونحن يعتصرنا الألم، إلى أحد الوديان، وواريناها ببعض الحجارة. وكان على الوالد أن يكدّ كثيرًا حتى يشترى في غضون بضع أشهر لاحقة، بغلا جديدًا.

الفصل الثالث: الربيع في سناط
______________________
 
وتفتقّت براعم الربيع، المفعم بالدفء، وبعبقه المزدهر. كنت أنبهر لمنظر نمو الوريقات على أغصان الشجر، فيما تتفتق أشجار الرمان عن ورود بلون الياقوت، وكانت أشجار (العنجاص) والمشمش تتشح بألوان العيد.
وكان العشب بمرح يزاد اخضرارًا.
وتحت شمس خجولة بعد، كانت تقوم على ضفاف الجداول جنبدات بقلوب ذهبية.
وكانت العصافير تحلّق، وهي تطلق زقزقاتها العاشقة.
ويا ما كان يتملكني شعور من الخفة الجذلى، فكان حب الطبيعة يستغرقني في أحلام رقيقة.
ولئن تصاعد، بين الفينة والأخرى، دوي من بعض الصواعق، ما كان ذلك يخيفني بشيء.
فقد كنت ابن المطر وكنت ابن قوس وقزح.
في الربيع، كان أبي يأخذني كل يوم إلى الحقول، ليريني كيف تزرع البطاطس والباذنجان. كنت أعاينه بشغف واشتياق، لفرط الرغبة في التعلم على أعمال الحقول هذه. لما كانت تشدّني من ألفة مع الفجل والثوم والبصل التي كانت تطيّب وجبات غداء الأسرة.
وكنت أساعد الوالد في تنظيف جداول القرية، متقافزا في الماء بمرح.
كنت سعيدًا.
وكانت تندلع أحيانا بعض المشاجرات بين السناطيين  حول تجاوزات في الماء والأراضي ، بين من يفتقد روحية التعامل وبين من يفتقر إلى الشجاعة.
أما أنا فكنت ألجأ إلى الارتماء بين أحضان الحقول الدافئة.
وحدث أنه لأول مرة رأيت النساء من كل أسرة كبيرة، يتجمعن للخروج يوميًا من القرية على جماعات صغيرة.
وهكذا في حوالي الساعة العاشرة، أخذت أمي برفقة عماتي تغادر سناط. وعندما كانت تهمّ في الخروج، وجدتني أتشبثت بها، متوسّلا إليها أن تصطحبني معها. ولكنه كان من الصعب عليها أن تأخذني معها، فإذا كانت تستطيع حملي في الذهاب، لن يكون ذلك بمقدورها في الإياب، إذ لم تكن تشعر أنه بوسعها أن ترفعني إلى كتفيها وبيدها جرة الحليب.
فبكيت. كانت الأم تستجيب في الغالب إلى التماساتي.
لكني هذه السنة كبرت كثيرًا. فرفضت وارينة أن تأخذني معها. فتعالت صراخاتي وازداد ضجيجي، حتى وجدت واحدة من بنات عمي رضيت أن تحملني على ظهرها طوال طريق العودة التي كانت تستغرق خمسة أو ستة كيلومترات.
كنا نسير بصعوبة في طريق متعرج صعودا إلى أعلى الجبل، حيث تحلب النسوة الغنم، والكل في هرج من الثرثرة والكركرات والأقاصيص، ولا يخلو كل هذا من المشاحنات أحيانًا، وأنا لا أفقه من ذلك شيئا.
لدى العودة إلى دار، رأيت أمي تصنع الجبن. لقد تعلمت ذلك من كترو.
كانت تصنع من الجبن، عدة عشرات من الكيلوات، تجمعه في الجرار، تحتفظ بجزء وتطمر المتبقي في الأرض ليكون محفوظا في الشتاء.
فكان الجبن، غذاءً أساسيًا، في كل الأكلات طوال السنة. وكانت أمي تجيدها أيما إجادة.
وبعد إنجاز هذه العملية، كان يتوفر لنا طعام طازج لذيذ. كان أبي وأخي يستذوقانه جدا، ويستغرقان في تناوله بشهية كبرى.
في نهاية الربيع كنا نطلب من امرأة متخصصة، أن تصلح الجبن بالثوم الأخضر وما ينبغي من مطيبات، قبل أن ندفن الجرار في التربة.
فكانت تلك مناسبة احتفال تجمع أعضاء العائلة حول الجبن ملك المائدة في كل أسرة.
وكنا نستهلك أيضا الكثير من لبن البيت.
كانت الأم تغلي الحليب، في قدور عملاقة، لبرهة من الوقت، ثم تضيف شيئا من اللبن، وتغطيه حتى صباح اليوم التالي، وعندئذ ليس لنا سوى أن نملأ منه الأواني.
أما بخصوص تصنيع الزبد، فكانت وارينة تضيف إلى اللبن مقدارًا محددًا من الماء، وتسكب الخليط كله في "المشكا" وهو وعاء  من جلد الماعز، مصنـّع لعملية تحريك مكوكي لنصف ساعة، حيث كان الزبد يطفو على السطح شيئًا فشيئًا يتم استخراجه في كميات صغيرة.
هذه العمليات المطبخية،  واهتمامات الوالد الزراعية، كلها كانت تبهرني وتوقعني في أيما حيرة.
 

43
الكردينال الجديد مار لويس، والمرحلة الكنسية التاريخية الراهنة

بقلم الأب نويل فرمان السناطي

ليسمح لي النزهاء من الأعزاء القراء والكتاب الزملاء، ان اكتب عن موضوع التكريم الكردينالي هذا. وهذه الكتابة، ليست بالتأكيد، للبهرجة أمام خبر أصبح أصلا شبه قديم، ونحن على ابواب الاحتفال به يوم الخميس القادم، 28 حزيران في روما. فهي بالأحرى كتابة للبحث في ملامح هذا التكريم وما يحيط به..

وفيما لم يحصل ذلك مع بطاركة آخرين، فإن قداسة البابا، كما بلغني من مصادر مقرّبة من البطريركية الكلدانية، نسب أن يكون مار لويس، عميدا للكرادلة الجدد، ومن ثم سيلقي الكلمة بالايطالية باسمهم ضمن حفل منح القبعة الكردينالية.

وهكذا، إذ يلقي البطريرك الكردينال كلمته هذه، ، فإن العراق، سيتكلم، بمسيحيي كنيسته الكلدانية الأصلاء من خلال الدور البارز الذي يمارسونه، إلى جانب إخوتهم في الايمان والمواطنة، على تنوع المكونات الوطنية العريقة.

سيتكلم عن العراق بجروحه وبانتظاراته. كما سيتكلم، لا غرو، ضمن مرحلة جديدة ومتجددة من التشكيلة الكردينالية الحالية، في شأن الكنيسة الجامعة المعاصرة، بكل ما تحمله من جراحات وندوب، وإيمان ورجاء.

ولا بدّ أن مار لويس سيتكلم، بصفة كردينال فاعل، عن دور الكنيسة في عالم اليوم، ودور مجمع الأحبار ضمن الحقبة الكردينالية الجديدة، مع معاونتهم للبابا بشؤون متعددة ومتنوعة، تخص كنيسة اليوم.

ولما كان صاحب الغبطة والنيافة مار لويس، خلفا للكردينال مثلث الرحمة مار عمانوئيل الثالث دلي، الذي تم منحه رتبة الكردينال، عندما كان خارج السن القانوني للكردينال الفاعل، فإن مار لويس، هو بالتالي:

أول كردينال كلداني فاعل، في عصر مسيحيي كنيسة المشرق الكاثوليك، أي منتخب في السن القانوني بحق التصويت والانتخاب والترشيح،

ثاني كردينال في الكنيسة الكلدانية،

ثالث كردينال على مستوى احبار العراق مع الكردينال الراحل  مار جبرائيل تبوني وكان مقره في بيروت ولم يزر العراق.

وبحسب ما توفـّر من معلومات، يكون غبطته،

 ثاني كردينال  الى جانب صاحب الغبطة والنيافة مار بشارة  بطرس الراعي بطريرك الموارنة.

وبهذا الصدد، تجمعت معلومات أخرى، بأنه كان ثمة تساؤلات منها:

كيف لا يكون موقع البطريرك مرشحا تلقائيا للكردينالية؟ فكانت اجابة مار فرنسيس، وبإقرار واضح، بأن مرتبة البطريركية ترتقي اصلا على الكردينالية.

وعندما استجدّ، حينئذ، التساؤل لماذا إذن، لا يكون البطاركة بحكم كرسيهم، أعضاء في مجمع الكرادلة. هنا بحسب ناقلي التساؤلات، أطرق مار فرنسيس مذعنا مع النية بالتشاور بهذا الشأن.

ولكن تبين بعدئذ أن مسألة حضور البطاركة في اجتماعات الكرادلة، كان سيكون، في العصر الحديث، ولأسباب لم يفصح عنها، تحولا غير مسبوق. إذاك يـُستأنف تنسيب منح القبعة الكردينالية، ضمن السياق المعاصر، أي باختيارات شخصية، فجاء ذلك مع تنسيب مار لويس روفائيل ساكو إلى هذه المرتبة.

وفي هذا الصدد يذكر ان البطريرك الراحل مار موسى داود كان قد قبل بتجرّد وقداسة، أن يتنازل عن مسؤولياته البطريركية، ليخدم الكنيسة الجامعة كرئيس للمجلس الحبري للكنائس الشرقية. مما كان قد أثار، في حينه، التحفـّظ على المستوى الارثوذكسي. ومع أن هذا التحفـّظ وضع النقاط على الحروف، إلا أن أهميته تبقى نسبية كونه يصدر عن جهة لا وصاية لها على شقيقاتها الكنائس الشرقية الكاثوليكية، ويصدر ايضا عن جهة ليست مرتبطة أو معنية أصلا، من الناحية الرسمية بالمكانة البابوية ولا بالسياقات التراتبية الكاثوليكية.

ولا يتعلق هذا التحفّظ بالطبع، باللغط الألكتروني، الذي يعدّه الكثيرون بعيدا عن اللياقة والمسؤولية، خصوصا الذين كانوا، فيما تبين الآن من هشاشة موقف، كانوا يستندون إلى الكرسي الرسولي، في حيثيات مواقفهم المناوئة لمار لويس ساكو؛ أقول هذا مع الاحترام لضمير الأشخاص بما يتصرفون به من حرية تعبير، ومع الإقرار بأن كل إناء بما فيه ينضح.

وفي شأن متصل، يذكر ان الملكيين الكاثوليك، في زمن البطريرك الصائغ ،  رفضوا حصول بطريركهم على المرتبة الكردينالية، بسبب طبيعة مقارنتها مع الموقع البطريركي، ولكنهم في ذلك، إن صح هذا الموضوع،

يكونون قد خسروا دورا مؤثرا ضمن مجمع الكرادلة، وضمن رسم ملامح الفاتيكان والبابوية.

وكان سيبقى من حقهم امكانية استمرار التأكيد على الحصول على حق الكردينالية للبطريرك حقا مكتسبا.

ولا بد لي من الإقرار، بشأن توجسات سابقة، بقيت تعتمل في المرء، لحدّ اعتبار الكردينالية لمار ساكو، كمفاجأة سارة، لكنها بقيت مفاجأة، لمؤثرات عدة: تراتبية، إدارية ليتورجية. وفي مقدمة التوجسات، ما حسبته وراء تلك المؤثرات، أنه قد ينظر إلى هذا التعيين كمفاجأة طال انتظارها مع تراكم كل السنوات المنصرمة، بضمنها سنوات التحدّيات والمطالبات. لكن هذا التعيين جاء ليبين أن ما شهدنا من سنوات مخاض، في العلاقات مع الكرسي الرسولي، لم تعمل إلا في تثبيت مكان بطريرك الكلدان تجاه مختلف المواقف المحتدة على عدة صعد. وبما يعطي الزخم لأي مواقف مستقبلة، تبين ان ما يصدر من  الكرسي البطريركي، سيصدر بالصفتين الكاثوليكية والكلدانية، وبسلطة ثنائية، وشركة تامة مع الكرسي الرسولي.

وما دمنا في موضوع الرأي والرأي الآخر، ففي هذه الأجواء الديمقراطية، بما فيها الانفلاتات الالكترونية، يبقى الرؤساء ومنهم قداسة البابا فرنسيس، معرضين للانتقادات. ومن الطبيعي أن هذه الانتقادات تنبثق  من جهات وأشخاص طبقا لزواياهم ومعادنهم.

ويبقى ان هذا المنصب الجديد للبطريرك الكردينال، مار لويس ساكو، يُـعدّ مسؤولية مضافة على عاتقه، ضمن ما يجمعه من صفات ومؤهلات. مسؤوليات جديدة على المستويين البارزين: في الكنيسة الجامعة، كما أسلفنا. وفي المستوى المحلي في المنطقة، في عراق حضارات عريقة صار يمتهن اسمه الأصيل بوقائع مؤسفة على مستوى الفساد والانفلات الأمني، وهذا موضوع يمكنه أن يلهم للكتابة في مقالات لاحقة.

44
مع الغالبية الصامتة والعراقيين الاصلاء، هل ثمة بديل عن الانتخابات؟
[/size]

إزاء هذا المقال، كنت أمام خيارين ارسله مباشرة إلى موقع عنكاوا، وسائر المواقع، ليأخذ مكانه في المقالات الالكترونية على أنواعها، أم أضعه على المحك، ليخضع النشر في الموقع البطريركي، ومن ثم يأخذ موقعه ضمن ما ينشره الموقع، وبرغم ما يحتويه من مرارات ومصارحات انترنتيه، رأيت أن أرسله، مقلم الأظافر، ولا أخفي القارئ، مفاجأتي الفرحة، أنه مصحوبا بكل الارهاصات، اجتاز الحاجز ونشر. وها أني اعرضه بعد أن عملنا فيه ما يجدر عندئذ من تشذيب. مع تمنياتي بقراءة إيجابية موفقة.

الأب نويل فرمان السناطي
________________

لو لم يكن ثمة شبكات التواصل الاجتماعي، لحسب المرء المغترب أنه في واد وما يسمعه من  الاخبار عن  العراق في واد.
ولكن مما يتكشف أكثر فأكثر من مؤشرات، هو أن الإعداد للانتخابات، في هذه المرحلة، قد لا يكون مشهودا له من قبل، من حالة ابتذال، قياسا بالمراحل السابقة، التي ربما كان تدهورها، تدريجيا السبب في الوصول  إلى ما آل إليه الحال.
قد انسحب كل هذا على العديد من الحالات عند المكونات غير الغالبة، طائفيا، وكأن هذه هي التي فتحت الطريق، وهي التي رسخت التعليم الرديء على سلوكيات فاسدة ومظاهر غير ديمقراطية، والهيمنة على طريق التوارث السياسي الواضح،   ولكن استمرار استعدادها للبقاء بالجرأة عينها، دليل على استحواذها على الإمكانات والموارد، شاء الشعب المغلوب على أمره أم أبى.
ومما يحتاج إلى المزيد من التبصر، هو أنه إزاء ظهور محامين وأطباء وأدباء وأساتذة، يجابهونهم بهذا القدر من التجاهل والتقليل من الشأن وصولا الى ما حدث من حالات تسقيط، هو أيضا حالة مزرية كاشفة. وإن أبرز اشارة إلى ضحالتها هو توقيتها مع زمن الاستعداد للانتخابات. وهكذا فإن ثمة حالات منافسة، قد يكون الشعب مدعوا أكثر من أي وقت مضى، للتصويت لها بكل كثافة، من كل الديانات والقوميات والمذاهب. وقد يحسب الكثيرون أن الانتخابات هي موجهة لانتخاب لمن هو من الشريحة الطائفية او الخصوصية عينها، بينما، في سبيل التغيير، هناك حاجة لدعم كل من يتم التوسم فيه أنه الأصلح. انطلاقا، في سبيل التغيير، من عدم التعويل على المجرّب والجاثم على الصدور منذ عقد ونيف، يا للعيب.
كما يقتضي التبصر أيضا بشأن الالتفات إلى من لا ظهير له، في الدعاية الانتخابية بالاعتماد على السحت الحرام، او الثروة المتراكمة، بل ظهيره الوحيد هو رصيده الشخصي من علم وأخلاق وتاريخ، ضمن ما تشهده الساحة من وجوه جديدة متمثلة بكوادر وكفاءات وإمكانيات لضمان التغيير.
أما الاجابة عن السؤال إذا كان ثمة بديل عن الانتخابات؟ فقد تترشح على خطين يقومان للأسف على المدى البعيد وليس القريب:
–  حاجة الانضمام الى أصوات مبدئية قيمة في العالم المعاصر، تسعى للمطالبة بتغيير شمولي للعقلية في الاسرة الدولية من الداخل، بحيث لا يأتي الاقتصاد معتمدا على زرع زعماء فاسدين في البلدان المعتمدة على الدين، وبأن لا يتم التخطيط للاقتصاد باختراع الحروب وادامتها، لمجرد الإثراء على دماء الشعوب والابرياء. وهذا، كما يقول المحللون، لا يمكن ان يكون بمبادرة فردية، حتى لو كانت على مستوى رئيس، وإلا فسوف يرجموه، على حد قول أحد الخبراء الانثربولوجيين الفرنسيين،  بل على مستوى الانتشار في تغير العقلية من الداخل، وصولا إلى تزايد الكتل الضاغطة.
– هناك وضع مؤلم يتمثل اعتماد عدد كبير من رجال الدين المتشددين ، وعدم وجود آلية مبدئية، قانونية تسائل ذوي المنابر الفيديوية التي تضحك أمام الملأ على جمهور صامت...
وعليه فإن رد الفعل تجاه هذه الحالة، من لدن مناصري المجتمع المدني، من الذين فقدوا الايمان بسبب هذه الحالة، أو سواهم… إلى جانب المؤمنين المتنورين، في مختلف الديانات، كل هذه العناصر لا ينتظر منها ثورة باستيل، على المدى القريب.
وبعد، هل ثمة في الوقت الحاضر، حالة من إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ سؤال جدير بالتوقف:
هناك أمل  في  وصول النزهاء والاصلح، التكنوقراط، الكوادر الكفاءات وسائر الامكانيات، قد تبرز عندئذ غالبية، تسعى إلى تحجيم دور الطائفيين المتعصبين ، غالبية تصون كرامة النزهاء من رجال الدين أيضا، وتحول دون صعود  اشخاص وصوليين  يقودون  البلاد من سيء إلى أسوأ..
أخيرًا لعل التصويت بكثافة للاصلح، هو السبيل إلى إنقاذ ما يمكن انقاذه، في قيام جيش محترم، بسلطة مطلقة لسيادة القانون، هذا ما ينظر إليه المرء في المدى القريب، ولعله السبيل إلى تداول سلمي للسلطة من أيدي  الطائفيين  والمحاصصة إلى أيدي  وطنية منفتحة ومخلصة.

45
الاخ الفاضل الاستاذ بطرس آدم المحترم
أود أن أشكرك  جزيل الشكر على تعليقك المستفيض المحب. وكان طرحك فيه موضوع تأمل وتفكير معمق، في اليومين المنصرمين. كما أسعدني ان أجد في حضرتك وحضرة د. رابي، رائدين من رواد هذا الموقع وهو الواحد من بضع عشرات المواقع الاكثر انتشارا في العالم، تشجعان نهجا بقي الموقع مفتوحا له، وهو مخاطبة قارئ اليوم بالسعي لتقديم بشرى الخلاص التي شكلت انعطافا في التاريخ البشري, وذلك ضمن واجهة علمانية (في موقع ليس لسان حال جهة دينية) وفي خطاب معاصر. ازاء عدد ممن يفيدون من المنبر عينه لبث افكار مناوئة للبشرى اياها، عندما بقي الخطاب عنها مقولبا وتقليديا.
أذعن ان ثمة توجهات تسعى لتقديم معطيات انجيلية في منظور رمزي يدخلونه ضمن جنس ادبي ابن زمانه، مما له اساسه، ولكنه قد يوحي بالتقليل من شأن ما حدث من تحولات عجائبية في زمن الرب، توبة بطرس، وبعد صعوده: اهتداء شاول بولس، وكأنها تحصيل حاصل، بدون الانبهار بما جرى من تحول ايماني، انساني جذري لديهما وما حققاه  في حياتهما، الى جانب ما اجترحه يسوع المسيح من معجزات للمؤمنين به.
فأرى من المنطلق إياه ان ننظر الى ما يحدث في زمننا من معجزات مبعثها الايمان وباسم يسوع عينه، سواء في تطويب القديسين، مما تتطلبه الكنيسة في اعلان قداستهم، من معجزات يذعن العلم ان لا تفسير له بشأنها، ولكن ايضا ما يمكن ان تراه، مثلا،، في مزار سان جوزيف في مونتريال من مجاميع عكازات لمعوقين شفي عوقهم بإيمانهم بالشفاء، باسم يسوع اياه. على ان ما ذكرته لي متطوعة في لورد، هو دهشتها من معجزات اهتداء أناس جاؤوا المزار غير مؤمنين، وتركوه على غير ما كانوا، وكذا ما نجده من اهتداءات في المسيحية واليها.
مع اعتزازي الدائم.

46

الاخ الفاضل د. عبد الله رابي المحترم
اود ان اشكرك من الصميم على هذا التعليق الذي تفضلت بالادلاء به على المقال، واقدر تواضعك الجم في أنك لم تشر الى الاستشهاد بكتابك. والحال هذا ما كنت عاهدت نفسي به، بعد تقديم كتابك، ان اكتب في مواضيع وجدانية قد تجمع شعبنا النهريني اكثر من التنظيرات القومية، ما دامت التسمية تفرق، والخصوصية القومية تفرق، وعلى مهب الريح من الاجندات السياسية والتباينات المذهبية، فوددت ان اكتب في الشأن التنويري الروحاني، بعد ان سال الكثير من الحبر الالكتروني، على امور لم تقدم ولم تؤخر بل تخدم بنحو مباشر او غير مباشر هذه الاجنده أو تلك.
وعودة الى تعليقك البناء، فهو بحد ذاته مقال ومادة وموضوع، وكم كنت اتمنى ان كتاب شعبنا الاخصائيين يبادروا الى ان يحتلوا مساحة باتت أحيانا حكرا على الملحدين واللادينين، مع الاحترام لما يتخذه هؤلاء ضميريا من فكر ورأي.
وأتمنى ان يصار الى الكتابة في الشؤون النفسية والاجتماعية والانثروبولجية، الى جانب غير ذلك من شؤون تخدم رقي شعبنا، وما يعانيه مجتمعنا من امراض الاغتراب والهجرة وما يسحلونه معهم من تركات قبلية وتأثرات تعصبية بالمجتمعات الغالبة في ارض الوطن.
مع تقديري واحترامي لحضرتك وللقراء الكرام.


47
       آفاق وجدانية:
                     العطش الروحي والايمان المسيحي

الأب نويل فرمان السناطي
-----------------

مقدمة خارجة عن النص
----------------------
في أحد أبوابها (أوتار الانجيل)، نشرت لي، مؤخرا، مجلة الافق (اوپقا) الغرّاء، مقالا بعنوان: العطش المسيحاني. وقد رأيت ان أنشر على ضوئه هذا المقال في موقع عنكاوا الأغرّ لما قد يكون فيه من تعميم للفائدة، وهنا أضفت هوامش عن الشخصيات الايمانية التاريخية المذكورة في المقال، والتي من المرتقب ان تشير إليها المجلة في عدد لاحق، في باب التعليقات على المقالات. ومجلة (أوپقا) مجلة فصلية إيمانية ثقافية اجتماعية تصدرها بطريركية الكنيسة الشرقية القديمة في العراق.
إنها محاولة متواضعة أن اكتب في موقع عنكاوا في هذا المضمار الروحي المسيحاني، خصوصا اني لدى عرضي لكتاب د. عبد الله رابي - الرابط أدناه (*) استخلصت من الكتاب أن شعبنا النهريني الذي مزقته التسميات وأثرت عليه اجندات سياسية متضاربة، وتوجهات مذهبية متباينة، فرأيت أن مما قد يجمعه من عناصر متنوعة، اضافة الى العمل المشترك في المجالات الاجتماعية الثقافية والاقتصادية، قد تكون ايضا التطلعات الوجدانية المشتركة الضاربة جذورها في زمن اعتناقه بشرى الانجيل مع فجر المسيحية. فيتسامى شعبنا، بمجمل هذه العناصر المشتركة، على الاجندات السياسية، وينظر بواقعية وانفتاح الى التباينات في تفصيلات مذهبية وعقائدية. وبهذا يبتعد المقال عن دوريات الانضباط في منتديات الموقع، الذين تخالهم كما في العهود الشمولية، يستوقفون الناس/ الكتاب في تدقيقهم المتشابك: (هويتك أخي) وكل منهم يبت من جانبه، عن هوية من هي الحقيقية وهوية من هي المزورة...
وعودة إلى المقال المنشور في مجلة أوپقا يسرني أن أرى في هذه المجلة العزيزة، كواحدة من المجلات الرائدة في المضمار الوحدوي، إذ تقبلت نشر هذا الموضوع مع استشهاداتي بشخصيات روحانية في الكنيسة الجامعة، ربما ليست دائما مطروقة في أوساط هذه المجلة التنويرية الانفتاحية، وشرحتها في الهامش.
وقتا طيبا ارجوه للقارئ الكريم مع هذه الارهاصات الروحية التي قد تشدنا لبعضنا اكثر بكثير مما يسبب فرقتنا.

نص المقال
"إن عطش أحد فليقبل إليّ، ومن آمن بي فليشرب"  (يسوع المسيح)
--------------------------------------------
ضمن سلسلة متواصلة من الأحاديث، يعرض القديس يوحنا الحبيب في انجيله ما قام به يسوع خلال أيام عيد اليهود، وما صار بينه وبين الفريسيين من مواجهة كبيرة للعداء الذي أخذوا يناصبونه. عندما انفرز صفان: صف يسوع الذي جاء ليعلن نفسه مع الشعب ومع الناس العاديين، وصف رؤساء الكهنة والفريسيين، الذين كانوا يتهيأون أكثر فأكثر للانقضاض عليه. في أجواء المواجهة هذه، كشف يسوع بوضوح أوراقه كمخلص منتظر لهذا العالم.

مصدر ماء الحياة ونور العالم
-------------------
فبحركة جماهيرية، أخذ ينادي ويقول: إن عطش أحد فليقبل إليّ، ومن آمن بي فليشرب (يو 7: 37) ويضيف فيما بعد:  أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ (يو 8: 12).  إنه يوفر الماء للعطشان، ويسبغ بنوره على كل العالم.
والحال، مع ارتواء العطش ومع النور، تتكلل مسيرة المسيح في كل حياته. لقد كان الجواب الشافي لكل القلقين والضعفاء والخطأة، من العطاشى الحقيقيين إلى الحياة الحقة. هذا كان سبيله في سنوات بشارته، بدأها بتحويل الماء إلى الخمر، كرمز إلى العشاء الافخارستي وفرح العرس السماوي، وكاستجابة لما يسعد الانسان. وكان للماء هذا العنصر الهام، رمزية كبيرة في انجيل يوحنا، إنه يتحدث عن الماء مع السامرية، فإذا بها تكتشف عنده ماء الحياة، الذي لا يعطش من يشرب منه من بعد.

انتظارت عطشى
----------
وتبقى مسيرة يسوع مفعمة بهاجس إرواء الناس من العطش إلى الماء الحي، إلى الحقيقة، إلى الشفاء، إلى التحرر من الذنب ومن الخطايا. فيكون هو عندئذ الماء الحقيقي الذي يعالج انواع اخرى من العطش:
العطش إلى جمع المال، فيخلـّص منه الكثيرين من أمثال زكا العشار ومتى الانجيلي، من عطش كان يجعلهما يلهثان وراء المزيد من الماء بدون ارتواء. وإذا بهم يرتوون لديه ارتواء ما بعده ارتواء.
يخلص الخاطئة، التي كانت تحسب أن عطش سعادتها في شبق الخطيئة، فتجد عنده السعادة الحقة، سعادة الغفران والمحبة.
ضمن كل سنواته العلنية، وجدنا يسوع يعالج العطش إلى السعادة لكل بسطاء الناس، العطش إلى سد ما يعوزهم، ليكملوا مسيرتهم في هذه الحياة. استجاب إلى لهفة المقعد، وحسرة الابرص، وشوق الاعمى إلى النور وحنين الارملة إلى ابنها الوحيد الذي فقدته.
وبقي يسوع في كل المعجزات التي يقوم بها يرمز إلى مضامين تلك المعجزات، فيؤكد على أن الشفاء من الخطيئة ليس أقل أهمية من القيام والسير، بموجب ما قاله للمقعد الذي غفر له وقال له أن ينهض.

شرط الارتواء المسيحاني
----------------
على أن يسوع أكد أكثر من مرة، أن الطريق إلى ارواء العطش إلى الماء الحقيقي، له سر ومفتاح: إنه الايمان، فكان دائما يمتدح من يطلب منه بإيمان، فيقول له: إيمانك خلصك. وزاد الانجيلي مرقس (6: 1-6) فقال عن يسوع في موطنه الناصرة إلى الذين لم يؤمنوا به:  ولَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات، سِوى أَنَّه وَضَعَ يَديَهِ على بَعضِ المَرْضى فَشَفاهم" : عبارة "لَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات" هي من أكثر عبارات الانجيل جرأة وتُظهر بوضوح ان معجزات يسوع لم تكن أعمالاً سحرية، بل هي أعمالٌ مرتبطة ارتباطاً حيوياً بإيمان الشعب. ان عدم الايمان منع يسوع من ان يجري معجزة. فهناك علاقة بين الايمان والمعجزة ( مرقس 2: 5) . فالله تعالى في سلطانه لا يُجري معجزة اذا ما كان الانسان رافضا وعقوقا حتى النهاية، بما وصفه يسوع بخطيئة ضد الروح القدس. لترتبط المعجزة من ثم بالإيمان الذي هو جواب الانسان على مبادرة الله المجانية. وعليه أصبح إجراء المعجزات مستحيلا بسبب قلة أيمان أهل الناصرة، وليس عن قلة مقدرة يسوع، لأنه من خلال ايمان المرء الحر الواعي، تتحقق المعجزة الربانية القائمة ايضا على احترام حرية الانسان.

عطشك وعطش الاخر
--------------
ويتحدث يسوع عن دور الانسان، في إرواء أخيه الإنسان، في التفاتة المحبة نحوه بكاس ماء بارد. ويضع العطش وارواء العطش، ضمن تطويباته: كنت جائعا فأطعمتوني، كنت عطشان فسقيتموني. فبقي يقرن ما يفعله للأخرين، بما ينبغي لهم، أن يعملوه لغيرهم. ليؤكد في هذا النهج أن هناك سعادة أكثر في العطاء اكثر من الأخذ، وأن النعمة التي يتلقاها كل منا من الرب، يجدر بنا أن نشارك الناس بها، فكما سقانا هو من ماء المعرفة والنعمة والسعادة، يجدر بنا، وكشرط لأن نكون مقبولين في السماء، أن نسقى العطشان الذي يجعله الرب في طريقنا.
وهكذا بقي يسوع يؤكد على حالة متفردة من الارتواء تكمن في ضرورة العطاء إلى الاخر، حتى اعتبر يسوع الاخر مكانه: "كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه" إلى درجة أن أقوى عبارة اطلقها بصوت عال من على الصليب كانت: "أنا عطشان" وبها استنهض الاستجابة لعطش الاخرين لتغدو بمثابة الاستجابة لعطشه على الصليب. جاء هذا بحسب تشبيه ساقته لي الام تريزا في بغداد، عندما، في نهاية نهار صيف (حزيران 1991) رافقتها خلاله في زياراتها الرسمية، فأخذتني إلى معبد الصلاة الخاص بهم، ومثله في كل بيوتاتها، إذ وضعوا تحت الصليب، عبارة "أنا عطشان". إنه الشعار الذي وضعته القديسة المؤسسة لمرسلات المحبة، في المعبد الصغير لبيوتهم واديرتهم، لتصبح حياتهم مع المعاقين والمنبوذين من أحبة الرب، بمثابة الاستجابة لعطش ذلك الذي اخلى ذاته من أجل الآخرين.

ومضات في الارتواء من العطش المسيحاني
----------------------------
كبار الناس في الحياة المسيحية هم كبار العطاشى الذين لم يرتووا إلا بالكلمة الربانية المحيية. وكبار الناس في المسيحية هم الذي وضعوا امام اعينهم ان يسقوا العطاش. وجاءت منهم ومضات طبعت حياتهم المعجونة بين العطش والارتواء:
اليك يرنو قلبنا يا الله ولن يستريح الا بك، عبارة قالها مار أوغسطينوس (1) عندما اكتشف الحقيقة في المسيح.
"الله يحتاج الينا" نداء رمزي أطلقه منصور ابو الفقراء (2) في اشارة إلى اننا نحن الذين ينبغي ان نكون يد الله امام الاخوة المحتاجين الينا.
"ما اطيبك يا الله، حتى انك قصبة مرضوضة لا تكسر وفتيلا مدخنا لا يطفئ." قالها المهتدي الكبير شارل (3)، نقلا عن سفر اشعيا (42: 3) وهو يتملى في الصحراء الجزائرية مترامية الأطراف، إذ وجد كلام الحياة، بعد كل ضلالته، ووجد السعادة الحقيقية. فكانت صرخته عندما استنار بالايمان بوجود الله: حالما لمست وجوده، وجدت أني لن استطيع ان اعيش لأحد سواه.
ويبقى العطش المسيحاني دعوة للتفكير في العطش الحقيقي، والسبيل إلى ارواء.

___________________________
(*) رابط المقال عن كتاب د. رابي، بعنوان (استخلاصات من كتاب د. عبد الله رابي: قوميات بشعور محبب، وواقع التسويق الستراتيجي):
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=860397.0

هوامش عن الاسماء المذكورة في المقال:
__________________________
(1) القديس اوغسطينوس الكبير (354-430) ابن القديسة مونيكا، الذي عاش في افريقيا الشمالية تونس، وكان فيلسوفا وثنيا، اهتدى الى المسيحية من خلال البحث عن الحكمة القصوى، في بشارة الرب. وكنت اشتركت في اعداد سيرة حياته مع الاب منصور المخلصي، بعنوان: اوغسطينوس الافريقي. وتلك جملة معروفة عنه عالميا، في الأدبيات المسيحية عموما، وهي تعكس البحث الانساني الوجداني، والارتياح الى اقصاه باكتشاف الله.
(2) منصور ابو الفقراء، هو القديس منصور دي پول (1581-1660) المنتشرة جمعياته الخيرية، في لبنان، العراق وبقع كثيرة من العالم.
(3) شارل المهتدي الكبير، هو الطوباوي شارل دي فوكو (1858-1916) الذي عاش العقود الاخيرة من حياته واستشهد في الصحراء الجزائرية، وعلى نهج خطاه تأسست رهبانيتا إخوة و أخوات يسوع الصغيرات. وتلك كانت كلماته عند اهتدائه إلى الايمان، إذ كان غير مؤمن في الجزائر وبعد الاهتداء وتكريس نفسه للرب.الذي كنتُ اعددت سيرة حياته المصورة، وهي متوفرة على ما اعتقد وربما مع الكتاب أعلاه، في مكتبة الناصرة بإدارة الاخت زاهدة الدومنيكية.

48
شكرا الأخ د. عبد الله رابي، لردّك الجميل، وأسعدني أني وجدت فيه صدى لما كتبتُ وما رأيت فيه من خلاصة لمحفزات إصدار الكتاب.
وأعتقد أن المقال مع صدور الكتاب يبين كيف أننا نعيش ونكتب في وسط وفي جانب منه، قلما يميّز بين الغث السمين، مما ينشر ومما يصدر. وأن هذا الجانب قد يطغي بجعجعته على الآخرين، مما يلفضونه على الانترنيت من تعليقات هدّامة وتصيد في الماء العكر، لحساب انجدات محددة، ويبقى أن النخبة هي التي تقود المجتمع، ويسرني أن أتوسم في حضرتك أن تكون من بينهم، ومثلك مثل نخبة في مختلف الخصوصيات الاخرى لشعبنا النهريني من الكلداني والاشوريين والسريان وانتماءاتهم المذهبية، مع تحياتي الطيبة.
أ. نويل فرمان


49
استخلاصات من كتاب د. عبد الله رابي

                    قوميات بشعور محبب، وواقع التسويق الستراتيجي


الأب نويل فرمان السناطي
________________

"لو كنت قرأت الكتاب من قبل..." عبارة لا استطيع قولها الآن! لأن الكتاب صدر مؤخرا في 2016 وهو: الكلدان والاشوريون والسريان المعاصرون وصراع التسمية - تحليل سوسيولوجي- من تأليف الدكتور عبد الله مرقس رابي. وما كانت لي معرفة شخصية بالرجل، سوى من خلال مقالاته الرصينة في أكثر من موقع، وتوازن مناقشاته مع مختلف الفرقاء. ومن المفارقة أني مؤخرا تلقيت الكتاب كهدية من ناشره في استراليا 2017 الناشط الكداني في الرابطة الشماس عوديشو المنـّو.
وإقراري المقرون بـ لو... يعود إلى إني لو قرأته من قبل، لما كنت صرفت كل ما صرفت من وقت، وبالاتجاه الذي صرفته، في الكتابات عن الخصوصية الاثنية لشعبنا النهريني. وأقرّ أننا إذ كنا نسمع طروحات الأب (المطران) د. يوسف توما، بشأن الانتماء الديني والهوية القومية في هذا المحفل أو ذاك، كنا أمام أرضية  غير مستعدة تماما لقبول تنظيره الشمولي في مسافة مستقلة من الشؤون الخصوصية الاثنية، وتظهر الأيام الجانب الواقعي لتلك الأفكار.
على أننا نبقى بحاجة إلى منظرين أكاديميين، ومن العلمانيين، فقد يتقبل الناس آراءهم اكثر مما قد يحسبونه تضارب مصالح لدى المتحدثين عن الشأن عينه من الأكليروس. فتأتي أفكار د. رابي بعقلانية وواقعية يحتاجها المعاصرون من أبناء بين النهرين، لا بل نفتقد إلى أكثر من واحد مثله، إلى فريق يضمّه مع منظرين علميين حياديين منتمين للكنائس الرسولية العريقة مثل كنيسة أنطاكيا وكنيسة المشرق والكنيسة الشرقية القديمة.
مع تصفح الكتاب منذ مطلعه، يتبين أن الهدف المقصود منه، هو ان يكون القارئ "عونا في تحقيق السلام (فالنهرينيون- الرافدينيون، في الكتاب، في حلبة صراع) وينشد المحبة والاحترام المتبادل بين كل من يعتز بجماعته الاثنية"، في اشارة ضمنية الى ان الناس في مرحلة تسقيط وفرض الالغاء والانصهار لهذه المصلحة الستراتيجية او تلك.
وثمة ملاحظة أود تسجيلها لتواضع المؤلف، فبينما يصل نتاجه إلى مستوى الموسوعية والشمولية في التوصيف الاكاديمي للخصوصية القومية والاثنية، من منظور علم الاجتماع، مدعوما بالادلة والمراجع والبراهين، فإنه وفي سعيه لمعالجة شؤون الساعة، وجدت، في رأيي الشخصي، أنه من باب التنازل عنون كتابه عن "صراع التسمية" فيما يخص "الكلدان والاشوريين والسريان" فيما كان يمكن أن يكون صراع التسمية عنوانا فرعيا لاسم الكتاب وهو يتناول النظرة السوسيولوجية إلى الشأن الاثني القومي، وبما يجعله كتابا يندرج ضمن مواد الدراسة الجامعية في الاختصاصات ذات الصلة. أورت هذا المقترح لاعتقادي أن الكتاب يمكنه أن يكسب المزيد من القراء لو وجدوا في عنوانه عرضا شموليا عن الشأن القومي لباحث أكاديمي في علم الاجتماع، ويمكنه أن يكسب قراء آخرين، ممن ربما انصرفوا عن قراءته حالما حسبوه يقتصر على صراع التسمية.
وما دام الصراع عنوانا للكتاب، فأود الانحناء بعرفان وتقييم للنهرينيين من الكلدان والاشوريين والسريان، بأن هذا الصراع بقي صراعا راقيا متحضرا، يدل على جذور الشهادة بالحياة والدم لأبنائه الذين اعتنقوا رسالة المسيح منذ نحو ألفي عام، فما أكلوا بعضهم بعضا، وما اشتمل صراعهم عبر التاريخ على معارك دموية (باستثناء حالات نادرة جدا مثل اغتيال مار يوحنا سولاقا شهيد الاتحاد، كما وصفه المطران السناطي الراحل مار روفائيل ربان) فبقي الصراع عبر التاريخ سلميا إلى حدّ كبير، بعيدا عن المآسي التي حدثت في المناطق محدثة النعمة في الايمان المسيحي، مثل أفريقيا وايرلندا وما شابه، ولا تقارن، لا سامح الله بالحروب الاهلية بين طوائف المذهب الواحد والبلد الواحد والعشيرة الواحدة من خارج المسيحية.
أما الكتاب فقد اشتملت فصوله البحثية على 306 صفحة، عقبها ملحق و192 هامشا مفترشة 44 صفحة فيها اشارة الى عشرات المراجع ، لعلها في طبعة قادمة، ولا بد أنها قادمة، تصلح ان يفرد فيها باب مختصر مستقل للمراجع، الى جانب الاشارة الى تلك المراجع في الهوامش. وللاحاطة بالجانب الموسوعي للكتاب، نشير الى أنه خصص فصولا للاطار المفاهيمي عن القومية والاثنية والعرق والامة والشعب والهوية.
ثم تناول في فصل "التطور الحضاري في بلاد النهرين" مسحا لحضارات هذه البلاد: الفراتيين الاوائل، السومريين الاكديين، الكتويين، والحضارة السومرية الثانية وحضارة الاموريين،  والحثيين والكشيين، الحوريين، وصولا الى الحضارة الاشورية، الكلدانية الآرامية، وحضارة الفرس الأخمينيين، والسلوقية والفرثية والساسانية، وصولا الى العرب مع دخول الاسلام، ثم المغول والتتار والصفويين والعثمانيين.
وفي فصل لاحق تناول د. رابي "حصيلة التنوع الحضاري في بلاد النهرين" في موضوعات مثل: مفهوم الحضارة، الانتشار الحضاري والتغير الاجتماعي، العوامل المؤدية الى التغير الحضاري، كالحروب، الابداعات الفكرية، قوة الارتباط بين افراد االمجتمع، والهجرة والتجارة. وتناول هذه الحصيلة في مجال اللغة من خلال نتائج التلاقح الحضاري، وكيفية حدوث عملية الاقتباس الحضاري.
هذه الفصول الثلاثة الاولى وقد شكلت نصف الكتاب، كانت المدخل لفصول ثلاثة أخرى متعلقة بجزء من عنوان الكتاب في "صراع التسمية" بدأها بأسبابه: ما يكتبه الكتـّاب من كتابات متأثرة بالايديولوجيات السياسية، او تلك التي تفتقد الى الموضوعية والمنهجية، والأخرى التشويهية من غير الاختصاصيين. وبأسلوب متفرّد تناول المؤلف كتابات رجال الدين وتصريحاتهم، كما تناول "موضوع الاعتماد على كتابات المستشرقين". وكذلك اعتمد جملة مبادئ تعرّف اسباب الصراع مثل: الرجوع الى التاريخ والاشتقاقات اللغوية، كيفية تدوين التاريخ، استخدام المنطق القديم في التحليل، ولم تفته الاشارة الى الانشقاق الكنسي، أعقبها بالايديولوجيات السياسية، كما عرض جملة مبادئ تشرح الصراع مثل:
اللغة وعلاقتها بالتسمية، تداخل المفاهيم المرتبطة بالقومية، كما تناول عنصر الاعلام وكذلك الترسبات التاريخية السابقة للحكومات مقارنة بالامية الحضارية، وخلص في باب الاسباب الى تفاوت الوعي القومي بين الاثنيات الثلاث، والى التعصب والحقيقة.
وفي فصل آخر عالج المؤلف بحنكة بادية تداعيات صراع التسمية، من خلال زوايا عدة مثل:
تعاطي الحكومات مع الاثنيات، تشتت العمل السياسي، مرورا بزوايا كاشفة منها: فقدان الثقة بالاحزاب، الاحباط في نيل حقوق الاثنيات الثلاثة، التأثير في العلاقة بين رجال الدين والعلمانيين، التأثير في موضع الوحدة الكنسية بين الكنائس المشرقية، وما اعتورذلك من إحباط في (تسمية اللغة) الى الهوس في "الجدال الفكري العقيم" والتهميش، وأخيرا الاضطهادات المتكررة والهجرة.
ويستخلص الكاتب الحلول التي أراها تصلح اكاديميا لتنطبق على مختلف الاشكالات السوسيولوجية ذات الصلة، وليس في مجال صراع التسمية حصرا بين الاثنيات الشقيقة: الكلدان والاشوريين والسريان، وذلك بطرح محاور لمعالجة سوسيولوجية توفيقية، فعرض المحكات العرقية، الجغرافية، اللغوية، الدينية، الاجتماعية. كما عرض لما قد يشكل شرايين القومية من: الشعور بالانتماء الاثني، دافع الانتماء، وكيف يتكون دافع الانتماء هذا إلى الجماعة الاثنية، مختتما الكتاب بكيفية حدوث التنشئة الاجتماعية عند الفرد لتنمي دافع الانتماء. وفي معرض بحثه، اجاد المؤلف في المقارنة بين هذه الشعور القومي في بلداننا، والشعور القومي في البلدان الكبرى الحديثة والمعاصرة، وما تجاوزته وارتقت فيه هذه البلدان (مثل كندا من خلال العيش في الرقعة الجغرافية) على عوامل الدين والخصوصية الاثنية، مع حصة معتبرة جدا ولكن غير مطلقة على المدى القريب، ألا وهي عامل اللغة الرسمية للبلاد.
ولعل الكتاب قد يلفت الانتباه ايضا لدى الكثير من المعنيين، لما أفرده من الصفحات الاثنتي عشر في الملحق، عن المناطق البابلية والكلدانية التي شملها الترحيل الجماعي وإلى اين استقرت.
وقد تخلع على المؤلف، صفة ربما لم يقصدها او يتوخاها، وهي روح الفكاهة الذكية التلقائية بتندر من باب شرّ البلية ما يضحك، عندما أفرد في الكتاب قسما رابعا في الفصل عن صراع التسميات، تحت عنوان: كتابات رجال الدين وتصريحاتهم. كتابات وتصريحات قد تغيب عن البال، عندما تلاحظ متفرقة هنا وهناك في هذا المؤلف او ذاك، قديم او حديث، ولكن أن تجمع كلها في 22 صفحة من القطع المتوسط بالبونت الطباعي 14، فإنها قد تصلح لوصلة ترفيهية من فن المونودراما (مسرحية الشخص الواحد) ليعرض فيها، مجتمعة، كل تلك التسميات والتعريفات، بما تحمله من تناقضات وتباينات تستدرّ النحيب. مفارقات لعلها ابنة بيئتها الاجتماعية والكنسية، في اوقات تفاوت فيها التسامح، وتركزت فيها بطريقة أو أخرى، الإدانة والتحذير من المذهب الآخر؛ كما أن كل رجل دين مهما كان شمولي الحديث كان يتوجه به بنحو مخصص الى رعاياه، عندما كانت لرجال الدين ولمرحلة قريبة خلت، الكلمة الفصل في شؤون الدين والدنيا. وأطمح أني في هذا الطرح بحدّ ذاته عن تصريحات رجال الدين، ارغـّب سادتي القرّاء نحو فضول الاطلاع على الكتاب.
وفضيلة هذا القسم، في زمننا، هي أن الناس يمكنها ان تراجع الذات فيما يتصل بتصريحات رجل الدين، من غير الاختصاصيين، في الشأن الاثني أو أي شأن آخر غير متخصص فيه؛ ولكن حاشا أن يتمّ الغاء دوره، في تثبيت الخصوصية الثقافية عن التسمية الاصلية لكنيسته؛ علما بأن الكنائس الرسولية، كاثوليكية أوغير كاثوليكية، تنطلق في انفتاحها الانجيلي إلى الشعوب، بدون التخلي عن الجذور الاثنية أو الجغرافية التسموية التي انطلقت منها: كنيسة انطاكيا، الكنيسة الكلدانية، كنيسة اورشليم، كنيسة المشرق، الكنيسة الشرقية وكنيسة روما، وبدون ان تصهر في بوتقتها المنتمين إليها من مختلف الثقافات واللغات؛ وهذا ايضا لا يعني قبول هذا التخلي عن التسمية الاثنية التي وجدت معها، لحساب اجنده سياسية. ولعل هذه هي أساسا الحدود الفاصلة، بين الخصوصية الدينية لكنائسنا وبين اسمها الجغرافي أو الاثني المرتبط بجذورها.
وفي بالي العديد من الناشطين المتوازنين في الشأن القومي لشعب كنيستهم، مثلهم مثل الدكتور رابي، في الكنيسة الكلدانية، كما في كنيسة المشرق والكنيسة الشرقية إلى جانب كنيسة انطاكيا، وليس من الصعب عليهم أن يلتئموا مقابل من يلتئمون من الحاقدين والهدّامين والمتصيـّد، بافتضاح كالثعلب، في الماء العكر.
وإذا تساءل القارئ ما الذي جعلني أتأسف أني لم أطلع على مثل هذا الكتاب من عقود، أود الاشارة إلى نفائس توضيحية وردت فيه، الخصها بالآتي: الصراعات حول الهوية ابتدعها السياسيون، وبالاخص في البلدان النامية... لتكتسب "ظاهرة التعددية أهمية خاصة ووعيا متزايدا لأنها تعد عاملا مهما لنشوء الصراعات السياسية... أدت إلى نشوء حروب طويلة الأمد... ترسّخت على إثرها الصراعات الفكرية حول التسمية الأصح للشعب الرافديني التاريخي... مع... التنظير والتأكيد على الأصالة وإلغاء التسميات الأخرى.
ولعل الفقرة التي تعدّ في الكتاب مفتاح الإجابة لما يتعلق بالشعب الرافديني بكلدانه وآشورييه وسريانه، هي التي أوردها لي ناشر الكتاب في استراليا، الناشط الكلداني عوديشو المنو في مقابلة سابقة معه وهي: بسبب تلاقح الحضارات اجتماعيا وبايلوجيا وفقا لنظرية الانتشار والاقتباس الحضاري ، تلك الحضارات التي نشأت على ارض بلاد النهرين او تلك التي غزتها على حقبات مختلفة حيث استقرت بعضها مئات السنين واخرى الاف السنين ومن مختلف الجهات وقد تفاعلت مع بعضها وتداخلت... ولا يمكن ان نغير قناعة الواحد تجاه الاخر طالما قد تأثر بتنشأته الاجتماعية الاسرية منذ الطفولة في المسألة الانتمائية الاثنية او القومية... لأخلص مع السيد المنـّو، ومع حصيلة كتاب د. عبد الله رابي، أنه إذا كان غير ممكن أن نغير قناعات الواحد الاخر ، فليحتفظ كل منا باسمه الذي يعتز به ويفتخر به لكن علينا، مصيريا، ان نعمل معاَ.
ولما كان المؤلف يحمل صفة الدكتور، أتعشم ان يجد الكثير من قرائه، وقد أكون أحدهم، وصفات علاج تحمل الدواء لداء يمكن تسميته بذلك المرض الوهمي، مرض "النزعوية القومية".

50
رأي: هل تشكـّل المسيرة المسكونية قلقا دفاعيا احترازيا لدى بعض الكنائس

الاب نويل فرمان السناطي
________________

الكنائس المشرقية، بجناحيها الكاثوليكي والارثوذكسي هي بشعب واحد وثقافة مشتركة وتاريخ متقارب الجذور، ناهيك عن التحديات المصيرية التي يواجهها شعبها، وقيمه ومستقبل تراثه وثقافته وتقاليده المسيحية، في عصر تغلب عليه العولمة والليبرالية الفكرية والانفلات القيمي، وما يترتب على كل هذا الواقع من استغلال اصولي راديكالي يصل إلى تسخير الدين للطائفية والعنصرية والفساد والارهاب.
ولعل الشعب المسيحي في هذه الكنائس المشرقية، يختلف عن الشعب المسيحي في الغرب، أكان كاثوليكيا  أو غير كاثوليكي. ذلك أن أبناء هذه الاصقاع لهم منحدرات وقواسم مشتركة من حيث اللغة والحيـّز الجغرافي الذي بات يطلق عليه "حيـّز الامة الواحدة" على اختلاف خصوصياتهم، اثنيا او حتى لغويا.
أما الحديث عن الحال الراهن فهو ذو شجون مع شعب المؤمنين في الكنائس المشرقية بشقيها الكاثوليكي وغير الكاثوليكي.
فمن جانب، يلاحظ ان بعض الدكاكين السياسية غير المبدئية وغير المسؤولة قد قسمته اثنياً وقوميا وتسمويا. ومن جانب آخر، وهذا هو موضوع المقال: يخضع الشعب لزعامات كنسية تغلف تعليمها بنفـّس لا يشجع المسكونية، وتسكت في الوقت عينه أمام تقسيمات الدكاكين السياسية المذكورة.
فلما كان ثمة نهج مسكوني سلكه المسيحيون منذ اكثر من نصف قرن، ولما كان ثمة وعي متزايد، لدى المنظرين السياسيين الواعين لمخاطر التقسيم الاثني على حساب المصالح السياسية الضيقة، ها إننا نجد ان بعض زعامات الكنائس الشقيقة، لعلها من المدرسة القديمة، قد تحسب ان كراسيها تتزعزع بسبب ما تراه تحديا بمحورين:
الأول: قد ترى أنه تحدّي يزعزع استقلالية كنيستها، ما تراه في النهج المتطلع الى الجمع بدلا من الكسر والتقسيم،  وأن أبناءها تتوجه بروح منفتحة وبشعور وحدوي الى الكنائس الشقيقة، مستفيدة من اللجان المسكونية التي أتاحت هذا السبيل.
الثاني: قد ترى انه ايضا تحديا غير مباشر، ما رسمته الزعامات العليا في هذه الكنائس، مع الرئاسة الكاثوليكية، والتي تسعى الى ان تتجاوز تفاصيل في الخصوصيات الايديولوجية، في سبيل الوحدة المسكونية؛ وهكذا قد تحسب، الزعامات الفرعية، انها ستخسر امتيازاتها، فتراها تبرز الانقسامات بتفاصيل تجاوزها التاريخ وعالجتها اللقاءات المسكونية في جوانب عدة.
مثل هذه الكنائس تكاد توصف بالكنائس المجهرية، اذا قارنّا بضع مئات ألف في كل كنيسة مع حوالي المليار ونصف المليار. وإذا بزعامات مثل هذه بات جل اهتمامها هو السعي للمحافظة على خصوصية كنائسها، وهي في عالم اليوم محافظة مرحلية ليس إلا، أمام كل التحديات التي تجابه العالم المسيحي، فماذا تراها تفعل، إنها ضمن افق ضيق تعمل على جبهتين:
الجبهة الأولى، الحفاظ على الحالة الانفصالية، في داخل العائلة الارثوذكسية نفسها كقولها في هذه المقابلة أو تلك: إخوتنا الاقباط هكذا يرون طبيعة المسيح، اخوتنا في الكنيسة الاشورية هكذا يرون تسمية أمومة العذراء. كل هذا بدل أن يتآلفوا في كتلة واحدة، عقائدية مسكونية، ذات تراتبيات (هيراركية) منسجمة موحدة.
الجبهة الثانية، بدل انقاذ ما يمكن انقاذه بشأن الضياع الذي يتعرض له ابناء الكنائس المشرقية عموما، امام التحديات المعاصرة، ها إن زعامات الكنائس المهجرية، تسعى في المقابلات المعلنة، إلى تجديد سكك الانقسامات الايديولوجية، بإعلان تنظيرات لعل كل مغزاها يختصر بما يلي:
انتبهوا لا تتبعوا الكنائس الاخرى، فنحن الخط الارثوذكسي المستقيم ما بين الخطوط الارثوذكسية القائمة، ومن باب اولى أمام الخط الكاثوليكي.
وإذا تساءلنا بفرضية بديهية:
هل يا ترى بموجب هذا الخطاب، سوف "ترعوي" الخطوط الارثوذكسية الاخرى، والخط الكاثوليكي الاخر، لكي يتم اتباع الخط الايديولوجي المتفرّد لهذه الكنيسة او تلك؟ لا نعتقد ذلك البتة، فالتنظير المعاصر هو من أعلى وهو يبحث عن كل ما يجمع. فاذا كانت هذه الجهات لا ترعوي للالتحاق بركب الكنيسة اياها، اغلب الظن إذن ان هذه الكنيسة أو تلك، في خطها الانفصالي والتقسيمي، تريد التسمك برعاياها بأي قدر ولأي أمد ممكن، وليكن ما بعدها الطوفان.

وأخيرا سؤال واحد يطرح ذاته:
لو كانت هذه الزعامة الروحية الواعية حتما لجذور أبناء كنيستها المشتركة عقائديا واثنيا مع أبناء الكنيسة المختلفة بهذه التفاصيل الايديولوجية أو تلك، لو كانت بمثابة الاب والأم، تتعامل مع أبناء العائلة الواحدة، التي تضم المؤمن وغير المؤمن، الأمين والعقوق، النزق والمتسامح، أما كانت تعمل كل شيء لتجمع هؤلاء الابناء المختلفين على مائدة المحبة الواحدة، ترتقي فوق الاختلافات، وتستهدف العمل على ما يجمع، فكيف بالأمر لو كان على مستوى العائلة المسيحية المشتركة ما بين الكنيستين الشقيقتين يا أولي الألباب؟ وبالتالي من المرجح ان ثمة حاجة إلى الحذر من هذا التوجه، من قبل هذه الكنائس المشرقية الرسولية المتناثرة في الغرب، قبل غيرها، لماذا؟
الواقع أن كنائس العالم المسيحي لا بد لها أن تتجمع حول تطلعات مصيرية مشتركة ملحة اكثر فأكثر. من تلك التطلعات المصيرية، أن ابعاد احتمال الانصهار في الكتل الاكبر، المحدق من كل صوب، مرهون بنسبة كبيرة بأن الكنائس الرسولية المشرقية توحد مسيرتها، وتتعامل بنحو أكثر معاصرة بشأن التفاصيل العقائدية لتصبح من ثم امام تكاتف يبعد الانصهار وينعش الازدهار، وبضوء رغبة الرب يسوع (انجيل متى 12: 7): رحمة أريد لا ذبيحة.
عن الموقع البطريركي 24/11/2017


51
مار باواي سورو اسقفا للكلدان في كندا، مؤشرات وآفاق

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
كندا


نقل موقع البطريركية اليوم 31/10/2017  خبر إقرار قداسة البابا فرنسيس لاختيار السينودس الكلداني سيادة مار باواي سورو أسقفا على أبرشية كندا للكلدان (*).  اود ان اتناول في هذا المقال مؤشرات وآفاق لسابقة حبرية تعيشها كنيستا المشرق الكلدانية والأشورية.

فما بين القبول السنهادوسي الكلداني في 2013 لعضوية مار باواي في المصاف الأسقفي للسينودس، وما بين طلبه الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية، مرّت سنوات مخاض شهدها البيت  الكنسي الكلداني الداخلي ، من جهة، وما تبلور من قناعة فيما بينها وبين شقيقتها الكنيسة الاشورية من جهة أخرى، في انتقال أسقف من الكنيسة الاشورية الى الكنيسة الكلدانية.

إزاء السابقة الحبرية هذه،  يذكر المؤرخون أن الكنيستين الشقيقتين شهدتا أيضا قبل قرون، بضع انعطافات تاريخية، من حيث ترابطهما مع بعضهما ومن حيث العلاقة مع كرسي روما.

فنستخلص مما جاء في كتابين تاريخيين، الأول للأب ألبير أبونا (تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية ج 3 - 1993) والثاني للبطريرك مار لويس ساكو ( الكنيسة الكلدانية: خلاصة تاريخية -2015) إنه كان لجانب من كنيسة المشرق اتحاد أول مع روما في عهد مار يوحنان سولاقا سنة 1552، وبقي هذا الاتحاد لحوالي القرن حتى انقطع سنة 1662 في عهد البطريرك مار شمعون دنحا الثالث عشر، ومنه تنحدر سلسلة بطاركة كنيسة المشرق الاشورية الحالية. ثم حصل الاتحاد الثاني والاخير مع روما في عهد مار يوحنا هرمزد سنة 1830 عندما اندمج كرسي بطريركية آمد (ديار بكر) مع كرسي بطريركية دير الربان هرمز (ألقوش) بكرسي واحد وأقيم مقره في الموصل، ومن هذا الكرسي تنحدر سلسلة البطاركة الكلدان الحاليين.

ولعل هذا التشابك المتناوب في المنعطفات التي مرت بها الكنيستان المذكورتان، لظروف مختلفة، وما احتفظت به كل منهما من وديعة ايمان، ككنيسة رسولية، هو الذي جعلنا منذ ان وعَينا أن دماءنا مختلطة، برئاسات مختلفة، وبنحو طبيعي كانت تجري المصاهرة المتبادلة ، ومزاولة الطقوس الكنسية المشتركة، كما بقيت على العموم دالة أخوية تجمع أساقفتنا وكهنتنا ومؤمنينا.

وهكذا يتبوأ اليوم كرسي مار أدي للكلدان في كندا (**)، حبر تتمازج فيه الروح الأصيلة لكنيسة المشرق، كلدانية وآشورية. ولم يعد خافيا على أحد أنه لدى انضمام المطران باواي الى الكنيسة الكاثوليكية، (الى جانب انضمام بعض كهنة كلدان الى كنيسة المشرق الاشورية) حدثت إشكاليات ما بين فريق مار باواي وكنيسته الاشورية السابقة، في صعوبات وجروح اقتضت الكثير من الزمن، حتى يمكن أن يقال اليوم أنها اندملت بنحو أو بآخر في فضاء اللحمة الأخوية مع أشقائه الأحبار ومع المؤمنين؛ على أن الكنيسة الكلدانية بدورها تعاملت مع هذا الموضوع بروحية أخوية سامية تجاه الأشقاء، تطلـّبت من الأسقف المنضم  سنوات صبر وصمت؛ ويلاحظ أن الكنيسة الكلدانية قامت بهذا التعامل، بما يمكن أن يوصف بالبأس والاستقلالية الملفتة للنظر إزاء الكرسي الرسولي فجعلته، ومنذ 2006 ينتظر استقبال السينودس له حتى سنة 2013، ليعيّنه من ثم اسقفًا فخريا على أبرشية  فورزيانا؛ هذا التعامل بالذات، كما يرجـّح أكثر من مراقب، يدخل ضمن مراعاة اللحمة الأخوية عينها ما بين الكنيسة الكلدانية والكنيسة الآشورية؛ لحمة معززة بما يجمع الكنيستين من شركة عقائدية، وكل منهما مراعيةً، بخصوصية متفاوتة،  لمختلف ما اعتلج بين توجهات شعب كل من الكنيستين، في ناحية الاتجاهات السياسية القومية الاثنية والثقافية… فوُجد كلا الجانبين مواكبا لعصر تنويري يحترم الاختيارات الضميرية وحرية الرأي والمعتقد.

على أن الشركة العقائدية مع كنيسة المشرق الآشورية، كان فيها لجانب هذه الكنيسة (الاشورية) القدح المعلى؛ عندما جرى، بعد كل الظروف الجيوسياسية التي عاشتها هذه الكنيسة الرسولية الأصيلة، عبر التاريخ، بتثبيت صحة عقيدتها، كما أعلن ذلك في الاتفاق الكريستولوجي بروما في أواخر 1994، في زمن البابا يوحنا بولس الثاني، وعهد حبره الحازم رئيس مجلس العقيدة الايمانية الكردينال (البابا) جوزيف رايتسنغر.

أمام هذه السمفونية من التمازج والتشابك، لا يسع المرء إلى أن يفصح عن مشاعر حبور لسان حالها:
سقيا للحب الذي يجمع الكنيستين احبارا وشعبا..
وهنيئا لأنظار الكنيستين المشتركة إلى المؤسس والرأس الأعلى المسيح المخلص والملك المحيي…
وطوبى لما يجمعهم من تقوى تجاه الأم سامية القداسة أم المخلص بكل ما يحمله من ذات وصفات.
ومرحى للعرس الروحي الذي عاشه المؤمنون في احتفالية تنصيب مار عمانوئيل شليطا اسقف ابرشية مار بطرس بكاليفورنيا، حيث عمل مار باواي ، وبمباركة مشرقة لمطرانها المتقاعد مار سرهد جمـّو.
وأنعم بهم من أحبار اشتركوا أو حضروا قداس التنصيب، متعانقين  بتبادل قبلة المحبة ، فيما بينهم، وهم  من مختلف الكنائس المشرقية والغربية، وبضمنهم أحبار الكنيستين الكلدانية والآشورية يتوسطهم البطريرك مار لويس روفائيل ساكو إلى جانب  المطران مار باوى سورو، وبما يجمعهم جميعا من أنفاس أخوّة ضمن أحبار الكنيستين الشقيقتين.
وما أسعدها من مصالحة إنسانية وجدانية مسيحية، بين ابناء الكنيسة الواحدة كما بين أبناء الكنيستين اللتين أثبتتا عبر العصور أنهما كنيستان شقيقتان بامتياز على أي كنيسة أخرى.
كل هذا وبعد مخاض كانت الكنيستان شاهدتين له، يجعلنا مع كل الخيرين، وكل صانعي السلام وذوي النيات الطيبة والارادة الصالحة، نحتفي بمسيرة مار باواي سورو، وصولا لأسقفيته على ابرشية مثل ابرشية مار أدي للكلدان في كندا. في زمن، تحترم فيه الجماعات اختيارات بعضها البعض، وما يعيشه أبناؤها من تميّز لمسار كل منهم في حياته الإنسانية، الكنسية والروحية.

وإذا كنا نلاحظ هذا في العالم المسيحي الغربي، بما تشهده مجتمعاته الكنسية من مناقلات، فإن ما واكبتـُه شخصيا من مسيرة المطران باواي، وما كتبت عنه من بضع مقالات أو مقابلة، هذه المواكبة، لم تغلق بوجهي، أبواب التواصل الودود المخلص مع أحبار أحبة من كنيسة المشرق أكنّ لهم أسمى آيات التقدير، ممن سعدت بلقائهم في السنوات الأخيرة.

والأمل كل الأمل أن ما تحقق في خدمة مار باواي في كاليفورنيا، من اشراقة راعوية، يجعلنا مفعمين بالرجاء بأنه سيمارس خدمته الراعوية في ابرشيته الجديدة مار أدي، ببطاقة بيضاء، وبآفاق مسكونية وحبرية واعدة ومبشرة. ولا سيما ما هو معروف عن مار باواي بخصوص محبته المسيحية  واحترامه المتكافئ سواسية للكلدان والآشوريين.
مع التمنيات بفيض النعمة والخير لأبرشيتنا الحبيبة في كندا، راعيا وكهنة ومؤمنين.

  كالكري 31/10/2017

هوامش للمقال:
______________

(*) مار باواي سورو:

من مواليد كركوك 1954. نشأ في بغداد حتى انتقل في 1976 الى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث رُسم كاهنا في 21 فبراير/ شباط 1982 لكنيسة المشرق الآشورية في تورنتو كندا. وفي 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1984 رسم أسقفا لأبرشية كنيسة المشرق الآشورية غربي الولايات المتحدة الأمريكية متخذا الاسم الكنسي مار باواي.
وعلى مدى العشرين عام ونيف على اسقفيته، اشتملت انشطة مار باواي على عدة مجالات منها:
مسؤولا في المكتب المسكوني بالبطريركية الاشورية (1984- 2005)
أمين سر مشارك، في اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتي بين كنيسة المشرق الاشورية وكنيسة روما الكاثوليكية (1984- 2004)
عضو اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي (1984- 1991)
رئيسًا مناوبًا لمؤسسة برو اورينتي السريانية (1994- 2005) إلى جانب عدد من اللجان المسكونية الأخرى.
التحصيل الأكاديمي، اللغات والاصدارات: حائز على شهادة الماجستير في اللاهوت الأساسي من الجامعة الكاثوليكية بواشنطن- امريكا، وشهادة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة القديس توما الاكويني (الانجيليكوم) الحبرية في روما.
أصدر عدة مقالات في اللاهوت والتاريخ ونشر اطروحته في كتاب بالانكليزية، ترجم الى العربية ونشر في بيروت؛ ويتكلم الكلدانية والعربية والانكليزية.

(**) أبرشية مار أدي للكلدان بكندا في سطور:

31/10/2017 يتعين مار باواي سورو كمطران ثالث على ابرشية مار أدي للكلدان في كندا، ليتسلمها من سيادة المطران فرنسيس قلابات، الذي عيـّنه قداسة البابا فرنسيس مدبرا رسوليا لها، منذ شغور الكرسي في أغسطس/ آب الماضي.
آذار 2015 - آب 2017 مدة رعاية سيادة المطران عمانوئيل شليطا للابرشية والذي تعيّن على رأسها بعد ادارتها لقرابة السنة من قبل المونسنيور داود بفرو الذي عيـّنه البابا مار فرنسيس بصفة مدبر رسولي للابرشية في آذار 2014
تموز 2011- أيار 2014 مدة رعاية أول أسقف للابرشية، مثلث الرحمة مار حنا زورا، والذي تقاعد لدى بلوغه السن القانوني للتقاعد، وتوفي في 2 تشرين الاول 2016.
شباط 2006، لأول مرة يتعيّن زائر رسولي للكلدان في كندا، بقرار قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، وهو سيادة المطران مار ابراهيم ابراهيم. وعلى إثر زياراته الميدانية لمختلف المدن الكندية ذات التواجد الكلداني، كان سيادته قد تقدم بتقرير وتوصية عن حجم التواجد الكلداني في كندا، مما أثمر على موافقة الكرسي الرسولي بإنشاء ابرشية باسم ابرشية مار ادى للكلدان في كندا.





52
التعامل مع الشأن السياسي لدى كل من الكنيستين الكلدانية والاشورية

بقلم الأب نويل فرمان السناطي

في ضوء الحملة الشرسة ضد احبارنا في أعقاب السينودس الكلداني 5-8 تشرين الأول 2017 ، ولغرض تقديم نقاط عملية عن الكنيسة والشأن السياسي، اكتب هذا المقال.

لا بد من المقارنة في هذا المجال، في مفارقة ملفتة للانتباه، أن كثيرين من ذوي الشأن يتقبلون ان يتحدث بطاركة وأحبار كنيسة المشرق الاشورية، عن المسألة القومية، وما تتركه من ظلال على الأمور السياسية؛ وفي الوقت عينه، نرى ذوي الشأن أنفسهم يتحفظون بشأن حق بطاركة وأحبار الكنيسة الكلدانية، بالحديث عن الأمور القومية وما تتركه من ظلال على الساحة السياسية.
لنقارن، إذن، كلا من التفاوت بين القبول والتحفظ من قبل ذوي الشأن، تجاه احبار الكنيستين الشقيقتين الكلدانية والاشورية.

إن أحبار كنيسة المشرق الاشورية ولظروف تاريخية وسياسية واجتماعية وجدوا بنحو محدد كأحبار "روحيين" وبنفس الوقت كزعماء زمنيين.
اما  أحبار الكنيسة الكلدانية، فلخصوصيتها الكاثوليكية، يحسب البعض عليها من التابوهات/ المحرمات بأن يكون لها رأي وتوجيه في الشأن القومي السياسي، إزاء القبول بذلك لدى أشقائهم في الكنيسة الاشورية؛ كل هذا أمام كون مسيحيي العراق في بلاد على صفيح ساخن من طائفية وعشائرية وقبلية، لكل من أطيافها زعامة وقول، في بلاد تهمش فيها الحقوق المدنية والدينية لعراقيين أصلاء من ذوي الخصوصية الاثنية والدينية لشعبنا. ويصر المعترضون على تقييد مجمع اساقفتنا بما يحسبونه من محرمات، على أساس انتمائهم الى الكنيسة الكاثوليكية الجامعة. ويفسرون هذا الحظر بما جاء في التعليم الكاثوليكي المسيحي البند 2442:
(ليس من اختصاص رعاة الكنيسة التد خل المباشر في البناء السياسي وتنظيم الحياة الاجتماعية. فهذه المهمة جزء من دعوة المؤمنين العلمانّيين، العاملين بمبادرتهم الخاصة مع أجل مواطنيهم. ويمكن ان يكون للعمل الاجتماعي ُسُبل واقعية متعددة. ويجب ان يكون أبدا لأجل الخير العام ومتوافقا مع الرسالة الأنجيلية والتعليم الكنسي. ويعود إلى المؤمنين العلمانيين "أن يُحيوا الشؤون الزمنية بغيرة مسيحية، وأن يسلكوا فيها َكفعلة سالم وعدالة.")
في الواقع هذا ما يتطلع اليه الاحبار من رعاة الكنيسة الكلدانية، بدعوتهم علمانييهم المؤمنين للعمل بروحية هذا التوجيه.
كما أن ثمة سؤالا يطرح نفسه كالتالي: عن أي من الرعاة، يتم الحديث؟ هل هم على سبيل المثال لا الحصر، الكاهن راعي كنيسة الصعود؟ أم  راعي كنيسة مار يوحنا، أم راعي كنيسة سلطانة الوردية؟ (تحية المحبة لكل منهم). وبالفعل يمكننا تصور هول الموضوع لو كان كل راع في كل خورنة يعمل مباشرة في مثل هذه المجالات السياسية؛ فيما اختلط في البلاد الحابل بالنابل، في تصريحات رجال دين غير مسيحيين، من كل حي أو زقاق.
أما أن يكون الحديث عن زعامة كنسية في أعلى الهرم الكنسي، مجتمعين ومُجمعين على مقررات في هذا الشأن الاجتماعي أو السياسي أو ذاك، فأعتقد ان الأمر يختلف.
ذلك أن الرعاة من الأساقفة، وخصوصا في الأزمات السياسية والاجتماعية، تكون لهم كلمتهم، بدون ان يعني ذلك انخراطهم في نشاط أو حزب سياسي.
أما فيما يخص الكهنة، فإنه بالفعل سبق وأن حذرت الكنيسة الكاثوليكية اكثر من كاهن، عندما انخرط حزبيا في العمل السياسي، منهم (القس) جان برتران ارستيذس الذي أصبح رئيس جمهورية هاييتي، واذا بالرجل وكأنه بانتظار التحذير والتخيير، ليترك الكهنوت بدل السياسة و... يتزوج.
أما المثال الآخر فهو عن القس ميغيل ديسكوتو، وزير خارجية نيكاراغوا في عهد دانيال اورتيغا (توفر لي سنة 1991 -لدى مرافقتي مستشار كاسترو، البروفيسور كامبرس- أن التقيه مع رئيس بلاده اورتيغا عندما قدم بصحبته الى بغداد وكانوا قد جاءوا في موقف متعاضد مع العراق الخارج مثخنا بجراحات الحرب). هذا القس السابق/ الوزير ديسكوتو، كان قد اوقفه الفاتيكان عن الكهنوت، وعند اعتزاله السياسة حصل من البابا فرنسيس التفسيح بالعودة لإقامة القداس قبل ان يحين أجله، تحقيقا لامنيته في أواخر حياته.
أما على مستوى الرعاة الأساقفة، فإن ثمة رعاة، من الذين كافحوا ضمن ظروف بلدانهم منهم:
- المطران الكاثوليكي كارلوس فيليب بيلو، من تيمور الشرقية، في أندونيسيا، الحائز على جائزة نوبل، لكفاحه من أجل استقلال تيمور الشرقية؛
- والاخر المطران الطوباوي اوسكار روميرو، الذي قيل أن تطويبه لم يكن فقط لأنه استشهد أمام مذبح القداس، بل ايضا للطريقة النضالية التي عاش بها اسقفيته في ظل حكم السلفادور، متحديا بيروقراطية سفير الفاتيكان في السلفادور.
ويوجد في الكنيسة الارمنية خير مثال. عندما بقيت تقف مع الشعب الارمني في نضاله، ولها مواقف سياسية واجتماعية متواصلة في المطالبة بحقوقه خصوصا في مجال الابادة الجماعية. إلا أنها حالما تم الحصول على استقلال دولة ارمينيا،  تركت الامور السياسية للسياسيين، وانسحبت عندئذ، على رؤوس الأصابع، للتفرغ للشأن الروحي وطوبى لها في ذلك.
ومن المثير للتساؤل، وما يستنفر التفسير والتحليل، أن الكنيسة الكلدانية تحديدا، لا تجد من يقول لها (عفارم) عندما تتحمل على الارض ثقل النهار وحره حتى وإن أوقدت الاصابع شموعا !
وهنا قد يجدر القول:
لا ضير من تمني الخير، واحترام الرأي لدى أبناء الكنيسة الكلدانية،  لكل من اقتنع بشأن قومي خارجًا عن توجه الكنيسة الكلدانية. ولكن هل من الانصاف، السكوت المطبق أمام كل ما تنجزه الكنيسة الكلدانية في العراق؟ وهل من الانصاف عندما يصدر رأي يختلف عن توجه الاخرين، سياسيا واجتماعيا، وحتى اذا كان هذا الرأي باجماع اسقفي في سينودس مقدس، أن يتهجم على الكنيسة أبناؤها قبل غيرهم.
إزاء اشكالية الانصاف هذه، ثمة اجابة، للمطران مار ميلس زيا، مطران استراليا ونيوزيلندا وبيروت، مفادها أن الكنيسة الاشورية تجد أن:
- ثمة حاجة لدورها أمام ما تراه من واقع سياسي راهن؛
- كما تربأ لأبنائها عن اي تهجم على العناوين الكنسية، من أية كنيسة كانوا، وقد اثبتت ذلك، في استراليا، بمواقف أبوية حاسمة.
ولكن في الكنيسة الكلدانية، هل ثمة حدّ أدنى من الثوابت الديمقراطية بين الكنيسة وأبنائها، سواء كانوا من الخصوصية الكلدانية، أو من الخارجين عنها. ولماذا يا ترى يقام الحظر عليها لدعوة صريحة لأبنائها بأن يضطلعوا بمسؤوليتهم كعلمانيين في الشأن الاجتماعي والسياسي، وبهدي توجيهات وثيقة التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية؟
وبعد،
فإن الكنيسة الكلدانية، مع كلمتها كمجمع أحبار، ورعاة، في الشؤون ذات الصلة، لها أن تشجع ناشطين مؤمنين علمانيين من الاكاديميين والاختصاصيين ومختلف الناشطين. فإن مثل هؤلاء العلمانيين ومع زعامات كنسية من الطرفين، ومن المتنورين، ينتظر منهم، باعتقادي، أن يكونوا سعاة محبة وسلام، وعناصر خير فاعلة في أزمة مستفحلة لا يستغنى عن امثالهم في تجاوزها والمضي قدما.

53
الاستاذ الفاضل الدكتور عبد الله رابي المحترم
تحية أخوية طيبة،
مرت مدة على المقال الذي تفضلتم بنشره بعنوان: (الاسقف مار ميلس من الكنيسة الاشورية وقراءة الواقع) وبقيت ممتنا للاشارة الاخوية التي جاءت نحوي، فيما كنت مجرد جسر لايصال فكر الرجل، بدون تقويل إنما باستخراج ما لديه من كنوز.
وبشأن ردود الافعال عما يكتبه المرء، قد يشعر الكاتب بالحزن وبوقع الجرح عندما تأتي الاصابة من صديق إذ يتناول مقالته بالقدح والانتقاص، قبل النقد البناء والتقويم. فلا يجد الكاتب بدّا من الصمت أمام المتهجم مؤملا انه سيفهم يوما ان ما كتبه نظيره الكاتب، كان هو بهدف الجمع والمؤالفة والتوحيد. تلك كانت خبرة مرّة في السابق جاءت ممن كنت تواصلت معه بصدق ومحبة...
باستثناء هذه الخبرة، فان تواصلي مع المختلفين معي في مقالات أخرى، وايصال وجهة نظري، كان مآله الى روابط زمالة ومودة.
وهكذا فبالمقدار عينه يثلج الصدر، بعاطفة الامتنان، وشعور بالشكر للرب لما يجده من رد اعتبار في اشادات تعبـّر عن سمو الذي يعبر عنها اكثر من استحقاق من يتلقاها، أمام تقييم سخي جدّا لما تناولتموه في هذه المقابلة.
ومن ناحية أخرى، اخي الدكتور عبد الله رابي، فما أشبه اليوم بالبارحة، اذ كان مقالك التحليلي، بشأن الدعوة لقبول الاخر، ومن قبل مرجع كنسي مرموق في كنيسة المشرق، مثل المطرافوليط مار ميلس، ليحلّ بمثابة مفارقة التمهيد لما صدر من سينودس الاساقفة الكلدان، وتأكيد مار ميلس، الرفض القاطع للذين يتهجمون ضد آراء وتوجهات بات زمننا المعاصر لا يفتأ من التعايش معها.
وليسمح لي كاتب المقال الموقر د. عبد الله، ان أنوّه باعجاب عن الطريقة المحنكة والمهنية التي تتعامل بها مع مختلف التعليقات.
مع اطيب تمنياتي لحضرتك ولحضرات الاخوة المعلقين النزهاء، بكل خير وسلام.
الاب نويل فرمان السناطي

54
مع مار أميل نونا، مطران استراليا ونيوزيلندا:
لي رجاء بان يكون هناك وجود مسيحي قوي في مناطق شعبنا

حاوره الاب نويل فرمان السناطي
سدني استراليا 24 آب 2017
تصوير: سهيلة توما

في زيارة قصيرة الى سدني، وكنت بضيافة كريمة في مطراني الكلدان بسدني، توفر الوقت أن التقي سيادة المطران اميل نونا، برغم انشغالاته، والاستعدادات لرسامة الاب رودي في السبت اللاحق، مما جعلنا نتفق على رؤوس نقاط سرعان ما تتوفر الوقت لبلورتها، فكانت هذه المقابلة وبدأت بالسؤال عن الموقف الدولي من داعش.

سيادة رئيس الاساقفة المطران اميل نونا، كان لتصريحكم الى الصحافة الايطالية، بعد غزو داعش، وقع الصرخة المدوية الموجهة للغرب والتي تداولناها، خصوصا انها تزامنت في توقيت قريب مما حدث في فرنسا. السؤال: ما هو انطباعك بعد هزيمة داعش.

مار اميل: نبدأ بالشق الأخير من سؤالك حول هزيمة داعش، فاقول ان داعش لم يهزم بعد لا على المستوى العسكري ولا على المستوى الايديولوجي. ففي المستوى العسكري لا زال داعش يسيطر على مناطق عديدة في العراق وسوريا، بالاضافة الى انتشاره كخلايا صغيرة او افرادا في مناطق كثيرة جدا. اذن من السابق لأوانه بكثير ان نتكلم عن هزيمة داعش. واعتقد ان الوضع ليس بالسهولة التي تُقدّم احيانا في الاعلام كانتصارات كبيرة ونهائية على داعش.

اما بخصوص تصريحي الاعلامي الذي ذكرته حضرتك، فكان بالحقيقة موجّها الى العالم الغربي انطلاقا من الخبرة التي عشتها شخصيا وعاشها كل مسيحيينا في ما بين المجتمعات المسلمة التي رأينا صعود التطرف الفكري والعمل على تحقيقه كواقع في هذه المجتمعات. اذن المعضلة الاساسية تكمن في المجتمعات الاسلامية التي تسمح لهذه المجموعات بأن يكون لها حاضن اجتماعي واساس عقائدي وبيئة مشجّعة لها لتأسيس قاعدة لها وانطلاق العمل منها.
وقلت في حينها موجها كلامي للغرب انه اذا لم يتّعض من خبرة المسيحيين في الشرق فانه سيلاقي قريبا هذا التحدي، وفعلا حدث ذلك. ولا زالت المعضلة موجودة.
مار اميل: نحن مرسلين في بلدنا الاصلي العراق وايضا مُرسلين في اي مكان آخر نكون به.
 أ. نويل: ليست الصورة واضحة بعد بالنسبة لعودة المهجرين، ازاء ما توجد من تحديات، ولكن بلدة مثل القوش، تبقى شاهدا لاستمرار الحياة، فيها، وفي الدير المجاور دير السيدة، ما هي الذكريات التي تحملها وتقييمك لهذا الواقع من خبرة خدمتك في القوش قبل اسقفيتك.

مار اميل: كلّ ما احمله من ذكريات يعطيني القوة لاقول ان مؤمنينا هم ناس يريدون ان يعيشوا بكرامة وحرية كل جوانب حياتهم، لذا سوف يكافحوا من اجل هذا النوع من الحياة ويبحثوا عنه في مناطقهم او حتى غير مناطقهم. انا لي رجاء بان يكون هناك وجود مسيحي قوي في هذه المناطق او اقله في البعض منها لكن اعرف في نفس الوقت ان هذا ليس شيئا سهلا ابدا، بل هو تحدي كبير امام كل شخص وعائلة، وكل واحد له ظروفه ووضعه الخاص الذي يلزم ان نحترمه حينما يتخذ قرار البقاء او الهجرة. كمسيحيين لنا رسالة في العالم اينما كنّا، لهذا نحن مرسلين في بلدنا الاصلي العراق وايضا مُرسلين في اي مكان آخر نكون به.
 أ. نويل تكافح كنيستنا في العراق وخصوصا في شماله، للبقاء شاهدة للمسيح وانجيله، ولكن الناس مستمرين على طرق ابواب السفارات، سواء من بغداد، والبصرة وكركوك، او من القوش وسائر مدن العراق، كيف تفسر هذه الحالة؟

مار اميل: بصراحة ليس هناك شيء معروف وواضح ابدا لاي كان. الوضع في مناطقنا في شمال وشرق الموصل ضبابي جدا لاسباب عديدة تحتاج لوقت طويل للكلام عنها. والوضع ايضا مثله في المناطق الاخرى من العراق. إن مسيحيينا في هذه المناطق امام تحدي كبير جدا يكمن في البقاء او ترك المنطقة. من اجل البقاء لا يلزم ان يكون هناك فقط الامان على الحياة، لان متطلبات الحياة ورؤية الانسان اليوم لحياته تختلف جذريا عمّا كانت عليه في الماضي حتى القريب. انسان اليوم هو ابن الثقافة الحالية التي يريد ان يعيش كل ما تعرضه من طرق حياة واساليب ووسائل عيش ونُظم اقتصادية وسياسية واجتماعية عالمية تستند الى المبادئ العامة للديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها من الحقوق والمسؤوليات.
اذن ان نحاول تقديم الامر وكانه شيء بسيط ممكن القيام به بمجرد ان يتم تحرير هذه المناطق، فهذا ليس بصحيح بشكل تام. وحتى لو تحققت العودة الى كل قرانا فان مستقبلها ليس بواضح لأنه –من واقع خبرتي الشخصية مع الناس-  سوف تكون وقتية الى ان يتم تدبير امرهم لتركها. وهذا علينا ان نقوله ولا نخجل او نواريه. المسيحيون المشرقيون يحبون الحياة ويريدون ان يعيشونها بملئها، لذا فانهم سيبحثون عن المكان والوسيلة والبيئة الافضل ليعيشوا حياتهم.
أ. نويل: التفتت الى ملاحظة صديق، بأن رواد كنائسنا المشرقية، ونسبتهم الغالبة التي قد تصل الى الـ 75 وحتى 85 بالمائة، هم من القادمين الجدد او المستقرين في بلدان الانتشار، منذ بضع سنوات، وأن القدامى قلما يترددون على الكنيسة، كيف تستقرئون الحضور المسيحي في استراليا، اذا مرت عليه سنوات اخرى، بعد ان تقلّ مع الزمن نسبة المهجرين؟

مار اميل: ملاحظة صديقك هي صحيحة الى حدّ بعيد. فما نراه في الكنائس هو بالحقيقة امتلائها بشكل كبير لكن النسبة الاعظم هي من الذين ولدوا في العراق وجاؤا الى هنا بالغين، او وصلوا كشباب. في بلدان الانتشار نحن امام معضلة كبيرة تكمن في كيفية التعامل مع الجيل الناشئ هنا او الذي يولد هنا. هذا الموضوع كان واحدًا من النقاط التي تكلمنا عنها في اجتماع كهنة الابرشية الاخير في نهاية آب.
الموضوع يحتاج الى وقت طويل للكلام عنه، لكن ممكن ان اختصره بان هناك فارق واختلاف الاجيال في جماعتنا، فنحن لنا اقله ثلاثة اجيال تختلف في طرق تفكيرها ورؤيتها للحياة بكل جوانبها:
الاول الذي ولد وتربى ونشأ في العراق ووصل هنا ناضجا،
الثاني الذي ولد في العراق لكنه تنشئ هنا لوصوله صغيرا،
والثالث الذي ولد ونشأ هنا.
الجيل الجديد الذي تربى او ولد هنا لا يرى الامور كما يراها والداه. ولاعطيك مثالا:
ان الابن يرى والداه يتكلمان على الاخرين بالسوء في البيت، ويغيران الحقيقة في تعاملهم مع دوائر الدولة من اجل مصلحتهم، ويعملان اي شيء سلبي بالخفية من اجل ذاتهم، ويراهم يذهبون يوم الاحد للكنيسة للقداس والصلاة. الجيل الحالي لا يقبل بهكذا نوعية حياة، فيرى كل شيء كمنظومة واحدة سلبية ومن ضمنها ايضا الكنيسة. لهذا لا ترى الاجيال الجديدة تاتي للكنيسة كوالديهم.
بالاضافة الى واقع ان الكنيسة يلزمها ان تعمل الكثير لتكسب هولاء الشباب فتتكلم بلغتهم – اقصد لغة الحياة وليس الكلام فقط - وطريقة تفكيرهم وتعاملهم مع مختلف جوانب العيش.
أ. نويل: هل ممكن ان تسلطوا بعض الضوء على ما يتم من انشطة راعوية ثقافية او ليتروجية، لا شك انها ستكون عاملا في رعاية المؤمنين.
في الناحية الليتورجية نحاول دائما ان نحافظ على طقوسنا الغنية والمهمة ليس كونها طقس بلغة ورتب محددة بل لانها تعطي ايضا الدافع لطريقة تفكير معينة هي مسيحية مشرقية تستند على الالتزام بالثوابت والمبادء الحقيقية. ولهذا حاليا في كنائسنا في سدني ومالبورن لنا كل يوم صلاة الصباح والرمش بلغتنا الكلدانية، ولم نقم بادخال الترجمات الى الان. كل احد هناك الصلوات الطقسية الصباحية في الكنائس مع القداديس التي اكثريتها هي بلغتنا مع وجود قداس واحد في الكنائس باللغة الانكليزية وايضا العربية.
نعمل على ان نصلي ونقوم بكل طقوسنا ورتبه في المناسبات وكما كانت في الماضي، ومن خبرتي مع هذا الموضوع إن كان في الموصل او هنا، فان الناس تستحب هذه الطقوس والرتب حتى لو كانت طويلة عندما تكون معمولة بشكل دقيق وباحترام كبير لهيبتها، وايضا محاولة اعطاء فكرة عنها ببعض الترجمات او استخدام الوسائل  الحديثة في العرض داخل الكنائس. والحمد لله نحن لا زلنا وسنظل بمشيئة الله ملتزمين بها.
من الناحية الراعوية هناك تحدي كبير لنا هنا، حيث ان تنظيم الابرشية ليس بالشيء السهل، فنحن في الداخل لا زلنا مشرقيين في طريقة تفكيرنا وتعاملنا، لكن نعيش في وسط وبيئة غربية، والتوافق هنا ليس بالشيء السهل. بالاضافة الى الحاجة الى كهنة اخرين للعمل في الكنائس، لان زيادة عدد مؤمنينا في استراليا هي نسبيا اكبر من عدد الكهنة الذي لنا والذي ياتينا. لهذا هناك فعلا صعوبات عديدة. لكن ما يقوم به الكهنة هو فعلا شيء جيد جدا قياسا لما عندهم من مسؤوليات.
النشاطات الخورنية لها ثقلها في الكنيسة ودورها المهم ونحن نحاول دائما ان ننظم ونرتب وضعها لتاخذ دورها ومسؤوليتها الحقيقية. وهذا ينطبق بشكل كبير على النشاطات الشبابية، ولهذا قمنا في السنة الماضية بعمل اول لقاء ابرشي لشباب الابرشية في سدني وجاء الشباب من مالبورن ومن نيولندا، وكانوا حوالي ثلاثمائة شاب وشابة، وهذا ليس بالشيء السهل، وان شاء الله سيلتئم اللقاء الثاني في شهر كانون الثاني المقبل. كما سيكون هناك ايضا نشاطات على المستوى الابرشي في القريب لفئات اخرى.
أ. نويل: هل لديكم رسالة محددة ترون توجيهها الى مؤمنينا في الوقت الحاضر.
مار اميل: المؤمن المشرقي عاش في بيئته الاصلية وحافظ على ايمانه بشكل كبير على الرغم من الصعوبات والاضطهادات الكثيرة، ولهذا رجائي ان نحافظ على ايماننا جميعا اينما كنّا، في بلدنا الاصلي او في بلدان الانتشار، لان الايمان هو يحفظنا بكل جوانب حياتنا، لانه شامل لثقافتنا وحضارتنا ومبادئنا واخلاقنا وكل ما نؤمن به. فلنحافظ على الايمان ونتعرف عل حقيقته بشكل كبير وبعمق كي نعيش سعادة المسيحية الحقيقية.
أ. نويل: شكرا سيدنا على وقتكم مع تمنياتنا الطيبة لكم بالمزيد من العطاء.

55
رسالة محبة ونخوة إلى إخوتي وأخواتي الأحبة أبناء كنيستنا الكلدانية
 
الأب نويل فرمان السناطي
 
أكتب هذه أول رسالة موجّهة إليكم شخصيا، في ظل الظروف الاستثنائية المفصلية التي تعيشها كنيستنا في بلادنا بين النهرين، ومع ما نعيشه نحن الكلدان من تحديات في بلدان الشتات.
وأتوجه بنحو خاص الى الزملاء الكتّاب الأحبة، الى من اختلط مداد أقلامنا بدماء عروقنا محبة لجذورنا وشعبنا.
إلى من أتاحت الشاشة الالكترونية الصغيرة، أن نطلق العنان لعواطفنا الجياشة، كل بطريقته، وفي نهاية الأمر جعلتنا كتاباتنا، نتفاعل وجدانيا ووديا تجاه كل ما يجمعنا.
إلى الذين دفعـَنا التعبير عن الرأي، الى بعض التقاطعات،
إلى الذين، ما أن لمسنا لمس الوريد اننا نعيش الارهاصات عينها، بطرق متفاوتة، حتى تواصلنا بمكالماتنا الهاتفية وسواها، بدون ان نرى بعضنا البعض، وتواصلنا عبر صورنا الالكترونية، وتصالحنا وتحاببنا.
إليكم وإلى جمهور قرائنا مشتركا بالارهاصات عينها،
أكتب من نبضِ ما يحرّك مشاعرنا من البلد الأم، بصداقة وصدق، وبروح انتخاء لتلك أقلامكم النزيهة الشريفة.
أكتب من ذكرى أزقة البتاوين والمربعة المهجورة، ومن ذكرى بغداد المهشـّمة،
 ومن ذكرى شوارع شمالنا التي قطع أوصالها مقاولو السوء والابتزاز.
أكتب من ذكرى وحنايا قباب كنائسنا التي يصلي في ظلها، جمهور من مؤمنينا، وصليت معهم.
أعرف أن جلّكم يكن لي الود والاحترام، ولعلّ الآخر يذعن بصمت بمسافة وبإطراق من لا اعتراض لديه.
فاسمحوا لي جميعا بدالّة مخاطبتكم كالاخ والابن والتلميذ.
أكتب إليكم والبلد تعصف فيه ريح صفراء لا تبقي ولا تذر.
تهدد سهلنا وجبالنا وقرانا الضاربة في عمق تاريخ المنطقة، وتشتهي أن تأتي على ما تبقـّى منّا في السهل والقرى فلا تترك منا اي أثر يذكر.
إن ما يجمعنا الآن يا إخوة، ليس كما أعتقد، مجرد تظاهرة هنا وهناك محتمين ببلدان الانتشار باعة الاخبار، إنه أكثر من ذلك.
إن ما يجمعنا، بعيد أن يكون، بأنّ نستفز في بلادنا الام، شمالها ومركزها، ونحرّك الغرائز التي تستهدف ما تبقى من أهلنا، عندما "يدفعون" بهم الى المحرقة تحت شعارات واجندات لا قـِبـَل لأهلنا بها.
إن ما يجمعنا، أبعد ما يكون روح الاستياء عن بُعد، فقد يجعل ذلك مواطنينا أنفسهم وأبناء البلد الواحد، يسوّقون أهلنا لقمة سائغة، ووقودا لصراعاتهم الاقليمية والاستراتيجية.
أكتب لكم والقلب يخفق نحو مسيحيينا وأبناء كنائسنا وهم وسط بؤرة صراع ومصالح متلاطمة.
فكل بقعة من بقاعهم وبقاع ابرشياتنا أصبحت تتحدى الواحدة الاخرى وعلى حساب من تبقى من شعبنا وسائر الاقليات.
أكتب لكم للوقوف على أمل الوقوف سوية وفقة صمت للتآزر مع من تحبون وتعشقون من عناوين وقامات تاريخية من أبناء كنيستنا...
أكتب إليكم حيثما كنتم، أفي ربوع البلدان الاسكندنافية الآمنة، أو في اوربا الراقية أو في امريكا الحرة أو في استراليا الدافئة،
كيما نرفع أناملنا جميعا عن لوحة مفاتيح شاشاتنا الصغيرة البيضاء،
بعيدا عن النقد الهدّام،
بل نضمّ بالأحرى أصابعنا أكفّا بأكف متشابكة،
تجمعها محبة كنيستنا التي لا شك أنها تسري في أحشائنا،
فلنعمل على وحدتها وتقدمها، فهي على الارض بأحبارنا وبطريركنا، وفي الميدان تحمل ثقل النهار وحرّه،
ولنحتضن أمنا الكنيسة، في شخوص أحبارها، ومن معهم من أحبار سائر كنائس بلادنا النهرينية، ممن أقرّوا أن مسيحيي بلادنا هم جميعا على متن سفينة واحدة تتقاذفها الامواج، ولنا برغم اختلافاتنا ان نجد ما يجمعنا لنشدان طريق للخلاص.
إن أبناء شعبنا الجريح، لا ينتظرون، كما أرى، من أقلامنا سوى أن تدعو إلى حكمة ترجيح العقل وحوار الفرسان،
وألا يكون شعبنا لقمة سائغة في أفواه المصالح، دون ان تأبه لزوال أي أثر لها، لنكتب متفهمين كنيستنا اليوم بما تشهده على الارض من واقع مرير.
لنتوجه برسائلنا وإيميلاتنا، أيها الأحبة، الى من يحبّه أي منكم من زعاماتنا الروحية معبـّرين لهم عن تآزرنا، مستفسرين منهم على أرض الواقع، عن سبل دعمهم للخروج من الأزمة، التي أوجدها الذين لا يهمّهم تسويق أهلنا، بدون أن يكون أمام مسوّقيهم شيء يخسرونه.
وهذه دعوة إلى أقلامنا الحرة الشريفة النزيهة، حيثما كانت، لكيما نشدّها مع بعضها حزما من سنابل الخير والرجاء، ولنقل لأحبارنا، سواء بصمت صلاتنا، او برسائلنا عبر موقع بطريركية مار أدي الالكتروني، أننا معكم قلبا وروحا.

56
مع المطران مار ميلس زيا:
الشعب الاشوري والشعب الكلداني كأنهما في سفينة واحدة تتقاذفها الامواج
 
حاوره في سيدني: الأب نويل فرمان السناطي
تصوير الشماس عوديشو بولس المنـّو
استراليا، 23 آب 2017
 
في شيكاغو، لدى تشييع مثلث الرحمة البطريرك مار دنخا (26 نيسان 2015) كان تعارف سريع مع مار ميلس ميطرابوليط استراليا ونيوزيلندا ولبنان. وخلال زيارة الى سدني، في آب الماضي، كان هذا أول لقاء مستفيض مع نيافته، بحضور الصديق الشماس عوديشو المنّـو الزائر من ملبورن. 
وبدون اتفاق صحافي مسبق، سرعان ما تحولت المواضيع المطروقة الى ما يصلح أن يكون مادة مقابلة صحافية، ورحب مار ميلس في أن تكون كذلك؛ عندها جرّنا الحديث الى تباين القِيم بين الغرب والشرق، بين الإرث المسيحي وثوابته الانجيلية والانسانية ، وتحديدا ما يتم، في المجتمعات الغربية، من ضغط لفرض سياقات رسمية غير مسبوقة في النظرة الى تكوين العائلة من المثليّين، لحدّ جعل ذلك على قدم وساق من المساواة مع الارث المعتاد في القيم الدينية. وما دفع جانب المؤمنين الى التحرك وكأنهم هم الاقلية الصامتة، وهنا لفتت انتباهي صيغة مطالبة يدعو مار ميلس الى التحرك بموجبها مع الجهات البرلمانية والحكومية فقال:
مار ميلس: حان الآن للمطالبة المسيحية المشتركة بتشريع قرار ينصّ على أن:
(الكنائس والمؤسسات الدينية، يكون لها الحق بأن تدير وتتـّبع تعاليمها العقائدية وتشريعاتها بكل حرية.)
وقد وردت على لسانه بانكليزية جميلة تسللت الى حديثه أكثر من العربية التي يجيدها ايضا وبهذه الصيغة:
To pass a legislation according to which, churches and religious institutions are free to administer and to follow their doctrinal teaching and laws, freely as they wish.
وعلل مار ميلس هذه المطالبة خصوصا وأن الطرف الاخر يعمل حثيثا في فرض الاتجاه المعاكس، كأن يذهب أحدهم فيوصي في رياض ومدراس الأطفال أنه يريد المعلمة ان تقول لهم: لا ضير من قيام العائلة والعلاقات أيضا على اساس المثليين جنسيا، واننا لا نريد قيام التربية على كراهية الاخر! فيتساءل مار ميلس:
ومن قال اننا نعلـّم أحدا على الكراهية! واستطرد قائلا: ولكنهم أمام تحضير نفسي للاطفال الى قبول هذا كواقع جديد. وهكذا تأتيني طفلة وتسأل: ما الضير في هذا؟ فأسألها من جانبي: اتعرفين يا ابنتي ما هي انعكاسات ذلك ونتائجه؟ أم أنك فقط تتكلمين هكذا؟ لتجيب: لا يهمني ما هي النتائج.
بين بناء الكنائس وبين انشاء المدارس الخاصة
 
وعليه فإن ما يحزّ في النفس باتجاه كنائسنا، على مختلف مسمياتها، أن الشيء الأول الذي كان الأولى أن يعملوه هو بدل ن يعطوا الاولوية المطلقة في الانفاق على المباني الكنسية، وتأثيثها وتزيينها الداخلي بأثمان باهضة تصل الى الملايين، بأ ينفقوا بالأحرى مقدارا رئيسيا من النقود على المدارس والمؤسسات التربوية. لأنه لم يعد لنا مكان فيه نستطيع ان نحمي أولادنا، غير المدارس الخاصة؛ ولأن الاولاد الذين يرسلونهم الى المدارس العامة، سرعان ما تختلف عندهم القيم بنحو مناقض. هذا ما يمكن ان نشاهده في مناطق شعبية من المدينة: مخدرات، مثليين، حشيشة، مشروبات كحولية، معارك شارع وعصابات...
أ. نويل: ما هو الرأي في مقترح ان مختلف الكنائس الآشورية الكلدانية، السريانية، الكاثوليكية والارثوذكسية واللاتينية وغيرها، أن يكون هذا الموضوع مشتركا بينها...
مار ميلس: هذا ما أودّ أن أقوله
أ. نويل: اما يوجد المجال لتحرّك مشترك في التأثير بمثابة كتلة ضاغطة...
مار ميلس: أبونا لو تعرف كم نعمل في مثل هذه الضغوط! لكن المسألة أنهم عملوا في استراليا الاحصائيات: فوجدوا أن 60 في المائة من الشعب الاسترالي هم من غير المؤمنين، من الإلحاديين، فماذا نعمل مع هؤلاء؟ في أحد الأيام كنت في اجتماع ضم انگليكان وكنائس متحدة وكنائس مشيخية... طالعت آجنده الاجتماع فإذا هي عن: النساء القسيسات، حقوق المثليين من الذكور والاناث، قيام قسس مثليين. قلت مع نفسي لننتظر ماذا يطرحون أيضا... وفي نهاية هذه النقاشات قلت لهم: هل يمكنني أن اقول شيئا؟ قالوا: أجل أجل، فنحن نريد أن نسمع موقف الأرثوذكس من هذا الشأن؟ قلت:
إني متعجب ومحتار ومتفاجئ، ففي هذا البلد يوجد أكثر من 60 % من الناس وهم غير مؤمنين ومن الالحاديين. فبدل أن تأتوا وتقولوا: تعالوا نرى ماذا نعمل لنشر بشرى الانجيل، ونعيد اهتداء الناس الى المسيح... أنتم جدول اجتماعكم اقتصر على مواضيع قد تناقشها اي جهة غير دينية، وعن المرأة القسيسة وما إلى ذلك... قسيسة لمن؟ إذا كانت كنائسكم فارغة؟ أقيموا ما تشاءون من قسيسات. ولكن اذهبوا إلى معابدكم، كنائسكم الانگليكانیه في  انكلترا حولتموها اما إلى شقق سكنية او مخازن او سينمات أو مقاهي أو نوادي أو جوامع. الكنائس المتحدة، تذهب إليها فتجد بعض المسنين، حوالي العشرين نفرا، يأتيهم القسيس للقربان... بل لا يوجد عندهم قربان، فقط نصف ساعة موعظة ثم يخرج مغادرا.
أ. نويل: ماذا كان جوابهم؟
مار ميلس: الواحد ينظر الى الاخر، بصمت، لكن كلمة الحق يجب ان تقال.
لقد حدث وجاؤا الى كنائسنا، فوجدوها مكتظة نهار الاحد بالمؤمنين، حوالي الالفين، فسألوني: هل كل نهار أحد لكم مثل هذا الكم من الناس؟ قلت لهم: نعم وهذا هو الحال في سائر كنائسنا المشرقية، الكاثوليكية، الأرثوذكسية، من كلدان وسريان وغيرهم. وقلت لهم: هذا الفرق بيننا وبينكم عندما يقتصر الحديث عندكم على الزواجات بين المثليين واقامة قسيسات ومواضيع عن حقوق الانسان... ومواضيع حوارات مع أديان قد لا تجدون معها في النقاش ارضية مشتركة. وآضاف مار میلس: اننا امام نوع محزن من انواع الجهل...
في لبنان تثبيت اسم الكنيسة الآشورية الأرثوذكسية
أ. نويل: سيدنا، لفتت انتباهي مفردة استخدمتموها في الحديث وهي وصف جانب الكنيسة الاشورية بـ (الارثوذكسية) وقد سبق واعتمدها الباحث الفرنسي جان پيير فالونيه، في كتابه (حياة وموت المسيحيين في الشرق الاوسط) عندما صنّف العائلات الكنسية المذهبية في الشرق الاوسط بين الكاثوليك وغير الكاثوليك، فسمى الاشوريين باسم: الاشوريين الارثوذكس، مقارنة بكلدان وآشوريين كاثوليك...
مار ميلس: نعم هذه المفردة تتجاوز الالتباس، وبها سجلت كنيستنا في الدوائر الرسمية بلبنان: الكنيسة الاشورية الارثوذكسية. وأضاف:
- في جانب التحاور مع الجانب الكاثوليكي، في شهر نوفمبر، نحن ذاهبون إلى الفاتيكان...
مع الفاتيكان، الاتفاق القادم على الأسرار
أ. نويل: يطالعني بفرح ما ارى من اعتزاز في لقاءاتك مع الباباوات، في الصور هذه التي بجانبنا...
مار ميلس: تعوز الصورة مع البابا يوحنا بولس الثاني، وانظر هناك، الصورة مع سيدنا ساكو، فنحن معه اصحاب، أصحاب...
وعن موضوع اللقاء في الفاتيكان قال مار ميلس: نحن في 26 و27 نوفمبر بصدد القيام بإعلان مشترك حول الأسرار السبعة.
أ. نويل: وكان حتى الان الاتفاق الوحدوي الذي بموجبه (حيثما يكون كاهن من احدى الكنيستين الشقيقتين: الكلدانية والاشورية، فهو يخدم ايضا الاسرار لأبناء الكنيسة الشقيقة الأخرى...)
مار ميلس: الان نتقدم نحو خطوات أكثر، على أساس اتفاق مشترك على الأسرار السبعة ومن ثم نتحول الى مرحلة ثالثة.
أ. نويل: هذا شيء مفرح، وماذا عن سر الزواج؟
مار ميلس: فعلا الزواج ليس ضمن الاسرار لدينا، ولكن الاتفاق ان يكون القبول المتبادل بالاسرار لدى الكنيستين الكاثوليكية والاشورية. نعم كان الزواج عندنا ضمن الأسرار وحتى طقس الموتى. ثم طرأت تغيرات في تحديد الاسرار.
أ. نويل: حتى الكنيسة اللاتينية سر الزواج فيها يعتمد على اعلان رضا الطرفين وقبول العلاقة الزوجية، أمام من يمثل الكنيسة كشاهد على السر.
وعن ذكرياته عن الفاتيكان قال مار ميلس:
عندما يكون وفدنا في روما، ننزل في نفس البناية التي صار يعيش فيها البابا فرنسيس، فيما كان البابوات يسكنون في شقة مستقلة. وهكذا في أحد الايام التقينا معه في نفس المصعد، وكنا معًا على العشاء بحضور البطريرك. دخلنا في مناقشات عن استراليا وأحداثها، وكان ذلك عبر مترجم انكليزي، مع المداخلة ببعض العبارات الانكليزية، وكان يبدي الكثير من الاهتمام بتلك المواضيع.
أرى بأن الكنيسة الكاثوليكية تحتاج الى التغيير وأن يكون تغييرا تدريجيا، وذلك لتفويت الفرصة على مختلف المناوئين. خصوصا فيما تستهدف به في هذه الناحية أو تلك، بهدف الاستغلال وكسب المال. الكنيسة الكاثوليكية بل كنيسة المسيح على الارض عموما، هي آخر سور منيع إزاء مختلف الحركات اليسارية المتطرفة وغيرها من الذين يضعون أمام أعينهم، أنه حالما غـُلبت كنيسة المسيح، عندئذ ينقضي كل شيء لصالحهم.
أ. نويل: نعم فالهدف مشترك. إزاء هذا، لنأخذ الكنيسة الاشورية والكنيسة الكلدانية، هناك أكثر من رأي أن ثمة تراكمات ايجابية ومنها متباينة بين الكنيستين، ولا يرون ضيرا في استقلاليتهما عن بعضهما، فإن كان الامر كذلك، ما هي خطوات التقارب على مستوى كنيسة روما الكاثوليكية. هذا التقارب نراه إذن يجري على مستوى الشركة العقائدية، وانتم بصدد التقارب بشأن الاسرار، إنه تقارب المحبة.
مار ميلس: الوحدة الكنسية ليست مسألة من يكون الرأس، المسألة هي أني أنا وأنت يربطنا حب المسيح وما يصيّرنا كمسيحيين في الشرق وما هو مشترك بيننا، فالداعشي عندما يذبح لا يفرق بين كلداني وآشوري.
أنا أدعو إلى أن نمضي في اللقاءات مع بعض بين جانبي الكنيستين الاشورية والكلدانية، نجلس مع بعض بمحبة، ونخرج ونشارك الشعب على ما اتفقنا عليه، وما نقوم به من خطوات. وبذلك تصير التوعية للشعب، بما يجمعنا كمسيحيي المشرق. وأدعو الى المزيد من الخطوات التي من شأنها توثق اواصر المودة، بين بعضنا وبيننا وبين الشعب. مثل هذه الخطوات نعيشها هنا ميدانيا، عندما يدعوني مار اميل الى مناسبة أذهب، ونعيش ونشهد لما يربطنا من مودة واحترام، في دعواتنا ولقاءاتنا المتبادلة. هذه العملية بقدر بساطتها، لكن صداها يتحسسه الشعب بارتياح. وهكذا نمضي بالبناء على مستوى لقاءات الكهنة، وتجمعات دورية للشبيبة، وسفرات من كنيستك ومن كنيستي، بحيث شيئا فشيئا نبني ذلك الشعور المحبب لدى الشعب، وتذوب فيما بينه السلبيات، ويكون الشعب عندئذ جاهزا للوحدة ومطالبا بها.
ما يجمعنا من تاريخ ومصير
ا. نويل: سيدنا ينحو حديثنا منحى يرشحه ليوثق اعلاميا، ما هو رأيك؟
مار ميلس: نعم وانا استجبت للكثير من المقابلات، آخرها من الرابطة الكلدانية في ملبورن، واسعى للاستجابة لها بعد ما يتوفر لي من وقت، فقد دعوني لأن أحاضر عن الطرق التي نستطيع من خلالها أن نبين للشعب الكلداني وللشعب الاشوري كل ما يجمعهما من عناصر، بغض النظر عما وضعته فيما بينهما الاحزاب الوطنية السياسية: فلقد قسّمونا بالتسميات وقسّمونا بأحزاب متضادّة، يشتمون الواحد الاخر في الانترنيت، يكتب هذا ضد هذا وهكذا...
جاءني مرة، ممثلون من مختلف الاحزاب، وبدأوا يتكلمون نحن ونحن الاثوريين... قلت لهم:
أريد أن اقول شيئا بسيطا جدا. شيء مما يسمى بالحقيقة الواقعة، الواقع العملي. يوجد شعب يسمي نفسه بأنه كلداني ويؤمن بذلك. لماذا انت تأتي وتقول لهذا: لا أنت بالرغم منك أشوري. عجيب! والله عجيب، أن أقول للكلداني أنت لست كلدانيًا انت آشوري. هؤلاء عندهم هذا الايمان ويؤمنون به. إذن يوجد شعب هنا وشعب هنا. هذا عنده فيما بينه علاقات وروابط وثقافة وتاريخ. سؤالي الوحيد ما هو الخطأ أو حتى الجرم، أن يقبل الواحد الثاني. ما الضرر أن يقول لي الموقر عوديشو أنا كلداني: أقول له: أهلا أخي الكلداني.
لماذا يخرج هذا أو ذاك بالانترنيت ليقول: لا ليس هناك شعب كلداني وآخر يجاوب. حالة مزرية عندما الواحد يلغي الاخر، بينما مصيرنا الاثنين هو مصير واحد.
أ. نويل: هل هذا هو تصريح شخصي من مار ميلس، أم ان ثمة مجموعة أساقفة بهذا الاتجاه؟
مار ميلس: هذا مني ومن مجموع اساقفة، ولا يوجد جماعة لا يكون فيها قلة من المدرسة القديمة. أجل إن هناك شيء اسمه حقيقة، كيف حدثت هذه الحقيقة، كيف جاءت... هذا موضوع، لكنها في نهاية الأمر واقع حال ولنا أن نقبل به.
مرة في تصريح تلفزيوني، قلت: نحن الاشوريين والكلدان: كثيرا ما اختلفنا وتشاحنا حول مسألة الاسماء وما إلى ذلك، لكني أود أن اقول لكم، نحن كلانا وكأننا في سفينة واحدة، الشعب الاشوري والشعب الكلداني، وهذه السفينة تتقاذفها الامواج، ونحن كلانا مهدد بالغرق، ليس باستطاعة كل منا أن يلقي نفسه في البحر، فالساحل بعيد لنخلص، ومع كل هذا لا نتفق كلانا على طريق الخلاص. كلانا في السفينة الواحدة يتهددنا المصير الواحد، ونحن نتعارك مع بعضنا.
أ. نويل: سيدنا، ما الذي يجعلك تقول اننا كلانا في سفينة واحدة؟
مار ميلس: الاشوريون والكلدان، فقدوا ثقافتهم، لم يعد بوسعهم أن يحموها. ليس لنا مؤسسة كبرى مشتركة تحمي ثقافة الاباء وارثهم، ولا اللغة استعطنا أن نحميها؟
أ. نويل: كيف؟
مار ميلس: اعطيك مثلا: اطبع كتابا بالسورث. من يشتريه؟ تطبع الف كتاب، خمسون منها يباع والباقي يبقى للتلف، لغة كتبنا لا احد يفهمها ويقراؤها. لغتنا تضيع وبالتالي هويتنا تضيع. والمرء الذي لا يحافظ على لغته، فحتى هويته ايضا تضيع. كل منا اصبح بين استرالي، نيوزيلندي، امريكي او كندي وغير ذلك.
الشيء الثاني، موضوع كنائسنا. أبونا في يوم من الايام وانت تكرز الموعظة، يمكنك ان تعاين الجالسين أمامك من المؤمنين، سترى الناس بغالبيتهم العظمى من المهجرين حديثي العهد او السنوات. ويمكنك ان تحصي كم واحدًا منهم ولد هنا، في بلد الانتشار. أجل إن كنائسنا مملوءة ولكنها مملوءة من القادمين الجدد، من جيلنا، ولكن أبناءنا لا يأتون: لماذا: لأن توجد حرية الاختيار. يقول لك قائل: أنا اذهب الى كرازة إحدى الكنائس المسيحية، إنهم يتكلمون بمفهوم قريب مني وبما أحتاجه من الكتاب المقدس. لماذا اذن اذهب عند الكلدان أو الاشوريين، وأبقى اسمع: لا تعمل هذا ولا تذهب الى كذا ولا تتصرف هكذا. إني أذهب الى كنيسة تناسبني. إن الذي يحدث مع شعبنا، إنه يذوب في الشعوب الاخرى.
أجل ان الشعب عندما يفقد اللغة، يضيّع ثقافته وأغانيه وأشعاره ولهجاته، عندئذ يضيع كل شيء، خصوصا أنه ليس لنا أرض يتشبث بها فيقول: هذه ارض اجدادنا: قل لأحدهم اليوم، كلداني أو اشوري، هذه ارض نينوى، وقد عملوا فيها حكومة باسمنا وجمهورية من عندنا، فهل تعود؟ لا أعتقد.
أ. نويل: مهما كان سيدنا، للمفارقة أقول اني فرحت، وان كنا مهددين، عندما قلت نحن كلانا في السفينة الواحدة. أود أن أسمع ما هي العناصر المشتركة بيننا لتسوق هذا التشبيه بأن نكون كلانا في سفينة.
مار ميلس: أجل، كلانا تجمعنا لغة واحدة، حياة مشتركة، موجودين في تاريخنا المشترك، لدينا علاقات مصاهرة وزواج، هذه وغيرها تجمعنا في هذه السفينة.
ولكن للاسف، هذه العناصر ايضا، ذاهبة نحو الاختفاء: لأن أبناءنا يتزوجون من المحليين، العلاقات العائلية تتبخر، وأبسط مثال على ذلك عندما تزور أحد البيوت وترى اولادنا وبناتنا، كل مشغول بهاتفه الجوال، أنت تتكلم لا أحد يسمع. هذا .... (مشيرًا الى الايفون) قطع العلاقات الاجتماعية. نحن الذين نعتبر كشعب اجتماعي، لسنا انعزاليين مثل شعوب اخرى، نحن نجلس معا نتكلم، نضحك نأكل ونشرب، هذا ايضا بدأ يقل في علاقاتنا الاجتماعية التي بدأت تغيب، وتغيب معها المقومات التي تجمعنا. ولا يوجد أمامنا في المدى المنظور شيء مطمئن للعيش الامن في المنطقة، خصوصا مع بروز الاصولية والارهاب والغاء الاخر. بينما تعمقت اساساتنا في بلدان الانتشار.
السعى الكنسي الى رحلات الحج إلى أديرتنا وكنائسنا
أ. نويل: ولكن سيدنا، يمكن التشجيع على التواصل مع البلد بطريقة أو بأخرى.
مار ميلس: نعم، فكرت مليا في هذا الحل. تأتي الشبيبة عندي ويقولون: سيدنا نذهب سفرة الى اورشليم. أقول لهم: في العام الماضي ذهبتم الى هناك، لماذا هذه السنة لا تذهبون الى شمال العراق: اربيل، الربان هرمز الاديرة الكنائس القديمة، وهكذا شجعنا أن تذهب مجاميع الى البلاد فقالوا: كيف يا سيدنا لم نأتي الى هنا من قبل.
فأنا أؤيدك ان التواصل ممكن عندما الكنيسة تعمل مثل هذه السفرات، هي افضل عملية تواصل مع البلد وبين ابناء الشعب.

57
رحلة ايمانية من بين النهرين

الأب نويل فرمان السناطي
عن محاضرة في مدينة ملبورن استراليا - آب 2017
* عدسة المصور سمير نونا صفار

لقد رأيت أن اقدّم هذا الموضوع، كشهادة مطروحة من زاوية صحافية أنثربولوجية، متعشقة بما دعاني إلى ان اقبل الكهنوت كمنحة مجانية، فيما قارنته بدعوة عمال الساعة الاخيرة، وأن تشمل المشاركة جانبا مما  يجعلني في الغرب، اتملّى بإيماني أمام مجتمع حديث الايمان، وأقدم الموعظة كمن يحضّر لتحقيق صحافي او مقال افتتاحي... كنت أسعى خلال ذلك قدر إمكاني البسيط للاستجابة المتجددة لنداء بطرس الرسول (كونوا مستعدين لأن تقدّموا جوابا مقنعا لكل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي في داخلكم 1 بطرس 3: 15.) وان استلهم في ذلك من ولادتي في  بيئة ترى أنها تفهم بيئة يسوع وما ساقه من أمثال ورموز في احاديثه وما عُرض في الانجيل من أحداث لا غرو ان اشارت اليها اللوحات الفنية العالمية ولكن جانبا منها ما كان يعكس المشهد كما عايشناه، اضافة الى اننا أصبحنا في أماكن متعددة من الغرب أمام جمهور، يكاد لا يعرف الا تاريخه المباشر والقريب.

قصة قائمة مستمرة
أجل إنها قصة قائمة ومستمرة، فهي ليست وصفًا لما مضى في وقته واوصلني الى الكهنوت. إنها بالأحرى انعكاس لما أدّى الى وضعي الحالي ككاهن، بقدر ما هي تأمل في يمكن من تعايش وتفاعل ايجابي مع العالم الذي حوالي. مع ما رافقني من مبادئ في السعي لتفهم معتقدات وثقافات من حولي من مؤمنين او غير مؤمنين.

معتقدات اجدادي النهرينيين
إني من أبناء بين النهرين، حيث تعامل أجدادي مع عناصر الطبيعة، وتأملوا في ما يمكن ان يحكمهم، من علاقة وجدانية مع هذه العناصر، علاقة كانت اول ما شدّ هؤلاء الأجداد الى القوى العظمى في هذا الكون. فحاولت أن أقرا من هذا المنظور ما ورثه آبائي وتداولوه من عادات وتقاليد ترتقي الى عدة آلاف من السنين.
يقترب إلى فهمي ما جاء من شفاءات يسوع المسيح لما سمي برؤوس الأهلة (ريشا دسيهرا) وما رتـّله القديس افرام في تبريكات العرسان (الشمس في حرّها لا تؤذيك ولا القمر في تبدلاته: شمشا بحومّـيه لا نكـّيخ وأپ لا سیهرا بشوخلاپه.)
فانبهرت عندما سألني يوما الوالد فرمان احد معمّري قريتي، عن تفسير ما كانوا يردّدونه برهبة أمام أول ظهور للقمر هلالا وهم يرسمون علامة الصليب: بجاهك وصلاتك يا قمر (خيلوخ وصلاواتوخ او سهرا.)

مبادرة أولية من الوحي الالهي للبشر من فوق أرضنا
هناك ما يدعوني الى ان أتأمل في اولى محاولات اجدادي للانفتاح الى الحالة الطقوسية والايمانية، في زمن الميثولوجيا، معوّلا على مبادرة الله الاولى ليكشف عن وجوده من خلال الكون، الذي انبهر به اجدادي. فكانت الذبائح الى عناصر الطبيعة: القمر، الشمس، الرعد... اولى اشارات تجاوب اجدادي مع جوانب خارقة من المطلق.
وفي كل هذا يسترعي انتباهي بانبهار ما يكتشف في الحقل الاريكوولجي الاثاري، فديانتي لا تقف سدّا منيعا امام اكتشافات العلم والمؤرخين بل تزوّد ابناءها بعناصر قراءتها الايمانية. مما يدعوني ان أقرأ أولى معالم التجلي الالهي للإنسان بنحو عام وابتدائي.
اسم قريتي والقرى المجاورة
فكم يكون اذن حبوري عندما ألمس أن اجزاء عديدة من الكتاب المقدس حُررت على ارض اجدادي المعروفة بكونها مهدا للحضارات. من ذلك القصة التعليمية للطوفان والتي جاءت كقراءة تحت الوحي الالهي والإيمان بالخالق وعلاقته مع البشر. من ذلك ملحمة  كلكامش، وما جاء في قصة الطوفان ونوح، مما ترك اثره على ذاكرتنا الجمعية، وبضوئها، تفاعلت مع ما طرحه المؤرخون من مضامين تسمية عدد من قرانا عندما تكشف لي ان القرية التي ولدت فيها (اسناخ – سناحت - سناط) وجدت جذور اسمها في المراجع الكتابية، تحديدا في قصة نوح والطوفان، حيث رست سفينة نوح: اس نوخ، المكان الذي ارتطمت فيه مرساة سفينة نوح... هذه القرية وعدد من القرى المحيطة، في ما نظر اليه كإشارة إلى أن هذه القرى تعدّ أبناءها منحدرين من جيل الانسانية الجديد لما بعد نوح. على وفق ما ذكره المؤرخ الدومنيكي الأب حنا فيـّيه، في كتابه آشور المسيحية، وهي  قرى مثل: دشتتاخ زرناخ، أپراخ، درناخ، گزناخ و ديرابون (وهذه الاخيرة تم تفسیر اسمها على انه تكتمل بهذا النحو: دير أبون نوح)...
 فكانت القراءة في قصة نوح ضمن مؤشرات العلاقة بين الله والانسان، على ضوء ما كان من دلالات وردت في ملحمة كلكامش الشخصية الاسطورية السومرية ، وما تلقّـاه عن جده اتونابشتم، بشأن مخطط كشفه له مُحبه احد الاله (أيا) عن هلاك الجنس البشري، مما دعاه الى انشاء الفلك بغية الخلاص من الطوفان. كما ان ثمة نظرة متصوفة عن شجرة المعرفة، وما قورن مع انفتاح كاتب سفر التكوين إلى  أول تعامل للانسان مع عناصر الخير والشر، والعلاقة مع الخالق. ووجدت هذا على ضوء انفتاح كنيستي، خصوصا مع انطلاق بحوث الكتاب المقدس، في القرن العشرين، للتجاوب الإيجابي مع  المعطيات العلمية والتاريخية وقراءة لعناصر الميثولوجيا في بلاد بين النهرين  من منظور الوحي في الكتاب المقدس.

بين النهرين وصلة الترابط بين الديانات "الابراهيمية"
على ضوء هذا تفاجأت باستغراب شديد خلال زيارة الى الارض المقدس (2013) لمتحف تاريخي في أورشليم، بمقارنة رأيتها تمتاز بالسطحية والادّعائية والسذاجة عندما اكتفوا بالقول ان اليهودية قدمت للبشرية كلا من تفرعات المسيحية والإسلام ... بينما من خلال رحلتي الايمانية، وما اجريته من مشاركات بشأن جذور ايماني، بقيت أتأمل بدهشة و بنحو معاكس، ان اجدادي هم الذين اعطوا للبشرية، مفهوما ايمانيا دينيا وطقوسيا، تكرس بمناح متباينة، في الديانات التي تعلن كل منها الانتماء الى ابراهيم؛ ولكن العطاء وجد قمته وذروته المجيدة، من خلال ما تكرس في المسيحية التي تمثل جزءًا ديمغرافيا كبيرا على الكرة الارضية، حيث تكرس مفهوم الحمل والقربان والذبيحة.
فما وصلني من تراث أجدادي النهرينيين، وما كان من انفتاح الكتـّاب الملهمين في عدد من اسفار الكتاب المقدس، هناك ما تناغم مع الميثولوجية النهرينية في تقديم الذبائح. فكان ابراهيم أبو المؤمنين وأحد أجدادي من اور الكلدانيين، عندما أوحي اليه بشأن ما يقدّمه قربانا للخالق الذي خاطب روحه المنفتحة لتعبّـد الله، فهم بأن أفضل ما يمكن أن يقدّمه لله، هو ابنه، في ايمان كبير منه بالخلود، من خلال انصهاره مع ابنه، ويرى الآباء في هذا واحدا من أسمى رموز الايمان بالأبدية. فكان كبش الفداء حاضرا، ليحلّ محل اسحق، وكان اسحق طبقا لمفهومنا المسيحي الانجيلي رمزًا ليسوع المسيح الابن الحبيب المقدّم قربانا للخلاص.
ومن ثم فإن قرابين الفصح عند اليهود، وتقديم قرابين الاضحى في الاسلام، هي المنحدرة مما تفتقت عنه الروح البشرية في أول انفتاحها في بلاد مهد الحضارات بين النهرين، من عصارة تعاملها مع السامي المطلق، في الضحايا، ذبيحة كفارة وشكر.
ومع تطلع أبينا ابراهيم للوحدة مع الذات الالهية من خلال تقديم ابنه على المذبح، ها هو بحسب إيماني، الكلمة المتجسد، الذي اتحد بنا لحما ودما، ها هو على مذبح الشكر الاوخارستي، يدعوني للاتحاد بالله عبر ذبيحة القداس الالهي.
ومن ضمن كل ما يجذر ايماني في عمق حضارتنا النهرينية اراني امام رسالة ازاء من حولي، خصوصا اولئك الذين أومن بأن ناموس الله مكتوب في ضمائرهم بقدر كونهم يسيرون بإرادتهم الصالحة نحو خيرالبشرية. فإن ما يميزني عنهم، بنعمة مجانية، هو ان مسيحيتي لا تدعوني الى العبادة المتباعدة والمبهمة تجاه خالق بعيد منال، فهي اتحاد بنوّة حميمة مع هذا الخالق، وهي رسالتي الى غير المسيحيين تهدف الى ان ينهلوا في ارادتهم الصالحة، وفي ضميرهم الصافي، ما يعمّـق اخوّتهم مع بعض بحثا عن البنوة مع الآب والخالق.

ايقونة حية متفردة احملها مسيحيا الى العالم
اذا كانت بلادي بلاد الزقورات وبرج بابل وشريعة حمورابي، فإن شعبي النهريني بمكوناته الثقافية وارثه العريق، يحمل ايضا في صدره ايقونة حية متفردة بين الشعوب، الا وهي اللغة التي تحدّث بها يسوع المسيح، وما يصِلني بالبيئة الانثروبولجية التي عاشها يسوع وتحدث برموزها.
فيقترب إلى فهمي ضمن البيئة إياها أحداث ساقها الإنجيل منها قصة المرأة الخاطئة مع يسوع على مائدة الفريسي، والتي اقتربت الى قدميه من الخلف. لأذكر سياقات المآدب الأرضية في قرانا الجبلية المرتقية الى زمن المسيح وما قبله، و كيف كان المدعوون متمددين جانبيا محلقين حول المائدة لتأتي المرأة التائبة بقارورة طيبها، على اقدام يسوع من الخلف.
وأفهم كيف فتح الناس بسبب زحام الجمهور سقف دار لينزلوا منها المُخَلَّع بغية عرضه على يسوع  ليشفيه. وأفهم كيف كان قارع الليل، يحرج صاحب الدار فلا يستطيع ان يفتح الباب في الظلمة خشية ان يدوس على اولاده النائمين. إذ غالبا كانت تنام العائلة في الصلة الوحيدة من البيت بعد ان يطفأ سراج الزيت...
 وأفهم قول يسوع  أنه يعمل ما دام النهار... فأبناء قريتي كان يخلدون الى النوم بعد غسق الغروب، ويبكرون الى العمل بعد أول شفق للشروق، وهم يعيشون ليلهم ونهارهم بهدي من جاء ليكون نور العالم.
وثمة ما يُموسِق عندي التطويبات بلغة المسيح بنحو متفرّد، وما يجعلني أصلي المزامير باللغة عينها التي خاطبنا بها المخلص وبها كان يصلي ليلا؛ كما أن صلاة أبون دبشميا بلغة شعبي، مقارنة بنظيراتها المترجمة الى اللغات ألأخرى هذه الصلاة التي يتناغم لفظها عندي بنكهة لا تضاهي. ومن ذلك أيضا مفردات باتت الترجمات الى مختلف اللغات، ترددها، تلقى صداها في لغتي الام، لغة يسوع، عندما اسمع الانجيلي يورد عبارات مثل: طليثا قوم (يا صبية قومي) وعندما يضع على لسان المجدلية وهي تخاطب يسوع الممجد بالمفردة الحميمة (رابوني) كصيغة مصغرة من باب التحبب لكلمة رابي - معلمي.
هذه كانت جولة شمولية متواضعة في الرحلة الايمانية لابن النهرين، وهي برأيي تدعو الى المزيد من الغور،  لاكتشاف هذا التناظر بين الحضارة البشرية وتاريخها، وبين الديانات الابراهيمية؛ وعندي يدخل هذا التعمق في باب الاستجابة لنداء هامة الرسل: بأن نعطي الجواب لكل من يسأل عن سبب الرجاء الذي في داخلنا.


58
2- يوميات من استراليا - في شؤون الرابطة الكلدانية وشجونها
حوار مع السيد عوديشو المنّـو

حوار أجراه الأب نويل فرمان السناطي
ملبورن، آب 2017

سلسلة يوميات

بنحو غير مخطط له، وفي أجواء ثقافية ونشاطات علمانية شهدتها لدى زيارتي لاستراليا، تكونت لديّ تدريجيا، سلسلة كتابات، بدأتها أصلا بالمقابلة التي نشرتها مؤخرا مع الزائر ايضا المطران بشار متي ورده رئيس ايبارشية اربيل، بشأن إغاثة المهجرين، فرأيت ان أوثق تلك المقابلة ضمن تسلسل هذه الكتابات ليكون هذا الحوار الجزء الثاني مما سميته (يوميات من استراليا).

تقديم

ففي مركز للآباء السالزيان للخلوات الروحية، بضواحي ملبورن، كان هذا الحوار مع الشماس عوديشو المنـّو، وهو زميل في التلمذة بسمنير مار يوحنا الحبيب، للاباء الدومنيكان- الموصل، وكان والحق يقال واحدا من ابرع التلاميذ في دفعتنا، وكنت واثقا انه عرف كيف يشق طريقه في الرسالة العلمانية، سواء ببناء عائلة متميزة، او بمشاركاته الاجتماعية المسؤولة، فلم أفاجأ حين علمت بأنه عضو في الرابطة الكلدانية فرع فيكتوريا، والمسؤول المالي فيها. ومن هذا المنطلق يحدوني الاعتزاز ان اقدّمه لسادتي القراء الكرام، في ما يسلطه من اضواء على الرابطة وهي في طور انطلاقها برعاية بطريركية مباركة.
ولا أخفي القارئ، أني ككاهن، وجدتني في هذا الحوار كالمتتلمذ على ناشط كلداني علماني في اطار خدمته الخاصة. وأهمس ايضا ان الحوار كان تسجيلا فيديوا مرشحا لمجرد التداول على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا به كما أعتقد، يقدم مادة مستفيضة جديرة بالتوثيق، بل مارس زميل التلمذة ابداعه بأن قام بتفريغ الفيديو تحريريا!
بدأت بالاستيضاح التعريفي من السيد عوديشو بولص المنـّو عن الرابطة فسألته:
- الاخ عوديشو، حضرتك من المهتمين بالشأن الكلداني وتنتمي للرابطة الكلدانية ممكن تحدثنا قليلا عن الرابطة؟ فأجاب:
- منذ اول يوم اقترح غبطة البطريرك مار لويس ساكو فكرة تأسيس رابطة كلدانية تعمل لبناء البيت الكلداني، كنتُ من المتحمسين والمؤيدين لها، وكنت على اتصال دائم مع الاخوة الباقين المهتمين بالشان الكلداني. لم تسنح لي الفرصة للاشتراك بالمؤتمر التأسيسي للرابطة ولا بالمؤتمر الثاني لظروف خاصة بي، لكن مع ذلك كانت فرحتي كبيرة عندما تبنى سينودس الكنيسة الكلدانية المقترح البطريركي وتم تأسيس الرابطة بحضور ومباركة غبطته ومطارنة اخرين.
عندما اراد الاخوة المهتمون بالشأن القومي الكلداني في مدينة ملبورن انشاء فرع الرابطة في هذه المدينة وطلبوا مني الانتماء للرابطة وافقتُ على الفور وكنتُ من ضمن الهيئة الادارية الوقتية لفرع فيكتوريا وكذلك في الهيئة الادارية المنتخبة سنة 2016  واني الان المسؤول المالي للفرع.
الهدف من تأسيس الرابطة وكما جاء في نظامها الداخلي هو بناء البيت الكلداني، لأن الكلدان كانوا مشتتين فلزم على مؤسسة او منظمة مدنية علمانية ان تعمل على توحيد صفهم وتدافع عن حقوقهم المدنية  والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية في الوطن الام خاصة  وفي المهجر عامة. فكانت الرابطة تلك المؤسسة العالمية التي باستطاعتها تلبية طموحات الشعب الكلداني. وهي الوسيلة التي بامكان الكلدان ان يجمعوا شملهم من خلالها، ويتواصلوا مع بعضهم ومن كل جهات العالم حيثما يتواجدون. الرابطة اذن وسيلة التواصل بين الكلدان في الوطن الام والمهجر، وتساعد الذين في الشتات بان يتكيفوا في مجتمعاتهم الجديدة، وأن يحافظوا في الوقت عينه، على ثقافتهم وتراثهم ولغتهم، إذ لا تخلو دولة في العالم لا يوجد فيها كلدان . أكيد لدينا جمعيات كلدانية واتحادات ولكن هذه محلية اما الرابطة فهي عالمية ولها فروع في كل بلد، وان كل بلد له خصوصيته وظروفه فتعمل الرابطة وفق هذه الخصوصية.
وبما  ان فكرة تأسيس الرابطة وتحقيق ذلك جاء من الكنيسة  فهي اذن تعمل مع الكنيسة وبخط متوازِ معها ولا تتضارب معها او تعمل بالضد من اهداف الكنيسة.

الأب نويل: أما يستجد تساؤل بأن الرابطة قد تثير ريبة وحدويين كثيرين من أبناء شعبنا النهريني، على تعدد مسمياتهم القومية الاثنية، بينما يشترك شعبنا بمقومات عديدة؟

ج: ان هدف الرابطة والذي أعلن بوضوح، هو ألا تتقوقع على نفسها ولا تكون منغلقة فتعمل بالضد من باقي المسميات الاثنية لأبناء شعبنا من الاشوريين والسريان ، بل تعمل معهم بيد واحدة. وان التهمة الملصقة بالرابطة بانها انقسامية او انعزالية تهمة أراها باطلة وغير صحيحة. فالرابطة منفتحة على جميع اطياف الشعب العراقي وخاصة الاخوة المشتركين معنا بمقومات مشتركة كالاشوريين والسريان، وهذه المقومات هي الوطن الواحد واللغة والدين والتاريخ والتراث... ولا يجوز بتاتا ان تكون التسميات التي نتسمّى بها نحن الكلدان والاشوريون والسريان سببا لتفريقنا وتضاددنا، كما لا يجوز ان تكون عائقا للتعاون والعمل بيد واحدة. وكما يقول الاخ الدكتور عبدالله رابي في كتابه الموسوم" الكلدان والاشوريون والسريان المعاصرون وصراع التسمية" ما نصّه:  )بسبب تلاقح الحضارات اجتماعيا وبايلوجيا وفقا لنظرية الانتشار والاقتباس الحضاري ، تلك الحضارات التي نشأت على ارض بلاد النهرين او تلك التي غزتها على حقبات مختلفة حيث استقرت بعضها مئات السنين واخرى الاف السنين ومن مختلف الجهات وقد تفاعلت مع بعضها وتداخلت... ولا يمكن ان نغير قناعة الواحد تجاه الاخر طالما قد تأثر بتنشأته الاجتماعية الاسرية منذ الطفولة في المسألة الانتمائية الاثنية او القومية)  وإذا كان غير ممكن أن نغير قناعات الواحد الاخر ، فليحتفظ كل منا باسمه الذي يعتز به ويفتخر به لكن علينا، مصيريا، ان نعمل معاَ.
فهدف الرابطة كما قلتُ هو بناء البيت الكلداني ، اذ اننا ببناء هذا البيت وتوحيده نستطيع ان نعمل مع البقية وبقوة، لأنه حتى في العائلة الواحدة اذا انقسم البيت على نفسه تكون العائلة فاشلة ومشتتة.

موقف الكنيسة من الرابطة، ودعم وتشجيع المطران اميل نونا

س: ما هو موقف الكنيسة في استراليا من الرابطة الكلدانية؟
ج: ان موقف الكنيسة في استراليا بصورة عامة موقف جيد وايجابي وان سيادة المطران اميل نونا تربطه علاقة جيدة وايجابية مع الرابطة ان كان في سدني او في ملبون وهو من المشجعين والداعمين لها. ومؤخرا، وبالتحديد في 18/07/2017 ، استضافت الرابطة –فرع فكتوريا- سيادته في ندوة مفتوحة لابناء شعبنا في مدينة ملبورن . كان عنوان الندوة "الرابطة الكلدانية في المهجر من منظور الكنيسة ". تطرّق سيادته اثناء الندوة عن اهداف تاسيس الرابطة وكيف ان الكنيسة كانت صاحبة الفكرة واعطى شرحا مفصلا عن كل ذلك وقال بالحرف الواحد "ان الرابطة ليست اخوية تضاف على الاخويات الموجودة في الكنيسة الكلدانية، انما هي مؤسسة مدنية علمانية تعمل بخط متاوزِ مع الكنيسة لخدمة ابناء شعبنا الكلداني خاصة وشعبنا المسيحي عامة". وقد اعطتْ الندوة انطباعا ايجابيا عن الرابطة مما غير فكر اناس كثيرين كانوا حذرين من الرابطة، كما بين بانها مؤسسة مدنية علمانية مستقلة وليست حزبا سياسيا.

س: ماذا تنتظر الكنيسة من الرابطة وما هي تطلعات الرابطة عن الكنيسة؟
ج: على ضوء حديث سيادة المطران اميل نونا اثناء الندوة بان الكنيسة تريد من الرابطة ان تأخذ دورها كمؤسسة علمانية تهتم بالشأن الثقافي المدني للشعب الكلداني وان تعمل بخط متواز مع الكنيسة.
وان الرابطة تتطلع من الكنيسة بأن تدعمها معنويا وألا تتدخل بامورها تدخلا مباشرا، انما تسدي النصيحة لمنتسبي الرابطة اذا اقتضت الحاجة لان هؤلاء المنتسبين هم ابناؤها ولأن بناء البيت الكلداني هو في صالح الكنيسة ايضا.

س: ما هي الاضافات الاخرى التي تتطلع اليها لمستقبل الرابطة؟
ج: لكي تستمر الرابطة في مسيرتها وتتقدم، العشم كل العشم من الاخوة الكلدان بأن يؤازروها ويدعموها، وكلي ثقة بانه لو حصل هذا لحققتْ الرابطة اهدافها بنجاح متميز وعملتْ لخدمة شعبنا الكلداني. ولا ننسى بان عمر الرابطة ليس سوى سنتين، وكما تعرف بان كل مولود جديد بحاجة الى سنين لينمو ويتطور ويتقدم وينجح، فلنعط للرابطة الفرصة للعمل وبعدها نحكم عليها. وعوضا عن الوقوف بالضد منها فهذه امنية قلبية من ابناء الكلدان اينما تواجدوا ان يدعموها حتى ان لم ينتسبوا اليها . المعوقات والمشاكل لا بد ان تعتري طريقها ولكن بهمة الغيارى والمؤمنين باهدافها تتذلل هذه المعوقات وتحل المشاكل.

وبشأن المواقف من الرابطة، أضاف السيد عوديشو:
هناك بعض الاخوة المنتقدين للرابطة ممن كانوا يطالبون رأس الكنيسة الكلدانية بان يعمل شيئا للشعب الكلداني ويدافع عن حقوقه وعندما اقترحتْ الكنيسة فكرة انشاء وتاسيس الرابطة وقفوا بالضد منها !!.. الرابطة ترحب بكل نقد وفكر بناء. وكثيرون لا يفرقون بين النقد والانتقاد ، فالنقد يظهر الايجابيات والسلبيات ويبحث او يعطي حلولا للسليبات، اما الانتقاد فلا يذكر سوى السلبيات ولا يعطي اي حل.
وايضا ما يعزز نجاح الرابطة هو ان لا يعمل الشخص المسؤول فيها لمصلحته الخاصة بل يجب ان يضع "الأنا" جانبا ويعمل للمصلحة العامة، اذ ان العمل في الرابطة عمل طوعي ومجاني بدون مقابل، وايضا عليه ان يضحي من اجل خدمة شعبه الكلداني.

وسألت الزميل في التلمذة بكل بساطة وباسمي شخصيا ككاهن:
أخي عوديش، إسمح لي أن أسألك: ما المطلوب مني ككاهن في المنطقة والبيئة العلمانية التي اعمل فيها بوجود الرابطة الكلدانية؟ وما هو دوري؟ فأجابني بدالة وصراحة قائلا:
ج:  دورك ككاهن أراها بألا تقف بالضد من الرابطة بل تكون عونا وسندا لها، وان لا تخاف من الرابطة بانها ستأخذ دورك، اذ هناك تخوّف لدى بعض الكهنة بأن وجود الرابطة سيقلص دورهم في المجتمع  وانها ستاخذ مكانتهم وتأثيرهم على المؤمنين، لذلك على الكاهن ان يزيل هذه الهواجس من ذهنه ويتأكد بان وجود الرابطة هو في صالحه، لان احد اهدافها العمل يدا بيدِ مع الكنيسة . وبالتالي، على الكاهن ان يوعي الناس ويشرح لهم الهدف من تأسيس الرابطة وانها لخدمة الشعب الكلداني. كما ان منتسبي الرابطة عليهم ان يعوا ويتأكدوا بان الكاهن وأن الكنيسة ليست هنا لتملي عليهم اوامرها  بل انها تعمل مع الرابطة لخدمة الجميع.

س: في الكنيسة الكاثوليكية لرجل الدين دور مستقل عن الحياة السياسية  يبدأ بعد الشماس الانجيلي أي من الكاهن  وصاعدا الى اعلى المراتب الكنسية، وان هناك من العلمانيين من ليس لديهم ثقافة  مسيحية او لاهوتية او ثقافة علمانية عامة بل قد يكونوا من خلفية غير ايمانية ولكنهم يرغبون بالعمل ضمن الرابطة لان لهم اهتمام بالشان الكلداني...
ج: لا أجد الضير في ذلك. نعم هناك من له ثقافة روحية وايمانية ومن له معلومات او اطلاع اكثر بالشان الكلداني وهناك من هم اقل ثقافة او معلومات منه لكن هذا لا يعني بان الاول يفرض افكاره واراءه على الثاني وان على الجميع السير حسب افكاره، انما على المثقف ان يكون متواضعا في خدمته وعمله وان يكون قدوة لغيره.

س: وماذا يا أخي، لو كان هناك شخص من خلفية سياسية ومن المحتمل ان يجر الرابطة الى اتجاه سياسي معين، فما موقف الرابطة من ذلك؟
ج: من الممكن ان يكون هناك شخص له اتجاه سياسي معين وهو منتمي للرابطة فيحاول ان يجر الرابطة نحو افكاره وايديلوجيته، لكن الواجب يقع على مسؤولي الرابطة بان يضعوا حدا لتصرفات هذا الشخص  وان يبينوا له بان الرابطة ليست تنظيما سياسيا، وهذا معلن ومحدد في نظامها الداخلي .نعم الرابطة تدعم شخصيات كلدانية مستقلة واحزاب كلدانية تعمل في المجال السياسي للترشيح لاحد المجالس او البرلمانات في العراق وحتى في دول المهجر. وان انتماء شخص معين الى تنظيم سياسي ويريد ان ينتمي الى الرابطة من المحتمل بل من الاكيد ان انتماءه السياسي سيؤثر على عمله في الرابطة ، اذ سيعمل لصالح اجندة حزبه ويجر الرابطة الى تلك الاجندة .

س: هل يوجد تداخل  بين من ينتمي الى الرابطة وهو عضو في مجلس الخورنة، وتحديدا، هل كونه في مجلس الخورنة يتعارض مع انتسابه للرابطة؟
ج: برأيي الشخصي لا يوجد اي اعتراض لان مجلس الخورنة ليس تنظيما سياسيا انما هو عمل طوعي في خدمة الكنيسة وبما ان اهداف الرابطة لا تتعارض مع اهداف الكنيسة فلا مانع من ذلك كما أعتقد. من المحتمل ان بعض الكهنة لا يوافقون او يعترضون على انتماء عضو مجلس الخورنة للرابطة لكني أحسب أن هذا هو اجتهاد شخصي من لدن الكاهن المعني .

س: هناك اصداء تقول بان هناك تداخلا بهذا الشأن، اي بين انتماء الشخص الى مجلس الخورنة والرابطة فلعل ثمة حاجة إلى ان يتم توضيح هذه الفكرة فتتبلور اكثر في المستقبل؟
ج: نعم ممكن ان تُشرح الفكرة اكثر وتُوضح بان يشترط بألا يكون ثمة تداخل بين انتماء الشخص الى مجلس الخورنة وبين انتمائه للرابطة، وكما قلت في البداية بان الرابطة في دور التطور والنمو ومن الممكن ان تبدل مواد او تضاف مواد جديدة لنظامها الداخلي في المستقبل .

س: سؤالي الاخير ما هي رسالتك او كلمتك لاشخاص لديهم تنظيرات ثقافية ، تاريخية او قومية كلدانية ويعلنون انتماءهم القومي الكلداني وبدون اتجاه سياسي محدد، ولكن في نفس الوقت لديهم تحفظ عن الرابطة الكلدانية؟
ج: برأيي كل من لديه وعي كلداني وله التزام بان يعمل لمصلحة الشعب الكلداني فأمامه خيرحقل لنشاطه وذلك بأن ينتمي للرابطة لان هذه الاخيرة جاءت لخدمة الكلدان، وحتى بعض القوميين الكلدان والذين اقاموا مؤتمرات كلدانية ، كان هدفهم تأسيس تنظيم او مؤسسة تخدم الشعب الكلداني وحتى في مؤتمرهم الاخير في ديترويت اعلنوا عن تأسيس لوبي كلداني عالمي، لكن لم تتحقق الفكرة ولم تستمر، وقسم من هؤلاء الاخوة يقفون بالضد من الرابطة، وكما قلت في بداية حوارنا بانهم هم الذين كانوا يطالبون الكنيسة الكلدانية بان تدافع وتطالب بحقوق الكلدان وان تدعمهم، والان عندما لبـّت االكنيسة مطلبهم ودَعت لتأسيس الرابطة الكلدانية نراهم يقفون بالضد منها، ولا يألون جهدا في انتقاد الرابطة وانتقاد غبطة ابينا البطريرك. فانا ادعوهم للانفتاح الى فكرة الانتساب للرابطة والعمل معها واذا كان لديهم افكار جديدة تخدم الكلدان  يطرحوها ويؤخذ بها في حالة كونها تخدم الشعب الكلداني. 

س: في ختام هذه المقابلة، التي أشكرك عليها، احتاج الى توضيح أخير وهو اذا كان احدهم يعمل بالخط السياسي ولديه وعي كلداني وايديولوجية كلدانية هل من الممكن ان ينتمي للرابطة ولا يكون ضمن الهيئة الرئاسية او مسؤولا في احد الفروع؟
أجابني الأخ عوديشو بنفس الحدّية والحسم، كمن يفصل بين اللون واللون...
ج: الرابطة تتألف من الهيئة الرئاسية ولها فروع وفي كل فرع يوجد هيئة ادارية ولجان مختلفة. وان النظام الداخلي للرابطة واضح وهو بان لا يكون المنتسب منتمي لحزب سياسي لانه سيعمل من اجل حزبه وحسب اجندة حزبه. نعم الرابطة ليست تنظيما سياسيا لكنها تدعم الاحزاب الكلدانية ، وان هذه الاحزاب تحضر نشاطات الرابطة وكذلك بالنسبة للرابطة ايضا تحضر نشاطاتهم .
 



59
إعلاميان، أرثوذكسي وكاثوليكي علماني وكاهن ، يتساءلان:
أي منعطف يقف أمام كنيسة أنطاكيا الارثوذكسية؟

بقلم الأب نويل فرمان السناطي والشماس كابي جوزيف يوسف

منذ فجر المسيحية بقيت الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية من الكنائس الرسولية العريقة. وقد وصفت المسيحية بأنها تتنفس بالرئتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.
الأب نويل فرمان السناطي والشماس كابي جوزيف  يوسف، اعلاميان تعرفا على بعضهما منذ الورشة الاعلامية التي شارك فيها الشماس (الأب) نويل بمبادرة وبصحبة الأب (البطريرك) لويس ساكو، في بكفيا- لبنان في مطلع العام الفين. ومنذئذ انعقدت بين الكاهن والشماس خيوط متنامية متينة من الروابط الودّية والعائلية في سوريا، دمشق، وصولا إلى كندا. فعندما يتحادثان، يتكاشفان بدون مواربة، ويتكلمان بالمباشر، هذا ما تمخض عنه هذا المقال.

ما يميّز، في المسيحية، العائلة الارثوذكسية، تجاه الكنيسة الرسولية الشقيقة من خط العائلة الكاثوليكية، أنها تتوزّع على عدة بطريركيات في الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا وأوربا الشرقية، وأن كل كنيسة بطريركية أرثوذكسية تحوز على كيان ذاتي خاص بها، بحسب الرقعة الجغرافية لكل كنيسة وأبرشياتها عبر العالم. ويجمعها نهج ارثوذكسي واحد وثوابت مشتركة تتبعها كل كنيسة بطريركية أرثوذكسية، وتحسب لها الحساب، بحيث لا تحيد عنها تحت طائلة أن ترفع عن هذه الكنيسة أو تلك الصفة الأرثوذكسية من قبل باقي البطريركيات الارثوذكسية. وكل كنيسة ليست تحت الوصاية الادارية والاكليريكية لأي من هذه البطريركيات. هذا ما يبيّنه أبناء الكنيسة الأرثوذكسية، في إشارة ضمنية الى ما يميّزها عن علاقات الكنائس الشرقية الكاثوليكية المتحدة بكنيسة روما. وهذا ما يوحي، في الوقت عينه، بنوع استقلالية أرثوذكسية، قد لا تجد بموجبها الحافز الى المزيد من الخطوات الاندماجية سواء نحو شقيقاتها الارثوذكسية او الكنيسة الرسولية الشقيقة الكاثوليكية.

على أن هذه الاستقلالية، ربما تتمخض عن هواجس ما، عندما تعصف انقسامات في إحدى الكنائس البطريركية الارثوذكسية، فقلما توجد ضوابط هيراركية (تراتبية) ترجع اليها البطريركيات في حالة حدوث انقسام ما في إحداها؛ وكأن الخط الاحمر فيما بين هذه البطريركيات هو ما تخطوه هذه الكنيسة أو تلك تجاه روما أو تجاه توحيد أعياد الفصح. فكم سُمع أكثر من مرة، عن اجتماعات متواترة تحكي عن وحدة السريان بشقيهم الأرثوذكسي والكاثوليكي، لكن ذلك لم يثمر عن شيء يذكر لحد الآن، مما يستحق وقفة مقال مستقل.

القلق الذي يتبادر إلى الذهن هو عندما يحدث انقسام بين مجموعة معترضة تتعدى أصابع اليد الواحدة، وبين غالبية ساحقة تلمّ ضمن تأثيرات متباينة أساقفة بعدد اكبر حوالي البطريرك. هذا ما قد يلفت الانتباه مع ما حدث في المدة الاخيرة، في رحم الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ليكون حدثا غير مسبوق بخصوصيته، فأحدث الحزن، كما وردنا، في صف الغالبية الساحقة، قبل صف الأقلية المعترضة. ومما يوحي بأن هذه الغالبية تقودها يد صلبة، وأن ثمة خطوطا حمراء تمنعها من أن تتزعزع عن التفافها نحو القيادة الحازمة، تحت أنواع متباينة من الضغوط.

وكان قد طفى الانقسام على السطح، بسبب موقف تم تأشيره على قداسة بطريرك انطاكيا للسريان الارثوذكس، مار اغناطيوس أفرام الثاني، بشأن موقف علني وجد غير مألوف محليا وغير مقصود، وكان لصالح غير المسيحيين في المنطقة.
على أن ما أثار التساؤل أيضا هو أن التعامل الايجابي جدا مع السلطة المحلية في سوريا، والتآلف الملفت للنظر مع الغالبية الاسلامية في البلاد، كل هذا لم يوحِ، لا من قريب ولا من بعيد، بأي تطور يذكر، على نطاق تحرير المطرانين المخطوفين في سوريا، نيافة المطران بولس اليازجي من الروم الارثوذكس إلى جانب المطران الذي كان المرشح الساخن ، لخلافة البطريرك الراحل مار اغناطيوس زكا عيواص، وهو نيافة مار يوحنا ابراهيم؛ بحيث حصل الانطباع أن مصير المطران يوحنا ابراهيم بأن يكون طي النسيان، صار كتحصيل حاصل، وكأن ما تتمتع به الحكومة السورية من نفوذ على الساحة الدولية، لم تحفزّه قيد انملة مسألة المطالبة بانجلاء قضية المطرانين المخطوفين ومن بينهما ذلك المرشح سابقا للبطريركية السريانية الارثوذكسية مار يوحنا ابراهيم. ومما يزيد الحيرة والحزن أحاديث هنا وهناك تتكهن بإخفاء قسري أو تصفية جسدية تطال تلك القامة الروحية، مار يوحنا ابراهيم الذي طالما اسعدنا اللقاء به والعمل معه خلال مؤتمرات مجلس كنائس الشرق الأوسط.

بين الاعتذار وعودة الابن الشاطر: ومما طرح علينا اكثر من تساؤل مثير هو عن مدى مقارنة اعتذار الاساقفة الستة مع مثل عودة الابن الشاطر، وما مدى تطبيق رسالة الغفران للمسيح في الانجيل المقدس. ذلك ان عودة الابن الشاطر، الذي كان طوال الطريق قد حفظ درس توبة متسلسل ومتواصل، حالما يصل الى الأب. واذا بالأب الذي كان ينتظره من بعيد، ما ان وصل الابن الى احضانه، حتى لم يدعه يكمل تلاوة درس التوبة: أعود إلى ابي وأقول له يا أبتاه خطئت الى السماء وقدامك، وما أستحق... فإذا بالأب يأمر له بكل ما يعيد له بنوّته.

وعودة إلى مسببات موقف الاساقفة، فقد كان تأشير حالة رأوها غير طبيعية، وطالبوا باتخاذ الاجراء بشأنها. هذه الحالة كانت تتعلق بمجاملة مبالغ فيها لطرف الغالبية غير المسيحية في البلاد. فإذا بقداسة البطريرك يستيجب وبنحو جرئ وشجاع، مبينا ان الموقف من كتاب يقدّسه مواطنون آخرون لا يعني الاعتراف بكتابهم...

ومن الشجاعة الى التواضع: فمجرد استجابة قداسة البطريرك الى توضيح الموضوع، فإنه بذلك جمع بين موقف الاب تجاه الابن الشاطر، وبين الاحتكام إلى آلية الحوار فيما بين الإخوة وأخيهم الاكثر تقدما منهم.

كانت ثمة إذن استجابة، وكانت ثمة حاجة الى التوضيح، وكان توضيحا شجاعا. وكان يمكن عند هذا الحد ان تفيض المحبة فيما بين الاخوة خلفاء الرسل، وتتضاعف فرحة اعادة اللحمة. ولكن للاسف الشديد، رأينا ولعلنا واهمين، بأنه بدأ العدّ التنازلي في الابتعاد عن مؤشرات المصالحة المألوفة، وكما نراها، كسواد المؤمنين:

- فبيان التراجع للأساقفة المعترضين والاعتذار قوبل بأنه لم يكن وافيا بما فيه الكفاية.
- وعندما زاد الاساقفة بأن ذهبوا لملاقاة الاخوة الأحبار ومعهم البطريرك، لما نحسبه نوعا من مصافاة القلوب بروح الدالة الاخوية، إذا بالكيل يطفح في باب المقارنة، مع المصالحة المسيحية. إذ بدل ان يُستقبل الاخوة المعتذرون بالاحضان، اذا بهم يواجهون بما عليهم ان يدلوا به من صيغة اعتذار وتوبة، قد لا تكون بعيدة عن الإذلال.
في الواقع، بات ثمة تساؤل يتكرر أمام آليات انتخاب رهبان شباب بعمر الورد للأسقفية ليكونوا بمثابة خلفاء الرسل، وبين مسألة محاسبتهم بالطريقة التي سمعناها، وقد توحي بنوع من الطاعة العمياء.

بعد هذه المؤشرات، نرى ان ما يوشك من انقسام في الجسم الارثوذكسي لكنيسة انطاكيا، لا يوحي بالانسجام مع معطيات رسالة المسيح في أن أغفر لأخي سبعين مرة سبعة مرات، وأن انتهج نهج الفادي الذي غفر للمخلّع والزانية وحل ضيفا عند العشّار، وقبل توبة الخاطئة بدموعها وقارورة طيبها، ووعد لص اليمين بالفردوس.
هذه المؤشرات، لا بد وأن تكون أمام البطريركيات الارثوذكسية الأخرى فكيف الأمر وأكثر من مراقب يراها لا تحرّك ساكنا، باستثناء زيارات بروتوكولية تضامنية مع طرف الغالبية.
وهذه المؤشرات لا بد وان تأمّل بها الاساقفة المعترضون، أو الاساقفة السائرون وراء الغالبية الساحقة. فأي الحلول باتت بنات ساعتها.
تساؤلات تعتصر القلب، لابنين من الكنيستين الرسوليتين العريقتين الكاثوليكية والأرثوذكسية، كاهن كلداني كاثوليكي وشماس أرثوذكسي يعبران عنها بعيدا عن التعليقات الالكترونية الفورية الفاقعة، وقريبا من استصراخ الصوت النبوي نحو وحدة كنائسنا المقدسة في داخلها وفيما بينها؛
تساؤلات تنادي باستئناف المسيرة المسكونية الرسولية المسيحية، خصوصا وان الموضوع ليس بعد أمام نهاية العالم؛
تساؤلات تقف بمواجهة الكنائس المعنية والاساقفة المعنيين وإلهامات الروح القدس.

60
في ضوء تذكار ليتورجي كاثوليكي احتفاءً بالكرسي الرسولي للقديس بطرس
 
                              (أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات
                                وأبواب الجحيم لن تقوى عليها- متى 16: 18)
 
الأب نويل فرمان السناطي
 
تخصص الكنائس الكاثوليكية يوما محددا للاحتفاء بكرسي بطرس الرسول، وصادف ذلك في هذه السنة يوم الاربعاء الماضي 22 شباط 2017 . تقول الكتب الكنسية الطقسية بهذا الصدد: الاحتفال الليتورجي لهذا اليوم هو استذكار لاستقرار الرسول بطرس في روما، نحو سنة 60 للميلاد، ليجعل بذلك من "روما الكنيسة الأولى"، على حدّ قول القديس ايريناوس (مواليد آسيا الوسطى بين الاعوام 120-140)؛ وكنيسة روما تعدّ ايضا الرائدة في المحبة" بحسب قول القديس الشهيد اغناطيوس الانطاكي المتوفى سنة 107م. ومنذئذ يعدّ البابا أسقف روما، "مركز الوحدة في كنيسة المسيح" الذي خاطب سمعان بن يونا، فدعاه كيفا الصخرة وقال: أَنْتَ بُطْرُسُ (الصخرة باليوناني Πέτρος) وَعَلَى هَذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا (متى16: 18).
 
خاطرة تأملية للبابا القديس لاون العاشر
 

قال مار لاون الكبير في تأمله بهذا الشأن: يا رب، تأتيني أيام، اودّ فيها ان اعلن عن مجمع عام ليتغيّر كل شيء في الكنيسة: فليس ثمة شيء يمشي بنحو جيّد، لكني أقول في الأقل أن ذلك هو على طريقتي الذاتية، أي أن هذا الأمر تنظيري بشري فحسب، وهو ليس بالتالي مطابقا لطريقتك في العمل يا رب.
والحال، ليس ثمة عظمة عند القديس بطرس هي التي أعطت السلطان لكلماته. بل إنها كلمتك التي منحت السلطة لضعيف مثل بطرس. وهذا ينطبق على واقع الحال لهذا اليوم. فهب لي يا رب أن أؤمن بنعمتك، واعطني ايمانا متواضعا لأرى نعمتك في حالة العمل لدى رعاتنا.
ويخاطب البابا لاون الكبير القديس بطرس في تأمله قائلا:
ها انك الآن بلا خوف أمام روما سيدة العالم، بينما كنت أنت الذي بالأمس ارتجف أمام عاملة في بيت كبير الكهنة. أجل إن ما يكتسب الغلبة هو قوة الحب.
 
 أكثر من كرسي يحمل اسم بطرس
 
وإذ ارتبطت أسماء الكنائس التاريخية  بأسماء الرسل، فإن كرسي مار بطرس اطلق على كنيسة اخرى هي كنيسة انطاكيا للسريان، اعتمادا على كون القديس بطرس  أول مؤسس لهذه الكنيسة، قبل أن يبشر روما ويصلب فيها. وتعترف كنيسة انطاكيا بروما كرسيا لمار بطرس، وهو اعتراف يضفون عليه حالة من الكرم تجاه كنيسة روما، إذ قال القديس يوحنا فم الذهب (سوريا ٣٤٧- ٤٠٧) في هذا الصدد، ما نقلته عنه موسوعة بطريركية انطاكيا: لأن امتياز مدينتنا على كل المدن قائم على اتخاذها من الأصل هامة الرسل معلماً، لأنه كان يجب أن يكون أول الرعاة في الرسل راعياً للمدينة التي دُعي فيها المسيحيون أولاً بهذا الاسم الشريف، ولكننا إذا اتخذناه معلماً لم نحتفظ به حتى النهاية بل تخلينا عنه لأجل مملكة روما، لكن إذا شئت فقل إننا احتفظنا به دائماً، أجل أننا لم نمتلك جسد بطرس وإنما امتلكنا إيمان بطرس، فامتلكناهُ نفسه.
 
كنيسة روما جامعة مع سائر الكنائس الرسولية
 
وكما اننا ككاثوليك، نتحدّث عن روما ككنيسة جامعة، لكنها ايضا تجتمع بصفة الجامعة مع المنضمين معها الى الكرسي الرسولي البابوي. مع العلم أن مفردة كاثوليكية وهي تعني جامعة، زحفت كتسمية مرتبطة بالكنيسة الرومانية (نسبة الى المدينة الخالدة روما) بينما معناها كجامعة ينطبق على كنائسنا الرسولية الأرثوذكسية الأخرى، فهي تنفتح في بشرى الانجيل الى أفق البشرية جمعاء، بصرف النظر عن اللغة والقومية  والتراث. وبذلك تجتمع كنيسة روما بصفة الجامعة مع سائر الكنائس الرسولية القانونية غير الكاثوليكية. والا لصارت هذه كنائس قومية منغلقة عن الانفتاح برسالة الانجيل الى العالم اجمع.
وهذه الكنائس الرسولية بمجامعها السينهادوسية، ضمن حركتها نحو الوحدة المسكونية، لها أن تنظر إلى معطيات من يكون ضمن الكنائس الرسولية الجامعة ومن يعدّ فيها خليفة لبطرس هامة الرسل، الذي يأخذ مكانة خادم خدام الرب بالمحبة.
ومن المفرح أن نجد أن الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية وكنيسة روما، تنتهج خطوات الوحدة بنحو شبه ندّي إذ يفيد الطرفان من خبرات وحدوية سابقة، غنية وقد مرّت بمخاضات صعبة…
 
مواقف شجاعة تجاه روما
 
هذا ما يمكن أن يفهم من الحقوق التي سعت الكنائس المنضمة الى روما، ان تنتزعها من دوائر الفاتيكان كلما مالت الى البيروقراطية، لتنتزع الكنائس الشرقية الكاثوليكية حقوقها بمراس وصلابة ومطاولة. هذا ما دفع الى مقارنة البطريرك خالد الذكر مار يوسف أودو في مواقفه الشجاعة مع روما، مع مواقف حازمة نسبت الى البطريرك الاسبق مار بولس الثاني شيخو، وما جرى في السنوات الاخيرة من حركات مكوكية كانت أشبه بحركات لوي الذراع، مع دوائر في روما وقف منها البطريرك مار لويس ساكو موقف المحاسب علنا لتلك. ولما كان يُحسب تقليديا، أن الاتحاد بروما خط أحمر مع روما، فإن الرسائل الجريئة المسربة هنا وهناك والتي أوصلت الى روما، كان مفادها التحذير بأن ليس ثمة اختلاف مذهبي بين الكنائس الملتحقة بروما وبين كنائسها الشقيقة غير الكاثوليكية.
كل هذا التعامل، دعا الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية في مسيرتها المسكونية، تنظر الى التعامل مع روما باستقلالية مطمئِنة، مما يقلل أكثر فأكثر من هواجس التأثير السياسي القومي على الزعامات الكنيسة غير الكاثوليكية.
 
الكنائس الرسولية والتنظيرات السياسية القومية
 
فأحيانا تأتي تنظيرات قومية للزعماء السياسيين باتجاه الخصوصية القومية واللغوية والتراثية وهي بذلك وبحسن نية المصلحة القومية، مع شيء من مفارقة التناقض... تتوخى جعل هذه الكنائس غير الكاثوليكية كانتونات محدودة الانفتاح على رسالة الانجيل الشاملة والمسكونية. وغالبا ما يلاحظ أن الرؤساء الدينيين يتركون للمنظرين السياسيين عنان التصريح، وعندما سئلوا في هذا الشأن، فكانت اجابتهم أنهم بسكوتهم ينطلقون من حرية المنبر وفردية القناة الاعلامية، فيتركون لهم التصريح بما يشاؤون، وإلا قالوا لهم: إن لم تعجبكم قناتي، فتحولوا الى متابعة قناة أخرى! وهكذا تمضي الكنائس غير الكاثوليكية بأحبارها الحكماء الأبرار في خطها ككنيسة (قاثوليقي) جامعة ، بدون ان تشغل بالها او تصرف الوقت في المماحكات الجانبية. ولهذه الرئاسات الكنسية، بحرصها على ديمومة رسالتها الانجيلية وبقاء كنيستها في عالم اليوم، لا بد وأنها تتطلع إلى الوقت المناسب لكيما تشق قدما نهجها المسكوني، وعندئذ سيكون للزعامات القومية خياراتها المتنوعة سواء لينخرطوا في سلك الاكليروس ويدرسوا اللاهوت في روما أي أي مكان آخر أو قد تكون ثمة خيراتها، ضمن ما تتيحه حقوق العالم المعاصر من حرية تعبير أو معتقد.
وإذ تكتب مثل هذه الافكار، فليس كموقف تجاه تنظيرات الساسة القومية، فهي تمضي في نهجها سواء بصمت أو بافصاح، بل يتوجه ايضا الى  عموم المعنيين من القراء لكيما تنفرز الرؤية بين الاجتهادات الدينية المتباينة للساسة القوميين، وبين العقيدة الثابتة الاصيلة المتجذرة الضاربة في عمق التاريخ المسيحي.

الأواني المستطرقة بين الكنائس الشقيقة
 
يحزّ في النفس، أن الكنائس الكاثوليكية في العالم، إذا قورنت بكنائسنا المشرقية الرسولية، فإنها تبقى تفتقد نفحة من روحنا المشرقية وقراءتنا البيبلية بنصوصها الاصلية وبأطرها الانثروبولوجية. وعليه من المعتقد أن مختلف الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية، كمثل كنيسة انطاكية الأرثوذكسية، على سبيل المثال لا الحصر، عندما تحقق الوحدة مع كنيسة روما الكاثوليكية، لم يعد في ذلك ضير أن تحدث الوحدة بنحو مستقل عن شقيقتها كنيسة انطاكية الكاثوليكية الملتحقة بالوحدة في ظروف تاريخية سابقة، فمياه الأواني المستطرقة، لا بدّ أن تختلط مع بعضها وأغلب الظن أن مياه الكنيسة الشقيقة الملتحقة قبلها ستصب في عمق مياه الكنيسة الأم وأكثر، لا صغرا بها بل بمحبة انجيلية ومع تحرك دماء الانتماء المشترك. وهكذا، فإن خطواتنا الوحدوية تجاه كنيسة المسيح في الغرب، في عصر الاتصالات السريعة والتواصل الفوري، تعتبر عند الكثيرين مبادرة رحمة مع كنائس العالم الرسولية للإغناء المميز والمتفرّد، مثلما تشكل مسيرة الوحدة في أساسها استجابة لنداء الرب: أن يكونوا واحدا.
وبعد، قد يكون هناك رأي بشأن أن تكون الكنيسة الكاثوليكية في روما، كمقر للكرسي الرسولي لما تراه هي وتراه أيضا البطريركيات المنضوية معها، انه كرسي بطرس هامة الرسل. ذلك أن الذي يتبوأ هذا الكرسي، قد يكون من أصل ارجنتيني او بولوني أو أشوري أو كلداني او غير ذلك.  على أن الحبر الأعلى الذي يتبوّأ كرسي روما، في حين كان في حقب تاريخية سابقة، قبل المراجعة الذاتية في المجمع الفاتيكاني الثاني، بمثابة الرأس الأعلى لرؤساء الكنائس البطريركية، فإنه يحتلّ حاليا مكانة رمزية يشار إليها كما أسلفنا بعبارة (خادم خدام الرب بالمحبة) والدليل على ذلك، هو أنه ليس في روما للتفرع للرئاسة العليا، بل هو بالأحرى راعي كرسي أبرشية روما.
هذا ما استجدّ الحديث عنه في ضوء التذكار الليتورجي الكاثوليكي احتفاءً بالكرسي الرسولي للقديس بطرس، ولولاه لما استجدّ مثل هذا الحديث.

61
مار آوا روئيل: نتاج صوتي ليتورجي متميّز

عرض وترجمة
الأب نويل فرمان السناطي

 
مقدمة المترجم: لقد حان الوقت في هذه الأيام، أن أصدي لما وعدت النفس به، منذ لقاء سابق مع نيافة مار آوا روئيل، مطران كنيسة المشرق الاشورية في كاليفورنيا، لنتاج له وجدته من النفائس التوثيقية لليتورجية المشرقية، تخدم مؤمني كنائسنا. فان نيافته كان قد أهداني مجموعتين من الأقراص الليزرية، مسجلة بصوته، عن مزامير النبي داود، إلى جانب كتاب اختاره من مكتبته العامرة، ووقع الاهداء بكلمات رقيقة، مع صليب مزخرف بذكرى البطريرك الراحل مثلث الرحمة مار دنخا الرابع، حيث كان انطلق أول لقاء لنا مع ما تبعه من تواصلات أخوية، وذلك منذ صلاتنا المشتركة أمام جثمان البطريرك الراحل، عشية يوم التشييع في شيكاغو، الى جانب الاساقفة والكهنة والشمامسة وحشد المؤمنين.
 
مجموعتان نوعيتان، بتسجيل صوتي لمزامير داود
 
المجموعة الأولى تتضمن أقراص صوتية للمزامير وتحمل عنوان: كتاب مزامير داود، نسخة صوتية على الاقراص الليزرية السيديات، قراءة وتفسير نيافة مار آوا روئيل، الجزء الاول، ترجمة - تورجاما- باللسان الآثوري
 
المجموعة الثانية، تحمل عنوان: كتاب مزامير داود، نسخة صوتية على الاقراص الليزرية السيديات، قراءة وتفسير نيافة مار آوا روئيل، الجزء الثاني: القراءة باللغة الآرامية
 
وقد علمت بشأن اسلوب التسجيل للنص المترجم، انه مسجل بنحو ارتجالي تعليمي، مع الاعطاء احيانا لأكثر من خيار للمفردة الواحدة. يفيد هذا التسجيل في كونه يساعد على التعمق بمضمون المزامير، وما جاء فيها عن المسيح، او على لسانه له المجد، وباللغة الأم. فمن خلال التجارب بهذا المضمار قد يرى الكثيرون أن المزامير بقدر ما حفظناها، فإن معانيها بالفصحى بقي منها ما هو مبهم، كما تأخذنا بلاغتها السردية والشعرية، عن التوقف أمام المضمون. أما عندما نراها مترجمة الى لغة أخرى، فتستحثنا الترجمة الى ان نتذكر مبناها باللغة الاصلية التي ألفناها، من قبل في صلوات الصبح والمساء، (الصبرا والرمش). وكانت التجربة الملفتة للنظر في كنيسة مار ميخا وعدد من كنائس ابرشية القديس بطرس الكلدانية في سان دييغو، حيث دأب الشمامسة والشماسات يرتلون الصلوات والمزامير، بحسب الترجمة المحلية بالسورث.
وقد وردت نبذة بالانكليزية في كراس تقديم اقراص المزامير، وهذه الاقراص متوفرة في خورنات الكنيسة الشقيقة، كنيسة المشرق الاشورية. وجاء في هذه النبذة:
ما من شك ان أكثر استخدام نجده في كنيسة المشرق الاشورية هو مزامير داود. فإن ما يشكل الخاصية المتفردة لليتورجية المزامير في كنيسة المشرق، هو ترتيب هذه المزامير طقسيا، مع ما يرافقها من الردات، وكذلك الصلوات الكهنوتية الاستخلاصية الملحقة مع كل وحدة مزامير ثلاثة تسمى الهولالا.
 
عرض تاريخي موجز لمخطوطات المزامير وطبعاتها
 
من المرجح أن تنسيق المزامير تم في الدير الاعلى، برغم افتقاد تلك المخطوطات الى العناوين ذات الصلة، حتى جاء التجديد الطقسي للبطريرك (مار) ايشوعياب الثالث (حوالي السنوات 648/9 - 658/9 ب.م). وقد تبين أن عددًا من مخطوطات المزامير تضمنت ايضا طلبات للشمامسة مخصصة لغير ايام الاعياد، وتتلى خلال الصلوات الطقسية، وكذلك التسابيح المستخدمة في الصلوات الطقسية ليلا، في الايام الاعتيادية، الى جانب تلك التي ترتل خلال التناول. ومن المحتمل جدا أن هذه الاضافات جاءت، في مرحلة متأخرة على قيام المخطوطات الاولية في الدير الاعلى، وذلك في المنتصف الثاني من القرن السابع.
أما أقدم ما يتوفر من مخطوطات االمزامير، فهي تلك التي تحمل اسم ( دياربكر 36) وتعود الى القرن 12 للميلاد.
المزامير هذه تتبع في ترقيمها ترقيم الطبعة البيبلية البشيطتا - البسيطة، وهو الترقيم الذي يتباين عن الطبعة العبرية، وكذلك عن نسخة السبعين مترجما (the LXX the Septuagint) او الفولغات - الشعبية من ترجمة جيروم.
يقسم كتاب المزامير على عشرين وحدة مزاميرية تدعى هولالي - التهاليل، اضافة الى أناشيد أو مدائح موسى واشعيا. كما يتضمن السفر 57 مرميثا (وهي الصلوات الانتقالية بين وحدات الهولالي للمزامير، وهي موضوعة بنحو خاص لكل مناسبة، سواء بحسب السابوع الطقسي او العيد المحتفل به) وهي تشكل على وجه أمثل، مجموعات مكونة من ثلاثيات المزامير - الهولالي. وكل هذه الثلاثيات تعقبها صلاة كهنوتية نسبت الى البطريرك مار ايليا الثالث (1176-1190م) وكل ثلاث صلوات من المرميث، تستخلص الصلاة لكل من الوحدات الثلاثية للمزامير والمنضوية تحت اسم الهولال.
أما بخصوص التوزيع الوارد في البشيطتا، فإن المزامير تنقسم الى خمسة اسفار، على غرار النسخة العبرية، وتشتمل على 27 إصحاحا. في حين أن صلوات الطلبات القانونية (قانونا) تكوّن التأوين المسيحاني - المسيحي للمزامير المذكورة، وقد جاءت على شكل تضرع، تمجيد، تسبيح وتوقير، وهي منسوبة الى البطريرك مار آبا (آوا) الاول (540-552) أما العناوين أو رؤوس فقرات المزامير فتنسب الى تيودوريوس المصيصي.
 
وتختم النبذة المرفقة بالسيديات بالقول:
إن أول طبعة آشورية للمزامير، كانت في الواقع من أول الكتب الطقسية المطبوعة في اورميا على مطابع أرسالية رئيس اساقفة كنتربري سنة 1891 واشتملت على 188 صفحة في طبعتها الاولى، وأعادت الارسالية طبعها سنة 1908 وكذلك في السنتين 1912-1913. وقد صدرت فيما بعد طبعة تريشور بالهند سنة 1955، بإشراف دار طباعة مار نرساي، والتي استخدمت ذات التصميم للخط السرياني، والذي طبعت على غراره صفحات الكتاب الطقسي لكنيسة المشرق (الحوذرا).
أما المزامير بمجموعتها فقد تضمنتها الحوذرا الاثورية بأجزائها الثلاثة والمطبوعة سنة 1960. ويحتوي كل جزء ليس فقط على الفهرست الابجدي للمزامير، بل ايضا يضم الصلوات القانونية التي تتلى قبل المزمور، والخاصة بالصوم الكبير، مع التوجيهات الليتورجية المتعلقة أيضا بالصلاة الطقسية التي تقام ليلا.
 
نبذة لتقديم الأقراص الصوتية للمزامير
 
تعرض النبذة وصفا روحيا تفسيريا موجزًا للمزامير، وجاء فيها:
كلمة المزامير هي ما يزمر على انغام القيثارة. ويتضمن سفر المزامير 150 مزمورا وصلاة. يوثق لمشاعر عميقة وردت في العهد القديم. الكثير منها يحمل مضامين ارتقاء وتشجيع، ومنها ما يعكس خبرات متراوحة بين أحاسيس الانتقام والعقاب.
تحتوي المزامير على كم كبير من الاشارات الى المسيح. ففيها جاءت نبوءات عن المسيح. وقد كتب القديس لوقا في الانجيل
(24: 44) أن الرب عندما ظهر بعد قيامته، خاطب أولئك الذين كانوا خاصته وَقَالَ لَهُمْ: «هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ».
وفي عدد من هذه الصفحات البهية، لا يوجد أي شك أن المسيح كان موضوع تلك المزامير.
فإذا قالت اسفار الانجيل أن يسوع قد صلب، فإن المزامير تحكي لنا ما كان يعتلج في قلبه أثناء صلبه. وإذا أخبرنا الانجيل أن يسوع عاد إلى السماء، فإن المزامير تظهر لنا المسيح متبوّئا العرش في السماء.
 
وتختتم نبذة التقديم بالقول والتذكير:
يندرج سفر المزامير بشكل تسلسلي، مقسم على 20 (21) تهليلا، وسبعة وخمسين صلوات مرميثا. وأن المزامير في هذه مجموعة الاقراص تم قراءتها بالآرامية، ثم ترجمتها في اللسان الآشوري الحديث، من قبل نيافة مار آوا روئيل أسقف كاليفورنيا.
 
في نهاية هذا العرض الموجز عن النتاج الصوتي للمزامير، لا يسعني إلا ان أحيي نيافة الاسقف مار آوا روئيل الذي بعنفوان شبابه بذل مثل هذا الجهد الدؤوب والأكاديمي. إنه نتاج ينسجم حق الانسجام مع النهج الراعوي لخدمته الأسقفية في كنيسة المشرق الاشورية.



62
الاخوة والاخوات القراء الكرام
بعد أيام على نشر المقال عن شؤون مسكونية، اتقدم الى حضراتكم بالشكر العميق لمروركم الواسع على هذا المقال، سواء في الموقع أو في صفحة الفيس بوك. وما وصلني من اصداء، فهمت منه ما تكنـّونه للكاتب من مشاعر يبادلكم إياها بامتنان. وأشير بهذه المناسبة الى تعليقين منشورين على المقال في موقع عنكاوا.
1) آخر تعليق من التعليقين، يتوجه برسالة شخصية الى سيادة المطران باواي، كتبهه حضرة المعلـّق بوحي من النظرة المسيحية. وإني هنا أثني على تأكيده بأن الرب هو الديّان، أكانت الدينونة ليهوذا الاسخريوطي أو يهوذا الرسول أو سواهما. وأرى أنه طالما كانت كل خطيئة، بمثابة بيع للقيم وللجذور والمبادئ وللرب، مقابل مصلحة ذاتية، ففي كل انسان مشروع اسخريوطي، كما فيه مشروع اهتداء حتى آخر نسمة من حياته، حتى يكون أمام دينونة الرب.
أما مسيرة الانضمام الوحدوي، فهناك وجهات نظر بشأنها، تختلف عند الآخرين، طبقا لزاوية كل واحد. على أن هذه الخطوات لها أن تتبلور لدى كل واحد، ضمن مسار حياته ومختلف مراحلها. وأعتقد أن كل واحد، بمسؤوليته أمام ربه وأمام ما يترتب عليه أمام المجتمع، يتخذ قراره بوحي من ضميره المسيحي وطبيعة استجابته لنداء الروح القدس في داخله. وهذه قناعة يتردد صداها في مجمل المقابلة مع سيادة مار باوي سور. وهذا هو الذي دعاني للتأكيد مع كاتب التعليق السيد منصور زندو المحترم، بشأن التاريخ كجانب يُعوّل عليه ليكون حاكما زمنيا، وعند الرب في الأبدية، لأن خطوات الآخرين ينظر إليها بمختلف الخلفيات الفكرية والروحية الخاصة بضمير كل واحد.
2) هذا الانطباع عن الرأي والرأي الآخر وجدته يتناظر مع التعليق الأول من التعليقين، ومقدمته التي وجدتني مقصودا فيها، تلقيتها بطوبى الفرح والتهليل، وباحترام كل دوافع النزاهة والمصداقية التي يتوخاها حضرة الكاتب الاشوري- المسيحي تجاه مبادئه، وهو الناشط في نهج واضح وتعبوي معلن للشأن القومي، وقدّم باقي تعليقه برقي واختتمه بالتقدير. وقد عرفت آراء حضرة كاتب التعليق الأول، منذ أيام جريدة الزمان الدولية بعد عام 2000، وهو يجاهر بآرائه في خطه السياسي القومي وفي مجال الحقوق التاريخية والجغرافية، وبقناعة نابعة من الاعماق، لمن له رؤية غير متزعزعة. مثل هذه الرؤية امتلكها ناشطون عبر التاريخ، من الذين اذ حسب الاخرون انهم يحفرون في البحر، إذا بالمعطيات التي اعتبرها سواد الناس مجرد أحلام، تتحقق عبر التاريخ بنحو أو بآخر، سواء في حياتهم أو أمام ذكراهم الخالدة.
أما وأن الرجل وهو سياسي في الشأن القومي، ويقدم نفسه كمسيحي ايضا، إزاء غيره في النهج القومي إياه ممن قد لا يكونوا بنفس القناعة الدينية والايمانية فهذا ايضا يحسب لصالحه، إذ يعبّر عن رأيه في الأمور الكنسية. وفي هذا المضمار، سبق لي وأن وقفت على آراء زعامات دينية من كنائسنا المشرقية، تقول: نحن نقف على مسافة واحدة من حرية  التعبير على منبر صحافي أو تلفازي. ويعللون ذلك بالقول: لا نعلق على آراء دينية يعبر عنها الناس بحريتهم ضمن المنابر المتاحة، ولسان حالهم يقول: ان لم يعجبكم هذا فاقلبوا القناة إلى غيرها، أو لا تقرأوا ما نكتب. ولا أذكر هذا في مجال التباين في الاراء الدينية مع الزعامات الكنسية، فقد تتلاقى معها، بل أبين ان الأمور الكنسية، يبت فيها على مستوى القرارات السينهادوسية القانونية.
وعما أوردته، في صدر المقالة أعلاه، بشأن (كنيسة جامعة) أقول ككاهن كلداني كاثوليكي: أجل اقصد بالكنيسة الجامعة، كنيسة روما التي تجتمع بصفة الجامعة مع المنضمين معها الى الكرسي الرسولي البابوي. مع العلم أن مفردة كاثوليكية وهي تعني جامعة، زحفت كتسمية مرتبطة بالكنيسة الرومانية، بينما معناها كجامعة ينبطق على كنائسنا الرسولية الأخرى، عندما تنفتح في بشرى الانجيل الى الافق البشري، بصرف النظر عن اللغة والقومية  والتراث. على أني وأنا اتكلم بشأن مسيرة الكنائس الرسولية نحو الوحدة اوردت -لو يذكر حضرة كاتب التعليق- عبارة (كنيسة جامعة) بدون أل التعريف، لعلمي أن كنائسنا الرسولية بمجامعها السينهادوسية هي التي تنظر الى معطيات من يكون ضمن الكنائس الرسولية الجامعة ومن يعدّ فيها خليفة لبطرس هامة الرسل، الذي يأخذ مكانة خادم خدام الرب بالمحبة.
وأمام حبوري، أجد أن الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية وكنيسة روما، تنتهج خطوات الوحدة بنحو شبه ندّي إذ يفيد الطرفان من خبرات وحدوية سابقة، غنية وقد مرّت بمخاضات صعبة..
وبعد، إن ما يحز في نفسي، ككاهن يخدم في كنيستين مشرقية وغربية، أن كنائس العالم، إذا قورنت بكنائسنا المشرقية الرسولية، فإنها تكاد تفتقد لحدّ الجفاف إلى نفحة من روحنا المشرقية وقراءتنا البيبلية بنصوصها الاصلية وبأطرها الانثروبولوجية. وعليه من المعتقد أن مختلف الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية، كمثل كنيسة انطاكية الأرثوذكسية عندما تحقق الوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية، لم يعد في ذلك ضير أن تحدث الوحدة بنحو مستقل عن شقيقتها كنيسة انطاكيا الكاثوليكية الملتحقة بالوحدة في ظروف تاريخية سابقة، فمياه الأواني المستطرقة، لا بدّ أن تختلط مع بعضها وأغلب الظن أن مياه الكنيسة الشقيقة الملتحقة قبلها ستصب في عمق مياه الكنيسة الأم وأكثر... بحسب تشبيه مماثل بهذا الشأن للكردينال المتقاعد روجيه ايتشيغاراي. وهكذا، وفي خلاصة التعقيب على تعليق رابي فاروق كيوركيس المحترم، فإن خطواتنا الوحدوية تجاه كنيسة المسيح في الغرب، في عصر الاتصالات السريعة والتواصل الفوري، تعتبر عند الكثيرين مبادرة رحمة مع كنائس العالم الرسولية للإغناء المميز والمتفرّد، مثلما تشكل مسيرة الوحدة في أساسها استجابة لنداء الرب: أن يكونوا واحدا.
مع المحبة والتقدير

63
ملف شؤون مسكونية مع خلاصة شاملة للمقابلة مع مار باوي سورو- 1 و2

الأب نويل فرمان السناطي


التمهيد

أفكار في الخطوات المسكونية للكنائس

اختتم يوم 25 كانون الثاني 2017 اسبوع الصلاة من أجل الوحدة المسكونية. ويطرح السؤال نفسه:
إذا كانت عقارب الساعة في مسيرة الوحدة لا تعود الى الوراء، واذا كانت خطوات الوحدة لا يمكن أن تتوجه "عكس السير"، لحين إعادة الشركة بين الكنائس الرسولية لمرحلة ما قبل الانقسام، ومع خادم خدام الرب بالمحبة، فلا بدّ من القول بأن النهج المسكوني لهذه الكنيسة أو تلك نحو الشركة ضمن كنيسة جامعة، قد يأخذ بنظر الاعتبار خطوات الجماعات والكنائس الاخرى، لكيما يتم الافادة من الخبرات السابقة، وكذلك لكي يكون الاتحاد ضمن الكنيسة الجامعة، مرتبطا بكاريزما كل كنيسة، وحرصها على استقلاليتها الادارية والطقسية والثقافية، وواقفة على مسافة واحدة مع كيانات شعبها السياسية مع الانفتاح الى خط الرسالة الانجيلية على مستوى العالم.
وتشاء العناية الربانية، أن هذا يتزامن مع الحبرية المنفتحة للبابا فرنسيس، وما قدمته الكنائس البطريركية المتحدة مع الكنيسة الجامعة، من تضحيات وما حصلت عليه عبر عهود طويلة من نتائج بمواقف متفردة، من مار يوسف السادس أودو(1793-1878) وصولا الى مار لويس روفائيل ساكو،   حتى تصبح الخطوات المسكونية خطوات ثنائية تكاد تكون متوازية، بين جانبي الكنيسة الجامعة والكنائس الرسولية البطريركية في العالم.
ويبدو ان تحدّي الوحدة للكنائس الرسولية صار يتأرجح بين الماض السحيق وبين اليوم، بين ثقل ما أدّى إليه الانشقاق تحت ظروف تاريخية مشحونة بالحروب والقهر السياسي والاجتماعي ومعوقات الاتصال، وبين تحدّ آخر مختلف في عالمنا، وهو تحدّ المقاعد الوثيرة والتأثر بالاجندات السياسية، أو كتابات بعض "ضباط ركن" المواقع الالكترونية، مع انغلاق مريب على المكتسبات الستراتيجية.
كل هذا ربما أدّى إلى ضبابية الرؤية، إزاء تحديات ليست أقل من الامس، مثل الارهاب الديني وراديكالية نظام العلمنة وتخلخل القيم الاجتماعية. ويتفاقم الأمر عندما تختلط الرؤية بين ما يقوم من تجمعات مسيحية تمليها الظروف الجيوسياسية على الكنائس، إداريا وإقليميا، مع وهم اعتبار ذلك كخطوات مسكونية وحدوية، عندما تتحوّل هذه التجمعات كيانا شكليا وخليطا غير متجانس هيهات أن يستند على أرضية عقائدية رسولية أو تراتبية.
وافضل دليل على ذلك، ان انفراط عقد هذه التجمعات بين هذه الكنيسة وتلك لأي سبب، سرعان ما يتبين أن لا علاقة له ولا يتأثر بالشركة التامة التي بين كنائس رسولية كاثوليكية، فيما تبقى مسيرة الكنائس الرسولية الاخرى، متمحورة نحو الكنيسة الجامعة، عندما تنشد الوحدة بالشركة التامة.

خطوة مار باوَي والشأن المسكوني
ويبقى الاعتبار ان خطوة المطران باوي سورو في انضمامه الى الكنيسة الكاثوليكية ومن ثم الى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية هي خطوة تندرج في الشأن المسكوني، بكل ما اكتنفها من تشابك. وهي خبرة تحتوي، بجوانبها المتعددة، على اكثر من عبرة.  هذه خلاصة شاملة للمقابلة، قد تكون أول مقابلة بحجمها مع  المطران باوي سورو يراد منها تسليط الضوء على خبرة اعتورها فعلا مخاض من أكثر من جانب.
تنشرهذه المقابلة بخلاصتها المستفيضة، في موقع عنكاوا الأغر، كمحور إزاء غيره من المحاور في ملف الشؤون المسكونية. وكان قد نشرها مشكورا، وعلى جزئين الموقع البطريركي الأغرّ للكنيسة الكلدانية.
تسلط المقابلة الضوء على ظروف انضمام المطران باوي إلى الكنيسة الكاثوليكية – الكلدانية، وظروف ما بعد الانضمام. وهكذا، بعد مضي عقد ونيف يتم تسليط الضوء على الموضوع، من حيث التوثيق التاريخي، من قبل المعني مباشرة، بما أمكن من حيادية وشفافية ومع حفظ التقدير لمختلف الجهات. ولدى النشر الأولي، في الموقع البطريركي، كان قد لوحظ بارتياح طيب، التعامل الراقي مع الموضوع من جهات عدة. ولا غرابة من ذلك، من خلال نبرة الاحترام التي تعامل بها الحوار، وما تمّ التداول عمّا هو مشترك بين الكنيستين، الكلدانية والاشورية، مع ما يميز كلا من الكنيستين من خصوصية، ومن توجه روحي وثقافي وقومي. في زمن أصبحت الاختلافات العقائدية والمذهبية والقومية والسياسية، بين الإخوة وبين أبناء العمومة، مواضيع يتم التعايش معها، بإيجابية وفي أحيان كثيرة باغتناء متبادل.
ونذكر ان المقابلة اجريت خلال الزيارة الشخصية التي قام بها المطران باوي سورو مؤخرا إلى كالكري مع الشماس المهندس عزيز رزوقي، الذي حضر المقابلة، وهو رئيس شمامسة ومستشار مالي في أبرشية سان دييغو،  ويتنقل بانتظام الى مدينة اغترابه الأولى كالكري حيث يتابع أعماله ويخدم أيضا الليتورجية الكنسية في خورنة القديسة مريم للكلدان، ضمن جماعته الأصلية في بلاد الانتشار، وتوفر له أن يعبر عن انطباعه في نهاية المقابلة.

الجزء الاول: مرحلة الانضمام الى الكنيسة الجامعة
مار باوي سورو: المسيح أسس كنيسة واحدة ويريدها كذلك


التقديم للمقابلة
تتناول هذه المقابلة بعض التفاصيل التي ربما لم يتم اعلانها من قبل، والتي عندما يأتي التعريف بها، من شأنها أن تسد الطريق الى العديد من التكهنات والتأويلات من التي اصلا عفا عليها التراكم الزمني. وكان في خلفية الأسئلة جملة نقاط مثل:
هل بقي مار باوي مقتنعا بما فعل؟ هل بعدَ كلّ ما عاناه، كان سيعيد الكَـرّة لو عاد به الزمن؟
هل ثمة جذور عميقة قديمة كانت وراء ما حدث؟
هل كانت حركته خيارا ضمن عدد متنوع من الخيارات؟ أم له قراءة إنجيلية خاصة بخطوته؟
تساؤلات منها أفصحتُ عنها خلال اسئلة المقابلة، ومنها سبقني بالإجابة عنها. لذا أدرجتها في هذه المقدمة، حتى يجد القارئ، صداها في هذه أو تلك من الإجابات. وما لفت الانتباه أنه كان يتكلم، عن أقسى الظروف التي عاشها، بثقة من وجد أن الأمور عادت إلى نصابها الطبيعي، وبهدوء عجيب وابتسامة رأيتها نابعة من سلام داخلي مقرون بشجاعة التشخيص المسؤول بما له وما عليه، مسكون بروح الغفران والحب، مما جاء مباشرة في كلامه.
وضعت المقابلة ضمن محورين رئيسيين:
في الجزء الأول، محور خاص بتوصيف خطوة مار باوي نحو الكنيسة الكاثوليكية – الكلدانية.
وفي الجزء الثاني محور يتناول حقبة ما بعد استقبال مار باوي في الكنيسة الكلدانية، بما تضمنته هذه الحقبة، من مراحل متباينة، بين ابرشية مار بطرس والكرسي البطريركي، تكللت بمشاركته الأخيرة، في السينودس الكلداني، شهر أيلول الماضي.
وبعدُ، فإن العالم، إذ غدا قرية صغيرة، فقد صار المختلفون، في العصر الحديث، يتعايشون ضمن المدينة الواحدة، على ما ينتهجون من مسارات متباينة ومتضاربة، تبقى في نهاية الأمر، كخيار حرّ للأفراد والجماعات، في عصر متقدم من حقوق الإنسان، قلما يتقبل القهر على هذا الاختيار أو ذاك. هذا الموضوع بالذات كان مدخل الحوار:
* الأب نويل: نتعرف عليك، سيادة المطران، كما انت معروف في الأوساط الكنسية والأوساط المسيحية بشكل عام في وقت صار من المعروف وأمرًا واقعًا بأن سيادتك انضممت إلى الكنيسة الجامعة ومن خلالها الى الكنيسة الكاثوليكية مع كهنة وعدد من المؤمنين. ومثل هذا يحدث في الكنيسة عبر القرون، بحسب الضمير وبحسب اختيار الناس وبحسب نظرتهم الإيمانية وضمن حريتهم في الاختيار. وفي العصر الحديث ايضا، نعرف الاسقف اللوثري سابقا، جوزيف جاكوبسون، في أدمنتون، الذي قام بهذه الخطوة مع عائلته وعدد من المؤمنين. وكذلك قبل بضع سنوات، انضم ما يقارب 75% من  رعية القديس يوحنا الانجيلي الانكليكانية في كالكري، مع راعيين، ملتحقة بالكنيسة الجامعة ضمن الابرشية الكاثوليكية المحلية، وبالخصوصية الكنسية القانونية (الاورديناريات) التي عندهم في شمالي أمريكا. ومن الجديد بالذكر أنه عندما تداول مطران كالكري مع الاسقف الانكليكاني بهذا الشأن، كتب اليه الاسقف الانكليكاني مخاطبا: اني احترم المسار الروحي الذي انتهجه هذان الراعيان وهؤلاء المؤمنون، واثق بأن هذه الخطوة قد قاما به ضميريا وبنزاهة، وعليه اعتقد انهم مع الرعية التي معهم قد يحتاجون إلى مبنى الكنيسة… لهذا نسمح لهم باقتنائها. ودخلت في السؤال قائلا:
* كيف كان، من الناحية الإدارية، انتقالكم الى الكنيسة الجامعة، ومن خلالها الى الكنيسة الكلدانية؟
– مار باوي: عندما صارت هذه القضية… لا بد أن أن نقول هناك فرق. والفرق الصحيح هو أن نفهم ماهية التمييز بين العقلية الغربية الشرقية. الآن نرى كيف يتصارع العالم، ونرى الحضارتين كيف تتصادمان مع بعضهما. في العقلية الغربية، عندما يحدث الاختلاف، حتى الاختلاف المذهبي، الذي يحتوي جوانب مهمة من الشخصية الإنسانية، يعالجون القضية بنحو خاص، المطران يقول لكهنته: "انتم خرجتم، ولكن لا بأس، فهذه قضية ضميرية هي التي دعتكم إلى ذلك، فإذا اردتم مبنى الكنيسة فأنا متجاوب". وبالفعل رجعوا إلى الكنيسة التي كانت لهم في السابق والتابعة لذلك المطران ليمارسوا فيها الخدمة ككهنة كاثوليك في الكنيسة الكاثوليكية. أما معنا فقد صار الأمر بالعكس نحن الشرقيين.
مخاض الانتقال
معنا كانت مشاكل متعددة، وقضايا كثيرة. وأنا بطبيعة الحال لا أضع اللوم فقط على جانب واحد، بل انا بنفسي آخذ اللوم مع جماعتي، نحن أيضا؛ من المؤكد، كانت عندنا تصرفات خاطئة ولـّدت المرارة… والآن بعد عشر سنين، نشعر أن الكثير من تلك المرارة اختفى. فقد وصلني بنحو غير مباشر، أنهم قاموا بتصفية بعض المتعلقات الحسابية، مما وجدت فيه تعاملا إيجابيا مع القضية… إذن بعد عشر سنوات استغرقها الأمر، نصل إلى المرحلة الايجابية التي وصل اليها اخواننا اللوثريون والانكليكان، ربما بعشرة أيام. فهذا هو الفرق الناطق، ولكن مع ذلك ينبغي على الواحد أن يبقى مصرّا على أن يغفر ويحب..

* سيدنا في هذا المجال، كيف تستذكر استقبال ابرشية مار بطرس في سان دييغو لكم أمام تلك الأحوال.
– بصراحة كان الاستقبال الذي رأينا فيه البصيص الوحيد. كنا كنيسة محلية في كاليفورنيا، كنيستنا الاولى، الكنيسة الآثورية، حاربتنا بشكل فضيع، وأعطيك فكرة: لقد صرفنا الأموال على المحاكم واستغرق الامر تقريبا 6 سنوات وهذا الأمر بحدّ ذاته، شيء إذا ما راجعته، تراه مملوءًا من الخطيئة، ولهذا اني اتحمل من جانبي ايضا مسؤولية من هذا الشيء. يا حبذا لو كنا بروح بسيطة وتفاهم، كنا نحلّ هذه المشاكل، بل على العكس، كان هناك الحدّية والعناد ونحن طبعنا الشرقي تولى كل امورنا، فكانت حالة مظلمة جدا.
* وعندما استوضحت من المطران باوي، عما أدّى إلى المحاكم. استخلصت أن ثمة ملابسات جعلت المؤمنين يظنون، أنهم إذا تبرعوا لكنيسة رعيتهم عندئذ يكون لهم الحق المادي في كنيسة رعيتهم، وليس الجهة الرسمية التراتبية التي ترتبط بها تلك الرعية. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه عندما يختلط الشأن القومي بالشأن الديني، تصل العدائية الى أبعاد مهولة، تختلط فيها المسؤوليات، وتتوجه الرغبة بالتسقيط الى كل الحدود المفتوحة، وهكذا وبالهدوء عينه، يورد الاسقف باوي أمرا مريرا، إذ قال مسترسلا في حديثه:
– طبعا بالنسبة لي، من خلال الكنيسة الآثورية، صارت شكاوى ضدّي، إلى الجهات الحكومية، إلى حد أنه تم اتهامي بالتجسس للإرهابيين، لأننا كنا نرسل الأموال إلى اللاجئين، في سوريا وفي تركيا، فاتهموني بأني ارسل هذه الاموال للارهابيين…
هكذا جاءت الدائرة الامنية الـ ( اف بي آي) عملوا التحقيق معي، وتكلمت معهم واريتهم الوثائق والسجلات، فقبلوا. ثم ذهبوا الى الـ (آي أر أس) دائرة الضرائب، هؤلاء بدأوا معي بصيغ التحقيق الإجرامي. لمدة ست سنوات كانت دائرة الضرائب تحقق معي، وهذا شيء صعب جدا، لأنك لا تدري ما الذي سيحدث. وكانوا يطالبون بمبلغ إضافي، وحتى النقود التي أعطيناها للمحامي، كانوا يقولون هذه من مدخولاتك، وعليك ان تدفع الضرائب عنها، حتى وان كنت تستخدمها لمحامي الدفاع. وهكذا كنا نعيش بصورة مظلمة، وصعبة.
أمام هذا تأتي الكنيسة الكلدانية بكاليفورنيا، المطران والكهنة يفتحون لنا أبوابهم ويستقبلوننا، ويتكلمون معنا كإخوة. هذا كان شيئا بديعا لم تصدقه عيوننا؛ اكيد انجذبنا اليهم كثيرا، و شكرنا الرب وشكرناهم. وكان ذلك بمثابة تحقيق أمل.
من ناحية أخرى كنت معجبا بالكنيسة الكاثوليكية منذ صغري، وكنت في المدارس الكاثوليكية، حيث كانت تدرسنا الراهبات وكهنة كلدان، فكان عندي من ثم التعلق الكبير بالكثلكة. لكن من المؤكد أن كاثوليكيتي هي كلدانية، لأن ذلك هو طقسي، لأنه أنا، لغتي شعبي، شخصيتي، كل هذا يخص كنيستي الام، وهي الكنيسة الكلدانية. فصار هذا كحلم يتحقق، وكمطلب يعيده لنا الله، بكل محبة واخوّة، فانتمينا وشكرنا الرب وكنا فرحانين جدا.

الانتماء روحيا - عقائديا
* بنظرة استرجاعية نتساءل، سيادة المطران، وهذا السؤال يطرح على اشخاص كثيرين يتخذون مواقف جديدة في حياتهم، ومدى قناعتهم بتلك المواقف فيما بعد. السؤال: ما هو مدى قناعتك الآن بذلك الاختيار، مع أنه، كما قلتّ قبل قليل، كان متأصلا لديك منذ زمن بعيد. نسأل هذا ذا قارنا وبحسب ما يشاع، ان الانفصال عن الشركة مع الكنيسة الجامعة، يبدو أنه يعطي الحرية للكنائس المنفصلة، بألاستقلال المطلق… يا ترى، مع الصعوبات التي لاقيتها، كيف وصلت لديك الآن هذه القناعة...
–مار باوي: صحيح انا دفعت الثمن الهائل بالنسبة إلى رغبتي في الانتماء الى الكنيسة الكلدانية، لكن اذا ترجع تسألني مرة أخرى، بعد فترة طويلة من هذا العيش، وأنا اذا ارجع بالزمن مرة أخرى، ماذا كنت سأعمل؟ الجواب:
بالضبط كنت سأعمل الشيء عينه، لأن هذه القناعة تنبع من مفهوم أن الاستقلالية هي عملية موجودة فقط في المجتمع الانساني السياسي. أما في الكنيسة فلا يوجد مثل هذه الاستقلالية، في الكنيسة يوجد انتماء فداء خدمة محبة، يسوع لم يؤسس كنائس حتى تكون مستقلة عن بعضها، يسوع اسس كنيسة واحدة، سمّاها كنيستي، ونصب بطرس صخرة لهذه الكنيسة كأساس. فكيف إذا كان الأمر يخص شخصا وجماعة مثل كنيسة المشرق الاثوريين، الذين لاهوتهم، منطقهم وطقوسهم وتاريخهم لا يؤشر الى أية حالة الا هذه الحالة. وهكذا لما بدأتُ هذه حركة الوحدة، ومعي كهنة وعلمانيون،  وكنا سوية في الكنيسة الاثورية، لم نستند الى اي منطق شخصي، لم نستند الى معرفتي وتحاليلي وكرازاتي، بل استندنا الى ما هو موجود في طقوسنا، من طقوس الحوذرا وما كان يستخدم، في الكنيسة الاثورية. ولكن مع الاسف صار الرفض لأنه، كان يوجد في نهاية الامر، مسألة تتعلق بالسلطة. فقرار البطريرك الراحل مار دنخا بشأن الوحدة، توصل عليه، أخبرني به، عندما قلت له في نهاية الامر، القضية هي قضية انتماء، والانتماء سوف يحصل اذا قداستك تقبل الرئاسة البابوية. فقال لي المرحوم مار دنخا: حتى اذا أردت أن أقبل هذا الشيء، أو عندي نوع من التفكير لكي أقبله، ولكن شعبنا سوف لن يقبله، ويوجد عندي مطارنة سوف ينفصلون. قلت له: "صحيح سيدنا ما تقوله، بالفعل، ولكن هذا واجب، واجبك وواجبي، أن نثقف شعبنا، ونعطي انفسنا عشر سنوات أخرى".     
*وبشأن عدد السنوات هذا يوضح مار باوي:
- لقد كان لنا مشوار مع هذا المشروع، منذ 1984 في أول زيارته (البطريرك الراحل مار دنخا) للفاتيكان، والى 1994 عندما وقع الاتفاق الكريستولوجي (المسيحاني)، وكان هذا حواري معه في عام 2004، حيث كنا وصلنا الى اتفاق الاسرار اي قبل أن أنفصل في 2005. وهناك كان التوقف، ولم يقبل، وهذا كان التحليل أو التعليل، لعدم المضي في ذلك، عندما قال سوف ينفصل بعض المطارنة، وقلت له ان نعطي لأنفسنا 10 سنين اخرى، أي الى 2014 نثقف شعبنا، نريهم، كم هو مهم لاهوتيا وانسانيا، حتى نتوحد، لاهوتيا مع الكنيسة الكاثوليكية، واجتماعيا، كنسيا مع إخوتنا الكلدان. قال أنا ارفض.
وعندما عرفت أن الطريق مسدود مائة في المائة، عندئذ رأيت أن إرادة الله لي، هي فوق ارادة البشر، كما جاء في سفر أعمال الرسل: فأجاب بطرس والرسل وقالوا: ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس (5: 29). هذا كان توجهي المعلن، ومن هناك بدأ قرار أن يفصلوني، بعد أن بينت أن هذا الشيء واضح في كلام يسوع بأن "يكونوا جميعهم واحدًا" (يوحنا17: 22). ربما هذا كان كلاما قويا، ولكن من المؤكد كان مهما، لأنه أعطى معنى لشخصيتي ولخدمتي التي قلت أني سأتواصل فيها، مهما تكن العواقب، وكنت اعرف ذلك، لأني كنت دارسا للتاريخ، مثل حركة الاتحاد في الكنيسة الكلدانية، وما حصل لمار يوحنا سولاقا شهيد الوحدة، وما صار للمطارنة الآخرين، حيث أدى الامر الى رجوع خط سولاقا، الى النسطورية التي تأتي منها الكنيسة الاثورية الحالية، ثم من الكنيسة النسطورية كانت الوحدة الثانية، والثالثة في عهد مار يوحنان هرمز من عائلة أبونا في القوش في نهاية القرن 19، إني اعرف هذا التاريخ، واعرف أنه باي مرة، وبأي مرحلة تاريخية، وبأي حادث، يكون ثمة قرار كبير، وتأتي رجالات تتخذ هذا القرار، ومن المؤكد يوجد ثمن يدفع من اجل ذلك. أما أنا فأعتقد أن الثمن الذي دفعته كان أبسط ثمن وأسهل ثمن، كان ممكن أن يكون أصعب بكثير. لهذا إذا تسألني مرة أخرى ما الذي سوف أعمله، فرأيي كمطران وكإنسان مؤمن: لا يوجد حل آخر.

الجانب القومي، الانتماء اثنيا وثقافيا
* سيدنا هذا المجال الذي تطرقت إليه سيادتك هو المجال الوحدوي المسكوني الروحي. من ناحية أخرى فقد سبق لي وانتبهت ان سيادتك، في مواعظك تركز ايضا ليس فقط على المجال الروحي، والعقائدي للكنيسة ولكن على خصوصية الكنيسة الكلدانية، والذي لفت انتباهي هو كيف صار الانتقال  بحيث ما تبناه شعب الكنيسة الكلدانية والتركيز على الاتجاه الكلداني، كيف تفسر هذا الشيء؟
– اول شيء انا من صغري تربيت في عائلة لم تكن ترى الفرق ولا علمتنا أن نفرق، فهذا الشيء بالفعل يساعد كثيرًا.
الشيء الثاني، نحن شعبنا متّحد اكثر مما هي عليه رئاساتنا الدينية خصوصا عندما كنا نعيش في الجبال والقرى حتى كان يوجد تزاوج بيننا، لهجاتنا ذاتها تتقارب، ربما لهجات زاخو مع الاثوريين الموجودين بالمناطق المجاورة لهم، هي اقرب بكثير من لهجة الاثوريين إذا قارناها بسهل نينوى. فعندما نعيش سوية، خصوصا بالغرب هنا، عندما يصير هذا التعايش، والاجيال تتربى مع الزمن، عندئذ تذهب أصلا هذه الفروقات، لأنها فروقات مرحلية تابعة الى ارض وحضارة، وبالاخير، انا أقول ثانية بسبب دراستي للتاريخ، اعرف أننا شعب واحد الى درجة ان الاثوري كلداني والكلداني اثوري، وأن النسطوري كاثوليكي والكاثوليكي نسطوري، في كنيسة المشرق تحديدا وبفحوى ومحتوى كنيسة المشرق. فالكاثوليك الاولون أي من سلسلة مار سولاقا، هم الاثوريون الحاليون، والبطريركية الخاصة بهم، ثم إن كنيسة ادي وماري هم الكلدان فصار اسم المتحدين على الكلدان، واسم ادي وماري على الاثوريين. فنرى هذا التعاكس الذي يحدث في الطريق، نحن متداخلين ببعضنا بقضايا متعددة جدا، من المستحيل أني انا اقدر أن أقول بأن دمي اثوري وليس هو كلداني، وبنفس الوقت أن اقول: دمي كلداني وليس هو اثوري.

مار باوي سورو: حتى القومية شيء مرحلي، الهدف هو المحبة التي تحدث عنها يسوع

* ويمضي الاسقف باوي ليقارن بين الجانبين الروحي والقومي في المسيحية، لعلّ هذه المقارنة هي التي تميّزه عن عدد من مناوئيه الداخليين والخارجيين، فيقول:
- القومية هي شعور. فأنا لما احبّك، اشعر بك، سوف آتي اتقرّب إليك، وفي نهاية الأمر حتى القومية هي شيء مرحلي، الهدف هو المحبة التي تحدّث عنها يسوع، لكن الوعي هو الذي ساعدنا وحدد طريقنا، هذه فائدة الوعي. وهذه الكنايات طيبة جدا لأنها هي من تاريخ بلادنا بين النهرين، كانت عملية سهلة جدا عليّ أن اقول لجماعتنا الكلدان في سان دييغو او في ميشيغان أو حيثما كنت أذهب: أنا كلداني مثلكم ويمكن أن أكون كلداني اكثر منكم، هذا هو الاتجاه الذي كنت اتحدّث به أيضا مع الاثوريين، وكنت اول واحد استطعت ان أجلب كلمة مثل (الكاثوليكي) و (الكلداني) في كرازاتي اليومية والاسبوعية. ما كنا نستطيع ذلك من قبل، كانوا يسمونهم (باباي- باباويين) فرنجاي او -عفوا- قليبايي، لكن قلنا: كلا، الانسان عنده كرامته، وعنده احترامه، مثلما تريد الناس أن تحترمك، انت ايضا بالمقابل واكثر يجب ان تحترم الاخرين وتدعوهم بالاسم الذي هم يريدون ان يكونوا مدعوين به. هذا الأسلوب لا يقبل الغلط، انا احترمك، يأتي يوم انت تعرف انت ايضا سوف تحترمني، لأن كلينا الله هو الذي خلقنا، وهذا شيء ضميري في قلب الانسان. أجل كانت حقا عملية سهلة وتلقائية لاني كنت مهيئا لهذا الشيء عائليا وثقافيا. 

الجزء الثاني
مرحلة ما بعد الانضمام الى الكنيسة الكاثوليكية، مار باوي سورو: من أطراف الكنيسة الى قلبها
مسار العلاقة بين البطريركية وابرشية مار بطرس
في البدء عرضت على مار باوي ما عرفته من خلفية العلاقة بين البطريركية وابرشية مار بطرس بالقول:
* سيدنا مرت ابرشية مار بطرس، بمراحل شهدت شيئا من الاحتكاك مع البطريركية. منه موضوع طقس القداس، سواء التجريبي الذي كانت أبرشية مار بطرس قد اتبعته بشكل انفرادي ثم استمرّت على ذلك حتى بعد صدور النسخة المؤوّنة الاخيرة. هكذا سيادتك عشت مرحلة، كان فيها هذا التباعد وطالت لحد معين حتى جاءت المرحلة الجديدة بعد تقاعد رئيس الابرشية السابق مار سرهد جمّو. صارت هذه الانتقالة إذ كنت صاحب القرار في مرحلة استحضارية، لحين مجي المدبر الرسولي، ورأيناك على رأس المستقبلين. وعلمت من جانبي، أنه صار تنسيق ايضا مع الشماس عزيز، رئيس الشمامسة الذي كان في حينها في كالكري، وكان استقبال حافل وحميم وجماهيري من المطار الى الكنيسة. وسيادتك ايضا تكلمت بتوازن طيب، وقارنت بين مرحلتين: قيّمت من جهة، عطاء المطران السابق عبر سنوات خدمته، وكذلك ركزت على الحالة الجديدة والارتباط مع البطريركية. اذا امكن  تكلمنا عن هذا موضوع العلاقة بين البطريركية وابرشية مار بطرس.
مار باوي: أجل صار تطوّر في الموضوع وأقول: إن الطريقة التي افهم فيها الكنيسة وأفهم نفسي، مما يؤدي إلى تفاهم مطابق ومتبادل، هو ان الكنيسة تعطي سلطة روحية للمطران فيعدّ خليفة الرسل وذلك عن طريق الفاتيكان وعن طريق الرسامة الاسقفية وعن طريق البطريركية. ومن خلال السلطة الممنوحة للمطران سرهد كرئيس ابرشية مار بطرس، استقبلنا في الكنيسة، وعن طريقه قدّم ملفي كمطران يعيش في رقعته، الى السنهادوس والى الكرسي الرسولي. فكان حالي معه حال الضيف. هناك رأيت أنه ليس من حقي ان اتصرف حسب ما اريد. كضيف، سأكون قبل كل شيء ضيفا عندك مستمعا إليك وإلى إرشاداتك وطلباتك، مما يجعلني جزءًا من الادارة والعائلة الكنسية الموجودة في هذا الواقع…

نوعية السلطة بين اسقف الغرب واسقف الشرق؟
الأب نويل: سيدنا، ما هي يا ترى السلطة التي يأخذها المطران الشرقي المقيم في الغرب في كنيسة ذات خصوصية  بطريركية؟ هل تختلف عن السلطة التي يمارسها كل مطران لاتيني؟ فهل نحن لأننا من كنائس بطريركية، يختلف اساقفتنا عن الاساقفة اللاتين؟
مار باوي: حضاريا وثقافيا نعم أعتقد اننا نختلف. ففي بداية الحديث تكلمنا عن العقلية الغربية والعقلية الشرقية. أرى أن الغربيين اهدأ واسهل، حتى اذا كان اختلاف بينهم، كما رأينا (اعتناق الخورنة الانكليكانية للنهج الكاثوليكي في كالكري) الا أننا نحن الشرقيين طبيعتنا تختلف فهي اكثر عاطفية. الأمر الآخر، هو أن الكنائس البطريركية الشرقية الكاثوليكية، صار لها مدة من السنين تسعى لأن تعالج موضوعًا ملحّا، وهو الحق القانوني للكنائس الشرقية عن اسلوب تعامل الابرشيات في الرقعة البطريركية مقارنة بالابرشيات الموجودة خارج الرقعة البطريركية في بلاد الشتات، المهجر. يوجد نوع من الاختلاف في نقاط معينة. إذا عولج هذا الاختلاف، تتبدّل العقلية شيئا فشيئا وتتقارب. عندئذ باعتقادي لن يكون هناك فرق، واعتقد هذا ما تحتاج اليه كنيستنا الكلدانية ونأمل ان يتم التوصل إليه. واعرف أنه توجد محاولات  جدية من الكنيسة الكلدانية كما من بقية الكنائس الشرقية، ضمن مجامعها البطريركية، لحل هذه المشكلة، وهي أن تكون ثمة قوانين موحدة لجميع الابرشيات، فلا يكون هناك ما يشبه مرجعيتين، بل مرجعية واحدة، مما يؤدي الى ازدهار افضل.
الاب نويل: لعل ما يعزز ضرورة القوانين الموحدة لجميع الابرشيات مع البطريركية، هو أن الأسقف ينتخبه السينودس ضمن البطريركية والكاهن ايضا يعين بالتنسيق مع البطريركية.
مار باوي: هذا مؤكد، وهذه القوانين الموحدة من شأنها، ألا تعطي أي تبرير أو تفكير انفصالي. ومن المؤكد أن فكرة الانفصال هي عندي مثل الهرطقة، فهي من ثم خطأ في خطأ. هذا الاعتقاد راسخ عند شخص مثلي ضحى بكل شيء، حتى يجئ الى الكنيسة الكاثوليكية. لا يمكن القبول بذلك، مهما كان السبب، ليس فقط ذلك، فأنا  سأبقى الى آخر يوم من حياتي في كنيستي الكلدانية الكاثوليكية.

العلاقة بين الفاتيكان وكرسي بابل، في المجالات الادارية والمتنوعة
والجهود البطريركية في تحديد هذه العلاقة

*وسألته عن العلاقة بين الفاتيكان والكرسي البطريركي، في ضوء الظروف مع ابرشية مار بطرس، فأجاب:
مار باوي: بشأن هذه العلاقة، فإن الظروف بين البطريركية وابرشية مار بطرس هي مثال لما سأورده. فقد اخذ الموضوع تقريبا سنتين. والان أرى، بحسب فهمي أن الفاتيكان قرر من خلال المجمع الشرقي، ان يقرّب فكرة قراراته اكثر الى خط القرارات البطريركية  الكلدانية، وهذا شيء جيد. إذ سوف نسمع النداء الواحد الموحد لا يوجد ايكو (صدى) ولا تناقض بالقوانين التي نقرأها ونسمعها والتوجيهات التي تأتينا من البطريركية ومن الفاتيكان. فبقدر ما نكون شخصية موّحدة، هذا الافضل لنا وأكثر صحية. حتى وان كان هناك شيء لا يعجبني، سأقبله بوضوح، ولن يكون هناك التباس ولا يؤدي بي أو بغيري إلى أي ضياع، وقد لمست هذا التقارب، من خلال جهود حثيثة للبطريركية بهذا الاتجاه وبما يتيح لنا أن نتطلع بأن القوانين التي تدير الابرشيات خارج الرقعة الجغرافية البطريريكة ستكون أقرب الى الأبرشيات في الداخل.
* لعل هذا سيوصلنا إلى الخطوات التي قمت بها، بعد ما كنتَ كضيف وتتعامل ضمن سلطة محلية وما بين فترة الاسبوع، الفترة الانتقالية...
مار باوي: نعم خلال اسبوع واحد كنت الشخص الذي يتخذ القرار: من إعلان تقاعد سيادة مار سرهد الى حيث عرفنا بوصول سيادة مار شليمون كمدبر رسولي. بهذا الاسبوع حيث كنت النائب الاسقفي، القرار الذي اتخذته كان كالآتي: نحن كنيسة كاثوليكية، ومئة بالمئة سوف نطبّق القوانين الكنسية التي تأتينا من الكنيسة الكاثوليكية، جاءتنا من البابا، منطلقة من المجمع السنهادوسي الكلداني الدائم في العراق، وعن طريق البطريرك وبقيادته وصلت الى روما، لهذا عند استقباله قلت: نحن كاثوليك كلدان، وإننا مِن قِبل كل الكهنة والخورنات، نقدّم طاعتنا الى قداسة البابا الى غبطة البطريرك واليك يا المدبر الرسولي. لا يمكن أن يشتغل الحال بغير طريقة.
الأب نويل: مع تقديم الشكر للراعي السابق، وتشبيه ذلك بالحالة العائلية...
مار باوي: نعم بالضبط لقد تذكرتَ كلماتي. أول شيء تشكر وتودع القديم  ثم تستقبل الجديد. وتشبيه ذلك كما يحصل في العوائل من تجديد الحياة: الطفل الذي يولد، تقريبا تكون ولادته قريبة من رحيل الجد أو الجدة. إنهم يرحلون حتى يتركوا المكان للطفل ليحلّ فيه. هذا ايضا يحصل في كنيستنا ونحن ما نقدر أن نكون مؤمنين بيسوع اذا نحن لا نكون مؤمنين بكنيستنا من خلال تواتر رجالاتها مطارنتها، بطاركتها وبابواتها وهم خلفاء الرسل.

مع المصاف الاسقفي
* ما هو الدور في هذه المرحلة الجديدة الذي تتطلع للقيام به ضمن المصاف الاسقفي في الكنيسة الكلدانية؟
مار باوي: المصاف الاسقفي للكنيسة الكلدانية هو المصاف الذي من كل قلبي، اردت الانتماء اليه، عندما قبلت اللاهوت الكاثوليكي والعقيدة الكاثوليكية، في كنيستي التي بالتأكيد هي الكنيسة الكلدانية. فأنت لا تقدر ان تكون مجرد كاثوليكي عام، يجب أن تكون متجسدًا في احد طقوسها، احدى كنائسها الخاصة، وانا قانونيا انتمي الى هذه الكنيسة وكمطران، هذا كان الحال. ولكن لأسباب بشرية لم افهمها في البدء، وبعدئذ فهمتها، لأسباب قد تعود الى سوء معين من تصرفاتي او أي شيء آخر، فإن قضية قبولي في هذا المصاف، اخذت فترة طويلة، كانت فترة جدا مظلمة لي شخصيا كرحلة روحية من أطراف الكنيسة الى قلبها. هذا الذي اردته انا، بأن أُعتَمد أن أُحتضن كأخ. أجل كانت هناك اسباب، صرت مع الوقت أفهمها وهي أنها قضية فرد مقابل كنيسة: شخص باوي سورو مقابل الكنيسة الاشورية الرسولية. وهذه بالفعل وجهة نظر مقبولة بل مهمة: لا تضحي بكنيسة كاملة لأجل شخص. ويردف مار باوي فيقول:
ولكن من جهة أخرى، كان عليّ أن أصبر، حتى تتبلور القناعة بمنطق. إذ كان ما درسته وفهمته من واقع، هو أن هذا الشخص هو الذي احبك، أراد أن يأتي معك وهو الذي طلب ذلك من كنيسته السابقة وجماعة محددة جاءت معه، ولكن تلك الكنيسة لم تقبل، والبقية من جماعتها  لا يريدون. فقد صارت مبادرات كثيرة من قبل البطريرك والأساقفة، طوال السنوات الأخيرة،  وكما قلت، الكنيسة الكلدانية بكل أحبارها توقفوا عن قبولي من أجل مبادرتهم، انا افهمها كمبادرة رائعة، خصوصا اذا كنت انا من الطرف الآخر. ولكن الطرف الآخر لم يقبل، وكنت أعرف ذلك، وأعرف لماذا لا يقبلون، إذ كنت جزءا منهم وأفهم عقلية الطرف الآخر.

تطلعات بشأن الكنيسة الشقيقة
وفي استرسال تحليلي، عن الطرف الآخر، الكنيسة الآشورية، يقول مار باوي:
- رأيي في هذا، أنه يحتاج إلى أن يصير تحوّل في العقلية لدى الكنيسة عند الاثوريين، وفي القاعدة التي يبنون عليها، والتفهم الروحي الخاص بهم. كل هذا يمكن تلخيصه بما تحتلـّه القومية من حالة ضرورية وكبيرة لديهم لأن ثقافتهم الاجتماعية مبنية على ثقافة قومية. كما يمكنني أن ألاحظ بأنه، ولأسباب متنوعة، لم تحصل عندهم الفرصة التي صارت عند الكلدان في التعمّق الروحي، بنحو أوسع، وبنوع التعلق بربنا يسوع المسيح القديسين والعبادات والطقوس. ولكن من دواعي الارتياح أنه في الآونة الأخيرة، صارت نهضة معينة عندهم، قام لديهم كهنة واساقفة درسوا في الخارج وبانفتاح الى الرسالة الكنسية الشمولية، يوجد الآن أمل، والحمد لله، بأنه بعد كم سنة سوف يتبلور هذا الشيء من حيث التعمّق الروحي للكنيسة وإلى رسالتها في عالم اليوم، ولا بدّ أن يتم التعبير عن ذلك بنحو أو بآخر، بما في ذلك بحسب طريقتهم الخاصة وخصوصيتهم.

الكنيسة الكاثوليكية مع المنضمين اليها
إزاء هذا الواقع، ومن ناحية أخرى، على الكنيسة الكلدانية أن تحتفظ بحقها بـأن تحتضن اي واحد يريد أن يصير كلدانيا من حيثما أتى، كالكنيسة الكاثوليكية التي تقبل كل الناس الذين يأتون إليها، يحتفلون بقدومهم. رأيت قداسا، خلاله تعمذ كاتب مصري (الصحافي مجدي علام- 23 آذار 2008) في زمن البابا بندكتس احتفلوا به، البابا بنفسه عمّذه وتكلم عن الحدث الذي كان في عيد القيامة. ثم أن الكنيسة الكاثوليكية احتفلت بعدد صغير جدا من الانكليكان، لما صاروا كاثوليك، كان عددهم اقل من عددنا عندما صرنا كلدان، احتفلوا بهم وأسسوا لهم نيابة ابرشية، ونظام اداري كنسي خاص بهم (فيكاريات - اورديناريت) وحتى الان يتكلمون عن الحدث بفرح واحتفال.
طبعا انا ما كنت لأنتظر ذلك بنفس الطريقة، فنحن كنيسة مضطهدة في العراق، بما فيه من حروب ومشاكل، وقلب الكنيسة الكلدانية على ظروف الكنيسة الاشورية. فلا انتظر المعاملة عينها، نحن عندنا خاصيتنا، ولكن في نهاية الأمر اترجى من ربي ومن كنيستي ان ينظروا إلينا كأناس مؤمنين، أخذنا خطوة ايمان راسخة. لهذا انت ستشاهدني في حياتي كلها لن اتراجع عن هذا الشيء لان التراجع عن الكثلكة وتراجعي عن الكنيسة الكلدانية هو تراجعي عن المسيح، هنا وبالضبط هنا، انا التقي مع ربي.

بين الجانب الروحي- الثقافي، وبين الجانب القومي، تشخيص تلقيته من سيادة مار سرهد

الأب نويل:  فاذن سيادتك لاحظت في الكنيسة الكلدانية الجانب الروحي والثقافي، بينما ركزت على الجانب القومي في كنيسة المشرق الشقيقة، يا ترى ما هو تنظيرك للخصوصية القومية للكنيسة الكلدانية؟
مار باوي: هناك شيء تعلمته بالسنين الاخيرة، يلزمني أن اقوله هنا، أمانة للتاريخ. أذكر أن سيادة المطران مار سرهد أفهمني نقطة في هذا الموضوع إذ قال لي:
هناك فرق نظري. أما كيف يتبعوه من الناحية العملية، فهذا يعتمد على الأشخاص. الفرق نظريا بين العملية القومية في كنيسة المشرق، والعملية القومية في الكنيسة الكلدانية هو: (في كنيسة المشرق، العملية القومية هي أيضا عملية سياسية، بينما في الكنيسة الكلدانية، القومية هي عملية ثقافية…)
وعزز المطران باوي هذا الرأي بمثال عملي، قال:  كنت، قبل مدة، مدعوّا لاحتفال بالذكرى الاولى لتأسيس الرابطة في سان دييغو، حيث قال رئيس الرابطة المحلي كلمة أثبتت هذا الشيء: نحن رابطة وسنبقى رابطة ولن نتحوّل في يوم من الايام الى حزب كلداني. هذا مفتاح الفهم والمقارنة، لماذا؟
لأن بالثقافة، عندك حق أن تدافع عن حقوقك الوطنية وحقوقك الانسانية، هذه حقوق، الله اعطاك إيّاها. لذلك نرحب بهذا التوجه، ونرحب بالرابطة ونباركها وبجهود البطريرك صاحب الفكرة والرؤية، وبما يشكل المعالجة تجاه اغلاط الكنائس الاخرى، مثل الكنائس الارمنية والاثورية. لقد تأثروا بذلك، والآن نرى أن الكنائس الارثوذكسية الشرقية أدخلت السياسة في القومية بالكنيسة. نحن لا نقول (لا) للاحزاب، بل أن يكون للكلدان احزابهم وللاثوريين كذلك وغيرهم من مسيحيين. لكن ككنيسة، عندما تدّعي القومية، انت منطلقك هو فقط ثقافي لغوي تاريخي حضاري مع توجّه نبوي فتدافع عن المظلومين، عن الناس وحقوقهم. هذا هو الشيء الذي أراه اليوم في فكر غبطة البطريرك مار لويس ونحن فرحانين به، لهذا نرحب بالرابطة، وهذا حقّنا. الله يوفقهم.

عن طقس القداس
الأب نويل: ضمن هذا الاتجاه الثقافي أيضا، فإن الكنيسة البطريركية وهي ذات ثقافة معينة، من الطبيعي ان تمارس طقوسها بخصوصية مشتركة للجميع. كيف تحدثنا عن موضوع القداس بين البطريركية وابرشية مار بطرس؟
مار باوي: لنتكلم عن طقس 2006 وطقس 2014 الذي عمّمته البطريركية.  فطقس 2006 كان فقط يمارس في ابرشية مار بطرس دون بقية الابرشيات والبطريركية، ولمدة تزيد على عشر سنين. وأقول بصراحة: فهمُنا كان بأن المجمع الشرقي أخذ هذا الملف عنده، واعطى صلاحية للطقسين ان يعتمدوا، فكنا نحن بوجود طقس 2006 نستمر عليه، ولكن بالدقيقة التي فهمنا بأنه من هذا الوقت وصاعدا يجب أن يكون طقس 2014 معمّما للجميع، رجعنا الى طقس 2014. وانا في الاحد السابق، قدست بهذا الطقس. بالحقيقة كان من احلى القداديس التي أنا قدستها بالكلداني. رأيت هناك فرق في الترتيب لكنه مقارب جدا. فكرتي عن الترجمات، تحتاج بعض الشيء الى شغل، كأي طقس جديد، هذا الامر موجود في كل الكنائس، وسيدنا البطريرك استقبل الاقتراحات، وتم معالجة الترجمات، وإن شاء لله يُعمّم في كتاب جميل، ليبقى طقسنا واحدًا من أحلى الطقوس.

دعوات التعايش مع الكنيسة في العراق
* سؤال أخير: كيف ترى دعوة غبطة البطريرك للتوأمة بين ابرشيات الخارج والداخل، وخصوصا بزيارات تعايش الاكليروس، وهل لديك في الافق تطلع لمعايشة في هذا المجال مع كنائسنا بالنسبة لك أو للاكليروس؟
مار باوي: الصديق في وقت الضيق، ولكن بكل صراحة يلزم على الانسان أن يكون عظيمًا حتى يساعد باكثر من المال، لما يساعد بنفسه بحياته، يخاطر يجازف من اجل الاخرين، وهذا شي لا تقدر أن تتوقعه او تنتظره من كل الناس، بشكل واحد، لأن محبة الله ومحبة يسوع ليست سهلة، في عدة حالات تقتضي التضحية، أما لنا ككهنة وكمطارنة فهذا واجب، والفرصة الاولى التي تسنح لي ان اظهر هذه المحبة، سأحتضنها بدون ان افكر دقيقة واحدة.

* إذا أمكن، سيدنا، أن تعبّر عن هذا الجواب، بالانكليزي، حتى ربما بعض أصدقائك ومحبيك يتلقونه مباشرة؟
Had I been living in Iraq, and had I been a clergyman or a bishop there, I would have expected and asked the rest of my Chaldean church to be as close, as sincere and as helpful to me, just as the Patriarch is asking. I think it is a very natural way of behaviour of expecting friends and brothers and sisters and people of the same faith  - followers of Christ - to behave."A friend in need is a friend indeed
So I would have done the same, however, being a realistic, usually people think on 2 or 3 different levels, when they express their love. So hearing about our people in Iraq, it is essential that we first pray for them, then we much help with money, but if you want to really belong to a higher rank, of brotherhood, you must offer a sacrificial love. I think that is what God has done for us and I think it is wonderful if we can do it to one another. I personally would love to take the opportunity to show that love to our people in Iraq, I pray for that opportunity, to be able to be with them, to see them, to console them and pray with them in order to fulfill my moral obligation, my human duty and my church responsibility to my people in Iraq and Syria, especially as a time like this.

مار باوي- بالسورث: شكرنوخ كبيرا رابي تا مبادرة  ادّيوخ وشكرن اخوني عزيزا شماشا عزيز، بدّايا محبة ديّه وصداقة ديّه وآها فرصة دويدالي طالي، ودها هم طالوخ، بسما كانوخ شماشا عزيز .
اديو اخاويوخ كخازوخ: ايتا ايلا كل مندي داتلان، ايلا عائلتـّن، تاما كخازخ لمارن، قديشي ديّان، قديشتا مرت مريم، أي قميثا وتاما كشقلاخ كل نعمتياتا داتلان، واخني، وبضمير ديّان كيذخ ديخ مارن كِبي دهاووخ بأيّا عيتا، فأخني عيزيوخ داوذخ مساعدة، دعيشوخ حياة كنسية مثالية، انا ليبي تا كاني اوذن آذي، انا عيزيون الـّوخ، ولفهامتا ديّوخ ولارشاد ديوخ ولمحبة ديوخ قد آيت شوقتلي تد آنا هاويلي خا ولادة خثتا وخا ناشا خاثا بالط مني.
يعني مشيحايي طاوي، إيلاي مخ قابلة ماذونة، دياوي ولادة دخا برناشا خاثا خديكد يمّا يوا خذا هويتا خثتا، وآين ايلا أورخا التفاهم (كومنيكشن) داديو يوما، آيت مبادرة ديوخ يوا، داتوت مني، قا داوذت تفاهم مني، وأن شوقتلي رأشن بأن آنا ايون خا ناشا ولو اتلي غلطي، بس آيت لبّوخ رابا يلي وكحيبتلي وشوقت طالي، ولبّوخ هم رابايله دفهمتلا وجهات نظر ديي، دمبصختلي، وانا باوذنخ كارانتي، آيت بشوقت أنا دبايشن خا ناشا خاثا هاون، ونفس شي انا طالخ، إذيله  معنى دعيتا، اوداخ تا اخذاذي اومندي دالاها ودلي طالن. كما دآوخ رابي بدرغا، هادخ دهاوخ اخ مارن مرحماني وشوقاني، وخلقاني دناشي خاثي تا شوحا دآلاها،
الأب نويل: وايّا رسالة ايلا من كل مشيحيايا لمشيحايا، من كل ابسقوبا لابسقوبا ولبطريركا.
مار باوي: تا كلن ايلا بصراحة، لان كلن ايواخ قذام كل مندي ناشي، يرأشوخ بناشوثا، ايله الاها بريا آيّا ناشوثا، مباثر هادخ، ايوخ عميذي، وبيشوخ زريئي (ويذي امبلانتت) بملكوثا دالاها، بعدين الاها يقاريلان إلـّد قريثا اديّان بخايي ديّان، إن ديلا دعوة عائلة، يان دعوة كهنوتا، بيولـّن فهماثا، بيولـّن موهوثا  (تالانت) ويولـّن خلياثا، شوحا تا شّميه وطوّا لدو ناشا عميذا ودرغايا دهاوي، كود مبلخلاي انّيه خلياثا دالاها تا عجبونا دالاها وتا شوحا ديه، انا يخشون حتى ان هاووخ سهدي، آها معنا دقديشوثا يلا.

الأب نويل: وهاوت بسيما، شماشا ايونكلايا عزيز رزوقي، باقذ ان اتلوخ خا تنيثا.
شماشا عزيز: شلاما الـّوخو، قمايا كشكرن سيدنا مار باوي سورو، دثمال ثيله إمي من ماثا دسان دييغو كاليفورنيا، تاد ياولي بوركثا تا شركا ديي هندسية، ديل مقر دياح، بكالكري كندا، وكشكرن أخوني عزيزا رابي نويل دشقله وقت ديح والتقيلان، وكطلبن من مريا، انه شاقلا ايتان تا قاما، وان شاء الله  بدزالا لقاما، لأن عما ديّان كبيرا كبيلا تا ايتيه، وبوركاثا دلالاها بد شاري بكاون بش كبيرا إيمن دهاوخ كلن خا.
تعريب الفقرة الاخيرة التي بالسورث من حديث مار باوي:
أشكرك كثيرا أبونا لمبادرتك، وأشكر أخي العزيز الشماس عزيز، لهذه المحبة ولهذه الصداقة ولهذه الفرصة التي وفرها لي ولك ايضا. شكرا، شماس عزيز.
نحن اليوم هنا،  نرى كيف أن الكنيسة هي كل ما لدينا، انها عائلتنا، فيها نرى الرب، القديسين وفي المقدمة السيدة القديسة مريم، وهنا نأخذ كل النعم التي لدينا، ونحن بضميرنا، نعرف كيف ان ربنا يريد أن نكون في هذه الكنيسة: فنحن نحتاج الى ان نتعاون، ان نعيش حياة كنسية مثالية. فأنا لا اقدر ان أعمل لوحدي بل احتاج اليك، الى تفهمك، وإرشادك ومحبتك، بحيث تجعل أن تكون لي ولادة جديدة، وأن ينبثق منّي انسان جديد. وهذا يعني أن المسيحيين الصالحين، هم مثل قابلة مأذونة، يعطون ولادة للإنسان الجديد، ومثل الأم التي تمنح الولادة الجديد. هذا هو طريق التفاهم في يومنا. فتكون مبادرتك تجاهي، بحيث نتفاهم معا، وتجعلني احس بإنسانيتي، حتى وان كنت مخطئا، لكن قلبك كبير، فانت تحبني وتغفر لي، وقلبك هو هكذا كبير بحيث تتفهّم وجهات نظري، فتبعث عندي الفرح، وأنا اعطيك الضمان  بأنك ستجعل مني بأن أكون إنسانا جديدا، والشيء عينه أكون عليه انا بالنسبة إليك. هذا هو معنى الكنيسة: أن نعمل مع بعضنا الشيء الذي عمله الله لنا. فمهما كنا كبارا في الدرجة، بقدر ذلك لنا أن نكون مثل الرب رحومين وغفورين، وخلاقين للناس الجدد في سبيل مجد الله.
الاب نويل: ولعل هذه الرسالة موجهة من كل مسيحي لكل مسيحي، من اسقف لاسقف أو بطريرك.
مار باوي: إنها موجهة الى كلنا بصراحة، لأن كلنا نحن، قبل شيء  بشر، الله هو الذي خلق بشريتنا. وأيضا لأننا معمّذون، وصرنا مزروعين في ملكوت الله الذي يدعونا بدعواته إلى كل منا في حياتنا، سواء دعوة العائلة، او الدعوة الى الكهنوت. ولهذا فإنه يعطينا الفهم، ويعطينا الموهبة، ويعطينا المزايا، التسبيح لاسمه. فطوبى لذلك الإنسان المعمّذ والمرسوم على درجة ما، عندما يوظف هذه المواهب لإرادة الله ومجده، وأنا أرى حتى وان اقتضى ذلك استشهادنا، فهذا هو معنى القداسة.
الاب نويل: والشكر الى الشماس الانجيلي عزيز، تفضل شماس اذا كان لديك كلمة؟
الشماس عزيز:  تحياتي لكم. قبل كل شيء اشكر سيدنا مار باوي سورو، حيث جاء البارحة معي من سان دييغو كاليفورنيا، لكي يبارك شركتي الهندسية بكالكري كندا، واشكر أخي العزيز الاب نويل للوقت الذي يجمعنا. واطلب من الرب أن يأخذ كنيستنا الى أمام، وان شاء الله تذهب كنيستنا قدما، لأن شعبنا يحب كنيسته محبة كبيرة، وبركات الله سوف تحل فينا وتغمرنا، عندما نكون كلنا واحدًا.

64
نقاط على الحروف عن مقترح مجلس الكنائس
وانسحاب الكلدان من مجلس رؤساء الطوائف المسيحية
 
الأب نويل فرمان السناطي
 
لا يمكن لأسباب عديدة الالتفات العميق إلى تنظيرات أو آراء هنا وهناك، من خارج الوطن أو من داخله، عن المواقف من انسحاب الكلدان من (مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق) وبشأن فكرة تأسيس مجلس كنائس العراق. ولكن تبقى الأبواب مفتوحة على بيانات رسمية رصينة، كالتي صدرت عن ممثلي عدد من الكنائس الرسولية والطوائف من الجماعات الكنسية من حركة الاصلاح. إلى جانب آراء سديدة وشهادات إيمانية رصينة، تقرأ الأمور من وحي الأحداث، وبروح نبوية رسولية، وعليه جاءت هذه المحاولة لوضع نقاط على الحروف.
 
ولا بد من القول أن من عرفوا البطريرك لويس ساكو عن كثب، وشهدوا خطواته الوحدوية من جهة، وأيضا مبادراته ذات العديد من إشارات التنازل والتواضع، قد ينقسمون الى جانبين: جانب يفهمها وهي طائرة، وجانب يتساءل بثقة عن أن ثمة أسباب موجبة عن الموضوع، لا بدّ من انجلائها عاجلا أم آجلا.
فالبطريرك لويس ساكو هو الذي خطى تلك الخطوات المتفردة تجاه البطريرك الراحل مار دنخا الربع، وهو الذي بادر بمبادرته الوحدوية التاريخية بعد رحيله، وهو ذاته بعنفوان متميّز أوضح كيف من الطبيعي أن يكون لأبناء الكنيسة الكلدانية خصوصيتهم القومية والثقافية إزاء انفتاحهم إلى آفاق الوحدة المسكونية.
 
الحضور الكلداني في العراق والحضور الماروني في لبنان

والبطريرك ساكو، هو الذي في أحد الاجتماعات، نادى بالبطريرك الماروني عميدا لبطاركة الشرق، انطلاقًا من الحضور الثقافي والاجتماعي والتاريخي للكنيسة المارونية إلى جانب مكانتها في الساحة الحكومية، سواء على صعيد لبنان، أو على صعيد مسيحية الشرق الأوسط، وعالميا.
وإذا ذكر الشيء بالشيء، فثمة حاجة أيضا إلى التذكير بعدد من المسَلـّمات (بتشديد اللام). ويبدو ان الأمثلة هي وحدها التي تساعد على صرف الضبابية. فإن بطريركية مثل بطريركية الأقباط في مصر، مرتبطة بتاريخ البلاد وحجم الحضور على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، وأعتقد انه يختلف الشأن مع هذه البطريركية في خلط الاوراق، لدى التجمعات المسيحية، من الناحية التراتبية و البروتوكولية. وفي الوقت عينه، فإن لبابا الأقباط مكانته الأفقية على مستوى الكنائس الارثوذكسية والكاثوليكية، من بابا إلى بطاركة.
لقد مضى الوقت الذي في عقود من العهد الشمولي، كانت تخلط الأوراق لخدمة استراتيجيات سياسية استيعابية، وإضفاء طابع غامض من النسبية على الخصوصيات المسيحية، الوطنية، التراتبية والوافدة. فكانت جميعها تخلط معا في قالب واحد، لتشكل مجموعة 14 "طائفة" آنذاك، فتأخذ حصتها من باقة ورد، وسلة معجنات من رئيس البلاد.
ولقد مضى الوقت الذي، لأسباب متشابكة ليس مجالها هذا المقال، وخلال ذلك العهد الشمولي، وجدت فيه الرئاسة البطريركية الكلدانية نفسها تابعا ورقما ضمن تراكم حصل مع الزمن، للحضور الكنسي، من مختلف المسميات والمستويات والجذور، سواء ما ارتبط بجماعات كنسية وافدة او ما يمثل رئاسات كنيسة شقيقة مقراتها من خارج الوطن ولها في البلاد عدة أبرشيات تاريخية، عندما كان الوطن بلاد اللون الواحد والشمولية وفردية القرار.
 
الجانب التراتبي للحضور الكنسي في العراق

ولا بد من التثبيت ان الحضور الكنسي التراتبي الرسمي في العراق، يشتمل على عدة مسميات وأكثر من توصيف:
فقد اشتمل الحضور المسيحي في البلاد على كراسي ذات حضور تاريخي متجذر، مثل كرسي كنيسة بابل الكلدانية، الى جانب حضور متجذر لكنائس رسولية مثل كنيسة المشرق الاشورية التي عاد كرسيها الى البلاد، الى جانب وجود الكرسي البطريركي للكنيسة الشرقية القديمة. وفي العراق ايضا حضور مسيحي متجذر لكنائس رئاساتها الكنسية خارج البلاد كالسريان الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن، ولنا معها علاقات أخوية متطورة إلى جانب حضور مسيحي من المسميات الأخرى.
وإزاء ما سبق ذكره، لا يختلف اثنان، أن الكنيسة الكلدانية متمثلة بثمان ابرشيات ضاربة جذورها في عمق التاريخ، مما يجعلها في مسؤولية الخدمة الكنسية المسيحية الأولى في البلاد، ومن هذا المنطلق، لا بدّ من الانفتاح الى الخروج من هذه الضبابية، وتأصيل حضور تراتبي كنسي رسمي في العراق، مع احتضان ورعاية الى الممثليات الكنسية من مختلف المسميات.
 
ويفهم مما صدر من البطريركية، أن المسألة بشأن مجلس الكنائس هي مجرد مشروع ومقترح وأبعد أن تكون قرارا. لذا يرى المرء انه اذا بادرت البطريركية بمقترح تأسيس مجلس كنائس في العراق فمن الطبيعي بالتالي ان تتطوع لخدمة الرئاسة التأسيسية وتوفير ما يقتضي من خدمة ادارية ولوجستية، كما على مستوى رئاسة المجلس، كمجلس محلي، الا يكون نسخة طبق الاصل من هيكليات مجلس الكنائس العالمي في الشرق الاوسط والعالم. ولا غرو انه مع الوقت فإن انسيابية الرئاسة الى هذه الرئاسة الكنسية المحلية أو تلك، يمكن أن تخضع الى سبل للتدارس والحصول على اتفاق بشأنها ضمن آليات معاصرة. بل لأن الامر هو بمستوى مشروع ومقترح، فكان من الممكن، بل إنه من الممكن أصلا للمجلس (مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق) دعوة الكلدان الى اجتماع خاص لمناقشة المشروع واجراء التعديلات عليه. وعُرف ان البطريركية كانت قد وجهت رسالة بتاريخ 14 اذار 2016  للقيام بهذه الاصلاحات وتفعيل المجلس حتى لا يبقى مجلسا شكليا... وحسب
 
وبعد، ثمة مشاعر محبة، تعتلج لدى كاتب السطور، تجاه قامات وعناوين واعضاء في المجلس إياه، مشاعر تدعوه أيضا إلى أن يعبر عن رؤيته، بما يتاح له من دالـّة ليقول:
إنها، كما نرى، خطوات تعدّ لمسؤولية تاريخية تصحيحية في مواجهة ما آلت إليه أحوال مسيحيينا في البلاد، منذ جاء تمثيلهم مجتمعين في هذا المجلس، كتحصيل حاصل كان من افرازات زمنه، في هيكلية عاف عليها الزمن وفقدت أسسها المفروضة والمختلقة، في مجلس خلعت عليه مفردات دخيلة على الخط الرسولي والانجيلي والروحي، ليدعى بين ليلة وضحاها (مجلس رؤساء الطوائف المسيحية في العراق).

 وعلى ضوء توضيح الكنيسة الكلدانية:
"حول اسباب انسحابها وتاكيدها ان السبب ليس الاستحواذ على اموال"، فالمنصفون وذوي بعض المعلقين قبل غيرهم يعرفون ان هذا التعليق غير صحيح، وأن آخر  ما  تفكر به الكنيسة الكلدانية هو المال، وهي أول من بادرت إلى الإغاثة عندما استقبلت المهجرين  وقدمت  المساعدة لهم بمالها الخاص  قبل ان تبادر الجمعيات الخيرية المسيحية. لذا  نعتقد  انه عندما يقتصر الأمر على الاستغلال والانتفاع فالمواقف تنسحب عندئذ على المنتفع وليس على المعطي.

وبعد، لا بدّ وأن لاحظ المراقبون بأن سنوات توالت، وتراكمت المستجدات السياسية والمحن على مسيحيينا ، بحيث كانت بطريركية الكلدان، تترفع عن الكثير من الحقوق الاعتبارية، لتنصرف الى الخدمة والنجدة، لكل مسيحيي العراق، وتتفرغ لرفع قضيته الى المحافل الدولية. والبطريركية كما ذكرت ماضية في هذا النهج. فكما كانت مسوؤلية الرئاسة التأسيسية للمجلس المقترح،  تعد في موقع خدمة خدام الرب بالمحبة، بدون اي غرض آخر. فإن البطريركية ماضية في أن  حمل مسؤولية حضورها، كحضور رئيسي، وبالتأثير والحجم والتأصل والتجذر، ومنه تنطلق لخدمة مسيحيينا وأبناء شعبنا، بكل ما يجمعهم من عناوين. وهذه دعوة أخوية للأشقاء متسنمي الكراسي البطريركية، والكراسي الابرشية، وسائر الممثليات، للتعمق في مسألة أنه لا يصحّ إلا الصحيح ولخدمة مسيحيينا وشعبنا والمنطقة.

65
من الاسقف القديس امبروسيوس الى
الشهيد المطران بولس فرج رحو: أساقفة من طينة مشتركة


الأب نويل فرمان السناطي
7 كانون الاول 2016

تحتفل الكنيسة الجامعة، سنويا، في السابع من كانون الأول، بعيد القديس امبروسيوس (340-397)
Saint Ambroise
الذي كان حاكم مدينة ميلانو وقائد شرطتها، ثم نادى به الشعب أسقفا، وشددوا على اختياره لهذه الخدمة على الرغم من ممانعته إذ وجدوا فيه الشخص الذي يوحّد الصف تجاه بدعة الاريوسيين. ولعله في يومنا، يترشح هذا القديس أنموذجا راعويا، للعصر النهضوي الذي تتطلع إليه كنيستنا، والتي قد يقارنها المراقبون، بمراحل ما قبل الحركات النبوية في تاريخ الكنيسة الجامعة.
فالنبذة التي قدمتها اليوم الكتب الطقسية للكنيسة الجامعة لمناسبة الاحتفال بعيد أمبروسيوس، نوّهت بالعطاءات الفكرية التي قدمها هذا القديس، وبعمله على اهتداء الخطأة والبعيدين عن الايمان، في مقدمتهم اوغسطينوس الافريقي الذي كان قبل اهتدائه مرتميا في البدعة المانوية. ولم يفت سيرة البضع اسطر التي نشرت عن حياته أن تلفت الانتباه، إلى أنه حال استقالته كمحافظ لمدينة ميلانو وقائد شرطتها، حتى تخلى عن كل أمواله للفقراء، وتكرس لأعمال الرحمة، وتعميق الحس الليتورجي ودعم التعليم المسيحي وحرية تحرك الكنيسة.
وفي الزمن النهضوي لكنيستنا، هناك أمثلة كثيرة عن زهد عدد من أحبارنا، لكنهم إذ يبقون مشروعا للقداسة حتى الاكليل النهائي لحياتهم الارضية، فمن هذا المنظور، يستحق الحديث راحل شهيد، مثل المطران مار بولس فرج رحو، الذي تكللت حياته بأعظم شهادة، ومن دواعي السعد ان تم تحريك ملف تطويبه مع الشهيد الاب رغيد كني وآخرين. الى جانب هذا، يمكن الملاحظة أن وصية المطران الشهيد رحو، لم يكتبها من موقع الاختطاف مقبلا على الاستشهاد، بل حررها بخط يده في ظروف اسقفية شبه مستقرة، كما ذكرنا في مقال سابق، عندما قال ان ليس له ما يهبه لأحد من أقاربه، وأن كل ما تحت تصرفه هو خاص بالكنيسة، لنجده والحق يقال مع مار امبروسيوس اسقفين من طينة زهد مشتركة.

ذلك ان الزهد يبقى خيارا روحيا يقدمه الشخص، قبل أن يكون قانونا معلنا ومتبعا. فترى، بمشاعر الشكر للرب، أن اسقفا يزور رعيته، وينظم تكاليف السفر بقانون. وقد يعفي الأسقف هذه الرعية أو تلك من تكاليف السفر، بحسب ظرف كل رعية، وعندما يهيئ له عندئذ أبناء رعيته، هدية نقدية، يعزف عنها بحزم، ويطلب إحالتها الى صندوق الكنيسة.
لكن شعبنا الطيب والسخي، ولظروف متباينة، عبر تاريخ الكنيسة، وتفاوت تنظيمها الاداري في عهود سابقة، أصبح يحسب ان الزيارة الراعوية له من كاهن او أسقف تعني تحضير المظروف، خصوصا في الجاليات العريقة في بلدان الانتشار. فتسمع عن حالات مستشرية في هذا المجال. فلا يرتاحون إلا أن يعطوه، ولكنهم ايضا لا يرتاحون إلا بالتفاخر، فتحسب عدد الزيارات الراعوية، بعدد المظاريف ومدى تراكمها. وبعد هذا، يطالبون الراعي، بأداء راعوي وروحي وإداري، قد لا يكون بمستوى الطموح. كما يغدقون ما يغدقون على القادم من بعيد، على اساس توجهها الى مشاريع الرحمة، ولكن لا يتم التعامل مع ذلك بالاساليب المالية الاصولية.
من ناحية أخرى، من دواعي الارتياح، أن يزداد أحبار كنيستنا ممن يولون دوائرهم المالية، مسؤولية بناء المشاريع الأساسية، ويتفرغون للتعليم والكتابة والخدمة الروحية، وينأون بأسقفيتهم ان تختلط بمجال الاعمال الدنيوية والعمرانية.
وتبقى ثمة مسؤولية للمؤمنين، أن يغيـّروا نمط التعامل في الزيارات الراعوية، بأن يوجهوا ظروفهم أساسًا وبأسلوب أصولي، لمشاريع الرحمة في الكنيسة، مطمئني البال على أحوال الرعاة، كهنة واحبار. ومن دواعي الافتخار ان الجهات المالية من طرف العلمانيين الاختصاصيين تنشط في البطريركية ورعياتها. مع ظهور سياقات مهنية معتمدة في الدعم المالي للأغراض المقرة التي يمدّ به هذا الدعم لمختلف الكنائس. وللعلمانيين المؤمنين وفي مقدمتهم الشمامسة الانجيليين، وهم الجسور بين الرعية والراعي، مسؤولية تاريخية في صيانة مسيرة ما تتطلع اليه الكنيسة من نهضة نبوية.

66

من الاسقف القديس امبروسيوس الى
الشهيد المطران بولس فرج رحو: أساقفة من طينة مشتركة

الأب نويل فرمان السناطي
7 كانون الاول 2016

تحتفل الكنيسة الجامعة، سنويا، في السابع من كانون الأول، بعيد القديس امبروسيوس (340-397) الذي كان حاكم مدينة ميلانو وقائد شرطتها، ثم نادى به الشعب أسقفا، وشددوا على اختياره لهذه الخدمة على الرغم من ممانعته إذ وجدوا فيه الشخص الذي يوحّد الصف تجاه بدعة الاريوسيين. ولعله في يومنا، يترشح هذا القديس أنموذجا راعويا، للعصر النهضوي الذي تتطلع إليه كنيستنا، والتي قد يقارنها المراقبون، بمراحل ما قبل الحركات النبوية في تاريخ الكنيسة الجامعة.
فالنبذة التي قدمتها اليوم الكتب الطقسية للكنيسة الجامعة لمناسبة الاحتفال بعيد أمبروسيوس، نوّهت بالعطاءات الفكرية التي قدمها هذا القديس، وبعمله على اهتداء الخطأة والبعيدين عن الايمان، في مقدمتهم اوغسطينوس الافريقي الذي كان قبل اهتدائه مرتميا في البدعة المانوية. ولم يفت سيرة البضع اسطر التي نشرت عن حياته أن تلفت الانتباه، إلى أنه حال استقالته كمحافظ لمدينة ميلانو وقائد شرطتها، حتى تخلى عن كل أمواله للفقراء، وتكرس لأعمال الرحمة، وتعميق الحس الليتورجي ودعم التعليم المسيحي وحرية تحرك الكنيسة.
وفي الزمن النهضوي لكنيستنا، هناك أمثلة كثيرة عن زهد عدد من أحبارنا، لكنهم إذ يبقون مشروعا للقداسة حتى الاكليل النهائي لحياتهم الارضية، فمن هذا المنظور، يستحق الحديث راحل شهيد، مثل المطران مار بولس فرج رحو، الذي تكللت حياته بأعظم شهادة، ومن دواعي السعد ان تم تحريك ملف تطويبه مع الشهيد الاب رغيد كني وآخرين. الى جانب هذا، يمكن الملاحظة أن وصية المطران الشهيد رحو، لم يكتبها من موقع الاختطاف مقبلا على الاستشهاد، بل حررها بخط يده في ظروف اسقفية شبه مستقرة، كما ذكرنا في مقال سابق، عندما قال ان ليس له ما يهبه لأحد من أقاربه، وأن كل ما تحت تصرفه هو خاص بالكنيسة، لنجده والحق يقال مع مار امبروسيوس اسقفين من طينة زهد مشتركة.

ذلك ان الزهد يبقى خيارا روحيا يقدمه الشخص، قبل أن يكون قانونا معلنا ومتبعا. فترى، بمشاعر الشكر للرب، أن اسقفا يزور رعيته، وينظم تكاليف السفر بقانون. وقد يعفي الأسقف هذه الرعية أو تلك من تكاليف السفر، بحسب ظرف كل رعية، وعندما يهيئ له عندئذ أبناء رعيته، هدية نقدية، يعزف عنها بحزم، ويطلب إحالتها الى صندوق الكنيسة.
لكن شعبنا الطيب والسخي، ولظروف متباينة، عبر تاريخ الكنيسة، وتفاوت تنظيمها الاداري في عهود سابقة، أصبح يحسب ان الزيارة الراعوية له من كاهن او أسقف تعني تحضير المظروف، خصوصا في الجاليات العريقة في بلدان الانتشار. فتسمع عن حالات مستشرية في هذا المجال. فلا يرتاحون إلا أن يعطوه، ولكنهم ايضا لا يرتاحون إلا بالتفاخر، فتحسب عدد الزيارات الراعوية، بعدد المظاريف ومدى تراكمها. وبعد هذا، يطالبون الراعي، بأداء راعوي وروحي وإداري، قد لا يكون بمستوى الطموح. كما يغدقون ما يغدقون على القادم من بعيد، على اساس توجهها الى مشاريع الرحمة، ولكن لا يتم التعامل مع ذلك بالاساليب المالية الاصولية.
من ناحية أخرى، من دواعي الارتياح، أن يزداد أحبار كنيستنا ممن يولون دوائرهم المالية، مسؤولية بناء المشاريع الأساسية، ويتفرغون للتعليم والكتابة والخدمة الروحية، وينأون بأسقفيتهم ان تختلط بمجال الاعمال الدنيوية والعمرانية.
وتبقى ثمة مسؤولية للمؤمنين، أن يغيـّروا نمط التعامل في الزيارات الراعوية، بأن يوجهوا ظروفهم أساسًا وبأسلوب أصولي، لمشاريع الرحمة في الكنيسة، مطمئني البال على أحوال الرعاة، كهنة واحبار. ومن دواعي الافتخار ان الجهات المالية من طرف العلمانيين الاختصاصيين تنشط في البطريركية ورعياتها. مع ظهور سياقات مهنية معتمدة في الدعم المالي للأغراض المقرة التي يمدّ به هذا الدعم لمختلف الكنائس. وللعلمانيين المؤمنين وفي مقدمتهم الشمامسة الانجيليين، وهم الجسور بين الرعية والراعي، مسؤولية تاريخية في صيانة مسيرة ما تتطلع اليه الكنيسة من نهضة نبوية.

67

الاخوة الاعزاء الاساتذة، قيصر السناطي، ظافر شنّو، فارس ساكو، مايكل سيبي، كوركيس أوراها، بطرس آدم
مع التحية الى مداخلة الاستاذ مايكل سيبي الرقيقة وتنويهه المهم عن الشأن الكتابي، وما أورده من استشهاد موثق، وإلى الاستاذ بطرس آدم وتثنيته على الاراء التي المطروحة، مع تعزيز المطالبة بالاجراء المناسب، أود أن أتقدم الى حضراتكم بشكري العميق لمداخلاتكم الراقية، مع تميز خصوصية كل طرح، والتفاعل الاخوي في هذا الشأن. لكن أود أيضا أن الفت انتباه حضراتكم، على شأن طالما كان مثار تساؤل لديّ هو ما طرحته، ربما بنحو غير واضح بشأن الشق الأول من طرحي وجاء فيه:

((الشق) الاول: عندما تقوم مواقع شعبنا باطلاق العنان للعلمانية الليبرالية، بحيث إذا جاء مقال لكاتب يظهر عليه الخط العلماني، سياسيا أو فكريا، ويكون من خلفية غير مسيحية، ويتحدّث عن محيط خلفيته الدينية الاصلية، سواء انتقد ظاهرة في الغيبيات، او شكك في مجال فقهي، وفي الوقت عينه نرى كتابا آخرين من خلفيات مسيحية، ينبرون في التعقيب، وبالاجندة العلمانية الفكرية أو السياسية إياها، لينكلوا بديانة مولدهم وأهلهم ومحيطهم، منطلقين من معلومات غالبا ما تكون سطحية. وهنا يكون التساؤل في الشق الاول: لو كان الخط علمانيا وليبراليا وبخلفية مضادة للدين وحسب، فهذا خط يفهمه متصفح الانترنيت فيميز اختياره لهذا الموقع أو ذلك، من حيث طابعه الفكري والسياسي. ولكن أن يكون هذا الخط في الوقت عينه، مفتوحا لمنابر مسيحية، تلك عندئذ تكون المسألة، وما سنراه في الشق الثاني....))

وللتوضيح هنا أورد لحضراتكم مثلا، عن كاتب أقيم دماثة أخلاقه، ولا أملك سوى أن أحترم حريته في التعبير بنحو حضاري، وإذ لا أشير إلى اسمه، فهو ليس الوحيد في هذا الخط الذي اشير اليه بالبنان، فهذا الكاتب، كما آخرين أيضا هو ممن يحملون فكرا لا دينيا، مع رد فعل خاص عن ديانته الاصلية، وهو يمضي في التركيز على جانب لا ديني بل إلحادي، في المصادر التي يقدمها، ويستهدف فيها ضمن ما يستهدف ما رآه في جانب ديانته الاصلية، وقد جاءته مداخلات متوازنة، تكشف وجهة النظر المسيحية، منها ما عبر عنها الاخ كوركيس اوراها، وغيره ايضا، ولكن غالبا، ما تكون مواضيع الكاتب المذكور بدون تعليق، أو تأتيه تعليقات ممن يحملون اسماء مسيحية، وهي من قبيل ما يلي:

((الاستاذ ... المحترم
الدين عموما يجعل الانسان متوحشاً ينزع عن انسانيته الانسانية!
والتاريخ يؤكد انتزاع الدين لانسانية الانسان من خلال الحروب الدينية التي يحاول البعض نسبها الى السياسة.... كذلك الحروب الصليبية كانت نتيجة للفزع الاوروبي من الاسلام والسيطرة على الشرق من خلال المسيحية وبثها في الشرق. واسترجاع اسبانيا من المسلمين لم يتم الا بشحن الانسان الاسباني بالفكر الكاثوليكي، وبالتالي تجريده من انسانيته وخلق حالة من التوحش التي تشابه حالى التوحش عند المتطرفين المسلمين في وقتنا الحاضر (القاعدة، داعش، بوكو حرام ... الخ من هذه الحركات). فاسترجاع اسبانبا تم باجراءات وحشية يندى لهى جبين الانسانية، كما يندى الان من ممارسات الحركات الاسلامية المتطرفة.
وهكذا حتى الوطن والوطنية تنتزع من جراء الانجرار غير العقلاني وراء الدين، وهذا ما نشاهده على الاقل في موجة الهجرات الجماعية الخطرة باتجاه اوربا...))


واذ لا أملك ايضا إلا أن احترم حرية الشخص ذي الاسم المسيحي، لكن اتساءل، في أي منبر نحن، وفي أي موقع، هل هو موقع يروج للالحاد واللادينية، من خلال اشخاص بخلفيات إسلامية ومسيحية؟ فإذا كان الموضوع كذلك، ما شأن الموقع بطروحاتنا الدينية الكنسية الخاصة. والحال إننا نفهم صفة الاعلام العلماني لموقع يهتم بشؤون شعبنا، هو في الأقل أن يستقل عن الحالة الاكليروسانية وأن يكون محايدا باتجاه الدين. ونفهم أن الانترنيت هو حقل لكل الافكار الايمانية وغير الايمانية ولا رقابة عليها، ولكن مثار الاستغراب هو أن تفسح مواقعنا المهتمة بشؤون شعبنا المسيحي، أن تفسح لكاتب ومعلق منبرا لترويج الالحاد واللادينية، والتهجم على الديانات بما فيها ديانة شعبنا، وأن يختم المقال، أما صمت الموقع وإدارته، بهذا الاستخلاص من الكاتب الاصلي إياه، إذ يعقب بالقول:

((الصديق العزيز
كما أوضحت حضرتك / الدين كان دائماً عامل قلق وبعث المشاكل بين البشر !
هذا منطقي جداً . لأنّهُ ببساطة كلّ صاحب عقيدة يعتقد أنّ الحقَّ معه من دون غيره !
وكذباً ونفاقاً فقط نسمع من رجال الدين عن تقارب الأديان ومشتركاتها العديدة !
في الواقع كلّ دين (بداخله ومع أتباعهِ) يُنكر الآخرين ويعتبرهم محض كذبة أو مجانين تستدعي الحاجة مجاراتهم قليلاً لإتقاء شرورهم !
لذلك نحن نقول دوماً / أنّ السلفيين الإسلاميين ومنهم القاعدة وداعش وباقي الزبالة ,هم خير مُمثّل للدين الإسلامي . كونهم ينهلون من نبعه مباشرةً دون تزويق وخجل !!!
إنّما شئنا أم أبينا فجميع الأديان هي مرحلة من مراحل البشر / إستمرت وسوف تستمر ربّما بضعة آلاف من السنين / لكن ليس الى الأبد ! فطبيعة تطوّر الحياة يبقى الأقوى !))

وإذ لا عتب عندي على الكاتب والمعلق، اثير فقط التساؤل الذي خلصت إليه في المقال هو لماذا لا يفصح الموقع عن هويته كموقع لأبناء شعبنا الذي غالبيته مسيحية، مع التحديد هل الموقع علماني، مجرد حيادي بين الأديان، أو أنه هو منبر للترويج ضد الاديان، عموما بما فيها المسيحية ديانة غالبية شعبنا. واذا كان الامر كذلك،
فهل نكتفي بالاقرار أننا أمام موقع يروج منبره للالحاد واللادينية، ولكنه يفتح المجال للشان المسيحي وأخبار شعبنا، بما في ذلك التنكيل المتبادل في الشأن المسيحي.
يا للحسرة!


68
حضرة السيد ظافر شنو المحترم،
شكرا لمرورك الطيب، وشكرا لسؤالك الذي أراه سؤال  عميق ويقتضي  التداول والنقاش، المستفيض، مما لا أستطيع عمليا الاضطلاع به، ويا حبذا أن يفتح موقع عنكاوا بابا أو منتدى عن الكتاب المقدس، يكون منبرا للحوار والمقاسمة في هذٰ الحقل الكتابي المهم.
مع تحياتي واحترامي
أ. نويل فرمان

69
أخي الاستاذ قيصر السناطي المحترم،
شكرا لمداخلتك التشخيصية الصائبة، وإذ أؤيد افكارك ومقترحاتك،  أضيف أيضا أن ما يعززها، هو انه قد يتيح   ذلك  ازدياد قاعدة المعلقين والمتداولين في المنتديات، فيرتفع مستواها النوعي.
مع محبتي واعتزازي
أ. نويل فرمان

70
أخي الاستاذ ميخائيل سيبي
شكرا لمرورك، وما رفدت به المقال في نفس موضوعه، وأعتقد أن هناك حاجة توعوية متزايدة، لكيما تنزل المزيد، مما يقتضي من المعنيين أن يتعمقوا في اعطاء أجيالهم ومحيطهم اجابة معاصرة لزمننا الحاضر. مع تقديري لك ومحبتي.

اخي الاستاذ قيصر السناطي
شكرا لمداخلتك المستفيضة، والتي تأتي ضمن خط من مقالاتك الهادفة في هذا المجال ، وأتمنى أن ترفدنا بالمزيد، وبطرح يبقى كما هو شأنك، يتمسك دائما بالواقعية، والرغبة في إيجاد سبيل للتعايش.
مع تقديري لك ومحبتي

أخي الاستاذ عبد الاحد سليمان بولص المحترم
تسرني أن تكون مداخلتك بهذا الوقت السخي الذي خصصته لها مشكورا، ولكن امنيتي ان يتحول الى مقال مستقل، وأتساءل بهذا الصدد ان كان يمكننا أن نرى مثل هذا الطروحات، منشورة في المواقع العامة الثقافية للمنطقة، مثل المفكر، أو إيلاف، مما يصب في هذا الغرض.
مع تقديري لك ومحبتي

اخي الاستاذ مسعود،
أشكرك على سخائك الطيب في التعبير عن رأيك، وكما أسلفت، الامنية، ان تزين هذا الموضوع ضمن سلسلة من المقالات المتنوعة والتي تصب في مضمونها العام في هذا الشأن، وبطرح يدعو بمحبة الجانب الاخر لأن يعبر عن موقفه، واذا كان طرحا ايجابيا في شرح النص ضمن اطاري التاريخي والسياسي في عصر ظهوره، عندئذ سنكون أمام مجموعة متنورة متزايدة.

أخي الاستاذ نيسان سمو الهوزي المحترم
بما ان السيد مسعود النوفلي لم يرد، فأرى بأن من تقصد باسم السيد نوفل هو خادكم المتكلم.
سؤالك عن (لعمري) لا أدري ان كان من باب المفاكهة والنكتة، او للاستعلام، ولكن أفهم ان الطرح كان يمكن ان يكون بكلمات أبسط بالقول (عجبي) بدلا من (لعمري) أما عن الطول، فربما لأني أوردت عدة أمثلة وأحداث كان ممكن ان يكون كل منها في باب مستقل، ولكن للاختصار وضعتها في مقال واحد، ومع هذا فالكتاب الالكترونية، لأننا لا نصرف فيها ورق، وهذا، لعمري... يدفع الى الاستزادة وسأسعى الى الاختصار مع شكري للملاحظة.

وأخيرا يسرني أن حضرتك، والاعزاء المعلقين، نتفق عموما في المطالبة بأن لا يكون الكيل بمكيالين، فإذا ارادت ان تكون المجتمعات التي يعيش فيها شعبنا مجتمعات تسير في الركب الحضاري، فعجبي كيف انها لا تسعى لتحاشي الكيل بمكيالين.
مع تقديري لك ومحبتي

المخلص: أ. نويل فرمان


71
مواقعنا بين العلمانية الليبرالية والمنبر المسيحي المفتوح

أ. نويل فرمان السناطي

أود البدء، بالاشادة بما رأيته انعطافة مضافة، من لدن موقع عنكاوا، نحو نوع التعامل مع المقالات والتعليقات. هذا الموقع الذي أطلق منذ البدء بثقة عالية، المجال لنشر التعليقات مباشرة بدون مرورها بممر للتشخيص والاقرار. وبنحو عام اثبت الكتاب والمتعاملون مع الموقع قيما عاليا في التداولات في المنتدى، لكن هذا المقال يتوخى التعميم واليس التخصيص في الحديث عن هذا الموقع أو ذاك.
وعودة الى عنوان المقال، بشأن المقارنة في المواقع عندما تكون متأرجحة بين العلمانية الليبرالية وبين المسيحية بأبواب متباينة مشرعة على مصاريعها، فيتبادر لدى المراقب تساؤل هو موضوع ذو شقين:

الاول: عندما تقوم مواقع شعبنا باطلاق العنان للعلمانية الليبرالية، بحيث إذا جاء مقال لكاتب يظهر عليه الخط العلماني، سياسيا أو فكريا، ويكون من خلفية غير مسيحية، ويتحدّث عن محيط خلفيته الدينية الاصلية، سواء انتقد ظاهرة في الغيبيات، او شكك في مجال فقهي، وفي الوقت عينه نرى كتابا آخرين من خلفيات مسيحية، ينبرون في التعقيب، وبالاجندة العلمانية الفكرية أو السياسية إياها، لينكلوا بديانة مولدهم وأهلهم ومحيطهم، منطلقين من معلومات غالبا ما تكون سطحية. وهنا يكون التساؤل في الشق الاول: لو كان الخط علمانيا وليبراليا وبخلفية مضادة للدين وحسب، فهذا خط يفهمه متصفح الانترنيت فيميز اختياره لهذا الموقع أو ذلك، من حيث طابعه الفكري والسياسي. ولكن أن يكون هذا الخط في الوقت عينه، مفتوحا لمنابر مسيحية، تلك عندئذ تكون المسألة، وما سنراه في الشق الثاني.

الشق الثاني وهذا هو مثار الريبة، إن كان الموقع كما أسلفنا من الطابع العلماني الليبرالي، مع أن هذا يختلف عن اللاديني والالحادي، برغم تباين الطروحات بين ليبرالية وإلحادية، كيف نكون في الوقت عينه، أمام طروحات مناوئة في طبيعتها إن صح التعبير، للخط اللاديني والالحادي: طروحات روحية، تنظيرات لاهوتية، أخبار كنسية، إصداء  لآراء مسيحية؛ حتى انك عزيزي القارئ، وإذا ما وجدت هذا الخبر أو ذاك من الخط الكنسي، في المنتدى، عندئذ تجد أمامك تعليقات متنوعة بمكان حتى ليصعب عليك أن تميز بين كتابها، عندما يكونوا كتابا يحملون اسماء الانجيليين والرسل من قبيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا أو يوخنا، وسواهم، فقلما يمكنك أن تميز بينهم أن كانوا مسيحيين أو إن كانوا من خلفيات سياسية او ايديولوجية اخرى.

أمام هذا التساؤل ماذا يمكنك أن تستنتج: إذا كنت ترى الموقع، يطلق العنان لكتاب لا دينيين وضد الدين أي دين، مع تعليقات مؤيدة ذات اليمين وذات الشمال. وفي الوقت عينه تجد كتابا آخرين ينكلون برجل دين من مختلف المواقع، ويتابعونه لأي صغيرة وكبيرة، يسقط في يديك، وأنت تتساءل: هل هذا شماس، أم من احد الاحزاب السياسية اللادينية. وهنا تكون الريبة، إذا بقي الموقع يصمت، تحت ذريعة حرية التعبير الانفلاتي أحيانا، أمام الذي يكتبون ضد الدين، من جهة ويصمت أمام المعلقين الذين يستهدفون هذا أو ذاك من رجال الدين، وكأنهم متربصون متخندقون بانتظار ما يكتب أو يقول، كمن يكتب من الفريق الاخر، من غير فريقهم.
وكتحصيل حاصل، يفتقد الموقع بالتالي نخبة من الكتاب، وأذكر منهم كتابا مرموقين منهم من لملم أوراقه، وحذف مقالاته وانصرف. كما ان المنتدى عندئذ لن يكون منتدى جماهيريا عاما، بل يقتصر الى ان يكون مقهى الكترونيا لمعلقين معدودين على اصابع اليدين، وعندما يغدو الدخول الى المنتديات، محفوفا بمنغصات النقرات الحاسوبية الفورية والفوارة أو أحيانا النزقة.

ومع ما رأيته من انعطافة مسؤولة بهذا الصدد في موقع عنكاوا، آمل أن يكون شأنه وشأن مواقع أخرى بالاجابة عن هذا السؤال: ما هي هويتي كموقع الكتروني لأبناء شعبنا، وعندئذ يكون شأن هذه المواقع بين أن تفصح بأن يكون اسمها منبرا لمسيحيي المنطقة، وبواجهة معلنة مع الإيمان وليس ضدّه مما يساعد على تميّز الخط الاسود من الأبيض. فالرمادية تفقد المواقع الكثير من عمقها ومن نوع معتبر لمرتاديها.

72
أين مجتمعات بلادنا والمنطقة من حرية المعتقد والتفكير
 
بقلم أ. نويل فرمان السناطي
_______________
 
تجاه هذا العنوان، ثمة تساؤل مفاده: ما هو يا ترى السر في صمت المسؤولين والمراجع الاسلامية، إزاء ما اقترف ويقترف ضد غير المسلمين، وضدّ المسلمين الليبراليين، من جرائم، باسم تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام - داعش؟ أما يكون خلفه أصلا، موقف باطني في النظرة الى ديانة الآخر، وفكره ومعتقده، بحيث يكون هذا الاتجاه في طرف، فيما تكون العلاقات الطيبة والدبلوماسية، وحتى العيش المشترك عموما في طرف آخر مختلف تماما.

المفارقة الصادمة مع وزير
_______________

وأستحضر هنا أيضا، مفارقة صادمة مع وزير من زمن الحكم الانتقالي، ذكرتها في مقالي السابق المنشور في الموقع البطريركي بعنوان (لئلا يكون الموقف من داعش مجرد صوت في البرية). ولم أورد اسم الوزير، بسبب كل ما بقي عندي من شكوك أنه قلما حدث في جانب الانفتاح الضميري، على غير المسلمين، تغير كبير، لدى العديد من رموز الحكومات المتعاقبة، وتحديدا نظرة الجانب الرسمي المسلم إلى الجانب الاخر غير المسلم، والمسيحي تحديدا.
كان ذلك في لقاء اجريته مع الوزير، كنائب رئيس تحرير مجلة المسيحي. حينها وجدته رجلا مشرقا بالهدوء والطيب وحسن الاستقبال والتواضع. لكن ما صدمني فيه،  وما سأقوله عنه، قلما وجدته يختلف عن كثيرين غيره في الحكومات والوزارات المتعاقبة:
أجل كان حديث الوزير دقيقا حماسيا ومباشرا ويتطلع الى مشاريع ميدانية في مجال العراق الجديد وحقوق الانسان، وما إلى ذلك... ولكن ما أن عرجت بالحديث عن الحرية الدينية، حتى ضرب كل ذلك عرض الحائط بجملة واحدة، بقيت تطنّ في الاذنين، ولست أدرى إن تغيرت في فكر العديدين من المسؤولين في حكومة اليوم، وفي حكومات الدول العربية، إذ قال:
أنتم (يقصد المسيحيين) ما ان تتحدثون عن الحرية الدينية، في الواقع، لا تقصدون بها غير أن يسمح للمسلم بأن يصبح مسيحيا. وبصريح العبارة، لم أجد لدى الوزير إياه، إي انفتاح على حق الانسان بان يكون له حرية المعتقد والفكر، ويختار اتجاها غير الذي ولد عليه، وهذا يأتي باتجاهين:
 
أولا- لا شك أن لكل ديانة دفاعاتها، بشأن الحفاظ على معتنقيها، ولكن أن يصل ذلك، إلى حدّ ترهيبهم من تركها، او جعلهم يغادرون البلدان العربية والاسلامية، هذا ما يقف بالضد من حرية المعتقد والتفكير التي أقرتها شرعة حقوق الانسان.

 ثانيا- التعامل بمقياس مزدوج، مع الموضوع من الطرف الاخر، أي عند خروج المسيحي الى الاسلام، في البلدان الاسلامية، حيث يتمتع بكل الحرية في ذلك. وهنا نستذكر صرخة البطريرك مار لويس ساكو، بشأن مظلومية التأثير على معتنق المعتقد المسيحي، من القاصرين، اذا اسلم أحد أبويه، وغالبا ما يكون الموضوع، على وفق الكيل بمكيالين، بسبب زواج من مسلم، فيتبع القاصر ديانة الزواج الثاني لأحد أبويه. ونتذكر كيف انبرى أحد النواب للتفنيد ضد البطريرك، وبما تطابق مع موقف الوزير المذكور قبل عقد ونصف: موقف مضاد للمعتقد المسيحي ومساند لمن يترك المعتقد المسيحي لصالح غيره، أليست هذه حرية أحادية وحسب.

السيد الكشميري والموقف من الانفتاح الفقهي
_________________________

حالات الصمت هذه عند المراجع الدينية الاسلامية، ليست عمومية بنحو مطلق، بل ثمة استثناءات في حالات عديدة من الانفتاح الفقهي، من لدن رجال دين مسلمين. وقد توفر لي طرح السؤال في هذا الشأن، مع تقديم ذلك كحالة ديمقراطية واعدة، على السيد مرتضى الكشميري، وكيل السيد السيستاني وصهره، لدى زيارته الى كالكري (آذار 2011)، فكان جوابه: مثل هذا الخط لا يمت الى الاسلام بصلة، ومن يتحدثون فيه، هم رجال دين بملبسهم فحسب.
فإذا كانت الاراء، على حدّ سواء، بشأن الارهاب باسم الدين، وبشأن الانتفاح الديني، على ما يشكلان من طرفي نقيض، فتأتي بذات المفردات: (لا يمت الى الاسلام بصلة) لا بدّ، إذن من البحث الصادق، لايجاد وسطية تقترب من حرية التعبير والمعتقد والفكر، وتنسجم مع كنه الدين، لدى المسلمين المعتدلين، المتعايشين مع أناس من غير معتقدهم وفكرهم، دون أن يكون ثمة تهديد وقمع.
 
مفارقة في كتاب مرجعي عن ا لحوار
_____________________

المرجع الاسلامي اللبناني الراحل، السيد محمد حسين فضل الله (1935-2010) يؤكد في كتابه (في آفاق الحوار الاسلامي المسيحي) عقوبة الموت للمرتد عن الدين الاسلامي. فهل يمكننا أن نجد قبله، أو في غضون السنوات التي عقبت رحيله، فتاوي من مراجع عليا بغير ذلك، أو بما يخففه؟
الجواب نجده ربما في وصايا الشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين (1936-2001) وغيره، على أن هذا يحتاج الى مقال مستقل، فيما بعد.
أما عن عقوبة المرتدّ، فقد جاء في ص 110 من كتاب السيد فضل الله:
(ونحن نعلم أن الإسلام يفرض على المرتدين عنه عقوبة قاسية، كما أن المسيحيين يفرضون عقوبة أخرى، وربما كانت العقوبة الإسلامية أقسى في الحكم بقتل المرتد، بينما يكتفي المسيحيون بالحرم...
ولكي يخفف المرجع الديني اللبناني، من وقع عقوبة المرتد ومن البون الشاسع بين مقارنة القتل بالحرم أضاف في معرض المقارنة إياها: ... بينما يكتفي المسيحيون بالحرم الذي قد يؤدي، من الناحية الواقعية، إلى إباحة دمه من خلال العقدة القاسية ضدّه.
وهذا لعمري، تخفيف يثير الكثير من الاستغرابات والتساؤلات، إذا وجدنا أن مثل هذه الحالات، لدى غير المسلمين، هي عموما غير اعتيادية، وإن حدثت، يعاقب عليها القانون، في دول اسلامية وعربية عديدة، هي ذاتها التي تسمح بالعقوبة إياها تجاه المرتدّ.
في الواقع، أقر أني بعد هذه الفقرة من الصفحة 110 لم أجد الوقت الكافي لأستأنف قراة الكتاب حتى صفحته الأخيرة 479. وقد يذعن معي القارئ الكريم، أن قراءة 110 من التنظيرات، قد تكفي لفهم كنه مثل هذا الحوار الاسلامي المسيحي.
 
إجابة الدكتور محمد سليم العوّا
_________________

الدكتور محمد سليم العوّا، مفكر مصري اسلامي، Mohammad Salim Al-Awa يُصنّف بنحو واسع، ضمن الجناح الاسلامي الديمقراطي المعتدل. في مطلع عام 2000 كنت طرحت السؤال عليه، عما جاء في كتاب السيد فضل الله، في مؤتمر  عن حوار الأديان بالعاصمة اللبنانية بيروت، وذلك في هامش محاضرته البليغة المحبوكة والمرتجلة على مدى ساعة، بدون أن تقع عيناه على ورقة يقرؤها، فأجابني على عجل، هذه العقوبة هي في واقع الحال غير قائمة... جواب يثير في أيامنا المزيد من التساؤلات.
وكنت فرّغت المحاضرة المسجلة، للاستاذ العوّا وعالجتها على شكل ملف للفكر المسيحي بعنوان: (تعدد الديانات حكمة سماوية) وفي حينها ارسلت له النص لإقراره أنه من بنات افكاره، فأيـّد الرجل ذلك، شاكرا ومؤكدا، أننا في هذا السبيل مدعوّون ان نصرف جهدنا ووقتنا.
على أنه في تصريحات له، قبل وبعد سقوط النظام المصري السابق، باتجاه الاراء الاعلامية المختلفة عن الاسلام، وجدت الدكتور العوّا، للاسف بعيدا جدا عن قبول اختلاف آراء الاخر. ولعل ذلك كان منسجما مع اطار حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية، من باب الحنكة السياسية.
 
تحليل إيجابي من المفكر التشادي عمر لامانا
_________________________

على أني وجدت ضالتي في هذا الشأن، مع عمر لامانا (Oumar Lamana) مسلم من دولة تشاد ومستشار في الفرانكوفونية بألبرتا، وهم من قارة محدثة الاسلام نسبية، في محاضرة له في كالكري (ت2 2010) إذ قال: نعم يوجد في الاسلام عقوبة قتل المرتد، لكني أنظر اليها في إطارها التاريخي والسياسي وكالآتي:
الإسلام -عند ظهور مثل هذه العقوبة ضدّ المرتدّ- كان في حالة حرب، فمن كان يخرج من الاسلام، كان يُعدّ خارجا عن صفوف جماعته الى صفوف الاعداء. أما الآن فنحن لسنا في حالة حرب، وغير المسلمين ليسوا من الأعداء.
مثل هذا الفكر المنفتح الذي أظهره عمر لامانا صديقي المسلم المفكر التشادي الفرانكوفوني، نتعشم أن نجده لدى مسؤولين ومسؤولات في حكوماتنا. فالتنظير الحواراتي الأحادي لطرف على حساب الطرف الأخر، قد يكون هو ذاته الذي أصبح ثمرة ثقافة عامة مشتركة، لم تتغير قيد انملة، وأدت بالكثيرين في الموصل أن يقفوا مع (الدولة الاسلامية في العراق والشام- داعش) ضد المسيحيين واليزيديين.
وتبقى الحاجة قائمة، لدى اصدقائنا المسلمين، ولا نشكّ في صدق مودتهم، هو أن يكون لهم تجاه الارهابيين الذين يعدّونهم لا يمتون الى الاسلام بصلة، موقف جادّ ينمّ عن الفكر المتنور والواضح وغير متجاهل إزاء من يعلنون ان الجنّة تضمن بقتل الابرياء.

وبعدُ، لعلنا اليوم أكثر من أي يوم مضى، بحاجة الى الالتفاف إيجابيا مع أصدقائنا من الفكر المتنور، وتوحيد الخطاب في سبيل نشر الوعي الانفتاحي والمطالبة به. هذا من شأنه أن يوحّد الكثير من الفرقاء بعيدا عن معارك جانبية لا تخدم المرحلة، والتعامل ايجابيا وباحترام مع نقاط الخلاف، باتجاه هدف بناء واحد. مثل هؤلاء الكتـّاب، على تباينهم في القومية والثقافة والمعتقد والاثنية، أراهم يستحقون مني وممن يتفق مع رأيي انحناءة الاحترام والودّ لهم ولمواقعهم الالكترونية الرائدة.
أخيرا اختتم مقالي بهذا التساؤل، بانتظار سقوط داعش وحلول مرحلة ما بعد داعش:
كيف يا ترى السبيل للوصول حقا إلى موقف رصين من قبل كل الجهات، بشأن حرية المعتقد والتفكير؟ فالاجابة المطمئنة عن هذا السؤال، سوف تجعل الجميع يقفون بتلقائية، ضد أي تهديد وقمع وإرهاب بسبب المعتقد أو الفكر.
 


73
علامة مسكونية جريئة
بفضل المؤمنين، رعيات اوكرانية كاثوليكية تحتفل بالقيامة مع شقيقتها الارثوذكسية

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
_____________


مع احتفالات العالم المسيحي الكاثوليكي بأحد السعانين، لهذا العام، دخلت رعية سان جورج الاوكرانية الكاثوليكية، في إدمنتون بمقاطعة البرتا الكندية، السابوع الاول من الصوم لتحتفل بعيد القيامة في 1 مايس القادم. ولأن الخبر وجدته  طازجا وبتأوين صارخ، اتصلت بالكنيسة الاوكرانية، فتلقاني الاب انطون ترانسكو، من الابرشية الاوكرانية الكاثوليكية، راعي كنيسة سان جورج، وكان حوارًا ممتعًا، أن أخا في الكهنوت، وهو كاهن متزوج، يمتلك معلومات طيبة وثرية في الشأن الكنسي المسكوني، مما دعاني الى المزيد من البحث عن الاشارات والعناوين التي وردت في حوارنا. وفي الحوار تفاجأت ان سياق التطابق بين الرعية الاوكرانية الكاثوليكية المذكورة وشقيقنخت الكنيسة الاوكرانية الأورثوذكسية، هو موضوع يعود الى اكثر من ستين عاما بعد الحرب العالمية الثانية.

أعياد الفصح بين التقويم البابوي الغريغوري والتقويم الملكي اليولياني
___________________________________________
يعود الاحتفال بعيد الفصح بموجب التقويم الملكي اليولياني، الى القرون الاولى من المسيحية، كتقليد عريق. وقد رأى آباء الكنيسة، أن يفصلوا توقيت الفصح المسيحي عن الفصح اليهودي، لارتقاء مفاهيمه الى صلب وقيامة يسوع المسيح، والخلاص المتحقق، والذي كان عبور الفصح في العهد القديم رمزا له، وللحرية التي جلبها الخلاص بالفادي للمؤمنين به.
وبقي المسيحيون يتعلقون بهذا التقليد، بحيث ان الكثير من مسيحيي بلاد البلقان، على ما ذكر لي الاب أنطون، عندما اصبحت كنائسهم كاثوليكية بعد أن كانت أرثوذكسية، وبعد ان رأوا ان العمل بالعيد في الكنيسة الكاثوليكية كان بحسب التقويم الباباوي الغريغوري، وأنه كان يفرض عليهم فرضا، عندئذ رجعوا الى الكنيسة الارثوذكسية المنفصلة عن كرسي روما.

سابقة تاريخية انتزعها الاوكرانيون لدى وحدتهم مع الكرسي الرسولي: حرية الاختيار
_______________________________________
أما المسيحيون الاوكرانيون، فعندما أعادوا الشركة مع روما، كان من الأولويات ان يكون لهم خيار الالتزام بالتطابق مع كنائسهم الارثوذكسية الشقيقة، من حيث الطقوس وأيضا من حيث حرية اتباع التقويم اليولياني، من قبل هذه الرعية الاوكرانية أو تلك، بعد أن تستحصل موافقة رئاستها العليا. فترعرع عند ابناء هذه الكنيسة الكاثوليكية المفهوم ان الارتباط بروما عقائديا ومذهبيا لا علاقة له، بما يعدّ من المحرمات في الكنائس المشرقية الكاثوليكية، وهو أن تختار الرئاسة الكنسية، موعد العيد، بحسب هذا التقويم أو ذاك.
ويذكر، فيما يخص الكنيسة الاوكرانية، أن مؤمنيها خصوصا العائشين في اوكرانيا، الى جانب جالياتهم المستقرة في الشمال الامريكي، تشربوا عبر الاجيال من تقليد الارتباط القمري في توقيت العيد، ويؤكدون على ميلهم أن تكون الصلوات الطقسية لكنيستهم باللغة الاوكرانية الام، حتى وان كانوا في بلدان الانتشار، متحاشين ان تكون صلواتهم باللغة المحلية. خصوصا وأن تسميتهم القومية واحدة ولغتهم الأم واحدة. خلافا لكنائس المشرق الشقيقة، التي لا تجمعها تسمية قومية شاملة مقرة، بل حتى في مجال اللغة، لم تعد المفردة التي تجمع لغتهم الأم المشتركة، إذا صحّ التعبير، إلا الخط الاسطرنجيلي عندما تكتب به بعض طقوسهم ورسائل آبائهم.  وانتبه رعاة الكنائس الاوكرانية، أن المؤمنين الذين كانوا يلمسون لدى رعاتهم، استبدال اللغة الطقسية الاوكرانية باللغة المحلية، كانوا يفضلون مزاولة فروضهم الكنسية لدى الكنائس الاوكرانية الارثوذكسية.

جذور توقيت عيد الفصح
___________
وتبين الدراسات المتصلة، ان توقيت عيد الفصح ضمن التقويم اليولياني، يرتبط بواحدة من مرتين سنويا، يحل فيهما ما يسمى يوم (الاكوينوكس Equinox)، عندما يتساوى طول الليل والنهار في مارس آذار، الى جانب المرة الاخرى لهذه الظاهرة التي تحدث في ايلول سبتمبر. وانطلاقا من هذه الظاهرة في مارس، وعند اكتمال القمر، من تدرجه هلالا حتى يصبح بدرا، يحتسب الدخول في الصوم الفصحي ومن ثم عيد القيامة، وهذا يختلف مع التقويم البابوي الغريغوري  بسبب فارق الـ 13 يوما ويستع الفارق على مدار السنوات. ويحدث أيضا، أن يتطابق العيدان، ليس باجتهاد الرؤساء ورغبتهم المسكونية، بل، بعيدا عن ذلك، بمجرد مفارقة الدورة الزمنية، وهذا الحال سيحدث كما تقول الدراسات في عيد القيامة في العام القادم، شاء من شاء وأبى من أبى.

من معوّقات الوحدة
________
ومن المعروف أن معوّقات الوحدة المسكونية مع الكنيسة الجامعة، لا تقتصر على توقيت العيد، بل أيضا يتعلق الامر بتراكم عقائد إيمانية اعلنتها الكنيسة الكاثوليكية على مرّ الاجيال، بعد انفصال الكنائس الارثوذكسية عنها، مع أنها تدخل ضمن العرف التقليدي الايماني لدى الكنائس الأرثوذكسية. منها ما يخص أولوية الحبر الروماني. وبرغم الاعتبارالتاريخي من لدن الكثيرين لمكانته كخليفة بطرس هامة الرسل المستشهد تاريخيا في روما، إلا ان ثمة سلطات تراكمت مع الزمن مرتبطة بشخصه، مما يوحي أنه لم يكن ذلك واقع الحال، في أولوية بطرس وطبيعة التعاملات بين بطرس وبين سائر الرسل كأحبار على الكنائس الأخرى. وفي هذا السياق تتحدث الوثائق التاريخية، أن المطران الكرواتي جوسيب جوراج شتروسماير1815-1905 Josip Juraj Strossmayer كان معارضا بشأن صلاحيات البابا، وكان آخر الموقعين على وثيقة عصمة البابا، ووافق على التوقيع عندما وجدها أخيرا جاءت بصياغة إيمانية متوازنة. وكان هاجسه في ان هذا سيكون عقبة اضافية أمام عودة الارثوذكس الى الكنيسة الكاثوليكية. لكن مواقفه الجريئة في المجمع الفاتيكاني الأول (1869-1870) كلفته الخضوع لمجلس تحقيقي شديد في روما، خرج منه معافى، ومع ذلك، حرمته تلك المواقف من القبعة الكردينالية. في حين الرؤساء الكنسيين الشرقيين الذين عندما يعارضون مسيرة وحدوية او مسألة توحيد العيد، لهذا السبب أو ذلك، ليس لديهم ما يخسرونه، سوى خسارتهم لتعاطف المؤمنين الذين يعانون من هذه الانقسامات الشكلية والدراماتية للشعب المسيحي الذي امسى اكثر فأكثر اقلية تجاه غالبية غير مسيحية مضطهدة. وبهذا الصدد كان قد أخبرني أسقف من احدى الكنائس المشرقية، ان الشعب لو لمس لمس اليد اسباب مسؤوليتنا عن الانقسامات… (وأضاف ما معناه): لأنزل بنا الشعب اقسى العقوبات!
وعودة الى عصمة البابا وخلاف الكنائس على طبيعة أولويته، تنال مواقف الحبر الروماني الحالي، البابا فرنسيس، المزيد من الاعجاب والتأييد، خصوصا سعيه الحثيث إلى الوحدة المسكونية مع الكنائس الأخرى، بما في ذلك تخفيف العقبات في هذا السبيل. وبالأخص ما دعا اليه البابا فرنسيس عندما  شدد على اللاهوتيين أن يخرجوا بصياغة جديدة لمفهوم معاصرعن البابوية.

خطوة قبل 60 عاما... والحاجة الى خطوات من نوع ينسجم مع العصر
_______________________________________
خطوة الكنيسة الاوكرانية الكاثوليكية بالانسجام مع شقيقتها الارثوذكسية من حيث الطقس والتقويم، قد توحي بخصوصيات مماثلة لدى الكنائس الشقيقة الاخرى، في مجال توقيت الاعياد وخدمة الاسرار والمشتركات الطقسية، سواء الكاثوليكية والارثوذكسية، او الكاثوليكية فيما بينها. مثل السريان الكاثوليك والموارنة، وما بينهما وما بين كنيسة انطاكيا الارثوذكسية، وكذلك الجانبين الكاثوليكي وغير الكاثوليكي من الكنائس الملكية، وكنيسة المشرق، وغيرها.
وقد تأتي في الاولوية مسألة التقويم والاحتفال بعيد القيامة، وذلك للتحرر من وهم ان الاحتفال المشترك في عيد الفصح هو أمر لا تقرّه الكنيسة الكاثوليكية، اذا جمع مسيحيين من الاصول المشتركة، في مناطق اضطهاد ديني وشهادة مسيحية. وإذا ما اجتمع الشعب من كلا الكنيستين على مثل هذه الامور العملية، فإنه يترك لشغف الرؤساء الدينيين النقاش حول الخلافات البيزنطية العقائدية، إلى ما يشاؤون.

74
مع انضمام ابرشية سريانية الى الابرشيات المشرقية
ملف جزئي عن خارطة الابرشيات الكاثوليكية بكندا

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
___________________

تهنئة تمهيدية،
بتقديم التهنئة الاخوية المخلصة الى الحبر الجديد، المطران أنطوان ناصيف راعيا لأبرشية السريان الكاثوليك في كندا، أستهل هذا المقال، الذي فيه وددت تسليط ما يتوفر من ضوء، بنحو شخصي وإعلامي، على خارطة التعايش بكندا لمسيحيينا الكاثوليك الناطقين عموما بلغة جيراننا العرب في الشرق الاوسط، مع تنوع اصول مسيحيينا وثراء جذورهم الطقسية. وفي حرية التعبير في هذا المقال،  آمل أن يشفع لي الى الحبر الجديد، ان ليس ثمة معرفة شخصية بسيادته، مما يعزز التأكيد ان ليس ثمة أي قصد مباشر وشخصي لأي من رموزنا الدينية الابرشية، وأن الموضوع هو تشخيص واقع معين بغية معالجته الانجيلية الجذرية، ونحن في ظل حبرية البابا فرنسيس الذي يوصي بالأنجلة الجديدة.

تجاور دبلوماسي وحذر بين الكنائس الرسولية الكاثوليكية ناهيك عن الأرثوذكسية
__________________________________________________
تمت الاشارة في الفقرة أعلاه إلى كنائسنا بأبنائها من روميين ونهرينيين وأقباط، ممن وصفهم الكاتب الاب ثيودورس داود، بأحفاد إبلا والرافدين والفينيقيين والفراعنة، وأنهم أهل المشرق وسكانه الأصليين. فإذا تم التنويه بالكاثوليك منهم، فهم ايضا وغالبا ما يتجاورون على مقاعد كنائسهم الشقيقة، ويتصاهرون مع اشقائهم من الكنائس المشرقية، الكاثوليكية، الارثوذكسية، ومع غيرها ايضا. لكنه تجاور مشوب أحيانا بالحذر مغلف بالدبلوماسية حتى بين الكنائس الكاثوليكية المشرقية. وثمة أيضا شعور بأن الكنائس البطريركية المشرقية الكاثوليكية تقيم، بمستويات متفاوتة، ما بينها وبين الكرسي الرسولي حالة من الضبابية والمظاهر التوفيقية عن علاقاتها المشرقية الكاثوليكية المتبادلة. وبأنه من الطبيعي أن يكون لها خوارنة يخدمون في المدينة الواحدة بنحو مستقل، لجماعات كاثوليكية ناطقة بالعربية ومتصاهرة احيانا، متجاورة في الحي الواحد، وباتت توزع طقسيا، هنا وهناك، وكأننا في ذات الحيّز الجغرافي الواسع بين العراق والشام وسوريا وسواها من بلدان الشرق الاوسط. بينما نحن في زمن اللقاء التاريخي بين البابا فرنسيس ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
وخلافا للمجتمع الكاثوليكي عالميا،  لعلّ هناك فجوة إعلامية بين الاصوات العلمانية والاعلامية المسيحية. فتقدم الصورة الى الكرسي الرسولي بنحو اكليروساني أحادي. وإذا كان للقاصد الرسولي في المشرق تفاعله الطيب مع المحليين، فإن سفير الفاتيكان في الشمال الامريكي، من المؤمل ان يكون له إلمام بطبيعة وبيئة مسيحيي الشرق، أكثر مما كان مطلوبا منه في بلداننا بالشرق الاوسط، بعد ان حوّلت الاواني المستطرقة، الكتل المسيحية من هناك الى بلدان الاغتراب.
فالخشية هي أن يحمل أحبارنا معهم الى الغرب ايضا، التداعيات السياسية والتراكمية والحدود الجغرافية، التي تجعل الاحبار، يتزاورون ويتعانقون، بدون أن يكون ثمة تنسيق انجلة يذكر فيما بينهم، لما تقتضيه كل مرحلة في التأوين للكنيسة الجامعة. وربما ازكم ذلك أنوف الكثيرين بذرائع الخصوصية الطقسية والثراء الليتورجي لكل كنيسة، مما أدى إلى نوع من الجدران الادارية فيما بينها، بدون أن يكون ثمة تنسيق لتعشيق الامكانات المتوفرة لدى الجميع في خدمة الكل.
ونشير ايضا الى ان الانفتاح الرسولي والقانوني بين العائلتين الرئيستين في المسيحية: الكاثوليكية الارثوذكسية، حيث قطعت الكنيسة الكاثوليكية وشقيقتها الأرثوذكسية اشواطا طيبة، مما يضع أمام أحبارنا الكاثوليك الرسالة المشجعة لاتباع خطوات البابا فرنسيس في الانفتاح أيضا على عموم الجماعات الكنسية التي ظهرت بعد الحركة اللوثرية، لعل ذلك يخفف من تجزئتها المستمرة الى جماعات مسيحية مجهرية، إذا التحقت بركب الكنائس الرسولية القانونية.

مقارنة عامة لواقع الحال، للكنائس الكاثوليكية في المشرق وفي الاغتراب
نظرة الى كنائسنا البطريركية في الشرق، والتململ المتزايد...
_______________________________________

للوقوف بموضوعية أمام واقع تواجد مسيحيينا المشرقيين كمغتربين متجاورين في المدينة الصغيرة الواحدة، لا بد من الالتفات الى ما يحدث في الشرق الأوسط، من تململ على مستوى البطريركيات.
يواجه مسيحيونا على تنوع طقوسهم وكنائسهم البطريركية تحديات في الشرق الاوسط، تضغط في محاور مختلفة جيو- سياسية ودينية. ومع ذلك يوجد شعور أن البطريركيات تتفاعل من خلال ما تراه من افق ذاتي واستراتيجيات خاصة، لابداء الرأي في معالجة هذه أو تلك من التحديات، منها توحيد العيد. فعلى مائدة جمعتنا: كاهن كلداني، وكاهن من الروم الكاثوليك، في ضيافة كاهن ماروني، مع  أسقف ارثوذكسي متنور ووحدوي الى حد الثورية، أشار الأسقف أن أحد بطاركة الشرق، هو الذي وقف بالضد من ذلك التوجه بتوحيد العيد، ولسنا هنا بصدد الغور في الموضوع وحيثياته في اطار هذا المقال.
أما التململ الأكبر، على مستوى الكنائس البطريركية الكاثوليكية وغيرها، فقد جاء بخصوص التحديات التي تواجه شعبنا المهجر والمشرد والمضطهد، المستهدف بنية مبيتة لافراغ الشرق من أبنائه الاصلاء المسيحيين. حيث أن الكتل غير المسيحية والضاغطة نحو هذا الدرك، بنحو بعيد عن الوطنية ونكران الجميل لجيرة امتدت لدهور، لا تميز بالطبع بين طقوس مسيحيينا وكنائسهم، في استهدافهم بتعصب مذهبي وغلّ طائفي. وهكذا طفا على السطح تململ أمام تحرك أحد البطاركة، مار لويس ساكو، بغيرة انقاذ ما يمكن انقاذه لصالح رعاياه، عندما انتقدت تحركاته وما رآه يعود بالفائدة الى التواجد الواسع لرعيته ميدانيا بدون استثناء غيرهم من المسيحيين، وكأن المطلوب من غبطته هو أن يستأذن في كل خطوة يخطوها عندما تستجد الحاجة الطارئة لها، لما يسعف واقع ابناء رعيته بدون أن يحصر المطالبة لهم تحديدا.
ومن المعروف في ظروف منطقة الشرق الأوسط، فإن الكتل الديمغرافية الطائفية، سواء على نطاق عراق الرافدين، او في الشام ولبنان، باتت هي ذاتها تضغط ضد التواجد المسيحي في الشرق الأوسط، في إطار ارهاب متجانس واحد لا يفرق بين المذاهب المسيحية.

مسيحيونا المغتربون في ظل اللادينية والعلمنة والليبرالية
___________________________________
ويأتي مسيحيونا في بلدان الاغتراب، ليصطدموا أمام تحد مشترك واحد تختلط فيه النزعة العلمانية المضادة للمظاهر المسيحية، الى جانب العلمنة والليبرالية لتستهدف مختلف الشرائح وتستهدف الاجيال اكانت في مدارس أهلية-كاثوليكية أم عمومية. ونعني المسيحيين المستهدفين هنا،  أكانوا ضمن بطريركيات متحدة مع روما، أم كانوا تحت رعاية كاثوليكوس يرأس كنائس جاثاليقية أرثوذكسية. فإذا كان اضطهاد كنائسنا في الاوطان بهدف غلقها، فإن الكنائس في المهجر المشرقي المسيحي يتم تفريغها من مؤمنيها أمام التحديات المذكورة فتهدد اجيال مسيحيينا بالضياع.
إزاء هذه التحديات، نأمل ألا يغدو مسؤولا عنها ايضا، واقع انغلاق كنائسنا في كانتوناتها الادارية واللوجستية والحسابية. فتحصر كل منها جهدها الذاتي في خدمة الاسرار، بدون أن يكون ثمة تنسيق للخدمة الروحية والكتابية على مستوى المواهب المتوفرة في مجموع هذه الكنائس. ولكن كيف نشخص هذه الكنائس؟ هذا ما نراه في المقطع الاتي.

تراكمات بين بطريركيات الشرق الأوسط والتعامل معها في الاغتراب
__________________________________________
لا بدّ من القول، أن ثمة كليشاهات تلصق لكل كنيسة بطريركية تبعا لدولة محددة دون غيرها، مما يجرّ الى التمييزات الاقليمية والانجرارات السياسية. فثمة كتل بطريركية، منها مرتبط بموقع كرسي البطريركي، مثل كرسي بابل على الكلدان، ومنها مرتبط بانتشار خاص في هذه البلاد أو تلك، برغم امتدادات ابناء تلك الكنيسة الى هذه الدولة أو تلك مثل السريان في الشام ولبنان وفي العراق. لكن انحدارها أصبح  لصيقا عموما بمكان تواجد غالبيتها، مثل أبناء الكنائس المشرقية، الكلدان والاشوريين من العراق، على سبيل المثال، ولكنهم منتشرون نسبيا الى الشام ولبنان والاردن ومصر والاردن. أما السريان، فهناك من يقرنهم بالسوريين، برغم تواجدهم الكثيف في بلاد بين النهرين، وخصوصًا قلعتهم السليبة عروس السريان، الحمدانية، قره قوش تلك الارض الخصبة بالدعوات الكهنوتية والرهبانية والعلمانية. ولسريان العراق إلى جانب غيرهم بروز لرجالاتهم الدينية بنحو متألق روحيا، راعويا وعلميا، فهم ايضا متفاعلون مع الكتلة المرتبطة بسوريا، وكذلك مع نسبة سريانية معتبرة في لبنان، من حيث تواجد الكرسي البطريركي واكليريكية الشرفه ذائعة الصيت. وثمة الموارنة، بانحدارهم المعروف من لبنان مع توسعاتهم على مستوى ابرشية في الشام، وفي بلدان الاغتراب نراهم في استقرار مهجري إبداعي ضارب في القدم. وثمة تواجد الملكيين الروم الكاثوليك والارثوذكس، مع الكرسي الجاثاليقي لكل منهم في الشام، مع تواجد اكثر استقلالا وبعدا لدى الاقباط الارثوذكس والكاثوليك في مصر.

لبنان، عمق متفرّد لمسيحيي الشرق الأوسط
___________________________
شاء من شاء وأبى من أبى، فإن لبنان يكاد يحاكي روما الشرق الأوسط، بعراقته المسيحية، بإعلامه المسيحي، بدور نشره، بأدبه، بموسيقاه وألحانه. ولما كان لبنان يتفاعل ايجابيا مع المهجر، فإن مهجر اللبنانيين، متفرد بتأثيره أيضا.
فكيف إذا أسس المهجر اللبناني ابرشيات عريقة في القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها، ومنذ النصف الاول من القرن العشرينز فكانت ابرشياته الحاضنة البارزة للمسيحيين الذين لظروف متباينة اصبحت لغتهم الطقسية اللغة العربية. فأصبح الالتحاق بهم من قبل سائر مسيحيي الشرق كالحنين إلى لبنان، فتنساب اللهجة اللبنانية كالشهد على السن المغتربين من ابناء الشرق الاوسط. وقامت الابرشيات وازدهر العديد منها، بتقنيات خبرات تسويقية، وضعت في خدمة الأنجلة منذ عقود. من تلك الخبرات صناعة الفرح وتقاسم موائد المحبة  في ظل الاعياد والمناسبات المسيحية. كل هذا على مستوى مسيحيي الشرق الاوسط الناطقين بالعربية، من أي كنيسة بطريركية كانوا. وحتى الذين لغتهم الطقسية الغالبة هي غير العربية، او كانوا تحت المظلة الرسولية الكاثوليكية او الرسولية الارثوذكسية، كانوا يرتادون الكنائس اللبنانية المارونية، لتلقي الاسرار الكنسية.

أساليب تنمية كنائس المسيحيين الشرقيين المغتربين
________________________________
على المستوى الأرثوذكسي: في لقاء سابق مع حبر من الكنائس الارثوذكسية، أخبر الحبر كاتب السطور ان كنائسهم، عبر الاجيال المهجرية، تنمو من خلال الخدمة لابناء الجاليات الاخرى سواء التي ليس لها كنيسة هناك، او الذين يغادرون كنيستهم لسبب أو لآخر.
أما فيما بعد الحروب المستشرية في العراق ومحيطه، وفي السنوات الاخيرة بسوريا، فإن عددا من الكنائس الشرقية في عموم كندا، لجأت الى مضاعفة نصابها، من خلال هجرة للعراقيين والسوريين.

الهجرة وغياب أولوية المساعي لاحلال السلام العادل في الشرق الاوسط
_____________________________________________
ما سبق ذكره يضع أمام هذه الابرشيات، تحديات التنسيق المشترك في شؤون مختلفة الى جانب الراعوية الروحية والتثقيف المسيحي، بأن تكون صوتا واحدا للمناشدة بأن تقوم الدول الكبرى بدور فاعل لاحلال سلام عادل في المنطقة، بدل قيام تلك الدول باشعال فتيل الصراعات، والتركيز على استقبال المهاجرين وكأنها بريئة من اسباب زرع هذه الصراعات وبيع السلاح لكافة الاطراف المتحاربة، وبالتالي لن يبق أمامها سوى التظاهر بالعجز عن اي دور في احلال السلام.

أحج الى كنيستي الأم لأستظل بقامات كهنوتية صادمدة
__________________________________
وأمام هذه الابرشيات ايضا، تحديات التفاهم المشترك فيما بينها، للانسجام مع توجهات عدة كنائس في العراق وسوريا، بالوقوف مع آخر مسيحي يمكنه البقاء في وطنه. أكتب هذا ليس من باب المبدئيات، بل من قبل شخص يقيم في الخارج، واستعد خلال أيام لامضاء المدة التي تسمح لي بها الظروف أن اقضيها في أحضان الكنيسة الأم لاستظل بقامات كهنوتية وحبرية وشرائح طيبة من المؤمنين، من الذين حملوا طوال السنوات الماضية، ثقل النهار وحرّه في ظروف صعبة غير مسبوقة.

نحو تماسك الكنائس لمساندة الابناء في الوطن
____________________________
أجل أننا نحلم ان تتماسك الكنائس مع بعضها، لمبدأ مساندة الابناء في الوطن، وأن يكون ثمة احترام للاتفاق على مناقبية ان لا تتوخى كنيسة التوسع على حساب الكنيسة الاخرى، ومراعاة المشترك فيما بينها كمصدر غنى، بدون التسبب بإذابته، بل ان تتفاعل مواهب ابناء الكنائس مع بعضهم البعض.

المماحكات الجانبية بين الخورنات المشرقية الكاثوليكية
_________________________________
في كالكري، على سبيل المثال لا الحصر، كانت الكنيسة المارونية، من أولى الكنائس المشرقية التي قامت في المنطقة. وعندما باشرت خورنة كلدانية في الاستقرار في الغرب الكندي، منذ أكثر من ثماني سنوات، لم يخل الموضوع من الحساسيات. خصوصا وأنه لم يدر بخلدنا ولم يخبرنا أحد من الجالية الكلدانية، أن نعد الحساب للرعية المارونية، كمن يتعامل مع رعية شاملة لمسيحيي الشرق الأوسط، وأن يتم التعامل معها من باب التمهيد والاعلام والاستئذان او التنسيق. وتبين فيما بعد أن الراعي آنذاك، قد تعلق بقلب أبوي مرهف بالعائلات الكلدانية التي خدمها  لسنوات، ولا بد ان علاقة وجدانية روحية شدته تجاهها. فبعد ان قام الراعي الماروني آنذاك باستقبال الكاهن الكلداني كزائر، بدأ في التململ، عندما رآه يستقر في المكان كأكثر من زائر. فبدت على السطح انفعالات بالهاتف، خصوصا عندما اقتضى الحال من الكاهن ان يكون توقيت قداسه عصرا، فقال له: ((انك قد خرّبت بيتي..!)) أجابه الكاهن الجديد، بكياسة الضيف الجديد وتفهم الصديق، ان هذا هو التوقيت الذي تم الحصول عليه. ومع الأيام، ومع استقرار الرعية كأمر واقع، تنامت علاقة ايجابية بين الجانبين، مع تعامل الكاهن الكلداني معه ككاهن أقدم وتنامل العلاقة الودية. وفيما بعد أصبحت العلاقة أخوية حميمة مع الراعيين الجديدين في ادمنتون وكالكري، في تعامل متكافئ. وكم كانت سعادة الكاهن الكلداني، ان كلا منهما، تعامل باسلوب الاستئذان وطلب التخويل حيثما اقتضى الحال.
 الى جانب هذا فإن  تلقائية أبناء الكنائس المشرقية، الكلدان، والكنائس غير الكاثوليكية الاخرى، بالتعلق بلغتهم الام، كانت الجواب الكفيل بإذابة تلك الحساسيات، بحكمة القبول بالأمر الواقع، وإنقاذ ما يمكن الاحتفاظ به من الكلدان، من الذين لم تكن اللغة الطقسية لغتهم الأم، بل العربية. غير أن هؤلاء ايضا، بقوا يبدون تعلقهم ومحبتهم للطقس المشرقي، مع احتفاظ التعامل مع الكنيسة المارونية الحاضنة، الى جانب الانسجام الاجتماعي بمعية عموم عوائل الشرق الأوسطية تحت خيمة ما درج احيانا على تسميته بالكنيسة العربية التي جمعتها الصلوات المشتركة بالعربي، الى جانب اللقاءات الاجتماعية على أنواعها. فبرهن الكلدان الناطقين بالعربية او من عرب المنذر بن النعمان، عن انتماء كلداني طيب، وانفتاح كاثوليكي عربي جدير بالتقدير.

العلاقات بين الابرشيات الكاثوليكية ذات الطقوس العربية
___________________________________
أذا كان حلول كاهن كلداني وخورنة كلدانية بهذا الحساسية، قبل حوالي عقد من الزمن، فماذا يا ترى ستكون التوقعات بشأن قيام خورنات تحتفل بطقوسها بالعربية، تحل الواحدة تلو الاخر، إزاء خورنات قديمة كبرت احجامها بعوامل الاسبقية، واستقطاب المهجاجرين؟
يعتقد كاتب السطور أننا أمام ازمة مستفحلة مع استمرار تنفيذ مخطط اخلاء الشرق الاوسط من مسيحييه، وتزايد استقرار المزيد منهم، سواء من خلال المنظمات العالمية، او الكنائس اللاتينية والشرقية.

تنافسات غير مطمئنة ومحيرة للمؤمنين
________________________
هنا نعود الى دور القاصد الرسولي، ودور الشعب المؤمن للتفاعل مع دوره، وذلك بتحسيس الكنيسة الجامعة بمسوؤليتها انها، وهي في مسارها للوحدة الكبرى مع المرجعيات الارثوذكسية، لا بد أن تعي دورها، بانعكاسات واقع الابرشيات المشرقية الكاثوليكية في المهجر. فإذا كان لها في بلدان الشرق الاوسط ما يبررها، فإن الحاجة في بلدان الاغتراب تدعو الى التساؤل أمام واقع متضارب: الابرشيات اللاتينية فيها مطران واحد لأكثر من 80 كاهنا وأكثر من 45 خورنة. أما الكنائس الشرقية، فلكل منها اسقف لبضع كهنة وخورنات بعدد الاصابع وقد تكون بمجموعها، وهي أبرشيات تجمعها الشركة العقائدية مع روما وتجمعها مع بعضها اللغة المشتركة، قد تكون بحجم ابرشية كاثوليكية واحدة في مقاطعة البرتا.
هذه الكنائس، إذا استمر بها الحال على التنافس مع بعضها البعض على ابنائها فيما بينها، فإنها ربما ستفقدهم سواء الى الكنائس غير الكاثوليكية أو الى اللاتينية، أو الى حالة عدم الانتماء الى كنيسة.

الكنيسة المارونية توأم الجذور مع الكنيسة السريانية، وتجمع بين ابنائهما اللغة الطقسية العربية
___________________________________________________________
في نهاية الأمر لا بد من الأذعان أن الكنائس المحتفلة بطقوسها بالعربية شكلت تراكما ثقافيا واجتماعيا لدى المسيحيين الناطقين بها حصريا، بصرف النظر عن الطقوس الاصلية لكنائسهم الكاثوليكية المارونية او السريانية او الملكية. فكيف إذا كانت مشتركة، بين مؤمنين منحدرين من بلدان متجاورة: سوريا ولبنان والعراق، يشتركون باللغة العربية، ولغتهم الطقسية الاصلية هي سريانية وكنيسة جذورهم المشتركة هي الكنيسة الانطاكية. وعلى العموم فإن الكنيسة المارونية ولدت من رحم الكنيسة الانطاكية في الشام الكبير، استقرت وتفردت بلبنان، بسبب ظروف تاريخية معينة. وشقيقتها في الشام مرت بظروف الانفصال عن الشركة الكنسية مع روما، وعندما التحق بالشركة العقائدية مع روما، جانب من كنيسة السريان الأرثوذكس، شاءت الظروف آنذاك، ان تكون جيوسياسا منفصلة عن لبنان، وإلا كان يمكن أن يقال لهم التحقوا بأشقاء لكم في مذهبنا الكاثوليكي، موارنة لبنان... وفيما تراكم ارث الطقس العربي لدى الكنيسة المارونية واتخذ فرادته، وتميزه ونكهته الخاصة، بقيت الكنيسة السريانية الارثوذكسية، تراوح على ما يجمعها طقسيا مع الكنيسة الأرثوذكسية، لكن الوحدة معها، على ما نعتقد، لن تكون بمسار ثنائي موضوعا قريبا المنال، مثل ابتعاد فرص الوحدة بين الكنيستيني الكلدانية والآشورية، بقدر ما يعتقد ان التقارب سيكون في الاولوية بين البطريركيات الارثوذكسية وكرسي روما.

وفي رأي متواضع نقول: الأمل كل الأمل أن يتبلور، خارج المجاملات الدبلوماسية، تفاهم تنسيقي عميق بين الهراركيات البطريركية والابرشية الكاثوليكية، بحيث يغدو كهنتهم، بمثابة العاملين في الحقل الانجيلي الواحد. وأذا تبلورت الصورة أمام الكرسي الرسولي، في واقعها المحتدم في المهجر، قد يكون ثمة توجيه رسولي، بتعاون اكثر مسكونية مما هو، وإلا فإن المؤمنين المنتمين الى مختلف الكنائس العربية الكاثوليكية واعون بما يجمعهم جميعا من قاسم مشترك: مذهبي وطقوسي وثقافي واجتماعي ولغوي ولن يقتنعوا بما يوضع فيما بينهم من جدران ادارية وحسابية، وسوف يراوحون بين هذه الكنيسة العربية الكاثوليكية وتلك ولبواعث ومحفزات متباينة. ومع استمرار هذه المراوحة،  يذوب الانتماء وينصهر المغتربون في الكتلة اللاتينية الأكبر او المحيط اللاديني.




75
مع هواجس الناس عن الهجرة والتنقلات الاكليروسانية

بقلم نويل فرمان السناطي
-------------------------

هذه مكاشفة مع الذات، ومع ما يستشف من نبض أبناء الكنيسة داخل "الوطن" وفي بلدان الانتظار، ومداولات جانبية مع تساؤلات البعض، فيها من يتساءل باستياء وآخر برغبة الفهم، والفرق شاسع بين الاثنين والتأثير على أحدهما دون الاخر: الاول اذا اعطيته الحجة سكت، بدون إبداء الرضا، والآخر إذ يفهم تنطلق أساريره ارتياحا ويجيب بفرح؛ وتأتي كتابة المقال، في أجواء من الدالة الأخوية والبنوية مع البيت البطريركي. واذا جاء المقال بهذا النحو المعلن، فلأن الكثيرين قد يكونون معنيين بالأمر، دونما أن يكون الغرض، الإشارة التشخيصية إلى هذا العنوان أو ذاك من رموزنا الكنسية الموقرة؛ فكانت الحاجة الى هذا النوع من المقال أكثر من حاجة التداول الالكتروني الثنائي. وعندئذ سيكون لكل من المعنيين في محيطه ان يستخلص ويدلي برأيه، ويشير الى الحالة عندما تستجد المناسبة. وما أحلى أن يكون التداول بالدالة إياها في التعامل مع التساؤلات المخلصة لأبناء شعبنا، بدل تلك الصيحات والتشكيات الالكترونية، مما يفرز ردود أفعال فورية قلما تكون محسوبة

عوامل الهجرة
جذور اقتلعت منذ عقود
_____________________
الاحداث الكارثية التي حلت في العراق وعدد من بلدان الجوار، منذ العقود الاخيرة للقرن العشرين، جعلت الكثيرين يقارنون بينه وبين الغرب، فكان لهم الشعور أنه لن تقوم قائمة لهذا البلد، طالما وجد موغلا في التقهقر وللمدى البعيد، مما جعل الكثيرين يخططون من زمن الى الاستقرار في الخارج. ثم جاء الغزو الامريكي الايراني، وجعل العراق ثم المنطقة، مختبرا لتجربة تجارة المواجهة الطائفية بدماء الابرياء، وعلى حساب وجود الاقليات الاثنية والمذهبية، لتفتح بوابة الهجرة على مصراعيها، سواء بسبب الحروب أو بعمليات لمّ الشمل بنحو عنكبوتي متواصل. بعد أن كانت الهجرة قد قامت منذ الستينيات، من العراق وقبلها بعقود من بلدان الشرق الاوسط، للرغبة في الاستقرار في عالم آخر. وتفاعلت الاحداث بنحو غير مسبوق وباتجاهين: مآس وكوارث لما ينطبق عليه من ابادة جماعية، واقتلاع جماعات بشرية من جذورها، على اساس اثني مذهبي وطائفي، لليزيديين والمسيحيين والصابئة وغيرهم.
كنيسة لا تألو جهدا من تحرك إعلامي
قامت رئاساتنا الدينية بتحركات اعلامية عالمية كبرى معتبرة، لكنها بقيت أمام مواجهة معلنة وما وراءها من أسرار رهيبة لم يُكشف بنحو واضح عن مخططيها ومنفذيها، مواجهة بين العالم وبين الاسلام السياسي والاصولي. مواجهة تبدو مكتملة الادوار في اللعبة بين الطرفين، طرف يخطط لمآرب استراتيجية وطرف يتأرجح بين من هم منفذي المخطط وكبار لاعبيه، وبين لاعبين آخرين كبار، يسعون الى التهدئة والتشويق، تحت غلاف الاسلاموفوبيا.

عقلية الغالبية، عقلية فوقية متوارثة
______________________________________
ومن ناحية أخرى، قامت في البلدان التي غالبيتها اسلامية، عقلية لا تقبل باختلاف الاخر وتعد التعايش
مع الآخر تسامحا مع غيّه المذهبي، وكذلك تعد ملامسة النقاش المذهبي النقدي، بمثابة الخط الاحمر دونه الرقاب. ولتشابك المصالح والتعقيدات المختلفة، لم يقم في الجانب الاسلامي لوبي رصين ومنتظم من داخل الاسلام يتصدى الى التعصب الطائفي والمذهبي، بنحو معاصر وباتجاه علماني يحترم الدين، ولا يسمح بأن تفسد الفتاوي غير المسؤولة البلاد والمجتمع وتطحن الارواح. يستثنى من ذلك، أصوات كبيرة ولكنها فردية معظمهما الكترونية في شمال افريقيا، وفي مصر والعراق، منها من بعض رجال الدين، وأخرى من الاصوات العلمانية الملتصقة بجوهر الدين وإلى جانب أصوات مستقلة عن الدين.
بعد هذه التقديمات التي توخت الشمولية، هذه محاولات استقراء لجوانب من هواجس المؤمنين، ومنهم المهجرين وطالبي الهجرة، مقارنة بموقف الكنيسة، مع محاولات للتفسير.

الرغبة  المشروعة في الهجرة وموقف الكنيسة
___________________________________________
هناك موقف مبدئي للكنيسة هو احترام الرغبة المشروعة في حرية اختيار الهجرة، لأي من الاسباب: لمّ الشمل، تفضيل نوع آخر من العيش، التخلص من معاناة خانقة وبسبب انتظار طويل تكتنفه المخاوف ومشاعر عدم الاطمئنان، تفضيل المغادرة على الرهان بأن الامور ستكون افضل نسبيا. وعن احتمال ان تصير الامور افضل نقول أنه يمثل نسبية فقيرة ضعيفة، أمام مقاييس حرية الفرد والتعبير عن الذات وعن الفكر بين الغرب والعراق الطائفي. ومن المعروف ان الكنائس البطريركية في البلدان الرازحة تحت الأحداث، تبقى مع رعياتها الخارجية، على الحياد من هجرة أبنائها الى الخارج، بل تترك ذلك لجمعيات المجتمع المدني، وذلك كرسالة للتآزر مع ابنائها الممتحنين في البلاد وهي تعيش في وسطهم. ويبقى هذا الموقف يفسر بكونه موقفا مضادًا للهجرة. لكن هذا الموقف الايماني المشرق بمبدئيته نراه ايضا في مواجهة مؤشرات أقل ما يقال فيها أنها لا تقويه:

مؤشرات قد تكون مؤثرة في موقف الكنيسة من الهجرة
مخطط على مستوى عالمي
_________________________________________________
لغير مرة، أعلن رؤساء الكنائس، ان ثمة مخططا كبيرا لافراغ المنطقة من المسيحيين. وأعلنوا ان هناك استلابًا لحرية التعبير، وأن ثمة مجاملات رسمية دونما عمل جدي، تجاه التعامل مع المسيحيين، وأن ما يعقد من لقاءات، هو حديث مؤتمرات غير متأسس على مشروع رصين.
طبيعة الاصوات المسلمة الداعمة للوجود المسيحي
الاصوات المسلمة التي تريد للمسيحيين البقاء، يميل الاعتقاد انها من الاصوات العلمانية ذات خلفية اسلامية بقيت تعلنها وترافقها؛ ولئن كانت هذه الأصوات في مستوى رسمي، غير انها قد تكون  من قبيل الاصوات الليبرالية، وكلها وجدت في مواجهة غير متكافئة مع الحكم الطائفي القائم، وليس ثمة ما ينبئ بنجاحها على المدى القريب، كما أنها لم تستطع، على موقعها الرسمي بين الكتل السياسية ان تحرك الكثير في أسباب الاضطهاد، من ذلك مظلومية البطاقة الشخصية المجحفة بحق القاصرين وطرف أبويهم المسيحي.
بين نوع علمانية في زمن سابق وزرع الطائفية للمدى البعيد
النظام المدني بعيد المنال وضعيف الفاعلية في دعم الاقليات.
_____________________________________________________________
من المراحل النادرة التي عاشها العراقيون بنحو شبه متكافئ عندما كانت مرحلة الحزب العلماني الواحد مع توافق مع أحزاب علمانية أخرى، وذلك قبل زرع الحكم الاسلامي في ايران، وقبل قيام حرب الخليج، التي اضطرت دكتاتورية البلاد الى حملة ايمانية، جاءت لترسخ التعصب المذهبي. ثم جاءت الطائفية، بعد السقوط، كوصفة لاضعاف البلاد لأجيال لاحقة.
اصداء عن ظروف المسيحيين الباقين في البلاد: بين الحجر والبشر
إزاء الفكرة أن ثمة أناس في العراق من المسيحيين يريدون البقاء جاءتني اصداء من نوع آخر:
حدثني مؤخرا صديق من قرية بسهل نينوى بحسرة حكيم ولهفة شاعر وأخذ يسوق مثالا يعرفه: إن عمي، يا أبونا، يعمل مزارعا وله حقول شاسعة، ومثله الكثيرون ولكنهم لأكثر من سنتين، يعيشون في خيبة أمل من الجهات الحكومية الزراعية التي لا تفي بالتزاماتها نحوهم. وأضاف: لدينا بيوت جميلة في بلدتنا ولكن ما الفائدة إذا لم يكن لشبابنا عمل كريم؟ وعليه فالحجر نفسه قبل البشر، يتحين فرصة مغادرة البلاد، لو اتيح ذلك، وإن عمي هو من ضمن أولئك الذين لم يعد لهم خبز يذكر على تلك الارض. إن غالبية الموجودين في ارض بلاد الرافدين، من المسيحيين، هم من الذين اجتثت جذورهم، بطريقة أو بأخرى سواء كانوا قد هجروا من قراهم الشمالية منذ الترحيل في السبعينيات، أو ممن حرمهم النظام من رزقهم  في حملة اغلاق المطاعم السياحية. بحيث بات لكل عائلة، في ما تبقى من وطن، عوائل وعشيرة كاملة في المهجر. أما التعايش المسيحي الاسلامي، فبقي على ما نذكر ويذكر اجدادنا، تعايشا، بين الاعلى والأدنى، والمسيحيون المتبقون، هم من يعيشون بطريقة تم تدجينهم عليها عبر التاريخ وبواقع الحال، مع جار يعدّ ذاته هو الأحق مذهبيا وهو المتسامح. ولم يظهر من المسلمين، موقف جاد في التعلق بجيرانهم المسيحيين، وليتنا كنا نرى ذلك ليس من خلال اصوات انفرادية بل من خلال تجمع منتظم متنامي القوة، ومن خلال منظمات انسانية مدنية، سواء من الجانب المسيحي او من الجانب غير المسيحي.

الاصرار على البقاء الى اين؟
____________________________
وفي صدى متصل آخر نجد أنه في مطلع الاربعينيات من القرن العشرين، فجر ناشطون يهود مواقع تواجد
اخوتهم اليهود، في طريقة لترويعهم بهدف المغادرة الجماعية. جاء ذلك باعتراف لوزير اسرائيلي من اصل عراقي، في معرض كتاب لمذكراته. وبرغم كل الذي حدث، فإنا رأينا بعد سقوط الحكم الشمولي في العراق، عجوزًا يهودية وحيدة في البصرة، وبعض عوائل في بغداد لا تتجاوز عدد اصابع اليدين. وهنا لا تنطبق المقارنة تماما: فعلى المستوى اليهودي، كانت عودة اليهود الى ارض موحدّة ويعتقدون بعائديتها، يتجمعون فيها، وهي غير بعيدة عن ارض حلمهم الثانية.
أما على المستوى المسيحي، فقد يتعلق الأمر برغبة عالمية مبيتة ان يترك المسلمون مع بعضهم، تداعب ذلك رغبات جانب من المؤذنين المسلمين، وجانب من الجيران طامعين بما يتركه الجار المسيحي من ملك أو سيارة أو قناني غاز. ولكن برغم ذلك، ولأنه ليس ثمة موقف تهجيري رسمي معلن، هناك العديد من الاسباب التي تدعو كنيسة العراق ان تبقى، لانقاذ ما يمكن انقاذه، وتبقى مع آخر جماعة منتظمة تروم البقاء، دون بضع عائلات.

هل تقوم كنائسنا بتشجيع للهجرة غير مباشر وغير مقصود وهي ترفضها علنا؟
________________________________________________________________________
إزاء واقع بقاء المسيحيين مع ما يمكن بقاؤه، وإزاء موقف الكنيسة المبدئي من الهجرة، وإزاء الخشية ان يكون خطاب الكنيسة عكسيا على الموضوع، هذه محاولات للاجابة عن بعض هواجس الناس، وبعض تساؤلاتهم المتكررة باصرار. المحاولات هي في نطاق ألا تكون العلامات التي يعطيها رجالات الكنيسة هنا وهناك، عاملا لتجميل الهجرة أمام المؤمنين بالبقاء أو الراغبين بالمغادرة وينتظرون في دول الانتظار وقد طال انتظارهم ويبحثون عمن يكون المسؤول عن هذا الانتظار.
ردود أفعال أمام ما يعدّ خطابا كنسيا معكوسا
هذه قصة جانبية، نهايتها تصب في صلب الموضوع: في تشييع البطريرك الراحل مار دنخا الرابع، كان المنهاج الذهاب مساء للصلاة على جثمانه، وفي اليوم الثاني المغادرة بعد قداس التشييع. ففي مساء الصلاة على جثمان الراحل الكبير بطريرك كنيسة المشرق الاشورية، خرجنا من الكنيسة مودعين بشكر مؤدب من قبل المسؤولين وكانوا تحت أعباء تنفيذ البرنامج. كنا مودّعين بكياسة وحيادية تنطبق على عموم الزوار، مما لم أحسبه ينطبق على أحبار وكهنة كنيسة شقيقة جاؤا بعدد استثنائي لحضور أخوي حميم في هذه المناسبة. وبعد انصرافنا بهذه الطريقة، كان بالتالي أمام الفريق الذهاب الى مكان لقضاء جانب من ذلك المساء في أحد الأماكن وتناول الطعام. وكم كان الود، أن يكون ذلك الجانب في لقاء وجداني على مائدة شاي وقدح ماء بارد مع الاشقاء في كنيسة المشرق الاشورية، خصوصا وأني كنت ببساطة عميقة أعد أعضاء فريقنا الزائر بمثابة ضيوف لهم في هذه المناسبة الوجدانية. وقد تم وضع صورة في الفيسبوك، لتلك الجلسة على مائدة دائرية تجمع الاحبار الخمسة وبضع كهنة: فجاءت الصعقة الكهربائية من أحد المعلقين، مختار من شمال الوطن: اضربوا صارت كلها لكم... فتم رفع الصورة على رؤوس الأصابع...
وتقول قصة أخرى، أنه في زمن النظم السابقة، عندما كان السفر استثنائيا، في ظروف الحرب والحصار، خاطب احد عموم الشعب المؤمنين صديقه أحد الكهنة العائد من السفر بالقول: هنئيا لكم هذا الحل والترحال! فأجابه الكاهن بدالة الصداقة عينها: وماذا لو صرت كاهنا انت ايضا لتخبر ما نختبر! واعتقد أن مثل تلك الرسالة كانت قد وصلت بطريقة وبأخرى في هالة للمهام الكهنوتية في الداخل والخارج، فاجتذبت، بزمن الحصار والحرب، العديد من الدعوات الكهنوتية، أكثر من الازمان الاعتيادية،  وإذا بها فرصة ذهبية لهم لاكتشاف جمال الرسالة الكهنوتية قلبا وقالبا، وصار العديد منهم كهنة، والعديد من اولئك الكهنة، صاروا من خيرة الكرامين في حقل الرب.
 كهنة صامدون وبضع اساقفة معتصمون وشعب مقطوع السبل
وقال متحدّث بشأن الحالة في الداخل: كثيرون من العوائل هم من الشعب مقطوع السبل للخروج، فالأمر يحتاج الى ميزانية خارجة عن حساباته. ومع ذلك فإن بقاءهم ينعشه، كهنة صامدون يقيمون معه، لا يغادرونه، مع بضع أساقفة معتصمين في رعياتهم. وبهذا الصدد هذه بضع تساؤلات طالما ترددت على مسامعنا ومعها محاولات إجابة:
* يتبادر تساؤل كهذا: هل هناك من داعي لهذا العدد من الأبرشيات والأساقفة، قياسا بأبرشيات كاثوليكية تشتمل كل منها على 50 خورنة وثمانين كاهنا ومن الخورنات مع يبعد عن المركز اكثر من 200 كم؟
- ما يفصل عن ابرشياتنا في البلاد، لا يقارن بما يفصل الخورنات في خارجها. فبلادنا التي ترزح تحت نير الفساد، ليس لها شبكة طرق أمينة، والتنقل فيها للامور الراعوية، هو مجازفة غير حكيمة.
- منذ الستينيات، تزامن انحسار عدد الابرشيات مع نزيف الهجرة، في ظل العراق المضطرب وتحت نير غالبية شمولية ساحقة، فبعد انحسار ابرشية عقرا والزيبار، في الستينيات من القرن العشرين، ها هي في العقود الاخيرة ابرشيات كلدانية تتحول الى مدبريات بطريركية أو أسقفية، في تركيا ومصر، واخرى اندمجت بين زاخو ونوهدرا، وبين السليمانية وكركوك. وهكذا في العقود الاخيرة شهدنا في داخل البلاد، بسبب الاضطرابات والهجرة انحسار خمس كراسي اسقفية عاصرناها في حياتنا. ولكن مهلا فلم يصل بنا الحال، بعد أن يكون لنا كاهن واحد يخدم في البلاد، مثلما يوجد الان كاهن لإحدى الكنائس في الكويت، وآخر في الامارات وثالث في قطر- بيث قطرايي.
*ما الذي يجعل أحبارنا بمجموعة مجتمعة، تغادر البلاد لهذه المناسبة أو تلك؟
-البيت البطريركي يمكن أن يعد بيتا متنقلا: هذا ما يمكن أن نستشفه بحسن نية، فالبطريرك لا يذهب للنزهة، ومن ثم فالبطريركية معه حيثما كان مما يجعل البيانات والتقارير الاخبارية، تنزل اولا بأول في الموقع البطريركي الالكتروني، من خلال السفر كفريق عمل، ولا بدّ لغبطة البطريرك اسبابه الشخصية، ولن يصعب عليه الادلاء بها في حينها.
*ما الذي يجعل أن عددا متبقيا من الكهنة مع بضع أساقفة معتصمين في ابرشياتهم يقومون بتمشية امور المتبقين في البلاد، بينما في خارج البلاد، يتواجد سواء بالتعيين او المهمات الرسولية والاعلامية، بنسبة 12 من أصل 16؟
 الجواب عن هذا السؤال رأيته في بضع محاور:
-قبل كل شيء، السؤال يوجه الى الاساقفة المعنيين المعتصمين في ابرشياتهم شمالا وجنوبا، لعلهم الافضل ممن يعبر عن نفسه؛ لكني أرى أن هؤلاء الاساقفة االماكثين في ابرشياتهم، هنا وهناك، علامة عافية ورجاء للشعب المسيحي الباقي في البلاد. وهم أيضًا، في المناسبات الاستثنائية تضطرهم الظروف لافراغ البلاد من الاساقفة، عندما رفع عن بغداد موقعها كقبلة اجتماع المجمع المقدس، لتحلّ محلها روما، بسبب ظروف تغير الخارطة الجغرافية للابرشيات. وفي الوقت عينه، فإن مساحة حركة الدائرة البطريركية، لا تقتصر على بغداد بل تمتد الى آفاق بطريركية ومسيحية واسعة النطاق.
-مهما تحدثنا عن ان الكوكب الارضي اصبح افتراضيا قرية صغيرة، فإن اللقاءات عن بعد، بالصورة والصوت، تبقى محصورة في نطاق البلد الغربي الواحد. أما المؤتمرات المهمة، فإن حضورها يعدّ كسبا لمسيحيي العراق والشرق الاوسط، ورعياتهم في بلدان الانتشار ولا تحصى الفوائد من ذلك، مما استقطب المنظمات الانسانية والاغاثة، ومما حرك بعض الشيء في الرأي العام، على أمل أن يكون كل هذا بمواجهة فاعلة أمام المخطط المحاك ضد المنطقة، لتغييرها في الجانب الجيو سياسي.  وإزاء هذه الأولويات، قد تستجد الحاجة إلى أن يكون ثمة تخصص اسقفي لشؤون المؤتمرات، مما يفرغ المجال للخدمة الراعوية، في زمن هاب البابا بأساقفة العالم بألا يصبحوا أساقفة مطارات.
استخلاصات: الخارطة الديمغرافية الجديدة لمسيحيينا الكلدان
وهذه محاولة إجابة أخرى عن سؤال تواجد أحبارنا المتواتر في خارج البلاد:
-لقد قام نوع من التوأمة الروحية والراعوية المشرقة، بين كنائس اوربية وخصوصا الفرنسية منها. هذه التوأمة ايضا عادت بمردود طيب على مسيحيينا في الداخل وبرسالة معبّرة للحكام والبرلمانيين في الداخل. كما أن التواجد الديمغرافي لأبناء الكنيسة الكلدانية إزاء ما يقابله من تواجد ديمغرافي متواضع في الداخل، لا بد وأنه يستقطب هذا الزخم من الحضور الحبري الكنسي في مختلف المناسبات.
-وقد افلحت الكنيسة ازاء ما يعقد من تجمعات في الخارج وبحسب الظروف والأمكانات، ان تعمل ما يشابه ذلك في الداخل، برغم محرمات (تابوه) الوصول الى العراق. ونأمل من الرب ان يمضي في إنارة القلوب والدرب على خلق مثل هذه المناسبات، في المناطق الاكثر استقرارا في البلاد ليكون التفاعل الديمغرافي ما بين أوربا والعراق متبادلا.
-أبناء الكنيسة الكلدانية، كعموم مسيحيينا في العالم، يشكل تواجدهم بنحو متفاوت الحجم هنا وهناك، كحالة تشبه الاواني المستطرقة، مثلما حدث في افريقيا الشمالية ومناطق أخرى من العالم عبر التاريخ: تنحسر المسيحية في مكان لتظهر بزخم آخر في مكان آخر. خصوصا وأن غبطة البطريرك قال فيهم: ان المسيحيين الذي هُجـّروا إلى الداخل والذين التجاؤا الى الغرب، وقد زرت معظمهم، لم يحملوا معهم سوى إيمانهم ولغتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وثقافتهم العراقية والمسيحية وهذا يشحن رجاءنا.
-إن تواجد كنيستنا المتواصل والمشرق في رعايا بلدان الانتشار، هو حالة تشد من معنوية المهاجرين، كما هي، شئنا أم ابينا، طريقة غير مباشرة، لتطمين الذين يودون الهجرة، بأن ثمة حياة راعوية قريبة من قيم الشرق، يحملونها معهم وينمونها.
وأخيرا، الأمل كل الأمل هو الفصل بين ما توحيه رسالة تواجد أحبارنا في الخارج في شحن ايمان المغتربين، وتطمين الذين على طريق الهجرة بأنهم ليسوا أمام المجهول، وبين موقف الكنيسة البطريركية ورعياتها، بألا تكون الطرف اللوجيستي والاعلامي، وبمثابة نفير فرماني لاخلاء البلاد من مسيحييها، فكل شيء يأتي في حينه. وخلصت الى القول لصاحبي: لعله في المناسبات الاخرى، يا صاحبي، سيحسب الحساب لما طرحت وطرح غيرك من تساؤلات، ما دامت النيات الحسنة تجمع مختلف الاطراف.



76
الاخ الفاضل الاستاذ كوركيس أوراها منصورباركك الرب
كان لتعقيبك الاخوي الاثر الطيب لدي، موقفا وتقييما، في زمن، يبقى الموقف من الراحلين موقفا سياسيا ايديولوجيا بحتا، بصرف النظر عن أي تأوين أو طبيعة المادة الاعلامية، أو التعريف وابداء الآراء بالمناقضين لنا، حتى بعد انتقالهم الى العالم الاخر، ولعل ثمة من يلاحظ ان هذا الموقف بقي يحتفظ بنوع من الاصطفاف المناطقي،  فقلما يتزعزع برغم التعامل مع الاجواء والقيم المسيحية وقيم شعبنا المتشرّب من رسالة الإنجيل المقدس، انجيل الرأفة واحترام اختلاف الآخر وعدم دينونته، حتى يلفظ الرمق الأخير بينه وبين ربّه.
أخي رابي كوركيس، ونحن الذين توفر لنا أن نعيش في الوطن في حقب مختلفة منه، قبل وما بعد الحكم الفردي والشمولي، من دواعي الارتياح اننا لم نخرج متقولبين، برغم ما تدفعنا الى التقولب، عوامل متشابكة باتت من الماضي السحيق.
دمتم بانفتاح الى افق واسع كالسماء.
ا.نويل

77
ذكريات عن الشاعرين عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ
وقراءة شاعرية لرسالة القديس بولس عن القيامة والحياة

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
-----------------------------
لقد قُيـّض لي يوما أن أقدّم إشارة توقير الى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، الذي رحل مؤخرا؛ وذلك بفضل المقابلة التي أجرتها معي المهندسة ايمان البستاني، تشكيلية مبدعة وأديبة، في حوار لمجلة كاردينيا الالكترونية، عندما اوردت مفارقة معه ضمن ذكرياتي القريبة. تلك  المقابلة التي نشرت في 5 تشرين الثاني نوفمبر 2013. وأكون عندئذ قد أديت التحية الى الشاعر الكبير في حياته. رحل الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في (9 تشرين الثاني 2015) بعد عشر سنوات من رحيل صديقه الشاعر يوسف الصائغ في 12 كانون الاول 2005. وينطلق موضوع هذا المقال، تحديدا، عن دور شهدته لعبد الرزاق عبد الواحد في جنازة يوسف الصائغ. وتوالت من ثم حزمة بسيطة من الذكريات.
 بدأ كل شيء، عندما كنت أخدم راعيًا لخورنة سانت تيريز في دمشق، وغداة وفاة الشاعر يوسف الصائغ. عندما هاتفني بهذا الشأن سكرتير البطريركية الكلدانية الاب (الراحل) بطرس حدّاد، وهو ينقل تحية المعاون البطريركي (مثلث الرحمة مار أندراوس أبونا). كما جاءتني مكالمة توجيهية من سيادة المطران انطوان اودو، رئيس ابرشية حلب للكلدان في سوريا، أن أقوم بمراسيم تشييع كنسي لجثمان المرحوم الشاعر يوسف الصائغ.

مقابلة الصائغ للطالبة عائدة فرمان
------------------------------------
برغم المفاجأة، في تلك التوجيهات، كانت تجمعت لديّ بعض خيوط، مما لم يكن يعلن عن الشاعر الراحل. اولاها عندما رتبت موعدا لشقيقتي معه، في بحر التسعينيات، لدى عملي السابق مع مجلة ألف باء مترجما ومحررا، وكان الأستاذ يوسف الصائغ مديرًا عامًا للسينما والمسرح، وذلك لتحاوره الشقيقة عن مسرحيته (اللعبة) كجزء من دراستها للبكالوريا. وكانت في حينها قد حدثتني عما تداولته معه بشان المقاربة بين مسرحية هاملت لشكسبير، من ثيمة مشتركة بشأن الشك في العلاقة الزوجية.
لكننا لم نتوقف كثيرا عند مفردات المقابلة، لسبب عودة أختي من بغداد الى الموصل. ولكن لما اتصلت بها في هذه الأيام وانا ارسم معالم هذا المقال، كشفت لي جيرمين (عائدة) عن نقاط أخرى، كنت أودّ لو عرفتها قبل ترؤسي لمراسم تشييعه، مما كان سيغنيني في المزيد عن تأبينه.
 قالت لي انها بعد ان قدمت نفسها على أنها عائدة فرمان، سألها ان كانت مسيحية، أجابته بنعم؛ فعقـّب عليها: وأنا كذلك ولدت مسيحيًا وعمي مطران، لكن توجهاتي الفكرية قد اختلفت، وعندها أخبرها عن تحفظاته بشأن الأمور الايمانية. قالت له: لدينا واعظ مرموق،  يقدّم هذه الأمور بنحو سلس ومقنع... فما كان من الصائغ أمام طالبة الكلية التي تعرض عليه التلمذة على واعظها المفضل، إلا أن يجيبها بنفور من يردّ الصاع صاعين... كاشفًا ما كانت تجهله عنه، انه يقف على مسافة واحدة من الأديان. وأردف في حديث متصل أنه سمى ابنته مريم، لمكانتها المرموقة في أكثر من ديانة.
وأخيرا أوردت عائدة عنه هذا الانطباع المتأرجح بين الإيمان بالطبيعة وبما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا) إذ قال: لو كان الناس يؤمنون بالله، ويذهبون للصلاة، لماذا نراهم يحتاجون الى الموسيقى، لكي يعيشوا تطلعهم الى الخالق، أما يكون إيمانهم به كافيا لإعطائهم السلام الداخلي؟ تساؤل يفترض الاحساس المطلق بالملكوت وبنحو مجرّد، ونحن بعد على الأرض، وكأننا من روح فحسب،والحال يرى المؤمنون ان يكون تواصل الانسان مع المطلق معجونا بعوامل الطبيعة، ويخاطب الحواس، فيرتقي بها المرء الى الخالق.

يوسف الصائغ خصوصية تجاهلها الكثيرون
--------------------------------------
وعندما عملت في هذه الأيام مسحا على المقالات التي تحدثت عن سيرته وعن رحيله، وجدت فقط ما يشير إلى أن أول زواج له كان من المرحومة (جولي) التي رافقته حتى وفاتها بحادث سيارة، ثم تزوج من مسلمة زميلة له، لتشير معظم المقالات في معرض الحديث عن رحيله، بمجرد عبارة تحول من المسيحية إلى الإسلام، بدون أن يثار شيء، عن تشييع جنازته في كنيسة، وقلمّا تمت الاشارة الى ايديولوجيته الشخصية تجاه الأديان، وموقفه الخاص من الإيمان.
وهنا أورد بعض المؤشرات التي تبتعد عن النمطية او الكلائشية التي تلصق بالناس، بمعزل عن خصوصيتهم وفرادتهم، وهي توضح ما تمتلكه المسيحية من صدر رحب تجاه أبنائها وتجاه الناس ذوي الإرادة الصالحة، بعيدا عن الدينونة، تاركين الدينونة للديان الأعظم.
وبهذا الصدد حدثني مرشدي الروحي لسنوات خلت، الاب الفرنسي الراحل روبير بيولاي من دير الكرمليين في بغداد، عن تأمل لا بد وأنه شاركه مع العديد من مريديه في الروحانيات المشرقية. قال وهو المهتدي الى المسيحية في عمر ناضج ومن عائلة لا دينية: عندما كنت امضي العطلة الصيفية في أسرتي، كنت أحس بأن أعضاء اسرتي، يرمقوني بنظرات ممتزجة بين الشفقة والتندّر لتوجّهاتي الإيمانية. ولكني بقيت أكن لهم الاحترام لنزاهتهم وصفاء ضميرهم، بحيث ان ايماني يجعلني أراهم داخلين الى الملكوت، بامتياز يختلف عني. هذا الامتياز وصفه الاب روبير بهذه الكلمات: فإذا كنت أعرف أن المخلـّص يعدني بالملكوت الذي اعيشه كل يوم على الارض، بحيث أني سأجد أجواء السماء عندي كما في حكم المألوف أو تكاد، إلا أن هؤلاء أهلي ذوي الإرادة الصالحة والضمير الصافي، عندما يفتح لهم باب الملكوت، سيفغرون الفاه انبهارا وعجبا وذهولا أمام الجمال الربّاني. وبذلك سيتميزون عني في نعمة الملكوت.
ويتفق مع هذا الاتجاه اللاهوتي الكندي والمفكر الأب د. رون رولهايزر (http://ronrolheiser.com) في عنوان مقاله بجريدة وسترن كاثليك ربورتر: ثمة قدر متكافئ من المقارنة بين مؤمن صادق وبين غير مؤمن نزيه.
وهناك في الواقع، اشارة ظريفة يقال فيها ان المسيحية لا تقطع رأس من يغادرها، كما لا تفرض قطع شيئا آخر منه إذا أراد الدخول فيها... ففي لقاء صحافي مع التربوي الفنان الراحل صبيح نعامة، حدثني عن مكانة يوسف الصائغ لدى مجتمعه الأصلي، ولقاءاتهم العائلية، وما يُعرف عن شريحة من مسيحيي الموصل، مع العهد الجمهوري، ممن اختاروا ايديولوجية سياسية بعيدة عن التوجه الكنسي، ولكن بقي انتماؤهم الاجتماعي متواصلا. واهداني نسخة من كتاب اعترافات المالك ابن الريب، مع تأشير الصفحة التي تحدث فيها الصائغ عن الفنان الرائد صبيح نعامة وأسرته، في سياق ذكرياته عن الموصل، وعن عمه المطران سليمان الصائغ.
وكانت قد جمعتني لقاءات مع الأب  أفرام سقط الدومنيكي، وهو يحضر لأطروحة الدكتوراه، في شأن استشارات ثنائية لترجمة موضوع اطروحته: أناشيد سليمان. وإذا بصديقي الدومنيكي الباغديدي، يريني مراجعة حصل عليها لترجمته الشعرية لأناشيد سليمان. وكانت بخط يد الشاعر والرسام يوسف الصائغ، تحمل من رشاقة الحروف والكلمات، ما يضاهي رشاقة رسام عملاق أمام لوحة شامخة.
أما لقائي الشخصي به فكان للتحدّث معه عن مادة مقترحة جديدة لعموده (جهينة) في احدى الصحف العراقية، عندما وصفت له ظروف مشاركة والدي، المسنّ نسبيا آنذاك، في حراسات الجيش الشعبي بقضاء عين سفني، فجاء عنوان عموده في اليوم التالي: حكاية المواطن فرمان.

الشاعران عبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ بين مشيّع وراحل
--------------------------------------------------------------
على كل حال، فيما يخص ظروف تشييغ الراحل يوسف الصائغ، فإنه لدى وفاته، كان من الواضح ان اصدقاءه ومريديّه وجدوا أنفسهم أمام طلب أن يشيّع شاعرهم الفقيد كنسيا. فحضروا التشييع وحضروا القداس والجناز عن روحه لمراسيم اليوم الثالث. وحضر معهم أعضاء من أسرة الشاعر الراحل قادمين من إحدى ولايات الخليج. وعندها التقيت بسيدة كان الشاعر الراحل على ما أذكر خالها، فحدّثتني عنه بشغف المحب، لقيمه، لطيبته ولتجذرّه مما ألهمني في كلمات التأبين.
لكني أذعن أن كل المؤشرات التي تجمّعت لدي الآن بتراكم زمني متباين، لم تكن حاضرة لديّ مجتمعة عندما كنت كاهن الكنيسة الكلدانية في دمشق. ففي يوم التشييع، وتحت هول المفاجأة، أقرّ أني كنت اجريت المراسيم، بنحو من كأنّ الغشاوة على عينيه: أمام حضور غير مألوف ومناسبة معقدة واستثنائية. وهنا تبدأ خاطرة الذكرى مع الشاعر الراحل حديثا عبد الرزاق عبد الواحد. فقد شاورني الشماس أركان ساعور الكنيسة، بعد قيامي بطقوس  التشييع، أنه لدى قراءتي للانجيل، كانت احدى الحاضرات مصرّة على البقاء جالسة برغم النظرات التي كانت تلاحقها. قلت للشاب اركان، دعهم يأتون الى صلاة الثالث وسنرى.

لقاءان سابقان مع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
________________________________________________
وكانت الذكرى هذه قد سبقتها مرّتان أخريتان رأيت فيهما الشاعر، الأولى في هلسنكي، في صيف 1981 إذ كنت ضمن مهمّة سياحية الى فنلندا، حيث كنا على مائدة أحد المطاعم، عندما حلّقت حواليه كالفراشات، مجموعة من الفتيات وعدد من العراقيين الزوار. ولما كنت لتوّي عائدا من الدراسة في الخارج، كانت من ثمّ الساحة الأدبية في العراق جديدة عليّ، وعندئذ فهمت أن عراقيينا، وهم المحبون للشعر والجمال والأدب،  ذهبوا اليه ليحيونه كشخصية أدبية معروفة.
أمااللقاء الثاني فكان خلال محاضرة ألقاها طالب الدكتوراه السيد خزعل الماجدي، عن المندائية في النادي المندائي بالزرواء، حضرتها مع الباحث الصديق الاستاذ سالم عيسى تولا. وعندما تلقى الباحث الشاب، سيلا من التعقيبات بلهجة تصويبية من جانب الوجهاء ورجال الدين  المندائيين، انبرى الشاعر الطيب، بالوقوف الى جانب السيد خزعل الماجدى، ليقول لهم ما مضمونه: ثمة حاجة، قبل ملاحظات التوصيب حتى في حالة تأسست على أرضية ما، ثمة حاجة الى الاشادة بجهود الباحث وغوره في تاريخنا المندائي، مما لم يطرقه الكثير من المعقبين. وأذكر أننا عندما غادرنا، عرض الصديق سالم عيسى تولا أن يقود السيارة أمامي وأنا أتبعه، حتى نخرج من الزوراء الى الشارع المناسب، فذهبت وراءه، حتى وصل الى تقاطع الشاكرية، المؤدي الى استعلامات القصر الجمهوري، فتوقف قليلا ليستدلّ وجهته، وفي هذا الاثناء، احاط به سرب مسلح من حراس القصر الجمهوري، ليطمئنوا إن كان يحتاج شيئا...

الشاعر عبد الواحد قارئًا لفصل كتابيّ في جنـّاز الصائغ
-----------------------------------------------------
وعودة الى مناسبة رحيل الصائع، فكانت قد حانت مراسيم صلاة اليوم الثالث. عندها كان لي بعض الاريحية مع ابرز الحضور، ومنهم الشاعر عبد الرزاق، فقلت له: سوف اقرأ الانجيل، خلال مراسيم القداس، وأود الملاحظة انه احترامًا للانجيل، فإن من يحضر مراسيم القداس، مطلوب منه الوقوف، إذا أراد البقاء في الكنيسة لحضور القداس، في إشارة الى تلك السيدة التي كانت جالسة فيما قبل. أجاب الشاعر بالقول: نعم افهم هذا وأرجو أن تطمئن أني سأتصرف بما هو مناسب. وعندما حان وقت قراءة كلام الله، كنت منتبها الى التفاصيل، منها ان السيدة، وكانت على ما توسمتها، شاعرة عراقية، بقيت جالسة، فالتفت اليها الشاعر عبدالرزاق بزاوية 90 درجة، وأشار إليها بإصرار هادئ أن تقف. لا اعرف ما قال لها، ثم عاد إلى زاوية مواجهته لقراءة الانجيل بخشوع واحترام، بعد أن اضطرها الى الوقوف، سامحها الله على ذلك الموقف.
وفي تنقلي بين سوريا وكندا، بقي عجبي ان من لا يقفون احتراما لقراءة إنجيلنا في العراق، بقوا كذلك في سوريا وكندا، كما شهدت ذلك في كالكري أيضًا. فهم مهما كانوا، وبالرغم من رهافة الشعر والحس الأدبي ومنهم من حملة الدكتوراه، كما الشاعرة المذكورة في دمشق، وجدتهم يتصرفون هكذا أيضًا، ليؤكدوا بهذه الطريقة أنهم يقصدون إظهار عدم الاعتراف بانجيلنا.
ولكن في الإشارة الى عنوان المقال، فإن المفارقة الرئيسة هي أني بتجليات المكان والزمان، رأيتني اطلب من الشاعر الكبيرعبد الواحد، وبدالة أبناء الخالة بيننا وبين الصابئة المندائيين أتباع النبي يحيى (الذي يقرنونه بشخص قديسنا يوحنا المعمدان ابن نسيبة العذراء مريم، برغم اختلافات في توصيفه مقارنة بما يعرف لدينا في حياته واستشهاده) أقول فقد وجدتني أطلب من الشاعر عبد الرزاق أن يقرأ القراءة الكتابية الاولى التي تسبق قراءة الانجيل، وهي في مناسبة الجناز تحديدا، قراءة من رسالة القديس بولس الأولى الى أهل قورنثية. فتفاجأ وقال: ولكني لم أعمل هذا في حياتي، فكيف اقرأها؟ قلت له: تقرأها كقراءتك لقصيدة، فكلمات هذه الرسالة مقاربة لقراءتك الجهورية عن ملحمة كلكامش، في وجدانيات البحث عن سرّ الخلود.
عندئذ صدح صوت عبد الرزاق عبد الواحد في كنيسة سانت تيريز للكلدان وهو يتلو كلمات بولس القائل:
فإن كان المسيح يُكرز به أنّه قد قام من بين الأموات، فكيف يوجد بينكم أناس يقولون بعدم قيامة الأموات؟...
فالآن قد قام المسيح من بين الأموات وصار باكورة الراقدين. وكما أن الموت صار بإنسان كذلك تكون قيامة الأموات بإنسان أيضًا. لأنه كما أن جميع الناس يموتون بآدم كذلك سيحيا جميعُهم معه بالمسيح....
وعندئذ وجدت ان كل شيء جاء على ما يرام، وأني بينت بمحبة ضرورة احترام كلمة الرب، وأن شاعر العراق عبد الرزاق عبد الواحد قرأ النص الكتابي وأبدع، فجاءت كلماتي، لدى التأبين، تخاطب الوجدان العراقي لمواطنيّ الحاضرين معي في الكنيسة التي تبعد بضعة أمتار من موضع عماذ المهتدي الكبير بولس الرسول، مزار القديس حنانيا، فقلت فيما قلت: نحن امام شاعر استطاع في وفاته هذه أن يجمع في هذه الكنيسة الكلدانية الدمشقية، أبناء العراق من مختلف انحداراتهم المذهبية، فنراه قد وحدّهم جميعا على كف قصيدة.
تلك كانت مناسبة فريدة وحيدة، غير معروفة عن قراءة ملهمة من أحد أسفار المقدس، قام بها الشاعر العراقي الكبير، المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد، وفاء لصداقته مع الشاعر المتوفى الصائغ؛ مفارقة سقتها اليوم وقد فارقتنا روحاهما كلاهما إلى العالم الآخر.

78
عن البطاقة الوطنية (1)
تحية الى أخي في الايمان والمواطنة، فرج محمد صليوا

"اذا تم الاقرار بأن الرجل الذي يملك سلطة مطلقة قد يسيء استخدام تلك السلطة عندما يقوم بظلم خصومه، فلماذا لا تكون الأغلبية معرضة لنفس الانتقاد؟
(من كتاب طغيان الاغلبية أ. توكفيل)

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
-----------------------------
مثل ما نلاحظ، يحمل فرج ضمن اسمه الثلاثي وسام جرح أصابه من أبيه عندما انجرف الى خارج بيته، فعاشر من دفعته الى أن يغير دينه واختفى. وكان فرج أحد أولاد (محمد) المرتد من المسيحية الى الاسلام، قد نال، كما هو مألوف، بركة المعموذية وهو طفل رضيع، وشبّ على التعليم المسيحي فتلقى المناولة الاولى للقربان المقدس، وجدّد مواعيد طقوس المعموذية والتثبيت، بأن كفر بالشيطان، واعماله وكل شروره.
وكنت قد تعرفت على الأخ فرج محمد صليوا، في ظروف القصف والغزو الأمريكي الذي انتهى بسقوط حكم شمولي، لتتوالى على العراق، حكومات محاصصة طائفية وضعت الغالبية الاثنية والمذهبية، بمثابة أغلبية ساحقة لدكتاتورية جماعية. وكنا نبحث عمن يصلح شبابيك الدار، غداة القصف العدواني، فلجأنا الى فرج، الذي كان يعمل في محل للزجاج في شارع تونس، مقابل كنيسة السيدة العذراء للسريان الأرثوذكس وبقرب ساحة النصر.

بحثا عن فرج
-----------
لست أعلم أين هو فرج الآن، ولعل الصديق ظافر (الذي كما أذكر دلّنا إليه في حينها) يساعد الان في أن نتواصل معه بمحبة عبر هذا المقال، على أمل أن يذيل فيه شهادته، إن أراد ذلك وبقدر ما تسمح له ظروفه حيثما يتواجد حاليا..
فلست أعرف إن كان قد غادر العراق، مع آله وبيته، عندما انفتحت أبواب الهجرة لحالات ليست أقل مظلومية من أحواله. ولعله وصل الى الدول ذات التراث المسيحي التي تحتضن الاقليات المذهبية، كما المضطهدين من كل الأديان، منهم المسلمين الهاربين من الإرهاب الديني والقهر والاضطهاد المذهبي والطائفي، مغادرين سوريا والعراق؛ بدون أن تظهر دولة عربية او اسلامية من الدول المقتدرة، لتدّعي كرامة استقبالهم والعمل على استقرارهم، وهم في بلدان انتظار صغيرة مثل لبنان والاردن.
ولا بد وأن فرج، إذا كان قد هاجر وقبلته دولة غربية، فعندئذ سيكون اسم الشهرة أو الأسم العائلي لأولاده، مأخوذاً من الإسم الثلاثي في جوازاتنا، فيصبح أسمهم العائلي:محمد. ومن ثم يصبح الاسم الكامل لابنه مثلا: شربل محمد، او اسم ابنته ريتا محمد... وعندئذ سليجأ إلى إجراء ديمقراطي تتيحه تلك الدول التي تحترم أقلياتها، كأساس لديمقراطيتها، فيعبّر عن حقّه في تغيير اسمه، ضمن معاملة تسمى (ليكال نيم شنج) أي التغيير القانوني للاسم. وبذلك يتخلّص أحفاد محمد صليوا أبي فرج، من الوصمة المتمثلة بفرض تسمية الشهرة عليهم لتكون (محمد)، بسبب اعتناق جدهم الاسلام: وهنا الوصمة بالطبع، هي في فرض الاسم، وليس في الاسم بحد ذاته، ويحمله الكثيرون من الطيبين، مع ولادتهم في بيئة هذا الاسم.

عند عبور حدود العراق: حالات من واقع فرج محمد صليوا
------------------------------------------------------------
لا اتذكر الاسم السابق لوالد فرج، وما فائدة ذلك، فهل يستحقّه؟ بل لعلّه تاب عن خطيئته، أمام ضميره وأمام الله والناس، بأنه لم يعتنق الاسلام إلا لأغراض الزواج، لعلّه إذن تاب فاستعاده، في بلاد الهجرة. فيقرر خارج العراق، غير ما اضطر إليه وهو تحت قانونه المذهبي الطائفي.
وهذا الشأن هو شأن شاعر عراقي كبير، المرحوم يوسف الصايغ، الذي عرف في العراق بأنه تحول الى الاسلام، بعد زواجه من امرأة غير مسيحية. فكان في أيامه الأخيرة خارج العراق في سوريا، وعندما توفي، كان اصدقاؤه وزملاؤه الشعراء ومعظمهم غير مسيحيون، كانوا أمام التوصية، بأن يتم تشييعه في كنيسة كلدانية، توصية عبرت عنها اسرة الشاعر الراحل (من الذين كانوا في الخليج وقدموا الى سوريا للتشييع) الى البطريركية والى مطرانية الكلدان. وهكذا كان راعي خورنة سانت تيريز وبتوجيه من البطريركية في بغداد والمطرانية الكلدانية في حلب، حاضرًا لتشييعه بحضور عدد من ذويه وعدد أكبر من المريدين والاصدقاء والمحبين، من مسلمين وغيرهم، وعلى رأسهم الشاعر الكبير الراحل عبد الرزاق عبد الواحد.
وهذا الشأن هو أيضا شأن ذلك الشاب، الذي ربطته علاقة بفتاة دليمية، فخرجوا من العراق، بأوراق المحكمة الشرعية، وحال وصولهم إلى برّ أمان، تقدمت (ز) مع خطيبها،  لتدخل دورة المتقدمين الى العماذ التي من أصولها التأكد أن الفتاة لا غصب عليها لاعتناق دين خطيبها، فإذا بها خلال دروس الدورة، تستبق الكاهن في الاجابة عما كان يشرحه من أسس الايمان بالمسيحية، لتؤكد بملء الفم: أجل عشقت خطيبي، ولكني عشقت ايضا دينه ودين الذي خلقه مسيحيا.
وهذا الشأن إياه كان مع الشاب الجنابي، الذي كان ياتي الى الكنيسة، خارج العراق، بخجل ولا يتقدم الى التناول، حتى علم راعي الكنيسة انه يريد ان يصبح مسيحيا، فتهيأ للعماذ ليستحق يد العراقية التي لم يكن يشأ أن يقترن بها في بغداد، فتحوّل دينها قسرا، بل هو الذي عشق دينها واعتنقه عن وجد (عن شغف).

وما حكاية فرج؟
--------------
وعودة إلى فرج: أتذكر الشيء القليل عن حكايته، ولعلّ أي قارئ صديق يعرف المزيد ويعدّل فيما أتذكره. فعندما شب فرج، لمس بعد أن ترك والده الدار لغير رجعة، ان الوالد أنكر دين آبائه لوقوعه في حب من لا يجوز لها شرعا أن تترك دينها إلا بحد السيف، فأسلم ليتزوجها. ولنا أن نتصور حالا كحال فرج وسواه، ممن بين ليلة وضحاها، وهو عائد، مثلا، من قداس أحد أو لقاء أخوية دينية، يجد نفسه على غير دينه، وهو لم يزل يعيش في محيطه واسرته وعشيرته وجيرانه.
وهنا بدأت المحاولات المستميتة، وعلى ما فهمت منه لتغيير هذا الواقع المجحف بحقه وبحقّ سائر اسرته، فحصل على تدخلات أبوية طيبة من مثلث الرحمة البطريرك مار روفائيل الأول بيداويد، في ظل النظام الشمولي السابق. ولأن الفساد كان مستشريا في ذلك الزمان ايضا، كما هو الآن وأكثر، فقد وصل الأمر بفرج الى اللجوء إلى التأثير بأي نفوذ متيسر، على ذلك النظام البيروقراطي في تسجيل الأحوال المدنية. وأخيرا عادت في سجل الأحوال المدنية، ديانة فرج من مسلم إلى مسيحي ثانية. ولكنه بقي يحمل اسم محمد؛ على انه كحالة تعويضية كان بكل شجاعة يقدّم نفسه بنحو معتاد، باسمه الثلاثي الكاشف: فرج محمد صليوا. ومن ثم كانت تتوفر فرصة توضيح ذلك.

ما أشبه اليوم بالبارحة
-------------------
أجل ايها العزيز فرج محمد صليوا وحيثما كنت، ها نحن، في هذه الأيام أيضا، نعود الى المربع الاول مع حكومة المحاصصة الطائفية، ليخرج لنا برلمانها بقانون يكرّس هذا الاجراء الذي طالما عانيتَ أنت منه وكافحت ضدّه، والذي ما هو إلا تدخل في شأن البيت المسيحي، وامتهان لحقوق الإنسان، وهو دعم قانوني من خلال هذا القانون المجحف، للطرف الخارج عن البيت بنزوة عشق، أو ما شابه، ليخرّب بيته مرتين، مرة بخروجه، ومرة بأسلمة القاصرين فيه وعدم توفر الفرصة المناسبة للطرف الباقي على مسيحيته، في الوفاء بعهود العماذ في تربية اولاده مسيحيا.
إن مثل هذا الإجراء يعود سببه إلى أن الحكومة العراقية غير قائمة على المواطنة ولا على توازن المجتمع المدني، بل على أساس المحاصصات الطائفية، وهذه إحدى ثمارها المتناقضة مع الديمقراطية الحقيقية المتسندة على أن الأقليات فيها تمتاز بالتمتع بأبسط حقوقها. فهنا نحن بالاحرى أمام تعسفية ودكتاتورية الغالبية الساحقة. وبموجب ما جاء في الجملة المأخوذة من كتاب طغيان الأغلبية الواردة في صدر العنوان،  بأن "الرجل الذي يملك سلطة مطلقة قد يسيء استخدام تلك السلطة عندما يقوم بظلم خصومه، فلماذا لا تكون الأغلبية معرضة لنفس الانتقاد؟"

الوضع الحالي للبطاقة الوطنية (العنصرية)
--------------------------------------
وإذا كان ما يثار حاليا وبشجاعة في هذا الشأن على المستويات الكنسية وعلى مستوى الجماهير المسيحية، فلا يحسبنّ الناس، أن كل يوم، يذهب لنا واحد أو واحدة يترك دينه، إن لم تكن تلك الشطحات التي تظهر بين الفنية والأخرى. ومن مفارقة التناقض في قانون البطاقة الوطنية الموحدّة أن ليس ثمة من يتاح له ان يترك إسلامه لأي سبب أو قناعة، كما سبق وأوردنا من أمثلة كاشفة، فسيكون عندئذ تحت طائلة أن يوضع عليه الحدّ، أي يدفع حياته ثمنا لذلك. أو يخرج من العراق ليتصرف بحريته الشخصية.
لكن يثار كل هذا، لأن كل حالة تحدث هي شرخ جديد في المظلومية، في إجراء ما هو الا من ثمار دفع المزيد من مسيحيي العراق الى الهجرة. فهل ثمة من يغير ما في النواب، ليصوتوا على خلاف ما صوتوا؟ كلا، بل هي المواقف الشجاعة لمجلس الطوائف ولبطريركية الكلدان، والتلويح بتدويل القضية، وطرحها كقضية رأي عام، أمام المحافل الدولية. على أمل أن يلتحق العراق بالركب الحضاري وبالديمقراطية التي تفتخر باحترام الاقليات، وتحت نظم يحكم فيها المجتمع المدني، تحترم الاختيارات الدينية ولا تفرض دينا على غيره، ولا تسن قانونا يغلّب دينا على غيره.

79

الإخوة القراء والمعلقين الكرام
الشماس الصديق عوديشو بولص المنّو المحترم - استراليا
شكرا للاعزاء المتصلين معي بالايميل، حول هذا الموضوع، وواضح كيف لا يتيسر التواصل الفوري لعامل الوقت، وقد طاب لي التواصل معهم سواء بالمراسلة او بالمهاتفة، بحسب ظروف تواجدنا والكل مسكون بمستقبل يجمع مسيحيينا ولا يغمط خصوصيتهم وتوجههم الرسولي.
وأود أن أبين كم كنت سعيدا بتسلم التعليقات بلغتنا الجميلة، تعبيرا وخطا، من كل من الاصدقاء قشو، متينا ومسعود، وسعيت جهدي أن اجيبهم بالطريقة نفسها، وأعدهم أني مع الوقت سأسعى الى المزيد بالتواصل بلغتنا الجميلة اللغة الام، الرب يبارككم
الشماس عوديشو المنو
وأود أن ابين أيضا في الختام بأني تسلمت رسالة طيبة من زميلي وفارس صفنا في التلمذة، الشماس عوديشو بولص المنو، وهو الذي يجمع قدامى التلاميذ في معهد مار يوحنا الحبيب، من شمامسة واكليروس. ضمن الشبكة الالكترونية. وقد تطرق العزيز عوديش، في الرسالة الالكترونية عن معلوماته ومصادره بشأن كرسي قطيسفون وساليق. فطلبت منه ان يكون ذلك في مقال مستقل باسمه وان يكون موضوع نقاش في المنتدى، ويكون حضرته المحاور الرئيس في النقاش. ولا بد وأنه حاليا يبلور المقال، وعسى ان لا يأخذ في طبخه الوقت الطويل... مع تذكيره مرة أخرى، انه كان الأول بيننا والاسرع في إجابات الامتحان وبتفوق... مع محبتي الدائمة
أخوكم المخلص
الأب نويل فرمان السناطي

80
الاخ الفاضل الاستاذ عبد الاحد سليمان بولص
تحية طيبة
شكرا لتعليقك على هذا المقال،  تقييما وتقويما. أما عن العلاقة مع الكرسي الرسولي، مع ضرورة التمييز في هذه العلاقة مع التعامل مع المجالس الحبرية، فهذا أمر يواجهه كما ألاحظ غبطة البطريرك، بقدر من الحكمة والواقعية، وقد حرك بهذا الشأن الكثير من المياه، ويبقى مفتوحا لمقالات تتصدى لهذا الواقع بإيجابية ومحبة.
مع محبتي وصلاتي
أخوكم
الأب نويل فرمان السناطي

81

ܐܚܘܢܐ ܚܒܝܒܐ ܩܫܘ ܐܒܪܗܡ ܢܪܘܝܐ
ܗܐܘܬ ܒܣܝܞܐ ܠܐܢܝܐܘܟ ܚܠܝܐ ܘܛܝܡܐܢܐ ܡܪܝܐ ܢܐܟܝܛܝܪܘܟ ܘܡܙܖ ܚܘܒܘܟ ܬܐ ܥܝܖܬܐ ܘܬܐ ܚܘܝܐܖܐ ܖܡܫܝܚܝܐ

ܬܲܘܕܝܼ ܐܲܚܘܼܢܵܐ. 
ܡܩܠܤܐ ܫܡܐܫܐ ܡܬܝܢܐ
ܘܗܐܘܬ ܒܤܝܡܐ ܠܡܠܘܼܐܘܼܟܼ ܛܢܢܐ ܘ  ܟܠܲܢ ܒܤܲܒܼܪܵܐ ܝܼܘܲܟܼ ܠܐܵܘ ܝܲܘܡܵܐ ܕ ܚܘܼܝܵܕܵܐ ܕ ܥܹܕ̄ܬܵܐ ܡܲܟܼ ܒܘܼܣܵܡܵܐ ܕ ܡܵܪܲܢ.
ܘܥܘܼܢܝܼܬܵܐ ܕ ܐܸܡܲܪܠܝܼ ܥܹܕ̄ܬܵܐ ܐܲܝܟܵܐ ܒܖ ܒܐܤܝܡܠܝ ܫܡܥܢܐ ܒܩܵܠܘܼܟܼ ܒܤܝܡܐ

ܡܫܡܫܢܐ ܥܙܝܙܐ ܡܤܥܘܕ
ܐܬܠܝ ܗܡ ܐܢܐ ܩܘܒܠܛܝܒܘܬܐ ܪܒܬܐ ܡܢܘܟ ܠܬܢܝܬܘܟ ܒܤܝܡܬܐ܀ ܐܠܗܐ ܒܪܟܠܘܟ ܘܢܛܝܪܘܟ ܒܕܝܡܘܬܐ ܀
ܥܡ ܐܝܩܪܝ ܘܚܘܒܝ
ܫܠܡܐ ܕܡܪܢ ܐܡܘܟܢ ܟܠܘܟܘܢ
ܐܚܘܢܘܟܢ ܩܫܝܫܐ ܢܘܐܝܠ ܦܪܡܐܢ

82
ملف بحثي:
لعل التقاطعات باتجاه الكنيسة الكلدانية، إدارية وسياسية أكثر منها قومية وعقائدية
بقلم الأب نويل فرمان السناطي
___________________

تساؤل ليس للتبرير، بل يتوخى واقعية البحث عن تفسير. فقد طفت مؤخرا على السطح وبنحو علني، بين بعض كنائسنا من الشرق الاوسط تقاطعات، منها ما هو غير مسبوق وعلى مستويات مختلفة. يبحث هذا المقال، في ما قد يحسبه عموم المؤمنين، اختلافا يرجع الى الجانب الكنسي أو العقائدي، في حين أنه قد لا يكون في الغالب الا حواجز تضعها  الرئاسات الكنسية، كدفاعات لخصوصياتها، واحتماءات على حساب الوحدة في الايمان، أمنية الرب الكبرى. وما يجلب الشكوك أكثر أن ذلك قد يحدث ايضا بين الكنائس الطقسية الكاثوليكية، عندما توضع في مدن نائية لبلدان الشتات، تحديدات هي إدارية أكثر منها أسرارية، على غرار ما هي عليه في الرقع الجغرافية والكتلوية الأكبر في الوطن الأم. هذا الأمر تجاوزته أبرشيات الكنيسة الجامعة منذ عقود، حيث تضمّ الأبرشية الواحدة عشرات الخورنات وتتعامل بانسيابية مع كنائس طقسية عديدة.

مع الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية
_____________________________________
أما هذا المقال فيقتصر على الموقف من الكنائس الرسولية الشرقية التي أعادت الشركة مع الكرسي الرسولي مع شقيقاتها الشرقية في الجذور الكنسية، والتي ما زالت مستقلة عن روما؛ ويتناول تحديدا طبيعة التعامل في المسار الوحدوي بين الكنيسة الكلدانية وكنيسة المشرق الآشورية. فالأمل المسيحي هو أن يبقى ثمة مسار وحدوي، ينفتح إلى ما يستجد من ظروف؛ وليس مجرد تداول ما درج على تسميته دبلوماسيا، تعاملات الأخذ والعطاء. خصوصا وأنه ليس ثمة، بفضل الرب، جدار عقائدي إيماني عصيّ لا يمكن تجاوزه. فأن يكون الخلط بين المسألة الكنسية الإيمانية وبين مسألة الانتماء الثقافي واللغوي والقومي على قدم وساق من المقارنة، فهذا بات أمرًا قد يحتاج الى التوقف والتفحص الواقعي الدقيق والمحب، يتبيّنه عموم أبناء هذه الكنائس ، فينظروا بعيون الرحمة وبقلوب من الإيمان والرجاء، إلى كبار سياسييهم واكليروس كنائسهم، ويتبصروا مسار إيمانهم، على مستوى الرعية او على مستوى الأفراد في الرعية.

اللغة وعامل البقاء: كنائس شرقية بطقوس عربية
_____________________________
الكنائس التي باتت عموما تتبنّى اللغة العربية في طقوسها، كالكنائس القبطية والملكية وعددا من الكنائس الانطاكية، الكاثوليكية والأرثوذكسية، أصبحت في بلدان الانتشار تواجه التحدّي في تشتت أبنائها والذوبان في الكتل الكبرى. فأخذوا يشجّعون تعليم اللغة العربية للأجيال الجديدة، وكذلك يترجمون الخصوصيات الطقسية الى اللغات المحلية وبنكهة شرقية تتفاوت الآراء في مدى استساغتها. كما تتفاوت الرؤى والتساؤلات، لدى الكنائس الارثوذكسية، والحال ذاته لدى الكنائس الشرقية الكاثوليكية، بشأن عدد الاجيال التي يمكنها ان تتحمل مستقبل البقاء قبل الذوبان في المحيط الغالب. أما الكنائس الارثوذكسية منها، فلا بدّ أنها تحسب الحساب لهذا العامل، ضمن الخطوات المسكونية التي تخطوها لأي مقاربة في الوحدة مع الكنيسة الجامعة أو الكنائس الاخرى، لما لذلك من تأثير على جماعاتها المغتربة.
إعادة الكرسي البطريركي إلى الوطن مع قداسة مار كيوركيس الثالث صليوا
____________________________________________
وعليه فإن الخطوة التي خطاها المجمع المقدس لصالح الأشقاء في كنيسة المشرق الآشورية، لجعل الكرسي البطريركي في العراق، تعدّ خطوة ثورية وشجاعة بامتياز؛ واذا حسبناها كما هو مرجح، كاستجابة الى أنفاس الراحل الكبير البطريرك مار دنخا الرابع، فلن يمكن عندئذ تفسيرها كخطوة مرحلية مفصّلة على مقاس البطريرك الجديد قداسة مار كيوركيس الثالث صليوا، الذي كان كرسيه الأبرشي أصلا في بغداد. أكتب هذا مستذكرا مقطع حديث تلفزيوني، لمثلث الرحمة مار دنخا، عندما خاطب عوائل رعيته، يحثّهم على استخدام اللغة الام في البيت وإلا ما عليهم ان يتوقعوا بأن يتعلمها اولادهم بمجرد ارسالهم مرة في الاسبوع الى الكنيسة لتعلم اللغة. كلمات كانت بمثابة جرس انذار بأن حتى الكنائس ذات الخصوصية الطقسية واللغوية والمستقلة عن روما، مدعوة إلى التحصّن أمام الذوبان في الكتل العملاقة للعالم الغربي. ناهيك عن أن أولئك الذين، عندما تكون الكنيسة الكلدانية، في بلدة غربية ما، هي الكنيسة الوحيدة في المنطقة وتقيم طقوسها باللغة الأم، يذهبون الى الكنائس التي تقيم الصلوات والقداس بالعربية، لمجرد أنها غير كلدانية، فإنهم بذلك إنما يعجلون في الذوبان المذكور. وفي كل حال، وبنحو عام، تبقى حضارة التراث واللغة والخصوصية القومية هي اساسا ابنة ارضها الاصلية. فألف مبروك لإعادة كرسي ساليق قطيسفون إلى دياره الأصلية. وأطيب الأمنيات لقداسة البطريرك الجديد مار كيوركيس الثالث صليوا، الذي تشرفتُ بأن عرفتُه في بغداد، عندما كنا نزوره من قِبل مجلة الفكر المسيحي، وكان يستقبلنا بطيبته ودماثته وتواضعه، وكان يقدّم لنا الاسناد الالكتروني الفنّي بمهارته المتفردة؛ فكان قداسته، هو الذي يصلح لنا الصور القديمة عن قرانا الشمالية، لنشرها ضمن باب (بين الماضي والحاضر). وكان آخر لقاء لي مع قداسته في شيكاغو لدى تشييع خلفه البار مار دنخا الرابع.
الكنيستان الشقيقتان، المشرق الاشورية والشرقية القديمة

بين نعمة صون الايمان وبين الشأن التسموي
___________________________
التحدّي الذي تواجهه الكنائس الطقسية المستقلة (غير الكاثوليكية) يبقى بالطبع مرتبطا بمحافظتها على وديعة الايمان ككنيسة رسولية. وهذه نعمة من وعد الرب بأن يكون معنا مدى الازمان. وفي أزمان التحدّيات والاضطهادات والمطالبة بالحقوق العادلة، ثمة توجهات لدى الكنائس، لا تخلو منها الكنائس البطريركية الكاثوليكية، بموجب تلك التوجهات تقوم الرئاسة الكنسية -وليت ذلك يبقى على مستوى الرئاسة الكنسية- برعاية الجانب القومي بمختلف أبعاده اللغوية والثقافية والاثنية، وتتعامل مع العناوين السياسية في إطار توحيد الرؤى والخطوات المشتركة. وفي المبدأ يكون ذلك لحين استقرار الشعب المؤمن من ناحية حقوقه  في الجوانب الاثنية وصفات المواطنة في بلد متحضر يحترمها. عندئذ يتفرغ المزيد من المجال للكنيسة في الاضطلاع بعيش البشرى السارة والشهادة لها. ومع هذه المهمة المضاعفة الشاقة على عاتق الرئاسة الكنسية، يكون التحدّي، ببركة الرب، في صون وديعة الإيمان، على حساب التأثـّر بالكتل القومية والسياسية المتنفذة من أبناء شعبها.
وهنا ايضا يتمجد الرب بالطوبى لكنيسة المشرق الاشورية، إذ تحمّلت مهامًا دينية ومدنية، فيما مضى من عهود، وبرغم عاتيات الدهر، بقيت تحتفظ بأصولها العقائدية، وسلامة التقليد الرسولي، بحيث كانت على قدم وساق من التباحث الكريستولوجي مع الكرسي الرسولي في نهاية 1994. والشيء بالشيء يذكر، فإن الكنيسة الشرقية القديمة، وبرغم ظروف وحساسيات انفصالها عن كنيسة المشرق في بحر الستينيات، ها هي تحتفظ برونقها العقائدي.

خطوة الكنيسة الشرقية القديمة
__________________
ولا نحسب ان الشأن القومي والثقافي وحقوق ابناء الكنيسة في ظلّ الاضطهادات والتهجير كان غائبًا، حاشا، عن الكنيسة الشرقية القديمة، بما عُرفت به من تعامل محنـّك مع الجوانب السياسية. ولكنها أيضا زادت وأكدت، بموجب بما عرفنا من خطواتها، بجعل الأولوية القصوى في الحفاظ على الخصوصية العقائدية والرسولية للكنيسة المنفتحة مع رسالة الانجيل للعالم كلها. فمع أنه معروف عنها حفظ الاعتبار للخصوصية القومية لشعبها فقد طلبت، على وفق ما تداولته وسائل الاعلام والتصريحات جملة وتفصيلا، طلبت أن يرفع الاسم القومي من التسمية الكنسية، في حالة الوحدة الاندماجية بينها وبين كنيسة المشرق الشقيقة.
ومن السهولة جمع هذا الرأي المسيحي والانجيلي منسجما مع الحرص على الخصوصية القومية، وتفسيرهذا الرأي بتاريخية اسم كنيسة المشرق وامتياز حيازتها على هذا الاسم جغرافيا وثقافيا وقوميا لخصوصية كونها كنيسة المشرق التي بشرت بالمسيحية حتى الصين وأبعد. هذا الشرط، إن صحّ ما تلقينا من مفرداته لم يغمط، إذَن، الخصوصية القومية المعروفة لشعب الكنيستين الشقيقتين.
ولأننا شعب رجاء، ومسار الوحدة المسيحية هو دعوة مفتوحة، نترك لرؤساء الكنيسة الأجلاء، ما قدّروه من زواياهم، من أن الخطوات الموضوعية لم تكتمل بعد، حتى، بمشيئة الرب، تتوفر يوما فرصة تاريخية لإعادة اللحمة بين الكنيستين الشقيقتين.
وعلى المستوى عينه من الانبهار بوديعة الايمان المصانة في كنيسة المشرق الآشورية، لا بدّ وأن لها حكمتها في المناداة بخصوصيتها الآشورية ضمن ثلاثية التعلق بالكنيسة وبالمسيحية؛ ولا بدّ وأنها ترى بترفع أبوي، بعض تطرّفات السياسيين، أغلبها قد يكون من باب الشغف الانتمائي، عندما ذهبت تلك التطرّفات، الى ان تعدّ آشور اسمًا مرادفًا لله؛ بدليل أنه، ولئن لم نسمع الرئاسة الكنسية تستنكره، فإن ذلك لم يأت يوما على لسان أحد رجال الكنيسة من حيث التفسير أو التأويل.
على أنه من الملفت، أن رجال السياسة والاقلام القومية، لإخوتنا في كنيسة المشرق الاشورية، بقوا يحتفظون بمسافة واحدة مع الرئاسة الكنسية، والرئاسة الكنسية تبادلهم الموقف. حتى ليحسب البعض، من فرط عدم التقاطع، ان كلا من الجانبين يمشي في طريق موازِ؛ ويتهيأ للمرء، أن ثمة بالأحرى "كونغرس ظِلّ" بينهما يجمعهما على ثوابت متفق عليها، بحيث لا يكاد اي الجانبين يحيد عنها. باستثناء واحد ان الجانب الكنسي، يعلن اصطفافه القومي، لكن الجانب السياسي الليبرالي واللاديني، لا يعلن اصطفافه الى الجانب الكنسي.

الكنيسة الكلدانية، الخطوات الوحدوية وما قابلها من الجانب الشقيق
تساؤلات حول رفضهم تسميتنا المشتركة (كنيستـَي المشرق الكلدانية والآشورية )
__________________________________________________
وتحضرني مفارقة بشأن تسمية "كنيسة المشرق" تعود بي إلى منتصف التسعينيات. كان ذلك في أعقاب الاتفاق العقائدي المسيحاني- الكريستولوجي بين الكرسي الرسولي في روما، وكنيسة المشرق الآشورية نهاية عام 1994؛  حينها انطلقت تباشير وحدة موشكة، وبخطوات طيبة متبادلة من مثلثي الرحمات، مار دنخا الرابع ومار روفائيل الأول بيداويد. فبادر كاتبان، احدهما من الكنيسة الشقيقة، والآخر من الكنيسة الكلدانية، كاتب السطور، إلى تحرير مقال يستوحي في عنوانه التقارب بين ما سميناه، كلانا: كنيسة المشرق الكلدانية وكنيسة المشرق الآشورية، وهي العبارة التي على ما أذكر كانت محببة لدى الراحل الكبير ورائد التقاربات الوحدوية، الأب يوسف حبي. فتصادف وأن عرضتُ المقال، بسرور وفخر، الى مرجع كنسي حبري من الكنيسة الآشورية، وعندما وقع نظره على العنوان، قال بدالة وأبوّة وبأدب جمّ: كنيستنا هي كنيسة المشرق، قلت له: نعم سيدنا، هي كنيسة المشرق الاشورية، وكنيستنا كنيسة المشرق الكلدانية، فأجاب سيادته بابتسامة ودّية وبنحو لم يجرحني حقا: كلا، فتسمية كنيستكم هي الكنيسة الكلدانية وحسب. وكان ذلك التعامل درسًا بليغًا مفادُه: اختلف معك، تختلف معي، في هذا النحو أو ذاك، ولكن لِتبقَ المحبة فوق كلّ شيء.
تبيّن لي، من تلك المفارقة، ان هذه كانت القناعة لدى إخوتنا في الكنيسة الاشورية، من مؤمنين إلى أعلى المراجع: فيما يخصّ جذور كنيستي الاولى من بلاد بين النهرين التي ارتبط اسمها بالمشرق، تيمّنا بالنجم المنبلج من المشرق واهتدى بنوره ملوك المنطقة إلى ملك الملوك؛ فهل لو كنتُ قبطيا، واصبحتُ قبطيا كاثوليكيا، يقال لي لم تعدْ قبطيا من مصر. وبقي السؤال يراودني، ولم أجد له جوابا: ما الذي يا ترى يجمعني من جذور مشتركة في التسمية الكنسية، مع إخوتي في كنيسة المشرق الآشورية، اسوة بالارمن والسريان والروم والاقباط والاريتيريين، ممن تميزوا عقائديا بكاثوليك وأرثوذكس. الخشية أن يُقصد من هذا الرفض بأنه يطال الصفة الكاثوليكية للكنيسة الكلدانية وأنها لا تؤهلها لأن تحمل التسمية المشتركة، ككنيسة مشرق كلدانية. هذا الموقف كان في بحر التسعينيات، ولا نعلم إن كان ثمة اي تطور استجدّ بشأنه.

ردّ الأشقاء على الخطوتين التاريخيتين للبطريرك مار لويس ساكو:
=============================================================
1- شروط قومية في طريق الوحدة الكنسية
______________________________________
كان لا بدّ من مخاض صعب، يخرج فيه الكلدان، كنيسة وشعبا، بالقناعة أنهم أحاطوا الآن بمجمل السبل المنطقية والواقعية، التي تعشّموا أنها تؤدّي الى الوحدة المسكونية الروحية بين الكنيستين الكلدانية والاشورية، أمنية الرب، وكانت من ثم في أول سلم اوليات النهج المسكوني الوحدوي. وأمام هذه الأولوية، سعى البطريرك ساكو، كما لاحظ المراقبون، إلى أن يمهّد الكثير من العقبات النفسية والاجتماعية والثقافية، وصولا الى وضع الجانب الاثني القومي في مرحلة لاحقة. فكان المخاض صعبا بنحو مزدوج، من داخل محيط الكنيسة الكلدانية ومن خارجها.
وكانت الزيارة التي قام بها غبطة مار لويس إلى قداسة البطريرك الراحل مار دنخا الرابع في شيكاغو، في حزيران من العام الماضي 2014. وهنا أيضا يأتي الجواب الى المبادرة الكلدانية نحو الوحدة في جلسة حوار ودّي، وعلى مائدة تقاسم طعام المحبة، بأن الوحدة الكنسية، يجدر تأجيلها حتى تحصل الوحدة القومية بين شعب الكنيستين؛ ولم يردْ أي جواب للتساؤل الذي مفادُه ان المسيحية في بلاد بين النهرين، انفتحت الى اقوام متنوعة. لقاء معروف أشبعتْ مختلف الجهات، جوانب كثيرة منه سواء بالبحث والكتابة او بالصمت البليغ.

2- تراكمات ثقافية امام وحدة الكرسي البطريركي
_______________________________________________
وعودة الى ما سمعنا من مقترح الكنيسة الشرقية القديمة، برفع الاسم القومي من الكنيسة الرسولية، كخطوة الى الوحدة، مع كنيسة المشرق، فإن الكنيسة الشرقية القديمة، تكون قد تقاربت بذلك المقترح مع مبادرة بطريرك الكنيسة الكلدانية مار لويس ساكو، كسابقة تاريخية، والمتعلق بوحدة المجمع المقدس مع كل من كنيسة المشرق والكنيسة الشرقية، حين عرض التنازل عن الكرسي، ضمن تمييز للمسار الروحي المشترك بين الكنيستين والكنيسة الجامعة، عن الخصوصية القومية لمؤمني هذه الكنائس؛ وجاءت اجابات الاعتذار من جانب كنيسة المشرق، بأن تمحورت على حصيلة التراكمات الثقافية والتراثية بين الكنيستين. ولعلنا نستطيع تفسير هذا السبب بكونه ادرايا وسياسيا، وأنه أبعد ما يكون عن العقائدي، أو أي سبب قد يكشف سرّه الزمن القادم. ولنا أن نفهم من ثم ان ما وضع من شروط على الكنيسة الكلدانية في الوحدة، ليست شروطا تعجيزية بل طريقة للحفاظ على خصوصيتها وعلى منجزاتها وما تراه من امتيازات شخصية وادارية متراكمة؛ ويعيد السؤال طرح نفسه: ما الذي سعت كنيسة المشرق إلى تحاشيه، من دخول الكنيسة الكلدانية في الوحدة معها حفاظا على خصوصيتها؟ سؤال يترك للتاريخ.

البطريرك الكلداني يفصح عن دوافعه الوحدوية
____________________________________________
هذه خلاصة لموقف مار لويس ساكو من مبادرته ومن الردود بشأنها، مأخوذة من مقابلة غبطته مع قناة المخلص الفضائية الكلدانية (https://www.youtube.com/watch?v=tQpimhzNzs8).
دوافع المبادرة:
في إشارة الى الشعب المهجـّر والى العراق والمنطقة التي تفرغ من المسيحيين، وتناقصهم من كل الكنائس في النسبة والتناسب، فيما بينهم وما بين سائر مواطني العراق، أكد مار لويس الى أننا أمام هذه الظروف الاستثنائية : اذا اتحدنا ككنيسة واحدة نكون اقوياء، وعندئذ ايضا يمكن للشعب أن يتفق على تسمية متفق عليها، وبلا انغلاق. وتلقى البطريرك ما جلبته له مبادرته من استخفاف، حتى على المستوى الأسقفي في الكنيسة الشقيقة، بأن أشار أنه ليس أفضل من يسوع الذي "نعتوه ببعلزبول". واضاف انه في خطوته يستمد التآزر من كل اساقفة الكنيسة الكلدانية و"أنهم على خط الوحدة؛ اذا الاخرون مدّوا يدهم، نحن نكون كنيسة واحدة". واستند غبطته في مبادرته، على قاعدة مسيحية رصينة، قوامها ولله الشكر، أننا: " في شركة إيمان واحدة". ، مشيرا الى البيانات اللاهوتية من أعلى المرجعيات.  ويعزز غبطته هذا المبدأ بدليل "حوار الكنيسة الشقيقة مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، بأن كل هذا ليس إلا بنية صادقة من أجل الوحدة".
ولم يقلل مار لويس روفائيل الأول، في الوقت عينه، من أهميّة ما طرحه إخوتنا في الكنيسة الاشورية من ملاحظات تعيق الوحدة، بقول غبطته بأن قد: تكون هناك صعوبات في التقاليد والطقوس والادارة والاتفاق بين المجامع المقدسة... على أنه يضيف: "بارادة سليمة وصحيحة ومسيحية ممكن أن نتّحد  ونطلب من كنيسة روما ان تحترم صلاحيات البطريرك والسينودس في ادارة الكنيسة المحلية والسينودس" مشيرا الى أن "الكنيسة مع البابا فرنسيس تشجع هذا الاتجاه... وعلى مستوى كنائس الشرق الأوسط."
وقارن مار لويس عدم التمسك بالكرسي الزائل أمام ما حمّلنا الله من  "مسؤولية كبيرة اذا شعبنا تبعثر، بعد اجيال، ويذوبون في مجتمعاتهم"؛ مؤكدا على أهمية الوحدة الكنسية على الأرض الرافدينية، بقوله: "هويتنا جزء من الارض والارض جزء من هويتنا. وأن الغيرة تدفعنا من اجل الوحدة، إذ سيقول يسوع: انا صليت من اجل الوحدة وانتم رفضتم الوحدة."

                             لعلّها دعوة ضمنية من الاشقاء للاهتمام بالبيت الكلداني، روحيا وقوميا
                             _____________________________________________________________________
بعد ما سبق ذكره، تتبادر إلى الذهن هذه الأسئلة:
هل يقتنع الإخوة أبناء كنيسة المشرق الآشورية، بأنه لا تمكن ان تكون لهم الوحدة مع مؤمني الكنيسة الكلدانية، لمجرّد أن هؤلاء كلدان، وأن كنيستهم آشورية؟ وأمام كونهم يشتركون بوحدة الإيمان؟
أما يُشتمّ من هذا الموقف أن يكون سببه سياسيا وإداريا؟ وإلى أي حدّ قد يتحمل السياسيون جانب مسوؤلية أمام ضمائرهم؟
إلى أي الحدود يمكن لكنيسة المسيح أن تمضي في التماشي مع الخط القومي والسياسي؟
ومع كل هذا وذاك، فالرجاء كل الرجاء ان الرب يبقى مع كنيسته ويحمي فيها جوهرة الايمان، بالرغم ما تمليه عليها خصوصيتها وظروفها الضاغطة، بحسب ما يرى المراقبون، من عزلة تجاه الشركة الكنسية.
مما سبق ذكره، يعتقد كاتب السطور أن مواقف الكنيسة الآشورية، إزاء خطوات الكنيسة الكلدانية الوحدوية جملة وتفصيلا،  توحي بكونها ضمنيا وبنحو غير مباشر، دعوة أخوية ودّية للاهتمام بالبيت الكلداني، كنيسة وشعبا؛ وثمة جملة مؤشرات في مواقف كنيسة المشرق الآشورية:
- يُطلـَب منك التخلي عن الوحدة مع الكرسي الرسولي، حتى تتأهل لأن تحمل اسم كنيستك الاصلية كنيسة المشرق. فمنذ متى كان الانسان مضطرا للتخلّي عن فكر أو معتقد بدافع من خصوصيته القومية؟
- يقال لك: لا تمكن الوحدة الكنسية، بل ينبغي للشعب ان يتحد. ولا تستغرب لاحقا، إذا جاءت شروط الوحدة الشعبية بنحو مفروض أحاديًا.   
- أمام عرض بطريركك التنازل عن كرسيه البطريركي في سبيل الوحدة الكنسية، يتبين من الجانب الشقيق أنه لا يكفي للاندماج بين الكنيستني، ان تبرره وحدة الإيمان، ولا الظروف الحالية القاهرة، بل إن الاختلافات التراثية والطقسية والثقافية متراكمة بيننا.
وكخلاصة وبفصيح القول، فإن تقدمك الى الوحدة الكنسية يملي عليك: التخلي عن الشركة الكنسية مع الكرسي الرسولي، أن تتبنى الخط القومي لشعب كنيسة المشرق الآشورية.

الكنيسة الكلدانية والرابطة الكلدانية
_______________________________________
والحال، إذا كان ثمة توجه إعلامي قومي متميّز ومتمرّس في شعب كنيسة المشرق الآشورية الشقيقة؛ فإن المؤشرات تبيّن أيضًا ان الكنيسة الكلدانية لم تفتقد إلى المنظـّرين في المجال القومي، في وسط الباحثين من اكليروس وعلمانيين؛ ولكن لمدة طويلة وضع الموضوع في المرتبة الثانية، إن لم يكن قد رُكن جانبا، وذلك لاعتبارات مسكونية ووحدوية طيبة النية من قبل الكنيسة الكلدانية.
ولكن مع الوقت تحرّكت الاستقصاءات بشأن التنظير القومي، بحيث لم يحصر المنظـّرون، تكوّن الخصوصية الكلدانية في حقبة كاثوليكية محددة للكنيسة الكلدانية، بل ذهب التنظير والبحث الى ابعد من ذلك؛ وفي كل حال، لن يمنع شيء الاختصاصيين، سواء من الأطراف العلمية المحايدة، أو من محبّي وحدة أبناء الكنيستين، من أن يبزّوا بعضهم البعض بالحجة والبرهان والمراجع والمؤلفات.
على أن التضحيات من الجانب الكلداني، كانت بأن التنظير القومي للباحثين، ولمدة طويلة، جعل التناغم مع الكنيسة الكلدانية، ولكثير من الاعتبارات المذكورة، دون الحدّ الأدنى. فقد أدّى إلى شيء من تخلخل العلاقة بين العلمانيين الباحثين والكنيسة. هذا التخلخل في العلاقة، حجب عنهم الالتفات إلى أن رئاستهم الكنسية لم تنكر كلدانيتها، كما لم ينتبهوا إلى الضلوع الشخصي لرئاساتهم الكنسية، بطريركا وأساقفة، في عراقة الكنيسة الكلدانية مسيحيا وقوميا.
ومن المعتقد ان ظهور تجربة الرابطة الكلدانية، هو ضوء أخضر من الكنيسة للاضطلاع في شأن البيت الكلداني قوميا وثقافيا. ولا بدّ أن الحيادية المعلنة بين الكنيسة والرابطة، ستصل مع التمرّس وطبيعة النتائج، إلى تقويم تجربة الإرشاد الروحي الكنسي فيها، وأي إرشاد روحي هو مطلوب لها.

خاتمة
_____
كانت هذه أخي القارئ الكريم، محاولة بحثية متواضعة، لتناول عنوان هذا المقال، بنحو يخاطب فيه كاتب السطور احبة سامرهم وكاتبهم وزاملهم، ولسان حاله يقول: لقد التحقت بكهنوتي من زمن، وبتوجه كنيستي وشعبها الكلداني، وإن مساري توصّل الى استخلاصات قد تتقاطع مع قناعاتكم أنتم حتى الوقت الحاضر. فإن كنتم سياسيين في الخط القومي فهذا خطكم، واحترمه. وان كنتم من هذه الكنيسة أو تلك، فمبروك عليكم تمسككم بها مع تمسككم بأحلامكم الوحدوية؛ وللذين منكم هم من  كنيسة الكلدان فلا أحد من أقرانكم سيطلب منكم مغادرتها، لمعرفتهم قبل غيرهم بأن كنيستنا الكلدانية الكاثوليكية تحتضن مع شعبها الكلداني، قوميات متعددة ولغات وثقافات شتى.
أجل يا أحبة، في هذا المقال شاركتكم ببعض ما تمخض لدي من قناعات، وهي بهدي من القناعات التي تحوز على جل الاهتمام من لدن أحبارنا، اساقفة وبطريركا، في كنيستي ذات الشركة التامة مع الكرسي الرسولي وفي من اختار هذه القناعات من شعبها الكلداني.

ملاحظة:
______
مع امتناني لموقع  البطريركية ولموقع عنكاوا لنشر رأيي في هذا البحث، أرجو أن يسمح لي أن أورد الملاحظة الآتية:
نظرا لأنه يتعذر علي،  لظروف قاهرة، التداول المتواصل على صفحة الموقع، فإني في المعتاد الجأ الى المخاطبة الشخصية والمراسلة بالايميل، بشأن المداخلات والاراء وكل اصحابها احترمهم وأقدرهم. مع محبتي الدائمة.
الأب نويل فرمان السناطي
nfhermiz@yahoo.com

83
المؤسسة البطريركية الكلدانية في سنتها الثالثة:
ملف النقاط الساخنة

بقلم الاب نويل فرمان السناطي


مع الوقت قد تتكون لدى الكثيرين رؤية شمولية لمسار المؤسسة البطريركية؛ رؤية لها أن ترتفع فوق بعض التفصيلات والمماحكات مما قد يتوهم البعض ان يكون حصرا الصورة التي تغطي كل شيء. هذه محاولة تقديم ملف، حتى يتاح للقراء الكرام الاطلاع على الجوانب التي تلفت انتباههم فيه، مما سمي بالنقاط الساخنة في مسار هذه المؤسسة وهي قريبة من إكمال سنتها الثالثة.

لقاء باريس
ما حث على كتابة الموضوع هو الانطلاق من لقاء باريس الذي، بصرف النظر عما نشره الموقع البطريركي من متابعة خبرية طيبة وما صدر عن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، فإنه عموما قوبل بصمت لعل سببه الذي نبحث عنه بحسن نية هو انشغالات الحياة اكثر من اللامبالاة إزاء ما يتحقق؛ فثمة حاجة إلى أية ومضة تنعش روح الرجاء، خصوصا أن المراقبين يعوّلون على الامل المرتجى من لقاء باريس الذي يعدّونه مميّزا ويقارن بلقاء مجلس الامن في نيويورك.
وإذا قلنا "المؤسسة البطريركية" فهذا يضم بطبيعة الحال غبطة البطريرك ومحيطه في الدائرة البطريركية وسائر تراتبية الابرشية البطريركية، والابرشيات الكلدانية في مقدمتها التي في العراق، بما تنجزه من انشطة روحية و إنسانية واجتماعية وثقافية، والتحرك الذي يجرونه سواء في الداخل أو في الخارج، مما يحظى بالالتفات؛ وغالبا ما تكون الجاليات والأبرشيات في الخارج بمثابة الاطار الذي يحتوى تلك الزيارات أو يستقبلها. والمؤسسة البطريركية هي ايضا ما تضم من كهنة في الابرشية البطريركية وفي ابرشيات العراق وكردستان العراق، وما يقومون به في ظروف القرن، من أعمال معظمها محتجبة ولكنها بطولية.
وعودة الى لقاء باريس، يأتي في المقدمة ما نلمسه من موقف حميم للكنيسة الفرنسية، يستمد جذوره من الوجود المسيحي الفرنسي في العراق من جهة، ومن جهة أخرى ما لقيته فرنسا من تأقلم طيب لدى الجماعات المسيحية من الشرق الاوسط. فكما عرفت فرنسا لزمن، راعية للحضور المسيحي اللبناني في الشرق الاوسط، خصوصا في أزمنة الشدّة، لعلنا نجدها تؤدي هذا الدور مع مسيحيي العراق، ليس من موقع فوقي بل بمشاركة وجدانية للقيم والنهل من العمق الروحي لمسيحيي الشرق؛ وقد يكون ذلك ايضا نوعا من التعويض لما أخذت، بلاد الغال، تفتقده في الجمهور الفرنسي من المدّ العلماني الراديكالي ضدّ الكنيسة الذي تفشّى باوربا، وما لقيته من لدن بعض مهاجري الشمال الافريقي من تطرف ديني بنعرة انتقامية من مستعمر الامس. كل هذا يدعمه ان الوجوه الكلدانية في المؤسسة البطريركة من العراق وسوريا ولبنان وايران، لم تكن غريبة على المجتمع المسيحي في هذه البلاد ولا على شعبها الفرنسي؛ هذه البلاد التي تعرف فيها ايضا آلية إعلامية عالية التقنيّة، تحسن تسويق الأحداث كنسيا وشعبيا ولها نفوذ يكاد يكون خطيرا في طريقة اختيار النجوم وصناعتهم وتسويقهم سلبا أو إيجابًا.
ومن المعروف ايضا ما لفرنسا بين الأمس واليوم من مؤسسات رهبانية فرنسية أو ناطقة بالفرنسية، للكرمليين والدومنيكان واليسوعيين والمخلصيين. ومن معظم هذه المؤسسات خرج أحبار كان وما زال لهم تواجدهم الفاعل في فرنسا والبلدان المحيطة واوربا. التواجد السابق للشخصيات الكنسية الكلدانية، تكثف عندما  تبوأ مار لويس ساكو السدة البطريركية في تأوين مناسب عجيب، إذ بادر غبطته بإقدام لم يخلُ من شجاعة المغامرة، على ضخ دماء جديدة، وبالثقة الكافية التي لم تجعله يتجنب احتمالات الخسائر، أو التطير من مواجهة واقع  يوليوس قيصر بصرخته الشهيرة: حتى أنت يا بروتس.
من ثمار الزيارة الاخيرة: المضي في تكريس التوأمة بين كنيستي العراق وفرنسا، مدّ المزيد من الجسور بين الشعبين العراقي والفرنسي، جعل القضية العراقية ومسيحيي العراق قضية رأي عام، خصوصا بحضور وجوه من المؤسسة البطريركية المؤتمر الخاص بدعم مسيحيي الشرق الاوسط في 3 ايلول الجاري وبحضور 60 وزير خارجية.
 وقد لقيت تحركات المؤسسة البطريركية لحماية الاقليات في فرنسا اصداء جيدة، كان آخرها كلمة رئيس الوزراء الفرنسي أمام الجمعية العامة لمجلس النواب: "ما هو على المحك هو بقاء مجتمعات بأكملها كالمسيحيين واليزيدين، ومعهم هذا التنوع الثقافي والديني والاثني لهذه المنطقة." وقال: " لقد استقبلت قبل أيام قليلة، كما أنتم، بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق لويس روفائيل ساكو الذي أطلق نداء جديدا للمساعدة. وقال لي أيضا أن ثقته كبيرة بفرنسا." هكذا اعتمدت فرنسا خطة عمل في باريس، وقال المسؤول الفرنسي عن الخطة: "واجبنا هو ضمان تنفيذها". كما لفت الانتباه حضور  الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، في المؤتمر واندهاشه  لما قاله البطريرك: "منذ عشرين قرنا  تقام القداديس في الموصل والآن لا يوجد مسيحيون ولا قداس في هذه المدينة العريقة" .كل هذا لا بد وان يدعو المؤسسة البطريركية ان تأمل خيرا في فرنسا. هذه التحركات التعبوية للمؤسسة الكلدانية البطريركية، لم يسبقها مثيل واضح سوى تحركات للبطريركية المارونية متصلة بالساحة اللبنانية في أزماتها خلال تاريخها الحديث.


المحور المركزي لوجوه المؤسسة البطريركية
والرجل الأول في هذه المؤسسة، مار لويس ساكو، على ما يُستشفّ من تصريحاته ومداخلاته، وهو غير جديد عن الأضواء الاعلامية وبغنى عن استقطابها، يتجه نحو محور مركزي محدد. هذا المحور تشترك فيه وجوه أخرى كلدانية من التي تلقت اضواء شبه نجومية كشخصيات كلدانية كهنوتية وأسقفيه غنية عن التعريف، في العراق وسوريا  وايران  وفرنسا واوربا واوقيانيا وشمالي أمريكا؛ وهي ابعد أن تكون نسخا من البطريرك، كلها شكّلت عموما أصواتًا معمدانية شجاعة في البرية، تتنفس روح التعبير التلقائي دونما قيود، محمية بموهبتها الكهنوتية، لتصبّ في محور أن تكون هذه المؤسسة على تنوع وجوهها وما لكلّ منهم من كاريسما خاص به، أن تكون مؤسسة نبوية جريئة، في أعمالها وتحركاتها، تخدم الناس، كل الناس.

بين باريس، جنيف، بروكسل ونيويورك:

خطاب ثابت بشأن تأثير التربية الدينية
ولدى استقبال رئيس الوزراء مانويل فالس للبطريرك ساكو، أكد غبطته ما أعلنه على منبر مجلس الامن في نيويورك، في التأكيد على أهمية التعاون مع دول الاسلامية والمرجعيات الدينية، في تفكيك هذه الايديولوجية المتطرفة التي تشكل خطرا كبيرا على البشرية جمعاء من خلال تقديم مناهج تربوية منفتحة ومعتدلة تحترم كل الديانات وتعزز العيش المشترك وتوطد السلام.
هذه التحركات الحثيثة جاءت في اعقاب النكبة المئوية التي حدثت منذ سنة ونيف على يد داعش وأخواتها ومموليها وسانديها باسم الايديولوجية المتطرفة ضد اليزيديين ومسيحيي الموصل وقرى سهل نينوى، بمختلف المكوّنات الاثنية العراقية؛ نكبة وصفت بحق كصدى مئوي لمجازر سيبا 1915 التي اقترفت تحت غطاء تعصبي ارهابي.
إزاء ما سبق ذكره من تحرّكات في باريس ونيويرك، قد يعتقد الكثيرون انها جاءت استثنائية أو بالمصادفة؛ بل هي ضمن نسق متواصل مثابر يطرق الحديد وهو حارّ، ما يؤكده التحرك في جنيف (مفوضية حقوق الإنسان) وثلاث مرّات مع الاتحاد الأوربي في بروكسل- بلجيكا، إلى جانب مؤتمرات في بلدان عدّة دفاعًا عن مسيحيي العراق والمنطقة.
 
الدور أمام أحداث التهجير الداعشي غير المسبوق
أمام النكبة الداعشية، كان للمؤسسة البطريركية وريادتها، بحكم ثقلها الخاص، للتعاون مع مؤسسات الكنائس الاخرى، أن تعمل بنحو استثنائي باتجاه عدة محاور، وأحيانا تعمل منفردة على الساحة، في خدمة منفتحة لجميع أبناء الشعب المسيحي المهجرين الذين لم يفرق العدو الغاصب بين انتماءاتهم الاثنية والدينية، من هذه المحاور:   
- استقبال العائلات النازحة بمختلف انحداراتها وتقديم العون لها.
- احترام حرية الراغبين في الهجرة، وتمييز ذلك عن الدعوة الى اخلاء مفاجئ ونهائي للعراق من مسيحييه، في سعي لانقاذ ما يمكن انقاذه والحفاظ على آخر فرصة للبقاء، بما في ذلك دعم الراغبين في البقاء ومساندتهم.
- الاضطلاع بالشؤون الادارية والعلاقات مع الابرشيات والتعامل مع الاعلام للتوعية بشأن مختلف المحاور المذكورة. توعية تأخذ بعدها الخاص، اذا ما قورنت ما بين من يتلظّى في الشمس الحارقة وما بين من هو تحت الظل الوارف.
- لأول مرة إطلاق فضائية المخلص الكلدانية، كقناة اعلامية عالمية.
- تحركات كلدانية أصدى لها اعلام البطريكية بموقعها الالكتروني الرسمي، داخل العراق مع الحكومة المركزية وحكومة الاقليم. والدفاع عن القاصرين ومطالبة اشراك المسيحيين في الحكومة والعملية السياسية...
- التحرك مع المجتمع الدولي: تحسيس الرأي العام العالمي بالمأساة، سواء مع الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي واستنهاض دور هذه المؤسسات في تحقيق المصالحة الوطنية والدفاع عن حقوق الاقليات وخصوصا المسيحية.
- أما على الصعيد الكنائسي، فتمحور العمل على اتجاهين:
مدّ الأيادي، بشكل غير مسبوق وبمواقف فروسية تاريخية، تجاه الوحدة المسكونية (منها توحيد الكرسي البطريركي ضمن كنيسة المشرق، لصالح الوحدة الاندماجية في اطار الكنيسة الجامعة) وبنحو يطمئن على مراعاة الخصوصية الثقافية والتراثية المتراكمة بحسب كل كنيسة شقيقة، ومن ثم عدم تجاهل ما يميّز الكنيسة الكلدانية من خصوصيات ثقافية قومية كلدانية، خصوصيات لا شأن لها، كما أثبتت المسيرات المسكونية، بالشركة الكنسية التامة بين الكنائس ومع الكنيسة الجامعة.
- وكان من الطبيعي أمام المسار المسكوني الروحي، ورغبة الاشقاء في ان يحتفظوا بلونهم وخصوصيتهم، ان ترى النور الرابطة الكلدانية. وقد وصف غبطته هذا التأسيس، في مقابلته مع قناة المخلص، بالمحاولة التي نأمل نجاحها، وأننا في كل الأحوال نكون سعينا جهدنا نحو ذلك.
هذه التحركات الاستثنائية بسبب ظروف كارثية غير متوقعة الحجم والأبعاد، من حل وترحال بين الداخل والخارج، وعودة الى المقر، والاندماج الفوري مع المناسبات الطقسية؛ أمام هذا الواقع المتفرد، لم يظهر على المؤسسة البطريركية وكأنها بانتظار الشكر والتقييم من أحد لا من الأشقاء ولا من الأبناء، بل كانت تواجه بقدر الامكان ما يردها من الهجمات الالكترونية والاعلامية، وخصوصا المزاجية منها، والتي كانت توحي بأنها لا تخاطب بطريركا أو اكليروسًا يقومون بهذا الجهد، بل توحي بأنها بمثابة رب عمل يحاسب عماله. وخير تفسير كاشف لهذا الامر بالنسبة الى أعضاء المؤسسة البطريركية، هو ما جاء في الانجيل: كذلك انتم ايضا متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا اننا عبيد بطالون .لاننا انما عملنا ما كان يجب علينا (لوقا 17: 10) وما قاله البابا فرنسيس: اخدموا الرعية على ركبكم.

الخطوات الوحدوية، وكنيسة المشرق الآشورية مقاربة تأوينية
انطلق يوم 16 أيلول الجاري سيندوس اساقفة كنيسة المشرق الاشورية، في عنكاوا، لاختيار بطريرك جديد. وهو واقع يمثل خصوصية متفردة: قرار اصحاب السيادة أحبار المجمع المقدس المتخذ سابقا بأن يكون كرسيهم البطريركي في بلاد بين النهرين؛ فقد يواجهون بدورهم – من خلال هذا القرار- تحديا من نوع خاص: من يقبل أن يتبوأ الكرسي في بلاد بين النهرين ضمن الاوضاع الجيوسياسية القائمة، وما تستدعيه المرحلة مع مسار الرسالة الانجيلية، بتوحيد الصفوف والتنسيق الوحدي المكثّف، ومواجهة حال المهجرين، والتعامل مع الحكومات المحلية بواقعها القائم، وبكل ما يميّز الصورة عما عليه السادة الأحبار في بلدان الانتشار المتقدمة الآمنة، وما يميّزها في المجالات الحضارية الثقافية السياسية والديمقراطية المتمرسة. وهذا يستدعي الموازنة بين ان يضطلع قداسة البطريرك الجديد الذي سيقبل بانتخابه من قبل اشقائه بطريركا، ان يواجه المهام المذكورة واكثر منها بكثير، مما هو محسوب ومما هو مفاجئ، بحيث يكون قبوله لهذه الخدمة بمثابة أنهم يقدمونه قربانا لكنيسة المسيح المقدسة يقاسي تعب النهار وحره؛ لتتعادل الموازنة مع واقعية أن يتفهموا وضع قداسة بطريركهم الجديد ويساندونه وهم من مواقعهم الاكثر راحة ورفاهية منه، بعيدا عن الاملاءات والتنغيصات والمطالبات التي قد يكون وقعها مختلفا ان كانت بين أفراد، هم على قدم وساق من المساواة في الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية.
واذا كان لهذه الصورة ما يناظرها في وضع المؤسسة البطريركية الكلدانية، فإن قداسة البطريرك الجديد سيرى في مار لويس روفائيل ساكو الاخ الشقيق واليد الممدودة لأي نحو من التعاون؛ سواء اختارت الكنيسة الشقيقة، بسبب ما وصف من تراكمات تراثية وثقافية، ان يكون مسارها المسيحي على الصعيد الأحادي بالوحدة المسكونية مع روما. هذا الاختيار سبق وان وجدنا له مثيلا مثيرا للعجب، لدى الكنيستين الانطاكيتين الشقيقتين، الكنيسة السريانية الكاثوليكية والكنيسة المارونية (الكاثوليكية)؛ فيكاد لا يميّز بينهما لا خصوصية طقسية أو لغوية ولا اختلاف عقائدي، كل ما يميّزهما هو التسمية الكرسوية؛ الاحتمال الآخر هو، في حالة هذه الوحدة مع الكرسي الرسولي أو قبلها، هو خيار العمل على صعيد كنيستين شقيقتين تنتميان، كما اكد البطريرك مار لويس، الى شركة عقائدية واحدة. فالحاجة ماسّة إلى التعاون في كل المجالات المتاحة في ظروف ليس افضل منها ولا اكثر منها استثناء لأي تنسيق مشترك، وعلى مسافة واحدة من المداخلات والتأثيرات السياسية ذات الصلة.

الكرسي البطريركي الكلداني:
نقاط متحققة وأمنيات وتساؤلات بنوية
 المؤسسة البطريركية في بغداد ومحك الاتصالات الخارجية: من ناحية أخرى، الكثير من المماحكات التي حدثت مع المؤسسة البطريركية، حدثت بحسب الظروف المتباينة التي اشرنا اليها ما بين بغداد ما بعد 2003 والخارج. بحيث اذا كان مار لويس روفائيل ساكو (المنتخب بطريركا في 1 شباط 2013) اذا كان المرشح المتفرد في المرحلة، فإنه قد قبل صليب البطريركية، دون غيره ولأسباب متعددة ومتباينة. هذا التباين في الرؤية والعقلية ما بين الداخل والخارج، قد يفسر بعض صعوبات التعاطي بين الجانبين، سواء على مستوى المصاف الاسقفي والاكليريكي او على مستوى الكتاب العلمانيين. ولا شك أن الكثير من تلك الصعوبات يموع بزوال الظروف الاستثنائية القائمة، خصوصا وان المماحكات بقيت تحدث في اطار الاخوة الكهنوتية والشركة الكنسية مع الكنيسة الكلدانية ومن خلالها مع الكنيسة الجامعة.
رتبة القداس الكلداني المؤن: في خضم هذا، عملت المؤسسة البطريركية على تقديم تأوين لرتبة القداس الكلداني و رتب الاسرار الأخرى. فاذا كانت المعلوماتية ووسائل الاتصال الالكترونية قد سهلت الكثير في انجاز ذلك، إلا أن هذا العمل يبقى بحد ذاته مثيرا للاعجاب، لكونه ظهر في زمن النكبة ووضع المهجرين والتحركات البطريركية في الداخل والخارج في هذا الشأن. ليتم تشخيص هذا الحدث ليتورجيا، كنقطة ساخنة في مسار المؤسسة البطريركية.
الكرسي الرسولي مصارحات معلنة: لأول مرة، في تاريخنا المعاصر، يتم التأشير بالبنان وعلى المستوى البطريركي الرسمي، الى الضعف البشري في آلية العمل ضمن الكوريا الرومانية، وطبيعة تعامل المجلس الحبري للكنائس الشرقية مع هذه الكنائس، بحيث يقتضي منها الامر، المطالبة والضغط في سبيل تغييره من حال الى حال. وازاء عدم الخلط بين الإشارة إلى هذا الواقع المؤسف، كشيء من المحرمات – التابوه، وبين قدسية الوحدة، يستجد عندئذ الفصل بين قدسية الكرسي الرسولي وبين الضعف البشري لهذا أو ذاك في أعضاء الكوريا الرومانية. نقطة ساخنة ما زالت، كما يظهر من مؤشرات عدة، رهن ممارسات الضغوط وصولا الى الاحتكام الى الحبر الروماني.


نقاط تثير بعض التساؤلات البنوية وتهدف الى الاستيضاح
طبيعة تعاملات المؤسسة البطريركية مع الداخل: في هذا المجال لا يخفي كاتب السطور حيرته ازاء بعض النقاط ، واذا يتم ايرادها في هذا الملف، فليس من باب النقد، بل من باب الاستيضاح البنوي الذي ربما يأتي من خلال توضيح تحت باب الاعلام البطريركي، لكشف ما يغيب عن الناظر الخارجي من رؤية داخلية. الموضوع يتعلق بطبيعة التعاملات مع الداخل العراقي:
في الشأن الديني: أشرنا إلى الخطاب الجريء والثابت دوليًا، (نيويورك وباريس، جنيف وبروكسل أنموذجا) من ضرورة تفكيك الايديولوجية الدينية المتطرفة. والحال، لم يلق هذا الخطاب على ما نعتقد، أي أذن صاغية، بشكل جادّ من لدن المعنيين داخل العراق الممتحن، أو خارجه ولا اتّخذ إجراء رصين في هذا الصدد، في المؤتمرات واللقاءات، ولا سُمعت على المستوى الديني الاسلامي الرسمي أي أصوات جريئة لمعالجة هذا الواقع.
إزاء الخطاب الجريء الثابت في الخارج، ينتظر المرء من المؤسسة البطريركية في الداخل شيئا أكثر يختلف عن استقبال زوار المناسبات، والمجاملات والتهاني المتبادلة مع تلك الجهات الدينية ذات الصمت المطبق والعجز عن التحرك. ما هو ذلك الشيء الأكثر؟ يصمت من الخارج امامه الكلام المباح...
في الشأن السياسي الحكومي: باستثناء ان الذي في الداخل يعرف ميدانيا غير ما يعرفه من يكتب من الخارج، مما يقتضي التوضيح الاعلامي كما أسلفنا، فإن القاصي والداني بات يعرف الواقع الحالي المزري للحكومة القائمة والحكومات المتعاقبة، وبما فضحته الوقائع التي كشفتها وسائل اعلام عدة. أمام هذا الواقع المرير، ينتظر المرء من المؤسسة البطريركية مواقف اكثر  من التعاملات البروتوكولية والدبلوماسية والمناشدات والدعوات، مما يوحي لغير مراقب بأن هذه التعاملات يستجديها الضعف الحكومي ويسجّلها لرصيده، وقلما ترتقي به الى واقع أفضل، مهما استرسل التزاور والتصافح.
فما الفرق يا ترى بين التصدّي الاعلامي على مستوى المؤسسة البطريركية، لما ارتكبته داعش بحق شعبنا، وبين استمرار التعامل الرسمي مع حكومات ليست بعيدة ان تكون سببا لدخول داعش، وأوصلت بشعبنا الممتحن تحت خط الفقر المدعق؟ التساؤل البنوي: هل يملي واقع الحال على الكنيسة وهي تعيش في ظل هذه الظروف، أن تستمر في طبيعة هذه التعاملات، مع التأكد من التعامل الانساني الطيب لمؤسستنا البطريركية ونواياها الحسنة؟ قد تكون ثمة حاجة للتوضيح ان كانت هذه المجاملات أكثر فاعلية من الصمت والمقاطعة، دون الذهاب الى المقارنة بين موقفين متباينين للبطريركين الاسبقين مثلثي الرحمات، مار بولس شيخو وما روفائيل بيداويد، فلكل حقبة خصوصيتها ورجالها. فما هو، يا ترى، الشيء الأكثر الذي يمكن ترقبه؟ لعله الاصغاء الى نبض الشارع او أكثر، مما يستطيع أن يقدّره من في الداخل خير تقدير.
 
التعامل مع الحراك الشعبي:
هذه النقطة ايضا تشتمل على محاور بحاجة الى ما قد يقتضي التوضيح :
- لا غرو ان المؤسسة البطريركية أعطت افضل مثل مسيحي عندما قدمت يد المساعدة للمهجرين من غير المسيحيين ايضا من ابناء الشعب العراقي في المحافظات ضحية الارهاب. ولكن في الوقت عينه، ثمة تساؤل، بشأن التظاهرات الحاشدة التي تحصل في العاصمة والمحافظات، وما يكشف من مظلوميات من قبل رجالات الحكومة  والبرلمان ومسؤوليتهم تجاه الشعب الممتحن. سؤال يطرح ذاته: أما يوجد سبيل للاصداء الى هذه التظاهرات وشيء من التفاعل معها، او التطرق على عدد من المطالب العادلة، سيما وان وجوها مسيحية حملت الشجاعة والبأس في الوقوف بصفها.
- التعامل مع الكيانات السياسية لأبناء شعبنا: هذه الكيانات بمختلف توجهاتها تسعى بطريقة أو بأخرى أن تكون ممثلة للشعب المسيحي بمختلف اطيافه، وربما سعت بحسب الممكن وضمن ظروف كل منها، لتعمل شيئا لصالح هذا الشعب، ويوجد نوع تعامل واستقبال لممثلي مكونات سياسية لشعبنا، ليطرح التساؤل نفسه:  هل هناك آلية ومقاييس يمكن بموجبها الوقوف على ان هذا المكوّن السياسي من أبناء شعبنا هو مؤهل للتعامل معه، وبين مكوّنات عشائرية وجماهيرية من العمق المسيحي تسعى الى تمثيل شعبنا مما يبدو وكأنه استبعد من نطاق المؤسسة البطريركية، في أي مجال من مجالات التعامل؟
- التعامل مع التنشئة المستديمة للاكليروس. في كل هذا الخضمّ، لا بد من التنويه بكم من رياضة روحية تمّت ولقاءات للاكيروس حول التنشئة المستديمة المبنيّة على الروحية العميقة والثقافة المنفتحة. وكم مقال ورسالة وجهها غبطتة الى كافة مراتب الاكليروس فضلا عن الرسائل الراعوية. هذا  الجهد لابد من نزاهة الإشارة إليه، ولا بدّ ان يعطي ثمرا.

الختام
نقاط حاول هذا الملف الاحاطة بها، بموضوعية وشفافية، باحثا فيها عما يبرز الصوت النبوي الجرئ في كل ما انجزته البطريركية، منذ شباط 2013. وكان فيه الكثير من المداخلات الرائدة للبطريركية في الشأن السياسي، عراقيا وعالميا. إنه الصوت النبوي المقدام ايضا الذي نتطلع اليه، في أن يكشف ويوضح لنا طبيعة تعامل المؤسسة مع موضوع التعاملات مع الداخل، سواء في تفسيره، او في عدّ الصمت والمقاطعة الصريحة بشأنه سابقا لأوانه.
نقاط تجعلنا نفخر بنعمة الرب التي رافقت المؤسسة البطريركية الكلدانية في انجازاتها المشار اليها خلال هذه الظروف الانسانية، كما سنفخر بسعة الصدر لاستيعاب التساؤلات البنوية الواردة في أواخر الملف.

84
هل كانت الافكار الشخصية للبطريرك الكلداني مار لويس القشة القاصمة؟

بقلم الأب نويل فرمان السناطي
---------------------------
*أعتذر  ابتداءً من السادة واصحاب السيادة القراء الذين كانوا اوصوني، ووعدتهم خيرا، بعدم كتابة المقالات الطويلة. لكني اليوم مضطر ان أضم عدة عناصر في هذا المقال، خشية بعثرتها عندما اكتبها بالأقساط.
بعد الأفكار الشخصية التي اصدت لها وسائل الاعلام بشأن الخطوات الوحدوية، أدلى البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، بتصريحات هنا وهناك، وبما يوحي بالإيجابية والرجاء الوحدوي كدعوة مسيحية ثابتة ورسالة بعيدة المدى، وهذا وذاك ديدن عند مار لويس ومن الثوابت الانجيلية. إلا أن ما صدر من مراجع كنسية، استحثت الكتاب الكلدان الغيورين على انتمائهم الى الكنيسة الجامعة، إلى ان يبدوا ردود افعالهم، ليس ضد موقف مبدئي للبطريرك الكلداني، بل ازاء ما أصدت له وسائل إعلام تتبع لها الكنيسة الشقيقة، على شكل قهقهات او تعليقات مختتمة بتصريحات أنيقة، تحترم حرية التعبير عن هذه الأفكار وتعتذر عن قبولها، مما يمكن ان يعدّه البعض، إزاء الافكار المتنورة للبطريرك الكلداني، بمثابة القشة القاصمة للقضية الوحدوية المسكونية، لا سامح الله. ومما يضطر الى التفكير ببديل الانفتاح الى مرحلة أخرى هي استقبال مريدي الوحدة من الكنائس الشقيقة الاخرى، سواء بالالتحاق القطيعي مع أي راعٍ او الالتحاق الفردي نعجة نعجة  في الاستجابة لنداء الرب نحو وحدة الرسل وخلفائهم حول خليفة هامة الرسل مار بطرس.

قداسة مار لويس ساكو
_______________
اعرف ان مار لويس يوجه بدقة بشأن السياقات البروتوكولية في التسميات: قداسة غبطة نيافة سيادة. بما في ذلك صفة غبطة البطريرك مار لويس، مع ان من حاججوه قالوا له: إننا يا سيدنا وفي صلوات الطلبات (نقوم شبير) نصف أحبارنا بآبائنا القديسين...
لكني ارى ان أكثر من البروتوكول، ثمة رسائل ضمنية يمكن ان تعطى للكنيسة الجامعة كما للكنائس البطريركية من خارج سرب الوحدة الكنسية الجامعة، بأن الالتفاف حول كرسي خليفة بطرس، هو التفاف رمزي بمستوى قداسة الرسل الابرار والشهداء، وان البابا هو خادم خدام الرب بالمحبة. ولما بعد الحالة الرمزية، ثمة الحاجة الى التطمين بأن الكنيسة الكلدانية، ومثلها الكنائس البطريركية الكاثوليكية وهي سليلة كرازات الرسل الشهداء والقديسين، هذه الكنيسة خطت في تاريخها العريق، كاثوليكيا، خطوات بطريركية مقدامة، حتى تضمن أنواعا من الاستقلالية الطقسية والادارية والثقافية للكنائس الرسولية الملتحقة مع ركب الوحدة الطبيعي في المسيرة المسيحية استجابة لأمنية الرب الكبرى (ليكونوا واحدًا).
ولئن كنت أحسب، وبرأي شخصي متواضع يلتزم إطاعة الرؤساء، انه من الناحية العملية تكسب هذه الكنائس (البطريركية) اكثر، وتقدم اقل التضحيات مع الاحتفاظ بخصوصيتها، لو كانت مجرد مجالس اسقفية، حالها حال المجالس الاسقفية في اي حيز جغرافي ثقافي - لغوي او وطني: ألمانيا، كندا فرنسا وسواها. وذلك بالتحرر من تبعات الغسيل الداخلي، والسموّ فوق التقوقع المغلق لأهل البيت الداخلي الواحد، مع الاحتفاظ بالعاملين الطقسي والثقافي. المثال الواضح لذلك، هو استقلال كنيسة السيرو ملبار الكاثولويكية في الهند، مع انهم لم يختاروه تاريخيا، استقلال اداري وطقسي عن بطريركية كنيسة المشرق الكاثوليكية (الكلدانية). فأطلق هذا البعد الكاثوليكي لمؤمنيها واكليروسها طاقاتهم وانعش الدعوات الكهنوتية والرهبانية لديهم. هذا ما استخلصته من احصائية شرحها لي خلال زيارته الاخيرة الى ولاية البرتا الكندية، السكرتير السابق في السفارة البابوية بالعراق، وحاليا رئيس الاساقفة   المطران قرياقوس باهارانيكولانغارا (Mar Kuriakos Bharanikulangara) حيث ان لديه في 1200 تلميذ سمنير اكليركي، وما يربو على الستمائة راهبة في ابرشيته وحدها ابرشية فريدآباد بمدينة دلهي الهندية. وهنا لا ضير ان اذكر ما دمت اعرف شيئا عن موقف مار لويس بشأن المنصب والكرسي، اني عندما كتبت مقال صلاة الشكر في ليلة انتخابه، سمحت لنفسي ان سميته رئيسا لمجلس أساقفة الكلدان.

مسيرة مهدت الطريق لخصوصية الكنائس البطريركية
______________________________________
الرسائل التي يمكن ان تُطلق على الجانب غير الكاثوليكي المتطلق مسيحيا وانجيليا الى الوحدة المسكونية، فحواها ان ما قطعناه من شوط يضمن ان المقارعة المبدئية من قبل الموقف الكلداني في كنيسة شهدت بطاركة من طراز شجاعة مار يوسف اودو وصراحة مار لويس ساكو، ازاء حالات بشرية فاتيكانية في التعامل الاداري بين كرسي بطرس والكنائس البطريركية المتحدة معه. إنها رسائل تغني الجانب غير الكاثوليكي في هواجسه تجاه روما، سواء في مجال المقارعة او في مجال الحفاظ على المكتسبات الاثنية والثقافية للكنائس البطريركية ازاء كنيسة جامعة فتحت أبواء المجمع الفاتيكاني الثاني كما لم تفتح من قبل، سواء على مستوى الكنائس البطريركية التي تعيد الشركة مع الكرسي الرسولي، لمرحلة ما قبل انشقاق المجامع الاولى، كما في حالة كنيستنا المشرقية، او بمستوى الكنائس اللاتينية – او الرومانية (نسبة الى روما وليس الى بلاد تشاوشيسكو)؛ هذه الاخيرة، بصرف النظر عن اوطانها، كانت كنيسة روما ولعقود خلت، وفي ثقافة وحدوية كانت بنت زمانها، كانت تتعامل معها باللغة اللاتينية كلغة طقسية حصرية؛ حتى حان الوقت للاتينية  لغة الآباء والأجداد أن تعدّ لغة استلابية فتحال الى التقاعد على حساب اللغات الوطنية بحسب رقعات المجامع الاسقفية.

الأفكار وما ولدته من صدمة
_____________________
 أفكار البطريرك، جاءت على شكل مقال "ما قل ودلّ" عن الوحدة بخطاب السهل الممتنع والمباشر، فوضع بتلك الأسطر، حدّا لهواجس وتنظيرات قد تجول في خواطر الموارنة والكلدان وسائر الكنائس البطريركية الشرقية الكاثوليكية من سريانية وارمنية وقبطية والروم الملكية، هواجس مفادها أن ثمة التباس في المسيرات الوحدوية، ما بينها وبين الكنائس شقيقتها غير الكاثوليكية، التباس يعتقد بموجبه، ان الوحدة هي توحيد يوم عيد أو صلاحيات زواج وعماذ في هذه الكنائس وتلك، واتفاقات طقسية. مما بات يوحي أن إعادة الشركة مع روما ما هي إلا مسألة هامشية، بل ذهب البعض، ويا للمفارقة، الى عدّها وكأنها عقبة على طريق الوحدة، فوضع المقال حدّا لتلك التكهنات التي كان قد لامس البعض منها حدّ العنجهية والفوقية والسريالية.

شريحتان من المصدومين
____________________
وكان من الطبيعي ان نسمع ما صدم غير واحد، بالاستعداد البطريركي للاستقالة. وكان المصدومين، من شريحيتين:
الشريحة الاولى، الواهمة تحت تأثير الثقافة السمعية التي يصلها الخبر من آخره أي معكوسا بحصيلة تناقل الشفاه لما هو مثير للانتباه فحسب. فقلت لكهنة طرحوا السؤال (هل صحيح قدّم البطريرك استقالته؟): كلا لم يقدم استقالته، بل عرض الرجل الوحدة الشاملة لكنيسة المشرق مع كرسي بطرس، ومن الطبيعي ان يلتحق بسرب الاساقفة، في آلية انتخاب رأس جديد، خلفا للطرف غير الكاثوليكي من كنيسة المشرق العريقة، مع احتمال او حتى عدم احتمال التحاق الكنيسة الشرقية القديمة بها التي رأى أكثر من مراقب أنها انشقت عن الأولى ليس عقائديا بل لأسباب ليس لي قِبـَل بذكرها.
الشريحة الثانية وهي الواعية بالموضوع، واستوعبت الصدمة بمنطقية ولكنها تتحفظ على ما وجدته من روح مجازفة فيها،  ولسان حالها التساؤل الآتي: كيف لقداسة مار لويس، وهنا تتسربله صفة القداسة، من باب التواضع والتجرد والنزوع الوحدوي، أن يقدم على ذلك، مع كنيسة قبل ان تفكر بالارتباط بروما، وقبل ان يسمع شيئًا من مصافّه الأسقفي، فأجبنا المعني: يا شماس، إنها مجرد أفكار شخصية، وجد من حقه ان يطرحها، فهي ليست بيانا مجمعيا ولا تصريحا رسميا. أما التحفظ الآخر فكان على هذا الشكل: بعد ان وجدنا فيه ما وجدنا من بطريرك، سنفتقد في احد الاحتمالات عدم رؤيته بطريركا من بعد...! وهذا الأمر ايضا كان سيكون متروكًا للروح القدس، الذي من خلاله وعد المسيح أن يكون مع كنيسته المقدسة مدى الأيام.
أما إن كان ثمة أحبار في الكنيسة الشقيقة، استصغروا المبادرة، واذا كان فيها اعلاميون استخفوا بها، فمبروك علينا بطريركنا. ولعلنا نكتفي بالتعليق على رد الفعل من احد التصريحات الاسقفية بشأن التنعم بالحرية تجاه روما، سيأتي في فقرة لاحقة.

حرية الكنائس البطريركية خارج الشركة التامة
_____________________________________
تجربة الحرية والاستقلالية والفوز بالحصة الفضلى، راودت ابني زبدى، فثار عليهما سائر التلاميذ، بضمنهم يهوذا الاسخريوطي، فنبههم الرب، ان المقياس بينهم هو الخدمة والمكان الاخير.
الحرية نسبية من جهة وسيف ذو حدين من جهة أخرى.
الحرية في الكنائس البطريركية الكاثوليكية لها أن تنتزع انتزاعا، او تبقى نسبية. إنها قد تتراوح ما بين التودد لسكرتير القاصد الرسولي، في وضع بخور البسمة خلال قداس بطريركي، وبين الندّية مع هذا او ذاك من رؤساء المجامع الحبرية، في المساءلة والتمسك بالحقوق.
أما الحرية في الكنائس غير الرسولية، فحدّث عنها ولا حرج: إنها تتجزأ وتتناسل تجزءا، لتغدو أعدادها بمئات الآلاف، وليس مجرد الاعداد التلقيدية المعروفة من لوثرية وكالفينية ومشيخية وبنطقوستية، واسقفيات اقليمية قومية الطابع من اسقفية كانتربري وسواها. وعندما تؤثر ، اسقفية كانتربري، على سبيل المثال لا الحصر، في كنيسة رسولية، كأن يتزوج اساقفتها، أو يرسم كهنتها بعد زواجهم، فإن التأثر يجر التأثير، ولا يبقى عندئذ من الكنيسة الرسولية سوى اسمها.
وتبقى الحرية في الكنائس البطريركية غير الكاثوليكية، سيفًا ذا حدين، عندما تكون عرضة لهيمنة سياسية او عشائرية أو قومية، لا تأبه بالتقليد الرسولي والكنسي والانجيلي. إنها تشكل تحدّيا في الكنائس البطريركية الكاثوليكية ايضا، إزاء الكتل العلمانية السياسية أو القومية الضاغطة اذا طال التأثر مسارها العقائدي.
وعندما تتمادى النزعة القومية، تحت الغطاء الكنسي، قد تجعل الحرية من الكنيسة تابعة للقومية، في شأن وحدوي او في شأن انتخابي، او حتى في شأن عقائدي عندما يصل الحد الى المناداة برمز قومي إلها بالاستعاضة عن إله إبراهيم واسحق ويعقوب، والادعاء، انه أحد اسماء الإله الرب، حاشا. مما لا يجد له مثيلا الا لدى البدع السنكريتية في امريكا اللاتينية، التي اعادت اسماء القديسين الى اسماء آلهتها الميثولوجيا، تلك الالهة التي كانت تخشى من ذكرها في الظروف الكنسية المغالية في المحافظة، لتعود الآن فتستعيض الذبيحة الافخارستية القصوى والسامية، بنحر الذبائح لتلك الالهة والالهات، بعد ان كانت تزعم انها تذبح لاحتفال سان لا زارو وسان باتريك، وسيدة كوادالوبي، في احتفالات بعيدة عن القدسية الكنسية، وقد تشبهها أحيانا احتفالات نحر الذبائح في الشيراوات لمناسبة عيد هذا القديس أو ذاك، وأهمال الذبيحة الالهية في شيرا هذا القديس أو ذاك.
هذا شيء مما فسره لي، الاسقف اللوثري السابق، جوزيف جاكوبسن، وهو حاليا كاهن مساعد في كنيسة كاثوليكية بأدمنتون، عندما شرح اسباب عودته الى حضن الكنيسة الجامعة فلخصها بالتالي:
 الضمان العقائدي في الكنيسة الهيراركية برئاسة خليفة بطرس،
الضمان القيمي للفضائل المسيحية والعائلية التقليدية، بفعل تصويت غالبية شاذة عن كنه العقائد الانجيلية.

الأفكار البطريركية وما جلبته من ترحيب
________________________________
من دواعي الاعتزاز، وفي خضم هيمنة التيارات السياسية والقومية، على حساب المثل الانجيلية، بقي هناك منظرون قوميون في الكنيسة المشرقية الشقيقة، ممن قرأوا أفكار البطريرك بتعمق، ومن باب الثقة بالنفس والانتماء المسيحي (العلماني!) الأصيل رحبوا بالمبادرة وقيموها قبل ان تصدر اصلا تعليقات إعلامية ومرجعية من لون آخر.

إنها أفكار للتبصير وحاشا ان تكون للتصغير
__________________________________
في واحدة من المحصلات الايجابية، لقد حملت افكار البطريرك لدى الكثيرين، حالة من الارتواء وتنفس الصعداء تجاه الشأن الوحدوي، وتحديدا بما يفصل الخيطين الأبيض عن الأسود، تجاه الشركة الهيراركية الشاملة للأساقفة خدام الرب في كنائسه عبر العالم، تجاه خليفة بطرس خادم خدام الرب في المحبة. مبروك علينا وعليهم جميعا شركتهم، ومع امنيات الخير لسائر الكنائس في مسارها الايماني الضميري تجار نشر بشرى الخلاص للعالم أجمع.
من الحالات التي ينبغي مواجهتها بواقعية أن الكنيسة الشقيقة، تجمع لديها عبر القرون الستة الاخيرة، تراكم ثقافي وتقليدي وطقسي، له تمايز عما في كنيسة المشرق الكاثوليكية- الكلدانية. لعلها شهدت جانب انتعاش فكري ولاهوتي، ودعوات كهنوتية وعلمانية، ومؤسسات تعليمية لاحتضانها. ولا بد أن لها، إزاء تحاشي طروحات البطريرك الكلداني مار لويس، تصورها في ضوء الانجيل عن طريقها المسكوني، في الحوار المعمق وشركة المحبة والرحمة، المتبادلة وتجاه شعب المؤمنين. ونأمل أن مسارها المسكوني يمضي في التعمق والتأصل الانجيلي، ويتعدّى زيارات المجاملة أو سياقات الاخذ العطاء، طموحة تتعدى واعز ذر الرماد العيون.
ويبقى الأفق في عالمنا المنفتح على كل مديات المعرفة والنهل والارتواء، مفتوحًا تجاه دعوات فردية أو فرعية، تجاه الكنيسة الشقيقة أو تجاه الكنيسة الأم الجامعة، دعوات النعجة نعجة، عندما تلامس دعوة الرب شغاف القلب. وقد سنح لي أن أشهد ذلك بأم عيني، عندما كنت مارا بالمصادفة، في صالة الاستقبال لأحد الأديرة الرهبانية، وبالضبط عندما كان المرشد، يقول للمرشح للرهبانية، أن يوقع على انخراطه في حضن الكنيسة الجامعة الأم لكونه قادم من تقليد غير كاثوليكي، فإذا به بثغر باسم رامي الى اشاعة قناعته العميقة، ليوقع على الاستمارة برقي يلمح الى اصالة دعوته.
مثل هذه الدعوة المسكونية كانت طوال السنوات الثلاث الاخيرة حديث الساعة في ولايتنا الكندية، عندما انضمت الى الشركة مع الابرشية الكاثوليكية، خورنة انكليكانية، براعييها وبنسبة 75 في المائة من اعضائها، مع أحقية المحافظة على طقوسها وتراثها واسمها فكانت خورنة مار يوحنا الحبيب الانكليكانية الكاثوليكية. أما الآسقف الانكليكاني فجاءنا تصريحه الذي نقلته وسائل الاعلام، في مداولته بهذا الشأن مع الاسقف هنري: إني احترم المسار الروحي الانجيلي لهذه الخورنة واختيارها في مسارها المسيحي المسكوني، وكدليل على شعوري هذا امنحهم المبنى الكنسي ليكون لهم وتحت تصرفهم في احتفالاتهم الكنسية.
والشيء بالشيء يذكر يا صاحبي فلقد تجمع لدينا، في الكنيسة الكلدانية أيضا، الكثير الكثير من التراكم المشار اليه، عند الكنائس الشقيقة، الى جانب تعمق أصيل في الانتماء الاثني، نتمناه  ان يكون تلقائيا وينأى عن تعصب الفعل وردّ الفعل. لقد كان يا أخي رابي موشي، ويا أختي رابيثا جانيت تعمّقًا كدنا نتحاشاه ليس حرجا، بل تقربا مما يوحدنا عقائديا. ومن المعتقد، في الاقل حاليا، وضمن تفكيري الشخصي المحدود بحدوده، ان الخطوات على المستوى الثنائي استوفت كل مدى متوقعًا ان ينهل من منبع دعوتنا المسيحية في الانجلة المعاصرة.

فلا أدري، إلى كم من الوقت بعد، سندخل شبه غرباء في الكنائس الشقيقة غير الكاثوليكية، في مناسباتها، أكنا وفدا كبيرا أو صغيرا من أساقفة وقسس، ونغادرها الى سبيل حالنا أكثر من غرباء.
إن افكار مار لويس الشخصية ومبادرته في الاستقالة في سبيل الوحدة الشاملة لكنيسة المشرق مع كرسي بطرس، ولدت ردود افعال من مستويات مرموقة في الكنيسة الشقيقة، تحترم حريته في التعبير، وتعتذر عن قبولها، ولكن هل سيكون هذا في الشأن الوحدوي الاندماجي بين الكنيستين بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير؟
لا أعتقد ذلك، ولا أرجوه، فالكنيسة ومؤمنوها مدعوون إلى ان يعيشوا على الأرض بإيمان واثق، يعيشوا المحبة كل المحبة، يعيشونها... في الرحاب الواسعة لفضيلة الرجاء.




85
في مقابلتي مع غبطته عن زيارته الراعوية لإيران، مار لويس ساكو:
وحدة اللغة تسهم في  وحدة القلوب والكنائس

الاب نويل فرمان السناطي
 -----------------------

تقديم
لفت الانتباه، الثقل الاعلامي الذي رافق الزيارة الراعوية لغبطة مار لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل على الكلدان الى ايران. ولعل الزيارة توحي بالمزيد من التساؤلات والاستيضاحات، الى جانب ما رافقها من تقارير اعلامية، شبه يومية. أسئلة طرحتها على غبطة البطريرك على هامش هذه الزيارة.
والحال، إزاء كل ما تلقفته من ايضاحات قد ينتظرها الكثير من القراء، وما تلقيته من عبر، كان يمكن ان يجعلني استرسل في التقديم، ولكن تعدد الاسئلة واستفاضة الاجوبة، وما يطالبني قارئ اليوم من اختصار، جعلني اجتر المشاعر، لعلها تجد طريقها يوما الى مقال بعنوان كعنوان: على هامش الزيارة الى ايران.
وأكشف للقارئ الكريم، ظروف هذه المقابلة، بالقول أنها كانت في البدء مجرد أسئلة استيضاحية بنهم عراقي مسيحي شخصي، ارسلتها بدالة الى غبطته بعد الآيام الأولى من الزيارة، متوقعا انه سينكب عليها عند عودته في اليوم التالي، واذا بها زيارة لأبرشيتين، اسغرقت قرابة اسبوعين، واذا بي مع الوقت احول الاسئلة الى مادة لحوار صحافي، تخللته مداولات عبر الاثير، فكانت ما يسعدني ان اسميه اول مقابلة لي مع غبطته، فأترك القارىء مع صفحات هذا الحوار، وبدأته بهذا السؤال يشوبه بعض التوجس من امكانية الصراحة فقلت:
 - لعل هذه الزيارة بأهميتها وتوقيتها وظروفها، تصلح ان تكون مادة كتاب وثائقي، وهي من باب أولى تستحث الكثيرين الى الرغبة في تسليط المزيد من الضوء عليها. نشكركم سيدنا البطريرك لموافقتكم على اجراء هذه المقابلة عن زيارتكم الراعوية لإيران، ومن ثم عشمنا بأن توافقوا على ما نطرح من أسئلة، وتتصرفون غبطتكم بما ترون من إجابة أو معالجة. سؤالنا الاول: اين تضعون هذه الزيارة على المستوى التاريخي للعلاقة بين بطريركية بابل وايران، ما عرف ببلاد فارس، ويحمل حاليا اسم جمهورية ايران الاسلامية.
 
الزيارة بوصفها لقاء وعيدا وزمنا قويا
_______________________________________

* غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو: هذه زيارة راعوية بكل معنى الكلمة؟ زيارة لابرشيتين عريقتين (طهران واورمية) ولمسيحية متجذرة. لقاءاتي مع المؤمنين شدتني اليهم وادهشني ايمانهم وتعلقهم بالرب وبالكنيسة. كانت زيارة مسكونية زرت فيها جميع الكنائس وشددت على الوحدة والتعاون من اجل حمل فرح الانجيل. كذلك لقاءتي المتعددة بالمسؤولين في الجمهورية الاسلامية كانت فرصة لتبادل الهموم والتعبير عن الحرص في ارساء سلام عادل وثابت يعيش فيه المرء بكرامة من دون خوف ولا مشاكل. وكانت هناك آذان مصغية من طرفي ومن طرفهم. إني اعدها زيارة مهمة. لقد كان كل ذلك لقاء وعيدا وزمنا قويا!
 
- لدينا ضمن جماعاتنا ببلدان الانتشار، عائلات من أصول ايرانية، تتفاوت ظروف خروجهم من ايران واسبابها. لكن معظمهم ينظرون اليها بروح الانسلاخ، وبكونها بلاد اللاعودة، مع شعور بالانتماء يكاد يكون معدما، ماذا رأيتم في أبناء رعيتكم في بلاد؟
غبطة البطريرك: صراحة  انه لأمر مؤسف ومحزن ان يفتقر بعض  المسيحيين في ايران والعراق الى الصبر والصمود. اجدادهم واباؤهم كانوا اقوياء وواجهوا صعوبات ومتاعب جمة لكنهم بقوا وارتبطوا بارضهم وتاريخهم وحافظوا على هويتهم. الصعوبات  نجدها  في كل مكان، ومن بقي من المسيحيين  واجه الصعوبات وثبت، والله يعطينا قوة ونعمة. ثم لا ننسى: العالم يتغير. ولا توجد حالة ثابتة الى الابد سلبا او ايجابا..

كنيسة واحدة وشعب واحد
_______________________

- في بلد لا يتكلم رسميا العربية، ومع رعية لا تتكلم غبطتك لغة بلادهم الرسمية الفارسية، كيف كان التداول معهم بمستوى اللغة الكلدانية السوادية التي يتداولونها والمصفاة من العربية أو الانكليزية ولا بد وان تكون متأثرة باللغة الفارسية؟
البطريرك: جميل ان الكل يتكلم لهجة واحدة هي لهجة اورمية ( اورمجنايا) التي تختلف عن السورث الذي تعودنا عليه. دبّرت امري. اعتقد ان وحدة اللغة تسهم في  وحدة القلوب والكنائس. شعرت انهم كنيسة واحدة بالرغم من اختلاف التسميات. مع المسؤولين في الحكومة  كنت اتكلم العربية ولمن لا يعرف العربية قام بالترجمة مشكورين كل من المطران رمزي كرمو في طهران وفي اورمية المطران توما ميرم..

_____________________________________
مار لويس روفائيل الأول ساكو:
* الحرية الدينية قادمة لا محالة
* فيختار الانسان دينه بلا ضغوطات
* ما نعيشه هو من القرون الوسطى
* لا بد أن تحترم الحريات الشخصية
___________________________________

سألت غبطته عن  الانتماء وعن مستقبل مسيحيينا في إيران وقلت:
- من خلال لافتة عن تقديم هدية لغبطتكم تم ملاحظة التسمية من قبل الجهة مقدمة الهدية، فوردت عبارة: الكنيسة الاشورية الكلدانية الكاثوليكية. ما هو المتداول بسلاسة في الساحة هناك عن انتماء ابناء كنيستنا. وبأي انطباع خرجتم عن مستقبل مسيحيينا في إيران ولنا فيها ابرشيتان كلدانيتان.

فأجاب غبطة مار لويس ساكو:
- يقيني هو ان اننا كنيسة واحدة وشعب واحد بتسميات مختلفة قسمتنا اكثر كاكليريكيين كما كشعب. وفي ايران، التسمية (الكلدان والاشوريين الكاثوليك) تسمية دارجة تعبر عن العقيدة الواحدة وقد تبنتها ابرشيات اخرى مثل ابرشية مار بطرس الرسول في سان دييكو.. اما مستقبل المسيحيين فكلي رجاء بانه سيكون افضل وان الحرية الدينية قادمة لا محالة وان الانسان سيختار دينه ومذهبه كما يريد من دون ضغوطات.. ما نعيشه هو من القرون الوسطى.. لابد الا يكون اكراه في الدين وان تحترم الحريات الشخصية.

__________________________________________________
غبطة بطريرك الكلدان:
* استقبالات حميمية وصادقة في كنيسة المشرق
* مسرور جدا ببوادر الوحدة بين كنيسة المشرق الاشورية والكنيسة الشرقية القديمة، هذه قوة!
____________________________________________________________________________________________

وعن المسكونية والكنائس الشقيقة جاء هذا السؤال إلى غبطة بطريرك بابل على الكلدان:
- على مستوى اللقاءات المسكونية، فإلى جانب زيارتكم لكنيسة الارمن، كنيسة المليون ونصف شهيد، تم الالتفات الى الحضور المريح والهادئ والمشرق كما يتهيأ للناظر من خلال تواجد سيادة المطران نرساي بنيامين مع غبطتكم لأكثر من مناسبة، ما هي التطلعات المرشحة عن لقاءاتكم معه وكانت اشبه بلقاءات معايشة يومية؟
 
البطريرك: الاستقبالات في كنيسة المشرق كانت حميمية وصادقة.. شعرت انني في بيتي وقد التفوا حولي وكأني أبوهم، ان كان في طهران او اورمية، والشيء عينه عند الكنائس الاخرى!  الحواجز  يضعها الناس الضعفاء وليس الناس الذين يعتمر قلبهم ايمانا ومحبة. انا مسرور جدا ببوادر الوحدة بين كنيسة المشرق الاشورية والكنيسة الشرقية القديمة. هذه قوة!

- في لقاءات صحافية سابقة عن كنيستنا في ايران، كان واضحا بأن المعنيين في الزيارة كانوا دائما يحرصون على مراجعة نص المقابلة بحذافيرها قبل النشر، لئلا تعبر رسالة مضادة الى المراقبين في ايران، هل ثمة جدار ما زال قائما في هذا الجانب؟

مار لويس: لا أظن، على العكس كانوا مهتمين وحريصين بنقل المقابلات.. حاولت ان اكون موضوعيا وحريصا على الخير العام. المهم عبرت عما يختلج في قلبي.
 
-الاشياء الايجابية التي رأيتها غبطتك واشرت اليها من باب الانفتاح، الحضور المتنوع وحضور العنصر النسوي، وغير ذلك، هل كلها تتناظر مع كفة مقابلة ينظر فيها الى ايران بغير هذا المنظار؟

غبطة مار لويس: اعتقد ان الامر مرتبط بالمجتمع، بالعقلية وبالثقافة. انه  نوع من النظام كما كان  في السابق موجودا في بلدان اخرى،. ارى ان الايرانيين منفتحين. لاحظت ان الحضور النسوي موجود في كافة المجالات ومؤثر. وهذا سيساهم  في التغيير.

_____________________________________________
مار لويس ساكو:
* انظر ماذا فعل الامريكان بالديمقراطية
* الديمقراطية الغربية غير ملائمة للتطبيق في البلدان الشرقية
_______________________________________________________________

- سؤال لغبطتك التصرف بشأن الاجابة عنه بنعم أو لا أو بأي شرح، أو بالترك: هل رجعتم من هذه الزيارة وفي ذهنكم تصور عن ان نهج جمهورية ايران الاسلامية، هو مشروع وجاهز للتصدير؟

غبطة البطريرك: انا لست مؤمنا بالانظمة الجاهزة والتي تفرض خصوصا في عالمنا اليوم. انظر ماذا فعل الامريكان بمشروع الديمقراطية. الديمقراطية الغربية غير ملائمة للتطبيق في البلدان الشرقية. أعتقد ان لكل بلد ثقافته  ومجتمعه  وهو قادر ان يختار النظام الذي يلائمه.. يمكن ان تكون هناك قواسم مشتركة للشيعة في كل مكان، كما للسنة وللمسيحيين من دون الدخول في التفاصيل الدقيقة والا المشاريع الجاهزة تخلق مشاكل غير متوقعة!
 
- هل لنا أن نسأل ما هو انطباع ايران، عن المشروع العالمي والاقليمي لإزالة الوجود المسيحي من المنطقة؟ هذا ان كان لنا أن نسأل أو نعبر الى السؤال اللاحق؟

البطريرك:- ايران لا تعمل من اجل ازالة الوجود المسيحي كذلك الدولة في العراق. قد تجد هنا وهناك اشخاصًا متشددين او تيارات متطرفة تزيل كل من لا يسير وراءها.. الكل يقول ان المسيحيين اصلاء وهم ورود ولهم دور في الحضارة العربية والاسلامية.
 
- هل كان يكفي لقاؤك، غبطة البطريرك، بالمستويات الرفيعة الدينية في الدولة الاسلامية ليعوض عن عدم لقائك برئيس هذه الجمهورية بصفتك اعلى مرجع ورئيس ديني لكتلة مسيحية مهمة في العراق المجاور؟ وبصفتك جليس البابوات والمتحدث في البرلمان الاوربي ومجلس الامن؟ أم ان اهتمام غبطتك كان منصبا على الزيارة الراعوية.

ببساطة اجاب البطريرك: المشكلة فنية. ان زيارتي تزامنت مع زيارة فخامة رئيس الجمهورية العراقية كما حصل ايضا في تركيا، وانا مسرور بمن التقيتهم.

-هل لنا ان ندرج هذه الزيارة ، على المستوى الرسمي، في خانة الزيارة لجهة لدى البطريركية معها علاقات ودية ان لم نقل دبلوماسية، و نتعامل معها بفن الممكن.
وهل شدت الى غبطتك دالة من المودة والحميمية من جانب اي من الرموز الدينية التي التقيتها؟

تساؤلات اختزل مار لويس الاجابة عنها بهذه الكلمات العميقة، بقول غبطته:

 الجميع اشعرني بالمودة والاحترام وشكرني على طروحاتي.

سؤال- هل كنت تشعر بالارتياح بالتعامل والتداول مع رموز دينية من منطلق موقعهم الرسمي والسياسي في الدولة،؟ وتحديدًا هل ثمة ما يميزهم عن المدنيين المسؤولين في الدولة، أم ان لهم في قيادة الدولة موقف وفي المسجد موقف.

البطريرك: اعتقد  يوجد تطابق.. هو نظام ديني تحسه في كل مكان.

سؤال: من خلال تعاملك ولقاءاتك مع رجال دين في العراق، بموقع رسمي في البرلمان، او في وزارة الأوقاف، هل وجدت في ساستنا من رجال الدين، نسخة أمينة لنظرائهم في الدولة الجارة.

غبطته: هناك اختلاف بين ما موجود في العراق وما هو قائم في ايران.. ثم ان الوجود المسيحي في العراق اكثر كثافة ومشاركة في كافة مفاصل الحياة.. في العراق لا توجد دولة ثيوقراطية.

_______________________________________
مار لويس ساكو:
* لا للحروب على وجه الارض والى الأبد
______________________________________


سؤال أخير سيدنا، وشكرا لسعة صدرك:
- ما هو انطباعك عن ايران وانت تزورها كعراقي، هل كان يوحي لك تعاملهم بشأن العراق الجار؟ هل كان يعتبر من قبلهم كبلد صديق شقيق، او بلد حليف، أم أن ثمة بينهم علاقة جار ومجرور؟
البطريرك: تكلمت عن حسن الجوار وعن ان ايران قوة اقليمية  يمكن توظيفها لإرساء السلام والاستقرار ودعوت الى المصالحة بين الشيعة والسنة والى احتضان المكون المسيحي. شعرت ايضا بثقل الحرب الايرانية العراقية في كل مكان: صور للشهداء  وشوارع ومحلات تحمل اسماؤهم كما شعرت بالأسرى العراقيين الذين ماتوا او فقدوا  وعائلاتهم وصليت ان تنتهي الحروب عن وجه الارض والى الابد..

86
الحوارات الهيراركية الكنسية راقية ببصماتها الروحية

الأب نويل فرمان السناطي

نشرت مؤخرا هذا المقال، في موقع كنسي، وبعد المراجعة لنشره في موقع عنكاوا، استجدت بعض الاضافات والمعالجات فاقتضى التنويه، مع الشكر.

المقدمة
انخرطت الكنيسة تدريجيا في ركب المعلوماتية، وظهرت عدة وثائق رسولية تؤشر هذا المسار. ومنذ زمن، ومع توفر الحريات الافتراضية في الانترنيت، التحقت بطريركيتنا الكلدانية بهذه المسيرة، خصوصا بعد تأسيس موقع مار أدي الالكتروني. وجاء غبطة البطريرك مار لويس ساكو، بعد خبرة متمرسة في الاعلام والتأليف، باحثا وكاهنا ورئيس أساقفة، بانتقالة نوعية فاجأت جمهرة من المتلقين. ولا ريب ان دخول مضمار الاعلام، مع ما يوفره من سرعة ايصال وتواصل،  له مواجهاته المتبادلة، التي كانت ستكون بطيئة في الاعلام الورقي، واذا بها شبه فورية. على أنها تقتضي التوقف فيما يوحيه لنا الاعلام المسيحي على مستوى التحاور مع السلم الهيراركي في الكنيسة، فجاء هذا المقال بحثا عن البصمات الروحية التي يمليها التحاور على مستوى الكنيسة ومعها.

ذكريات ذات صلة مع مار لويس ساكو
لا اخفي على القارئ اللبيب، معرفتي بالبطريرك مار لويس، منذ تلمذتي الاكليريكية. واعتقد اني اصبحت ألمّ مع الزمن، بأي حيّز يعطيه مار لويس للرأي الآخر. فوجدت الحيّز يتدرج عنده بأريحية وتلقائية وتواضع كلما حمل على كاهله حملا مضافا في الخدمة الكهنوتية والحبرية. ومن المعروف أن خدمة الكهنوت، في مقدمة الخدمات التي، لكونها تتعامل مع رسالة "أنْجَلـَة" سامية، لا تتقبل من صاحبها ان يستأسد كلما ازداد حمل خدمته.
عندما عرفت غبطة البطريرك في البدء، مع أيام التلمذة، كان قد سبقني بصف دراسي، مع فارق اكبر في العمر. وكانت لي صعوبة شخصية مع الزملاء،  لم يكونوا مسؤولين عنها، إذ دخلت الاكليريكية بوزن 27 كغم وما يناسبه من قامة، فلم يكن هيـّنا تبادل النقاش الديمقراطي مع من بهذه المواصفات وزنا وقامة. فكيف اذا كان التلميذ لويس يلقى الكلام كما في قلبه وبلا رتوش.
واذكر طرفة في هذا المضمار، تعود الى زمن اشتراكي مع التلاميذ الاكبر مني بارتداء الجبة السوداء. فكانت لي عطلة صيفية في مسقط الرأس. وكان التلميذ (لويس) في زيارة لتلك قرية خواله، بصحبة الاب (الاسقف) الراحل ميخائيل جميل. وكنا يوما نسير من قرية سناط الجبلية الى القرية التي تعود إلى جانب من أبنائها والملحقة بها من طرف الدشت- السهل، واسمها دشته- تاخ. فوجدتني مرة في مقدمة القافلة، بين السابلة والفرسان، وإذا بامرأة كردية تضع على الأرض طفلا على طريقي، في اسلوب شرحه له أحد متعهدي القوافل (الكرواني – او القرونايا) ان ذلك هو لطلب البركة، فصليت صلاة ومضيت، ولكن الزميل لويس، وهو المتقدم علي بالسن والحكمة، القى على مسمعها تعليقه التلقائي والفكاهي: ما بالك تلقين الطفل امامه، فهذا ليس بقسيس، بل مجرد تلميذ، أما أنا فتبلعمت...

وبعد كهنوته، جاءت مع الاب ثم الحبر مار لويس روفائيل ساكو نوع زمالة في الخدمة الكنسية الإعلامية، كشماس انجيلي وعامل في صحافة الفكر المسيحي. فكان ذلك بنعمة الرب منطلقا للتزامل الاعلامي على درب الكلمة.
وكانت المراسلات مغنية، تعبر عن الاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر والمقترحات. وهنا ايضا أذكر، أني بحسن نية، نوّهت يوما في مقال للمجلة، بحدث في كنيستنا كنت رأيت فيه حالة مرحلية إيجابية، وكنت بالطبع أكتب عن ذلك الحدث الكنسي، من غير الزاوية التي يعرفها الاسقف ساكو كعضو للسينودس الكلداني، ليكتب لي هامشا على المقال: ما هذا الاطناب يا نؤيل.
وتمر السنوات لأرى رجل الكنيسة في خدمته الحالية، لأجدني أخاطبه، بما يستأنف روح الزمالة الاعلامية على درب الكلمة، مكحلة بمنادى (غبطتك) عذبة الاجترار.
وعلى ذكر صفة (الغبطة) لا بد ان الكثيرين يلحظون معي ما نقرأه في الشبكة العنكبوتية، من قبل الذين مع استخدامهم صفة الغبطة مخاطبين البطريرك، ربما وصلوا الى حدّ هابط، قد لا ينتبهون اليه، في متن مقالاتهم بخطابات اقل ما يقال فيها، أنها تخلو من الكياسة، إن لم تكن جارحة، على ما أشار إليه إعلام البطريركية.

ليست الصراحة التي تجرح
وهنا لا بدّ من الإذعان أن ثمة صعوبة في مقال يكتبونه عن شخص يختلفون معه في الرأي أو يتقاطعون معه انطلاقا من مواقفهم الستراتيجية والتعبوية. الصعوبة ليست في الصياغة، حاشاهم من ذلك، بل أجدها في صرف شيء من الوقت لمراجعة المقال وتصويبه، بحيث يكون مقبولا دبلوماسيا، مع الابقاء على زبدة الموقف المختلف عليه، وذكر كل ما يقصدون بشأنه ولكن... بأسلوب راق. هذا هو الفرق بين أن يعبـّر المرء كاملا، للبطريرك، او لأي كاتب آخر، عن رأي مخالف تماما، وبين أن يكون الاسلوب جارحا انسانيا. ولعلي لا أجد في كتابنا وأدبآئنا سوى الغيرة الآكلة التي يُعبَّر عنها بمستويات متفاوتة، وهم في داخلهم مسكونون بالحنان والرحمة، وحاشا ان ينطبق عليهم القول المأثور : ليس من الأدب أن تجرح مشاعر الناس وتقول أنا صريح، هناك فرق بين الصراحة والوقاحة، وتذكر بأن ليس كل صامت غير قادر على الردّ.
 ولا أجرؤ على الظن، ان يكون ثمة مغانم او ترقيات اصطفافية في استخدام الاسلوب الجارح.

ووصف كل هذا يختصر في العبارة المنسوبة لفولتير بنحو مثير للجدل وتقول: سوف أستميت دفاعًا عن آرائي، لكني سأضحي بحياتي حتى تستطيع الدفاع عن آرائك.
Je défendrai mes opinions jusqu'à ma mort, mais je donnerai ma vie pour que vous puissiez défendre les vôtres.
واذا بتنا نلحظ مثل هذه المماحكات ما بين الاحزاب لاقتسام الكعكة الواحدة، او الفوز بحصة الاسد فيها، بشتى أنواع الخطابات. لكن الأمر يختلف على مستوى الكنيسة والتعامل مع شؤون شعبها، كمؤمنين، بأن  تحمل الحوارات بصمة روحية ترتقي بها وتسمو، لا سيما مع حبر، ليس لديه اصطفاف مناطقي أو تخندق سياسي.

تنفس الصعداء
وينسحب الأمر علينا كعموم كتاب، أكنا من وسط الاكليروس او الشمامسة، أو مؤمنين أو علمانيين، ونكتب في شأن يخص الكنيسة وبتماس مع الحديث عن شعبها المسيحي المؤمن. نحن بحاجة إلى ان نتنفس الصعداء، لنعبر عن أنفسنا مع الثقة الداخلية الكامنة، أن القارئ يعرف بأننا لا نقصد استهداف أحد بهذه المفردة أو تلك. فعصرنا يقف بالضد من الارهاب أيا كان نوعه، فكيف به ان كان تسمويا او تعبيريا.
ذلك أننا مقبلون على مرحلة، فهمنا فيها، توجهات البطريركية بشأن شعبنا وجذوره وأصوله، كنسيا وقوميا، لنجد أنفسنا ممن يعدون هذا الشعب، واحدًا في الجذور المشتركة ضمن شعب أصيل في البلاد النهرينية، فنتداول الحديث عن انتماء شعبنا وجذوره الاصلية، بتعبير حر، يحترم حرية من يستخدم أي تعبير آخر، سواء كان ممن يعتبر الاخرين أنهم منه، او كان ممن ّيعد نفسه منفصلا عنهم في بلادنا النهرينية. ولأن مقال اليوم لا يتعلق في الشأن التسموي تحديدا. فإن هذا الشأن سيكون موضوع مقال قادم بمشيئة الرب. ليكون فاتحة المقالات اللاحقة التي ستتوخى الافصاح دون التمويه.

وليسمح لي حضرة الكاتب المختلف مع غبطته أو غيره، في هذا الشأن وذاك، تأكد يا سيدي من قناعتي بأن كل ما تتفضل بكتابته، مما يدخل في خانة التعبير عن الاختلاف حضاريا وديمقراطيا، سيلقى إذنا صاغية ومحترمة. وليس لدي شك أن اعتبار الكاتب المختلف سيبقى محفوظا ليس فقط في نطاق تخندقه قوميا او سياسيا، بل ايضا سيحظى بالاعتبار عينه في خورنته، ان كانت له خورنة، أو إن كان ضمن سرب متناولي القربان الأقدس، الذين يُـنظر اليهم بكونهم المحلقين كل بإرادته الطيبة، ونيّته الصافية، نحو السموّ الانساني والروحي.

87
الاخ الفاضل مسعود هرمز النوفلي
أشكرك على مداخلتك الاخوية، التي هي بغنى مقال لكونها تثري تطلعاتنا الوحدية من خلال ما استخرجته حضرتك من الابعاد الكتابية لكلام الله في حياتنا ومسارنا المسيحي. والتي تجعل من الوحدة، خطوات روحية من الكل نحو الكل، وبما يجمع الكنائس البطريركية في شركة المحبة، كما في الأجيال المسيحية الأولى.
فصحا مباركا للجميع
أخوكم
الأب نويل فرمان السناطي

88
 في مناسبة مقدسة تاريخية كهذه، أحج الى كنيسة اجدادي وآبائهم
بقلم الاب نويل فرمان السناطي

عندما يرحل علم في أعلى هرمها، أحج الى كنيسته، لكونها كنيسة أجدادي وآبائهم.
أعرف أني منحدر منهم منذ قرابة العقدين، ولي جذور في إحدى أسرهم.
وأعرف أيضا اني، من خلال أجدادي المباشرين، منتم منذ قرابة العقدين الى كنيسة مشرقية عريقة تشترك مع كنيسة أجدادي وآبائهم، باللغة الأم وبالطقوس وبتاريخ مشترك. كنيستي متمسكة ومنذ عدة أجيال، بجذورها العائدة إلى فجر المسيحية، وعمق الرسالة الانجيلية المنفتحة الى العالم بثقافاته ولغاته.
لكني لا أعرف، كما لا اعرف الكثير من اشياء أخرى، هل يا ترى تكوّن تراكم ثقافي متباين، فقط عبر هذه الأجيال؟ على أني أعرف أننا كنا جميعا، سواء قبل عهد اجدادي السبعة ، وقبل عهد أبناء كنيستي لقرابة خمسة قرون خلت، اعرف اننا كنا ننتمي الى كنيسة واحدة، استقلت عن الشركة الكنسية مع سائر الكنائس البطريركية الكبرى، منذ المجمع المسكوني الثالث في افسس 431. وبنعمة الله، وبالخطوات الشجاعة لكل من مار دنخا الرابع، ومار يوحنا بولس الثاني والحضور التاريخي لمار روفائيل الأول بيداويد، انطلقنا جميعا منذ أواخر ١٩٩٤ في عهد جديد من الانعتاق عن الحرومات المتبادلة. وفي الافق القريب نعيش عهد مرحلة بطريركية منفتحة الى أي أمنية وحدوية.

كنا إذن أبناء كنيسة واحدة، في بلاد بين النهرين الشاسعة، ممتدة إلى المزيد من الثقافات والأعراق، وصولا إلى الصين والهند، واشتركنا مع المغول من جملة غيرهم، في عقائدنا الايمانية؛ مما يبين ان التباين في الخصوصية، بين كنيستي ذات الشركة العقائدية مع الكنيسة الجامعة، وبين كنيسة أجدادي هو تباين نسبي اذا ما قورن بانفتاح كنيسة المشرق العريقة الى ما وراء بلادنا النهرينية. وإذا كنا نشكل كنيستين شقيقتين تتعاشق جذورهما المشتركة عبر التاريخ، ولنا من كل جانب، الكثير من المشترك في الارث العقائدي والتراثي والتاريخي. إلا أننا بتنا في أيامنا أمام أفراد وأجيال ممن يظهر انتماؤه الكنسي لأي من الاتجاهين، مقتصرا على العماذ والزواج والجناز فحسب، أو من اختار، من الجانبين كنيسة غير "اسرارية"، أو من لم يعتمد أصلا أي شيء من أي منهما. هؤلاء ما زالوا في هذه المرحلة، مرتبطين بالكثير من المشترك التاريخي والتراثي والفولكلوري. حتى بلغ الأمر بالبعض، منعزلا عن هذه الكنيسة أو تلك، أن جعل من المشترك التاريخي والاركيولوجي دينا بحد ذاته.
ومن الملاحظ انه قلما يظهر في اي من كنيستينا الشقيقتين العريقيتن اي تأفف من هذا أو ذاك، بل احترام معاصر لخيارات الناس والتفهم للمسار الاجتماعي والتربوي الذي قادهم الى حيث هم، مع الامنية العميقة في أن يرجعوا الى الينابيع.
من أجل كل هذا أحجّ الى كنيسة الراحل الكبير، مع ابناء من كنيستي، وفي الروح أمنية، ان تتقارب الخطوات، في مسار روحي منزّه عما هو حزبي أو سياسي. والدعاء كل الدعاء، أنه بعد خير خلف انتهج بقدر ما أتاحته خصوصية كل ظرف، نهجا متقدما نحو الميثاق الكرستولوجي. الدعاء يا رب، أن يظهر خير سلف للراحل مثلث الرحمة، يجمع المختلفين في اللهجة والتراكم الثقافي والتطلع الاثني، والتميز الجغرافي والعرقي، ليكوّنوا وحدة مسيحية روحية، أمام التحديات الايمانية في عصرنا. وحدة مسيحية يبتعدون فيها عن كل عنصرية وتعصب، متحاشين من يدس السم في العسل، في أي سانحة، لصالح هذا الطرف أو ذاك أو لصالح تنازل أحادي.
فإن المشترك بين الكنيستين العريقتين، اكبر بكثير مما بات يظهر على السطح، من تباعدات من كل جانب عن الارث الروحي لحساب المجتمعات الدخيلة على قيمنا المشتركة. وما بات واضحا من الارتماء في المذاهب الدينية غير الأصيلة، والايديولوجيات المعاصرة من العلمنة واللادينية والشوفينية الاثنية متعددة الألوان.
 الأمنية كل الأمنية أن يعودوا بنا، بادئ ذي بدء، إلى منطق الاحتفال سوية بكبرى أعيادنا، ويتعاضدون متماسكين للحفاظ على المشترك القيمي والروحي والانجيلي، أمام أجيال من مختلف الاطراف مهددة بالضياع، وفقدان ما تبقى لها من اصالة، وتمضي بالانصهار في الكتل الثقافية الساحقة والذوبان في الحيز الجغرافي المهيمن.
لقد اختط مثلث الرحمة البطريرك الراحل، مار دنخا الرابع، معالم نهج يمكن البناء على المشترك من تلك المعالم. وتشاء محبة الأجيال، على وفق أمنية المخلص في أن يكونوا واحدًا، مما بالتالي، لا يحتمل البتة اعادة عقارب الساعة الى الوراء. ونحن في ظل البطريرك مار لويس روفائيل الاول ساكو، في الانتظار وفي الاشتياق.

89

قراءة في الخطاب البطريركي للضمير الدولي بمجلس الامن
الإرهاب السياسي الديني كشأن عالمي: واقع وحلول
 
بقلم الأب نويل فرمان السناطي 27 آذار 2015

ألقى مار لويس ساكو، خطابه اليوم الى ضمير الاسرة الدولية، في مجلس الأمن الدولي، بالامم المتحدة في نيويورك. واذ يصدر من موقعه كبطريرك، وبدعوة من الاسرة الدولية ممثلة، بفرنسا، أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فإن الخطاب، وقد شاءت العناية الربانية ان يجد الارض الخصبة لحيثياته، ليس من ثم خطابًا شخصيا، مهما سما قدر صاحبه، صائغا ومهندسا وملقيا. إنما هو عصارة خبرة شعب تمخضت عنها جلجلة معاناة وصليب معاش على الهواء، هو وصية جيل مسيحي نهريني لعالم القرن 21؛ هو رسالة الجماعة الاسقفية والاستشارية المحيطة بالبطريرك؛ هو مشاعر متدفقة من شغاف القلب النهريني. الخطاب يا سيدي، أي حبر كنت من أحبار من كنائس العراق وبلاد بين النهرين والمنطقة، ويا أخي الشماس، اختي الراهبة أخي الراهب والكاهن، سيدي العلماني وسيدتي العلمانية، هو خطاب كل منا. فلنتلقفه بالرعاية وصلاة الشكر وبرسالة. إنه ليس تعليمات داخلية بشأن البيت الكلداني أو الكنسي. فهو إذ صدر، ووصل الى العنوان الدولي المطلوب، يعدّ خطاب منا كلنا، وهو رسالتنا. هذه اضاءة عن الخطاب، تعد نفسها بتواضع، واحدة من الاضاءات، لنغترف من الرسالة الانجيلية التي اوحت الخطاب، نعيشها، مشرقين بها كل بقبس.

بطريركنا في مجلس الأمن بالأمم المتحدة: بين منطقة آمنة، واستئصال للديانات المسيسة
نحن اليوم في محنة ونحن في نكبة على طول ارضنا النهرينيه وعرضها، بين العراق وسوريا، بين كماشات دول الجوار، فلا هلاهل لكون بطريركنا ضيفًا على مجلس الامن، بالأمم المتحدة في نيويورك، ولا مباهاة في مشاعرنا تجاه انفسنا واخوتنا كلدانا ومسيحيي المنطقة بمكوناتهم الثقافية والاثنية الى جانب الاقليات المهانة الاخرى أمام الدين المسيس اذ يبطش وامام جريمة عالم اذ يصمت.
مرجع من المراجع الدينية العليا يطالب بالدولة المدنية
وبرغم المحنة، نجد الحالة في مرحلة متقدمة في التعامل مع النوائب التي يمر بها شعبنا، اذ منحنا، بمبادرة من المحفل العالمي دعوة ليكون لنا صوت امام الاسرة الدولية. صوت يتكلم عن العراق، بكلدانه، بمسيحييه بما وجد لهم من مكونات اثنية، وبسائر قومياته وأقلياته. صوت رجل دين من المواقع العليا، يطالب بالدولة المدنية، ويزن الكلمات بمثقالها. صوت من العقل والقلب، للروح والوجدان، يصب في مجرى المواطنة والدولة المدنية، وحرية الفرد وانعتاق المرأة.
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه: مطلب المنطقة الآمنة كأضعف الأيمان
الصوت لبطريرك من المشرق، من بلاد بين النهرين، من عراق اليوم، قبل أن يكون من شخص، لي ولك تجاهه هذه المشاعر او تلك، شاءت العناية الربانية ان يوصل النداء عبر العالم، كما لم يستطع ذلك في الظرف الحالي عراقي آخر. اطلق النداء في كل الجهات، حتى كان صداه، الدعوة الى مجلس الأمن، فكان له ان يحمل العراق كل العراق على كفه. إنطلق من مبدأ أضعف الأيمان، تمليه الحقبة الراهنة، في العالم والشرق الأوسط، وهي امام الوحش الكاسر، الجائع الى المال وبيع السلاح بأي ثمن، والعطش الى دماء الأبرياء.
فجاء مطلب الأول: المنطقة الآمنة قبل كل مداولة أو لجان وتفلسف. فالأولية لإنقاذ الشيوخ والنساء والأطفال وكل الأبرياء من بناة المستقبل.

ناقوس خطر من الدين المسيس
والمطلب الثاني، هو المطالبة بأن يأخذ العالم موقفا جذريا، من تفشي خبرة الدين المسيس، كوسيلة يسيل لها لعاب مخططي الحروب، تجار السلاح.
جاءت كلمات الخطاب، بأسلوب محكم، لمن لا منطقة آمنة لشعبه، ولمن، أبناء شعبه إلى جانب سائر المسيحيين بمكوناتهم الاثنية، مهددون في العراق وسوريا، بين مخالب الشيطان، على الأرض وفي الجوار، من كل النواحي.
وحتى يكون لكرسيه البطريركي، حصانة ضد الذئاب والديناصورات المحيطة،  تتيح له وضع النقاط على الحروف، حتى ينفتح الى أفق يتسع الى القدس وروما، فإن عباراته سعت، على ما يبدو، على قدر الامكان، أن تتجنب المجاملة. لم تأت عباراته في خطاب اليوم، اقل صراحة، لتضع الاصبع على الجرح. وفي ما يأتي جملة مؤشرات.

المطالبة بتحديد سلم أولويات مجلس الامن
 باستثناء واحد، نفهم بواعثه، وهو كان ثمة الحاجة الى المزيد من التعرية لمن يتاجرون بالدين، ويقودونه ويوجهونهم على وفق مآربهم ومخططات اسيادهم. هؤلاء ما كانوا يحتاجون الى التشجيع نحو الصواب، بل إلى الكي كآخر الدواء. فقد جاءت محاور الخطاب، لغبطة مار لويس روفائيل الأول ساكو، في البحث عن دواء حاسم لداء الدين المسيس، كما يأتي:
المسيحيون  بمكوناتهم  الاثنية والثقافية، وسائر الأقليات العراقية، ممتحنون في ذكراهم المئوية وعلى مر قرن من السنين، بسبب نظرة متخلفة عن الدين.
التعايش الإيجابي
يشخص المحنة انها استفحلت بسبب غياب قاتل لمبدأ هو: " أن التعايش الايجابي على اسس العدالة والسلام، بروح المحبة والمواطنة" و ينبغي أن يبقى في "أعلى سلم اولويات مجلس الأمن والأمم المتحدة".
كما جاءت الصرخة البطريركية، بسبب نظرة مأساوية لشريحة متنفذة من المتعصبين تتمثل بعدم : "فهم  الدين والدولة والمواطنة،  والفرد والجماعة  ودور المرأة  والتربية الوطنية، وامكانيّة العيش معًا بسلام واحترام".
وجاءت الاستغاثة تهيب بالأسرة الدولية، أنها لم تعي بعد مسؤوليتها التاريخية تجاه التيارات الاسلامية الرافضة "العيش مع  غير المسلمين، وتعمل على  اضطهادهم واقتلاعهم من بيوتهم وشطب تاريخهم". وبذلك يطلق البطريرك صافرة الانذار في أن العالم امام: "أزمة فكر، واحتكار السلطة، وتعطيل المؤسسات ، وتقييد الحريات".

ثوابت على مستوى القانون الدولي
 ويطرح مار لويس روفائيل، حلا لا ثاني له، ويقدمه كنهج عمل للأسرة البشرية المعاصرة ألا وهو: "ثوابت على مستوى القانون الدولي لمنع حصول كذا انتهاكات كارثية  بحق الانسان والانسانية". انتهاكات اقترفتها دولة منظمة ومنتظمة وفق دستور ديني محدد.
دفاعا عن الأغلبية الصامتة: وينتخي غبطته، المجتمع الدولي لشعبه العراقي، ليس بمسيحييه وأقلياته، بل أيضا لصالح جموع من: "الاغلبية السلمية الصامتة لاتباع الديانات الرافضة لتسييس الدين والمتطلعة الى المجتمع المدني".
القوة الكامنة والتربية الضامنة
ولا ينتقص البطريرك مار لويس ساكو، من ضرورة القوة الكامنة، بما سماه بالتدخل العسكري، بكونها أولى ضمانات إحلال السلام، تجاه من لا يعرفون سوى منطق الكبح المسؤول. إلا أن غبطته لا يعدّ القوة العسكرية كافية لضمان إحلال السلام، بل يطالب بأن تتقدم سلسلة آليات حازمة لها ان تتخذ "قرارات قانونية  واجراءات حاسمة  من خلال تبني حلول سياسية وثقافية وتربوية". وبذلك يفوّت الفرصة على الذين يبكون بدموع التماسيح على الأبرياء وهم يمدون بخيانة ونفاق، العون لكل الفرقاء.
مخاطر إهمال الفقراء والمحرومين
ويقرع مار لويس ناقوس الخطر عاليا، أمام واقع خطير مفاده أن ثمة "خطر قد يكون  اكبر وهو  وجود ملايين  الاطفال والاحداث   الذين حرموا  من متابعة التعليم، وملايين اللاجئين في المخيمات من دون عناية واهتمام. فالإحباط والبطالة والفقر  قد يدفع بهم ليكونوا بسهولة  بيئة جيدة للانتقام والتطرّف. لذا ينبغي الاهتمام باللاجئين و تلبية حاجاتهم والتخفيف عن معاناتهم".

خطة عملية  نافذة دستوريا امام الحلقة المفرغة
أجل إنها حلقة مفرغة تواجه العالم، وليس المنطقة، وتقتضي هبّة دولية، حفاظا على أمن الكرة الأرضية، وذلك بمراعاة نقاط غائبة بنحو مأسوي:
-الاسرة الدولية مطالبة بتغيير نافذ للدساتير وإصلاحها، طالما كانت تفتقد الى "المساواة  والكرامة للجميع على اساس المواطنة الواحدة، من دون اعطاء امتياز للبعض على حساب البعض".
-العالم بحاجة إلى ان يتخلص من مخاطر الحكومات المتعصبة مذهبيا والقائمة على أساس ديني، وذلك بقيام: "مشروع  دولة مدنية تقف على مساحة واحدة من الجميع،  وتعتبر نفسها مسؤولة عن حماية الجميع والحفاظ على حقوقهم كاملة".
بين التشجيع والتجريم...
وأعترف أني تحسرت امام توجب استخدام البطريرك، بسبب مقامه وظروف ملزمة، لعبارة تشجيع المرجعيات... وكنت اتمنى لو كان كرسينا البطريركي بالحصانة المطلوبة، فيقال عندئذ: بدلا عن عبارة (تشجيع المرجعيات على تبني خطاب معتدل...) لتحلّ محلّها عبارة: "تجريم" المرجعيات الدينية على عدم تبني خطاب ديني معتدل  يعمق  الشعور بالمواطنة، اي ثقافة  انتماء الناس الى وطنهم وليس الى طوائفهم أو عشائرهم.
 
التربية التعصبية طريق للارهاب فعالجوها
وبعد الموقف المحذر، بنوع من الرقّة، من المراجع الدينية المتعصبة، يشير البطريرك بالبنان، الى مسؤولية خطيرة تتحملها الدول المتأثرة بوسط مذهبي معين فتطالب بضرورة: "اصلاح  برامج التربية في المدارس،  بحيث ترسخ مفاهيم  الاحترام بين  المواطنين وتعزز قيم التسامح والحوار بين الديانات والمذاهب، وتنبذ  الفرقة والكراهية وروح الانتقام".
ويشير البطريرك ايضا الى خطورة الدين المسيس، وما يستعدي التحصين منه لما يتسببه من "عواقب التطرف والعنف والارهاب" خصوصا عندما لا يتوخى تقديم: فهم صحيح للنصوص الدينية وعدم السماح باجتزائها من سياقها.
وبقدر ما كنا نتمنى تجريم رجال الدين كأبواق للتعصب الأعمى، من المريح استخدام البطريرك هذه المفردة في مقترحه: "اصدار قانون بتجريم ومحاسبة  الدول والافراد  ممن يمولون  هذه الجماعات الارهابية  ماليا او فكريا وعسكريا باعتبارها جرائم تهدد السلم الاجتماعي".

ردّوا الاعتبار الملزم لمنظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني
وفي إشارة لمّح فيها مار لويس ساكو إلى نوع من الاستخفاف الحكومي القائم، تجاه منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني، فقد طالب بلزوم: "دعمها بحيث يكون دورها، ليس استشاريا فحسب، بل تنفيذيا مسؤولا، على النطاق الاقليمي والدولي".
أجل أبانا غبطة البطريرك، علينا بمنطقة آمنة، ومنها منطلقا لانتزاع مبادئ افضل انسانية وضمانات أكثر أمانا.

90
مباركين ومشجعين الثلة الخيرة لشمامستنا الانجيليين بمختلف أبرشياتنا

بقلم الأب نويل فرمان السناطي

((تنويه لابد منه: الشماس الانجيلي، رتبة كنسية في الكنائس الرسولية الكاثوليكية والأرثوذكسية. ومع حفظ الاحترام والالقاب، لا علاقة لهذه الرتبة بمسميات الانجيلية في الكنائس البروتستانتية- الكاتب ))

مداخل تمهيدية

أوردت التنويه أعلاه، لحصول خلط في الأمر عندما كنت اساعد عمي القس جميل نيسان السناطي كشماس انجيلي في كنيسة الصعود، مما جعلني في الاحد اللاحق اقدّم الوعظة وبيدي السبحة الوردية.

وبعد، أود التعبير عن شعور الارتياح، لقبول الموقع البطريركي مار أدي، بنشر هذا الموضوع الذي يؤشر الى تطلعات بنوية مُحبّة، مرفوعة بوفاء الى  الأحبار الأجلاء والبطريركية التي سبق وأن قدّمتني شماسا انجيليا، لمدة زمنية مفتوحة بلغت الخمسة سنوات (1999-2004) وأتيحت لي فرصة طيبة للخدمة. هذا الموضوع أعالجه ايضا في هذا المدخل، قبل أن أورد نص المقال، في أدناه، بعنوانه الموسوم: مع شمامستنا، ترتيلا للإنجيل، ووعظا دوريا وخدمة للاسرار. وحرصت أولا ان أقدّمه الى الموقع البطريركي، للوقوف على مقبوليته من رئاستنا الجليلة، سيما وأنه يتعلق بسياقات ذات مستوى كنسي معتبر. فيكون من ثم التطلع منبثقا من داخل البيت الكنسي. مع مشاعر الحبور أن نشره يدل على انفتاح بطريركيتنا الى التجدد في ما من شأنه دعم مسيرة الكنيسة الايمانية.
وإذ أصدي للموضوع إياه على هذه الصفحات، فلكي يأخذ مداه تجاه القاعدة الواسعة من قراء الموقع؛ وكذلك لمواكبة مسيرة الكنيسة في احتضانها لرسالة المؤمنين العلمانيين، على مختلف الاصعدة، كالمجالس واللجان الخورنية وجوقات الكورال والتعليم المسيحي، والخدمة الليتورجية الطقسية، التي يقدمها الشمامسة الرسائليون؛ وهنا جاء التركيز، على الدور الذي يعود للكنيسة تشجيعه بما تراه مناسبا من حيث عيش الشماس الانجيلي الدرجة الكنسية التي منحت له بموجب الوزنة التي منحه الرب إياها.

دياكونية ما بعد الفاتيكاني الثاني

ومن بوادر السعد، أن عددًا من كنائسنا الرسولية، وكنيستنا الكلدانية، ضمن الكنيسة الجامعة قطعت أشواطا طيبة، في تشجيع الدعوات المسيحية على مختلف مواهبها، من التي تنبثق في صفوف العلمانيين، والتي تهيأ لي عيشها بالنعمة وليس بالاستحقاق، سواءً بالكتابة بالشأن المسيحي، أو التعليم المسيحي والخدمة الليتورجية، وأخيرا في خدمة الشماسية الانجيلية.
وبصدد الشماسية الانجيلية، كانت قد انطلقت في أبرشيات كركوك، وأربيل، وقبلها البصرة، وغيرها على سبيل المثال لا الحصر، خبرة وجود شمامسة انجيليين في ابرشياتنا وتكللت في ابرشية بغداد البطريركية، في 9 نيسان 1999، برسامة ثلاثة شمامسة انجيليين بوضع يد مثلث الرحمة مار روفائيل بيداويد، مباركة بذلك بنحو رسمي خطوات وجود هذه الدرجة الكنسية، ليس كمرحلة انتقالية للكهنوت، بل في ما يوصف في الكنائس الغربية، بدرجة الشماسية الانجيلية الدائمية، وذلك من خلال رسامة كل من: الشماس جرجيس إيشو ميخو والشماس (الاب) عمانوئيل القس كوريال وكاتب السطور.
ولأن هذه الخبرة، على مستوى الكنيسة الجامعة الكاثوليكية، والكنائس البطريركية المتحدة بها، في مرحلة ما بعد الفاتيكاني الثاني، تبقى خبرة فتية، من الطبيعي أنها تحتاج الى المتابعة والرعاية على مر الزمن، وذلك للتآلف مع الجديد وترسيخه، وصولا أن يبلغ كل هذا إلى بسياقات مقرة وثابتة.
كل هذا شكل تطلعات المقال تجاه بطريركيتنا بآباء مجمعها الأجلاء، وتحديدا السينودس الدائم.

أصداء في رسالتين

وفي هذه الغضون، وقبل نشر الموضوع في موقع عنكاوا جاءتني رسالتان أخويتان من شماسين انجيليين موقرين، من أماكن مختلفة في العالم، كلاهما أيّدا ما ذهب إليه المقال من حاجة الى دعم هذه المسيرة الصاعدة. فوددت التوقف عند آرائهما، قبل ترك القارئ الكريم مع المقال. خصوصا وأن الوقت، وللأسف الشديد، لا يسمح لي عمليا وكما كنت ارغب بشدة، في التعامل مع ما قد يرد من تعليقات، لا أشك مقدما في دورها البناء والمحب لكنيستنا ودعم نهجها الرسولي، في ظل الظروف التي تعيشها في الوطن وبلاد الانتشار.

الرسالة الأولى للشماس جرجيس، أكد فيها على ضرورة أن تتميز الخدمة الروحية المجانية للشماس الانجيلي كدرجة كنسية تكرسوا من خلالها، بعيدا عن أي توهّم بأن تكون منافسة لخدمة الكاهن، وما أوسعها من خدمة لكاهن اليوم بما على كاهله من أعباء راعوية متزايدة.
ولي رأي متواضع فيما يخص إشارته، إلى أنه قبل ان يكون لديهم كنيسة كلدانية، كانت توفر الكنيسة المارونية التي خدمها، مجالا واسعا للشماسية الإنجيلية. فأود التعليق أن ما رأيته بهذا الشأن في لبنان، زاد من اعتقادي بأن الشماسية الانجيلية في عموم الكنيسة الكلدانية، قطعت في مرحلة قصيرة أشواطا اوسع شقيقتها المارونية. في مقدمة التحليل غزارة الدعوات الكهنوتية والرهبانية من الجنسين، على تفاوت مستوى الأداء فيها. أما الكنائس المارونية في بلدان الانتشار، وهي على وفق ما أعرف، بحاجة الى الناس من حيثما جاؤوا مما يقتضي في نهاية الأمر، وخصوصا في أماكن الاغتراب التي تشهد قيام رعيات كلدانية وأبرشيات، الى التنسيق مع رعياتنا الكنسية تنسيقا أخويا مناسبا ومتكافئا، ومحترما لإمكاناتنا المتواضعة، لما يخص تبادل الخدمات للكنيستين، وبطريقة تتبعد عن المنحى التوسعي والاستيعابي. وهذا ليس مطلوبا بالتحديد على نطاق الشمامسة الانجيليين، بل على مستويات عديدة أخرى قد تكون مثيرة للتساؤلات.
ذلك أن الشركة العقائدية التامة التي تجمعنا، مع الكنائس البطريركية الشقيقة، تستوعب أيضا الاعتبار بحد من الآليات الراعوية. وهذا ما عشناه بين كنائس متجاورة سريانية وكلدانية في بغداد والموصل، يتحدث أبناؤها العربية ويشتركون بذات اللغة الطقسية.
أما إذا حتمت الظروف الجيوسياسية والاقتصادية والمتطلبات الراعوية الى ما يقارب الوحدة الكاثوليكية الاندماجية، عندئذ، وبتلقائية ومحبة، سيكون لكل حادث حديث.
وفي إشارة الشماس العزيز الى ترتيل الانجيل، يبقى هذا السياق، كما نعتقد بحسب توجه كاهن الرعية في ما يراه ضروريا لإيصال كلمة الله، مع بقائنا على مبدأ أن يكون للشماس الانجيلي دوره المعتاد في ذلك سواء من حيث الترتيل أو القراءة، وعلى وفق خصوصية كل مناسبة. على أمل أن يتم التوصل إلى تفاهم طيب بين الكهنة والشمامسة، إذ على المستوى الطقسي، اطلقت في عدد من رعايانا، ومنها كالكري، طاقات على نطاق الشمامسة الرسائليين والقارئين، فباركهم الرب بثمار رائعة لم تكن في الحسبان.
وهذا الرأي يأتي ايضا تفاعلا مع الشأن الطقسي المتصل، طرحه الشماس الانجيلي ليث عفان. كما تفضل أيضًا وأشار اشار فيها إلى انه في الرسامة الانجيلية وبسجود المرتسم على القدم اليمنى الواحدة اثناء حلول الروح القدس هو بذلك يحصل على وزنة واحدة .. مما يؤهله إلى استثمارها على مستوى الخدمة المتبادلة في "نطاق الكنيسة الكاثوليكية الواحدة. وهنا أود أن أشير إمكانية رعاية هذه بحيث تكون منطلقا للتفاعل المقبول مع الكنائس الأخرى، وليس بديلا لها في الكنيسة الأم بغية إنعاش رسالتها في بلاد الانتشار واحتضان أي مستوى متواضع  احتضانا رسوليا مسؤولا. فالكنيسة الجامعة تدعو الى المثاقفة والاثراء المتبادل، بين الشرق والغرب.
وزاد الشماس ليث وشخـّص، كما فهمت، مسألة مهمة وهي واقع الخلط بين الوضع شبه البروتوكولي للشماس الانجيلي بين كنائس روما الكاثوليكية وبين غيرها ككنائس رسولية، ونأمل ان مسيرة الوحدة والانفتاح الى اليها يجعلها تلتفت الى ضرورة تفعيل هذه الخبرة في الزمن المعاصر، قد تؤول فيه الكثير من تلك الكنائس خصوصا في بلاد الانتشار، الى الاستحالة الى كنائس مجهرية منعزلة، قد ينصهر رعاياها في المحيط الغالب. ولكن ثمة مؤشرات إيجابية متباينة في الأفق: تفاعلها مع مجلس الكنائس الاقليمي والعالمي، توجهها في خط العائلة الارثوذكسية مشتركة ومتحدة، وكلها مراحلها قد تقربها من الشركة الكنيسة الجامعة، تباشير ذلك خطوات مار فرنسيس المسكونية الوثابة.

بعد هذه المداخل التمهيدية، أترك القارئ مع بقية فقرات الموضوع وتحديدا، في جانبه المنشور في ا لموقع البطريركي، اقدمه بعد بعض المراجعة وبعض ماء السمّاق...

مع شمامستنا الإنجيليين ترتيلا للانجيل ووعظا دوريا وخدمة أسرار
لعل هذا يحدث عموما في أماكن عديدة يتواجد فيها شمامسة حائزون على الدرجة الكنسية الكهنوتية كشمامسة انجيليين، وهي ما سمي بدرجة الوزنة الواحدة. وأشك أنه يحدث في كل مكان بالقدر عينه. لهذا جاء هذا المقال لتسليط بعض الضوء، على هذا الموضوع، ولعله يصدر يوما في البطريركية أوعلى مستوى السينودس الدائم، تعليمات محددة بهذا الخصوص.
 إذا كان لدينا في كنيستنا المشرقية الكلدانية، خصوصية طقسية مستقلة ومتميزة، فلنا ككنيسة ذات شركة مع الكنيسة الجامعة أن نتناظر مع السياقات المماثلة لتعاملها مع درجة الدياكونية، للشماس الانجيلي. وإلا فلنا بالأصل، ما ليس للكنيسة الجامعة في الطقس اللاتيني. لنا شمامسة رسائليون، يخدمون الكنيسة الطقس بنحو متميز، بورع وبنكران ذات، وهم علمانيون متزوجون أو مؤهلون للزواج. ولولا الحاجة الى دور محدد للشماس الانجيلي، لما تم تنشيط هذه الدرجة منذ المجمع الفاتيكاني الثاني. وإذا أطلقت لدينا منذ التسعينيات وما قبلها، فلا بدّ ان يكون ذلك لكي تشغل فعلا حيزًا معينًا في الخدمة يبرر رسامة الشمامسة الانجيليين انطلاقا من كونهم شمامسة رسائليون.

المفهوم الشعبي والصفة الشائعة

لا نعتقد ان سواد الناس لهم فكرة محددة عن الفرق بين الشماس الانجيلي كدرجة كنسية وبين الشماس (هوبدياقنا -الشماس الرسائلي) كبركة اسقفية للخدمة. فمعظمهم عندما ينوّهون بشماس متميز، يؤكدون أنه (مرسوم عنجيلي اي إنجيلي) وعند التأكد من ذلك تجد انهم يتحدثون عن شمامسة رسائليين. ولفرط ما فرضت صفة الشماس نفسها، بنفس الاسلوب وشاعت، لتعني اي شماس، وحتى القارئ وخادم المذبح، فبتنا نألف الصفة بالإنكليزية تطلق على شمامستنا الكلدان في المجتمع الغربي تحت مفردة (Deacon) والتي لا تعني مجرد شماس، بل تعني الشماس الانجيلي، حصرا. فيما يكون الشماس الرسائلي (ولا زُغرا) يحمل بالإنكليزية صفة (Sub Deacon) وما تقارب بمعناها هوبدياقنا.
 
ما بين الكاهن والشماس الرسائلي

لمرحلة معينة، كان ثمة في كنيستنا الكلدانية المشرقية شمامسة، ارتقوا الى ثقافة طقسية تؤهلهم لخدمة الكنيسة في الليتورجية، كشمامسة رسائليين، ثم كشمامسة إنجيليين. وكدليل ان الشماس الانجيلي الحقيقي هو صاحب درجة كنسية، فإنه عرف بعدم امكانيته الزواج عندما يترمل في عنفوان الشباب، لا سامح الله. عندئذ تم مع الوقت، في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، الاكتفاء بخدمة الشمامسة الرسائليين، لعدم تقيدهم في موضوع الزواج الثاني بعد الترمل المفاجئ. فصار كتحصيل حاصل، الخيار ما بين، شمامسة رسائليين متزوجين أو كهنة متزوجين. وعندئذ اقتصر التحديد على رسامة الانجيليين كمرحلة انتقالية (Transitional) للكهنوت.
ولكن عندما انطلقت لدينا من جديد خبرة الشمامسة الانجيليين، بعد الفاتيكاني الثاني، ببضع عقود، سرعان ما اكتنفت الضبابية هذه الخدمة بحيث، بواقع عملي، لم يعد يوجد، أمام الكثيرين، فرق بينهم وبين الرسائليين، أو هذا هو انطباع عن بعد، لدى كاتب السطور. أما إذا كانوا أكثر من ذلك، فخير على خير، ويكون هذا المقال عندئذ لمجرد التأكيد ولبعض التنوير.
إنه لمن المحزن ان هذه الدرجة قد يؤول بها الحال، الى ان تضيع في سرب الشماسية الرسائلية حتى تختفي، اذا لم يتم تشجيعها من نواحي عملية، لما هم يستحقونه بفعل درجتهم. أما من يتعذر عليه ذلك لأسباب موضوعية، أو عمرية، فهذا لا يعني ان عددا غير ذي بأس من جيل شمامستنا الانجيليين المتنورين والدارسين والمواكبين، يحرمون من ممارسة حقهم؛ فيجدر ان يُحثوا الى ذلك بدعوتهم لبذل المزيد من الجهد، لممارسة دورهم بالحد المطلوب من الجدارة.
 
نسبة التهاون على مستوى الكنائس اللاتينية

ليس التهاون، في دعم الشماسية الانجيلية، ان وجد في بعض خورناتنا، حالة منفردة في كنيستنا الكلدانية، بل في الكنائس اللاتينية أيضًا. كما لمست ذلك في الكنيسة اللاتينية المضيفة للخدمة الاسبوعية لخورنتنا الكلدانية. فالشماس الانجيلي، صار له تقارب طيب معي، وكان صحفيا مرموقا في جريدة بارزة في المدينة: كالكري هيرالد. ما أن أحس بثقف ظل عند الخوري الجديد، حتى طلب التنسيب الى خورنة أخرى، فلاقى فيها ترحيبا أكثر.  قد يحدث ذلك إذن، ولكن ليس بنسبة مهمة، وذلك ضمن مؤشرين:
قد ينسحب الشماس الانجيلي في الطقس اللاتيني، إذا أخذت تهون قواه ولا يوحي بكفاءة متميزة، فيعتزل ويجلس ضمن المؤمنين. وبخلاف ذلك، فلهم قانونهم ورياضاتهم الروحية، واسبوعهم الدراسي الثقافي السنوي. كما يطالبون بالنقل من خورنة الى اخرى، مثل تنقلات الكهنة، لكيما يشحذوا همتهم، مع خوري يتعشمون ان يكون بتفهم الخوري السابق أو أكثر.
وكالمعتاد يُرسم الشمامسة الانجيليون بعد دورة مكثفة، أو بعد دورات شهرية لمدة ثلاث سنوات، ينتظمون فيها ومعهم زوجاتهم، بصفة حضور اطلاع وليس لأداء الامتحان.
 
مكانة الشماس الانجيلي في المناسبات اللاتينية الكبرى

ولنا أن نلاحظ المناسبات الكبرى، في الطقس اللاتيني. أكان مترئس الاحتفال، الحبر الروماني، او كردينالا أو أي أسقف. في تلك المناسبات يضطلع أحد الشمامسة المختارين، بدوره المتفرد الى جانب المترأس، وفي قراءة الانجيل. إنه دور لا يستهان به، ولا يزاحمه عليه اي من الكهنة المشاركين في القداس. ولا شك انهم يختارون في تلك المناسبة، من هو الاكفأ في قراءة الانجيل او ترتيله، من بين الشمامسة، وصولا الى مجرد قيامه بالقراءة الفصيحة دون الترتيل.
كما تُمنح للشماس الانجيلي ضمن قداديس الاحد، حصة دورية لإلقاء الموعظة. وقد لوحظ انه يطيلها بعض الشيء... ولكن لا تلغى هذه الحصة بل يلاحظ عليه ذلك،  ويطالب بالتحسن، سواء في حفظ الموعظة او بمجرّد قراءتها. كما يخدم الاسرار، مع عدا الاوخارستيا وسر الاعتراف. وكذلك يحثّونه على إجادة ترتيل الانجيل ولكن بدون استرسالات تجويديه قد نميل إليها في الشرق، إذا أطلق لنا العنان.
وكما ان المتميزين من الكهنة، دون غيرهم، يقومون باللقاءات الجماهيرية الكبرى، وليس جميعهم، فالموهوبون من الشمامسة الانجيليين لهم ايضا دورهم في الانجلة الجديدة في مثل هذه المناسبات، ومنهم من يصل الى النجومية، ويطلب على النطاق المحلي أو الوطني وهكذا تلقينا مرة، ككهنة مدينة كالكري،  دورة نهار كامل على طريقة الوعظ، على يد شماس انجيلي حائز على الدكتوراه.، استقدم لهذا الغرض من إحدى الولايات الكندية.
 
في كنيستنا الكلدانية

في كنيستنا الكلدانية، مثلما يتزين المذبح بوجود سرب جميل من الشمامسة الرسائليين لأداء الطقوس والاحتفالات الاوخارستية في الآحاد والاعياد المارانية، فإن الجماعة الكنسية تتبارك بأن يكون بين ظهرانيها، من اختيروا لدرجة الخدمة الدياكونية الانجيلية، بصفتهم متزوجين، منبثقين من صفوف المؤمنين وحاملي راية الرسالة العلمانية الملتزمة. ومن المعروف انه بوسعهم الوصول سواء بوظيفتهم، او موقعهم الاجتماعي، الى مختلف الاجيال وشرائح المجتمع، بالنحو الذي قد لا يتيسر للكاهن. وهم، من ثم، كما ترشحهم دعوتهم، يكونون عين راعي الابرشية واذنه، وأحد عناصر الوصل بينه وبين الرعية.

وبعد، 
لعل هذا المقال يشكل مناداة لنصرة الشمامسة الانجيليين ليعيشوا دعوة خدمتهم الروحية التي من أجلها تم منحهم هذه الدرجة الكنسية المقدسة. وعندما يحثون على ذلك، يكون شأنهم شأن اي كاهن مطالب بأداء ما عليه بدون تقاعس. وعندئذ سنجد فيهم من يجيد ترتيل الانجيل، بالنحو المقبول، أو يبدع في قراءته، كما يضطلع بالموعظة في دوره.
لكن هناك الخشية، أن اقرار هذه الحالة، سيكون متفاوت الاستجابة، وسيبقى التعامل معه اشبه بتعامل على مضض، وكأسقاط فرض حتى تمويعه.
وعليه فإن الاقرار العام لهذه الحالة لن ينجح حقيقة، إلا إذا كان ثمة قرار رسمي، إن لم يكن سينودسي مجمعي، يعهد إليهم بموجبه جهد الموعظة في أيام الاحاد بنوع دوري كأن يكون شهريا او فصليا.
وأكثر من هذا بان يبت في الامر بشكل حاسم، وذلك بأن تعهد إليهم بالدرجة الاولى مهمة قراءة الانجيل، ومن باب أولى ألا يستغنى عن وجودهم لهذه المهمة خصوصا في المناسبات الكبرى، كحالة اختصاص وحق.
24  شباط  2015

91
البطريرك بطريرك على رعاياه حيثما كانوا، وهذه في ذاكرتي، مفارقة (العالمية).
بقلم الأب نويل فرمان السناطي
17 شباط 2015

تمهيد
لا يتعلق هذا المقال،  بنحو مباشر،  بالاجتماع الذي ينظمّه مجمع الكنائس الشرقية اليوم الثلاثاء 17 شباط، للنظر في قضية احدى الابرشيات الكلدانية في بلدان الانتشار، وقضايا اخرى متعلقة بالكنائس الشرقية، ويشارك فيه غبطة البطريرك مار لويس رفائيل الاول ساكو بطريرك بابل على الكلدان. وليس فيه استقراء لما سيتمخض عنه الاجتماع.
لكن هذا المقال بقي موضوعًا مؤجلا، منذ آخذت تتردد في مناسبات سابقة  متعددة ومتباينة التوقيت، الاشارة الى شمولية كرسي بطريركي ما، بعبارة (في العراق والعالم) كأن يقال (في لبنان والعالم)، وكأن هذه العبارة تضيف شيئا ما آكثر من كون بطريرك انطاكيا على الموارنة، لا تقتصر حدود رعايته، بنواحي متعددة، على بكركي وما يجاورها.
وفكرة الكتابة هذه، جاءت أيضًا لتناول ما صادف كاتب هذا المقال، في حقبة زمنية معينة، من تماس مع استخدام عبارة (بطريرك الكلدان، في العراق والعالم) وليس هناك ما يؤكد أن استخدام تلك العبارة جاء آنذاك لأول مرة.
كما يتعامل المقال بشكل مستقل في بعض سياقه، مع تعامل الفاتيكان مع الكنائس البطريركية المتحدة مع الكرسي الرسولي، لكل ما يدعم مسيرتها وتواجد ابرشياتها في العالم، من حيث خصوصياتها ومن حيث وضعها الثقافي وايضا من حيث مكانتها في قلب الكنيسة الجامعة.

تحليل انساني جانبي
هناك الكثيرون ممن يمضي عليهم الزمن وهم في مصاف بسطاء القوم وسواد الناس، ولكن قد يكون لهم ايضا بصمات في هذا المسار أو ذاك من التاريخ. ليس لشئ إلا بسبب مجريات ظروف حياتية، بما يسميه البعض المصادفة، وبما يؤمن به من يؤمن، أنه من العناية الربانية.
وسبحانه من تدبير رباني، عندما يصل الحال بمن هم من سواد الناس، بأن يؤدّوا دورًا ما في حقبة زمنية. ولعلهم عند ذاك، ولحيرة مستصغريهم، يكونون أحيانا مدفوعين لا أبطالا. فتجدهم يعودون الى حال سبيلهم في الاحتجاب وعالم الابهام، والى ما قد يختارونه من حياة اعتكاف او كتابة.
وقد يبقى الأمر معهم أو بشأنهم طي الكتمان، لولا ايضا توفر بعض الظروف، أمام خيبة محبطة لمنافسيهم، فتبرزهم هذه المفارقة او تلك. وفي نهاية المطاف وفوق كل هذا، ليس ثمة كبير أمام الله، ويبقى اللاهثون وراء الصدارة يجرون ذيول العقدة والنقص، كلما ظهر هذا الشأن أو ذاك عند من استصغروهم، وهم يعدّون أنفسهم الوحيدين في الدنيا، ممن منذ طفولتهم، ركبوا الطائرة دون الحمار. وتبقى الامثلة والمقارنات من الجانبين تضرب ولا تقاس.
المفارقة في انتشار العبارة عن (البطريرك في العراق وفي العالم)
لا نعرف إذا كان قد أتى، من قبل، ذكر منصب بطريرك، بالطريقة المنتشرة حاليا، في الحديث عن بطاركتنا، وهو الاشارة اليهم تحت عنوان كعنوان: بطريرك الكلدان، أو الكنيسة الشرقية القديمة في (العراق والعالم). واذا ثبت أن هذا الاستخدام لم يرد حتى ايار سنة 1989، سنة تسنم مثلث الرحمات مار روفائيل الاول بيداويد السدة البطريركية، فهذا يعني ان المفارقة في التسمية أخذت منذئذ دورها في هذا المسار، وبخلافه ستكون المفارقة حالة آنية عابرة، أو تأكيد لواقع معروف ومتداول بهذه الصيغة.

في تلك الايام كان كاتب السطور، من الكتاب والمترجمين الخارجيين لمجلة ألف باء.  وكان يسعى للكتابة والترجمة في الموضوعات التي من شأنها تبين  الحضور المسيحي العراقي، من ذلك كتابته عن موضوعات مسيحية متنوعة، وما يحضر القلم منها: ساعة الآباء الدومنيكان،  دير الشيخ متي، ودير السيدة العذراء، والأب فرنسيس المخلصي، قصة أديث بياف وترازيا الطفل يسوع، ومكتبة الأب أنستاس الكرملي، وغير ذلك من العناوين. كان الكاتب يكتب التحقيق ويعطيه للقسم المختص حتى يأخذ طريقه إلى لنشر.
لكن حدث انتخاب بطريرك كان بحاجة الى تأوين واصداء ميداني. ففاتحتُ نائب رئيس تحرير مجلة ألف باء، الصديق المرحوم عبد الرسول الزبيدي، أبو رسالة الذي اغتالته عصابات ارهابية طائفية في عام 2004. فرأى أبو رسالة ان يتمّ الإصداء للموضوع ايضا على مستوى وكالة الانباء العراقية. واقترح أن اتحدث عنه مع مدير العام بالوكالة، في و.ا.ع. (وكالة الانباء العراقية) وكان آنذاك الكاتب (الراحل) داود الفرحان.
صعدت الى الوكالة، في أحد طوابق وزارة الاعلام، وتحدثت مع الفرحان، عن انتخاب البطريرك، فأجاب بأسلوب محبب وبروح النكتة التي وسمته، بأن معلوماته رجيجة (ركيكة) بشأن ما هو البطريرك. فشرحت له أنه الرئيس الاعلى، للمسيحيين الكلدان في العراق وأنه مرجع في نواحي عدة للكلدان المنتشرين في العالم. وتم في ضوء ذلك صياغة الخبر، وعلى ضوئه تم اعداد العنوان اياه، بوصف المنتخب، مار روفائيل الأول بيداويد، بطريركا للكلدان في العراق والعالم. وكذا الشأن في المقابلة المستفيضة التي أجريتها مع البطريرك الراحل على صفحات المجلة العراقية الأولى، ألف باء.  ومنذئذ، كلما ظهر الحديث عن بطريرك احدى الكنائس الشقيقة، كنت انتبه انه كان يذكر بصفة كونه بطريركا على رعاياه في العراق وفي العالم.

عبارة وليدة الحاجة الى النشر الاعلامي
والحال، أقرّ أن تلك العبارة لم تكن اكتشافا عبقريا، بل كانت وليدة الحاجة الى النشر الاعلامي فحسب. ولا بدّ من التأكيد أنه لم يفترض بها ان تضيف شيئا على صفة العالمية لكل بطريرك. مع أنه يبدو الآن انه درج على استخدامها وكأنها بصيغتها المروجة، أصبحت صيغة دستورية في القوانين الكنسية. بينما قصدت استخدامها لمجرد التنويه التوضيحي الذي لا يخلو من المباهاة، بمكانة البطريرك على ارض كرسيه وخارجها.

بين روما والكنائس المتحدة معها
عندما يكون بطريرك ما، كاثوليكيا كان أو غير كاثوليكي، في الرقعة الجغرافية لكرسيه البطريركي، لا بد ان تلك الرقعة من المكان الجغرافي، تبقى محدودة أمام تحرك القاطنين فيها، لتنفتح الى خارجها بنواح كثيرة متصلة بمرجعية الكرسي.
على ان في الكنيسة الكاثوليكية، يوجد امتياز آخر، وهو ان امتداد الكرسي البطريركي يعززه تناظر متفرّد من الشركة العقائدية الكاملة مع الكنيسة الأم وكرسي خليفة بطرس. من هذه الكراسي، كرسي انطاكيا للموارنة، فقد بقي كاثوليكيًا بنحو متواصل، منذ البدء. أما غير الكنيسة المارونية، من الكنائس البطريركية، فكان من تلك الكنائس التي في ظروف المجامع الكنسية في العصور الاولى للمسيحية، انفصلت عن الشركة مع روما. ثم استعادت أجنحة من تلك الكنائس البطريركية، بحجوم متفاوتة، الشركة مع روما.
هذه الكنائس البطريركية الكاثوليكية، بالإضافة الى خصوصيتها التاريخية، تشترك في التواصل مع روما بنحو يكاد يكون متقاربًا مع المجامع الاسقفية للكنائس الثقافية اللغوية، المنتشرة في العالم، من هنود واوكرانيين وغيرهم، ممن لهم رعاياهم المقيمين في البلاد وغيرهم المستوطنين خارجها. فتتواصل كنائسهم البطريركية أو مجامعهم الكنسية الوطنية مع الكرسي الرسولي بشأن المشترك العقائدي، والحياة الايمانية ونقل بشرى الانجيل، وكذلك في سياقات الموافقات الحبرية الخاصة بانتخاب الاساقفة واعفائهم، بنحو متناظر مع الاختيارات التي يطرحها اعضاء المجامع على المصادقة العليا للحبر الروماني. وطبقا لحجم رعاياهم في بلاد الاغتراب، يشكلون خدمة ارسالية، كما هو الحال مع الخدمة الارسالية للهنود السيرو-ملبار، في كالكري. او يقيمون كنائس واسقفيات، مثل ما هو الحال مع الكنيسة الاوكرانية الكاثوليكية في ولاية البرتا الكندية.
وما يعزز من سلامة الشركة، بين هذه الكنائس البطريركية وكرسي خليفة بطرس، هو أنها تقوم على اساس أن الحبر الروماني، إذ يكون اسقف روما برقعتها الجغرافية، يحمل ايضا صفة خادم خدام الرب بالمحبة، ولا يخرج عن هذا النطاق الا من خرج عن هذه الشركة لهذا السبب أو ذاك.
وما يجمع الاحبار في شركتهم الكنسية البطريركية، قد لا يختلف كثيرا عما يجمع أحبارًا في مجمع أساقفة تضمهم رقعة جغرافية على مستوى الأوطان والقارات، بقدر ما يعنيهم تميز خصوصيتهم الثقافية والطقسية، وحرصهم على الانسجام حولها. كما يحملون الاعباء الإدارية على قدر ما يحمله كاهلهم من العبء الجغرافي واللوجيستي، في مناطق تواجدهم وطنيا وقاريا، وطبقا للأمور ذات الصلة بالخصوصية التي تجمعهم. ويتحمل أي منهم عبء المساءلة من إخوته، في المجمع الاسقفي، مما يأخذ مجراه ومداه عبر الكرسي الرسولي؛ مساءلة قد تكون أمام اي تجاوز قانوني أو أخلاقي. وتكاد تتزامن محاسبته، بتوقيت قريب جدا، ما بين الجماعة الاسقفية في حيزها الاقليمي، وبين الاجراء المتخذ بحقه من قبل الكرسي الرسولي. هذا ما حدث مع اسقف كندي، ضبط متلبسا ضد القانون النافذ، على مستوى الاقليم كما على المستوى الدولي، وما يلقي بظلاله على وضعه الاسقفي المتصل بالكرسي الرسولي. فكان بيان مجمع الاساقفة ضدّه متزامنا مع قبول البابا بندكتوس استقالته.
وفي مثل هذه التعاملات تمت ايضا في المجمع الاسقفي في فرنسا، على سبيل المثل لا الحصر، اجراءات المجمع الاسقفي تجاه المطران جاك غايو، وبقي وضعه القانوني كأسقف كاثوليكي رهن التعامل مع روما.
ولولا الانسجام الافقي والعمودي، بين المجالس الاسقفية، او الكنائس البطريركية، والكرسي الرسولي، لكانت خرجت امور كثيرة، من نطاق الكنيسة الجامعة ولما استطاعت لزمن ان تحافظ على خصوصيتها بصفة كنيسة جامعة، في نطاق العقيدة الكاثوليكية المرتبطة بخليفة بطرس. لكن الرب قال أنه سيكون معها حتى انقضاء الدهور، يحميها، ولئن كان في حالتها البشرية، كإناء من خزف يحمل وديعة الايمان التي لا تثمن بثمن.
وفي الوقت عينه، يضحي من غير المنطقي ان يكون المصاف الاسقفي، او المجمع الاسقفي للكنيسة البطريركية، مجرد مكتب بريدي يصل أعضاءه ورعاياه بالكرسي الرسولي في اي صغيرة وكبيرة، وتترك على عاتقه أدارة شؤونهم. بل يعرف المتخصصون صلاحياتهم المجمعية، تجاه بعضهم البعض، وتجاه كهنتهم ورعاياهم وتجاه ما يجمعهم بالشركة العقائدية التامة مع كرسي بطرس.
أما اذا حدث ثمة التباس بين اسقف ومصافه الاسقفي، لأمر لا يرتقي إلى ان يكون مساسا في حالة قانونية أو أخلاقية أو مالية خاضعة للمساءلة، ولا يتعارض مع خطه العقائدي المنسجم مع روما. عندئذ لروما أن تتعامل مع الحالات كل على حدا، بحسب خصوصيتها وظروف اصحابها، سواء على المدى القريب أو البعيد. وبما يعالج طبيعة التعامل مع انسيابية الاحوال بين رعايا الاسقف المعني ورعايا  كنيسته الام ولحين عودة الامور إلى سياقها الطبيعي بفعل هذا الظرف الزمني أو ذاك. وحدثت مثل هذه الحالات، على مستوى كنائس ما سمي بالمعسكر الاشتراكي، وطبيعة تعاملها مع نظيراتها خارج ذلك المعسكر، سواء تلك المتحدة مع روما او تلك التي لم تستعد الشركة معها منذ زمن الانقسام. كما حدثت، في أعقاب المجمع الفاتيكاني الثاني، على مستوى الجناح الكاثوليكي المتزمت بزعامة الاسقف الفرنسي لوفيفر، الذي كان ينادي بالقداس بلسان الآباء، اللاتيني، وبعد بضع عقود من عهد لوفيفر، لم يكن بدّ لرعاياه إلا العودة الى حضن الكنيسة الكاثوليكية، بعد أن تُرك لقسسهم أن يقدسوا باللاتيني ويتسربلوا بالسوتانة الاكليريكية التقليدية.
ليكونوا واحدًا
ومن معالم السعد على مستوى الكنيسة الجامعة، أنها في أي من هذه الأحوال، تضع الشركة الكنسية التامة في الأولوية، على وفق امنية الرب يسوع: (ليكونوا واحدا كما نحن واحد). ولولا ذلك لكان حالة الكنيسة الكاثوليكية، ليس على اساس استقلال اداري معين في الكنائس الارثوذكسية، بل متجزئة على مستوى ما سمي بالكنائس المجهرية، وليدة الاصلاح البروتستانتي التي، كما تطرحها معلومات (كوكل) والتي تتكاثر مسمياتها، في كل عام بالعشرات ثم بالمئات.


92
رثاء حلم اسمه الامة

بقلم أ. نويل فرمان السناطي

أفتح في هذه الصفحة سجل عزاء.
فلم يعد من يمنع العين ان تذرف الدمع،
قول للعين يا عين جودي.
وتقول يا هذا، للحزن مرحبا يا حزن.
فلم يعد يا حزن غيرك من نديم.
ها قد جاءت طلتك، يا حزن، على حين غرة.
يا حزن الدهور المقبلة، جئت مثقل الخطى،  تجر وراءك ظلا أثقل
ظل حلم، مجرد حلم كان يحلو ان يداعبه الناظر، كطفل ينتظر العيد،
واذا بك تجرّ يا حزن، ظلك، في نعش حلم قتيل.
هوذاك يا حزن، ناهرا، أن عد يا هذا الى قلنسوتك
واكتف بمعبدك، خشوعا ومنبر روح،
ودع ذلك الحلم الذي طالما تمسكت به، تمسك الاطفال بيوم شمس.
تعال يا هذا وارتم في أحضان حزن،
على حلم ان تكون امتك واحدة.
تلك امتك الواحدة، لغة ونغمة ودبكة، ولونا وأمسا بعيدا بعيد، ومسيحا.
صلّ يا هذا على أمتك صلاة الثالث والسابع،
واجترّ حضانة القيح حتى الاربعين
وعندما تحلّ السنة، يا هذا
ودّع الأمة على رجاء القيامة،
على رجاء أن ترى من الامة شعبَها
شعبها الجريح المهجر الممزق المشرذم، واحدا واحدا في السماء.
ولكن يا حزن، وأيم حقك، علام حلّ بنا ما حلّ.
من ذا الذي ارهبته وحدتنا،
من هو من شعوذته لغتنا،
ما الذي ارعب مرعوبا لينحر، من الوريد للوريد، أمتنا.
أي اعداء خططوا حتى نتشظى بأيدينا إربا إربا.
وما عساهم جنوا من ذلك.
هل بلغ بنا الثراء ثراء دويلات الخليج،
ليُسمّى فينا كل فخذ من أفخاذنا ولاية.   
دويلات الخليج، غدت أمتهم، أمما،
وغدوا يتناحرون على الارض الواحدة شعوبا وقبائل.
طمع المقسمون في ثرائهم، فجزأوهم.
ماذا لعمري، أثارهم، فيجزؤوا أضلاعنا عظما عظما.
بماذا يا ترى، طمع في تمزيقنا، ممزق
على ما خطط لنكون ولايات مجهرية، وقبائل وكيانات أسرية ، غريبة عن بعضها في غربتها.
أمسٍ في التلمذة، كنا كلدان وسريان،   
وكان الاستاذ واحدًا يعلمنا أبجديتنا والقواعد،
يتنقل برشاقة بين لهجاتنا، والطقوس.
وفي كنيسة مار زيا بالدورة، كان الرابي، يشرح التورجاما، بسلاسة السلسبيل.
وكان الرابي، إذا ينزل الى الكمب، يمعن في تشويقنا،   
وتشويق التلاميذ عن الوحدة،
فيلفظ الحاء خاء، تارة، ويناغي الحاء حاء، طورا
ويا لقدر أمة ضاعت بين حاء وخاء.
يجلس السريان بين كاثوليك وارثوذكس، يتناظرون في طقس النهيرة.
ويصدح الموارنة، أمام سريانهم، كاثوليك وارثوذكس،
بكلمات العشاء الاخيرة، بلغة المسيح إياها.
فاسأل، وأيم حقك، الماروني، ما اختلافه عن سريانه الكاثوليك،
واسأل سريانيين اثنين، بين أرثوذكس وكاثوليك،
كيف يفسر شعبهما وسواد قسسهما ما يختلفهما من مذهب هذا وذاك؟
أهي ولايات خليجية رأسمالية، بناها كل أولئك الاقطاب،
من موارنة وغيرهم، من سريان كاثوليك وغيرهم، من كلدان وغيرهم
لتستظل كل ولاية منهم بعلم
برغم مسيح واحد، وجذور، ولسان ودم.
إبكِ يا عين لقلم لن يعود له بعد مأتم، أن يكتب،
عن أمة كانت، ولم يعد حتى للحلم لها من مكان.
فالموارنة، يا حسرة، لم يعد في كنائس اغترابهم من تمسك بالجذور سوى لغة طي،
وبات كتاب طقوسهم يبدأ افرنجيا ثم عربيا،
وتتوالى صفحاته بأعدادها من اليسار الى اليمين. أما لغة المسيح فحسبها اصحبت رمزا من الرموز.
وها هي سائر رعايا شعبنا الواحد، ترتمي في بلدان الانتشار،
تسلم لغتهم الطقسية زمامها للغة السائدة، استعدادا لانصهار الرعايا في بوتقة الشعوب المستقبلة.
امبراطوريات على انقاض امبراطوريات، بناها الجاه والمال وما إليهما،
من اجل البقاء للأثرى والاقوى،
حتى تضمحل الامبراطوريات كمن ورق،
الواحدة تلو الاخرى في حضن القادم الاقوى من حيثما ما كان.
شعب اصبح شعوبا، بلون كل مذهب.
لا الشعب يعرف ان يفصل اللون عن المذهب،
 ولا للرعاة شأن في اختلاط اللون بالمذهب،
فما عاد اللون من الالوان يغني ويسمن،
وغدا المذهب بين المذاهب والشعوب
 تتقاذفه الأمواج بين جارّ ومجرور.
أسئلة واسئلة حائرة على حلم غدا سرابا،

أجل لقد فتحت لأمتي سجل تعازي،
وما عاد عشمي من الاشقاء المعزين،
سوى أن يعزيني كل منهم،
ولكل سؤال بإجابة تعزية. 
 

93
أفكار ذكريات مع المطران الجديد مار عما نوئيل شليطا
بقلم الأب نويل فرمان السناطي

بوحي من الصلاة المريمية: تعظّم نفسي الرب
 
لم اجد افضل من كلمات هذه الترتيلة، للإصداء على خبر انتخاب المونسنيور عمانوئيل شليطا، كعضو في سرب اساقفة الكنيسة الكلدانية، راعيا على إحدى ابرشياتها، المترامية في أطراف العالم، ليكون بأسقفيته على أبرشية مار أدي في كندا، منضمّا إلى المجمع البطريركي المقدس الذي انتخبه، لخدمة أبناء الشعب المسيحي الكلدان، وبمصادقة الحبر الروماني مار فرنسيس.
 وقد أتاح المطران المنتخب، قبيل رسامته التي باتت على الأبواب وقبل تنصيبه، ان يأتي تسليط الضوء بمنحى شبه تعريفي. وعندما حدّثتُ هنا احد الاشقاء في الكهنوت عن مشروع المقال، سرعان ما التفتَ الى ضرورة ان يكون العرض يعكس مشاعر اشقاء الكهنوت، في مقدمة تلك المشاعر، اننا ونحن نستقبل هذا الحدث من بدايات العقد الاول من عمر الابرشية، وما عاشته من مخاض، فقد جاء الحدث كولادة اطلقت الاسارير بنحو واثق مستبشر.
سكرستية ساسكاتون
في المدة التي خدمت خلالها خورنة ساسكاتون، كنت أسر بمسألة عملية، أن أجد في السكرستيا (وهو مكان تبديل الكاهن والشمامسة في الكنيسة قبل القداس، ومقر مفاوضات التسوية بين الشمامسة في توزيع أدوار الخدمة والقراءات) أن أجد قميص خدمة ابيض، معه إزاره مخيطًا معه لعجبي (built in)، وبدلة كهنوت ذهبية اللون. و للعجب الآخر، كانت حلـّة الخدمة الاوخارستيا، الى حد قريب بقياس كاتب السطور (ميديوم كنك سايز) حتى عرفت أنه للكاهن الذي كان يزروهم في المناسبات، الأب (المطران) عمانوئيل شليطا. وتشاء العناية الربانية انه ذاته سيزور هذه الخورنة ضمن رعاياه الكلدان في كندا، والأن بصفة أسقفها الجديد. يبدو أنه تركها، لزيارات لاحقة، وفي الآخر قال لهم اتركوها لديكم للحاجة. وكانت أول فرصة للتفكير في أنه كان ضمن عدد من الكهنة الذين كانوا يستقدمون للخدمة في المناسبات. لتكون منذئذ تلك الجماعة المباركة، واحدة من أولى الجماعات الكلدانية التي عرفتها في كندا.
ولما كانت المعلومات البطريركية، عن الاساقفة المعلنين، وافية بما لا يقتضي الترديد، فهذا المقال يأتي على شكل افكار مسموعة، عما نعرفه عنه، وما رأيته في أكثر من زيارة قمت بها، الى كنيسة رعيته، مار كوركيس الشهيد، ونزولي في ضيافتهم.
وفي المرّات التي سنحت لي زيارة مركز رعيته، كان يقوم بتلقائية ليرتب معي موعد القداس، وهو النَفَس الذي يرافقه مع كل كاهن يزوره، أحدهم الأب مهند الطويل الدومنيكي، والذي جمعني المونسنيور معه ومع أهله في لقاء مؤثر، كان انطلاق صداقة كهنوتية عميقة.
وبادر لغير مرة، لتقديم قرص للقداس الذي كنت اقدسه في مقر رعيته ،مار كوركيس، هذه الكنيسة الكبيرة والجميلة جدا. ويزيد، فيكرم بكياسة، كل كاهن يقدّس لديه برغم قدومه بغير موعد مسبق. لسان حال يذكرنا بتحريض الام الطوباوية تريزا دي كلكتا مخاطبة الكاهن: أيها الكاهن، إعمل وانت تقدس القداس، وكأنه دائما بنكهة  المرة الأولى التي تقدّس فيها وأنه قد يكون بعبق المرة الأخيرة.
وكان شقيق الكهنوت يمارس مع الكهنة مثل هذه الكياسة، على حدّ علمي، حتى في زياراته التي كان يزور فيها الوطن، بشغف اللبناني الذي يقصد مسقط الراس في اجازته السنوية.
وأذكر أنه بعد أن قدمني قبل سنتين، في قداس أقمته في كنيسة رعيته أني، في كلمتي الجوابية للمونسنيور المكرّم حديثا في مناسبة يوبيله الفضي، استشهدت بكلمة يوحنا المعمدان عن يسوع: له أن ينمو ولي ان أنقص. لتمضي الأيام على المونسنيور، الذي جاء بعدنا، في التلمذة بإكليريكية مار يوحنا الحبيب، فيشاء الرب أن يكون راعيا لأبرشيتنا الكلدانية في كندا.
 
صورة بالكلمات
كيف أجده: عصامي مكافح، كاهن ميدان مكتف بنعمة الكهنوت، تراه مغتنيا بما عنده، زاهدًا بكل ما من بعده.
اذا احتسبنا اليوم، استحقاقه من العمر الكهنوتي الممتد لثلاث عقود، تجده بلسان حال من يتفاجأ،  فإذا انبهر، سيكون ذلك الانبهار بتبني صلاة الشكر للعذراء مريم وهي تقول:
"تعظّم نفسي الرب... لأنه نظر الى تواضع أمته."
أما وقد صار ما صار، وأن رجل الله قد قبل برغبة السينودس المقدس، فحسبه ان يعمل بواقعه الجديد بنفس الاكتفاء والاغتناء والارتقاء والثبات، فتلك سنّة الخدمة في الكهنوت المقدّس. كيف وبأي مؤشرات؟
هذه نتف، استقيتها من المرات التي التقيته فيها سابقًا، إلى جانب مهاتفات على مدد متفاوتة، آخرها  للتهنئة، جرى خلالها بنحو سريع وضع شيء من ملامح هذه الصفحات. وسبق وأن تكلمت معه لمناسبة العيد، قبل الاعلان، حيث تحدثنا بأجواء كانت اشبه بأجواء "الخطبة غير المعلنة"، متحفظين محترمين الكتمان بينه وبين الرعية التي سيقترن بها، حتى يعلنونها متمنين الخير.
 
الكاهن ومجالس العزاء
أبرز ما استقيته عن مار عمانوئيل، من لقاء أسبق، تقاليد المآتم ومآدب التعازي وبرتوكولاتها. فقد دخلت، في صبيحة أحد، دار الكهنة لكنيسة مار كوركيس، وهو خارج من الدار، ولم يكن عليه مظهر شيء يذكر، حتى انتبهت الى مسحة خبر جديد، تبين انه كان وفاة ابن أخيه، شابا صارع من اجل العافية لزمن حتى دعاه الرب. أجابني عندما سألته عن مراسيم العزاء، قال: أنا كاهن، تعزيتي القداس، ودعوتي الصلاة من اجل المتوفين، فما الحاجة الى الرسميات الاخرى. هذا ما يوحي بإرساء تقليد، يبرز الصلاة، ويخفف من عبء الرسميات، ويجعلها معقولة مقبولة.
وضع كنيستنا يعرفه، ويعرف مستواه وثقله، واذا كان يتهيأ له أن يشخصه، خلال أحاديثنا، فيفعل ذلك بدون تشكي، بل باقتراح الحلول.
 
في مجال القداس والليتورجيا
في هذا المجال كنت وجدت راعي خورنة مار كوركيس، قد جمع مجموعة شمامسة، بنحو يثير العجب، لكونهم بأعمار واماكن واتجاهات متباينة، كيف؟ هذا ما يمكن ان نعرفه ونتعلمه فيما بعد، فالحال بين خمسة شمامسة لا يختلف كثيرا عن الحال بين خمسين.
أما عن القداس، فيرى ان عمل اللجنة الطقسية فيه، يستحق الثواب، وان البطريركية قدمت الى الابرشيات نسخة متكاملة، جديرة بأن نتوحد بشأنها طقسيا في كل مكان، وما ينقاش، ينقاش في مجمع ويعلن رسميا. واذا احتجنا استفسارًا عن هذه الفقرة او تلك، فعنده الجواب. أحد تلك الاستفسارات كان بشأن ذبيحة القداس، وسيجد طريقه إلى التبلور، كما أخبرني سيادته، في الاجتماعات الاكليريكية القادمة:
فقد طرحت عليه مؤخرا، ان كان مناسبا مكانها في القداس، تلك ترتيلتنا المعروفة لدى التقادم: اتكالا اتكلت على الرب، جسد المسيح ودمه الثمين على المذبح المقدس... (مسبارو سبريت بمريا، بغريه دمشيحا ودمه يقيرا...) وكيف وُضِعت هذه الترتيلة، في بداية القداس، وقبل كلام العشاء الاخيرة، او دعوة الروح القدس، حيث خلالها كما قال، تتم الاستحالة في طقس كنيسة المشرق.
عندئذ شرح المطران المنتخب كيف ان عناصر متعددة من الصلوات تدعونا الى ان نسبح لحضور المسيح جسدا ودما فيما بيننا... سواء لدى فرز التقادم وإعدادها، أو من خلال صلاة التقادم، عندما نطلب ان يقبل هذا القربان، وغيرها الكثير.
 
وكان الحديث عن تواصل الابرشية، على المستوى الاعلامي
إنها احدى الابرشيات الكلدانية تتواصل مع بعضها ليتورجيا روحيا اعلاميا، بانسجام مع الخط الاعلامي للبطريركية،. هل يكون موقع الكتروني للأبرشية، نعم ولكنه لن يكون رقما مضافا إلى المواقع الالكترونية، بل له أن يعكس واقع حال الابرشية، انشطتها واعلاناتها، ويصبّ في المجرى الاعلامي العام لمنبر البطريركية، مع ضرورة البحث عن آلية، تجمع مواقع الابرشية حوالي الموقع البطريركي لتكون مواقع الابرشيات من موقع البطريركية، بمثابة الشعاع من البؤرة.
 
التعرف الميداني على الابرشية وخورناتها
المطران المنتخب، كان يمضي خلال التداول الالكتروني بشأن محاور هذا المقال،  فترة انتظار الرسامة، تسبقها رياضة روحية تحضيرية. وبعد الرسامة، ولحين يأتي موعد التنصيب، سيبدأ العمل، كما نوه في أول مقابلة صحافية مع الصحفي السيد ماجد عزيزة، حيث ذكر بتواضع، أنه من ناحية الأبرشية، لا يعرف كثيرا عنها، وأنه واثق أنه مع الزمن والعمل سيتعرف بالتأكيد عليها وعلى كل شيء فيها، وحين العودة بعد الرسامة سيبدأ كل شيء، كما قال: سأبدأ من (الصفر) كي أعرف كل شيء عن أوضاع الأبرشية.
 
تواصل اليوم المشرق مع أمسه
على أنه في إشارة طيبة، تنم عن تواصله الايجابي مع ماضي الأبرشية، خاطبنا، مار عمانوئيل برسالة الكترونية، بشأن سياق ذكر الصلاة من أجل الرؤساء الدينيين في صلاة نقوم شبير، كتعليق لتساؤلنا بهذا الصدد، في رسالة الكترونية متداولة. وطلب ان تذكر الاسماء فيها بالطريقة الآتية:
مار فرنسيس الحبر الأعظم بابا روما، ومار لويس الجاثاليق بطريركنا، ومار عمانوئيل اسقف رعيتنا، وأبينا مار يوحنان، وسائر أبناء خدمتهم...، وبذكر مار يوحنان، تكون أشارة محبة من المطران الأصيل إلى المطران المستقيل، والاعتزاز بوجود ما يوحنان زورا فيما بيننا كأب وأسقف سابق للابرشية.
كما يؤكد الأسقف العتيد على ابرشية  كندا، على السعي لتكون اللغة السوادية في صلوات الشعب، ذات صيغة مشتركة على عموم الابرشية. ونتوقع ان يتناغم ذلك الى حد بعيد، مع السياق في الابرشيات الكلدانية بالولايات المتحدة الامريكية. والطريقة الى ضبط تكل الصيغة، يراها بتعميم الصلوات التي يرددها الشعب، في القداس، بما فيها قانون الايمان والصلاة الربية، بحيث تكون صيغة واحدة تساعد على الانسيابية في الصلاة، ويتم فيها تحاشي الكلمات العربية، وما يكون صعبا للفهم في البدء، يتم التعود عليه مع الوقت. وان هذا مطلوب في الدرجة الأولى على مستوى الشعب، لأنها صلوات جماعية، تقتضي الانتظام التعبيري لدى تلاوتها. وقد يختلف الموضوع بعض الشيء، عن الصلاة الفردية للكاهن، عندما يميل لسانه في الصلاة، نحو استخدام عبارات الصلاة، من هذه اللهجة أو تلك.
 
الافاق الكلدانية لأبرشية مار أدي في كندا
هذه، قبل نهاية المطاف وقبل ان الملم الاوراق، افكار من التي آمل ان يستعرضها المطران الجديد ولم يتسنى لي مشاركته فيها.
فمع استقرار أبناء الابرشية،  في كندا، وتبلور سياقاتهم الاجتماعية والثقافية، لا بد وأن راعي الابرشية الشاب سيجد بحكمته وخبرته الاسلوب المناسب للتعامل مع الحس الاثني المتزايد اكثر فأكثر لإعلان تميّزه أمام المجتمع الفسيفسائي  في كندا، بدون ضبابية، هذا الحس الذي يجمع الجماعة ويتيح لهم أن ينتعشوا اجتماعيا، ويرسخوا بانفتاح واغتناء حضورهم الكلداني الثقافي والاجتماعي والاثني المتشرب من الأصل القومي النهرين، مع التساؤل عن دور الكنيسة في كندا إزاء هذه الظاهرة، تساؤل مطروح أمام المطران الجديد بخبرته وموهبته.
مع أطيب التمنيات للاسقف الجديد لأبرشية مار أدي الكلدانية في كندا مار عمانوئيل شليطا، وللاسقف المرتسم معه مار باسل (باسيليوس) يلدو اسقفًا على بيث زبداي شرفا، والمعاون البطريركيّ  خلفاً للمطران جاك اسحق، ومبروك لأبشية مار توما الرسول - استراليا، مطرانها الجديد مار اميل شمعون نونا، خلفا للمطران مار جبرائيل كسّاب

94
مع صحيفة كندية: تشخيص متوازن لإسلام
قراءة غربية في فكر البطريرك ساكو
تقديم الأب نويل فرمان

نشرت صحيفة كالكري صان، من كبريات صحف كالكري عاصمة البرتا الاقتصادية، في عددها الصادر يوم الاحد 18 كانون الثاني 2015، في عمودها الاسبوعي، تحت باب (ضيف العمود) مقالا موسوما بعنوان: "العالم بحاجة الى المزيد من الحقيقة، بحب" وكان ضيف العمود المطران فرد هنري، وله عمود اجتماعي أنثروبولوجي في عدد من صحف ومجلات البرتا. والصحافة العلمانية المحلية تعدّه الاسقف المشاكس بنحو محبب وبحجة، وصاحب الصوت الجريء ممن لا تثنيه في قول الحق لومة لائم. هذا ما كان سببا لشعبيته، سواء في المحافل الاجتماعية أو اللقاءات الحوارية.   
الجديد في الموضوع ان الاسقف هنري صاحب المواقف الجريئة في مساوئ الكازينو، وعدم قبول تبرع من ارباح القمار، والمنادي بالقيم الاجتماعية، في إطلاق الخطة الخمسية لإيواء المشردين، وجد إجابات عن تساؤلاته، في فكر البطريرك الكلداني مار روفائيل الاول ساكو. فقد جاء عنوان المقال، كترجمة فورية، لما كتبه بطريرك الكلدان مار لويس ساكو، عندما صارحه المطران هنري مؤخرًا: "نحن الغربيون نميل الى الخشية ان نكون مباشرين، لكن قيادتكم تعطي الثقة لنقول الحقيقة، وبحب."   
وفي العنوان الفرعي للمقال، جاءت هذه الكلمات: (نحن لسنا كلنا شارلي) كرد فعل للديباجة التي سرت كالنار في الهشيم في اعقاب اغتيالات باريس قبل ان يستدرك المفكرون والمراقبون الواحد تلو الاخر، بنحو مغاير لهذا الشعار. هذه إضاءات على مقاله، من باب الأصداء له، كتفاعل غربي إيجابي مع طروحات البطريركية، ومع مراعاتنا للنبرة الغربية في الطرح، فإن البطريركية تبقى تحتفظ بخطابها الخاص، وهي تصدي للمقال في كونه انعطافة غربية جديدة في التعامل مع حقائق قديمة طالما تم تجاهلها والمجاملة بشأنها. ونبدأ بما جاء في صدر المقال:   
في 7 كانون الثاني، جاء الهجوم الارهابي من خلال مسلحين اسلاميين على مكاتب الصحيفة الفرنسية الساخرة (شالي أبدو) في باريس، كمناسبة مؤاتيه لإدانة الإرهاب بنحو كاسح الانتشار.   
المجزرة طالت 12 مدنيًا بضمنهم شرطيين، أحدهما مسلم، في جريمة مقرفة، تستدعي تضامننا مع الشعب الفرنسي والعوائل المكلومة في هذا الشأن.    
وفي 10 كانون الثاني، اصدت وسائل الاعلام العالمي الى ان ما بلغ مجموع 2000 مدني، في مدينة باغا النايجرية وفي ضواحيها، تم ذبحهم من قبل الجماعة الاسلامية بوكو حرام.   
وما وجدته من سخرية المقارنة، ان الصحفيين كانوا مشدوهين بشأن استهداف حرية الخطاب والتعبير، في باريس، ولكنهم كانوا يمرون بتجاهل امام المجزرة الثانية التي طالت عددا خياليا من الضحايا البشرية.   
هذا مثال ينطبق بامتياز على ما وصفه البابا بثقافة الاسقاط.   
من حيث المبدأ أنا لست ضد أدب السخرية. فهو يتطلب موهبة وابداعا لكيما يطال شيئا ما، مما نجده على سبيل المثال، في السخرية الاجتماعية التي يمارسها ستيفن كولبرت عندما يقول: إذا كان هذا الحال بشأن الامة مسيحية بأن لا تساعد الفقير، فإما علينا أن نّدعي بأن يسوع كان ذاتيا كما نحن، أو علينا أن نعترف بأنه أوصانا بأن نحب الفقير ونخدم المحتاج بدون شرط، وبالتالي نقر بأننا، لا نريد ان نفعل ذلك وحسب.
غير ان استعمال الدعابة والسخرية، وتكبير الامور، او تحميق الاخرين، بعرض وانتقاد سخافات نجدها عند الغير، او تشخيص رذائلهم، او التركيز في ذلك على معتقدات دينية (قد يجدها المرء قابلة للاعتراض) كل هذا في التالي يفضي الى ان يقتصر المرء على انه بدعاباته يمارس شيئا غير ذي بال، ولا يعكس المعنى الحقيقي لتصرف أي انسان، فلا يكون من ثمة في عمله ذاك أي غرض مفيد ولا هدف للتغيير والاصلاح.   

بيان بطريرك الكلدان في أعقاب أحداث باريس:
دعوة لتفكيك ايديولوجية لتطرف الارهابي.   

بعد أحداث باريس، صدر بيان من بطريرك الكنيسة الكلدانية البطريرك لويس ساكو، الذي إلى جانب تعبيره عن أسفه قال": إزاء ما يحدث في المنطقة العربية وخارجها، مما هو غير مسبوق ويهدد العلاقات والتعايش، ندعو إخوتنا المسلمين الى أن يتخذوا المبادرة بأن من الداخل يفككوا ايديولوجية التطرف الارهابي. ويكوّنوا فكرا منفتحا ومستنيرا مما لا يقبل الاستغلال السياسي للدين."   
ان المضي في نشر الرسوم الساخرة ليس هو الحل، كما ليس كافيا استعراض فارغ لقادة العالم السياسي متأبطين أذرع بعضهم، مثلما ليس كافيا أبدًا القيام بمجرد الاحتجاجات.
وليس من الكفاية ان نقول: "هذا اليس من الاسلام بشيء" أو تجاهل نصوص مقتطعة من القرآن تعرّض بوضوح إلى العنف "الكفارَ" المقصود بهم غير المسلمين، او الاكتفاء بالقول: الاسلام هو ديانة سلام.   
والحال، سواء كنا نقرّ ذلك او لا، لا بدّ من القول أن الغالبية الواسعة من مجمل الاعتداءات الارهابية في العالم، يتم القيام بها باسم الاسلام، وتحت شعار الدفاع عن المعتقد او عن النبي. اعمال يتم القيام بها مع ترديد عبارة (الله أكبر) وبذلك يتم كل شيء تحت غطاء الله ونداء الاسلام، وصولا الى قتل من هو بريء.   
أمام جامعة الازهر في القاهرة بمصر، لمناسبة العام الجديد 2015، القى الرئيس عبد الفتاح السيسي خطابا قويا أمام رجال الدين ودارسي علوم الدين، قال:   
"انه من غير المعقول ان الفكر الذي نحمله، مما هو أقدس ما لدينا، يمكن ان يسبب للامة كلها –العالم الاسلامي- بأن تكون مصدر قلق وخطر مصدر قتل وتخريب لسائر اجزاء العالم. هل من المعقول، ان طريقة تفكير، ولا أقول ديانة، بل طريقة تفكير، قدسناها عبر عصور، تؤدي بنا إلى ان نجسد نصوصا وافكارًا تستعدي العالم بأسره. هل من الممكن ان مليار وستمائة مليون (مسلم) ينبغي عليهم ان يقتلوا الجزء الاخر من العالم، ما يعادل 7 مليار، لكيما هم يتسنى لهم العيش؟ من غير الممكن هذا. اقول واكرر اننا بحاجة الى ثورة دينية. أنتم الأئمة، مسؤولون أمام الله. إن العالم بأسره، أجل اقولها ثانية العالم بأسره ينتظر خطوتكم التالية لأن هذه الأمة اصبحت ممزقة، مدمرة، لقد آلت إلى الضياع، وبأيدينا نحن."   
ويمضي كاتب العمود فريدريك هنري في جريدة كالكري صان، الى القول: ثمة حاجة بأن يواجه الاسلام حالة كفاح من الداخل، والائمة لهم في هذا دور الريادة.
وثمة محوران بارزان يحتاجان الى المعالجة:   
1-تفسير النصوص   
بالنسبة الى المسلمين، أكان الموضوع يخص محافظين أم ليبراليين، فثمة حالة أساسية وهي ان القرآن يقدم على أنه عمل الله نفسه. وعليه فهو يتجاوز الزمن، وبتعبير آخر، لا يرتبط بالقرن السابع. فأن يكون ذلك كلام الله، فهذا يعنى انه مصان عبر الزمن. وهنا يتواجه رأيان: جانب الايمان المحافظ، ممن نسميهم الاصوليين، وهم يعتقدون ان كل آية له معناها الحرفي المطلق. أما الليبراليون فإنهم يقترحون ان يتم وضع النص في اطاره الخاص من حيث التفسير، آخذين بنظر الاعتبار ظروف الزمان والمكان. وعليه فإنهم يطالبون بضرورة ان يتم تبني تفسير النص ضم اطاره التاريخ، مقارنة بالأحداث القائمة وبالعصرنة. ولا بد من القول ان العصرنة، لا يقصد بها الالحاد، ولا مخالفة سلوك الآداب، أو عبادة المتعة، وكذلك رفض البعد الخاص بالديانات، كما غالبا ما يحدث في الغرب.   
2-التكامل
الاسلام هو نظام وليس مجرد دين. وهنا السؤال يطرح نفسه: هل بوسع المهاجرين ان يجدوا الطريق الى ان يشاركوا بشكل معقول في الحياة الاقتصادية والسياسية وكذلك في النظم التشريعية والاجتماعية؟   
للإجابة عن هذا السؤال، يختتم الكاتب بالإشارة الى ما يؤمن به البطريرك ساكو، بقوله:
ما يؤمن به البطريرك ساكو هو: إن مستقبل الانسان، يعتمد أساسًا العيش المشترك بسلام، بانسجام وتعاون، أمام ما نواجهه من تيارات اصولية تستهدف استخدام العنف. علينا أن نتقبل مسؤوليتنا التاريخية والأدبية، وذلك بإشاعة ثقافة الاعتراف بالآخر، القبول بالآخر واحترامه على أساس المبدأ التالي: لا إكراه في الدين، وأنه من خلال الحوار النزيه، الحكمة والرؤية الواضحة، والتنشئة الدينية المتميزة بالشفافية.
أجل بدل السخرية يا سادة، يقول المطران هنري، علينا ان نتعلم على قول الحقيقة وبحب.

نشر ايضا في موقع البطريركية تحت الرابط:
http://saint-adday.com/permalink/7018.html
ًأصل المقال في جريدة كاكري صن
CALGARY SUN – January 18/15
OPINION COLUMNISTS
SPECIAL GUEST COLUMN
The world needs more truth through love, not satire: A guest column from Bishop Fred Henry
0

BY BISHOP FRED HENRY
"We are not all Charlie."
The Jan. 7 terrorist attack by Islamic militants on the offices of the French satirical Charlie Hebdo in Paris brought, and rightly so, widespread condemnation.
The massacre of 12 civilians, including two policemen, one of whom was Muslim, constituted a heinous crime and there is a need to express our solidarity with the French people and the affected families.
On Jan. 10, the international media reported that up to 2,000 civilians in and around the town of Baga, Nigeria, were slaughtered by the Islamist group Boko Haram.
What I found particularly appalling was that journalists went ballistic about “an assault” on the freedom of speech and expression, while almost ignoring the second massacre involving an incredible loss of human life.
A classic example of what Pope Francis calls the “throwaway culture”.
In principle, I’m not opposed to satire. It takes talent and creativity to really nail something, for example, the social satire of Stephen Colbert when he says: “If this is going to be a Christian nation that doesn’t help the poor, either we have to pretend that Jesus was just as selfish as we are, or we’ve got to acknowledge that He commanded us to love the poor and serve the needy without condition and then admit that we just don’t want to do it.”
However, the use of humour, irony, exaggeration, or ridicule to expose and criticize people’s stupidity or vices or deeply held religious beliefs (that one finds personally objectionable) usually ends up being nothing more than a sophomoric exercise, demeaning to everyone, and truly offensive to the point of serving no useful transformative purpose.
After Paris, the Chaldean Church Patriarch Luis Sako, in addition to expressing his sorrow, said that: “In front of what is happening in the Arab region and abroad, which is unprecedented and threatens relations and co-existence, we call upon all our Muslim brothers to take the initiative from the inside to dismantle this terrorist extremist ideology. And build an open and enlightened Islamic opinion that doesn’t accept the political exploitation of religion.”
More satirical cartoons are not the answer, nor are empty symbols of political world leaders marching arm in arm, nor are simple protestations.
It is not enough to say, “This has nothing to do with Islam” or to ignore some texts taken from the Qur’an which clearly espouse violence against the infidel (non Muslim) or “Islam is a religion of peace.”
Whether we wish to admit it or not, the vast majority of all terrorist attacks in the world are carried out in the name of Islam, to defend the faith, or the prophet .
They do everything saying, “Allahu Akbar” (God is great), before doing it, putting everything under God and the call of Islam, even the killing of the innocent.
Speaking at the Al-Azhar University in Cairo, Egypt, on New Year’s Day, 2015, Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi made a forceful and impassioned plea to religious scholars and clerics:
“It’s inconceivable that the thinking that we hold most sacred should cause the entire umma [Islamic world] to be a source of anxiety, danger, killing and destruction for the rest of the world. Impossible! That thinking — I am not saying “religion” but “thinking” — that corpus of texts and ideas that we have sacralized over the centuries, to the point that departing from them has become almost impossible, is antagonizing the entire world. It’s antagonizing the entire world! ... Is it possible that 1.6 billion people [Muslims] should want to kill the rest of the world’s inhabitants—that is 7 billion — so that they themselves may live? Impossible! ... I say and repeat again that we are in need of a religious revolution. You, imams, are responsible before Allah. The entire world, I say it again, the entire world is waiting for your next move … because this umma is being torn, it is being destroyed, it is being lost — and it is being lost by our own hands.”
The struggle within Islam itself must be confronted and the imams will have to lead.
Two immediate flash points need to be addressed:
1. The interepretation of texts
For all Muslims, whether you are conservative or liberal, a basic premise is that the Qur’an is not the work of Muhammad but of God himself. Therefore it is timeless and not restricted to the seventh century; it is the word of God preserved unchanged over time. The orthodox (and particularly the fundamentalists) believe that each verse has an absolute value, regardless of the context. The liberals propose a contextualized reading and interpretation, taking into consideration place and time. Therefore, they emphasize the necessity of adapting the text to history, current events, and to modernity. Modernity that is not a synonym for atheism, immorality, hedonism and the denial of religious dimension of life, as often occurs in the West.
2. Integration
Islam is a system, not just a religion. Can immigrants to western countries find a way to meaningfully participate in existing economic, political, legal and social systems?
Patriarch Sako believes: “There is a future for us human beings only by living together in peace, harmony and co-operation as we were before the advent of the radical streams that use violence. We have to accept our historical and moral responsibility in spreading the culture of the recognition of the other, acceptance and respect him based on the principle that “There is no compulsion in religion” and “through honest dialogue, wisdom, clear vison, and intact religious upbringing.”
Rather than satire, we need to learn to speak the truth in love.​




95
وانطلق التحوّل: انتفاضة البابا على خطى المسيح الثائر

الأب نويل فرمان السناطي*

أطلق البابا فرنسيس، مؤخرا، موعظة مدوية، تناولت النص الانجيلي حول حدث تطهير يسوع للهيكل من المتاجرين به، مع إبداء قداسته مشاعر الحنان نحو طيبة المؤمنين، ونياتهم الحسنة... وهل ستبقى نيات أو حتى حسنات، بعد موعظته الحبرية؟
لم أبحث عن النص الأصلي للحديث، في الخبر الذي تداولته وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يحمل آثار الترجمة، ولم أرجع إلى تاريخ النص ومكانه، وهل الوقت يسمح بكل هذا، أمام اليقين أن الكلمات تحمل نبرة الرجل، ولم تعد تفاجئنا، أمترجمة كانت أو أصلية! هذه بعض أضواء خجولة على موعظة من مواعظ العصر.

حديث بنبرة المشاركة الوجدانية   
لم يتحدث الواعظ بالمبادئ والارشادات، بل تكلم بطريقة المشاركة الوجدانية من القلب للقلب، طريقة تعتمد شواهد من خبرة الحياة وبأمثلة حية.
البابا هو فرنسيس الأول، وهل جاء فرنسيس مماثل من قبله في عصورنا المنظورة! ولكنه في الأقل، كما يبدو، يفتتح عهدًا بابويًا يرجع إلى زمن بطرس، زمن معفـّر بتراب أقدام المسيح، وما أحدثه سوطه في الهيكل من عجيج غبار.   
تحدث حبرنا بأنفاس محبة نحو الشعب المؤمن، متفهمًا طيبته معجبا بورعه. لكنه في الوقت عينه يطلق الصدمة، أمام ما وصفه، بضمير الجمع بـ "عاداتنا غير الكهنوتية في الهيكل" إذ قال:   
"أنا أفكر بالصدمة التي يمكن أن نثيرها عند الشعب بمواقفنا -بعاداتنا غير الكهنوتية في الهيكل: صدمة التجارة، صدمة الدنيويات ... حتى اليوم كم مرة نرى عند مدخل الكنائس قائمة أسعار المعمودية، وصلاة البركة، وتقدمة القداس. "ويشعر الشعب بالصدمة".
وتحدث مار فرنسيس بالامثال، كسيده المسيح، مستشهدًا، ويا له من شاهد، بمثل حي في بدء حياته الكهنوتية، ليروي لنا على طريقة كاتب سيناريو:
كنت مع مجموعة من الجامعيين عندما قرر خطيبان الزواج. فذهبا إلى الرعية، لكنهما أرادا أن يحتفلا بزواجهما بقداس، فقال لهما المسؤول في الرعية:
"لا، لا، لا يمكنكما"!   
- "ولكن لماذا لا يمكننا إقامة القداس؟ فالمجلس الكنسي يوصي بالاحتفال دائما بالزواج في إطار القداس ...! "   
-" لا، لا يمكن، لأنه لا يمكن أكثر من عشرين دقيقة!
- "لكن لماذا؟"
- 'لأنه هنالك أدوارًا أخرى "
- " لكننا نريد القداس! "
–' فتدفعان ثمن دورين! ".
ولكي يتزوجا في إطار القداس دفعا ثمن دورين. هذه هي خطيئة الصدمة.
وأزعم كمترجم أن النص المترجم يقصد في عبارة الدورين ما معناه: إن الوقت من بعدكما محجوز لنشاط ليتورجيي آخر، إلا إذا كنتما تدفعان ثمن نشاطين ليتورجيين.
بعد هذه القصة، أشار الأب الأقدس، إلى مسؤولية المتسببين في الشكوك بقوله الذهبي:
عندما يصبح أولئك الذين في الهيكل – أكانوا كهنة أو علمانيين أو موظفين وهم مسؤولون عن إدارة شؤون الهيكل – عندما يصبحون رجال أعمال فإنهم يسبّبون الصدمة للناس. ونحن مسؤولون عما يجري. والعلمانيون أيضا. كلنا نتحمل المسؤولية. لأنني –كمؤمن علماني- إذا رأيت أن هذا ما يجري في رعيتي، يجب أن يكون لدي الشجاعة لأقف بوجه الكاهن.
ونوّه البابا اليسوعي بتسامح الناس لطيبتهم، بأن "شعب الله يغفر لكهنته، عندما يكون لديهم ضعف، أو يقعون في الخطيئة"، على أنه استطرد قائلا: " لكن هنالك شيئان لا يمكن لشعب الله أن يغفرهما: كاهن متعلق بالمال وكاهن يسيء معاملة الناس". معيدًا الاشارة إلى الصدمة بقوله: "عندما يصبح الهيكل، بيت الله، بيتاً للأعمال، كما حصل مع الخطيبين، فقد تم استئجار الكنيسة ". ويستند البابا فيما ذهب إليه، إلى مبدأ يسوع في غضبته وغيرته على بيت الله، وهو قول المسيح: لا يمكن أن تخدم ربّين "فإما أن تعبد الله أو تعبد المال ". ومن ثم، يستنتج السبب الذي من أجله "يسوع يمسك السوط ليطهر الهيكل."

البابا المدهش، هل من مزيد؟
البابا فرنسيس الاول، إذا كان في كل يوم يدهش العالم، لسنا نعرف، بعد موعظة تجار الهيكل، ان كان في جعبته المزيد. ولا بد وأنه سيكون المزيد على المستوى العالمي.
ولكن على مستوى الكنيسة هل من مزيد؟ سيكون حتما المزيد، بعد ما نحن أمامه من منعطف مفصلي تاريخي تحولي، تمثل في صيحته بألا يتم تدنيس الهيكل بالتجارة.
أجل لم يعد ثمة في هذا الشأن، لون آخر ما بين اللونين، الاسود والابيض. ولم يعد ثمة مماطلة او تجاهل، ولا صرف نظر أو تماهل، لا أمامنا كقسس ولا أمام المؤمنين قبلهم.
ولا يتردد البابا في كل هذا، مما سيجرّ من مردودات إجراءات كهذه، من شأنها وهي تقصد أن تعيد الكنيسة إلى أزمان البشرى الأولى، أن تغدو كنيسة فقيرة ببنيانها، بائعة للوحاتها، وأعمالها الفنية، موزعة على الفقراء هداياها، فقيرة بخدامها، وأن هذه الكنيسة في هذا التنظيف الجذري المتحرّر من ماديات كانت تستند على تخريجات وتبريرات، ها قد فقدت أي مسوّغ لها ضمن منظور البابا، لتكون كنيسة بشرى، كنيسة اشعاع وجذب إيماني الى البشرى السارة.
لم يعد ثمة، على ضوء أقوال البابا، من خيار أمام الكهنة ولا أمام المؤمنين، سوى خطوات عملية، لا تحتمل غير التطبيق، ليس لأنها جاءت من فوق، من أعلى هرم للكنيسة الكاثوليكية، بل ايضًا لأنها تستوحي أقوال المسيح وأعماله، التي حجبت جوانبَ منها، تراكماتٌ زمنية غلفتها القوانين الوضعية.
لم استعجل الكتابة، لادّعائية شخصية، معاذ الله أو أني أقل من غيري اشتهاء أو استحياءًا تجاه المال. ذلك أنه لم لم يعد ثمة مجال لتبرير أو دفاع عن النفس، ولست سوى واحد من كثيرين، لا يتبرر الواحد فيهم أكثر من غيره. فالكنيسة الجامعة اليوم، أمام حبرها الاعظم، مقصودة بغربها قبل شرقها.
لقد كتبت مرة في موقع مار أدي البطريركي، مقالا بعنوان:
استجابة لمقترح سابق لغبطة بطريرك الكلدان: شهادة عن الادارة المالية للخورنات اللاتينية
(http://saint-adday.com/permalink/5591.html
قصدت به المقارنة بين خبرة كنيسة وأخرى. وأقرّ اليوم، على ضوء الصدمة، بأن المقال ذاك، كتب بنوع من الاشادة، بل بالدعوة التي التناغم في خبرة السياقات بين الكنائس الشقيقة المتنعمة بالشركة العقائدية التامة. وأقرّ أن المرء آنذاك كان يستند من حيث لا يدري على تحصيل حاصل في جوانب أداريه عدة، في كنيستنا بغربها وشرقها، أخذت قوالب من القوالب التي لبست مع الوقت شرعنتها وشموليتها.
وها هي تلك السياقات الأدرية المقولبة مع الزمن، إذا وضعت تحت المجهر البابوي، في ضوء موعظة تطهير الهيكل، تجد، ويا للمفاجأة، من يزعزعها من جذورها... ومن سيكون ذلك سوى المدهش كل يوم، الجالس على كرسي بطرس. وعليه وجب الاذعان اليوم ان ذلك المقال بات في العديد من فقراته، يتحرّج من كلماته.
وبعد، يبقى التحدّي كل التحدّي هو أننا أمام مدرسة لاهوت حديثة في عصرها، وتحتاج الى الالمام بأبجديتها، هي مدرسة لاهوت متفرّد لعصرنا، مدرسة ترفض التنظيرات التوفيقية، لتشكل لاهوت فقر أنجيلي بحقيقته العارية، لاهوت فقر علماؤه البؤساء ورسوله المعاصر فرنسيس الأول، بابا الفقراء.

  *راعي كنيسة سانت فاميي للكنديين الفرنسيين، وكاهن خورنة مريم العذراء للكلدان، كالغري

96
مع رتبة القداس الكلداني 2014، بنصيه الكلداني والعربي، انشراح وآمال طيبة

بقلم الأب نويل فرمان السناطي

ما أصغر العالم، كقرية ألكترونية، فما أن بثت بطريركية الكلدان النسخة الالكترونية لرتبة القداس الكلداني، وقبل ان تتوفر للكثيرين الفرصة لزيارة الموقع الأم، الزيارة النظامية، كان رواد وسائل التواصل الاجتماعي، الفيسبوك (ش.م.م) السباقين الى تقاسمه فاطلعت عليها منذ ليلة الجمعة الماضية. هذه قراءة في نص الرتبة الصادرة صفحاته حاليا بعمودين يضمان النصين الكلداني والعربي.
إصدار في منعطف تاريخي
وفي الاشارة  الصريحة الواردة في رسالة نيافة الكردينال ساندري تحت مفردات مثل:
 (circonstanze particulari di disagio ecclesiale in cui versl al Chiesa Caldea)
ما ترجم بـ: "الظروف الاستثنائية الفوضوية التي تمر بها الكنيسة  الكلدانية"، فإن الرسالة توثق في منطعف للتاريخ، مرحلة دقيقة منه وحرجة تتعلق بمسار شعبنا المسيحي النهريني، بحيث تبقى الرتبة شاهدة للاجيال، لما خبرته الكنيسة من مخاض عسير داخلي، وجيو-سياسي، وبما لا شك أن سيشرحه المؤرخون المنصفون، عن  ظروف الاحتلال الارهابي للموصل وبلدات مسيحية أخرى، من قبل ما عرف باسم الدولة الاسلامية في العراق والشام، وما حدث من سابقة في الدهر من التهجير القسري لشعبنا. إشارة، في صفحة التقديم، ستبقى وسام يزينه هامة الكنيسة الكلدانية وسائر كنائس العراق والشام وشجاعة شعبهما العظيم المهجر وآبائهما الروحيين الأماجد. إشارة لها أن تذكرنا أيضا بالزمن الذي كتبت فيه رتبة القداس إبان حقب من الزمن لم تخلُ من الاضطهادات المتنوعة.
تواضع آبائنا القديسين في رتب القداس، على مر الأجيال
وهنا يحضرني شعور في مرحلة الممارسة الكهنوتية الاولى على القداس، عندما انبهرت من إمارات التواضع التي يطالب بها المحتفل في نصوص الرتبة المقدسة،، كنت بطريقة البسطاء، أحدث النفس قائلا: لله در أولئك الاباء القديسين، الذين كتبوا هذا الطقس الجميل، وهم يعبرون باتضاع في الصلوات، عن عدم استحقاقهم وضعفهم وانسانيتهم المعطوبة، مما كنت أجده في اشارات مثل: ويلي ويلي اني رجل دنس الشفاه... وأخرى من تلك التي للكاهن ان يصليها قبل التناول: لا يكن لي يا رب  جسدك ودمك الغافر الذي أتجاسر وأتناوله للدينونة والنقمة بل للرحمة والحنان... والتي كم اسعدني فيما بعد أن وجدتها مترجمة بنحو شبه حرفي في صلاة ما قبل التناول  بلغات طقس القداس اللاتيني:
May the receiving of your Body and Blood, Lord Jesus Christ, not bring me to judgment and condemnation
Seigneur J. C. que cette communion à ton corps et à ton sans n’entraine pour moi ni jugement ni condamnation…
 كما لدينا في رتبة قداسنا المشرقي صلوات تتضمن عبارات عميقة مثل: أهلتنا بالرغم من خطايانا. وفي رتبة ما بعد الكلام الجوهري:... نحن عبادك الضعفاء... فأحييتنا بألوهيتك ورفعتنا غافرًا خطايانا... ونصرت طبيعتنا الضعيفة بمراحمك.
ولعله اعتراف كهنوتي بسيط، أنه عندما يكون المرء قريبا من الرسامة الكهنوتية، يخالجه الشعور أنه قاب قوسين أو أدنى من القداسة، وتمر الأيام لتذكره هذه الصلوات انه هو ذات الخاطئ الذي كان شماسا انجيليا والخاطئ عينه الذي كان قبل ذلك وقبله، مما يجعل الانسان المسيحي، أكان علمانيا معمّذا على كهنوت ملك صادق، أم خادم أسرار حائزا بنعمة مجانية على هذه الدرجة الكهنوتية أو تلك، يبقى في مسار توبة متجددة حتى نهاية العمر.
وهكذا نكون شهود جيل على اصدار آبائنا في المجمع المقدس، رتبة لمدة خمس سنوات مرشحة لمراجعة نهائية، لتداولها الاجيال، كإرث نأمل أن يذكر التاريخ قداستهم بعد عمر طويل، بدون أن نكون قادرين في "الظروف الاستثنائية الفوضوية التي تمر بها الكنيسة الكلدانية... (الكردينال ساندري 20 اوكتوبر 2014)" على أن نعول ونحن أحياء على قداسة هذا أو ذاك، حيث ان الاصغر في الملكوت عدّه يسوع أكبر من يوحنا، حتى ينال شهادة المطاف الاخير في الحياة.

انشراح في وقته
أجل لا يسع المرء إلا ان يعبر عن السعادة بأن يكون لنا طقس موحد يتم اتباعه خلال الخمسية القادمة بلا أي "قارش وارش". وبكراس أنيق يرافق الكاهن والمؤمن حيثما يسافر، فيشارك أو يقدس القداس الاعتيادي بدون أن يأخذ تعليمات الخوري عن سياقات القداس عندهم، باستثناء المحطات التي تقرأ فيها لغة النصوص سواء بالكلدانية أو باللغة العربية أو غيرها، فلا يحس بالغربة الطقسية، كما يمكن ملاحظة انسجام طيب قريب فيه، مع رتبة الكنيسة المارونية الشقيقة، على وفق ما لحظته من تعليقات، مع مقاربة جيدة برتب رعيات الكنيسة الجامعة؛ وفيها يمكنك بالكراس عينه أن تشارك بالقداس، سواء في كنيسة المشورة الصالحة بواشنطن، على سبيل المثال لا الحصر، او في كنيسة الثالوث الاقدس في الكاهون. وفي كلاهما قدر لي ان أكون بضيافة دار الكهنة لديهما والمشاركة بالقداس والموعظة هنا أو هناك.
ثمرة جهود طويلة طيبة
لا علم لنا بحيثيات اقرار الرتبة من قبل آباء المجمع المقدس، بعد جهود مشكورة للجنة الطقسية التي تمخض عنها، ولكنها كلمة حق لا بد منها، أنني ولمتابعتي عن كثب، لصيغة رتبة قداس مجدد في احدى ابرشياتنا الكلدانية، أشعر كم أنه لا بد وأن تفاعلت اللجنة الطقسية مع تلك الطبعة ومع تلك الجهود من حيثما صدرت. وما كان أسهل علينا ان ننزل من الانترنيت نصوصا كاملة بالكلدانية أو الانكليزية او العربية، بجهد جبار لا بد وأنه ثمرة سنوات وممارسات طقسية مع المؤمنين.
أما وقد وصلنا إلى هذه الصيغة، فلا يمكن أن يحظى كل شيء، بذائقة كل واحد، كما جاء في توجيه غبطة البطريرك مار روفائيل ساكو، خصوصا وأن هناك آمالا بأن ما سيرد من ملاحظات، سواء يقدمها المؤمنون أو المحتفلون، ومن حصيلة ما تجمع عليه الآراء مما ينسجم مع رؤى آباء مجمع 2019، ستصل عندئذ الرتبة الى تخريج يضيف المزيد من البريق على هذه الدرة الطقسية ذات التأوين والمعاصرة.

في هذه الاثناء
لا تكفي طبعة أن تملأ شغف المحتفل، ولئن كان احس بغير الاستحقاق، في تقديس القداس، وعليه فالغور في المصادر والمقارنات في هذا المجال، من شأن ذلك إثراء روحانيته، وإغناء رصيد صلواته وتأملاته لما قبل القداس وما بعده، وما يتخلله من برهات استماع وصمت وتأمل.
في هذه الاثناء، نأمل أن تجمع البطريركية، خصوصا بإذن الله عندما تمر الظروف الاستثنائية لشعبنا وكنيستنا، كل ما يرده من المؤمنين المشاركين في القداس وكذلك المحتفلين، لكي تكون اضمامة متواترة تفيد باتجاه الصيغة النهائية للرتبة المقدسة.
وفي هذه الاثناء، آن الأوان ليأخذ الشعب المؤمن زمام المشاركة المتاحة له، ويشترك مع الجوقة، ليكون حضوره فاعليا أكثر من أن يكون متلقيًا، بعيدًا عن مجرّد سلطنة الاستماع الى أداء متفرد، أو آخر أقل تفردا. فلنا من ذلك تسجيلات لقداديس تكفي للسلطنة وتشنف الاذنين، سواء بقداس لأداء خدمة مثل وديع الصافي، أو الاب طوني الخولي. وآن الأوان ان ترى النور فكرة الاب الراحل فيليب هيلايي، أن يكون دور الشماس، للقراءات، لحمل المبخرة، ولردود مثل آمين بارخمار، بمدعيكون وبشليا. خصوصا وأن لهم مجالات ان يغرفوا منها لمشاركاتهم المتفردة، تكمن في صلوات الرمش والصبرا، والباعوثا، ونقوم شبير.

تنويع النصوص وتوحيدها
في النصين المتوفرين، بالكلدانية والعربية، نلاحظ التنوع الطبيعي من حيث المادة والحجم والجمالية، وهذا مألوف في الطقوس الاخرى، بحيث يتم الاختيار سواء بين النص الكلداني الاصلي، او النصوص المترجمة. فذائقة المؤمنين متنوعة وكذلك مطاولتهم، عندما يكون القداس بمشاركة مؤمنين غالبيتهم ممن يفهمون الكثير من النص الكلداني أو ترجمته الى اللهجة السوادية. أما النصوص العربية، وما يمكن أن يقابلها من ترجمات بنفس الحجم والجمالية، فإن الذين نشأوا بغير أجواء النص الكلداني، قد يستسيغون النص المختصر العربي، وإلا فلهم النص الكلداني.
على أن ثمة تطلع آخر هو أن نجد الصيغة الموحدة لنص قانون الايمان بالسورث، فقد وضعت بالأمس أمامي أكثر من خمس طبعات واستنساخات خورنية لنص قانون الايمان بالكلدانية الدارجة، فلم اجد نصين متشابهين تماما من اول القانون الى آخره. فما هي ستكون يا ترى المعضلة، ان يتوحد مؤمنو شقلاوة وتلكيف وألقوش ودهوك، بصيغة سيفهمونها مع الوقت، بمساعدة الشمامسة والكاهن، ويحفظونها بنفس الطلاقة، التي حفظت بها الخالة مادلين أم وديع، صيغة قانون الايمان باللغة الأم الأصلية. ونقصد بها اللغة الكلدانية كما نعتز بتسميتها في كنيستنا الكلدانية، وكما تسمى باللغة الاشورية في كنيسة المشرق، والسريانية في كنيسة السريان. هذه اللغة قد تحظى في المحافل الدولية بالتسمية السريانية، على وفق ما يتداوله علماء، على  عندما يكون موضوعا لغويا دراسيا على مستوى المحفل الدولي، او هناك من يسميها بالآرامية مع الكثير من التحفظات المشروعة. ويبقى من الحق الطبيعي أن يسميها أبناء الكنيسة الكلدانية، بالكلدانية لكل ما يضم ذلك من خصوصية وثراء متكامل مع ما يستخدمه أبناء الكنيستين الشقيقتين الاشورية والسريانية.

الصلاة الربية
نعتز بهذه الصلاة، أيما اعتزاز، خصوصا وأنها جاءت على لسان ربنا يسوع المسيح بواحدة من التسميات الكنسية القومية اللغوية الواردة في الفقرة السابقة. وهذه الصيغة تبناها يسوع عن صيغة كانت متداولة عند شعب العهد القديم، واضفى عليها، له المجد، خصوصيته المتفردة وجاءت بالنكهة الربانية التي نتداولها. هذه الصلاة التي جاءت في النص الكلداني لرتبة القداس، ولكن مع اضافات قدوس قدوس قدوس أنت... والتي ربما سيرى الآباء أن تستقل عنها في صيغة 2019، وربما سيرون رفعها من مقدمة الصلاة الواردة بقدوس، قدوس، قدوس، السماء والارض... ووضعها حيثما يناسب، ليس أبدا لكي لا يطالبنا الاحبة الشمامسة الغيورون أن نتلوها بالنص الحالي قبل مآدب التعازي، بل خصوصا، لتبرز بنص الصلاة الذي جاء على لسان يسوع له المجد، وكما في سائر رتب قداديس الكنيسة الجامعة.
ونأمل ايضا على غرار توحيد قانون الايمان باللهجة السوادية. فإن توحدت على مستوى شعب المؤمنين للكنيسة الكلدانية، ستكون اكثر انسيابية في صلواتهم بحجم تواجدهم في البلاد وبلدان الانتشار. فإذا توحدت في القداس بصيغة مترجمة واحدة، ستحصل عندئذ التسوية النهائية بين مفردتي مستيهلان ومخشخلن، او ما يراه أباءنا الأجلاء. وسوف يلمس المؤمنون بالبينة الجلية المطبوعة في رتبة القداس، إن كان بشأن فقرة أغفر لنا... إن كان الغفران لـ "خطايانا" أز لـ "ذنوبنا وخطايانا"، كما جاء في الصيغة الاصلية والمنسجمة مع الصيغة المارونية: حوبين وحطاهين، كناهيني وخطياثن، المختلفة عن الصيغة التي تقتصر على "حطاهي ديان".
 
الاختصارات الحميدة
بخصوص لاخو مار وقديشا آلاها، في صفحة التعليمات، كدت أفهم ان يتم التفضيل بين تجاوزها في الايام الاعتيادية، لأنها أيام عمل للمؤمنين، وأن يتم تفضيل الابقاء عليها احتفاليا في الآحاد. ويبقى التفضيل هامشا يتيح المرونة بين هذه الحالة أو تلك.
الصلوات الختامية، كانت تتيح استعراضا مقاميا مترهلا بعض الشيء، وعليه جميلة هي إمكانية المحتفل ان يختار منها، لكونها متنوعة أكثر من كونها مكررة. وهذا الاختيار يتيح اختصار الوقت، والتقليل من الاسترسال المقاماتي، وكذلك يمنح كل قداس، صلوات بنكهة متفردة.
 كل هذه الصلوات نأمل أن تلقى ترجمة موحدة لكافة اللغات واللهجات، وخصوصا نصوص السورث، باللهجة الكلدانية الدارجة، وبما يوسع حصيلة المفردات المحدودة نسبيا في هذه اللهجة. ويمكن في هذا الصدد الافادة من خبرة أخوتنا في كنيستي المشرق الاشورية والشرقية القديمة، حيث لم يتم عموما التساهل بضم المفردات الاجنبية الدخيلة عربية أو سواها، في نصوصها الطقسية المترجمة الى السورث، مما جعل لغتهم اليومية، كما اعتقد، ذات أصالة متفردة وحبكة شجية، قلما نجدها في لهجاتنا لأبناء الرعايا الكلدانية؛ لعل أقربها الى الاصالة المحببة والجاذبية للمستمع، لهجة ألقوش، بما شكلته هذه البلدة من حاضرة فكرية وطقسية وكنسية، وبنعمة قربها من دير كلداني عريق، دير السيدة للرهبان الانطونيين الكلدان.

تطلعات
لما كانت هذه الطبعة بصيغة البي دي إف، نشرت في الموقع حال اقرارها، نأمل من النسخ الورقية المطبوعة، مع النصوص المترجمة، أن تتصدّرها رسالة غبطة البطريرك مزينة بتوقيعه الكريم. كما نأمل أن نحصل يوما على صيغة الكترونية، معدة بطريقة الباور بوينت لسهولة عرضها على الشاشة.
ونتطلع أن يكون ثمة توضيح يوفق بين نقطتين في صفحة التعليمات: بين طلب "ان الجوقة تنتهي من الترتيل بانتهاء صلاة الكاهن"، فيتم تحديد ان كان ثمة صلوات معينة ترتل خلالها الجوقة، وبين ما جاء في النقطة 20 الاخيرة، ان لا توجد صلوات تقوية سرية، وأن الصلوات كلها ترتل أو تقرأ بصوت علني. أقول هذا مشيرا الى التضرعات وكهنتا التي يصليها الكاهن بعد دعوة الشماس بنداء: بمدعيكون صلاّو شلاما عمـّن (في أفكاركم صلوا السلام) بعد الكلام الجوهري وتستمر تلك التضرعات حتى صلاة دعوة الروح القدس.
ملاحظة عن دعوة الشماس في الصفحة 43 بعد التناول، هناك حاجة للتأكد عن أمر قد يبدو بديهيا: أن هذه الدعوة تأتي بعد التراتيل المذكورة في ص 44 والتي يرتلها الشعب، مثل مارن ايشوع، رازه دنسون، كتسبيحات شكر، خلال وقت المناولة للمؤمنين.
وفي نفس خط انسجام الحركات، مما سيظهر في الشريط المرفق في الكتاب، وعلى افتراض اننا قد لا نحصل على ذلك قبل بدء موسم البشارة، هذا تساؤل بشأن لحظات الصمت، هل تتم خلال جلوس الكاهن، أو وقوفه امام المذبح أو ركوعه أمام المذبح.
واستيضاح ختامي بشأن الصلوات الختامية، هل يصليها الكاهن على المذبح، ثم خلال آمين بارخمار، ينزل الى منصة البركة، أم يصليها من المنصة ويعقبها بالبركة الأخيرة.
هذه كانت تطلعات رأيت أن أضمها الى المقال، بدل أن اكتبها شخصيا، وذلك لاحتمال التفاعل مع تطلعات إخوة آخرين، ملاحظات سقتها، ونحن في مرحلة الممارسة وشغف الانتظار للتطبيق مع بدء موسم البشارة، لتكون الرعايا عموما على بينة منها.

وبعد، هذه تحية من القلب لجمع آبائنا الاحبار في السينودوس المقدس، وإلى جميع رؤساء أبرشياتنا المجيدة في البلاد وبلدان الانتشار، مع مشاعر التقدير للجنة الطقسية التي قيض لي شرف ان أكون، بمرحلة الشماسية، عضوا فيها لردح من الزمن (1993 – 1994) في ظل آباء أجلاء، الأب (سيادة المطران) جاك إسحق والحبرين الراحلين مثلثي الرحمة، مار أندراوس صنا ومار اسطيفان بابكا، وكانوا متواصلين مع الأبوين الجليلين المونسنيور بطرس يوسف في فرنسا، والاب (سيادة المطران) سرهد يوسب جمو في أمريكا.
 

97

ما نقدّره في إخوتنا ونحبه في أبنائنا، ونودع الأشقاء لعناية الرب

بقلم الأب نويل فرمان السناطي


أجل هناك الكثير مما نقدّره في إخوتنا، على درب الرسالة الكهنوتية، والكثير الكثير مما نحبّه في أبنائنا، في كنف البيت الكلداني الواحد... مشاعر نعيشها، وتختلج في صلاتنا قبل أن نكتبها. تختلط بين الحزن على سريعي العطب والحائرين، والحزم الأبوي مع غيرهم بالمحبة الدائمة والانتظار بالصبر الجميل؛ كل هذا نعالجه ببلسم كلمات من نمط "نصلي من أجلكم".
أما  الأشقاء عقائديًا من رحم كنيسة المشرق، وقد فصلتنا عنهم بضع دهور، ويزيد يفارقنا في كل جيل، شيء من تراكم التقاليد والاعراف من بنات التباعد، فإننا نبقى نصلي من أجلهم برجاء راسخ، وكل خطوة خطوناها ونخطوها تجاههم نابعة من روح الصلاة من أجل الوحدة، عندما ناشدناهم وعرضنا عليهم كل ما من شأنه يبعدنا عن المساس بأمنية الرب: "ليكونوا واحدًا" في دعوة منسجمة من دعوة مار بندكتوس ١٦، (ليعبروا دجلة Cross the Tiger)، فاستجابت لقداسته العديد من الخورنات الشقيقة من عائلات الاصلاح، رعاة وأبناء خورنات، من العالم: المطران اللوثري السابق جوزيف جيكوبسون، في أدمنتون عاصمة ألبرتا، القسس، لي راعي خورنة القديس يوحنا الانجيلي ومساعده القسيس جون في كالكري، والقسيس جيمس أستاذ جامعي دكتوراه مقارنة الأديان، القسيس ستيفن القادم من رعية إصلاحية في تورنتو، الشماس الانجيلي ادريان مارتينز، القادم من انكلترا. ونبقى نصلي أن يعيد الرب الى البيت ما له من خراف أخر. ولأن الرب حذرنا من أن ندين، نتركهم لعنايته له المجد، هو الذي يسبر غور القلوب، بل يهدي حتى العشارين والخطأة، ونبقى نناشده ان يجمعنا معهم يومًا.
وعودة إلى إخوتنا، وأبنائنا، وما قد يعتمل بين الفينة والأخرى، من احتكاك، كما اعتمل بين سرب التلاميذ، لهذا السبب أو ذاك، فهاب بهم الرب، أن يبقوا على مبدأ: كبيركم يكون لكم خادما.
أجل نقدّر في إخوتنا وهم يعوّلون على انتمائهم و انتمائنا غير المتزعزع إلى الكنيسة الأم الجامعة. عندئذ تكون المواقف محتدمة بين التلاميذ، والرب في وسطهم، اشبه ما تكون بزوبعة في فنجان.
وما نحبّه في أبنائنا، مشاعر الاحترام حتى ولئن تباعدت من العاطفة الوجدانية تجاهنا أو تجاه هذا أو ذاك من الآباء. هذا الاحترام يسمح لابن البيت الواحد أن يقول كل شيء بنوع صراخ، أو يفكر بصوت عال... وفي غفلة منه ومن الزمن، قد ينقر على الزر الالكتروني (ارسل) قبل أن يكون راجع هذه الكلمة أو تلك، أو قبل أن يتبلعم بقدْح أو شتيمة، فتخرج كتابته، مثل البحر إذ يلفظ على ساحله الأصداف والقواقع واللالئ... أما الأصداف فالقواقع، فتجد طريق الإهمال بين رمال الساحل، وأما الجواهر واللآلئ، فتتناوشها بشغف وحرص يد العارف المحب. فقد يكون الابن قال كل ما قال، بدون أن يعرف عن كثب، ما يعيشه الاباء من تجاذبات داخلية، ومحاولات مخلصة، قبل أن يطفو على السطح ما يطفو. ويبقى حال الابن من الابناء، دكتورا كان أو جليس مقهى، يكون لسان حاله بأنه  يقول هذا بيتي، ولم يمنعني شيء أن عبر عن نفسي، داخل جدران هذا البيت الفسيح.
هذا لسان الحال نحبه أيضا، عندما يتوجه ابن أو أخ بخطاب موسوم بعنوان: إلى الاب فلان...  إلى غبطة أو سيادة... المحترم، أو قد يتوجه الى أخيه في المعمودية، وعلى درب الكلمة الحرة النزيهة والمنصفة، بكلمة الأخ والسيد، قبل أن يسترسل بالحديث الصريح أو اكثر من ذلك.
هذا ومعه الكثير نحبه في إخوتنا، ونرعاه في أبنائنا، ويأخذ طريقه المناسب إلى ما يجعلنا نذر في الهواء بأنفاس المحبة ما قد يتطاير مع عاصفة الاحتدام. وبمبدأ لكل حادث حديث، وكل شيء مع الصبر يأتي في وقته، نختزن بأعين الحرص والرعاية والاعتبار، الكلمات النابعة من النية الطيبة والهدف النبيل.

98
الاخوة الاعزاء
أشكركم على مداخلاتكم التي عرفتني عليكم عن كثب وعلمتني الكثير منكم، مما سيؤخذ بعين الاعتبار.
وتطلب مني هذا الوقت منذ المداخلات الاخيرة يوم الاربعاء الماضي، مما اقتضى الانتهاء من صلاة الثالث والسابع.
 وكما قد تلاحظون، عندما اكتب عن موضوع ديني، اوقع مع صفة الاب، لتواجه الكتابة التفاعلات ذات الصلة، مع الوسط الديني ومع مراجعي الدينية.
 أما عند الكتابة في مثل هذه المواضيع، فإني اوقع باسم (نويل فرمان السناطي) مما يفسح المجال امام اختلاف الرأي والرأي الاخر، ومما يعلم المزيد.
هذه بعض الاستخلاصات المتواضعة.
ما أعجبني أنكم كلكم متعلقون بالشأن الوحدوي مع المحيط الخاص، وكلكم منفتحون كل بطريقته نحو المحيط الاكثر عموما. وكلما توسع التفكير المعمق، كلما تترسخ القناعات بما يستقطب المساحة الاوسع.
كما لتفت انتباهي، ان التعلق بالانتماء القومي معجونا بالانتماء الديني، مع شيء يسير جدا من مما يوحي بالتوجه الوثني ومآله الريح او شطحات شعرية تستعير تلك الرموز.
وأجمل في كل هذا وذاك، الالتصاق بالجذور لما قبل المسيحية، وللعلماء والمتبحرين ان يقربوها إلينا.
لكني بعد كل هذا أمام لغز عجائبي: فيما تكون الوحدة شأن الشعب، فإن اختلاف الشعب فيما بينه، وتعلق كل شريحة بتميزها الكنسي، مما يبقى يجعل الشعب، وليس الرئاسة الكنسية، هو صاحب الشأن في توحد الغالبية.
لكن برغم هذا وذاك، فإن وحدتنا ماضية في الالتفاف حول مأساة شعبنا، وهذا هو الحافز الجديد من توجهنا الوحدوي جميعا، في زمن لم يفرق العدو الاسلامي بين دم الواحد عن الاخر.
وأخيرا، لا يسعني إلا أن أشيد بأسلوب النقاش الراقي والنزيه، والمتميز بالاحترام، بحيث تلقى أبي فرمان السناطي، التوجه اليه بالتحية والتوقير بكلمات: الاب فرمان السناطي
لا اعرف ان كانت رسالتي هذه ستقرأ تلقائيا من اساتذتي المعلقين، وعليه سأسعى جهدي ان اوصلها اليهم.
مع المحبة الدائمة لكم ولشعبنا من تلميذكم المخلص
 ن. ف.

 

99
للمسيحية روحانيتها، وللأحزاب فشلها:
فليصرخ الشعب المنكوب بصوت قومي واحد

بقلم نويل فرمان السناطي

سيدي القارئ الكريم، عنوان المقال بحدّ ذاته اتسع لمقدمة، فلندخل في الموضوع:

في مسارها المسكوني، الكنيسة نهج راعوي وبعد روحي
لقد عوّل الكثيرون، وبما لم يعد يسمح بانتظار المزيد، على الوحدة بين أبناء شعبنا النهريني، السورايا في عمومه، اعتمادًا على مسيرة الوحدة المسكونية للكنائس، متوهمين ان الشعب يتوحد قوميا بمجرد اتفاق الزعماء الروحيين حول نهج عقائدي او توافق على الاعياد.
لكن هذه المسيرة، أثبتت بأن لها استقلاليتها ووقتها الخاص ومسارها غير السياسي، كخط روحي ودعوة إنجيلية للمرء المؤمن، فيتوحد منسجما مع الذات ومع الآخر، من أضيق محيط إلى أوسعه. وقد تمثّل الوحدة المسيحية تحدّيًا إنسانيا وروحيًا على مستوى الأسرة الكبيرة الواحدة والجماعة الرهبانية الواحدة وصولا إلى الابرشية الواحدة.
ويُعرف أن لهذا التوجه في الكنائس غير الكاثوليكية فرادته، لاسيما تلك ذات الخصوصية الجغرافية الاقليمية أو الاثنية. فهي روحيا، ليست بأكثر توحدًا شعبيا، بل قد تنقسم كنسيًا على شؤون قومية وجغرافية، مثال ذلك انقسامات الكنائس الارثوذكسية السلافية في ظل الحكم الشيوعي بأوربا الشرقية، وأمريكا الشمالية، حتى لا نضرب بواقعنا المرير مثالا يبكينا دمًا.
وبالطبع لا يوجد أي حد أدنى للمقارنة مع الكنائس المبعثرة اصلاحيا، والتي وجدت لتتجزأ بسبب أي صغيرة وكبيرة. قد تتشضّى بسبب موقف ما من زوجة الراعي، أو بفعل ضغوطات اجتماعية عن قيم زواج الذكر والانثى، وتبنى طفل من قبل مسخ عائلي خارجًا عن ثنائية الزوج والزوجة. ناهيك عن الاختلاف في اجتهادات عقائدية متناسلة: جدالات عن الرب، وخلافات عن الأم الله العذراء، مغلفة بجملة تفسيرات كتابية عشوائية؛ إلى جانب كل هذا، شهوة التمرد الاحتجاجي (البروتستانتي) لوجاهة التفرد بمنبر، أو لفوائد ضرائبية، مما جرّ الوبال على هذه الجماعات الكنسية، التي منها ما هو مسيحي بالاسم فحسب، والتي تفسخت اليوم عن أكثر من تسعة واربعين رأسا كنسيا وتسمية ربانية. ولا شأن لهؤلاء بالطبع بأي خصوصية قومية.
على أن العديد من هذه الانقسامات هي بعيدة، كما أجرؤ على الاعتقاد، عن جماعاتنا العراقية والشرقية سواء في الوطن او في الشتات، لما حملته جماعاتنا هذه معها من قيم اصيلة، حبَتها بفراسة تميز الغث عن السمين، وجعلتها متناغمة الى حد كبير مع شقيقاتها الجماعات المسيحية من كنائسنا الرسولية القانونية الاصيلة.
أما الكنائس الكاثوليكية وغيرها، ذات الخصوصية القومية فيطبع كل منهما تميزان بارزان:
- الكنائس الكاثوليكية ذات الاصول الشرقية، المتمتعة بنعمة الشركة الكنسية التامة مع الكنيسة الأم الجامعة وذات البعد الانجيلي المنفتح الى العالم، فهي لم يعد لها، بعد انعطافة المجمع الفاتيكاني الثاني (1963)، نكران للخصوصية القومية الثقافية لرعاياها، بل تعطيها مكانتها بدون أن تكون الكنيسة تابعة طيعة للنفس القومي. قد يترشح عن هذا المبدأ استثناءات طارئة عندما يظهر في بعض زعاماتها الروحية من ينظّر لتلك الخصوصية الاثنية، سواء بسبب هواية شخصية أو شطحة قيادية ما هي إلا ابنة جيلها، ربتها في داخله حاشيات ضعيفة وقطيعية.
- ومن جهة الكنائس غير الكاثوليكية ذات الارتباط القومي، فهي أيضًا عرضة للتحديات الانقسامية في الجسم الواحد؛ على أنها علاوة على ذلك، وتلك مفارقة متناقضة مع صلب المبدأ المسيحي، تضع القومية فوق الشأن المسيحي. وهذه النزعة قد تؤدي إلى انقسام كنسي، كما يُقال أن ذلك حدث في كنائس غير كاثوليكية، في جزر هونولولو المتحدة. وتذهب الروايات أن زعيمًا لقبيلة السكان الأصليين، في تلك الجزر، عمد إلى تكريس هذا الانقسام الديني؛ وفي مثل هذا الأحوال يكون شعب الكنيستين الشقيقتين المنعزلتين دينيا، حاملا للخصوصية الموحدة إياها، ولكنه منسم طبقًا لقبعات زعاماته الروحية، مما عُرف فعلا عن كنائس أرثوذكسية أوكرانية وأرمنية، على سبيل المثال لا الحصر، لئلا نبكي على حالنا، في زمن غربة من أهلنا كان يفترض ان تتقارب القبعات مهما كانت بعيدة.
أجل في هذا المنعطف التاريخ الألفي، في زمن النكبة ومدّ العار الأسود، لم تعد من حاجة الى المحاباة ولا إلى الدبلوماسية بل الى الحقائق التاريخية العارية الصارخة تطرح على الشعب المكلوم وسواه، ومن يريد من يفهم الحالة كما هي فليفهمها وليرى موقعه المكشوف منها.

بين الكنيستين: الكنيسة الكلدانية وكنيسة المشرق
ما تم عرضه عن هذا التميز بالرؤى، كان في لب اللقاء الذي دار بين البطريرك مار لويس روفائيل الاول ساكو، الزائر لشقيقه البطريرك مار دنخا الرابع. لم يكن لب الزيارة ما شغل آنذاك الرأي العام والجهات ذات الصلة، وما ألهم بعض التندرات، عن شؤون بروتوكولية، تتعلق بمن يتلقى من؟ وأين: أيكون الاستقبال على عتبة القلاية البطريركية، أم على خطوات من العرش البطريركي؟ وأي لون هو كرسي الحبر المضيّف، واي لون هو كرسي نظيره البطريرك الشقيق الضيف؟ والحال كانت تلك مجرد حسابات بسيطة تم تصفيتها ومرت بتلقائية؛ وقد تكون التصفية تراوحت بين رعونة حاشيوية وتلقائية بسيطة في الكياسة وبين الترفع والحكمة والشفافية. بعد التصفية تلك كان ممكنًا التأبط الجماعي بين  الوفدين الشقيقين للصلاة الربية. ولم يعد ثمة حاجة لاستعراض مراسيم الإجلاس أمام مائدة طعام كريمة.
أجل كان لب الموضوع ان صاحب القداسة البطريرك المضيف، افصح عن رأيه الذي جعلنا نفهم لماذا بقيت الوحدة الكنسية لكل هذه العقود، مسألة ثقيلة الظل، برغم رفع الحرومات المتبادلة بين الكنيسة الكاثوليكية، وبين كنيسة المشرق، ذات الصلة الشقيقة تاريخيا للكنيسة الكاثوليكية الكلدانية. فقد كشف لنا قداسة بطريرك كنيسة المشرق، في ذلك اللقاء، وأمام أعلى زعامة للكنيسة الكلدانية الشقيقة (الباحث المتعمق في التاريخ الكنسي، المتبحر في حوار المذاهب والديانات) الموقف الثابت وغير المتزعزع بشأن الوحدة  فقال قداسة بطريرك كنيسة المشرق: من وجهة نظرنا ان وحدة شعبنا القومية هي التي تحقق وحدة كنيستينا.
فخلص اللقاء الى تثبيت موقف بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، إذ رد غبطة البطريرك ساكو: "إن الوحدة القومية مسؤولية العلمانيين بالدرجة الأولى، بينما وحدة كنيستينا هي مسؤوليتنا، وان  وحدة شعبنا ستأتي لاحقا." وأيد الرأيَ رئيس أكبر ابرشية في المهجر، ابرشية مار توما  الرسول، إذ علق المطران ابراهيم، وهو الآن مطران ابرشية مار توما شرفًا، قائلا: "إن كنيسة المشرق كانت تضم شعوبا وقوميات عديدة فما الضرر ان تضم اليوم أقوامًا مختلفين لأن الكنيسة جامعة." وخلص التقرير الى هذه الصلاة: ونتضرع الى الروح القدس ان يقودنا جميعا الى هذه الوحدة التي صلى من اجلها الرب يسوع.
فجاء رأي الجانب الكلداني الكاثوليكي، هو أن الوحدة شأن روحي، وأن الوحدة القومية شأن الشعب. وأفضل دليل على ذلك، أن الوحدة الروحية، لا تحل بانتماء رهبان الى دير واحد، ولا إلى كهنة في ابرشية واحدة، بل هي مسار ومراجعة ذات وتوبة متجددة.

كنيستان شقيقتان بخصوصيتين متفردتين
ولمسار الكنيستين الشقيقتين، كنيسة المشرق والكنيسة الكاثوليكية الكلدانية، خصوصية متفردة بينهما: لقد فقد الشعب الواحد المنقسم بين كلتا الكنيستين، ما يجمعه من توصيف مشترك لتراثه وتاريخه ولغته وخصوصيته الاثنية.
حدث ذلك، منذ ان الجزء الرئيس من كنيسة المشرق، استعاد نعمة الشركة التامة مع الكنيسة الام، لما كان قبل القرن الخامس. وتمت الشركة في أواسط القرن السادس عشر فكانت الكنيسة الكلدانية.
أما الجزء المتبقي من كنيسة المشرق، فمن المصرح به من لدن الكثيرين، أنها أخذت تحمل في حقبة تاريخية محدّدة الاسم الذي توخّى استعادة أمجاد الامبراطورية الآشورية، لغة وتراثا وتاريخا وعراقة، بما عرف من ترسخ عميق لشعبها في أرضه النهرينية، من حيث الانتماء والنضال والتضحيات .
هذا الاختلاف في الافصاح عن الخصوصية الاثنية، جعل للأسف الكنيستين الشقيقتين لا تحظيان بما يحظى به شعب الكنيسة الارمنية أو الكنيسة القبطية او الأريتيرية وسواهما، في كونه في كل من تالك الكنائس، شعبًا موحدًا اثنيا وتاريخيا.
على أن الكنائس الشقيقة ذات الاسم المشترك، بين كاثوليكية وغير كاثوليكية ليست، كما كررنا، اقل عرضة للانقسامات والخلافات، باستثناء طابع الاسم المشترك، وهو لحسن حظها جنب أحزابها أن يتقاذف شعبي المذهبين تحت توجهات اثنية مختلفة.
هذه الاحزاب، في ظل النكبة الحالية، اثبتت للقاصي والداني، فشلها، بتفسيرات وتنظيرات تعود الى ذوي الشأن، ليس أقلها، تعرضها الى التشتت على وفق الولاء للنفوذ بعض الزعامات الروحية. ولا يستحق الموضوع هنا صرف المزيد من الوقت لتوصيفه.
الشعب الممتحن التفّ نحو مسيحيّته وحول رعاته الروحيين
إزاء ما تقدّم ذكره، لاحظ القاصي والداني، أن الجانب الديني لمسيحيينا كان عامل توحد، واشتراكا في المعاناة، والتفافً نحو الكنيسة كزعامة روحية، وفي وضعنا المشتت وجدت نفسها ايضا وبجدارة ميدانية كزعامة مدنية، خصوصا من خلال تفاعل الكنائس الكلدانية والسريانية الكاثوليكية والارثوذكسية، لتواجدها الميداني المشترك، مع دعم لا نظير له، من بطاركة الشرق الاوسط. إلا أن عدم الافصاح عن جانبه القومي، جعل العالم الليبرالي يحسب انها مجرد مسألة اختلافات دينية، لولا صرخات يتيمة لبعض الشخصيات الفرنسية: آخر الاراميين معرضون للزوال... وفي مكان آخر: آخر من يتكلم لغة المسيح.
الشأن النهريني
إزاء المد الإرهابي للدولة الاسلامية، إلى الموصل وقرى سهل نينوى، كان الشأن النهريني الارامي للشعب السورايا، سيمر مرور الكرام، لو كنا شعبا، يحمل أي خصوصية غير الخصوصية النهرينية الضاربة في جذور  الحضارة والتاريخ.
وكل هذا كان سيمر مرور الكرام، لو لم تكن المسيحية لدى شعبنا معجونة، تراثيا وليتروجيا بلغة المسيح.
وحتى من مسيحيينا الذين ربما انحدروا من بني تغلب وبني طي وآل ثويني، وغيرهم من القبائل العربية ذات الانحدار الارامي، فعندما اعتنقوا المسيحية، كانت لغة الطقوس الليتورجية هي السريانية الارامية، فكيف الحال ان معظمنا من النهرينيين، نحمل أيقونة اللغة التي تحدث بها المسيح.

ملاحظة ذات بال
على أن ثمة ملاحظة ذات بال: أجل لم تفلح الانقسامات العقائدية والكرسوية، في أن ترفع عنا اسم السورايي، ولم تفلح في أن تغير اسم لغتنا لغة السورث.

للشعب الممتحن ان يتفحص أن تبلور الحس القومي
كثير من الوقائع تشير، أن الدولار وحده لا يصنع القومية، وأن الأجيال المتراكمة لاحقًا، لن تعطي لغة السورث، قدرها الكافي، وعندئذ يتقدم الحال سنة بعد أخرى، أن تتم الطقوس في جوانب منها بالانكليزية.
وعلى المستوى الكنسي، قلما ينتظر من الزعيم الروحي ان يكون منظرا قوميا، ولئن حدث ذلك هنا وهناك بشكل طارئ، لفن ينتظر من الزعيم الروحي ان يكون قائدًا قوميًا سياسيا. وفي الخط الكاثوليكي في الاقل فإن الزعامة الدينية غير مرشحة لزعامة مدنية، لأن هذا التوجّه بعيد عن رسالتنا الانجيلية ولا يتناغم مع مسيحيتنا المنفتحة الى افق جميع الشعوب.
وهكذا بسبب الفشل الميداني الموضوعي لسياسيينا، قوميا، وبسبب ضياعنا الاثني كخصوصية قومية بقي التجاهل العالمي نصيب شعبنا المهجّر على رصيف الانتظار، عندما سمع العامل فقط بأن الموضوع هو اضطهاد لمسيحيين. فمن كان سيأبه بمثل هذا الحال، في عالم تسوده الليبرالية واللادينية أو التبعية لمصالح باعة السلاح.
واستمر الامر كذلك، حتى حدثت مجزرة إخوتنا اليزيديين، فبرز وضعهم كاسم قومي تاريخي وتراثي وخصوصية اثنية، فصلب فيهم المسيح من جديد، لتأتيهم النجدة المبشرة بالخلاص من العالم الغربي، ومعهم شعب "مسيحيي العراق" ضمن ما زاد على المائة ألف من  المهجرين، وما كان أحد يجسر أن يسميه باسمه اثني، يا للحسرة، بسوى كونه شعب من مسيحيي الكنائس الكلدانية والسريانية والاشورية، كلها قوميات وقوميات جهوية، والشعب الجريح واحد.
من لي بصرخة شعب
هذا الشعب النهريني، تنذر المؤشرات، بأن ارضه ستقسم الى جزء بابلي مقتطع صوب المركز، والى جزء عراقي آخر، يضم من جديد، كولاية كردية الى الامبراطورية العثمانية الجديدة.
من قلب هذا الشعب، يجدر ان تصدر الصرخة، تجاه العالم، يكتبها على اليافطات، ويخطها على الجدران، ويصيح بها أمام تجمع الزعماء الروحيين والمدنيين، يقرر نهرينيته التاريخية، ويصرح بكون الشعب السورايا سليل أعرق الامبراطوريات، حامل لغة اسفار بيبلية – كتابية عدة، وحامل لغة يسوع الارامية المعمذة مسيحيا باللغة السريانية أو السورث.
عندما يتحول الوطن عند هذا الشعب، الى حقيبة. كل ما ستحمله الحقيبة سيكون ابجدية تسعى الى الاجابة، في كندا فرنسا واستراليا، ونيوزيلاندا وبلجيكا وهولندا والمانيا، وايطاليا والدول الاسكندنافية وغيرها، الى تساؤلات من انتم:
هل انتم عرب؟ كلا نحن على عمومنا لسنا بعرب، فمسلمون منهم في البلاد استلبونا، واستوعبونا، وكنا بين الارجل في خلافاتهم المذهبية وحروبهم الطائفية.
هل انتم أكراد؟ كلا فقد قيل لنا، انهم الذين انسحبوا من سنجارنا اليزيدية بمسيحييها، وقره قوشنا وسائر قرى سهل نينوى  انسحبوا بلا سابق إنذار، ليعودوا بعدئذ لمطالبة العالم أن يساعدهم على استرجاعها.
هل انتم تركمان كركوك؟ كلا، بل كركوك، قيل لنا، أنها سلمت بغير مقاومة، ضمن صفقة لا نعرف فحواها.
هل انتم اتراك، لنجيب: لا بابا لا، فتركيا كما يبدو تسعى لتضمّ ارضنا التي عشنا فيها، لتضمها ضمن ولاية كردية الى امبراطوريتهم العثمانية المزعومة الجديدة.
إن لم تكونوا كذلك، ولا لغتكم هي بالعربية ولا هي بالتركية، ولا هي بالكردية، فمن انتم وما هي لغتكم؟
أسئلة تبحث عن إجاباتها في حقيبة وطن نهريني مستلب مهاجر، انقسمت كنائسه، سقط سياسيوه وضاعت هويته...
فحتى متى تسكت شهرزاد عن الكلام المباح.

100
بقلم نويل فرمان السناطي

((سيبقى مسيحنا الفادي متألما وينزف...)) من كلمات مهجرة

بالصلاة المنتشرة، خط ساخن مع السماء، ومثله أصداء من المهجرين الاحبة
مقبولة منكم، أحبتنا في الوطن،
مقبولة منكم، كل ما يصدر منكم، وانتم في العراء، وعلى الارض مفترشين،
مقبولة منكم، أنتم ومن يحيط بكم ومن يستقبلكم، ومن يمد لكم اي يد عنون، وأي كأس ماء بارد...
مقبولة منكم، ان صدرت، ولعلها صدرت، ولما لا ان كانت صدرت،
مقبولة منكم أن تبتئسونا، أن تستصغرونا، أن تتعالوا علينا، وهل أفضل منكم بعد الله ان يتعالى علينا
لقد أترفتنا الغربة، فاستلبتنا وشلّتنا، فأصبح بيننا وبين قاماتكم فرق متزايد تستحقون بكل تفاصيل معاناتكم.
قد نفرح على قدر قاماتنا المحجمة تجاهكم، اننا جمعنا شيئا لكم،
 ما جمعناه لكم، هنا وهناك، مهما كبر في أعين صغرنا،
فهو لا يساوي صرخة طفل، وحسرة اب، ودمعة أم، وتنهد جدة وبكاء ييتم.
نصلي هنا، ما وسعنا،
وانتم هناك جميعا، مهجرين كنتم ومستقبلين،
أنتم هناك كفند مثل فند الساعور الراحل العم نجم،
أنتم هناك كفند ملفوف ملفوف بطول باحة مسكنتة،
انتم هناك كفند طويل طويل تشتعلون وتشتعلون،
وأنتم هناك تحت الشمس كالشمع تذوبون.

هذا أقل ما يوحيه لنا، لكثير منا، ونحن نصلي، ونحن نجعل من الصلاة خطا ساخنا مع السماء،
ولنا خط ساخن مثله بقليل مع عدد من المهجرين، ومن الرعاة الطيبين، كلهم طيبون...
كلهم على قدر ما حباهم الله من وزنة أو وزنات طيبون طيبون.

أما بعد،
ونحن نتحدث عما يجدر ان يفسح لكم من خيار، من بقاء أو رحيل،
فإن الذين غادروا البلاد قبلكم، وأنتم على ما أنتم عليه من معاناة، فلا ذنب لهم سوى انهم قيّض لهم، بطريقة أو بأخرى، أن يسبقونكم، فتمنوا لهم الخير،
فلو كانت ملائكة السماء، تنظم طابور المتراصفين، على ابواب الغربة، لما كان بد من وجود أولين ولا كان بد من وجود آخرين. على ان لي همسة، تخص منكم الذين يبحثون عن جواز.
إنها همستي المتواضعة بشأن تخفيف معاناة طالبي الجوازات
فإلى الاخوة القائمين على الجوازات في اربيل يوم السبت، هذه همسة أخوية طيبة:
الجواز يا سادة كوثيقة سيكون وسيلة ترويح أولية لمن يحصل عليها، وتخفيف نسبي للعبء النفسي، بعدما حصل من تهجير وترك بيوت،
وبعد ما حصل من عدم امكانية الحصول على ما افتقد في البيت،
فإن الدولة الاسلامية، التي طبقت أحكامها الشرعية، بشأن الاهتداء أو الجزية، أو الرحيل، قد وضعت الزنجيل الاضافي على الباب، مع وسام حرف النون، فلم يتمكن الجيران الاصدقاء، من فتح الدار بما اودع لديهم من مفتاح...
وبعد يا سادتي القائمين على اصدار الجوازات، هناك مراجعون لديهم اطفال من دون سن العاشرة،
وهوية أحوالهم المدنية هي على وفق تلك السن، وما جرى من سياقات، هي من دون صور.
فرحماكم، إن كنتم لا تستطيعون إصدار الجوازات في مثل هذه الاحوال، أن ترفعوا الامر الى المراجع، فهم محبون وهم عطوفون، والاعلى فيهم قال: نعيش ونموت سوية.
ويبقى الجواز يا سادة وثيقة ثبوتية، للمرء ان يحصل عليها، أكان مسافرا أم غير مسافر،
على ان الحصول على هذه الوثيقة بجهودكم الطيبة، سيكون بمثابة تحرر من سجن معنوي آخر، مضاف الى سجن الاغتراب خارج البيت، وخارج الاحلام والطموحات.

سيبقى مسيحنا الفادي متألما وينزف
الى سائر القراء الكرام، أود أن اقدم هذه الاسطر من رسالة دامعة لقريبة، ذات شهادة عليا، وهي مع الكثيرين الكثيرين على رصيف الانتظار، كتبت فيما كتبت:
أبت أدام الله عليك الصحة والأمان والسلام
أود أن اطلعك على بعض الأمور التي تجري في عراقنا الجريح الآن
مثلما سمعت فقد اعلنت فرنسا حق اللجوء لمسيحيي العراق، وخاصة مسيحيي الموصل، كفرصة لكل واحد هُجر من بيته وأخذت ممتلكاته وشقى عمره وحتى لم يبق لنا بساط لنجلس عليه. فعندما أردنا التسجيل على هذه الهجرة على موقع الانترنيت، وجدنا ان الموقع مغلق، واستغربنا لأن الحكومة الفرنسية تقول بأن باب اللجوء لا زال مفتوحا... وفوجئنا ان اغلبية المسافرين، كانوا ذوي أقارب... ومنهم ليسوا من اهل الموصل، وليسوا من المهجرين ولا اولئك الذين أجبروا على ترك منازلهم وممتلكاتهم ولم يعانوا حتى من تهجير واحد للمسيحيين... أما بالنسبة للسفر إلى لبنان، فقد امتلأت كذلك من ذوي الاقارب...

ونحن الذين أجبرنا على ترك منازلنا ومقتنياتنا وأعمالنا وترك اكمال الدراسة العليا، وسلب داعش بيوتنا ونهبها وأفرغها من تعب العمر ومن ذكرياتنا ذكريات الطفولة واللحظات التي احتفظنا بها لأولادنا كي يشاهدوها ويتذكروها عندما يكبرون،  الآن نحن مبعثرون في اربيل نبحث عن بيت يأوينا وعمل نقتات منه حتى لم نحظ بسؤال عن أحوالنا من أحد ...  بحجة أنهم لا يعرفون كل العوائل بالرغم من أننا من المواظبين على الكنيسة ونشاطاتها  (علماً انه قبل دخول داعش بأكثر من سنة تم تشكيل لجنة بالموصل لتعداد المسيحيين وأخذت بياناتهم الدقيقة كاملة حتى ارقام الموبايلات ولا اعرف لما تم؟ ما هو الغرض منه وما الفائدة من عمله اذ لم يتم الاستفادة من اخذ هذه المعلومات واهدار الوقت والجهد فيها؟ وان العوائل التي تم تهجيرها من الموصل قسراً حسب قول الكنائس هي (250) عائلة فقط من كافة الطوائف؟

خيبة أمــــــــــــل كبيرة لنا في هذا الزمن الغادر، أين كلام السيد المسيح ...؟؟؟ اين تطبيقه؟؟؟
... ولا عجب من أن مسيحنا الفادي لازال متألماً وينزف ...والسؤال هو هل سيبقى هذا الالم والنزف؟؟؟

اعذرني ابتي  الغالي على هذه الكلمات، ولكن تأكد انها تخرج من قلب مفطور حزين...
إبنتك

هذه كانت بعض اصداء، ومنها ما ينقله التلفاز، وعساها أن تلقى آذانا صاغية
ونبقى بالصلاة على خط ساخن مع السماء ومثله بقليل مع أصداء من المهجرين الاحبة




101
اعترافات حول الكتابة قبل وبعد  عدوان "الخلافة الاسلامية"  في الموصل والمنطقة
بقلم نويل فرمان السناطي
لم  تعد الكتابة هيّنة، في الاقل عند كاتب السطور، وذلك خصوصًا بعد عدوان الدولة الاسلامية على الموصل وتخومها، وبعد جرائم الدولة الاسلامية بحق شعبنا السورايا في سهل نينوى وبحق مواطنينا اليزيديين وغيرهم من العلمانيين ومن منتمين لمذاهب اسلامية مغايرة لخط الخلافة المزعوم. ولصعوبة الكتابة، قد يحتاج المرء الى تعلم تدريجي للكتابة من جديد، وليس ثمة طريقة لإعادة تعلم الكتابة في سبعة أيام.
لا بد من الاقرار بادئ ذي بدء، بشأن المقارنة المستجدة بين عمق وجسامة ما يجدر التطرق اليه أمام خطورة الحدث وسخرية المنعطف التاريخي. فإن ما كان المرء يكتبه من قبل، بات بهذا المنظار، يبدو كمجرد مقالات تفصيلية من حياة شعبنا السورايا. مقالات تكاد تلامس البداهة في بساطتها، في حين كان القلم معها يحسب ذاته كمخترع الذرة.!
ولا بد ايضا من الاقرار أن نوع الكتابة سابقًا في تلك المقالات البسيطة لم يعد يرتقي إلى المستوى المستجدّ في الكتابة عند التعامل مع جسامة ما ارتكب في قرننا الواحد والعشرين. جرائم ارتكبت باستناد موثق إلى الايديولوجية الاسلامية، وبنحو لم يسبق له مثيل باستثناء مراحل من بدايات الاسلام المتوسع سياسيًا انطلاقا من وقت ظهور السورات المدنية. ومع ذلك كانت الكتابة البسيطة تلك، وهذه مفارقة أخرى، تمر بمخاض يحاصر الكاتب حتى يجعلها ترى النور وكأن عجلة أجداد الشعب السورايا في عراق ما بين النهرين، تخترع من جديد.
أما الآن فإن أفكار ومشاريع مقالات كاتب السطور عينه، تمر كسحابة صيف. فالافكار في ما يود المرء كتابته على هذه الصفحات، قلما تأخذ الآن وقتها في الاختمار. إذ سرعان ما تتبخر وتغيب، أمام تسارع الأحداث، بصدمات متتالية. يحدث ذلك حين تأتي سحابة أفكار مستجدة لتحل محلها. ويتمّ كذلك أمام ما يكتب في الساحة من ثيمات مشابهة بشأن الحدث إياه، وبما يكون كافيا وأكثر. أضف إلى ذلك ضرورة ترك القارئ يغترف من مقالات الكتاب اغترافا وانتظار ما يبدر من ردود أفعال.
وثمة سبب آخر يزعم التفسير للتأخر في الكتابة، إذ تساءل كاتب السطور إن كان نداء البطريركية الى كهنة الكنائس ورهبانها بعدم التصريح، يخص الكتابة ومحاولات التحليل والتنظير، حتى تبين أن ذلك كان بشأن تفاصيل تخص الموقف من الهجرة وبتفاصيل تخص التعامل مع تشرّد الشعب السورايا.
ويوجد  استطراد آخر الشأن المطروق، وهو أنه عندما أخذ المرء يكتب، بعد العدوان، لم يعد يكتب للكتابة، إن كان ثمة أصلا من يكتب للكتابة. فكل مقال يحتاج الى سحب تنهّد طويل، وانتظار ما يتلاطم في الساحة. ففي ما يخص الأحزاب المتصلة بشعبنا، باتت الاصوات تعلو من هنا وهناك بوضوح وتشخيص ووضع النقاط على الحروف. وهناك ردود افعال كاشفة. فحتى استقالة نائب في البرلمان، بسبب التفرّغ لمهامه الوزارية، كان انسحاب من البرلمان قد يحسبه الكثيرون لصالحه، امام ما وصل اليه البرلمان. ولم تخف على أحد ما أحدثته استقالة وزير، مع اعطاء السبب الوطني الصريح عن استقالته، من تعاطف وتشجيع.
التسمية المسيحية المسوّقة محليًا والمحدودة عالميا
وعلى فكرة، وعلى ذكر شعبنا السورايا، من المستغرب ان التسمية الدينية بقيت ترافق شعبنا، كمسيحي فحسب، بينما شعبنا متأصل، لغة وتراثًا وتاريخًا، في بلادنا النهرينية قبل المسيحية، وبالطبع قبل الغزو العربي لها. وهذا بالطبع ما جنيناه بسبب تمزق جسد الشعب على تسميات وأحزاب "تسموية"، أعريقة كانت أو وظيفية، أكانت نزعوية، أو مزروعة او طارئة. على ان تناسلها، كان منذ البدء يصب في المحصّلة المباشرة، في خدمة المصالح الاقليمية والمركزية.
تسميات جغرافية ترافق الحدث، ويا للعجب
ومن المفارقة أيضًا، والجرح بعد ينزف والناس مشردة وطلب النجدة من كل صوب وحدب، باتت التسمية الجغرافية المتداولة بشأن سهل نينوى، هي تسمية جنوب كردستان. ومما يدعو الى المرارة، هو الاضطرار الى تسويق تسمية مسيحيين، بدل دعم التسمية بشكل واضح على انهم مكون ثقافي بإرث انساني وبلغة كتابية ضاربة في القدم، ذلك إننا افتقدنا التسمية التي تمثل شعبنا السورايا مجتمعا. ومن يدري، ربما كان سيبقى التجاهل مستمرا، لولا ظهور كتلة جمعت مع دينها الاسم القومي ليستصرخ حال أحبتنا اليزيديين ومأساتهم ضمير العالم فاستجاب العالم بالقدر الذي استجاب.
كتابات بلا قفازات
هامش الحرية في بلد اوصلتنا اليه نسابة وقرابة وخدمة كنسية
وفي حين كانت الكتابة حتى قبل المنعطف التاريخي الحالي، يحومها التساؤل: أنكتب بالقفازات أم بدونها! إذا بالمرء، أمام ضرورة المصارحة، في زمن لم يعد للمصارحة الصارخة شأن يُذكر مع محاذير ولبس قفازات. أشكر الرب، على أنه اتاح لي أن أكتب وأنا في مكان أوصلني إليه فضل ذوي النسابة والقربى، واستقرت أقدامي فيه، بخدمة كنسية كانت ابنة حاجتها، كل هذا، ومع مشاعر الامتنان الابدي لذوي الفضل، يحتم عليّ واجب أن اكتب ما كان سيكون أصعب عليّ كتابته، لو بقيت حيث كنت من قبل.
لنلحظ أيضا الإخوة نبرة البابا في تصريحاته، وخطاب البطاركة والاساقفة في بياناتهم ومقابلاتهم، ولنمحص في اجماع مجلس الامن، تجاه عدوان مرتكب باسم الايديولوجية الاسلامية، ولندعم الصمت المصدوم والعاجز إن لم يكن متواطئا مع العدوان، لندعم ذلك الصمت الكاشف والمعاطف مع القرار العالمي بشأن مبدأ الايقاف الصارم لأي إرهاب ديني. أما الماركة المسجلة حاليا للإرهاب الديني، فهو كما قلنا الإرهاب المتأسس على الايديولوجية الاسلامية سياسيًا.. 
فلنكتب أيها الإخوة ولنكتب أيضا وأيضًا، إذ لم يعد للقفازات والمجاملات السطحية من فائدة ترجى... ألم يكن ذلك النوع الضعيف من الكتابات التمويهية هو الذي لم يجد له آذانا صاغية لدى كل المعنيين، فتدهور الحال من درك إلى آخر... 
ملاحظة اعتراف أخير: كان هذا المقال، مجرد مقدمة مسترسلة للمقال القادم الموسوم بعنوان:
ماذا عن الاسلام كدين قبل وبعد تساقط خلافته في الموصل وسائر المنطقة؟








102
                                                                    

بقلم الأب نويل فرمان السناطي

لا دُرّ دُرّه من قلم، فلكم ضرب أخماسًا بأسداس، أمام هذا المقال! في سعي ليجعل الموضوع غير شائك، منسجما مع ما يمكن ان ينشر في مواقع كنسية. فطفق المرء يختصر ويضيف، يشذب هنا ويعدل ويصحح هناك ، حتى أصبح ما كان مقصودًا للنشر بلا شكل ولا طعم ولا رائحة، كتلك المقالات الانشائية المحشوة بدون ان تقول شيئا فيه حظ. لهذا استقر الرأي أن يُترك للقلم أن يتنفس الصعداء، فيطلق المقال من قيود عديدة ليأخذ طريقه إلى النشر، عبر ما يُتاح عمومًا من مواقع.
إرهاصات شعبية أطلق لها العنان على صفحات التواصل الاجتماعي، بعد فرمان الموصل
للتذكير فقط بشأن التسمية، فإنه قبل حوالي القرن، كان فرمان الأتراك العثمانيين، لتهجير المسيحيين وارتكاب مجازر الإبادة بحقهم، لسبب رئيسي أنهم مسيحيون، حتى اشتهر اسم فرمان وأصبح صفة تطلق على كل مصيبة تحل بجماعة، فيقال عنها: لقد جلبوا لهم فرمانهم؛ ومن مواليد تلك الحقبة من أكراد ومسيحيين من الشعب السورايا، أخذوا يطلقون عليهم اسم فرمان، كوالد كاتب السطور. وكان الصديق المهندس الراحل عبد الستار فرمان الراوي، أمين عام اتحاد المهندسين العرب الاسبق، يطلق علىّ، في الوسط الصحفي، صفة أخيه بالأسم، نسبة للاسم المشترك لأبوينا...

أما بعد،
فلا بدأ أن احتصرت لدى الكثيرين، أفكار وأفكار، تأبى أن تطلق نفسها، مجاملة مع النسيب والقريب، وابن الخالة وابن العم، والصديق والزميل، ممن يشتغلون في هذا الشأن السياسي وذاك بما يتصل بشعبنا؛ فإذا صارحهم القلم بشيء، سيكون لسان حالهم، أكانوا، حراسا، أو ممثلي كتل، أكانوا مسؤولي استعلامات، أو سواق، أو مدراء مكاتب، أو وكلاء وظيفيين، أم مكلفين وظيفيا من قبل مراجعهم... فلسان حالهم قد يعاتب القلم بالقول: أما تدعنا إذن نشتغل ونكسب عيشنا.
ولكن القلم يحتار، أمام واقع مثير للتساؤلات: هل إن قيام 13 كيان سياسي، بما يضمه من كوادر وإداريين وخدميين وعناصر حماية وأمن، هل كان كافياً لأن يسد حاجات أبناء شعبنا السورايا قبل فرمان الدولة الاسلامية المعاصرة، خصوصًا وأن هذا العدد من الأحزاب بقي على هذا الرقم المثير للجدل 13، منذ عدة سنوات، أو في الأقل أنه لم يغادر هذا الرقم المثير للجدل ليصبح 12 أو 14...
على أن هذه الاعداد من الأحزاب ومشاريعها السياسية، وأسلوب التنافس فيما بينها، كان قد بقي، امام الشعب، قبل وبعد الدولة الاسلامية في الموصل، بقى، في الحقيقة والواقع، شأنا سياسيًا، يكفله القانون، وشأنًا من الأنظمة التي تقوم فيها الأحزاب، وعلى وفق قوانينها البرلمانية. ولا بدّ وأنّه كان لهذه الأحزاب الكثير من الأهداف التي تروم تحقيقها، عبر اللقاءات والمؤتمرات والمآدب والدعوات الرسمية وشبه الرسمية؛ ولا بدّ وأن هذه الأحزاب، حاولت جهدها، في تلك الفعاليات الاجتماعية والحاتمية، لتسعي أكثر مما كان سيسعى، إليه حزب أرمني لانتزاع حقوقه القومية والاثنية بغية ممارستها على أرض العراق، اسوة بالحقوق القومية التي تمارسها الخصوصيات القومية، في الغرب، وفي كندا على سبيل المثال لا الحصر.

مقارنة مع الاحزاب الارمنية
لكن تنتفض الأفكار أمام ذكر إخوتنا واشقائنا المسيحيين الارمن، فإنهم لم يستطيعوا إلا ان يقيموا على رقعة ديمغرافية لمليون و400 نسمة، أكثر من اربعة أحزاب مع حزب خامس معارض: الحزب الجمهوري المحافظ وحزب أرمينيا المزدهرة وحزب سيادة القانون والاتحاد الثوري الأرمني. حزب المعارضة الرئيسي وهو حزب تراث رافي هوفانيسيان الذي يؤيد عضوية الأرمن في نهاية المطاف في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. أما في بلدان الاغتراب عن ارمينينا، أي في سوريا فهناك فقط، على ما توفر من معلومات، حزب الطاشناق في لبنان وفي سوريا؛ ويعتبر الممثل الأكبر للسوريين المتحدرين من اصول ارمنية ومنظمهم إلى جانب أحزاب أرمنية أخرى حزب الهنشاق وحزب الرامغافار وكلها أحزاب غير معلنة و غير معترف بها في سوريا لكن لديها نشاطها المتميز في لبنان.
وعلى كل حال، فإن الأرمن في ارمينا وخارجها لم يبلغوا على ما يبدو من الشأو السياسي والحنكة الحزبية لتكون لديهم أكثر من هذه الاعداد، فيما تشظى جسد شعبنا إلى 13 حزب. ولهذا فإن هذا المقال لن يتطرق إلى هذا الشأن السياسي الحسابي. بل سيكون الموضوع، مدى تفاعل شعبنا مع الاتجاهات السياسية لمختلف الاحزاب هذه، لعدد متضائل من ابناء الشعب على أرض الوطن.
على أن ما حدث من هول في الآونة الأخيرة في الموصل، أطلق العنان لمشاعر شعبنا تجاه هذه الحالة، وقد تم التعبير عنها بأسلوب قاس. ومن المحيّر ان أبناء شعبنا اطلقوا عبارات قاسية على تلك العناوين السياسية للأحزاب المتصلة بشعبنا، مع أن تلك العناوين السياسية، ما كانت تذكر شعبنا إلا بالمديح والخير، بالكثير من الحب، إن لم نقل من التودد الانتخابي والتنافسي، فهي بليغة في محبة شعبنا، كل حزب من زاويته، ومطامحة. أما العبارات القاسية التي كانت تأتي على لسان تلك الاحزاب فكانت فيما بينها، في المجال التناحري والتسقيطي، وكل هذا بالطبع حبا بشعبنا. ولا غرابة أن تتفاجأ في هذه الأيام، بأن الشعب يشير إليه، بأكثر من بنان.
 وجهان للعملة في توجه شعبنا السورايا

ولعل المرء، في شأن الشعب السورايا، أمام وجهين للعملة الواحدة:
الوجه الاول ما تطرقنا اليه، في مقال سابق: الرابطة بين الكنيسة والشعب، والذي نشر، قبيل صدور الفرمان الإسلامي لتهجير المسيحيين من الموصل ونهب بيوتهم وتدنيس أديرتهم. حيث ان أبناء الكنائس عموما، مع ظهور توجه الرابطات، من الذين إذ تتضح لهم الرؤيا في العمل السياسي، يختارون الحياد السياسي ويكتفون بالشأن الثقافي والتراثي واللغوي والفولكلوري والتاريخ والاجتماعي، مما تناوله ذلك المقال، فيما يخص الانضواء تحت رابطة كلدانية، اسوة بالرابطة السريانية والمارونية وغيرها. وقد يجد الكثيرون منهم في هذا الانضواء بابًا من الانتعاش الوجداني والانساني وربما الاقتصادي، مما يغنيهم عن الانخراط السياسي. 
أما الوجه الاخر، فهو أبناء شعبنا السورايا، ممن توزعوا على الاحزاب العديدة المتصلة بشعبنا، لكن الواقع الجديد يضعهم أمام منعطف آخر في الاختبار:
إلى أي مدى يتوزع ابناء شعبنا على تلك الاحزاب والانشطة السياسية المتصلة بشعبنا، والتي كما يبدو كاد تكاثرها يرتبط بعدد من لهجات شعبنا.
أليس من المتوقع، أمام ظهور واقع جديد في تجمع ذي امتداد شعبي وثقافي غير سياسي، مثل الرابطات الاجتماعية، وأمام الصمت العاجز من لدن كل قادة العراق، فكيف بالأحزاب المتصلة بشعبنا... أليس من المتوقع أن تتغربل هذه الاحزاب، أمام تغير نظرات ومقاييس الشعب وتفقد الكثير من قاعدتها الجماهيرية.
أمام هذه الخيارين والتساؤلين، لا بد وأن يبقى في الحركات السياسية المخضرمون من ذوي المعادن النضالية التي تطمح الى العمل السياسي، على المستوى الوطني وعلى مستوى المشروع الحزبي والنضالي للحزب الذي يختارونه. ويسعون الى تعبئة جماهيرية واسعة نحو برامجها وأهدافها، فلا يكون نشاطها مجرد مجال عمل وظيفي اطلقته أساسًا لتشجيع تعدد الاحزاب، السلطات المتنفذة لإضعاف الخصوصية القومية للشعب السورايا، كل هذا ضمن آليات قانونية مشروعة.
ويبقى ذوو المعادن، ممن يختارون التحرك السياسي المندمج سواء مع المشاريع الوطنية الديمقراطية او الملكية، أو على مستوى وحدة الشعب السورايا، بدون أن يكون ثمة تداخل في ما يخص الكنيسة. وليس موقف الكنائس الكاثوليكية تحديدًا، في الحيادية الحزبية، شيء من الموقف المضاد للنشاط السياسي، بل انها من حيث المبدأ تقف على مسافة واحدة، من انشطة مختلف ابنائها، مع الوعي ان أنشطتها هي لخدمة شعبها وتصل فيها بالآخر، بطريقة أو بأخرى.
ومن هؤلاء من يختار إما الاندماج مع المشاريع الوطنية الديمقراطية او الملكية، على مستوى المواطنة، أو يفضل النشاط الحزبي على مستوى وحدة الشعب السوريا، بصرف النظر عن انتمائه الطقسي والكنسي، ومنهم ربما تراوده الطموحات ان يسعى مع القوى العظمى في العالم، كأن يؤثر في مجلس الدوما الروسي، أو الكونغرس الأمريكي إلى تغيير الخارطة الجيو سياسية في المنطقة، لصالح شعبنا، ويعد شعبنا بذلك كأولية في منهاجه السياسي والانتخابي! قد يعدّ هذا مجرد أحلام! ولكن لما لا، فحياتنا على قول جبران خليل جبران، من صنع أحلامنا.

وهنا قد تنفرز الحالة عن توجهين للشعب:
الأول الانخراط مسيحيا في الشأن التراثي الثقافي غير السياسي
والثاني الانخراط الصميم حزبيا في الشأن السياسي، 
هؤلاء وأولئك سيجدون كل الفضاء اللازم للتحرك، بدون أن يكون ثمة تداخل في ما يخص التوجه الكنسي، ما بين العمل الحزبي الوحدوي للشعب السورايا، وما بين التوجه المسيحي، مع أنه قد يصب في الهدف الإيجابي إياه، بطريقة أو أخرى، بحسب ما تتوصل اليه الاحزاب من تحالف يرحم مقادير الشعب ويرأف بمصيره ويقدس دماء شهدائه ليس لكونهم من هذا الحزب او ذلك بل لكونهم مسيحيين نهرينيين ومن ابناء الشعب السورايا على تنوّع مسمياته.

إطلالة الرحمة من شعبنا على الاحزاب السياسية المتصلة به
من الملاحظ، استخدام مفردة الاحزاب المتصلة بشعبنا، وليس أحزاب شعبنا؛ وهذا التحاشي، هو لصيانة توجه الحزب بنحو يقسم الشعب الواحد بحسب تواريخ اعياده وقبعات أحباره، كما هو لتنزيه الخط المسيحي الروحي للكنائس من التداخل السياسي، وما يجعلها تمضي على طريقتها وعلى هدي من الروح القدس، في مسار الدعوة الى الوحدة المسيحية.
وإذا كنا باتجاه عدم تداخل الاحزاب المتصلة بشعبنا، مع الشأن الكنسي، فإنها في الوقت عينه، معنية بالانفتاح الى مساحة الوطن والتفاعل السياسي على هذا المجال، خصوصا وأن التجربة المريرة التي عاشتها البلاد في هذه الايام، في أحداث مدينة الموصل. 
وأمام هذا، من المرتقب أن ينظر ابناء الشعب السورايا، من الجانبين، من الذي يخرجون عن تلك الاحزاب، والذين كانوا مستقلين عنها أصلا، من المرتقب أن ينظروا الى العاملين في الوسط السياسي، بإطلالة رحمة ورأفة تجاه محدودية نشاطهم امام تشرذم مخيف للأحزاب السياسية المتصلة بشعبنا، والذي كلما تنقاص عدده كلما تزايد سياسيوه، وتنوعت مشاربهم واستفحلت مؤتمراتهم ومقابلاتهم ومقاطعاتهم ودعواتهم وردود بعضهم على البعض الأخر، بين هجوم وهجوم مضادّ.
ولن يكونوا أكثر رأفة بهم وحنانا، مما يمكن ان يكونوا بعد ان تنبئ الاحداث لتغير الخارطة الجغرافية، لأماكن تواجد شعبنا المسيحي، أمام المواجهة الخطيرة التي تحدق بالعراق، تلك المواجهة ذات البعد العالمي، حتى تطلبت من ساسة البلاد ان يستنجدوا بالقوى الكبرى، ويقرعوا أبواب الامم المتحدة، وما كان لهم من بد في الشأن المحلي، لبيان حسن نيتهم وطيبة ارادتهم، سوى أن يستنفروا صبية الشارع وأولاد الأزقة. ولا بد ان أصوات ساسة العراق الحالي، قد طغت على اصوات الاحزاب المتصلة بشعبنا السورايا، فلا نزعم انهم لم يسعوا إلى ان يسمعوا صوتهم، ولكن من الواضح أن المجال يضيق في ذلك كما تضيع عطسة في سوق الصفافير؛ خصوصا وان كبار الزعماء لم يبرز فيهم من يوصل صوته الى المحافل الغربية عموما، ممن لفت الانتباه بنحو خاص؛ باستثناء، راعي ديني، شخص من الوسط الكنسي، يعدّ نفسه، كما ذكر ذلك في رسالته إلى برلمانيي العراق، يعدّ نفسه ذا صوت بسيط، كمرجعية دينية مسيحية عراقية... فـتأبط ذات اليمين وذات الشمال، ذراعي مطرانين عراقيين، المطران بطرس موشي، رئيس أساقفة الموصل للسريان الكاثوليك، والمطران يوسف توما الدومنيكي، رئيس أساقفة كركوك، ليوصل معهم اصواتهم "البسيطة" الى البرلمان الأوربي، إنه البطريرك لويس روفائيل الأول ساكو بطريرك بابل على الكلدان.

آن الأوان لكتل كبيرة من شعبنا أن تودع أحزابًا كثيرة 
في أحد الأيام، كنت في بغداد، في مؤسسة ثقافية تعنى بالشأن القومي لشعبنا، وتهتم بوحدته، وقد التقيت، شخصا (والشخص كما معروف، قد يكون مؤنثـًا أو مذكرًا). فكنت بالبساطة، إن لم أقل بالسذاجة، التي تكلمت بها أمام الشخص الثوري المهتم بشأن وحدة شعبنا، فذكرت لذلك الشخص، أننا في نهاية الأمر مسيحيون سورايي، ولنا جذور طقسية وعقائدية مشتركة، فقال لي ذلك الشخص بلهجة المعلم الموجـّه وبإطلالة حنان: أنا، يا عزيزي، أعتقد أن أفضل سبيل هو ان نعزل توجهنا القومي عن الشأن الديني.
لا شك أن هذا الشخص مذكرا كان أو مؤنثا، في زمن أصبح رجال كثر نساء، وأمست نساء كثيرات رجالا، لا شك أنه كان يعني بأن الاتجاه القومي، يمكن للشعب أن يوحده بمعزل عن التوجهات الكنسية والطائفية. ولكن بقيت احتفظ في الذاكرة بتلك نبرته، نبرة نفور تجاه العنصر الديني، وهنا بيت القصيد؛ إذ عندما صعد الشخص المذكور في الشأن السياسي، في عراق ما بعد 2003 إذا به، يزور رجال الدين الواحد بعد الآخر، ولا أعرف ماذا كان يضمر لهم في قرارة نفسه، وكيف كان يسعى أن يجامل كل واحد بطريقة، في تلك الزيارات الرسمية وطبقا للأجندة المطلوبة.
إزاء أحداث الموصل، وإزاء الاستئصال بموجب الشريعة الاسلامية لآخر مسيحييها الأصلاء، فإن لسان حال العناوين السياسية لشعبنا قد يكون: ماذا تتوقعون ان نعمل، إذا كان رئيس الاقليم ورئيس حكومة المركز، يطلقون النداء في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليس على مستوى التفاوض مع الدولة الموصلية الأسلامية حديثة العهد، بل لمجرد "معالجة وضع المسيحيين"، هؤلاء الذين للمرة الثانية، بعد كل الأجيال التي تلت ظهور الاسلام، يتم تطبيق أحكام القرآن بحقهم وتنفيذ بنود الشريعة الاسلامية بشأنهم.
الآن يمكن لشعبنا أن ينظر بنظرة خبيرة لكل توجه حزبي بشأنه وحواليه، كما هي فرصة لإطلاق السبيل لهذه الأحزاب، لكي تعرف من الان فصاعدًا بأي طريقة يمكنها أن تستقطب أصوات هذا الشعب، فهي اصلا بغير حاجة مباشرة إلى نقوده، واي خطاب يمكنها أن تخرج به أمام هذا الشعب الصابر الصامد المتألم الجريح. كل هذا، قد يحصل إذا حاولت أحزاب كثيرة أن تخرج من دكاكينها الصغيرة، وتتآلف فيما بينها، وتتحالف مع الحيز السياسي غير الطائفي وغير المذهبي الاوسع في البلاد، كمبادلة شريفة لمشاعر الرحمة مع شعبنا.

من ثمار الحيادية الدينية ما بين الأحزاب والشعب
إن عدم التداخل السياسي مع الشأن الكنسي، وتغربل المنتمين الحزبيين لحد الذين يحسون الرغبة في اعماقهم للعمل الحزبي السياسي البحت، قد يؤدي إلى تحجيم عددا فائض من الأحزاب والكيانات، مما يؤدي إلى ظهور عدد محدد من الأحزاب البارزة، ذات المشاريع الوطنية الكبرى، بعيدا عن التكتلات الضيقة، إزاء أحزاب وظيفية مجهرية متضائلة تذوب مع الوقت، أو تكون ملحقة وظيفيا بالأحزاب الكبرى المتنفذة.
وعندئذ ستبرز للعيان ثانية، مضار تعدد الاحزاب، مما ربما سيحفز الى المزيد من التحالفات المشروعة بين التحركات السياسية، بنحو يرحم مقادير الشعب السورايا ويرأف بمصيره ويقدس دماء شهداءه التي أهرقت أنهارًا، ليس لكونهم من هذا الحزب او ذلك بل لكونهم مسيحيين نهرينيين ومن ابناء الشعب السورايا، بمختلف مسمياته.
ما بين الوحدة القومية والمسيرة المسكونية

أمام هذا، تتضح صورتان:
التوجه نحو الوحدة القومية، يدخل ضمن نشاط الشعب وتعبئته جماهيريا بموهبة كاريزما مرتبطة بإنموذج الشخصية القيادية الاكثر حيازةً على الاستقطاب الشعبي.
في حين أن التوجه الوحدوي المسكوني بين مسيحيي الشعب السورايا، فيبقى شأنا روحيا ومسارا لا تؤثر فيه جرة قلم، ولكنه نداء من الاعماق في قبول الذات وقبول الاخر والتعايش مع الاختلاف والتراكم الثقافي والتراثي، مع السعي الضميري للزعامات الدينية السامية، نحو هذا التقارب والى القيام بخطوات عملية نحوه، بمسؤولية ودعوة مسيحية سيحاسبهم التاريخ عليها.

ذلك السعي المشكور
وهذا الانطلاق والتقويم من لدن أبناء شعبنا، نرى أن يكون مشفوعًا بعرفان الجميل من قبل شعبنا السورايا المسيحي، للحمل الثقيل الذي حمله سياسيو الأحزاب، بحنكة وصبر ومطاولة، أمام ما تقاذفهم من التيارات المذهبية والطائفية بين انتمائهم الحزبي وخصوصيتهم الطائفية من جهة، وعدم اكتراث عدد منهم بالشأن الديني أصلا، ولا بدّ وأنهم اضطروا لغير مرة أن ينظـّروا التوجه القومي من زاوية طائفية. وأزعم أنهم اضطروا بوحي من واجباتهم الحزبية، بمعزل عن قناعاتهم الروحية والايمانية، أن يذهبوا في المناسبات إلى الكنائس، ويقومون بالزيارات المكوكية لقسسها وأحبارها. ولا بدّ أنهم لاحظوا بحصافتهم السياسية، ضمن الاشياء التي كانوا يتوخونها في مخططاتهم الحزبية، أنهم في كل ذلك، مثل الذي يلم بالماء، ويردّ الكف الخالي خاليا. ولا بد أنهم، لمسوا لمس اليد، ما الذي جعل الشعب تتقاذفه الاتجاهات السياسية، فتتكاثر من حوله الأحزاب بشهية منقطعة النظير، ربما لفقدان الرؤية الواضحة في الافق، قبل أحداث الموصل. 
ولعل أخيرة هي: لعلّ عددا من الاحزاب التي قامت في العراق، عندما ابقت على زعامتها التاريخية شمالا وجنوبًا، كانت في ذلك أمام احتمالين:
إما أن ثمة حقوقا لا بدّ من الحصول عليها، وأهدافا بعيدة المدى لا بد من تحقيقها، أرضا وشعبًا، وتأثيرا في الأقطاب الدولية، والوحدة الأوربية، وعليه لا بدّ من بقاء القائد المحنك القائد الضرورة وعرّب المرحلة الدقيقة والحرجة للأمة القومية، أمام الاستعمار المستبد والامبريالية الغاشمة.
وإما أن ليس ثمة حقوقًا لا قريبة المنال ولا أهدافًا بعيدة المدى، قابلة للتنفيذ، أرضًا وشعبًا، وعليه، قد يوحون لأتباعهم بطريقة وبأخرى: لما إضاعة الوقت وتبديد الجهود باستبدال قائد بقائد.
كتبنا كل هذا، وكتب الكثيرون، ولكن الخشية كل الخشية، والحذر كل الحذر، أنه، طالما لم تسمّى الأشياء بأسمائها، فإن كل واحد، يحسب أن المقصود غريمه لا سواه، عندئذ ما عليه إلا أن يتبلعم ويمضي في سبيله.
وعليه أيضًا يستحق الشكر هؤلاء السياسيون، لما سعوا إليه، في مرحلة ما قبل الأحداث الدامية لشعبنا.. وشعبنا يطلّ عليهم من علياء صليب محنته، بإطلالة الرحمة. 












 




 




103
لمناسبة تبنّيها في مجمع الاساقفة:
بين الكنيسة والشعب، تطلعات بشأن الرابطة الكلدانية

الأب نويل فرمان السناطي

من غير المرجح أن الاتجاهات القومية والأحزاب السياسية المتصلة بشعبنا، قد رأت في قيام الرابطة الكلدانية، مجرد رقم آخر، يضاف إلى ما بات يُسمَّى بـ "كيانات" شعبنا. ومن غير المتوقع أنهم ينظرون إليها، دونما اكتراث يُذكر، على أساس كونها مجرد جمعية ثقافية، لا تستدعي التوقف مليًا، ثم ومن باب أولى، على أساس أنها غير سياسية أصلا؛ لكن الملاحظ، بل المفارقة، أن بلورة تأسيس الرابطة وطرحها على بساط البحث والتداول، صاحبه ما قد يلفت النظر من صمت "سياسي" عميق يـُشمّ منه شيء من اللامبالاة؛ مع أنها انبثقت من تطلعات بطريرك له ثقله الكنسي والوطني والقومي، البطريرك لويس روفائيل الأول ساكو، وله كلمته محليا، أوربيا ودوليا، في الاحداث السياسية على الساحة؛ ويستثنى من هذا الشعور والانطباع، قيام نخبة من الأقلام المتمرسة الرصينة والنزيهة الملتصقة بالشأن الكنسي بقناعة وإيمان، واللصيقة بشفافية بالهاجس القومي، سواء كانت ضمن اطار تنظيمي أو خارجه؛ وقد تناولت هذه النخبة موضوع الرابطة بمهنية وحيادية واحتضان، وبروحية من التفهم لتوجّهات البطريرك الكلداني الرامية إلى ازدهار الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وأبنائها، نحو الوحدة والاصالة والتجدد.

الرابطة الكلدانية والكنيسة الكلدانية
من المعروف أيضا أن هذه الرابطة تترسخ برعاية قريبة من الكنيسة الكلدانية كمرشدة محبة لشعبها المؤمن بدليل كونها، كما سبق ذكره، مشروعًا مباشرًا صادرًا من البطريرك، وأن هذه الرعاية للشعب الكلداني المؤمن تشمل توجهه الثقافي والإنساني والفني والادبي والفولكلوري وأصالته التاريخية وتجذره. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الكنيسة الكلدانية ببطريركها، وهي في زمن متفرد وضمن رقعة جغرافية واسعة وطنيا وعاليا، تحمل صوتًا في المحفل الرسمي المحلي والعالمي، لما يتعلق بشؤون مؤمنيها وحياتهم الانسانية والوجدانية.
ونحن الآن، في أعقاب صدور البيان الختامي لسينودس أساقفة الكلدان، نعيش مرحلة الإعداد المباشر لقيام هذه الرابطة، بعد أن تبنـّاها أساقفة المجمع المقدس، وعُهدت إلى أيدي متخصـّصين تكنوقراط؛ وزاد المجمع فأوكلها إلى متابعة أساقفة يجمعون بين الحيوية والخبرة؛ إذ جاء في البيان الختامي: "تبنى الآباء مقترح البطريرك بتأسيس رابطة كلدانية عالمية، فتشكلت لجنة من الأساقفة لمتابعة التأسيس مكوّنة من الأساقفة يوسف توما، بشار وردة وميخائيل مقدسي عن العراق، والمطران ابراهيم ابراهيم عن أمريكا، ويشرف على عملية التأسيس غبطة البطريرك". ونعرف ما لهؤلاء الأحبار مجتمعين من باع طويل في الشأن الإعلامي والتعامل الحكيم مع المحافل الرسمية والاجتماعية، الى جانب ضلوعهم الأكاديمي في الشأن الاثني وترابطه المتوازن مع الجانب الروحي والانتعاش الوجداني.

جهة متفاعلة ومنفتحة على رقعة واسعة وطنيا وعالميا
تكتسب الرابطة ثقلها وأهميتها الخاصة كونها تقوم على مساحة ديمغرافية لعدد واسع من المسيحيين الكلدان في العراق الحالي لحدّ كتابة هذه السطور وقراءتها؛ نقول الحالي، وذلك في أعقاب أحداث الموصل وكركوك وسواهما من مدن العراق، وما ألقته من ظلال على مواطنينا العراقيين والنهرينيين وخصوصا أبناء شعبنا ذي الجذور العميقة الضاربة في تاريخ البلاد. هذه المساحة الديمغرافية الممتدة أيضًا إلى الافق التاريخي لأرض ما بين النهرين؛ وهي تمتد في الخارج أيضا إلى مختلف اصقاع العالم.
وأكثر من هذا فإن الرابطة تنفتح بأبناء الكنيسة  الكلدانية، إلى سائر الأشقاء في الإيمان والجذور من مسيحيي البلاد والمنطقة ومواطنيهم في الخارج، متأسّسةً على الأمانة للدعوة الروحية المسكونية الكنسية الجامعة لرسالة البشرى السارة، الإنجيل.
وللرابطة الكلدانية العتيدة أن تغترف من خبرة الرابطة السريانية في لبنان الشرق الاوسط، والتي برزت بحجمها الإعلامي والمعنوي في ظروف الاستلاب والاختطافات، كمنبر نيـّر وصوت مسموع لمسيحيي لبنان والشرق الاوسط، انطلاقا من خصوصيتهم كأبناء للشعب السورايا الآرامي وتفاعلا مع أشقائهم الشرق أوسطيين في الإيمان.
وللرابطة الكلدانية أن تتناظر مع تاريخ العمق الماروني – السرياني، المنفتح إلى الإشراقة المسيحية عربيًا، في لبنان الأرز وخارجه؛ وكذلك مع الكنيسة المارونية، التي أثبتت الأيام كيف ترسخت كبعد متميّز لمسيحيي المنطقة؛ بحيث سبق للبطريرك لويس ساكو في احد لقاءات الاساقفة بلبنان، وبفخر وتواضع ومحبة وتأصل، سبق له وأن دعا للحبر الماروني البطريرك بشارة الراعي، بالعمادة الروحية والمسيحية والأخوية بين أحبار المنطقة الكاثوليك، مع الإنفتاح في خدمة المحبة إلى سائر الأحبار المسيحيين.

برعاية كنسية، الرابطة بمديات متنوعة منفتحة دونما توجس من أجندة خارجية أو سياسية
في مثل هذه الظروف، التي يمكن فيها التحسس من التدخل الحزبي والتكتلي في الشأن الكنسي، لعلّ قاعات الكنائس تفتح أبوابها مشرعة لأبناء الرابطة وأعضائها ومُريديها واصدقائها؛ وقد يكون لها إذا سُمح لي بتوقع ذلك وتنفيذه ميدانيًا، حصة من الإعلانات والتوصيات، في منبر ما بعد الطقوس الدينية، وذلك بدون أي حساسية مما سمي في العراق الحالي، بعد سنة 2003 بالأجندة السياسية لهذا الحزب أو التكتل أو ذاك، ولا بأي منافسة انتخابية.
هذا، كما أعتقد، قد يجعل  الشعب المؤمن المرتاد الى الكنيسة بمواظبة واقتناع، أن يحتضن هذه الرابطة دونما خشية أن تتقاذفه هذه التيارات أو تلك؛ وفي الوقت عينه، مع إبقاء وإنماء المودة للأهل والأصدقاء والأقارب المنخرطين في الشأن السياسي.
كما أن أبناء الكنيسة، سيتمكن من يشاء منهم، خارجًا عن الرابطة، أن يختار هذا التوجه السياسي أو ذاك، برؤية أوضح، أمام حيادية كنسية مطلقة إزاء العمل الحزبي السياسي، مسترشدا بقناعته على وفق ما يراه في هذا المشروع السياسي أو ذاك، ومستنيرًا بخبرة شعبنا تجاه مختلف الاحزاب، سياسية كانت أو وظيفية، سواءًا قبل أحداث الموصل 2014 أو بعدها.
هذا ما يجعل من الرابطة، في كنيسة كاثوليكية، كلدانية كانت أو سريانية أو مارونية أو أرمنية أو قبطية، تتيح التميّز المشروع والواجب، بين عالمين، الروحي والمدني، متعاشقين بشفافية، غير متداخلين، وبلا ضبابية، على وفق اتجاهات ابنائها؛ فيكون فيهم من سيكتشف ما في داخله من رغبة خاصة للعمل السياسي والقيادي على مستوى الوطن، وخدمةً للرقعة الجغرافية ذات الكثافة المسيحية؛ ويتبين من الجانب الآخر، من يهتم بالشأن الديني والثقافي والفولكلوري والتاريخي والأدبي لشعبنا السورايا في إطار مدني لرابطة مثل الرابطة الكلدانية.
هذه أفكار تم اجترارها منذ أسابيع بل أشهر، مع إعلان الرغبة البطريركية في قيام الرابطة الكلدانية، وعلى مدى ما تم متابعته، خلال المدة المنصرمة، من أفكار وأبحاث بهذا الشأن؛ حتى تكلل كل هذا بأن أقرّها آباء المجمع المقدس، لتنطلق بمتابعة فريق أسقفي فاعل وطنيا وعالميا.
وبعد، لم تكن هذه الصحبة تودّ، رغم كل الحبور الذي تنضح به، أن ترسم صورة مثالية ذهبية عن الرابطة، لكنها جاءت لتنشد كل العناصر التي تبشر بديمومة الرابطة وبكونها حقًا خطوة مفصلية، خطوة على الطريق الصحيح.




104
أساقفة شباب، وماذا بعد؟
الأب نويل فرمان السناطي
 
"لا يستهن أحد بحداثة سنك بل كن قدوة للمؤمنين في الكلام والسلوك والمحبة والإيمان والطهارة " (1طيمثاوس 4: 12)




أكتب هذا المقال، بمعزل عن مجريات المجمع المقدس لأساقفتنا الكلدان، الذي انعقد مؤخرا وننتظر بيانه الختامي. لكنها أمنيات تراود المرء، عما نترقبه من أساقفتنا الأعزاء، وبضمنهم الذين تم انتخابهم ونحن في وقت كتابة هذا المقال أو خلال قراءته منشورًا. الامنية الأساسية تتفاعل مع توصية بولس الرسول إلى تلميذه الأسقف طيمثاوس بما يقرنه مع حداثة سنّه من صفات وفضائل... ومعها أمنيات وتطلعات أخرى لا ترتبط حصريا، في اختيار الاسقف، بالحد الأدنى من السن أو الحدّ العمري المقبول. فأذكر أني في مقال سابق بعنوان "سابقة السوابق" كنت أشرت بعبارة "البطريرك الشاب" إلى بطريركنا الكلداني الجديد، مار لويس روفائيل الأول ساكو، مع أنه تعدّى الستين من العمر. ذلك أن السنوات تبقى، إلى حدّ ما، من غير قياس اذا كان القلب شابًا، ولا حاجة، في هذا الصدد، إلى أن نشير الى عمر البابا الحالي، مار فرنسيس الأول، المذهل بمفاجآته وبشبابيته.




هذا ما يدفع المرء إلى ان يتطلع بأن يكون الأسقف بمواصفات الروح الشبابية، ولئن تعدّى الخمسين أو الستين، عندما يتمتع بتاريخ من الأداء الكهنوتي  المقبول والمُرضي مع حدّ مناسب من الكفاءة العلمية، إذ يكون، عندما يتعدّى الخمسين، قد تبلور لديه اكثر فأكثر النضوج الإنساني والعاطفي والروحي..
الأسقف، مواصفات ومواصفات
وهنا أود الإشارة المتواضعة إلى بعض النقاط، التي نثق أنها حاضرة بنوع وآخر في التميّز الحكيم لآبائنا الاساقفة، لما يتوخّونه من تأثير للأسقف في أبنائه الكهنة والمؤمنين على المديين القريب والبعيد.
فٌأقول، بشيء لا يخلو من البديهية والبساطة، أنه لو ارتبط مقياس الأسقفية، بمن أكمل الحدّ الأدنى من سن الخامسة والثلاثين وبضع خمس سنوات من الخدمة الكهنوتية المقبولة والمرضية، بلا تفرّد معين عن أقرانه في نوع من كاريزما التواضع والروحانية والقداسة، فإن الطبيعة البشرية ومجتمعاتنا الشرقية، وما يحيطها من ميل جماهيري لتبرز انموذج الزعامة المدنية قبل الروحية، وقبل الخدمة وتمثيل ملوكية المسيح... كل هذا قد يصيب الزعيم المدني - الروحي، بظاهرة الانتفاخ، مما قد يؤدي الى الترهـّل أو الانفجار. وقد ينجرّ أحيانًا، وبمعزل عن مواهب الروح القدس وكاريزما الروحانية، إلى أن يقتصر على ممارسة الزعامة بنوع فني وبموجب ما وصفه خبير الانثروبولوجيا البريطاني ديسموند موريس، فيبث الزعيم في ظهوره العلني إحدى الاشارتين الجسديتين الهادفتين الى النقطة عينها وهما:




الاطلالة المعبّرة - سويتش أون
وقد شبّهها ديسموند موريس بطريقة معاصره آنذاك الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، الذي كان يمتاز بالضحكة الفاقعة والحركات الاستعراضية التي توحي بتطمين المشاهدين إلى أن الأمور لديه ماشية على ما يرام .
الإطلالة الحيادية – سويتش اوف
فهي التي لا تعبّر عن حالة داخلية، وشبّهها ديسموند بأسلوب ظهور الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، فما كان يبتسم ولا كان يعبّس، بل كان يوحي للجماهير أنه سيد الأمر ولا عليهم بالاهتمام بكيفية تدبّره للأمور وأن لا شيء يؤثر فيه أو يزعزعه في تمشيته لشؤون مسؤوليته .
أما أن يكون الشخص عبوسًا، مع أناس ومكشرا عن ضحكة عريضة مع آخرين، فهذا يعني ان ثمة مشكلة تحتاج إلى تسوية بينه وبين الذين يتجهّم أمامهم، دون غيرهم، على أن كل هذا وذاك يجعلنا أمام شخصية قيادية مهنيا، مما لا علاقة له بالروح الانجيلية المشرقة. 
واذا اقتصر الامر على هذا الجانب بدون عمق روحي يُذكر، ولا قرار في التغيير أو التجدد، فيحتمل عندئذ أن يبقى الاسقف الشاب من هذا النوع، وطوال خدمته الحبرية، جاثما على مقادير ابرشيته، ومجمعه الاسقفي والكنيسة الرسولية الجامعة. وعندئذ قد تبقى المشاكل بلا حلّ،  وعلى حد تعليم البطريرك الراحل الكردينال مار عمانوئيل الثالث دلي، كما نقل لي عنه صديق من تلامذته في الدير الكهنوتي، إذ قال أن هناك "مشاكل لا تجد حلا إلا بعد موت اصحابها" وبعد عمر طويل.
بين الزعامة المهنية وكاريزما الريادة الروحية
وعليه، فإن ارتباط المقياس بأن يكون الأسقف الجديد في هذه الكنيسة أو تلك قد أكمل الخامسة والثلاثين من العمر، يجعلنا لا نعتقد أن الأداء الكهنوتي المرضي والحدّ المناسب من الكفاءة العلمية يكفيان، بل أن يقترن ذلك بشهادة القداسة التي يجمع عليها كثيرون، مما يجعله فعلا قدوة للمؤمنين في الكلام والتصرف والمحبة والروح والايمان والطهارة. مع التنويه إلى أن الطهارة تبقى مسألة ترتبط بتوصية القديس بولس إلى الاسقف الشاب وحديث العهد، من خلال تلميذه طيمثاوس، ليعيش على وفقها بينه وبين ربّه، فهذه الفضيلة أبعد أن تكون مجرد حالة عذرية أو ماركة مسجلة، بل تبقى بالأحرى مسار حياة روحية يعيشها المرء بمحبة للرب والرعية وبتواضع وتوبة متجددة وعطاء لا حدود له. 
توصية البطريرك عن المقالات والمواعظ
وما دمنا في توصيات بولس رسول الأمم، أود أن أختتم بإشارة طريفة وبريئة، إلى أن إحدى المواصفات في عهد مار بولس وبعده ببضع أجيال، كانت ان يكون من اشتهى الاسقفية، متزوجا من امرأة واحدة. مع العلم أن الامور قد تغيرت فيما بعد، مع قيام الرهبانيات، لتكون مصدرًا رئيسا لاختيار الاساقفة. لكني كنت تلقيت معلومة، من الأخ العزيز القس جليل منصور (كاهن متزوج) راعي كنيسة مار نرساي الكلدانية في بغديدا، لا أعرف أين وجدها في مصادر الكنيسة الشرقية، يـُسمح بموجبها برسامة الكاهن المتزوج، اسقفًا إداريا. على أنه يجدر بالأحرى الاستشهاد برأي الكاهن المتزوج الراحل القس متي ربان الراعي السابق في قرية سناط، الذي بحسبه، يكفي الكاهن خورنته وزوجته والأولاد من نعمة وبركة واهتمام.
 لكن مثل هذا الموضوع، بين قربان الكاهن الاعزب، وكاهل الكاهن المتزوج، هو موضوع آخر، لعله يكون يومًا مادة لمقال أكثر تعمقا. فلا بد من عدم الاطالة، وطرح كل موضوع في مقال مستقل، إذ أوصانا غبطة أبينا البطريرك، خلال زيارته الميمونة إلى كندا، بأن نتوخى في الكتابة، المقالات القصيرة، وفي الكرازة، المواعظ الاقصر.




كالكري – كندا
26 حزيران 2014

105
اذا كان ثمة ثمار طيبة تذكر لهذا مقالي المتواضع، فهي ما استحثه في التعليق الاول الذي نال اشادتي واضمامتي وتعاضدي مع المتضررين.
وهذه الثمار هي من باب أولى، في ما جاء بقلم الاخ سامي هاول، وما كنت انتظره من قارئ وكاتب نبيه مثله.
مع شكري  لاسلوبه المحترم في النقد، يليق بدماثة اخلاقه، وأدعوه إلى اعادة قراءة المقال على ضوء تأييدي له، مع الاقرار ان هذا ما استطعت ان اكتبه شخصيا في هذا الموضوع، وان العافية درجات.
مع احترامي ومحبتي

106
الأخ الفاضل الاستاذ بطرس نباتي
مع الاعتزاز بكل ما كتبت في السابق، مقالك هذا هو من اجمل ما قرأت لك. فيرجى المحافظة صُعُدًا.

107
اخي الفاضل الاستاذ ابراهيم العمران
لا يسعني الا ان أقول بأن رأيك سيكون اضمامة فاتتني حقاً في التعليقات التي أوردتها ضمن الموضوع والتي سوف أضمها الى الترجمة للموضوع الموجه الى الرأي العام ذي الصلة مع اقراري بسبقك الصحفي، و مع مشاعر التضامن مع كل  للمتضررين في الأحداث من الأعزاء  بدري وطالب وقيصر وياسر وسواهم ممن لا بحضرني اسمهم.
ومحبتي. ا. نويل

108
خبرات متفاعلة بين ابرشيات الكنيسة الجامعة:
شهادة عن الادارة المالية للخورنات اللاتينية

الاب نويل فرمان السناطي


تقديم يتوخى خفة الظل

جوانب رئيسة من هذا المقال، نشرت في الموقع الالكتروني لبطريركيتنا الكلدانية، تحت عنوان (استجابة لمقترح سابق لغبطة بطريرك الكلدان: شهادة عن الادارة المالية للخورنات اللاتينية) ورأيت أن انشره هنا ايضا، لتعميم الفائدة، لما فيه يخدم تعميق خبرة كنائسنا، في هذا المضمار. وبادئ ذي بدء، أستهل بمقدمة صحافية اتوخاها خفيفة الظل، لتنعش ما يليها من اجواء لفقرات حسابية وماليه لم آلفها في مقال من قبل! فأود ان اعبر عن انبهاري، بسرعة التواصل، التي احدثتها الوسائل التكنولوجية والمعلوماتية الحديثة. ولا أخفي أني ابن جيل فتح عينيه على المراسلة والطوابع البريدية، طوال عقود؛ وكان انتظار الاجابة يستغرق أياما وأسابيع وأحيانا أشهر؛ واذا بنا نتحول، في الاقل منذ التسعينيات، الى مراسلات متبادلة بشكل شبه فوري. على أنه في تلك الحقبة ولعدة سنوات، لم يكن من السهل مخاطبة شخصية كشخصية مطران، خصوصا في الطلبات الرسمية؛ فوجدتني يوما، طرفا في حالة تنقلت فيها بين طريقتين: اتلقى بالبريد الالكتروني في بغداد من الخارج رسالة من صديق راغب في الكهنوت وتعتلج الدعوة في أعماقه، كان يوجهها الى مراجع كنسية، فأقوم بطباعتها وأضعها في الغلاف واذهب بها الى تلك الادارة الكنسية... ومرت الايام وكنت ببساطة أتساءل، هل لي ان اكتب رسالة ايميل الى مطران؟ ماذا لو أجرب. فجربت فكانت من أطيب تلك المراسلات مع الزميل الاكبر في التلمذة وفي الاعلام، اسقفا، ثم بطريركا. والان صارت المراسلة الالكترونية، جميلة وباهرة لمن عاشوا مرحلة ما قبلها عندما تلتمع اعينهم بالمقارنة العجيبة. أما المراسلة مع الاساقفة، ومع البطريرك، بالايميل او على رسائل الفيسبوك، فقد اصبحت تشفي الغليل، لهائم في الرمضاء بدون ماء.لا بل اصبحنا افراد في مجموعة ايميلات بين كهنة واساقفة وكتاب وشمامسة.

أولى لبنات هذا المقال

وبعد، فقد بدأت أولى لبنات هذا المقال، في مراسلة الكترونية مع بطريركنا مار لويس ساكو، عندما كان غبطته رئيس اساقفة كركوك. وكان طرحي وقتذاك بشأن ما يمكن التطلع نحوه عن الأبرشيات التي تنشأ في الخارج، ومدى تفاعلها مع السياقات العامة للأبرشيات الكاثوليكية المجاورة لها، وتناغم ذلك مع انشطتها الرسولية، كما مع الانظمة المالية ذات الصلة. وكنت نوهت في الطرح كأخ اصغر للراعي السابق لأبرشية كركوك، إن كان ثمة حاجة أن تقوم يوما ضوابط تسري على خورناتنا وتكون متناغمة مع الخط العام للكنيسة الجامعة. فاقترح مار لويس الشأن المالي: حبذا لو تنور القرّاء  بما هو موجود في الكنيسة اللاتينية، ويمكن ان  يكون على هيئة شهادة.

هذا المقترح الأبوي، بقي في داخلي، لكن مشروع الكتابة عنه بقي مؤجلا تحاشيا لأن يكون ذلك، في تلك الآونة، مجرد فقاعة عابرة في بحر متلاطم، أمام افق غامض. وبقيت أعتقد أن الكتابة في هذا الموقع المنتشر على مستوى كنائسنا الشرق اوسطية، لتسليط الضوء على خبرات ابرشيات الكنيسة الجامعة، قد يفيد الابرشيات في الكنائس عموما، حيثما تستجد فائدة، دونما تشخيص حالة محددة في هذه الكنيسة او تلك. ولا غرو ان في ابرشياتنا، من الخبرات الرائدة في هذه المضمار، ما يمكن الافادة منه، سواء ما قرأته عن مار لويس، في مقالاته ذات الصلة، منذ كان راعيا لخورنة ام المعونة، ثم مطرانا لكركوك. وثمة ايضا خبرة رائدة أخرى، سنح لي ان اطلع عليها عن كثب مع ابرشية حلب للكلدان في سوريا برعاية مار انطوان أودو، مطران الكلدان في حلب وسوريا، وأحيي سيادته من هنا، واتمنى له ولبلاد الشام العزيزة، السلام والامن والاستقرار. وهذا بالطبع بدون الانتقاص من خبرات الابرشيات الكنائس الاخرى، لكني لا اعرفها بدقة، ولا بد وان تلك الخبرات متناغمة بشكل أو آخر بمناقبية التعامل مع الانظمة والسياقات المالية القائمة.

الادارة بحكمة وشفافية

نستبشر خيرا، إذ تستقبل الكنيسة الكلدانية هذا السرب المبارك للأحبار الجدد المنضم الى المجمع المقدس للأساقفة، ممن كانت لهم في الرهبانيات، ومع الخورنات الكلدانية واللاتينية، خبرات لا بد وأنها ستعزز الخدمة المالية في أبرشياتنا. فعندما وقعت عيناي على كلمة شفافية (اعد ان ادبر بحكمة وشفافية، وبموجب القوانين المقدسة، اموال الكنيسة) هذه الكلمة التي جاءت في صيغة اعلان الطاعة التي قرأها السادة الاساقفة المرتسمون، احسست بالخطاب المعاصر لهذه الصيغة واهمية الفقرة التي تناولتها في العهد الذي يقطعه الاسقف على نفسه. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الشفافية تتعلق بسياقات سبق وأوصت بها بطريركية بابل، بشأن تحرير الكاهن والاسقف لوصيته، وبما يساعد على التمييز، فيما بعد، بين الملكية الشخصية وما يعود الى الكنيسة بشكل واضح. وهذا كان اقتراحًا سبق وأن عبر عنه احد كهنتنا في التسعينيات، اصبح فيما بعد مونسنيور، وذكره في جلسة خاصة، تحاشيت ذكر اسمه، فلعله نسى المقترح... ويحرجني! ويدعم هذا المقترح ما ينبغي من تحوّط لحدوث الغموض والارتباك بين مقتنيات الراعي الميراثية وبين الحقوق المالية للرعية. وقد لمست ان البطريركية الكلدانية ماضية في هذا المضمار وبالتفاعل مع الابرشيات.

ابرشيات غير معصومة، لكن القوانين جاءت للحماية والمساءلة

اذا تطرقنا الى خبرات ابرشيات الكنيسة الجامعة، فهذا لا يعني تبرئة العاملين فيها بشكل مطلق؛ إنما القوانين المالية فيها، تقوم على حماية المتعاملين في هذا المضمار، فيكون تجاوزها سببا للمساءلة القانونية على مستوى البلاد، حالهم حال المتجاوز في أي مؤسسة منتظمة أخرى علمانية أو غيرها. وقد سمعنا منذ سنوات، أن تجاوزات تحصل في أبرشيات هنا او هناك، كما في مؤسسات علمانية، وعندما ترصد، تخضع للمساءلة. وهذا ايضا ليس لتأشير خلل معين في ابرشياتنا، ففيها السياقات الحسابية التي تتبعها. كما نعيش في عهد بطريركي، بدأ، منذ أول أسبوع، بالتعامل بكل شجاعة، بشأن أي خلل إداري وخطأ بشري، مما يطمئن على ان المؤشرات ماضية قدما نحو الاحسن.

من ضوابط ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني:
التنقلات الدورية: كاهن للابد، في كنيسة المسيح، ولكن ليس في الخورنة ذاتها

تعتمد ضوابط الأبرشيات اللاتينية مبدأ أن خورناتها قلما ترتبط بكاهن راعيا لها حتى سن التقاعد او الوفاة. بل هناك سياقات لتنقلات كهنة الابرشية، من خورنة إلى أخرى، كل اربع او ست سنوات. وقد لا يسري ذلك بانتظام على الخورنات ذات الخصوصية اللغوية عندما لا يتوفر اكثر من كاهن كبديل لآخر في خورنة بلغة الاقلية في البلاد، كالإسبانية والفرنسية والالمانية، في بلاد ناطقة بالإنكليزية، على سبيل المثال. ولكن حتى في هذا المجال، لم يتردد في العام الماضي اسقف مدينة كالغري الكندية، من دمج خورنة تقدس بالإسبانية بخورنة ايطالية، ترعاها رهبانية متعددة اللغات، ونقل كاهن الخورنة الاسبانية –سيدة غوادالوبي- وهو يتكلم الانكليزية ايضا الى خورنة بعيدة تقدس بالإنكليزية.


السياقات المالية
المعادلة بين امكانية قيام خورنة، وبين اعطاء خدمات مجانية مع عيش كريم للكهنة

ضوابط تحمي الخدمة الكهنوتية وتخدم الرسالة الانجيلية

ما نجده من ضوابط، في تلك الكنائس، تجعل الكاهن يعيش بكرامة، ويتفرغ للخدمة الراعوية؛ كما لا تشغله تجربة الثراء، لو كانت معيشته مرتبطة على الخدمات والحصول على المركز الذي يوفر له المزيد من الخدمات المربحة، فلا يفترض به ان يطلب الثراء من خلال عمله. وكل هذا لا يجعل الكاهن يسترزق بعدد البوراخات التي تحدث في خورنات الابرشية؛ ولا يتطلع الى الدعوات للمشاركة فيها في الخورنات الاخرى، مقابل مكافأة، وبما لا يجعل حياته  منقسمة بين هموم اللقمة، وبين اعطاء الخبر الروحي. وان السياقات الحالية هي ايضا، بطريقة معاصرة، تعكس جانبا من القناعة والفقر الروحي بعيدا عن التطلع في الثراء، الذي يمكن ان يجرب الضعف البشري فلا يستشري في كهنة الخورنات الضخمة.

وسياقات مالية تسري على الخورنات سواسية، كبيرة وصغيرة

هكذا ان السياقات المالية ذاتها، تسري على هذه الخورنات سواء كانت صغيرة او كبيرة، بحيث لا يتهافت عليها الكاهن لدسامة حجمها، ولا يبتعد عنها لصغرها. إذ تنتظم فيها ضوابط الخدمات بالشكل الاتي:

نيات القداديس
لا يوجد وارد متضخم لصالح الكاهن، ناتج عن نيات القداديس بالجملة، مهما كان حجم الخورنة: فإن نيات القداديس، تدخل ضمن الايراد الخاضع للضربة، وتوزع كل نية بمفردها، على أيام الاسبوع عدا يوم الاحد، فلا تأتي النيات، بالجملة ليوم الأحد دون غيره من الأيام. لا بل في قداس الاحد لا تعلن النيات بالأسماء، اذ يُعدّ القداس مقدما على نية كل مؤمني الخورنة. وما عدا أيام الآحاد والأعياد –المأمور بها-  توزع نيات القداديس على التقويم الشهري لأيام الاسبوع؛ يقدس الكاهن عن هذه النيات، في قداسه اليومي، سواء بحضور اصحاب النية أو غيابهم، بعد أن تعلن في لوحة أو نشرة. وما فاض عن هذه النيات، في الجدولة لما اكثر من الشهرين او الثلاثة اشهر، فهو يجمع ويحول الى المطرانية، وبدورها وبمعرفتها، تمنحه الى الكهنة المتقاعدين، او ترسله مركزيا لخورنات العالم الثالث. وتعتبر الابرشيات اللاتينية ان هذه  فقرة عادلة وحكيمة إذ تحدّ من الإقبال في الخدمة، على خورنة كبيرة بعدد المؤمنين، دون الأصغر منها.

الخدمات الكنسية الاخرى
ولكن هذا الاجراء ليس الوحيد. فتنظيم سياقات للخدمات الكنيسة الأخرى، هو الآخر يحمي الكاهن من جدلية تجربة، حذر منها الرب،  بألا يتبع المؤمن ربين، الله والمال، وتنظم هذه الخدمات كالاتي:
العماذات: يتم الاعداد لها، مقابل تكاليف ادارية تجيـّر للخورنة، لتغطية نفقات السكرتارية وإعداد الشهادات واجراءات التسجيل، ولا ينتظر من المؤمنين، في العماذ غير ذلك.
خدمات الجناز وخدمات سر الزواج: فيما يخص الابرشيات اللاتينية الكندية، وما معروف عن ابرشية كالغري، تقرر الأبرشية، أن يستقطع مبلغ يجير للخورنة وكالتالي:
مائة دولار، لما يسمى هورار التشييع (Funeral stole)
مائتا دينار، لما يسمى هورار اكليل الزواج (Marriage stole) وبمعزل عن الزكاة السنوية او الشهرية التي يمنحها اعضاء الخورنة.
تحال هذه المبالغ الى حسابات الخورنة، ويستقطع منها المحاسب، نسبة عشرة بالمائة للكاهن، تعطى له في نهاية الشهر. اي عشرة دولارات للجناز، وعشرين دولار لإكليل الزواج. وهذه النسبة المتواضعة، مهما تعددت الزواجات والوفيات، لا تؤدي الى ثراء غير طبيعي للكاهن، من وراء خدمات الأسرار. مع الملاحظة أنه فيما يخص دورة المخطوبين المقبلين على الزواج، والتي تقام في أحد مراكز الابرشية اللاتينية، يدفع المشتركون، مبلغ 189 دولار، تتضمن الكتب والمحاضرات والتكاليف اللوجستية.
مثل هذه السياقات، تجد صداها في بيان للبطريركية الكلدانية مؤخرا، يقضي بمجانية خدمات الأسرار، في كنيسة يقدم فيها المؤمنون ما يستطيعون من عطاءات الزكاة.
وهكذا، بعدم بقاء الكاهن في ابرشية كبيرة مدى العمر، وبعدم التعامل التجاري الشخصي مع نيات القداديس بالجملة لصالحه ولسائر الخدمات الاخرى للأسرار، تقلل فرص تحوّل الكاهن إلى تاجر جملة في سوق مرموق؛  كما لا تجعل الخورنة تتحول الى واحدة من الشركات المتعددة الجنسية،  تستقطب الثراء، على حساب الرسالة الانجيلية، ومن عرق الفقراء وكدّهم.

خدمة المرضى
لا يتقاضى الكاهن في زيارة المرضى، بطريقة المضمد او الموظف الصحي الذي يعالج مريضا ما بزيارة خاصة. ففي كل مستشفى، يوجد قسم للرعاية الروحية لكهنة منسبين من الابرشية لهذا الغرض، وخاضعين للاستدعاء بالجهاز مثل الأطباء في الحالات الطارئة. أما إذا كان المريض من أحد أعضاء الخورنة، فيزوره الكاهن ليس كحالة طارئة، بل بحسب الوقت المتفق عليه.

 رواتب الكهنة: عيش كريم غير مرتبط بحجم خدمات الاسرار فهي مجانية

الراتب: تنطلق خدمة الكاهن، ضمن سلم الرواتب المقرة، وبما يحتسب الاستقطاعات اللازمة لأغراض التقاعد والعجز والإجازات المرضية والضرائب، ومن ثم يأتيه راتب مجزٍ ومناسب، يزداد سنويًا بنسبة اثنين ونصف بالمائة. وتسعى الابرشية، الى توفير مكان تقاعد مناسب له، عند بلوغه سن التقاعد.

المخصصات:
مخصصات التبضع: وهي مبلغ جزئي يدعم راتبه، وبما يوفر له حدًا أدنى من تكاليف الطعام يدعم راتبه، ويساعده لتناول الطعام مع الكهنة. وكذلك لديه هامش مبلغ بسقف مالي سنوي، يتيح له ان يقدم ما يسمى قوائم ضيافة، عندما يدعو ضيفًا الى طعام. ويحدد السقف المالي السنوي، لمساعدة الكاهن أن يتصرف الكاهن باتزان في هذا المضمار.

دعم العلاج: الحالات المرضية والمراجعات الطبية، يتم تغطيتها لعموم المواطنين، وتعامل بما هو مناسب، من قبل الابرشية، عدا الحالتين أدناه:

الاسنان: يتقاضى الكاهن، في مجال التأمين بشأن علاج الاسنان بنسبة 60 بالمائة، الى سقف سنوي محدد في المبلغ، لا يصرف شيء من بعده. هذا الدعم يقتصر على الاجراءات العلاجية: كالقلع والحشو وما الى ذلك، باستثناء الاجراءات التجميلية وما يخص عمليات تحسين الابتسامة.

العيون: لكون الكاهن بحاجة مطلقة إلى عينيه، فيصرف له العلاج بنسبة المائة في المائة، على مدى ما يرافق النور بصره. وتصرف للنظارات نسبة 70 بالمائة.
 كل هذا يوحي بأن الابرشيات، تأخذ بعين الاعتبار، مستوى علاج الكاهن، مقارنة بالنظام المحلي السائد وعلى وفق غلاء المعيشة في بلد كل ابرشية.

مخصصات التنقل
عند تنقل الكاهن، للخدمات في زيارات لاماكن بعيدة، لا يضع في جيبه المؤمنون المخدمون بعض النقود لما قد يفهم منه ضمن مصطلح: حق البانزينات؛ فله ان يقدم جردا شهريا، بالكيلومترات التي قطعتها سيارته، لهذه الخدمات او الرياضات الروحية واللقاءات الدراسية، فيتقاضى نسبة محسوبة، لتكاليف الوقود واندثار معين للسيارة.
ولكن كيف يتصرف الكاهن في بدء تعيينه، عندما لا تكون لديه سيارة. لقد فكرت الابرشية في ذلك، فهي تعطيه، لمرة أولى ووحيدة، قرضا وافيا، بدون فوائد، بالتقسيط المريح، لشراء سيارة؛ وتبقى السيارة مقيدة لدى شركة التأمين، باسم الابرشية لما يخص حالات الحوادث والتعويض، حتى يسدد الكاهن آخر سنت من القرض المريح. أما القرض فيغطي سيارة من نوع مناسب. ولعل قدوم الحبر الاعظم مار فرنسيس بابا الفقراء، ومثاله الابوي والشخصي في هذا المجال، وما يوصيه في مجال الانفاق، من شأنه ان يحث الكهنة بألا يفتشوا عن السيارات الاستعراضية الفارهة الفاقعة.
 السكن: يوفر للكاهن السكن المناسب، وبما يتضمن السكن من خدمات ومصاريف، من كهرباء وتدفئة وهاتف ارضي. أما الهاتف الخلوي فيمكن للكاهن ان يشتريه بحسابه الخاص، وتدفع له الخورنة ، مقدارا مقبولا من المصاريف الشهرية، عدا المكالمات الدولية وعبر البحار.

ضوابط قيام خورنة او اغلاقها او دمجها

يعتمد قيام خورنة وبناء كنيسة، على عدد كاف من المؤمنين. فتعتمد الخورنة، على ما يبادر المؤمنون لتقديمه، كعطاءات سنوية واسبوعية، خاضعة للإعفاء الضرائبي، وتتعامل مع سخاء المؤمنين، لما يخص النفقات العمرانية والصيانة وما الى ذلك من احتياجات، تخصص لهذا المضمار او ذاك مع تأمين عيش كريم للكاهن. أما الخورنة التي تتناقص فيها امكانية ادامة المتطلبات اللوجستية، وخدمات الصيانة، من خلال عطايا مؤمنيها، وان هؤلاء المؤمنين هم في اختفاء سواء من الناحية العمرية، او الناحية الجغرافية وموقع الكنيسة، ويكون التعامل مع الحجم والعدد بشكل مدروس احصائيا، وحسب موقع الكنيسة واستيعابها، فإن هذه الكنيسة تغلق وتدمج مع خورنة أخرى. واحيانا يباع المبنى، لجهة كنسية اخرى، تستطيع الاضطلاع بنفقات صيانته، سواء بسعر السوق، او بسعر دولار واحد، أي بسعر رمزي.

كنائس لا تبنى على اكتاف المعوزين

وكما توجد ضوابط لغلق الكنائس، فان ثمة ضوابط لتوسيعها، ليس بعرق الفقراء وعلى اكتاف المعوزين، بل باحتساب احصائي لاخر ثلاث سنوات من ايراد العطاءات، وبما يجعلها تستحق قرضا مصرفيا أو أبرشيا مناسبا لهذا الغرض، تتدخل الابرشية لتنظيمه. ولا تقوم ضوابط الأبرشية، بمجرد تقديم خدمات الاسرار لمؤمنيها، بل يحتسب السقف المالي لإيرادها السنوي، بما يجعلها في موقع المسؤولية، من خدمة الفقراء ضمن برنامج غذائي وايوائي تديره الابرشية، ويجعلها أيضا، تسهم في دعم الاراضي المقدسة، ودعم الارساليات في البلدان الفقيرة، ولها برنامج إعانة لما يطرأ من حاجات مساعدات دولية، كما حدث مع هاييتي والفيلبين واليابان وسواها، وبحسب التوجه المركزي للكرسي الرسولي.

لا تثقل الكنيسة مهما كان موقعها، ومهما كانت فخامة بنائها، كاهل المتزوجين الجدد وعموم المؤمنين، بتسعير خدماتها على اساس وجاهة موقعها وخصوصية بنائها، ولا تسعر خدماتها بحسب السوق. وإذا كان ثمة مبان كبيرة لعدد من الكنائس،  فهي تبنى لاستقطاب اكبر عدد متوقع للمؤمنين في تلك المنطقة، متبعة المناقبية المالية ذاتها مع اي خورنة أخرى، ومعتمدة رسالة إعانة الفقراء ونجدة الطوارئ. واذا استجدت حاجة إلى التبرعات، توضع ظروف لهذا الغرض امام أماكن الجلوس، ويشار إلى ذلك في النشرة او في الموقع الالكتروني.

بهذا السياق، وباعتماد الرسالة الانجيلية، اساسا للمشاريع الخيرية، لا تتحول هذه الكنائس الى شركات متعددة الجنسية، ولا يصرف الكهنة وقت مواعظهم بالحديث عن جمع التبرعات والإسهاب في شرح المشاريع العمرانية، وبشكل متكرر مما أوحته مقولة: كثيرون من الذين هم خارج الكنيسة، اصبحوا كذلك بسبب الذين في داخلها...

مثل هذه الاجراءات، من شأنها أن تحول دون التهافت على الكعكة الأكبر والتشبث بها؛ كما تحول دون ان ينقلب الاكليروس الى اباطرة أموال، من خلال ما يجمعونه من خدمات في الرعيات الكبيرة، في القداديس والبوراخات والعماذات والجنازات. وعندئذ يكون النقل منها الى رعية أصغر بمثابة اخذ قسط من الراحة في حقبتهم الكهنوتية. وهذه الاجراءات تحول كما يعتقد، دون أن يبدو الاكليروس في كنائس المسيح، كعنصر تشكيك للمؤمنين، من خلال ما يظهر عليهم وعلى ما حواليهم وعلى تنقلاتهم واسفارهم، من ثراء فاحش. فحاشى لهم ان يناقضوا قول المسيح بأن يجعلوا بيت أبيه بيت تجارة. واذا لم يكن ثمة، من سوط ليسوع يخرج التجار من الهيكل، فإنه عند التجاوز على ما مرسوم من انظمة مالية، يأتي بعد الضمير، سوط القانون، ليتكلم.

109
                                                 السينودس الكلداني، انعطافة متفردة ودماء مستمرة في التجدد

الأب نويل فرمان السناطي *
--------------------------------

منذ سنوات ولمسببات متعددة بقيت تسري في تشكيلات السينودس الكلداني دماء مستمرة في التجدد. وقد تناول الكتّاب ذلك في مقالات متعددة. في هذا المقال، نسلط الضوء على سابقة يمكن ان تعدّ منعطفا جديدا في السينودس الكلدان؛ هذه السابقة تضاف الى مضي السينودس بدماء مستمرة في التجدد والتضحية والعطاء، وهي تنسجم بشكل متميز مع مضي اساقفة السينودس باختيار شباب ذوي شهادات و"تكنوقراط" مثل الاب د. سعد سيروب حنا نائبا بطريركا، والاب حبيب هرمز النوفلي باحث متمرس، راعي الكنيسة الكلدانية في لندن، ليكون رئيس اساقفة للبصرة. والذين سبقوهم في اختيارات مجامع سابقة. أما هذا المنعطف المتفرد، فاراه يتمثل بحالتين مشرقيتين:
- التعامل الحكيم للسينودس بطريقة قبول المطران باوي سورو، الاسقف السابق في كنيسة المشرق الاشورية الشقيقة، كعضو في المجمع الاسقفي (السينودس) الكلداني.
- سابقة الانفتاح الى الرهبانية الدومنيكية رهبانية معروفة بالملافنة الوعاظ، من خلال اختيار احدهم، الاب د. يوسف توما الدومنيكي، رئيس تحرير مجلة الفكر المسيحي منذ 1995، الى جانب مؤهلات اخرى، يحملها كما يحملها كل بحسب وزناته وعمره الكهنوتي، سائر الاساقفة الشباب المنتخبين حاليا وفي السابق.  والكنيسة الكلدانية بذلك تستأنف انفتاحها على الرهبانيات، على غرار التعامل مع سائر الرهبانيات الحبرية، كل منها حسب دعوتها وحسب الموجودين فيها من انتماء طقسي كنسي كلداني، مثل الرهبانية الهرمزدية الانطونية، الرهبانية اليسوعية، الرهبانية المخلصية؛ الى جانب طلب البطريركية خدمات للخورنات الكلدانية من الآباء في الرهبانية الكرملية وفيها كفاءات ومواهب واعدة.
سابقة السوابق: حبران "شقيقان" اشوري ودومنيكي في السينودس الكلداني
سأضع هنا تقديما صغيرا للفقرات التي كتبتها قبل ليلة من بيان البطريركية حول قبول الاسقف مار باوي، وقد تستجد ملاحظة ان الفقرات اللاحقة لما كتب قبل البيان، فيها استقراء وتوقع ينسجم مع هذا البيان الذي يفصح بحق عن حكمة التعامل مع الموضوع، بما جاء فيه: "اعلمت البطريركية الكلدانية رئاسة كنيسة المشرق الاشورية الموقرة بذلك"، ويمضي البيان ليثلج الصدر بشهادة الاشادة ان موقف الكنيسة الشقيقة "كان مشرّفا جدا ومسكونيا".

                                               تمحور الحركات الوحدوية المسكونية تجاه الكنيسة الجامعة
                                               ----------------------------------------------------------------------
وهنا تجدر الاشارة، من باب المقارنة الايجابية، الى موقف ايجابي آخر. فمن المعروف ان الحركة المسكونية باتجاه الوحدة المسيحية، تنتهج من جهة العمل المشترك في كل ما يجمع الكنائس، وباتجاه الوحدة، تتمحور بشكل طبيعي ومنطقي نحو الكنيسة الجامعة، مع احتفاظ كل كنيسة متحدة مع الكرسي الرسولي بخصوصيتها الثقافية واللغوية والطقسية.
وتكون الحركة الوحدوية اما باتجاه الوحدة الاندماجية بين كنيستين، مما يكون مرحلة على مسار الوحدة المسكونية بينهما وبين الكنيسة الجامعة. وهناك مثل من الامثلة التي عرفتها شخصيا، مثل الاسقف اللوثري السابق جوزيف جاكوبسون عندما التحق بالكنيسة الكاثوليكية مع عائلته، حيث رسم ككاهن متزوج ، في ابرشية ادمنتون الكاثوليكية. وفي مجال المقارنة، عرفت ايضا جماعة كنسية غير رسولية، اي لا ترتقي الى عهد الرسل، بل الى سنة 1551، وهي رئاسة الكنيسة الانجليكانية في مقاطعة البرتا الكندية، عندما اختار، قبيل سنتين، راعيان ونسبة 70 بالمائة من خورنتهما (خورنة القديس يوحنا الانجيلي) في كالغري اختاروا الانضمام الى الكنيسة الكاثوليكية. وفي تلك المناسبة جرت مداولة رائعة بين اسقفهما الانكليكاني السابق، ومطراننا الكاثوليكي في كالغري، وابدى الاسقف الانكليكاني احترامه للمسار الذي حاز على قناعة الراعيين وجماعتهما، وتمنى لهما النعمة والبركة، ووافق على بقائهما في استخدام، مبنى كنيسة مار يوحنا الانجيلي في حي انكلوود بكالغري، لتكون كنيسة كاثوليكية ذات تراث طقسي انكليكاني.
 وكلتا الحالتين بقيت عندي كموضوع تحقيق مؤجل، يمكن ان يرى يوما النور، حيث توفرت لي مناسبات لمقابلة المعنيين في الكنيستين، واكثر من كاهن التحقوا بالوحدة مع الكنيسة الجامعة.
في المجال الذي نحن بصدده، كسابقتين في السينودس الكلداني، (أول اسقف آشوري واول راهب دومنيكي) كان بالإمكان التحدث عن كل من السابقتين لوحدها، لكني رأيت ضمهما في مقال واحد بنفضة واحدة، بدل تقطيرهما كلا على حدة، ليكون الجهد واحدا، وتنفس الصعداء لهذه المهمة المضاعفة في مرة واحدة.
واقول ابتداءً انه بخصوص الحبر الاشوري الكلداني، أرى أن بشأنه، لن يقال عنه من زوايا مختلفة اكثر مما قيل، فقد اعلنت بشأنه الآراء، متباينة من كثيرين، لا اشك في نزاهتهم وغيرتهم من وجهة نظرهم وفي حبهم لكنيسة المسيح المقدسة، مهما اختلفت رؤاهم. وأتمنى أن يعرفوا، على مختلف مواقفهم من الموضوع، ومما سأكتب، اني اكن لهم مسبقا الاحترام المهني والأدبي مشفوعا بالمحبة المسيحية الأخوية.
كما يجدر القول، انه من المتابعة لمواقف بطريركية الكلدان بالاتجاه التقارب، مع الكنيسة الاشورية الشقيقة، لكل ما يخص الشأن المشترك، فان المساعي المبدئية متقدمة، منها اقتراح بطريرك الكنيسة الكلدانية مار لويس روفائيل الأول ساكو، بإنشاء لجنة مشتركة تعمل على مواجهة المسائل الطارئة المشتركة بين الكنيستين. والارتياح الذي عبر عنه بطريرك كنيسة الشرق الاشورية، مار دنخا الرابع، بشأن هذه المساعي، بقوله: يسرنا أنكم ابديتم عن استعدادكم لتجديد الحوار معنا من أجل الوحدة. واضاف مار دنخا الرابع: وندعمكم في مسعاكم هذا للتقرب من بعضنا البعض بصفتنا أخوة في المسيح، وأبناء وبنات بلد واحد، فهذه كانت رغبة الكنيسة الآشورية وستبقى.
وقد نتوقع، ان من المسائل التي تصب بها النقاشات بعض الانتقالات الاكليريكية بين الكنيستين، وطريقة التعامل معها، خصوصا وان الكنيستين مستمرتان في مساعي التقارب من اجل الوحدة، كإخوة في المسيح وأبناء وبنات بلد واحد. بعد أن اصبح ثابتا الايمان المشترك بما يخص الاتفاق الكريستولوجي الموقع في نوفمبر 1994 بين الكنيسة الكاثوليكية المرتبطة بها الكنيسة الكلدانية، وبين الكنيسة الاشورية.

                                                               مسار تلقائي برغم طول الوقت
                                                               ------------------------------------
لقد جرى قبول الاسقف السابق في الكنيسة الاشورية، مار باوي، على مرحلتين متدرجتين وبشكل منسجم:
موافقة الكرسي الرسولي، على قبول الاسقف السابق في الكنيسة الاشورية لينضم الى الكنيسة الكاثوليكية، وممارسته المهام الكهنوتية في احدى الابرشيات الكلدانية الكاثوليكية التي احتضنته برعاية أخوية، وهي ابرشية مار بطرس الرسول، في كاليفورنيا.
المرحلة الثانية وباتجاه تفصيلي نحو الكنيسة الكلدانية، هي ان مار باوي، بقي دخوله الى السينودس الكلداني، متعلقا بأمور متصلة بظروف السينودس، لما قبل المرحلة البطريركية لمار لويس روفائيل الاول ساكو؛ وأنه في أول سينودس ترأسه البطريرك الجديد الشاب، كان ترشيح الاسقف مار باوي سورو، ضمن حق ممارسة الاختيار للأحبار اعضاء السينودس. وفي هذا الاختيار، يكون مار باوي قد حاز، كما هو متوقع، على نسبة ترشيح مقبولة بشكل أصولي، ما ادى الى ادراج اسمه مع اسماء سائر المرشحين؛ مع اقرار السينودس بأن يكون قران خاتمه الاسقفي على ابرشية رمزية، كما هو الحال مع الاساقفة الذين يرسمون لأغراض واسباب متعددة؛ وللحاجة الى اقتران الخاتم الاسقفي بأبرشية ما، تنسب لهم ابرشية رمزية، بدون ان تكون خدمتهم محددة لابرشية عاملة؛ ويبقى الاحتمال قائما بطبيعة الحال، ان يستجد تعيينهم الى ابرشية عاملة بموجب مقررات السينودس وحاجة الكنيسة البطريركية.
وهكذا كان الاسقف مار باوي يمارس خدمته في إحدى الابرشيات الكاثوليكية وهنا الكلدانية، ابرشية مار بطرس، كأسقف كاثوليكي، في المرحلة الاولى المشار اليها، من جهة؛ ومن جهة اخرى، وفي تلك الغضون تكلل انتظاره، بموافقة السينودس على دخوله في عضويته.
فكان صبرنا وصبر الاسقف مار باوي يرتبط بانتظار ما اقتضى ذلك من وقت، لحصول موافقة الكرسي الرسولي، ولخصوصيات كثيرة لا بد وانها تتعلق بظروف الكنيسة الجامعة وظروف الكنيسة البطريركية الكلدانية.

 هذه الحالة انفرزت ايضا عنها مؤشرات:
-----------------------------------------------
مؤشر اول، قبول الكنيسة الجامعة بحرية الاختيار لأبناء الكنائس الرسولية باتجاهها، وتبني رساماتهم الاصلية، واعتبار اعتناقهم الشركة معها بمثابة اعادة اللحمة الى مرحلة ما قبلها رجوعا إلى القرن الميلادي الخامس، سواء على مستوى الانضمام الشخصي أو على مستوى الوحدة الكنسية. وبقي هذا موقفا قائما لدى الكنيسة الجامعة، حيث كما اشرنا ان مسار الوحدة الكنسية المسكونية يتكلل مع الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، وليس مع هذه او تلك من الكنائس البطريركية المنفصلة تحت ظروف تاريخية عن الشركة الكنسية.
مؤشر آخر، القبول بالرسامة الاصلية لمرتسمين قادمين من الكنائس الرسولية المستقلة عن الكنيسة الجامعة، يأتي بالتوازي مع الخطوات الوحدوية مع كنائسهم، بمعزل عن مبادراتهم؛ واذا كان ثمة مرتسمون تركوا الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الى تلك الكنائس، فان وضع رسامتهم، من الطبيعي انه سيحل تلقائيًا مع وحدة كنائسهم مع الكرسي الرسولي. وقد يكون ثمة خطوات للتفاهم على تفاصيل معينة تعلن للمؤمنين، في حينها؛ وبانتظار ذلك، فإن وضعهم الكهنوتي القانوني يرتبط بعدم وجود شركة كنسية تامة مكللة بالوحدة بين الكنيسة التي انتموا اليها، وبين الكنيسة الجامعة.
 هذا الواقع تفسره حالة معروفة في التاريخ الحديث، وهي الاحتفال الذي جمع بين البطريركين مار روفائيل الاول بيداويد ومار دنخا الرابع، في دير الربان هرمزد في مطلع الالفية الثالثة؛ فقد بقي الاحتفال الديني مشتركا، في رتبة الكلمة الى مرحلة الصلاة الاوخارستية؛ وهذا اتفاق يعرفه ويقرّ به كلا الطرفين واعلن للحضور حينذاك. واذا كان ثمة خطوات اكثر من هذا فمن دواعي السعد ان نعرفها بدقة من رئاساتنا الكنسية الموقرة. على ان هناك انجازًا متفردًا للجنة المشتركة بين الكنيستين الاشورية والكلدانية، المتشكلة في اعاقب الاتفاق الاكريستولوجي، 1994، يتمثل بأن المؤمنين من أي من الكنيستين الشقيقتين، عند تواجدهم في مدينة فيها خورنة من احدى الكنيستين دون  الثانية، فإنه يمكنهم التقرب من الاسرار من خورنة الكنيسة الشقيقة. مما يبين أن الفروقات العقائدية محجمة، وان العتبة الوحيدة الرئيسة لوحدة اي كنيسة مع الكنيسة الجامعة (أقول عتبة وليس عقبة) هي في نهاية المطاف، عتبة الاعتراف بأولوية البابا، خادم خدام الرب بالمحبة. لكن هذه العتبة ليست سهلة الاجتياز على الطبيعة البشرية.

                          مثال للمشتركات القصوى بين الكنيستين الكاثوليكيتين، الانطاكية المارونية والانطاكية السريانية  
                          ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------

واسهل من هذه العتبة لم يتم بعد اجتيازها، على حسب الطبيعة البشرية والظروف الجيو سياسية، في منطقتنا الشرق اوسطية، على سبيل المثال، لا الحصر، هو ما بين الكنيستين الشقيقتين: الكنيسة الانطاكية المارونية الكاثوليكية والكنيسة الانطاكية السريانية الكاثوليكية؛ يكاد لا يكون الفرق بينهما سوى الفرق بين لهجتين الواحدة تقول مجاملة (أغاتي) والاخرى تقول توددًا (تقبرني). ويرأس كلا من الكنيستين الحبران المرموقان واللامعان، البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، والبطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريركان يتنافسان في المحبة والحنكة والطيبة والعنفوان، ويكاد لا يكون بينهما فرق سوى الفرق الكرسوي.
ولنقارن، بجاه المسيح بشير الوحدة والمحبة، بين ما يربط الكنيستين في بلدان المنطقة وبين ابرشيات كلدانية نهرينية اكثر توسعا، واكثر تنوعًا ثقافيا وجغرافيا: لكنيستنا الكلدانية ابرشية في ايران (ثقافة فارسية) وفي تركيا (ثقافة عثمانية تركية)، وفي سوريا ولبنان ومصر والاردن بالتميز الاغريقي، والارامي العربي والافريقي العربي، اضافة الى امتدادات بطريركيتنا الى بلدان الاغتراب. ولنعاين البطريركيتين الكاثوليكيتين الانطاكيتين السريانيتين والمارونيتين، باصلهما المشترك، وبحدود برية كمركية، بين كل من لبنان والشام والعراق وعدد من الاقطار الشرق اوسطية الاخرى، اضافة الى بلدان الاغتراب. ولنتصور ما يتطلبه ذلك من الجهد اللوجيستي والاداري لتعيين اساقفة ومندوبين حبريين في الاماكن ذات الصلة بين كنيستين توأمين ثقافيا وعقائديا، بحبل سري واحد ولا يكاد يميزهما سوى خيط وهمي خرافي. فكم، لعمري، هي الحاجة ، والحال هذه، إلى نجارين ماهري، ينحتون هذا الكم المضاعف بلا جدوى من... الكراسي الاسقفية والبطريكية.
من اجل الوحدة بين هاتين الكنيستين، ومن على شاكلتهما، نحن بحاجة الى الصلوات والتضرعات، مع نوع من الضغوطات الشعبية للمؤمنين، مما يهمس بآذان المعنيين، إننا نعرف ما تعرفون من المشترك بيننا، ونلم بما تترددون عنه في توحيدنا، رحمة بنا وبالفادي الذي طلب الرحمة لا الذبيحة.
على ان ما يصعب على البشر، ليس بعسير على الله ونعمته.

 أما على مستوى كنيستينا الكلدانية والاشورية، فلا بد من الاعتماد أن التقارب بين الكنيستين، يجعل الاعتزاز بحبر مثل مار باوي سورو، تقييما للكنيسة الاشورية التي انجبته، واعتزازا بها وبجذورها. واذا كانت ثمة اجراءات ادارية تجاه اسقف او كاهن مع كنيسته الاولى، تتعلق بالجانب القانوني والاداري، فإن ذلك يقع كمسألة داخلية وشخصية ترتبط بمسؤوليته في التعامل معها. وهذه الجوانب ذاتها، تكون عندئذ نسبية الفاعلية وفق نوع التقارب الوحدوي الذي يحدث بين الكنيستين.

                                                              لقاء "الشقيقين" في مجمع أسقفي واحد
                                                              ---------------------------------------------------
لقد عرفت الاسقف مار باوي سارو، معرفة أولية، خلال عملي في مجلة الفكر المسيحي، نائبا لرئيس تحريرها الاب (المطران) يوسف توما، وذلك مما نقله لنا رئيس التحرير عن صديقه و"شقيقه" على عدة مستويات، مار باوي منذ عهد مهامه الاسقفيه السابقة، ونشرنا اصداء طيبة عن اطروحة مار باوي عن القديسة مريم العذراء.
وعرفت مار باوي شخصيا وباعتزاز متزايد، خلال زيارتي الى سان دياغو، لافهم ثمة ايضا وبالملموس اسباب التفاف ابناء ابرشية مار بطرس حواليه، سواء من خلال الاصداء، أو من خلال القداس المشترك مع سيادته مترئسا احتفال تناول أول، وما شدني وسائر المؤمنين اليه في قداسه ووعظه.
ولا ريبة في ما تحلى به الاسقف مار باوي سورو من جلد ومراس وسعة صدر ينهلهما من ايمانه العميق بقضية الكنيسة ووحدتها الرسولية. وبرغم ما رافقت واقعته من تشنجات واجراءات، لكن خصاله تدل على منبته الاصيل، واشادتنا به، هي اشادة بكنيسته الشقيقة وما يربطنا بها وبأبنائها. ونعول على كل الخير الواعد في هذا الحبر الجليل.
أول راهب دومنيكي كلداني، حبرا في الكنيسة الكلدانية
عندما كتب لي المطران المنتخب مار يوسف توما، رسالة شكر جوابية على تهنئتي له باسقفيته، فإن اكثر ما ركز عليه، كان الحاجة الى صلواتنا، قائلا: اني بحاجة اليها في هذه المرحلة الجديدة من حياتي التي كما تعرف كانت في اتجاه آخر تماما، لكن للرب أحكاما لا تسير مع ما نتصور.
وهنا لي ان اتصور شريط السفرة الترفيهية الودية التي قام بها الاب يوسف توما الدومنيكي، بضيافة الاب كمال بيداويد ومعهم مار باوي سورو، إذ كان اسقفا للكنيسة الاشورية، وشنفت أذناي بما اسمعني الاب (المطران) يوسف من تسجيل للمبادلات الودية والنغمية التي تخللت السفرة. وتدور الايام ليدخل الحبران الشقيقان والصديقان يدا بيد في رحاب المجمع الاسقفي الكلداني في سابقة هي الاولى من نوعها، ولأنظر الى الموضوع بمشاعر صلاة الشكر للعناية الربانية.

نبذة عن الرهبانيات الحبرية وتعاملها مع الكنيسة الكلدانية
---------------------------------------------------------------------
أما عن اختيار اول أب دومنيكي كلداني، كاسقف في الكنيسة الكلدانية، فلا بد من التمييز البسيط؛ انه إذا كان معهد مار يوحنا الحبيب، للآباء الدومنيكان قد اعطى للبطريركية سربا قيما من الاحبار، فإن الاختيار الاسقفي من بين الاباء الدومنيكان، هو إنجاز يحدث لأول مرة.
وبالمقارنة مع الرهبانيات الحبرية الاخرى، نجد مثلا الرهبانية الهرمزدية الانطونية التي تأسست في القوش، ولها موقعها الرهباني في روما كرهبانية حبرية، اسوة بغيرها. وقد اعطت هذه الرهبانية عددا من الاساقفة للكنيسة الكلدانية: االمطران أسطيفان بلو، مطران الكلدان في حلب المتوفى عام 1989. المطران عبد الأحد ربان اسقف أبرشية عقرة والزيبار واسندت اليه إدارة كنيسة السليمانية ايضاً، خدم المركزين إلى يوم وفاته عام 1998. والمطران شموئيل شوريز أسقف أبرشية اورميا حتى وفاته عام 1981 (عن مقال للانبا في الفاضل جبرائيل في موقع ديربون). ويمكن ان يكون لهذه الرهبانية وبحسب خصوصية دعوتها، رهبان هنود ملبار، يرسمون اساقفة لكنيسة الملبار الكاثوليك في الهند، وفي أماكن أخرى على وفق استقبالها لرهبان، من مختلف الثقافات الليتورجية.

الرهبانيات الحبرية والكنيسة الجامعة وعنصرة حلول الروح القدس
----------------------------------------------------------------------------
ان الاباء والاخوة في الرهبانيات الابرشية او الحبرية، في الكنيسة يمثلون اصوات نبوية في خدمة الكنيسة وشعبها، بحسب ثقافاتهم وطقوسهم كما بحسب اللغات التي يتكلمونها؛ يدخل فيها رهبان من مختلف الطقوس، واذا استجدت الحاجة الى اسقفيتهم فيرسمون لطقسهم الاصلي أو لغيره. ومن الطبيعي ان هؤلاء الرهبان القادمين من مختلف بقاع العالم هم من مختلف الطقوس، وعندما يكونون مجتمعين، يصلون بحسب صلواتهم الرهبانية، ويقيمون القداس والاسرار على طقس الكنيسة الجامعة الكاثوليكية، (او على الطقس الكنسي المتأسسة عليه الرهبانية، مثل الرهبانية الهرمزدية على الطقس الكلداني)، فلا يقدس كل كاهن من تلك الرهبانيات، القداس في الدير بحسب طقسه؛ بل بحسب طقس مشترك، كاللاتيني وغيره، على ان قداس كل واحد منهم، الشخصي او في هذه الكنيسة او تلك يمكن ان يكون بالطقس الذي ينتمي اليه او الذي يضاف الى طقسه، بموافقة تسمى الموافقة الطقسية المزدوجة (BiRitual).
وهؤلاء الرهبان كما في كهنة الكنيسة الجامعة، اذا كان فيهم الكاهن الكلداني مع لغة فرنسية، يمكن ان يعين لخدمة كنيسة فرنسية كاثوليكية، واذا كان يعرف الاسبانية، فقد تطلب خدماته حسب الحاجة في التقديس في كنيسة اسبانية، ومن باب أولى اذا استجدت الحاجة الى مثل هؤلاء الكهنة، في احدى الكنائس الشقيقة الاخرى، السريانية او المارونية. لأننا نشكل ككنائس وبموزاييك الثقافات والاجناس، لوحة تجمعها شركة كنسية واحدة، وتظللها عنصرة الروح القدس.
أما ما يتردد أحيانا على لسان بعضنا، هنا وهناك، من تشكي او بعض تذمر: قالت روما، هذه اجراءات روما... فإنها لا تعدو كونها تشكـّيات مألوفة على الطبيعة البشرية، المجبولين كلنا عليها، كما العاملين في روما، موقع الكرسي الرسولي، وما يرافق اعمالهم من محدوديات او اخطاء بشرية، ليست أقل بكثير من اخطاء بشرية لسائر كنائس الرب. ولا غرو اننا نشكو احيانا في ابرشياتنا وكنائسنا من هذا الضعف البشري او ذاك، الا ان ذلك ليس من شأنه أي يزعزع ارتباطنا الحيوي مع ابرشياتنا كما مع الجانب الاداري للكرسي الرسولي في روما. كما ان المؤمن مدعو الى التوبة المتجددة وإيماننا بالمسيح الذي سيبقى مع كنيسته برغم ضعفاتها.
الرهبانيات الحبرية والكنيسة الكلدانية
والرهبانية اخرى من الرهبانيات الحبرية للكنيسة الرسولية الجامعة ، التي تعاملت معها الكنيسة الكلدانية في مجال الاسقفية، فكانت الرهبانية اليسوعية، من خلال اسقفية المطران مار أنطوان أودو، مطران حلب على الكلدان، ثم رهبانية المخلصيين من خلال اسقفية مار بشار ورده، مطران اربيل. فلا يقال ان المطران انطوان اودو اليسوعي، او المطران بشار المخلصي، كانوا آباء على الطقس الروماني الكاثوليكي اي اللاتيني، واصبحوا كلدانًا، فهم كلدان أصلا. وهذا هو الشأن في تعامل البطريركية مع طلب خدمات الرهبان الكرمليين الكلدان عند الحاجة او تعيينهم لخدمة احدى الكنائس.
أما الرهبانية الدومنيكية، وكان فيها منذ عشرات السنين آباء دومنيكان ذوو انتماء طقسي كلداني ، قاموا وبرزوا في هذه الرهبانية منذ السبعينيات، اقدمهم الاب يوسف عتيشا (مواليد تلكيف سنة 1928) من رواد الدومنيكان العراقيين الكلدان في دير بغداد المتأسس سنة 1966. لكن اختيار احدهم للاسقفية برغم تحرك المياه هنا وهناك، بقي يراوح حتى اختيار الاب يوسف توما الدومنيكي الكلداني، المولود في الموصل (1949) من أب نزح من قرية اومرا الكلدانية، المرحوم توما مرقس جودو المعروف بأريحيته وفكاهته وطيبته ومن ام اشورية من قرية غيرامن، كانت معروفة، بحسب شهود كنت التقيتهم، بحنوها على الفقراء ورأفتها بالأيتام، الرحمة الواسعة على كليهما.
وإذ خدم هؤلاء الاباء الدومنيكان في التدريس بالدير الكهنوتي البطريركي، فقد تخرج على أيديهم، اسراب رائعة من الكهنة، منهم اصبحوا اساقفة، وذلك عندما اقتصرت التنشئة الكهنوتية على الدير البطريركي الكلداني، بعد الاغلاق الدراماتيكي لمعهد مار يوحنا الحبيب للدومنيكان، في منتصف السبعينيات.
إن الرهبانية الدومنيكية، كسائر الرهبانيات، والكنيسة الكاثوليكية، كسائر كنائس المسيح في العهود السابقة، وخصوصا عهود القطيعة والانفصال، عاشت مراحل مضطربة، كانت مراحل مرتبطة بظروفها التاريخية البيئية، السياسية، الاجتماعية والعقائدية؛ ولكن الكنائس الرسولية كما سائر الرهبانيات الحبرية، بعد انفتاحها على مسيرة الوحدة المسكونية منذ مطلع القرن العشرين، وبعد الانفتاح الكبير واللقاءات المشتركة، بين الكنائس في اعقاب المجمع الفاتيكاني الثاني، أخذت كل بحسب الكاريسما الخاص بها، أخذت تعيش عهدا يترك الماضي وراءه بغفران وتسامح متبادل، ويتطلع الى امام، بالمحبة والتقارب والوئام والعطاء المسكوني، وبما يصعب على احد ان يعيد عقارب الزمن الى الوراء، سيما وان الوحدة الكنسية المسكونية هي على المدى البعيد، وعلى ضوء رسالة الانجيل وبشرى المسيح لكل الشعوب، هي حيوية كحيوية حبل الوريد.
واليوم، يشاء تدبير العناية الربانية ان يقتبل الرسامة الاسقفية المطران د. يوسف توما، رئيسا لاساقفة كركوك، برفقة تلميذيه الشابين: المطران حبيب هرمز النوفلي، والمطران د. سعد سيروب حنا. وتشاء العناية الربانية ان يترأس رسامته زميله في معهد مار يوحنا الحبيب، وهو بعده في الدراسة الكهنوتية بسنة واحدة، ويشترك في الرسامة، حبر آخر هو زميله على مقاعد الصف الواحد، مار ربان القس، مطران العمادية وزاخو، وحبر آخر هو زميله الاصغر صفا في التلمذة مار ميخائيل المقدسي، مطران ابرشية القوش (وهو زميلنا على مقاعد التلمذة مع المطران يوسف عبا، المونسنيور نوئيل القس توما، وعددا آخر أذكر منهم الشمامسة عوديشو المنو، د. بهنام قريو، جبرائيل عطا الله، صباح متي، ايشو عيسى، ووعدالله رسام) هؤلاء سبقوه الى الاسقفية كتلاميذ للمعهد الدومنيكي، وها هم يرحبون به كأب وملفان دومنيكي، وبذلك يقومون مع سائر الاحبار الذين انتخبوه في المصاف الاسقفي الكلداني، ما يعطي الاعتبار لهذه الرهبانية الدومنيكية العريقة التي خدمت العراق وكنيسته منذ 1750. وهذه اشارة نبوية صارخة في البرية، انه لم يعد ثمة، بعد سابقة السوابق هذه، ما يمنع الرهبانية الدومنيكية، ولا غيرها من الرهبانيات الحبرية، من ان يعطي ابناؤها الكلدان والسريان وسواهم، كل ثقلهم العلمي والروحي والرسولي في خدمة الكنيسة الكلدانية وسائر كنائس انتمائهم او الكنائس الاخرى. فتكون هذه الرسامة منعطفا جديدا متقدما في مسيرة كنيسة العراق، يتطلع الى الاصالة والتجدد، ويكون، كما نأمل مرحلة جديدة تدفع مسيرة الاخوة في المسيح وأبناء البلد الواحد نحو الوحدة.

                                                                 منعطف استغرق تحضيره مخاضا كبيرا
                                                                 ---------------------------------------------
مرحلة المنعطف، سبقتها تمهيدات مراحل اخرى، استوت على نار هادئة، بموجب ما نستطيع ان نستقرأه من مؤشرات العقدين الاخيرين. اجل لقد اعدت هذه الانعطافة بخطوات متئدة وواثقة، لانتزاع قصب السبق نحو سياقات اختيار الأسقفية، تكون منهجية بعيدًا عن القبلية، واعتماد الاهلية الروحية والعلمية، دون المحسوبية. فيشاء الرب ان الحسابات الضيقة، في نهاية المطاف، وجدت امامها نظرات قصيرة المدى، ووجدت امامها قصورا مرتبطا بعمر وجيل وظروف جيو سياسية، واصطدمت بمحدودية لا محدودية من بعدها، لتنهار مع تقادم الزمن، جدران من القبلية والمحسوبية التي ربما اعتمدتا مع سواهما من عناصر، بحسن نية كدعامة لحماية السدة البطريركية، لتنهار تلك الجدران أمام الكفاءات المواكبة للعصر وأما نفاح الروح القدس في التجديد والصوت النبوي مما يهب على الكنيسة جمعاء.
هذه المرحلة ليست ابنة يومها، بل كانت تنفرز عن مواجهة بين جيلين وتوجهين، كان البطريرك الراحل مار روفائيل الاول بيداويد (البطريرك من 19 ايار 1989 لغاية 7 تموز 2003)، الوسط المتنور بينهما، واستطاع بحكمته وتأثيره ان يلفت انظار مجمعه الى الاجيال الاكليريكية الشابة، مما أدى مع أواخر عهده البطريركي الى ترشيح المطران (البطريرك) لويس ساكو الى جانب سرب مبارك من الاساقفة قبيل وفاة البطريرك بيداويد. وكانت الاستعدادات قائمة لانعقاد السينودس الكلداني لانتخاب خلف للبطريرك الراحل مار روفائيل بيداويد، متزامنة مع اختيار توقيت رسامة الاسقف الجديد مار لويس.
وكأني بلسان الحال يخاطب يومذاك المطران المنتخب لويس روفائيل ساكو: ها قد انتخبت اسقفا، فما العجلة الى تحديد الرسامة قبل موعد السينودس المرتقب قريبا، فماذا تقول: لعل توقيت تاريخ الرسامة الاسقفية سيكون اكثر ملاءمة وحضورا بعد السينودس...! ولكن هيهات فقد كان المطران المنتخب لويس، قد حزم الامر على ان يرسم قبيل موعد السينودس، اي في 14 تشرين الثاني 2003، ليلتحق بالمجمع في بغداد ثم في روما. وليكن له مشاركة مهمة وتأثيرا متميزا. ومن المفارقة ان اجابة الاسقف الجديد مار لويس ساكو، لسؤال صحفي حين اجاب مازحا مع احد الصحفيين، إذ سأله من يتوقع ان يكون البطريرك، ليقول بابتسامة دبلوماسية، لعلي انا سأكون! وما بين تلك الاجابة الدبلوماسية، وما بين المجمع الانتخابي اللاحق، لا غرو انه، بعد اسقفية سنوات عديدة، وفي عهده البطريركي الحالي مع مجموعة خيرة من جيل الاساقفة، هيأ لمرحلة نشهد فيها سابقة تلو سابقة، لمجد الله.
وهنا لا بد من القول، وانا اكتب في مجال بحثي اعلامي، واكتب على المستوى الشخصي، في موقع عام، وليس في موقع خورنة أو كنيسة، عبرت فيه عن رأي الشخصي بغير مواربة، فأقول:  
إن مسيرة وحدة الكنائس الشرقية، مرت عبر التاريخ، بأنواع مخاضات، نحو إعادة اللحمة الى عهد الكنائس البطريركية لما قبل الانقسام، حيث كان البطاركة ملتفين نحو خادم خدام الرب بالمحبة، بالشركة الكنسية التامة.
واذا مرت كنائسنا الرسولية الكاثوليكية او الارثوذكسية في مراحل مظلمة، فإن الرهبانيات هي كانت الصوت النبوي نحو الاصلاح. على ان كنائسنا ورهبانيتها، في تلك المراحل المظلمة، عاشت حالات اخطاء بشرية، لا ينكرها التاريخ، وعاشت مراجعة مع الذات، في مسيرتها. ولا تخلو كنيسة او مرحلة رهبانية كاثوليكية او ارثوذكسية من هنا وهناك، من اخطاء، متوزعة على الطبيعة البشرية. ذلك أننا نحمل وديعة الايمان في اواني ضعيفة كالخزف، لكن المسيح وعد ان يكون مع كنيسته مدى الدهور. لذلك فان هبات الروح القدس، هي التي تنعش كل عصر بحسب خصوصيته، والمسيرة بين الكنيستين الشقيقتين الاشورية والكلدانية، لها أن تمضي قدما، مستنيرة بمرحلة ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) وبعهد جديد على ضوء الاتفاق الكريستولجي لعام 1994.
واذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن المسيرة البطريركية الكلدانية، كانت، مسيرة الى الامام، برغم العوائق والصعاب. هكذا ايضا، نرى من الصواب الاعتقاد، بأن الوحدة فيما بين الكنائس الشقيقة، مهما تأخرت، فإنها ستمضي بالتقدم، اذ ان عقارب الساعة، وتلك سنة الحياة، لا ترجع الى الوراء، أجل لا ترجع الى الوراء.


الأب نويل فرمان السناطي*:

من قدامى تلامذة معهد مار يوحنا الحبيب، نائب رئيس تحرير مجلة الفكر المسيحي 1994 - 2004 بإدارة الاباء الدومنيكان   
راعي كنيسة سانت فاميي (العائلة المقدسة) الكاثوليكية للكنديين الفرنسيين، في مدينة كالغري، وكاهن الارسالية الكلدانية  لخورنة مريم العذراء في البرتا - كندا

110
يليق يا رب بكنيسة المشرق الكاثوليكية، ان يكون رئيس مجلس أساقفتها - بطريركها، مار لويس ساكو

الاب نويل فرمان السناطي، كالكري - كندا

تبارك الروح القدس، الذي يصلي في أعماقنا بأنات لا توصف، والذي نستبشر ان يهب على كنيستنا روح نعمة ورسوخ ورجاء.
وبورك أساقفتنا الغيارى، أساقفة كنيسة المشرق الكاثوليكية، اذ اصطفي، من هو منهم ولهم، كبطريرك، رئيس لمجلس اساقفة هذه الكنيسة الرسولية العريقة، العائدة الى فجر المسيحية في بلاد بين النهرين، وكانت من قبل قد عاشت الشركة مع الكنيسة الجامعة، طوال القرون الاولى من المسيحية، واستعادتها، بنعمة الله، منذ منتصف القرن السادس عشر، لتشق طريقها، بخصوصية حضارتها الارامية، مظلة مباركة متعانقة، مع الخصوصيات المسيحية ذات الصلة حضاريا وثقافيا ولغويا، في منطقة الشرق الاوسط، ضمن المجالس الاسقفية الكاثوليكية، الكندية، والفرنسية، والقبطية، والسيرو مالابارية، والافريقية، والأرمنية وسواها الكثير الكثير.
شكرا لحكمة أساقفتنا، وشجاعتهم، وتواضعهم، وروح الامل الوثاب فيهم، وايثارهم، ووضعهم الله نصب اعينهم، في الحصول على النسبة التي أدت الى قيام مار لويس ساكو، رئيسا لسينودسهم الاسقفي، ملتفين معه حول خليفة مار بطرس، خادم خدام الرب في المحبة.
الليلة، عندنا، في شمالي أمريكا، كما النهار في الطرف الاخر من الكرة الارضية، بث اساقفتنا في ضلوعنا، بنفحة من الروح المحيي، الصعداء، اننا أمام غد مشرق، والرجاء الوطيد ان المسيح على وعده سيكون مع تلاميذهم، رسله وخلفائهم، مدى الدهر.

وحل علينا اليوم الثالث،
 أجل حل علينا اليوم الثالث، يوم قيامة وحياة وتجدد، لنشكر الرب، على اننا طوال الايام السابقة، للسينودس الانتخابي وما قبلها، استطعنا بعون الرب، فكتمنا الانفاس، وما عيل صبرنا، وما بدر منا ما كاد يبدر من بوادر تحاكي الالم والمرارة، لنكافأ بمفاجأة آبائنا لنا، مفاجأة ثورية، رسولية، واعدة ومستبشرة.

فسقيا لطيبة كل شيخ، بين اساقفتنا، ربأ بنفسه ان تكون البطريركية - رئاسة مجلسهم الاسقفي، مجرد شهوة وجاهية ينهي بها حقبته الاسقفية.
وسقيا، لكل اسقف من الاساقفة ممن تقدموا مار لويس ساكو في العمر، او قاربوه، ممن كانت لأي منهم لدى الترشح والانتخاب، طموحات مقدسة، ومع ذلك رأوا في البطريرك المنتخب الجديد ما رأوه، ليؤول بنا الحال، بنعمة الرب، الى ان يواكب سيادته بنا، ركب كنائس عباد الله الكاثوليكية والمسكونية.

ويمكن الاسترسال في الاطناب، على حد ما ذكرني به سيادته يوما، تعبيرا عن الفرح، بمن يرسله لنا الرب أبا ومرشدا...
اجل يمكن الاسترسال، وذلك لشدة هول المفاجأة، مفاجأة كانت بقيت في شغاف القلب، مركونة لأن المرء كان يحسبها، أبعد وأجمل من أن تتحقق، واذا بها تتحقق، بفضل أولئك الاباء الاحبار الغيارى في روما.

الحدث الحدث حققه اساقفتنا
ان الاختيار لوحده من قبل الاساقفة، يشكل الحدث الحدث، ازاء كل ما يعرفه القاصي والداني، القريب والغريب، والصديق والاقل صداقة، عن كل ما يحيط بالاختيار، مما شكله مفاجأة صاعقة هائلة.

فليطمئن من لم يعرف مار لويس ساكو عن كثب، بأنه هو الذي اصبح، من قبل، كاهنا فكان كاهنا من طينة تزيد بالفضل على التلميذ الذي عرفناه، مثلما اصبح اسقفا من طينة متميزة عن الاسقف الذي عرفناه، وسيكون بعون الرب بطريركا - رئيس سينودس، من انموذج اكثر اشراقا ومسكونية، وحوارا ورياديا ومتأصلا ومتواضعا وبسيطا، وحكيما وجريئا، أكثر من الاسقف الذي عرفناه.

وليطمئن من يود الاطمئنان، ان بطريركنا، يمد اليد، بمبدئية متفردة، وبمعزل عن مستوى استضرافه للشخص المقابل.

واذا كان بطريركنا، كما نحسبه، ممن لا يبتئس ان تسقط عن الشجرة بعض اغصانها اليابسة، بفعلها الذاتي، فهو من يسعى لانقاذ ما يمكن انقاذه بتسوية واقعية وناضجة بعيدًا عن المساومة.

هناك الكثير الكثير، مما يؤمل، فمن المؤمل، ان يتعامل بطريركنا مع كهنة كنيسة المشرق الكاثوليكية، على مستوى مساحة رقعتها الجغرافية الممتدة شرق الارض وغربها، في زمن تسهل فيه الحركة في كل الاتجاهات، بحيث يُعدوا، على قدم المساواة في الزمان والمكان والاهلية وأحقية الخدمة، بدون ان يكون كهنة الداخل محكوما عليهم بالبقاء تحت ثقل النهار وحره، ولا أن يكون كهنة الخارج، ممن وجدوا في الخارج لظروف واسباب متباينة، وكأنهم حازوا على فرصة العمر التي لن يخطفها منهم أحد.

ومن المنتظر،
ان سيادته سيعمل على ان يكون الطقس الموحد، روح كنائسنا، كنائس المشرق الكاثوليكية، حيثما كانت.
وان تكون كنيستنا مزرعة للدعوات العلمانية والاكليريكية والرهبانية، ويستوحي من الروح القدس بكل ما يدعماها ويرعاها،
وأن يكون للفقراء، حصة الاسد في قلبه، وللموسرين برعايته حظوة العطاء بسخاء،
وان يرسخ الاخوة العميقة بين كنيستنا والكنائس الشقيقة، وينعش بنعمة الرب الدالة مع إخوتنا في الاوطان، على مختلف مشاربهم ومذاهبهم،
وأن يجعل لمسيحيتنا أصالتها على ارضنا، وعلى كل ارض نعيش فيها مسيحيتنا، وان يرفع عنها بعون الرب، اي غبن وانتقاص، وان نعيش خصوصيتنا الدينية والحضارية بمستوى شرعة حقوق الانسان،

ولعل مار لويس ساسكو، سيجد من الحكمة، في الوقت الذي سيراه مناسبا، أن يدع لذوي الشأن الثقافي واللغوي والقومي والسياسي، ما يجعلهم في تنافس شريف نحو الازدهار والحيازة بالجدارة المطلوبة على الالتفاف الجماهيري والاجماع المنطقي، وبما من شأنه وحدة أبناء كنيسة المشرق، مع نظرائهم في الخصوصية التراثية واللغوية والحضارية في المنطقة، وحيثما ضمتهم ارض الاغتراب.

وفي زمن تشتد فيه المنافسة على الموارد البشرية، نأمل ان يأتي الوقت المناسب، بأن تسقط الجدران، الوهمية والكرسوية، ما بين الكنائس الكاثوليكة وغيرها من الكنائس الكاثوليكية في المنطقة، ممن تحوز على اكثر من عامل مشترك، ليس أقله الحضارة الارامية، مع مسيرة مسكونية حثيثة مع الكنائس الرسولية القانونية الاخرى، وكلها مجتمعة تعمل على احتضان الجماعات المسيحية الكنسية، من التي خرجت عن حضيرة الخراف، ويريد الرب عودتها.
وفي نفس المسار الانساني، نتطلع الى ان نعيش مع غير المسيحيين على القاعدة الذهبية التي القت بظلها الوارف على لقاءات الاديان في اسيزي، بأن نحب لغيرنا ما نحب لانفسنا.

وبعد،
نسترسل في الاحلام الجميلة التي نستبشر بأن حققها لنا آباؤنا السينودسيون، وأكف المصلين والمصليات، متأملين بأن أمام كنيستنا الوقت الطيب والمناسب، بما فيه الكفاية، لكيما تتجدد في عصورنا، أزمنة مار طيمثاوس الكبير.


111
مبروك العزيز سلام على هذه المفاجأة المفرحة وتعرف جيدا يا ابن أخي وابن الخورنة المباركة،سلطانة الوردية، أن من حقنا أن نكون فخورين بك، لأجل كل ما حققته بصبرك و بجهدك وذكائك وبدعم الأحبة الذين وضعهم الرب الحنان في طريقك.
محبكم
الأب نويل فرمان السناطي

112
الترتيلة الكنسية الوحدوية (إمر لي عيتا) مراجعها في الاسفار المقدسة
الأب نويل فرمان السناطي

تحظى ترتيلة (إمر لي عيتا) بحضور شامل يستقطب الابناء السورايي لكل كنائسنا المشرقية، وكأنها بلغتها السورث الاصلية الادبية، السلسة وتوصف بالسهل الممتنع، وكأني بها الانشودة الوطنية لشعبنا السورايا، على مختلف طوائفه الكنسية المشرقية. فحالما يسمعها المؤمنون يرددونها مع المرتل بشغف. ولعل مثل هذه الترتيلة المحببة، وما يحاكيها أداء ورونقا وصياغة لغوية، مثل الترتيلة الكنسية ألب البن مارن، وصلوات طقسية، تحلو على لسان المؤمنين، مع انها باللغة الادبية الاصيلة وليس بلغة السورث الدارجة. وهنا بإمكان القارئ العزيز، كيف أننا نتحاشى، بدبلوماسية مملة، ذكر تسمية لهذه اللغة، الواحدة لشعبنا، بسبب تعدد التسميات التي اطلقت عليها، بموجب مختلف الكنائس البطريركية المشرقية.
أقول اصبحت مثل هذه التراتيل والصلوات، عامل توحيد، ضمن عوامل أخرى لتوحيد شعبنا السورايا، وعامل انتشار لهذه اللغة، في زمن انحسارها في التداول الشعبي، مثلما اصبحت ترتيلة إمر لي عيتا، على غرار صلوات مثل لاخو مارا، قديشا آلاها قديشا حيلثانا، كلن بذحلثا وايقارا. هذه القطع، قلما نألف سماعها بالسورث، بحيث اننا عندما نطلب من الشمامسة، حتى الذين يقرأون الكرشوني، ولا يعرفون ترجمة اللغة الادبية للغتنا الام، يلجأون تلقائيا الى قراءتها بلغتها الفصحى.
وبرغم ان كلمات ترتيلة امر لي عيتا سلسة، الا ان ترجمتها تشكل متعة جديدة للمتلقي. وفي أدناه بعض ترجماتها (العربية، الانكليزية، الاسبانية، البرتغالية الايطالية والفرنسية). وقد توفرت نصوص هذه الترجمات لدي عندما سعيت من جانبي إلى تقديمها بمساعدة المعارف والاصدقاء، لغرض التنسيق مع د. بشار حنا بطرس في سياق وضعها على كليبات اليوتوب، كما ذكرت ذلك، في مقال سابق عن هذه الترتيلة، الرابط: http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=621493.new
ولأول مرة، وبجهود الاخ بشار حنا، تظهر هذه الترتيلة على اليوتوب بهذا الكم من اللغات، تربو على العشرة لغات تظهر كل منها بملف مستقل على شكل عناوين فرعية (ساب تايتل) إلى جانب صورة المرتل على خلفية الترتيلة، وهو بالزي الكنسي الشرقي للقداس، من تصميم وتنفيذ الام جيرمين الدومنيكية، في غدراس لبنان.
للحصول على الترتيلة بترجماتها المتعاقبة، عبر اليوتوب، يمكن النقر على الرابط الاتي وتوابعه:
http://www.youtube.com/watch?v=b7eKhUrOxHw
البعد البيبلي- الكتابي لترتيلة (أمر لي عيتا)
إن شرح الامتداد البيبلي (الكتابي) لهذه الترتيلة والمتمثل بعبارة: ((فلقد جاء في الكتب...)) يدفع الى بعد كتابي ولاهوتي غزير الثراء. وإن شعبية هذه الترتيلة، إلى جانب تراتيل طقسية أخرى، وامتداداته البيبلية، هي لعمري عامل يخلد لغتنا الكنسية الطقسية، كلغة كتابية، لغة يسوع المسيح، مهما مزق اسمها وبعثره عبر تسميات، شعراء السلطان، ومهما شرذم شعبها إلى شعوب سياسيو الطوائف، ومهما نحر في جسدنا القومي أكاديميو القيادات الطاغية، ومهما اختلف بشأن اسم لغتنا ووحدة شعبنا بطاركة الاعياد المارانية.
عن  الرموز الثلاث الاولى، في الترتيلة: الشمس والقمر والنجوم، فإن الانجيلي مرقس (13: 24-32) يورد عن مجيئ ابن الإنسان (دانيال 7: 13)، وبموازاة ما جاء في انجيل متى 24: 29 ولوقا 21/ 25، يورد ما قاله يسوع المسيح في معرض حديث عن مجيئه المسيحاني: في تلك الأيام... الشمس تظلم، والقمر لا يرسل ضوءه، وتتساقط النجوم من السماء.
وعن كون عناصر الطبيعة هذه، من شمس وقمر ونجوم، من مخلوقات الله، لا تستحق العبادة والسجود فهي زائلة،  جاء في سفر التثنية (4:19): ولئلا ترفع عينيك الى السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء فتغتر وتجسد لها وتعبدها.
أما عن عناصر الطيبعة الاخرى، من التي نهرها الرب، فقد أورد سفر المزامير لغير مرة، ذكر عناصر عاتية رهيبة، فقد قال المزمر : المثبت الجبال بقوته المتمنطق بالقدرة، المهدئ عجيج البحار عجيج أمواجها وضجيج الامم. (64/65: 7) وقال: أبصرتك المياه يا الله، ابصرتك المياه ففزعت ارتعدت ايضا اللجج (76/77: 16)
أما الاشارة الصريحة، عن ذوبان الجبال كالشمع، فقد جاءت بهذه الكلمات: ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب، قدام سيد الارض (مزمور 96/97: 5).
وفيما يلي تشكيلة من اللغات المترجمة لها الترتيلة، مع رابط البحث في اليوتوب
الترجمة العربية im-mar lee Ar.wmv، إعداد الأب نويل فرمان عن ترجمة عربية شائعة
قولي لي يا البيعة اين تريدي ان ابنيك،
هل أبنيك على الشمس ، لا لا لا لا، لا لا قد قيل قد قيل قد قيل ، قد قيل في الكتب،
الشمس ستنطفئ شعاعاتها.
قولي لي يا البيعة اين تريدي ان ابنيك، أبنيك، أبنيك؟
هل أبنيك على القمر ، لا لا لا لا، لا لا قد قيل قد قيل قد قيل ، قد قيل في الكتب،
القمر لن يظهر نورا.
قولي لي يا البيعة اين تريدي ان ابنيك، أبنيك، أبنيك؟
هل أبنيك على الكواكب ، لا لا لا لا، لا لا قد قيل قد قيل قد قيل ، قد قيل في الكتب،
الكواكب ستتناثر كالأوراق.
قولي لي يا البيعة اين تريدي ان ابنيك، أبنيك، أبنيك؟
هل أبنيك على الجبال، لا لا لا لا، لا لا قد قيل قد قيل قد قيل ، قد قيل في الكتب،
الجبال ستذوب كالشمع.
قولي لي يا البيعة اين تريدي ان ابنيك، أبنيك، أبنيك؟
هل أبنيك على الصفا ، إيه، إيه، إيه إيه، إيه، إيه قد قيل قد قيل قد قيل ، قد قيل في الكتب،
على الصفا أبني بيعتي.

الترجمة الانكليزية،  بواسطة د. بشار حنا بطرس، إدمنتون، English: im-mar lee En.wmv:

* Tell me o Church where
Would you like me to build you?
Shall I build you
On the sun?
No, no..
As it is said and said..
As it is said and said in the Scriptures:
The sun brightness will fade
 
*Tell me o Church where
Would you like me to build you?
Shall I build you
On the moon?
No, no..
As it is said and said..
As it is said and said in the Scriptures:
The moon will not shed its’ light

 *Tell me o Church where
Would you like me to build you?
Shall I build you
On the stars?
No, no..
As it is said and said..
As it is said and said in the Scriptures:
The stars will fall like leaves

*Tell me o Church where
Would you like me to build you?
Shall I build you
On the mountains?
No, no..
As it is said and said..
As it is said and said in the Scriptures:
The mountains melt like wax

Tell me o Church where
Would you like me to build you?
Shall I build you
On the rock?
Yes yes..
As it is said and said..
As it is said and said in the Scriptures:
On rock I will build my church
الترجمة الاسبانية، بواسطة روزا كروز، كنيسة سانت فاميّ، كالغري im-mar lee Es.wmv
Dime, Oh Iglesia, donde
Quieres
Que te construya? te construya? …
Te construyo sobre el sol?
No, no, …
Porque se ha dicho…
Se ha dicho en los escrituras
Que el sol perderá sus rayos.

Dime, Oh Iglesia, donde
Quieres
Que te construya? te construya? …
Te construyo sobre la luna?
No, no,...
Porque se ha dicho…
Se ha dicho en los escrituras,
Que la luna apagará sus luces.

Dime, Oh Iglesia, donde
Quieres
Que te construya? te construya? …
Te construyo sobre las estrellas?
No, no, …
Porque se ha dicho…
se ha dich en los escrituras,
Que las estrellas caerán como las hojas de los arboles.

Dime, Oh Iglesia, donde
Quieres
Que te construya? te construya? …
Te construyo sobre las montañas?
No, no, …
Porque se ha dicho…
se ha dicho, en los los escrituras,
Que las montañas se derretirán como la cera.
 
Dime, Oh Iglesia, donde
Quieres
Que te construya? te construya? …
Te construyo sobre la piedra?
Si si, …
Porque se ha dicho…
se ha dicho, en los los escrituras,
Que sobre la piedra, yo construiré mi iglesia.
Spanish translation by : Rosa Cruz
 im-mar lee Po.wmv الترجمة البرتغالية: د. غونيا غوفيا، كنيسة سانت فاميّ، كالغري
Diz-me ó Igreja, onde
Queres
Que Eu te construa? Te construa…
Te construo sobre o sol?
Não, não…
Pois está escrito…
Está escrito nas escrituras
Que o sol apagará os seus raios.

Diz-me ó Igreja, onde
Queres
Que te construa? Te construa…
Te construo sobre a lua?
Não, não…
Pois está escrito…
Está escrito nas escrituras
Que a lua perderá o seu brilho.

Diz-me ó Igreja, onde
Queres
Que te construa? Te construa…
Te construo sobre as estrelas?
Não, não…
Pois está escrito…
Está escrito nas escrituras
Que as estrelas cairão como as folhas.

Diz-me ó Igreja, onde
Queres
Que te construa? Te construa…
Te construo sobre as montanhas?
Não, não…
Pois está escrito…
Está escrito nas escrituras
Que as montanhas derreterão como a cera.

Diz-me ó Igreja, onde
Queres
Que te construa? Te construa…
Te construo sobre a pedra?
Sim, sim…
Pois está escrito…
Está escrito nas escrituras
Que sobre a pedra Eu construirei a minha Igreja.
Traduction: Junia Gouvea
 Français : im-mar lee Fr.wmv  الترجمة الفرنسية بواسطة الأب نويل فرمان
Dis-moi, O Église, où,
Veux-tu?
Que je te construise, te construise…
Je te construis sur le soleil ?
Non, non…
Parce que c’est dit et dit…
C’est dit et dit dans les Écritures
Le soleil… ses rayons s’éteignent.

Dis-moi, O Église, où,
Veux-tu?
Que je te construise, te construise…
Je te construis sur la lune?
Non, non…
Parce que c’est dit et dit…
C’est dit et dit dans les Écritures
Que la lune ne montre pas sa lumière.

Dis-moi, O Église, où,
Veux-tu?
Que je te construise, te construise…
Je te construis sur les étoiles ?
Non, non…
Parce que c’est dit et dit…
C’est dit et dit aux Écritures
Que les étoiles tombent comme les feuilles.

Dis-moi, O Église, où,
Veux-tu?
Que je te construise, te construise…
Je te construis sur les montagnes?
Non, non…
Parce que c’est dit et dit…
C’est dit et dit dans les Écritures
Que les montagnes fondent comme cire.

Dis-moi, O Église, où,
Veux-tu?
Que je te construise, te construise…
Je te construis sur la pierre?
Oui, oui…
Parce que c’est dit et dit…
C’est dit et dit dans les Écritures
Que sur la pierre Je construis mon Église.
الترجمة الايطالية بواسطة الاب ألبير هشام، روما والاب اوغو ستورابوتي، كالغري
im-mar lee It.wmv
Dimmi o chiesa, dove vuoi
che ti costruisca? che ti costruisca?
(Vuoi che) ti costruisca sul sole?
No, no...
Perche’ si dice nella Sacra Scrittura dice che
La luce del sole si spegnera’

Dimmi o chiesa, dove vuoi
che ti costruisca? che ti costruisca?
(Vuoi che) ti costruisca sulla luna?
No, no...
Perche’ si dice nella Sacra Scrittura dice che
La luna perdera’ il suo chiarore

Dimmi o chiesa, dove vuoi
che ti costruisca? che ti costruisca?
(Vuoi che) ti costruisca sui pianeti?
No, no...
Perche’ si dice nella Sacra Scrittura dice che
I pianati cadono come foglie.

Dimmi o chiesa, dove vuoi
che ti costruisca? che ti costruisca?
(Vuoi che) ti costruisca sulle montagne?
No, no...
Perche’ si dice nella Sacra Scrittura dice che
Le montagne si sciolgono come cera
Dimmi o chiesa, dove vuoi
che ti costruisca? che ti costruisca?
Vuoi che ti costruisca sulla pietra?
Si, si...
Perche’ si dice nella Sacra Scrittura dice che
Sulla pietra edifichero’ la mia Chiesa.
Grazie a Padre Albert Hisham - Roma
& Padre Ugo Sturabotti - Calgary
الترجمة الالمانية، ترجمة لحدو أحو  Im-mar lee De.wmv
*Sag mir kirche, wo
möchten sie
das ich sie baue?
soll ich sie auf der sonne bauen?
nein nein…
wie es sagte und sagte
wie es ist und in den büchern gesagt
helligkeit der sonne verblasst
* Sag mir kirche, wo
möchten sie
das ich sie baue?
soll ich sie auf dem mond bauen?
nein nein…
wie es sagte und sagte
wie es ist und in den büchern gesagt
der mond wird sein licht nicht vergossen

*Sag mir kirche, wo
möchten sie
das ich sie baue?
soll ich sie auf die sterne bauen?
nein nein…
wie es sagte und sagte
wie es ist und in den büchern gesagt
die sterne warden wie die blätter fallen
Sag mir kirche, wo
möchten sie
das ich sie baue?
soll ich sie auf den bergen bauen?
nein nein…
wie es sagte und sagte
wie es ist und in den büchern gesagt
die berge zerschmelzen wi wachs

* Sag mir kirche, wo
möchten sie
das ich sie baue?
soll ich sie auf dem felsen bauen?
ya ya…
wie es sagte und sagte
wie es ist und in den büchern gesagt
auf dem felsen werde ich meine kirche bauen


113
بتأخر بالغ تلقيت خبر رحيل الفنان التشكيلي المبدع، لوثر ايشو، الصديق وزميل الخدمة العسكرية، نبتهل الى الرب أن يجعله من آبائنا ابراهيم واسحق ويعقوب، ونعزي عائلته وآسرته وكل محبيه، بهذا الحدث الجلل، الراحة الابدية أعطه يا رب ونورك الدائم فليشرق عليه
أ. نويل السناطي

114
مع الوعي المتزايد لقضيتهم عالميا
وضع مسيحيي  العراق إلى أين؟


الأب نويل فرمان السناطي - كندا

وزير الهجرة الكندي: التحرر في الحديث عن قضيتهم كمسيحيين وليس فقط كخصوصية اثنية

ورشة عمل في كالغاري بشأن المهاجرين العراقيين: تعدد التسميات ظلم مسيحيي العراق

منذ أن شهد الاضطهاد المذهبي العنصري في العراق، أعلى مستوياته، في ظل حكومات المرجعية الدينية، مع المجزرة التي ارتكبها ارهابيون باسم الدين الاسلامي، في نهاية اوكتوبر الماضي،  بحق عشرات المصلين مع كهنتهم في كنيسة سيدة النجاة ببغداد، ارتفع المزيد من اصوات الاستنكار متعالية للادانة ونشدان الحلول. ويبقى هذا الوضع ومستقبله غامضا وفي مواجهة خيارات محدودة خصوصا في واقع الشعب السورايا المسيحي في بلاد بين النهرين بحدودها المترامية بين ايران وتركيا والشام الكبير.
ومن المعروف ان غالبية المسيحيين، على مر الاجيال المتعاقبة ، كانت تعودت على اللجوء الى الجبال، عند موجات الاضطهادات. ولكنهم كانوا يعودون، عند حلول نوع من الاستقرار، بسبب كونهم يعودون الى ارضهم السليبة، وبسبب حاجة الأنظمة الى استغلال خدماتهم ومواهبهم.
إلا أن امكانية اللجوء الى الجبال باتت مجرد خيار بين الخيارات، بعد أن لم تعد المنطقة الشمالية توفر الاستقرار الاقتصادي المنشود على المدى البعيد، وعلى مستوى الحاجات المعاصرة. فقد تحدد هذا اللجوء الى الشمال، أمام  خيار لم الشمل وتوفر سبل الهجرة، والامكانات المادية للبعض واسرهم في الخارج.

المسيحيون وزعاماتهم ضحية المخططات الستراتيجية
بيد ان توفير الهجرة بحد ذاته بات يحمل في طياته، نيات عدم الاهتمام بإفراغ المنطقة من الأخلاق المسيحية وعبقريتها، لصالح ترك المنطقة تتلاطم بالمذابح الطائفية، حتى افراغها من قواها واقتصادها ونفطها بغية العودة بها الى بدائية البلدان النامية وحاجاتها الاصغر. فإن مواجهة الارهاب الديني، كعدو جديد بعد الاتحاد السوفيتي، بهذه الستراتيجية، يشكل وصمة في الجبين الانساني للقوى العظمى المخططة في هذا النحو من حيث اللامبالاة أمام اجتثاث المسيحيين من جذورهم. وأغلب الظن ان هذه الستراتيجية لا تأبه بضرورة إقرار مشاريع سياسية، خارج المرجعيات الدينية. لا بل يبدو من المرجح ان إقرار حكومات المرجعية الدينية، وجد كخير وسيلة لاضعاف البلاد، باشعال الحرب الاهلية الطائفية، وتشتيت الاقليات الاثنية غير المسلمة خارج البلاد. كما ان واقع الحال، يشير الى ان تشتت هذه الاقليات الدينية غير الاسلامية، تحقق بدرجة كبيرة، من خلال التشرذم الطائفي داخل كيان مسيحيي العراق، مما القى بظلاله التقسيمية على طابعهم الاثنني وخصوصيتهم المسيحية المتشابكة.
بحيث وجدت الزعامات المسيحية لكل طائفة، ضمن ظروف متباينة، تسحب البساط لصالحها بتكريس الخصوصية الاثنية والثقافية لكل جماعة بحسب كنيستها وطائفتها. فعلى سبيل المثال، أدى، مسيحيا، الاصرار الطائفي المذهبي المتعصب، بتقسيم اللغة الارامية بلهجتها المحكية السورث للشعب السورايا، الى كل من:
اللغة الكلدانية
اللغة السريانية
اللغة الاشورية.
فانجرفت الزعامات المسيحية، كل منها بطريقتها وعلى وفق نظرياتها وأهدافها، إلى حالة أدت بشكل غير مقصود وغير منسق أو متفق عليه فيما بينها، أدت إلى  تواطؤ غير منسق وغير متفق عليه، تسبب كتحصيل حاصل، في نحر الكيان المسيحي العراقي، وأدى بواقع هذا الحال، إلى التقسيم القومي والسياسي والحزبي، للشعب المسيحي (السورايا) ذي الخلفية الثقافية الارامية، إلى ثلاث قوميات:
القومية السريانية
القومية الآشوري
القومية الكلدانية

هذه الاشكالية كما سنرى في تصريحات وزير الهجرة الكندي، ومعطيات ورشة دائرة المهجرين الكندية، وضعت دوائر الهجرة في مأزق عالجته كل جهة بطريقتها، وعلى حساب وحدة ومصلحة الشعب المسيحي السورايا.

مع تصريحات وزير الهجرة الكندي

ضمن المساعي الرامية الى مواجهة نتائج ما حدث من جرائم ابادة جماعية بحق مسيحيي العراق، كان الدكتور جورج جرجس الاستاذ في جامعة كالغاري، قد أعد لتحقيق لقاء مع وزير الهجرة الكندي في مكتبه بكالغاري حضره الأب نويل فرمان. وقد وضح الوزير أن كندا والولايات المتحدة مهتمة بشكل رئيسي بملف المسيحيين العراقيين تحت الاضطهاد، الى جانب دول اوربية أخرى.

- إلى أنظار البطريرك الماروني الجديد
من المؤسف أن لبنان من بين دول المنطقة يشهد معاناة خاصة للمهاجرين المسيحيين العراقيين

وقد ذكر الوزير جيسي كيني، أنه على ضوء القانون الدولي للهجرة، يضطلع نشاط دوائر الهجرة أساسا بواقع الاشخاص والجماعات الهاربة من البلد الاصلي. وأبرز جيسون كيني الاهمية المعطاة لهذا المشروع، بالنظر الى الحجم المتزايد للمسيحيين في بلدان الانتظار. ومن بين بلدان الانتظار الى جانب سوريا، تركيا والاردن، أشار الوزير الكندي الى لبنان، معبرا عن دهشته بأن هذا البلد المعروف بمسيحيته، يشهد فيه المسيحيون المهاجرون اكثر المعاناة، وأعلى نسبة من المعتقلين.
ملاحظة الوزير الكندي تستحق ان ترفع الى غبطة البطريرك الماروني الجديد، مار بشارة الراعي، مع الاشارة، إلى أن المرجعيات المسيحية للكنائس العراقية في لبنان، وخصوصا مطرانية الكلدان، لم تنفك تبذل الجهد في التخفيف عن المعاناة سواء في الجوانب العملية للمساعدات الانسانية، او الجوانب الاعلامية لايصال الصوت الى اعلى المراجع المدنية.

جيسون كيني: عند تناول موضوع المسيحيين العراقيين، بتنا  نسميهم مسيحيين فحسب
بدون ضرورة الاشارة لخصوصيتهم الاثنية، وذلك لاستهدافهم كمسيحيين أساسا
 
من المعروف ايضا أن الانقسامات التي أشرنا إليها والتي أدت بالزعامات الدينية الى تقسيم الشعب المسيحي، لم تؤدي بالضرر إلى الى الشعب المسيحي وحده، فالارهابيون في جرائمهم لم يفرقوا بين مسيحي ومسيحي. أما الجهات الدولية، فمن جانبها، فقد تجاوزت الخصوصية الاثنية للشعب الغالبة لدى مسيحيي العراق، مما أفقدهم امتيازهم أمام المحفل الدولي. فقد التفتت الى هذا الواقع، فكانت أمام مأزق الالتزام بأعراف التعامل مع المواطن بحسب اثنيته وليس بحسب دينه. وهكذا ولوقت طويل دفع المسيحيون العراقيون الثمن، إذ طالما كانت السفارات ترفض معاملاتهم عندما كانوا يتحدثون عن معاناتهم كمسيحيين، خصوصا لدى المقابلة مع موظفي السفارات من غير المسيحيين. ولكن مع التراكم الزمني ووضوح صورة المعاناة، تحررت، على ما يبدو، الدوائر المعنية، عن محرمات (تابو) عدم تناول التسمية الدينية لمسيحيي العراق، باستخدامها كبديل للتسمية الاثنية المتعددة بشكل خرافي. فخلال مقابلة الوزير الكندي للهجرة، تم ملاحظة انهم توصلوا لى تحرير مفردة مسيحيين من خانة المحرمات هذه في الاشارة إليهم خلال التعامل مع الملف، كمسيحيين وحسب، وليس فقط الاشارة الى كونهم جماعة اثنية مظطهدة ومهددة بالزوال.

إلى أنظار آبائنا أصحاب القداسة والنيافة والغبطة والطوبى والسيادة، زعاماتنا المسيحية الموقرة
ورشة كالغاري حول المهاجرين العراقيين:

تسميات متعددة: إشكالية لدى مسيحيي العراق   many denominations

الجانب الآخر الذي أدى بالشعب السورايا المتجزء إثنيا، أن يكون هو الخاسر، هو الاحصاءات بشأن حالات الهجرة من العراق. فضمن المحور عينه قدمت من اونتاريو، في أواخر آذار مارس الماضي، السيدة ايكاترينا باك المختصة الجديدة في البرنامج التدريبي لمعاملات المهاجرين في تورنتو. وبالتعاون مع انطوانيت غودبوت، المنسقة في المكتب الكاثوليكي للهجرة، قدمت عددا من الورشات في مجال التحسيس بشأن واقع المهاجرين العراقيين، وضوابط دوائر الهجرة بشأنهم، تحت موضوعة العدالة الاجتماعية. وكانت كنيسة سانت فامي الفرنسية (يرعاها الاب نويل فرمان إضافة الى خدمة الرعية الكلدانية) واحدة من الكنائس الثلاثة في كالغاري التي احتضنت الورشة، إلى جانب كنيسة سانت لوك، وكنيسة سانت بونافاتور. في هذه الورشة، عرضت إيكاترينا باك، احصاءات قسمت فيها هجرة العراقيين إلى خانتين:

الخانة الأولى- الخانة الاثنية وتتضمن:
الاكراد، الشبك التركمان، الفيليون (ولم تذكر في هذه الخانة الخصوصية الاثنية للشعب المسيحي العراقي: الاشوري الكلداني السرياني، مع نسبة من المسيحيين العرب، الأكراد والأرمن)

الخانة الثانية- الخانة الدينية وتضمنت فيما تضمنت:
أولا المسيحيين
ثانيا المندائيين
ثالثا اليزيديين
رابعا الجماعات المسلمة

أمام هذا التقسيم، اعترض (كاتب السطور) قائلا أنه في حين ان الاكراد والشبك والتركمان والفيليين، يتناوبون التسمية الاثنية ويشتركون في الخصوصيات الطائفية الاسلامية، ويتم الاشارة اليهم بنحو مزدوج
فإن الشعب المسيحي العراقي، يباد لكونه مسيحي ولكنه ايضا وضمن التراث البشري، يباد كخصوصية تراثية ثقافية موغلة جذورها في حضارة وادي الرافدين.
سؤال اجابته المنسقة إيكاترينا الاجابة التي تحزرها زعاماتنا المسيحية، إذ قالت اعتقد ان السبب هو لان هذا الشعب يحمل
 تسميات متعددة.Many denominations

توقعات سائق تاكسي في دمشق حول: الثلث مقابل الثلثين

وبينت طروحات ايكاترينا، أن الشعب العراقي عانى من انواع الاضطهادات واختراق حقوق الانسان، منذ عدة عقود، مما اضطر العراقيين الى الهروب في حقب متلاحقة. كما بينت ان سقوط نظام صدام حسين في نيسان ابريل 2003، وما نجم عن ذلك من حرب أهلية واضطرابات متلاحقة، اجبر الملايين على ترك مساكنهم. وبموجب الاحصاءات فإن عدد الذين تركوا بلادهم بعد 2003 يربو على 4 ملايين ونصف المليون، استقروا اساسا في سوريا والاردن ولبنان ودول اخرى شرق اوسطية.
ويقترب هذا الرقم، متناسبا مع نسبة سكان العراق، الى توقعات اودعها لي سائق سيارة اجرى في دمشق، في بحر عام 2007، عندما تطرق الحديث الى الحالة العراقية، فكانت معلومات السائق المستقاة من متابعاته الشخصية، ان المخطط من قبل الدول المشغوفة في معالجة الشأن العراقي على طريقتها ومطامحها، هو ما سماه: الثلث مقابل الثلثين، ولما استفسرت منه عن معنى هذه النسبة، قال:
تهجير ثلث العراقيين، تقتيل الثلث الثاني، والاكتفاء بالثلث الاخير.

وبعد، في ظل اشتعال ثورات الشارع العربي،
هل هناك تصور لانقاذ ما يمكن انقاذه، من الواقع العراقي المرير؟

لا بد من القول، ان عافية المسيحيين في العراق، تكمن في عافية المواطنين العراقيين عموما، والعكس بالعكس. إذ كما تبين جداول جهات الهجرة، فإن الاقليات الدينية عموما هي عرضة للاضطهاد. فالحكومات الكارتونية، عندما تستند على مرجعية طائفة ما، لا بد ان تهمش الطائفة المنافسة، ومن ثم دوامة الاقتتال وتهميش الاقليات واختفاؤها.
من جهة أخرى، فإن ما يحدث من ثورات شبابية، يستند بشكل كبير، على التظاهر السلمي، والمطالبة بالتغيير ومحاربة الفساد المنظم، ووضع حد للانتهاكات الديمقراطية في البلدان العربية الاسلامية، وعلى اشاعة الدكتاتورية والحكم الفردي. ومن سخريات الملاحظة ان الدكتاتوريات المتهاوية تلجأ الى رجال الدين لدعماها على وفق فتاوى مساندة ولي أمر البلاد.
لا ريب أن الكيانات الدينية، قد تمارس في حقبة معنية، دور أن تكون حامية لحقوق رعاياها، خصوصا في مراحل التحرر والنزوع الى الاستقلال، كما حدث في نضال الشعب الارمني لتحقيق دولته، ثم ركنت الرئاسة الدينية إلى مكانتها الكريمة في "حاضرة" اجميادزين. أي إن دور الزعامة الدينية له ان يحتجب، امام قيام مجتمع مدني، يحكم القانون والحقوق والواجبات.

هكذا، فإن ما يحدث من مخاض حتى بعد سقوط الديمقراطيات، سوف يؤدي على الارجح، إلى تشخيص عبثية التدخل السافر والسام، للزعامات الدينية في الشأن السياسي، وضحالة قيام أحزاب دينية تتطلب تجنبها لدى اقرار قانون الاحزاب. وعندما يوغل رجال الدين في تجاوز دورهم وخصوصيتهم، عندئذ فإن الثورات الشبابية عينها، لا بد وأنها ستفكر بأنواع ثورات معاصرة، تناسب كل جماعة دينية، لتفصل على مقاسها ما يناسبها من ثورة أقل ما يقال فيها، أن تكون ضروبا من ثورات الباستيل الفرنسية.


 ملاحظة: أدناه، لقراء الفرنسية، النص الفرنسي الكامل للبيان الخاص بمقابلة الوزير جيسون كيني

Une prise de conscience au niveau national et Nord Américain de la cause des chrétiens persécutés.

Visite au ministre Jason Kenny
Les médias avaient dernièrement fait écho du massacre commis contre les chrétiens dans l’Église Irakienne Notre Dame du bon secours,  Le 31 Octobre 2010. C’est une population de langue araméenne, et qui est l’une des premières nations de la Mésopotamie. Suite à cet événement tragique, Georges F. Jergeas, Ph. D., P. Eng. Canadien d’origine Irakienne, avait entrepris des contacts avec le ministère de l’immigration et de la citoyenneté, dans le but de savoir quelles sont les mesures prises pour soutenir ces chrétiens d’une certaine extermination quasi catégorique. Le ministre Jason Kenny, en réponse, a accordé une audience avec le professeur Jergeas. L’abbé Noël, a été invité à participer à cette rencontre qui a eu lieu le lundi 24 Janvier 2011.

Rappelant sa rencontre avec le dernier dans le presbytère de la paroisse Sainte-Famille Jason Kenny a accueillit Noël Farman avec une accolade amicale à l’orientale.
Le ministre Kenny a commencé la rencontre en exposant les projets de son ministère en faveur des chrétiens Irakiens sous la persécution. Ces projets, a-t-il ajouté, sont principalement pris en charge par le Canada et les États Unis, à coté d’initiatives assez relatives de la part d’autres pays européens. Ils visent essentiellement  ceux qui sont en pays d’attente et ce, à cause du statut international de l’émigration qui consiste à secourir les individus et groupes fuyants leur pays d’origine. Le ministre a mis le point sur l’envergure de ce projet en disant qu'il tend à être à la hauteur du volume de ces ressortissants qui sont actuellement en pays d’attente. Entre ces pays d’attente comme la Syrie, la Turquie, La Jordanie, Jason Kenny a cité aussi le Liban en mentionnant sa surprise que les chrétiens dans ce pays connu comme un pays chrétien soeint particulièrement dans la détresse, et beaucoup sont en prison (probablement à cause de leur rentrée illégale dans le pays- note de l’auteur).
Au cours de la rencontre, nous avons cependant observé que le ministre a pu libérer, le terme chrétien de son coté tabou dans les démarches avec les instances canadiennes, lorsqu'on fait référence à ces minorités persécutées; ce tabou voulait en effet dire qu’au niveau des formalités, il ne fallait pas faire de concession à des immigrants à cause de leur religion, et que c’était de coutume de parler de minorités ethniques, chaldéennes assyriennes et syriaques etc. Cette prise de conscience en faveur de la cause de ces chrétiens s’est surtout imposée avec le massacre de 57 chrétiens dont 2 prêtres pendant la messe dans une église à Bagdad.
A la fin de la rencontre M. Kenny  a confirmé son désir montrer sa solidarité avec la communauté Chaldo-assyrienne de Calgary en projetant de rencontrer cette communauté pendant  son service eucharistique chaque dimanche soir (17h30) dans l’Église Saint James.
http://www.saintefamille.ca/blog.php


115
الى العزيزين فلورا ارميا وقرينها جورج ابراهيم - كالغاري
انه لمن دواعي سروري ا ن أهنئكم بهذه المناسبة الجميلة التي حققتموها بجهدكم وسهركم وتضحياتكم، ونأمل أن تكون الاستاذة فلورا انموذجا للقادمين الى كندا ممن يقدمون جهدهم المتميز ويكونون شهودا للابداع العراقي لابناء شعبنا السورايا.
ليبارككم الرب بالمزيد من النعم والبركات
الاب نويل فرمان السناطي
راعي خورنة مريم العذراء في البرتا

116
الصحافة الكندية تحتفي بأحد كهنتنا العراقيين لانتخابه رئيس اساقفة
 الكنائس في اوطان الاغتراب تثمر الرعاة للوطن الام
القس نويل فرمان السناطي
إنها فرحة أن أجد من زملاء صفي في معهد مار يوحنا الحبيب، للآباء الدومنيكان، مار يوسف عبا ينتخب مطرانا، في كنيسة السريان الكاثوليك، رئيسًا لأساقفتها في بغداد، وقبله كان زميل الدراسة مار ميخائيل مقدسي مطران أبرشية ألقوش. كما كانت الفرحة اذ انتخب في الوقت عينه المطران بطرس موشي رئيسا لأساقفة الموصل، وكذلك المطران يوسف حبش ممن زاملناهم تحت قبة معهد الاباء الدومنيكان.
والفرحة المشرقة هي ايضا أن جاليات أوطان الاغتراب، تثمر الرعاة الى الوطن الام، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وقبل سنوات عديدة ، انتخاب كاهن خورنة الكلدان في لندن، معاونا بطريركيا، في بغداد. وتأتي خدمة المطران الجديد في بغداد في ظل الظروف الحالية، ضمن هذه خطوات الخدمة الشجاعة والداعية الى الفخر..
سمعنا الخبر المفرح في حينه، كحدث مهم يخص الشعب السورايا في العراق، ولكن سرعان ما تلقفته الصحافة الكندية، كمادة نشر. فقد أصدت صحيفة وسترن كاثوليك ريبورتر، في عددها الاسبوعي الصادر في 21 آذار، خبر الاستيزار الكنسي للمطران المنتخب مار يوسف (عبا) منصور تحت عنوان: كاهن اونتاريو اسقفا في بغداد
تقرير الصحيفة الكندية: كتب التقرير الاخباري من ميسيساغا، مايكل سوان الصحافي في الكاثوليك ريجيستر، وذكر أن رئيس الاساقفة القادم لبغداد، قد أمضى 14 سنة في كندا، ينهل مما تقدمه كندا من فضيلة أن تكون بلدا علمانيا.  ونقل عن رئيس الاساقفة المنتخب يوسف عبا منصور تصريحه لصحيفة كاثوليك ريجيستر:
 "في السنوات الـ 14 التي أمضيتها في كندا، الشيء الذي لفت انتباهي بحق، كان منحى التطور الديمقراطي في كندا. في مجتمع متعدد الثقافات، لا يفكر أحد أن يسألك ما هو دينك وما خلفيتك؟ هذا هو ما أعجبني، وما أسعى الى تصديره.)
 وجاء في التقرير: ان انتخاب المطران منصور قد حظي بتثبيت البابا بندكتوس في 3 آذار. وسوف تتم رسامته الاسقفية، بتاريخ 16 نيسان، في مسقط رأسه قره قوش الواقعة في المنطقة (....) شمالي العراق.
وفي إشارة الى نتائج سينودس الاساقفة المنعقد في الفاتيكان في أوكتوبر الماضي، حول الشرق الاوسط، يرى (المطران المنتخب) منصور في مهمته في بغداد حالة لتشجيع للمسيحيين، كيما يسهموا في المستقبل الديمقراطي لكل العراقيين، ليقول:
كأسقف ، سوف ارشد وأعلم الشعب على أن الانسان كائن بشري حي، حر في ممارسة ديانته بدون خوف ولا غصب.
ويورد الصحفي من عندياته، أن العدد المخمن لمسيحيي العراق كان "مليون ونصف، قبل أن تقود الولايات المتحدة الحملة لغزوه، فتقلص منذئذ الى حوال الخمسين بالمائة. وأشار مايكل سوان: أنه سبب عمليات من التطهير العرقي والمذهبي في نواحي بغداد، فإن المسيحيين لجأوا بالفعل عينه، الى سوريا، الاردن ولبنان. ويرى الصحافي الكندي بأن أساقفة العراق في وضع صعب، ما بين أن يتركوا على مضض رعاياهم يهجرون بلدا كان من اوائل البلدان التي تعمذت بالمسيحية، إذ بشرها توما الرسول، وبين أن يطلبوا من الشعب أن يبقوا يعيشوا في خوف.
وفي هذا المضمار ينقل الصحافي قول الاسقف المنتخب: نسعى الى أن نشجعهم على البقاء متمسكين بالرجاء، الرجاء الذي يأتينا من إلهنا.
ويرى الاسقف المنتخب في مسؤوليته الجديدة كنوع من الرعاية للفقراء، أولئك الذي لا يستطيعون مواجهة أعباء المغادرة.
وإن الناس الميسورين، بإمكانهم مواجهة اعباء الاقامة في سوريا والاردن، في حين لا يستطيع المعوزون ذلك.
وللاساقفة، عندما يحصلوا على أي مال، أن يسعوا ليوفروه لفقراء الشعب.
وبعد، فإن في قبول شقيقي في الكهنوت وزميلي لسنوات الدراسة الكهنوتية في الموصل، بأن يكون في بغداد، يحمل دلالات عظيمة، في التواصل مع الخطوات الشجاعة التي سبق وأن قام بها عندما سافر الى العراق، في السنوات الأخيرة، وبرغم أحلك الظروف.

117
بمزيد من الفخر والفرح الشكر للرب تلقيت الخبر الجميل، متصلا بالجهد والموضوع والتأوين والاستمرار لجيل معطاء من الدومنيكان. مع اطيب التهاني لك وللاخوة الاحبة الاباء الدومنيكان.
الاب نويل فرمان

118
 
تباركنا، في غربي كندا، بزيارة كاهن من بغداد...

كاهن من بغداد، من الوطن. رأيت ألا أذكر اسمه، ليس لكونه يتحاشى الاضواء وهو يتحاشاها بحق، بزهد... ولم يحجب اسمه خوفا، فهو يفصح بهويته بمظهر كهنوتي باد، وليس كي أحرج تواضعه أو أخدش تقشفه، فالدالة الأخوية معه والمحبة كانت ستبرر حسن النية، ولكن اسمه ينضم الى سرب طيب من الاسماء، من اي كاهن من بغداد أو الوطن،  ونحيي فيه كل الاسماء، من كهنة ورعايا، ممن تحت ثقل النهار وحره، أصبحوا لنا مثلا للرجاء الحي، فلم نعد نبزهم بشيء، مهما فعلنا هنا، سوى أن نتعلم التواضع في مدرستهم، في مشيختهم. إنهم شيوخنا مهما كانوا شبابا، أليس الواحد منهم قسيس وبالآرامية قشيشا أي شيخ.
أولئك الذين كهنة أو أحبارا، في فرص سنوية يزوروننا لمدة ويعودوا إلى ارض الوطن، ليكونه لنا للاهل في الرفدين، سفراء للمحبة وشهود للرجاء ومشاعل للصمود.
 
كنت في المطار بانتظاره ضمن القادمين. وأنا أحدق النظر كي اتميزه لمحت من بعيد، ثم عن كثب، قسيسا حسبته من إحدى الكنائس الشقيقة في كالغاري، وهي عديدة، جلهم مع رعاياهم يزورون كنائسهم واصدقائهم في كالغاري والمنطقة، ويعودون إلى مدنهم الشرق الاوسطية، إلا القادمين من وطننا النهريني، ممن، في  الغالب، يودعون البلاد بدمعة وداع.

قلت مع نفسي، لا بد لي من التعرف على هذا الاب، واعرفه على زميلي الاب الزائر...

ولكني سرعان ما اكتشفت الرجل المتسربل بجبة المشيخة السوداء، مع لحية عبثت بها ايام السفر، امتد إليها شيء من الشيب برغم ثلاثينياته... فما هو إلا صديقي الذي تشرفت بدعوته عبر اسقف كالغاري.
وعندما جمعنا فيما بعد لقاء مجاملة مع الاسقف، بثثناه الشعور، كلانا، الاسقف وأنا، كل بطريقته، بأنه، بفضيلة كل ما يعيشه من ثقل النهار وحره في عراق اليوم، أكبر منا، وبأننا أصغر منه.
 
وكان التساؤل العارم الذي عبر عنه المطران، لماذا يا ترى هناك في الدنيا بقاع يعاني الناس فيها ما تعانون، وبقاع هنا لا نعاني فيها ما تعانون! ليجيب شيخنا الصغير، بنبرة المعلم، نأمل من العالم أن يستوعب الدرس مليا، وإلا ، يا سيدنا، سيأتيكم الدور في يوم غير بعيد.

كان الاب قادما من ساسكاتون بعد زيارة لاقاربه، سبقتها زيارة لفانكوفر محطته الجوية في القدوم والمغادرة إلى بغداد. أجل إنه من النادر أن يأتينا شخص من بغداد، ينوي العودة إليها في هذه الايام، أيام محنتها. فكان الرجل بذلك شيخنا بامتياز ومعلمنا في اشراقة الامل وروح الايمان.
 
إنها زيارته الثانية بهذه الطريقة، مع أنه كان في الزيارة السابقة كان افرنجي المنظر مكتفيا بالهندام الاسود وياخة بيضاء. في هذه الزيارة لم يعد المقربون إليه، يرون ضرورة لاستبقائه بعد أن حاولوا ذلك من قبل، وعبثا حاولوا. فهم يعرفونه ذلك الذي ألف العيش في بغداد الجريحة، الرهينة، النازفة، بعبث العابثين، ويعرفونه ذلك الذي بقي فيها برغم كل ما عاناه، ولكن ما عاناه جعله أشد قوة، وأجرأ إفصاحا عن هويته في الشارع، وفي كل ذهاب وإياب.

إنه، وهو يحدثنا عن خبرته عن استقرائه لخارطة الوطن، يبعث فينا الأمل بغد افضل، ولسانه حاله يكشف: ما دمت هناك وما دام مثلنا الكثيرون، فإننا نعمل ونشهد ونتعايش على الحلوة والمرة، متطلعين إلى العراق الباسق كنخيله، السخي كنهريه الأشم كجباله.
 
مع كل هذا لا يحمل الرجل نظرة طوباوية الى الواقع، ولا يدعي الغلو في التفاؤل، ولكنه يقول بكل بساطة: ما دام هناك أناس يحتاجون إلينا، وما دام زميلي الذي حل محلي في سفري، له مهام أخرى، فأنا عائد إلى بغداد، عائد لا  محالة.
متصوف في حب الله كالحلاج ، زاهد قبل حدود الدروشة، بشير للتسامح على خطى يسوع المسيح، كأني به ينشد مع مغنى المسلسل العراقي السوري، إحنا نحب كل الناس، وحتى اللي ما يحبنا نحبه.

باسم كالصباح، تباركنا به، في كالغاري وساسكاتون وفانكوفر، فقرت العين بذلك الطيف الجميل للكاهن الذي مر بنا، وعاد إلى بغداد بظله الخفيف... الخفيف.


الاب نويل فرمان
كاهن خورنة مريم العذراء الكلدانية في البرتا
راعي كنيسة سانت فاميي (العائلة المقدسة) للكنديين الفرنسيين في كالغاري

119
على هامش انتخابات العراق الممتحن، والتطلع الى الانتخابات المقبلة
إذا لم تسقط المحاصصة الجهوية والطائفية والعنصرية...

بقلم الاب نويل فرمان

عود على بدء...

كنت بصدد مراجعة أخيرة قبل النشر للمقال بعنوان: على هامش انتخابات العراق الممتحن، إن سقطت المحاصصة الجهوية والطائفية والعنصرية، فمرحبا بالبيان رقم واحد.
لكني للاسف وجدت ما يدفع الى تغيير العنوان، كما في اعلاه، وذلك بعد مطالعتي لمقابلة مع السيد سيامند النواب السفير في هولندا، تحت مانشيت:
الاحزاب الحاكمة ستبقى في الحكومة، ولا تغيير دراماتيكي
فقد أشار الاستاذ سيامند الى أن التدخل الخارجي يستخدم النزاع الطائفي والمذهبي من أجل تثبيت أتباعهم في الحكم، وكأن الجانب الكردي ليس حليفا لاحزاب طائفية ومذهبية.
وفي وقت سابق كان قد أجابني د. عبد اللطيف جمال رشيد وزير الموارد المائية، على سؤال بهذه الصدد، في لقاء جاء بالمصادفة وكاد أن يكون لقاءًا عاصفا: وما الضير من وجود حزب على أساس شيعي؟ هناك في الغرب عدة احزاب مسيحية! وعندما وصل الأمر الى احتداد النبرة، عمدت الى تطمين خاطر سيادته بابتسامة ودية، لا يفسدها خلاف في الرأي، ومضى الرجل مهتما بملاحظات مخاطبيه: وهو يدونها على دفتر هواتف صغير وجده في جيبه.
وكان الامل بانفراج الانتخابات، مع ما صرح به الزعيم الكردي الشاب الدكتور برهم صالح بشفافية مذهلة: لا أستسيغ إقحام الدين في السياسة.

للأسف، إن واقع الحال ينذر، من مؤشرات عديدة، بوقوع الفأس في الرِأس ثانية.

أحزاب علمانية ثم ماذا؟
واقعان متباينان بين الاحزاب العلمانية والاحزاب المذهبية الطائفية

ومن تلك المؤشرات التي ساقها السفير العراقي النبيه المخضرم، بحيادية واستقلالية مع الوقوف المستقر على مسافة بعيدة عما يتحدث عنه، قال:
أظن أن الناخبين سيصوتون هذه المرة للأحزاب العلمانية لأنهم جربوا الأحزاب الدينية، ولكن ذلك لن يغير كثيرا من الأمور ولن يحدث تغيرا دراماتيكيا. الأحزاب التي كانت في السلطة ستبقى ولكن بعدد اقل من الأصوات لسببين، الأول إن الأحزاب العلمانية ليس لها قدرة كبيرة في إحداث تغير كبير، لأنها تفتقد المال ولا تعمد إلى شراء الأصوات. السبب الثاني هو إن الأحزاب الدينية لديها كل شيء تقريبا ويمكنها التأثير على الناس مذهبيا ولن تتورع من شراء أصوات الناخبين سواء في الداخل أو الخارج، لا تنسى أيضا إن للعاطفة دورا سلبيا في الانتخابات وهو دور مؤثر للغاية.

هل ننتظر ما سيحدث لإيران مما قد ينقذ العراق من شرنقتها
أم نصبر النفس حتى الدورة القادمة مراهنين على المضي في  هبوط الاحزاب المذهبية الطائفية؟

سؤال يطرح نفسه، إذ بات أكثر فأكثر وضوحا، ان علينا ان ننتظر دورة قادمة، بعد كل الذي تبشرنا به قنواتنا، مبينة ان ما تريده قوى النفوذ يحصل برغم كل ما يراد. وهنا لم يعد الأمر يخص  الأسى على واقع مسيحيي العراق، بعد ان تبعثرت طائفيا خصوصيتهم القومية، وبعد ان لحقوا الربع في المنافسات ذات الصلة. فمن المؤسف ان حجم الحضور المسيحي العراقي في الانتخابات بات، شئنا أم أبينا، لا يعول عليه، في نتائج الانتخابات على مصير العراق، لسببين:

- الحجم الحالي لمن تبقى من مسيحيي العراق، برغم فرصة انضمام المنتخبين اليهم من الخارج.
- الاجندة التعصبية للانتخابات الطائفية على مستوى الخصوصية القومية لمسيحيي العراق، وعلى اساس الحملات الانتخابية التي مفادها: لا تنتخبوا القائمة الفلانية بل انتخبونا، وعلى اساس التوصية بالسورث: لا متقعسخ من انتخابات، بسبب انتخابات إيلاي حالة ضرورية وإيلاي واجب وطني، فإذن، لا كاهوي، تقاعس عن الانتخاب، بسبب كل مرشح اته  برنامج خاص بالترشيح.

وكان الأمل كل الأمل يعول على الـ 28 مليون عراقي ونيف بما يعزز هذا الجانب من لدن الحضور العراقي الكردي غير الانفصالي، بحيث تظهر نتائج تقلب موازين القوى، لكن تبنؤات السفير العراقي في هولندا، باتت تضعف لدينا فرص هذا الأمل.
ومعها تضعف فرص الاستناد على معطيات مثل:

في باب المقارنة مع الحالة الجزائرية: كانت الجزائر بالحكمة والنباهة الكافيتين بحيث اختاروا ألا يسمحوا بأن يتم التلاعب بمصيرهم، فلم يسمحوا بزج الاحزاب على خلفية دينية في المشاريع السياسية. لقد توجسوا من ذلك، أصلا، مع أن الفرق بين الجزائر والعراق، هو أن الجزائريين، كان يحميهم واقع ان الاحزاب الاسلامية التي ارادت الاستشراء في الشارع الجزائري، كانت ذا خلفية دينية مذهبية وليست ذات خلفية طائفية، في زمن اصبحت الطائفية الاسلامية في العراق مرادفا لفروقات سياسية بين ابناء القومية الواحدة.

أما العراق، فكان قدره ان يجرف، من عدة جهات، الى ديمقراطية تقر بوجود الدين والطائفة كخلفية للصراع السياسي. فتتصارع الاحزاب السياسية مع الاحزاب الطائفية والدينية، بتشجيع من الدول المجاورة، لمطامع من تلك الدول في الاستحواذ ولامالها في اضعاف العراقيين. بحيث غدا العراقيون قربانا لهذه الديمقراطية التي ليس لها معيار طائفي في الغرب، برغم التبجح بوجود احزاب دينية مجهرية لا تقدم ولا تؤخر.

وهكذا ابتلي عراق ما بعد نيسان 2003 بأن تكون الديمقراطية على المحك في العراق، على اساسين:
ان الاحزاب الطائفية، كان لها الدور في مقارعة النظام السابق، والحال ان الاحزاب الطائفية كانت مهمازا لتوسع جيوسياسي في المنطقة بقيادة ايران لاغراض ستراتيجية.
ترحيب الدول المبتلاة بتهديدات النظام الفردي التوسعي السابق، بمثل هذه الديمقراطية المريضة، أملا بتقسيم العراق واضعافه، أو دماره عن بكرة أبيه.

فكان بالتالي قدر العراق، أن يقدم التضحيات، كل التضحيات المقدمة حتى الان، لمجرد تحقيق جملة اهداف منها:
- خدمة التواجد الامريكي في ظل انفلات امني متواصل، وتبرير استمراره حتى تأمين مصالحه الاستراتيجية.
- كسب الوقت لصالح قوى الجوار حتى يتهيأ ان يزداد لها تقادم زمني متراكم تجاه الانحدار المطرد للحالة العراقية.
- الرهان على ان يكون انحدار العراق، باتجاه أضعافه اقليميا، اذا تم تقسيمه قوميا، في الاقل، بحيث تكون جروحه حالة تخدم ترتيب شؤون البيت الكردي، لحين توفر الاجواء لتغيير الخارطة السياسية في المنطقة. مع الرهان على قصور الرؤية وقلة التنشئة بشأن عراق فيدرالي معاصر، وإلقاء الطعم وراء الآخر لتنشيط اللهاث وراء الاثراء الوصولي.

وكان الأمل، كل الأمل، في عدم  تحقق النوايا الرئيسة في إسقاط العراق منقسما اقليميا، بحيث تؤدي الانتخابات الى تباشير خير تستند الى :
انقاذ الجانب الاكبر من عراق المركز، المبتلى بالطائفية تلك الطائفية المغذاة بوهم الافادة منها لصالح الحالة الانقسامية في الشمالِ. ونقول الوهم، إذ ما الفائدة من الاستفحال على حساب ضعف الجانب المتبقي من العراق، اذ مشروع التقسيم والانفصالية من شأنه أن يؤدي الى ظهور دويلات عراقية ذليلة فقيرة وفق الانموذج الافريقي.

كان الامل كل الامل:
وصول العراقيين الى قناعة، بعد كل هذا التأخير، وبرغم الكثير من التضحيات، الى ما توجست منه الحالة الجزائرية، بعدم القبول باستشراء نفوذ ما سمي بجبهة الانقاذ الاسلامي، ووصولهم الى قناعة ان لا جدوى من بعد من وجود احزاب طائفية أو مذهبية.
وصول جهة تعتمد الاصالة العراقية يأمنها العراقييون لكي تعالج الطائفية والجهوية والمذهبية بما يناسبها من علاج مشروع وعصري.
الخروج بالعراق من عنق الزجاجة، بمعالجة ثغرات قاتلة في الدستور المرجعي المذهبي الطائفي، اوضحت الايام مهاول النكبات التي سببتها تلك الثغرات للعراق.
بناء جيش قوي يحمي الدستور ويصون سيادة القانون.

لو كان تحقق كل هذا فإنه سيظهر:
- إن العراقيين استطاعوا إزاء حسابات دول الجوار وبرغم التأخير،  ان يقلبوا السحر على الساحر، ويخيبوا آمال المراهنين على أن يختفي من الساحة عراق متطور حضاري ديمقراطي فيدرالي.
- يعود العراقيون الى الامساك بزمام أمورهم ومواكبة الركب الحضاري العالمي في تنافس شريف على المشاريع السياسية البحتة بمعزل عن الشوفينية القومية والتعصبية المذهبية الطائفية.
- يعود الطامحون في الخصوصية القومية الكردية، الى الارتباط الحضاري بعراق فيدرالي ديمقراطي قوي متقدم على طريق الفيدرالية في كندا وسويسرا وبلجيكا ويكون الخيار في الاستقلال مسألة يقرها الاستفتاء العام والموازنة بين المحاسن والمخاطر.
- يعود المسيحيون العراقيون الى عطائهم وعبقريتهم وتميزهم في الحالة الوطنية ويكون تنفاسهم على الاصالة في خصوصيتهم المسيحية الوطنية، تمهيدا الى ان يحال أمرهم الى العلماء والمؤرخين والاكاديميين والتكنوقراط، بعيدا عن السياسيين والاكليروسانيين، فيؤكدوا لهم الاسم القومي الواحد الذي يعود إليهم. وحتى يحين ذلك لن يكون أهلنا في الموصل، من بعد، مثل البدو الرحل، يتركون بيوتهم في كل موسم انتخابي، ثم يعودون بعد ان يطمئنهم الطرفان المتصارعان بالعودة الآمنة.
- وفي ظل حكومة غير طائفية وغير جهوية، سيطمئن المسيحيون إلى انهم لن يدفعوا الايجار عن ارض اجدادهم لاحد الطرفين، لما بات يسمى بالمناطق المتنازع عليها.

كان الأمل كل الأمل مع حكومة غير طائفية وحكم علماني قوي، ان يضمن العراق عدة عوامل:
لن يكون هناك سبب لاستيراد ارهابيين ممن يزيدون على جرح العراق جراحا،
لن تكون هناك حرب اهلية ما بين العشيرة الواحدة بسبب اختلافات الطائفية بين ابنائها.

كان الأمل كل الأمل أن يكون العراقيون قد أسهموا بكل صوت قدموه، في تحرير البيان رقم واحد.

ما لن تحققه الانتخابات هل سيحققه بيان ذهبي؟
أجل فإذا حدث وأن الانتخابات لن تتمخض عن حكومة علمانية قوية، وجيش حام للدستور، هل سنكون عندئذ بانتظار البيان العسكري الذهبي المنشود؟ للاسف لا تلتصق صفة الذهبي، بالبيان العسكري لفضيلة فيه، بل نستوحي هذه الصفة من القائد العسكري السوداني عبد الرحمن سوار الذهب، الذي وحده، على ما يحضرنا من اسماء، وحده الذي استطاع ان يمسك بزمام الامور عسكريا، ثم عمد في الموعد المعلن الى تسليم البلاد الى المعالجة الديمقراطية. برغم كل الذي حدث فيما بعد،

وإذ كان لا بد من انتظار ذلك البيان رقم واحد، كحل لا ثاني له، نتعشم من استفادة العراق من خبرة الديمقراطية السودانية والعملية القيصرية الجزائرية، وذلك بتوليف ديمقراطية لا تمتد اليها مخالف الاحزاب الطائفية أو المذهبية.



120

قرأت لك: بين طموحات الايمان ونوازع الجسد

بقلم الاب نويل فرمان


الأديب الفرنسي بول كلوديل في دراسة معاصرة

لا شك ان المقال الواحد (بلغة واحدة) قلما يمكن أن يقرأه جميع من يتصفح جريدة او مجلة، ولكني وجدت في محور (قرأت لك) مجالا للتواصل الثقافي الدوري والتجدد والاضافة، لعموم قرائنا ولمتصفحينا الاراميين الكرام. وسيكون التركيز على ما يتوفر من كتب باللغة الفرنسية، لقراء الارامية او العربية او الانكليزية دون الفرنسية، أو لمن لا يجدون الوقت للقراءة بالفرنسية، ويرتاحون الى زبدة كتاب يتناولونه بنكهة قهوة الصباح، ويقدم ما يراه كاتب السطور من فكرة أساسية او تقويم جوهري للكتاب، وقد يدفعهم المقال عندئذ الى قراءته من الغلاف الى الغلاف. في زمن بتنا فيه نرى المتحذلقين من قراء الفرنسية ينسبون الى انفسهم والى شهاداتهم ما يقرأونه من تلك المصادر، فينسبون الى انفسهم انجازات وتحليلات نفسية ووجادانية واجتماعية بينما شهاداتهم لا تتعدى كونها شهادات في ثقب الاوزون.

ونبدأ اليوم برواية (عشيقة القنصل) للباحثة الفرنسية ماري جوزيف غيرز، وهي كاتبة شابة صاحبة عدة روايات منها: المرأة غير المنجزة (جائزة الرواية الأولى)، أتعاب ضائعة (جائزة قراء مجلة إيل) خطيبة الشمال (جائزة مدينة كاأن). كما كتبت غيرز سيرة متميزة لقصة حياة كلوديل وهي تعد واحدة من كبار المتخصصين في أدب كلوديل.

تتمحور الرواية على الحياة الوجدانية والعاطفية للدبلوماسي الفرنسي، الشاعر والمسرحي بول كلوديل (1868-1955) ما اعتلج دواخله من ارهاصات تنازعت ميوله الرومانسية والشاعرية من جهة، وتطلعاته القيمية المبدئية المتشربة من روحانيته المسيحية الكاثوليكية ، التي عرف من خلالها كواحد من أبرز العلمانيين الكاثوليك. الى جانب كونه عرف برسائلة الأدبية مع صديقه الودود شارل بيغي، الذي يحلو لي أن أسميه شاعر فضيلة الرجاء على عنوان قصيدته الجميلة عن الرجاء. وقد اشتهرت في مراسلتهما، عبارة بليغة تصف الجهد المبذول في الكتابات المركزة القصيرة، فكتب كلوديل الى بيغي، في ذيل إحدى رسائله: اعذرني، يا صديقي، إذ كتبت لك رسالة "طويلة"، إذ لم يكن لدي الوقت الكافي لأكتب لك رسالة "قصيرة".

تحكي احداث الرواية (334 صفحة من القياس المتوسط) مرحلة عمل فيها بول كلوديل قنصلا في الصين، في مطلع القرن العشرين. تحكي بأسلوب روائي وبمخيلة غزيرة، ما استقته الروائية من أشعار القنصل كلوديل ومذكراته، وضعتها في حبكة مغامرة عاطفية أدبية وشاعرية، مقترنة بوصف دقيق لما جريات الحياة في الصين قبل قرن ونيف.

على متن باخرة تمخر عباب البحر في ربيع 1904 ، تطل سيدة حسناء، قدر لها أن تكون ملهمة بول كلوديل الذي كان في طريق عودته من اجازة امضاها في فرنسا، للالتحاق بعمله كقنصل في الصين. وكلاهما تتنازعهما تناقضات متباينة: روز، امرأة شابة غاوية، تختنق في ما أحيطت به من عزلة أم وزوجة. أما بول، فقد خرج لتوه من خبرة فاشلة في الانخراط بإحدى المؤسسات الرهبانية، فرأى أن تنطلق حياته في حقبة مهنية كدبلوماسي وكاتب.

ولكن ما ظهر لكلوديل كمجرد إلهام شعري أدبي، سرعان ما أحاله الى إنسان ممزق بين الإيمان والرغبة، فوجد نفسه أمام حب لا تنازعه الموانع الاجتماعية، ولم تقو عليه سوء التفاهمات ولا مشاعر الحساد والغيورين. هذه العلاقة ستقع عليهم كالصاعقة، في أجواء من الاسرار والغموض والشبق بقيت تميز بلاد الصين.

وقد سعى كلوديل، بصدق وأمانة، أن يعترف بكل ذلك في كتابه: مقاسمة الظهيرة. فأخرجت ماري جوزيف غيرز، من صفحاته تلك، كتابا عملاقا مفعما بالاسلوب المموسق والسجع المحبب، وصار مادة في دراسة الأدب الفرنسي.

وفي منعطفات العلاقة، رأت روز أن لا حل ناجع لمعاناتها، إلا الاختيار والموقف الصريح، بالابتعاد عن زوجها وفي الوقت عينه الانفصال عن كلوديل بأي شكل أو آخر... فأوحت في البدء إلى عشيقها الدبلوماسي، إن مغادرتها الصين، قد تضع الحد للأفواه التي مضت تلوك فضائحهما، ثم ودعته وداعا مؤثرا. لكن كلوديل بقي منذ لحظات الوداع، يحسب الايام وينتظر أن ترده اخبار وصول روز ومكان تواجدها... فإذا به يتسلم بعد أسابيع، رسالة عن طريق شخص ثالث، تبلغه ألا يسأل عنها من بعد، ولا عن البنت التي ولدتها.

تعامل كلوديل مع هذا الواقع بكونه خبرة من الماضي. واختار أن يعيش مرحلة جديدة، بتكوين عائلة، فتزوج امرأة رزق منها عدة أولاد... 

مرت سنوات على هذا الحال، وإذا برسالة تصله، لمناسبة التناول الأول للطلفة التي كانت ثمرة علاقته السابقة. بينت روز في الرسالة أنها تركته بقرار مسبق. وأنها كانت قد وجدت نفسها أمام مزاحمة لم يكن في وسعها أن تطيقها، وتتمثل تلك المزاحمة، بين حبه المستحيل لها، وبين ما بقي يفتقده، على حد اعترافاته المتواصلة معها، من مكان لله في حياته وتعلقه بالكنيسة الكاثوليكية. ذلك الايمان الذي تهيأ له ان يستعيده ويحافظ عليه، برغم تلك الصعقة العاطفية والدرك الذي كان قد سقط فيه. 

121
بحث عن نسبية المفهوم القومي في الكنائس الابرشية الكاثوليكية، الكنيسة الكلدانية أنموذجا


الاب نويل فرمان السناطي
nfhermiz@yahoo.com


تقديم

يجدر ابتداءًا توضيح العنوان الذي قد يبدو مبهمًا، وهو:  ان الكنائس الابرشية الكاثوليكية، وذات الخصوصية الجغرافية واللغوية وذات هيراركية بطريركية، او سينودس اسقفي محدد وثقافيا ولغويا، هذه الكنائس، تبين أنه من الطبيعي ضمن خطها الكاثوليكي، ان تتوجه نحو عدّ المفهوم القومي، حالة نسبية تصنف في الدرجة الثانية أو حتى الثانوية من أولياتها.
يتم في هذه الصفحات تسليط الضوء على موضوع المفهوم القومي لشعبنا السورايا، لكون جانب منه ينتمي الى الكنيسة الكلدانية، التي أعلنت موقفا قوميا محددا لعموم أبنائها. ولما سبق لي وأن كتبت في موقع عنكاوا وصحف اخرى، في عناوين تتسم بالخصوصية الاثنية للشعب السورايا من أبناء كنائسنا المشرقية الكاثوليك وغير الكاثوليك، وما يشترك لديهم من خصوصية قومية، فقد اخترت اليوم ان اكتب في هذا الشأن، كشخص كتب عنه من قبل، ليرسم اليوم ما يتهيأ له من ملامح في الأفق، على نطاق الشعب السورايا، كمؤمن مسيحي كاثوليكي وككاهن كلداني، ويجدر من هذا المنطلق أن يحدد اليوم موقفه في هذه الايام، حيث يتهيأ للبعض انه استجد جديد في الشأن القومي للشعب السورايا.
وما دام الحديث عن شعب يتفق الكثيرون على أنه يعرف لدى الغالبية بمفردة متداولة من السورث، اللهجة الدارجة للارامية، هذه المفردة هي الشعب السورايا، لا بد، إذن من تسليط الضوء ايضا عليها، فمن هو الشعب السورايا؟
انه الشعب الذي يتكلم السورث بمختلف لهجاتها، ويؤمن بالمسيح، ضمن كنائس وطقوس وانحدارات ثقافية تراثية متميزة. فهناك سورايي (جمع سورايا) في العراق وإيران وتركيا ولبنان وسوريا ومصر تجمعهم هذه العناصر. وكما ينبغي الاهتمام بالمشترك، إلا أن التميز له ايضا ما يبرره، وليست اللغة وحدها هي التي تجمع عرقيا شعوبا واثنيات تتكلمها. وسنعطي مثلا مقاربا في أوربا:
من الاوربيين نميز المسيحيين الكاثوليك او غيرهم، ممن يتكلمون الفرنسية ولكنهم سويسريون وفرنسيون وبلجيكيون. وقد يجتمعون على شرائح متباينة غير مرتبطة ببعضها، في مؤتمر مسيحي، وآخر كاثوليكي، او في لقاء سياسي أو اجتماعي أوربي، او في لمة ثقافية لغوية. لكن الكنيسة في كل من هذه البلدان تتبنى الثقافة والخصوصية واللغة والتاريخ المشترك لأبنائها، ومع أنها بهذا التبني لا تفرض عليهم كانتونات مستقلة ضمن ثقافة وجغرافية المكان الذي تنطلق منه تلك الكنيسة، إلا أنها تترك لهم شأن التحرك الاجتماعي الثقافي اللغوي السياسي وما يرونه من تحالف ستراتيجي، بدون ان تكون بينهم وبين الكنيسة، في هذه المجالات أي جار أو مجرور.

إجماع متفرد كلدانيا ومفهوم مسكونيا

اعلن السينودس الاسقفي الكلداني،  الخصوصية الكلدانية القومية لابناء الكنيسة الكلدانية، داعيا الى اعتمادها في الدولة كما في الدين. ولما كان الاعلان على مستوى مجمع اسقفي، أي غير فئوي أو انفرادي، فلا يمكن والحال هذا أن يندرج الامر في اطار الاجتهادات الشخصية. فأن يكون الامر بشبه اجماع مصف الاساقفة، وفيهم غير واحد يشار اليه بالبنان ويحسب له الحساب تاريخيا وشخصيا وكهنوتيا، فهذا ما يجعلني كإنسان مؤمن بانتمائي المسيحي الى الكنيسة الكاثوليكية المبشرة ببشرى الانجيل الى بقاع الارض، أن افتش بإيمان عن تفسير ذلك والتعامل معه بواقعية عقلانية وبطاعة واعية، وكشخص مؤمن بخط الكنيسة المبشرة الجامعة.
مع استرجاع للاحداث، لعله يتبين للكثيرين، ان الرسالة الموجهة الى حاكم الاحتلال بول برايمر، عدت في حينها فئوية بل شبه شخصية، بشأن حقوق الكلدان، في حقبة ما بعد 2003، لكننا اليوم يمكننا ان نتبين انها لم تكن رسالة ارتجالية ناتجة عن ضغط مرحلي و"احتقان سياسي"، حسب العبارة الرائجة في هذه الايام. فقد جاء الاعلان المجمعي لآباء الكنيسة الكلدانية، في هذه الايام ايضا منسجما مع تلك الرسالة المدوية التي كنت حينذاك ممن تلقوا خبرها بتبلعم وصمت.
 إن الاعلان عن القومية الكلدانية لأبناء الكنيسة الكلدانية، إذ حظي في مصاف الاساقفة الكلدان من الجهات الاربعة للعراق والمسكونة، باجماع غير ذي بأس، ان لم يكن شبه مطلق، فإن هذا يمكن أن ينظر إليه ضمن التوجه المسيحي لرسالة الانجيل الخلاصية، المبشرة لكل الامم والشعوب في عنصرة متجددة، يفهم بها كنه الرسالة المسيحية كل واحد بحسب لغته وثقافته.

من هذا المنطلق، يمكن النظر الى التميز القومي الذي أرادته الكنيسة الكلدانية، وباتجاه محورين، القومي والمسكوني، ويلحق بهما المحور العلماني:

المحور القومي

لا يدخل الامر، بنحو تلقائي وحتمي، في محور تهويل يدعو الى التطير من حالة سلبية. فعندما يعلن أساقفة الكنيسة الكلدانية أن قومية ابناء كنيستهم هي الكلدانية، فهذا أمر لا يدعو الى التطير وإلى عدّ الامر موقفا تعصبيا اقصائيا.  ذلك إن المفهوم القومي لدى الكنائس الابرشية الكاثوليكية، لا يتخذ منحا شوفينيا راديكاليا. إنما يحتاج الأمر إلى استقصاء الدواعي والمسببات إلى جانب طبيعة التنظيرات المؤدية إلى هذا الإعلان.

توجهات لا يمكن ان تكون إقصائية أو حصرية

إن توجهات الكنيسة الكلدانية، وبالتحديد فيما يتعلق باعلان الخصوصية القومية لابنائها، لا تلغي توجه غير الكلدان من أبنائها، الذين يتصلون في تراثهم وتاريخهم بالانحدار العربي أو الكردي أو الاشوري وغير ذلك. كما ان اعلان الكلدانية كسمة قومية لمجمل أبناء الكنيسة الكلدانية، لا يلغي مجال التحرك ضمن الحيز السوسيولوجي الجغرافي أو السياسي لجانب آخر من ابنائها ضمن خط القومية الاشورية، كحالة معروفة لدى قسم منهم، مثلا في ايران وجوانب في شمال العراق، او ابرشيات امريكا الكلدانية. كما لا يلغي الامر في الوقت عينه، تمتع قسم آخر من ابناء الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، بخصوصية ثقافتهم العربية أو الكردية او سواها، حتى وان كان قسم كبير منهم ينادي بالخصوصية الكلدانية.

بحثا عن الاسباب

ما هي إذن الاسباب التي تستشف من هذا الاعلان؟ الجواب لن يكون مختصرا، وهو ضمن استقصاء شخصي بحت، وبدون أن يكون لسان حال، يدخل ضمن تنظيرات مرتبطة بجملة عوامل منها:

- الخصوصية الثقافية والراعوية وحتى الطقسية المتراكمة منذ عودة أبناء الكنيسة الكلدانية، كقسم من أبناء كنيسة المشرق، الى حضن الكنيسة الام الكنيسة الجامعة، سواء في القرن السادس عشر أو بعده.
- الاستناد الى طروحات عدد من الباحثين في الخصوصية القومية لابناء الكنيسة الكلدانية الكاثوليكة أو المنادين بها، وهؤلاء يمكن تصنيفهم كالآتي:

+ الذين تأرجحوا في أبحاثم وطروحاتهم واعلاناتهم، لمراحلة متباينة، بين الخصوصية الاشورية، ثم الكلدو اشورية قبل ان يستقروا باقتناع باد في الخصوصية الكلدانية.
+ الذين كانوا لمدة لا يرون الربط بين الخصوصية الاثنية والرسالة المسيحية ويختارون ما يناسبهم في الوسط والظرف السياسي، فباتوا ينضمون الى موجة السنوات الاخيرة، في اعتناق خط قومي محدد واستقر جانب منهم على الخط الكلداني.
+ الذين توجهوا، منذ السابق، وطبقا لحرية الوسط الذي عاشوا فيه، نحو الخصوصية الكلدانية، بمعزل عن أي فرضيات علمية اثنية ومناهضين لأي مسار وحدوي مسكوني مسيحي إذا كان يندمج مع خصوصية غير كلدانية. ودرجوا منذ عشرات السنين على تثبيت هذا الخط، بمختلف الطرق، في تعصب واضح يقارعون فيه الصاع صاعين او اكثر، تجاه انواع التعصب المماثل، ولا يهمهم أن يستندوا حصرا على حالات ازدياد النفوذ المالي والاجتماعي والكتلوي سواء في الجماعة الكلدانية او الاكليروس.

الكنيسة الكلدانية على غرار عدد من الكنائس الابرشية الكاثوليكية الاخرى


من المعروف أن المفهوم القومي لدى الكنائس الابرشية الكاثوليكية، يأتي أصلا في المرتبة الثانية من الاولوية بعد الحياة الراعوية الروحية الانجيلية للرسالة المسيحية الشاملة. وثمة امثلة عديدة سيأتي التطرق بشأنها في هذا المضمار. فمع الملاحظة الدقيقة، نجد بنحو طبيعي مفهوم كاثوليكيا، بقاء هذه السمة: وهي التعامل النسبي شبه الثانوي تجاه الخصوصية الاثنية اللغوية التراثية القومية، فهذه السمة ليست ملازمة لخصوصية الكنيسة الكلدانية. بل نجدها طبيعية في ذات الاتجاه، في الكنائس الابرشية الكاثوليكية، على سبيل المثال في الكنيسة المارونية (الكاثوليكية) مع اضطراد استقلال ابنائها عن الخصوصية العروبية لصالح الخصوصية اللبنانية، او الاقباط الكاثوليك او كنائس الارمن الكاثوليك. ولدى الأرمن الكاثوليك يمكننا ان نلاحظ ذلك حتى من الاسماء التي يحملها أبناء كنيسة الارمن الكاثوليك، كالعربية مثل: جمال، رمزي... او الاسماء العائلية العربية المنتهية في مفردة التسميات الارمنية بـحروف (يان) مثل: قصابيان، طباخيان... على حساب الاسماء الارمنية العريقة، وكذلك تبني اللغة المحلية السائدة على اللغة الأرمنية.

التعامل بواقعية مع إشكالية اللغة

بلسان عربي فصيح، وبخاطب جلي مبين جاء البيان المجمعي أننا كلدان. فكان الاعلان بهذه الطريقة والفصاحة، على نهج الانفتاح الثقافي على الحضارات الذي نهجته الكنيسة الجامعة لما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، في التعامل مع الوسط المحيط، بلغة مفهومة، خصوصا وان لغتنا الام الارامية الفصحى، لم يعد لها جمهور واسع متفهم بالكيفية عينها في الاماكن المتباينة. وقد حدث مثل هذا مع تحرر الجزائر، في مطلع الستينات، وكانت اللغة السائدة الفرنسية لغة المستعمر، فجاءت تصريحات بن بيلا الرئيس الجزائري الشاب آنذاك قائلا : (Nous les Arabs) مؤكدا بلغة فولتير على الانتماء العروبي لشعب الجزائر.

وبخصوص الكنيسة الكلدانية، من الملاحظ، وبرغم الجهد الذي بذل في المراكز ذات النفوذ خارج كرسي البطريركية إن صح التعبير، بقيت سمة التعامل الضعيف مع اللغة الارامية، هي السائدة بالنحو المعتبر طبيعيا لدى أي كنيسة ابرشية كاثوليكية. وكم جرت محاولات تعليم اللغة ولكن بدون جدوى تذكر، باستثناء بعض النجاحات في القراءة الصحيحة لبعض الخورنات، مثل خورنة الصعود في بغداد، كمثل لتبنى اللغة الطقسية في وسط ذي لغة آخرى سائدة. ونرى بنحو عام ان المهتمين في الخدمة الليتروجية للقداس، والتراتيل بالسورث قلما يبذلون الجهد لتعلم ذلك باللغة الارامية وحروفها، فيلجأون الى القراءة الكرشونية، بالحروف العربية لكلمات السورث.

يقودنا الحال إذن ملاحظة التعامل المنطقي والواقعي مع اللغة في الكنائس الكاثوليكية وفي الكنيسة الكلدانية ما درج على تسميته باللغة الام التي لم نتفق بعد على اسمها. إنها لغة جميلة حقا ومبعث على الاعتزاز، خصوصا وان ديمومتها محفوظة في الكتاب المقدس والادبيات الليتورجية مما لا يغنى عن موقعها العلمي والتاريخي لدى الجامعات العالمية. أجل، هذه اللغة الجميلة، تكلم بها المسيح في مرحلة سادت خلالها في المنطقة الثقافة الارامية، ولم تكن الارامية لغته الام غير أنه، تبارك اسمه، تبناها لانها كانت اللغة المفهومة لدى الغالبية. لكن، في كنائسنا الابرشية المتحدة بروما، والمنفتحة على ثقافة المحيط للتفاعل معها في نقل بشرى الانجيل، لم يعد ضمن محاذير (التابوه) عدم تعليم ابنائنا لغة لا يتداولونها، أو فرض تعليم شمامستنا لغة طقسية لم يعد الناس يفهمونها. وقد بقيت لمراحل متعددة مقادير طقوسنا واحتفالاتنا الليتورجية رهنا ببعض الشمامسة لا يعرفون سوى قراءة اللغة آرامية لا يحسنون كتابتها ولا يفهمون ما يقرأون، وكل امتيازهم انهم يحسنون التغريد بها، ولكن هذا لم يعد كافيا، اذا اقتضى التعامل مع طقوسنا على ذلك فحسب، بعيدا عن روحية مشاركة الشعب بتفاعل وتفهم.
ومع ذلك، فإن حدث بصحوة ما، ان يقوم لدينا شمامسة يقرأون ويكتبون ويتداولون بآرامية منتشرة في البيوت والتلفاز والراديو، فخيرا سيكون، لكن ذلك لن يكون، على ما أعتقد، مطلبا ايمانيا عقائديا للكنيسة الجامعة ولتوجهنا الكلداني الكاثوليكي.

الكنائس الابرشية الكاثوليكية  غير معنية عقائديا بتطوير ارثها الثقافي واللغوي

يمكننا أن نستخلص ايضا، أننا إذا عولنا فقط على الكنائس الكاثوليكية الابرشية، للحفاظ على ارثنا القومي، فإن ذلك لا يكفي، بل ان محدودية التوجه القومي لدى الكنائس الابرشية الكاثوليكية، من شأنه ان يؤدي الى فقدان الخصوصية الاثنية شئنا أم أبينا، كلما انصهرنا مع المجتمعات الاكبر، يجمعنا معها الخط الكاثوليكي كما يجمعنا معها تبنينا للغتها وثقافتها.
وعليه فإن الارث الثقافي الاثني، إذا أريد المحافظة عليه، فإن المؤسسات القومية والثقافية والفنية العلمانية بما يمكن ان تمتلكه من امكانات وتقنيات وقدرات استقطاب للشعب هي التي من شأنها أن تنمي هذا الارث. وعندما يكون الامر كذلك، فإن الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية يمكنها ان تتبنى ثقافة أبنائها، باستقلالية وبطريقتها الخاصة في التعامل معها. وهذا هو الحال مع سائر الكنائس الابرشية الكاثوليكية.

الوضع المتململ للكنائس القومية غير الكاثوليكية


بعد الذي سبق ذكره عن الكنائس الابرشية الكاثوليكية، لنا أن نعرج الآن على الكنائس القومية غير الكاثوليكية. فإن الوسائل والتقنيات المتطورة إياها جعلت المؤسسات العلمانية في موقع المنافسة على ريادتها للثقافة القومية، سياسيا أدبيا وفنيا، وإذا بلغت المؤسسات العلمانية شأوا مناسبا، من الناحية السياسية أو الثقافية، تبقى الكنيسة مرتكنة كما يفترض الى موقعها الروحي الديني، ولا ينتظر منها اكثر من ذلك. واذا تململت الكنيسة في مجال التنافس، فإنه يطلب منها بوضوح الركون الى اختصاصها. وهذا ما حدث في أرمينيا، عقب اعلان الدولة الارمنية.
وهذا يمكننا منذ الان مشاهدته بأم اعيننا على الشاشات التلفازية الاشورية خارج البلاد، التي بدأ يتناقص فيها حجم الظهور الديني، او يلجأ إليه ليخدم غرض التبعية للجانب القومي.

نستخلص من جملة العناصر المذكورة، ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنه عندما اجتمعت امام الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الكثير من العوامل ووزنتها امام الرؤى الراعوية، وما تراه من أمور تفرغ أبناءها من التوجه الروحي وتعرضهم الى التشتت باتجاهات يختلط فيها الروحي بالسياسي، بل يطغي عليها السياسي على الروحي، فنرى أن ذلك وغيره، قد يكون استحق اجماع الاساقفة لاعلان الخصوصية الكلدانية، لا سيما ان هذه الخصوصية من المفترض ان تكون في المرحلة الثانية من الاهمية، طبقا للرسالة المعروفة عن الكنائس الكاثوليكية. أي أن تكون التقت لدى أصحاب السيادة، الحالة القومية الكلدانية للمتمسكين بها بعنفوان، مع الحالة الكاثوليكية الشمولية، لمن يولون القومية درجتها الثانية أو الثانوية، فقبلوا ذلك، كما نعتقد، للمزيد من الاعتبارات من المذكورة في هذه الصفحات، التي شجعت خيارهم.

قرار مبدئي حاسم ولكنه لا يلغي المرونة

من ناحية أخرى، قلما يحتمل أن تعلن الكنيسة الكلدانية، في يوم ما خصوصية قومية أخرى، بشكل آخر أو بشكل معاكس تحديدا، عندما تتوفر ظروف ضاغطة أخرى. واذا حدث فسيكون الحكم النهائي بزوال الخط القومي في الكنيسة الكلدانية عن بكرة أبيه. إلا أن هذا الافتراض، لا يمكن الغاؤه من وارد محتمل لاي تبريرات او تنظيرات أو ضغوط معينة، وذلك ايضا بسبب استقلالية الرسالة المسيحية الشاملة عن الخصوصية القومية. على أن اقصى احتمال يمكن ان تواجهه الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فهو ظهور نظام شوفيني دكتاتوري آخر. فعندئذ تعود إلى التزام الصمت، ويختار أبناؤها ما يرونه لصالحهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، مقتنعين كمسيحيين مؤمنين، ان كنيستهم لن تحرمهم بسبب ذلك، من الاسرار المقدسة، مثل سر العماذ ومسحة المرضى وغيرها من الاسرار الكنسية المقدسة.
مع استخلاص العوامل آنفة الذكر، يمكننا ان نفهم القرار الصادر عن سينودس الكنيسة الكلدانية، وبما يرى فيه مصلحة ابنائها، وعدم انجرافهم نحو تيارات لا تنسجم مع الرسالة المسيحية الشاملة الموحدة، وبما يحميهم، من التشتت كمسيحيين نحو اتجاهات تحمل الطابع المسيحي ولا تقرها الكنيسة، ومن توزع الولاءات لمختلف المصالح الستراتيجية والسياسية، وهذا بحد ذاته من شأنه ان يصون لديهم الدعوة المسيحية المنفتحة الشاملة. خلاصة القول، إن كلدانيتهم لا تلغي ان يكون من بينهم من هو كلداني من انحدار قبطي، او ماروني او آشوري أو أي خصوصية قومية أخرى، وأن يصل الى المرتبة الاسقفية بكل جدارة، ويقول بصوت جهوري على الشاشة الفضية: نحن الكلدان.
من كل ما سبق، من وجهة نظري الشخصية وغير الرسمية، التي كما ذكرت لا تمثل لسان حال احد، لا داعي أن نتباكي على ما حصل وكأن الداعين الى وحدة الشعب السورايا فقدوا جزءا كاملا من هذا الشعب. فالنظرة المسيحية الكاثوليكية لا تلغي الشعور الذاتي الاثني الثقافي لكل واحد من ابنائها، وان يتحرك اجتماعيا ثقافيا لغوية وسياسيا بموجب ذلك، على ان لا يرتبط ذلك بحيث يحمل الغطاء الكنسي لتوجهات قد لا تقرها الكنيسة.
ولكن، ان كان الامر كذلك، لماذا اعلنت الكنيسة الكلدانية موقفا خاصا بالانتماء القومي؟ هذا ما سنسعى الى استخلاص اجابته، ضمن الخط المسكوني للكنائس الكاثوليكي، وهو ما سنراه في المحور الآتي.


2- المحور المسيحي المسكوني

موقف الهيراركيات غير الكاثوليكية من المسار المسكوني

كانت في السابق، قد تمحورت مقالات الكثير من الداعين الى وحدة الشعب السورايا، ومنهم كتابات المتكلم، نحو كوننا مسيحيين، قد نختلف عن بعضنا البعض بالطقوس والمذاهب، لكن هناك الكثير مما يجمعنا كشعب سورايا، يتحدث بالسورث، ويمتلك عناصر تاريخية مشتركة عديدة، مما يعد امتيازًا مهمـًا يسهم في مسيرتنا المسكونية، بكل ما نشترك فيه تراثيا لغويا وثقافيا وسواه.
من جهة أخرى رأى الملاحظون أن جانبا من الاكليروس في السلطة الكنسية المشرقية غير الكاثوليكي، لا يقاسمون الكنائس الكاثوليكية المفهوم عينه بشأن الوحدة المسكونية، وبخاصة إذا رأوا أن الطروحات لا تتطابق مع توجهاتهم (الاومثانية) القومية البحتة. كما أنهم غذوا تصورا مختلفا وخاصا بهم عن تاريخ الكنيسة الجامعة وشركة الكنائس مع بعضها حول القديس بطرس هامة الرسل، وحول كنيسته في روما، وكونه خادم خدام الرب في المحبة، وما يتصل بهذا الموقف بخليفة بطرس، وأولوية البابا، وموقع ابرشيته في روما.
من هنا نفهم موقف جانب من اكليروس الكنائس الشقيقة غير الكاثوليكية، في الاتجاه الوحدوي مع الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وأن وحدة الكلدان معهم مشروطة باعلان الخضوع والولاء لهم، وترك الانتماء الى الكنيسة الجامعة وخليفة بطرس. ونفهم ايضا ما تهيأ للكثيرين أنهم كانوا السباقين الى الاسهام مع منظريهم القوميين في اجهاض الخطوات الوحدوية لرموز في الرئاسات الكنسية البطريركية بعد منتصف التسعينيات. ففي أعقاب تلك المرحلة اليتيمة المنصرمة، التي اتسمت لحين، بحمية السعي الوحدوي واحساس ان الشركة الكنسية والاوخارستية دانية القطاف، وكادت تحسب في عرف الكثيرين، أن تكون قاب قوسين بل أدنى في تلك اللمة المسيحية الروحية الوحدوية المشتركة الجماهيرية العظمى التي جمعت لمناسبة اليوبيل الألفين للمسيحية رئيسا الكنيستين الكلدانية والآشورية.
في تلك الحقبة، كان قد أخذ علي وعلى غيري، أحد أولئك رجال الدين، عندما نهجت نهج راحلنا الكبير الاب يوسف حبي، في التفعيل المسكوني لعبارتـَي كنيسة المشرق الاشورية وكنيسة المشرق الكلدانية (الكاثوليكية)، إذ أفهمني بصريح العبارة أننا (في الكنيسة الكلدانية) لا نمتلك الحق في أن نحمل تسمية كنيسة المشرق، اي أن كنيسة المشرق هي آثورية وكفى. وليست كنيستان، آشورية (آثورية رسولية) وكلدانية كاثوليكية، وأننا بصفتنا من الكلدان، انسلخنا (قوميا أيضا) عن ارتباطنا التاريخي بكنيسة المشرق وبأبنائها. وفي هذا خلط تاريخي، لمن لا يربط ماضي (الكلدان) مع ماضي (الاشوريين) ضمن كنيسة المشرق الواحدة، سواء حمل الاسم الكلدانية أو الآشورية.
فماذا لو شاء الرب، ولئن كره الكارهون من المتعصبين من اي جانب، ان يخرج بطريركان ملهمان مسكونيان، يتفقا على الوحدة المسكونية، فتؤول رئاسة الكنيسة الموحدة على الثاني بعد وفاة الاول؟ الجواب، لن أنساه، قاله لي، أحد المعارف الاشوريين، في جلسة بمنطقة كراج الامانة، ولم يكن أمامه سوى قدح إذ قال: إذ حدث واتفقوا على الوحدة المسكونية بين الكنيستين الشقيقتين (ولئن كره الكارهون - المحرر) فدعهم يسموننا باسم هذا القدح، أي اسم.

بين القومية والانفتاح الى بشرى الانجيل

ولئلا يفهم القارئ الكريم، ان كتابة الصفحات التالية هي ابنة يومها في هذا الاتجاه الذي سعيت الى التعمق فيه، ما بين الانتماء المسيحي والخصوصية القومية، أنتقل بشكل عابر، الى استذكار سؤال بقي ديدني في المنحى عينه، كنت وجهته إلى مسؤول في كنيسة من الكنائس الارثوذكسية القوميةِ ، فقلت له: ماذا لو كانت جماعة منكم في افريقيا، وانجذب أحد ما الى رسالة الانجيل وطلب منكم الاعتماذ والانتماء المسيحي. فالتزم الصمت في الاجابة. وعندما وجهت السؤال عينه، إلى أحد أتباعه من طلاب كلية بابل وتضم مختلف الانتماءات الطقسية والمذهبية المسيحية، أجاب: نحن نعمذهم ونتبناهم في كنيستنا وعندما يصيرون جماعة غير ذات بأس نوجههم بأن يؤسسوا لهم كنيستهم الخاصة. وضرب لي بذلك مثل اهتداء جورجيا، على يد الارمن.

تأثير الخلط بين الاثني والديني على السلامة العقائدية والمسيرة المسكونية

إستنادا إلى ما سبق عرضه، لاحظ الكثيرون، أن الكلدان باتوا يجدون أنفسهم في محيط من الكنائس الشقيقة ممن، على مستوى الرئاسات "الروحية"، انعزل بنحو مضطرد عن الروح الوحدوية المسكونية، بانصياع باد لتوجهات قبلية عشائرية مختارية، وبصمت محير تجاه منابر تخاطب الامة وتحرف الايمان المسيحي، وتنادي بأن يطغي صوت الداعية القومي على صوت الراعي الكنسي. وزادوا بأن خلعوا على الله  اسم آشور كواحد من اسمائه تعالى في مختلف اللغات: الله، غاد، ديو، ياهفي الخ... وان في الثقافة الاشورية تلك، تعد الاسماء الالهية عشتار وشمش وسواهما، صفات من صفات الله.
وتشير مؤشرات الظرف الراهن إلى إحجام لدى الكنائس الشقيقة، عن سبل الوحدة المسكونية فتسلك المسار الروحي الانجيلي، وقد ينظر إلى كونه بالضد من اي نداء من الروح القدس. على أن المسار يبقى مفتوحـًا للحوار الروحي المعمق، ما دمنا نعيش في العالم. لكنه للأسف فان أطرافا من الكنائس الشقيقة، باتت كما يفهم، ترتهن بتنظيرات قوميين يفضلون أي شيء على الوحدة مع الكنيسة الجامعة، وبما يعرض الرسالة المسيحية، إلى ان تكون حاضنة لبدع تدعي حمل التسمية المسيحية وحسب، وتروج باسم المسيحية الاشوري من منابر اعلامية لمفاهيم بعيدة عن رسالة الإنجيل. وهذه بعض الامثلة الكاشفة:
- كبح التوجهات الوحدوية، فقد ظهرت رهبانية ناشئة منفتحة على الخط المسكوني، سرعان ما كتمت انفاسها، بإصرار من داخل العراق وخارجه.
- كتم اصوات تعالت، في السنوات الاخيرة، من التي مع رغبتها الاحتفاظ بالاصالة والخصوصية الاشورية تمحورت نحو الايمان بالكنيسة الجامعة، وغير ذلك من التوجهات الوحدوية التي كبتت، وسال بسبب ذلك وسواه نهر من الحبر الالكتروني وغيره.
- ظهرت انشطة ثقافية ذات توجه وحدوي، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ترجمة السورث للكتاب المقدس المصور وتسجيله على قرص ليزري بأصوات متنوعة اللهجات سعت جميعها نحو نسيج مشترك في اللفظ المقبول لدى الجميع. وما ان وصلت النسخة الى اسماع احدى الرئاسات الكنسية، حتى عزفوا عنها مصرحين انها ليست لهجة انحدار تلك الرئاسة الكنسية.  

ضبابية الخلط بين الانتماء الايماني والهوية القومية


ويأتي تكريس التسمية الكلدانية القومية الخاصة بهذا الجانب من كنيسة المشرق الذي عاد قبل قرون إلى الشركة مع الكنيسة الجامعة، بما يوحي بتحرير ابناء هذه الكنيسة الكاثوليكية من ضبابية الخلط بين الانتماء الايماني والهوية القومية، وبينهما فوضوية الخطاب السياسي لتوجهات حزبية مختلفة ذات بؤر نفوذ وتأثيرات متفاوتة. وهو تكريس من شأنه، كما يفترض، أن يفرغ السبيل الى التمحور نحو الرسالة المسيحية الشاملة، ويترك العمل السياسي وفقا لاختيار الفرد وما يقتنع به من انحدار اثني، بدون تداخل للجانب الكنسي أو الديني في هذا الشأن.
كما يأتي إعلان الكلدانية من الناحية القومية لأبناء الكنيسة الكلدانية، كحالة يعتقد انها من حالات انهاء الجدل، بين الاتجاه الكلداني والاتجاه الاشوري، وما اكتنف ذلك من تحرك سياسي طالما اشتبه فيه التأثير على الجانب الروحي واستغلاله بشكل منحرف، خصوصا لدى وضع الكلدان في عصارة الخلط الكلداني السرياني الاشوري ، وبما يجر الكنائس الطقسية التي تحمل هذه المسميات القومية، الى مسارات لا ترضاها جميعا بالطريقة اياها، وهو بالتأكيد يأتي في الكنائس الابرشية الطقسية الكاثوليكة على حساب التوجه الروحي الانجيلي.  فجاء خيار الكلدانية لجانب من ابناء الارومة الواحدة مقابل الخط الآشوري للجانب الآخر منهم، الذين يستخلص من محصلة خطابهم، اكان الاسم اشوريا او سورايا، يصرّون عل أنهم الاصل وأن جانبهم هو الوحيد الاوحد الذي يجمع الجميع.
كما ينظر الى الاعلان، كقرار جاء لوضع حد للتلاعب بمشاعر السورايي، تحت ذريعة الوحدة، وجرهم وجر كنائسهم معهم، وفي الاقل جر الكنيسة الكلدانية، الى املاءات سياسية واقليمية، بعيدًا عن أي مسار روحي معمق في الوحدة المسيحية المسكونية الشاملة.

ولعل الرغبة في تثبيت اسم الكلدان، الذي قد يعده غير واحد من بين التسميات المثيرة للجدل ولم تحظى بالالتفاف الشامل، جاءت لوضع حد لهذه المراوحة التي استغرقت الكثير من الوقت واستهلكت العديد من الطاقات، علاوة أنه كان يعرقلها نفور من الوحدة الكنسية من اطراف عدة. وأنه قد تم التعبير عن هذا النفور بأنواع عديدة وأشباه شتى، من انماط التضارب الجغرافي والسياسي من جهة، أو التباين بشأن الوحدة المسكونية، برغم كونها في نهاية المطاف يتطلع اليها كل مسيحي اصيل، من الجهة الاخرى. وبذلك يمكن ان ينظر الى هذا الاعلان، كتنقية للمسار الروحي المسيحي المسكوني لكنيسة نحو اخرى، بغض النظر عن تسميتها القومية، وحريتها في الاحتفاظ بها.

فمن الناحية الكنسية المسيحية، فقد لوحظ ان أي كنيسة، كلما انعزلت عن الخط المسكوني للكنيسة الجامعة، تراها بحسب الشواهد التاريخية، تعيش مراحل ضعف متراكم، ما يجعلها ترتمي في أحضان العشائرية والمناصب الوراثية، فتفرغ من الروح وتمسي تابعة للشوفينية القومية. فكلما كانت كنيسة قومية بحتة، كلما اتجهت لأن تكون كنيسة بالاسم، كنيسة تقليد طقوسي وتراثي فحسب.

انسجام مع الرسالة الشاملة للكنيسة الجامعة

من ناحية آخرى، إذا لاحظنا ما تحتضنه الكنيسة الكلدانية من اثنيات متعددة، عربية، كردية، فارسية، نجد أن التعددية الاثنية ليست بغريبة في حضن الكنائس الابرشية الكاثوليكية، ما دام الابناء مقتنعين برسالة الكنيسة الشاملة، فلا بد على مر العصور ان الكنيسة المبشرة تحتضن ابناء من مختلف الانحدارات الاثنية ممن يستجيبون الى نداء المسيح. وهذا كان الحال، مع الاقوام التي اعتنقت المسيحية وكانت اللغة الطقسية الآرامية هي اللغة السائدة آنذاك ، سواء في الشام او الهند او الصين، وعليه فإن الافراد والعوائل الذين عمذناهم في المهجر والشتات، أو صلينا على اكليلهم الزوجي بعد العماذ، من دليميين وجنابيين ومن الخالص ومن كربلاء، بحسب الطقس الكلداني، سيبقون محتفظين بانحدارهم الخاص ومتمسكين بكنيستهم الكلدانية. فكيف الامر بي ان كانت سلالتي آشورية، وابناء عمومتي اشوريين، واعتنق اجدادي الكثلكثة ضمن الكنيسة الكلدانية، قبل اقل من قرنين، فليس لي الا ان اقبل بالتسمية الاثنية المزدوجة بصفة كلداني من اصل آشوري، على غرار الجنسية المشتركة لاقوام منحدرين من اثنيات لا تحصى. لا سيما ان ذلك، جاء بإجماع اسقفي، وما دامت كنيستي سائرة تحت خيمة خليفة مار بطرس، وما دمت أقتنع ان مسيحيتي نابعة من الرسالة الانجيلية الشاملة لكل الشعوب والامم، وأن لكل قادم ان يتبنى اللغة الطقسية للكنيسة التي اختار الانتماء اليها.

استقلالية القرار عن المصالح الاستراتجية السياسية والاقليمية

إنها مجرد مقترحات شخصية، بدون ان تكون لسان حال. هل يعيد التاريخ نفسه بشأن المواقف بين أشقاء باتجاهات قومية وسياسية متباينة. بعد ان اتضح المسار وانجلت الصورة، لا غرو ان يكون احترام الخيارات الحرة للاخرين، كما نطالب به لخيارنا، المتنفس الوحيد للتعامل بين الاشقاء على تباين اختياراتهم المذهبية واتجاهاتهم القومية والسياسية، وبما يكفله القانون المعاصر وحقوق الانسان وواجباته.
وتبقى الخيارات مفتوحة أمام المتطلعين إلى عيش إيمانهم واكتشاف رسالة الانجيل وندائه في قلوبهم. ذلك أنه لم يعد الاطلاع العلمي على المذاهب والروحانيات والتاريخ مقتصرا على أحد أو فئة. فكل شيء مطروح على الشبكة العنكبوتية، والقنوات الفضائية والمطبوعات السخية. وهناك تساؤل يستحق المواجهة وهو:
إلى أي مدى أقبل باعتناق الخط الروحي الذي ولدت وترعرعت عليه وحاز على اقتناعي الصميم؟ وهل أقبل أن أغلـّب عليه، خيارًا ضيق الافق متحددا بخصوصية اثنية قومية؟ لعل الجواب الذي يحظى بالغالبية أن الرسالة المسيحية الانجيلية ترجح الخيار الاول. وإذا كانت تشجع استثمار الارث الثقافي والتقليدي واللغوي والاثني، لكن على ألا يتحول هذا الاستثمار لنا ديانة أخرى أو مذهبا منفصلا.
ولعل ما حدا بآبائنا في مجمعهم المقدس الى الارتكاز على التسمية الكلدانية، علاوة على المسببات المذكورة، كان له ما يبرره من اعتبارات انجيلية مذهبية وسلوكية. وقد يكون عنصر الاختيار المسيحي الاصيل، اذا اراد التاريخ ان يعيد نفسه، أن يكون ذاته مهمازا لاختيار الاستجابة لرسالة الانجيل حيثما يجد المؤمن في نفسه التفاعل مع عمقها وواقعيتها وتأوينها، أكان في حضن كنيسة تسمى الكلدانية، وذات ثقافة قريبة من مشاربه الشرقية او الاشورية او سواها، أو كان ذلك في حضن اي كنيسة كاثوليكية أخرى. أما أن يتم اللجوء إلى تحريم شخص مع من يلتفون حوله، لمجرد كونه انتمى الى الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فتلك ليست مشكلة المتحول الى الكنيسة الكاثوليكية، فهو يتأثر بإجراء الكنيسة التي اختار الخروج منها، لأنه أصلا تركها لصالح الكنيسة الجامعة، ولأن نداء الاستجابة لرسالة الانجيل لا يغلب عنده على الخصوصية الاثنية، مهما كانت تسمية هذه الكنيسة مختلفة عن خصوصيته الاثنية.
واذا كنت استفيض في هذه الطروحات، فذلك لتثبيت موقف الولاء من كنيستي الكلدانية الكاثوليكية، خشية عد تعاطفي السابق مع التسمية الاشورية ومع انحداري الاشوري، فكنيستي الجامعة، وبضمنها كنيستي الكلدانية فوق التسميات وأم وراعية للخصوصية الاثنية، لا تكتمها ولا تكبتها، ولكن في الوقت عينه لا تستعبد لها.

تباشير التقارب بين الكنيستين الاشوريتين الشقيقتين

إنها أخبار سارة، سمعناها عن التقارب بين الكنيستين الشقيقتين: كنيسة المشرق الاشورية، الكنيسة الشرقية القديمة، مما سيقوي جانب الاكليروس، تجاه الجانب العلماني النزعوي بتطرف الى القومية، كما ان هذا التقارب، من شأنه أن يذلل العقبات، وضمن سيناريوهين لا يحتملان ثالثا:

الاول: عندما تندمج الكنيستان عقائديا، وكلاهما يحمل الاسم القومي الواحد، وعندما يترسخ الخط العلماني غير الاكليروساني لدى الداعية القومي الاشوري باستقلالية صحية عن الكنيسة، وعندما تستقل الكنيسة بدورها، بعيدا عن ان تكون خادمة مطيعة للخط القومي على حساب الرسالة المسيحية، وعندما يستيقظ لدى ربابنتها نداء الوحدة المسكونية، ربما ستتجه الى الوحدة ككنيسة آشورية كاثوليكية، ذات شركة مع خليفة بطرس خادم خدام الرب في المحبة.

السيناريو الثاني، قد تتجه الى الوحدة مع الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، بشركة عقائدية، وتنهل مما يجمع ابناءها من تاريخ وتراث ولغة وثقافة، ، لتتخذ عندئذ الكنيستان، الاشورية والكلدانية، الاسم الذي يمليه واقع الحال المتفق عليه، خارجا عن ضغط القوميين المتعصبين من أي جانب، وسيكون عندئذ شأن أبنائها، الرقص للتسمية المشتركة بمناديل السعد والحبور.
لكن متى يـُتوقع أن يتم هذا؟ قد يقتضي الوقت الكثير، وقد لا يحصل إلا في الفردودس، حيث الوحدة المسكونية، لا تحدها حدود ثقافية لغوية، آشورية كانت أو كلدانية أو سواها. ولنمضي الان في البحث عن مستجدات الاعلان.

على أن الكنيسة الكلدانية، برغم التزامها أساسا خط الكنيسة الجامعة المبشرة المنفتحة على الثقافات العالمية وأن الخصوصية القومية والتسمية تأتي في المرحلة الثانية، قد تواجه التساؤل التالي: ما هو الموقف مع كنائس غير آشورية، من الشعب السورايا كاثوليكية كانت أو أرثوذكسية.
الحديث عن علاقتنا بالسريان، وروابطنا بهم من الانحدارات الاثنية الثقافية اللغوية المشتركة ، فهذا حديث متشعب وتمثل أمامه جملة من المؤشرات:
من بين الاخوة السريان من المذهبين الكاثوليكي والارثوذكسي، هناك من يرى أنه عربي عروبي للعظم، وأن السريانية هي لغة طقسية لكنيسته. وفيهم من هو من القرى والأرياف من الذي تكلموا السورث أبا عن جد، وإذا صح انحدار العرب من جلدة عربية، وبلغة طقسية سريانية، فإن أولئك السريان الذين لغتهم هي السورث، هم ايضا يستطيعون الانحدار مع ما يجمعهم من شعب لغته السورث، الشعب السورايا.
ولكن ما الحيلة والكنائس الطقسية والمذهبية تخلت عن الخصوصيات الاثنية لصالح الخصوصية المذهبية: فماذا يا ترى يقول السريان الارثوذكس والكاثوليك في لبنان وسوريا؟ وما طرح مؤخرا عن المطالب بكيان قومي مستقل ينسجم مع هذا التطلعات والاحتياجات، والتعامل مع واقع الحال.
أما عن المشترك في الاقل بين السريان والكلدان الكاثوليك، فهو كبير بينهم في العراق، لغة واحدة مذهب كاثوليكي واحد، ارض واحدة تاريخ مشترك. لكن المصالح الادارية للكنائس بقيت تحول دون التوأمة الفاعلة بين الجانبين. وكانت التجربة الخلاقة الرائدة في قيام معهد مار يوحنا الحبيب، وما انجب من ابناء متآلفين طقسيا اجتماعيا اخوية ومذهبيا، كهنة أو قدامى التلاميذ، فحدث ما حدث بشأن غلق هذا المعهد. وفي المنوال البشري الاداري الستراتيجي ذاته، كان قد طولب كاهن من السريان الكاثوليك في الاردن، حيث كان آنذاك خالية من كاهن كلداني، طولب بحزم أن يعزف عن خدمة الجماعة الكلدانية هناك، وفي المنوال عينه استقلال السريان بمعهد اكليريكي، مستقل عما درج على تسميته بـ (صلما دكلدان).

إلا انه في نهاية الامر، يصح لدى السريان الكاثوليك أو الارثوذكس، في نهج الوحدة المسكونية، ما تم تناوله بشأن احتمال توجه الاشوريين نحو الوحدة مع خليفة بطرس، في توجه السريان الكاثوليك والارثوذكس نحو الوحدة المسكونية مع خليفة بطرس كسريان كاثوليك، أو الاتجاه الوحدة مع الكنائس الشقيقة الكلدانية الاشورية عند اتحادها حول الاسم المتفق عليه، ثلاثيا، بدل أن يكون الاتفاق ثنائيا.
وفوق كل هذا يبقى المبدأ أن امنية المسيح في الوحدة، هي أمنية نابعة من الآعماق. وتبقى دعوة كل مسيحي، للوحدة الروحية مع الذات ومع الاخر، لا يقف في سبيلها عائق قومي أو اثني أو سياسي، وهي مسيرة روحية لا ترتبط جدليا بتوحيد الاعياد ولا الاتفاق على التسميات، ولا التظاهرات الوحدوية القومية.

المحور العلماني: دور التحرك العلماني ومسؤوليته

قبل التطرق إلى هذا الدور، لا بد من خلاصة لتقديم المفهوم الذي نراه عن موقف الكنيسة الكاثوليكية من التحرك العلماني.
في الوضع الحالي، يطلق العنان لمرجعيات طائفية مذهبية ودينية، تتحكم في اقدار البلاد، ما انزل الله بها من سلطان، تحتكم بافتضاح  إلى املاءات طائفية لدول الجوار، وصارت الديمقراطية كابوسا لعينا بقدر ما يبدو عليه كمطية للمصالح التوسعية الطائفي والمذهبية، على عكس الديمقراطيات المتحضرة في العالم المعاصر، وحتى لدى الدول التي تحتل قواتها عراق الرافدين. لا يمكن والحال هذا، في هذه المرحلة تحديدا، التمشدق بطلب عدم تدخل الرئاسات الكنسية في السياسة. إنما هناك فرق بين ابداء الرأي حول قضية سياسية تخص عموم ابناء الرعية لهذه الكنيسة او تلك، وبين ان تكون الهيراركية من الاكليروس في الانتظام وراء جبهة سياسية أو العمل باسم حزب سياسي معين. وقد يصل الامر، بالقدر المطلوب من الحكمة، الى اتخاذ موقف مبدئي غير مداهن في الاقل، من حالة الاحتلال وحالات العمالة والنفاق السياسي، الا ان الحكمة والصبر مطلوبان من باب أولى في ظروف اختلط فيها الخيط الاسود بالابيض.
في نهاية سلسلة من المقالات عن الشأن القومي في إحدى الصحف لشعبنا السورايا، في بحر عام 2004 كنت قد ختمتها بعنوان يحتوي مضمونه انه حان للخط العلماني ان يضطلع بدوره في الشأن القومي. وآراني اليوم اختتم هذه الصفحات في الاتجاه عينه. وأدرح جملة نقاط تؤشر حاجتنا الى طبيعة التحركات العلمانية:

-   خط علماني يتحرك قوميا باسم الشعب السوريا، تحت نطاق مشروع سياسي تنموي لا يرتبط بمحور طائفي.
-   تحالف كيانات سياسية قومية متحررة، عن النفس الطائفي يخدم مصالح ومستقبل الشعب السورايا.
-   انشطة ثقافية تجمع شرائح شعبنا بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وانحداراتهم الطائفية.
-   حركات فنية تتناول الموضوعات الوجدانية والجمالية بطريقة محببة وتستقطب الكافءات من كل حدب وصوب مستقلة عن غطاء سياسي أو طائفي.

مثل هذه الانشطة وغيرها، لا تحتاج الى وصاية كنسية في جانبها الحزبي والى الى اشراف طائفي او حزب في جانبها الثقافي والفني.
الحاجة الى قيام شخصية قيادية فذة ذات كاريسما يحظى بالتفاف والشعب، ويقف مواقف حاسمة نضالية، لصالح الشعب السورايا، ويكون متحررا من التبعية لوصاية دينية دون غيرها، مع الحفاظ على قيم الدين وكرامة الاكليروس، ولا يكون محدودا بالاملاءات الاقليمية الستراتيحية، لصالح التعبئة للوحدة القومية لشعبنا السورايا.
   وللاسف، كلما بانت في الافق ملامح مشجعة لمثل هذا الكاريسما، حتى يتم اجهاضها، بنحو مباشر او غير مباشر. ولكن هذا الشعب المعطاء لا يمكن ان يبخل رحمه بمثل هذا الحلم الجميل.
   هكذا سنجد انفسنا أمام مسارين متحاذيين غير متقاطعين: مسار الوحدة المسكونية للكنائس غير متأثرة بإملاءات سيساسية أو قومية، وهذا المسار هو مسار الحياة المسيحية على الارض وقد لا يكتمل الا في السماء.
   مسار للشعب السورايا يتوحد تحت خيمة ثقافية فنية، وبمشاريع سياسية وطنية وحدوية على المستوى القومي، ومتآلفة مع النسيج الوطني على مستوى البلد الذي تعيش فيه شرائح هذا الشعب، مع الوعي بأن العلمانية لدى الشعب السورايا هي قيم متشربة من الديانة التي نشأ عليها أبناؤها، وأنها في الوقت عينه (العلمانية) تحرك انساني فني ثقافي قومي وطني وحدوي، لا يتحمل وصاية طائفية، ولكنه يحترم توجه أي من أبنائه، روحيا كنسيا طائفيا.
وإذ كنا نتعامل مع مفردة القدر، بمعناها المجازي، الخاص بالمصير والمستقبل والخيار الافضل، فإن ما يريده الشعب من حياة لا بد ان يستجيب له القدر، وعندما يتوجه الشعب السورايا نحو قدر الوحدة، بمنحاها المنفتح الايجابي الفني والثقافي والقومي الوطني، فلنا ثقة بأن أصحاب القداسة والغبطة والنيافة لن يكونوا إلا في موقع المباركة لهذه الوحدة.

الاب نويل فرمان السناطي
26 مايس 2009

122
الصوت النبوي والسياسة، تصريح المطران لويس ساكو انموذجا

الاب نويل فرمان السناطي

مقدمة اعترافات شخصية

ما زلت لا ارضى عني وعن كتاباتي، وما زلت اجد نفسي، على أقل تقدير من   كتاب الكوادر الوسطى. وبقي يغلب عندي طابع الصحافي والمحلل على الكاتب والمفكر. أجدني أكثر في موقع التحقيق والقراءة والتقديم والتحليل، من موقع الادلاء والحكم والتصريح. من خلال ذلك، يكون اختيار الموضوع والكتابة بحد ذاته موقفا، خصوصا الزاوية التي استقر فيها على حساب غيرها، بدون ان يكون تأثير يذكر للانتقائية والتي في النهاية لا بد منها بشكل أو بآخر. وأراني ايضا محكوما بالمكان والزمان، والتأوين قبل السبق بالنظر، فقد يكون ما يراه غيري في المدى البعيد،  متفوقا على ما أراه من باب التأوين. وغالبا ما رأيت نفسي، في موقع الموظف في ديوان صاحبة الجلالة السلطة الخامسة (الصحافة)، أكثر من أن أكون رئيس تشريفات إن بات ثمة ما يسمى سلطة خامسة، وبالخصوص الكترونيا، في زمن باتت سواحل المواقع الالكترونية تلفظ على صفحاتها الرئيسية صورا وكتابات، لم تعد فيها تميز بين اصداف وقواقع ولآلئ وغيرها.

وحتى وان شاءت الصدف ان اكون في موقع متواضع من المسؤولية، اجد نفسي مع من بمعيتي بموقع العامل معهم اكثر من الراعي، بكل ما يبدونه من تواضع وتقييم. لعل محدودية موقعي الكتابي والصحافي في كل هذا، هو أني بقيت شماسا، وشماسا انجيليا، حتى ساعة متأخرة من نهار الكرامين، مما جعلي انطبع بما تطبعت عليه. فيما احاسب النفس، ان الاب الراحل يوسف حبي، بقي منذ مطلع شبابه الكهنوتي، متميزا بالجرأة، وكان يعرف ما كان يخسره في مواقفه، بينما، جئت الى الكرم، في مرحلة وظرف لم يعد ثمة ما ينذر بخسارته. وقد حرم ملفاننا، الاب يوسف حبي، قبل وبعد رحيله، الكثير من الامتيازات التي كان يستحقها بحيث ان صورته بقيت تطل علينا، على إحدى شاشاتنا الفضية، ضمن اعلام شعبنا وكنيستنا، دون أن تتحفنا بسيرة حياته، حتى اختفت الصورة. وهكذا وما زلت اراني أمشي على نهج قراءة فكر الاخرين، وتقديمه بين تقييم وتقويم، كي يتفهمني القارئ الكريم وأنا اليوم بصدد الحديث عن عنوان المقال.

عندما يصرح من هو محنك ويعايش الميدان

مع تفكيري المعمق في موضوع الحكم الذاتي، وتقارب رأيي في هذا الموضوع، مع رأي سيادة مار لويس ساكو، إلى أني كنت أتحاشى التطرق إليه ، ليس لسبب بشأن الاقتناع بهذا الرأي، بل لأني بقيت لا اسمح لنفسي، أن أتحدث وأنا في الخارج، بما يحق لشخص مثل المطران ساكو، وسواه، لكونهم في الداخل، فبقيت اتجنب الحديث عما قد يراه غيري في الميدان اكثر مما اراه وانا في البعد البعيد.. ومع بقاء احترامي لوجهات النظر والمواقف المغايرة احفتظت بالصمت ازاء المختلفين مع هذا الرأي والمتصرفي برأي وشكل مغاير، لسبب أني أراهم يتقدموني في فخر الانتماء الى تربة بين النهرين  بشرف معايشة واقع البلد معايشة ميدانية وجدانية، وليس افتراضية أو عن بعد. كل هذا وبعد هذا التصريح الواضح من أخي وصديقي المطران لويس ساكو، جعلني اتفاعل من باب أولى مع طروحات سيادته، مع الاحترام لرأي وطريقة تصرف الاخرين.

عرفت في الاب (ثم المطران) لويس ساكو، بعد النظر والصراحة، فبقي يجمع مع من تقدم الود بينه وبين اصدقائه وزملائه، بين المودة والمصارحة المباشرة، فعاتبني يوما، في تقييمي لمنعطف كنسي حدث بحضوره، وكان قد وضع التقييم في موقع الاشادة والاطناب، وكنت أحسب في حينها ان مطرانا جديدا في حينها، ومع الوقت المتراكم، فهمت مدى بعد نظره بشأن ذلك المنعطف الكنسي، مقابل تأويني الذي توخيت منه الايجابية.
من ناحية أخرى ومنذ السابق، استطاع (الاب لويس) كاهنا، ان يشق طريقه على مستوى الكنيسة الجامعة، بقوة ومناقبية، وبدون تنازل أو مجاملة وبدون دبلوماسية، فما كان خاسرا لترقية أسقفية استحقها بجهوده وبتقييم المنصفين، في الكنيسة الام وفي الكنيسة الجامعة ان صح هذا التعبيران. وإذا زعم أحد بأن ما قد يصرح به بين الفينة والاخرى قد يلتقى او يبتعد عن هذه الكتلة او غيرها، فليس ثمة كتلة يمكنها ان تدعي بأن المطران ساكو جاملها على حساب مبادئه ومواقفه.
ومن حسن الحظ بأن هذا الحبر الشاب والناضج، ليس مطرانا لأبرشية زنوبيا أو بيث قطراي، ولا مطرانا في مدينة نائية عن تمركز الكثافة السكانية للمسيحيين العراقيين، كاثوليك وبروتستانت، أرمن وسورايي.
بل سيادته، رئيس أساقفة مدينة ساخنة على الساحة الوطنية والاقليمية، وأخرى قدمت مطرانا شهيدا مع ثلة من الكهنة والمؤمنين الشهداء وأفواجا من المهجرين، لأسباب لم تعد خافية على أحد.

ومع الاذعان بأن ثمة ثقل أعلامي لجهة مسيحية دون غيرها، فإن هذا الموقف ليس من المواقف المبدئية التي يقفها المطران لويس ساكو وحده، فهي نظرية، تقف ضد أقلمة المدن العراقية، دعا إليها، كتاب عريقون في المجلة العراقية المسيحية (الفكر المسيحي) التي كان لي شرف أن أعمل فيها، وأتتلمذ لمدرستها، لعقد من الزمن، والمستمرة على ما اعرفه من نهجها، تحت الادارة الدومنيكية. ومن الكتاب اخص بهم على سبيل المثال لا الحصر الاستاذ الكبير الدكتور فائز عزيز اسعد. ولا أتردد من التفكير، أن لهذه المجلة قراءها وأن لها شعبا من المتعاطفين معها والمتبنين لفكرها، وما الحيلة إذا كان لمثل هذا الجمهور المخفي، يفتقد الى خيارات المنابر الاعلامية المسموعة والمرئية ذات النفوذ والدور المتكافئ في التعبير وفي التعبئة الانتخابية. 

الفرق بين مغبة أن يعمل في السياسة رجل الدين في السلطة الكنسية،
وبين حق رجل الدين في السلطة الكنسية أن يتحدث في السياسة ويتعامل معها

وأعرج الى مؤشرات كثر اللغط بشأنها منها: الخلط بين الخط العلماني الذي يفصل الديانة عن العمل السياسي، وبين عد العلمانية مرادفا للالحاد. كما يبدو لي أنه يحصل التباس لدى البعض في علاقة رجل الدين بالسياسة، في مجالي الحديث عن السياسة وامتهانها. إني مع كل من يدعون رجال الدين من سلطاتنا الكنسية، بعدم التدخل في السياسة، مع تمييز راشد للامر في هذا الموضوع، فهناك فرق بين أمرين:

الاول: مغبة العمل في السياسة لرجل الدين في السلطة الكنسية، وهذا يتمثل في جملة نقاط منها:

- لرجل الدين، أن يتعامل بمهنية وحيادية وصراحة وبتقييم واحترام، مع الذين هم في موقع خدمة شعبه ومساعدته، فإذا كان منصاعا لخطهم ونهجهم، مع عدم التعامل مع غيرهم، فهذا تدخل فاضح في السياسة.

- التدخل في شؤون السياسة لدى رجل الدين، يكون في أعلى مستويات خطورته، عندما يحمل سلاحا ميليشيا، معاذ الله، او يكون منتميا ومنتظما الى جهة حزبية، وهنا في المسيحية، المسيحية المنفتحة لأفق ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، تتدخل السلطة الكنسية العليا، في منع المسؤول الكنسي، من ممارسة واضحة للسياسة، كما حدث مع الكاهن التارك، جان برتراند اريستيذس، الرئيس المخلوع في هاييتي، او وزير الخارجية في عهد الرئيس دانيال اورتيغا في نيكاراغوا، س. لوبيز، وسواهم.
- لرجل الدين، في السطلة الكنسية، التي يمارسها، ألا يجعل من كنيسته منبرا، ولوحة اعلانات، لجهة سياسية دون غيرها، فهذا يكون، عندئذ تدخلا السياسة.

الثاني: حق رجل الدين في التحدث عن السياسة والتعامل معها
 - لرجل الدين ان يعطي حكمه ويدلي برأيه، بشؤون حياة مؤمنيه، فهذا ليس تدخلا بالسياسة
- لرجل الدين أن يعطي رأيه ويقف موقفه، اذا كانت كنائسه مغلقة، وشعبه مضطهدا، فهذا عندئذ ليس تدخلا في السياسة.
- ليس عملا في السياسة، أن يقوم رجل دين من السلطة الدينية بالتحدث في السياسة وفي مواقف السياسيين، بكل ما له مساس بظروف وأماكن عيش مؤمنيه أو يؤدي بهم إلى انحراف ايماني او جذبهم الى سلوكيات لا تقرها سواد المبادئ، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، الحديث في اسلوب معالجة الايدز، وزواج المثليين وأدلجة العلاقات الجنسية والمثلية والمواقف الالحادية، والوقوف ضد تبنيها لاغراض دعائية انتخاية... حديث رجل الدين المسؤول يرتقي عندئذ الى الصوت النبوي المطلوب في كل مرحلة، ولا يحتمل اللبس مع العمل السياسي.

مما سبق ذكره لا بد من التأكيد أن في التاريخ المسيحي الحديث والقديم، وفي الكتاب المقدس وجوها معروفة سارت ضد التيار وحاججت رجال الحكم والسياسة، وما ترددت من الادلاء برأيها، الذي عده التاريخ صوتا نبويا.

يقول الصوت النبوي قولته، للحقيقة والمبدأ والتاريخ، سواء شاءت أو أبت، نظرية الاواني المستطرقة، ان تتغير الخارطة الجغرافية في هذا المكان او ذاك. فإذا أريد، بحكم القوى العظمى، للخارطة الجغرافية، في هذه البقعة او تلك ان تتغير، فلن يزيد الزخم الاعلامي ولن ينقص شيئا في تلك المشاريع، لكن التركيز الاثني في هذه المنطقة او تلك، لا يمكن ان يجر المسيحية وراء تبعيته، وهذا توجه الصوت النبوي.

العمل السياسي.. الهوية الوطنية.. الرسالة الروحية

لا بد ان نتحدث في الموضوع بعد أن ننزه، مسيحيا، التوجه الى المشاريع السياسية على أساس من طائفة أو مذهب مسيحي. فالمسيحي يمكن ان يكون من بين الاكراد والعرب، بين الشبك والتركمان، وحيثما كان على التربة العراقية. بعدئذ يمكننا التطرق الى العمل السياسي على اساس الكيانات الاجتماعية ذات الطابع المسيحي، وتحمل خصوصية اثنية وجغرافية محددة، فنطرح جملة من النقاط قد تلهم المزيد من التفكير المعمق:

- نقرأ في واقع الحال، قيام كيانات سياسية من العراقيين المسيحيين حتى من غالبية نسبية تحمل الخصوصية الاثنية والتراثية والقومية: المتمثلة بالسورايي، ومن مختلف الكنائس والطوائف، كلدانية آشورية وسريانية. لكنه من الصعب التوفيق بين مشروعها السياسي وبين خصوصية الانتماء الديني المسيحي، على ارض نهرينية تتميز بفسيفساء من الخصوصيات القومية متمركزة هنا وهناك بنسب متفاوتة.

- المشروع السياسي لهذا الكيان أو ذاك، قدر ارتباطه بالخصوصية الاثنية لشعب السورايا، لا بد له من شيء من المنطق، في التعامل مع نسبة نجاح مشروعه من خلال توجهات المنتمين اليه، وفي اطار الانتماء الوطني لتربة بين النهرين، بابل واور ونينوى وسواها من المناطق التاريخية لارتكاز تلك خصوصيتنا الاثنية.

- ليست هذه الكيانات بالكثافة وبالتأثير الكافيين، للتعامل مع الكيانات السياسية القومية ذات الغالبية "الساحقة" ناهيك عن تشجيع القوى العظمى ذات المصالح الستراتيجية في المنطقة، لقيامات مشاريع سياسية على خلفيات مذهبية وطائفية، ذات كثافات سكانية "ماحقة".

- من المعروف ان دستورنا الفيدرالي المركزي والاقليمي، وضع في ظروف الاحتلال. ولكن من المعروف ايضا ان الحكومات التي قامت في ظل الاحتلال، تتعامل مع اجندة انسحاب المحتل "باسلوب علمي ومسؤول"، وليس ثمة في الافق، والحال هذا ان تكون هذه الحكومات غير حكومات وطنية، تتعاقب على العراق، في ظل التغيير الجيو سياسي الحاصل في المنطقة، بحيث غدا هذا الواقع مفروغا منه، وكأن التطبيع مع العراق، على مستوى دول المنطقة، يتم التعامل معه، بما قد يقارن بالتطبيع مع اسرائيل، ولا أذكر المقارنة انتقاصا في التطبيع مع اسرائيل، فكيف يكون الانتقاص بالتطبيع مع الحكومة العراقية. وعليه إن كان ثمة توجه بمتوى خطة مارشال، ان تتغير الخارطة السياسية للمنطقة على مستوى شامل، فلا حاجة أن ننجر لنصبح ورقة ضغط بين الدكاكين الصغرى.

- إلى أي مدى، يمكن لكياناتنا ان تشق طريقها، في اطار ما وضع تحت الاحتلال، بدستور الدولة الفيدرالية ذات ديمقراطية طائفية، لكيما تؤثر بمستوى المطالبة بأقلمة البصرة والانبار، بأن ترسم لها اقليميا خارطة جغرافية ما بين سهل نينوى، وجزءا من الساحل الايسر في الموصل، وقطعا من دهوك واربيل وكركوك والسليمانية، ولسنا هنا بوارد الحديث عن كثافة سكانية مسيحية في بغداد أو البصرة، فتلك المناطق غير متنازع عليها أو على جزء منها اقليميا...

- ان كان الامر بهذه اليوتوبية التعجيزية، فكم من مرة يحتمل شعبنا المسيحي، أن يهجر، وكم من مرة يحتمل أن يستهدف اساقفته وكهنته وشمامسته، ضحايا للصراع الطائفي والمذهبي والقومي بين القوى الكبرى القومية والمذهبية والطائفية ذات الغالبية الساحقة في المنطقة.

وأخير لعل التحدي الذي يواجهنا، هو ما يمكن في واقع الحال من التفاف حول مشروع عراق، يقوم دستوره على شرعة حقوق الانسان، ولا تتأثر بنوده بتوجه مذهبي أو طائفي، ولا يسمح فيه بقيام أحزاب دينية، وتكون لاحزابه وكياناته السياسية منافسات على مشاريع وطنية تحترم الديانة ولكن لا يتم املاؤها من مرجعية دون غيرها. عندئذ مرحى للديمقراطية، ومرحى للحكم الاداري حيثما استجد، على اسس من الكفاءة والمهنية. عندئذ لن يحتاج رجل دين ان يتحدث في السياسة، وان تحدث فيما يخص شؤون شعبه وظروفهم، وعندئذ سنكتفي بتصفح المواقع الالكترونية التي تعرف كيف تصدي برقي وحضارة للرأي والرأي الآخر، وحمدا لله لا تخلو مواقعنا من كتاب ذوي رقي وحضارة. 

وبعد سيدى القارئ،

لنفترض، مجرد الافتراض، أن أصواتا مماثلة لصوت المطران لويس ساكو، لا يحسب لها حساب على مستوى الصراعات السياسية الكبرى في المنطقة، أنستكثر على شعبنا السورايا المسيحي في محنته وعلى زماننا الكنسي، ان نصف مثل هذه الاصوات بوصف الصوت النبوي!

123
ذكرى عن العلامة الراحل د. حسين على محفوظ

بقلم: الاب نويل فرمان السناطي

عندما ابكيتك يا استاذنا الفقيد  د. حسين على محفوظ

... وأعود الى ديدن الكتابة بعد جفاء،
واعود لأكتب، بعد أن بقيت أكتفي لزمن، بقراءة ما يطرحه على هذه الشاشة كتاب مرموقون ومبدعون متميزون كل يوم اكثر ، لأقول: ما الذي أكتبه بعد الذي يكتبون ويحسنون ما يكتبون. حتى جاء هذا اليوم الذي أرى فيه لزاما أن أدلو بدلوي المتواضع عن ذكرى شخصية لا أكثر، فهي ليست والحق يقال ذكريات كثيرة بل واحدة عن راحلنا العراقي الكبير حسين على محفوظ.

أجل، سيدي القارئ، في زمن عراقي لا يكرم العلماء الا بعد رحيلهم،
وفي عهد حل في غفلة من الزمن، على ايقاع الجزمة الامريكية،
في وقت تم فيه ترحيل دكتاتور بعائلته الغاشمة،
لتحل محله،
بشعارات ديمقراطية ومبادئ وطنية متعكزة على القوى الاجنبية والوصاية المجاورة،
قوى اصولية تعيث في الشارع فسادا وقهرا،
ربيبة لدولة الجوار الطائفية العنصرية التوسعية،
في هذا الزمن يرحل الاستاذ الفقيه الجهبذ والمحنك الدكتور حسين علي محفوظ.

وعجبا ان رموزا في الدولة تقاطرت للتعزية برحيل العلامة د. حسين على محفوظ!
عجبا وكيف لا، عندما تسببوا امام انظاره
بمشاهد ينحر فيها العراق نحرا كل يوم مئة مرة!

وكان الخجل كل الخجل من اولئك المعزين، عايشوا وعاصروا العلامة الراحل،
بعد أن أذاقوه الأمرين من مشاهد ما اقترفوه من فساد وتهافت على السلطة
وتبار في الصراعات الطائفية والمذهبية والدينية،
ووقاحة بادية في افراغ العراق من أغلى خصوصياته القومية
الارامية بمختلف مسمياتاها الاشورية الكلدانية السريانية والمندائية هي الاولى بمواطنته.

لقد ولى نظام فردي فاسد كما أثبتت ذلك وثائق غابت عن العراقي البسيط،
وكان العشم ان تستمر أيام وأشهر أولى من انتشاء العراقيين في جو من الحرية والتعبير التلقائي وانتظار ايجابي لتحسن الاوضاع، عاشه الفقيد الكبير،
لتولد في العراق، بعد شهور لم تتعدى التسعة،
سلطات تتقاسمها، القوى الارهابية مع حكومة المحاصصة الطائفية المستوردة.

فلا لهذا العهد المقيت ولا للعهد البائد،
الفضل أي فضل في وجود عالم مثل عالمنا الكبير، د. حسين علي محفوظ.

أما بعد،

فكان لا بد من هذه المقدمة لئلا ينثر الورد لا على الشموليين الذين جثموا على انفاس العراقيين لعقود، ولا هؤلاء العنصريين الطائفيين الذين لا يقلون عن سابقيهم في الكثير مما يقترفون، من عهدين بضمن عهود أخرى، عاصرها الرجل، فنقول:

كان للدكتور محفوظ عمود صحافي تاريخي جميل في جريدة الجمهورية، ابان رئاسة تحريرها من قبل الشخصية الوطنية المعروفة سعد البزاز، الذي كان قد سعى لاشاعة المناقبية المهنية والثقافة السليمة في حقبته، سعى إلى ذلك بطموح كبير، ولكن بدون جدوى وحتى بلغ السيل الزبى، فثار على محتكر الاعلام ابن الرئيس السابق، فأصبح معارضا في الهواء الطلق، بدون التسكع على أحد سوى على قابليته وكفاءته وقلمه مما در عليه اكثر مما كان يدر على معارضين كثيرين بسخاء قوى عالمية تبين كم هي مشبوهة.

وكان لا بد من هذا التقديم، لنقول ان العمود كان في جريدة الجمهورية.

وتعود بي الذكريات الى أواخر أحد أعوام بداية التسعينيات، عندما تابعت سلسلة من مقالات العلامة، كتبها لمناسبة حلول عيد ميلاد سيدنا يسوع المسيح. فأدرج في تلك المقالات سلسلة من الكتابات عن التطويبات في مسيحية ما قبل الاسلام، لئلا أقول: ما قبل الغزو الاسلامي للبلاد والمنطقة، على حساب ضعف وتسيب اصاب جوانب من الكنيسة المحلية في الجزيرة العربية، فما هذا موضوع المقال، وهو متروك لمختصين آخرين.

وكان الحديث في مقالات راحلنا الكبير، تحديدا عن التطويبات، بلغة تحاكي لغة المعلقات والمتنبي، من لي بأن يسترجعها، الا من يعود الى بيت الفقيد، بعد ان ترك لنا تراثا مؤرشفا بكل دقة. فقد قال رحمه الرب، كما رحم الحنون الغفور، المصلوب على يمين المسيح، قال: لن يتعب من يكتب عني بعد موتي...
وذكر بأنه أعد لمن يكتب تاريخه وسيرته، كل شيء جاهزا من كتاباته ومؤلفاته وادواته حتى أشيائه الصغرى. جاء ذلك على لسان عزيزنا الدكتور، في برنامج قطار العمر، الذي كان يعده الزميل الصديق مجيد السامرائي، فاشار انه يحفظ في أماكنها حتى اعقاب الاقلام التي استخدمها، واصغر الدفاتر، واقدم الصور، وابسط المسودات.

وقلت ما قلت في أعلاه بوضوح الشمس، وأنا أرثي العلامة حسين على محفوظ ، لأملي الكبير برحمة الله ان تتغمده وتفتح عينيه على كل حقيقة رب المجد بسعادة أبدية. وهذا رجاؤنا من أي دين كنا، وحسبنا انا عشنا بما يمليه عليه ضميرنا الايماني، فلا نلجأ إلى أن نقوّل كتبنا الدينية بما يرهب الآخر ويلغيه، وبقدر ما نتعايش على المبادئ الانسانية وفق واجبات وحقوق المواطنة على ارض الوطن، والاخوة على أديم كوكبنا.

فطالما يبقى السكوت على الارهاب وتفشي تدخل الطائفة في شؤون السياسة، لا بد لنا عندما نتحدث عن القواسم التي تجمعنا بأن نضع النقاط على الحروف، لئلا يكون مديحنا لعلامة نظيف مثل الدكتور محفوظ مديحا لما بات يعرف من توجه ارهابي يدعي الانطلاق من الدين، وبعيدا عن انقياء القلوب من كل الدين اي مقارنة بهذا الشأن.
 
وحان ان أذكر ما شأن كل ما مضى ذكره، بعنوان: عندما أبكيت الدكتور حسين على محفوظ.

أجل سيدي القارئ، لقد تركت ذلك، حتى النهاية، لأصفي ما امكن من حساب عن عراق الامس بوضعه البائس، وعن عراق اليوم في وضعه المأساوي، وعن أسباب البؤس في العالم التي أحد أعمدتها الارهاب باسم الدين، وتأتي هذه السطور غداة انهيار اكثر من جدار برلين في واشنطن، برئاسة باراك حسين اوباما، والعالم يتطلع الى غد افضل على أسس الحقوق والواجبات والمصالح المتبادلة المشروعة بين الافراد والأمم، مع تطلعنا الى عراق محرر، يرحل فيه مع المحتل كل من عمل معه من اي فصيلة كان، إن كان يعرف في قرارة نفسه أنه عمل مع المحتل ضد العراق وشعبه أو تواطأ بنحو مباشر أو غير مباشر ، وعلى أمل أن يعود العراق لشعبه.

أجل يعود العنوان الى اول يوم من عام 1990، عندما تصفحت في صبيحته الاخيرة، وتحديدا جزءا كبيرا من قسمها السفلي... ماذا تصفحت: تحت توقيع د. حسين على محفوظ؟

لم يكن مقالا ولا شعرا ولا طرحا تاريخيا ولا درسا، فكان طغاة ذلك العهد ابعد الناس عن تلقي الدروس، كما هو الشأن من طائفيي اليوم. لم يكن اي شيء من هذا. بل كان كل الجزء من تلك الصفحة مخصصا لتقويم العام الجديد، بأيامه وتواريخه ومناسباته بموجب تقويم ذلك العام، لا أكثر ولا أقل.
أذهلني ذلك، حقا، ووجدت فيه تقديسا للزمن بكل وقت يمر فيه وكل ساعة. وكأن ذلك افضل هدية معبرة وكلمة بليغة تحفظ وراءها ما تحفظ.

فما كان مني إلا أن كتبت مقال تقييم نشرته الجريدة بكل نصه، مع ما تضمن من اشادة في كتابته عن التطويبات بلغة المعلقات.

ومرت اسابيع، عندما طرق سمعي لدى حضوري أحد مجالس الشعرباف، عن محاضرة للدكتور محفوظ، عن تاريخ مدينة الكاظمية، بحضور الدكتور، خالد الذكر علي الوردي. فذهبت مع قريب لي (أبو روني)، متطلع مثقف ومعجب كبير بفكر وكتابات على الوردي.

بعد المحاضرة، تقدمت الى الدكتور محفوظ وسلمت عليه وقدمت له هدية عبارة عن الانجيل المقدس. فما أن عرفني، حتى قال: أواه كم ابكيتني في ذلك المقال. وأذكر اني انحنيت بوقار كبير لهيبة شيخوخته..

وعرجنا في الوقوف قليلا مع الدكتور علي الوردي، فكان سؤال من أحد الواقفين:
- هل لك أن تكتب وتحاضر يوما عن مجتمع الكاظيمة، فقال بسرعة بديهته ما معناه إن غاب عني مبناه:

- ومن يؤمن لي على نفسي وصراحتي في الكتابة، أمام تظاهرة ساخطة من مجتمع الكاظمية؟

ثم ذهبت لاحتساء قدح حامض من نومي البصرة، في محل صياغة صديقي يوسف عبد الوهاب نصر الله، المرتكن قبالة باب المراد وقبابه الذهبية.

رحمة يا رب باستاذنا الفقيد العلامة حسين على محفوظ، وبالدكتور الراحل على الوردي، وبعراق آمن يرعى فيه يوما بنعمتك، الذئب مع الحمل.


124
تحفظ منه الكاثوليك، وبدوره تخلى عن راعيه البروتستانتي، فهل سيسقط سراب أوباما على حين غرة؟

نويل فرمان السناطي

قبل كل شيء لا بد من التوضيح، انه رغم سعيي في التحاشى المبدئي للسياسة البحتة في المقالات وترك شأنها للسياسيين، لكن الحديث هنا عن المرشح الامريكي باراك اوباما، يأتي تناوله في هذا المقال، انطلاقا من الزوايا الاتية:

من منظور اللاهوت الادبي الكاثوليكي، الاستناد على الموقف الكنسي الامريكي المناوئ للمرشح اوباما بسبب موقفه غير الواضح ضد الاجهاض.
الانتهازية في تنصل اوباما عن راعي جماعته الكنسية البروتستانتية بسبب خطب له مثيرة للجدل. وامكانية الانتماء الى الجماعات الكنسية البروتستانتية او التنقل منها، بدون أي موقف مبدئي ولا الانخراط في مرحلة تنشئة ديداكية يعلن المتتلمذ فيها ايمانه الصريح.
الموقف غير المشرف، في تبرؤ باراك حسين اوباما من كونه مسلما، مؤكدا انه مسيحي وكأنه يغسل يديه من دم يوسف، بل ان موقعه الالكتروني قام بترويج الانحدار الفكري الالحادي لوالديه، ابتعادا مما وصف بالتهمة في مجال انحداره الديني.
المتاجرة السياسية المفضوحة، بلبس القلنسوة اليهودية وزيارة حائط المبكى بولاء معلن.

بعد ملاحظة هذه المؤشرات، لا بد من التنويه بالانبهار الاولى الذي حظي به النهج الخطابي الانسيابي للمرشح الشاب، لكن الاوساط ألمحت ان هذا لم يشفع له بالتفرد بالترشيح عن الحزب الديمقراطي، لولا الصك الذي كتبه لمنافسته هيلاري بمداد نفطي. بعد هذا الانبهار لا بد من وضع المزيد من النقاط على الحروف في مقدمتها:

- التساؤل الماثل أمام المراقبين: هل هي سابقة متفردة، أن تصنع مثل هذه النجومية، بفعل المال، حتى يمتص المزيد منه في بذخ انتخابي منقطع النظير في التاريخ طرا، ثم يرعوي المتحمسون له ان المسألة لم تكن أكثر من لعبة اعلامية شديدة الحبكة؟
- في هشاشة مضافة الى مواقفة المبدئية المهزوزة،  لفت اوباما الانتباه في البدء، عندما روج لفكرة الشراكة مع الدول العربية والاسلامية الصديقة، على اساس المصلحة المشتركة في مقارعة الارهاب، لكنه لم يركز على ذلك لمجرد ان قامت تلاحقه تهمة مغازلة الارهاب.
- في خضم حملته، تم تسليط الاضواء على جانبه الشبابي والحيوي والخطابي، ولم تفرز الايام فيه رجل سلام، او رجل محبة او رجل لا عنف، او رجل تعايش، بالنحو الذي سبق أن جذب مختلف الشرائح العالمية، لكاريسما تفرد به رجل عظيم من طراز الراحل الكبير الراعي مارتن لوثر كينغ. مع ملاحظتين تتعلقان بشهيد اللاعنف لوثر كينغ:

عاش هذا الداعية في مرحلة ما قبل الحادي عشر من ايلول.
بقي معروفا بصفاء أصوله الثقافية بنحو لا يقبل الجدل، وهكذا فإن سحنته غير المختلطة بلون آخر، لم تؤثر لا من قريب ولا من بعيد على هذا الكاريسما. مما جعله هدفا واضحا ومباشرا للاغتيال وليس لمحاولات الاغتيال، التي ربما تكشف الايام انها، فيما يخص اوباما، ليست سوى من قبيل الاستهلاك الانتخابي.

وهكذا يتضح لنا اننا مع باراك اوباما، لسنا، أمام شخص من طراز الداعية الخالد المهاتما غاندي، او الزعيم الوطني الغاني كوامي نكروما، او السجين البطل نيلسون مانديلا، او الرئيس السنغالي الشاعر ليوبولد سنغور.

ما نستطيع الخلوص اليه، في هذه المعركة الانتخابية، من باب الرأي الشخصي، هو المواجهة في شخص المرشح الشاب، بين تيارين متصارعين:

المال العربي لكل ما من شأنه الترويج على انفاس وطراز من نمط باراك اوباما.
النفوذ الاسرائيلي لكل ما من شأنه إدامة اللعبة واستثمارها حتى ساعاتها الاخيرة، ثم اسدال الستارة على المسرحية.

إنها مجرد فرضية، لا نسوقها من باب التنجيم، بل لمجرد التساؤل الحائر، أمام المستقبل الذي ينتظر العالم، وينتظر بلادنا المحتلة بمناح مضاعفة:

احتلال القوات الامريكية بمصالحها الستراتيجية في المنطقة،
النفوذ الايراني الطائفي التوسعي،
صراع القوى السياسية في العراق المحتل مع تواطئات شريرة، سواء بين القوى الطائفية، أو القوى القومية ذات النفوذ، وكلها طمعا بنهش المزيد في ظل التمزق العراقي.

وبعد،

فمهما تعددت الاسباب والتأويلات بشأن الحملة الانتخابية الموشكة على النهاية، فإن ما يتم عشية الانتخابات النهائية، من تشبيه لنجاح اوباما بنجاح الرئيس جون كندي في انتخابات 1961، او الاشارة الى ان الفرصة تبقى قائمة امامه في كل الاحوال، ما هو الا بمثابة ذر الرماد على العيون.

ذلك ان لعبة السباق الى البيت الابيض، من المعروف انها تبقى تحكمها ثوابت، ومن باب أولى بعد احداث 11 أيلول، في مقدمة تلك الثوابت، ان تشجيع المتسابقين، مهما تطور، لا يعدو ان يكون استثمارا يقل نظيره، وانه، في حال لم ينفلت حقا زمام الامور، لن يتم تجاوز خطوط حمر، بموجبها تحددت مسبقا ونهائيا، قواعد الحياة السياسية ونتائج الانتخابات، أبرزها الثقافة الاصلية للرجل الامريكي المعاصر.



125
أما حان للشعب الآشوري أن يلملم جراحه ويلتم متشبثا بجذوره.

بقلم الاب نويل فرمان السناطي


الكتابة... اكثر من محنة
لقد خبر الرجل مع الذات، أنه لا يكتب للكتابة، ولا يكتب لهالة الكتابة، وخصوصا عندما يتطلع الى هذا النهر السخي من الاقلام الاصيلة التي تعانق قلمه، وكاد يستشهد بعدد من الاقلام التي تشرق على هذه الشاشة الالكترونية، وتبدع، لولا خشيته أنه عندما يكتب فيما يكتب، ويشيد بأقلام، وان اختلف معها في هذا الرأي أو ذاك، او في هذا النهج أو ذاك، يخشى أن يحرج تلك الاقلام، فتضطر، عندما لا تتفق مع ما يكتبه الرجل، ان تتبرأ منه، خصوصا عندما يكتب متأرجحا على حافة الخطوط الحمراء. وتلك واحدة من محن الكتابة.

لذا فيكتفي بالقول هنا انه معجب بكتابة 80 بالمائة من كتاب هذا الموقع، ويحبهم، وحسب كل منهم ان يجد حصته كبيرة كبيرة في تلك المحبة والاعجاب، لأنه يرى صفاء النية فيما يكتبون وذاك لعمري أحلى ما في الكتابة.

ويعرف الرجل مع الذات، كما يعرف ذلك غير قارئ، أنه لا يكتب إلا لماما (بضم الألف) ولا يكتب إلا عندما يعتصر الفكرَ مخاضُ الكتابة، في ليلة ليلاء. لكنه بات يسائل الذات أكثر من سؤال: ماذا لو حجرت كتاباته صفحات هذا الموقع، فأين له عندئذ أن يولي وجهه، وهو كما اودع صديقا اعلاميا، أن يدله على موقع مرموقا بقدر هذا الموقع، فلم يجد. ذلك أنه عرف مع الوقت، ان ما يكتبه برسالة قسيس وفكر انسان، لا يستطيع ان ينسلخ فيه عن جلد قسيس ويبقى على فكر إنسان، والعكس بالعكس. وتلك من محن الكتابة، في موقع له ثوابته التي ليس له إلا ان يحترمها.

فرأى أن يمضي في الكتابة بدون أن يضطر قلمه أن يأتي بالضرورة على ذكر كل الراحلين، ما دام في عرف اقرب المقربين إليه، ليس مخولا إلا بينه وبينه ربه المصلوب بين لصين، أن يستمطر الرحمة على أولئك الراحلين كيفما. وهنا تدعوه الكتابة بمحنتها الى المزيد من الصبر.

آشوري وكاثوليكي

ما زال الرجل يعتقد، وحتى إشعار آخر، أن الكتابة في هذا الشأن، ليست مما يستحق الحجر، وعليه يعطي نفسه الحق في القول: أنه لم يعد ثمة التباس، بأنه من الممكن أن تتنفس الروح الآشورية الأنسان الكاثوليكي، ولا أن يرفل الكاثوليكي بثوبه الأشوري، وأن هذا الثوب يمكن أن يرفل من كل من يعتز به بصرف النظر عن لهجته الطقسية وطبيعة انتمائه المسيحي.  فقد فتح لنا البابا الراحل خادم الرب على درب التطويب، مار يوحنا بولس الثاني، فتح الباب واسعا في الوحدة المسكونية، لأن نتشبث بجذورنا ونعتز بكرسي بطرس بآن واحد. وقد أثمر ذلك في أيامنا ظهور مسميات كنسية آشورية كاثوليكية، لا تضطر الآشوري الى التحدد في الاطار الكلداني، مع ما يحمله من احترام إلى كل من يعتد بهذا الاطار بقناعة عميقة.  وأقول:

إني من مواليد قرية معروفة على الحدود التركية العراقية، من قبيلة تحمل اسم بيكرا المنحدرة عن عشيرة بيخلو الاشورية، بعد أن نزح الجد الاشوري المحلي الاول من جبل تياري، في أعقاب خلاف مع ذوي العمومة. وقد التقى والد المتحدث في عسكر ليوي، بأبناء عمومته، كما توفر للمتحدث كاتب السطور بعد البحث، ان يلتقي منهم في كراج الأمانة، مع المرحوم أبي قيس يوناثن، ثم التقى بعميد العشيرة الاشورية الراحل مالك يوسف ابن مالك خوشابا، وبعد رحيله التقى بخلفه ابنه مالك بولص.

وعليه، لست الآن في الكتابة هذه، وبعد كل ما كتبت من قبل حتى جف القلم، من منطلقات نظرية ووحدوية عن الجذور المشتركة لأبناء كنيسة المشرق، إلا متسربلا عافية الانتساب الى جذور انحداري الاسري، التي تسمح لي بحمل الخصوصية الاشورية مع تشربي من معين الكنيسة الجامعة. كل ما اختلف عندي من أمر، مهما اجتهدت، هو ان  السورث الذي اتحدثه، كما تعلمته من أسرتي في الموصل، متحدين التعصب المحيط لدى أبناء انتمائنا المسيحي، بات سورثا لا لون له ولا رائحة، ولكنه محتفظ بطعم  أصالته.

إلغاء الكوتا، ما قبله وما بعده

قبل الإلغاء، كانت الساحة منفلتة أيما انفلات، بين كل المسميات الحزبية لشعبنا السورايا، وبين كل المسميات القومية، مجتمعة او مختلطة، مركبة او منفردة. ومع هذا الانفلات، كان التصارع على اشده بين العناوين في هذا الكتلة او تلك. معتمدة على ما يوفره واقع الحال من دعم مادي تعبوي باتجاه التشرذم والتقسيم، وما يدغدغ المرء من هالة في التصريح والتصريح المقابل، وفي السعي الى الضوء بأسلوب الخطف المتبادل. وكان كل ذلك على أساس الامان من خطر محدق، والاستكانة بخدر الى هذه الجهة أو تلك.

وعندما حدث ما حدث من تعاون وتفاهم بين متقاسمي العراق، على الحصص الاكبر، استراتيجيا وسياسيا، كان لا بد للمتقاسمين، أن يقللوا من فرص الصراع الديمقراطي، فيقللوا من الاصوات، ما دامت الديمقراطية التمثيلية وليس العددية تتيح لقدر ما من الاصوات الممثلة لخصوصيتا القومية والدينية، بعيدا عن الخصوصيات الدينية والطائفية لكبار المتقاسمين.

وبين ليلة وضحاها، اكتشفنا ان الاخوة أعربا كانوا أو كردا، مع كل ما يكنونه لنا من احترام ومحبة وما يوفرونه من اجواء ازدهار وتعايش، لا بد لهم إذا كان ثمة ما يخدم التحالف على الاهداف الكبرى لكل منهم، ان يتبنونه، مع الضمان ان ذلك لا يقلل من احترامهم للمسيحيين الطيبين المتسامحين....

وهكذا، امام الخطر البادي ، تنادت الاصوات، ولكن باتجاه صفين:

صف يضم مختلف الفرقاء، لا يتنازل أحدهم عن كل مفردة او تصريح صدر عن، فيدعو الى وحدة الصف، والخطاب المشترك. ويدعو في الوقت عينه، الى وحدة شعب، بدون ان يكون له بالضرورة اسم محدد. وفي هذا النحو الكثير من ذر الرماد على النار.

الصف الاخر هو الصف الخارج عن أعشار الكيانات السياسية، الماضية في التجزء، وحسب كل منها، ان يكون له شعاره ونظامه الداخلي وهيئته، ومكتبه وعلمه والمجموعة العددية لبضع عشرات أو أكثر بقليل، مما يتيح له ان يتسجل ككيان سياسي. هذا الصف الخارج عن سرب الكيانات السياسي، هو فريق الأغلبية الصامتة، الفريق الذي يقبل بالإجماع بأن يكون لهذه الاغلبية كيانها الموحد.

وبعد، إننا ندور وندور، وتدور بنا الدوائر، والفريق الاكبر، فريق الاغلبية الصامتة ينادى الى ما تبقى من تحدى، الى ابسط تحدي، ان يعلن الجميع مع الاحتفاظ بمشاريعهم السياسية وتطلعاتهم القيادية لتعبئة أكبر كم من الشعب السورايا، فيتفقون ولئن من باب تجربة الصديق الصديق عن الصديق المنتفع، فيقولون بصوت واحد: نحن هذا الشعب المسيحي الواحد، باسمنا القومي الواحد هذا، مما لا يتحمل وصاية رجل دين، من هذه الطائفة أو تلك.
وسنرى عندئذ، كم سيكون لنا من تجمعات متحاضنة، وكم سيكون لنا من ممثلين برلمانيين، في المركز او الاقليم.

خاتمة

لقد اثبت الشعب الاشوري، عبر التاريخ، أن له خصوصية قومية متشربة من لسانه ولباسه واكله وتراثه.

ولقد أثبت الشعب الآشوري، عبر أطياف مشرقة في النضال والتضحيات والشهادة، أطياف انبثقت من مختلف الطوائف المسيحية والعلمانية، من سناط إلى ألقوش، من قرولا إلى قره قوش، أثبت أنه هو الحامل بجدارة للواء الخصوصية القومية.

ولعل معطيات الأيام آخذة في التوضيح للقاصي والداني، أن أسهل الطرق لتقسيم الشعب السورايا والمضي في تجزئته، هي، بعد النيل من وحدته المسيحية العريقة، أن تستهدف فيه الخصوصية الآشورية الأصيلة.
 

126
مقاومة الغاء الكوتا تنسجم مع توجهات المقاومة الوطنية الشريفة   

نويل السناطي

من سخرية المفارقة أن زحف المعاني لمفردات تقولبت سياسيًا، مثل: المقاومة او القاعدة... على سبيل المثال لا الحصر، جعلنا نعالج هذه المفردات بالمزيد من التوضيح، لئلا تأتي بالوقع المضاد. فإذا تكلمنا في الحقل اللغوي عن القاعدة، لا بد أن نشير بأن الأمر لا يتعلق بقاعدة بن لادن سيئة الصيت. وهكذا أيضا باتت للاسف كلمة: مقاومة، تعني الارهاب الذي تمارسه التنظيمات الدينية الاصولية والصفراء، وباتت السلطات القائمة في عراق اليوم، باعلامها المركز، تقرع على هذه الوتيرة حتى اصبح في حكم المشاع، أن المقاومة مرادف للارهاب. فلم يعد يستطع المرء ان يتبين في الافق أيا هي الجهة التي يمكنها أن تمثل المقاومة العراقية الوطنية الشريفة، وضد من....

لنأخذ فرنسا مثلا. بعد عقود من الاحتلال الالماني لفرنسا، ما زال المشهد حيا في الذاكرة الفرنسية، وما زال الموضوع يلهم الاقلام، آخرها كتاب (L'Eglise catholique en France sous l'Occupation الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا تحت الاحتلال) للباحثة (Natalie Petiteau) نتالي بتيتو (وتكتب بدون ألف بعد الواو، حسب القاعدة..) وقد وضعت الباحثة في هذا الكتاب الكثير من النقاط على الحروف، ولم يعد ثمة ما يخفى على أحد، في عصر بات يتسم الى حد كبير بحرية التعبير، ويتحجم فيه بشكل نسبي ما تضعه من خطوط حمراء في كل مكان الجهات السياسية والاقتصادية المتنفذة. وعلى كل حال، فإن مثل هذا الكتاب والموضوع، يصلح ان يكون محلا وافيا لتسليط الضوء من جوانب عدة.

وفي العراق، بعد سقوط النظام السابق بأشهر اتضحت نوايا الاحتلال، مما يجعل المرء لا يستطيع البقاء مع الشكل الرمادي، فإما اللون الاسود أو الأبيض، مهما حاول المسايرة، وادعاء عدم التدخل في السياسة، قدر ما يتعلق الامر برجال الدين المسيحي، أصبح مثار تساؤل.
في عراق اليوم، أصبح الهم الشاغل نفض اليدين من أي غبار عالق بعهد الرئيس الراحل صدام حسين، وكأنه رحمه الله لم يحكم إلا وفي ظله نفر من الناس سرعان ما غادر الميدان بعد السقوط أو قبيله. وعجب من ناس كلما سقط نظام حتى ينقلبون عليه، وإذا استجد جديد يقتضي الحال، يستعيدون ذكره ممجدا، كما الحال مع الرئيس الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم رحمة الله عليه. 

أمام هذا الواقع، من المستغرب، حقا في عراق اليوم، ان نجد هناك خطين متوازيين، منتاغمين، أحدهما يمضى في اتجاه من الديمقراطية والاستقرار، والاخر ينحدر نحو التمزق والشلل وكلاهما متآلفان:

الحالة الممزقة في مركز العراق، في ظل حكومة طائفية، نجدها لا تعرف في أدبياتها، الا تشويه ما لا يمشي في خطها، و"أبلسة" من قبلها، بينما يحدث في ظلها، اذا قورن الشيء بالشيء، ما ليس بالضرورة أقل سوءا من سابقه.

الخط الثاني: ضمن حالة الاستقرار الذي يشهده الاقليم الشمالي في العراق، لأسباب وظروف معروفة، نجد سلطات الاقليم، في قنواتها المرئية والمطبوعة وسواها، تضع خطوطا حمراء في الحديث عن اي احتلال، بطريقة موازية لتوجهات "الحكومة المركزية" ويا ليتها حقا مركزية. بحيث أصبح ذوو الدوريات العراقية التي تطبع في المنطقة الشمالية، يمارسون الرقابة الذاتية، بحيث لا يصدر منها ما يزعج الجهة المضيفة.

كما ان ذوي النفوذ في الاقليم، يدافعون عن قيام حكومة طائفية في بغداد، على أساس ان اوربا ايضا شهدت احزابا مسيحية. وهذا موضوع تطول الاستفاضة بشأنه، في ما يخص المقارنة بين الواقعين، وفي ما يخص كون هذه الاحزاب سيئة الصيت في أوربا هي في الاقل وهذا اضعف الايمان، احزاب دينية وليست طائفية متصارعة طائفيا في الديانة الواحدة، مثلما قد حدث من بين ما حدث، في حي "الشعلة" ومنطقة "راس التبليط". كما ان القائمين على تلك الاحزاب، ليسوا في الأقل، ممن يجلسون القرفصاء، بعنواينهم الرسمية، أمام هذه المرجعية أو تلك.

ويدافع الوزراء الاقليميون، كما طرق سمعي مباشرة أمام ذهولي والمحيطين بي، عن التوجه السياسي الطائفي في بغداد، تحت ذريعة ان "هذه الحالة مؤقتة" وكأني بهم يشيرون من حيث لا يدرون او يدرون، إلى أنها مؤقتة، حتى يتسنى ان ينهش من جسد العراق الجريح، ما لا يستطاع أن ينهش في حالة استعادته عافيته حضاريا.

ويبقى استشهاد المطران البطل مار بولس فرج رحو، علامة مضيئة في تاريخ كنيستنا في العراق المحتل، فقد
قال بسكوته كما بكلامه (لا)، لمخططات لا يقتنع بها بمستوى متشابه كل الوطنيين العراقيين، ونادى بالعراق الموحد المتآخي المتساوي حقوقا وواجبات، حتى آخر قطرة من دمه. وباتت مسألة متابعة قاتليه وطريقة القبض على أحدهم والحكم عليه، بدون ان تكشف خيوط الجريمة ويعلن عنها، كما حدث مع قاتلي الاعلاميين، تبقى هذه المسألة تطرح اكثر من سؤال وريبة.

ويوجد غير المطران الشهيد في كنيسة العراق، ممن نحفظ اسماءهم في القلب، لهم مواقفهم غير المجاملة، لهم صمتهم واعتكافهم، لهم نفوذهم في المجالس الاسقفية المحلية، وباعهم في صياغة بياناتها. هؤلاء وغيرهم سيحفظ لهم التاريخ سجلا ذهبيا، وفيهم الامل، مع العراق المعافى، كما هم الامل مع العراق الجريح.

ان من استطاعوا ان يجاملوا النظام السابق، بنفس الطريقة التي يجاملون بها النظام الحالي، لا بد أن يجدوا مع الوقت ان دبلوماسية المجاملة في الامس، تتطلب اليوم الصراحة. لأن ما كان يسود في الامس من دبلوماسية سلكها الكثيرون، برشاقة الخروج كالشعرة من العجين، يقابلها اليوم حد من امكانية الصراحة الديمقراطية، تكون المجاملة الدبلوماسية في ظلها، أمرا نشازا، وبما يحتم على من يستطيع ان يكتب، أو من يدلي بتصريح، ألا يسكت، أمام تمادي الحكومة الطائفية في أن تكون أداة للاحتلال، ليس الامريكي فحسب، بل الايراني تحت غطاء أمريكي، في التوجه الفردي، التعصبي، بنفس طريقة الحكم الايرانية. فلا ريبة ان تكون الخصوصيات القومية الرازحة تحت ثقل الغالبية الطائفية او القومية، تفقد ابسط حقوقها، وكذا الخصوصيات القومية ذات الديانة المسيحية. وكانت الفضيحة الأخيرة، وليست أولى الفضائح ولئن كانت أشدها وطأة، في اجماع من اجمع في البرلمان العراقي المنتخب، على الغاء نظام الكوتا، لتمثيل الاقليات في المحافظات، فنسفوا الديمقراطية التمثيلية نسفا، وجعلوا، باسم الديمقراطية زورا وبهتانا، الحكم الشمولي للغالبية "الساحقة".

من هنا لا بد من ان ينفرز خط وطني شريف من المقاومة، داخل العراق وخارجه، بحيث لا يبقى اسم المقاومة مفردة تدعو الى التطير، لما اختلط فيها من تشويه اصولي ارهابي قمىء. إذ لا يعقل ان كل المقاومة تدعو الى قيام نظام شمولي كالسابق. ولا يعقل أن يكون كل المقاومين من أذناب (القاعدة) الشاذة دينيا وانسانيا.

أجل، لا بد ان يظهر الخط الابيض من الاسود، ويكون خط، طالما يتفق أنه ليس اصوليا تخريبيا، ولا يكون شموليا هلاميا، مما نستطيع ان نصفه بوضوح بالمقاومة العراقية الوطنية الشريفة.
 


127
مع مازن العراقي في مواجهة شبح الطائفية
بقلم الاب نويل فرمان السناطي

في زيارة عائلية حدثني الصديق مازن آرامايا، في معرض ذكرياته الغابرة عن العراق، عما كان يبيح للعراقي ان يعبر عن نفسه ويؤكد خصوصية انتمائه، في اطار التعايش الديني والطائفي، وبما يستند على المواطنة الصادقة. ولئن كان ذلك يومذاك، باتجاه يخدم توجهات النظام السابق، وليس على ارضية رصينة من الديمقراطية، إلا أن ما يحدث اليوم، من تنازع واحتراب، على خلفيات طائفية، هو الاخر يمس الديمقراطية الحقيقية، ويعرض مستقبل البلاد الى عدم الاستقرار.
لم يكن ببالي ان الموضوع قد يكون للصحافة، لكن في ختام سرد مازن ذكرياته، رأيت أن اطلب منه، ان يكتب ذلك، لاصوغ منه ما يصلح لقارئ اليوم، في زمن امتدت فيه الى ارض العراق، مخالب الحكم الايراني عبر المحاصصة الطائفية، لتجعل الاقليات لقمة سائغة، لشريعة الشارع وقد غدت شريعة غاب بتحريض العراقيين على بعضهم، عبر التناهش على مشاريع سياسية طائفية. ومن المفارقة ان هناك من شاء ان يتوخى جعل العراق نسخة من التجربة الايرانية كحكومة دينية، مستندة على مجرد التفوق العددي النسبي بين طائفة وأخرى برغم اشتراكها في الخصوصيات القومية عينها، فيتحكم بمصير العراق، الذين يلبسون لبوس الدين، أو رجال دين قبلوا أن يهملوا منابر افترض ان تقتصر للحث على التعايش والفضيلة، فيتدخلون في شؤون الاحزاب السياسية ويشجعون على التمييز العنصري الطائفي.
مع أن الحالة المؤسفة أصلا في إيران، تختلف عن خصوصية النسيج الاجتماعي في العراق، طائفيا ودينيا، فإنها باتت ترشح بلاد بين النهرين، إلى استمرار عدم الاستقرار الامني، لأن الحالة الايرانية تتحكم بها حكومة بخلفية دينية غالبة، في حين الحالة العراقية، طائفية وليس دينية فحسب، مما هو نذير بالاقتتال ثم الاقتتال حتى الغاء التحكم الطائفي لطرف على حساب طرف آخر، وظهور حكومة ومشاريع سياسية غير مشبوهة بالنفس الطائفي.
ولا بد من القول، إنه لو كان الحال كما هو الآن، لما كان بوسع مازن آرامايا، ان يواجه ما ما واجهه في تلك الذكريات، ولكن للأسف، ما كان الواعز في ذلك الوقت، لم يكن الديمقراطية، بل الهيمنة الشمولية الفردية لحزب واحد متفرد بالسلطة. في حين تنعكس الصورة الان، باتجاه آخر، حيث لا ديمقراطية أيضا ولكن في ظل تصفية الاخر على اسمه الطائفي.
وتحدث الشاب العراقي الاصيل مازن، سليل سرجون وآشور بانيبال قائلا: في العام 1992، عندما كنت جنديا في الجيش، مرت بي حادثة تركت بصماتها على حياتي. وكلما مرت على صفحة ذاكرتي، ازداد، والحق يقال، فخرا وحبورا، عن الموقف الذي تهيأ لي أن أتخذه. ومضى في القول:
لا يتعلق الامر بالحصول على ميدالية أولمبية او جائزة عالمية، لكن ما حدث، اجده أهم من ذلك بكثير، إذ وجدتني يومها أمام اختبار خطير، لم اتنكر فيه عن خصوصية انتمائي الديني، وفي الوقت عينه، لم تكن شائبة على المواطنة التي تسري في العروق، أجل كان الروح القدس معي واليكم ما حدث:
كنت أخدم في إحدى الوحدات العسكرية شمالي العراق، وكانت الاجازات عندنا بنظام الدورات حيث كانت كل الدورة التي تحت التمرين تحصل على إجازه (5) ايام كل 28 يوما بعد التدريب وهدا يعني ان السيارات التي كانت تقلنا تكون محجوزه لنا أساسا.
في احد ايام الالتحاق وفي اثناء صعودنا إلى السيارة صعد معنا اربع أشخاص عرفناهم من ملبسهم أنهم "رجال دين " فتكلموا مع سائق السيارة لان الكراج كان مزدحما فخصص لهم مكانا معنا نحن الجنود وعندما حثت الحافلة الخطى متوجهة الى منطقة وحدتنا، وبعد ان عبرنا سيطرة بغداد قام احد هؤلاء رجال الدين بالتكلم مع السائق وطلب منه ان يكلم الجنود فسمح له بذلك فوقف في وسط السيارة وقال: "ايها الشبان، نحن من الطائفة "الفلانية" لنا مجلس في القرية القريبة، وقد زارنا وفد من الفاتيكان وآمن بتعاليمنا وزارنا وفد من الCNN وهم يبثون لنا عبر قناتهم لمدة 20 دقيقه يوميا وبما انكم شباب البلد ساقوم بأعطائكم التبريكات واحدا واحدا". وكنت انا جالسا بالضبط في المقعد الثاني بعد مقعد السائق في (المنشأه) كما كنا نطلق عليها في العراق، وباشر الرجل عمله بالجهة المقابلة من الحافلة متوجها صعودا ليعود راجعا من صفحتنا الثانية، وفي هذه الأثناء تجمع حوالي كثير من الأصدقاء وقالوا لي ماذا ستفعل يا مازن فالرجل لا بد أنه سيسعى ليجعلك تغير دينك... وكنت انا الشخص المسيحي الوحيد في الحافلة. فقلت لهم فليأت ويتكلم سأقوم بالرد عليه. وعندما وصل الرجل الى المقعد حيث كنت، أخذ يكلم زميلي الجالس إلى جنبي، وكنت انا من صفحة النافذة، وقام بإعطائه تبريكاته، واثناء ذلك نظر الي فوجد سحنتي الحمراء، وعلى ما يبدو، عرف اني مسيحي، وبطريقة ملتوية سألني هل انت مسيحي فقلت نعم وكان كل الجنود متجمعين قريبا مني. فقال: ما أسمك؟ قلت: مازن. فقال: مازن اسم يعني مزنة والمزنة تعني الغيمه والغيمه تعني المطر، والمطر خير، فلماذا لا تصبح رجل خير يا مازن فقلت له: من قال لك اني لست رجل خير! وأحيطك علما، ان اسم مازن لا يعني ما ذكرته (مزنة) لأن مازن في المنجد تعني بيظ النمل بالظاء وليس بالضاد، فقال: يبدو انك قرأت المنجد؟ فقلت له نعم انا قرأت المنجد.
فقال يا مازن، أنا قصدي إن كان لكم شخص مريض ولا يستطيع الطب علاجه، سنقوم نحن بعلاجه، بعد أن نصلي عليه، فقلت له إن الحقيقة الواضحة التي أعرفها ويعرفها الكثيرون، ان السيد المسيح له المجد هو الذي قام بالمعجزات، فقد أحيا الموتى وطهر البرص وجعل العميان يبصرون والخرس يتكلمون. فقال لي: أنا سأعطيك بعض البركات لتكون معك. قلت له: لي كنيستي أتبرك بها، وامنا العذراء هي البركة الكبرى لنا ايضا.
عندئذ توجه الرجل بالحديث الى صديقي الجالس بجانبي، وهو أي رجل الدين، يرمقني بغضب وقال له: إسمع، هذا عدوك، لا تأكل معه ولا تشرب ولا تتكلم، قال هذا وهو يشير الي، وهم بالذهاب...
قلت له: انتظر اريد ان اصبح رجل خير، ولكن قبل ذلك أسألك سؤالا. فقال وقد انفرجت اساريره متوقعا شيئا جيدا بالنسبة إليه: إسأل. قلت: هل تعتقد ان رجل الشر يستطيع ان يزرع الخير؟ فقال: مستحيل، فالشر يصنع الشر. قلت: إذن كيف تريد أن تجعلني رجل خير وأنت أساسا رجل شر؟ فقال لي: كيف تكلمني هكذا وأنا رجل دين، فقلت: إنها الحقيقة، فإن الجالس بجانبي كان صديقي حتى هذه الحظة وأنت قلت له عني: هذا عدوك، فأنت زرعت شرا بيننا فلو قتلني غدا في أرض المعركة غدرا لأنني على غير دينه، فهذا لأنك أنت جعلته عدوي، إذن أنت رجل شر.
فكان لهذا الكلام وقع السحر على أصدقائي، فقاموا بتأنيب رجل الدين ذلك، وأجلسوه في مكانه، وأقسموا أنه إن اعاد الكلام معي لينزلوه من السيارة، عندئذ نمت في تلك اللحظة نوما هانئا، إلى ان وصلت الى وحدتي وكأني حصلت على كأس العالم، لأني لم أنكر الرب يسوع ولم أخف.
هذه كانت حكاية الصديق العراقي مازن آرامايا ذي السحنة الحمراء. وماذا بعد؟
أجل، وبعد، فان المشهد لو تكرر في هذا الزمن، لكان للمحيطين بمازن شأنًا آخر مما قال. فما الذي تحقق، في ذي السنوات؟ إذا كان شأن النظام الشمولي السابق، كتم الاصوات لما يخص الوصاية على أساس الانتماء الديني قبل الطائفي. ها نحن اليوم أمام الإلغاء، إلغاء الآخر المختلف، باسم الحكم الطائفي، لطائفة على حساب آخرى، بنحو يتوجه الالغاء المعنوي والسياسي والاجتماعي بما في ذلك التصفية الجسدية وبتحريضات مذهبية طائفية.

ولعلها بالتالي دعوة من مختلف الاهالي الأبرياء، إلى عمال العراق الاسخياء ومثقفيه المنفتحين النجباء وعلمانييه الملتزمين المؤمنين الأصفياء، أن حان زمنكم، لتتحدوا، فاتحدوا.

128
مار باواي سورو
كاريسما الوحدة بالحكمة والشجاعة

بقلم أ. نويل فرمان السناطي
-------------------------

قرات التصريح الذي ادلى به المطران باوي سورو. ولما كان مثل هذا التصريح منشورا على الشبكة الالكترونية، فهمت أن الغرض منه هو تفعيل الاراء بشأنه. وكنت، بادئ ذي بدء، وقبل الدخول في قراءة صلب النص، فهمت ايضا ان سيادة المطران ينوي التوعية بشأن طبيعة الخطوة التي يفكر ان يخطوها مع الملتفين حوله، وان الامر يتعلق بالتعريف بشأن ما وصلت اليه الاجراءات الادارية الحكومية ذات الصلة بحركته، ورسم ملامح النهج اللاحق لعمله. كل هذا، قبل ان التفت، وأنا في خضم التفكير في الاراء التي باتت تتبلور لدي، الى ان سيادته، يقدم نوعا من التصريح المتناظر مع ما تحمل الصفحة الرئيسية لموقع عنكاوا من دعوة نشرت باللغة الارامية بشأن المحبة والتسامح، فالتفت الى ان الدعوة اياها، تضمنت تعميما بشأن تلك الاجراءات الحكومية.

والواقع فرحت من جانبي، ان حركة الاسقف الشاب، تحررت من غلال الشؤون المادية، لتفصح مع الزمن القادم، عن رونقها الروحي الانجيلي المسكوني الوحدوي. وهكذا رأيت من جانبي، وقد سبق وأن كتبت في مواضيع تخص الشأن الوحدي لكنائسنا المشرقية، أعني  كنيسة المشرق، الكنيسة الشرقية وكنيسة الكلدان الكاثوليك، رأيت، وقبل التفاعل الشخصي المباشر والثنائي، مع الخبرة الوحدوية التي يعيشها سيادته، ان يكون ذلك على الصفحات الالكترونية. اما ما يعرفه عني وعن ارائي في خطواته، فهو بغنى ان ابثها له برسالة شخصية او اتصال هاتفي.

عود على بدء
-----------
واذا كنت اكتب هذا المقال، فان الموضوع ليس جديدا علي، سواء ما كتبته في سلسلة مقالات صدرت في جريدة بهرا، في عام 2004 او مقال مشترك مع الاستاذ موشي داود اوراهم على صفحة مجلة الفكر المسيحي، قبل عدة سنوات. على اني اشعر الان بالمزيد من الارتياح، لما وجدته من تناغم في خطوات مار باوي، مع الافكار التي طرحتها، في مقالي السابق على صفحة موقع عنكاوا، تحت عنوان: (آمال متجددة لوحدة أبناء بيث نهرين، مؤشرات واستقراءات) وهو متوفر للقارئ تحت الرابط
http://www.ankawa.com/forum/index.php?action=profile;u=23154;sa=showPosts
نشر ذلك المقال،  في تموز 2006 قبل عام ونيف، واعترف الان ان لهجته كان يشوبها نوع من الحذر والخفر، لاسباب كهنوتية شخصية، ما كنت في حينها استطيع ان افصح اكثر مما افصحت عنه. أما اليوم فيبدو ان الغربة اكسبت المرء المزيد من الجرأة والتوضيح اكثر من التنويه، وان "المطر بعد كل ذي البلل لم يعد منه ملل". على ان الرسالة كانت وصلت في حينها الى الكثيرين من القراء الكرام، منهم على سبيل المثال لا الحصر، الاستاذ جبرائيل ماركو، أحد الناشطين والمنظرين في الشأن القومي لأبناء الكنائس المشرقية، الذي بادر فوجه لي رسالة تقييم طيبة ودعوة كريمة لحضور احد المؤتمرات.
أجل، أخي القارئ النبيه، لقد آن الاوان لأقول اني فكرت بمار باواي سورو، عندما كتبت ما كتبت في الفقرة المعنونة (كاريسما - مواهبية الوحدة في تاريخ كنيسة المشرق) وجاء فيها:
....ولا بد من الاعتراف، أن الشخصية ذات موهبة الكاريسما نحو الوحدة، بقيت عبر التاريخ بحاجة الى التفاف جماهيري، لو كان قد حدث ، لما كـُنـّا في الحال الذي نحن عليه. وهذه الحاجة تبقى قائمة على المستويين، العائلة الكاثوليكية، والعائلة الارثوذكسية. ((والعائلة الارثوذكسية، درج الباحثون، أبرزهم جان بيير فاولنيي، مؤلف الكتاب الموسوعي، موت حياة مسيحيي الشرق الاوسط، درجوا يضمنهونها اجنحة الكنائس المشرقية غير الكاثوليكية، فهي كنائس رسولية ايضا وبامتياز- توضيح كاتب المقال الحالي). ولا بد من القول أيضا، أنه حتى الجماعات الكنسية البروتستانتية، تعيش هاجس الوحدة المسكونية، كجدلية مطلوبة في الهوية المسيحية. وإن المسيحية (بقدر ما يناسبها هذا الاسم) إذا تحولت الى عنصر بموقع ادنى في خدمة التكتل القومي، دون بشرى الانجيل، تبقى تواجه أحد أخطر التحديات التي بقيت تتكرر عبر التاريخ، منذ عهد الملك قسطنطين، ولحد الان. وهذا الخطر بخضوع الكنيسة للتوجه القومي، على حساب التوجه الراعوي الانجيلي (نسبة الى الانجيل وليس الى الكنائس الانجيلية...) يشكل تهديدًا جذريا للهوية المسيحية الرسولية الجامعة الكاثوليكية.
وكان اسم الاسقف مار باوي في ذهني وكذلك واقع الحال بمختلف عناوينه المشجعة والمحبطة، وانا اكتب في ذلك المقال الفقرة الختامية الموسومة بعنوان (آمال معقودة على خطى البطريركين يوحنا سولاقا ويوحنا الثامن هرمز) وجاء فيها:
إزاء ما تناولناه من مخاطر ظهور كنائس مجهرية، منغلقة على الخصوصيات القومية لأتباعها، ومنغلقة على الرسالة المسيحية في الوحدة، تبقى الامال معقودة على الاصوات النبوية المواهبية ذات كاريسما الوحدة. اولئك الذين يتخذون الوحدة، كثمرة للمحبة والسلام، ويحملونها في شغاف القلب، كقضية ورسالة واستجابة لنداء المسيح، في أحلك الظروف، خصوصا عند ابتعاد هذه الرئاسة الكنسية أو تلك، عن المسار الوحدوي، وانشغالها بالشأن القومي على حساب الشأن الروحي والراعوي. وينطبق عليهم قول القديس غريغوريوس الكبير: ليس هناك من يلحق الأذى بالكنيسة، أكثر من أولئك الذين لهم صورة القداسة ولقبها، ولكنهم يتصرفون تصرفا فاسدا.
بل إن هذه الاتجاهات التكتلية، هي أكثر من أي وقت آخر، أضعف من جانب الايمان المسيحي، وهي أكثر ضعفا من الجهات التي كانت في عهد القطبين مار يوحنا سولاقا وما يوحنا الثامن هرمز. ودليل هذا الضعف هو ما يستخدم من شراسة وضراوة، ضد الوحدويين المسكونيّين حاملي رسالة الوحدة. وإن الأقطاب المنافسة لها في كنائسها الأصلية، لن تملك مع الزمن الا الاحتجاب والالتغاء، على حساب المزيد من الاستجابة لدى رعاة الاقطاب الوحدوية المتزايدة، من صعيد الالتحام بين الفروع الأصيلة في التجمعات الثقافية والكنسية، إلى صعيد الانفتاح الثقافي الحضاري والوحدة المسكونية الجامعة الى وحدة القاعدة الشعبية على المستوى العلماني الايجابي الملتزم، بمعزل عن نفوذ عندما يفتضح تقسيميا وتعصبيا.
 وإن الأصوات النبوية اذا اجتمعت لديها السلطة الراعوية واستقطبت الالتفاف الجماهيري، هي المنقذة للمسار المصيري للوحدة، لتضعه في الخط الصحيح، بقدر ما تكتمل فيها، مع الوقت، المصداقية المرجوة في نبوة غمالائيل في أعمال الرسل، الذي اعطى الفرصة للزمن، بان يتبين المعدن الأصيل من المزيف، المسكون بدعوة الوحدة والمتجه بكفاءته ونزاهته الى صفات القداسة فالغبطة في كنيسة المشرق الموحدة.

تطلعات طموحة لصالح الكنيسة الشرقية القديمة
-------------------------------------------
ولا بد من التأكيد ان الاماني في المقال السابق، كانت باتجاه التفاعل مع الكنيسة الشرقية القديمة، لاعتبارات كثيرة:
- الحنكة التي ابداها البطريرك مار أدي، سواء في التعامل مع الاحداث الداخلية للكنيسة الشرقية القديمة، او في الانفتاح الايجابي الرزين مع كنيسة المشرق الكلدانية الكاثوليكية.
- سعي الكنيسة الشرقية القديمة للتعامل المتوازن مع التوجهات الداخلية القبلية والعشائرية، والانفتاح الى رسالة الكنيسة الشرقية ككنيسة جاثاليقية، بما تحمل مفردة جاثاليقية من مضامين مسكونية.
- نجاح التجربة الاعلامية لبطريركية الكنيسة الشرقية، خصوصا عبر مجلة الافق الغراء، والتي اعترف اني كنت، خلال المدة الاولى من صدورها، احد المتحفظين بشأنها، حتى لمست فيها ما لمست من انفتاح وسعة صدر وجرأة...

حفاظًا على الخصوصية الاشورية المتمزية في صيانة النسيج القومي
---------------------------------------------------------------

إن الدعوة الى تشجيع خطوات الاتحاد باتجاه الكنيسة الشرقية القديمة، تستهدف ضمانا أكبر لبقاء جناح مار باوي في المحور القومي الاشوري، قد لا يتوفر بالكيفية عينها لدى كنيسة الكلدان، برغم نجاح مماثل جزئي لصيانة المحور القومي الاشوري على مستوى هذه الكنيسة في ايران، والتي يغلب في تسميتها، تدوال اسم الكنيسة الاشورية الكاثوليكية في ايران. وان الانضمام الى الكنيسة الشرقية،  كفيل بضمان عدم الذوبان في الحد الادنى من الخصوصية القومية الذي ظهر في اجنحة متعددة من الكنيسة الكلدانية، باستثناء بعض منها ابرزه محور مار سرهد جمو على سبيل المثال لا  الحصر.

الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، شؤون وشجون
لكن المسألة الاخرى التي تدعو الى تشجيع الحركة التصحيحية باتجاه الخط المسكوني على مستوى الكنيسة الجامعة، والوحدوي على مستوى الكنائس المشرقية، بالانضمام الى الكنيسة الشرقية، هي مسألة فيها شؤون وشجون، نختصرها بما يتهيأ من وضوح ، وهي:
مع اني كمسيحي كاثوليكي من انحدار عائلي آشوري، وضمن خدمة الطاعة المقتنعة والواثقة التي ادينها لكنيسة روما ، ومع الاقتناع الشخصي المطلق بأن الكنيسة الكاثوليكية هي وريثة مار بطرس هامة الرسل وخادم خدام الرب بالمحبة، فإن كنيستنا الام هذه، كنيسة روما، وبحسب ما اظهرته حالات تاريخية، تبين انها بقدر ما تستقطب الاتحاد معها من لدن اجنحة من الكنائس الرسولية القومية، فإنها تبقى على قدم وساق من التناظر في الخطوات المسكونية مع الرئاسات الروحية للكنائس غير الكاثوليكية، وتحديدا تلك الشقيقة مع الكنائس المنضوية تحت لواء روما وبمعزل عنها وبنحو مقصود لا استطيع شخصيا استيعابه، ولا بد ان وارءه أسبابا لا أحيط بها ، وآمل بثقة بنوية، أن يتطور الأمر نحو الاحسن، كما حدثت تطورات على صعد اخرى.

أحد أمثلة الذوبان للكنائس التي ارتبطت منذ قرون مع كنيسة روما، ما جاء بهذا الصدد في ما سمي بصرخة اسقف بعلبك في سينودس من اجل آسيا، في نهاية تسعينيات القرن العشرين، الذي اشتكى من المحدودية الادارية الذي تعيشها الكنائس المرتبطة بروما على حساب خصوصيتها التراثية والثقافية. وعلى ضوء ذلك اجاب الكردينال اتشيغاراي عن سؤال طرحه عليه مراسل الصحافة الفرنسية في روما بشأن رأيه في هذه الصرخة، عندما أطلق تصريحه الشهير: ما ان يحصل اتفاق بين الكرسي الرسولي والكنائس غير الكاثوليكية، على أولوية البابا، فان الكنائس الاخرى المتحدة سابقا مع روما تذوب من حالها...
ولا بد وأن للكرسي الرسولي توجهات وسياقات في الخطوات المسكونية، تفوق استيعاب الكثيرين منا، فيكون لها ما يبررها، من ذلك ما ذكر عن اجراءت روما تجاه الخطوات الوحدوية بين كنائس انطاكيا، وكذلك الخطوات الانفرادية بين روما وكنيسة المشرق الاشورية في نهاية عام 1994 التي تمت بمعزل عن شقيقتها الكنيسة الكلدانية، وبالرغم من الخطوات الشجاعة التي قام بها البطريرك خالد الذكر مار روفائيل الاول بيداويد في التفاعل الوحدوي مع كنيسة المشرق الشقيقة، لكن التكتلات القومية الفئوية والقبلية التعصبية المريضة في كلا الكنيستين، حالت دون ان تتقدم حثيثا خطوات الوحدة. من هذا يمكننا ان نستخلص:

في حالة الانضواء مع الكنيسة الكلدانية، قد تؤول الى الذوبان، هذه التجربة التصحيحية للاسقف الوحدي، لاسباب لا يسمح الظرف بالتطرق اليها. كما ان في شرائح من الكنيسة الكلدانية تعصب فئوي اصابها بعدوى مضاعفة من شرائح مماثلة في التعصب على جانب كنيسة المشرق. لكن التعصب البادي في هذه الكنيسة ينطلق لدى الاساقفة والعلمانيين معا، بعكس التعصب الكلداني، الذي على ما أظن يغلب لدى العلمانيين.
وهكذا ان انضواء الحركة التصحيحية المسكونية الوحدية الى الكنيسة الشرقية القديمة، كفيل بأن يعطيها المزيد من الدفع في خطواتها الايجابية، مع الاحتفاظ بالتراث القومي الاشوري لابناء هذه الكنيسة، كما ان خطواتها المسكونية تجاه روما، ستكون أكثر قوة مما سيجعلها تحافظ على الكثير من الخصوصية والاستقلالية، واذا استطاع الاسقف الوحدوي سورو ضمن الكنيسة الشرقية ووتحت ابوة وريادة البطريرك مار ادي، عندئذ ستكون خطوات التفاعل من لدن الكنيسة الكلدانية، بقدر تلقائية التفاعل، في حينها، بينها وبين كنيسة المشرق، في اعقاب اللقاء الايديولوجي الوحدوي التاريخي، بين رئيس الكنيسة الكاثوليكية، ورئيس كنيسة المشرق الاثورية، في روما.

وبعد، لا بد من الاشارة في نهاية هذا المقال، الى ان من يحذرون من الخطوات الوحدوية نحو الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، على اسس قبلية او سياسية، انما يحكمون على كنائسهم، بأن تبقى كنائس مجهرية غير متفاعلة مع رسالتها الانجيلية الجامعة. ذلك ان الخطوة التاريخية للبطريرك مار يوحنا سولاقا، شهيد الوحدة، كانت وستبقى المسار الى الامام، لا نملك الا ان نفتخر به. اما الاحباط الذي يرافقنا بتذبذب التسمية القومية، وتعدد التسميات، فكل هذا لا يكون ذا بال يذكر، إذا قورن حالنا قياسا بنعمة الوحدة تحت قبة مار بطرس. ومن هنا، قد لا تلقى تشجيعا من غيري ايضا، في الظرف الحالي، خطوات وحدوية مسكونية لحركة التصحيح، باتجاه الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. ذلك ان هذه الكنيسة، كنيستنا التي احب بكل ما لديها وما فيها فهي تبقى الام ايضا، هذه الكنيسة التي باتت اكبر اتساعا في الاغتراب منها في الداخل، متجهة، بحكم تراكم الزمن، شاءت أم أبت، عاجلا ام آجلا، متجهة نحو الانصهار والذوبان، وفقدان الخصوصية التراثية والليتورجية والقومية. خصوصا وان سياق الانصهار والذوبان قد انتهجته قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، بحيث باتت متأخرة للحاق بتوجهات الفاتيكاني الثاني الذي بقي منذئذ يؤكد على الكنائس بالمحافظة على تراثها وخصوصيتها، بما لا يتناقض مع رسالة الكنيسة الجامعة لنقل بشرى الرب الى كل المعمورة،
وأخيرا وليس آخرا، لو عرفنا ان لا خلاف ايديولوجي بين الكنائس المشرقية، كان لا بد للمزيد من الانسيابية في حركة الابناء فيما بينهم، وبين كنائسهم المشرقية القومية، مثل الماء في الاواني المستطرقة. ولو اضطلعت قاعدة المؤمنين وجموع الكهنة بهذه الدالة بين الاخوة وأبناء العمومة، لكان كل اسقف او رأس كنيسة من كنائسنا المشرقية، يحسب الحساب، كل الحساب، في التعامل المسؤول مع ابناء رعيته وكهنته.
 وفي الختام، هذه همسة محبة في إذن المطران مار باوي سورو: لا اعتقد ان الكنيسة الشرقية القديمة، بحاجة الى تفاوض، فهي ايضا بمثابة البيت الام، يفتح للابناء بدون موعد او اتفاق مسبق.

129
الكوميدي دريد وتقليد الوسام لحمار اللحام

بقلم الكاتب نويل فرمان

يذكر ان طفلا صغيرا من أبناء شمالنا العزيز، ولد بكرًا لعائلته، التي خشيت عليه الكثير فرصعت صدره، بالحجابات المربعة والمثلثة المخيطة على كتابات الدعوات والصلاوات بالستر والعافية، الى جانب عدد من الايقونات وما يسمى بالودعايات من عظم العاج وسن الفيل ومن التوركواز على طراز سبع عيون. وكانت الام كلما تحركت بالطفل على ذراعها، تحركت معها كل تلك الناشين المرصعة على صدر صغيرها.

وفي أحد الأيام، صعد الى القرية مطران الابرشية، لمتابعة شؤونها، ولم التقادم السنوية، وبقي لمدة أطول للاشراف على بناء بعض الكنائس في قرى المنطقة. فكانت الفرصة أن تأخذ الام طفلها البكر، الى المطران بعد أن حرصت ان تلبسه الدراعة المرصعة بتلك الايقونات والميداليات الفضية والذهبية والحجابات الملونة والودعايات وقطع السبع عيون. ولعلها كانت تمني النفس بأنها سوف تستحق اطراء راعي الابرشية على ما زينت به صدر وليدها.

وجاءت الأم بابنها الاسقف الجليل، ذي اللحية البيضاء الكثة، وطلبت منه بخشوع ان يبارك الصبي. فانشرح ثغر مار يوحنا نيسان على منظر الصدر المحمل بكل تلك الشارات، فقال لها، بسرعة بديهته المعروفة: ما بالك يا ابنتي زينت الصبي بكل هذه الشارات، حتى البغل الجديد لا يزين هكذا!

تمر السنوات، وتحدث الصفحة الاولى للحرب الايرانية الفارسية التوسعية على العراق، التي دامت سنوات بوصاية أمريكية مفضوحة، وقبل ان تحل الصحفة الثانية من العدوان الايراني الفارسي على العراق منذ 2003 في ظل الدبابة الامريكية. خلال تلك الصفحة الاولى من الحرب، درج الرئيس العراقي السابق قبل سقوط نظامه وقبل أسره ثم إعدامه المشهود على أيد برزت فيها الاصابع الايرانية وبإخراج طائفي محكم من الصهيونية والامبريالية الامريكية.

ومن المفارقة أن يشهد الصبي إياه  في كبره، موسم ترصيع النياشين والانواط على صدر المقاتلين. وما مكان للرئيس الراحل رحمه الله، في خضم أسراب المتقدمين الى التنويط أن يميز منهم من كان قد ادرج اسمه في غفلة من الزمن، ليكون محسوبا ضمن الشجعان. وقد توالت الكثير من القصص والروايات على من لم يستحقوا التكريم، أو من فاتهم التكريم، فكان رحمه الله لا يتوانى من منح النوط لمن اهمل اسمه، بعد أن يتبين له مدى استحقاقه ومدى الغبن اللاحق به، مثل السفير الراحل المرحوم عبد الودود الشيخلي.

وفي تلك السنوات تفتقت قريحة الفنان الكوميدي على تمثيل اولئك المكرمين بدون استحقاق، بمشهد كان فيه يقلد حمارًا شيئا من تلك النياشين.

ولكن يبقى القول، ان التكريم لا يقلل من سخاء الشخص الذي يقوم بالتكريم، ولا من حسن نيته، كما ان الحمار المزين بمختلف النياشين لا بد وان تنسحب فضيلة زينته على صاحبه اللحام الثري بأنواع اللحوم، وما يحمل حماره الانيق من نفائس.كما يبقى الحمار يهتز زهوا كلما صفقوا له، ويتبختر بأذنيه ذات اليمين والشمال، وهو في كل حسبانه، أن الفضل كل الفضل يعود له قبل لسيده اللحام. ولله تعالى في خلقه شؤون.

130
الجماعة الكلدانية في ساسكاتون- كندا
تستقبل مطران الكنيسة الكاثوليكية في المدينة
[/color]

استقبلت الجماعة الكلدانية في مدينة ساسكاتون بولاية ساكاتشوين الكندية، سيادة ألبرت لوغات، مطران الكنيسة الكاثوليكية (الرومان الكاثوليك) في المدينة، في عصر يوم الاحد 17 كانون الاول ديسمبر، وذلك في مركز خورنة القلب الأقدس للكلدان في ساسكاتون، علما بأن سيادته هو الاسقف الكاثوليكي المحلي الذي ترتبط الجالية الكلدانية برعايته قانونا، بالتنسيق مع الزائر الرسولي للكلدان في كندا، سيادة المطران ابراهيم ابراهيم.
وجاءت زيارة المطران لوغات كزيارة راعوية للاطمئنان على أحوال الجماعة، ومواكبة استعداداتها لاستقبال أعياد الميلاد، وكذلك لتأكيد حرصه على ازدهار هذه الجماعة وتعويله على مستقبلها في المنطقة، برغم كل الصعوبات.
وكان في استقبال المطران ألبرت لوغات وبصحبته النائب الابرشي الأب بول دونليفي، الاب نويل فرمان السناطي، الذي رحب به باسم الجماعة وباسمه، وعبر عن السرور بمقدم سيادته وعن امتنانهم لرعايته الابوية.
وذكر المطران لوغات في معرض حديثه انه بالتنسيق مع سيادة المطران ابراهيم ابراهيم الزائر الرسولي، والذي بدوره يتواصل مع بطريركية بابل على الكلدان، فقد جاء لزيارة الجماعة، للوقوف على أوضاعها، ولتنظيم خدمتها الكنسية، مع ما يتوفر من امكانات حالية لخدمة الجماعة الكلدانية في غربي كندا، في كل من ولاية ساسكاتشوين وولاية ألبرتا. وبناء على واقع الحال، في الوقت الحاضر، بوجود كاهن كلداني واحد، في المنطقة، فإنه وبمتابعة من لدن سيادة المطران ابراهيم، وبالتسيق مع المطران هنري رئيس أساقفة كالكاري، فقد تم ترتيب خدمة الجماعة الكلدانية في مدينة ساساكاتون (ولاية ساسكاتشوين)، بشكل منسق مع خدمة الجماعة الكلدانية في مدينة كالكاري (ولاية ألبرتا).
ووضح سيادته، أنه بناء على ما سبق وتم تدبيره في الجولة الأخيرة الزائر الرسولي مار ابراهيم ابراهيم (في مطلع شهر آب أوغسطس الماضي) كان قد تنسب الاب نويل فرمان السناطي للاستقرار في مدينة كالكاري وتأمين الخدمة فيها، إلى جانب للخدمة التي تنسب أن يؤديها أيضا في ساسكاتون، بحيث يستطيع بمتابعة المطرانية، أن يتواجد في ساسكاتون لإقامة القداس والخدمات الكهنوتية بين أحد وأحد، مع حرص المطرانية على تأمين قداس للجماعة من الكهنة المحليين يشارك فيه المؤمنون بقراءات من الكتاب المقدس وتراتيل باللغة الكلدانية.
وأضاف سيادته أنه يعول على تواصل الخدمة في هذه الجماعة، لحرصه على ديمومتها ومستقبلها، معتمدا على تواصلها وتآزرها مع المطرانية ومشاركاتهم السخية روحيا وماديا.
وتناول الحديث النائب الأبرشي الاب بول دونليفي، وقال ما أن طلب منه سيادة المطران لوغات، تأمين الخدمة غير المنقطعة للقداديس للمؤمنين الكلدان في ساسكاتون، وما أن فاتح بهذا الشأن الإخوة الكهنة، حتى كانت الاستجابات من قبلهم فورية، والاستعداد لخدمتهم الكهنوتية، في المدة التي يكون فيها الكاهن الكلداني متواجدا في كالكاري، من قداس وخدمات طوارئ.
وشارك المؤمنون أبناء كنيسة المشرق الكلدانية الكاثوليكية، في الحديث والتعليق والاستفسار، ضمن محاور تستهدف معظمها، حرصهم على أن يحظوا بالخدمة الكنسية على الطقس الكلداني، والحرص على الاستخدام السليم لوظائف المبنى الذي هو بتصرفهم، من وظائف طقوسية كنسية، إلى انشطة اجتماعية وإلى أنشطة التعليم المسيحي.
وعبر الاب نويل السناطي في نهاية اللقاء على الامتنان تجاه سيادة المطران لرعايته الابوية على ديمومة الخدمة في الجماعة الكلدانية، معولا على ازدهارها بمدى تعاونها ووحدتها وتجاوبها مع تطلعات المطرانية والكنيسة.
وفي الختام، ابتهل سيادة المطران الى الرب ليغدق ببركاته على هذه الرعية الكلدانية ويمطر عليها نعم الميلاد القادم. واستغرق اللقاء زهاء الساعتين، بعدها غادر مار ألبرت لوغات مودعا بالحفاوة التي استقبل فيها.[/b][/font][/size]



131
الأب نويل السناطي
يوم اشتكى أمامنا الرئيس اللبناني:
(إعلامنا في حوزة الممولين... )  أوراق لبنانية 2-2
[/color]

تعكس صفحة الأحداث في لبنان الممتحن، مرآة ما كان يستقرؤه المراقبون، وآشر عليه بطريقة أو أخرى، الرئيس اللبناني، بلهجة لم تخلو من مرارة، منذ زمن ليس بالبعيد، قبل أن تشتعل الساحة اللبنانية على صفيح ساخن.
ملخص الملاحظة التي أوردها الرئيس أميل لحود، هو صعوبة الربط بين الإعلام والتمويل، وأن الكثير من الوسائل الاعلامية، باتت خاضعة تحت نفوذ مموليها. كان ذلك في لقاء ضمنا في قصره، مجموعة من اعلاميي الشرق الأوسط للصحافة الكاثوليكية، بعد مدة من سقوط النظام السابق، أيام كان إعلاميو العراق، يعيشون في زمن الاحلام الوردية. وكان من الوفد العراقي أيضا، الاستاذ عادل دنو مدير تلفزيون آشور، والاخت زاهدة سعيد الدومنيكية مديرة إدارة مجلة الفكر المسيحي. كنا وصلنا، في الصباح قبيل المقابلة بساعتين، بعد 16 ساعة من الطريق البري.
حينها وقف أمين عام الاتحاد الأب طوني خضرا، ليلقي الضوء على الشعار المنعقد المؤتمر حوله "الاعلام المسيحي والقضايا العربية الملحة"، على أمل أن يكون الإعلام المسيحي مستقلا وإنموذجا للاعلام على الساحة العربية، متميزا بما سمي بالمناقبية الصحافية، واضعا الخبر وأهميته، حسب الأوليات الصحافية، بعيدا عن نفوذ خارجي، فيكون الاختيار، موضوعيا اختيار التأوين والساعة.
وكان الإعلامي الكبير أديب نجيب سلامة، الذي توفي إلى رحمة الله، بعد اللقاء  ببضع أشهر، قد أشر على ضرورة إقامة إستراتيجية إعلامية على مستوى الشرق الأوسط. كما ميز بين المطبوعات الدورية الدينية كلسان حال الجهات التي تصدرها... وبين الوسائل الاعلامية المستقلة.
فيما تطلع كاتب السطور في كلمته كنائب إقليم الشرق الأوسط، إلى ما ينتظر من الإعلام العراقي في مرحلته الجديدة، أن يكون إعلاما يحترم التعددية والاختلاف، ويغتني بهما. وكان المرء ينبهر بنسبة الأمان المتوفر. حتى كان زميلنا الأب طوني يقود السيارة، وهو يهاتف خلويا، أعضاء الوفد اللاحقين به، إلى حيث وصل، ومتى يستدير الساحة، ومتى يدخل الى أرجاء القصر الجمهوري. كانت الاسماء، لدى الحرس، ثم عند باب القاعة، تسلم موظفون مفاتيح السيارات، ليأخذوها إلى المرآب، ليعيدونها عند انتهاء المقابلة. فيدخل الوفد، مباشرة الى الصالة ثم إلى القاعة، بلا تفتيش، ولا مدخل الكتروني، ولا مسافة زمنية لتضييع بوصلة مسار الرئيس وبرنامجه. في القاعة رحب بنا المستشار الاعلامي، الأستاذ رفيق شلالة، وما هي إلا ربع ساعة، حتى دخل الرئيس وجلس، وسمع المتحدثين ثم تحدث، ليكشف معاناة لبنانية من نمط غير مألوف، في المنطقة العربية، حيث الاعلام هادف موجه. بل أشار منذئذ إلى نوع من الفلتان في التصريحات. وتناول الأخبار من زوايا متضادة.
  وهنا تستجد المقارنة. ففي مرحلة من المراحل، كاد الإعلام في العراق، يبز في حصانته، نقيضين من الاعلام، في كل من إيران ولبنان.
ففي إيران الجمهورية الاسلامية، لا يختلف كثيرون، على أن الإعلام فيها، هو إعلام أحادي تلقيني تعليمي من طرف واحد، لحد أنه إعلام يلقن الطوائف الاخرى والمذاهب الاخرى، ما يراه مسموحا أن ينشر عن تعاليمها الدينية.
وفي لبنان، الطرف الآخر من النقيض، نشر وصحافة، تقدح بالآخر وتنشر الغسيل، وهجوم إعلامي مذهبي يقابله هجوم مضاد، وهكذا دواليك. حتى وصل الحال، ليحتل الطائفيون الساحة والشاشة، ويتبارى الساسة التهجم لحد الشتيمة.
أما ما كان يستهدفه الاعلام في العراق، زمن الأحلام الوردية، فكان حرية الطرح الفكري والمذهبي، على أن لا يحصل تهجم على معتقد الاخر ومذهبه.
أما ما يحدث اليوم، من صورة على الساحة اللبنانية، فيعكس الانفلات الاعلامي بين الفرقاء، وتراشق الاتهامات، واستمرار القنوات الاعلامية على نهج لترسيخ الهوة بين المختلفين، بعيدا عن أي لون من الحوار.
أجل إن انفلات التصريحات الإعلامية، وعدم خضوع المقالات لحد أدنى من الضوابط، في ظل ديمقراطية مزعومة، ليس مثلها لا في فرنسا ولا في أميركا، وسواهما من الدول التي تزعم الديمقراطية، لكنها تخضع الصحافة ومختلف وسائل الإعلام، لخط أحمر لا يتم تجاوزه.
وبعد، فعندما بات يشكو شخص يتبوأ أعلى منصب في الدولة اللبنانية، أن الصحافة في البلاد التي يحكمها هي صحافة واقعة في "حوزة" الممولين، فكان منذئذ قد دق ناقوس الخطر، وليس من مجيب.[/b][/font][/size]

132

أوراق لبنانية أنموذجا لأوراق سريانية عراقية

بعد صرخة البطريرك صفير، انبثاق شعلة وحدة وسلام

متابعة الاب نويل السناطي

يجتاز لبنان مرحلة حرجة بسبب ظروف محلية وإقليمية متوترة ومعقّدة، الأمر الذي وضع اللبنانيين أمام طريق شبه مسدود، وأفرز أجواء احتقان بدأت تظهر نتائجها الخطيرة على الصعيدين الوطني والمسيحي. وقد بات واضحاً للجميع أن لبنان الرسالة مهدد ولبنان الوطن مستهدف بأبنائه وجماعاته وبخاصة المسيحيين منهم.


وقد أطلق البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير صرخة من أجل وحدة المسيحيين في العظة التي ألقاها يوم الأحد 27 تشرين الثاني 2006، جاء فيها: " إننا نعيش اليوم أيام بؤس ونأمل في أن تليها أيام أقل ضررًا على اللبنانيين (...) فيجتمعون بعضهم مع بعض ويتآزرون ونعني بهذا الكلام المسيحيين خصوصًا الذين تفرقوا ويبدو أن جمعهم أصبح صعبًا جدًا، ولكن تعاليم المسيح معروفة وهي أن يكون الناس بعضهم مع بعض (...) "


أمام هذا الواقع تبدو الدعوة إلى "الوحدة والسلام" ملحة أكثر من أي وقت مضى، ولأن وحدة الوطن تقتضي وحدة جميع أبنائه وعائلاته. وقد ترشح عن انبثاق  الحركة جملة أهداف، جاءت في تقرير  إعلامي خصنا به الأب طوني خضرة منسق الحركة، ورئيس أوسيب لبنان (الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحا فة هاتف: 410699/04 ، فاكس: 419989/04، بريد إلكتروني: info@ucipliban.org)، من تلك الاهداف:

الصلاة من أجل وحدة الصف المسيحي ومن أجل السلام في لبنان. وهي تعبّر عن اعتراض عامة الناس على الحملات الإعلامية وعلى الصدامات بين الأفرقاء والأحزاب اللبنانية عموماً والمسيحية خصوصًا. وتؤكد الحركة على إيمانها بحق التنوع في الرأي وعلى أهمية التفاعل بين الأفرقاء في أجواء المحبة واحترام الآخر.
عدم تكرار تجارب الحروب السابقة وتقاتل الإخوة تحت أي عنوان أو أي شعار، فنتائج كل الحروب تدميرية وليست حلاً لأي مشكلة في سبيل أي قضية داخلية أو خارجية كانت.

الحركة موجهة إلى الجميع لخلق رأي عام مسيحي فاعل يرفض وسائل التحريض والعنف وينبذ أي تشنج أو تقاتل. وتدعو إلى اعتماد الطرق الديمقراطية والحوارية والسلمية لحلّ المعضلات السياسية دون إهراق نقطة دم واحدة.


وفي هذا الصدد جاء في كلمة صاحب السيادة المطران جورج اسكندر رئيس اللجنة الأسقفية لرسالة العلمانيين، في كنيسة مار الياس-أنطلياس، 30 تشرين الثاني 2006:
" دعوتنا للصلاة معًا أردناها من أجل تجديد التزامنا بقيمنا المسيحية والإنسانية والتأكيد على الرجاء لأننا أبناء الرجاء. ومن أجل أن يحل الله سلامه ومحبته في قلوب القياديين وفي نفوسنا جميعًا (...) نحن نحب لو عممنا هذا اللقاء وأمثاله على المناطق والرعايا في مختلف كنائسنا (...) نحن نحترم كل المعتقدات والمواقف والتيارات والأشخاص، ولسنا نطالب أحدًا بتغيير أهدافه والتنكّر لمبادئه، وندعو إلى الالتزام السياسي وفقاً للقيم، لكننا نسأل الجميع بأن يصوّبوا أهدافهم لصالح الوطن قبل مصالحهم، وأن يتعاملوا باحترام وبترفّع، مهما اختلفت الآراء ما بينهم، فيكون النضال حوارًا صادقاً وتبادل أفكار وتفاعل مواقف تصبّ كلّها في عملية إنقاذ الوطن وإعادة العافية إليه، لا تسلّطًا وتصادمًا واقتتالاً وخرابًا. إننا نقدّرهم جميعًا ونحترم مواقف كل منهم، لكننا نرفض الصراع العبثي والانقسام الهدّام في صفوفهم وعدم احترام بعضهم لبعض والتخوين واللجوء إلى العنف
الراغبون في الانضمام إلى الحركة:
إن حركة وحدة وسلام تفتح باب المشاركة فيها لجميع من يرغب في ذلك. فمن يؤمن بأن الوحدة والسلام هما قضية هامة من أجل مجتمعنا تستحق أن نعمل من أجلها، يستطيع أن يتصل بالمنظمين وتسجيل اسمه من أجل المساهمة في نشاطات الحركة.

آلية التحرّك والبرنامج:
تعميم لقاءات السلام والوحدة في الساحات والرعايا والمدارس والجامعات من أجل بث روح التسامح والغفران وقبول الآخر. يتضمن اللقاء في الرعايا صلاة وتقديم نوايا حول شمعة الوحدة والسلام، ندوات وتبادل آراء مع المؤمنين بالإضافة إلى برامج فنية-موسيقية. (يتضمن البرنامج ثلاث فقرات: الأولى: صلاة وليتورجية، الثانية: ندوات فكرية وروحية وطاولات مستديرة وأحاديث مع الناس، الثالثة: برامج فنية- موسيقية: وطنية وروحية).

ومن ا لتعريف والاهداف، جاء التحرك حثيثا، ونأمل أن يكون مثل هذا التوجه، في محور تفاعل شعبنا المسيحي السرياني في العراق والمنطقة بهذا الاتجاه.
فقد اعلن المنسق العام "لحركة وحدة وسلام" الاب طوني خضره عن توسع نشاط هذه الحركة التي ستنتقل الى الرعايا والمدارس والجامعات واماكن عامة في اطار اسبوع من التحرك يبدأ غداً الاثنين. وكانت هذه الحركة انطلقت في الثلاثين من تشرين الثاني الماضي في احتفال صلاة وتطواف اقيم في كنيسة مار الياس انطلياس برعاية اللجنة الاسقفية لشؤون العلمانيين التي يرئسها المطران جورج اسكندر والاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة- لبنان ومجموعة من مؤسسات المجتمع المدني.

واوضح الاب خضره ان "دوافع هذا التحرك تأتي استجابة للنداء الذي وجهه البطريرك الماروني في 27 تشرين الثاني الماضي داعيا فيه المسيحيين الى الوحدة، اضافة الى الاحساس بصعوبة المرحلة الحرجة  محليا وإقليميا والتي تضع اللبنانيين أمام طريق شبه مسدود، وتفرز أجواء احتقان بدأت تظهر نتائجها الخطيرة على الصعيدين الوطني والمسيحي الامر الذي يعطي انطباعا بان  “لبنان الرسالة” مهدد ولبنان الوطن مستهدف بأبنائه وجماعاته وبخاصة المسيحيين منهم".

وعن اهداف التحرك اوضح خضره ان "حركة وحدة وسلام" تدعو إلى الصلاة "من أجل وحدة الصف المسيحي ومن أجل السلام في لبنان. وهي تعبّر عن اعتراض عامة الناس على الحملات الإعلامية العنيفة  وعلى الصدامات بين الأفرقاء والأحزاب اللبنانية عموماً والمسيحية خصوصًا". واضاف: "لا نريد تكرار تجارب الحروب السابقة وتقاتل الإخوة تحت أي عنوان أو أي شعار، فنتائج كل الحروب تدميرية وليست حلاً لأي مشكلة في سبيل أي قضية داخلية أو خارجية كانت".

واشار الى ان الحركة  "موجهة إلى الجميع  من اجل خلق رأي عام مسيحي فاعل يرفض وسائل التحريض والعنف وينبذ أي تشنج أو تقاتل. وهي تدعو إلى اعتماد الطرق الديمقراطية والحوارية والسلمية لحلّ المعضلات السياسية دون إهراق نقطة دم واحدة".

وعن الية التحرك اوضح خضره ان الحركة تريد "ان تتوجه الى الناس في رعاياهم ومقر عملهم وجامعاتهم واحيائهم من اجل نشر روح السلام والغفران وقبول الاخر. ويتضمن اللقاء في الرعايا والاماكن العامة صلاة وتقديم نوايا حول شمعة الوحدة والسلام، ندوات وتبادل آراء مع المؤمنين بالإضافة إلى برامج فنية-موسيقية".
كل هذا ضمن هدف سامي من اجل وحدة اللبنانيين والمسيحيين خصوصا، وعسى أن تكون "شعلة وحدة وسلام، عنصر يمتد ضوء نورها ودفء نارها الى بلدنا الممتحن العراق.


133
الطائفية وراء الجرائم ضد الشخصيات المسيحية...

لاءات متزايدة ضد التكتلات السياسية المذهبية، لانقاذ عراق الحضارات

الأب نويل  السناطي

في التقديم تأتي كلمات العنوان كتعليق أولي على ما قاله متفضلا السيد وزير الخارجية الاردني في تصريح صحافي، قبيل المؤتمر الصحافي المنعقد في عمان، بين الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء العراقي المالكي، إذ قال الوزير الاردني إن أحد مساعي الاردن لمعالجة ما يجري في العراق هو مبدأ نبذ الطائفية. أما هنا فيستجد القول، بأن الطائفية لا تنبذ فقط، بل تحارب وتجتث.
 زمننا هو زمن استفحلت فيه الطغم  التكفيرية، من أي جهة مذهبية ضد أي جهة أخرى مذهبية. ومع قيام حكومة محاصصة طائفية، في العراق الذي تعايشت على أرضه، عبر التاريخ، خصوصيات اثنية وقومية، مذهبية ودينية... هي الآن حكومة من غالبية طائفية ساحقة، وأحزاب أخرى تأخذ، في مجملها، تسمياتها من أسس مذهبية طائفية. ينظـّر لكل من هذه الأطراف، ويوجهها رجال دين تركوا دور العبادة الى غير اختصاصهم، في مواجهة بين بعضهم ضد البعض الاخر، من الطائفة الواحدة من جهة، وضد بعضهم من أي مذهب آخر، وضد أناس الآخر. رجال دين بدل أن يكون سعيهم، التوجه بالصلاة والتعبد الى الله الواحد الأحد، أخذوا يحتلون الشاشات بتصريحاتيهم ومنافساتهم السياسية.
ولا بد من القول: ان وجود مواجهات وتنظيمات طائفية، يعني حتما وجود رجال دين يقودونهم ويقولون لهم، انتم من طائفتنا ومذهبنا، واولئك من الطائفة الفلانية الأخرى. مع أن الجميع هم أبناء ارض واحدة وجلهم يتبع مذهبا ابراهيميا توحيديا. ولو لم يقم بين هؤلاء القوم واولئك، رجال دين فرقوا، كل حسب مذهبه، مختلف الأطراف المذهبية والطائفية، شر تفريق، لكان هؤلاء عباد الله، اختلطوا مع بعضهم، كما كان حالهم، قبل استسلامهم لفتنة الاستعمار والاحتلال، متصاهرين، متناسبين، واشتركوا في أنشطة سياسية تتنافس على مشاريع سياسية من ليبرالية او جمهورية او ملكية او دستورية، على ارضية مشتركة للوطن الواحد، مع احترام الطريقة الايمانية لكل منهم بما لا يؤثر على الآخر.
 الجهات المتشابكة
 الحالة العراقية، تحت الاحتلال وما وراءه من جهات متعددة ، تترشح عنها جهات متشابكة:
- ضمن مشروع اسقاط النظام الشمولي السابق بشتى الذرائع، رضي المحتل، ما لم يقبله على أرضه، وفي دستوره، بأن يتحالف، مع أحزاب معارضة تقوم على أسس دينية مذهبية، في عراق متعدد المذاهب، وراوغها وأغراها حتى مرغها في وحل النزاع الطائفي والمذهبي.
- بقيت قوات الاحتلال، الجهة التي أعلنت رسميا المنازلة العالمية مع الارهاب الأصولي على الارض العراقية، وأنها في نهاية الأمر، لن تنسحب بحسب قرار من الكونغرس  الأمريكي، حتى حسم المنازلة مع هذا العدو الجديد، بعد الحرب الباردة الطويلة التي كان العدو فيها الكتلة الشيوعية التوتاليتارية.
- بالمقابل المعلن ايضا، ان الارهاب العالمي المنطلق من الاصولية الدينية والتكفيرية، اتفق على استدراجه ومحاربته على ارض العراق.
- في مدة قياسية من بعد سقوط النظام السابق، انطلت اللعبة على الشعب العراقي، فنجح أعداؤه، في زرع الفتنة الطائفية المذهبية بين الكثيرين من أبنائه، بشكل مخطط مدروس مدفوع مستورد، تقبلوه وتوزعوه كوصفة سامة جاهزة. 
- ظهرت، فيما ظهرت، جهة تتاجر بالارهاب، باسم الدين، وتمول نفسها بالقتل والسطو والاختطاف، وتجمع الرساميل الخيالية.
- كما ظهرت جهات متنوعة متلونة تدعي أنها تناصب الاحتلال العداء، ولكن بوسائل مقاومة تحرق الاخضر واليابس، وتتحالف استراتيجيا مع الجهات الدينية المذهبية، في الهدف نفسه.

إزاء هذه الجهات المتشابكة، قامت في عراق اليوم ، حكومة محاصصة طائفية، بغطاء انتخابي تم بظروف غير مستقرة، في أقل تقدير، حيث عرضت قوائم انتخابية انتزعت بطريقة او باخرى ارادة الشعب، على حساب ابعاد القوائم غير الطائفية والدستورية.
إن الخطر كل الخطر، أن أطرافًا حكومية، كما اتضح مع الوقت، اصبحت جهة تتحارب طائفيا مع الجهات الأخرى. فضاع الأخضر واليابس، وأصبح الشعب هو الضحية الاولى، والبلاد في مفترق طرق، لم تعشه الا في زمن المغول وهولاكو.

الجدلية المتناقضة

توصلت قوات الاحتلال، بأساليب وخطط مدروسة، إلى خلق جدلية تعجيزية:
- التحجج بالتواجد العسكري، حتى إقامة جيش وقوات شرطة، بما يضمن سيادة  القانون، لحين أن يعتمد العراقيون على أنفسهم، في سيادة القانون وصيانة الدستور. هذا ما سمعناه من الرئيس الامريكي، لغير مرة، آخرها  في مؤتمره الصحافي، في عمان، نوفبمر الماضي. فيما أجاب رئيس وزراء العراقي، في المؤتمر الصحفي، عن أحد الأسئلة، وكأنه يعبر عن ناشط في حزب ديني، اكثر من كونه رئيس حكومة، بدليل دفاعه عن جمهورية ايران الإسلامية، بكونها بريئة عما يحدث في العراق، براءة الذئب من دم يوسف. في حين كررت ايران، لغير مرة، آخرها بعد الاعلان عن حكم الإعدام على رئيس النظام السابق، أنها مستعدة للتفاوض مع امريكا بخصوص الوضع في العراق!!
- وبالمقابل ينفضح مخطط أن الاستقرار لن يتم، وبالتالي سيبقى المحتل لأطول مدة، ويتضح ذلك من خلال الاختراق على الجيش والداخلية الجيش والداخلية، ووجود وزراء وراءهم ميليشيات هي واحدة من أعتى أطراف النزاع الطائفي، مستخدمة ما اوتيت من بطش وغطاء رسمي.

وانطلت المكيدة على الاطراف المذهبية
في الوقت عينه، استطاع أعداء العراق بمكر مكشوف، أن يخلقوا سيناريو الاحتراب بين أبناء الدين الواحد، ينطلق من العراق، ويمتد الى سوريا ولبنان، ويأخذ مرجعيته من إيران كجمهورية طائفية دينية، وحامية رسالة توسعية تحت الغطاء الطائفي، يرمي الى مواجهة الملايين الاخرى من الطوائف الاخرى، في الدين الواحد. وهذا مشروع خطير بعيد المدى، يجعل أطراف عالمية ذات مصالح استراتجية في المنطقة، يجلسون واضعين الساق على الساق، ليتفرجوا على ما صنعوه في رموزهم الشطرنجية لتحترب من أفغانستان الى سائر البلدان التي تتساقط انظمتها في براثن النفوذ السلطوي المدني لرجال الدين.
لكن المناعة ما زالت في المغرب العربي، في المغرب وتونس واليمن وغيرها، حيث جعلت الاحداث المؤسفة، الحكام يتعاملون مع رجل الدين، انطلاقا من الارتياب منه، ومن تأثيره السلبي المحتمل، طائفيا ومذهبيا ومن ثم تهديده للحالة الوطنية، حتى يثبت، على المنبر وبالتصرف والاخلاق، أنه مخلص لوطنه، وأنه متفرع لنشر التعاليم السمحاء البناءة لدينه، التي تنبذ الارهاب والعنف وشتى انواع الاكراه،  تاركا  اهل السياسة يهتمون بشؤون السياسة تحت ظل الدستور وحفظ القانون.
والشاهد على تفتيت الشعب، هو وثيقة مكة، التي نظر اليها المراقبون، بكونها فضح معترف به من المشاركين، ليقول لسان حالهم: أجل نحن الذين جئنا هنا، نؤيد اننا كنا طرفا رئيسا في الفتنة وفي الحرب الاهلية، وفي ذبح أبناء الشعب الواحد. وكدليل على صحة ملاحظة المراقبين، ما حدث من تدهور أمني مأساوي بعد وثيقة مكة.
وبالتالي، لا بد من التأكيد، أن لا خروج من المأزق إلا بموقف شامل بين أبناء مختلف المذاهب والطوائف، بعد أن وجدوا ما وجدوا في رجالاتهم الدينية. فينفض أبناء الوطن الواحد، عنهم أدران الطائفية، وينضموا الى دعم التوجهات السياسية غير الطائفية، الليبرالية، الديمقرطية الجمهورية، الدستورية، وسائر التوجهات التي تضم في صفوفها من يتركون خصوصياتهم المذهبية لحياتهم الشخصية مع ربهم، ويشتركون مع بعضهم في المشاريع الثقافية السياسية الوطنية الشاملة، مثل ما هو الحال في بلدان العالم المتحضر، أكان فيها الحكم ملكيا دستوريا، ام جمهوريا برلمانيا، من اسكندنافيا، الى تركيا، من بريطانيا الى فرنسا وكندا، من تايلند الى المغرب وحتى الاردن، وما الى ذلك من الدول ذات الغالبية العربية او الاسلامية او الغربية، أو الآسيوية. وكلهم بطرق متقاربة، يضعون الدين في مكانته المصونة ويضمنون ان رجل الدين لا يحشر أنفه في ما لا يعنيه، في زمن، لم يعد رجل الدين الأعلى هو الذي يستطيع أن يمتلك مقاليد الحكم الدنيوي الى جانب ما يمتلكه من مقاليد في التوجيه الاخلاقي، ويترك مقاليد الدنيا ضمن ما تقره شرعة حقوق الانسان كقاسم مشترك للناس مهما تباينت معتقداتهم وثقافاتهم.
هذا ما طالب به، أحد المراجع الدينية في أيران، آية الله بوردوردي، فاعتقل في مطلع نوفمبر الماضيِ، بسبب دعوته الى فصل الدين عن الدولة. كما لقيت الترحيب في العراق، دعوة الشيخ محمد يعقوبي الى تفكيك التكتلات السياسية القائمة على أسس طائفية، لصالح تكتلات سياسية غير دينية. لكن القانون المطروح على مجلس النوب بحضر  الاحزاب القائمة على توجه طائفي، بقي بدون صدى يذكر.
لقد قـُدّر للعراق، بلاد ما بين النهرين، بلاد الحضارات، مفترق الثقافات، ان يكون بفعل عوامل عدة مسرحا للمواجهة بين التعصب الاعمى، وبين التطلع الحضاري للخصوصيات القومية الاثنية، الدينية والطائفية، التي تعيش فيه،  بين الحكم باسم الدين، ومواجهة قيم المجتمع المدني، التي يتطلع اليها عالم اليوم، باجماع وجد الحد الادنى من اسسه المشتركة في شرعة حقوق الانسان.
بدأت جوانب المواجهة بالصفحة الاولى من الحرب الايرانية التوسعية على أساس طائفي، ضد العراق، مع النظام السابق، متشبث هو الآخر بمعطياته، وخصوصياته وفردانيته، بمعزل عن مسيرة الحياة المعاصرة. ومن افرازات الصفحة الاولى للحرب التوسعية الايرانية، حرب الخليج الثانية والحصار في مطلع التسعينيات. ذلك الحاصر كان نوعا من الترويض الأمريكي للشعب العراقي، لترى عينه فيما بعد، من هول، ما لم تره من قبل. تلتها مع سقوط النظام السابق، مرحلة التغلغل الايراني الجديد في ظل الدبابة الاميركية، واستمر الوجود التوسعي الايراني وتأثيره المسموم، على ترويج الطائفية.

الموقف العالمي ضد الارهاب باسم الدين
وعودة الى تواجد القوات الدولية على ارض العراق، فإن الموقف العالمي بات واضحا تجاه الطموحات الايرانية النهمة تحت غطاء من الحكم الديني، والسائرين في الخط الايراني، سواء من داخل العراق، أو في المنطقة عموما. وهنا ينفرز صفان متواجهان:
- الصف المنادي بقيم المجتمع المدني، وإشاعتها والدفاع عنها، في العمل السياسي، وأن تكون خلفية الاحزاب التي تعمل ضمن مختلف البرامج السياسية، ضد كل الاحزاب، من أي دين كانت أو طائفة كانت، تتوخى العمل السياسي بواجهة دينية.
وهنا افتضح  التأثير السلبي الكوارثي، لاقحام الدين في السياسة، والحكم باسم الدين، اي دين كان، وباسم الطائفة اي طائفة كانت، مهما كان مستوى حسن النيات في ذلك. ويصل الأمر الى أبعد حدود القرف، والإجرام، ما يهدد في خلط هذا الاتجاه مهما حسنت فيه النيات لدى أتباع الدين والطموحين للتعامل السياسي الذي يريدونه مشروعا اسوة بسائر الحركات السياسة، ليهدد بأن يخلط مع ما يقترفه التكفيريون، والذين يدّعون المقاومة باسم الدين.
فيحللون قتل رجال الدين من غير دينهم ومن غير طائفتهم، ويقرون اختطاف الشخصيات الدينية المسيحية، كسياق استغلالي فاحش لاجتلاب الرساميل وتمويل المسيرة.

حسن النية لا يكفي: والساكت على الحق، والظلم، شيطان أخرس
بقي يستذكر الناس، كل ما سمعوه من الارهابيين باسم الدين والمقاومة، وما تم من ذبح باسم الدين، بترديد عبارة (الله اكبر) عند قطع الرؤوس، بشفرة مقصوصة من تنكة الدهن، متهمين وحاكمين على مواطنين مثلهم لمجرد اختلافهم الطائفي، أو الديني، قبل أي شيء آخر. يقومون باختطاف الابرياء، بحيث لا يعرف البريء المختطف أوقات الليل والنهار، إلا من خلال توقيتات صلوات المختطفين...
ويستذكر أبناء الموصل الهاربين إلى سوريا، كيف أنه في محلة الميدان وغيرها من الأحياء وفي جوانب من أسواق باب الطوب، كيف يدخل الشاب المهدد مثل بشار الى بيت يدله عليه اصدقاؤه المخلصين، ليناشد المهددين بأنه برئ من التهمة الملاحق عليها، وبأنه ليس (بشار) أو المقصود، فيجد نفسه امام ملتحين ومعممين ومجلببين ومسبحين. لو استذكر العارفون والمطلعون والذين اختبروا هذه الحالة او تلك، وكتبوا ما استذكروا، لما وسعت ذلك كتب وكتب. فكيف لو أخذ الناس، في تسجيل ما يسمعونه من خطب الجمع، لوجدوا منها، بعد استشراء الفلتان الأمني، ما يحرض على الارهاب، وكره الآخر.
في يوم المولد النبوي، لسنة 2003، سمعت من الاذاعة العراقية، شيخا يتحدث عن دينه على حساب الانتقاص من دين الاخر، وعلى حساب تكفير الاخر، حفظت اسمه وصوته العريض، واذا به مع الايام، يصبح احد المسؤولين في وزارة الأوقاف. ومثله الكثيرون، تبوأوا مناصب في الدولة تحت غطاء المساومات الطائفية والسياسية.
ان ما يحدث على الساحة باسم الدين يبكي الصخر، هذا الدين الذي يدين عليه بصدق وإخلاص، اصدقاء لنا كثيرون مثقفون، مبدعون، أدباء ومفكرون، وروائيون، وتنكوقراط من المتنورين ، الذين تعايشنا معهم بمشاعر محبة وصداقة وود أثبتت اخلاصها سنوات العمر، ما يحدث على الساحة أصبح محرجا لنا، قبل أن يكون محرجا لهم.
لقد أصبح من العيب، في العراق، وفي بلدان الشرق الاوسط، التغافل عن المتعاملين بالسياسة تحت غطاء الدين، أي دين كان.
لقد اصبح من المخجل على رجل الدين المتنور أن يسكت على ما يتسبب لسمعته أقران له، وبما يدعو الى الشبهة به وبمهمته الدينية، إذ  تطاله الشبهة بأن يصنف من صنف أولئك الجلادين، ويحشر في خانة الوعاظ الذين يعظون بكراهية من ليس من دينهم أو من طائفتهم.
لقد أصبح لزاما، كل يوم قبل اليوم الذي يليه، أن تطفو على السطح اصوات احتجاجية مدافعة عن قيم الدين إزاء المجرمين الذي يمضون في تشويهه. وأن تنتظم الأصوات في احتجاجها وكفاحها وتلتف لتدعم المشاريع السياسية البعيدة عن الاسم الديني او الطائفي.
ما عاد بالشيء المنطقي أو اللائق، أن يكون شخص بمظهر رجل دين، بدون أن يعرف نفسه بأنه ضد اولئك السفاحين، ويزكي نفسه من خلال ما يردده على المنبر من اشاعة قيم التعايش والمحبة والمسالمة، وسيادة القانون، والتعددية، واحترام الاخر، على أي دين أو طائفة كان، وتقييمه على اساس موهبته وعطائه واخلاصه.
ألم يحن الوقت، لالتفاف المتنورين، وتتكاتف كل القوى، لإسقاط وزارة ذات توجه طائفي مذهبي، فتقوم وزارة وحدة وطنية غير طائفية، فلا يظهر وزير يكفر الناس ويحجب النساء، ويقحم الطقوس الدينية في منهاج الدوام الرسمي، ويفرض مظاهر دينه وطائفته على اتباع وزارته.
لم يعد من خيار سوى خيار القلة البرلمانية غير الطائفية لتمد يدها الى أبناء الشعب كل الشعب، من العرب والكرد والتركمان والسورايي (آشوريين كلدان سريان)، لينهضوا بمشروع قائم على المجتمع المدني الذي يحترم الدين ولكن مصانا عن السياسة ومنعطفاتها.
أمام السيل المسموم من القتل الترهيب والفساد الاداري، الذي طال الحكومات الطائفية، لا بد من وقفة أوسع واكبر على نطاق المنطقة والعالم، فالتعاون لا مناص منه، مع قوى العالم وقواته، من أي لون كانت تلك القوى والقوات، إذا كان الأمر يتعلق بمواجهة هذه الحالة الضارة كما المافيا، حالة باتت أشبه بمسخ لا دين له ولكنه بغطاء معمم، حالة أقرب الى الالحاد  منها الى الدين،  أقرب إلى الكفر منها الى الايمان.
عندما يتم التوصل الى وصف الوعاظ بالقتلة، إذا كانوا من المحرضين على القتل، أو الساكتين عن اختطاف رجال دين في غير مذهبهم او طائفتهم، وعندما يوضعون في خانة مشتركة مع جلادي الارهاب، ومهربي الافيون، وتجار الرقيق الابيض، عندئذ ينكشف خيط النور من دجى الليل، وينفرز الأبيض عن الاسود. ويكون التعامل مع مكافحة الارهابيين باسم الله، ضمن المقاييس العامة، لاختبار مدى القابلية على اجتثاث الجريمة بأنواعها من سرقة ومخدرات وغيرها. ويكون أمام المعنيين، حساباتهم، في مدى الحاجة الى مكافحة هذه الارضة  المستشرية، وما ينبغي من تخطيط وتكاتف لهذه المواجهة، وهي لعمري مواجهة موت وحياة، إنها مواجهة، ما هو الاكثر خطرا على مصير الناس، وعلى تطور العالم.
بين العراق ولبنان آخر الدواء الكي
لم يعد ثمة فائدة من مداهنة ولا حوار مع معادن بخسة صدئة، جلبت كوارث اسرائيل الى لبنان، ورسخت احتلال امريكا للعراق، من النماذج التي تحكم بالتوجه الطائفي المذهبي، إنهم حفنة من زارعي فتنة مهرجين متهورين. مثل هؤلاء قتلة ومجرمو حرب، يستحقون المحاكمة، لإخراج البلاد من الطائفية البشعة، ربيبة إيران التي تستفرد الساحة لمجرد استبطائها تلقي الضربة القاصمة.
هؤلاء المتحاربون بين المتسربلين بثوب الحكومة الطائفية، وبين المتلثمين بلبوس المقاومة غير الشريفة، التي تستهدف المدنيين والعزل، وتتاجر بأموال المختطفين. هؤلاء خارجون عن العدالة والقانون، خارج الديمقراطية، والتعددية، فالحضارة تعايش والطائفية إرهاب وتفرد ضد الآخر. الذين لم يتعضوا بما فعله الطائفيون كأداة بائسة بيد اسرائيل، والذين لم يلتفتوا لتهديداتهم الاجرامية: نكسر اليد ونقطع الراس ونطلع الروح، لمن ... ومن..، آن الأوان أن ينازلوهم من خلال القانون، والجيش كحارس للقانون والدستور، ويقطعوا الطريق أمام كل بوق، وشاشة ومذياع وتنظيم ينطلق من الطائفية. أجل آن أوان الكي، ومختلف عناصر الحضارة والتقدم والعالم المتدمن تدعم لبنان في سبيل هذا الهدف النظيف. وما يصح في لبنان، يصح في العراق، فكلاهما مبتلى بأحزاب طائفية يقودها معممون.
وبعد لقد قام واقع لا يصلح إلا بإصلاح الخطأ الأساسي المقصود، بما في ذلك، استبعاد حاسم وجازم لكل توجه طائفي، وعده مافيا جديدة تغلغلت في البلاد، لتفتك كالآفة في الزرع والضرع، وتقتضي المكافحة، حتى يعود المسار سليما.
أجل لا نعتقد أن ثمة أمكانية لاصلاح الحال في العراق، قبل اختفاء الطائفية. فقبل أن يستفحل الأمر ويتفشى الى سائر دول الشرق الاوسط، كما أخذ يجري في لبنان، تتصاعد الأصوات وتتعدد نحو البديل البديل، ألا وهو قيام نظام إنقاذ على أساس قيم المجتمع المدني حصرا.[/b][/font][/size]

134

آمال متجددة لوحدة أبناء بيث نهرين
مؤشرات واستقراءات

الأب نويل فرمان السناطي


((( ليس هناك من يلحق الأذى بالكنيسة، أكثر من أولئك الذين لهم صورة القداسة ولقبها، ولكنهم يتصرفون تصرفا فاسدا – القديس غريغوريوس الكبير)))

المقدمة
المسار الوحدوي لأبناء بين نهرين، من أبناء كنيسة المشرق، يمكن تناوله من خلال محور كنسي، وهو موضوع هذا المقال. هذه محاولة استكشاف لمؤشرات ومستجدات في المسار الوحدوي، بما أمكن من موضوعية لعرض الوقائع، مع السعي لاستقراء ما هو لاحق في هذا المسار. ويتخذ هذا المسار صفة كونه مصيري، لأنه بكل بساطة، مسألة حياة أو تبعثر وتشرذم. ويعود هنا التركيز على دور الكنيسة في هذا المجال، الى ضرورة تاريخية، في معالجة المسؤولية الواقعة على عاتق السلطات "الدينية"، تلك المسؤولية الحاصلة في تمزق النسيج القومي لأبناء شعب واحد، بسبب الانقاسامات المذهبية.

الكنيسة... الكنائس، وابناؤها
نلجأ في هذا المقال، الى الحديث عن المشترك بين أبناء كنيسة المشرق وسائر امتداداتها في الكنائس الاخرى، بكل ما يجمعهم من لغة وتراث وتاريخ وديانة مسيحية. ولأغراض التوضيح في التحليل، نستخدم المفردات المتداولة المتعارف عليها، وذلك من حيث الجانب العملي في التشخيص. الهدف من هذا الاستخدام، هو  تحديد مختلف الانتماءات الحالية، لهؤلاء الأبناء، من جهات دينية- مذهبية أوثقافية عمومًا، أي حيثما يتوزع اليوم أبناء ما عرف بكنيسة المشرق، منذ حقبة ما قبل القرن السادس عشر، وما بعدها لحد الان. فنذكر هذه المسميات كالآتي: أبناء كنيسة المشرق الاشورية، أبناء الكنيسة الشرقية القديمة، أبناء كنيسة المشرق الكاثوليكية الكلدانية، أبناء الجماعات الكنسية المنحدرة من حركة الاصلاح اللوثري البروتستانية، بمختلف مسمياتها، من التي تضم اعدادًا من المنحدرين من مختلف الكنائس، كما نشير الى احتمال وجود أبناء آخرين ضمن جماعات أخرى غير المذكورة اعلاه على مختلف الثقافات والميول السياسية، مستقلة بشكل مبدئي عن إعلان الانتماء الديني، أو في الأقل غير حاملة قناعة المواضبة الايمانية. هؤلاء هم الأحوج إلى وحدة إخوتهم المؤمنين، حتى يلمسوا بأنهم حقا مؤمنين، فيتأثروا بإيمانهم من خلال وحدتهم، وإلا يجرونهم الى المسار الوحدوي المستقل عن الديانة.

فرص ظهور الشخصية القيادية الموهوبة على المستوى العلماني
هذا المسار، المرتبط بقيم المجتمع المدني، باستقلالية عن مذهب محدد، غالبا ما أثبت فشله في ظروفنا، بسبب تشابك الخصوصية القومية والدينية عند شعب السورث، حتى وصل الحال بالكثيرين، الى ربط سورايا كمرادف لمسيحي. سيما وان الساحة السياسية المختنقة في مواقع الحكم المركزي في العراق، قلما ولدت قائدا استقطب اهتمام مختلف التيارات، ليس لافتقاد الصفات القيادية في الزعماء السياسيين، بل لافتقاد النفوذ والامكانات المادية، وخصوصا بسبب العقبات التي وضعها أمامهم رجال الدين في كنائس المشرق لمآرب ومطامع وطموحات وأسباب متباينة بين المبدئية والفردانية.
وقد يستثنى من هذا التوجه، في ظل الاستقرار التي تشهده منطقة اقليم كردستان، وبروز ما يوحي بظهور زعامة على مستوى شعب السورث، استقطبت أبناء كنائس المشرق، في الإقليم وفي سهل نينوى. بقدر ما تم تجاوز النفوذ والتأثير المعاكس لبعض رجال الدين، مع الحصول على الخط الاخضر من قيادة الاقليم، أكان الأمر مرحليا، أو لمستوى بعيد الأمد، وبواقعية متوازنة تستوعب التعددية؛ إضافة الى توفر الدعم الاعلامي والاقتصادي المنفتح، نحو كل التوجهات المذهبية، دون الارتباط بواحدة على حساب الاخرى.

مستجدات في المعادلات التي شهدها تاريخ كنيسة المشرق
نقصد هنا بالمعادلات.. ما يأتي كنتيجة أو رد فعل لحالة أدت إلى تبدلها نحو حالة أخرى. من تلك المعادلات، في حياة كنيسة المشرق، ما أدى إلى انقطاع علاقتها عن الشركة مع الكنيسة الجامعة، للأسباب العقائدية واللاهوتية، المتأثرة بصعوبة الاتصال والاستخدامات المتباينة للتعابير؛ كل هذا حدث تحت ظروف تاريخية وجيو- سياسية. وكانت (كنيسة المشرق) قبل الانفصال، ضمن الكنائس الرسولية، التي احتفظت بخصوصية كياناتها البطريريكية. هذا ما حدث في أعقاب مجمع أفسس سنة 431، مما أسهب في الحديث عنه المتخصصون. تلك "المعادلات" العقائدية والجيو- سياسية، أدت الى انفصال كنيسة المشرق وبقائها كذلك حتى منتصف القرن السادس عشر.
المعادلة الأخرى تعلقت بالوضع الداخلي لكنيسة المشرق (حتى منتصف القرن 16)، مما أدى بقسم منها الى أن يلتحم بالشركة مع روما، فكانت الكنيسة الكلدانية، منشطرة عن كنيسة المشرق التي عرفت بالنسطورية أو الآشورية.
وسرعان ما طرأت مستجدات على معادلة ظهورالكنيسة الكلدانية، في أجيالها الأولى.. ففي منعطف مفاجئ حدث أن التسلسل المنحدر من البطريرك يوحنا سولاقا للكنيسة الكلدانية، إنقطع بعد أجيال وارتبط بمفارقة جديدة هي من المستجدات غير المحسوبة، بكنيسة المشرق الاشورية، في حين صار لحد الان الكلدان الحاليون، منحدرين من السلسلة البطريريكية المواجهة للبطريرك الكاثوليكي الاول من كنيسة المشرق، مار يوحنا سولاقا.. ، حدث هذا منذ عهد البطريرك يوحنا الثامن هرمز (1830-1838)، بحسب جدول تسلسل بطاركة كنيسة المشرق في دراسة مار سرهد جمو: كنيسة المشرق في شطريها.
وقد ظهرت، خلال تلك القرون، بفعل ظروف حكمت عقلية ذلك الزمان، كتلتان متوازيتان في العائلات المذهبية المسيحية، لمختلف البطريركيات (الأقباط، الأرمن، الروم إلخ...) وهما: كتلة المذهب الكاثوليكي، وكتلة المذهب "الأرثوذكسي" على مختلف الخصوصيات في المعتقد المعلن لكل من تلك الكنائس البطريركية الأرثوذكسية، وقد ادخل العلماء في هذا الخط، كنيسة المشرق الآشورية (أقباط كاثوليك أو أرثوذكس، أرمن كاثوليك أو أرثوكس، روم كاثوليك أو روم ارثوذكس، كنيسة الشرق الكاثوليكية أي الكلدانية، وكنيسة الشرق الأرثوذكسية أي النسطورية - الآشورية). من أولئك المؤرخين، جان بيير فولونيه، في كتابه الموسوعي: حياة وموت المسيحيين في الشرق الاوسط.

مساعي متنوعة لصيانة التراث الثقافي الليتورجي
على العموم احتفظت الكنائس التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي، باسمها الاصلي، وعند ابناء كنيسة المشرق الكاثوليكية، حملت تسمية (الكلدانية)..  ولم تأت هذه التسمية عن فراغ بل هناك  من يرى فيها امتدادا في الجذور التاريخية لابناء بين النهرين، آثور وكلدو، ولا بد أنها مرتبطة بتخريجات تاريخية لتأخذ باي نسبة من الموضوعية تبريرها كتسمية، مقارنة بما أطلق عبر التاريخ من تسمية آشورية متجذرة هي ايضا في تاريخ بين النهرين.
وبفعل الطبيعة الانجيلية الكاثوليكية، سرعان ما ينفتح التوجه في الجانب الكاثوليكي، الى المزيد من الشمولية، بنسب متباينة التباعد مع الخصوصية القومية. كما يمارس الجانب الكاثوليكي في تلك الكنائس الدور المنفتح على الثقافات الاخرى، مع انفتاح بشرىالانجيل اليها.وهكذا بالامكان ان ينتمي الى كنيسة الارمن الكاثوليك من ليس ارمنيا، لكن الارمن الارثوذكس قلما يستجد لديهم مثل هذا الواقع، وان استجد، فيكون باعطاء الجهة الكتلوية التي تعتنق المسيحية، خصوصيتها على المستوى القومي والثقافي، لحد مساعدتها على انشاء كنيستها المستقلة، كما كان الحال في اعتناق جورجيا المسيحية على يد الكنيسة الارمنية.
وقد سعت الكنيسة الكلدانية (كنيسة المشرق الكاثوليكية) عبر التاريخ، جاهدة ومستبسلة، وخصوصا مع عهد البطريرك مار يوسف أودو (1793- 1878 ) سعت، الى جانب انفتاحها على البشرى لكل الشعوب، الى الاحتفاظ بالتراث الثقافي واللغوي والليتورجي المشترك مع سائر ابناء كنيسة المشرق. لكن هذا السعي بقي بنسب متفاوتة وظروف متباينة  يقترب او يبتعد عن طريقة الاشقاء الاشوريين في المحافظة على الخصوصية القومية  واللغوية والتراثية.

التراكمات على المكتسب الموروث للكتلتين المسيحيتين المذهبيتين
وعند ابناء الكنيسة الكلدانية، لا غرو انه في الأقل منذ القرن السادس عشر، تراكمت مع الاجيال خصوصية ثقافية بما لم يمنع جماعات كثيرة منهم، لا سيما في اطار قوانين بلدان الاغتراب، من أن تعدّها خصوصية قومية بحد ذاتها. ولم يعد يخفى على الكثيرين ان هذا الواقع نشأ كرد فعل لاحتكاكات حدثت مع الأشقاء في الكتلة المذهبية الاخرى (أبناء الكنيسة الآشورية). ونرجع الى مثل الكنيستين الارمنيتين الكاثوليكية والارثوذكسية، التي احتفظ ابناؤها  بالتسمية نفسها، لكن التباين الثقافي والتراثي،  أخذ يتراكم مع الاجيال من الانفصال. فكيف الحال مع ابناء كنيسة المشرق، الذين اخذوا من كل جانب تسمية ضاربة جذورها في تاريخ بلاد ما بين النهرين. هذا ما أشار إليه المطران سرهد جمو في دراسته المنشورة على الشبكة الالكترونية كنيسة المشرق في شطريها، إذ قال: "وهكذا اذ نحن نستفيق اليوم، بعد اكثر من قرن ونصف، نرى أن النهر الواحد أصبح جدولين، وأن نتائج الانشطار في الرئاسة ونتائج القطيعة بين المجموعتين أدت آخر الامر الى تنوع في الحياة الطقسية والثقافية والاجتماعية." ولكن لحسن الحظ لم يزل يجمع كلا الجانبين باستثناء الاصوليين منهما، اتفاق ضمني على القبول بكونهم جميعا يشكلون شعب السورايي على مذاهب مختلفة.

مستجدات في المسار المعاصر..
- من مستجدات المسار المعاصر لكنيسة المشرق الاشورية، ظهر بفعل أوضاعها الداخلية وظروف مرحلية، كرسي بطريركي آخر باسم الكنيسة الشرقية القديمة (التقويم العتيق).. تبوأه منذ الستينات مار آدي الثاني أزاء الكرسي الذي يتبوآه مار دنخا الرابع.
- تم في خطوة تاريخية كبيرة، في نهاية عام 1994، اللقاء الوحدوي بين البابا مار يوحنا بولس الثاني رأس الكنيسة الكاثوليكة والبطريرك مار دنخا الرابع رأس كنيسة المشرق الآشورية .. كما التقى البابا مار يوحنا بولس الثاني، في مناسبة أخرى، ما أدي الثاني، بطريرك الكنيسة الشرقية القديمة. ومن جانبه، لم يفوّت البطريرك (الكلداني) الراحل مار روفائيل الاول بيداويد، أي فرصة مواتية، ليأخذ زمام المبادرة بالخطوات الوحدوية مع شقيقيه البطريركين مار دنخا الرابع وما أدي الثاني.

 مواقف سلبية مؤثرة
- ولكن برغم الخطوات الوحدوية المذكورة، فقد تحركت في بحر التسعينيات مستجدات من عدة جوانب مؤثرة من قبل مختلف الكنائس. لا بد من القول، ان تلك التحركات كانت باتجاه التشبث بالجانب الكتلوي لكل جهة  والتشبث بالمكتسبات الشخصية، مما عطل بل أوقف المسار المصيري الوحدوي. فضمن هذه المستجدات، قامت تلك التكتلات المتعصبة من مختلف الانتماءات المذهبية، فتحكمت بطريقة أو أخرى، لجر كل سلطة كنسية، الى الخضوع الحصري للخصوصيةالقومية، وكل كتلة تحركت باتجاه معاكس للكتلة الاخرى. وكل منها يتوخى وضع الخصوصية القومية بنسب متفاوتة، على مستوى اعلى من مستوى المسار المسكوني الوحدوي الانجيلي. مما أضحى تهديدا جديا على مصير المسار الوحدوي.
في هذا التوقف الواضح الذي حصل في أواخر القرن العشرين، على مسار الوحدة المسكونية لأبناء كنيسة المشرق، عاد بهم الحال إلى واقع ما قبل كل تلك الخطوات الوحدوية المذكورة...
في هذه الحقبة، زاد في توقف المسار الوحدوي، سقوط النظام العراقي السابق، وانفلات زمام الامور في التحركات السياسية على شكل جماعات صغيرة متناحرة متقاسمة. وما عقب لك من مداخلات سياسية زادت الفوضى، وجلبت المزيد من الضبابية..  ولم يظهر في البلاد، بشكل ملفت للنظر، شخص يحمل كاريسما الوحدة بما يستقطب الالتفاف الكاسح، بالرغم من زوال الخوف من النظام السابق بشأن اي تحرك وحدوي. قد يرجع ذلك إلى نوع البحث عن الإحساس بالأمان، وعدم خسارة مكتسبات فردية أو مطامح مستقبلية، والتعويل، كل من جانبه، على تقرب الاخرين من الطرف الآخر. كما يرجع الأمر الى غياب المبدئية في التحركات الكتلوية القومية، والبحث عن المصالح الضيقة، وممارسة مؤثرات خطيرة لتعميق هذا الجمود. فكيف الحال إذا تعالت مطالبات من قبل غير الكاثوليك، لأن يتركوا أشقاءهم الشركة مع روما، بحجة تسهيل التقارب الوحدوي الأخوي ما بين الاشقاء!!!

كاريسما - مواهبية الوحدة في تاريخ كنيسة المشرق
ولا بد من الاعتراف، أن الشخصية ذات موهبة الكاريسما نحو الوحدة، بقيت عبر التاريخ بحاجة الى التفاف جماهيري، لو كان قد حدث ، لما كـُنـّا في الحال الذي نحن عليه. وهذه الحاجة تبقى قائمة على كلى المستويين، الكاثوليكي أو الأرثوذكسي. ولا بد من القول أيضا، أنه حتى الجماعات الكنسية البروتستانتية، تعيش هاجس الوحدة المسكونية، كجدلية مطلوبة في الهوية المسيحية. وإن المسيحية (بقدر ما يناسبها هذا الاسم) إذا تحولت الى عنصر بموقع ادنى في خدمة التكتل القومي، دون بشرى الانجيل، تبقى تواجه أحد أخطر التحديات التي بقيت تتكرر عبر التاريخ، منذ عهد الملك قسطنطين، ولحد الان. وهذا الخطر بخضوع الكنيسة للتوجه القومي، على حساب التوجه الراعوي الانجيلي (نسبة الى الانجيل وليس الى الكنائس الانجيلية...)، يشكل تهديدًا جذريا للهوية المسيحية الرسولية الجامعة الكاثوليكية.

مواقف انجيلية مبدئية
نستطيع أن نستخلص مبدئية واضحة تستند إليها كتابات أعلام وحدويين في الكنيسة الكلدانية، من أمثال المطران أدي شير، والاب يوسف حبي، على سبيل المثال لا الحصر، واذا اقتصرنا على الاستشهاد بالراحلين. ولا تخلو الساحة، من أمثالهم، في عموم كنيسة المشرق، بمختلف مذاهبها. كما نستطيع أن نستخلص المبدئية في رعاة الكنيسة الكلدانية.. حيث تم وصفها، في أكثر من موقع ومناسبة ومنبر إعلامي، بكونها كنيسة المشرق الكاثوليكية.. هذا الموقف يمكن أن يفهم منه، ومن خلال مختلف التصريحات مهما كانت متباينة، أن رعاية كنيسة المشرق الكاثوليكية – الكلدانية، ترى من موقع المسؤولية، الجانب الجوهري، في طبيعة الشركة الكاثوليكية الجامعة.. بمستوى يسمو على المعلن من الخصوصيات القومية، من السورايي؛ سواء الذين يعلنون أنهم كلدان، وهم من غالبية أبناء هذه الكنيسة، وغالبية المسيحيين في بلاد بين النهرين، وجماعات الاغتراب؛ أو فيهم من الآشوريين، مع تأكيد وجودهم في الكنيسة الكلدانية، بنسبة كبيرة أيضا، الى جانب وجود المنتمين الى القوميات الاخرى، بما هو ضمن الطبيعة الشاملة لأي كنيسة كاثوليكية لنشر شهادة لبشرى المسيح في العالم كله.

مخاطر في المسار المصيري للوحدة
من كل ما سبق يتبين ما يكتنف مسار الوحدة المسيحية المسكونية من مخاطر عند طغيان تأثير الكتل القومية. هذه العناصر التي تسعى إلى أن تطغي الصفة القومية على رسالة الكنيسة الجامعة، تجر كل كنيسة إلى أن تعيش في عزلة عن بشرى الانجيل وعن رسالتها المسكونية. وإذا حصل وأن خضعت الكنيسة للتوجه القومي فوق التوجه المسيحي، فعندما تحصل الحقوق القومية لأبنائها، عندئذ سيبدأ التململ بين دور السلطة الكنسية ودور السلطة المدنية في الجانب القومي، ومن ثم تحاشي تدخل الكنيسة في السياسة. مثل هذا التململ الذي حصل بعد إعلان دولة أرمينيا. ناهيك أن السلطة الكنسية سوف تتقاذفها التأثيرات السياسية القومية بين هذه الأمواج وتلك، مما لمسه المطلعون في حياة كنائس "قومية" مختلفة. إلى جانب هذا، فإن تدخل السلطة الكنسية في الشوؤن السياسية والقومية، على حساب الشؤون الدينية سيجرها الى اتخاذ مواقف تتحمل هوامش من الخطأ ومراجعة الذات والتراجع عنها، على ضوء مقولة "السياسة هي فن الممكن".

مصير التكتلات القومية- السياسية تحت الغطاء الديني
الخطر المحدق بالكنائس الخاضعة الى المد التكتلي القومي على حساب الرسالة المسيحية، ليس فقط ابتعادها عن جوهر الرسالة المسيحية، بل سيجعل منها ما سمي بالكنائس المجهرية الموغلة في الصغر، إن لم يحلها الواقع إلى جماعات يغلب عليها طابع البدعة.  وهذا ليس فقط على مستوى الكنائس الجاثاليقية (القومية) التي تحجمت في هذا الاتجاه فحسب، بل ستتزاحم على الانقسام بجدلية التجزئة الداخلية التي شهدتها الكنائس الانجيلية، بفعل اختلاف وجهات النظر بين ذوي النفوذ فيها، فيفتح كل منهم كنيسة تحت الاسم الرنان الذي يختاره، وتجيزه القوانين النافذة في البلد الذي يعيش فيه.
أما الجماعات ذات التكتل التعصبي الأعمى، التي تلغي التفاف الآخرين، وتصر على الخطيئة ضد الروح القدس، والسعي الى التأثير على السلطات الكنسية، نحو مآربها ومطامعها... فإن هذه الجماعات، علاوة على كونها تحوّل كنائسها الى بؤر بدعية مهمشة، فإنها هي أيضا تصبح كبدع تكتنفها الفضائح الأخلاقية والمالية ، فتدعو، فيما تدعو، إلى تأليه القومية وتأليه الرموز القومية قبل التاريخ المسيحي، واعتبار مدن في التاريخ القومي كمدن مقدسة.... هذه الجماعات بعينها، ستتحول هي أيضا الى ما يشبه النوادي الاجتماعية، أو في أحسن الأحوال الى جمعيات تتحرك تحت غطاء إدعائي من العلمية، تتقاذفها المصالح والانتخابات، والانتخابات المضادة المجيّرة لصالح هذا الغول أو ذاك.
ولكن سيبقى النهر الكبير، هو نهر الحياة الواسع، نهر التعددية والديمقراطية في اطار الوحدة، تصب فيها الامال، ويستقطب المزيد من جمهور المريدين.

آمال معقودة على خطى البطريركين يوحنا سولاقا ويوحنا الثامن هرمز
إزاء ما تناولناه من مخاطر ظهور كنائس مجهرية، منغلقة على الخصوصيات القومية لأتباعها، ومنغلقة على الرسالة المسيحية في الوحدة، تبقى الامال معقودة على الاصوات النبوية المواهبية ذات كاريسما الوحدة. اولئك الذين يتخذون الوحدة، كثمرة للمحبة والسلام، ويحملونها في شغاف القلب، كقضية ورسالة واستجابة لنداء المسيح، في أحلك الظروف، خصوصا عند ابتعاد هذه الرئاسة الكنسية أو تلك، عن المسار الوحدوي، وانشغالها بالشأن القومي على حساب الشأن الروحي والراعوي. وينطبق عليهم قول القديس غريغوريوس الكبير: ليس هناك من يلحق الأذى بالكنيسة، أكثر من أولئك الذين لهم صورة القداسة ولقبها، ولكنهم يتصرفون تصرفا فاسدا.
بل إن هذه الاتجاهات التكتلية، هي أكثر من أي وقت آخر، أضعف من جانب الايمان المسيحي، وهي أكثر ضعفا من الجهات التي كانت في عهد القطبين مار يوحنا سولاقا وما يوحنا الثامن هرمز. ودليل هذا الضعف هو ما يستخدم من شراسة وضراوة، ضد الوحدويين المسكونيّين حاملي رسالة الوحدة. وإن الأقطاب المنافسة لها في كنائسها الأصلية، لن تملك مع الزمن الا الاحتجاب والالتغاء، على حساب المزيد من الاستجابة لدى رعاة الاقطاب الوحدوية المتزايدة، من صعيد الالتحام بين الفروع الأصيلة في التجمعات الثقافية والكنسية، إلى صعيد الانفتاح الثقافي الحضاري والوحدة المسكونية الجامعة.
 وإن الأصوات النبوية اذا اجتمعت لديها السلطة الراعوية واستقطبت الالتفاف الجماهيري، هي المنقذة للمسار المصيري للوحدة، لتضعه في الخط الصحيح، بقدر ما تكتمل فيها، مع الوقت، المصداقية المرجوة في نبوة غمالائيل في أعمال الرسل، الذي اعطى الفرصة للزمن، بان يتبين المعدن الأصيل من المزيف، المسكون بدعوة الوحدة والمتجه بكفاءته ونزاهته الى صفات القداسة فالغبطة في كنيسة المشرق الموحدة.

الأب نويل فرمان السناطي
nfhermiz@hotmail.com

http://www.nirgalgate.com/asp/v_articles.asp?id=313



135
أ. نويل فرمان السناطي

هذا أول مقال أكتبه عن نجمة فنية، بعد كهنوتي الذي يرتقي الى السنة والنيف فحسب، لكني أعتقد، ان لدي ما أكتب، عما رأيته، وهو بالتأكيد اقل بكثير مما يعرفه الآخرون، عن مطربة سورايتا شهيرة، جوليانا جندو، سبق لي أن سمعتها وأن شاهدتها عبر الشاشات الفضية. وكنت قد كتب فيما قبل، كصحفي علماني، عن نجمات عالميات، مثل اديث بياف (ام كلثوم فرنسا) وميراي ماثيو، وتشيرلي ماكلين وصوفي مارسو، وساندرين بونير، وألن ديلون، وبيتر أوتول، وجان بول بلموندو وداليدا، ريتشارد بيرتون، من الاسماء التي تحضر القلب، ساعة الكتابة، فحرصت أن أقدم ذلك في إطار قيم الصحافي الملتزم للقيم العلمانية المسيحية؛ قبل العمل كنائب لرئيس تحرير مجلة الفكر المسيحي، للعشر سنوات الأخيرة، ختمتها، قبل رسامتي الكهنوتية، وبما يريح ضميري.
ومناسبة الحديث عن فانة، هو أني باركت بالأمس، مع أخي في الكهنوت الأب مازن داود، راعي خورنة ساسكاتون للكلدان، اكليل احد أبناء خورنته. ووفقا لسياق لم آلفه بعد، يذهب الكاهن المحتفل مع الكاهن المشارك معه، الى قاعة الأحتفال، فيجلس مع الجالسين، لحين وقت مباركة الطعام، فيتعشى وينسحب على روؤس الأصابع.
وفي هذه الأثناء، تعزف الموسيقى، والأغاني، وتمسك على أنغامها الدبكات الشرقية، من الرجال والنساء، الشباب والصبايا، وقد فهمت أمام ذهولي، بأن عددا من ملابس السهرة التي تتسربل بها النساء، والتي يبدو عليها رونق وبريق استخدام المرة الأولى، يذهبون في اليوم التالي، مستغلين تسهيلات إمكانية اعادة البضاعة لعدد من الأسواق الكبرى، في حالة عدم الاقتناع بها، فيعيدونها متحججين أن الثوب لم يلائمها في نظر الزوج او الأهل... وما إلى ذلك من كذب، أصبح بضاعة رائجة للالتواء على التسهيلات والقوانين المحلية، سيأتي الحديث عنها في فرمانيات قادمة.
وتصادف أن أحيت الحفل هذه الفنانة المرموقة. لا بد من القول، أنها وهي تغني من المنصة، ثم نزلت أمام العروسين، بقيت تشنف الآذان (بالألف الممدودة) بصوتها الرخيم والعملاق بآن. وتعالى اندفاع الحضور للتصفيق لها، وإبداء علامات الطرب والاعجاب، أمام هدوء الفقير إلى رحمة ربه، واكتفي بما تلقها من سرور داخلي تقبله بارتياح شخصي مع الاحتفاظ برزانة المقام، وهو ينقل الأذن بين مقام ومقام، مما أكدته النجمة جندو انه يستقي جذوره من الأنغام الكنسية، في أحدى مقابلاتها، التي فيها تحدثت عن ما أكدته بهذا الصدد للفنان التركي الكبير ابراهيم طاطلس. فتعملقت جوليانا مع النهاوند، وتألقت مع الطوراني، بكلمات وجدانية، بسورث جميل شمولي الصياغة، من السهل الممتنع الذي يفهمه عموم السورايي، كلمات تخاطب القلب والمشاعر، وتبشر وتخصب تربة وحدة أبناء السورث.
وفي هذه الأثناء، وهي تتنقل رشيقة على على إيقاعات اكف المصفقين، أخذت تقترب من المائدة التي يجلس كاتب السطور، وقد هز حماس الجلوس بمقدم النجمة المائدة هزا، وصاحبنا، كاتب السطور، جالس، كالوحيد الغريب عن أورشليم، بين الوجوم والخجل، بين الابتسامة والخفر، حتى تفاجأت جولياني بأن أمامها قسيس، فالتفتت التفاتة احترام وكياسة، واستأنفت في إلهاب مشاعر الجالسين.
ثم عادت الى وسط القاعة، لتهدر جنجرتها بروائع الفنان الكبير الراحل ناظم الغزالي. تلك الأغاني التي أبدعتها اوتاره الرجولية، ها هي برونق محبب، تنساب على مسامعنا، شجية أصيلة بإضمامة انثوية.
كل هذا ونحن ننتظر أن يأذن عريف الحفل بالطعام، بعد ان توزعت أطباق المقبلات، فصلى الكاهن وصلينا معه وصلبنا بعلامة الصليب. فجلست جليانا وثلة الموسيقيين الذين لا بد وانهم كانوا يصاحبونها على المسرح في ظهري، حيث لم أجرد، لفرط التقيد الكهنوتي، للالتفات حوله...
أكتب هذه الأسطر، وانا أوجه فيها هذه التحية الأبوية، إن صح التعبير، الى فنانة السورث، التي تغنت بوحدة السوريايي، وامتدحت حنجرتها دياراتنا وديارنا. وإذا كنت لم أحصل بالأمس في الاحتفال، على صورة رقمية للفنانة جوليانا، فقد حصلت على هذه الصورة، من نسيبنا السيد نبيل اسطيفان حسقيال الذي تصور معها في المطار، محل عمله، أثناء مغادرتها مطار ساسكاتون.
 إن إغنية لجليانا، أو رائعة للفنان العملاق أيوان أغاسي، ومسرحية درامية أو كوميديا هادفة، أو قصيدة وجدانية أو وطنية، هذا هو الكفيل بسهولة تداول هذه اللغة المهددة بالانقراض، وهذه الخطوات هي افضل بكثير من كل الدعوات والجعجعات التي تنادي، مثل، باللغة العربية، على تعلم لسان الأم الذي من فرط التشتت والتبعثر ما عاد بإمكاننا ان تطلق عليها التسمية التي توحده، فيما توحده بتلقائية، كلمات وأشعار وأنغام الأدباء والفنانين.
وبعد، ومع انتهاء الطعام، ونحن، زميلي الاب مازن وأنا، نستعد للانسحاب، إذا بالست جليانا، تهدر في القاعة أمواجا من أغاني الست أم كلثوم، بسيطرة متفردة، ولفظ قريب من الأصل، وصوت مهذب. فما كان من كلينا، بعد ان سمعنا ما سمعنا من روائع تبث النجوى تحرك الفؤاد، إلا أن وقفنا وفقة رجل واحد لمغادرة القاعة في وقتنا الموعود، وكان لا بد أيضا أن نخرج فللصبر حدود.

136
المنبر الحر / صوت صارخ...
« في: 19:27 16/05/2006  »
صوت صارخ...

لنقرع الأجراس روح التغيير الموعود قادم لا محالة
أ. نويل فرمان السناطي - كندا
بعد أيام من الاستقرار العائلي، في العالم الجديد، وبعد أن حررت ما توجب من كتب عرض حال، الى ما يخص المراجع الكنسية، التقيت اليوم المطران البرت لوغات اسقف ساسكاتون للرومان الكاثوليك (إخوتنا اللاتين). بعد أن تداولت بين يديه، ما وصله عن أحوالنا، وما فهمته منه، وما فهمه من، عن أحول الكنيسة هنا وهناك، بمؤمنيها وكهنتها ورعاتها، خرجت من عنده بجملة انطباعات وانتظارات فيها تعزية بالايمان والرجاء، رأيت أن ابثها الى الكثير من شباب كنيستنا، وخصوصا اولئك في الابرشيات البطريركية والاسقفية حيث شرفني أن أخدم معهم أو أخدمهم.
في مقدمة الانطباعات، أن الأحوال، تظهر بوضوح، استماتة جانب من الناس، في التشبث بما يمكن التشبث به، قبل أن تطلع آخر العجائز على منجزات الفاتيكاني الثاني، وقبل أن يداهمهم الفاتيكاني الثالث وقد بانت تباشيره، بقبول قداسة البابا بندكتس أن يدرس موضوع الغلاف الوقائي من الحمل، في حالات اصابة احد الشريكين بالآيدز.. أما أولئك، فقد بات همهم اللهاث للحفاظ على المكتسبات الفردية التي اغدقها عليهم المجتمع القبلي الذكوري، مجتمع التسلط الجبلي، والهيمنة والتوحش، فيحلل على نفسه، كل شيء، أي شيء، وبالقدر نفسه يحرمه على الغير.
ويمضون في الاستحواذ على كل ما هو في اليد من امتيازات شخصية على حساب عمى القلوب والانقياد القطيعي. ويمضون في السعي المفضوح الى التمسك بالقشور التي بين يديهم لأطول قدر ممكن من الزمن على أساس مقولة، ليكن ما بعدي الطوفان.
من جانب آخر، تصطدم بذلك اللهاث، صراخات من ارجاء كنيستنا: اخرجوا من القواقع، دعوا نقيق الضفادع، ادفعوا الأبواب، وسعوا الرحاب، افتحوا الشبابيك.. كما فعل في مطلع ستينيات القرن العشرين، مار يوحنا الثالث والعشرون..
وتنهار احلامهم المريضة، وتبان حقيقتهم العارية، فكل حركة اعتراض يواجهها القمع.. تشكل موت الحبة، لتحيا من جديد، قالها الرب.
فمن همهمة الى ابتسامة، من نكتة الى وصف مزدوج، من نظرة عتب، إلى صرخة فصياح، الى صمت الاموات، كلها علامات عافية، منبثقة من رحم الغضب المقدس تقوي خط الحياة لدى المتطلعين برغم القهر، وتقلل من رصيد قوى الضلال والشبق والجشع..
عندئذ، يغدو التخلف والتقوقع، التزمت والحقد الاعمى، لإلغاء الآخر، يغدو في مواجهة هذه الجدلية، حالة تقهقر حتمي، يوما بعد آخر، إزاء سيادة القانون، وحرية الرأي، واختيار التصرف والتحرك، وإرادة الحل والترحال.
وهكذا كلما تباعد الشرخ بين الصراع الصامت للمقهورين وبين فرقعة الجلادين وجلبتهم، ممزوجة بفحيحهم المسموم، للمزيد من السيطرة... كلما اتضحت معالم الصورة، بين الفريقين، فتبدأ أول هزيمة الجلادين من الداخل، وأحس هؤلاء بالهزيمة من عمق أعماقهم. ذلك انه كلما تعالى صوت معترض صارخ في البرية، كلما جعل الله من الحجارة أبناء لابراهيم، قالها المعمدان.
عندها يحوز الصارخ على المزيد من الاصوات، إذ ليس لديه ما يخسره، ولا منصب يطمع فيه، ويلقى المزيد من التفاف البسطاء والفقراء، من لم يعد لديهم ما يخسروه، حسبهم التطويبات..
ومن الجانب الاخر، يفتضح الظالم، ويهتز عرشه، وينشف ريقه مهما عب من ماء مسبحه ومهما تمادى في مجونه وارتشف من كؤوس مائدته، فمنها يعب العطش والسموم.
وتتهادى كقصور الورق، قلاع الكذب والكبرياء، الغش والافتراء، التملق والنميمة، التجسس والمكيدة، على طول وعرض كتابنا وكتابكم.. وراء كل حجة، وكل فرية، بدلا عن الحوار، للتنكيل بدلا من التبصير والتحليل، عندئذ تضطرب الرؤية، ويفقد التمييز، وينفلت من بين اليدين زمام الامور ، ويصغر شمشون أمام دليلة، ويصمت السمسار أمام صرخة امرأة حرة تأبى بالاهانة.
ويعلو صوت الحق.. صوت القلم، وتلتف حوله حزم من الأقلام..
ويتآزر ثلاثة أو أربعة من كل مجلس شيوخ، ليكونوا نواة للحياة خميرة للعجينة.. كلما تقدموا أكثر، كلما تنمو النواة وتكبر، وتتفاعل الخيمرة بالعجين فيثمر.
وتلتحق حزم السنابل بالحزم وينفرز الراعي الراعي عن الأجير، وتنقلب اللعبة على الساحر، وعند كل من أخفى وراء عصا التبختر، قلب فاسق وسارق روح ومارق وفاجر..
وبعد، فلتقرع الأجراس.. أمام وعد الرب: أبشروا يا أولاد، وأبشروا يا شباب ويا صبايا، انتظروا الروح المعزي.. ترقبوا برجاء روح التجدد والحياة..
ليضئ كل واحد لواحد، شمعة، تكثر الشموع، وتكبر حزم النور، لتختفي في كل يوم أشباح من قوىالظلام الديجور..

صفحات: [1]